الحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي
التصنيفات
- فقه >> المعاملات >> أحكام البيوع
- فقه >> المعاملات >> المعاملات المالية
الوصف المفصل
- الحوافز
التجارية التسويقية
- أولاً : التعريف بمفردات الحوافز المرغبة في الشراء لغة:
- ثانياً : التعريف بالحوافز المرغِّبة في الشراء اصطلاحاً:
- ثالثاً: أهمية الحوافز المرغبة في الشراء، وأنواعها:
- الفصل الأول: الضوابط الشرعية للمعاملات
- الفصل الثاني: الهدايا الترغيبية
- الفصل الثالث: المسابقات الترغيبية
- الفصل الرابع: التخفيضات الترغيبية
- الفصل الخامس: الإعلانات والدعايات الترغيبية
- الفصل السادس: رد السلعة الترغيبي
- الفصل السابع: الضمان والصيانة الترغيبيان
- الفصل الثامن: الاستبدال الترغيبي
الحوافز التجارية التسويقية
وأحكامها في الفقه الإسلامي
تأليف
الشيخ
خالد بن عبد الله المصلح
أولاً : التعريف بمفردات الحوافز المرغبة في الشراء لغة:
التعريف بهذا المصطلح لغة يحتاج إلى التعريف بمفرداته كل على حدةٍ.
1. الحوافز جمع حافز( )، وهو اسم فاعل مشتق من الفعل الثلاثي((حَفَزَ))، ومدار هذه المادة على معنى: الحث، والدفع. قال في معجم المقاييس في اللغة: ((الحاء، والفاء، والزاي كلمة واحدة تدل على الحث، وما قَرُبَ منه))( )، وقال في الصحاح: ((حَفَزَه أي : دفعه من خلفه))( ).
2. المرغِّبة اسم فاعل مشتق من الفعل الرباعي المضعف العين ((رَغَّب))، قال في معجم المقاييس في اللغة: ((الراء، والغين والباء أصلان: أحدهما: طلب لشيءٍ، والآخر: سعَةٌ في شيءٍ))( ). والمعنى الأول من أصلي هذه الكلمة، وهو الرباعي ((رَغَّب))، هو الذي يتصل بهذا البحث ومعناه ((جعله يَرْغَبُه))( ).
والرغبة في الشيء: الإرادة له( )، والحرص عليه، والطمع فيه( ).
3. الشراء مصدر مشتق من الفعل ((شرى))، قال في الصحاح: ((الشراء يُمَدُ ويُقصَر))( )، وهو من الأضداد( )، وهو يطلق على أخذ الشيء من صاحبه بثمنه( ).
وبهذا يتبين أن الحوافز المرغبة في الشراء لغة : هي كل ما يحث، أو يدفع إلى إرادة أخذ الشيء من صاحبه بالثمن.
ثانياً : التعريف بالحوافز المرغِّبة في الشراء اصطلاحاً:
لتحديد المعنى الاصطلاحي للحوافز المرغبة في الشراء، لابد من مراجعة كتب التسويق، التي تُعَدُّ الحوافز المرغِّبة في الشراء من أهم مسائلها، وبحوثها الرئيسة؛ وبالرجوع إلى هذه المراجع، تبين أن المصطلح المستعمل عندهم فيما يَحُثُّ، أو يدفع على إرادة أخذ الشيء من صاحبه بالثمن، هو الترويج (Promotion)( ).
ولهذا المصطلح عند التسويقيين معنيان: معنى عام، ومعنى خاص.
فالمعنى العام للترويج: هو ((جميع الأعمال التي تقوم بها الشركة؛ لزيادة مبيعاتها))( ).
وأما معناه الخاص فله عدة تعريفات.
فعرّفه بعضهم بأنه: ((تلك الأعمال التي يقصد بها زيادة حجم المبيعات عدا الإعلان، وأعمال البيع نفسها))( ).
وعرّفه آخرون بأنه : ((عملية اتصال بهدف البيع))( ).
وعرّفه آخرون بأنه: ((الجهود التي تبذلها المنشأة، وبغرض إحداث تأثير معين في سلوك المستهلكين يتطابق مع المتطلبات التسويقية، من حيث زيادة المبيعات من جميع السلع، أو الخدمات( )، أو بعضها عن طريق جذب مستهلكين جدد، أو زيادة معدل الطلب الحالي، أو تقليل الطلب بالنسبة لسلعة معينة، وتحويله إلى سلعة أخرى))( ).
والمعنى الذي تجتمع فيه هذه التعريفات للترويج: أنه اتصال بالعملاء، والمشترين المرتقبين بغرض تعريفهم، وإقناعهم بالسلع، ودفعهم إلى شرائها( ).
وبهذا يتبين أن المعنى العام للترويج قريب من المعنى اللغوي للحوافز المرغّبة في الشراء، وهذا بخلاف المعنى الخاص للترويج فإنه أخصّ من المعنى اللغوي. فالتعريف الخاص لا تدخل فيه الخدمات التي تكون بعد عقد البيع كالتعهد بالضمان، أو الصيانة، وما أشبه ذلك من الحوافز الأخرى؛إذاً فالتسويقيون يقصرون الترويج على ما يخلق الرغبة لدى العميل، وينميها بحيث يصير جاهزاً للشراء، أما ما بعد ذلك فلا يدخل عندهم في الترويج غالباً.
والذي يمكن استخلاصه مما تقدم أن الحوافز المرغِّبة في الشراء: هي كل ما يقوم به البائع، أو المنتج من أعمال تُعرِّف بالسلع، أو الخدمات وتحثُّ عليها، وتدفع إلى اقتنائها وتملكها من صاحبها بالثمن، سواء أكانت تلك الأعمال قبل عقد البيع، أو بعده( ).
ثالثاً: أهمية الحوافز المرغبة في الشراء، وأنواعها:
ما انفك التجار وأصحاب السلع والخدمات يستعملون أنواعاً من الوسائل والأساليب التي تشجع الناس على شراء سلعهم وخدماتهم، وترغبهم فيها منذ زمن بعيد، وكانت هذه الوسائل الترغيبية في ذلك الوقت محدودة قليلة محصورة وإن كانت مؤثرة جذابة ثم لما حصل التقدم الحضاري والإنتاجي، واخترعت الآلات وتنوعت المنتجات وتطورت حياة الناس ونشاطهم الاقتصادي تطورت تبعاً لذلك أساليب التجار في ترويج سلعهم وخدماتهم والتحفيز إليها، واشتدت المنافسة بين التجار وأصحاب السلع والخدمات في جذب أكبر عدد من المشترين فحملهم ذلك على تطوير أساليب الترويج والحوافز المرغبة في الشراء واستحداث وسائل وأساليب جديدة لتوسيع قاعدة المشترين حتى غصت الأسواق والمراكز والمحلات التجارية صغيرها وكبيرها بعدد كبير متنوع من الحوافز الترغيبية ووسائل تنشيط المبيعات، فصارت هذه الوسائل الترغيبية معلماً من معالم الأسواق على اختلاف مناشطها وأحجامها يتعامل معها الصغير والكبير وتمس حياة الخاص والعام، كما أن لها أثراً لا يستهان به في حمل الناس على الشراء أو صرفهم عنه.
أما أنواع الحوافز المرغّبة في الشراء فكثيرة جداً لكن من أبرز تلك الوسائل: الهدايا، والمسابقات، والتخفيضات، والإعلانات، والدعايات، ورد السلع، والضمان والصيانة، واستبدال الجديد بالقديم. وهي ما سنتناوله بالبحث والدراسة في هذا الكتاب.
الفصل الأول: الضوابط الشرعية للمعاملات
أولاً: المراد بالضوابط
الضوابط في اللغة جمع ضابط وهو مأخوذ من الضبط وهو لزوم الشيء وحبسه( ).
أما الضابط في الاصطلاح فقد تنوعت عبارات العلماء في تعريفه( )، إلا أن أقرب هذه التعاريف إلى المقصود بها في هذا البحث أنه قضية كلية تنطبق على جزئياتها التي هي من باب واحد( )، ويمكن أن يقال: الضابط هو كل ما يحصر جزئيات أمر معين( ).
ثانياً: المراد بالمعاملات
المعاملات في اللغة: جمع معاملة على وزن مُفَاعلة من الفعل عَامَل، ومعناها: التعامل( )، وقال في المصباح المنير: ((عاملته في كلام أهل الأمصار يراد به: التصرف من البيع، ونحوه))( ).
أما معناها في اصطلاح الفقهاء وعلماء الشرع فإن لفظ المعاملات يستعمل فيما يقابل العبادات، فالمعاملات تبحث في حقوق الخلق، والعبادات تبحث في حقوق الرب - جلَّ وعلا -( )، ومع هذا الاتفاق من حيث استعمال هذا اللفظ إلا أنهم اختلفوا في تفاصيل ما يندرج تحت كل قسم على قولين في الجملة :
القول الأول: أن المعاملات هي المعاوضات المالية، وما يتصل بها كالبيع، والسلم، والإجارة، والشركة، والرهن، والكفالة، والوكالة، ونحو ذلك.
وهذا هو مذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: أن المعاملات تشمل كل ما كان راجعاً إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض، أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب، والمنافع، والأبضاع( )، فتشمل بهذا: المناكحات، والمخاصمات، والأمانات، والتركات.
وهذا مذهب الحنفية( )، وقول الشاطبي من المالكية( ).
والمقصود بالمعاملات في هذا الفصل هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وقد جرى على هذا أهل العلم المعاصرون( ).
ثالثاً: جملة الضوابط
لما كانت الحوافز المرغِّبة في الشراء نوعاً من أنواع المعاملات، فإنه من المهم عند دراسة هذه الحوافز استحضار الضوابط الشرعية في باب المعاملات؛ ليتبين مدى انضباط تلك الحوافز بها.
وأصول هذه الضوابط هي: 1- الأصل في المعاملات 2- منع الظلم.
3- منع الغرر. 4- منع الربا. 5- منع الميسر.
6- الصدق، والأمانة. 7- سد الذرائع.
وسيأتي تفصيلها في المباحث التالية.
المبحث الأول: الأصل في المعاملات
اختلف أهل العلم - رحمهم الله - في الأصل في المعاملات هل هو الإباحة أو الحظر؟ على قولين( )، بناء على اختلاف قولهم في الأصل في الأشياء( ) بعد ورود الشرع، هل هو الإباحة أو الحظر؟
القول الأول : الأصل في المعاملات الإباحة.
وهو قول أكثر الحنفية( )،..............
ومذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، فهو قول الجمهور( )، بل قال ابن رجب : ((وقد حكى بعضهم الإجماع عليه))( ).
القول الثاني: الأصل في المعاملات الحظر.
وهو قول الأبهري من المالكية( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
ولقد استدل كل فريق بأدلة؛ من الكتاب، والسنة، والنظر. ولما كانت أدلتهم كثيرة متشعبة، اقتصرت على ما يتعلق منها بالمعاملات فقط.
أدلة القول الأول :
أولاً : من الكتاب
الأول : الآيات التي فيها الأمر بالوفاء بالعقود والعهود، كقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾( ) وقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾( )، ونحو ذلك من الآيات.
وجه الدلالة :
أن الله - جلَّ وعلا - أمر بالوفاء بالعقود والعهود مطلقاً، وهذا يشمل كل تعاقد خلا من المخالفات الشرعيَّة؛ فدلّ ذلك على أن الأصل في المعاملات الإباحة لا الحظر( ).
المناقشة :
نوقش هذا الاستدلال بأن هذه الآيات ليست عامة، بل هي خاصة ببعض العقود والعهود التي دلّ الدليل على إباحتها، فلا يدخل فيه ما لم يأت النص بإباحته( ).
الإجابة :
أجيب بأن تخصيص الآيات وقصرها عما دلت عليه من الإباحة لا وجه له؛ فإن ذلك يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله( ).
الثاني: الآيات التي جاء فيها حصر المحرمات في أنواع، أو أوصاف؛ كقول الله - تعالى - : ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾( )، وقوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾( )، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾( ).
وجه الدلالة : أن الله - عزَّ وجلَّ - حصر في هذه الآيات المحرمات بأنواع وأوصاف، ((فمالم يعلم فيه تحريم يجري عليه حكم الحل، والسبب فيه، أنه لا يثبت حكم على المكلفين غير مستند إلى دليل))( ).
الثالث: قول الله - تعالى -: ﴿إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
وجه الدلالة :
أن الله - تعالى - لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حِلُّه بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرَّمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك( )، فالآية أصل في إباحة جميع المعاملات، والبياعات، وأنواع التجارات متى توفر في هذه التجارة أو المعاملة الرضا المعتبر، والصدق،والعدل( ).
الرابع: قول الله - تعالى - : ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾( ). وجه الدلالة :
أن كل ((ما لم يبين الله، ولا رسوله - - تحريمه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والعقود، والشروط فلا يجوز تحريمها؛ فإن الله - سبحانه - قد فصّل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حراماً فلا بد أن يكون تحريمه مفصّلاً، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرَّمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه، ولم يحرمه))( ).
الخامس: قول الله - تعالى -: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾( ).
وجه الدلالة :
أن الله - سبحانه - أباح البيع، والتجارات بأنواعها؛ لما في ذلك من إقامة مصالح الناس ومعاشهم، وحرّم الربا؛ لما فيه من الظلم، وأكل المال بالباطل، فدلّ ذلك على أن الأصل في المعاملات الحل ما لم تشتمل على ظلم، أو أكل للمال بالباطل( ).
ثانياً : من السنة
الأول : الأحاديث التي فيها أن ما سكت الشارع عنه من الأعيان، أو المعاملات، فهو عفو، لا يجوز الحكم بتحريمه.
ومن ذلك قول النبي - -: ((إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها))( ).
وقول النبي - -: ((الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنكم))( )، وغير ذلك مما هو في هذا المعنى.
وجه الدلالة :
أفادت هذه الأحاديث أن الأشياء في حكم الشرع على ثلاثة أقسام:
الأول: ما أحلَّه الله فهو حلال.
الثاني: ما حرَّمه الله فهو حرام.
الثالث: ما سكت عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم فهو معفو عنه، لا حرج على فاعله( )، قال ابن القيم- رحمه الله - في بيان حكم هذا القسم الثالث: ((فكل شرط، وعقد، ومعاملة سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها))( )، ولما ذكر المجد ابن تيمية هذه الأحاديث في منتقى الأخبار( )، ترجم لها، فقال: ((باب في أن الأصل في الأعيان، والأشياء الإباحة إلى أن يرد منع، أو إلزام))، وكذا صنع ابن حجر أيضاً، لما ذكر حديث ((إن الله فرض فرائض...)) في كتاب المطالب العالية( ) فقال: ((باب البيان بأن أصل الأشياء الإباحة)).
المناقشة :
نوقش هذا بأن المسكوت عنه، لا يوصف بالإباحة، ولا بالتحريم، ولا يقال: إن الشرع أذن في هذا النوع( ) وغاية ما يفيده أنه مسكوت عنه، فلا يوصف
بإباحة ولا حظر. وقد اختلف في المسكوت عنه على أقوال، أصولها قولان :
أحدهما: أنه مباح؛ والثاني: أنه محمول بالشبه والتعليل على قسم المباح، أو المحظور( ). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن العفو لا يدخل في الأحكام الخمسة بل هو مرتبة مستقلة( ).
الإجابة :
يجاب على هذا: بأن القائلين بالإباحة مرادهم بأن حكم المعفو أو المسكوت عنه، هو عدم المنع، وأنه لا مؤاخذة على من فعله ولا حرج، فوصفهم له بالإباحة ليخرجوه من الحظر والتحريم.
أما قول من قال: بأن المسكوت عنه محمول بالشبه والتعليل على قسم المباح أو المحظور، فليس بصواب؛ لأن العفو في اللغة: ترك الشيء( )، فحمله على الحظر مخالف لذلك.
وأما قول من جعله مرتبة مستقلة عن الأحكام الخمسة فلامعارضة فيه،إذ كونه خارجاً عن الأحكام الخمسة لا يمنع من أن يتفق مع أثر أحدها، فالشاطبي مع أنه اختار هذا الرأي، إلا أنه عرّف المسكوت عنه، أو العفو: بأنه ما"لا مؤاخذة به"( ).
الثاني: قول النبي - - : ((إن أعظم المسلمين جُرْماً من سأل عن شيء لم يحرَّم، فحُرِّم من أجلَّ مسألته))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - حذّر من المسائل خشية أن ينزل تشديد بسبب السؤال، فدل ذلك على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يرد ما يدل على التحريم، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: ((وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك))( ).
ثالثاً : من النظر
الأول: أن العقود من باب الأفعال والتصرفات العادية، وهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه؛ والأصل فيها العفو، وعدم الحظر، فيستصحب ذلك حتى يقوم الدليل على التحريم( )؛ فإن المعتبر في هذا الباب مصالح العباد، والإذن دائر معها حيث دارت( ).
الثاني: ليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود، إلا عقوداً معينة، فانتفاء دليل التحريم، دليل على عدمه ((فثبت بالاستصحاب العقلي، وانتفاء الدليل الشرعي، عدم التحريم، فيكون فعلها؛ إما حلالاً، وإما عفواً كالأعيان التي لم تحرم))( ).
الثالث: أنه لا يشترط في صحة العقود إذن خاص من الشارع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ((فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقوداً، ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها، ولا تحليلها،فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها، إذا لم يعتقدوا تحريمها. وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد: لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطاً في صحة العقود، لم يصح عقد، إلا بعد ثبوت إذنه))( ).
أدلة القول الثاني:
أولاً: من الكتاب
الأول: قول الله - تعالى-: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - عز وجلَّ - حرم تعدي حدوده، وحكم على من تعداها بأنه ظالم، فمن قال بأن الأصل في المعاملات الإباحة فقد تعدى حدود الله - تعالى- بإباحة ما منع.
المناقشة :
نوقش هذا بأن ((تعدي حدود الله هو تحريم ما أحلَّه الله، أو إباحة ما حرّمه الله، أو إسقاط ما أوجبه؛ لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده))( ).
الثاني : قول الله - تعالى - : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾( ).
وجه الدلالة :
إخبار الله - تعالى - الأمة بإكمال الدين، فمن أباح العقود التي لم تجئ في الشرع، فقد زاد في الدين ما ليس منه( ).
المناقشة :
نوقش هذا بأن من كمال الشريعة، وبديع نظامها أنها دلت على إباحة المعاملات التي يحتاجها الناس في دنياهم، فالشريعة قد جاءت في باب المعاملات
بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت مالا ينبغي، وندبت إلى ما فيه مصلحة راجحة، وما لم يرد في الشريعة تحريمه أو إباحته فهو مسكوت عنه( ).
الثالث: قول الله - تعالى - : ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾( ).
وجه الدلالة :
أن الله - تعالى - أنكر على الذين يحللون ويحرمون من غير برهان، وجعله افتراء عليه، إذ إن التحريم ليس إلينا، بل هو من حقوق الرب جلَّ شأنه.
المناقشة :
نوقش هذا بأن الله أنكر على من أحل وحرم من غير دليل، أما من قال: هذا حلال، وهذا حرام مستنداً إلى النصوص عمومها أو خصوصها، فإنه غير داخل في هذه الآية( )، والقائلون بأن الأصل في المعاملات الإباحة استندوا في قولهم إلى أدلة من الكتاب، والسنة، والنظر، فليس هذا من افتراء الكذب على الله.
ثانياً: من السنة
الأول: قول النبي --: ((ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق))( ).
وجه الدلالة :
أن كل عقد، أو شرط ليس في كتاب الله إباحته فهو باطل( ).
المناقشة:
نوقش هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن المراد بقول النبي - -: ((ليس في كتاب الله))، أن يكون الشرط أو العقد مخالفاً لحكم الله، وليس المراد أن لا يذكر في كتابه - سبحانه - أو في سنة رسوله - - ودليل هذا أن النبي - - قال في الحديث: ((قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق))، وإنما يكون هذا فيما إذا خالف الشرط أو العقد قضاء الله، أو شرطه، بأن كان ذلك الشرط، أو العقد مما حرمه الله - تعالى -، فمضمون الحديث أن العقد، أو الشرط إذا لم يكونا من الأفعال المباحة، فإنه يكون محرماً باطلاً( )، فليس في الحديث دليل على منع العقود أو الشروط التي لم تذكر في كتاب الله أو سنة رسوله - - فلا يتم الاستدلال به على أن الأصل في الأشياء الحظر.
الوجه الثاني: ثم أنه إذا سُلِّم أن مراد النبي - - منع كل عقد أو شرط لم يذكر في كتاب الله أو سنة رسوله - - فيمكن القول بأن قول النبي - - : ((ليس في كتاب الله)) إنما يراد به ما ليس فيه لا بعمومه ولا بخصوصه؛ أما ما كان فيه بعمومه فإنه لا يقال فيه : إنه ليس في كتاب الله. وقد ذكر أصحاب القول الأول من الأدلة ما يدل على وجوب الوفاء بالعقود والعهود، وهذا يقتضي إباحتها، فالقول بأن الأصل في العقود الإباحة، لا يمكّن من القول بأنه ليس في كتاب الله، فإن ما دل كتاب الله بعمومه على إباحته، فإنه من كتاب الله( )، فلا يدخل ذلك في قول النبي - -: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))( ).
الثاني: قول النبي - -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))( ).
وجه الدلالة:
أن كل عقد لم يرد في الشرع إباحته فهو مردود ممنوع، فصح بهذا الحديث بطلان كل عقد، إلا عقداً جاء النص، أو الإجماع بإباحته( ).
المناقشة:
نوقش هذا: بعدم التسليم فإن الحديث ليس فيه ما يدل على أن الأصل في المعاملات الحظر، وذلك أن النبي - - أخبر بأن من عمل عملاً عقداً، أو شرطاً، أو غير ذلك يخالف ما عليه أمره - - فهو مردود باطل، وهذا لا إشكال فيه، فهو محل اتفاق؛ وإنما الكلام فيما لم يرد فيه عن النبي - - شيء، فلا يمكن أن يقال في مثل هذا: إنه ليس على أمر النبي - -، فلا يتم الاستدلال به على أن الأصل في المعاملات الحظر.
الترجيح :
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم، ومناقشات الأدلة، تبين أن القول الأول، وهو أن الأصل في المعاملات الإباحة، أرجح من القول بالحظر؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشة، وضعف أدلة القائلين بأن الأصل الحظر، وعدم انفكاكها عن المناقشات، ولما في هذا القول من المشقة والحرج الذي لا تأتي به شريعة أرحم الراحمين؛ فليس للناس بدٌّ من المعاملات والعقود، فتكليفهم طلب الدليل لكل ما يتعاملون به مما لا دليل على منعه يتضمن تعطيل مصالح الناس وإلحاق المشقة والعنت بهم، قال الجويني: ((ووضوح الحاجة إليها - أي إلى إباحة العقود التي لم يأت في الشرع تحريمها - يغني عن تكلف بسطٍ فيها، فليصدروا العقود عن التراضي، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة))( )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه))( ).
المبحث الثاني: منع الظلم
المطلب الأول: تعريف الظلم
الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه تعدياً( ).
وقال في عمدة الحفاظ: ((وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو زيادة؛ وإما بعدول عن وقته، أو مكانه))( ).
أما الظلم في الشرع: فهو فعل المحظور، وترك المأمور، فكل مجاوزة للشرع، ظلم محرم، سواء كانت بزيادة أو نقصان( ).
المطلب الثاني: الظلم في المعاملات
اتفقت الشرائع الإلهية على وجوب العدل في كل شيء وعلى كل أحد؛ وتحريم الظلم في كل شيء وعلى كل أحد، فأرسل الله - جلَّ وعلا - الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط والعدل في حقوقه - جلَّ شأنه - وفي حقوق عباده( )، كما قال - تبارك وتعالى -: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾( ). وتأكيداً لوجوب العدل، وتحريم الظلم، حرم الله الظلم على نفسه أولاً، ثم جعله بين الخلق محرماً، فقال - تعالى - في الحديث الإلهي: ((ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً))( )، فالظلم لا يباح شيء منه بحال، والعدل واجب في جميع الأحوال( )، فلا يحل لأحد أن يظلم غيره، سواء كان مسلماً أو كافراً( )، قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾( )؛ وذلك أن الظلم أصل الفساد، والعدل أصل الفلاح به تقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد، فلا غنى بالناس عنه على كل حال( ). فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات( ). ولما كانت التجارات والمعاملات فيها باباً عظيماً من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل( )،كان منع الظلم، وتحريمه من أهم مقاصد الشريعة في باب المعاملات، والتجارات، فمنع الظلم، ووجوب العدل من أكبر قواعد الشريعة في باب المعاملات، وأهمها( ).
وقد جاءت نصوص الوحيين آمرة بالعدل؛ ناهية عن الظلم وأكل المال بالباطل فمن ذلك قول الله - تعالى - : ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( ).
وقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
وقوله - تعالى -: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾( ).
وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾( ).
والآيات في هذا المعنى كثيرة يصعب حصرها، إذ كل ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم( ).
وأما الأحاديث التي فيها منع الظلم، وتحريمه في المعاملات، والأموال، فكثيرة أيضاً؛ منها قول النبي - -: ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))( ).
وقوله - -: ((بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق))( ).
وقوله- -: ((كل المسلم على المسلم حرام : دمه، وماله، وعرضه))( ).
ومن الأدلة على وجوب منع الظلم، ووجوب إقامة العدل، إجماع أهل العلم على تحريم أخذ أموال الناس ظلماً وعَدْواً( ).
فتبين من هذا كله أن العدل، ومنع الظلم، أصل واجب في جميع المعاملات، من البياعات والإجارات، والمشاركات، والوكالات،والهبات، ونحو ذلك؛ لأنه لا تستقيم للناس معاملاتهم إلا بذلك( ).
ويؤكد هذا المعنى أن جميع ما جاء النهي عنه من المعاملات في الكتاب والسنة، يعود في الحقيقة إلى إقامة العدل، ونفي الظلم( ). فالشارع الحكيم نهى عن الربا لما فيه من الظلم، ونهى عن الميسر؛ لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل( )، ونهى عن أنواع كثيرة من البيوع؛ لما فيها من الظلم والبغي بغير الحق( )، وذلك كنهيه عن بيع المصراة( )، والمعيب، ونهيه عن النجش( )، والبيع على بيع أخيه المسلم، وعن تلقي السلع، وعن الغبن، وعن الغش، وعن التدليس على الناس بتزيين السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، وتوريطهم بشرائها( )، وغير ذلك كثير؛ فإن عامة ما نهي عنه من المعاملات يرجع المعنى فيها إلى منع الظلم.
المبحث الثالث : منع الغرر
المطلب الأول: تعريف الغرر
الغرر في اللغة: اسم مصدر ل ( غَرَّر )( )، وهو دائر على معنى؛ النقصان( )، والخطر( )، والتعرض للهلكة( )، والجهل( ).
أما في الاصطلاح، فعبارات العلماء في تعريفه متقاربة :
فعرّفه السرخسي، فقال: ((الغرر: ما يكون مستور العاقبة))( ).
وعرّفه ابن عرفة، فقال: ((ما شك في حصول أحد عوضيه، أو المقصود منه غالباً))( ).
وعرّفه الشيرازي، فقال: ((الغرر: ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته))( ).
وعرّفه أبو يعلى، فقال: ((ما تردد بين أمرين، ليس أحدهما أظهر))( ).
وعرّفه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: ((الغرر: هو المجهول العاقبة))( ).
وبالنظر إلى هذه التعريفات، يتبين أن أجمعها هو تعريف الغرر بأنه: ما لا يعلم حصوله، أو لا تعرف حقيقته ومقداره( ).
المطلب الثاني: ضابط الغرر الممنوع في المعاملات
منع الغرر أصل عظيم من أصول الشريعة في باب المعاملات في المبايعات، وسائر المعاوضات( )؛ فإنه لما كان الخلق في ضرورة إلى المعاوضات اقتضت حكمة أحكم الحاكمين تحقيق هذا المقصود، مع نفي الغرر عن مصادر العقود، ومواردها؛ لتتمم بذلك مصالح العباد( )، وتُحصن أموالهم من الضياع، وتُقطع المنازعات والمخاصمات بينهم( ).
والأصل في ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - - عن بيع الغرر))( )، وقد دخل تحت هذا النهي مسائل كثيرة؛ فمن ذلك النهي عن بيع حَبَل الحَبَلة( )، والملاقيح( )، والمضامين( )، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة( )، وبيع المنابذة( )، وبيع المعجوز عن تسليمه، كبيع الطير في الهواء، ونحو ذلك من البياعات التي هي نوع من الغرر( )، المجهول العاقبة، الدائر بين العطب والسلامة، سواء كان الغرر في العقد أو العوض أو الأجلَّ( ).
ومما ينبغي ملاحظته في معرفة الغرر الممنوع أن نهي الشارع عن الغرر لا يمكن حمله على الإطلاق الذي يقتضيه لفظ النهي، بل يجب فيه النظر إلى مقصود الشارع، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده، فإن ذلك يؤدي إلى إغلاق باب البيع، وليس ذلك مقصوداً للشارع( )، إذ لا تكاد تخلو معاملة من شيء من الغرر( )؛ ولذلك اشترط العلماء رحمهم الله أوصافاً للغرر المؤثر، لابد من وجودها، وهي كما يلي:
أولاً: أن يكون الغرر كثيراً غالباً على العقد.
فقد أجمع العلماء على أن يسير الغرر لا يمنع صحة العقود( )، إذ لا يمكن التحرز منه بالكلية( )، وذلك كجواز شرب ماء السقاء بعوض، ودخول الحمام
بأجرة مع اختلاف الناس في استعمال الماء، أو مكثهم في الحمام، وما أشبه ذلك( ).
ثانياً: أن يمكن التحرز من الغرر دون حرج ومشقة.
فقد أجمع أهل العلم( )، على أن ما لا يمكن التحرز فيه من الغرر إلا بمشقة كالغرر الحاصل في أساسات الجدران، وداخل بطون الحيوان، أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض، فإنه مما يتسامح فيه، ويعفى عنه( ).
ثالثاً: ألاَّ تدعو إلى الغرر حاجة عامة.
فإن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات، قال الجويني : ((الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة))( )، وضابط هذه الحاجة هي كل ما لو تركه الناس لتضرروا في الحال، أو المآل( )، فإذا دعت حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لا تتم إلا به؛ فإنه يكون من الغرر المعفو عنه، قال ابن رشد في ضابط الغرر غير المؤثر: ((وإن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه ضرورة، أو ما جمع بين أمرين))( )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك))( ).
ومما استدل به أهل العلم على إباحة ما تدعو الحاجة إليه من الغرر؛ أحاديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ومنها حديث ابن عمر، - رضي الله عنهما - ((نهى رسول الله - - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع))( ).
وجه الدلالة :
أن النبي - - أرخص في ابتياع ثمر النخل بعد بدو صلاحه مبقاة إلى كمال صلاحه، وإن كان بعض أجزائها لم يخلق، فدل ذلك على إباحة ما تدعو إليه الحاجة من الغرر( ).
رابعاً : أن يكون الغرر أصلاً غير تابع.
فإن الغرر التابع مما يعفى عنه؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان دليل ذلك: ((وجوّز النبي - - إذا باع نخلاً قد أُبِّرت أن يشترط المبتاع ثمرتها( )، فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه التبع للأصل، فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمناً وتبعاً ما لا يجوز من غيره))( ).
خامساً: أن يكون الغرر في عقود المعاوضات، وما فيه شائبة معاوضة كالنكاح.
أما عقود التبرعات، كالصدقة، والهبة، والإبراء، وما أشبه ذلك، فقد اختلفوا في وجوب منع الغرر فيها، على قولين، بعد اتفاقهم على جوازه في الوصية( ). القول الأول: لا يمنع الغرر في عقود التبرعات.
وهو مذهب المالكية( )، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( )، وابن القيم( )، والحارثي من الحنابلة( ).
القول الثاني: يمنع الغرر في عقود التبرعات، كما في عقود المعاوضات.
وهو مذهب الحنفية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
أدلة القول الأول :
الأول: حديث صاحب كُبّة( ) الشعر، التي أخذها من الغنائم ثم رفعها بيده وسأل رسول الله - - أن يهبه إياها، فقال له النبي--: ((أما ما كان لي، ولبني عبدالمطلب( )، فهو لك))( ).
وجه الدلالة:
أن رسول الله - - وهبه نصيبه ونصيب بني عبد المطلب من كبة الشعر، وهذا القدر مشاع مجهول، فدل ذلك على أن الغرر لا يمنع في عقود التبرعات( ).
المناقشة :
يناقش هذا الاستدلال: بأن النبي - - وَهَبَ نصيبه، ونصيب بني عبد المطلب من تلك الكُبَّة التي رفعها الرجل، وهذان نصيبان مشاعان معلومان؛ إذ إن نصيب النبي - - خمس الخمس، ونصيب بني عبد المطلب خمس الخمس، فيكون قد وهب الرجل خمسي خمس الكبة، فلا جهالة في الهبة.
الثاني: أن الأصل في العقود الحل والصحة، حتى يقوم الدليل على المنع، وقد جاءت النصوص مانعة من الغرر في عقود المعاوضات؛ لما في إباحته من الضرر وإضاعة المال، أما التبرعات فلم يأت ما يدل على تحريم الغرر فيها، ولا يمكن إلحاقها بعقود المعاوضات لاختلافهما، فتبقى على الأصل، وهو الإباحة.
أدلة القول الثاني:
الأول: حديث أبي هريرة - - وفيه: ((نهى النبي - - عن بيع الغرر))( ).
وجه الدلالة :
أن النبي - - نهى عن بيع الغرر، وهذا نص في منع الغرر في المبايعات والتجارات، فيلحق بذلك عقود التبرعات؛ لاتفاقها في المعنى؛ وهو حفظ المال الذي هو أحد مقاصد الشارع( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن الغرر منع في عقود المعاوضات، وما فيه شائبة معاوضة؛ لأن المال في هذه العقود مقصود تحصيله أو مشروط، فمنع الشارع الحكيم الغرر فيهما، صوناً للمال عن الضياع في أحد العوضين أو كليهما. أما عقود الإحسان والتبرعات فمقصودها بذل المال وإهلاكه في البر، فلذلك لم يأت ما يدل على منع الغرر فيها، وليست كعقود المعاوضات، فتلحق بها( ).
الثاني: أن الأصل في العقود الحظر حتى يدل الدليل على الإباحة، ولم يرد عن الشارع ما يدل على إباحة الغرر في عقود التبرعات، وهذا الدليل استدل به ابن حزم على تحريم الغرر في التبرعات( ).
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال : بأن الأدلة قد دلت على أن الأصل في العقودالحل، حتى يقوم دليل المنع( ).
الترجيح :
الراجح هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وضعف أدلة القول الثاني وعدم سلامتها من المناقشات، ولعدم ما يدل على المنع، فيبقى الحكم على الأصل، وهو الإباحة، كما تقدم تقريره، والله أعلم.
المبحث الرابع: منع الربا
المطلب الأول: تعريف الربا
الربا في اللغة: هو الزيادة تقول: ربا الشيء إذا زاد( )، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوعند الله﴾( ).
وأما في اصطلاح الفقهاء، فيتناول أمرين في الجملة:
أولاً : ربا الجاهلية ( ربا القرض ): وهو الزيادة في الدين مقابل التأجيل، سواء اشترطت عند حلول الأجل، أو في بداية الأجل( ).
ثانياً : ربا البيوع، وهو نوعان :
الأول: ربا الفضل: وهو الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنساً( ).
الثاني: ربا النسيئة: وهو تأخير القبض في أحد البدلين الربويين المتفقين في علة الربا، وليس أحدهما نقداً( ).
المطلب الثاني: الربا في المعاملات
تحريم الربا أصل من أصول الشريعة في باب المعاملات، وهو معلوم من الدين بالضرورة( )، فإن تحريمه ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن أدلة الكتاب قول الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ).
ومن أدلة السنة حديث جابر - - ((لعن رسول الله - - آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه))( ).
أما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على أصل تحريم الربا في المعاملات إجماعاً قطعياً( )، بل قال بعض أهل العلم: إن تحريم الربا مما اتفقت عليه الشرائع( ). ومع ذلك فإن أهل العلم اختلفوا في تفاصيل مسائله وأحكامه وفي تعيين شرائطه.
وأول ما حرم الله - عز وجل - من الربا، ربا الجاهلية الذي قال فيه المشركون : ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾( )، وهو الذي يقول فيه صاحبُ الدَّيْنِ للمدِين: إما أن تقضي وإما أن تربي؛ قال الله تعالى في تحريم هذا النوع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ).
وقال فيه النبي - -: ((وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله))( )، فحرمه الله ورسوله، لما فيه من الظلم، وأكل المال بالباطل؛ فإن الزيادة التي يأخذها ربُّ الدَّيْنِ يأخذها على غير عوض( ).
ثم إن السنة النبوية ألحقت بربا الجاهلية كل ما فيه زيادة من غير عوض، فقال النبي - -: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد)).التخريج
وألحقت به أيضاً بيع النساء، - أي: التأجيل والتأخير - إذا اختلفت الأصناف؛ لأن النساء في أحد العوضين الربويين المتفقين في علة الربا يقتضي الزيادة، ولذلك قال النبي- - بعد ذكر الأصناف الستة: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد))( )، ويدخل في هذا المعنى القرض يجر نفعاً( ) فإن الإجماع منعقد على تحريم اشترط الزيادة في القرض( ).
فنصوص تحريم الربا تتناول كل ما تقدم من الأقسام، وبهذا يتبين أن وجود الربا في المعاملات سبب لتحريمها، ومنعها شرعاً( )، إلا أن الحكم في كثير من الأحيان، بأن هذه المعاملة ربوية أو لا، يحتاج إلى نظر عميق، وتأن رشيد، فليس الفقه بالتشديد، فإن ذلك يحسنه كل أحد، إنما الفقه الرخصة من الثقة. وقد نبه إلى ذلك ابن كثير - رحمه الله - فقال: ((باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم))( ). فالواجب التحري، والتأني في الحكم حتى إذا لم يصب الباحث السداد، فلا أقل من المقاربة.
المبحث الخامس : منع الميسر
المطلب الأول: تعريف الميسر
الميْسِر: مصدر ميمي من يَسَرَ، كالموعِد من وَعَدَ.
وفي اشتقاقه أربعة أقوال:
الأول: من اليُسْر، وهو السهولة.
الثاني: من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنه يسلبه يساره.
الثالث: من يَسُرَ لي الشيء، إذا وجب.
الرابع: من يَسَرَ، إذا جزر، والياسر الجازر، وهو الذي يجزئ الجزور أجزاء( ).
وهو في اللغة: القمار، ويطلق أيضاً على الجزور، التي يتقامرون عليها( ).
أما الميسر في الاصطلاح فهو: القمار عند المفسرين( ).
وأما الفقهاء فقد تنوعت عباراتهم في تعريفه :
فقال ابن الهمام الحنفي: ((حاصله: تعليق الملك، أو الاستحقاق بالخَطَر))( ).
وقال ابن العربي المالكي: ((طلب كل واحد منهما صاحبه بغلبة في عمل، أو قول؛ ليأخذ مالاً جعله للغالب))( ).
وقال الماوردي الشافعي: ((هو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانماً إن أخذ، أو غارماً إن أعطى))( ).
وقال ابن أبي الفتح الحنبلي: ((لعب على مال ليأخذه الغالب من المغلوب كائناً من كان))( ).
ومما تجدر الإشارة إليه أن جماعة من أهل العلم ذهبوا إلى أن الميسر الذي نهى عنه الله - تعالى - أوسع من مجرد المغالبات والمخاطرات التي تكون سبباً لأكل المال بالباطل، فأدخلوا في الميسر كل ما يصد عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة،وكل ما يوقع في العداوة والبغضاء، ولو لم يكن ذلك على عوض مالي( ). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال،وهي أكله بالباطل.ومفسدة في العمل،وهي ما فيه من مفسدة المال، وفساد القلب، والعقل، وفساد ذات البين. وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي))( ).
المطلب الثاني: الفرق بين الغرر والميسر
بالنظر إلى تعريف كل من الغرر، والميسر، يتبين أنهما متقاربان، ولذلك يذكرهما أهل العلم على أنهما شيء واحد، أو أن أحدهما داخل في الآخر( )، إلا أن هذا التقارب لا يعني التطابق التام في معناهما، وذلك أن من أنواع الغرر ما لا يطلق عليه أنه ميسر؛ فكلمة الميسر أخص من كلمة الغرر، فكل ميسر غرر، وليس كل غرر ميسراً، فبين الغرر والميسر عموم وخصوص مطلق، كما يقول الأصوليون، قال الدكتور الضرير: ((وكلمة قمار، أو ميسر أخص من كلمة غرر، فالقمار والميسر غرر من غير شك، ولكن هناك عقود كثيرة فيها غرر، لا يصح أن يقال عنها: إنها قمار، فالبيع الذي فيه غرر، والإجارة التي فيها غرر، وغيرهما من العقود، من الخطأ إطلاق كلمة القمار عليها، وتشبيهها به إلا ما تحققت فيه مميزات القمار))( ).
المطلب الثالث: الميسر في المعاملات
تحريم الميسر أصل من أصول الشريعة في باب المعاملات، أجمع عليه أهل العلم إجماعاً قطعياً( ).
وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب، والسنة فمن الكتاب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾( ).
وجه الدلالة:
دلت هاتان الآيتان على تحريم الميسر، دلالة واضحة؛ حيث وصفه الله - سبحانه - بأنه رجس، وأنه من عمل الشيطان، وأمر باجتنابه. ثم إنه بيّن كونه سبباً لوقوع العداوة، والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة؛ ثم أكد النهي السابق، فقال - جلَّ وعلا -: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فدلت الآيتان على تحريم الميسر دلالة لا إشكال فيها ولا نزاع، فكل معاملة توقع العداوة والبغضاء بين الناس فإنها داخلة في الميسر المحرم.
ومن السنة : قول النبي - -: ((من قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق))( ).
وجه الدلالة :
أن النبي - - جعل الدعوة إلى القمار، سواء في المغالبات، أو المعاملات سبباً يوجب التكفير بالصدقة، فدل ذلك على أنه محرم( ).
ومما يدل على تحريمه أيضاَ نهي النبي - - عن بيع الحصاة( )، وبيع الغرر( )، وعن بيع حبل الحبلة( )، وعن بيع عَسْب الفحل( )، ونحو ذلك من المعاملات التي هي من جنس الميسر( ).
هذا بعض ما استدل به أهل العلم على تحريم الميسر، ومن نظر إلى قواعد الشريعة علم علماً جازماً بأنها لا تبيح الميسر على كل في أي حال، سواء في المعاملات، أو المغالبات؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: ((وإذا تأملت أحوال هذه المغالبات رأيتها في ذلك كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عما يحبه الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله، فلو لم يكن في تحريمها نص لكانت أصول الشريعة، وقواعدها، وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح، وعدم الفرق بين المتماثلين، توجب تحريم ذلك، والنهي عنه))( ).
ولما كانت شريعة الإسلام قائمة بالعدل والقسط في جميع أحكامها، وما جاءت به؛ فإنها منعت كل المعاملات التي يدخلها الميسر؛ وضابط ذلك هو كل المعاملات التي يكون الداخل فيها متردداً بين الغنم أو الغرم، الناشئين عن غرر محض ومخاطرة ويكون ذلك سبباً لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس( )؛ قال ابن القيم: ((وما نهى عنه النبي - - من المعاملات... هي داخلة، إما في الربا، وإما في الميسر، فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال، هو من الميسر))( )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات، يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم؛ دقه وجله، مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الربا والميسر))( ). ولذلك نهى الشارع عن بيع الغرر والخطر؛ لما فيه من أكل المال بالباطل ولكونه مطية العداوة والبغضاء بين الناس( ).
المبحث السادس : الصدق والأمانة
المطلب الأول: تعريف الصدق، والأمانة
الصدق في اللغة: يدل على قوة في الشيء قولاً وغيره( )، وهو خلاف الكذب( )، فهو مطابقة الحكم للواقع( ).
أما الأمانة في اللغة فضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب، والتصديق( )، والوفاء( ).
فهي في الأصل أمر معنوي ثم استعملت في الأعيان مجازاً، فقيل للوديعة: أمانة، ونحو ذلك( ).
المطلب الثاني: ضابط الصدق والأمانة في المعاملات
أوجب الله - سبحانه وتعالى - على عباده الصدق، والأمانة في الأمور كلها؛ فقال في الصدق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾( )، وقال في الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾( ).
ولما كان مقصود المعاملات هو تحصيل الأكساب والأرباح( )، وكان فرط الشَرَه في تحصيل ذلك وتكثيره قد يحمل كثيراً من الناس على الكذب والخيانة في معاملاتهم؛ أمر الله - سبحانه وتعالى - فيها بالصدق والبيان والأمانة؛ فقال تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾( )، وقال - تعالى -: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾( ).
أما الأحاديث النبوية التي تأمر بالصدق والأمانة في المعاملات فكثيرة جداً،منها قول النبي - - : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما))( )، فالصدق والبيان من آكد أسباب المباركة في الرزق والمال، والكذب والكتمان من أعظم أسباب المحق والخسار.
ومن ذلك أن النبي - - غلّظ في الكذب في المعاملات، ونهى عن الغش؛ فقال - -: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب))( )، وقال لصاحب الطعام الذي أخفى عيب طعامه: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابته السماءُ يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟))، ثم قال - - : ((من غش فليس مني))( )، فهذا الحديث عام في النهي عن ((الغش في المعاملات كلها من التجارة والإجارة والمشاركة وكل شيء، فإنه يجب في المعاملات الصدق والبيان، ويحرم فيها الغش والتدليس والكتمان))( ).
والضابط الكلي لما يجب في المعاملات من الصدق والأمانة((أن لا يحب لأخيه إلا ما يحبه لنفسه؛ فكل ما لو عومل به شق عليه، وثقل على قلبه، فينبغي أن لا يعامل غيره به))( )، وقد فصل الغزالي هذا الضابط الكلي، فقال: ((فأما تفصيله، ففي أربعة أمور: أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها، وأن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئاً أصلاً، وأن لا يكتم في وزنها ومقدارها شيئاً، وأن لا يكتم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه))( ). وهذا تفصيل جامع لكل ما ينبغي مراعاته من الصدق، والبيان، والأمانة في المعاملات. فالواجب تمام الصدق والأمانة، ولذلك منع الإمام أحمد - رحمه الله - المعاريض( ) في الشراء والبيع، لما فيها من التدليس، وعدم البيان الواجب. وهذا ليس خاصاً بالبيع والشراء، بل عام في جميع المعاملات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((كل ما وجب بيانه، فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على المعقود عليه، ووصف المعقود عليه))( ).
المبحث السابع: سدُّ الذرائع
المطلب الأول: التعريف بقاعدة سد الذرائع
السَدُّ في اللغة: إغلاق الخلل، وردم الثَلْم، ومنع الشيء( ).
والذرائع في اللغة: جمع ذريعة، وهي الوسيلة( ).
وأما الذريعة في الاصطلاح فقد عرّفها أهل العلم بألفاظ متقاربة؛ فقال ابن العربي : ((كل عمل ظاهر الجواز، يتوصل به إلى محظور))( ).
وعرّفها ابن النجار، فقال: ((هي ما ظاهره مباح، يتوصل به إلى محرم))( ).
وعرّفها الشوكاني، فقال: ((هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل محظور))( ).
فسدُّ الذرائع في الاصطلاح: هو منع الوسائل التي ظاهرها الإباحة، والتي يتوصل بها إلى محرم، حسماً لمادة الفساد، ودفعاً لها( ).
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في قاعدة سدِّ الذرائع
تنقسم الذرائع من حيث أقوال العلماء في سدِّها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما أجمعت الأمة على وجوب سدِّه، وذلك في الأفعال المؤدية إلى الفساد. إذا كانت فاسدة محرمة( )؛ لأنها أفعال وضعت مفضية إلى المفسدة بيقين، وليس لها ظاهر غيرها. ومن أمثلة هذا القسم تحريم شرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وتحريم الزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفرش، وكذا سبُّ آلهة الكفار عند من يُعْلَم من حاله أنه يسب الله - تعالى - ( ).
القسم الثاني: ما أجمعت الأمة على أنه ذريعة لكن لا يجب سده، كالمنع من زرع العنب لئلا يتخذ خمراً، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى( ).
القسم الثالث: ما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم، وهو الوسائل المباحة إذا كانت تفضي إلى محرم غالباً( ).
فهذا القسم اختلف فيه أهل العلم على قولين.
القول الأول: اعتبار سد الذرائع والقول بحسمها.
وهذا هو مذهب المالكية( )، وبه قال الحنابلة( ).
القول الثاني: عدم اعتبار سد الذرائع وإبطال العمل به.
وهذا مذهب الحنفية( ) والشافعية( )، وبه قال ابن حزم من الظاهرية( ).
وقد احتج كل فريق بأدلة لإثبات ما ذهب إليه حتى إن ابن القيم ذكر في إعلام الموقعين تسعة وتسعين وجهاً في الاستدلال لصحة اعتبار هذه القاعدة، والعمل بها، ثم قال بعد ذلك: ((وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين))( ).
ومهما يكن الأمر فإنه بالنظر إلى واقع الفقهاء ممن نُسب إليهم القول بعدم اعتبار سد الذرائع يتبين أنهم قد اعتبروا هذه القاعدة في بعض اجتهاداتهم لكنهم أعملوها باعتبارها مندرجة تحت أصل آخر( ). والذي تميز به المالكية بالدرجة الأولى والحنابلة بالدرجة الثانية أنهم اعتبروا العمل بسد الذرائع أصلاً مستقلاً من أصول الأحكام وأنهم أعملوها أكثر من غيرهم( ).
المطلب الثالث: ضوابط العمل بقاعدة سدِّ الذرائع
قاعدة سد الذرائع من قواعد الشرع العظيمة( )، وقد وضع العلماء للعمل بها ضوابط مهمة هي كما يلي:
أولاً: أن يكون الفعل المأذون فيه يفضي إلى مفسدة غالباً. فإن كان إفضاؤه إلى المفسدة نادراً لا غالباً، فإنه لا يمنع لذلك؛ بل هو باقٍ على الأصل، ولا حاجة إلى طلب دليل الإباحة، لأنه ثابت بالدليل السابق( ).
ثانياً: أن تكون المفسدة المترتبة على فعل المأذون فيه مساوية لمصلحته أو زائدة عليها( ). فما كان كذلك فإنه يمنع؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وتعطيلها( ). من هذا الباب نهى الله - سبحانه وتعالى - عن سب آلهة الكفار بين ظهرانيهم مع ما في ذلك من المصلحة؛ لكون ذلك سبباً لوقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة؛ وهي سب الله - تعالى - ( ). أما إذا كانت المصلحة المترتبة على الفعل أكبر من المفسدة التي يفضي إليها؛ فإنه لا يمنع تقديماً للمصلحة الراجحة وعملاً بها( ).
ثالثاً: لا يشترط في العمل بسد الذرائع قصد المكلف إلى المفسدة؛ بل يكفي كثرة قصد ذلك في العادة، وذلك؛ لأن القصد لا ينضبط في نفسه غالباً، إذ إنه من الأمور الباطنة التي يصعب اعتبارها؛ فاعتبرت مظنة القصد، ولو صح تخلفه( ).
رابعاً: ما منع سداً للذريعة أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه( )، كنظر الخاطب والطبيب وغيرهما إلى الأجنبية، فإنه يباح للحاجة إذا أمنت المفسدة( ).
الفصل الثاني: الهدايا الترغيبية
المبحث الأول: تعريف الهدية وبيان أنواع الهدايا الترغيبية
المطلب الأول: تعريفها
أولاً: تعريفها لغة
الهدية في اللغة: ((بعثةُ لطفٍ))( )، وما أَتْحَفتَ به غيرك( ).
وقيل: هي ما بَعَثْتَه لغيرك إكراماً أو تودداً( ).
ثانياً: تعريفها اصطلاحاً
الهدية في اصطلاح الفقهاء: جرى الفقهاء على ذكر الهدية في باب الهبة( )؛ لأن الهدية نوع من الهبة، وقد عرّف الفقهاء الهبة بأنها: تمليك من غير عوض( ). ثم إنهم قالوا: إن كان هذا التمليك يقصد به وجه الله - تعالى - عبادةً محضةً من غير قصد في شخص معين، ولا طلب غرض من جهته فهذا صدقة( ).
وإن كان المقصود منه الإكرام، أو التودد أو الصلة، أو التألف، أو المكافأة، أو طلب حاجة، أو نحو ذلك، فهو هدية( )، فبناءً على هذا يمكن القول بأن الهدية: تمليك من غير عوض، لغير حاجة المُعْطَى.
الهدية في اصطلاح التسويقيين: هي ما يمنحه التجار والباعة للمستهلكين من سلع أو خدمات دون عوض؛ مكافأة، أو تشجيعاً، أو تذكيراً.
ثالثاً: الفرق بين تعريفي الفقهاء والتسويقيين للهدية
مما سبق يتبين أن الهدية عند أهل التسويق أوسع مدلولاً منها عند الفقهاء؛ فالتسويقيون أدخلوا في الهدية الخدمات، بخلاف الفقهاء؛ فعلى سبيل المثال ما تقدمه بعض محلات تغيير زيوت السيارات، أو غسيلها من بطاقات عند كل غسلة أو تغيير، على أنه إذا اجتمع عدد معين من هذه البطاقات،؛حَصَلَ الجامع على غسلة مجانيّة أو فحص مجاني أو غير ذلك من الخدمات؛ فهذا الحافز الترغيبي هدية عند التسويقيين.
أما الفقهاء: فلا يدخل ذلك في مسمى الهدية عندهم؛ لأن الهدية في اصطلاحهم تمليك عين من غير عوض لغير حاجة المُعْطَى( )، والخدمة ليست عيناً، بل هي منفعة. فهدية الخدمة حقيقتها عند المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) هبة منفعة. وأما عند الحنفية( ) فهي عارية أو إباحة نفع؛ لأن هبة المنافع عندهم، لا تكون إلا عارية.
المطلب الثاني: أنواع الهدايا الترغيبية
الهدايا الترغيبية ثلاثة أنواع في الجملة :
النوع الأول: الهدايا التَذْكَارية :
وهي ما تمنحه المؤسسات، والشركات، والمحلات التجارية للعملاء المرتقبين ذوي العلاقة بأنشطتهم التجارية من أجل تكوين علاقة طيبة، والتذكير بأنشطتهم وسلعهم وخدماتهم.
وهذه الهدايا التذكارية تكون غالباً بصورة تقاويم سنوية أو فصلية، أو سلسلة مفاتيح، أو مفكرات، أو غير ذلك من الأدوات المكتبية والشخصية( ).
النوع الثاني: الهدايا الترويجية :
وهي ما يقدمه التجار من مكافآت تشجيعية للمشترين مقابل شرائهم سلعاً أو خدمات معينة، أو اختيارهم تاجراً معيناً( ).
وهذا النوع من الهدايا الترغيبية قسمان:
القسم الأول: هدية لكل مشترٍ
وهي أن يمنح أصحاب السلع والخدمات، الهدية الترويجية لكل من يشتري منهم شيئاً وهذه الهدية لها صور متعددة؛ فمنها ما تكون فيه الهدية الترويجية ذات صلة بالسلعة بحيث لا تستعمل إلا معها، فتكون الهدية مكمّلة لعمل السلعة المشتراة، ومثال ذلك أن تكون السلعة معجوناً لتنظيف الأسنان، والهدية فرشاة ونحو ذلك. ومنها ما تكون فيه الهدية الترويجية كمية إضافية من السلعة المشتراة، أو تكون سلعة أخرى يراد تصريفها، أو الترويج لها، أو مجرد المكافأة بها( ).
القسم الثاني : هدية معلّقة بشرط
وهي أن يعلّق أصحاب السلع والخدمات الحصول على الهدية الترويجية بشرط. ولذلك صور عديدة؛ منها أن يكون حصول الهدية الترويجية مشروطاً إما بشراء عدد معين، أو بلوغ ثمن محدد، أو جمع أجزاء مفرّقة في أفراد سلعة معينة، أو غير ذلك من الشروط التي يشترطها التجار؛ للترغيب في سلعهم أو خدماتهم، وجذب المستهلكين إليها.
النوع الثالث: الهدايا الإعلانية (العيّنات)
وهي ما تقدمه المؤسسات، والشركات، والمحلات التجارية للعملاء من نماذج تُعَدُّ إعداداً خاصاً؛ للتعريف بسلعة جديدة، أو إعطاء العملاء فرصة تجربة السلعة؛ لمعرفة مدى تلبيتها لحاجاتهم، وإشباعها لرغباتهم، كما أنها قد تستعمل في بعض الأحيان نموذجاً للمواصفات المطلوب وجودها في السلع المعقود عليها( ).
المبحث الثاني: الأصل في الهدية
المطلب الأول: حكمها
الهدية من حيث الأصل مشروعة مندوب إليها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب، والسنة، وقد نقل غير واحد من أهل العلم( ) الإجماع على ذلك.
أولاً: من الكتاب
الأول: قول الله - تعالى - : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان...﴾( ).
وجه الدلالة:
أن في الآية الأمر بالإحسان وهو الإنعام على الغير( )، فدلت الآية على أن أصل كل إحسان الندب( )، وبذل الهدية نوع من الإحسان داخل في عموم الآية.
الثاني: قول الله - تعالى - : ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ....﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - جلَّ وعلا - جعل إيتاء المال من خصال البر، وهذا الإيتاء الذي ذكره الله في هذه الآية شيء سوى الزكاة( )، فيشمل الصدقة، والهدية( ).
الثالث: قول الله - تعالى-: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾( ).
وجه الدلالة:
أن بعض أهل العلم فسّر التحية في الآية بالهدية، وأنه إذا أهدي إلى المرء هدية، فإن المشروع في حقه أن يرد نظيرها أو أحسن منها، فدل ذلك على مشروعية الهدية والثواب عليها( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن المفسرين متفقون على أن المراد بالتحية في هذه الآية السلام، فتأويلها بالهدية نزع بما لا دليل عليه. فوجب حمل الآية على ظاهرها( ).
الإجابة:
أجيب عن ذلك: بأن الآية تشمل الهبة والهدية؛ ((لأنها يتحيا بها، وورودها في السلام لا يمنع دلالتها))( ) على مشروعية الهدية؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب( ).
الرابع : قول الله - تعالى - : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى....﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - تعالى - أمر بالتعاون على البر والإحسان إلى الغير، والهدية من البر، فدلت الآية بعمومها على مشروعية الهدية( ).
الخامس: قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الآية فيها الحث على ترك الشح، وأن تركه سبب للفلاح الذي هو حصول المطلوب والأمن من المرهوب، وبذل الهدية للغير لا يكون، إلا بترك شح النفس، فدلت الآية بعمومها على مشروعية الهدية.
ثانياً: من السنة :
الأول: قول النبي - -: ((تهادوا تحابوا))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أمر بالهدية، وحثّ عليها، وبين الغاية منها، وهي حصول المحبة بين المتهادين.
الثاني: قول النبي - -: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فِرْسِن شاةٍ( )))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - ندب المسلمات إلى أن تهدي المسلمة إلى جارتها، ولو أن تهدي لها الشيء اليسير، أو ما لا ينتفع به في الغالب( )، كظلف الشاة القليل اللحم.
الثالث: قول النبي - -: ((تهادوا، فإن الهدية تُذْهِب وَحَرَ الصدر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أمر بالهدية؛ لما فيها من إذهاب وَحَرَ الصدر - وهو الحقد والغيظ( ) - فدلّ ذلك على مشروعية الهدية.
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على مشروعية الهدية واستحبابها، إلا أنه قد يعرض للهدية أسباب تخرجها عن ذلك إلى الكراهة أو التحريم، كالهدية لأرباب الولايات، والعمال ممن لم تجر له عادة بمهاداتهم قبل ولايتهم وعملهم. وكالهدية لمن يستعين بها على معصية، ونحو ذلك من الأسباب.
المطلب الثاني: حكم قبولها
اتفق أهل العلم على مشروعية قبول الهدايا، إذا لم يقم مانع شرعي، إلا أنهم انقسموا في وجوب قبول الهدية إلى قولين:
القول الأول: أن قبول الهدية غير واجب، بل قبولها مستحب مندوب إليه.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، ورواية في مذهب أحمد هي مقتضى قول أصحابه( ).
القول الثاني: أن قبول الهدية واجب إذا كانت من غير مسألة، ولا إشراف نفس.
وهذا القول رواية عن أحمد( )، وهو قول ابن حزم من الظاهرية( ).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة.
أولاً: من الكتاب
قول الله - تعالى - : ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾( ). وجه الدلالة:
أن الله - تبارك وتعالى - أباح أكل ما تهبه المرأة زوجها من صداقها، فأمره بالأكل الذي هو غالب ما يقصد من المال، فدل على مشروعية قبول الهدية والهبة، وأن الشارع قد رغب في ذلك( ).
ثانياً: من السنة
الأول: قول النبي - - : ((لو دُعيت إلى ذراعٍ أو كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع أو كراع، لقبلت))( ).
وجه الدلالة:
إخبار النبي - - بأنه يقبل الهدية، سواء عظمت أو حقرت، وفي ذلك حض على قبول الهدايا، فدلّ ذلك على مشروعيته واستحبابه( ).
الثاني : الأحاديث التي فيها قبول النبي - - للهدية.
ومنها ما روى أنس - - أنه صاد أرنباً، فأتى أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله - - بوركها فقبله( ).
ومنها ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أهدت أم حفيد - خالة ابن عباس - إلى النبي - - أقطاً، وسمناً، وأضبّاً( )، فأكل النبي - - من الأقط والسمن، وترك الأضب تقذراً( ).
ومنها ما روى أنس - - قال: أُتي النبي - - بلحم، فقيل : تُصُدِّقَ به على بريرة، قال : ((هو لها صدقة، ولنا هدية))( ).
وجه الدلالة:
في هذه الأحاديث قبول النبي - - للهدية، فدلّ ذلك على أن قبولها سنة نبوية.
الثالث: ما روى الصعب بن جثامة - -، ((أنه أهدى لرسول الله - - حماراً وحشياً، فردّ عليه، فلما رأى مافي وجهه، قال : ((أمَا إنّا لم نرده عليك، إلا أنّا حُرُم))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - اعتذر عن رده للهدية التي صيدت له، وهو محرم، بمانع شرعي، وهو الإحرام، فدلّ ذلك على أن هَدْيه - - قبول الهدية مالم يقم مانع شرعي( ).
الرابع: قول النبي - -: ((تهادوا تحابوا))( ).
وجه الدلالة:
أن أمره - - بالهدية ندب إلى قبولها؛ لأن المقصود الذي من أجله شرعت الهدية لا يتحقق إلا بقبولها، فدل ذلك على مشروعيته.
الخامس: ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - - يقبل الهدية، ويُثِيبُ عليها))( ).
وجه الدلالة:
إخبار عائشة - رضي الله عنها - بهديه - - وأنه كان يقبل الهدية، فدلّ ذلك على مشروعية قبولها.
أدلة القول الثاني:
الأول: قول النبي - -: ((لا تردوا الهدية))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى عن رد الهدية، فدلّ ذلك على وجوب قبولها( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
1. أن النهي في هذا الحديث ليس للتحريم، بل هو للكراهة؛ لأن مقصود ه حصول الألفة والمحبة، والهدية لا تتعين لذلك، بل يحصل ذلك بغيرها، فدل ذلك على أن النهي ليس للتحريم، كما هو قول جمهور أهل العلم( ).
2. أن قبول الهدية يترتب عليه استحباب أو وجوب المكافأة، فإن النبي - - كان يقبل الهدية، ويثيب عليها وقد قال النبي - -: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه))( ). ففي إيجاب القبول مع هذا نظر.
3. أن النبي - - أقرّ حكيم بن حزام على أن لا يقبل من أحد شيئاً، فعن حكيم - - قال: سألت رسول الله - - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال : ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرةٌ حلوة، من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى))، قال حكيم: فقلت: يارسول الله، والذي بعثك بالحق لا أَرْزأُ( ) أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر - - يدعو حكيماً إلى العطاء فيأْبى أن يقبله منه، ثم إن عمر - - دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئاً( ).
ففي هذا الحديث ((حجة في جواز الرد، وإن كان من غير مسألة، ولا إشراف))( ).
الثاني: أن النبي - - نهى عن رد بعض أنواع الهدايا، من ذلك قوله - -: ((ثلاث لا ترد : الوسائد، والدُهن، واللبن))( )، وما روى أنس - - أن النبي - - كان لا يرد الطيب( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى عن رد هذه الهدايا، فدل ذلك على جواز رد ما سواها، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر وجه( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن نهي النبي - - عن رد الوسائد، والطيب، واللبن، لا يفيد في تخصيص النهي العام في قوله- -: ((لا تردوا الهدية))( )؛ لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم لا يخالف العام لا يُعَد تخصيصاً على الصحيح( ).
الثالث: ما روى عمر - - قال : كان رسول الله - - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: ((خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء، وأنت غير مُشْرِف( ) ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أمر عمر - - أن يأخذ ما أتاه من غير إشراف نفس،ولا مسألة، وهذا يفيد وجوب القبول( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال من أوجه :
1. أن هذا الأمر أمر ندب لا أمر إيجاب، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن الطبري أن أهل العلم أجمعوا على أن قول النبي - - لعمر: ((خذه)) أمر ندب( )، فلا يكون فيه دليل على الوجوب.
2. أن هذا الحكم إنما هو في العطايا التي من بيت المال، والتي يقسمها الإمام( ).
3. أن أمر النبي - - عمر - - بأخذ المال في هذا الحديث؛ لكونه عمل له عملاً فأعطاه عَمَالته، فيكون قد أعطاه بذلك حقه( ).
ونوقش - أيضاً - بالوجهين الثاني والثالث اللذين نوقش بهما الدليل الأول من أدلتهم.
الرابع: قول النبي - -: ((من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة، ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله -عز وجل-))( ).
وجه الدلالة:
أفاد الحديث أن الواجب قبول كل معروف يبلغ المؤمن من أخيه إذا كان من غير إشراف ولا مسألة، سواء كان هدية، أو صدقة، أو غير ذلك، ما لم يمنع من ذلك مانع.
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بما نوقشت به الأدلة السابقة.
الترجيح:
الراجح أن قبول الهدية مستحب استحباباً مؤكداً جمعاً بين الأدلة، ولما في الرد غير المسوَّغ من الإساءة للمهدي، وقد قال الله - تعالى -: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاّ الإحسان﴾( ).
ولولا ما ورد على أدلة الوجوب من مناقشات؛ لكان القول به وجيهاً جداً.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي لأنواع الهدايا الترغيبية
المطلب الأول: التخريج الفقهي للهدايا التَذْكَارية
تقدم أن الهدايا التذكارية هي ما يقدمه أصحاب السلع إلى عموم الناس بغرض تكوين علاقة طيبة، والتذكير بسلعهم، وأنشطتهم. ومن أمثلة هذا النوع من الهدايا التقاويم السنوية، والمفكرات، ونحوها( ).
وهذا النوع من الهدايا الترغيبية يخرّج على أنه هبة مطلقة، يقصد منها تذكير الناس بأعمال التجار، وإقامة علاقة وديّة معهم.
مايترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحل.
ثانياً: يستحب قبول هذا النوع من الهدايا؛ لعموم الأدلة الحاثة على قبول
الهدية، ما لم تكن هذه الهدية التذكارية لا تستعمل إلا في محرم، أو يغلب استعمالها فيه، فإنه لا يجوز عند ذلك قبولها، ومن أمثلة ذلك ما تقدمه بعض الشركات، أو المؤسسات، أو التجار، كولاعات المدخنين، أو طفايات السجائر التي لا تستعمل إلا في ذلك، أو يغلب استعمالها فيه، فإنه لا يجوز بذلها؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم، وقد قال الله - تعالى -: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْم وَالْعُدْوَانِ﴾( ).
ويمنع قبولها أيضاً سداً للذريعة، وإعانة لهذا التاجر على ترك هذا النوع من الهدايا التي تغري بملابسة المحرمات، حتى ولو علم المهدى إليه أنه لا يستعملها إلا في مباح؛ إذ درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ومن الهدايا الترغيبية التذكارية التي لا تجوز بذلاً ولا قبولاً الهدايا التي ترغّب في التعاملات المحرمة كهدايا البنوك الربوية مثلاً، فإنها لا تجوز، لما فيها من الدعاية لهذه البنوك الربوية، إذ لا تخلو هذه الهدايا غالباً من شعار البنك، وعبارات تدعو إلى التعامل معه، أو ترغب في ذلك، فهي وسيلة للتعامل معها والرغبة فيها. هذا بالنسبة لعموم الناس. أما من لهم حسابات وأموال في هذه البنوك، فإنه لا يجوز لهم قبول شيء من هداياهم على كل حال، وذلك أن أموالهم التي في البنوك قروض لهم على البنك، فالعلاقة بين البنك وهؤلاء علاقة مقرض ومقترض( )، فهدايا البنوك لهؤلاء داخلة في قول النبي - -: ((إذا أقرض أحدكم قرضاً، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبلها، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك))( ).
وهذه القاعدة فيما لا يقبل من الهدايا الترغيبية ليست خاصة بالهدايا التذكارية، بل هي عامة لسائر أنواع الهدايا الترغيبية، وإنما ذكرت هنا؛ لأنه أول موضع يبحث فيه قبول الهدايا الترغيبية، فيغني هذا عن تكرارها في سائر الأنواع.
ثالثاً: لا يجوز للواهب الرجوع في هذه الهدايا بعد أن يقبضها المهدى إليه؛ لعموم قول النبي - -: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه))( ).
المطلب الثاني: التخريج الفقهي للهدايا الترويجية
تقدم أن الهدايا الترويجية هي ما يقدمه التجار من مكافآت تشجيعية للمستهلكين مقابل شراء سلع أو خدمات معينة، أو اختيار تاجر معين( ).
وهذا النوع من الهدايا الترويجية قسمان:
الأول: أن تكون الهدية سلعة.
الثاني: أن تكون الهدية منفعة ( خدمة ).
المسألة الأولى: كون الهدية الترويجية سلعة
صورة ذلك أن تكون الهدية الترويجية سلعة معينة، سواء كانت من جنس المبيع أو من غير جنسه، وهذا القسم له ثلاث حالات هي في الفروع الثلاثة التالية:
الفرع الأول: أن يكون المشتري موعوداً بالهدية قبل الشراء
الأمر الأول: واقع هذه الحال
لهذه الحال صورتان:
الصورة الأولى: هدية لكل مشترٍ.
صورة ذلك أن يعلن صاحب السلعة؛ أن كل من يشتري سلعة معينة، فله هدية مجانيّة أو موصوفة وصفاً مميزاً.
الصورة الثانية: هدية يشترط لتحصيلها بلوغ حد معين من السلع، أو بلوغ ثمن معين.
صورة ذلك أن يقول التاجر: من اشترى عدد كذا من سلعة معينة فله هدية مجاناً، أو يقول: من جمع كذا قطعة من سلعة معينة فله هدية مجاناً. ومن ذلك قول بعض الباعة: من اشترى بمبلغ كذا فله هدية معينة مجاناً.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
هذه الحال من الهدايا الترويجية تحتمل التخريجات التالية:
التخريج الأول: أن هذه الهدية الترويجية وعد بالهبة، فالثمن المبذول عوض عن السلعة دون الهدية. وذلك أن هذه الهدية لا أثر لها على الثمن مطلقاً، والمقصود منها التشجيع على الشراء.
قال ابن قدامة : ((ولا يصح تعليق الهبة بشرط؛ لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على شرط، كقول النبي - -: (إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك)( )، كان وعداً))( ).
ما يترتب على هذا التخريج
أولاً: جواز هذا النوع من الحوافز الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحلّ.
ثانياً: استحباب قبول هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لعموم الأدلة الحاثّة على قبول الهدية.
ثالثاً: أنه ليس للواهب الرجوع في هبته بعد قبض المشتري، ولو انفسخ العقد؛ لعموم النهي عن الرجوع في الهبة.
رابعاً: يلزم البائع إعطاء المشتري الهدية الموعودة، بناء على القول بوجوب الوفاء بالوعد( ).
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكم الوفاء بالوعد على ثلاثة أقوال :
القول الأول: يجب الوفاء بالوعد مطلقاً.
وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفية( )، وهو قول لبعض المالكية( ) كابن شبرمة( )، وابن العربي( )، ووجه في مذهب أحمد( )، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( ). وحكاه ابن رجب عن بعض أهل الظاهر( ).
القول الثاني: لا يجب الوفاء بالوعد بل يستحب.
وهذا مذهب الحنفية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثالث: يجب الوفاء بالوعد المعلق على شرط دون ما لم يعلق بشرط.
وهذا مذهب المالكية( ).
أدلة القول الأول:
استدلوا بأدلة من الكتاب ومن السنة.
أولاً: من الكتاب
الأول: الآيات التي فيها الأمر بالوفاء بالوعد، كقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ( )، وقوله - تعالى -: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله أمر بالوفاء بالعقود والعهود، وهما كل ما ألزم به المرء نفسه، والوعد من ذلك، فدلت الآيتان على وجوب الوفاء بالوعد( ).
الثاني: قول الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن إخلاف الوعد قولٌ نَكَلَ الواعد عن فعله، فيكون قد قال، ولم يفعل، وهذا هو الذي ذمته الآية، فهو دليل على تحريم إخلاف الوعد مطلقاً( ).
المناقشة:
نوقش هذا : بأن المراد بالآية الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة، كالوعد بإنصاف من دين، أو أداء حق، ونحو ذلك من الواجبات( ).
الإجابة:
ويجاب عن هذا: بأن ترك الواجب مذموم مطلقاً، سواء وعد به من وجب عليه أم لم يعد.
ثانياً: من السنة
الأول: الأحاديث التي فيها أن عدم الوفاء بالوعد من صفات المنافقين كقول النبي - -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))( ).
وجه الدلالة:
أن إخلاف الوعد من خصال النفاق، وجميع خصال النفاق محرمة يجب اجتنابها، فدلّ ذلك على أن إخلاف الوعد محرم، وأن الوفاء به واجب( ).
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن الحديث ورد في رجل منافق بعينه، وليس عاماً في كل من اتصف بهذه الصفات أو بعضها( ).
2- أن الحديث ورد في المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - - ( ).
3- أن الحديث ليس على ظاهره،؛ لأن من وعد بما لا يحل له، أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فيه دليل على وجوب الوفاء بالوعد مطلقاً( ).
الإجابة:
أجيب على هذه المناقشات بما يلي:
1. أما قولهم بأن المراد بالحديث شخص معين، فهذا مبني على أحاديث ضعيفة، كما قال الحافظ ابن حجر( )، ثم على القول بصحة ذلك، يقال : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2. أما قولهم بأن المراد بالحديث المنافقون في عهد النبي - ، فلا دليل على هذا التخصيص. وعلى فرض صحته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3. أما قولهم: إن الحديث ليس على ظاهره، فهذا غير مُسَلّم، وما ذكروه من أنه لا يحل الوفاء بما لا يحل، فليس ذلك بصارفٍ للحديث عن ظاهره، وذلك أن ما لا يحل لا يجوز فعله سواء وعد به أم لم يعد. وينتقض قولهم هذا بالنذر، وهو نوع من الوعد، فقد أوجب النبي - - الوفاء بنذر الطاعة دون نذر المعصية، فقال - -: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه))( )، فدلّ ذلك على أن الالتزام إذا كان يحتمل الالتزام بما لا يجوز من المحرمات، فإن ذلك لا يعني عدم لزوم الوفاء بما التزمه من الطاعة.
الثاني: قول النبي - - : ((لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعداً، فتخلفه))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى المسلم عن أن يعد أخاه موعداً ثم يخلفه، فدل ذلك على وجوب الوفاء بالوعد( ).
الثالث: حديث عبد الله بن عامر - - قال: دعتني أمي يوماً، ورسول الله - - قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطِك، فقال لها رسول الله - -: ((ما أردت أن تعطيه ؟)) قالت : أردت أن أعطيه تمراً، فقال رسول الله - - : ((أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل إخلاف الوعد من الكذب، وقد جاء تحريم الكذب في الكتاب والسنة والإجماع( )، فدل ذلك على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم إخلافه.
الرابع: قول النبي - -: ((وَأيُ المؤمن واجب))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أخبر بأن وَأيَ المؤمن - أي: وعده( ) - واجب، فدلّ ذلك على تحريم إخلافه.
المناقشة:
نوقش هذا بأن الحديث ضعيف، كما بيّنته عند تخريجه.
الخامس: قول النبي - -: ((ولا تَعِدْ أخاك وعداً فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه العداوة))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - علل النهي عن إخلاف الوعد بأمر حرَّمه الشارع، وهو أن ذلك سبب العداوة، ومعلوم أن ما كان وسيلة للمحرم، فهو محرم، فدلّ ذلك على تحريم إخلاف الوعد، ووجوب الوفاء به.
المناقشة:
نوقش هذا: بأن الحديث ضعيف كما بيّنته في تخريجه.
السادس: قول النبي - - : ((الوَأيُ مثل الدين، أو أفضل))( ).
السابع: قول النبي - - : ((العِدَةُ دَين))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - شبّه الوعد بالدين من جهة اللزوم، فدلّ ذلك على وجوب الوفاء به، وعدم جواز إخلافه.
المناقشة:
نوقش هذا بأمرين:
1. أن ما في الحديثين ليس على ظاهره، فإن ابن عبد البر حكى الإجماع على أن من وعد رجلاً بمال أنه إذا أفلس الواعد، لم يضرب للموعود له مع الغرماء( ).
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن حكم النبي - - بأن العدة دية لا يلزم منه أن تكون العدة كالدين في جميع الأحكام، بل المراد - والله أعلم - أن الوعد في اللزوم ووجوب الوفاء كالدين ثم إذا تعذر الوفاء فإنه يسقط عنه.
2. أن هذين الحديثين ضعيفان، كما هو مبين في تخريجهما.
الإجابة:
أجيب عن هذا: بأن ضعف الحديثين من جهة السند لا يقدح في ثبوت ما دلا عليه إذا كان قد دلت عليه الأحاديث الأخرى، كما أنه لا مانع من الاستشهاد بالضعيف، وإن لم يكن عمدة( ).
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بالسنة والإجماع.
أولاً: من السنة
الأول: قول النبي - -: ((إذا وعد أحدكم أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يفِ فلا جناح عليه))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي لم يجعل الوفاء بالدين لازماً، فرخّص في عدم الوفاء بشرط أن يكون الواعد ناوياً الوفاء حين الوعد، فدلّ ذلك على عدم وجوب الوفاء بالوعد.
المناقشة:
نوقش هذا: بأنه محمول على ما لو لم يتمكن من الوفاء لعذر، جمعاً بينه وبين الأحاديث التي فيها النهي عن إخلاف الوعد. ويمكن أن يقال أيضاً: إن الحديث لم يتعرض لمن وعد ونيته أن يفي، ولم يفِ بغير عذر، فلا دليل فيه على أن الوفاء بالوعد ليس بواجب( ).
الثاني: حديث الرجلَّ - الذي قال لرسول الله - -: أكذب امرأتي ؟ فقال له رسول الله - - : ((لا خير في الكذب))، فقال : يا رسول الله: أفأعدها، وأقول لها ؟ فقال - -: ((لا جناح عليك))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب، فمنع السائل من الكذب وأباح له الوعد الذي لم يعزم على الوفاء به( ).
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن الحديث لم يثبت مرفوعاً عن النبي - -، وقد بينته في تخريجه( ).
2- أنه لا دلالة فيه على عدم وجوب الوفاء بالوعد، بل فيه النهي عن الكذب، والإذن بالوعد، ومعلوم أن الوعد أمر مستقبلي قد يتيسر، وقد لا يتيسر( ).
3- أنه على التسليم بدلالته على إباحة إخلاف الوعد، فإنه مندرج تحت إباحة الكذب فيما يصلح به المرء بينه وبين أهله، وإنما نهاه النبي - - عن الكذب الصريح، ورخص له في الوعد؛ لأن الوعد أمر مستقبلي يمكن وقوعه بخلاف الكذب الصريح( ).
ثانياً: من الإجماع
استدل القائلون باستحباب الوفاء بالوعد، بأن أهل العلم أجمعوا على أن إنجاز الوعد مندوب إليه، وليس بفرض( ).
المناقشة:
نوقش استدلالهم : بأن الخلاف في المسألة مشهور، فلا وجه للاحتجاج بالإجماع مع قيام الخلاف( ).
أدلة القول الثالث:
استدل هؤلاء بأنه لما تعارضت النصوص الواردة في الوعد؛ فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقاً، ومنها ما دلّ على عدم لزوم الوفاء بالوعد؛ فإن الواجب الجمع بين الأدلة، ولا يمكن الجمع بينها إلا بأن تحمل النصوص التي فيها إيجاب الوفاء بالوعد، وتحريم إخلاف الوعد على ما إذا كان الوعد على سبب. وأما النصوص التي فيها عدم لزوم الوفاء بالوعد فتحمل على الوعد المجرد عن سبب( )؛ لأن إخلاف الوعد على ما إذا كان الوعد على سبب يلحق الموعود ضرر بإخلافه، وقد جاءت الشريعة بنفي الضرر( ).
المناقشة:
نوقش هذا الجمع: بأنه ((لا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن، ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملاً ونفقةً قلنا: فهب أنه كما تقولون، فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالاً ؟))( ).
الإجابة:
يجاب عن هذا: بعدم التسليم،فإن الأدلة الشرعية قد دلت على نفي الضرر، فإذا ترتب على إخلاف الوعد ضرر فإن الضرر يزال بإيجاب الوفاء بالوعد.
الترجيح :
الذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال هو القول بوجوب الوفاء بالوعد؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، وضعف أدلة القائلين بالاستحباب، وعدم انفكاكها عن المناقشات، ويتأكد الوفاء بالوعد إذا كان معلقاً على شرط أو سبب، والله أعلم بالصواب.
وبناءً على هذا الترجيح فإن الواجب على البائع الذي وعد المشتري بالهدية أن يفي بما وعد.
خامساً: جواز كون هذه الهدية الترويجية مجهولة، كأن يقول البائع: من اشترى كذا فله هدية، أو يجد هدية داخل السلعة المبيعة، ولا يبين ما هي. وهذا مبني على أن الجهالة لا تؤثر في عقود التبرعات كما هو مذهب المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم( )، والهبة من عقود التبرعات فلا تؤثر الجهالة فيها.
التخريج الثاني: أن هذه الهدية الترويجية جزء من المبيع، فالثمن المبذول عوض عن السلعة والهدية جميعاً، فالمشتري بذل الثمن ليحصل السلعة والهدية، فالعقد وقع عليهما بثمن واحد.
قال في تهذيب الفروق: ((الهبة المقارنة للبيع إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: أشتري منك دارك بمائة على أن تهبني ثوبك. ففعل، فالدار والثوب مبيعان معاً بمائة))( ).
مايترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا الترويجية بذلاً وقبولاً، لأنها بيع، وقد قال الله - تعالى- : ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾( ).
ثانياً: يشترط في هذه الهدية جميع شروط البيع، ومن ذلك أنه لا يجوز أن تكون مجهولة، بل لابد من أن تكون معلومة إما برؤية، أو بصفة.
ثالثاً: يثبت في هذه الهدية جميع أنواع الخيار التي تثبت في عقد البيع.
رابعاً: يجب على البائع تسليم الهدية الموعودة للمشتري؛ لأنها جزء من المبيع المعقود عليه.
خامساً: للبائع الرجوع بالهدية الترويجية مع السلعة، إذا انفسخ العقد؛ لأنها من المبيع المعقود عليه.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج بأمرين:
1. أن الهدية الترويجية غير مقصودة بالعقد، بل هي تابعة، ولذلك فإن كلاً من البائع والمشتري يقصد بهذا العقد السلعة لا الهدية، وإنما جاءت الهدية لأجل الترغيب في الشراء والتشجيع عليه أو المكافأة بها، فليست الهدية جزءاً من المبيع في حقيقة الأمر.
2. أن الهدية الترويجية ليس لها أثر على الثمن بالكلية، فثمن السلعة ثابت لم يتغير بوجود الهدية، فدل ذلك على أنها ليست جزءاً من المبيع، وإلا لكان لها أثر في الثمن.
التخريج الثالث: أن هذه الهدية الترويجية ما هي إلا هبة بشرط الثواب، وذلك لأن قصد البائع من هذه الهدية تكثير مبيعاته وزيادتها.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا إذا كان العوض المشروط معلوماً؛ لأن علم العوض في هبة الثواب واجب عند الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
ثانياً: للبائع الرجوع في هذا النوع من الهدايا الترويجية إذا لم يحصل له
العوض( )، وذلك؛ لقول النبي - -: ((الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها))( ).
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج: بأن هبة الثواب عند الفقهاء: ((عطيةٌ قصد بها عوض مالي))( )، ولذلك اختلفوا في تكييفها ابتداء وانتهاء.
فذهب الحنفية إلى أنها هبة ابتداء، بيع انتهاء( ).
وذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) إلى أنها بيعٌ ابتداء وانتهاء.
فتخريج هذا النوع من الهدايا الترويجية على هبة الثواب فيه بعدٌ؛ لأن الواهب لا يرجو عوضاً مالياً عن هذه الهبة، بل مقصوده تشجيع المشتري، وحفزه على الشراء، كما أن الموهوب له إذا أقدم على الشراء وبذل المال، فإنه لا يريد بذلك مكافأة البائع على هبته الترويجية، بل يريد بذلك السلعة أو الخدمة. ثم إن
هناك فرقاً جوهرياً بين هبة الثواب والهدية الترويجية، وهو أن هبة الثواب تبذل ثم يطلب عوضها، أما الهدية الترويجية فإنها لا تكون إلا بعد حصول الشرط الذي علّقت عليه، وهو الشراء، فهذا كله يوضح أن تخريج هذا النوع من الهدايا الترغيبية على هبة الثواب ضعيف جداً.
التخريج الرابع: أن هذه الهدية الترويجية من الهدايا المحرمة التي يتذرع بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، والإضرار بالتجار الآخرين( ).
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: تحريم هذه الهدايا الترويجية بذلاً، وقبولاً؛ وذلك لأمور:
1- أن فيها احتيالاً وتمويهاً وتغريراً بالناس لأكل أموالهم بشتى الحيل( ).
2- أن هذه الهدايا لا مقابل لها، وهي لم تبذل تبرعاً، بل بذلت على سبيل المعاوضة،فأين عوضها( )؟.
3- أن في هذه الهدايا إضراراً بالتجار الذين لم يستعملوها( )، وقد قال النبي: ((لا ضرر، ولا ضرار))( ).
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأمرين:
الأول: أن الأصل في المعاملات الحل، ولم يقم ما يوجب تحريم هذه الهدايا الترويجية.
الثاني: أن ما ذكر من تعليلات للقول بالتحريم، يناقش بما يلي:
1- أن هذه الهدايا الترويجية وسيلة لترغيب الناس في الشراء، وتشجيعهم على التعامل مع من يستعملها، فهي ليست لأخذ أموالهم بغير حق، ولا لتوريطهم في شراء مالا يحتاجون، ولا لستر عيوبٍ فيما يبيعون، فلا تحيّل فيها ولا تمويه ولا تغرير، فلا تكون من أكل أموال الناس بالباطل.
2- أن هذه الهدايا ليست معاوضة، فيطلب فيها العوض، ولا تبرعاً محضاً، بل هي مكافأة وتشجيع من البائع للمشتري على اختياره والتعامل معه، فهي نوع تبرع وإحسان.
3- أن دعوى الإضرار بالتجار الآخرين تناقش بما يلي:
أ- أن دواعي الإقبال على بائع دون آخر كثيرة متنوعة مختلفة، وليست الهدايا الترويجية هي العامل المؤثر في ذلك ليعلق عليه الحكم.
ب- أن أهل التجارات يسلكون طرقاً متعددة في جذب الناس إلى سلعهم أو خدماتهم، فينبغي ألا يحجر على أحدهم في استعمال ما أحلّه الله وأباحه من وسائل الترغيب والجذب، لكون غيره لم يستعملها، فإن ذلك نظير ما لو أن تاجراً رغّب عملاءه، بإعطائهم خيار الشرط فيما يشترونه منه، وتميّز به دون سائرهم، فهل من الإنصاف والعدل أن يمنع ذلك؛ لكون غيره لم يستعمله؟
ت- أن الضرر الذي نهى عنه النبي - - مبناه على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه صاحب الفروع: ((فمتى قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار، وأما إذا فعل الضرر المستحق؛ للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار، فليس بمضار))( )، وغالب من يتخذ هذه الوسائل يفعل ذلك لا لمضارة غيره، بل لحاجته إلى ترويج سلعه وخدماته
الترجيح بين التخريجات:
تبين من خلال العرض السابق للتخريجات، وما ورد عليها من مناقشات أن أقربها إلى الصواب تخريج الهدية الترويجية على الهبة المطلقة، على أنه لا فرق بين هذه التخريجات من حيث حكم هذه الهدايا وأنها جائزة؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، عدا التخريج الرابع، وقد تقدمت مناقشته، وبيان ضعفه.
وقد أفتى بجواز هذه الهدايا الترويجية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء( ) في المملكة العربية السعودية، وذلك في جوابها على السؤال التالي: ((رأت شركة بترومين لزيوت التشحيم (بترولوب) مؤخراً، وبإيعاز وتوصية من إدارة التسويق، وتنفيذ من إدارة الإنتاج بالتنسيق مع إدارة العقود بعمل (كوبونات) تلصق بالكراتين عن طريق عمال الإنتاج، وتكون موجودة أصلاً في الكرتون حتى إذا ما أتم العميل جمع عدد معين من هذه (الكوبونات) حصل على جائزة معينة بحسب عدد (الكوبونات) التي جمعها؛ والسؤال هنا: ما حكم هذا العمل؟ وهل هو من القمار والميسر؟)).
فقالت اللجنة :
((بعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت: بأن الأصل في المعاملات الجواز، ولم يظهر لنا مايوجب منع هذه المعاملة المسؤول عنها)).
وممن قال بجواز هذا النوع من الهدايا الترغيبية شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين، ففي جواب له عن حكم هذا النوع من الهدايا قال - أثابه الله -: ((إذا كانت السلعة التي يبيعها هذا التاجر الذي جعل الجائزة لمن تجاوزت قيمة مشترياته كذا وكذا إذا كانت السلع تباع بقيمة المثل في الأسواق فإن هذا لا بأس به))( ).
الفرع الثاني: ألاّ يكون المشتري موعوداً بالهدية قبل الشراء.
الأمر الأول: واقع هذه الحال
صورة ذلك ما يقوم به كثير من التجار، وأصحاب السلع، من إعطاء المشترين سلعة زائدة على ما اشتروه بدون وعد سابق، أو إخبار متقدم على العقد، وذلك إكراماً للمشترين، ومكافأة لهم على شرائهم، وترغيباً في استمرار التعامل.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
يمكن تخريج هذه الحال من الهدايا الترويجية فقهياً على أحد ثلاثة تخريجات:
التخريج الأول: أن هذه الهدية الترويجية هبة محضة( )؛ لتشجيع الناس على الشراء، ومكافأتهم عليه، أو على اختيارهم للمحل أو النوع وما أشبه ذلك.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاًً: جواز هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة، ما لم يقم مانع شرعي.
ثانياً: استحباب قبول هذا النوع من الهدايا الترويجية، لعموم الأدلة الحاثة على قبول الهدية.
ثالثاً: أنه لايجوز للواهب الرجوع في هذه الهدية بعد قبض المشتري، ولو انفسخ العقد( )؛ لما ورد من النهي عن الرجوع في الهبة( ).
رابعاً: يصح أن تكون هذه الهدية الترويجية مجهولة بناء على جواز الجهالة في عقود التبرعات( ).
التخريج الثاني: أن هذه الهدية الترويجية زيادة في المبيع فتلتحق بالعقد.
قال الزركشي من الشافعية: ((الهبة إذا وقعت ضمن معاوضة، لم تفتقر إلى القبض))، وقال في تعليل ذلك : ((لأنها في ضمن معاوضة))( )، فهي بمثابة الزيادة في المبيع المعقود عليه.
وقال في تهذيب الفروق: ((الهبة المقارنة للبيع، إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: أشتري منك دارك بمائة، على أن تهبني ثوبك، ففعل، فالدار والثوب مبيعان معاً بمائة، وإذا قال شخص لآخر: أبيعك داري بمائة، على أن تهبني ثوبك. فالدار مبيعة بالمائة والثوب، والتسمية لا أثر لها))( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((الهدية إذا كانت بسبب ألحقت به))( ).
وقال ابن رجب في قواعده: ((تعتبر الأسباب في عقود التمليكات))( )، والهبة من عقود التمليكات فيعتبر سببها وتلحق به.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاًً: جواز هذا النوع من الهدايا بذلاً وقبولاً؛لأنها من البيع، وقد قال الله - تعالى -: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾( ).
ثانياً: أن هذه الهدية تلتحق بالعقد، فيجب فيها ما يجب للبيع من شروط، ويثبت لها ما يثبت للمبيع من أحكام، قال في الفتاوى الهندية: ((والزيادة في الثمن، والمثمن، جائزة حال قيامها، سواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غير جنسه، وتلتحق بأصل العقد،))( )، وقال في منتهى الإرادات: ((أما مايزاد في ثمن، أو مثمن، أو أجل أو خيار، أو يحط زمن الخيارين فيلتحق به))( ).
ثالثاً: أنه في حال انفساخ العقد يرجع البائع بالسلعة والهدية، لأنها من المبيع، قال ابن رجب في قاعدة اعتبار الأسباب في عقود التمليكات: نص الإمام أحمد: ((فيمن اشترى لحماً ثم استزاد البائع، فزاده ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم فجعلها تابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه))( ).
التخريج الثالث: أن هذه الهدية الترويجية ما هي إلا حط من الثمن، فهي تخفيض أو حسم، فالمشتري حصّل السلعة والهدية دون زيادة في الثمن، فعُدّ ذلك تخفيضاً ونقصاً من الثمن، قال في مطالب أولي النهى: ((وهبة بائع لوكيلٍ اشترى منه كنقص من الثمن، فتلتحق بالعقد؛ لأنها لموكله، وهو المشتري، ويخبر بها))( ).
ما يترتب على هذا التخريج:
الذي يترتب على هذا التخريج هو نفس ما يترتب على تخريج الهدية الترويجية على أنها زيادة في المبيع، غير أنه في هذا التخريج لا يرجع المشتري في حال انفساخ العقد إلا بالثمن بعد التخفيض. وأما البائع فإنه يرجع بالسلعة فقط؛ لأن الهدية حط من الثمن قبضه المشتري، فيلتحق بالعقد.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج: بأن البائع لم يخفّض الثمن في الحقيقة، فثمن السلعة لم يطرأ عليه تغيير، بل هو ثابت على كل حال بالهدية وبدونها. ولذلك يفرّق أصحاب السلع بين التخفيض، وبين هذه الهدايا، كما أن المشترين لا يأخذون هذه الهدايا على أنها تنزيل من الثمن، ولذلك تجد أن الثمن الذي يسجله الباعة في الفواتير( )، والذي يتكلم به المشترون هو الثمن الذي بذله المشتري دون اعتبار للهدية، ولذلك فإن التسويقيين يذكرون هذه الوسيلة لمن يريد الترويج لسلعة دون التأثير على الأسعار( ).
الترجيح بين هذه التخريجات:
بالنظر إلى هذه التخريجات الفقهية يظهر- والعلم عند الله - أن أقربها إلى الصواب تخريج هذا النوع من الهدايا الترويجية على أنها هبة محضة؛ لأن هذا هو أقرب التوصيفات الفقهية لمقصود البائع والمشتري، ومعلوم أن البائع يبذل هذه الهدايا ليرغب في الشراء ويشجع عليه، وأن المشتري يقبلها على أنها كذلك لا على أنها جزء من المبيع، أو أن لها أثراً في الثمن، ولذلك تجد المشتري لا يحتاط فيها كما يفعل في السلعة المقصودة بالعقد، إذ إن هذه الهدية أمر تابع زائد.
أما تخريجها على أنها زيادة في المبيع تلتحق بالعقد، فهذا تخريج قوي جيد، لاسيما إذا كانت الهدية الترويجية من جنس المبيع، كأن يكون المبيع كتاباً، والهدية نسخة أخرى من نفس الكتاب، أو زيادة في كمية وقدر البيع. أما إن كانت الهدية الترويجية من غير جنس المبيع، كأن يكون المبيع كتاباً، والهدية قلماً، فإنها تخرّج على أنها هبة محضة.
أما تخريج الهدية الترويجية على أنها تخفيض، فضعيف لما ورد عليه من مناقشة.
الفرع الثالث : أن يكون الحصول على الهدية مشروطاً بجمع أجزاء مفرّقة في أفراد سلعة معيّنة.
الأمر الأول: واقع هذه الحال
صورة ذلك ما تقوم به بعض الشركات، من وضع ملصقات مجزأة في أفراد سلعة معينة غالباً ما تكوّن هذه الأجزاء شكلاً معيناً.
ومن صور هذه الحال ما تقوم به بعض محلات المواد الغذائية والاستهلاكية الكبيرة (السوبر ماركت)( ) من إعطاء مَن بلغ حداً معيناً من الشراء بطاقة فيها جزء من جهاز، على أنه إذا كرر الشراء ثانية، وبلغ ذلك الحد، فإنه يعطى بطاقة أخرى، فإذا كمّل الجزء الآخر يكون ذلك الجهاز هدية مجانيّة لصاحب البطاقة.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
هذه الصورة من الهدايا الترويجية تخرّج على أنها هبة.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا التخريج تحريم هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لما يلي:
أولاً: أن هذا النوع من الهدايا الترويجية يفضي إلى حمل الناس على شراء مالا حاجة لهم فيه من السلع، طمعاً في تكميل هذه الأجزاء المفرّقة، وهذا من الإسراف والتبذير الذي نهى الله عنه في قوله - تعالى - : ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾( )، وقوله : ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾( ).
وفي هذا الأسلوب من أساليب الترويج إضاعة للمال الذي نهى النبي - - عن إضاعته( ).وفيه أيضاً حمل للناس على التخوّض في مال الله بعير حق، وقد قال - -: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة))( ).
ثانياً: أن في هذا النوع من الهدايا قماراً وميسراً، وذلك أن مشتري هذه السلع والخدمات يبذل مالاً في شرائها، ليجمع الأجزاء المفرقة، أو يملأ الدفتر الخاص، ثم هو على خطر بعد الشراء، فقد يحصّل الجزء المطلوب فيغنم، وقد لا يحصّله فيغرم. وهذا نوع من المخاطرات التي أجمع أهل العلم على تحريمها.
وقد أفتى بتحريم هذه الصورة من الهدايا الترويجية شيخنا العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين - أثابه الله - حيث قال في إجابة له عن سؤال حول هذه الهدايا: ((أما الصورة الثانية: فهي جعل صورة سيارة نصفها في كارت ونصفها الثاني في كارت آخر مثلاً، ولا تدري عن هذا النصف الآخر هل هو موجود، أو غير موجود؟، وعلى فرض أنه موجود، فهو حرام بلا شك؛ لأن الإنسان إذا اشترى كرتوناً يكفيه وعائلته، ووجد فيه كارت السيارة، فإنه سوف يشتري عشرات الكراتين أو مئات الكراتين رجاء أن يحصل على النصف الثاني، ليحصل على السيارة، فيخسر مئات الدراهم، والنهاية أنه لا شيء، فقد تحصل لغيره، فيكون في هذا إضاعة مال وخطر، فلا يجوز استعمال هذه الأساليب))( ).
المسألة الثانية: كون الهدية الترويجية منفعة (خدمة)
هذه الصورة لا تخلو من حالين: هما في الفرعين التاليين:
الفرع الأول : أن يكون المشتري موعوداً بالمنفعة (الخدمة) قبل العقد
الأمر الأول: واقع هذه الحال
صورة هذا ما تعلن عنه كثير من محطات وقود السيارات، أو تغيير الزيت، أو غسيل السيارات، من أن من جمع عدداً محدداً من البطاقات التي تثبت أنه اشترى
منهم وقوداً، أو غيّر عندهم الزيت، أو غسّل السيارة، فله غسلة مجانيّة، ونحو ذلك من الخدمات.
ومما يدخل في هذه الحال ما تقوم به بعض الشركات، أو أصحاب السلع من أن مَن اشترى منهم سلعة أو خدمة، فإن له هدية تذكرة سفر مجانية إلى بلد معين.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
يمكن تخريج هدايا المنافع (الخدمات) على نفس التخريجات التي ذكرت فيما إذا كانت الهدية سلعة وَعَدَ بها البائع قبل العقد.
التخريج الأول: أن الهدية الترويجية في هذه الحال وعد بهبة المنفعة.
التخريج الثاني: أن هدية المنفعة معقود عليها، فإن كان المقصود بالعقد أصلاً سلعة فإنه يكون قد جمع بين بيع وإجارة، وهذا جائز، كما هو مذهب المالكية( )، والأظهر عند الشافعية( )، ومذهب الحنابلة( ).
وإن كان المقصود بالعقد أصلاً المنفعة (الخدمة)، فإن هذه الهدية تكون زيادة في المعقود عليه.
التخريج الثالث: أن هدية المنفعة إنما هي من هبة الثواب.
التخريج الرابع: أن هدية المنفعة من الهدايا المحرمة التي يتذرع بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، والإضرار بالتجار الآخرين.
الترجيح بين هذه التخريجات:
الأقرب من هذه التخريجات أن هدايا الخدمات ما هي إلا وعد بهبة المنفعة.
أما ما يترتب على هذه التخريجات فلم أذكره، لعدم مخالفته لما تقدم ذكره فيما إذا كانت الهدية سلعة وَعَدَ بها البائع قبل الشراء. وقد تقدم أنها متفقة من حيث جواز هذا النوع من الهدايا الترويجية، عدا التخريج الرابع وقد تقدم مناقشه والجواب عليه( ).
وقد أفتى بجواز هذه الصورة من الهدايا الترويجية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية. ففي جوابها على السؤال التالي: ((لدي محطة محروقات وعملت كروتاً توزع على المواطنين أي بمعنى أنه عندما يكمل السائق ألف لتر يحق له غسيل سيارته مجاناً، وأرفق لكم صورة من هذا الكرت، فهل يجوز لنا الاستمرار فيه وتوزيعه أو نتوقف عنه نهائياً؟ علماً بأننا الآن أوقفنا التوزيع)).
أجابت اللجنة :
((إذا كان الأمر كما ذكر جاز ذلك البيع، ونرفق لكم صورة في مسألة تشبه مسألتك، وبالله التوفيق)).
كما أفتى بالجواز أيضاً فضيلة شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين - أثابه الله -، ففي جواب له على السؤال التالي: ((يوجد لدينا بنشر ومغسلة طبعنا كروتاً كتب عليها اجمع أربعة كروت من غيار الزيت وغسيل، واحصل على غسلة لسيارتك مجاناً، هل في عملنا هذا شيء محذور؟، ولعلكم تضعون قاعدة في مسألة المسابقات وغيرها؟))، قال - أثابه الله -: ((أقول: ليس في هذا محذور ما دامت القيمة لم تزد من أجل الجائزة، والقاعدة هي: أن العقد إذا كان الإنسان فيه سالماً أو غانماً فهذا لا بأس به، أما إذا كان إما غانماً وإما غارماً فإن هذا لا يجوز. هذه القاعدة..))( ).
الفرع الثاني: ألاّ يكون المشتري موعوداً بالمنفعة قبل العقد
الأمر الأول: واقع هذه الحال
صورة هذا، ما تقدمه بعض محطات وقود السيارات، من خدمات لمن يشتري منها وقوداً، كتمسيح زجاج السيارة مثلاً، ونحو ذلك من الخدمات.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
تخرّج هذه الهدية على أنها هبة محضة للمنفعة (الخدمة) مكافأة على التعامل وتشجيعاً عليه.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا الترغيبية بذلاً وقبولاً، عملاً بأصل الإباحة في المعاملات.
ثانياً: ليس للبائع الرجوع بأجرة الخدمة إذا انفسخ العقد؛ لعموم قوله - - : ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه))( ).
المطلب الثالث: التخريج الفقهي للهدايا الإعلانية (العيّنات)
الهدايا الإعلانية: وهي ما تقدمه المؤسسات، والشركات للعملاء، من نماذج معدّة إعداداً خاصاً للتعريف ببضاعة جديدة، أو إعطاء العملاء فرصة تجربة السلعة، أو لأجل الترويج لها( ).
وهذا النوع من الهدايا الترغيبية يهدف إلى تحقيق أحد غرضين:
الأول: تعريف الناس بالسلعة الجديدة، وكيفية استعمالها، ومعرفة مدى تلبيتها لحاجاتهم وإشباعها لرغباتهم.
الثاني: أن تكون نموذجاً لما يطلب في السلعة المعقود عليها من المواصفات فتكون هذه الهدية ممثلة للمعقود عليه، وغالباً ما تستعمل هذه النماذج الإعلانية في السلع التي تحتاج إلى تصنيع( ).
أما حقيقة هذا النوع من الهدايا الترغيبية فقهياً، فهي هدية وهبة.
ما يترتب على هذا التخريج :
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل على المنع.
ثانياً: استحباب قبول هذا النوع من الهدايا؛لدخوله في عموم الأحاديث التي تحث على قبول الهدية.
ثالثاً: لا يجوز للواهب الرجوع في هذا النوع من الهدايا؛ لدخولها في عموم قوله - -: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه))( ).
رابعاً: يجب أن تكون هذه الهدايا الإعلانية مطابقة للواقع في بيان حقيقة السلعة، وجودتها ومدى تلبيتها لحاجات العملاء.
خامساً: جواز اعتماد هذه العينات التعريفية عند إجراء العقود بناءً على القول بصحة بيع الأنموذج.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يصح اعتماد هذه العينات في عقد البيع، إذا كان المبيع مما لا تتفاوت آحاده، ويمكن ضبط أوصافه بهذا الأنموذج.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، وقول في مذهب أحمد( ) وهو قول ابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: لا يصح اعتماد هذه العينات في عقد البيع مطلقاً.
وهذا هو الصحيح من مذهب أحمد( ).
ومنشأ هذا الخلاف هو هل يحصل بهذا الأنموذج أو العيّنة العلم بالمبيع أولا؟ فمن قال: إنه يحصل بها العلم بالمبيع صحح بيع العيّنة أو الأنموذج.
ومن قال: لا يحصل بها العلم بالمبيع وقت العقد لم يصحح البيع.
ولذلك اشترط القائلون بصحة بيع الأنموذج أن يكون المبيع مما لا تتفاوت آحاده كالمكيل والموزون، أما ما تتفاوت أجزاؤه فلا يجوز( ). وقد مثلوا - رحمهم الله - بالمكيل والموزون بناءً على أنه لا يمكن ضبط غيرهما، وهذا بالنظر إلى عصرهم صحيح. أما اليوم فإن التطور الصناعي بلغ حداً أصبح فيه كل شيء يمكن ضبطه بأوصافٍ لا تختلف، ولا تتفاوت آحاده، وعلى هذا فإن بيع الأنموذج بيع صحيح وإن اعتماد هذه العينات الإعلانية التعريفية في البياعات جائز لا حرج فيه.
المطلب الرابع: الهدية النقدية( )
يقوم بعض المنتجين، وأصحاب السلع بوضع شيء من القطع الذهبية، أو الفضية، أو العملات الورقية، في سلعهم وبضائعهم؛ لتشجيع الناس على الشراء.
ولهذه الهدايا النقدية صورتان:
الأولى: وضع هدية نقدية في أفراد سلعة معينة.
الثانية: وضع هدية نقدية في بعض أفراد سلعة معينة.
المسألة الأولى: هدية نقدية في كل سلعة
الفرع الأول: واقعها
صورة هذه الهدية أن يعلن التاجر، أو الشركة، أن في كل علبة أو فرد من أفراد سلعة معينة، ريالاً أو ريالين ونحو ذلك؛ ليشجع على شرائها.
ويذكر أهل التسويق أن فائدة هذا الأسلوب من أساليب الترويج، هو حسم ثمن السلعة مع المحافظة على ثبات السعر، دون التأثير على سياسة تجار التجزئة التخفيضية( ).
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
يحتمل هذا النحو من الهدايا النقدية التخريجين التاليين.
التخريج الأول: أن هذه الهدية تخرّج على مسألة مد عجوة ودرهم.
ومسألة مد عجوة ودرهم هي أن يبيع ربوياً بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه( ).
وهذا النوع من الهدايا حقيقته، أن البائع باع السلعة وما معها من أوراق نقدية بأوراق نقدية، فهي إحدى صور مسألة مد عجوة ودرهم.
ما يترتب على هذا التخريج:
الخلاف في جواز هذا النوع من الهدايا النقدية، بناءً على اختلافهم في مسألة مد عجوة ودرهم.
فقد اختلف أهل العلم في مسألة مد عجوة ودرهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز مطلقاً.
وهو مذهب الشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: يجوز إن كان ما مع الربويين تابعاً، والمفرد أكثر من الذي معه غيره.
وهذا مذهب المالكية( )، ورواية في مذهب أحمد( ) اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية( ).
القول الثالث: يجوز مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية( )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ويذكر رواية عن أحمد))( ).
أدلة القول الأول
استدلوا بأدلة من السنة، والنظر.
أولاً: من السنة
الأول: حديث فضالة بن عبيد - - قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي - -، فقال: ((لا تباع حتى تفصل))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى عن بيع القلادة من الذهب بالدنانير حتى يفصل ما فيها من خرز، وهذا يدل على تحريم بيع الربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسه( ).
المناقشة:
نوقش هذا الدليل من وجهين:
1. أن الحديث مضطرب في سنده ومتنه( ).
فأما سنده فقد روي مرفوعاً إلى النبي - -، وموقوفاً على فضالة، أما متنه ففي بعض الروايات أنه اشترى القلادة ((بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير))( )، وفي بعضها: ((باثني عشر ديناراً))( )، وفي بعضها((فيها ذهب وورق وجوهر))( )، وفي بعضها: ((فيها ذهب وخرز))( ).
أن النبي - - إنما نهى عن بيع القلادة التي فيها ذهب وخرز؛ لأن ذهب القلادة أكثر من الثمن، فلا يدل ذلك على منع ما لو كان الذهب أكثر من الذي معه غيره( ).
الإجابة:
وأجيب على هذين بما يلي:
1. أما دعوى الاضطراب، فأجاب عنها الحافظ ابن حجر، فقال: ((هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً، بل مقصود الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، أما جنسها وقدر ثمنها، فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، ويكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة))( ).
2. أما قولهم: إن النهي محمول على غير ما إذا كان الذهب المفرد أكثر من الذي معه شيء فجوابه أن ((النبي - - أطلق الجواب من غير سؤال فدلّ على استواء الحالين))( ). ويشهد لهذا أن فضالة - رضي الله عنه -، وهو صاحب القصة، قد حمل نهي النبي - - على العموم، فأجاب من سأله عن شراء قلادة فيها ذهب، وورق، وجواهر، فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذه إلا مثلاً بمثل، فإني سمعت رسول الله - - يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل))( ).
ويجاب عن ذلك أيضاً: بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب( )، فيشمل النهي بذلك غير صورة الحديث مما يكون فيه المفرد مساوياً أو أقل من الذي معه غيره.
الثاني: عموم الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الذهب بالذهب، وسائر الأجناس الربوية إذا بيعت بجنسها، إلا مثلاً بمثل وزناً في الموزونات، وكيلاً في المكيلات.
ومن ذلك قول النبي - -: ((الذهب بالذهب، وزناً بوزن، مثلاً بمثل. والفضة بالفضة وزناً بوزن، مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا))( ).
وجه الدلالة:
أمر النبي- - أن لا يباع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، إلا عيناً بعين، وزناً بوزن، وكذلك في سائر الأجناس الربوية إذا بيعت بجنسها، ومعلوم أن وجود خلط أو شيء مضاف إلى الجنس الربوي يحول دون ما أمر به النبي- - من المساواة( )،فيجب إزالة الخلط لتتحقق المساواة، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب( ).
الثالث: أن معاوية - رضي الله عنه - ابتاع سيفاً محلى بالذهب بذهب، فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لا يصلح هذا، فإن رسول الله - - نهى عنه،فقال:"الذهب بالذهب مثلاً بمثل"، فقال معاوية - رضي الله عنه -: ما أرى بذلك بأساً، فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : أحدثك عن رسول الله - -، وتحدثني عن رأيك. والله لا أساكنك أبداً( ).
وجه الدلالة:
أن أبا الدرداء - - جعل هذه الصورة داخلة في عموم النهي عن بيع الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل.
المناقشة:
نوقش هذا بثلاثة أمور:
1- أن الأثر منقطع، كما هو مبين في تخريجه.
2- أن هذه القصة غير معروفة لأبي الدرداء - -، بل القصة الصحيحة المشهورة معروفة لعبادة بن الصامت - - مع معاوية - - من وجوه وطرق شتى( ).
3- أنه لا يعلم لأبي الدرداء - - حديث في الصرف، ولا في بيع الذهب بالذهب، ولا في الورق بالورق. وهذا مما يؤكد ضعف هذه الرواية( ).
الإجابة:
أجيب عن هذه المناقشات بما يلي:
1- أنه لا يتعين الانقطاع لأجل عدم سماع عطاء من أبي الدرداء - -؛ لاحتمال أن يكون سمعه من معاوية - - فإنه قد سمع من جماعة من الصحابة هم أقدم موتاً من معاوية( ).
2- كون القصة المشهورة معروفة لعبادة - - لا ينفي وقوع نظيرها لأبي الدرداء - -.
3- كونه لم يُعْلَم لأبي الدرداء - رضي الله عنه - حديث في الصرف، لا يعني ضعف هذه القصة، فعدم العلم ليس علماً بالعدم.
ثانياً: من النظر
الأول: أن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة، انقسم الثمن على قدر قيمتيهما، وهذا يؤدي إلى أحد أمرين: إما إلى العلم بالتفاضل، وإما إلى الجهل بالتماثل، وكلاهما مبطل للعقد. فإذا باع مثلاً درهماً ومداً، والمد يساوي درهمين، باعهما بمدين، يساويان ثلاثة دراهم، كان الدرهم في مقابلة ثلثي مد، ثم يبقى مد في مقابلة مد وثلث، وهذا ربا؛ لأنه قد علم التفاضل، فلا يجوز. وإذا فُرِضَ التساوي بأن باع درهماً ومداً، والمد يساوي درهماً، باعهما بدرهم ومدٍ،
يساوي درهماً، لم يجز أيضاً؛ لأن التقويم ظن وتخمين، لا تتحقق معه المساواة( )، والقاعدة أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل( )؛ فإن الشارع قد أكد مراعاة التساوي واشتراطه، حتى قال النبي- -: ((مثلاً بمثل، وزناً بوزن، ولا تشفوا( ) بعضها عن بعض))( ).
المناقشة:
نوقش هذا: بأن المنقسم هو قيمة الثَمَن على قيمة المُثْمَن، لا أجزاء أحدهما على قيمة الآخر، وحينئذٍ فالمفاضلة التي ذكرها منتفية( ).
الإجابة:
أجيب بالمنع؛لأنه لو ظهر أحد العوضين مُسْتَحقاً( ) أو رُدّ بعيب أو غيره، فلا بد من معرفة ما يقابل الدرهم أو المد من الجملة الأخرى( ).
الثاني: أن إباحة مد عجوة ودرهم بدرهمين ذريعة إلى الربا المحرم، فيمنع ذلك سداً للذريعة التي تفضي إلى الربا الصريح( ).
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بدليل وتعليل:
الأول: قول النبي - -: ((من ابتاع عبداً، وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع))( ).
وجه الدلالة: أن النبي- - أجاز بيع العبد الذي له مال مع ماله إذا اشترطه المبتاع، مع احتمال أن يكون ثمنه ربوياً من جنس ماله، فدل ذلك على جواز بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه، إذا كان ذلك الغير تابعاً( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن بيع الربوي في مسألة مد عجوة مقصود بالعقد، أما هذا الحديث، فعلى فرض أن مال العبد المبيع ربوي من جنس الثمن، فهو تابع غير مقصود بالأصالة، فلا يتم الاستدلال به( ). ومما يؤكد هذا المعنى أن الذين استدلوا بهذا الحديث على جواز مسألة مد عجوة اشترطوا أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، والقول بجواز بيع العبد الذي له مال لا يتقيد بذلك( ).
الثاني: أن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يجز حمله على الفساد؛ لأن الأصل حمل العقود على الصحة( ).
المناقشة:
نوقش هذا الأصل الذي ذكره الحنفية وغيرهم: بأنه ينتقض ((بمن باع سلعة إلى أجل ثم اشتراها نقداً بأقل من الثمن الأول، فإنه لا يجوز عندهم مع إمكان حمله على الصحة، وهما عقدان يجوز كل واحد منهما على الانفراد، وجعلوا العقد الواحد هنا عقدين( )؛ ليحملوه على الصحة، فكان هذا إفساداً لقولهم))( ).
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بالدليل الثاني من أدلة أصحاب القول الثاني( )، وأن الأصل في المعاملات الحل.
الترجيح:
الذي يظهر ترجيحه في هذه المسألة - والله أعلم -، هو القول الأول، بالمنع وعدم الجواز؛ لقوة أدلة القائلين به، وسلامتها من المناقشة، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى، وعدم انفكاكها من المناقشات.
التخريج الثاني: أن هذه الهدية النقدية هبة ممنوحة لكل مشترٍ يُقْصَد منها حط ثمن السلعة وتخفيضه والحسم منه. وبيان هذا أنه لو كان ثمن السلعة عشرة ريالات مثلاً، وكان في السلعة هدية نقدية قدرها ريالان، فحقيقة الأمر أن المشتري حصّل حسماً وتخفيضاً من ثمن السلعة بقدر الهدية النقدية. وقد ذكر بعض
الفقهاء أن هبة البائع للمشتري حط من الثمن وتخفيض، قال في مطالب أولي النهى: ((وهبة بائع لوكيل اشترى منه كنقص من الثمن، فتلتحق بالعقد؛ لأنه موكله، وهو المشتري))( ).
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الهدايا النقدية؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة، ولا دليل على المنع.
ثانياً: يحب العلم بقدر هذه الهدية؛ لئلا يفضي ذلك إلى جهالة الثمن.
ثالثاً: ثمن السلعة هو ما يبقى بعد حسم ما في السلعة من نقود.
رابعاً: إذا انفسخ العقد فإن المشتري يرجع على البائع بما بقي من الثمن
بعد الحسم، ويرجع البائع بالسلعة فقط.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج: بأن البائع والمشتري لا يريان أن هذه الهدية النقدية حسم من الثمن، بل هي في الحقيقة هبة مستقلة لا أثر لها على الثمن، ولذلك تجد البائع والمشتري يتكلمان بالثمن الذي وقع عليه العقد دون احتساب لهذه الهدية النقدية.
الترجيح بين التخريجات:
الذي يظهر أن تخريج الهدية النقدية على مسألة مد عجوة ودرهم أقرب للصواب، وعلى هذا فإن هذا النوع من الهدايا النقدية لا يجوز؛ لما فيه من الربا.
وأما ما ذكره التسويقيون من أن المقصود من هذه الوسيلة الترويجية التخفيض والحسم، فالجواب عنه أن هذا المقصود وإن كان صحيحاً، فإن وسيلته ممنوعة محرمة؛ لاشتمالها على الربا.
المسألة الثانية: هدية نقدية في بعض أفراد سلعة معينة
الفرع الأول: واقعها
صور ذلك أن تعلن الشركة، أو التاجر بأنه قد وضع في علبة أو فرد من أفراد سلعة ما قطعة ذهبية، وزنها كذا، وقد يكون ذلك في أكثر من علبة أو فرد من أفرادها، لحمل الناس على شراء هذه السلعة، وجذبهم إليها.
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
هذا النوع من الهدايا النقدية يخرّج على أنه هبة.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا التخريج تحريم هذا النوع من الهدايا الترغيبية؛ لما يلي:
أولاً: أنه من الميسر والغرر، اللذين حرمهما الله ورسوله، وذلك أن المشتري يبذل مالاً لشراء سلعة قد يحصّل معها هدية نقدية فيغنم، وقد لا يحصّلها فيغرم.
المناقشة:
نوقش هذا: بأن هذه الصورة ليست ميسراً، فالمشتري؛ إما أن يكون غانماً بتحصيل الهدية مع السلعة، وإما أن يكون سالماً بتحصيل السلعة التي بذل الثمن لتحصيلها.
الإجابة:
يجاب على هذا: بعدم التسليم، إذ إن غالب من يشتري هذا النوع من السلع إنما يقصد الهدية النقدية في الدرجة الأولى لا سيما إذا كانت الهدية النقدية ثمينة، وأن قصده للهدية لا يقل عن قصده للسلعة، فالمشتري في كلتا الحالين؛ إما غارم، أو غانم، لأن فوات الهدية النقدية غرم في الحقيقة، وإن كان المشتري قد حصّل بعض مقصوده، ثم إن سُلِّمَ أن هذه الصورة ليست من الميسر، فهي لا تخلو من ثلاثة أمور:
1. مشابهة الميسر. فإن هذه صورة من صور الهدايا النقدية فيها شبه كبير بالميسر، وقد نقل عن الإمام أحمد في بيع المرابحة( ). إذ قال البائع: رأس مالي فيه مائة بِعْتكهُ بها على أن أربح في كل عشرة درهماً، أن ذلك لا يصح، قال : ((كأَنه دراهم بدراهم))( )، فمنع من ذلك في قولٍ؛ لكونه يشبه الربا( ).
2. أن إباحة هذه الصورة ذريعة للوقوع في الميسر، ومعلوم أن من القواعد الأصولية في الشريعة سد الذرائع، فلو لم يكن في منعها إلا سد ذريعة الميسر لكان كافياً.
3. أن هذه الصورة يصدق عليها أنها من بيع الغرر، الذي هو الخطر، فالمشتري لا يعلم ما الذي سيتم عليه العقد؟ هل هو السلعة والهدية النقدية، أو السلعة فقط؟ وهذا نظير بيع الحصاة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، فإنه في جميعها لا يدري ما الذي يحصّله.
ثانياً: أن هذا النوع من الهدايا النقدية يحمل كثيراً من الناس على شراء ما لا حاجة لهم فيه، رجاء أن يحصلوا على هذه الهدية النقدية. ولا إشكال أن هذا لا يجوز، لما فيه من التغرير بالناس؛ ولما فيه من الإسراف والتبذير المحرمين، ولما فيه من إضاعة المال المنهي عن إضاعته( ).
المبحث الرابع الهدايا الترغيبية والشخصيات الاعتبارية( )
كثيراً ما تقدم الشركات والمؤسسات التجارية وأصحاب السلع والخدمات أنواعاً من الهدايا الترغيبية التذكارية؛ أو الترويجية، أو الإعلانية( العينات) إلى الشخصيات الاعتبارية، كالدوائر الحكومية، والوزارات، والشركات، والمؤسسات، وغير ذلك.
وهذه الهدايا لا تخلو من حالين:
1- أن تكون الهدية للجهة الاعتبارية نفسها.
2- أن تكون الهدية لمنسوبي الجهات الاعتبارية.
المطلب الأول: الهدية للشخصية الاعتبارية نفسها
هذه الحال يختلف فيها الحكم باختلاف القصد من الهدية الترغيبية، فإن كان المقصود من الهدية الترغيبية التعريف بالسلع أو الترويج لها أو الإعلان عنها، فهي جائزة بذلاً وقبولاً، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل على التحريم، ثم إن الشخصية الاعتبارية في مثل هذه الحال لا تختلف عن غيرها.
أما إذا كانت الهدية الترغيبية يقصد منها تسهيل أعمال أو معاملات الجهة المهدية، أو ما أشبه ذلك؛ فإنها تكون في هذه الحال محرّمة بذلاً وقبولاً؛ لأنها رشوة، حيث إن المهدي إنما أهدى؛ ليحصّل ما يريد من تسهيل ونحوه، وقد جاء النهي عن مثل هذا، فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: ((لعن رسول الله- - الراشي والمرتشي))( )، والناظر في حال الناس اليوم يغلب على ظنه، أن غالب الهدايا الترغيبية التي تقدم للجهات الاعتبارية يقصد منها انتفاع المهدي بتسهيل المعاملات أو تسريعها، لذا يجب الحذر من مثل هذه الهدايا، وألاّ تقبل الشخصيات الاعتبارية من هذه الهدايا إلا ما تبيّن سلامة غرضه، ووضوح غايته، فإن هذا أنفى للشبهة، وأبعد عن التهمة.
المطلب الثاني: الهدية لمنسوبي الشخصية الاعتبارية
المسألة الأولى: حكمها
هذا النوع من الهدايا محرم بذلاً وقبولاً؛ لأنها داخلة في هدايا العمال( )، التي جاءت الأدلة بتحريمها. ومن تلك الأدلة.
الأول: قول الله - تعالى - : ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - تعالى - توعّد من غلّ - أي خان بأخذ شيء من غير حق - بأن يأتي به يوم القيامة، قال النبي : ((والله لا يأخذ أحد منكم منها- أي الغنيمة - شيئاً بغير حق، إلا لقي الله - تعالى - يحمله يوم القيامة))( )، فدلّ ذلك على النهي عن الخيانة بأخذ هذه الهدايا، وأنها من الغلول الذي يأتي به صاحبه يحمله يوم القيامة، إذ الغلول: هو كل خيانة فيما يولاه الإنسان من الأموال أو الأعمال( ).
الثاني: قول النبي- - ((هدايا العمال غلول))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي نهى العمال عن أخذ الهدايا، وجعلها من الغلول والخيانة، وفي هذا إبطال كل طريق يوصل إلى تضييع الأمانة بمحاباة المهدي، لأجل هديته( ).
الثالث: ما روى أبو حميد الساعدي - - قال: استعمل النبي - - رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبيةعلى الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ لي، فقال النبي - -: ((فهلا جلس في بيت أبيه- أو بيت أمه - فينظر أيهدى له أو لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - عاب على ابن اللّتبيّة قبوله الهدية التي أهديت إليه، لكونه كان عاملاً( )، وهذا يدل على عدم جواز قبول موظفي الجهات الاعتبارية كموظفي الدولة، أو الشركات أو المؤسسات لهذه الهدايا الترغيبية التي قدمت لهم بسبب كونهم من منسوبي هذه الجهات، وهذا الحكم يعم كل هدية يكون سببها ولاية المهدى إليه( ).
الرابع: ما روى عبد الله بن عمرو - - أن رسول الله- - لعن الراشي والمرتشي( ).
وجه الدلالة:
أن الهدية إذا كان سببها العمل فهي داخلة في معنى الرشوة( ) التي لعن النبي - - آخذها وباذلها، ويشهد لهذا أن عمر بن عبد العزيز أهديت إليه هدية فردها، فقيل له: إن النبي- - كان يقبل الهدية، فقال عمر: ((كانت الهدية في زمن رسول الله - - هدية، واليوم رشوة))( ).
فهذه النصوص تدل على تحريم قبول موظفي الجهات الاعتبارية الهدايا التي تمنح لهم بسبب كونهم يعملون في هذه الجهات؛ لأن إباحة ذلك حقيقته فتح باب الاتجار بمصالح الناس، والإخلال بالواجبات رجاء تحصيل الهدايا والفوائد، ولذلك كان الحكم في هذه المسألة واضحاً تواردت الأدلة عليه.
المسألة الثانية: ما يترتب على قبولها
الواجب على موظفي الجهات الاعتبارية ردّ الهدايا التي تقدم لهم بسبب كونهم يعملون في هذه الجهات، ما لم تأذن تلك الجهات؛ لأن المنع من جهتها، وبسببها.
فإذا قبل أحد منسوبي هذه الجهات الاعتبارية شيئاً من الهدايا أو الهبات التي جاءتهم بسبب عملهم فإن الواجب عليهم ردّها على من أهداها إليهم؛ لما تقدم من الأدلة( )، فإن لم يتمكن من ذلك فإنه يعطيها للجهة الاعتبارية كالدائرة الحكومية، أو المؤسسة، أو الشركة التي أهديت إليه الهدية بسببها( )، وذلك لأن عقود التمليكات تعتبر فيها الأسباب( )، فالهدية إذا كان لها سبب ألحقت به( )، فما يعطاه أهل الوظائف الحكومية وغيرها فإنه لا يكون لهم، بل للجهات التي يعملون فيها( ).
الفصل الثالث: المسابقات الترغيبية
المبحث الأول: تعريف المسابقة، وبيان أنواع المسابقات الترغيبية
المطلب الأول: تعريفها
أولاً: تعريفها لغة
المُسَابَقَة في اللغة: مصدر للفعل الرباعي سَابَقَ، على وزن مُفَاعَلََة من السَّبْق،"والسين، والباء، والقاف أصل واحد صحيح يدل على التقدم"( ).
فالسَّبْق هو التقدم في كل شيء( ).
والمُسَابَقَة هي التقدم في الشيء، والغلبة فيه( ).
ثانياً: تعريفها اصطلاحاً
المسابقة في اصطلاح الفقهاء: لم يذكر الفقهاء في تعريف المسابقة أكثر مما ذكره أهل اللغة في تعريفها فيما اطلعت عليه من كتبهم( )، عدا الحنابلة، فإنهم عرفوا المسابقة بأنها المُجاراة بين حيوان ونحوه( )، وعبّر عنها بعضهم بالمغالبة( )، وعرّفها بعضهم بأنها:"بلوغ الغاية قبل غيره"( ).
وقد عرّفها بعض المعاصرين بأنها:"عقد بين فردين، أو فريقين، أو أكثر على المغالبة بينهما في مجال عسكري، أو علمي، أو رياضي، أو غيره من أجل معرفة السابق من المسبوق"( ). وهذا في الحقيقة يصلح أن يكون شرحاً لا تعريفاً؛ لما فيه من الطول والتفصيل والتمثيل الذي لا يناسب الحدود.
والذي يترجح في التعريف الفقهي للمسابقة ما سلكه أكثر الفقهاء من الاقتصار على التعريف اللغوي؛ لعدم الاختلاف بينهما.
المسابقة في اصطلاح التسويقيين: هي المغالبات التي يقيمها أصحاب السلع والخدمات لجذب المشترين إلى أسواق أو متاجر معينة، أو الترويج لسلع أو خدمات معينة، أو تنشيط المبيعات( ).
المطلب الثاني: أنواع المسابقات الترغيبية
المسابقات الترغيبية تعتبر في الواقع واحدة من أبرز وسائل تنشيط المبيعات، وأكثرها استعمالاً عند أصحاب التجارات، وذلك لقوة تأثيرها على المستهلكين، وشدة جذبها، فكثير من الناس يتأثر ببريق هذه المسابقات، وقوة جذبها الذاتي فيُقْبِل على الشراء رغبة في إحراز السَبْق، والفوز بالجائزة. وقد تفنّن التجار في استعمال هذا الحافز وتنوّعت طرائقهم فيه( ).
وهذه المسابقات الترغيبية على اختلافها وتنوّعها فإنها ترجع إلى أحد نوعين:
النوع الأول: ما فيه عمل من المتسابقين
وهذا النوع يُطلب فيه من المتسابقين إنجاز عمل معين؛ إما أن يكون إجابة على أسئلة ثقافيّة ومعرفيّة، أو أسئلة تتعلق بالسلعة أو الشركة التي يراد الترويج لها؛ وإما أن تكون إكمال جملة دعائية إنشائية لما يراد ترويجه من السلع أو الخدمات، وإما أن تكون مزيجاً من ذلك، وإما أن تكون تصحيح أغلاط إملائية في نص إعلاني لسلعة أو خدمة يراد الترويج لها، وما أشبه ذلك( ) ثم بعد فرز الإجابات يحدّد الفائز عن طريق القرعة غالباً،وهي ما يسمى بالسحب.
وهذا النوع من المسابقات له حالان:
الحال الأولى: أن يكون الاشتراك في المسابقة ليس مشروطاً فيه الشراء
وذلك بأن تمنح الجهة المنظِّمة للمسابقة حق المشاركة لكل راغب دون تعليق ذلك بالشراء، فتبذل (كوبون)( ) المسابقة أو قسيمتها لكل من يرغب في الاشتراك في المسابقة.
الحال الثانية: أن يكون الاشتراك في المسابقة مشروطاً فيه الشراء
وذلك بأن تشترط الجهة المنظِّمة لهذه المسابقات الشراء من سلعها أو خدماتها؛ ليتمكن الراغب في المسابقة من الاشتراك فيها. وهذا الشرط إما أن يكون صريحاً بأن لا يمنح قسيمة المسابقة (الكوبون) إلا من اشترى من السلعة أو الخدمة التي يراد ترويجها، أو ألاَّ يتمكن من تحصيل القسيمة إلا بشرائها.
وإما أن يكون ضمناً،وذلك بأن تكون قسيمة المسابقة (الكوبون) ملحقة بالسلعة لا يمكن الحصول عليها إلا بالشراء( )، وقد سلك هذا الأسلوب كثير من المؤسسات الصحفية في الجرائد والمجلات؛ لتنشيط مبيعاتها، وبهذه الطريقة تضمن المؤسسات ألاّ يشترك في المسابقة إلا من اشترى من سلعها، أو خدماتها.
النوع الثاني: ما لا عمل فيه من المتسابقين (مسابقات السحب)
وهذا النوع من المسابقات الترغيبية لا يطالب فيه المشاركون بعمل تجري فيه المغالبة بينهم، وإنما يقوم منظمو هذه المسابقات بتوزيع بطاقات تحوي أرقاماً على من يرغب في الاشتراك في السحب، ثم تسحب إحدى هذه البطاقات في موعد محدد معلن؛ لتحديد الفائز بالجائزة. ولسهولة هذا النوع من المسابقات، وقوة جاذبيّته، وكون كل أحد يمكنه المشاركة فيه، وأن فرص الفوز بالجائزة فيه متساوية بالنسبة لجميع المشاركين؛ فإن هذا النوع من أنواع المسابقات الترغيبية هو الأكثر انتشاراً واستعمالاً في الأسواق، والمحال التجارية( ).
وهذا النوع من المسابقات له حالان:
الحال الأولى: أن يكون الاشتراك في المسابقة غير مشروط بالشراء
وذلك بأن يفتح مجال المشاركة لكل راغب في المسابقة، وصورة هذه الحال ما تقوم به كثير من المراكز التجارية من توزيع بطاقات تتضمن أرقاماً يتم السحب عليها في وقت محدد معلن، فمن ظهر رقمه استحق جائزة معينة.
الحال الثانية: أن يكون الاشتراك في المسابقة مشروطاً بالشراء
وذلك بأن يشترط منظمو المسابقة الشراء للمشاركة فيها، وصورة هذه الحال ما يقوم به أصحاب السلع، والتجار من توزيع أرقام لكل مشترٍ، أو وضع هذه الأرقام في داخل السلع، ثم يتم السحب بعد فترة زمنية محددة معلنة. فمن خرج رقمه من هؤلاء المشترين أعطي الجائزة المعلنة( ).
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الباحثين( ) أدخل تحت هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء بعض صور الهدايا الترغيبية كالهدايا المشروطة بجمع أجزاء مفرّقة في نوع من السلع، أو جمع بطاقات تثبت عدد مرات الشراء، وما أشبه ذلك من الشروط( ). والذي يظهر أن في إدخال هذه الصور من الحوافز في المسابقات الترغيبية نظراً؛ وذلك أن هذه الصور أقرب إلى الهدايا منها إلى المسابقات، ووجه ذلك أن المسابقات الترغيبية فيها طلب التقدم على الغير ومغالبته، أما الهدايا فليس فيها سوى التشوّف لتحقيق شرط تحصيل الهدية، وهذا لا يُعَدُّ من المسابقات إذ إن كل من حقق الشرط استحق الهدية، ولهذا فإن بحث هذه الصور من الحوافز المرغِّبة في الشراء سيكون في مبحث الهدايا الترغيبية.
المبحث الثاني : الأصل في المسابقات
المطلب الأول: أقسام بذل العوض في المسابقات
قسّم أهل العلم المغالبات من جهة بذل العوض والمال فيها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يجوز بعوض وبدون عوض
حكى غير واحد من أهل العلم( ) الإجماع على جواز المسابقة في السهام والإبل والخيل، إذا كان العوض من غير المتسابقين، ومستند هذا الإجماع قول النبي- -: ((لا سَبَقَ( ) إلا في خف( )، أو نصل( )، أو حافر( ))) ( ).
القسم الثاني: ما لاتجوز المسابقة فيه مطلقاً
اتفق أهل العلم على أنه لا تجوز المسابقة في كل شيء أدخل في محرم، أو ألهى عن واجب( ). وذلك أن ما كان كذلك فهو داخل في قول الله - تعالى - : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾( ).
القسم الثالث: ما تجوز المسابقة فيه بدون عوض
اتفق أهل العلم( ) على جواز المسابقة بدون عوض في كل ما فيه منفعة، وليس فيه مضرة راجحة، كالمسابقة بالأقدام أو السفن أو المصارعة أو السباحة وما أشبه ذلك من المباحات( ).
المطلب الثاني: حكم المسابقة بعوض في غير ما ورد به النص
المسابقة فيما لم يرد به النص من المباحات نوعان:
الأول: المسابقة بعوض فيما هو في معنى ما ورد به النص.
الثاني: المسابقة في مباحات ليست في معنى ما ورد به النص.
المسألة الأولى: المسابقة بعوض فيما هو في معنى ما ورد به النص
ضابط هذا النوع أن تكون المسابقة فيما يستعان به في الجهاد، ويتحقق به ظهور الدين، وتحصل به النكاية بالأعداء( )، وكان موجوداً في عهد النبي- -، ولم ينص عليه. فبذل العوض في هذا النوع من المسابقات فيه قولان لأهل العلم:
القول الأول: لا يجوز بذل العوض في غير ما ورد به النص من المسابقات.
وهذا هو مذهب المالكية( )، وقول للشافعية( )، ومذهب الحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( )، وكثير من السلف والخلف( ). القول الثاني: جواز بذل العوض في المسابقة فيما كان موافقاً للمنصوص عليه في المعنى.
وهذا القول في الجملة هو مذهب الحنفية( )، والشافعية( )، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية( )، وتلميذه ابن القيم( ).
على أن أصحاب هذا القول لم تتفق كلمتهم فيما يلحق بالمنصوص عليه ضيقاً واتساعاً، إلا أن أوسع المذاهب في هذا الباب مذهب الحنفية( ).
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بمنع بذل العوض في غير ما ورد به النص بقول النبي : ((لا سَبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي- - قصر جواز بذل العوض في المسابقات على هذه الثلاثة المذكورة في الحديث( )، وجاء ذلك بصيغة النفي مع إلا التي هي أقوى صيغ الحصر( )، فدل ذلك على عدم جواز بذل العوض في غير ما جاءت به السنة؛ لأن حكم المنطوق به في صيغة الحصر نقيض حكم المسكوت عنه.
المناقشة:
نوقش استدلالهم: بأن المقصود من قول النبي- - : ((لا سبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر))( ) التوكيد لا الحصر( )، فمراده- - أن أحق ما بذل فيه العوض هذه الثلاثة المذكورة؛ لكمال نفعها وعموم مصلحتها،هذا على الرواية الصحيحة للحديث، وهي بفتح الباء( )، أما على الرواية الثانية، وهي بإسكان باء سبْق فيكون المعنى لا سبْق كاملاً نافعاً( ).
الإجابة:
أجيب عن هذا: بأن صرف النفي عن الجواز إلى الأحقية أو الكمال ليس بمسلك صحيح، وذلك أن الواجب في كلام الشارع أن يحمل على الحقيقة ما أمكن، فإن تعذر ذلك صرف إلى ما يناسبه( ). ولذا فإن الواجب في هذا الحديث وغيره أن يحمل على نفي الصحة أو الجواز أولاً، فإن جاء ما يمنع حمله على الصحة حمل على الكمال، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء( ).
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بالقياس على ما ورد به النص، فقالوا: إن الشارع الحكيم إنما أباح بذل العوض في الخيل والإبل والسهام؛ لما لها من أثر في تقوية الدين، وحفظ الشريعة، وإعلاء كلمة الله رب العالمين( )، فما كان موافقاً لها في العلة والمعنى فإنه يلحق بها في الحكم، إذ الأصل في الشريعة أنها لا تفرق بين متماثلين، كما أنها لا تجمع بين نقيضين( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأنه ((جمع بين ما فرّق الله - تعالى -، ورسوله - - بينهما حكماً وحقيقة))( )، ويتبين بطلان هذا الجمع من الأوجه التالية:
أولاً: أن رسول الله - - أثبت السبق في الثلاثة: الخيل، والإبل، والسهام، ونفاه عما عداها، فلا يجوز التسوية بينهما( )، إذ أكل المال بهذه الأمور الثلاثة مستثنى من جميع أنواع المغالبات( ).
ثانياً: أن المسابقة في الإبل والخيل والسهام هي على صورة الجهاد، وشرعت تمريناً وتدريباً وتوطيناً للنفس عليه، ولا يحصل ذلك فيما عداها( ).
ثالثاً: أن الثلاثة المذكورات في الحديث هي آلات الحرب التي تستعمل فيها بخلاف غيرها، فإنها لا تستعمل في الحرب عادة، فليس تأديبها وتعليمها والتمرين عليها من الحق( ).
((وبالجملة، فغير هذه الثلاثة المشهورة المذكورة في الحديث لا تشبهها لا صورة، ولا معنى، ولا يحصل مقصودها، فيمتنع إلحاقها بها))( ).
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من القولين السابقين، والله - تعالى - أعلم، هو قصر جواز بذل العوض على ما ورد به النص دون غيره؛ لقوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المناقشات، وضعف أدلة القول الثاني، وعدم انفكاكها عن المناقشات. إلا أن هذا الترجيح لا يمنع إباحة المسابقات في آلات الحرب الحديثة، فالنص على هذه الأنواع الثلاثة؛ لكونها آلة الحرب في ذلك الزمن، فإذا تطورت هذه الآلات فإن الحكم يثبت لها.
المسألة الثانية: المسابقة في مباحات ليست في معنى ما ورد به النص
اختلف أهل العلم في بذل العوض في هذا النوع من المسابقات على قولين:
القول الأول: لا يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات إذا كان العوض من أجنبي.
وحكي هذا قولاً عند المالكية( ).
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بمنع بذل العوض في المسابقة فيما ليس في معنى ما ورد به النص بدليلين:
الأول: قول النبي- -: ((لا سبَق إلا في خف أو نصل أو حافر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي- - قصر جواز بذل العوض في المسابقات على الإبل والخيل والسهام، فدل ذلك على أنه لا يجوز العوض في غيرها من المسابقات، إذ لولا ذلك لما احتاج إلى استثناء هذه الثلاثة؛لجواز الاستباق في جميع المباحات بغير عوض( ). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق بعض أنواع المسابقات التي هي في معنى ما ورد به النص بالمنصوص،فجوزوا بذل العوض فيها.أما ماعدا ذلك فإنه لا يجوز بذله فيها؛ لأنه مما لا يتناوله النص، ولا هو في معنى المنصوص عليه( ).
الثاني: أن إباحة بذل العوض في هذا النوع من المسابقات يؤدي إلى ((اشتغال النفوس به واتخاذه مكسباً، لا سيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتد رغبتها فيه))( )، وتلتهي به عن كثير من مصالح دينها ودنياها.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأن الشارع منع بذل العوض في المسابقات إذا كان العوض من المتسابقين؛ لكونه في هذه الصورة من الميسر المحرم. فالمتسابقان كل واحد منهما إما أن يسلم وإما أن يغرم، فإذا بذل العوض أجنبي لم يكن من الميسر المحرم( )؛ لأن كل واحد منهما، إما أن يغنم، وإما أن يسلم.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن الشارع الحكيم منع بذل العوض في المسابقة في غير الثلاثة دون اعتبار جهة إخراج السبَق، فقال النبي- -: ((لا سبَق إلا في خف أو نصل أو حافر))( )، وقوله في الحديث((لا سبَقَ)) نكرة في سياق النفي، فتفيد عموم المنع( ) عن بذل السبَق من كل أحد في غير ما جاءت به السنة، سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما. والشارع إنما أباح بذل العوض في المسابقة فيما ورد به النص؛ لأنها من الحق، ولما فيها من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد القوة للجهاد( )، فما لم يكن كذلك فإنه لا يجوز بذل العوض فيه، سواء كان على صورة الميسر، أولا؛ لعموم الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك فيما ظهر لي - والله أعلم - كل من وقفت على كلامه من أهل العلم على اختلاف مذاهبهم الفقهية.
فقال ابن عابدين: ((لا تجوز المسابقة بعوض إلا في هذه الأجناس الثلاثة))( ).
وقال ابن شاس: ((كل ما ذكرنا من أحكام السباق، فهو بين الخيل والركاب أو بينهما، وهما المراد بقوله- -: ((في خف، أو حافر))( )، ولا
يلحق بهما غيرهما بوجه، إلا أن يكون بغير عوض، فتجوز فيه المسابقة إذا كان مما ينتفع به في نكاية العدو، ونفع المسلمين))( ).
وقال الإمام الشافعي عند كلامه على المعاني المستفادة من حديث ((لا سبَق إلا...))( ): ((المعنى الثاني: أنه يحرم أن يكون السبَق إلا في هذا))( ).
وقال ابن قدامة: ((ولا تجوز بجُعل إلا في الخيل، والإبل، والسهام))( ).
وقال صاحب غاية المنتهى: ((ولا تجوز مسابقة بعوض مطلقاً إلا في خيل، وإبل، وسهام))( ).
وقال ابن حزم: ((ولا يجوز إعطاء مال في سبْق غير هذا أصلاً، للخبر( ) الذي ذكرنا آنفاً))( ).
وقد صرّح بعموم الحديث كما لو كان العوض من أجنبي شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: ((ما يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة كالمسابقة، والمصارعة: جاز بلا جعل))( )، وقال في كلام له على تحريم المسابقة في المحرمات كالنرد( )، والشطرنج( )، ولو كانت بغير عوض: ((النهي عن هذه الأمور ليس مختصاً بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين، أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهي عن ذلك، إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة، كما في الحديث الأسبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل( )))( ).
وقال ابن القيم عند تحريره لمذاهب العلماء فيما يجوز بذل العوض فيه من المسابقات وما لا يجوز، وعلى أي وجه يجوز بذل السبَق؟ : ((تقدم أن المغالبات ثلاثة أقسام: قسم محبوب مرضي لله ورسوله معين على تحصيل محابه..؛ وقسم: مبغوض مسخوط لله ورسوله موصل إلى ما يكره الله - تعالى - ورسوله - -...؛ وقسم: ليس بمحبوب ولا مسخوط له، بل هو مباح؛ لعدم المضرة الراجحة...))( )، ثم قال: ((فالنوع الأول: يشرع مفرداً عن الرهن، ومع الرهن، ويشرع فيه كل ما كان أدعى إلى تحصيله. فيشرع فيه بذل الرهن من هذا وحده، ومن الآخر وحده، ومنهما معاً، ومن الأجنبي، وأكل المال به أكل بحق ليس أكلاً بباطل، وليس من القمار والميسر في شيء، والنوع الثاني: محرم وحده، ومع الرهن، وأكل المال به ميسر وقمار كيف كان، سواء كان من أحدهما، أو من كليهما، أو من ثالث...))( )، ثم قال: ((وأما النوع الثالث: وهو المباح، فإنه وإن حرم أكل المال به، فليس لأن في العمل مفسدة في نفسه وهو حرام، بل لأن تجويز أكل المال به ذريعة إلى اشتغال النفوس به، واتخاذه مكسباً...))( )، فكلامه يشمل ما إذا كان بذل السبَق من أحدهما أو كليهما أو أجنبي.
وقال عن هذا القسم الأخير في موضع آخر: ((فهذا القسم رخّص فيه الشارع بلا عوض، إذ ليس فيه مفسدة راجحة))( )، وقال أيضاً: ((النبي- - أطلق جواز السبَق في هذه الأشياء الثلاثة، ولم يخصه بباذل خارج عنهما، فهو يتناول حلّ السبَق من كل باذلٍ))( )، فكذا منعه في غير هذه الأشياء الثلاثة من كل باذل أيضاً.
الترجيح:
بعد هذا العرض لأقوال أهل العلم، وأدلتهم فالذي يظهر لي أن القول الأول أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، وضعف ما استدل به أصحاب القول الثاني، وعدم انفكاكها من المناقشات، والله أعلم( ).
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للمسابقات الترغيبية
تقدم أن أحد أبرز الحوافز المرغِّبة في الشراء، التي يستعملها أهل التجارات وأصحاب السلع والخدمات المسابقات الترغيبية التي تقيمها هذه الجهات، لجذب المشترين إليها، والترويج لمنتجاتها، وسلعها وخدماتها. وهذه المسابقات تتخذ أشكالاً كثيرة وصوراً عديدة إلا أنها ترجع إلى أحد أمرين:
الأول: ما يكون فيه عمل من المتسابقين.
الثاني: ما لا عمل فيه من المتسابقين.
المطلب الأول: المسابقات التي فيها عمل من المتسابقين
المسألة الأولى: صورتها
صورة هذا النوع من المسابقات التجارية هو ما تنظّمه كثير من الشركات والمؤسسات التجارية، حيث تعلن عن مسابقة يطلب فيها من المتسابقين الإجابة على أسئلة ثقافية أو معرفيّة عامة، أو الإجابة على أسئلة تتعلق بالسلعة التي يراد ترويجها، وما أشبه ذلك.
وهذا النوع من المسابقات له صورتان.
الصورة الأولى: أن يكون الشراء شرطاً في المسابقة.
الصورة الثانية: أن لا يكون الشراء شرطاً في المسابقة، بل هي متاحة لكل راغب.
المسألة الثانية: تخريجها الفقهي
هذا النوع من المسابقات الترغيبية يمكن تخريجه على ما يلي:
التخريج الأول: أنه مسابقة على عوض من غير المتسابقين.
ما يترتب على هذا التخريج:
لما كان هذا التخريج الفقهي مرتبطاً بحكم بذل العوض في غير ما ورد به النص من المسابقات، فإن ما يترتب عليه يختلف باختلاف القول في ذلك، وبيان ذلك بما يلي:
أولاً: ما يترتب على القول بعدم جواز بذل العوض في غير ما ورد به النص.
1- تحريم هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء؛ لعموم قول النبي- -: ((لا سبَق إلا في خف، أو نصل، أو حافر))( )، فلا يجوز للشركات والمؤسسات التجارية استعمال هذا الأسلوب في ترويج المبيعات وتنشيطها.
2- أنه لا تجوز المشاركة في هذه المسابقات، سواء كان الشراء مشروطاً، أو غير مشروطٍ، وسواء زيد في ثمن السلعة أو الخدمة أو لم يزد؛ لأن هذا بذل للعوض في غير ما ورد به النص.
ثانياً: ما يترتب على القول بجواز المسابقة على العوض في غير ما ورد به النص من المسابقات إذا كان العوض من غير المتسابقين.
1- جواز استعمال المسابقات؛ لتنشيط المبيعات وترويج السلع والخدمات. وهذا فيما إذا كان الاشتراك في المسابقة غير مشروط بالشراء.
أما إذا كان الاشتراك في المسابقة لابد فيه من الشراء، فلهذه الصورة حالان:
الحال الأولى: الزيادة في ثمن السلعة أو الخدمة على سعر المثل؛ لأجل المسابقة، فهذه لا إشكال في تحريمها وعدم جوازها؛ لأنها من الميسر المحرم؛ حيث إن المشارك يبذل الثمن الزائد؛ لأجل الاشتراك في المسابقة، وأمره دائر بين السلامة والعطب، وبين الغرم والغنم.
الحال الثانية: عدم الزيادة في ثمن السلعة أو الخدمة على سعر المثل؛ لأجل المسابقة. فهذه الحال يتنازعها نظران:
النظر الأول: شبهة الميسر، وذلك أنه لا يمكن دخول هذه المسابقة إلا ببذل مال، وإن لم يكن هذا المال لأجل المسابقة، لكن المسابقة لها أثر في جذب المشترين، ودفعهم على الشراء. ولا يشك المطلع على هذه المسابقات التجارية أن غرضها الأساسي زيادة المبيعات، ولذلك تجد أن المؤسسات التجارية لا تمنع من تعدد المشاركة في المسابقة الواحدة من شخص واحد بشرط أن تكون إجابة أسئلة كل مشاركة على قسيمة أصلية، بل إن بعض المؤسسات التي تنظم هذه المسابقات تعلن أن إجابة أسئلة المسابقة توجد في أحد إصداراتها أو منتجاتها مما يدفع الناس إلى شراء تلك الإصدارات أو المنتجات. وفي هذا ابتزاز لأموال الناس وتغرير بهم.
النظر الثاني: أن الميسر في هذه الحال منتفٍ، وذلك أنه من شروط هذه الحال ألا يزيد ثمن السلعة أو الخدمة على سعر المثل، وألا يكون شراء السلعة أو الخدمة لأجل الحصول على قسيمة المسابقة. وبهذين الشرطين تسلم هذه المسابقة من الميسر، فيكون المتسابق إما غانماً أو سالماً، فلا وجه للمنع.
والذي يظهر للباحث - والعلم عند الله - أنه إذا كان الشراء شرطاً لدخول المسابقة فإنها لا تجوز؛ لما فيها من شبهة الميسر، ولما فيها من إغراء الناس وحملهم على شراء ما لا حاجة لهم فيه. ولأن هذه الطريقة وسيلة للوقوع في ألوان من المحرمات، ومعلوم أن من قواعد الشرع المطهر سد الذرائع المفضية إلى المحرمات.
وما ذكر من شروط لضمان سلامة هذه الصورة من المسابقات التجارية من المحرمات، فإنها لا تفي بالغرض، وذلك أنه يصعب التحقق منها، لا سيما ما يتعلق منها بالقصد من الشراء، وألا يكون لأجل الحصول على قسيمة المسابقة.
فإن القصد أمر خفي باطن كثيراً ما يقع فيه الالتباس ولا ينضبط في نفسه( ) فسد الباب أحكم وأضبط.
2- يلزم الشركات والمؤسسات التجارية وأصحاب السلع والخدمات بذل الجوائز للفائزين في المسابقة؛ لأنه التزام ببذل مال على عمل، وقد وجد هذا العمل،
فهو نظير سائر العقود التي تكون على عمل، فإنه يثبت فيها الحق بوجود ذلك العمل( ).
3- غالب هذه المسابقات التجارية الترغيبية تستعمل القرعة (السحب) في تحديد الفائز، أو الفائزين بالجائزة، وذلك أن مدركي السبْق في هذه الجوائز كثيرون غالباً. وجواز هذا الأمر مبني على حكم ما لو أحرز السبْق أكثر من واحدٍ.
ولهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: أن يحرز الجميع السبْق. فلا شيء لواحد منهم؛ لأنه لا سابق فيهم حينئذٍ فلا يستحقون شيئاً( ). فلو أن باذل العوض استعمل القرعة لتحديد الفائز بالجائزة أو درجته، لم يكن في ذلك بأس فيما يظهر، والله أعلم.
الصورة الثانية: أن يحرز بعضهم السبْق فالجائزة تقسم بين من حاز السبْق منهم( )، لكن إذا كان باذل العوض قد جعل الجائزة لواحد من هؤلاء بمعنى أنه لا يفوز بالجائزة إلا واحد، أو أنه وضع جوائز مختلفة في القيمة حسب درجات المتسابقين، فالأول له كذا، والثاني له كذا، وهلم جرّاً، وجعل تحديد ذلك عن طريق القرعة، فالظاهر - والله أعلم - أنه لا بأس بذلك؛ لأن الذين أحرزوا السبْق استحقوا الجائزة جميعاً،وهي لا تتسع لهم،أو أن تقسيمها بينهم يذهب بقيمتها أو يترتب عليه عسر، ولأنه لا سبيل لإعطاء الجائزة لمن أحرزوا السبق على وجه لا ظلم فيه ولا تمييز إلا بالقرعة،إذ هي وسيلة ترجيح على أساس من العدل والإنصاف والتسوية في مثل هذه الحال. وقد استعمل بعض الفقهاء القرعة في المسابقة في مسألة قريبة من هذه، وهو ما لو تشاحّ الذين بلغوا السبْق في استحقاق سهم معين عند القسمة بينهم، فإنه يصار إلى القرعة؛ لاستوائهم في الاستحقاق( )، واختار هذا فضيلة شيخنا محمد الصالح العثيمين، وكذلك اختاره الدكتور القرضاوي، فقال: ((وأما اختيار البعض بواسطة القرعة فلا حرج في ذلك شرعاً عند جمهور الفقهاء، وتدل عليه عدة أحاديث تجيز الترجيح بالقرعة))( ).
4- أن تكون الجائزة معلومة؛ لأنها عوض في عقد، فوجب العلم به كسائر المعاوضات والعقود( ). وهذا هو مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
التخريج الثاني: أن هذا النوع من الحوافز المرغِّبة بذل مال للتشجيع( )،
فهو كقول النبي- -: ((من قتل قتيلاً له عليه بيّنة، فله سَلَبُه( )))( ).
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الحوافز الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحلّ ما لم يقم دليل على المنع.
ثانياً: يجب على باذل المال الوفاء بما التزم من الجوائز التشجيعية؛ لأنه وعد ترتب عليه عمل فوجب الوفاء بما التزمه( ).
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج : بأن الذي أخرج قول النبي- -: ((من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سَلَبه))( ) عن السبْق أن المقصود في هذا تكثير تحقق المشروط لا المغالبة فيه، ولذلك فإن السلب ثابت لكل من قتل قتيلاُ في المعركة، بخلاف الواقع في هذه الحوافز، فإنه لا يحصلها إلا بعض من تحقق فيهم الشرط.
الترجيح بين التخريجين:
بالنظر إلى هذين التخريجين فإن التخريج الأول أقرب إلى الصواب؛ لسلامته من المناقشات، وعدم انفكاك التخريج الثاني منها، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة: حكمها
الذي يظهر - والله أعلم - أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية محرم، لا يجوز استعماله ولا المشاركة فيه، سواء كان الشراء مشروطاً أو غير مشروط. وهذا هو اختيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز( )، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية وذلك لما يأتي:
أولاً : قول النبي- -: ((لا سبَق إلا في خف، أو نصل، أو حافر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي- - نهى عن بذل العوض في المسابقات إلا في الثلاثة المنصوص عليها في الحديث، والمسابقات الترغيبية ليست منها لا نصاً ولا معنى، فلا يجوز بذل العوض فيها.
ثانياً: أنها من القمار والميسر المحرم، فهي داخلة في عموم الأدلة التي تحرم القمار والميسر كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ).
المناقشة:
يناقش هذا : بأن المسابقات الترغيبية لا تخلو من حالين:
الأولى: الزيادة في ثمن السلع والخدمات لأجل هذه المسابقات، فهذا قمار وميسر لا إشكال في تحريمه.
الثانية: عدم الزيادة في ثمن السلع والخدمات لأجل هذه المسابقات، فهذه الحال يجتذبها طرفان:
أولاً: شبهة الميسر.
ثانياً: انتفاء الميسر بعدم الزيادة في الثمن، وعدم قصد الشراء لأجل المسابقة، وتقدم بحث هذا قريباً( ).
ثالثاً: أن في استعمال هذه المسابقات في الترغيب في السلع والخدمات إضراراً بالتجار الذين لم يستعملوا هذه الوسيلة في ترويج سلعهم وخدماتهم.
المناقشة:
يناقش هذا : بأن الأرزاق بيد الله - عز وجلَّ - فقد يسوقها إلى من لا يستعمل هذه المسابقات الترغيبية ويمنعها من يستعملها( )، ولهذا فإنه لا يمنع أحد من استعمال ما الأصل فيه الإباحة لأجل أن غيره لم يستعملها،ومما لا يخفى أن أهل التجارات وأصحاب السلع يسلكون طرائق متنوعة مختلفة في الترويج لبضائعهم، فلا يمنع من انفرد منهم بأسلوب معين لأجل انفراده، إذ الأصل الإباحة والحل، فلا ينتقل عنه إلا بدليل.
رابعاً: حمل الناس على شراء ما لا حاجة لهم فيه طمعاً في الحصول على إحدى الجوائز، وهذا فيه تغرير بهم، وإيقاعهم في الإسراف المحرم الذي جاءت النصوص بمنعه.
خامساً: أن هذه المسابقات قد تستعمل لترويج منتجات ضارة، أو تحمل آراء فاسدة وأفكاراً سيئة.
سادساً: أن هذه المسابقات التجارية ليس الغرض منها نشر العلم بين الناس، وانشغالهم بما ينفع، بل غرضها ترويج منتجاتها وسلعها وخدماتها.
المطلب الثاني: المسابقات التي لا عمل فيها من المتسابقين
صورة هذا النوع من المسابقات ما تقوم به كثير من المراكز التجارية والمؤسسات وأصحاب السلع والخدمات؛ حيث توزّع على كل مشترٍ، أو كل زائر للمركز بطاقة فيها رقم، ثم يتم السحب من هذه الأرقام ليتحدد الفائز بالجائزة الأولى، ثم الثانية وهكذا على حسب ما أعلن من جوائز،والمدة في هذه المسابقات تختلف،فقد تكون يومية أو أسبوعية أو شهرية حسب قيمة الجائزة أو الجوائز.
وهذا النوع من المسابقات قسمان:
الأول: ما يشترط فيه الشراء.
الثاني: مالا يشترط فيه الشراء.
المسألة الأولى: ما يشترط فيه الشراء
الفرع الأول: صورته
هذا القسم يمثل أكثر صور هذا النوع من المسابقات، وذلك أن كثيراً من المؤسسات والمراكز التجارية تشترط للحصول على الرقم الذي تتم القرعة أو السحب عليه أن يكون المشارك قد اشترى سلعة أو خدمة يراد ترويجها، أو أن يشتري من مركز أو محل تجاري يراد تنشيط مبيعاته.
الفرع الثاني: تخريجه الفقهي
هذا القسم من المسابقات الترغيبية يمكن تخريجه على ما يلي:
التخريج الأول: أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية من القمار المحرم شرعاً؛ وذلك لأن المشاركين يبذلون مالاً للحصول على هذه الجوائز التي قد تحصل لهم، وقد لا تحصل، فهم بين غرم وغنم. وما كان كذلك فإنه يكون من الميسر المحرم.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: تحريم استعمال هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء؛ لكونه قماراً أو ميسراً محرماً.
ثانياً: تحريم الاشتراك في هذه المسابقات؛ لكونها ميسراً وقماراً محرماً.
التخريج الثاني: أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية هبة لمن تعينه القرعة.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الحوافز الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل على المنع.
ثانياً: جواز المشاركة في هذه المسابقات؛ لأن حقيقتها هبة يستحقها من أخرجته القرعة.
ثالثاً: جواز أن تكون الجائزة الترغيبية في هذه المسابقات مجهولة،بناءً على جواز الجهالة والغرر في عقود التبرعات.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج: بالمنع، وذلك لأن الجائزة في هذه المسابقات ليست هبة محضة مجردة، بل هي مشروطة في عقد مبنية عليه، فإن هذه الجوائز يشترط لتحصيلها الشراء.
التخريج الثالث: أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية مسابقة بعوض من غير المتسابقين.
ما يترتب على هذا التخريج:
تقدم ذكر ما يترتب على هذا التخريج عند ذكر التخريج الفقهي للمسابقات التي يكون فيها عمل المتسابقين، والتي يشترط فيها الشراء، فأغنى ذلك عن إعادته( ).
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج : بأن هذا النوع من الحوافز الترغيبية التي لا عمل فيها من المشاركين لا يمكن أن يخرّج على أنه مسابقة؛ لأن المسابقة لا بد أن تكون على عمل يتجارى فيه المتسابقون. ففي هذا التخريج نظر بيّن.
الفرع الثالث: حكمه
اختلف أهل العلم المعاصرون في هذا النوع من المسابقات الترغيبية على قولين.
القول الأول: عدم جواز هذا النوع من المسابقات الترغيبية.
وهذا هو قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز( )، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية( )، وهو قديم قول شيخنا محمد الصالح العثيمين( )، وقول الشيخ عبدالله بن جبرين( )، وأشار إلى هذا القول الدكتور رفيق المصري( ).
القول الثاني: جواز هذا النوع من المسابقات الترغيبية، بشرط عدم رفع الثمن لأجل المسابقة، وألاّ تشترى من أجلها، وهذا هو آخر قولي شيخنا العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين( )، وبه قال الدكتور يوسف القرضاوي( )، واللجنة في بيت التمويل الكويتي( ) وهيئة الفتاوى لبنك دبي الإسلامي( ).
أدلة القول الأول:
الأول: أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية قمار أو شبيه بالقمار، ووجه هذا أن المشتري يبذل مالاً للحصول على سلعة قد يحصّل معها جائزة، وقد لا يحصّل، فهو بين غنم بتحصيل الجائزة، وبين غرم بفواتها عليه.
المناقشة:
يناقش هذا : بأن المشتري حاله دائرة بين الغنم بأخذ الجائزة مع السلعة، والسلامة بأخذ السلعة التي بذل لها ثمن المثل، فلا غرم هنا. وعليه فلا تكون هذه الصورة من الميسر.
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن المشتري لا يخلو من إحدى ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يقصد بشرائه السلعة أو الخدمة فقط، فلا قمار في هذه الحال، إذ المشتري ليس بين غرم وغنم، فشراؤه صحيح، لكن الأحوط ألا يأخذ الجائزة فيما لو أصابته القرعة؛ ((لأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطاً))( )، ويدل لذلك قول النبي : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))( ).
الحال الثانية: أن يقصد بشرائه دخول مسابقة السحب، فهذا قمار لا شك فيه.
الحال الثالثة: أن يقصد بشرائه الأمرين، فيكون المشتري قد بذل مالاً في شيء قد يحصله وهو الجائزة فيغنم، وقد لا يحصله فيغرم، وعليه فإن هذه الحال لا تسلم من القمار أو مشابهته، فحكمها حكم الحال الثانية من التحريم والمنع.
الثاني: أن استعمال هذه المسابقات في الترغيب والترويج للسلع والخدمات فيه إضرار بالتجار الذين لم يستعملوها. ووجه ذلك أن المستهلكين سيتجهون إلى من يستعمل هذه الطريقة، ويدعون من لا يستعملها، وهذا فيه إضرار بهم، ومعلوم أن من قواعد الشرع المطهر نفي الضرر، فقد قال النبي- -: ((لا ضرر، ولا ضرار))( ).
وقد تقدمت مناقشة هذا الوجه قريباً فأغنى ذلك عن إعادته( ).
أدلة القول الثاني:
عمدة أصحاب هذا القول هو أن الأصل في المعاملات الحلُّ والإباحة ما لم يقم دليل التحريم والمنع، ولا دليل هنا يعتمد عليه في منع هذا النوع من المسابقات الترغيبية، وما ذكر من شروط للإباحة إنما هو احتراز من قيام أسباب التحريم من القمار وإضاعة المال.
المناقشة:
يناقش هذا بما يلي:
أولاً : أن أصل الإباحة الذي استدلوا به معارض بما ذكر في أدلة المانعين من أسباب التحريم.
ثانياً: أن الشروط التي ذكرها أصحاب هذا القول يصعب العلم بها والتحقق من قيامها، وبيان ذلك بما يلي:
1. أن الشرط الأول، وهو ألاّ يزيد في الأسعار من أجل الجائزة. مما يصعب ضبطه، إلا في السلع الاستهلاكية المشهورة؛ لأن سعرها معروف ثابت، أما ما عداها من السلع فالتحقق من عدم رفع الأسعار فيها صعب أو متعذر، لا سيما في السلع التي تستوردها جهة واحدة تتحكم في سعرها رفعاً وخفضاً، كأكثر أنواع السيارات والأجهزة الكهربائية وبعض الألبسة فإنه لا يمكن في هذه السلع معرفة هل هناك زيادة في السعر لأجل الجائزة أو لا ؟( ).
2. أن الشرط الثاني، وهو ألاّ تكون الجائزة هي المقصودة بالشراء، يصعب ضبطه أيضاً؛ لأن القصد هنا أمر خفي، فتعليق الحكم به تعليق بما يصعب أو يتعذر العلم به( ).
الترجيح:
الذي يظهر أن الأقرب للصواب من هذين القولين هو القول الأول؛ لما في هذا النوع من المسابقات الترغيبية من الميسر المحرم أو شبهته، ولعدم انضباط الشروط التي عُلِّق عليها القول بالإباحة. والله - تعالى - أعلم.
المسألة الثانية: ما لا يشترط فيه الشراء
الفرع الأول: صورته
يقوم بعض التجار لا سيما عند الترويج للمراكز التجارية، أو الأسواق، أو المعارض الموسمية بإجراء مسابقات مفتوحة لكل من يزور هذه الأماكن أو يأتي إليها، وذلك عن طريق توزيع بطاقات على الزوار، ومرتادي هذه المحلات ثم يجري بعد ذلك سحب علني؛ لإعلان الأرقام الفائزة بالجوائز.
الفرع الثاني: تخريجه الفقهي وحكمه
أقرب ما يخرّج عليه هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء أنه هبة لمن تعينه القرعة، فيثبت لهذا النوع جميع أحكام الهبة، والله أعلم.
وهذا القسم من المسابقات التي لا عمل فيها من المتسابقين جائز، لا محذور فيه؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة، ولا مسوّغ لتحريمها، فليس في هذه المعاملة ظلم، ولا ربا، ولا غرر محرم، ولا تغرير وخداع، والله - تعالى - أعلم.
الفصل الرابع: التخفيضات الترغيبية
المبحث الأول: تعريف التخفيض، وبيان أنواع التخفيض الترغيبية
المطلب الأول : تعريف التخفيض
أولاً: تعريفه لغة
التََّخْفِيض في اللغة مصدر للفعل الرباعي المضعّف العين خفّض، وهو من الخَفْض : ضدُّ الرفْع، فهو بمعنى الحط( ). ومنه قول الله - تعالى -: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾( )، ومنه أيضاً قول النبي- - للرجل الذي قال له: يا رسول الله، سَعِّر: ((بل الله يخفض، ويرفع...))( ). ثانياً: تعريفه اصطلاحاً
التخفيض في اصطلاح الفقهاء: لم يستعمل الفقهاء مصطلح التخفيض فيما اطلعت عليه من كتبهم، إلا أنهم يعبرون عنه بالحط من الثمن أو النقص منه( )، كما أن من البيوع المشهورة عند الفقهاء، وله نوع صلة بمصطلح التخفيض، بيع الوضيعة أو الحطيطة، وهو أحد أنواع بيوع الأمانة التي يؤتمن فيها البائع من جهة إخباره برأس مال المبيع، فبيع المواضعة: هو أن يأخذ المشتري المبيع برأس ماله، ونقص أو حط معلوم منه( ). وهذا تخفيض عن الثمن الأول بخلاف التخفيض الذي في هذا المبحث، إذ إنه نقص من السعر السائد، أي: من ثمن المثل، وهذا وجه الاختلاف بين التخفيض الترغيبي وبين بيع المواضعة والحطيطة.
التخفيض في اصطلاح التسويقيين: هو حسم يعطيه البائع للمشتري من سعر السلع والخدمات السائد في السوق،أو من أسعار البيع التي يعينها المصنع؛لتشجيع الناس على الشراء منهم، أو إدامة التعامل معهم( ).
المطلب الثاني: أنواع التخفيضات الترغيبية
التخفيضات الترغيبية يلجأ إليها التجار والباعة ليوسعوا نطاق أعمالهم، ويحوزوا أكبر جزء أو نصيب من السوق، وليروجوا سلعهم وخدماتهم، ويرغِّبوا الناس في الشراء منهم. ولذلك فإن التجار يتسارعون في استعمال هذا التخفيض؛ لتحقيق أغراضهم ونيل مآربهم، حتى أصبح استعمال التخفيض لجذب الناس، وترغيبهم في الشراء يشكّل ظاهرة بارزة، وسمة بادية، ووسيلة نافذة في الأسواق والمراكز ووسائل الإعلان والدعاية.
وهذه التخفيضات الترغيبية نوعان في الجملة:
الأول: التخفيض العادي.
الثاني: التخفيض بالبطاقات.
النوع الأول: التخفيض العادي
وهو كل حسم من أثمان السلع والخدمات يمنحه التجار والباعة للعملاء ترغيباً لهم في الشراء دون اشتراط حمل بطاقة تخفيضية.
ولهذا النوع من التخفيض صور كثيرة أبرزها ما يلي:
أولاً: تخفيض الكمية
وهو حسم يمنحه الباعة للعملاء الذين يشترون كمية كبيرة من السلع، إما في صفقة واحدة، أو في صفقات عدة في فترة محددة ( ).
ثانياً: التخفيض الموسمي
وهو حسم يمنحه الباعة في المواسم؛ إما عند إقبالها أو عند نهايتها، أو في أثنائها أو قبل ظهور النموذج الجديد من السلعة.
ويهدف هذا النوع من التخفيضات إلى التخلص من المخزون المتراكم من السلع، أو تصفية النموذج القديم، أو التصفية الشاملة( )،أو كسب إقبال الناس على الشراء خلال هذا الموسم.
ثالثاً: التخفيض الانتقائي
وهو حسم يمنحه التجار على سلعة أو سلع معينة يكثر طلبها من العملاء، ويكون حسماً ظاهراً جذّاباً، يهدف إلى تنشيط مبيعات المتجر من السلع الأخرى، نتيجة إقبال المستهلكين عليه لشراء السلعة أو السلع المخفضة( ).
رابعاً: تخفيض القسيمة (الكوبون)
وهذا النوع من التخفيض عبارة عن ورقة أو إيصال أو شهادة تخول المشتري الحصول على حسم عند شرائه السلعة أو الخدمة التي يراد ترويجها( ).
وهذه القسائم (الكوبونات) لها عدة صور، فهي إما أن تكون مستقلة وتوزّع منفصلة عند إتمام الصفقة؛ وإما أن تكون جزءاً من إعلان، أو من غلاف سلعة، أو غير ذلك ترسل بالبريد، ومهما كانت صورتها فإنها تمنح حاملها حق الحصول على حسم وتخفيض( ).
النوع الثاني: التخفيض بالبطاقات( )
وهو حسم من أثمان السلع والخدمات تمنحه جهات التخفيض للمستهلك الذي يحمل بطاقة تخفيضية.
وبطاقة التخفيض عبارة عن رقعة صغيرة من البلاستيك أو غيره يكتب عليها اسم المستفيد، تمنح صاحبها حسماً من أسعار سلع وخدمات مؤسسات وشركات محددة مدة صلاحية البطاقة.
وبالنظر إلى هذه البطاقات المستعملة في الأسواق يتبين أنها قسمان:
الأول: بطاقات تخفيض مستقلة.
الثاني: بطاقات تخفيض تابعة.
القسم الأول: بطاقات التخفيض المستقلة
وهي عبارة عن رقع من البلاستيك غالباً لا يستعملها حاملها إلا في الحصول على حسم من أسعار السلع والخدمات فقط.
وهذا القسم صنفان:
الأول: بطاقات التخفيض العامة.
الثاني: بطاقات التخفيض الخاصة.
الصنف الأول: بطاقات التخفيض العامة
وهي بطاقات تمنح صاحبها حسماً من أسعار السلع والخدمات لدى مجموعة من الشركات والمؤسسات والمراكز التجارية كالمستشفيات، والمستوصفات، والفنادق، والمطاعم، وأسواق المواد الاستهلاكية والأغذية، ومعارض الألبسة، والمفروشات، والأجهزة الكهربائية، والسيارات، ومراكز الخدمات، والصيانة، والمدارس الأهلية، ومنتزهات الأطفال، ومكاتب السفر والسياحة، ومكاتب تأجير السيارات، وغيرها( ). وقد تكون هذه البطاقات خاصة ببعض المناشط التجارية كالبطاقات الصحية التي تمنح حاملها حسماً لدى المستشفيات والمستوصفات والعيادات التجارية، أو بطاقات السفر كالبطاقة الذهبية التي تمنح صحبها حسماً لدى الفنادق وشركات تأجير السيارات. وهذه البطاقات تختلف من حيث نطاق الاستفادة منها، فقد تكون محليّة، وقد تكون دوليّة، وذلك حسب ثمن البطاقة، ومكانة الجهة المصدرة للبطاقة، وشهرتها.
وهذا النوع من بطاقات التخفيض يتبنى إصداره شركات الدعاية والإعلان والتسويق، أو شركات السفر والسياحة، وقد يقوم بإصدار هذه البطاقات بعض الجهات والمؤسسات غير التجارية، كبطاقات التخفيض التي تصدرها بعض الجمعيات التعاونية، مثل بطاقة الجمعية التعاونية لموظفي الدولة، أو البطاقات التي تصدرها بعض الأندية الرياضية، أو البطاقات التي تصدرها الغرف التجارية، وغير ذلك.
أما منفعة هذا الصنف من البطاقات وفائدته فإنها تختلف باختلاف أطرافها.
أولاً: منفعتها لمُصدِرها
تتلخص فائدة جهات إصدار هذه البطاقات في أن بطاقة التخفيض تُعَدُّ مورداً مالياً سهل التحصيل، وذلك أن جهات إصدار هذه البطاقات تتقاضى على ذلك مبلغاً مالياً، هو رسم اشتراك في هذه البطاقة يتراوح ما بين (100) ريال و(560) ريالاً، وغالباً ما يكون هذا الاشتراك سنوياً قابلاً للتجديد.
ومن جهة أخرى تتقاضى جهات إصدار البطاقة - لا سيما إذا كانت هذه الجهات ذات شهرة وانتشار ومركز تجاري قوي - اشتراكاً مالياً من جهة التخفيض؛ لنشر اسمها وعنوانها، وبعض المعلومات المتعلقة بها في دليل التخفيض الذي تعده جهات الإصدار.
ثانياً: منفعتها للمستهلك
الفائدة الرئيسية التي يجنيها المستهلك حامل البطاقة هي حصوله على حسم من أسعار سلع وخدمات جهات التخفيض المشتركة في دليل التخفيضات، وهذه التخفيضات تتراوح ما بين 5% إلى 50% من سعر البيع، ويستمر هذا التخفيض مدة سريان البطاقة.
ومما يستفيده المستهلك حامل البطاقة أيضاً حصوله على الدليل التجاري المخفّض، وهذا يوفر عليه جهد البحث عن الأماكن التجارية، حيث إن هذا الدليل يحوي أسماء جهات التخفيض، وأرقام الهاتف، والعنوان، ونوع النشاط ونسبة الحسم.
ومما قد يستفيده المستهلك حامل البطاقة في بعض الأحيان الحصول على قسائم (كوبونات) شراء مجاني للسلع أو الخدمات تكون ملحقة بدليل التخفيض.
ثالثاً: منفعتها لجهة التخفيض
تستفيد جهات التخفيض من الاشتراك في هذه البطاقات الإعلان عنها والدعاية لها والتسويق لسلعها وخدماتها في الدليل التجاري المخفّض الذي تصدره وتشرف عليه جهة الإصدار. كما أن هذه البطاقات وسيلة من وسائل رفع حصة هذه الشركات من العملاء، وهذا يفيدها حداً أدنى من العملاء يتمثل في حاملي هذه البطاقات من المستهلكين.
الصنف الثاني: بطاقات تخفيض خاصة
وهي بطاقات تصدرها بعض المؤسسات والشركات التجارية تمنح صاحبها حسماً على جميع سلعها وخدماتها في جميع فروعها ومعارضها.
وهذه البطاقات تمنحها الشركات والمؤسسات التجارية عملاءها؛ إما عن طريق دفع المستهلك [اشتراكاً سنوياً قدره(100) ريال]، أو عن طريق تحديد قدر معين من ثمن المشتريات مَن بَلَغَه خلال فترة زمنية معينة أعطيت له بطاقة التخفيض مجاناً.
وأما فائدة هذا الصنف من بطاقات التخفيض فهي لا تختلف عن بطاقات التخفيض العامة.
القسم الثاني: بطاقات التخفيض التابعة
وهي عبارة عن رقع بلاستيكية غالباً تفيد حاملها في الحصول على حسم من أثمان السلع والخدمات، وتصدر هذه البطاقة تبعاً لإصدار بطاقة تجارية أخرى.
فالتطور الكبير الذي تشهده الأسواق المالية والتجارية، أفرز صوراً عديدة من الابتكارات الحديثة في أنواع المعاملات وطرق التبادلات التجارية، ومن حديث تلك الابتكارات البطاقات المصرفية( ) وبطاقات الخدمات( )، والتي انتشرت انتشاراً واسعاً حتى غدت من أهم أنشطة البنوك والمؤسسات المالية والتجارية، وأقبل عليها العملاء إقبالاً كبيراً، فأذكى ذلك تنافساً محموماً بين الجهات المصدرة لهذه البطاقات في اجتذاب أكبر عدد ممكن من العملاء، فاستعملت هذه الجهات في سبيل ذلك الحوافز والمرغِّبات، وكان منها إصدار بطاقة تابعة يستفيد منها العميل في تخفيض ثمن السلع والخدمات لدى مجموعة من الشركات والمؤسسات والمحال التجارية، أو لدى الجهة المصدرة للبطاقة فقط؛ فعلى سبيل المثال روّج كثير من البنوك والمؤسسات المالية للبطاقات الائتمانية( ) الصادرة عنها بإصدار بطاقة تخفيض تابعة تمنح العميل ميزة الاشتراك مع إحدى الشركات العالمية للتخفيض كبرنامج المسافر الدولي التابع لاتحاد ركاب الخطوط الدولية(IAPA)، أو اتحاد مسافري الأعمال(ABT).
وإصدار هذه البطاقات التخفيضية التابعة له صورتان:
الصورة الأولى: بطاقة مجانيّة
وذلك بأن يكون إصدار هذه البطاقة مجاناً تبعاً لإصدار إحدى البطاقات التجارية، فتكون بطاقة التخفيض المجانيّة إحدى المرغبات والمزايا في البطاقة الأصلية، ومثال هذه الصورة ما تفعله شركة الراجحي المصرفيّة للاستثمار؛ حيث إنها تمنح المشتركين في بعض أنواع البطاقات الائتمانية اشتراكاً مجانياً في برنامج المسافر الدولي(ABT) للحصول على تخفيضات خاصة في الفنادق وشركات تأجير السيارات، وكذلك يفعل بنك القاهرة السعودي.
الصورة الثانية: بطاقة لها ثمن
وذلك بأن يكون إصدار هذه البطاقة مقابل رسم سنوي رمزي في الغالب، فتكون بطاقة التخفيض بهذا الثمن الرمزي إحدى مزايا البطاقة الأصلية، ومثال هذه الصورة ما يفعله البنك الأمريكي السعودي والبنك الأهلي التجاري؛ حيث إنهما يمنحان المشتركين معهم في بعض أنواع البطاقات الائتمانية اشتراكاً في برنامج المسافر الدولي(IAPA) للحصول على حسومات من أسعار الفنادق والمواصلات( ).
المبحث الثاني: التخفيض العادي
المطلب الأول: الأصل في تحديد الأسعار
إن من أبرز السمات التي تميّز بها الاقتصاد الإسلامي في تحديد أسعار السلع والخدمات أنه يربط ذلك بقوى العرض والطلب، وفي هذا غاية العدل، ومراعاة مصالح الخلق، واعتبار لظروف الأسواق، واختلاف السلع والخدمات من حيث تكاليفها، ووفرتها، وحاجة الناس لها. وبهذا تُحصّل المصالح، وتدرأ المفاسد وتستقيم أمور الناس في أسواقهم وتجاراتهم، فلا إجحاف بالباعة ولا إضرار بالمستهلكين( ).
ولما كانت قاعدة الشريعة وأصلها المتين إقامة العدل في معاش الناس ومعاملاتهم امتنع النبي- - من التسعير لما غلا السعر في عهده - -، وقال لمن طَلَب منه التسعير: ((إن الله هو القابض الباسط المسعّر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم، ولا مال))( ). فنبّه النبي- - بذلك إلى أنه لا يجوز التدخل في أسعار السلع والخدمات مادام غلاؤها ورخصها راجعاً إلى ميزان العرض والطلب، واختلافه قلة وكثرة، وأن التدخل في مثل هذه الحال نوع من الظلم للخلق في أموالهم وتجاراتهم( )، ومخالفة للقاعدة الشرعية الكبرى التي تبنى عليها التجارات والمعاملات، وهي التراضي في البياعات وسائر المعاوضات( ). فإن الله - تعالى- قد اشترط لإباحة أكل المال في ذلك التراضي، فقال - جلَّ وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( )، وقال النبي : ((إنما البيع عن تراضٍ))( )، فالتراضي أصل تبنى عليه العقود كلها، فلا يجوز التضييق على الناس، والحجر عليهم في أموالهم وتجاراتهم بالتسعير أو غير ذلك؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم لا يباح لأحد أن يأخذها أو شيئاً منها دون طيب نفس من أهلها( ). وبهذا يتبين بوضوح أن أسعار السلع والخدمات حق لأصحابها، فإليهم تقديرها لا يتعرض لهم في ذلك ما داموا على قانون العدل سائرين( ).
لكن إذا امتنع أرباب السلع والتجارات من بيعها مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة على ثمن المثل، فهنا اختلف أهل العلم - رحمهم الله - في حكم التسعير وإلزام أهل التجارات وأرباب السلع بالبيع بثمن المثل( ).
فذهب الشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ) إلى عدم جواز التسعير وتحديد الأثمان والأسعار بناء على ما تقدم من امتناع النبي-- عن التسعير ويكون عدم التدخل هو الأصل.
أما الحنفية( )، والمالكية( )، وبعض الحنابلة( ) فذهبوا إلى أنه يجوز لولي الأمر والجهات المختصة التدخل في تحديد أسعار وأثمان السلع والخدمات؛ تحقيقاً للعدل، وتحصيلاً للمصلحة العامة، وحفاظاً على النظام العام( ).
المطلب الثاني: البيع بأقل من ثمن المثل
لمعرفة حكم التخفيضات العادية التي يمنحها الباعة؛ للترغيب في سلعهم وخدماتهم لابد من النظر في كلام أهل العلم - رحمهم الله - في حكم البيع بأنقص من ثمن المثل، وبمراجعة ما قاله أهل العلم في هذه المسألة يتبين أن لهم فيها قولين:
القول الأول: يجوز بيع السلع والخدمات بأقل من سعر مثلها.
وهذا مذهب الحنفية( )، وقول ابن رشد من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: لا يجوز بيع السلع والخدمات بأقل من سعر مثلها.
وهذا مذهب المالكية( ).
أدلة القول الأول:
الأول: أن النبي - - عدّ التدخل في تحديد الأسعار نوعاً من الظلم الذي يجب الامتناع منه، فقال - -: ((إن الله هو القابض الباسط المسعّر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم، ولا مال))( ).
الثاني: أن الشريعة ندبت إلى السماحة، والسهولة في البيع، والشراء، وسائر المعاملات، فقال النبي - -: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))( )، ولا شك أن البيع بأقل من ثمن المثل داخل في ذلك. قال ابن رشد فيمن باع بأرخص مما يبيع أهل السوق: ((بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله))( ).
الثالث: أن أثمان السلع والخدمات، وأسعارها حق لأربابها، فلا يحجر عليهم فيها، ولا يتعرض لهم في تقديرها( ).
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بمنع البيع بأقل من ثمن المثل بما يلي:
الأول: أن عمر بن الخطاب - - مرّ بحاطب بن أبي بلتعة- -، وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب - -: ((إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا))( ).
المناقشة:
نوقش هذا الدليل من أربعة أوجه :
1- أن هذا الأثر لا يصح عن عمر بن الخطاب- -؛ لأنه من طريق سعيد بن المسيب، وهو لم يسمع من عمر إلا نعيه للنعمان بن مقرن فقط.
الإجابة:
يجاب عن تضعيف الأثر بهذه العلة: بأنها غير مسلّمة، فقد سئل الإمام أحمد عن رواية سعيد عن عمر - - هل هي حجة؟ فقال: ((هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل))( )، وقال الإمام مالك : ((كان يقال لابن المسيب: راوية عمر، فإنه كان يتبع أقضية عمر يتعلمها، وإن كان ابن عمر ليرسل إليه يسأله))( )، وقال يحيى بن سعيد القطان: ((إن ابن المسيب كان يسمى راوية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته))( ).
2- أن الذي نهى عنه عمر - - هو الزيادة في الثمن لا النقص عن سعر المثل، وذلك أن حاطباً - رضي الله عنه - كان يبيع بالدراهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق، وهذا مما لا يلام أحد عليه،؛ لأنه ((لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه))( ).
ويؤيد هذا التوجيه أنه في بعض روايات قصة عمر مع حاطب - رضي الله عنهما -، أن عمر وجد حاطباً يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: ((كيف تبيع يا حاطب؟))، فقال: ((مدين))، فقال عمر: ((يبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا، وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعاً وإلا فلا تبع في أسواقنا، وإلا فسيروا في الأرض ثم اجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم))( ).
3- أن عمر - رضي الله عنه - رجع عن قوله لحاطب( ). ففي بعض الروايات أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال له: ((إن الذي قلت ليس بعزيمة مني، ولا قضاء، وإنما هو أمر أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت وكيف شئت فبع))( ).
4- أنه وإن صح ذلك عن عمر - - فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
الإجابة:
أجيب على هذا: بأن عمر - - له سنة متبعة( )، فهو داخل في قول النبي- -: ((فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ))( ).
الثاني: أن في تمكينهم من البيع بأقل من ثمن المثل ضرراً على أهل السوق( )، فمن تمام النصح للمسلمين ألا يترك أهل الأسواق وما أرادوه إذا كان ذلك يفضي إلى فساد الأسواق واضطرابها وإلحاق الضرر بالمسلمين؛ لقول النبي- -: ((لا ضرر، ولا ضرار))( ).
المناقشة:
نوقش هذا بثلاثة أمور:
1- عدم التسليم بأن في البيع بأقل من سعر السوق ضرراً على أهل الأسواق؛ لأنهم إن شاؤوا أرخصوا الأسعار، وإلا فهم أملك بأموالهم، كما أن الذي أرخص أملك بماله( ).
2- على التسليم بوجود الضرر في البيع بأقل من سعر الأسواق، فإن المصلحة الحاصلة لعموم الناس بإرخاص الأسعار أعظم من الضرر الحاصل لبعض أهل الأسواق، لاسيما وأنه غالباً ما يكون ربح التاجر كبيراً جداً. وهذا داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد أو تزاحمت فإنه يجب تقديم الراجح منها( ).
3- أن عمر - - لم يأمر حاطباً - - بالامتناع من البيع، ففي بعض الروايات أن عمر - - قال له: ((فإما أن ترفع السعر، وإما أن تدخل زبيبك، فتبيعه كيف شئت))( ). وهذا قد يفهم منه أن منع عمر - - حاطباً- - ليس لأجل نفي الضرر عن أهل السوق؛ لأنه لم يمنعه من البيع مطلقاً( ).
الترجيح:
الراجح من هذين القولين هو القول بجواز البيع بأقل من سعر السوق؛ لقوة أدلة القائلين به، وسلامتها من المناقشة؛ ولأن البياعات والمعاوضات مبناها على التراضي، كما قال الله تعالى: ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( )، فإذا رضي البائع أن يبيع سلعته أو خدمته بثمن دون السعر السائد، فلا وجه لمنعه من ذلك. كما أن الأصل في البيوع الحل، قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾( )، فلا يمنع منها شيء، إلا بدليل يعتمد عليه، لكن إن رأى ولي الأمر أن مصلحة الناس لا تتم إلا بمنعهم من البيع بدون سعر المثل؛ لما في ترك ذلك من المفاسد، فإن ذلك جائز لا حرج فيه؛ لأن المقصود هو إصلاح معاش الناس، واستقامة أمرهم، فإذا كان ذلك لا يتحقق إلا بمنعهم من البيع بأقل من السعر السائد كان ذلك جائزاً، بل قد يكون واجباً، والله - تعالى - أعلم.
المطلب الثالث: حكم التخفيض العادي
تقدم أن التخفيض العادي هو أحد قسمي التخفيض الترغيبي، وهو حسم من سعر السلع والخدمات يمنحه الباعة للعملاء؛ لترغيبهم في الشراء منهم دون شرط أن يكون المشتري حاملاً لبطاقة تخفيضية( ).
وهذا النوع من التخفيضات هو في الحقيقة بيع للسلع أو الخدمات بأنقص من سعر السوق، وذلك جائز لا حرج فيه، وهذا بناءً على القول بأنه يجوز البيع بأقل من السعر السائد في السوق.فعلى هذا القول تجوز جميع التخفيضات الترغيبية،سواء كان التخفيض كمياً، أو انتقائياً، أو نقدياً، أو تخفيضاً بالقسيمة (الكوبون)، أوغير ذلك. وهذا ما لم يفضِ هذا النوع من التخفيض إلى محرم، كالتغرير بالمشترين، أو المضارة بالباعة الآخرين، أو غير ذلك من المقاصد المحرمة، فإنه يكون حينئذٍ محرماً، وممنوعاً سداً للذريعة.
المبحث الثالث: التخفيض بالبطاقة
التخفيض بالبطاقة هو أحد قسمي التخفيض الترغيبي، وفيه يمنح البائع المشترك في دليل التخفيضات حاملي بطاقة التخفيض حسماً من أسعار السلع والخدمات مدة صلاحية البطاقة( ).
وهذه البطاقات قسمان كما تقدم:
الأول: بطاقات تخفيضية مستقلة.
الثاني: بطاقات تخفيضية تابعة.
المطلب الأول: البطاقات التخفيضية المستقلة
وهي البطاقات التي لا تستعمل إلا في التخفيض فقط.
وهي نوعان:
النوع الأول: بطاقات تخفيضية عامة.
النوع الثاني: بطاقات تخفيضية خاصة.
المسألة الأولى: البطاقات التخفيضية العامة
وهي البطاقات التخفيضية التي يستفيد منها المستهلك في الحسم من أسعار السلع والخدمات لدى جهات تجارية عديدة.
الفرع الأول: أطرافها
هذا النوع من البطاقات التخفيضية العامة، له ثلاثة أطراف:
الطرف الأول: جهة الإصدار
وهي الجهة القائمة على برنامج التخفيض والمنظّمة له، حيث تقوم بإصدار البطاقات التخفيضية، مع الجهات التجارية المشاركة في برنامج التخفيض، ومتابعتها في الوفاء بما تعهدت به من تخفيض على سلعها وخدماتها. وهذه الجهة غالباً ما تكون إحدى شركات الدعاية والإعلان، أو السفر والسياحة.
الطرف الثاني: جهة التخفيض
وهي الجهة التجارية المشاركة في برنامج التخفيض، والتي تلتزم بتقديم نسبة تخفيضية من أسعار سلعها أو خدماتها لحاملي بطاقة التخفيض.
الطرف الثالث: المستهلك أو العميل
وهو المستهلك حامل البطاقة التخفيضية المستفيد منها في حسم أسعار السلع والخدمات لدى جهات التخفيض المشاركة في برنامج التخفيض.
الفرع الثاني: واقع العلاقة بين أطرافها
أولاً: العلاقة بين جهة الإصدار وجهة التخفيض
تتلخص العلاقة بين هذين الطرفين فيما يلي:
1- تقوم جهة الإصدار بالتنسيق مع جهة التخفيض، والاتفاق معها على منح المستهلك المشترك في برنامج التخفيض حسماً متفقاً على نسبته من أسعار السلع والخدمات.
2- تقوم جهة الإصدار بإعداد دليل يسمى دليل التخفيضات يعلن فيه اسم جهة التخفيض، وعنوانها، ورقم الهاتف، ونسبة التخفيض، وغير ذلك من المعلومات التي يحتاج إليها المستهلك. وذلك مقابل أمرين:
أ- رسم واشتراك سنوي أو نسبة متفق عليها من ثمن كل بيع يكون لجهة الإصدار أثر فيه.
ب- نسبة تخفيضية لكل مستهلك يحمل بطاقة تخفيضية تابعة لجهة الإصدار.
3- تلتزم جهة التخفيض بنسبة الحسم المتفق عليها لكل عميل يشتري سلعة أو خدمة منها، وفي حال عدم وفاء جهة التخفيض بذلك يحق لجهة الإصدار مطالبتها بنسبة التخفيض عند الجهات المختصة.
ثانياً: العلاقة بين جهة الإصدار والمستهلك
1- تقوم جهة الإصدار بتزويد المستهلك المشترك في برنامج التخفيض ببطاقة يكتب عليها اسم المستهلك، ومدة صلاحية البطاقة، كما أنها تحمل اسم الجهة المصدرة، أو اسم البطاقة. وذلك مقابل رسم أو اشتراك سنوي يتراوح بين 100 ريال و500 ريال، أو يزيد قليلاً، وذلك حسب قوة البطاقة ومكانتها.
2- تُعِدُّ جهة الإصدار كتيباً يسمى دليل الخدمات، أو التخفيضات يحتوي على أسماء جهات التخفيض المشاركة في برنامج التخفيض، وبيانات تتعلق بها من حيث العنوان، ونسبة التخفيض، ونحو ذلك من المعلومات.
3- تقوم جهة الإصدار بمتابعة جهات التخفيض في الوفاء. بما تعهدت به من تخفيضات، وحلّ ما ينشأ من مشكلات بين المستهلك وجهات التخفيض، وفي بعض أنواع البطاقات تلتزم جهة الإصدار بدفع نسبة التخفيض للمستهلك إذا لم تفِ جهة التخفيض بما تعهدت به من حسم.
ثالثاً: العلاقة بين المستهلك وجهة التخفيض
الصلة بين هذين الطرفين هي غاية هذه المعاملة ومقصودها؛ وتتلخص العلاقة بينهما في أن المستهلك إذا قدّم بطاقة التخفيض إلى جهة التخفيض المشاركة في برنامج هذه البطاقة حصّل حسماً من أسعار السلع والخدمات التي يشتريها من هذه الجهة.
الفرع الثالث: التخريج الفقهي للعلاقة بين هذه الأطراف
بعد هذا العرض لواقع العلاقة بين أطراف هذا النوع من البطاقات التخفيضية يتبين أنها معاملة مركبة من أكثر من عقد، فيحتاج في تخريجها إلى النظر في كل علاقة من العلاقات التي بين أطراف هذه البطاقة على حِدة.
أولاً: التخريج الفقهي للعلاقة بين جهة الإصدار وجهة التخفيض
هذه العلاقة يختلف تخريجها الفقهي بناء على صفة الاتفاق بين الطرفين، وهو على نوعين:
النوع الأول: أن يكون الاتفاق على مبلغ مقطوع
وصورة هذا أن تدفع جهة التخفيض رسماً أو اشتراكاً سنوياً لجهة الإصدار إضافة إلى نسبة تخفيضية على أسعار سلع وخدمات جهة التخفيض لمن يحمل بطاقة تخفيض تابعة لجهة الإصدار، وذلك مقابل ما تقوم به جهة الإصدار من أعمال، فالعقد في هذه الحال يخرّج على أنه عقد إجارة مقدرة بالزمن، يكون المستأجر فيها جهة التخفيض، والمؤجر جهة الإصدار، والمنفعة المعقود عليها هي تسويق جهة الإصدار لجهة التخفيض بالإعلان عنها في دليل التخفيضات، والدلالة على مكانها، ونوع نشاطها، ورقم الاتصال بها، وما أشبه ذلك، وكذلك الترويج لها من خلال الدعاية لبطاقة التخفيض التي هي الوصلة التي يصل بها المستهلك إلى جهة التخفيض.
والأجير في هذا العقد، وهو جهة الإصدار، أجير مشترك، إذ إنها تعمل لجهات تخفيضية عديدة، فليس عملها لواحد، بل تعمل لغير ما واحد، وما كان كذلك فإنه يسمى أجيراً مشتركاً( ) فيجب أن تكون الأجرة معلومة لا جهالة فيها ولا غرر( ).
والأجرة في هذا العقد قسمان:
القسم الأول: رسم أو اشتراك سنوي، وهذا معلوم لا حرج فيه.
القسم الثاني: نسبة تخفيضية تعطى للمستهلك؛ مقابل استعماله بطاقة جهة الإصدار عند الشراء. وهذا القسم من الأجرة يخرّج على حكم كون الأجرة نسبة هي جزء مشاع من عمل الأجير. وفي صحة كون الأجرة كذلك قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنها تجوز.
وهو قول بعض المالكية( )، ومذهب الحنابلة( )، وقول ابن حزم من الظاهرية( ).
لقول الثاني: أنها لا تجوز.
هو مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( ).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بأن النبي- - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع( ).
وجه الدلالة: أن النبي- - عامل أهل خيبر ببعض ما يخرج منها، وهذا هو معنى إجارتها ببعض الخارج منها( )، فدلّ ذلك على جواز أن تكون الأجرة نسبة مما عمل فيه الأجير.
أدلة القول الثاني:
احتج القائلون بالمنع بأن من شروط الإجارة العلم بالأجرة( )، فإذا كانت الأجرة جزءاً مشاعاً من ناتج عمل الأجير فإنها تكون حينئذ مجهولة( ).
المناقشة:
نوقش هذا الدليل: بأن الجهالة في هذه الصورة شبيهة بالجهالة التي في معاملة النبي- - لأهل خيبر بجزء مشاع من ناتج عملهم، فلما لم تكن الجهالة مؤثرة في تلك المعاملة، فهي هنا غير مؤثرة أيضاً( ).
ويمكن أن يقال: إن الجهالة التي تفسد العقد هي ماكان يفضي إلى التنازع والاختلاف( )، وتقدير الأجرة بنسبة من ناتج عمل الأجير لا يفضي إلى ذلك، بل هو أقرب إلى العدل والتراضي.
الترجيح:
الأقرب إلى الصواب من هذين القولين هو القول الأول؛ لقوة ما احتجوا به، وسلامته من المناقشة، والله أعلم بالصواب.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج: بأن في الأجرة جهالة وغرراً، فجهالة الأجرة في هذا العقد جهالة كبيرة، فإنها قد تحصل وقد لا تحصل؛ إذ البيع الذي يكون التخفيض من ثمنه لا يعلم حصوله، وإن حصل فلا يعلم مقداره، وما كان كذلك فإنّه لا يجوز حتى على القول بجواز كون الأجرة جزءاً مشاعاً من عمل الأجير؛ فإن الصور التي ذكرها القائلون بجواز كون الأجرة جزءاً مشاعاً من عمل الأجير المؤثر في قدر
الأجرة فيها هو عمل الأجير، بينما عمل الأجير في هذه الصورة من بطاقات التخفيض ليس هو العامل المؤثر، إذ إن المستهلك له أثر كبير، فالإجارة إجارة فاسدة.
النوع الثاني: إذا كان الاتفاق بالنسبة
وصورة هذا أن تتعاقد جهة التخفيض مع جهة الإصدار على أن تدفع جهة التخفيض نسبة متفقاً عليها من ثمن المبيعات التي استعملت فيها بطاقة التخفيض التابعة لجهة الإصدار.
فالعقد في هذه الحال يمكن تخريجه على ما يلي:
التخريج الأول: أنه عقد جعالة
وجه هذا التخريج أن عوض العمل فيه غير مستحق للعامل إلا بعد تمام العمل، وهو شراء المستهلك الحامل لبطاقة التخفيض من جهة التخفيض. فحقيقة العقد أن جهة التخفيض جعلت نسبة من ثمن المبيعات التي يكون لجهة الإصدار أثر فيها، فإذا تم البيع استحقت جهة الإصدار الجُعل وإلا فلا، على أن يكون ذلك خلال مدة زمنية متفق عليها.
المناقشة:
يناقش هذا التخريج بثلاثة أمور هي:
1- أن العقد في هذه البطاقات التخفيضية عقد لازم، والجعالة عقد جائز عند جميع القائلين بها( ). فلا يصح تخريج هذه المعاملة على الجعالة؛ لكون ذلك يصيّر العقد الجائز لازماً، وفي هذا ضرر على المتعاقدين أو أحدهما؛ لأنه يجتمع في العقد الجهالة بتحصيل المقصود واللزوم وهما متنافيان( ).
2- أن هذا العقد مؤقت له مدة معلومة، والجعالة يشترط لصحتها عند المالكية( )، والشافعية( )عدم تأقيت العمل بوقت محدد.
وذهب الحنابلة( ) إلى صحة كون الجعالة مؤقتة، فلا يعد ذلك مشكلاً على هذا التخريج عندهم.
3- أن في الجُعل جهالة، والعلم بالجعل شرط لصحة العقد عند المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، فتكون على هذا جعالة فاسدة.
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن الجهالة هنا ليست جهالة مؤثرة، فهي نظير ما صححه الحنابلة فيما لو قال الجاعل: من ردّ ضالتي فله ثلثها( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن الحنابلة صححوا هذه الصورة؛ لكون الجهالة فيها يسيرة، فالضالة يمكن تقدير قيمتها، وبذلك يمكن تقدير الجعل؛ ولذلك فإن الشافعية نصوا على صحة ما لو قال الجاعل: من ردّ رقيقي مثلاً فله ثيابه أو رُبْعُه إذا كان يعلم المشروط( ).
أما الجعل في هذه الصورة من الحوافز الترغيبية فهو مجهول جهالة تامة، إذ إن قدر المبيعات التي يكون لجهة الإصدار أثر فيها مجهولة ويتعذر توقعها. ثم إن الصورة المنظّر بها لم يصححها بعض الحنابلة( ) وفاقاً للمالكية( )، والشافعية( )؛ لجهالة الجعل.
التخريج الثاني: أنه عقد إجارة
وجه هذا أن العقد في هذه الصورة عقد على منفعة مدة معلومة بنسبة من ثمن مبيعات جهة التخفيض للمستهلك الذي يحمل بطاقة جهة الإصدار التخفيضية.
ما يترتب على هذا التخريج :
يترتب على هذا التخريج عدم جواز هذا النوع من بطاقات التخفيض، لأن عقدها عقد إجارة فاسدة؛ لجهالة الأجرة، حيث إنها نسبة تحطها جهة التخفيض من ثمن كل بيع لمستهلك يكون لجهة الإصدار أثر في شرائه من جهة التخفيض أو تسبب، والأجرة يشترط فيها أن تكون معلومة. كما أن المنفعة مجهولة الحصول فقد تحصل وقد لا تحصل.
ثانياً: التخريج الفقهي للعلاقة بين جهة الإصدار والمستهلك
العلاقة بين هذين الطرفين يمكن تخريجها على أنها عقد إجارة مقدرة بزمن يكون المستهلك فيه مستأجراً، وجهة الإصدار مؤجراً، وتكون المنفعة المعقود عليها الحط من أسعار سلع وخدمات جهات التخفيض، ومتابعتها في ذلك، وإصدار بطاقة لكل مستهلك يشارك في برنامج التخفيض، وتزويده بدليل يشتمل على الشركات والمؤسسات والمحلات التجارية المشاركة في برنامج التخفيض.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا التخريج عدم جواز هذا العقد؛ لأنه إجارة فاسدة لما يلي:
أولاً: الجهالة في المنفعة المعقود عليها، فلا يعلم قدر التخفيض الذي يحصله المستهلك، فقد تكون مشترياته كثيرة، فتكون نسبة التخفيض كبيرة، وقد تكون مشترياته قليلة، فتكون نسبة التخفيض قليلة. وجهالة المعقود عليه في الإجارة يصيّرها إجارة فاسدة( ).
ثانياً: عدم القدرة على تسليم المنفعة؛ لكون المنفعة عند غير المؤجر، فالمنفعة إنما تستوفى من جهة التخفيض لا من جهة الإصدار، وهذا يفضي إلى المنازعة التي تمنع صحة العقد؛ لتخلّف المقصود من العقد( )، فتكون على هذا إجارة فاسدة.
ثالثاً: التخريج الفقهي للعلاقة بين جهة التخفيض والمستهلك
جهة التخفيض هي مكان استيفاء المنفعة المعقود عليها بين المستهلك وجهة الإصدار، فالمستهلك إنما يحصّل منفعة التخفيض من الأسعار إذا اشترى من جهة التخفيض. ومن حيث الواقع فإن المستهلك لا يملك أن يلزم جهة التخفيض بمنحه تخفيضاً من أسعار السلع والخدمات، وغاية ما يمكنه في هذه الحال أن يراجع جهة الإصدار، وعلى هذا فإن العلاقة بين هذين الطرفين علاقة بائع بمشترٍ.
الفرع الرابع: حكمها
بعد الوقوف على طبيعة وواقع العلاقة بين أطراف هذه البطاقة يتبين أنها مشتملة على عدة محاذير شرعية تنظمها في سلك المعاملات المحرمة. ويتضح ذلك بما يلي:
أولاً: أن هذا النوع من البطاقات التخفيضية فيه جهالة وغرر كبيران في جميع أطرافها، إذ لا يعلم حصول المقصود من العقد، ولا تُعرف حقيقته ومقداره، فالمشاركون في برنامج هذا النوع من بطاقات التخفيض تدور حالهم بين الغرم والغنم الناشئين عن المخاطرة، والغرر المحض، فهي داخلة في الميسر المحرم المذكور في قول الله- تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾( ).
وهي أيضاً داخلة في نهي النبي- - عن بيع الغرر( )، إذ إن الإجارة بيع منفعة( )، فلا يجوز فيها الغرر.
وممن قال بتحريم هذا النوع من بطاقات التخفيض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وذلك ((لما يشتمل عليه من الغرر والمقامرة))، وقد صدر عن اللجنة عدة فتاوى حول بطاقات التخفيض تتفق كلها على تحريم هذه البطاقات. وممن ذهب إلى تحريم هذه البطاقات شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين، فقال في جواب له عن هذه البطاقات التخفيضية: ((الذي يظهر لي تحريم هذه الطريقة، وذلك لأنها تدخل تحت قاعدة الميسر؛ إما غانم، وإما غارم)).
ثانياً: أن في هذه المعاملة أكلاً للمال بالباطل، فجهة الإصدار تتقاضى رسماً أو اشتراكاً سنوياً من المستهلك، ومن جهة التخفيض في بعض الصور، دون أن تقوم بعمل في مقابل ذلك، والله- تعالى - قد نهى عن ذلك، فقال: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن جهة الإصدار تتقاضى هذا الرسم أو الاشتراك مقابل ما تقوم به من أعمال لكل من جهة التخفيض والمستهلك، فهذه الرسوم ثمن لتلك الأعمال.
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأنه لما كانت هذه المعاملة مشتملة على محاذير شرعية، فإنها لا تخرج عن كونها أكلاً للمال بالباطل؛ لأن الشارع إذا حرم شيئاً حرم ثمنه( )، فأكل ثمن المحرمات من أكل المال بالباطل.
ثالثاً: أن هذه المعاملة كثيراً ما يكون فيها تغرير وخداع وفرصة لابتزاز الأموال بدون حق. فالتخفيضات التي يوعد بها المستهلك المشترك في برنامج التخفيضات غالباً ما تكون تخفيضات وهميّة غير حقيقية، ويتضح ذلك بما يلي:
1- أن المستهلك الذي لم يشارك في برنامج التخفيض قد يحصل بمماكسته( )، وحذقه تخفيضاً مماثلاً أو يفوق ما يوعد به المشتركون في برنامج التخفيض.
2- أن بإمكان جهة التخفيض أن تزيد في ثمن السلع والخدمات بقدر ما يخفّض للمستهلك المشارك في برنامج التخفيض، لاسيما في السلع والخدمات التي لها وكيل معتمد كالسيارات، وكثير من الأجهزة الكهربائية، وغيرهما من السلع.
3- أن التخفيضات التي تعد بها جهات إصدار هذه البطاقات كثيراً ما تكون مكذوبة لا صحة لها، ولذلك نبهت وزارة التجارة في المملكة العربية السعودية المواطنين والمقيمين إلى الحذر في التعامل مع من يعرضون البطاقات التجارية الخاصة بمنح تخفيضات وخصومات في المحال والمعارض التجارية، وأنه قد تم تصفية العديد من الشركات والمؤسسات التي تعلن عن تخفيضات وهمية مكذوبة، لا حقيقة لها( ).
رابعاً: أن هذه المعاملة كثيراً ما تكون سبباً للنزاعات والمخاصمات بين أطرافها، وذلك أن جهة الإصدار لا تملك في الواقع إلزام جهة التخفيض بنسبة التخفيض المتفق عليها للمستهلك المشارك في برنامج التخفيض، فيؤدي ذلك إلى نزاعات وخلافات، وما كان سبباً للخلاف والنزاع والبغضاء فإن الواجب منعه، كما قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾( ). فحرّم - جل وعلا - الخمر والميسر لما يفضيان إليه من العداوة والبغضاء، وغير ذلك من الحِكَم. فدلّ هذا على تحريم كل ما كان مؤدياً إلى ذلك( ).
خامساً: أن في هذا النوع من بطاقات التخفيض إضراراً بالتجار الذين لم يشاركوا في برنامج التخفيض.ووجه هذا الضرر أن هذا البرنامج إما أن يحملهم على المشاركة فيه، وهذا سيترتب عليه رسوم سنوية، وتخفيضات غير مرضية، وإما ألاّ يشاركوا،وهذا سيفقدهم نصيباً كبيراً من السوق، ويجعلهم في شبه عزلة، لاسيما إذا فشا استعمال هذه البطاقات، وانتشر بين الناس، فيورث ذلك ضرراً، وعداوة بين أهل التجارات من شارك منهم، ومن لم يشارك.
سادساً: أن هذا النوع من بطاقات التخفيض فيه تدويل للمال بين طائفة معينة من التجار، وهم المشاركون في برنامج التخفيض دون غيرهم ممن لم يشارك، إذ إن دائرة تعامل بطاقات التخفيض محصورة على المحالّ والشركات التجارية المشاركة في دليل التخفيض التجاري. وفي هذا مخالفة لمقصود الشارع من التسوية بين الجميع في تدويل المال، قال الله - تعالى - في آية قسم الفيء( ): ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾( ). ومن معاني تدويل المال انتقاله بين أيد عديدة في الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه، وألاّ يكون قارّاً في يد واحدة، بل منتقلاً من واحد إلى واحد على وجه مباح( ).
المسألة الثانية: البطاقات التخفيضية الخاصة
وهي البطاقات التخفيضية التي لا يستعملها المستهلك إلا في جهة تخفيضية واحدة.
الفرع الأول: أطرافها
هذا النوع من البطاقات التخفيضية له طرفان:
الطرف الأول: جهة التخفيض
وهي الجهة القائمة على برنامج التخفيض، والمانحة له. فإن كثيراً من المؤسسات والشركات التجارية الكبيرة تُصدِر بطاقات تخفيضية تعطي حاملها تخفيضاً من أسعار سلعها وخدماتها.
الطرف الثاني: المستهلك
وهو حامل البطاقة التخفيضية المستفيد منها في حسم أسعار السلع والخدمات لدى جهة التخفيض المصدرة للبطاقة.
الفرع الثاني: واقع العلاقة بين طرفيها
يسلك كثير من التجار المستعملين لهذا النوع من بطاقات التخفيض طريقين في إعطائها للمستهلكين.
الطريق الأولى: الاشتراك السنوي
وهذه الطريق يدفع فيها المستهلك رسماً، أو اشتراكاً سنوياً قدره (100) ريال، أو (150) ريالاً، وذلك مقابل نسبة تخفيضية من أسعار سلع وخدمات جهة التخفيض، وفي بعض الأحيان يضاف إلى التخفيض خدمات أخرى كإرسال نشرة شهرية إخبارية إلى المستهلك؛ لإعلامه بالجديد من السلع أوالخدمات أو غير ذلك.
الطريق الثانية: الإهداء
وهذه الطريقة تقدم فيها جهة التخفيض البطاقة دون أن تتقاضى رسماً على ذلك فهي إما أن تمنح للمستهلك مجاناً، تشجيعاً له على التعامل مع جهة التخفيض. وإما أن يكون منحها مجاناً، معلقاً على شرط، كأن تبلغ مشترياته حداً معيناً، أو نحو ذلك. فيكون منحها في هذه الحال مكافأة على تعامله، وتشجيعاً له على الاستمرار.
الفرع الثالث: التخريج الفقهي للعلاقة بين طرفيها
يختلف التخريج الفقهي للعلاقة بين هذين الطرفين باختلاف طريقة الحصول على بطاقة التخفيض.
أولاً: التخريج الفقهي للبطاقة التخفيضية ذات الاشتراك السنوي
أقرب ما تخرّج عليه العلاقة بين هذين الطرفين أنها عقد إجارة؛ المؤجر فيه جهة التخفيض، والمستأجر هو المستهلك، والمنفعة المعقود عليها هي التخفيض من الأسعار بنسبة متفق عليها.
ويترتب على هذا التخريج تحريم هذا النوع من البطاقات التخفيضية الخاصة؛ لأنه عقد إجارة فاسد؛ حيث إن المنفعة المعقود عليها، وهي التخفيض من الأسعار لا يعلم قدرها؛ لأن ذلك معلق بشراء المستهلك، وشراؤه مجهول من حيث الوقوع فقد يشتري، وقد لا يشتري، وهو مجهول أيضاً من حيث القدر فيما لو اشترى.
ثانياً: التخريج الفقهي للبطاقة التخفيضية المجانيّة
العلاقة بين طرفي هذه البطاقة تخرج على أنها وعد بالتخفيض،والحط من الأسعار من جهة التخفيض للمستهلك حامل البطاقة.
الفرع الرابع: حكمها
يختلف حكم هذه البطاقات بناء على طريقة الحصول عليها، هل حصلت باشتراك أو مجاناً ؟
أولاً: حكم بطاقات الاشتراك
هذه البطاقات التخفيضية التي يكون الحصول عليها برسم أو اشتراك سنوي تتفق مع البطاقات التخفيضية العامة في بعض المحاذير الشرعية التي تدخلها ضمن المعاملات المحرمة، فمن ذلك.
1- الجهالة في المعقود عليه، فإن منفعة التخفيض المقصودة بالعقد غير معلومة القدر ولا الوصف، فطرفا هذه البطاقة تدور حالهما بين الغرم والغنم الناشئين عن المخاطرة.
2- أن في هذه البطاقات تغريراً بالناس، وخداعاً لهم، وابتزازاً لأموالهم؛ فأكثر هذه التخفيضات الموعود بها حامل هذه البطاقات وهميّة غير حقيقية، وقد تقدم بيان هذين المحذورين تفصيلاً في الكلام على حكم البطاقة التخفيضية العامة( ).
ثانياً: حكم البطاقات المجانيّة
هذه البطاقات التخفيضية التي تمنح للمستهلكين مكافأة لهم على التعامل أو تشجيعاً عليه جائزة، لا محذور فيها، فالأصل في المعاملات الحل والإباحة ما لم يقم دليل مانع، وليس هناك ما يمنع من هذه البطاقات.
وقد ذهب إلى إباحة هذا النوع من بطاقات التخفيض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، ففي جواب لها عن هذا النوع قالت اللجنة: ((بطاقة التخفيض التي تحملها ليس لها مقابل، فلا حرج عليك في استخدامها والانتفاع بها)).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن البطاقة المجانيّة لا تختلف عن بطاقة الاشتراك السنوي من حيث الجهالة، فلا تختلف عنها في الحكم.
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن هناك فرقاً أساسياً بين هذين النوعين من البطاقات، فالعقد في البطاقة المجانية من عقود التبرعات، فليس للغرر أثر فيها على الراجح من قولي أهل العلم( )، وأما البطاقات الاشتراكية فهي من عقود المعاوضات التي لا يجوز الغرر فيها.
المطلب الثاني: البطاقات التخفيضية التابعة
وهي بطاقات تخفيضية عامة تصدر مع بطاقات تجارية أخرى كالبطاقات المصرفية، إما برسم مستقل أقل مما يدفع عادة، وإما مجاناً؛ لترويج البطاقة التجارية.
فالبطاقات التخفيضية التابعة نوعان:
النوع الأول: بطاقات تخفيضية تابعة لها ثمن.
النوع الثاني: بطاقات تخفيضية تابعة مجانيّة.
المسألة الأولى: التكييف الفقهي للبطاقة التخفيضية التابعة
الفرع الأول: التخريج الفقهي للبطاقات التي لها ثمن
هذا النوع من البطاقات التابعة لا يختلف من حيث التخريج الفقهي عن بطاقات التخفيض العامة التي سبق الكلام عليها( ).
الفرع الثاني: التخريج الفقهي للبطاقات التابعة المجانيّة
هذا النوع من البطاقات التابعة هو في الحقيقة بطاقة تخفيضية عامة مجانية لا يدفع المستهلك فيها اشتراكاً، أو رسماً؛ لكون جهة إصدار البطاقة التجارية المقصودة بالعقد قد وهبته هذه البطاقة، وأما ما عدا ذلك فإنها لا تختلف عن بطاقات التخفيض العامة.
المسألة الثانية: حكمها
الحكم على هذا النوع من بطاقات التخفيض يتطلب النظر في جانبين:
الجانب الأول: حكم البطاقة الأصلية
لما كانت هذه البطاقة تابعة لبطاقة أخرى فإن حكمها يتأثر بحكم البطاقة الأصلية، إذ من القواعد الفقهية عند أهل العلم أن التابع لا يفرد بحكم( )، فإذا كانت البطاقة الأصلية محرمة فإن التحريم ينجر إلى البطاقة التابعة، أما إن كانت البطاقة الأصلية مباحة فيبقى النظر في الجانب الثاني؛ للوصول إلى حكم البطاقة التابعة.
الجانب الثاني: ثمن البطاقة التخفيضية
تقدم أن هذه البطاقة التابعة إما أن يكون لها ثمن مفرد مستقل، أو لا يكون. فإن كان لتحصيل هذه البطاقة التخفيضية ثمن، فإن حكمها التحريم؛ لاشتمالها على المحاذير التي سبق ذكرها في بطاقة التخفيض العامة( ).
أما إن كانت هذه البطاقة التابعة لا ثمن لها فهي حينئذٍ زيادة من بائع البطاقة الأصلية، وهي جائزة لا حرج فيها، وكونها قد تشتمل على غرر فقد تقدم أنه يعفى عن الغرر في عقود التبرعات( ).
فإن قيل: إن الحصول على البطاقة جاء تابعاً في عقد معاوضة لا في عقد تبرع، فيقال: إنه يعفى عن الغرر إذا كان تابعاً في عقود المعاوضات( )، ومن القواعد الفقهية عند أهل العلم أنه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها( )، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً( ).
المبحث الرابع: التخفيض الترغيبي والشخصيات الاعتبارية
تقدم بعض المؤسسات، والشركات، والمحالّ التجارية في ترويجها لسلعها وخدماتها تخفيضات من الأسعار للشخصيات الاعتبارية كالدوائر الحكومية، والجهات التجارية، وما أشبه ذلك.
وهذه التخفيضات نوعان باعتبار المستفيد منها:
النوع الأول: تخفيض للجهات الاعتبارية نفسها.
النوع الثاني: تخفيض لمنسوبي هذه الجهات.
المطلب الأول: حكم التخفيض للجهات الاعتبارية نفسها
إن مما ينبغي ملاحظته عند بحث حكم التخفيض للجهات الاعتبارية أمرين:
أولاً: القصد من التخفيض
إذا كان الغرض من التخفيضات الترغيبية الإحسان كالتخفيض للمؤسسات الخيرية كالمدارس، أو المساجد، وما أشبه ذلك فإن هذا جائز لا حرج فيه، بل هو داخل في عموم قول الله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾( )، وغيرها من الآيات التي في هذا المعنى.
وكذلك إذا كان الغرض من هذه التخفيضات تشجيع الجهات الاعتبارية على الشراء من سلع وخدمات مانح التخفيض فإن ذلك جائز؛ لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة ما لم يقم دليل التحريم.
وأما إذا كان الغرض من هذه التخفيضات الترغيبية الغش أو التدليس أو المحاباة بغضّ الطرف عن جودة السلع والخدمات، أو ما أشبه ذلك من الأغراض الفاسدة، فإن هذه التخفيضات لا تجوز؛ لكونها من الغش والخيانة، ولما تفضي إليه من المفاسد.
ثانياً: صلة جهة التخفيض بالجهة الاعتبارية
إن مما يؤثر في حكم التخفيض للجهات الاعتبارية طبيعة علاقتها بجهة التخفيض: فإن كان للجهة الاعتبارية ولاية، أو نوع ولاية على جهة التخفيض، فإن هذا التخفيض غير جائز؛ بل هو من الرشوة المحرمة؛ لأنه ذريعة إلى قضاء حوائج جهة التخفيض، ومحاباتها، وهذا سبب للخيانة، وتضييع للأمانة، ولذلك لعن النبي- - الراشي، والمرتشي( ). أما إذا كانت الجهة الاعتبارية لا صلة لها بنشاط جهة التخفيض، وليس لها عليها ولاية فإنه لا محذور في التخفيض حينئذٍ؛ لكون الأصل في ذلك الحل، وليس في ذلك ذريعة إلى محرم، فلا وجه للمنع.
المطلب الثاني: حكم التخفيض لمنسوبي الجهات الاعتبارية
الوقوف على حكم التخفيض لمنسوبي الجهات الاعتبارية يحتاج إلى النظر في أمرين:
الأول: صلة جهة التخفيض بالجهة الاعتبارية.
الثاني: علم الجهة الاعتبارية بالتخفيض لمنسوبيها.
لا تخلو الجهات الاعتبارية التي يمنح التخفيض لمنسوبيها، إما أن تكون لها ولاية على جهة التخفيض،كأن يكون لجهة التخفيض مصالح عند الجهات الاعتبارية وما أشبه ذلك، ففي هذه الحال لا يجوز التخفيض؛ لكونه قد يكون وسيلة لقضاء حوائج الجهة المخفضّة، فيكون بذلك من الرشوة المحرمة. وإما أن تكون الجهة الاعتبارية ليس لها ولاية على جهة التخفيض، فينظر في هذه الحال إلى علمها بالتخفيض، وإذنها فيه؛ لكون هذا التخفيض سببه الانتساب إليها، فإن كانت الجهة الاعتبارية عالمة به آذنة فيه فإنه لا حرج فيه، وهو جائز، أما إن لم تكن عالمة به، ولا آذنة فيه فإنه لا يجوز؛ لقول النبي- - لمن بعثه جابياً، وقد أهدي إليه: ((فهلاّ جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟))( )، فدلّ هذا على أن الهدية إذا كانت بسبب فإنها تلحق به( )، ولا فرق في هذا بين أن يهديه، وبين أن يحابيه في البيع بالتخفيض من الأسعار( )، ولذلك كره بعض أهل العلم أن يتولى القاضي البيع والشراء بنفسه( )، وعللوا ذلك بأنه يُعْرَف، فيحابى، فيكون كالهدية( ).
الفصل الخامس: الإعلانات والدعايات الترغيبية
المبحث الأول: تعريف الإعلان والدعاية
المطلب الأول: تعريف الإعلان
الإعلان في اللغة: مصدر للفعل الرباعي أَعْلَن، و((العين واللام، والنون أصل صحيح يدل على إظهار الشيء، والإشارة إليه، وظهوره))( ).
فالإعلان: هو إظهار الشيء والمجاهرة به( ).
وأما الإعلان عند الفقهاء فهو موافق لمعناه اللغوي سواء بسواء( ).
أما تعريفه عند التسويقيين فقد تقدم أنه تعريف بالسلع والخدمات، وعرضها للبيع، وترويجها بواسطة جهة تتولى ذلك مقابل أجر مدفوع.
المطلب الثاني: تعريف الدعاية
الدعاية في اللغة : مصدر مُحْدَث( ) للفعل الثلاثي دعا، و ((الدال، والعين، والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك))( ).
فالدعاية: الدعوة إلى مذهب أو رأي أو غيرهما بالكتابة أو الخطابة ونحوهما( ).
أما الدعاية عند الفقهاء فليس هذا المصطلح مستعملاً عندهم إذ هو مصطلح محدث( ).
أما تعريفها عند التسويقيين: فالدعاية هي كل الإجراءات التي تفعل لجذب انتباه الناس إلى سلعة،أو خدمة، أو تاجر،عن طريق نشر الأخبار عنها أو المعلومات أو التقارير، ويكون ذلك بدون أجر مقابل( ).
المبحث الثاني: الأصل في الإعلان والدعاية
الإعلان والدعاية هما في حقيقة الأمر ثناء على سلع وخدمات معينة، وترغيب فيها، ومدح لها. وهذا الثناء والمدح لا يخلو من كونه مدحاً وثناء بحق، أو مدحاً وثناء بغير حق.
الحال الأولى: أن يكون المدح والثناء بحق
فهذا جائز مباح لا حرج فيه، لا سيما إذا كان يتضمن إعلام المشتري بما يجهله في السلعة أو الخدمة( ). والدليل على ذلك ما يلي:
1- أن الأصل في باب المعاملات الحل والإباحة ما لم يقم دليل على المنع والتحريم، ولا دليل من الكتاب أوالسنة أو الإجماع أو القياس يدل على تحريم الدعاية والإعلان.
2- أن كل ما دعت إليه حاجة الناس، وتعلقت به مصلحة معاشهم، وكانت مصلحته راجحة فإن الشريعة لا تحرمه، إذ إن تحريمه حينئذٍ حرج، والحرج منتفٍ شرعاً( ). ولا يخفى أن الإعلان والدعاية وسيلتان تدعو الحاجة إليهما، لاسيما مع واقع الأسواق التجارية المعاصرة التي تشهد تنوعاً كبيراًُ في السلع والخدمات مما يوقع الناس في حيرة وارتباك وتردد عند اختيار إحدى السلع والخدمات،فالإعلان والدعاية يعرفان الناس بمزايا السلع والخدمات، ومنافعها، وأوجه الفرق بينها مما يساعد كثيراً في إزالة الحيرة عن الناس، واتخاذهم القرار الشرائي الصائب. كما أن الإعلان والدعاية لهما أثر كبير في تحسين نوعية السلع والخدمات، ورفع مستوى الإنتاج، كما أنهما يعرفان بأماكن السلع والخدمات وأصحابها.
3- الإعلان والدعاية فيهما شبه بعمل الدلال، وهو من يعرّف بمكان السلعة وصاحبها، وينادي في الأسواق عليها( )، وقد أجاز أهل العلم عمل الدلال، وجرى على ذلك عمل المسلمين، ولم ينقل إنكاره عن أحد من أهل العلم( )، ((وهذا يدل على أنها - أي الدِلالَة - من الأعمال المشروعة الرائجة المتوارثة بلا نكير))( ).
4- أن الإعلان والدعاية فيهما ثناء البائع ومدحه لسلعته، وقد أجاز الشرع للمرء أن يصف نفسه بما فيه من مزايا حميدة إذا تعلقت بذلك مصلحة راجحة، كالتعريف بنفسه عند من لا يعرفه أو ما أشبه ذلك من المصالح( )، ومن ذلك ما قص الله - تعالى - عن يوسف - عليه السلام - لما قال للملك: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾( )، فكذلك مدح المرء لسلعته أو خدمته، بل هو أولى بالجواز؛ لأن الأصل في مدح المرء نفسه المنع؛ لقوله-تعالى-: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾( ) بخلاف مدح المرء سلعته وثنائه عليها، فلا دليل على منعه وتحريمه، بل الأصل فيه الحل والإباحة.
الحال الثانية: المدح والثناء بغير حق
ويكون ذلك بأحد أمرين:
لأول: الكذب على الناس، وهو بأن يخبر عن السلع أو الخدمات بما يخالف الحقيقة.
والثاني: التغرير بالناس، وذلك بأن يقول في السلع أو الخدمات ما يخدع به الناس، ويدلس عليهم ويغشهم.
وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع بتحريم هذين النوعين من المدح والثناء، بل تحريم كل ما يوهم المشتري بوجود صفة كمال في السلعة أو الخدمة لا وجود لها في واقع الأمر، سواء كان ذلك الإيهام بالفعل أو القول( ).
أولاً: من الكتاب
1- قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
وجه الدلالة
أن الله - تبارك وتعالى - حرّم أكل المال بالباطل، واستثنى أكله بالتجارات التي تكون عن تراضٍ،ولا شك أن من اشترى المدلَّس والمغشوش،وهو لا يعلم غير راضٍ به، فالبيوع التي فيها غش وتدليس وخديعة من أكل المال بالباطل( ).
2- قول الله - تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الآية نزلت في رجلٍ أقام- أي : روّج - سلعة، وهو في السوق فحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يُعط؛ ليوقع رجلاً من المسلمين( )، ويغره بتلك اليمين التي دلس بها عليه، فدلّ ذلك على تحريم أن يحلف الرجل يميناً كاذبة لتنفق سلعته وتروج( ).
ثانياً: من السنة
الأحاديث في تحريم الغش والتدليس كثيرة جداً( )، وهذه بعضها.
1- قول النبي - - لصاحب الطعام الذي أظهر الجيد، وأخفى الرديء: ((أفلا جعلته فوق الطعام ليراه الناس، من غش فليس مني))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل تدليس صاحب الطعام- حيث جعل ظاهر المبيع خيراً من باطنه- غشاً، فدلّ ذلك على تحريم أن يظهر البائع المبيع على صفة ليس هو عليها( )، سواء كان ذلك بالفعل أو بالقول، إذ إن ذلك تدليس وغش( ).
2- ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((نهى رسول الله - - عن النجش( )))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي- - نهى عن النجش، وهذا يشمل مدح السلعة أو الخدمة؛ ليُروّجها، وَيَغُرّ غيره بها، فدّل ذلك على تحريم كل مخادعة أو مكر أو تدليس بالثناء على السلعة بما ليس فيها( ).
3- قول النبي- -: ((لاتُصَرُّوا ( ) الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي- - نهى عن التصرية؛ لما فيها من التدليس والتغرير بالمشتري بإظهار غزارة اللبن، فدلّ ذلك على تحريم كل تدليس أو تغرير فعلي( ).
ثالثاً: من الإجماع
حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريم الغش؛ الذي منه المكر والخديعة والتدليس بذكر السلعة بما ليس فيها( ).
المبحث الثالث: ضوابط شرعية في الإعلانات والدعايات الترغيبية
الإعلانات والدعايات الترغيبية من المعاملات المعاصرة التي لا تخرج عن إطار الضوابط العامة للمعاملات في الشريعة الإسلامية، لكن لما كثرت التجاوزات في استعمال هذه الوسيلة الترغيبية فلا بد من ذكر ضوابط تفصيلية خاصة تراعي المقاصد الشرعية والآداب المرعيّة، فمن ذلك ما يلي:
أولاً: أن يحسن التاجر القصد في إعلانه ودعايته، وذلك بأن يكون مقصوده تعريف الناس بمزايا سلعه وخدماته، وأن يطلعهم على ما لا يعرفونه من ذلك، وما يحتاجونه من معلومات عنها( ).
ثانياً: أن يلتزم الصدق في إعلانه ودعايته، وذلك بأن يخبر بما يوافق حقيقة السلعة أو الخدمة، فالصدق ركيزة أساسية في جميع المعاملات، لاسيما في البيع، فقد قال النبي- - -: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما))( ). ومن لوازم تحري الصدق والعمل به تجنب الإطراء والمبالغات، في وصف السلع والخدمات( ) فإن تعاطي ذلك مجانب للصدق والبيان، وقد قال النبي : ((ولا يُنفِّق بعضكم لبعض))( )، أي: لا يروجها ليرغب فيها السامع، فيكون قوله سبباً لابتياعها( ). وقد عدّ بعض أهل العلم الثناء على السلعة بما هو فيها نوعاً من الهذيان الذي ينبغي التحفظ منه( )، وضابط هذا أنه يحرم على البائع كل فعل في المبيع يُعْقِبُ لآخذه ندماً( ).
ثالثاً: أن يتجنب الغش والتدليس في إعلانه ودعايته، وذلك بأن يزين السلعة أو يخفي عيوبها أو يمدحها بما ليس فيها، فإن ذلك كله محرم كما تقدم بيانه( ).
رابعاً: ألا يكون في إعلانه ودعايته ذم لسلع غيره وخدماتهم، أو تنقّص لهم، أو إضرار بهم بغير حق؛ لقول النبي- -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))( )، والضابط في ذلك أن كل ما لو عومل به شقَّ عليه وثقل ينبغي ألا يعامل به غيره( ). ولقوله- - : ((لا ضرر ولا ضرار))( ).
خامساً: ألا يكون في إعلانه ودعايته ما يدعو إلى الإسراف والتبذير؛ لكونهما من المناهي الشرعية، قال الله - تعالى-: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾( )، وقال - تعالى - ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26 ) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾( ).
سادساً: ألا يكون فيهما هتك لحرمة الشرع المطهر، بأن يكون فيهما ترويج للمحرمات، أو أن يصاحبهما شيء من المنكرات، كالموسيقى والغناء، أو إظهار النساء، وما أشبه ذلك من المنهيات( ).
سابعاً: ألاّ تكون الدعاية والإعلان باهظي التكاليف يتحمل عبئها المستهلك، بل يجب أن يكونا قاصرين على ما يحصل به المقصود من التعريف بالسلع والخدمات من غير زيادة تجر إلى رفع أسعارها( ).
المبحث الرابع: الإعلانات والدعايات الترغيبية الكاذبة أو المضللة
المطلب الأول: تعريفهما
الإعلانات والدعايات الكاذبة هي التي يخبر فيها المعلن أو المروّج عن السلع أو الخدمات بما يخالف الواقع والحقيقة.
أما الإعلانات والدعايات المضللة فهي التي يخدع فيها المعلن أو المروّج الناس ويغرّر بهم؛ ليوقعهم في شراء ما يروّجه من بضائع وخدمات( ).
المطلب الثاني: حكمهما والأثر المترتب عليهما
[بعد تبين حقيقة هذين النوعين من الإعلانات والدعايات يتضح أنهما محرمان؛ لما فيهما من الكذب والغش والتدليس، وقد تقدمت أدلة ذلك( )].
وقد اختلف أهل العلم في الأثر المترتب على الكذب والخداع والتدليس في البيع على قولين:
القول الأول: أن للمشتري الخيار في إمضاء العقد أو فسخه إذا دلس عليه البائع أو كذب.
وهذا قول بعض الحنفية( )، وهو مذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: أنه ليس للمشتري الخيار في إمضاء العقد أوفسخه، وإن دُلس عليه أو كُذب أو خُدع، ما لم يشترط عدم ذلك.
وهذا مذهب الحنفية( ).
أدلة القول الأول:
الأول: قول الله - تعالى - : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - جلَّ وعلا - اشترط لحل أكل المال بالتجارات التراضي من المتعاقدين، ومعلوم أن من غُشَّ أو دلس عليه أو خُدِع، وهو غير عالم بذلك لن يرضى، فلا يلزم بما لم يرض، بل له الخيار( ) في إمضاء العقد أو فسخه( ).
الثاني: قول النبي- -: ((لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أثبت الخيار لمن غرّ بالتصرية، فدل ذلك على ثبوت الخيار
لكل من خُدع أو دُلس عليه أو غُشَّ أو غُرِّرَ بالفعل أو القول( ). فهذا الحديث أصل في النهي عن جميع صور الغش والتدليس، وإثبات الخيار لمن دُلِّس عليه أو غُشَّ في شيء من البياعات( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بمناقشات عديدة ترجع إلى أمرين:
الأول: ضعف الحديث؛ لما فيه من الاضطراب، ففي بعض رواياته: ((وصاعَ تمرٍ))( )، وفي بعضها: ((وصاعاً من طعام، لا سمراء))( )، وفي بعضها: ((صاعاً من تمر، لا سمراء))( )، وغير ذلك من الاختلاف( ).
الثاني: مخالفته للأصول من عدة وجوه( )، أبرزها ما يلي:
الوجه الأول: مخالفته لما تقتضيه الأصول الكلية في باب التضمين والتغريم، وهي أن الجزاء إنما يكون بالمثل، وهنا لم يوجبه مع إمكانه( ).
الوجه الثاني: مخالفته لما تقتضيه القواعد من كون الضمان مقدراً بقدر الإتلاف، والحديث جعل القدر واحداً، وهو الصاع لا يزيد بزيادة اللبن، ولا ينقص بنقصانه، وهذا مخالف للأصول( ).
الوجه الثالث: أنه لما عدل عن المثل، وأخذ بالقيمة جعل القيمة تمراً أو طعاماً، والقاعدة أن القيمة إنما تكون ذهباً أو فضة( ).
الوجه الرابع: أنه جعل الخيار فيه ثلاثاً مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث( ).
الإجابة:
وأجيب على هذه المناقشات بما يلي:
أولاً: أن الحديث ثابت في الصحيحين( )، وما ذكر من اضطراب فليس مؤثرا،ً إذ يمكن الجمع، فإن تعذر فيصار إلى الترجيح بينها، والعمل بالراجح منها( ).
ثانياً: ما ذكر من كون الحديث مخالفاً للأصول يجاب عنه من طريقين:
الأولى: على التسليم بأن الحديث مخالف للأصول، فإن ذلك لا يوجب رد الحديث، إذ إن الحديث إذا ثبت عن النبي- - فإنه يكون أصلاً بنفسه( ).
الثانية: عدم التسليم بأن الحديث مخالف للأصول، بل هو موافق لقواعد الشريعة وأصولها( ).
الثالث: قول النبي - -: ((لا تلقوا الجلَب( )، فمن تُلُقِّي فاشتري منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار))( ).
جه الدلالة:
ن النبي - - أثبت الخيار لمن تلقي من الجلَب، واشتري منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر؛ لما في ذلك من التدليس عليهم والتغرير بهم( ).
دلة القول الثاني:
لأول: قول النبي - - للرجل الذي يخدع في البيوع: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة( )))( ).
جه الدلالة:
أن النبي - - أمر الذي يخدع بأن يشترط عدم الخداع،فدلّ ذلك على أنه لا خيار بالخداع والتدليس، إلا إذا شرطه( ).
لمناقشة:
وقش هذا الاستدلال بثلاثة أمور:
1- أن أمر النبي - - له بأن يقول: ((لا خلابة)) لا يدل على عدم ثبوت خيار الخداع والتدليس إلا بالشرط، فالأحاديث الأخرى دلت على أنه ثابت للمشتري بلا شرط، وإنما أمره بذلك؛ ليطلع البائع أنه ليس من ذوي البصائر في أمور البيع فينصح له، ويمكن أن يقال: إن أمر النبي - - بذلك تأكيد لما يقتضيه عقد البيع من السلامة، وعدم الخديعة.
2- أن الخديعة المذكورة في هذه القصة يحتمل أن تكون في العيب أو في الكذب أو في الثمن أو في الغبن، فحملها على أحد هذه الاحتمالات بخصوصه يحتاج إلى دليل( )، ومن المعلوم أن الحنفية يثبتون خيار العيب بلا شرط مع احتمال دخوله في هذا الحديث( ).
3- أن هذا الحديث ليس قضية عامة تحمل على العموم( )، بل هو قضية عين خاصة( )، فيحتج بها في حق من كان بصفة صاحب القصة( ).
الثاني: أن مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع، وحصول التدليس، والخداع لا تنعدم به صفة السلامة، وإذا كان كذلك لم يثبت الخيار( ).
المناقشة:
نوقش هذا التعليل : بأن الأصل في إباحة أكل المال في البياعات والتجارات التراضي كما قال الله - تعالى - : ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
ومن خُدع أو دُلّس عليه في البيوع، وهو غير عالم بذلك لم يحصل منه التراضي المشروط( ) وإن كانت صفة السلامة لم تنعدم بذلك.
الثالث: أن التدليس والخديعة إنما وقعا بسبب تفريط المشتري واغتراره، فلا يثبت بها الخيار إلا بالشرط( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن الأصل في البيوع السلامة من الخديعة والغش والتدليس، فإذا وقع ذلك، ولم يعلم به المشتري، فإن له الخيار، كما دلت عليه النصوص.
الترجيح:
بعد هذا العرض للقولين وأدلة كل قول يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من إثبات الخيار بالتدليس والغش أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشات، ولما في ذلك من العدل، وحفظ الأموال، وحمل الباعة على الصدق والبيان، وترك كل غش وتدليس وخداع، والله - تعالى - أعلم.
وعلى هذا فإن الأثر المترتب على الكذب أو التضليل في الإعلانات والدعايات الترغيبية هو أن للمستهلك المغرور بهذه الدعايات أو الإعلانات الكاذبة أو المضللة الخيار في إمضاء العقد أو فسخه؛ لما فيها من التدليس والغش والكذب والخداع.
الفصل السادس: رد السلعة الترغيبي
المبحث الأول: تعريف الرد، وأنواع الرد الترغيبي
المطلب الأول: تعريف الرد
أولاً: تعريفه لغة
الرد مصدر للفعل الثلاثي المضعّف ردّ، و((الراء، والدال أصل واحد مطرّد منقاس، وهو رَجْع الشيءِ))( )، فرد الشيء هو إرجاعه( ).
ثانياً: تعريفه اصطلاحاً
الرد في اصطلاح الفقهاء: للرد عند الفقهاء معانٍ متعددة تختلف باختلاف أبواب الفقه، إلا أنها على اختلافها فهي لا تخرج عن المعنى اللغوي للرد.
والذي يتعلق بموضوع البحث من هذه المعاني هو الرد في باب البيع، وهو فسخ العقد، ورجوع كل طرف بما بذل. فيرجع المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري( ). ومحل بحث الفقهاء لأحكام رد المبيع باب الخيار( ).
الرد في اصطلاح التسويقيين: تقدم أن الرد الترغيبي عند التسويقيين هو تمكين المشتري من إرجاع السلع، وأخذ ثمنها، أو إبدالها، أو تقييد ثمنها لحساب المشتري، بحيث يتمكن من استعماله في شراء سلعة أخرى متى شاء( ).
المطلب الثاني: أنواع الرد الترغيبي
للرد الترغيبي نوعان:
النوع الأول: رد السلعة وأخذ ثمنها
وهذا النوع يمنح فيه البائع المشتري حق إرجاع السلعة وأخذ الثمن، وهذا الحق إما أن يكون مؤبداً بأن يقول البائع للمشتري: لك حق رد السلعة أبداً أو في أي وقت؛ وإما أن يكون معلقاً بالمشيئة بأن يقول: متى شئت أو متى أردت.
النوع الثاني: رد السلعة وتبديل غيرها بها، أو تقييد ثمنها لحساب المشتري
وفي هذا النوع من الرد الترغيبي يمنح البائع المشتري حق إرجاع السلعة إذا رَغِبَ عنها، لكن ليس له أن يأخذ ثمنها، بل يُخير بين أن يأخذ بثمن السلعة المردودة ما شاء من السلع المعروضة في محل البائع؛ وبين أن يُقيِّد البائع ثمنها لحساب المشتري، ويعطيه وصلاً يبين فيه أن للمشتري مبلغاً مالياً محدداً قدره، له أن يستفيد منه في شراء ما شاء من السلع متى شاء.
المبحث الثاني: الأصل في الرد
المطلب الأول : لزوم عقد البيع
العقود من حيث لزومها قسمان:
الأول: عقود لازمة: وهي التي لا يملك فيها أحد العاقدين الفسخ دون رضا الآخر كالبيع، والإجارة، ونحو ذلك.
الثاني: عقود جائزة: وهي التي يملك كل من العاقدين فيها الفسخ دون توقف على رضا الآخر، وذلك كالشركة، والوكالة، والوديعة، وما أشبه ذلك( ).
والبيع عقد لازم( )، دلّ على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
أولاً: من الكتاب
الأول: قول الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - تعالى - أمر بالوفاء بالعقود، وعقد البيع لا يتحقق الوفاء به إلا بتحصيل مقصوده، وهو ثبوت الملك ولزومه( ).
الثاني: قول الله - تعالى - : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - جلَّ وعلا - علّق إباحة أكل الأموال في التجارات بالتراضي، فدلّ ذلك على أنه إذا وجد التراضي لزم العقد؛ لأنه رتب على العقد مقتضاه، وهو التصرف في المعقود عليه، والتصرف فرع اللزوم، والأصل ترتب المسببات على أسبابها( ).
الثالث: قول الله - تعالى - ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - سبحانه - أمر بالإشهاد؛ لتوثيق العقد، ولو لم يكن لازماً لما احتاج إلى توثيق، إذ إن عدم اللزوم يسقط معنى التوثيق( ).
ثانياً: من السنة
الأول: قول النبي - -: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل الخيار للمتبايعين قبل التفرق، فإذا تفرقا بطل الخيار ولزم البيع، فدلّ ذلك على أنه عقد لازم( ).
الثاني: قول النبي - - للذي كان يخدع في البيوع: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة))( ).
وجه الدلالة:
أن البيع لو لم يكن لازماً لما وجهه النبي - - إلى اشتراط ذلك، فعُلِم بهذا أن عقد البيع عقد لازم( ).
ثالثاً: الإجماع
حكى غير واحد من أهل العلم( ) أنه لا خلاف بين العلماء في أن عقد البيع عقد لازم.
المطلب الثاني : أسباب الرد في عقد البيع
تقدم في المسألة السابقة أن الأصل في البيع اللزوم، إلا أن هناك أسباباً أثبت بها الشرع حق الرد أو الفسخ للعاقدين أو لأحدهما،فإذا وجد شيء من تلك الأسباب في العقد فإنه يسلبه صفة اللزوم( ). فتبين بهذا أن الأصل لزوم عقد البيع، وأن الرد عارض( ).
وبتأمل الأسباب التي تسلب العقد صفة اللزوم، وتوجب الرد، أو تبيحه على اختلافها، وتنوعها يتبين أنها ترجع إلى أحد ثلاثة أمور:
الأول: تخلف شرط من شروط العقد.
الثاني: وجود سبب من أسباب فساد العقد.
الثالث: الخيارات الثابتة في عقد البيع.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للرد الترغيبي
الرد الترغيبي الذي يستعمله التجار وأصحاب المحلات لترويج سلعهم نوعان:
النوع الأول: رد السلعة وأخذ ثمنها.
النوع الثاني: رد السلعة واستبدال غيرها بها، أو تقييد ثمنها لحساب المشتري.
وسأحاول بحث كل نوع على حدة.
المطلب الأول: رد السلعة وأخذ ثمنها
المسألة الأولى: تخريجه الفقهي وحكمه
هذا الأسلوب الترغيبي يستعمل كثيراً في بيع الملابس، والأجهزة الكهربائية، وما أشبه ذلك، فيتم العقد على أن للمشتري رد السلعة إذا كانت لم تستعمل خلال مدة زمنية محددة أو مطلقة.
وبهذا يتبين أن هذا النوع من الرد الترغيبي للسلع يندرج تحت ما يسميه الفقهاء خيار الشرط، وهو خيار يثبت للعاقدين، أو لأحدهما حق فسخ العقد بالاشتراط( )، فحكم هذا النوع من الرد الترغيبي مبني على حكم اشتراط الخيار.
وبالنظر إلى كلام أهل العلم في خيار الشرط يتبين أن لهم فيه قولين:
القول الأول: جواز اشتراط الخيار.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وقال ابن رشد: ((أما جواز الخيار فعليه الجمهور))( ).
القول الثاني: عدم جواز اشتراط الخيار.
وهذا قول ابن حزم من الظاهرية( ).
أدلة القول الأول:
الأول: قول النبي - -للرجل الذي يخدع في البيوع: ((من بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار...))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل للمشتري اشتراط الخيار في هذا الحديث، فدلّ ذلك على جوازه( ).
الثاني: قول النبي - -: ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أثبت الخيار للمتبايعين قبل التفرق، وبعده إذا كان البيع بيع خيار، كما جاء مصرحاً في بعض روايات هذا الحديث، فدلّ ذلك على أن اشتراط الخيار جائز( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن المراد ببيع الخيار: هو قطع الخيار، وإمضاء البيع قبل التفرق، فالحديث أثبت للمتعاقدين الخيار ما لم يتفرقا، فإن اختارا، أو أحدهما إمضاء البيع قبل التفرق لزم في حقهما أو في حق أحدهما( )، ويشهد لهذا المعنى بعض روايات الحديث التي هي في الحقيقة تفسير لمعنى الاستثناء في هذه الرواية، ففي بعض الروايات قال النبي - -: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار))( )، وفي رواية أخرى قال النبي - -: ((إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع))( ).
الثالث: قول النبي - -: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحل حراماً))( ).
وجه الدلالة:
أن شرط الخيار من الشروط الجارية في بيوع المسلمين، وهو لايُحِلُّ حراماً ولا يحرِّم حلالاً، فهو شرط جائز لا حرج فيه( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
1-أن الحديث ضعيف لا يصح، فلا يصلح الاحتجاج به( ).
الإجابة:
أجيب : بأن الحديث جاء من طرق عديدة يشدّ بعضها بعضاً يبلغ بها درجة الاحتجاج، وقد بينت ذلك في تخريجه( ).
2-أن شروط المسلمين هي ما جاء القرآن والسنة بإباحتها نصاً؛ لقول النبي : ((كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل))( )، واشتراط الخيار ليس في كتاب الله - تعالى -، ولا في شيء من السنة، فوجب بطلانه، وعدم جوازه( ).
الإجابة:
أجيب: بأن قول النبي - -: ((ليس في كتاب الله)) يحتمل أحد أمرين( ):
1- أن الشرط الذي ليس في كتاب الله هو المخالف لحكم الله - تعالى -.
2- أن ماليس في كتاب الله هو ما لم يأت ذكره بعمومه ولا بخصوصه، وخيار الشرط جاءت به الأدلة عموماً وخصوصاً.
الرابع: الإجماع على جواز خيار الشرط، وقد حكاه غير واحد من أهل العلم( )، قال النووي - رحمه الله -: ((واعلم أن أقوى ما يحتج به في ثبوت خيار الشرط الإجماع، وقد نقلوا الإجماع فيه، وهو كافٍ))( ).
المناقشة:
نوقش: بأن في حكاية الإجماع في هذه المسألة نظراً، وذلك أن في المسألة خلافاً قديماً، فقد ذهب ابن شبرمة، والثوري إلى أنه لا يجوز اشتراط الخيار للبائع بحال( )، وهو قول ابن حزم من الظاهرية( )، فلا يستقيم مع هذا إجماع.
أدلة القول الثاني:
الأول: قول النبي - -: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))( ).
وجه الدلالة:
أن اشتراط الخيار ليس من الشروط التي جاءت في كتاب الله ولا في شيء من سنة رسول الله - - فهو شرط باطل( ).
المناقشة:
تقدمت مناقشته عند ذكر أدلة القول الأول( ).
الثاني: قول النبي - -: ((لا يتفرق المتبايعان عن بيع إلا عن تراض))( ).
وجه الدلالة:
أن نهي النبي - - عن التفرق عن البيع قبل التراضي يدل على أنه لا يجوز اشتراط الخيار بعد المجلس؛ لأن بقاء الخيار بعد التفرق ينافي التراضي( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بعدم التسليم، وذلك أن خيار الشرط لا ينافي التراضي؛ لأنه لا يثبت في العقد، إلا برضا المتبايعين، فإذا شرطاه أو أحدهما ثم تفرقا، فقد تفرق المتبايعان عن تراضٍ.
الثالث: إثبات خيار الشرط ينافي مقتضى عقد البيع؛ لأن مقتضاه نقل ملك البائع، وإيقاع ملك المشتري، واشتراط الخيار لا يحصل به ذلك، فلا يصح اشتراطه( )؛ لأنه يمنع من ترتب آثار العقد عليه.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن أهل العلم مختلفون في انتقال الملك زمن خيار الشرط، فمنهم من قال بانتقال الملك( )، ومنهم من جعله موقوفاً( ) إلى انقضاء مدة الخيار، أو
اختيار الإمضاء أو الفسخ، فعلى القول الأول ينتفي ما ذكروه من منافاة مقتضى العقد، وعلى القول الثاني يكون انتقال الملك موقوفاً؛ لوجود مانع من الانعقاد، وهو اشتراط الخيار، وهذا لا يبطل العقد، ولا ينافي مقتضاه؛ لأنه إذا زال المانع ترتبت على العقد آثاره.
الترجيح :
بعد عرض أدلة الفريقين فالذي يظهر رجحانه - والله أعلم بالصواب -هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لقوة أدلتهم، وضعف ما استدل به القائلون بعدم جواز خيار الشرط.
وعلى هذا تكون هذه الصورة من الرد الترغيبي مباحة؛ لأن حقيقتها بيع شُرِط فيه الخيار، وذلك جائز على الراجح.
المسألة الثانية: المدة الزمنية لهذه الصورة من الرد الترغيبي
الفرع الأول: حكم زيادة المدة على ثلاثة أيام
اتفق أهل العلم على جواز اشتراط الخيار في المبيع ثلاثة أيام( ) ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها راجعة إلى تقدير المتعاقدين، فما اتفقا عليه من المدة المعلومة جاز، وإن طالت.
وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، ووجه عند الشافعية( )، وهو مذهب الحنابلة( ).
القول الثاني: أنها لا تحد بثلاثة أيام، بل تقدر بقدر ما يحتاج إليه في الاختيار، وذلك يختلف باختلاف المبيعات، ففي الدور والأراضي شهر ونحوه، وفي الدواب والثياب ثلاثة أيام، وفي الفواكه ساعة.
وهذا هو المذهب عن المالكية( ).
القول الثالث: لا يجوز أن تكون مدة الخيار أكثر من ثلاثة أيام.
وهذا مذهب الحنفية( )، والشافعية( ).
أدلة القول الأول:
الأول: قول الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾( ).
وجه الدلالة:
أن الله - تعالى - أمر بالوفاء بالعقود، وهذا يشمل الوفاء بأصل العقد، ووصفه، فيجب الوفاء بما عقده، وارتبط به والتزم به، وبكل ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع أو شرط ونحو ذلك( )، فدلّ ذلك على أن الأصل في الشروط الحلّ، فلا مانع من أن تكون مدة الخيار طويلة معلومة إذا اتفق عليها العاقدان( ).
الثاني: قول النبي - -: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أخبر أن المسلمين ثابتون على شروطهم ملتزمون بها، لا يرجعون عنها إذا لم تحلّ حراماً أو تحرم حلالاً( )، ويتأكد هذا المعنى بالرواية الأخرى"المسلمون عند شروطهم"( )، أي: ((إنما تظهر حقيقة إيمانهم عند الوفاء بشروطهم))( )، فدل ذلك على جواز كون مدة الخيار ترجع إلى ما يتفق عليه العاقدان، وإن طالت( ).
الثالث: ما روي عن ابن عمر - - أنه باع جارية، وجعل الخيار إلى شهرين( ).
المناقشة:
نوقش استدلالهم هذا بأمور:
1-ضعف هذا الأثر، وعدم ثبوته، كما هو مبين في تخريجه.
2- أن ما ذكر في الأثر من جعل الخيار للمشتري إلى شهرين لم يكن على وجه الشرط، بل كان وعداً بالإقالة إلى شهرين، فلا دليل فيه( ).
3- أن الخيار المشترط إلى شهرين يحتمل أن يكون خيار الرؤية، أو خيار العيب( ).
الرابع: أن مدة الخيار حق مقدَّر يعتمد على الشرط، فيرجع في تقديره إلى من شرطه، كالأجل( ).
الخامس: أن مدة خيار الشرط مدة ملحقة بالعقد، فجاز ما اتفقا عليه، كالأجل( ).
السادس: أنه تجوز الزيادة على ثلاثة الأيام في خيار الشرط، قياساً على خيار العيب والرؤية( ).
السابع: أن الإجماع قد انعقد على جواز اشتراط الخيار في ثلاثة( ) أيام، فما تراضى عليه المتعاقدان من المدة حكمه حكم ثلاثة الأيام إلا أن يدل الدليل على المنع، ولا دليل يعتمد هنا.
أدلة القول الثاني:
أن النبي _ - أثبت الخيار للمتعاقدين؛ لتأمل المبيع واختياره والمشورة فيه؛ فإذا كان كذلك وجب أن يكون ذلك محدوداً بقدر ما يختبر فيه المبيع، ويرتأى فيه ويستشار، وذلك يختلف باختلاف المبيعات والسلع( ).
المناقشة:
نوقش قولهم هذا: بأن تقدير مدة الخيار غير منضبط؛ لأن الحاجة خفيّة مختلفة، فلا يصح ربط الحكم بها( ).
ويناقش أيضاً : بأن ربط مدة الخيار بالحاجة مثار نزاع بين المتعاقدين؛ لكونها غير منضبطة.
أدلة القول الثالث:
الأول: قول النبي - - للرجل الذي كان يخدع في البيوع: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل له الخيار ثلاثة أيام، فلا يزاد عليه( )؛ لأن ((التقدير الشرعي إما أن يكون لمنع الزيادة والنقصان، فاشتراط الخيار دون ثلاثة أيام يجوز، فعرفنا أنه لمنع الزيادة، إذ لو لم تمنع الزيادة لم يبق لهذا التقدير فائدة، وما نص عليه صاحب الشرع من التقدير لا يجوز إخلاؤه عن الفائدة))( ).
المناقشة:
نوقش استدلالهم بأربعة أمور:
1- أنه ليس في الحديث منع من الزيادة على ثلاثة أيام بوجه من الوجوه، فلم يمنع النبي - - من الزيادة على ثلاثة أيام، ولم يجعلها حداً فاصلاً بين ما يجوز من المدة وما لا يجوز( ).
2- ظاهر الحديث أن ثلاثة أيام ثابتة لهذا الرجل، سواء اشترطها أو لم يشترطها؛ لأنه كان يخدع في البيع، فجعل له النبي - - هذه المدة بمجرد العقد( ).
3- ظاهر الحديث أن ثلاثة أيام ثابتة لهذا الرجل إذا قال: لا خلابة، سواء رضي معامله أم لم يرضَ( ).
4- تحديد الخيار بثلاثة أيام في هذا الحديث خاص بهذا الرجل، أو بمن كان بصفته( )، ويؤيد التخصيص أن هذا الرجل أدرك زمن عثمان بن عفان - - حين فشا الناس وكثروا، وكان يتبايع البيع في السوق، ويرجع إلى أهله، وقد غبن غبناً قبيحاً، فيرجع به على من باعه، فيقول البائع: والله لا أقبلها، فيشهد له أصحاب رسول الله - - أن النبي قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرد له البائع دراهمه( ).
الثاني: قول النبي - -: ((لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها : إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - شرط في المصراة الخيار ثلاثة أيام بعد البيع، فلا يزاد على ما حدّه النبي - - ( ).
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال: بأن الرد في المصراة ليس سببه خيار الشرط، بل سببه التدليس والخداع( )، فللمشتري الخيار في الرد، سواء اشترط الخيار أم لم يشترطه، ثم إن التقدير بالثلاثة هنا تقدير من الشارع لمعرفة التصرية، فإنها لا تعرف قبل مضيها غالباً( ).
الثالث: ما روي عن أنس - - أن رجلاً اشترى من رجل بعيراً، وشرط
الخيار أربعة أيام، فأبطل رسول الله -- البيع، وقال: ((الخيار ثلاثة أيام))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أبطل بيع من اشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، فدل على عدم جوازه( ).
المناقشة:
نوقش هذا الدليل: بأنه ضعيف لا تقوم به حجة( )، كما هو مبيّن في تخريجه.
الرابع: قول النبي - -: ((الخيار ثلاثة أيام))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - حدّ الخيار بثلاثة أيام، فلا يصح الزيادة على ذلك( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأنه ضعيف، فلا يحتج به( )، وقد بينت ذلك عند تخريجه.
الخامس: أن النبي - - نهى عن بيع الغرر( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى عن بيع الغرر، واشتراط الخيار في البيع نوع من الغرر، وبزيادة المدة يزداد الغرر، فجاز ما ورد به النص، وهو ثلاثة أيام، ومنع ما زاد؛ لئلا يتمكن الغرر( ).
المناقشة:
نوقش هذا : بأن اشتراط الخيار ليس من الغرر في شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ذلك: ((فأما كون العقد جائزاً يجوز أن يلزم إن وجد شرط لزومه، ويجوز أن لا يلزم، أو كونه يجوز أن ينعقد إن شرط انعقاده، ويجوز أن لا ينعقد، فليس هذا مما دخل في نهيه - -))( ) أي عن الغرر، ثم قال: ((وليس هذا من القمار؛ لأن العقد إن حصل أو لزم، حصل المقصود بحصوله ولزومه، وإن لم يحصل، أو لم يلزم لم يحصل المقصود بحصوله ولزومه، فعلى التقديرين لا يكون أحد المتعاقدين قد أكل مال الآخر بالباطل أصلاً، ولا قمر أحدهما الآخر))( ).
السادس: قول عمر بن الخطاب - -: ((ما أجد لكم شيئاً أوسع مما جعل رسول الله - - لحبان بن منقذ، إنه كان ضرير البصر، فجعل له رسول الله - - عهدة ثلاثة أيام، إن رضي أخذ، وإن سخط ترك))( ).
وجه الدلالة:
أن عمر بن الخطاب - - فهم من جعل النبي - - الخيار ثلاثة أيام لحبان بن منقذ أنه لا تجوز الزيادة عليها، حيث جعله أوسع شيء في الباب( ).
المناقشة:
نوقش هذا: بأنه لم يثبت فلا يحتج به( )، وقد بينت ذلك في تخريجه.
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو إجازة الخيار إلى أي مدة اشترطها العاقد، بشرط أن تكون معلومة، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المناقشات، ولأن الأصل في المعاملات الحل ما لم يرد دليل المنع، والله أعلم.
الفرع الثاني: حكم تأبيد مدة الرد أو تعليقها بالمشيئة
من وسائل الترغيب والتحفيز على الشراء التي يستعملها بعض التجار لاسيما الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى إعطاء المشتري حق فسخ العقد بإرجاع السلعة المعقود عليها، وأخذ الثمن مدة مؤبدة أو مجهولة، كتعليقها على المشيئة ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم الجواز.
وهو مذهب الحنفية( )، والمالكية ( )، والشافعية( )، والمذهب عند الحنابلة( ).
القول الثاني: الجواز.
وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد( ).
أدلة القول الأول:
الأول: إجماع أهل العلم( ) على بطلان شرط الخيار مدة مجهولة.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن هذا الإجماع غير ثابت، إذ إن الخلاف في ذلك قائم، كما سبقت الإشارة إليه في حكاية الأقوال في المسألة.
الثاني: أن مدة خيار الشرط مدة ملحقة بالعقد، فلا تجوز معه الجهالة كالأجل( )؛ لأن ذلك يفضي إلى الغرر الذي لا يجوز في البيوع( ).
الثالث: أن تأبيد مدة الخيار يقتضي المنع من التصرف في المبيع على الأبد، وهذا ينافي مقتضى عقد البيع( ).
أدلة القول الثاني:
قول النبي - -: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً، أو أحلّ حراماً))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أباح الشروط في العقود إلا إذا أحلّت حراماً، أو حرمت حلالاً، وتأبيد الخيار أو تعليقه بالمشيئة لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بعدم التسليم إذ إن اشتراط التأبيد في الخيار، أو جعله مجهولاً يفضي إلى الغرر، وقد نهى النبي - - عن بيع الغرر( )، سواء كان الغرر في الثمن أو المثمن أو الأجل( ) أو نحو ذلك. فجعل الخيار مؤبداً أو مجهولاً يدخل في قوله - -: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط))( ).
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من هذين القولين - والعلم عند الله - هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، ولأن القول بجواز تأبيد الخيار يفضي إلى تغيير حقيقة عقد البيع من كونه لازماً إلى كونه جائزاً.
الفرع الثالث: حكم عدم تحديد المدة
من الصور المستعملة في هذا النوع من الرد الترغيبي هو أن يشترط المشتري الخيار دون تحديد مدة زمنية معينة، وهو ما يسميه الفقهاء ((الخيار المطلق)) أي: الذي لم تذكر فيه مدة الخيار، أو لم تحدد( ).
وفي جواز هذه الصورة من صور الرد الترغيبي قولان في الجملة:
القول الأول: أنها لا تجوز.
وهذا هو مذهب الحنفية( )، والشافعية( )، وهو المذهب عند الحنابلة( ).
القول الثاني: أنها تجوز.
وهؤلاء اختلفوا في تحديد المدة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه تحدد مدة الخيار بقدر ما يحصل به اختبار السلعة. وهذا مذهب المالكية( ).
الثاني: أنه لا يقيد ما أطلقاه، بل هما على خيارهما أبداً أو يقطعاه. وهذا القول هو الرواية الثانية عن أحمد( ).
الثالث: أنه يثبت لهم الخيار ثلاثاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية( ).
أدلة القولين:
استدل أًصحاب القولين في هذه المسألة بنفس أدلة المختلفين في حكم الجهالة في مدة الخيار أو تأبيدها، إلا أن المالكية لما كان قولهم هنا مخالفاً لقولهم في تلك المسألة فإنهم عللوا اختيارهم الجواز في هذه المسألة بأن الحد الذي تختبر فيه السلعة المبيعة يرجع في تحديده إلى العرف، قالوا: فإذا أخل العاقدان بذكر مدة الخيار فإنهما يكونان قد دخلا على العرف، والعادة( ).
المناقشة:
نوقش تعليل المالكية: بأن الرد إلى العادة لا يصح في مثل هذا؛ لأنه يفضي إلى التنازع، وبأنه لا عادة في الخيار يرجع إليها( ).
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة - والله أعلم - أنه لا يجوز اشتراط الخيار المطلق؛ لما يفضي إليه من الجهالة والغرر والنزاع.
المسألة الثالثة: السلع التي يجوز فيها هذا النوع من الرد الترغيبي
إن من المهم في بحث هذا النوع من أنواع الحوافز الترغيبية تحديد السلع التي يجوز فيها استعمال هذا الحافز والسلع التي لا يجوز استعماله فيها. وتحديد ذلك مبني على معرفة كلام أهل العلم فيما يثبت فيه خيار الشرط من البيوع وما لا يثبت، وعند النظر في كلامهم يتبين أنهم يرون جواز خيار الشرط في بيع جميع السلع، إلا ما يشترط فيه التقابض قبل التفرق( )، فكل بيع يشترط لحصته قبض عوضه فإنه لا يجوز فيه استعمال هذه الصورة من الرد الترغيبي؛ لأن ما كان كذلك فإنه لا يحتمل التأجيل، ولأن المقصود من اشتراط القبض أن لا يبقى بين العاقدين عُلْقة بعد التفرق،وثبوت الخيار يبقي بينهما عُلَقاً، فمنع منه احترازاً من الربا( ).
وبهذا يتبين أنه لا يجوز استعمال هذه الصورة من الرد الترغيبي في بيع الذهب والفضة، لكون التقابض قبل التفرق شرطاً فيها، لقول النبي - -: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد))( )، فالمراد بقوله - - في الحديث: ((فإذا اختلفت... الخ)) القبض ( ).
ولما كان الراجح من أقوال أهل العلم أن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم نقد مستقل بذاته يجري عليه ما يجري على الذهب والفضة( )، فإن شراء الذهب أو الفضة بنقد يكون كشراء الفضة بالذهب أو العكس، يجب فيه التقابض، ولا يجوز فيه خيار الشرط.
المطلب الثاني: رد السلعة واستبدال غيرها بها، أو تقييد ثمنها لحساب المشتري
يعمد كثير من أصحاب المحلات التجارية في الترويج لمحلاتهم وسلعهم إلى منح المشتري حق رد السلعة واستبدال غيرها بها من السلع الموجودة في المحل خلال فترة زمنية محددة، سواء كانت السلعة البديلة من نفس نوع الأولى، أو من نوع آخر، وسواء كانت واحدة أو متعددة، وسواء كان ثمنها مساوياً لثمن الأولى، أو أقل، أو أكثر؛ على أنه إذا كان ثمنها أقل يمكّن المشتري من أخذ ما شاء من السلع بقدر ما يعتاض به عما بقي له من ثمن السلعة الأولى. وإذا كان ثمن السلعة البديلة أكثر من ثمن الأولى دفع المشتري فرق الثمن. فإذا لم يرغب المشتري في أخذ سلعة بديلة وقت الرد، إما لعدم وجود ما يريده من السلع، أو لسبب آخر، فإن البائع يقيد ثمن السلعة المردودة لحساب المشتري، على أنه متى شاء اشترى بذلك ما شاء من السلع.
وهذا النوع من الرد الترغيبي له صورتان:
الأولى: أن يكون مشروطاً في العقد.
الثانية: أن يكون غير مشروط في العقد.
ولكل صورة توصيف فقهي تختص به.
المسألة الأولى: أن يكون الرد الترغيبي مشروطاً
الفرع الأول: واقعها
واقع هذه الصورة أن يقول المشتري للبائع: أشتري هذه السلعة، على أن لي أن أردها خلال ثلاثة أيام مثلاً، وآخذ بثمنها ما أختاره من السلع، إما في الحال إن وجَدت ما أرغب في شرائه، أو فيما بعد. ولإثبات ذلك يعطي البائع المشتري سنداً يقيد فيه ثمن السلعة المردودة، ويبين فيه أن للمشتري الحق في الاستفادة من المبلغ المسجل على السند في أخذ ما شاء من السلع التي يتجر بها البائع.
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي
هذه الصورة من الرد الترغيبي تحتمل أحد تخريجين.
التخريج الأول: أن هذه الصورة من الرد الترغيبي هي في الحقيقة بيع بشرط.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: الخلاف في صحة هذا الشرط. فبالنظر إلى ضوابط أهل العلم في الشرط الصحيح والشرط الفاسد يمكن أن يقال: إن في هذا الشرط قولين:
القول الأول: أن هذا شرط صحيح.
القول الثاني: أن هذا شرط فاسد.
أدلة القول الأول:
الأول: قول النبي - -: ((المسلمون على شروطهم،إلا شرطاً حرّم حلالاً، أو أحلّ حراماً))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل الأصل في الشروط الصحة واللزوم، إلا ما كان منها مخالفاً لكتاب الله، أو لسنة رسوله - -( ).
الثاني: أن الأصل في المعاملات الحل، إلا إذا قام الدليل على التحريم، ولا دليل.
الثالث: القياس على خيار الشرط، بجامع دعاء الحاجة إلى التروي والنظر، فالحاجة في خيار الشرط داعية إلى النظر والتروي في إمضاء العقد أو فسخه، والحاجة داعية أيضاً في هذه الصورة إلى النظر والتأمل والتروي في إمساك المبيع أو تبديله.
الرابع: أنه بالنظر إلى كلام أهل العلم في ضابط الشرط الصحيح يتبين أن الشرط في هذه الصورة من الرد الترغيبي شرط صحيح، ويتضح ذلك بما يلي:
1- أن من ضوابط كون الشرط صحيحاً عند الحنفية أن يكون مما جرت عليه المعاملة بين الناس، فما جرى عليه العمل بين الناس من الشروط، فهو صحيح( )، والشرط في هذه الصورة هو مما جرى عليه التعامل بين الناس في أكثر الأسواق.
2- أن من ضوابط الشرط الصحيح عند المالكية أن لا يناقض الشرط مقصود العقد ومقتضاه، وأن يكون فيه مصلحة للعقد( )، وبالنظر إلى هذا الضابط يتبين صحة هذا الشرط؛ لكونه لا يناقض مقصود العقد، وفيه مصلحة للعقد.
3- أن من ضوابط الشرط الصحيح عند الشافعية( )، والحنابلة( ) أن يحقق الشرط مصلحة للعاقدين أو أحدهما. وبالنظر إلى هذا الشرط يتضح أنه يحقق مصلحة راجحة للمشتري، لاسيما إذا لم يوافق البائع على أن يشترط المشتري الخيار.
وأما الظاهرية فالأصل عندهم بطلان الشروط، إلا ما جاء في الكتاب والسنة جواز اشتراطه( )، وقد تقدم مناقشة قولهم هذا وبيان ضعفه( ).
ومما تقدم يمكن أن يقال: إن اشتراط المشتري تبديل السلعة المبيعة شرط صحيح، إلا على قول الظاهرية.
أدلة القول الثاني:
عمدة أصحاب هذا القول أن هذا الشرط شرط باطل داخل في قول النبي - -: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط))( )، ويتضح وجه بطلانه بما يلي:
1- أنه شرط يفضي إلى الغرر وجهالة المبيع، حيث إن المشتري إذا اختار تبديل السلعة لزمه أن يعتاض عنها بأخذ سلعة من السلع التي يتجر بها البائع، وهذه السلعة البديلة مجهولة. إما جهالة مطلقة فيما إذا كانت سلع البائع مختلفة متنوعة، وإما أن تكون مجهولة جهالة عين فيما إذا كان البائع يتّجر في نوع واحد من السلع، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يصح بيع المجهول( )، وأن ذلك داخل في نهي النبي - - عن بيع الغرر( ). ولذلك كان المذهب عند الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) أن ما أفضى إلى الجهالة والغرر من الشروط فهو فاسد.
المناقشة:
يناقش هذا بأمرين:
أ. أن الجهالة في المبيع منتفية، إذ إن المبيع معلوم فيما إذا لم يختر المشتري التبديل، أما إذا اختار رد السلعة فإن المشتري سيعقد على سلعة معلومة له وللبائع في وقت التبديل، فلا جهالة حينئذٍ، وعلى التسليم بأن في المبيع جهالة، فإنها جهالة غير مؤثرة؛ لأن القاعدة في الجهالة التي تمنع من صحة العقد أن تكون مؤدية إلى القمار والغرر( )، وهذه لاتؤدي إلى ذلك، فليست جهالة مؤثرة.
ب. أن الغرر الذي نهى عنه النبي - - في البيوع هو ما كان المبيع فيها متردداً بين أن يسلم للمشتري، فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يهلك المبيع، فلا يحصل المقصود بالعقد، وذلك كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها( ). أما هنا فالمشتري ليس مخاطراً، بل سيحصل له المقصود بالعقد على كل حال، فلا غرر إذاً.
2- أن هذا الشرط يفضي إلى المنازعات والتشاجر والاختلاف؛ لكونه شرطاً يفضي إلى جهالة المبيع( )، ولأن البيع فيه غير بات في المبيع، ولكون البائع قد لا يكون عنده من السلع ما يرغب المشتري في شرائه، وغير ذلك مما قد يبعث الخلاف والنزاع.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن إفضاء هذا الشرط إلى المنازعة فيه بعد؛ لكون المبيع معلوماً لهما، ولأن الاختيار فيه للمشتري وحده، ولأنه لا يلزم ببديل معين، بل يختار من سلع البائع ما شاء بقدر ثمن السلعة المردودة، فإذا لم يجد ما يرغب في شرائه، فهو بالخيار بين أن يمسك السلعة الأولى، وبين أن يردها، ويقيد البائع ثمنها في سند يعطيه المشتري؛ ليستفيد منه في شراء ما شاء من السلع التي يتجر بها البائع.
أما كون البيع غير بات في المبيع، فذلك نظير خيار الشرط، ومع ذلك لم يمنعه الشارع.
وعلى كل حال، فكل هذه الإيرادات التي تعد أسباباً لإثارة النزاع ليس منشؤها الشرط، بل منشؤها عدم الوفاء به، وهذا يطرأ على جميع العقود والشروط، ولم يكن سبباً لإفسادها.
3- أن هذا الشرط قد يتضمن إكراه المشتري على شراء مالا يرضاه؛ لاستنقاذ ثمن سلعته المردودة، فلا يكون بذلك قد حصل منه التراضي الذي تبنى عليه عقود المعاوضات( )، كما في قول الله - تعالى -: ﴿إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( ).
المناقشة:
يناقش هذا: بأن الإكراه على الشراء الذي تضمنه العقد في حال اختيار المشتري تبديل السلعة ليس إكراهاً ينافي التراضي الذي تبنى عليه المعاوضات، وذلك؛ لأن هذا الشرط قد رضي به المشتري، والتزم به أولاً دون إكراه، فلزوم الوفاء به لا يسمى إكراهاً، ثم إن للمشتري إمساك السلعة التي رضيها أولاً، فإذا
اختار تبديلها، فإنه لا يلزم بأخذ سلعة معينة، بل له اختيار ما شاء من سلع البائع بقدر ثمن السلعة المردودة، فهو لا يأخذ بديلاً إلا بتراضٍ منه ومن البائع، فلا إكراه حينئذٍ.
الترجيح:
وبعد هذا العرض لحجج القولين، فإن الأقرب إلى الصواب هو القول بصحة هذا الشرط؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، والله - تعالى - أعلم.
ثانياً: الاختلاف في لزوم هذا الشرط بناء على الخلاف في صحته.
فمن قال: إن الشرط صحيح، فالشرط عنده لازم يجب الوفاء به.
ومن قال: بأنه فاسد، فهو غير لازم، بل يحرم الوفاء به؛ لدخوله في قول النبي : ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط))( )، فكل شرط اشتمل على ما حرّمه الله ورسوله، فهو باطل( ) ((قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق))( ).
ثالثاً: الخلاف في جواز استعمال هذه الصورة من الرد الترغيبي:
فمن قال بصحة هذا الشرط فاستعمال هذه الصورة جائز عنده،ومن قال بفساده فاستعمالها محرم عنده.
رابعاً: الخلاف في صحة البيع بهذا الشرط، فمن قال بصحة الشرط فالبيع عنده صحيح.
ومن قال بفساد الشرط فلهم قولان في صحته بناء على اختلافهم في صحة البيع إذا اشترط فيه شرط فاسد:
القول الأول: يصح البيع دون الشرط.
وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية( )، وهو قول عند المالكية( )، والصحيح من مذهب الحنابلة( )، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( ).
القول الثاني: يفسد البيع والشرط.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، وهو رواية عن الإمام أحمد( ).
أدلة القول الأول:
الأول: قول النبي - - لعائشة - رضي الله عنها - في قصة عتق بريرة: ((خذيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق))، ثم قال - -: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أبطل الشرط الفاسد دون البيع؛ حيث قال : ((خذيها واشترطي لهم الولاء))، فالبيع صحيح مع بطلان الشرط( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن اللام في قوله - -: ((واشترطي لهم الولاء)) بمعنى على، أي: اشترطي عليهم الولاء( ).
الإجابة:
أجيب على هذا التأويل : بأن الولاء ثابت للمعتق، فلا حاجة إلى اشتراطه( )، وإنما أمرها بأن تشترط لهم الولاء؛ لأنهم أبوا البيع إلا بهذا الشرط الفاسد. فكأنه قال لها بأمره هذا: اشترطي لهم أو لا تشترطي، فإنما الولاء لمن أعتق( ).
الثاني: أن البيع قد تم بأركانه، والشرط الفاسد شرط زائد، فإذا سقط لفساده بقي البيع صحيحاً، كما لو لم يشترط هذا الشرط الفاسد( ).
أدلة القول الثاني:
الأول: أن هذا شرط فاسد قارن البيع فأفسده، كما لو شرط عقداً آخر( ).
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال بأمرين:
1- أن المسألة المقيس عليها، وهي شرط عقد في عقد غير متفق عليها، بل فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يصحح العقد ويبطل الشرط، ومنهم من يبطلهما( )، ومعلوم أن من شروط صحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه متفقاً على حكمه( ).
2- أن هذا قياس في مقابلة النص، وذلك أن النبي - - صحح في قصة شراء عائشة بريرة البيع، وأبطل الشرط، فلا يصح اعتبار هذا القياس( ).
الثاني: أن هذا الشرط الفاسد له أثر في الثمن، فإذا بطل الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وذلك مجهول، فيصير الثمن مجهولاً( ).
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أن هذا من صور معارضة النصوص بالرأي والعقل، وهذا مسلك غير مقبول.
2- أن مشترط هذا الشرط الفاسد لا يخلو من أن يكون عالماً بفساده، وفي هذه الحال لا حق له؛ لكونه دخل العقد عالماً بعدم صحة هذا الشرط( )، أو أن يكون جاهلاً بفساد هذا الشرط،وفي هذه الحال لا يضيع حقه،فإن أهل العلم القائلين بصحة البيع مع بطلان الشرط مختلفون في هذه الحال على قولين:
القول الأول: أن لمن فات غرضه بسبب إلغاء الشرط الفاسد الفسخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا القول: ((هذا هو ظاهر المذهب))( )،
أي مذهب الحنابلة، واختاره.
القول الثاني: أن لمن فات غرضه الفسخ، أو أرش ما نقص من الثمن بإلغاء الشرط الفاسد.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة( ).
وعلى كلا القولين فإن الجهالة في الثمن مرتفعة؛ لأنه على القول الأول يكون من فات غرضه بإلغاء الشرط مخيراً بين الفسخ، وبين إمضاء العقد بدون
الشرط فيكون الثمن كله عوضاً عن السلعة. وأما على القول الثاني فيكون قسط الشرط الفاسد من الثمن معلوماً.
أما بالنسبة للراجح من هذين القولين - على القول بصحة البيع دون الشرط - فالذي يظهر أن القول بأن لمن فات غرضه بإلغاء الشرط الفسخ أقرب للصواب، وذلك أن من فات غرضه لم يرض بهذا العقد إلا بالشرط، فلا يلزم البيع بدونه، بل له الخيار، وإن تراضى العاقدان بالأرش، فذلك جائز، لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه؛ لأنه معاوضة عن الجزء الفائت، فلا بد من التراضي( ).
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه على القول بفساد الشرط أن البيع صحيح؛ لقوة أدلته، وانفكاكها عن المناقشات، وضعف أدلة القائلين بإبطال البيع أو إفساده، والله - تعالى - أعلم بالصواب.
التخريج الثاني: أن هذه الصورة من صور الرد الترغيبي بيع شُرِط فيه الخيار للمشتري في المبيع فقط، فله أن يستبدل غيره به، ويكون ثمنه ثمناً في معاوضة جديدة.
وهذا التخريج لا يختلف كثيراً عن التخريج السابق من حيث ما يترتب عليه.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بما يلي:
1- أن الاختيار في هذه الصورة بين إمساك المبيع وتبديله، في حين أن الاختيار في خيار الشرط بين إمضاء العقد وفسخه.
2- أن العقد في هذه الصورة عقد لازم، في حين أنه جائز في خيار الشرط لمن كان الخيار له.
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن إعطاء المشتري الخيار في المبيع موافق في المعنى لمقصود خيار الشرط؛ لأنه لما كان مقصود خيار الشرط الحاجة إلى التروي في إمضاء العقد أو فسخه، فهذه الصورة توافقه من حيث الحاجة إلى إمساك المبيع أو تبديله، لا سيما في هذه الأزمان التي لا يمكّن فيها أكثر التجار المشترين من اشتراط الخيار مع شدة الحاجة إليه في كثير من السلع؛ لتنوعها واختلافها، وشدة الحاجة إلى التروي فيها. ولشدة التقارب بين هذه الصورة وخيار الشرط جعل فقهاء الحنفية قول المشتري في عقد البيع: على أني بالخيار في المبيع كقوله: على أني بالخيار( ) أي: خيار الشرط.
التخريج الثالث: أن هذه الصورة من الرد الترغيبي هي ما يسميه فقهاء الحنفية (خيار التعيين)( )، ويسميه فقهاء المالكية (بيع الاختيار)( )، وهو بيع يشترط فيه المشتري تأخير تعيين المبيع من بين عدة أشياء محددة في العقد مدة معلومة( ).
ومثاله أن يقول البائع للمشتري: بعتك ما تختاره من هذه الأثواب الثلاثة بكذا، ونحو ذلك( ).
ما يترتب على هذا التخريج:
أبرز ما ينبني على هذا التخريج هو الاختلاف في جواز هذه الصورة،فأهل العلم-رحمهم الله-مختلفون في هذا النوع من الخيار على قولين:
القول الأول: تحريم خيار التعيين.
وهذا قول زفر من الحنفية( )، ومذهب الشافعية( ) والحنابلة( ).
القول الثاني: جواز خيار التعيين من حيث الأصل.
وهذا هو المذهب عند الحنفية( )، والمالكية( )، وحكي قولاً قديماً عن الشافعي( ) وهو قول لبعض الحنابلة( ).
أدلة القول الأول:
الأول: أن خيار التعيين يفضي إلى الغرر الذي نهى عنه النبي( ) - -؛ لكون المبيع مجهولاً( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بالمنع؛ لأن البيع قد انعقد موجباً للملك عند اختيار المشتري، والمعقود عليه في تلك الحال لا يكون مجهولاً؛ بل هو معلوم( ).
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن كون المبيع يعلم فيما بعد لا يخرجه عن بيع الغرر، إذ إن المبيع، وإن كان معلوم الجنس، إلا أنه مجهول العين مبهم، وتعيينه فيما بعد لا يرفع الجهالة التي تؤثر فساد العقد.
الثاني: أن الأمور المخيّر بينها مختلفة، وهذا الاختلاف يفضي إلى المنازعة( ).
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن تعيين المبيع يحصل باختيار المشتري، فلا تقع المنازعة( ).
الإجابة:
أجيب : بأن المبيع واحد من أشياء متعددة متفاوتة في نفسها، وجهالة المبيع فيما يتفاوت تمنع صحة العقد( ).
ويجاب أيضا: بأن كون التعيين من المشتري لا يرفع التنازع؛ لأن المشتري قد يعيّن ما يرى أنه دون الثمن الذي دفعه، فيطالب البائع بالفرق، وكذلك البائع قد يرى أن أخذ المشتري لما عيّنه ظلم له؛ لكون ثمنه أعلى مما بذله المشتري، فهذه جهالة تفضي إلى التنازع بلا ريب.
أدلة القول الثاني:
سلك أصحاب هذا القول مسلكين في الاستدلال لما ذهبوا إليه.
المسلك الأول: طريقة الحنفية
وهو الاستدلال لجواز خيار التعيين بالقياس على خيار الشرط، بجامع أن بهما يحصل دفع الغبن بمشاورة من يوثق برأيه، أو اختيار من يُشترى لأجله( ).
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق، فالبيع الذي فيه خيار الشرط عقد غير لازم في مدة الخيار، وأما خيار التعيين فالعقد لازم، وإنما الخيار في تعيين المبيع.
المسلك الثاني: طريقة المالكية
وهو إدراج هذا النوع من الخيار في خيار الشرط، فالأدلة التي تدل على صحة خيار الشرط تدل على صحة خيار التعيين( ).
المناقشة:
يناقش هذا : بأن الاستدلال على خيار التعيين بخيار الشرط يصدق عليه أن الدعوى أعم من الدليل، فأدلة جواز خيار الشرط تدل على جواز اشتراط إمضاء العقد أو فسخه في العقد، وذلك لا يفضي إلى غرر ولا نزاع؛ أما خيار التعيين فالعقد فيه عقد لازم، وهو متضمن للغرر المفضي إلى التنازع.
الترجيح:
بعد هذا العرض للخلاف في خيار التعيين، وما احتج به كل فريق، يظهر للباحث أن القول بمنع هذا النوع من الخيار، وعدم صحته أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته، وانفكاكها من المناقشات، والله - تعالى - أعلم.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بثلاثة أمور:
1- أن المبيع في خيار التعيين مبهم غير معين، وأما المبيع في هذه الصورة فمعلوم معين لا إبهام فيه، وإنما يكون مخيراً في أخذ ما شاء من السلع التي يتّجر بها البائع فيما إذا اختار المشتري رد السلعة وتبديلها.
2- أن أبرز القائلين بهذا النوع من الخيار - وهم الحنفية - لا يجوز عندهم أن يكون خيار التعيين في أكثر من ثلاثة أشياء؛ لاقتصار كل نوع من السلع على ثلاثة أوصاف: جيد، ووسط، ورديء( ). وأما المالكية فلم أقف فيما اطلعت عليه من كتبهم على تحديد لعدد الأشياء المختار بينها، إلا أنهم عند ذكرهم المسألة والتمثيل لها لا يتجاوز العدد الذي فيه الخيار ثلاثة أشياء( ). وبهذا يتبين مفارقة هذا النوع من الرد الترغيبي لخيار التعيين، فالاختيار في خيار التعيين محدود بعدد معين بخلاف هذا النوع من الرد الترغيبي، فليس الاختيار فيه محصوراً بعدد. أما على القول المحكي عن الشافعي( )، وقول بعض الحنابلة( ) فلا اختلاف؛ لأنهم لا يحدون الاختيار بعدد معين، فيجوز عندهم بيع ثوب من أثواب.
3- أن القائلين بجواز خيار التعيين إنما يجيزونه فيما إذا كان الاختيار في صنف واحد من السلع( )، في حين أن الاختيار في هذا النوع من الرد الترغيبي في أصناف عديدة مختلفة.
وبهذه الأوجه يتبين عدم صحة هذا التخريج، والله أعلم.
الترجيح بين التخريجات:
الذي يظهر أن التخريج الأول أقرب للصواب؛ لسلامته من الاعتراضات والمناقشات، والله أعلم بالصواب.
الفرع الثالث: حكمها
اختلف أهل العلم - رحمهم الله - في جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي، بناءً على اختلافهم في صحة هذا الشرط على قولين:
الأول: جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي، وبهذا أفتى شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين، والأستاذ الدكتور نصر فريد مفتي جمهورية مصر العربية.
الثاني: عدم جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية.
وقد تقدم ذكر أدلة القولين في التخريج الأول( )، والظاهر أن القول الأول أقرب القولين للصواب، والله أعلم.
المسألة الثانية: أن يكون الرد الترغيبي غير مشروط
الفرع الأول: واقعها
واقع هذه الصورة أن تشترى السلعة في بيع باتٍّ، ولا يشترط فيه المشتري التبديل، ثم إنه يرغب المشتري في رد السلعة، فيمكّنه البائع من ذلك، لكن بشرط أن يعتاض عن ثمنها ماشاء من السلع التي عند البائع، فإن لم يجد ما يرغب في شرائه أعطاه سنداً يقيد فيه ثمن السلعة المردودة؛ ليستفيد منه في شراء ما شاء، متى شاء.
الفرع الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها
تخرّج هذه الصورة من صور الرد الترغيبي على أنها إقالة( ) شُرط فيها أن يكون ثمن السلعة الأولى ثمناً في معاوضة جديدة.
مايترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا جواز هذه الصورة من الرد الترغيبي، ويدل لذلك ما يلي:
الأول: قول النبي - -: ((من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - حثّ على الإقالة، وهي رفع العقد، وإزالة حكمه بتراضي العاقدين، وهذه الصورة رفع فيها حكم البيع السابق، وألغيت آثاره.
المناقشة:
يناقش هذا: بأن مقتضى الإقالة رد الأمر إلى ما كان عليه قبل عقد البيع، ورجوع كل واحد إلى ما له( )، وفي هذه الصورة الثمن لم يرجع إلى المشتري، بل جعل ثمناً في معاوضة أخرى.
الإجابة:
يجاب: بأن عدم قبض المشتري لثمن السلعة لا يعني عدم رد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، فالأمر في الحقيقة عاد إلى ما كان عليه، فالبائع رجع بالمبيع، والمشتري رجع الثمن، إلا أن الثمن بقي ديناً في ذمة البائع، وليس في هذا ما ينافي مقتضى الإقالة.
الثاني: قول النبي _ -: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً، أو أحلَّ حراماً))( ).
وجه الدلالة:
أن هذه الصورة من الإقالة شرط فيها شرط ليس محرماً في ذاته، ولا يؤدي إلى محرم، فلا وجه لإفساده، لعدم الدليل.
المناقشة:
نوقش هذا: بأن شرط المعاوضة الجديدة في الإقالة نظير قول المشتري للبائع: أقلني، وأنظرك في الثمن، وهذا قد منع منه بعض أهل العلم( ).
الإجابة:
يجاب عن هذا بثلاثة أمور:
1- أن أهل العلم مختلفون في هذه المسألة على قولين بين مجيز ومانع( )، وإذا كان كذلك فلا يصلح القياس عليها.
2- أن القائلين بالمنع عللوا ذلك بأن الإنظار في الثمن زيادة فيه، والإقالة لا زيادة فيها للبائع ولا للمشتري( )، وهذا المحذور ليس قائماً في هذه الصورة من الرد الترغيبي، إذ الإقالة فيه على مثل الثمن الأول.
3- أن أقرب ما تُنظّر به هذه المسألة هي حكم صرف رأس مال السلم( ) - أي: ثمنه - بعد الإقالة في عقد آخر قبل قبضه.
وهذه المسألة لأهل العلم فيها قولان: الأول الجواز، والثاني المنع( ).
والقائلون بالمنع إنما ذهبوا إلى ذلك، لأن النبي - - قال: ((من أُسْلِف في شيء فلا يصرفه إلى غيره))( ).
وعلى كل حال فإن هذه الصورة من الرد الترغيبي لا تدخل في هذا الحديث لا نصاً، ولا معنى؛ لأنه يجوز لكل واحد من المتعاقدين التصرف فيما عاد إليه قبل أن يسترده( )؛ لعدم المانع، فليست هذه الصورة من السلم ولا هي في معناه.
الثالث: الأحاديث الدالة على السماحة في البيع والسهولة فيه، كقول النبي - -: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))( )، ولا شك أن التوسعة على المشتري بتمكينه من تبديل المبيع في العقد اللازم من الإحسان والمعروف والسماحة في البيع، فلا وجه لمنعه. إذ الأصل في الإقالة أنها معروف وإحسان( ).
الرابع: أن الأصل في المعاملات الحل ما لم يدل دليل على التحريم، فلا يمنع الناس من شيء من المعاملات، إلا بدليل بيّن.
الفصل السابع: الضمان والصيانة الترغيبيان
المبحث الأول: الضمان الترغيبي
المطلب الأول: تعريف الضمان، وأنواع الضمان الترغيبي
المسألة الأولى: تعريف الضمان
أولاً: تعريفه لغة
الضمان في اللغة مصدر ضَمِنَ، يضْمَنُ، ضَمَاناً، وأصل هذه الكلمة ((هو جعل الشئ في شئ يحويه))( )، وهو يطلق في اللغة على معان:
الأول: الكفالة. فضَمِنَ الشئ: كَفَلَه، وضَمَّنه لإياه: كفَّلَه( ).
الثاني: التَغْرِيم. فضَمّنْتُه الشئ: غرَّمْتُه( ).
الثالث: الالتزام. فضَمِنْتُ المال الْتَزَمْتُه، ويتعدى بالتَّضْعيف، فيقال: ضمّنْتُه المال، أي أَلْزَمْتُه إيَّاه( ).ِ
الرابع: الحفظ والرعاية( ). ومنه قول النبي - -: (( الإمام ضامن))( ).
ثانياً: تعريفه اصطلاحاً
الضمان في اصطلاح الفقهاء: استعمل الفقهاء – رحمهم الله – الضمان على عدة معان في أبواب متعددة من أبواب الفقه، وهي لا تخرج في الجملة عن المعنى اللغوي للكلمة. ومهما يكن من أمر فالذي يتصل بموضوع الحوافز من هذه المعاني هو الضمان في عقد البيع، وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه بناء على اختلافهم في تقسيمه( )، إلا أن أجمع هذه التعاريف تعريف ضمان الدَّرَك( ) والعهدة( )، وهو في الحقيقة أن يضمن الثمن أو جزأه لأحد العاقدين( ).
وضمان العهدة في كلام الفقهاء قسمان:
الأول: ضمانه عن البائع للمشتري: وهو أن يُضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، إن ظهر فيه عيب او اُسْتُحِق رجع بذلك على الضامن.
الثاني: ضمانه عن المشتري للبائع: وهو أن يُضمن الثمن متى ظهر المبيع مُسْتَحَقٍّاً لغير البائع أو رُدَّ بعيب، أو أرش( ) العيب( ).
الضمان في اصطلاح التسويقيين: هو تعهد يلتزم فيه المنتج أو وكيله بسلامة المبيع من العيوب المصنعية والفنية، ويلتزم بصلاحيته للعمل خلال مدة متفق عليها( ).
المسألة الثانية: أنواع الضمان الترغيبي
الضمان الترغيبي نوعان:
النوع الأول: ضمان الأداء
وهو ضمان صلاحية المبيع وقيامه بالعمل سليماً مدة معينة، بحيث إذا ثبت صلاحه وسلامته فيها غلب على الظن صلاحه فيما بعد( ).
وبموجَب هذا الضمان يتعهد البائع بإصلاح الخلل المصنعي والفني الطارئ على المبيع أو تبديل غيره به إذا اقتضى الأمر تبديله( ).
وهذا النوع من الضمان الترويجي يستعمل غالباً في بيع المواد والآلات التي تتميّز بدقة في الصنع، وسهولة تعرض أجزائها للخلل، كالسيارات، والأجهزة الكهربائية على اختلاف أنواعها، والساعات، والمعدات ، والسلع الاستهلاكية المعمرة( )، وما أشبه ذلك.
ومما يتميز به هذا الضمان الترويجي أنه شامل لأي خلل فني أو مصنعي في المبيع ، حتى لو لم يكن هذا الخلل عيباً، فيكفي لثبوته كون المبيع غير صالح للعمل( ). كما أن هذا الضمان لايتعارض في الحقيقة مع ضمان البائع للعيوب الخفيّة، فالبائع للعيوب الخفية، ولو لم يكن من شأنها جعل المبيع غير صالح للعمل( ).
ومما ينبه إليه أن ضمان الأداء، وجميع أنواع الضمان الترويجية لاتضمن العيوب، أو عدم صلاحية المبيع التي تنشأ عن سوء استعمال المشتري، أو عدم عنايته بالمبيع( )، ولذلك فإن بعض السلع التي يحتاج إلى صيانة يشترط للعمل بالضمان فيها التزام المشتري بجدول الصيانة المقترح.
النوع الثاني: ضمان معايير الجودة
وهو ضمان يتعهد فيه المنتج بأن سلعته تتمشى من حيث الجودة والمواصفات مع الخصائص والقياسات التي وضعتها هيئات حكومية أو صناعية واعترف بها( ).
وهذا النوع من الضمان الترويجي يعلن عنه غالباً بوضع علامات أو أحرف أو أرقام على الغلاف الخارجي للسلعة( )، وذلك يبين للمستهلك مطابقة هذه السلعة للمواصفات والخصائص القياسية للجودة. وهذا النوع من الضمان الترويجي يستعمل غالباً في المنتجات الغذائية، والأدوية، وما أشبه ذلك( )، وقد يُستعمل في السيارات وغيرها من المنتجات.
المطلب الثاني: ضمان البائع للمبيع
المسألة الأولى: موجباته وأسبابه
يترتب على عقد البيع آثار والتزامات في كلا طرفي العقد، في جانب البائع، وفي جانب المشتري. ومن أبرز هذه الآثار وتلك الالتزامات نقل ملكية المبيع عن البائع إلى المشتري، فعقد البيع يوجب ثبوت ملك المشتري للمبيع( )، وهذا يقتضي نقل ضمان المبيع عن البائع إلى المشتري( )، إلا أن أهل العلم استثنوا حالات يكون فيها ضمان المبيع على البائع حتى بعد انتقال الملك إلى المشتري على اختلاف بينهم في بعض تلك الحالات. ومن أهم تلك الاستثناءات.
أولا: هلاك المبيع في يد البائع بآفة سماوية ، أو بفعل غير المشتري( ).
ثانياً: ظهور المبيع مُستَحقاً لغير البائع( ) .
ثالثاً: ظهور عيب قديم في المبيع.
وبالنظر إلى هذه الحالات يظهر أن أقربها لبحث الضمان الترغيبي هي الحال الثالثة، وهي ضمان البائع عيب المبيع.
المسألة الثانية: ضمان البائع عيب المبيع
الأصل في عقد البيع أنه يقتضي سلامة المبيع من العيوب؛ لأن المقصود منه انتفاع المشتري بالمبيع، وهذا لا يتكامل تحقيقه وتحصيله، إلا بقيد السلامة في المبيع( ). ولذلك أثبتت الشريعة للمشتري الخيار فيما إذا تبين أن المبيع معيب قبل قبض المشتري استدراكاً لما قد يفوته، وإزالة للضرر ببقاء العيب( ). وهذا بالاتفاق فيما إذا كان العيب حادثاً في المبيع قبل البيع( ).
أما إذا كان العيب حدث في المبيع بعد العقد، وقبل قبض المشتري، ففي كونه من ضمان البائع خلاف بين أهل العلم( ).
فإذا كان عيب المبيع قد حدث بعد قبض المشتري فإن الإجماع منعقد على أنه من ضمان المشتري( ) إلا في مسائل معدودة وقع الخلاف فيها بيت أهل العلم، هل هي من ضمان البائع، أو من ضمان المشتري؟، وهذه المسائل هي:
أولاً: بيع العُهْدَة (عهدة الرقيق)
وهو بيع يتعلق فيه ضمان المبيع بالبائع في زمن معين( ). وهذه العُهْدَة تثبت للمشتري في الرقيق خاصة، ولو حدث العيب فيه بعد قبض المشتري، ولهذا فإنها تسمى عهدة الرقيق( )، وهي نوعان.
الأول: عهدة ثلاثة أيام
وهي كثيرة الضمان قصيرة الزمان( )، فالضمان فيها شامل لجميع العيوب، والأدواء، وما يطرأ على الرقيق، من نقص في بدن أو فوات عين في مدة ثلاثة أيام( ).
الثاني: عهدة السنة
وهي قليلة الضمان طويلة الزمان( )، فالضمان فيها يشمل ثلاثة أدواء فقط، وهي: الجنون، والجذام، والبرص( ).
وهذا النوع من الضمان انفرد به المالكية دون سائر أهل العلم( ).
وقد استدل المالكية لهذين القسمين بعدة أدلة:
الأول: قول النبي - -: ((عهدة الرقيق ثلاثة أيام))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أثبت عهدة للمشتري على البائع مدة ثلاثة أيام( ).
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن هذا الحديث لا يصح، فلا يحتج به( )، وقد بينت ذلك في تخريجه.
2- يحتمل أن يكون المراد المشروط في البيع( ) فيكون من خيار الشرط.
3- أنه مخالف للأصول( )، إذ الأصل أن العين مضمونة على مالكها.
الثاني: عمل أهل المدينة، فإن عملهم جرى على إثبات العهدتين في الرقيق، وتناقلهما الخلف عن السلف( ).
المناقشة:
نوقش هذا بأن إجماع أهل المدينة، وعملهم ليس حجة تثبت بها الأحكام( ).
الثالث: أن الرقيق يكتم عيبه، فيُستظهر عليه بثلاثة أيام حتى يتبين للمشتري ما كتم عنه، فهذه المدة نظير ما جعل في التصرية التي دلس بها البائع( ).
الرابع: أن الأدواء التي تضمن في عهدة السنة أدواء تتقدم أسبابها، ويظهر ما يظهر منها في فصل من فصول السنة دون فصل بحسب ما أجرى الله تعالى العادة في ذلك، فجعلت هذه العهدة سنة حتى تؤمن هذه العيوب ، ومن التدليس بها( ).
المناقشة:
نوقش هذان التعليلان بأن الداء الكامن لا عبرة به، وإنما النقص بما ظهر لا بما كمن( ).
الإجابة:
أجيب عن هذا بأنه غير مسلَّم؛ لأن الكامن إذا دلّ عليه دليل بعد ذلك، وعلم به صار كالظاهر( ).
ثانياً: أن يكون العيب مستنداً إلى سبب سابق على القبض
اختلف أهل العلم – رحمهم الله – في العيب الحادث بعد قبض المشتري إذا كان يستند إلى سبب سابق على القبض، هل هو من ضمان المشتري، أو من ضمان البائع؟ على قولين:
القول الأول: أنه من ضمان البائع.
وهذا هو المذهب عند الحنفية( )، والأصح عند الشافعية( ).
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري ما لم يدلس البائع.
وهذا هو مذهب المالكية( )، وقول للشافعية( )، ومذهب الحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو هل وجود سبب العيب يعد عيباً أو لا؟
فمن قال بأنه عيب جعله من ضمان البائع، ومن قال بأنه ليس عيباً جعله من ضمان المشتري( ).
ثالثاً الجوائح
الجوائح في اللغة جمع جائحة، وهي النازلة العظيمة التي تستأصل المال وتهلكه( ).
أما عند الفقهاء فهي كل ما أذهب الثمرة، أو بعضها بغير جناية آدمي( ).
وقد اختلف أهل العلم في القول بوضع الجوائح في الثمار على قولين:
القول الأول: القضاء بوضع الجوائح ، وأنها من ضمان البائع.
وهذا مذهب المالكية( )، وقديم قولي الشافعي( )، ومذهب الحنابلة( ).
القول الثاني: عدم القضاء بوضع الجوائح، وأنها من ضمان المشتري.
وهذا مذهب الحنفية( )، وقول الشافعي في الجديد( ).
وسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيها، وتعارض المقاييس( ).
المطلب الثالث: حكم الضمان الترغيبي
تقدم أن الضمان الذي تستعمله الشركات والمؤسسات التجارية لإقناع المستهلكين بسلامة السلع وصلاحيتها، وجذبهم إليها نوعان:
الأول: ضمان الأداء.
الثاني: ضمان الجودة .
ومعرفة حكم هذين النوعين من الضمان يحتاج إلى نظر في كل نوع على حدة.
المسألة الأولى: ضمان الأداء
الفرع الأول: تعريفه وغايته
سبق أن ضمان الأداء هو ضمان صلاحية المببيع وقيامه بالعمل على وجه سليم لمدة معينة، بحيث يغلب على الظن صلاحه للعمل فيما بعدها( ).
وهذا النوع من الضمان له مقاصد عديدة من أبرزها حماية المستهلك في حال ظهور عيوب في المبيع ترجع إلى أخطاء في التصنيع ناتجة عن تقصير في العمل، أو المراقبة والتفتيش والإشراف، أو عن الإسراع في عرض السلع في الأسواق قبل تجربتها وإكتشاف عيوبها في ظروف الاستعمال الفعلية.
ومن مقاصده أيضا طمأنة المستهلك إلى أن ما سَيُقْدِمُ على شرائه من السلع فإن البائع ملتزم بضمان السلعة، ومعالجة أسباب الفشل( ).
الفرع الثاني: تخريجه الفقهي
تكلم أهل العلم في دراستهم وبحوثهم في مسألة عيوب المبيع عن صور عديدة كثيرة واختلفوا في ضمانها، هل هو من ضمان البائع، أو من ضمان المشتري؟ وربما كانت تلك الصور لا واقع لها في معاملات الناس في ذلك الوقت، أو أنها نادرة الوقوع، لكن مع التطور الصناعي الهائل الذي تشهده الصناعات اليوم أصبح كثير من تلك الصور بضمان الأداء، الذي يقدمه الباعة أو يشترطه المشترون في أكثر السلع.
وبالنظر إلى كلام الفقهاء في هذين يتبين أنه يمكن تخريج ضمان الأداء على ما يلي:
التخريج الأول: أن ضمان الأداء نوع من ضمان العيب الحادث عند المشتري، والمستند إلى سبب سابق على القبض .
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا التخريج الاختلاف فيمن يضمن هذا العيب هل البائع، أو المشتري؟
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الخلاف( ).
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأن البائع في ضمان الأداء يلتزم للمشتري ويتعهد بسلامة المبيع وصلاحيته للعمل مدة متفقاً عليها في حين أن ضمان العيب الحادث عند المشتري والمستند إلى سبب سابق على القبض ليس كذلك.
الإجابة:
يجاب عن هذا الإيراد بأن ما ذكر من التزام البائع وتعهده لا يشكل على هذا التخريج؛ لأنه على القول بأن البائع ضامن للعيب الحادث عند المشتري إذا كان مستنداً إلى سبب سابق على القبض. فإن التزام البائع وتعهده في هذه الحال يكون تأكيداً لمقتضى العقد، وأما على القول بأنه من ضمان المشتري فإن البائع يكون قد وعد بضمان العيب المستند إلى سبب عنده.
التخريج الثاني: أن ضمان الأداء نوع من ضمان العيب الذي لا يعلم، إلا بالتجربة والاستعلام والاختبار.
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا التخريج الاختلاف فيمن يضمن هذا العيب هل هو البائع أو المشتري؟ وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين.
القول الأول: أنه من ضمان البائع( ).
وهذا هو مدذهب الحنفية( )، وقول للمالكية( )، ومذهب الشافعية( )، والحنابلة( )، وقول ابن حزم من الظاهرية( ).
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري.
وهذا هو المذهب عند المالكية( )، وهو رواية عن أحمد( ).
أدلة القول الأول:
1- أن العيب الحادث في المبيع عند المشتري سببه الاستعلام والتجربة، فالمشتري معذور فيه غير ضامن له؛ لأنه وسيلة استكشاف سلامة المبيع من عيبه، فهو نظير اختبار المصراة بجلبها( ).
أن البائع حصل بيده مال أخيه بغير رضا منه، إذ إن المشتري إنما رضي بالمبيع سليماً ، فلا يكون داخلاً في قول الله تعالى - :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾( )؛ لأن الرضا إنما يكون بعد المعرفة التي لا تحصل إلا بالاستعلام( ) فما تبين من عيب بالاستعلام فإنه لايكون من ضمان المشتري .
2- أن العقد وقع على شئ صحيح، فإذا خرج معيباً فق خرج على خلاف ما عقد عليه( ).
دليل القول الثاني:
احتجوا بأن العيب الحادث عند المشتري لا حجة له فيه على البائع؛ لأنه حدث في ملكه فعليه ضمانه( ).
المناقشة:
يناقش هذا بعدم التسليم؛ فالعيب وإن كان حادثاًً في ملك المشتري، إلا أنه حدث نتيجة تجربة المبيع وامتحانه، فهو في الحقيقة إظهار لعيب كامن خفى لا يعلم إلا بالاستكشاف، فلا يكون مضموناً على المستكشف المستعلم. ومعلوم أن العيب الخفي الباطن إذا دلّ عليه دليل، وعُلِم به صار كالظاهر( ).
الترجيح:
الذي يظهر – والله – تعالى – أعلم أن القول الأول هو الأرجح؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، وعدم قيام حجة القول الثاني.
الترجيح بين هذين التخريجين:
الظاهر – والله أعلم – أن ضمان الأداء يقبل كلا التخريجين فما كان منه متعلقاً بسلامة المبيع من العيوب المصنعّية والفنيّة، فإنه يخرّج على ضمان العيب الذي لا يعلم، إلا بامتحان وتجربة واستعلام، وما كان منه متعلقاً بصلاحية المبيع وقيامه بالعمل فإنه يخرّج على ضمان العيب الحادث في المبيع عند المشتري، والمستند إلى سبب سابق؛ لأن عدم صلاحيته ناشئ عن عدم إتقان صنعه.
الفرع الثالث: حكمه
بعد ما تقدم من عرض ضمان الأداء، ومقصوده، وما يحتمله من تخريجات، فالذي يظهر – والله – تعالى أعلم – هو جواز ضمان الأداء، وأنه لا محذور فيه شرعاً، وذلك لما يلي.
أولاً: أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة حتى يقوم دليل المنع والتحريم.
ثانياً: أن اشتراط البائع الضمان على نفسه، كما هو الحال في أكثر صور ضمان الأداء، فيه معنى التوثيق؛ لطمأنة المشتري بأنه مسؤول عن جودة سلعته وإتقانها وتلبيتها لحاجات المستهلك، وقيامها بما اشتريت من أجله.
ثالثاً: أن الحاجة داعية إلى مثل هذا الضمان، لاسيما في ظل هذا النوع الكبير في المنتجات والسلع، ويتبين ذلك بالأوجه التالية( ).
أن تعرف المستهلك على خصائص السلع واحتمال وجود العيب فيها وقت شرائها يكون متعذراً؛ لعدم توفر الإمكانات الفنيّة اللازمة للقيام بذلك.
أن كثيراً من عيوب السلع دقيقة التركيب لا تظهر بمجرد تشغيلها لعرضها على المستهلك، وإنما تظهر عند الاستعمال الفعلي للسلعة( ).
أن الضمان أصبح في كثير من الأحيان علامة الجودة والمتانة في السلع، فإن الشركات والمؤسسات الكبرى تميّز منتجاتها بإعطاء الضمان عليها.
أنه نظراً لكثرة الإنتاج، وسرعته، وقوة المنافسة بين الشركات والمصانع المنتجة، فإنه كثيراً ما يقع إخلال في الخصائص الفنيّة للسلع، ولا يتبين ذلك إلا بعد استعمال المبيع. فكثيراً ما تقوم الشركات المصنعة بسحب بعض منتجاتها من السوق ومن أيدي المشترين بسبب تبين عيب فيها سببه سوء التصنيع( ).
وهذه الأوجه تبين السبب الذي حمل كثيراً من التنظيمات التجارية على جعل ضمان الأداء من التزامات البائع في بعض السلع كالأجهزة الكهربائية ووسائل النقل والآلات والمعدات( ).
رابعاً: أن ضمان الأداء يحمل الشركات والمؤسسات المنتجة على إتقان عملها، ورفع جودة منتجاتها؛ لكونها ضامنة لهذه المنتجات حتى بعد انتقالها إلى أيدي المستهلكين، فتحصيل المصلحة العامة يتطلب اعتبار هذا الضمان وتثبيته.
وممن ذهب إلى أن هذا النوع من الضمان الترغيبي جائز لا حرج فيه شيخنا محمد الصالح العثيمين، كما هو قياس قول الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد الزرقا؛ حيث ذهب إلى أن الصانع في عقدالاستصناع( ) ضامن للعيوب التي في المبيع الذي صنعه( )، وهو قياس قول الدكتور محمد بن سليمان الأشقر أيضاً، حيث نصر قول الزرقا، وأيده في بحثه الاستصناع( ).
وقد ذهب إلى جواز هذا النوع من الضمان الترغيبي الأستاذ الدكتور نصر فريد مفتي الجمهورية المصرية.
المسألة الثانية: ضمان معايير الجودة
الفرع الأول: واقعه وغايته
تسعى كثير من المؤسسات والشركات التجارية الغذائية والدوائية وبعض الأجهزة والمعدات الكهربائية إلى الحصول على علامات الجودة التي تصدرها الهيئات الحكومية أو الصناعية المختصة بوضع مواصفات ومعايير جودة السلع والمنتجات، فإذا ما حصلت هذه المؤسسات والشركات على هذه الشهادة التي تضمن جودة سلعها وتثمينها مع المواصفات والخصائص المعتبرة، وضعتها على الغلاف الخارجي للسلعة غالباً لتروج بذلك.
وغرض هذا النوع من الضمان خدمة المستهلكين وحمايتهم من السلع التي لا تحقق المواصفات القياسية للجودة، كما أنها تحمل المنتجين على إتقان معايير الجودة؛ لتروج سلعهم( ).
الفرع الثاني: حكمه
ضمان الجودة جائز لا حرج فيه، بل تدعو المصلحة إلى إلزام المنتجين به حماية للمستهلكين وصيانة للمصلحة العامة.
وأما ما يجب مراعاته في هذا الضمان نظير ما ذكر في ضوابط الدعاية والإعلان( )؛ لأن علامات الجودة من ضروب الدعاية؛ لترويج المبيعات والسلع.
المبحث الثاني: الصيانة الترغيبية
المطلب الأول: تعريف الصيانة وأنواع الصيانة الترغيبية
المسألة الأولى: تعريف الصيانة
أولاً: تعريفها لغة
الصيانة في اللغة مصدر صَان، يَصُون، صَوناً، وصيانة( ) وبمعنى الحفظ( )، والوقاية( ).
ثانياً: تعريفها اصطلاحاً
الصيانة في اصطلاح الفقهاء: لم يستعمل الفقهاء – رحمهم الله – هذا المصطلح فيما اطلعت عليه من كتبهم، فهو مصطلح حادث، إلا أن الفقهاء استعملوا للإصطلاحات التي تجري لبعض الأعيان كالبناء ونحوه المَرَمَة( ) والعِمَارة، وهما لفظان مستعملان عند بعض الفقهاء للإصطلاحات التي يحفظ بها البناء( ). المعاصرين عقد الصيانة بأنه: ((عقد بين طرفين بمقتضاه يقوم أحدهما بصيانة آلة من الآلات ، وفي نظير ذلك يلتزم الطرف الآخر بدفع الأجرة المحددة له بينهما))( ).
الصيانة في اصطلاح التسويقيين: هي خدمة ترويجية يقدمها البائع بعد الشراء للمحافظة على السلعة المبيعة في حالة جيدة، سليمة تكفل استمرار السلعة في عملها، وعدم توقفها عن الإنتاج أو الأداء( ).
المسألة الثانية: أنواع الصيانة الترغيبية
الصيانة الترغيبية نوعان( ):
النوع الأول: صيانة وقائية (دَوْرِيّة)
وهي خدمة يقدمها البائع وفق جدول زمني محدد بآجال معلومة؛ لفحص المبيع، والتأكد من سلامته، واستمرار عمله، وجودة أدائه، وصلاحيته للعمل، وهذا النوع من الصيانة يمنح غالباً عند المعدات الكبيرة، ووسائل النقل والأجهزة الكهربائية، وما أشبهها من السلع التي تحتاج إلى متابعة منتظمة، وعناية دائمة.
النوع الثاني: صيانة طارئة
وهي خدمة يقدمها البائع للمستهلك فيما إذا تعرّض المبيع لتعطل، أو خلل، أو غير ذلك من الآفات، سواء كان ذلك بسبب سوء الاستعمال، أو الحوادث والكوارث، أو فساد بعض أجزائه التي يتطلب إصلاحها مهارة فنيّة، وخبرة مصنعية.
المسألة الثالثة: الفرق بين الضمان والصيانة الترغيبيين
يتفق الضمان والصيانة في أن كلاً منهما يُعدّ من الحوافظ المرغِّبة في الشراء، والتي تكون بعد عقد البيع( ) إلا أن بينهما عدة فروق، وهي كما يلي:
الأول: أن الضمان الترغيبي يكون لفترة محدودة تكفي غالباً لظهور العيوب المصنعيّة والفنيّة، أما الصيانة الترغيبية فإنها تستمر طول عمر السلعة( ).
الثاني: أن الضمان يغطي العيوب المصنعيّة والفنيّة، ويكفل بصلاحية السلعة للعمل خلال مدة متفق عليها، أما الصيانة فإنها تغطي كل خلل أو عيب يطرأ على السلعة، ولو كان نتيجة الاستعمال أو غيره من الأسباب( ).
الثالث: أن الضمان يتحمل فيه البائع جميع التكاليف المترتبة على الإصلاحات، أو عمليات الضبط التي تَكَفّل بها الضمان، سواء قطع الغيار أو اليد العاملة، أما الصيانة فإن الذي يتحمل تكاليفها هو المستهلك.
المطلب الثاني: التكيي الفقهي للصيانة الترغيبية
المسألة الأولى: واقعها وغايتها
تتعهد بعض الشركات والمؤسسات التجارية؛ لعملائها بأن تقوم بصيانة السلع التي تبيعها لهم، وهذه الصاينة إما أن تكون وقائية دورية لفحص المبيع، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وإما أن تكون طارئة لإصلاح الأعطال المفاجئة، وغير المتوقعة الناتجة عن سوء استعمال، أو حوادث، أو غير ذلك.
وهذا التعهد المقدم من هذه الجهات التجارية لا تتقاضى عليه أجراً، ولا يُلْزم به المشتري، بل له أن يجري نوعي الصيانة عند أي مؤسسة أخرى، وفي بعض الأحيان تقدم بعض المؤسسات والشركات ما تقدمه كثير من وكالات السيارات حيث تقوم بصيانة وقائية مجانية يتم فيها تغيير زيت السيارة، وأعمال أخرى يُنَصَّ عليها في جدول أعمال الصيانة الوقائية، وفيما عدا هذه الصورة فإن المؤسسات والشركات التجارية تأخذ أجراً على أعمال الصيانة بنوعيها عند القيام بها.
وأما مقصود الصيانة الترغيبية الوقائية فيمكن تلخيصه فيما يلي:
1. أن هذا النوع من الصيانة تشترطه الشركات والمؤسسات التجارية في فترة الضمان؛ لاكتشاف العيوب التي يشملها الضمان من إصلاحها قبل انقضاء مدته، ولتلافي ما قد ينشأ عنها من أعطال، ولذلك فإن كثيراً من تجار السلع التي تحتاج إلى صيانة دورية وقائية ينصون على أن ضمان الأداء الذي يلتزمون به للمشتري غير شامل للعيوب التي تنتج عن نقص الصيانة الوقائية في الفترات المحددة لها.
2. يمكن من خلال الصيانة الوقائية متابعة استمرار الأجزاء التي لها عمر محدد للاستعمال، يجب أن تغير عند بلوغه.
3. الصيانة الوقائية من أهم أسباب استمرار السلع سليمة مؤدية لعملها مدة طويلة.
أما مقصود الصيانة الطارئة فهو إصلاح الأعطال والعيوب الحادثة بطريقة صحيحة، وذلك لأن كثيراً من الأجهزة والآلات والمعدات معقّدة التركيب لا يتمكن من إصلاحها على وجه صحيح إلا الشركة المصنِّعة أو وكلاؤها.
المسألة الثانية: تخريجها الفقهي
الصيانة الترغيبية يمكن أن تخرّج على أحد التخريجين التاليين:
التخريج الأول: أنها وعد من البائع للمشتري.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولاً: جواز هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء؛ لأن الأصل في المعاملات الحل.
ثانياً: وجوب الوفاء بهذا الوعد ولزومه للبائع. وقد تقدمت أدلة وجوب الوفاء بمثل هذا الوعد .
التخريج الثاني: أنها بيع بشرط نفع البائع في المبيع
ما يترتب على هذا التخريج:
يترتب على هذا الخلاف في صحة هذا الشرط، فقد اختلف أهل العلم فيه على قولين في الجملة:
القول الأول: أن هذا الشرط صحيح.
وهذا هو مذهب المالكية( ) والحنابلة( ) في الجملة، وقد اشترط المالكية( ) للصحة أن تكون المشترطة يسيرة، أما الحنابلة( ) فلم يشترطوا للصحة سوى علم المنفعة.
القول الثاني: أن هذا الشرط فاسد.
وهذا مذهب الحنفية( )، والشافعية( ).
أدلة القول الأول:
استدل هؤلاء بأدلة كثيرة( ) أبرزها ما يأتي :
الأول: قول النبي _ _ : ((المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالً، أو أحلَّ حراماً)).
وجه الدلالة:
أن النبي - - جعل الأصل في الشروط الإباحة إلا شرطاً حرَّم حلالاً، أو أحلّ حراماً. وهذا شرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
الثاني: ما روى جابر – – أن النبي – – ((نهى عن الثنيا إلا أن تعلم))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - أباح الاستثناء بالشرط إذا كان ذلك معلوماً( ).
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بعدة أدلة( ) أبرزها حديث عبدالله بن عمرو - -: أن النبي - - ((نهى عن بيع وشرط))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي - - نهى ع الجمع بين البيع والشرط، فدلَّ ذلك على عدم جواز الشروط في البيع( ).
والمناقشة:
نوقش هذا بثلاثة أمور:
1 - أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة( )، وقد بينت ذلك في تخريجه.
2 - أنه مخالف للإجماع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشة هذا الحديث: ((وقد أجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه أن اشتراط صفة في المبيع، ونحوه كاشتراط العبد كاتباً، أو صانعاً أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك شرط صحيح))( ).
3 - أنه مخالف للأحاديث الثابتة التي فيها جواز الشروط في البيع كحديث عائشة في قصة عتقها بريرة( )، وغيره .
الترجيح:
الراجح من هذين القولين هو القول الأول؛ لقوة أدلته ، وضعف أدلة القول الثاني، والله – تعالى – أعلم.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأن الصيانة الترغيبية لم يشترطها المشتري، بل هي ممنوحة من البائع دون اشتراط، فليس فيها معنى الشرط ولا لفظه.
الترجيح بين التخريجات:
الذي يظهر ، والله أعلم ، أن الأقرب للصواب هو أن تخرّج الصيانة الترغيبية على أنها وعد بمنفعة البائع في المبيع، وذلك؛ لأن صيانة المبيع في الصيانة الترغيبية لم يشترطها المشتري، بل يعد بها البائع ابتداء ترغيباً وتشجيعاً على الشراء منه.
المسألة الثالثة: حكمها
بعد ما تقدم من عرض للتخريج الفقهي للصيانة الترغيبية فإن الذي يترجح هو أنها جائزة، لا حرج فيها، وذلك لما يلي.
أولاً: أن الأصل في المعاملات الخل والإباحة حتى يقوم دليل المنع .
ثانياً: أن الحاجة داعية إليها، فدقة صناعة المبيع، وتعدد خصائصه يتطلب الأيدي المتخصصة العالمة بالسلعة وخصائصها الفنيّة، لإصلاح الأعطال العارضة، وإجراء الفحوصات اللازمة التي تكفل استمرار عمل السلعة بطريقة تحقق النفع المقصود منها. ويؤكد هذا أنه في بعض الأحيان لا يتمكن المستهلك من إصلاح السلعة أو صيانتها إلا عند البائع؛ لكونه عالماً بالسلعة علماً تاماً يتمكن به من إصلاحها.
الفصل الثامن: الاستبدال الترغيبي
المبحث الأول: تعريف الاستبدال الترغيبي
أولاً: تعريفه لغة
الاستبدال مصدر الفعل السداسي استبدل، ومعناه جعلُ شئٍ مكان آخر( )، واستبدل الشئ اتخذ مكانه بدلاً( ).
ثانياً: تعريفه اصطلاحاً
الاستبدال في اصطلاح الفقهاء: لم يستعمل هذا المصطلح فيما اطلعت عليه من كتبهم، إلا أن الاستبدال من حيث المعنى داخل في معنى البيع، فالبيع: مبادلة مال، ولو في الذمة، أو منفعة مباحة أحدهما على التأييد غير ربا وقرض( ). فاستبدال السلعة الجديدة بقديمة داخل في هذا المعنى، فهو نوع من البيع.
الاستبدال في اصطلاح التسويقيين: لم تذكر مراجع التسويق العربية التي اطلعت عليها هذا الأسلوب في وسائل تنشيط المبيعات والحوافز المرغَّبة في الشراء، وذلك فيما يبدو راجع إلى كون هذا الأسلوب حديث الاستعمال في الأسواق العربية، وقد جاءت الإشارة إليه في بعض كتب التسويق الأجنبية( ).
وتعَدّ تجارة الاستبدال تجارة رائجة لما تحققه للمستهلك من توفير دفع كامل ثمن السلعة الجديدة نقداً؛ لكون السلعة القديمة جزءاً من الثمن، ولما فيه من تنشيط المبيعات في أوقات الركود الاقتصادي لاسيما في بعض أنواع السلع، ومن أشهر السلع التي يستعمل فيها الاستبدال: الأجهزة الكهربائية، والألكترونية، والسيارات، والذهب والمجوهرات، والساعات، وما أشبه ذلك والسبب في ذلك هو ظهور نماذج، أو تصاميم أحدث من هذه السلع، فيحمل ذلك المستهلك على الاستغناء عن السلع القديمة وطلب الجديدة( ).
المبحث الثاني : التكييف الفقهي للإستبدال الترغيبي
المطلب الأول: أنواعه
الاستبدال الترغيبي ينقسم باعتبار السلع التي تجري فيها تجارة الاستبدال إلى نوعين:
النوع الأول: استبدال الذهب
المقصود بالاستبدال في هذا النوع استبدال كل ربوي بجنسه، وإنما نُصَّ على الذهب دون غيره من الربويات؛ لكونه استبدال الذهب بالذهب هو الأكثر انتشاراً في المعاملات التجارية في الأسواق، وذلك يرجع إلى عدة عوامل من أهمها أن تجارة الذهب مرتبطة بالمرأة، ، التي كثيراً ما تميل إلى استبدال ما عندها من ذهب؛ إما طلباً للتغيير، وإما سعياً وراء ما يطرح من جديد في الأسواق( ).
النوع الثاني: استبدال غير الذهب
يدخل في هذا النوع كل استبدال للسلع غير الربوية. فتجارة الاستبدال تعد في الواقع تجارة رابحة في كثير من السلع العصرية كالأجهزة الكهربائية، والألكترونية، والسيارات، وغيرها، لاسيما مع التنوع الكبير في هذه السلع والتطور النوعي، والإنتاجي فيها، والذي يجعل المستهلك دائم السعي في طلب الجديد منها، والاستغناء عن القديم.
المطب الثاني: تخريجه الفقهي
المسألة الأولى: تخريج استبدال الذهب
استبدال الذهب الجديد بالمستعمل له حالان:
الحال الأولى: أن يستويا في الوزن
وهذه الحال قسمان :
القسم الأول: أن يكون الاستبدال مع استواء الجديد والقديم في الوزن دون أن يدفع صاحب القديم ثمناً زائداً ، فهذا بيع ذهب بذهب مثلاً بمثل، فإذا حصل التقابض قبل التفرق، فإنه بيع صحيح تترتب عليه آثاره؛ لإكمال شرطي الجواز التماثل، والتقابض.
وجواز هذه الصورة محل اتفاق، فقد أجمع أهل العلم على جواز بيع الذهب بالذهب، إذا كان مثلاً بمثل، يداً بيد، يستوي فيه الجيد وغير الجيد( ).
القسم الثاني: أن يكون الاستبدال مع استواء الجديد والقديم في الوزن، ويقوم صاحب القديم بدفع ثمن زائد مقابل الجديد. فهذا بيع ذهب بذهب مع التفاضل؛ لأن حقيقة الأمر أن ثمن الجديد هو الذهب القديم، وما معه من النقود، التي هي زيادة مقابل صفة الجِدَّة، وبهذه الزيادة يكون الذهب القديم المستبدل أكثر من الذهب الذهب الجديد هذا في قول النبي – -: ((فمن زاد، أو استزاد فقد أربى))( )، وهو نظير ما جاء في حديث أبي سعيد ، وأبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -: استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جَنِيب( )، فقال رسول الله – - : (( أكل تمر خيبر هكذا ؟)) فقال لا. والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقا رسول الله – - : (( بع الجمع( ) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً))( ).
وقد أجمع العلماء على أن الذهب لا يجوز التفاضل في شئ منه( ). وهذا القسم من الاستبدال فيه تفاضلاً بلا ريب، فهو محرم لا يجوز.
الحال الثانية: ألاّ يستويا في الوزن
وهذه الحال قسمان:
القسم الأول: أن يكون القديم أكثر من الجديد
فهذا لا يجوز؛ لعدم التماثل بين البدلين، وأدلة عدم جواز هذه الصورة كثيرة منها قول النبي – -: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل))( ).
وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريم هذه المعاملة، وأنها من الربا المحرم( ).
القسم الثاني: أن يكون الجديد أكثر من القديم
في هذا القسم يدفع صاحب الذهب القديم نقوداً في مقابل الزيادة في وزن الجديد، وبهذا يتبين أن المعاملة في هذا القسم هي
إحدى صور مسألة مد عجوة ودرهم، وهي أن يباع ما يجري فيه الربا بجنسه ومعهما، أو مع أحدهما من غير جنسه .
وقد سبق أن الراجح في هذه المسألة القول بالتحريم ، وعليه فإن هذه الصورة من الاستبدال لاتجوز لما تشتمل عليه من الربا، وبهذا يتبين أنه لايجوز استبدال الذهب الجديد بذهب قديم، إلا إذا كان مثلاً بمثل يداً بيد.
المسألة الثانية: تخريج استبدال غير الذهب
استبدال غير الذهب كالأجهزة الكهربائية، والمعدات والسيارات، وما أشبه ذلك هو في الحقيقة بيع؛ المبيع فيه هو السلعة الجديدة؛ والثمن هو السلعة القديمة، وما يدفع من الفرق بين سعري الجديدة والقديمة.
ويترتب على هذا التخريج أن هذه المعاملة بيع يثبت لها جميع ما يثبت لعقد البيع من آثار وأحكام .
المطلب الثالث: حكمه
يختلف حكم الاستبدال الترغيبي باختلاف أنواعه.
النوع الأول: استبدال الذهب
استبدال الذهب بالذهب، أو الربوي بجنسه لا يجوز، إلا بشرط التماثل والتقابض؛ لقول النبي – – في بيع الذهب بالذهب: ((مثلاً بمثل سواء بسواءً، يداً بيدٍ)).
وأكثر صور استبدال الذهب الجديد بالذهب المستعمل تدخل فيما حكى الإجماع من تحريم الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن( ).
وقد أفتى بالتحريم مطلقاً إلا مع التساوي اللجنة الدائمة العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية( )، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز( )، وفضيلة شيخنا محمد الصالح العثيمين( ).
النوع الثاني: استبدال غير الذهب
استبدال غير الذهب وما في حكمه كالأجهزة الكهربائية والساعات والسيارات وما أشبه ذلك جائز لا حرج فيه شرعاً ، ودليل ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾( )، ويدل عليه أيضاً أن الأصل في المعاملات الحل ما لم يدل دليل على التحريم .
وقد أفتى بجواز ذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية( )، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز( ).
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد فقد تناولت هذه الرسالة موضوع الحوافز المرغِّبة في الشراء في الفقه الإسلامي بالدراسة والبحث ، وقد استقدمت منها فوائد جمة، وتوصلت إلى نتائج عدة.
فمن أبرز النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث ما يلي:
1 - أن الحوافز المرغّبة في الشراء هي ما يقوم به البائع أو المنتج من أعمال تعرف بالسلع أو الخدمات، وتحث عليها، وتدفع إلى اقتنائها، وتملكها من صاحبها بالثمن، سواء كانت تلك الأعمال قبل عقد البيع أو بعده.
2 - أن الحوافز المرغّبة في الشراء كثيرة متنوعة، إلا أن من أبرزها الهدايا، والمسابقات، والتخفيضات، والإعلان والدعاية، ورد السلعة، والضمان والصيانة، واستبدال الجديد بالقديم.
3 - أن الأصل في هذه الحوافز وغيرها من المعاملات الحل والإباحة، مالم يقم دليل التحريم والمنع.
4 - أن أسباب التحريم في المعاملات أن يكون فيها ظلم، أو غرر، أو ربا، أو ميسر، أو كذب وخيانة، أو كانت المعاملة تفضي إلى محرم.
5 - جواز الهدايا التذكارية، واستحباب قبولها ما لم يمنع من ذلك مانع، وعدم جواز الرجوع فيها بعد قبض المهدي إليه.
6 - أن الهدية الترويجية إذا كانت سلعة فلها ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن تكون الهدية موعوداً بها المشتري فأقرب ما تخرَّج عليه حينئذٍ وعد بالهبة، يجب الوفاء به، ويثبت لها ما يثبت للهبة من أحكام.
الحال الثانية: أن تكون الهدية غير موعود بها فأقرب ما تُخرَّج عليه حينئذٍ أنها هبة محضة، يثبت لها جميع ما يثبت للهبة من أحكام.
الحال الثالثة: أن يكون تحصيل الهدية مشروطا بجمع أجزاء مفرقة في أفراد سلعة معينة، وما أشبه ذلك حينئذٍ على أنها هبة محرمة؛ لما تفضي إليه من الإسراف والتبذير وكونها من الميسر المحرم.
7- أن الهدية الترويجية إذا كانت منفعة فلها حالان:
الحال الأولى: أن تكون المنفعة موعوداً بها المشتري فأقرب ما تُخرَّج عليه أنها وعد بهبة المنفعة، وهي جائزة .
الحال الثانية: أن تكون المنفعة مبذولة دون وعد سابق، فتُخرَّج حينئذٍ على أنها هبة محضة .
8- أن الهدايا الإعلانية (العينات) يختلف حكمها باختلاف المقصود منها؛ فإن كان مقصودها التعريف بالسلعة وخصائصها وما إلى ذلك فإنها تكون هبة جائزة يثبت لها ما يثبت للهبة من أحكام، أما إن كان مقصودها أن تكون نموذجاً لما يطلب في السلعة من مواصفات فإنها تكون حينئذٍ هبة جائزة يثبت لها ما يثبت للهبة من أحكام، إلا أنه يجب أن تكون مطابقة للواقع في بيان حقيقة السلعة، وقد اختلف أهل العلم في جواز اعتماد هذه العينات عند إجراء العقود، والراجح جواز ذلك.
9- أن للهدية النقدية الترغيبية صورتين:
الصورة الأولى: أن تكون الهدية النقدية في كل سلعة فأقرب ما تُخرَّج عليه حينئذٍ مسألة مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهي من الربا المحرم.
الصورة الثانية: أن تكون الهدية النقدية في بعض أفراد سلعة معينة فهي حينئذٍ لا تجوز؛ لكونها نوعاً من الميسر، وتحمل على شراء مالا حاجة إليه طمعاً في تحصيل هذه الهدية.
10- أن الهدايا الترغيبية إذا قُدِّمت للشخصيات الاعتبارية حالان:
الحال الأولى: أن تقدم الجهة الاعتبارية نفسها فحكمها في هذه الحال يختلف باختلاف مقصودها، فإن كان غرضها التعريف بالسلعة فإنها تكون
جائزة بذلاً وقبولاً، أما إن كان القصد منها تسهيل أعمال الجهة المهدية أو ما أشبه ذلك فإنها تكون حينئذٍ من الرشوة المحرمة.
الحال الثانية: أن تقدم لمنسوبي الجهات الاعتبارية فحكمها التحريم بذلاً وقبولاً.
11- أن المسابقات من حيث بذل العوض ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما تجوز المسابقة فيه بعوض وبدون عوض، وهو المسابقة في السهام، والإبل والخيل.
القسم الثاني: ما لا تجوز المسابقة فيه مطلقاً، وهو المسابقة في كل شئ أدخل في محرم أو ألهى عن واجب.
القسم الثالث: ما تجوز المسابقة فيه بدون عوض، وهو المسابقة في كل ما فيه منفعة ولا مضرة فيه راجحة ، وهذا القسم لا يجوز بذل العوض فيه مطلقاً سواء كان المتسابقين، أو من أحدهما، أو من أجنبي.
12- أن المسابقات الترغيبية نوعان:
النوع الأول: ما فيه عمل من المتسابقين، ويترجح تخريج هذا النوع على أنه مسابقة على عوض من غير المتسابقين، وعليه فإن هذا النوع من المسابقات الترغيبية محرم.
النوع الثاني: مالا عمل فيه من المتسابقين.
وهذا النوع قسمان :
القسم الأول: ما يشترط فيه الشراء، وهذا محرم، لكونه قماراً.
القسم الثاني: ما لا يشترط فيه الشراء، وهذا القسم يُخرَّج على أنه هبة لمن تعينه القرعة، وهو جائز لا حرج فيه.
13- أن التخفيض الترغيبي أنواع، أبرزها التخفيض العادي والتخفيض بالبطاقة، وأن الأصل في تحديد أسعار السلع والخدمات ارتباطه بقوى العرض والطلب. وأن الراجح جواز بيع السلع والخدمات بأقل من سعر السوق، وبناء على هاتين المقدمتين فإن التخفيض الترغيبي العادي جائز بجميع أنواعه.
14- أن بطاقة التخفيض قسمان:
القسم الأول: بطاقة مستقلة، وهي نوعان:
النوع الأول: بطاقات عامة، ولها ثلاثة أطراف: هي جهة الإصدار، وجهة التخفيض والمستهلك. وهذا القسم من البطاقات التخفيضية محرم؛ لما فيها من الجهالة والغرر الكبيرين، ولما فيها من أكل المال بالباطل، والتغرير بالمستهلكين، وإفضائها إلى المنازعة، والإضرار بالتجار الذين لم يشاركوا فيها وغير ذلك من الأسباب.
والنوع الثاني: بطاقات خاصة، ولها طرفان: هما جهة التخفيض، والمستهلك، وللحصول على هذه البطاقة طريقتان:
الأولى: الاشتراك وحكمها حكم النوع الأول .
والثانية: الإهداء وحكمها الجواز.
القسم الثاني: بطاقة تابعة ، وهي نوعان:
النوع الأول: بطاقة تابعة مجانية، وحكمها يتأثر بحكم البطاقة الأصلية.
15- أن التخفيض الترغيبي المقدم للجهات الاعتبارية قسمان:
القسم الأول: أن يكون للجهات الاعتبارية نفسها، نفسها، وحكمه ينظر فيه إلى القصد من التخفيض، وصلة جهة التخفيض بالشخصية الاعتبارية.
القسم الثاني: أن يكون لمنسوبي الجهات الاعتبارية، وحكمه يحتاج إلى نظر في صلة جهة التخفيض بالشخصية الاعتبارية، إلى نظر في علم الشخصية الاعتبارية بالتخفيض الممنوح لنسوبيها.
16- الإعلان والدعاية الترغيبية إن كانا مدحاً وثناء على السلعة بحق فحكمهما الجواز والإباحة، وإن كانا بغير حق بأن كانا مستملين على كذب وتغرير فحكمهما التحريم والمنع، ويترتب على ذلك ثبوت الخيار للمشتري.
17- أن البيع من العقود اللازمة للطرفين إلا إن تخلّف شرط من شروط العقد، أو وجد سبب من أسباب الفساد أو اشتراط الخيار.
18- أن الرد الترغيبي الذي يستعمله الباعة نوعان:
النوع الأول: رد السلعة وأخذ ثمنها، ويُخرَّج هذا النوع على أنه شرط للخيار، وذلك جائز لا حرج فيه بشرط كون مدته معلومة للمتعاقدين، فلا يجوز أن تكون مدته مؤبدة ولا مطلقة، ويشترط أيضاً ألا تكون السلع مما يجب فيه التقابض قبل التفرق.
النوع الثاني: رد السلعة واستبدال غيرها بها أو تقييد ثمنها لحساب المشتري، وله صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون ذلك مشروطاً، والراجح تخريج هذه الصورة على أنها بيع بشرط صحيح، فهي صورة جائزة لا حرج فيها.
الصورة الثانية: أن يكون ذلك غير مشروط، وتتخرج هذه الصورة على أنها إقالة شرط فيها أن يكون ثمن السلعة الأولى ثمناً في معاوضة جديدة فتكون هذه الصورة جائزة لا حرج فيها.
19- أن ضمان المبيع ينتقل بالبيع عن البائع إلى المشتري إلا في مسائل أبرزها، وألصقها بالبحث ضمان البائع عيب المبيع، وهو على ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يكون العيب حادثاً قبل البيع فهذا العقد من ضمان البائع بالاتفاق.
الحال الثانية: أن يكون العيب حدث في المبيع بعد العقد وقبل قبض المشتري ففيه خلاف بين أهل العلم.
الحال الثالثة: أن يكون العيب حدث بعد قبض المشتري فهذا ليس من ضمان البائع بالاتفاق إلا في مسائل وقع فيها الخلاف كعهدة الرقيق، والعيب المستند إلى سبب سابق على القبض، والجوائح.
20- أن الضمان الترغيبي نوعان:
النوع الأول: ضمان الأداء، وهو يتعلق بأمرين: فما كان منه متعلقاً بسلامة المبيع من العيوب المصنعيّة والفنية، فإنه يتخرج على ضمان العيب الذي لا يعلم إلا بامتحان وتجربة واستعلام؛ وأما ما كان منه متعلقاً
بصلاحية المبيع وقيامه بالعمل فإنه يخرّج على ضمان العيب الحادث في المبيع عند المشتري والمستند إلى سبب سابق. والراجح جواز ضمان الأداء.
النوع الثاني: ضمان معايير الجودة، وهو نوع توثيق جائز لا حرج فيه.
21- أن الصيانة الترغيبية إما أن تكون وقائية، وإما أن تكون طارئة، وتُخرَّج على أنها وعد بمنفعة البائع في المبيع، وهو جائز لا حرج فيها.
22- أن الاستبدال الترغيبي نوعان:
النوع الأول: استبدال الذهب، وهو حالان:
الحال الأولى: أن يستويا في الوزن، وهذه الحال قسمان:
القسم الأول: ألاّ يدفع صاحب القديم ثمناً زائداً، وهذا القسم جائز بالإجماع.
القسم الثاني: أن يدفع صاحب القديم ثمناً زائداً مقابل الجديد، وهذا بيع ذهب بذهب مع التفاضل، وذلك لا يجوز.
الحال الثانية: ألاّ يستويا في الوزن وهذه الحال قسمان:
القسم الأول: أن يكون القديم أكثر من الجديد، فهذا لا يجوز لعدم التساوي .
القسم الثاني: أن يكون الجديد أكثر من القديم، وهذا القسم يتخرج على مسألة مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهذا القسم من الربا المحرم.
النوع الثاني: استبدال غير الذهب ويتخرّج هذا النوع على أنه بيعٌ؛ الثمن فيه هو السلعة القديمة، وما يدفع من الفرق بين سعري الجديد والقديم، وهذا جائز لا حرج فيه.
ثم بعد هذا أحمد الله الولي الحميد على نعمه الظاهرة والباطنة، فله الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شئ بعد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .