×
اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية : كتاب للحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - جمع فيه جملة من اختيارات وأقوال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فنون متنوعة.

 اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (11) اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي (المتوفى 744 هـ) تحقيق سامي بن محمد بن جاد الله إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(1/1)


راجَع هذا الجُزْء سُليمَان بن عَبْد الله العُمير جديع بن محمَّد الجديع

(1/3)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا جزء جمع فيه الحافظ ابن عبد الهادي جملة من اختيارات وأقوال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في فنون متنوعة (التفسير (1)، الحديث (2)، الفقه -وهو الغالب (3) -، وغيرها) (4)، ومن كتب وفتاوى متفرقة. ولم يرتبها الحافظ ابن عبد الهادي ترتيبًا واضحًا، وهذا يحتمل أحد أمرين: الأول: أن يكون هذا الجزء لبنة لمشروع كان يعزم الحافظ ابن عبد الهادي القيام به، وهو جمع اختيارات شيخ الإسلام مرتبة على الأبواب، فيكون هذا الجزء مسودة لذلك. والثاني: أن يكون دوَّن هذه المختارات لاستذكارها وتقريبها. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. __________ (1) وعدد مسائله: (13)، وهي: (96، 100، 123 - 133). (2) وعدد مسائله: (8)، وهي: (93، 94، 95، 116، 146، 147، 149، 151). (3) بقية المسائل التي لم يسبق ذكرها هي فقهية، وعددها (131). (4) انظر: (رقم: 122)، ويوجد في أثناء مسائل التفسير بحوث نحوية أيضًا.

(1/5)


 اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية:

يعدُّ الإمام ابن تيمية من أبرز العلماء المحققين في الفقه، ومع ذلك لا يعرف أنه ألف كتابًا مستقلًا على الأبواب الفقهية، فما سبب ذلك؟ قال الحافظ عمر بن علي البزار (المتوفى سنة: 749) في كتابه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية": (ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلا عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نصٍّ في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومن (1) قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلَّدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه. . . إلخ) (2) ا. هـ. ولكن وفق الله جل وعلا -وله الحمد- طلاب الإمام وأهل العلم لحفظ تركته الفقهية، وكان ذلك على وجوه: 1 - جمع فتاويه المتفرقة، ومن ذلك "الفتاوى المصرية" الشهيرة. 2 - ذكر اختياراته في الكتب، كما نراه في كتب ابن القيم (ت: 751) وابن مفلح (ت: 763) من تلامذة الشيخ، وفي كتب الحافظ ابن رجب (ت: 795) وغيره من أهل العلم. 3 - جمع اختياراته في مؤلف مستقل، والمعروف من ذلك أربعة أعمال: __________ (1) كذا بالأصل، ولعل صوابها: (متى). (2) نبهني على هذا الموضع فضيلة الشيخ / بكر أبو زيد، جزاه الله خيرًا.

(1/6)


(1) جزء الحافظ ابن عبد الهادي (ت: 744) هذا، ولعله أول عمل على هذا النحو، وعدد مسائله الفقهية: (131) مسألة كما سبق. (2) جزء برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن أبي بكر الزرعي ثم الدمشقي، الشهير بـ "ابن ابن قيم الجوزية" (ت: 767)، وقد طبع مرات، آخرها سنة (1413) بتحقيق وشرح / أحمد موافي، باسم: "المسائل الفقهية من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية" عن "دار الصفا" بالقاهرة. وحوى (98) مسألة، قسمها المؤلف إلى أربعة أقسام، هي: 1 - مسائل مستغربة لندرة القائل بها. 2 - ما هو خارج عن مذاهب الأئمة الأربعة، ولكن الخلاف فيه محكي. 3 - ما هو خارج عن مذهب أحمد، لكن قال به غيره من الأئمة. 4 - ما اختاره مما هو مخالف للمشهور في مذهب أحمد. وقال عنه الشيخ / بكر أبو زيد: "هي رسالة محررة" (1). (3) كتاب أبي الحسن علي بن محمَّد بن علي البعلي، المعروف بـ "ابن اللحام" (ت: 803)، وطبع مرات كثيرة، من آخرها سنة (1418)، بتحقيق / أحمد الخليل، باسم: "الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية" عن "دار العاصمة" بالرياض. وقال ابن المبرد في "الجوهر المنضد": (ص: 114) في ترجمة __________ (1) "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره": (ص: 23).

(1/7)


ابن مفلح: (كان معظما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ينقل اختياراته في كتبه كثيرًا، وغالب ما ذكره أبو الحسن اللحام في "اختياراته" فإنه من "الفروع") ا. هـ. وهو أشهر وأوسع ما كتب في ذلك، لكنه لم يستوعب اختيارات الشيخ كما قاله المرداوي في مقدمة "الإنصاف": (1/ 20). (4) "نظم ما انفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأئمة الأربعة" للشيخ سليمان بن سحمان (ت: 1349)، وهو في "ديوانه": (ص: 520).

  عناية ابن عبد الهادي بمؤلفات ابن تيمية واختياراته:

الناظر في كتب الحافظ ابن عبد الهادي يلحظ عنايته الكبيرة بكتب شيخه، وتمثلت تلك العناية في جانبين: الأول: جمعها ومطالعتها وحصر أسمائها، ومن قرأ كلامه في ذكر مصنفات شيخ الإسلام- في كتابه المفرد في ترجمة الشيخ "العقود الدرية"- ظهر له عنايته الفائقة بكتب الشيخ، ومعرفته بنسخها ومضامينها وعلاقة بعضها ببعض، ووجد كلامه عنها كلام من خبر تلك الكتب، وإليك بعض كلامه في ذلك: قال في "العقود الدرية": (ص: 41): (كتاب "درء تعارض العقل والنقل" في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر من أربع مجلدات، كتاب حافل عظيم المقدار، رد الشيخ فيه على الفلاسفة والمتكلمين، وله كتاب في نحو مجلد أجاب فيه عما أورده كمال الدين بن الشريشي (1) على هذا الكتاب) ا. هـ __________ (1) كذا بالأصل، وصوابه: (الشَّرِيسي)، انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: (14/ 91).

(1/8)


وقال أيضًا: (ص: 44): (كتاب "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" في ست مجلدات، وبعض النسخ منه في أكثر من ذلك، وهو كتاب جليل المقدار معدوم النظير، كشف الشيخ فيه أسرار الجهمية وهتك أستارهم، ولو رحل طالب العلم لأجل تحصيله إلى الصين ما ضاعت رحلته) ا. هـ وقال أيضًا: (ص: 45): (كتاب "جواب الاعتراضات المصرية على الحموية" في أربع مجلدات، وبعض النسخ منه في أقل، وهو كتاب عزيز الفوائد، سهل التناول. ومنها كتاب الرد على النصارى، سماه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" في مجلدين، وبعض النسخ منه في ثلاث مجلدات، وبعضها في أكثر، وكذلك كثير من كتبه الكبار تختلف النسخ بها، وهذا الكتاب من أجل الكتب وأكثرها فوائد، ويشتمل على تثبيت النبوات وتقريرها بالبراهين النيرة الواضحة، وعلى تفسير آي كتير من القرآن، وعلى غير ذلك من المهمات) ا. هـ وقال أيضًا -بعد انتهائه من سرد جملة كبيرة من مؤلفات الشيخ-: (ص: 80): (وسأجتهد -إن شاء الله تعالى- في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأبين ما صنفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتبه ترتيبًا حسنًا غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته) ا. هـ وكان رحمه الله -وحق له- محتفيًا بكتب شيخه كما تراه في أماكن متفرقة من مصنفاته، فقال في "العقود الدرية": (ص: 42): (ولا أعلم أحدًا من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع،

(1/9)


ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبًا من ذلك) ا. هـ وذكر نحو هذه العبارة في كتابه "طبقات علماء الحديث": (4/ 290) تحت ترجمة الشيخ، وقال فيه: (4/ 121) -تحت ترجمة ابن الجوزي-: (لا أعلم أحدًا صنف أكثر من ابن الجوزي إلا شيخنا الإمام الرباني أبا العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني رضي الله عنه) ا. هـ الثاني: الانتخاب منها والنقل عنها، وربما كان ذلك في أجزاء مفردة -كما في "رسالة لطيفة" وهذا الجزء- وأكثره في مصنفاته المختلفة، وهو شيء كثير يصعب حصره الآن، ولكن أذكر بعض الأمثلة له، قال رحمه الله في "تنقيح التحقيق": لما ذكر مسألة الجد والإخوة: (واعلم أن لشيخنا العلامة أبو العباس في هذه المسألة مصنفًا جليلًا، فمن أحب الوقوف عليه فليسارع إليه، ثم إني بعد أن كتبت هذا الكلام بمدة جمعت الآثار الواردة في هذه المسألة، وذكرت ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الاختلاف فيها في عدة كراريس، ثم حكيت كلام شيخنا بحروفه في آخر ذلك) ا. هـ وانظر المسائل: (1، 23، 25) من "تنقيح التحقيق" أيضًا. ومما تحسن الإشارة إليه أن الحافظ ابن عبد الهادي ربما نقل نصًّا طويلًا من كلام شيخ الإسلام في صفحات، فيأتي بعض الباحثين فينظر في وسط ذلك الكلام فيتوهم أنه لابن عبد الهادي، وربما نقلوه منسوبًا إليه، وإنما هو مما نقله عن شيخ الإسلام. ومن ذلك نصوص كثيرة في "الصارم المنكي" نقلها من كتب شيخ الإسلام: (انظر: ص: 41 - 54، 64 - 67، 103 - 115، 151 - 197، 199 - 220، وغيرها).

(1/10)


بقي أن أشير إلى أن الحافظ ابن عبد الهادي قد ذكر في كتابه "العقود الدرية" عشرين مسألة من اختيارات الشيخ التي خالف فيها أئمة المذاهب الأربعة، أو خالف المشهور من أقوالهم (ص: 338 - 340) (1). توثيق نسبة الجزء: جاء على طرة النسخة ما نصه: (جزء يشتمل على فروع، جمع الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمَّد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي- رحمة الله عليه-، اختيار شيخ الإسلام - رضي الله عنه -) ا. هـ وجاء في بداية الفصل الثاني من هذا الجزء العبارة التالية: (قال شيخنا الحافظ ابن عبد الهادي -رحمة الله عليه-. . . إلخ) ا. هـ ومما يؤكد صحة هذه النسبة: ما سبق ذكره من عناية الحافظ ابن عبد الهادي بمؤلفات واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن لماذا لم يُذكر هذا الجزء في المصادر المترجمة لابن عبد الهادي التي وصلتنا؟ الجواب عن هذا من وجوه: 1 - أن هذه المصادر لم تستقص جميع مؤلفاته -رحمه الله-، فقد قال الحافظ ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" - بعد أن سرد جملة كبيرة من مؤلفات ابن عبد الهادي - (4/ 439): (وله رد على ابن طاهر وابن دحية وغيرهما، وتعاليق كثيرة في الفقه وأصوله، والحديث، ومنتخبات في أنواع العلم) ا. هـ وقال ابن قاضي شهبة في ترجمة ابن عبد الهادي من "تاريخه" (2/ 396 - الجزء الأول من المخطوط) -بعد أن ذكر طائفة من كتبه-: (وله مصنفات آخر كثيرة سردناها في أصل هذا التاريخ في __________ (1) ذكر منها خمس مسائل في هذا الجزء، وأرقامها: (3، 13، 104، 115، 120).

(1/11)


نحو ورقتين) ا. هـ. وعدم استقصاء مؤلفات المترجَم هذا هو الغالب على كتب التراجم، وإنما يحرص على الاستقصاء من أفرد عَلَمًا من الأعلام بمصنف مستقل، والحافظ ابن عبد الهادي من المكثرين من التأليف، حتى قال ابن المبرد في "الجوهر المنضد": (ص: 55) تحت ترجمة عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي (أخي صاحب الجزء): (له كتاب في أسماء مصنفات أخيه شمس الدين) ا. هـ. 2 - أن هناك أثرًا آخر من آثار ابن عبد الهادي وصلنا ولم تذكره مصادر ترجمته، وهو ما طبع باسم: "رسالة لطيفة في أحاديث متفرقة ضعيفة"، وقد جاء في صدرها ما يلي: (رأيت بخط الحافظ شمس الدين محمَّد بن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في أثناء كلام له، قال: (فصل قال شيخنا في أثناء كلامه في الرد على الرافضي. . . إلخ) ا. هـ. فأفادنا هذا النص فائدتين: أولاهما: اتجاه عناية الحافظ ابن عبد الهادي إلى الانتخاب من كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية. وثانيتهما: أن هذا الجزء الذي طبع باسم "رسالة لطيفة" قد كان في الأصل في أثناء كلام للحافظ ابن عبد الهادي، فلم لا يكون هذا المنتخب الذي بين أيدينا أصله جزء آخر من ذلك الكلام؟ الله أعلم. 3 - ليس هناك في هذا الجزء ما يدفع نسبته لابن عبد الهادي، بل في تضاعيفه ما يؤكد أنه له، فكثيرًا ما يطلق المنتخِب لقب "شيخنا" على شيخ الإسلام ابن تيمية. وبكل حال فليس في هذا الجزء ما ينسب لابن عبد الهادي سوى

(1/12)


الجمع والانتخاب ونسبة ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ثبت بتتبع أكثر نصوصه أنها من كلام شيخ الإسلام واختياراته من خلال مصادر أخرى، وأما النصوص التي لم أقف عليها في مصادر أخرى فنَفَس شيخ الإسلام يفوح منها. وصف النسخة الخطية: اعتمدت في إخراج هذا الجزء على نسخة خطية وحيدة، محفوظة في "دار الكتب الظاهرية" بدمشق، وقد حصلت على نسخة مصورة منها من مصورتها المحفوظة في "قسم المخطوطات بجامعة الإمام" بالرياض، تحت الرقم: (1863 / ف). وعدد أوراق النسخة: (54)، ولم يكتب عليها تاريخ نسخها ولا اسم ناسخها، كما لم أر فيها ما يدل على أصلها الذي نسخت منه، ولا ما يفيد مقابلتها عليه أو على غيره، بل حال النسخة يشهد بأنها لم تقابل ولم تصحح كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وجاء على طرة النسخة التوقيفة التالية: (وقف أحمد بن يحيى النجدي، المحل: مدرسة أبي عمر في الصالحية) ا. هـ، وجاء على الورقة الأولى منها: (طالعه جميعه مالكه أحمد بن يحيى بن عطوة، ولله الحمد والمنة) ا. هـ وهذا يفيد أنها نُسخت قبل القرن العاشر أو في أوائله، لأن الشيخ ابن عطوة توفي سنة (948)، وهو من علماء نجد المشاهير، وترجم له غير واحد، وأوفى من ترجم له: الشيخ عبد الله البسام في كتابه الفريد "علماء نجد. . .": (1/ 544 - 552)، ومما ذكر في ترجمته قوله: (وحصَّل المترجَم كتبًا كثيرة جدا، وعند خروجه [من

(1/13)


الشام] إلى نجد وقف الكثير منها على "مدرسة أبي عمر". . . . وفي إحدى سفراتي إلى دمشق زرت المكتبة الظاهرية، ودخلت "خزانة المخطوطات"، فوجدت الكثير منها من كتب المترجَم التي وقفها، ومكتوب عليها هذه العبارة: "وقف أحمد بن يحيى النجدي، المحل: مدرسة أبي عمر بالصالحية") ا. هـ والنسخة خطها مقروء، لكنها -مع الأسف الشديد- غير جيدة، فهي مليئة بالتصحيف والتحريف، والسقط والتكرار، وهذا يؤكد ما ذكرت آنفًا من أنها لم تقابل. لذا كان مما لا بد منه تتبع ما نقل في الجزء من اختيارات وأقوال الشيخ في فتاويه ومصنفاته التي وصلتنا، وقد منَّ الله تعالى بالوقوف على أكثر ذلك إما نصا أو معنى، وقد عزوت ذلك في الحواشي، فإن كان نص الكلام موجودًا في مصدر آخر أكتفي بالإحالة عليه، وأما إن كان فيه بعض الاختلاف فأصدِّر الإحالة بكلمة: (انظر)، فإن أهملت العزو فذلك علامة على عدم وقوفي عليه. وأما تصحيح الأخطاء التي في النسخة فله حالان: الأول: ما كان في النصوص التي وقفت عليها في مصادر أخرى، فأصححها منها، وأنبه على ذلك في الحاشية. والثاني: ما كان فيما لم أقف عليه في مصدر آخر، فإن كان تصحيفًا أثبت ما أرى أنه الصواب بين معقوفتين، وأنبه في الحاشية على الذي بالأصل، وأما إذا ظهر لي أن في الكلام سقطًا، فأجتهد في استدراك الساقط، وأضعه بين معقوفتين، ولكثرة ذلك تركت التنبيه عليه في الحاشية اكتفاءً بهذا التنويه، فكل ما كان بين معقوفتين ولم

(1/14)


أعلق عليه فهو مما اجتهدت في استدراكه، والله الموفق للصواب. اسم الجزء: ليس هناك اسم واضح لهذا الجزء، والذي يبدو أن الحافظ ابن عبد الهادي لم يسمه، وجميع الأسماء التي أطلقت عليه هي من تصرف الناسخ والملاك، وهي لا تعبر عن مضمونه، ومن تلك الأسماء التي أطلقت عليه: 1 - (فروع لعبد الهادي المقدسي الحنبلي) وبهذا الاسم ورد في "فهرس مخطوطات جامعة الإمام"، وهذا فضلًا عن كونه لا يعبر عن مضمون الجزء فيه خطأ في ذكر اسم المنتخِب. 2 - ومنها: (فتاوى محمد بن عبد الهادي المقدسي) وهذا هو الاسم الذي ورد في "فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية - المجاميع" لياسين السواس: (2/ 102)، وهو مخالف تمامًا لمضمون الجزء. 3 - ومنها: (جزء يشتمل على فروع، جمع الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمَّد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي رحمة الله عليه، اختيار شيخ الإسلام رضي الله عنه)، وهو العنوان المثبت على طرة الجزء، وهذا وإن كان أقرب الأسماء إلى مضمون الجزء إلا أنه لا يفي بالغرض. لذا اجتهدت في اختيار اسم أرجو أن يكون مناسبًا لمضمون الجزء، وهو: "المنتخب من أقوال واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية"، واستفدت في ذلك من كلمة الحافظ ابن رجب السالفة: (وله. . . منتخبات في أنواع العلم) ا. هـ ثم بعد ذلك أشار علي عدد من الإخوة بتعديل الاسم لطوله، كما أشار

(1/15)


فضيلة الشيخ / بكر أبو زيد، بتسميته "اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية"، وهو مقارب لما جاء على النسخة الخطية، فكانت تسميته بذلك، والله الموفق. وفي ختام هذه المقدمة أتوجه بالشكر للإخوة الأفاضل الذين تفضلوا بقراءة الجزء قبل طبعه، والذين أفدت من ملحوظاتهم، فجزاهم الله خيرًا. وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذا العمل، وأن يغفر لي ولوالدي ولمشايخي وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد الأمين، وآله وصحبه والتابعين. وكتب سامي بن محمَّد بن جاد الله 24/ 6 / 1421 (1) الرياض __________ (1) ثم أعدت النظر فيه في شهر ذي القعدة، من سنة 1422، وكان قد صدر في هذه الفترة مجموع بعنوان "المجموعة العلية من كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية"، جمع وتحقيق: الشيخ / هشام بن إسماعيل الصيني، ومجموع آخر بعنوان "جامع المسائل" جمع وتحقيق: الشيخ / محمد عزير شمس، وقد حوى هذان المجموعان كتبًا وفتاوى لشيخ الإسلام تنشر لأول مرة، فأعدت النظر في المواضع التي كنت لم أقف عليها، فوجدت عدة مواضع منها مذكورة في هاذين المجموعين، فأثبت العزو إليهما، والحمد لله على توفيقه.

(1/16)


نموذج من النسخ الخطية: صورة من الورقة التي كتب عليها العنوان

(1/17)


نموذج من النسخ الخطية: صورة من الورقة الأولى للجزء

(1/18)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم. فصل 1 - ذهب شيخنا -رحمه الله- إلى أنَّ الحاجم والمحجوم يفطران، وكذلك المفصود، ولا يفطر عنده الفاصد ولا المشروط ولا الشارط (1). 2 - وذهب إلى أنَّ من احتقن، أو اكتحل، أو قطر في إحليله، أو داوى المأمومة أو الجائفة بما يصل إلى جوفه، أو ابتلع ما لا يغذّي -كالحصاة-، لا يفطر (2). 3 - وذهب إلى أنَّ من أكل يظنُّه ليلًا فبان نهارًا، فلا قضاء عليه (3). 4 - وذهب إلى أنَّ من رأى هلال رمضان وحده لا يصوم، وكذلك من رأى هلال شوال وحده لا يفطر، لا سرًّا ولا جهرًا (4). __________ (1) "الفتاوى": (25/ 256 - 258)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (160). (2) "الفتاوى": (25/ 233 - 234، 20/ 528)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (160). (3) "الفتاوى": (20/ 571 - 573)، "العقود الدرية": (ص: 338)، "الاختيارات" للبعلي: (161)، وانظر: "الفتاوى": (25/ 216 - 217). (4) "الفتاوى": (25/ 114 - 115، 204)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (158).

(1/21)


5 - وذهب إلى عدم وجوب صوم الثلاثين [من] شعبان إذا غمَّ الهلال، وضعَّف القول بالتحريم والقول بالوجوب تضعيفًا كثيرًا، ومال إلى أنَّ الصوم مندوبٌ أو جائزٌ (1). وذكر في بعض مؤلَّفاته أنَّ القول بوجوب الصوم بدعةٌ، وأنَّه لا يعرف عن أحد من السلف. 6 - قال [. . .] (2): (ليس لولي الصبي (3) إلباسه الحرير في [أظهر] (4) قولي العلماء) (5) 7 - وذهب إلى أنَّ ذوات الأسباب -كتحية المسجد، والركعتين عقيب الوضوء، وغير ذلك- تفعل في أوقات النهي (6). 8 - وذهب إلى جواز دفع الزكاة إلى جميع الأقارب، كالجدَّة والابن وغيرهما (7). 9 - وذهب إلى أنَّ الجمعة والجماعة لا يدركان إلَّا بركعةٍ (8). __________ (1) "الفتاوى": (25/ 98 - 100، 122 - 125)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم (رقم: 89)، "الاختيارات" للبعلي: (159). (2) أقحمت هنا كلمة: (وذهب) فحذفتها. (3) كذا بالأصل، وفي "الفتاوى": (اليتيم). (4) سقطت من الأصل، فاستدركت من "الفتاوى". (5) "الفتاوى": (30/ 51)، وانظر: "الاختيارات": (115). (6) "الفتاوى": (23/ 191 - 199، 210، 219، 221)، "الاختيارات" للبعلي: (101). (7) "الفتاوى": (23/ 91 - 92)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (154 - 155). (8) "الفتاوى": (23/ 243، 255 - 256، 330 - 331)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (104).

(1/22)


10 - وذهب إلى أنَّ من جامع في رمضان ناسيًا أو مخطئًا لا قضاء عليه ولا كفارة (1). 11 - وذهب إلى أنَّ الحجَّ لا يبطل بفعل شيء من المحظورات -لا الجماع ولا غيره- إذا كان ناسيًا أو مخطئًا، [و] لا يضمن إلا الصيد (2). 12 - وقال [. . .] (3): (من أدرك مع الإمام بعض الصلاة وقام يقضي، فأتمَّ به آخرون جاز ذلك [في] (4) أظهر القولين) (5). 13 - وذهب إلى أنَّ الماء المغيَّر بالطاهرات، لا يسلب الطهورية، بل يجوز الوضوء به ما دام يسمَّى ماءً (6). 14 - وذهب إلى أنَّ الماء والمائعات لا تنجس إلا بالتغيُّر (7). 15 - وذهب إلى أنَّ بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهرٌ، وذكر أنَّ القول بنجاسة ذلك قولٌ محدثٌ، لا سلف له من الصحابة (8). 16 - وذهب إلى أنَّ الأرض تطهر إذا أصابتها نجاسةٌ ثم ذهبت بالشمس __________ (1) "الفتاوى": (25/ 226، 228). (2) "الفتاوى": (25/ 226 - 227). (3) أقحمت هنا في الأصل كلمة: (وذهب). (4) في الأصل: (من). (5) انظر: "الفتاوى": (22/ 257). (6) "الفتاوى": (21/ 24 - 25، 331)، "العقود الدرية": (ص: 339)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 74)، "الاختيارات" للبعلي: (8). (7) "الفتاوى": (21/ 30 - 32)، "العقود الدرية": (ص: 339)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 40)، "الاختيارات" للبعلي: (10 - 11). (8) "الفتاوى": (21/ 613)، "الاختيارات" للبعلي: (42).

(1/23)


أو الريح ونحو ذلك، وأنَّه يصلَّى عليها، ويتيمَّم بها (1). 17 - وذهب إلى أنَّ الخمرة إذا قصد تخليلها لا تطهر بحالٍ (2). 18 - وذهب إلى أنَّ النجاسات تطهر بالاستحالة (3). 19 - وذهب إلى أنَّ طين الشوارع [طاهرٌ] (4) إذا لم يظهر [به] (5) أثر النجاسة، فإن [تيقن] (6) أنَّ النجاسة فيه عفي عن يسيره (7). 20 - وقال: (الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنَّ جلد الكلب -بل سائر السباع- لا يطهر بالدباغ) (8). وقال في موضع آخر: (السنة تدلُّ على أنَّ الدباغ كالذكاة) (9). 21 - وذكر خلاف الفقهاء في من قال: عليَّ مالٌ عظيمٌ، أو: خطيرٌ، أو: كبيرٌ، أو: جليلٌ؛ ثم قال: (والأرجح في مثل هذا أن يرجع إلى عرف المتكلِّم، فما كان يسمِّيه مثله كثيرًا حمل على مطلق كلامه، __________ (1) "الفتاوى": (21/ 483)، "الاختيارات" للبعلي: (41). (2) انظر: "الفتاوى": (21/ 503)، "الاختيارات" للبعلي: (39). (3) "الفتاوى": (21/ 70، 209، 478 - 481)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 59)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (39). (4) في الأصل: (طاهرا). (5) في الأصل: (منه)، والمثبت من المصدر. (6) في الأصل: (تعين)، والمثبت من المصدر. (7) "الفتاوى": (21/ 482)، "الاختيارات" للبعلي: (40 - 41، 43). (8) "منهاج السنة النبوية": (3/ 428). (9) "الفتاوى": (21/ 518)، وانظر: "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 79)، "الاختيارات" للبعلي: (42).

(1/24)


على أقل محملاته) (1). 22 - وذكر الاختلاف في طهارة الكلب ونجاسته، ثم قال: (والقول الراجح طهارة الشعور كلِّها -كشعر الكلب والخنزير وغيرهما- بخلاف الريق). قال: وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطبًا وأصابه ثوب الإنسان، فلا شيء عليه، كما هو مذهب جمهور الفقهاء، [كأبي] (2) حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه) (3). 23 - وذهب إلى أنَّ لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله (4). 24 - وذهب إلى [أنَّ] عظم الميتة وقرونها وأظفارها طاهرٌ حلالٌ، وحكاه عن جمهور السلف (5). 25 - وذهب إلى أنَّ جبن المجوس طاهرٌ، وإلى أنَّ إنفَحَة (6) الميتة ولبنَها طاهرٌ (7). 26 - وذكر [أنَّ] أكثر العلماء يجوِّزون التوضؤ [بسؤر] (8) البغل والحمار، __________ (1) "منهاج السنة النبوية": (4/ 83 - 84). (2) في الأصل: (أبو)، والمثبت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (21/ 617)، وانظر: "الاختيارات": (38). (4) "الفتاوى": (21/ 620)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (44). (5) "الفتاوى": (21/ 96 - 101)، وانظر: "الاختيارات": (43). (6) في "القاموس": (313 - نفح): (الإنفحة -بكسر الهمزة، وقد تشدد الحاء، وقد تكسر الفاء-. . .: شيء يستخرج من بطن الجدي الرضيع، أصفر، فيعصر في صوفة فيغلظ كالجبن) ا. هـ. (7) "الفتاوى": (21/ 102 - 104). (8) بياض بالأصل واستدرك من المصدر.

(1/25)


ولم يصرِّح باختياره فيه (1). 27 - وذهب إلى أنَّ النجاسات تزول بغير الماء من المائعات. وقال بعد أن ذكر اختلاف الفقهاء: (وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أنَّ النجاسة متى زالت بأيِّ وجهٍ كان زال حكمها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجةٍ؛ لما في ذلك من إفساد الأموال) (2). 28 - وذهب إلى أن من صلَّى [و] عليه نجاسةٌ جاهلًا أو ناسيًا، لا إعادة عليه، ثم ذكر الدليل، وقال: (ولهذا كان أقوى الأقوال أنَّ ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يُبطِلُ العبادة، كالكلام ناسيًا والأكل) (3). 29 - وذهب إلى أنَّ النعل إذا أصابته نجاسةٌ فدلكه في الأرض، فإنَّه يطهر (4). 30 - وذهب إلى أنَّ الصلاة بالتيمُّم خارج الحمَّام أولى من الصلاة بعد الاغتسال في الحمَّام، فإنَّه قال في أثناء كلامه: (وأمَّا إن كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب، لكن إذا دخل لا يمكنه الخروج حتَّى يفوت الوقت، إمَّا لكونه مقهورًا، مثل: الغلام الذي لا يخلِّيه سيِّده يخرج حتَّى يصلِّي، ومثل: المرأة التي معها أولادها فلا يمكنها الخروج __________ (1) "الفتاوى": (21/ 620). (2) "الفتاوى": (21/ 474 - 475)، "الاختيارات" للبعلي: (39). (3) "الفتاوى": (21/ 477 - 478)، "الاختيارات" للبعلي: (66). (4) "الاختيارات" للبعلي: (39)، وانظر: "الفتاوى": (21/ 474 - 475، 480).

(1/26)


حتَّى تغسلهم، ونحو ذلك = فهؤلاء لا بدَّ لهم من أحد الأمور: إمَّا أن يغتسلوا ويصلُّوا في الحمَّام في الوقت، وإمَّا أن يصلُّوا خارج الحمَّام بعد خروج الوقت، وإمَّا أن يصلُّوا بالتيمُّم خارج الحمَّام؛ وبكلِّ هذه الأقوال يفتي طائفةٌ، ولكنَّ الأظهر أنَّهم يصلُّون بالتيمُّم خارج الحمَّام) (1). وقال أيضًا: (إذا ذهب إلى الحمَّام ليغتسل ويخرج يصلِّي خارج الحمَّام في الوقت، فلم يمكنه إلَّا أن يصلِّي في الحمَّام أو تفوت الصلاة، فالصلاة في الحمَّام خير من تفويت الصلاة). قال: (وأمَّا إن كان [يعلم أنَّه] (2) إذا ذهب إلى الحمَّام لم يمكنه الخروج حتَّى يخرج الوقت [. . . .] (3) هذه المسألة، والأظهر أن يصلي بالتيمُّم، فإنَّ الصلاة بالتيمُّم خيرٌ من: الصلاة في الأماكن التي نهي عنها" ومن الصلاة بعد خروج الوقت) (4). 31 - وذهب إلى [أنَّ] من حبس في موضعٍ نجسٍ فصلَّى فيه، أنه لا إعادة عليه. وقال: (الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنَّ كلَّ من صلَّى في الوقت كما أُمر بحسب [الإمكان] (5) فلا إعادة عليه، سواءً كان العذر نادرًا أو معتادًا) (6). __________ (1) "الفتاوى": (21/ 447)، "الاختيارات" للبعلي: (36). (2) بياض في الأصل، واستدرك من "الفتاوى". (3) بياض في الأصل، وفي "الفتاوى": (فقد تقدمت). (4) "الفتاوى": (22/ 161). (5) في الأصل: (الأماكن)، والتصويب من "الفتاوى". (6) "الفتاوى": (21/ 448)، "الاختيارات" للبعلي: (36).

(1/27)


32 - وذهب إلى صحة صلاة من صلَّى خلف إمامٍ يقرأُ: (غير المغضوب عليهم ولا الظالمين) بالظاء، فإنَّه حكى الخلاف في ذلك، وقال: (الوجه الثاني: تصحُّ، وهذا أقرب، لأنَّ الحرفين في السمع شيءٌ واحدٌ)، ثم ذكر تمام الدليل (1). 33 - وذهب [إلى] أنَّ المرأة الحائض إذا انقطع دمها لا يطؤها زوجها حتَّى تغتسل إن كانت قادرةً على الاغتسال، وإلَّا تيمَّمت، وذكر الدليل [ثمَّ] قال: (وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فَإِذَا تَطَهَرْنَ} [البقرة: 222] أي: غسلن فروجهن. وليس بشيءٍ، لأنَّه قد قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا} [المائدة: 6] فالتطهر في كتاب الله هو: الاغتسال). قال: وأمَّا قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِرِينَ (222)} [البقرة: 222] فهذا يدخل فيه: المغتسل والمتوضئ والمستنجي، لكن التطهر المقرون بالحيض كالتطهر المقرون بالجنابة، والمراد به الاغتسال) (2). 34 - وذهب إلى أنَّ عادم الماء إذا لم يجد ترابًا وعنده [رمادٌ] (3)، وتيمَّم به، يصلِّي ولا يعيد، قال: (وحمل التراب بدعةٌ لم يفعله أحدٌ من السلف) (4). 35 - وذهب إلى أنَّه لا يجب الوضوء من النجاسة الخارجة من غير __________ (1) "الفتاوى": (23/ 350). (2) "الفتاوى": (21/ 624 - 626)، "الاختيارات" للبعلي: (45). (3) في الأصل: (رمادًا). (4) انظر: "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 75)، "الاختيارات" للبعلي: (36، 34)، "الفروع" لابن مفلح: (1/ 224).

(1/28)


السبيلين -كالفصاد والحجامة والقيء-، بل يستحب الوضوء من ذلك (1). 36 - وكذلك لا يجب الوضوء من غسل الميِّت، ولا من مسِّ الذكر، ولا القهقهة في الصلاة، بل [يستحب] (2). 37 - وأمَّا مسُّ النساء فإن كان لغير شهوة فإنَّه لا يجب منه الوضوء [. . . .] (3). 38 - وكذلك من يفكِّر فتتحرك جارحته -أو قال: شهوته- (4) فانتشر، يستحب له الوضوء؛ ومن مسَّ الأمرد أو غيره فانتشر، يستحب له الوضوء أيضًا ولا يجب، ويستحب الوضوء أيضًا من الغضب ومن أكلِ ما مسَّته النار (5). 39 - وأمَّا لحم الإبل فذهب إلى أنَّه يستحب منه الوضوء أيضًا، ومال في موضعٍ إلى وجوب الوضوء منه، ومرَّةً توقَّف في الوجوب (6). __________ (1) "الفتاوى": (21/ 222، 242، 25/ 238، 35/ 358)، "الاختيارات" للبعلي: (28). (2) في الأصل: "تستحب"، وانظر: "الفتاوى": (20/ 526 - 527، 21/ 222، 241 - 242). (3) في الأصل هنا: (ولم يجب)، ولا معنى لها فإما أنها مصحفة عن "ولكن يستحب" بدليل ما عطف عليها بعد ذلك، وإما أن هناك سقطًا، والله أعلم. وانظر: "الفتاوى": (20/ 526 - 527، 21/ 232 - 242)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 81)، "الاختيارات" للبعلي: (28). (4) كذا بالأصل، ويبدو أنه وقع فيه خطأ من الناسخ، وفي "الفتاوى": (فتحركت شهوته) حسب، والله أعلم. (5) "الفتاوى": (25/ 238)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (28). (6) "الفتاوى": (21/ 10 - 16، 260 - 265)، "الاختيارات" للبعلي: (28).

(1/29)


وقال في كلامه على المسائل التي [قيل] فيها: إنَّها على خلاف القياس: (وأمَّا لحم الإبل فقد قيل: التوضؤ منه مستحبٌ، ولكنَّ تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين لحم الغنم - مع أنَّ ذاك مسَّته النار والوضوء منه مستحبٌ - دليلٌ على الاختصاص، وما فوق الاستحباب إلّا الإيجاب، وقد يقال: الوضوء منه أوكد) (1). 40 - قال: (وأمَّا الوضوء من الحدث الدائم لكلِّ صلاةٍ ففيه أحاديث متعددةٌ، وقول الجمهور الذين يوجبون الوضوء لكلِّ صلاةٍ أظهر) (2). 41 - وذهب إلى أنَّ الخفَّ إذا كان فوقه (3) خرقٌ يسيرٌ يجوز المسح عليه (4). 42 - وذهب إلى أنَّه لا يتيمَّم للنجاسة [التي] على البدن (5). 43 - وذهب إلى أنَّ صلاة المأموم قُدَّام الإمام تصحُّ مع العذر دون غيره، مثل: إذا كان زحمةً فلم يمكنه أن يصلِّي الجمعة والجنازة إلا قُدَّام الإمام (6). 44 - وذهب إلى جواز المساقاة والمزارعة، [وقال: (القول بجواز __________ (1) "الفتاوى": (20/ 524)، وليس فيها قوله: (وقد يقال: الوضوء منه أوكد). (2) "الفتاوى": (20/ 527) باختصار. (3) كذا بالأصل، وفي "الفتاوى": (فيه)، وقال شيخنا عبد الله بن عقيل: (لعل الصواب: "خَرْقُه") ا. هـ. فيكون ما بعدها (خرقًا يسيرًا) والله أعلم. (4) "الفتاوى": (21/ 212)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 62)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (24). (5) "الاختيارات" للبعلي: (35). (6) "الفتاوى": (23/ 404)، "الاختيارات" للبعلي: (108).

(1/30)


المساقاة والمزارعة] (1) قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا مذهب الليث بن سعد وابن أبي ليلى و [أبي] يوسف ومحمَّدٍ، وفقهاء الحديث: كأحمد بن حنبلٍ وإسحاق بن راهُويه ومحمَّد بن إسحاق [] (2) بن خزيمة وأبي بكر ابن المنذر والخطَّابي وغيرهم، رضي الله عنهم. بل الصواب أنَّ المزارعة أحلُّ من الإجارة بثمنٍ مسمّى، لأنَّها أقرب إلى العدل وأبعد عن الخطر) (3). وقال أيضًا: (فأمَّا المزارعة فجائزٌ بلا ريبٍ، سواءً كان البذر من المالك أو العامل أو منهما، وسواءً كان بلفظ الإجارة أو المزارعة أو غير ذلك، وهذا أصحُّ الأقوال في هذه المسألة. وكذلك كلُّ ما كان من هذا الجنس، مثل: أن يدفع دابته أو سفينته إلى من يكتسب عليها والربح بينهما، أو من يدفع ماشيته أو نحله إلى من يقوم عليهما والصوف واللبن والولد والعسل بينهما) (4). وقال في موضع آخر: (من أعطى النظر حقَّه علم أن المزارعة أبعد من (5) الظلم والقمار من الإجارة بأجرةٍ مسمَّاةٍ مضمونةٍ في الذمة، فإنَّ المستأجر إنَّما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا __________ (1) زيادة استدركتها من "الفتاوى". (2) أقحم في الأصل واو عطف، فحذفتها. (3) "الفتاوى": (25/ 61)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (218). (4) "الفتاوى": (25/ 62)؛ وانظر: "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 97). (5) في "الفتاوى": (عن).

(1/31)


وجبت عليه الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في [هذا] (1) حصول أحد المتعاوضين على مقصوده [دون] (2) الآخر، وأمَّا المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيءٌ اشتركا في الحرمان، فلا يختصُّ أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل، وأبعد عن الظلم من الإجارة، والأصل في العقود جميعها: هو العدل، فإنَّه به بعث الله الرسل ونزَّل الكتب) (3). وقال: (وأمَّا المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيءٌ من الميسر، بل هنَّ من أقوم العدل، فهذا ممَّا يبيِّن لك أنَّ المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أحقُّ بالجواز من المزارعة التي يكون فيها من ربِّ الأرض، ولهذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يزارعون على هذا الوجه، وكذلك عامَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ وزرعٍ على أن يعملوها (4) من أموالهم) (5). 45 - وقال في أثناء كلامه على المزارعة الفاسدة والمضاربة: (ولهذا كان الصواب أنَّه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل لا أجرة المثل، ويعطي العامل ما جرت به العادة أن يُعطى مثله من الربح -إمَّا نصفه وإمَّا ثلثه وإمَّا ثلثاه-، فأمَّا أن يعطى شيئًا مقدرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يُعطى في الإجارة والجعالة، فهذا غلطٌ ممَّن قاله) (6). __________ (1) زيادة استدركت من "الفتاوى". (2) زيادة استدركت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (20/ 509 - 510). (4) كذا بالأصل، وفي "الفتاوى": (يعمروها)، وما بالأصل هو الموافق للفظ الحديث. (5) "الفتاوى": (20/ 511). (6) "الفتاوى": (20/ 509)، "الاختيارات" للبعلي: (220).

(1/32)


46 - وذكر اختلاف الفقهاء في بيع ما في بطن الأرض [ممَّا] يظهر ورقه -كاللفت والجزر والقلقاس والفجل والثوم والبصل وشبه ذلك-، وصحَّح الجواز، فإنَّه قال: (والثاني: أنَّ بيع ذلك جائزٌ، كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيرهم، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو الصواب لوجوه. . . -ثم ذكرها، وقال: - وممَّا يشبه ذلك بيع المقاثي وصحته- كمقاثي الخيار والبطيخ والقثاء وغير ذلك-، فمن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما من يقول: لا يجوز بيعها إلا لقطة [لقطة]، وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم يجوِّز بيعها مطلقًا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصواب) (1). 47 - وقال: (إذا بدا صلاح بعض الشجر، كان صلاحًا لباقيها باتفاق العلماء، ويكون صلاحًا لسائر ما في البستان من ذلك النوع في أظهر قولي العلماء، وقول جمهورهم: بل يكون صلاحًا لجميع ثمرة البستان التي جرت العادة بأن يباع جملةً في أحد قولي العلماء) (2). 48 - وذهب إلى القول بوضع الجوائح في الثمن، فإذا اشترى ثمرًا قد بدا صلاحه فأصابته جائحةٌ أتلفته قبل كماله، فإنَّه يكون من ضمان البائع) (3). 49 - وذهب إلى أنَّ المشتري [له أن] يبيع الثمرة قبل الجذاذ، لأنَّه قبضها القبض المبيح للتصرف، وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان، كقبض العين المؤجَّرة، فإنَّه إذا قبضها [جاز] (4) له التصرف في المنافع، __________ (1) "الفتاوى": (29/ 487 - 489)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (191). (2) "الفتاوى": (29/ 489)، "الاختيارات" للبعلي: (191). (3) "الفتاوى": (30/ 268 - 277)، "الاختيارات" للبعلي: (192). (4) في الأصل: (صار). والمثبت من "الفتاوى".

(1/33)


وإن كانت إذا تلفت تكون من ضمان المؤجِّر (1). 50 - قال في الإجارة: (لكن تنازع الفقهاء: هل له أن يؤجِّرها بأكثر ممَّا استأجرها به؟ على ثلاثة أقوالٍ، هي ثلاث رواياتٍ عن أحمد: قيل يجوز، كقول الشافعي؛ وقيل: لا يجوز، كقول أبي حنيفة وصاحبيه، لأنَّه ربحٌ فيما لم يضمن، لأنَّ المنافع لم يضمنها؛ وقيل: إن أحدث فيها عمارةً جاز، وإلَّا فلا). قال: (والأوَّل أصحُّ، لأنَّها مضمونةٌ عليه بالقبض، بمعنى [أنَّه] إذا لم يستوفها تلفت من ضمانه، لا من ضمان المؤجِّر) (2). 51 - وذهب إلى أنَّ من استأجر أرضًا فزرعها، ثمَّ تلف الزرع بفأرٍ (3) أو ريحٍ أو بردٍ ونحو ذلك، أنَّه يكون من ضمان المؤجِّر (4). 52 - وذهب إلى أنَّ الأب ليس له إجبار ابنته البكر البالغة على النكاح، وإلى أنَّ مناط الإجبار هو [الصغر] (5). 53 - وذهب إلى أنَّ الأب له أن يطلِّق على ابنه الصغير والمجنون، إذا رأى المصلحة (6). __________ (1) "الفتاوى": (30/ 260)، وانظر: "الاختيارات": (187). (2) "الفتاوى": (30/ 260 - 261)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (222)، والزيادة من مطبوعة "الفتاوى". (3) كذا بالأصل، وفي "الفتاوى": (نار) وما في الأصل موافق لما في الفروع (4/ 448). (4) "الفتاوى": (30/ 261 - 262). (5) "الفتاوى": (32/ 22 - 23)، "الاختيارات" للبعلي: (295) وفي الأصل: (الصغير)، والمثبت من "الفتاوى". (6) انظر: "الفتاوى": (32/ 26)، "الاختيارات" للبعلي: (336).

(1/34)


54 - وإلى أنَّه يخالع عن ابنته، إذا رأى المصلحة لها (1). 55 - قال: (وأبلغ من ذلك أنَّه إذا طلَّقها قبل الدخول، فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل: هو الذي بيده عقدة النكاح، كما هو قول مالكٍ وأحمد -في إحدى الروايتين عنه-، والقرآن يدل على صحَّة هذا القول) (2). 56 - وذهب إلى أنَّ كلَّ مطلقةٍ لها متعةٌ، قال: (كما دلَّ عليه ظاهر القرآن وعمومه) (3). 57 - وقال في أثناء كلامه: (وأمَّا إذا دفع الدرهم فقال: أعطني بنصفه فضةً وبنصفه فلوسًا؛ أو قال: أعطني بوزن هذه الدراهم الثقيلة أنصافًا، أو دراهم خفافًا؛ فإنَّه يجوز، سواءً كانت مغشوشةً أو خالصةً؛ ومن الفقهاء من يكره ذلك، ويجعله من باب "مُدِّ عجوةٍ"، لكونه باع فضةً ونحاسًا بفضةٍ ونحاسٍ. وأصل مسألة "مُدِّ عجوةٍ": أن يبيع مالًا ربويًا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه (4)؛ فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوالٍ: أحدها: المنع مطلقًا، [كما] هو قول الشافعيِّ ورواية عن أحمد. والثاني: الجواز مطلقًا، كقول أبي حنيفة ويذكر روايةً عن أحمد. والثالث: الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلًا أو لا يكون، وهذا مذهب مالكٍ وأحمد في المشهور عنه، فإذا باع تمرًا __________ (1) انظر: "الفتاوى": (32/ 26)، "الاختيارات" للبعلي: (361). (2) "الفتاوى": (32/ 26). (3) "الفتاوى": (32/ 27)، "الاختيارات" للبعلي: (341). (4) كذا بالأصل، وفي "الفتاوى": (جنسهما).

(1/35)


في نواه بنوى أو بتمرٍ منزوع النوى، أو شاةً [فيها لبنٌ، بشاة ليس] (1) فيها لبنٌ أو بلبنٍ ونحو ذلك، فإنَّه يجوز عندهما، بخلاف ما إذا باع ألف درهم بخمس مائة درهم في منديلٍ، فإنَّ هذا لا يجوز) (2). 58 - قال: (وأمَّا بيع الفضة بالفلوس النافقة، فهل يشترط فيه الحلول والتقابض كصرف الدراهم بالدنانير؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: لا بدَّ من الحلول والتقابض، فإنَّ هذا من جنس الصرف، فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا. والثاني: لا يشترط الحلول والتقابض، فإنَّ ذلك معتبرٌ في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمنًا أو كان مصوغًا، بخلاف الفلوس؛ ولأنَّ الفلوس هنَّ في الأصل من باب العروض، والثمنية عارضة لها) (3). 59 - قال: (وأمَّا إذا كان لرجلٍ عند غيره حقٌّ من عين أو دينٍ، فهل يأخذه أو نظيره بغير إذنه؟ فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثباتٍ، مثل: استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الوالد أن ينفق على ولده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحقُّ بلا ريب. .-ثم ذكر حديث هند-. __________ (1) زيادة من الفتاوى". (2) "الفتاوى": (29/ 457 - 458)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (189). (3) "الفتاوى": (29/ 459)، وانظر: "الاختيارات": (189) وتعليق فضيلة الشيخ العلامة محمَّد بن عثيمين عليها، مع تصحيح الخطأ المطبعي الذي وقع في رقم صفحة الإحالة التي ذكرها فضيلته، وصوابه: (29/ 469).

(1/36)


الثاني: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرًا، فهذا فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يأخذ، وهو مذهب مالكٍ وأحمد؛ والثاني: له أن يأخذ، وهو مذهب الشافعيِّ، و [أمَّا] (1) أبو حنيفة فيسوِّغ الأخذ من جنس الحقِّ). ومال الشيخ إلى عدم الجواز (2). 60 - قال: (وإذا دفع الزكاة إلى الوالدين إذا كانوا غارمين أو مكاتبين، ففي ذلك وجهان، والأظهر جواز ذلك. وأمَّا إن كانوا فقراء، وهو عاجزٌ عن نفقتهم، فالأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال، لأنَّ المقتضِي [موجودٌ، والمانع مفقودٌ، فوجب العمل بالمقتضِي] (3) السالم عن المعارض المقاوم) (4). 61 - وقال في أثناء كلامه في مسألة العينة: (والشرط بين الناس ما عدُّوه شرطًا، كما أنَّ البيع بينهم ما عدُّوه بيعا، والإجازة بينهم ما عدُّوها إجازةً، وكذلك النكاح أبينهم ما عدُّوه نكاحًا، فإنَّ الله ذكر البيع والنكاح] (5) في كتابه ولم يذكر (6) لذلك حدٌّ في الشرع، ولا له حدٌّ في اللغة، والأسماء تُعرف حدودها تارةً بالشرع -كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ-، وتارةً باللغة -كالشمس والقمر والبرِّ والبحر-، وتارةً بالعرف -كالقبض والتصرف (7)، وكذلك العقود: كالبيع والإجارة __________ (1) زيادة من "الفتاوى". (2) "الفتاوى": (30/ 371 - 375)، "الاختيارات" للبعلي: (502 - 503). (3) زيادة من "الفتاوى". (4) "الفتاوى": (25/ 90)، "الاختيارات" للبعلي: (154). (5) زيادة استدركت من "الفتاوى". (6) "الفتاوى": (لم يرد). (7) في "الفتاوى": (التفرق)، قال شيخنا عبد الله بن عقيل: وهي أولى.

(1/37)


والنكاح والهبة وغير ذلك-، فإذا تواطأ الناس على شرطٍ وتعاقدوا، فهذا [شرط] (1) عند أهل العرف، والله أعلم) (2). 62 - وذهب إلى أنَّ إخراج القيمة في الزكاة للحاجة أو للمصلحة الراجحة جائزٌ (3). 63 - [ ............. ] (4) لمصلحة راجحةٍ، مثل: أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل: المسجد إذا بني بدله مسجدٌ آخر أصلح لأهل البلد منه وبيع الأوَّل، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء) (5). قال: (وأمَّا إبدال العرصة (6) بعرصةٍ أخرى، فهذا نصَّ أحمد وغيره على جوازه اتباعًا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث فعل ذلك عمر، واشتهرت القضية، ولم تنكر). وقال أيضًا: (النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة، والله أعلم) (7). __________ (1) زيادة استدركت من "الفتاوى". (2) "الفتاوى": (29/ 447 - 448)، "الاختيارات" للبعلي: (293). (3) "الفتاوى": (25/ 79)، "الاختيارات" للبعلي: (153)، وانظر: "الفتاوى": (25/ 56)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 70). (4) وقع هنا سقط في الأصل، ولعل العبارة الساقطة هكذا: (وقال: الإبدال) أو نحوها، والله أعلم. (5) "الفتاوى": (31/ 252). (6) في "القاموس": (803 - عرص): (والعرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء) ا. هـ (7) "الفتاوى": (31/ 253)، وانظر: "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 93)، "الاختيارات" للبعلي: (256).

(1/38)


64 - وذهب إلى جواز القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك، [وقال: (أمَّا القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك]، فمذهب الخلفاء الراشدين [وغيرهم من الصحابة والتابعين أنَّ القصاص ثابتٌ في ذلك كلِّه] (1)، وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي (2)، وذهب كثير من الفقهاء إلى أنَّه لا يشرع في ذلك قصاصٌ، وهذا قول [كثيرٍ] من أصحاب أبي حنيفة ومالكٍ والشافعيِّ وأحمد، والأوَّل أصحُّ) (3). 65 - قال: (وأمَّا القصاص في إتلاف الأموال، مثل: أن يخرق ثوبه فيخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره، ونحو ذلك، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنَّ ذلك غير مشروعٍ، لأنَّه إفسادٌ. والثاني: أنَّ ذلك مشروعٌ، لأنَّ الأنفس والأطراف أعظم قدرًا من الأموال، فإذا جاز إتلافها على سبيل القصاص، فالأموال أولى) (4). 66 - قال: (وإذا أتلف له ثيابًا أو حيوانًا أو عقارًا أو نحو ذلك، فهل __________ (1) في الأصل: (إلى أنه مشروع يقتص بمثله)، والمثبت من "الفتاوى". (2) (فائدة): قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في "الفتاوى": (34/ 403) -: ("مسائل إسماعيل بن سعيد [الشالنجي] " من أجل مسائل الإمام أحمد، وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه "المترجم". . . وإسماعيل كان على مذهب أهل الرأي، ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث، وسأل أحمد متأخرًا) ا. هـ باختصار، وانظر: "طبقات الحنابلة": (1/ 104). (3) "الفتاوى": (34/ 162 - 163)، "الاختيارات" للبعلي: (422). (4) "الفتاوى": (30/ 332).

(1/39)


يضمنه بالقيمة أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء، وهما روايتان (1) في مذهب الشافعيِّ وأحمد، فإنَّ الشافعيِّ قد نصَّ على أنَّه إذا هدم داره بناها كما كانت، فضمَّنه بالمثل، وروي عنه في الحيوان نحو ذلك) (2). 67 - قال: (وأمَّا إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاعٍ، لكن إذا كان له دينٌ على من يستحق الزكاة، فهل يجوز أن يسقط عنه قدر زكاة ذلك الدين ويكون ذلك زكاةَ ذلك الدين؟ هذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، أظهرهما الجواز، لأنَّ الزكاة مبناها على المواساة، وهنا قد أخرج من جنس ما [يملك] (3)، بخلاف [ما] (4) إذا كان مالُه عينًا وأخرج دينًا فإنَّ الذي أخرجه دون الذي يملكه، فكان بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب، وهذا لا يجوز، كما قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]، ولهذا كان على المزكِّي أن يخرج من جنس ماله، لا يخرج أدنى منه، فإذا كان له تمر أو حنطةٌ جيدةٌ لم يخرج عنها ما هو دونها، والله أعلم) (5). 68 - وذهب إلى جواز السجود على كور العمامة، قال: (والأفضل أن يباشر الأرض). __________ (1) في "الفتاوى": (قولان). (2) "الفتاوى": (30/ 332 - 333). (3) في الأصل: (يمكنه)، والمثبت من "الفتاوى". (4) في الأصل: (ذلك)، والمثبت من "الفتاوى". (5) "الفتاوى": (25/ 84)، "الاختيارات" للبعلي: (155).

(1/40)


69 - وقال: (السنة في التراويح أن تصلَّى بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، فمن صلَّاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة) (1). 70 - وذهب إلى أنَّ الإطعام في الكفارة مقدر بالعرف لا بالشرع، قال: (فيطعم أهل كلِّ بلدٍ من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا، وهذا معنى قول مالك، قال إسماعيل بن إسحاق: كان مالك يرى في كفَّارة اليمين أنَّ المدَّ يجزئ بالمدينة، قال مالكٌ: وأمَّا البلدان فإنَّ لهم عيشًا غير عيشنا، فأرى أن يكفِّروا بالوسط من عيشهم، لقول الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]. وهو مذهب داود وأصحابه مطلقًا، والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين يوافق هذا القول) (2). قال: (وقد بيَّنَّا أنَّ هذا القول هو الصواب الذي يدلُّ عليه الكتاب والسنة والاعتبار، وهو قياس مذهب أحمد وأصوله، فإنَّ أصله: [أنَّ] ما لم يقدِّره الشارع فإنَّه يرجع فيه إلى العرف، وهذا مما لم يقدِّره الشارع، فيرجع فيه إلى العرف، لا سيَّما مع قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، فإنَّ أحمد لا يقدِّر طعام المرأة والولد ولا المملوك، ولا يقدِّر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه، ولا يقدِّر الضيافة الواجبة عنده قولًا واحدًا، ولا يقدِّر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه، هذا مع أن هذه واجبةٌ بالشرط، فكيف يقدِّر طعامًا واجبًا بالشرع؟ ولا __________ (1) "الفتاوى": (23/ 119 - 121)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (97). (2) "الفتاوى": (35/ 349).

(1/41)


يقدِّر الجزية في أظهر الروايتين عنه ولا الخراج، فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر) (1). 71 - قال: (وإذا جمع عشرة مساكين وغدَّاهم (2) وعشَّاهم خبرًا وإدامًا من أوسط ما يطعم أهله أجزاه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد -في إحدى الروايتين- وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإنَّ الله تعالى إنَّما أمر بالإطعام ولم يوجب التمليك، وهذا إطعامٌ حقيقةً) (3). 72 - وذكر الاختلاف في أنَّ صدقة الفطر هل هي جاريةٌ مجرى صدقة الأموال أو صدقة الأبدان كالكفَّارات؟ ورجَّح القول بأنَّ سببها البدن لا المال، ثمَّ قال: (وعلى هذا القول فلا يجزئ إعطاؤها (4) إلَّا لمن يستحق الكفَّارة، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم، ولا يعطى منها في المؤلَّفة ولا الرقاب ولا غير ذلك، وهذا القول أقوى في الدليل) (5). 73 - وذهب إلى أنَّ المنيَّ طاهرٌ، وقطع بذلك (6). 74 - وذهب إلى أنَّ المذيَّ يجزئ فيه النضح، قال: (وقد روي عن أحمد أنَّه طاهرٌ كالمنيِّ، وأعلى، القول بنجاسته، فهل يعفى عن __________ (1) "الفتاوى": (35/ 350)، "الاختيارات" للبعلي: (396). (2) كلمة: (وغداهم) غير موجودة في مطبوعة "الفتاوى"، ويبدو أنها سقطت منها، وانظر: "الفروع" لابن مفلح: (5/ 506)، والله أعلم. (3) "الفتاوى": (35/ 352)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (396). (4) في "الفتاوى": (إطعامها). (5) "الفتاوى": (25/ 72 - 73)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (151). (6) "الفتاوى": (21/ 587 - 603، 604، 606)، "الاختيارات" للبعلي: (42).

(1/42)


يسيره؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد) (1). 75 - قال: (وتنازع العلماء فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل: أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها؛ أو يمسَّ ذكره ولا يتوضأ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك؛ أو يصلِّي في جلود الميتة المدبوغة، والمأموم يرى أنَّ الدباغ لا يطهِّر؛ أو يحتجم ولا يتوضأ، والمأموم يرى الوضوء من الحجامة). قال: (والصحيح المقطوع به أنَّ صلاة المأموم خلف إمامه صحيحةٌ وإن كان إمامه مخطئًا في نفس الأمر، لما ثبت في "الصحيح" (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم") (3). 76 - وذهب إلى أنَّه يقنت في الصلوات كلِّها عند النوائب (4). 77 - وذهب إلى التخيير في وصل الوتر وفصله، وفي القنوت وتركه، فقال: (إذا أوتر بثلاثٍ إن شاء فصل وإن شاء وصل، ويخيَّر في دعاء القنوت إن شاء فعله وإن شاء تركه، وإن صلَّى بهم قيام رمضان فإن قنت بهم في جميع الشهر فقد أحسن، وإن قنت في النصف الأخير __________ (1) انظر: "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 85)، "الاختيارات" للبعلي: (43). (2) "صحيح البخاري": (فتح-2/ 187 - رقم: 694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) "الفتاوى": (22/ 267)، "الاختيارات" للبعلي: (107). (4) "الاختيارات" للبعلي: (97)، وانظر: "الفتاوى": (20/ 197، 22/ 269، 23/ 105 - 116).

(1/43)


فقد أحسن، وإن [لم يقنت] (1) بحالٍ فقد أحسن) (2). 78 - قال: (وقد تنازع [الناس] (3) هل الأفضل طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود، أو كلاهما سواءٌ؟ على ثلاثة أقوالٍ، أصحُّهما أن كلاهما سواءٌ) (4). 79 - قال: (وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة، على ثلاثة أقوالٍ: قيل: لا تستحبُّ بحالٍ، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالكٍ. وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعيِّ وأحمد. وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءةٍ جاز، وهذا هو الصواب) (5). 80 - وذهب إلى أنَّ البسملة آية من كتاب الله حيث كتبت، وليست من السورة، وأنَّه يقرأ بها سرًّا في الصلاة، وإن جهر بها للمصلحة الراجحة فحسنٌ (6). 81 - وذهب إلى أنَّ من كان مداومًا على قيام الليل أغناه عن المداومة على صلاة الضحى، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، ومن كان ينام عن قيام __________ (1) في الأصل: (قنت)، والتصويب من "الفتاوى". (2) " الفتاوى": (22/ 271)، "الاختيارات" للبعلي: (96، 97). (3) زيادة استدركت من "الفتاوى". (4) "الفتاوى": (22/ 273)، "الاختيارات" للبعلي: (99). (5) "الفتاوى": (22/ 274)، "الاختيارات" للبعلي: (129). (6) "الفتاوى": (22/ 406 - 407)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (77 - 78).

(1/44)


الليل فصلاة الضحى بدل قيام الليل أفضل له (1). 82 - وذهب إلى أن القصر والجمع في السفر لا يحتاج إلى نيَّةٍ، وكذلك الجمع بين الصلاتين لا يفتقران إلى نيَّةٍ (2). 83 - وذهب إلى [أنَّ] الموالاة لا تشترط في الجمع بين الصلاتين (3). 84 - وذهب إلى أنَّ صوم الدهر مكروهٌ، وإن أفطر مع ذلك [يومي] (4) العيدين وأيام التشريق، وضعَّف قول من حمل صوم الدهر على صيام أيام السنة مع هذه الخمسة تضعيفًا كثيرًا (5). 85 - قال: (وأمَّا قوله: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر تعدل صيام الدهر"، فمراده: أنَّ من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر، دون حصول المفسدة) (6). 86 - قال: (والجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء، لكن يكره له النوم إذا لم يتوضَّأ، وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ ذلك كراهية أن تقبض روحه وهو نائمٌ، فلا تشهد الملائكة جنازته، فإنَّ في السنن (7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنبٌ"). __________ (1) "الفتاوى": (22/ 284)، "الاختيارات": (98). (2) انظر: "الفتاوى": (21/ 456، 24/ 16، 50). (3) "الفتاوى": (24/ 54)، "الاختيارات" للبعلي: (112). (4) في الأصل: (يوم). (5) "الفتاوى": (22/ 301 - 303)، "الاختيارات" للبعلي: (164). (6) "الفتاوى": (22/ 303)، "الاختيارات" للبعلي: (163). (7) "سنن أبي داود": (1/ 259 - رقم: 229)، "سنن النسائي": (1/ 141 - رقم: 261) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(1/45)


وقال: (ووضوء الجنب يرفع الجنابة الغليظة، وتبقى مرتبةٌ بين المحدث والجنب) (1). 87 - وذهب إلى أنَّ نوم الجنب لا ينقض وضوءه المخفِّف للجنابة (2). 88 - قال: (وتنازع العلماء في غسل اليدين قبل الأكل، هل يكره أو يستحب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد: فمن استحبَّ ذلك احتجَّ بحديث سلمان الفارسي أنَّه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قرأت في "التوراة": أنَّ من بركة الطعام الوضوء قبله. فقال: "بركة الطعام الوضوء قبله (3)، والوضوء بعده". وأمَّا حديث سلمان الفارسي فقد ضعَّفه بعضهم، وقد يقال: كان هذا في أوَّل الإسلام لمَّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيءٍ) (4). __________ (1) "الفتاوى": (21/ 344)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (31). (2) "الفتاوى": (21/ 345). (3) من قوله "فقال" إلى هنا سقط من مطبوعة "الفتاوى". (4) "الفتاوى": (22/ 319). (فائدة) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في "الفتاوى": (21/ 264) -: (الوضوء في كلام رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لم يرد به قط إلا وضوء الصلاة، وإنما ورد بذلك المعنى -أي: غسل اليدين- في لغة اليهود، كما روي أن سلمان قال: يا رسول الله، إنه في "التوراة": من بركة الطعام الوضوء قبله. فقال: "من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده". فهذا الحديث قد تنوزع في صحته، وإذا كان صحيحًا فقد أجاب سلمان باللغة التي خاطبه بها -لغة أهل "التوراة"-، وأما اللغة التي خاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها أهل القرآن فلم يرد فيها الوضوء إلا في الوضوء الذي يعرفه المسلمون) ا. هـ

(1/46)


89 - وقال في أثناء كلامه على مواضع مفيدة: (وعلى هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير، فهل يخرجون من قوتهم كالبرِّ والرزِّ، أو يخرجون من التمر والشعير، لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض ذلك، فإنَّ في "الصحيحين" (1) عن ابن عمر أنَّه قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ، وذكرٍ وأنثى، حرٍّ وعبدٍ من المسلمين.؟ وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، [وهما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء] (2) على أنَّه يخرج من قوت بلده، وهذا هو الصحيح، كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] (3). 90 - وقال رحمه الله: (السؤال محرمٌ إلا عند الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد أنَّه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويمكنه السؤال، جاز له أكل الميتة ولا يسأل الناس شيئًا، ولو ترك أكل الميتة ومات، مات عاصيًا، ولو ترك السؤال ومات، لم يمت عاصيًا، والأحاديث في تحريم السؤال كثيرةٌ جدًّا -نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن (4) وفي سؤال الناس مفاسدٌ: الذلُّ لهم (5) والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذلِّ لغير الله عزَّ وجلَّ، وظلمٌ للخلق __________ (1) "صحيح البخاري": (فتح-3/ 367 - رقم: 1503)، "صحيح مسلم": (2/ 677 - رقم: 984). (2) زيادة استدركت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (22/ 326)، "الاختيارات" للبعلي: (151). (4) سردها العلامة ابن القيم في "المدارج": (2/ 222 - 228) تحت منزلة الرضى. (5) كذا بالأصل.

(1/47)


بسؤالهم أموالهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله") (1). 91 - قال: (اتفقت الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل [القسمة -قسمة] (2) الإجبار-، كالقرية والبستان ونحو ذلك. وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار، وإنَّما ينقسم بضررٍ أو ردِّ عوضٍ، فيحتاج إلى التراضي، هل تثبت فيه الشفعة؛ على قولين مشهورين، هما روايتان عن مالكٍ وعن أحمد بن حنبلٍ (3): أحدهما: تثبت فيه الشفعة، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار بعض أصحاب الشافعيِّ -كابن سريجٍ-، وطائفةٍ من أصحاب أحمد بن حنبلٍ -كأبي الوفاء بن عقيلٍ-، وهي رواية "التهذيب" (4) عن مالكٍ، وهذا القول هو الصواب. __________ (1) "جامع المسائل": (4/ 358). (فائدة) قال الحافظ مُغْلَطاي في كتابه "الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال" -بعد أن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية-: (رأيته بالقاهرة، وأجازني مشافهة بها، وجئته لأودّعه، وسألته الوصية والدعاء، فقال لي: يا غلام، روينا في كتاب الترمذي بإسنادٍ ثابتٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس: "يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف") ا. هـ من "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون": (281). (2) في الأصل كلمة غير مقرؤة، والمثبت من "الفتاوى". (3) من قوله: (مشهورين) إلى هنا غير موجود في مطبوعة "الفتاوى". (4) في مطبوعة "الفتاوى": (المهذب).

(1/48)


والثاني: لا تثبت فيه الشفعة، وهو قول الشافعي نفسه، واختيار كثيرٍ من أصحاب أحمد رضي الله عنهم) (1). 92 - وقال: (على الرجل أن [يعدل] بين أولاده كما أمر الله ورسوله. . . - ثم ذكر حديث النعمان بن بشير، وقال: - لكن إذا خصَّ أحدهما لسببٍ شرعي، مثل: أن يكون محتاجًا مطيعًا لله، والآخر غنيٌّ عاصٍ لله، يستعين بالمال على المعصية، فإن أعطى مَنْ أمر الله [بإعطائه] (2)، ومنع مَنْ أمر الله بمنعه، فقد أحسن، والله أعلم) (3). تمَّ الفصل الأوَّل __________ (1) "الفتاوى": (30/ 381)، "الاختيارات" للبعلي: (243). (2) في الأصل: (بطاعته)، والمثبت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (31/ 295)، "الاختيارات" للبعلي: (268).

(1/49)


الفصل الثاني قال شيخنا الحافظ ابن عبد الهادي رحمة الله عليه: 93 - في "القاعدة الزرعية": (لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يجهر بالبسملة، وليس في الصحاح ولا في السنن حديثٌ صحيحٌ صريحٌ بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلُّها ضعيفة، بل موضوعةٌ) (1). 94 - وقال أيضًا: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم على صلاة الضحى باتفاق أهل العلم بسنَّته، ومن زعم من الفقهاء أنَّ ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه فقد غلط، والحديث الذي يذكرونه: "ثلاثٌ هنَّ عليَّ فريضةٌ وهنَّ لكم تطوعٌ: الوتر، والنحر، وركعتي الضحى" حديثٌ موضوعٌ) (2). 95 - وقال أيضًا في موضعٍ آخر: (والحديث الذي يروى في الرجل الذي قال: إنَّ امرأتي لا تردُّ يد لامسٍ. . . قد ضعَّفوه). وقال في موضعٍ آخر: (هذا الحديث ضعَّفه أحمد وغيره، وتأوَّله بعضهم على أنَّها لا تردُّ طالب مالٍ، لكن ظاهر الحديث يدلُّ على خلافه، ومنهم من اعتقد ثبوته، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يمسكها مع كونها لا تمنع الرجال، وهذا مما أنكره غير واحدٍ من الأئمة) (3). __________ (1) "الفتاوى": (22/ 275 - 276)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (78). (2) "الفتاوى": (22/ 283). (3) "الفتاوى": (32/ 144).

(1/50)


96 - قال شيخنا: (فواتح السور تناسب خواتمها، وذلك تناسبٌ مظنونٌ، كما أنَّ "البقرة" أُفتتحت بذكر الكتاب وأنَّه هدى للمتقين، وذكر في ذلك (1) الإيمان بما أنزل إلينا وما أنزل على من قبلنا، ووُسِّطت بمثل ذلك، وختمت بمثل ذلك، في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] إلى آخر السورة. وكان في "البقرة" مخاطبةً: لجميع الخلق حتَّى يدخل فيه من لم يؤمن بالرسل عمومًا؛ ولمن أقرَّ بهم خصوصًا؛ وللمؤمنين بالجميع خصوص الخصوص؛ ففيها خطاب الأصناف الثلاثة. وأمَّا "آل عمران" فالغالب عليها مخاطبة من أقرَّ بالرسل من أهل الكتاب، ومخاطبة المؤمنين، فافتتحها سبحانه بذكر وحدانيَّته ردًّا على المشركين من النصارى وغيرهم، وذكر تنزيل الكتاب، وذكر ضلال من اتَّبع المتشابه، ووسَّطها بمثل ذلك، وختمها بقوله: {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199]. وأمَّا السور المكِّية -كالأنعام والأعراف وغيرهما-[ففيها مخاطبة] (2) الناس، الذين يدخل فيهم: المكذِّب بالرسل، [والمقرُّ بهم] (3)، ولهذا كانت السور المكِّية في تقرير أصول الدين [التي] اتَّفق عليها المرسلون، بخلاف السور المدنيَّة، فإنَّ فيها مخاطبة أهل الكتاب -الذين آمنوا ببعض الكتب-، ومخاطبة المؤمنين- الذين آمنوا بالله __________ (1) كذا بالأصل، ولعلها: وذكر بعد ذلك. (2) و (3) بياض في الأصل، فاجتهدت في إثباتها.

(1/51)


وملائكته وكتبه ورسله-، ما ليس في السور المكِّية، ولهذا كان الخطاب [بـ]: (يا أيها الذين آمنوا) مختصًا بالسور المدنيَّة، وأمَّا الخطاب بـ: (يا أيها الناس) فالغالب أنَّه من السور المكية، وربَّما كان في السور المدنيَّة، لأنَّ الخطاب العام يدخل فيه المؤمنون وغيرُهم، بخلاف الخاص، والأصول تعمُّ ما لا [تعمُّ] (1) الفروع، وإن كانت الفروع واجبةً على الكفَّار -على أصحِّ القولين-، فإنَّما ذلك لأنَّهم يعاقبون عليها في الآخرة، وأمَّا الكافر (2) يؤمر بعمل الفروع قبل الإيمان فلا. و"سورة النساء" الغالب عليها مخاطبة الناس في الصلات التي بينهم بالنسب والعقد، وأحكام ذلك، فافتتحها الله سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لعموم أحكامها، وقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] فذكر اشتراك جميع الناس في الأصل، وأمرهم بتقوى الله الذي يتعاقدون ويتعاهدون [به]، فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقدين يطلب من الآخر ما قصده بالعقد، وهو بالله يعقده، إذ قد جعلوا الله عليهم كفيلًا؛ وبصلة الأرحام التي خلقها هو سبحانه، كما جمع بينهما في قوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 20، 21]، وفي قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 26، 27] __________ (1) في الأصل: (يعم). (2) كذا بالأصل، ولعل ثم سقط في الكلام، فلعل العبارة: (وأما أنَّ الكافر يؤمر)، أو نحو ذلك، والله أعلم.

(1/52)


وأمَّا "سورة المائدة": فإنَّها سورة العقود، فإنَّ العهود والمواثيق التي يعقدها بنو آدم بينهم وبين ربِّهم، ويعقدها بعضهم لبعض -مثل: عقد الإيمان، وعقد الأيمان-، فأمر الله بالوفاء بالعهود، والوفاء بالعهود من صفات الصادقين دون الكاذبين؛ وختم السورة بما يناسب ما تحتها، فقال: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 119]، فالموفون بالعقود صادقون، فنفعهم الصدق بالوفاء يوم القيامة بما وعدهم من الكرامة). [ثم تكلَّم شيخنا] (1) على الوفاء بالعهد، وقال: (وهذه "سورة المائدة" للمؤمنين، أمرهم فيها بالوفاء بالعقود، وذكَّرهم فيها بنعمته، كما قال تعالى لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، فذكر النعم يوجب الشكر، والوفاء بالعقود يحتاج إلى الصبر، فلابدَّ أن يكون صبَّارًا شكورًا، كما قال في أثناء السورة بعد آية الطهارة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]. قال: (فلمَّا كان هذا فاتحة السورة كان من مضمونها الشريعة والمنهاج التي جعلها لأهل القرآن، فبيَّن لهم من تفصيل أمره ونهيه -الذي جعله الله لهم شرعةً ومنهاجًا- في هذه السورة ما وجب عليهم الوفاء به، لأجل إيمانهم الذي هو عقد يوجب عليهم: طاعة الله ورسوله واتباع كتابه، ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ سورة المائدة آخر القرآن نزولًا فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها". وعن أبي ميسرة: __________ (1) في الأصل: (ثم تكلم سبحانه وتعالى عن العهود)! وهو خطأ صرف، فإما أن يكون في الكلام سقط، وإما يكون الصواب ما أثبته أو نحوه، والله أعلم.

(1/53)


إنَّ فيها بضع عشرة شريعة ليست في غيرها (1). لما أمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يوفُّوا بالعهود المتناول لعقوده التي [وجبت عليهم] (2) بالإيمان به = بيَّن ما أمر به، وبيَّن ما نهى عنه، وما حلَّله، وما حرَّمه، ليبيِّن أنَّ الوفاء بالعقود: باتباع هذا الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآيات [المائدة: 1]، فأحلَّ لهم بهيمة الأنعام، بشرط أن لا تحلُّوا الصيد وأنتم حرمٌ، ونهاهم عن إحلال شعائره وما معها، وأحلَّ لهم الصيد بعد الإحرام، ونهاهم عن أن يحملهم بغض قوم يمنعونهم من الدين أن يعتدوا، وأمرهم كلَّهم [جميعًا] أن يتعاونوًا على البرِّ والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، ثمَّ فصَّل لهم ما حرِّم عليهم، كالميِّت حتف أنفه، أو بسببٍ غير الذكاة، واستثنى من ذلك ما أدركوه حيًّا فذكَّوه. وذكر ما ذبح على النصب والاستقسام بالأزلام، وذلك يتضمن طلب العبد قَسْمَه وما قدِّر له فيما يريد أن يفعله، فيكون مؤتمرًا منزجرًا عن الأزلام؛ أو فيما لا بد أن يفعله، فيتضمن اعتقاده لما يكون عن الأزلام، فإنَّ المستقسم بالأزلام يعتقد ما دلَّت عليه من خيرٍ أو شرٍّ: فيما يفعله -فيفعل أو يترك-؛ وفيما لا يفعل -فيعتقد أنها [مرجوةً] (3) ومخوفةً-؛ وذلك فسقٌ، وهو خروجٌ عن طاعة الله فيما أمر به من الاستقامة والتوكُّل عليه). __________ (1) أبو ميسرة هو: عمرو بن شُرحبيل الهمداني الكوفي، من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وهذا الأثر أورده بتمامه القرطبي في "تفسيره": (6/ 22)، والسيوطي في "الدر المنثور": (3/ 4)، وفيه تعداد تلك الأحكام. (2) في الأصل: (وجب عليها). (3) في الأصل: (ما رجوه).

(1/54)


ثمَّ تكلَّم على الطيرة والفأل وأنواع الاستقسام بالأزلام، وتكلَّم أيضًا على السحرة والنجوم وعلى الكسوف، وقال في أثناء كلامه: (فلولا أنَّ الكسوف والخسوف قد يكونان سببًا [. .] (1) وعذاب لم يصحَّ التخويف بهما، وكذلك سائر الآيات المخوفة، كالريح الشديدة والزلزلة وسائر الكواكب وغير ذلك، ولهذا يسمِّي العلماء الصلاة المشروعة [عند] ذلك: "صلاة الآيات"، وهي صلاةٌ قد صلَّاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بركوعين طويلين، وسجودين طويلين، ولم يصلِّ قطُّ صلاةً في جماعةٍ أطول من صلاة الكسوف، ويصلَّى أيضًا عند بعض العلماء -وهو المنصوص عن أحمد- للزلزلة، ويصلَّى أيضًا عند محققي أصحابه لجميع الآيات، كما دلَّ على ذلك السنن والآثار، وهذه صلاة رهبةٍ وخوفٍ، كما أنَّ صلاةَ الاستسقاء صلاةُ رغبةٍ ورجاءٍ، وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا). ثمَّ قال الشيخ رحمه الله: (لمَّا ذكر ما حرَّم عليهم ذكر ما أحلَّ لهم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ} [المائدة: 4]، فأمر بالأكل مما أمسكن عليه الجوارح التي علمنا مكلبين ويذكر اسم الله عليه، و [هذا] (2) اعتبار لثلاثة أمور: احدها: أن يكون الجارح معلمًا، فما ليس بمعلم لم يدخل في ذلك. الثاني: أن يمسك علينا، فيكون بمنزلة الوكيل من عبدٍ وغيره، وهذا __________ (1) كلمة لم أتمكن من قراءتها. (2) في الأصل: (هذه).

(1/55)


لا يكون إلا إذا استرسل بإرسال الصيد، ومن تمام الإمساك علينا أن لا يأكل منه، فإذا أكل فقد يكون الإمساك على نفسه لا علينا، فيكون فعله وتصرفه بغير طريق الوكالة) (1). ثمَّ ذكر حديث عدي بن حاتم وأطال الكلام في ذلك. 97 - ولمَّا تكلَّم على التمتع والإفراد والقران وما الأفضل؟ [قال]: (والتحقيق أنَّه يتنوع باختلاف حال الحاج: فإن كان يسافر سفرةً للعمرة وسفرةً أخرى للحج، أو يسافر إلى مكَّة قبل أشهر الحج ويقيم بها حتَّى يحجَّ (2)، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربع". وأمَّا إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين الحج والعمرة في سفرةٍ واحدةٍ ويقدم مكَّة في أشهر الحجِّ، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرةٍ أفضل) (3). 98 - وكان رحمه الله يذهب إلى أنَّ الأفضل أن يسوق الهدي ويكون قارنًا، لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا فعل (4). 99 - قال: (فإذا أراد الإحرام: فإن كان قارنًا قال: "لبَّيك عمرةً وحجًّا"؛ وإن كان متمتعًا قال: "لبيك عمرةً وحجًّا" (5)؛ وإن كان مفردًا قال: "لبيك حجَّةً". __________ (1) لم يذكر الثالث، وهو التسمية. (2) في "الفتاوى": (قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج). (3) "الفتاوى": (26/ 101) "الاختيارات" للبعلي: (173). (4) "الفتاوى": (26/ 90 - 91). (5) انظر التعليق الآتي.

(1/56)


أو قال: "اللهم إنِّي قد أوجبت عمرةً وحجًّا"، أو: "أو أوجبت عمرةً"، أو: "أوجبت حجًّا"، أو: "أوجبت عمرةً أتمتع بها إلى الحجِّ"، أو قال: "اللهم إنِّي أريد العمرة أتمتع بها إلى الحجِّ"، أو قال: "اللهم أريد العمرة وأريد الحجَّ"، أو: "أريدهما"، أو: "أريد التمتع بالعمرة إلى الحجِّ" (1)؛ فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصةٌ، ولا يجب شيء من هذه العبارات باتفاق الأئمة، ولا يجب عليه أن يتكلَّم قبل التلبية بشيءٍ، ولكن تنازع العلماء: هل يستحب أن يتكلَّم بذلك؟ كما تنازعوا: هل يستحبُّ التلفُّظ بالنيَّة في الصلاة؟ والصواب المقطوع به أنَّه لا يستحب شيءٌ من ذلك) (2). __________ (1) وقع اختلاف بين ما في الأصل وبين ما في مطبوعة "الفتاوى" و"منسك شيخ الإسلام" -الذي طبع مفردًا بتحقيق الشيخ / علي العمران-، لذا رأيت أن أثبت نص كل منهما، ففي "الفتاوى": (فإذا أراد الإحرام فإن كان قارنًا قال: لبيك عمرة وحجا، وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج، وإن كان مفردًا قال: لبيك حجة، أو قال: اللهم إني أوجبت عمرة وحجا، أو: أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج، أو: أوجبت حجا، أو: أريد الحج، أو: أريدهما، أو: أريد التمتع بالعمرة إلى الحج) ا. هـ وفي "المنسك": (28): (فإذا أراد الإحرام، فإن كان قارنًا قال: لبيك عمرة وحجا، وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة [متمتعًا بها إلى الحج]، وإن كان مفردًا قال: لبيك حجة، أو قال: اللهم إني أوجبت عمرة وحجا، أو: أوجبت عمرة [أتمتع بها إلى الحج]، أو: أوجبت حجا، أو: أريد الحج، أو: أريدهما، أو: أريد التمتع بالعمرة إلى الحج) ا. هـ وما بين المعقوفات ذكر المحقق أنه أضافه من مطبوعة "الفتاوى". (2) "الفتاوى": (26/ 104 - 105).

(1/57)


100 - وقال في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]: (الرفث: اسمٌ للجماع قولًا وعملًا؛ والفسوق: اسمٌ للمعاصي كلِّها؛ والجدال على هذه القراءة -يعني قراءة الرفع (1) -: هو الراء في الحجِّ (2)، فإنَّ الله قد أوضحه وبيَّنه وقطع المراء فيه كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه؛ وعلى القراءة بالنصب قد (يفسَّر) (3) بهذا المعنى أيضًا، وقد فسَّروها [بأن لا يماري الحاج] (4) أحدًا، والتفسير الأوَّل أصحُّ) (5). 101 - قال: (ولا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحجِّ ونيَّته، فإنَّ القصد ما زال في قلبه منذ خرج من بلده، بل لا بدَّ من قولٍ أو عملٍ يصير [به] محرمًا، هذا هو الصحيح من القولين (6). 102 - قال: (ويستحب أن يحرم عقيب صلاة -إمَّا فرض، وإمَّا تطوع- إن كان وقت صلاة (7) في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلِّي فرضًا أحرم عقيبه، وإلَّا فليس للإحرام صلاةٌ تخصُّه، وهذا أرجح) (8). 103 - قال: (والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسَّرا له، فإن لم يجد __________ (1) يعني بالرفع، على قراءة من قرأ: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ) وهذه القراءة هي قراءة أبي جعفر بن القعقاع، ورُويت عن عاصم في بعض الطرف. أفاده ابن عطية في "المحرر الوجيز" (2/ 121) وينظر: النشر لابن الجزري (211). (2) في "الفتاوى": (المراء في أمر الحج). (3) في الأصل غير مقرؤة، فأثبتها من "الفتاوى". (4) في الأصل: (بأن الإيمان بين الحاوج)! والتصويب من "الفتاوى". (5) "الفتاوى": (26/ 107). (6) "الفتاوى": (26/ 108). (7) في "الفتاوى": (وقت تطوع)، وهكذا هو في "المنسك": (35). (8) "الفتاوى": (26/ 108 - 109)، "الاختيارات" للبعلي: (173).

(1/58)


نعلين لبس خفَّين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين -مثل: الخف المكعب، والجمجم، والمداس، ونحو ذلك-، سواء إن كان واجدًا للنعلين أو [فاقدًا] (1) لهما) (2). 104 - وذهب إلى أنَّه يجوز للمحرم أن يعقد الرداء إذا احتاج إلى ذلك (3). 105 - قال: (و- له أن يستظلَّ تحت السقف والشجر، ويستظلَّ بالخيمة ونحو ذلك باتفاقهم. وأمَّا الاستظلال بالمحمل -كالمحارة التي لها رأس- في حال السير فهذا فيه نزاعٌ، والأفضل للمحرم أن يُضْحِي لمن أحرم [له] (4)، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يحجُّون، وقد رأى ابن عمر رجلًا ظلّل عليه، فقال: أيُّها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. ولهذا كان السلف يكرهون القباب على المحامل [-وهي المحامل التي لها رأسٌ-، وأمَّا المحامل] (5) المكشوفة فلم يكرهها إلا بعض النسَّاك) (6). 106 - قال: (ولو غطَّت المرأة وجهها بشيءٍ لا يمسُّ الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسُّه فالصحيح أنَّه يجوز أيضًا، ولا تكلَّف المرأة __________ (1) في الأصل: (قادما)، والتصويب من "الفتاوى". (2) "الفتاوى": (26/ 109 - 110) باختصار. (3) "الفتاوى": (26/ 111)، "العقود الدرية": (ص: 339)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 14)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (174). (4) زيادة من "الفتاوى". (5) زيادة استدركت من الفتاوى". (6) "الفتاوى": (26/ 112).

(1/59)


أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعودٍ، ولا بيدها، ولا غير ذلك) (1). 107 - قال: (والفدية: صيام ثلاثة أيام؛ أو: نسك شاةٍ؛ أو: إطعام ستة مساكين، لكلِّ مسكينٍ مدُّ برٍّ، أو نصف صاع تمرٍ أو شعيرٍ، وإن أطعم خبزًا جاز، ويكون رطلين بالعراقي -قريبًا من نصف رطلٍ بالدمشقيِّ-، وينبغي أن يكون مأدومًا، وإن أطعمه ممَّا يؤكل -كالبقسماط والرقاق ونحو ذلك- جاز، وهو أفضل من أن يعطيه قمحًا أو شعيرًا) (2). 108 - قال (وإذا لبس ثمَّ لبس مرات، ولم يكن أدى الفدية، أجزأته فديةٌ واحدةٌ في أظهر قولي العلماء) (3). 109 - قال: (وممَّا يُنهى عنه المحرم: أن يتطيَّب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه، أو يتعمَّد لشمِّ الطيب، وأمَّا الدهن في رأسه أو بدنه بالزيت أو السمن ونحوه إذا لم يكن فيه طيبٌ، ففيه نزاعٌ مشهورٌ، وتركه أولى) (4). 110 - قال: (و- له أن يحتجم، وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز، فإنَّه قد ثبت في "الصحيح" (5) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في وسط رأسه وهو محرمٌ، ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر. __________ (1) "الفتاوى": (26/ 112)، "الاختيارات" للبعلي: (174). (2) "الفتاوى": (26/ 113). (3) "الفتاوى": (26/ 114). (4) "الفتاوى": (26/ 116). (5) "صحيح البخاري": (فتح-4/ 50 - رقم: 1836)، "صحيح مسلم": (2/ 862 - رقم: 1203) من حديث ابن بحينة.

(1/60)


وكذلك إذا اغتسل وسقط شيءٌ من شعره بذلك، لم يضرُّه، وإن تيقَّن أنَّه انقطع بالغسل) (1). 111 - قال: (ولا يصطاد بالحرم صيدًا وإن كان من الماء -كالسمك- على الصحيح) (2). 112 - قال: (والحرم المجمع عليه حرم مكَّة، وأمَّا المدينة فلها حرمٌ أيضًا عند الجمهور، ولم يتنازع المسلمون في حرمٍ ثالثٍ إلَّا في "وجٍّ" -وهو واد بالطائف-، وهو عند بعضهم حرمٌ، وعند الجمهور ليس بحرمٍ) (3). 113 - قال: (وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس كالحيَّة والعقرب والفأرة والغراب والكلب العقور، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، حتَّى لو صال عليه أحدٌ ولم يندفع عنه إلَّا بالقتال [قاتله] (4)، وإذا قرصته البراغيث أو القمل فله إلقاؤها عنه، وله قتلها ولا شيء عليه، وأمَّا التفلِّي بدون التأذي فهو من الترفُّه فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه) (5). 114 - قال: (ولو وضع يده على الشاذروان الذي تربط عليه أستار الكعبة، لم يضرَّه ذلك في أصحِّ قولي العلماء، وليس الشاذروان من __________ (1) "الفتاوى": (26/ 116)، "الاختيارات" للبعلي: (174). (2) "الفتاوى": (26/ 117). (3) "الفتاوى": (26/ 117 - 118). (4) في الأصل: (قاتلهم)، والتصويب من "الفتاوى". (5) "الفتاوى": (26/ 118) باختصار، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (174).

(1/61)


البيت، بل جعل عمادًا للبيت) (1). 115 - وذكر الاختلاف في اشتراط الطهارة للطواف، ثمَّ قال: (ولا يجوز لحائضٍ أن تطوف إلَّا طاهرةً -إذا أمكنها ذلك- باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضًا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة وتفعل سائر المناسك مع الحيض، إلَّا الطواف فإنَّها تنتظر حتَّى تطهر -إن أمكنها ذلك- لمَّ تطوف، وإن اضطرت إلى الطواف فطافت، أجزأها على الصحيح من قولي العلماء) (2). 116 - وقال أيضًا: (قوله: "الطواف بالبيت صلاةٌ" لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هو ثابتٌ عن ابن عباسٍ، وقد روي مرفوعًا (3). 117 - قال: (ويجوز الوقوف بعرفة راكبا وماشيًا، وأمَّا الأفضل فيختلف باختلاف الناس، فإن كان ممَّن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشقُّ [عليه] (4) ترك الركوب، وقف راكبًا، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكبًا. وهكذا [الحجُّ] (5): فمن الناس من يكون حجُّه راكبًا أفضل، ومنهم من يكون حجُّه ماشيًا أفضل) (6). __________ (1) "الفتاوى": (26/ 121)، "الاختيارات" للبعلي: (175). (2) "الفتاوى": (26/ 126)، "العقود الدرية": (ص: 339)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 15)، "الاختيارات" للبعلي: (45). (3) "الفتاوى": (26/ 126). (4) في الأصل: (عليهم)، والتصويب من "الفتاوى". (5) سقطت من الأصل، واستدركت من "الفتاوى". (6) "الفتاوى": (26/ 132).

(1/62)


118 - قال: (والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوالٍ: فمنهم من يقول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة. ومنهم من يقول: بل يلبِّي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة. والقول الثالث: أنَّه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبَّى، وإذا أفاض من مزدلفة إلى منى لبَّى حتَّى يرمي جمرة العقبة، كذا صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا التلبية في وقوفه بعرفة ومزدلفة: فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنَّهم كانوا لا يلبون (1) بعرفة) (2). 119 - قال: (وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحلِّ إلى الحرم فإنَّه هديٌ، سواءٌ كان من الإبل أو البقر أو الغنم، ويسمَّى أيضًا: أضحيةً، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحلِّ فإنَّه أضحية وليس بهدي، و [ليس] (3) بمنى ما هو أضحيةٌ وليس بهدي، كما هو في سائر الأمصار، فإذا اشترى الهدي من عرفات، وساقه إلى منى، فهو هديٌ باتفاق العلماء، وكذلك إذا اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم. وأمَّا إذا اشتراه من منى وذبحه بها ففيه نزاعٌ: فمذهب مالكٍ: أنَّه ليس بهديٍ، وهو منقولٌ عن ابن عمر. ومذهب الثلاثة: أنَّه هديٌ، وهو منقولٌ عن عائشة) (4). __________ (1) في مطبوعة "الفتاوى": (أنهم كانوا يلبون)، وفي مطبوعة "منسك شيخ الإسلام": (78) كما بالأصل. (2) "الفتاوى": (26/ 136). (3) في الأصل: (لكن)، والتصويب من "الفتاوى". (4) "الفتاوى": (26/ 137)، "الاختيارات" للبعلي: (178).

(1/63)


120 - قال: (وليس على المفرد إلَّا سعيٌ واحدٌ، وكذلك القارن عند جمهور العلماء، وكذلك المتمتع في أصحِّ القولين (1)، وهو أصحُّ الروايتين عن أحمد ليس عليه إلَّا سعيٌ واحدٌ) (2). 121 - قال: (ولا يستحب للمتمتع ولا غيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف) (3). 122 - وذكر شيخنا الخلاف في خلق الأرواح قبل الأبدان، وقال: (والصحيح الذي عليه الجمهور أنَّ أرواح الناس إنَّما برأها الله حين ينفخ الروح في الجنين). 123 - وقال شيخنا في أثناء كلامه: (وقوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 5]، {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 4]، ونحو ذلك، يتناول كلَّ إنسان، فمن قال: إنَّ في بني آدم قومًا عقلاء يجحدون كلَّ العلوم. فقد غلط، كما توهَّمت طائفةٌ من أهل الكلام أنَّ من الناس طائفةٌ يقال لهم: "السوفسطائية" يجحدون كلَّ علمٍ أو كلَّ موجودٍ، أو يقفون ويسكنون، أو يجعلون الحقائق تابعةً للعقائد، ولكن هذه الأمور قد تعرض لبعض الناس في بعض الأشياء. وقال في قوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن: 1، 2]، وقال في الإنسان: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 4]، وذلك لأنَّ البيان شاملٌ لكلِّ إنسانٍ، بخلاف تعليمهم القرآن فإنَّه خاصٌّ لمن يعلمه، __________ (1) في مطبوعة "الفتاوى" و"المنسك": (80): (في أصح أقوالهم). (2) "الفتاوى": (26/ 138)، "العقود الدرية": (ص: 338)، "الاختيارات" للبرهان ابن ابن القيم: (رقم: 92)، "الاختيارات" للبعلي: (175). (3) "الفتاوى": (26/ 139)، "الاختيارات" للبعلي: (175).

(1/64)


[لا] لكلِّ إنسان؛ وأيضًا فإنَّ القرآن علَّمه الملَك قبل الإنسان، فإنَّ جبريل أخذه عن الله، ثمَّ جاء به إلى محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -). قال: (والبيان الذي علَّمه الإنسان يتناول: علمه بقلبه؛ ونطقه بلسانه). ثمَّ تكلَّم على البيان، وأنَّ الشافعيَّ وغيره قسَّموه أقسامًا، وأطال الكلام. 124 - ثم تكلَّم على قوله تعالى: {وَهَدَينَاهُ النَّجْدَينِ (10)} [البلد: 10]، فقال: ([قال] عامة السلف والخلف: المراد بالنجدين: طريق الخير والشر). وضعَّف قول من قال: المراد بهما: الثديان فقط، وضعَّف إسناده [عن] عليٍّ وغيره. وضعَّف أيضًا قول من قال: المراد التنويع، فهدى قومًا لطريق الخير، وقومًا لطريق الشر (1). 125 - وضعَّف شيخنا قول من قال: إنَّ (ما) مصدرية في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] تضعيفًا كثيرًا، وقال: (فهذا المعنى وإن كان صحيحًا، فلم يُرد بهذه الآية) (2). 126 - وتكلَّم شيخنا على قوله تعالى: {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، وذكر الاختلاف في المميّز: هل يجوز أن يكون معرفةً أم يتعيَّن أن يكون نكرةً؟ واختار أنَّه قد يقع معرفةً، وجعل منه هذا الموضع وغيره، وقال: (قد يكون المنصوب على التمييز معرفةً، وهذا لم يعرفه البصريون، __________ (1) انظر: "الفتاوى": (16/ 143 - 144). (2) انظر: "الفتاوى": (8/ 79)، "منهاج السنة النبوية": (3/ 260، 336).

(1/65)


ولم يذكره سيبويه وأتباعه) (1). 127 - وقال أيضًا لمَّا تكلَّم على قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] (ويتوجه في هذا ما قاله الكوفيون في المميّز إذا كان معرفة {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] (2)، و {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] ونحو ذلك، فإنَّهم يقولون: "صدق وعده" كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: 152]، ومنه: قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق الله وعده، ونصر عبده"، والأصل أن يجعل الصدق للوعد، كقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، فلمَّا جعل للشخص نص (3) "الوعد" على التفسير). 128 - قال في أثناء كلامه: (ولو كان الوعد في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] مفعولًا ثانيا لقيل: الوعد مصدوقٌ، أو: مصدوق الوعد، كما قيل: الدرهم معطى، والله تعالى قال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] لم يقل: مصدوق الوعد). 129 - وتكلَّم على قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11] كلامًا جليلًا، وجعله نظير ما تقدَّم من الانتصاب على التمييز، والمعنى: ما كذبت رؤيته، بل الرؤيا التي رأها كانت صادقةً. * * * __________ (1) انظر: "الفتاوى": (14/ 441 - 442، 16/ 570 - 571). (2) كذا بالأصل، ويبدو أنه وقع في الكلام سقط، ولعل العبارة: (في المميز إذا كان معرفة في نحو قوله تعالى)، والله أعلم. (3) كذا بالأصل، ولعل صوابها: (نصب). والله أعلم.

(1/66)


فصل 130 - تكلَّم شيخنا على قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107]، وعلى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وحكى عن بعضهم أنَّ المعنى: تخونوها بارتكاب ما حرم عليكم، قال: (يجعل "الأنفس" مفعول "يختانون" وجعل "الإنسان" قد خانها -أي ظلمها-). قال: (وهذا فيه نظر، فإنَّ كلَّ ذنبٍ يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه، سواءً فعله سرًّا أو علانيةً، وإذا كان اختيان النفس هو: ظلمها وارتكاب ما حرِّم عليها، [كان كلُّ] مذنبٍ مختانًا لنفسه، وإن جهر بالذنوب، ومعلوم أنَّ هذا اللفظ إنَّما استعمل في خاصٍ من الذنوب، فيما (1) يفعل سرًّا). قال: (ولفظ "الخيانة" حيث استعمل لا يستعمل إلَّا فيما خفي عن المخون، كالذي يخون أمانته، فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده ... -إلى أن قال: - فإذا كان كذلك فالإنسان [كيف] (2) يخون نفسه وهو لا يكتمها ما يفعله، ولا يفعله سرًّا عنها (3) كما يخون من لا يشاهده؟ ). قال: (والأشبه -والله أعلم- أن يكون قوله تعالى: {يخْتَانُونَ __________ (1) في "الفتاوى": (مما). (2) زيادة استدركت من "الفتاوى". (3) في "الفتاوى": (وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سرا عنها).

(1/67)


أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] مثل قوله: {إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، وقد ذهب الكوفيون وابن قتيبة إلى أنَّ مثل هذا منصوبٌ على التمييز وإن كان معرفة، وقد ذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب، مثل قولهم: "آلم فلانٌ رأسَه"، و"وجع بطنَه"، و"رشد أمره"، ومنه: قوله تعالى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] فالمعيشة نفسها بطرت، وقوله: {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، معناه: سفهت نفسه، أي: كانت سفيهة، فلمَّا أضاف الفعل إليه (1) نصبها على التمييز. وهذا الذي قاله الكوفيون أصحُّ في اللغة والمعنى، فإن الإنسان هو السفيه نفسه، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142]، كذلك قوله: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] أي: تختان أنفسكم، فالأنفس هي اختانت، كما أنَّها السفيهة، وقال: "اختانت" ولم يقل: "خانت"، لأنَّ الافتعال فيه زيادة على ما في مجرد الخيانة). قال في أثناء كلامه: (أو يكون قوله: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] أي: يخون بعضكم بعضًا، كقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، فإنَّ السارق وأعوانه خانوا إخوانهم المؤمنين، والمجامع إذا جامع امرأته [وهي لا تعلم] (2) أنَّه حرامٌ فقد خانها). قال: (والأوَّل أشبه، والنفس هي خانت، فإنَّها تحب الشهوة والمال والرئاسة، و"خان" و"اختان" مثل: "كسب" و"اكتسب"، فجعل الإنسان مختانًا، ثمَّ بيَّن أنَّ نفسه هي التي تختان، كما أنَّها هي __________ (1) في "الفتاوى": (فلما كان الفعل []) ونبه مصصحها -رحمه الله- على أنه وقع فيها بياض. (2) في الأصل: (وهو لا يعلم)، والتصويب من "الفتاوى".

(1/68)


التي تسفه، لأنَّ مبدأ ذلك شهوتها، ليس هو مما [يأمر به العقل والرأي] (1)، ومبدأ السفه منها، لخفَّتها وطيشها، والإنسان قد [تأمره نفسه في السرِّ بأمورٍ ينهاها عنه العقل] (2) والدين، فتكون نفسه اختانت عليه وغلبته، وهذا يوجد كثيرًا في أمر الجماع وأمر المال، ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس، ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة في ذلك، قال سعيد بن المسيَّب: لو ائتمنت على بيت المال لأدَّيت الأمانة، ولو ائتمنت على امرأةٍ سوداء حبشيةٍ لخشيت أن لا أؤدِّي الأمانة فيها. وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف أتفق) (3). 131 - وتكلَّم شيخنا على قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، واختار أنَّ المعنى: أن يكون النبيُّ قُتل، وأنَّ من معه من الربِّيون لم يهنوا بعد قتله، وضعَّف قول من قال: إنَّ الربِّيين قُتلوا تضعيفًا كثيرًا من عدة وجوهٍ، والربِّيون: هم الجماعة الكثيرة. قال: (وقوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} (4) [آل عمران: 146] صفة للنبيِّ لا حال، __________ (1) في الأصل: (يأمره والفعل)، والتصويب من "الفتاوى". (2) في الأصل: (تغلبه نفسه في الشر على هواه وأمور ينهى بها عنه الفعل)! والمثبت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (14/ 438 - 444)، ووقع بعض الاختلاف اليسير. (4) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز": (3/ 253 - 254): (قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: "قُتِل" -بضم القاف، وكسر التاء المخففة-، وقرأ الباقون: "قاتل" - بألف بين القاف والتاء-، وقرأ قتادة: "قُتل" -بضم القاف وكسر التاء مشددة- على التكثير) ا. هـ والشيخ يقرأ بالقراءة الأولى.

(1/69)


قال: (وحَذف- "الواو" في مثل هذا دليلٌ على أنَّها صفةٌ بعد صفة ليست حالًا، وبهذا يظهر كمال المعنى وحسنه، فإنَّ قوله: {مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ} [آل عمران: 146] أي: هم يتَّبعونه سواءً كانوا معه حين قتل أو لم يكونوا، والمعنى على الأوَّل، لأنَّ المقصود أنَّ جميع أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم [يرتدوا] (1) -لا من شهد مقتله ولا من غاب-، فإنَّ المقصود أنَّ قَتْلَ النبيِّ لا يغيِّر الإيمان من قلوب أتباعه) (2). 132 - وقال بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} [الصافات: 171، 172] قال: (وهذا يشكل على بعض الناس، فيقول: الرسل قد قتل بعضهم، فكيف يكونون [منصورين] (3)؟ فيقال: القتل إذا كان على وجهٍ فيه عزة الدين وأهله كان هذا من كمال النصر، فإنَّ الموت لا بدَّ منه، فإذا مات ميتةً يكون بها سعيدًا في الآخرة فهذا غاية النصر، كما كان حال نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه استشهد طائفةٌ من أصحابه فصاروا إلى أعظم كرامةٍ، ومن بقي كان عزيزًا منصورًا، وكذلك كان الصحابة يقولون للكفار: أخبرنا نبيُّنا أنَّ من قتل منَّا دخل الجنة، ومن عاش منَّا ملك رقابكم. فالمقتول إذا قتل على هذا الوجه كان ذلك من تمام نصره ونصر أصحابه، ومن هذا الباب حديث الغلام الذي رواه مسلم، لمَّا اتَّبع دين الراهب وترك دين الساحر، وأرادوا قتله مرةً بعد مرةٍ [فلم يستطيعوا] (4)، حتى أعلمهم بأنَّه يقتل [إذا قال الملك: بسم الله رب الغلام. ثمَّ __________ (1) في الأصل: (يزيدوا) تصحيف، والسياق يدل على ما أثبت، والله أعلم. (2) انظر: "الفتاوى": (14/ 373 - 374). (3) في الأصل: (منصورون). (4) في الأصل: (لم يطيعوا)، ولعل الصواب ما أثبت، والله أعلم.

(1/70)


يرميه] (1)، ولمَّا قتل آمن الناس كلُهم، فكان هذا نصرًا لدينه. ولهذا لمَّا قتل عمر بن الخطاب شهيدًا بين المسلمين قتل قاتله، وعثمان لمَّا قتل شهيدًا قتل قتلته وانتصرت [طائفته] (2)، وكذلك على لمَّا قتله الخوارج مستحلِّين قتله كانوا ممَّن أمر الله ورسوله بقتالهم، وكانوا مقهورين مع أهل السنة والجماعة. فلم يمنع ذلك عن الإسلام وأهله، لا سيَّما والثبيون الذين قتلوا كان الله ينتقم ممَّن قتلهم، حتَّى يقال إنَّه قتل على دم يحيى بن زكريا سبعون ألفًا! ). 133 - وأطال شيخنا الكلام على الأسباط، وضعَّف قول من قال إنَّهم أولاد يعقوب لصلبه، واختار أنَّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء، وأنَّ الأسباط هم بنو إسرائيل، وإنَّما سمُّوا بالأسباط [] (3) موسى - عليه السلام -. وذهب إلى أنَّه لم يكن بين موسى بني إسرائيل ويوسف نبيٌّ، قال: (والقرآن يدلُ على أنَّ أهل مصر لم يأتهم نبيّ بعد يوسف). 134 - وقال شيخنا: (الصواب أنَّ الحجَّ فرض سنة عشرٍ أو تسع) (4). 135 - وقال في "شمول النصوص الأحكام" لمَّا تكلَّم [. . .. ] (5) __________ (1) زيادة ليست في الأصل، والكلام بدونه غير تام، وخبر الغلام خرجه الإمام مسلم في "صحيحه": (3005). (2) في الأصل: (طائفة)، والسياق يدل على ما أثبت، والله أعلم. (3) كلمتان لم أتمكن من قراءتهما. (4) "الفتاوى": (27/ 326)، وانظر: (26/ 7). (5) جاء الكلام في الأصل متصلا، وظاهرٌ أن في الكلام سقطًا، ولعل العبارة: (لما تكلم على حديث: "من أعتق ")، والله أعلم.

(1/71)


شركًا له في عبدٍ: (وتنازعوا هل يؤدِّي عقب العتاق، أو لا يعتق حتَّى يؤدِّي الثمن؟ على قولين مشهورين، والأوَّل هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالكٍ وقولٌ في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل) (1). 136 - وقال في موضع آخر: (من غلب على ماله الحلال جازت معاملته، كما ذكره أصحاب الشافعيِّ وأحمد، وإن غلب الحرام، فهل معاملته محرمة أو [مكروهة] (2)؟ على وجهين) (3). 137 - قال: (وللعلماء قولان في الدراهم هل تتعيَّن بالتعيين في العقود والقبوض، حتَّى في الغصب والوديعة؟ فقيل: تتعيَّن مطلقًا، كقول الشافعيِّ وأحمد في إحدى الروايتين الثابتة) (4). 138 - وقال: (من كان بينهما ما لا يقبل القسمة -كحيوانٍ وآنيةٍ ونحو ذلك- إذا طلب أحد الشريكين بيعها وقسمة الثمن، أجبر الآخر على ذلك عند جمهور العلماء -وهو مذهب مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد، وذكر بعض المالكية أنَّ هذا إجماع-، لأن حقَّ الشريك في نصف قيمة الجميع لا في قيمة النصف) (5). 139 - وقال في أثناء كلامه: (قال ابن مسعود -وسئل عن رجل يعامل بالربا إذا أضاف غيره- فقال: كل، فإن مَهْنَأَه لك، وحسابه [عليه]) (6). __________ (1) "جامع المسائل": (2/ 263 - 264). (2) في الأصل: (منكرة)، والمثبت من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (29/ 241)، وانظر: (29/ 277). (4) "الفتاوى": (29/ 243)، وكلمة: (الثابتة) غير موجودة في المطبوعة. (5) "الفتاوى": (29/ 248)، "الاختيارات" للبعلي: (505). (6) في الأصل: (علي)! والتصويب من "الفتاوى": (29/ 247).

(1/72)


140 - قال شيخنا: (أمَّا من ترك الصلاة جاهلًا بوجوبها، مثل: من أسلم في دار الحرب ولم يعلم أنَّ الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوالٍ، وجهان في مذهب أحمد: أحدها: عليه الإعادة مطلقًا، وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد. والثاني: عليه الإعادة إذا تركها بدار [الإسلام دون دار] (1) الحرب، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنَّ دار الحرب دار جهل يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام. والثالث: لا إعادة عليه مطلقًا، وهو الوجه الثاني في مذهب أحمد وغيره. وأصل هذين الوجهين: أنَّ حكم الشارع هل يثبت في حقِّ المكلف قبل بلوغ الخطاب له؟ فيه ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره: أحدها: يثبت مطلقًا، والثاني: لا يثبت مطلقًا، والثالث: يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عُزل، فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم؟ وعلى هذا لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النصِّ، مثل: أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثمَّ يبلغه النص ويتبين له وجوب الوضوء؛ أو: يصلِّي في أعطان الإبل، ثمَّ يبلغه ويتبين له النصُّ؛ فهل عليهم إعادة ما مضى؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد. ونظيره أن يمسَّ ذكره ويصلِّي، ثمَّ يتبيَّن له وجوب الوضوء من مسِّ الذكر. __________ (1) زيادة استدركت من "الفتاوى".

(1/73)


والصحيح في هذه المسائل عدم وجوب الإعادة، لأنَّ الله تعالى عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنَّه قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15] فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيءٍ معينٍ لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر وعمارًا لمَّا أجنبا فلم يصلِّ عمر، وصلَّى عمار بالتمرُّغ، أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر [بالإعادة] (1) لمَّا كان يجنب ويمكث لا يصلَّي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتَّى يتبيَّن [له] (2) الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلَّى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء. ومن هذا الباب المستحاضة إذا مكثت مدَّةً لا تصلَّي لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففي وجوب القضاء عليها قولان: أحدهما: لا إعادة عليها، كما نقل عن مالكٍ وغيره، لأنَّ المستحاضة التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي استحاض حيضةً شديدةً [كبيرةً] (3) منكرةً منعتني الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء الماضي). قال شيخنا: (وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أنَّ في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي من يبلغ ولا يعلم أنَّ الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة: صلِّي، تقول: حتَّى أكبر وأصير عجوز، ظانةً أنَّه لا يخاطب بالصلاة إلَّا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها. __________ (1) زيادة استدركت من "الفتاوى". (2) زيادة استدركت من "الفتاوى". (3) زيادة استدركت من "الفتاوى".

(1/74)


وفي أتباع الشيوخ طوائف كثيرون لا يعلمون أنَّ الصلاة واجبةٌ عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواءً قيل: كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل) (1). 141 - قال شيخنا: (إذا كان على الولد دينٌ ولا وفاء له، جاز أن يأخذ من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره. وأمَّا إذا كان محتاجًا إلى النفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه، ففيه نزاعٌ، والأظهر أنَّه يجوز له أخذ زكاة أبيه. وأمَّا إذا كان مستغنيًا بنفقته (2) فلا حاجة [به] (3) إلى زكاته) (4). 142 - وقال: (إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثًا إن شاء الله، وقصده بذلك أن لا يقع به الطلاق، والاستثناء بسكوتٍ يسيرٍ لم يضرَّ الفصل بينهما، بل لا يقع به الطلاق والحال هذه، ولو لم يقصد النيَّة إلا بعد قوله، ففيه قولان، أظهرهما أنَّه لا ينفعه الاستثناء) (5). 143 - وذكر شيخنا مسألة الصلاة على الغائب، قال: (وفيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: تجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه. __________ (1) "الفتاوى": (22/ 100 - 103)، "الاختيارات" للبعلي: (48 - 49). (2) في مطبعة "الفتاوى": (نفقة أبيه). (3) زيادة من "الفتاوى". (4) "الفتاوى": (25/ 92)، وانظر: ما تقدم برقم (8). (5) انظر: "جامع المسائل": (4/ 345).

(1/75)


والثاني: لا تجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابن أبي موسى -وهو ثبتٌ في نقل مذهب أحمد- رجحانها في مذهبه) (1). ثم قال: (ومن [جوَّز] (2) الصلاة على الغائب الذي لم يصلَّ عليه فقد أحسن فيما قال، ولعل قوله أعدل الأقوال) (3). 144 - قال: (وجوَّز طائفةٌ من أصحاب الشافعيِّ وأحمد الصلاة على الغائب في البلد الواحد، ثمَّ محققوهم قيَّدوا ذلك بما إذا مات الميِّت في أحد جانبي البلد [الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد] (4) لم يقيِّدوه بالكبير، وكانت هذه المسألة قد وقعت في عصر أبي عبد الله بن حامدٍ: مات ميِّتٌ في أحد جانبي بغداد فصلَّى عليه [أبو] (5) عبد الله بن حامدٍ وطائفة من الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثر الفقهاء من أصحاب الإمام الشافعيِّ والإمام أحمد وغيرهم، كأبي حفص البرمكيِّ وغيره) (6). __________ (1) "جامع المسائل": (4/ 174). (2) في الأصل: (وجوب)، والمثبت من "جامع المسائل"، والله أعلم. (3) "جامع المسائل": (4/ 174، 177)، وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم: (1/ 520)، "الاختيارات" للبعلي: (130). وقال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": (2/ 1320 - رقم: 292): (في المسألة ثلاثة أقوال، أعدلها الصلاة عليه إذا لم يكن قد صلي عليه، والله أعلم) ا. هـ. (4) زيادة استدركت من "جامع المسائل". (5) في الأصل: (أبي) خطأ. (6) "جامع المسائل": (4/ 178).

(1/76)


قال شيخنا: (وأمَّا في زمن الشافعيِّ وأحمد فلم يبلغنا أنَّ أحدًا صلَّى في أحد جانبي البلد ببغداد على من مات في الآخر مع كثرة الموتى وتوافر الهمم والدواعي على نقل ذلك، فتبيَّن أنَّ ذلك محدثٌ لم يفعله أحدٌ من الأئمة. وأمَّا ما يفعله بعض الناس من أنَّه كلّ ليلةٍ يصلِّي على جميع من مات من المسلمين فلا ريب أنه بدعةٌ لم يفعله أحدٌ من السلف، والله أعلم) (1). 145 - قال: (وأمَّا لعنة المعيَّن فالأولى تركها، لأنَّه يمكن أن يتوب) (2). 146 - وقال في حديث: "نهى عن بيع وشرطٍ: (هذا حديثٌ باطل، ليس في شيءٍ من كتب المسلمين، وإنَّما يروى في حكايةٍ منقطعةٍ) (3). هكذا قال شيخنا (4). 147 - وقال في حديث: "نهى عن قفيز الطحان": (وهذا أيضًا باطلٌ) (5). 148 - قال: (وأصول الأقوال في القراءة خلف الإمام ثلاثةٌ -طرفان ووسط-: فأحد الطرفين: أنَّه لا يقرأ خلف الإمام بحالٍ. __________ (1) "جامع المسائل": (4/ 182)، وانظر: "الاختيارات" للبعلي: (130 - 131). (2) "الفتاوى": (22/ 63). (3) "الفتاوى": (18/ 63). (4) قال الحافظ ابن عبد الهادي في الجزء المطبوع باسم: "رسالة لطيفة": (وحديث "نهى عن بيع وشرط" رواه البيهقي بإسناد ضعيف، ورواه غيره من وجه آخر لا يثبت، وأخطأ السهيلي في قوله: رواه أبو داود) ا. هـ (5) "الفتاوى": (18/ 63).

(1/77)


والثاني: أنّه يقرأ خلف الإمام بكلِّ [حالٍ] (1). والثالث -وهو قول أكثر السلف-: أنَّه إذا سمع قراءة الإمام أنصت ولم يقرأ، وإذا لم يسمع قراءتَه قرأ لنفسه، هذا قول جمهور العلماء، كمالكٍ وأحمد بن حنبلٍ وجمهور أصحابهما، وطائفةٍ من أصحاب الشافعيِّ وأبي حنيفة، وهو القول القديم للشافعيِّ وقول محمَّد بن الحسن. وعلى هذا القول فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم أو مستحبة؟ فيه قولان: أحدهما: مستحبةٌ، وهو قول الأكثرين، كمالكٍ ومحمَّد بن الحسن وغيرهما. والثاني: أنَّها واجبةٌ، وهو قول الشافعيِّ القديم (2). __________ (1) زيادة استدركت من "الفتاوى". (2) في مطبوعة "الفتاوى": (وعلى هذا القول: فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم أو مستحبة؛ على قولين في مذهب أحمد، أشهرهما أنها مستحجة، وهو قول الشافعي في القديم) ا. هـ وجاء نحوه في "الاختيارات" للبعلي. فترى اختلافًا بين ما في الأصل وما في "الفتاوى" من جهتين: الأولى: أنه نسب القول بالاستحباب في الأصل إلى مالك ومحمد بن الحسن، وفي مطبوعة "الفتاوى" أن في مذهب أحمد قولين في المسألة، وكلاهما صحيح. الثانية: أنه في الأصل نُسب القول بالوجوب إلى الشافعي في القديم، وأما في مطبوعة "الفتاوى" فنُسب إلى مذهبه القديم القول بالاستحباب، وما بالأصل هو الصواب، كما في المصادر وكما جاء في موضع آخر من "الفتاوى": (23/ 309).

(1/78)


والاستماع حال جهر الإمام هل [هو] (1) واجبٌ أو مستحبٌ؟ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمةٌ أو مكروهةٌ؟ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: أنَّ القراءة حينئذٍ محرمة، وإذا قرأ بطلت صلاته، وهو أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله بن حامدٍ في مذهب أحمد. والثاني: أنَّ الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور في مذهب أحمد. والذين قالوا: يقرأ حال الجهر والمخافتة، إنَّما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، وما زاد على الفاتحة فإنَّ المشروع أن يكون مستمعًا لا قارئًا. وهل قراءته بالفاتحة مع الجهر واجبةٌ أو مستحبةٌ؟ على قولين: أحدهما: أنَّها واجبةٌ، وهو قول الشافعيِّ في الجديد، وقول ابن حزمٍ. والثاني: أنَّها مستحبة، وهو قول الأوزاعي والليث، واختيار جدِّي [أبي] (2) البركات) (3). قال: (وإذا جهر الإمام استمع لقراءته، فإن كان لا يسمع لبُعده، فإنَّه يقرأ في أصحِّ القولين، وهو قول أحمد وغيره. وإن كان لا يسمع لصممه أوكان يسمع همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره، والأظهر أنه يقرأ، لأنَّ __________ (1) في الأصل: (أيضًا)، والتصويب من "الفتاوى". (2) في الأصل: (أبو)، والتصويب من "الفتاوى". (3) "الفتاوى": (23/ 265 - 267)، "الاختيارات" للبعلي: (81).

(1/79)


الأفضل أن يكون إمَّا مستمعًا وإمَّا قارئًا، وهذا ليس بمستمع يحصل له مقصود الاستماع، فقراءته أفضل له من سكوته) (1). ثمَّ قال: ([فنذكر الدليل على الفصلين: ] (2) على أنَّه في حال الجهر يستمع، وأنَّه في حال المخافتة يقرأ]. ولم يبيِّن هل هذا على سبيل الوجوب أو الاستحباب. 149 - قال في أثناء كلامه: (وثبت أنّه في هذه الحال قراءة الإمام [له قراءة] (3)، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من كان له إمامٌ فإن قراءة الإمام له قراءةٌ". وهذا الحديث روي مرسلًا ومسندًا، لكنَّ أكثر العلماء (4) والأئمة الثقات رووه مرسلًا عن عبد الله بن شدَّاد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندًا، وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومُرسِلُهُ من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتجُّ به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نصَّ الشافعيُّ على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل) (5). 150 - قال: (وقيل: لا يستفتح ولا يتعوَّذ حال جهر الإمام، وهذا أصحُّ) (6). __________ (1) "الفتاوى": (23/ 268 - 269)، "الاختيارات" للبعلي: (81). (2) في الأصل: (فيذكر الدليل عن الفضل بن علي)! فأثبتها من مطبوعة "الفتاوى". (3) زيادة استدركت من "الفتاوى". (4) كلمة: (العلماء) غير موجودة في مطبوعة "الفتاوى". (5) "الفتاوى": (23/ 271 - 272). (6) "الفتاوى": (23/ 280)، "الاختيارات" للبعلي: (82).

(1/80)


151 - وذكر حديث عبادة: "إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، قال: (وهذا الحديث معلَّلٌ عند أئمة الحديث كأحمد وغيره من الأئمة (1)، وقد بُسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبيَّن أنَّ الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلَّا بأمِّ القرآن"، فهذا هو الذي أخرجاه في "الصحيحين"، رواه الزهريّ عن محمود بن الربيع عن عبادة، وأمَّا هذا الحديث غلط فيه بعض الشاميين، وأصله أنَّ عبادة كان يومًا في بيت المقدس فقال هذا، فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة) (2). * * * __________ (1) في مطبوعة "الفتاوى": (معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة). (2) "الفتاوى": (23/ 286 - 287).

(1/81)


فصلٌ 152 - قال شيخنا: (لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام -الذي يسمَّى: "التبليغ"- لغير حاجةٍ باتفاق الأئمة، فإنَّ بلالًا لم يكن يبلِّغ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره، ولم يكن يُبلَّغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لمَّا مرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالناس وصوته ضعيفٌ، فكان أبو بكر يصلِّي إلى جانبه يُسمع الناس التكبير، فاستدلَّ العلماء بذلك على أنَّه يشرع التبليغ عند الحاجة، مثل ضعف صوت الإمام ونحو ذلك، فأمَّا بدون الحاجة فاتَّفقوا على أنّه مكروهٌ غير مشروع، وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعله على قولين، والنزاع في الصحة معروفٌ في مذهب مالكٍ وأحمد وغيرهما، مع أنَّه مكروهٌ باتِّفاق المذاهب كلِّها) (1). 153 - [قال]: (وأمَّا دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة رافعي أصواتهم أو غير رافعيها فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، لم يكن يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد استحبَّه طائفةٌ من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت الصلاة صلاة الفجر وصلاة العصر بعدهما (2)، __________ (1) "الفتاوى": (23/ 402 - 403). (2) كذا بالأصل، ويبدو أنه وقع في العبارة تصحيف أو سقط، وقال شيخ الإسلام حول هذه المسألة -كما في "الفتاوى": (22/ 512) -: ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر، قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء عن الصلاة. واستحباب طائفة أخرى من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه ... - إلى أن =

(1/82)


وبعض الناس يستحبُّه في أدبار الخمس. والذي عليه الأئمة الكبار أنَّ ذلك ليس من سنَّة الصلاة، ولا تستحب المداومة عليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر [الله]، عقب كلِّ صلاةٍ ويرغِّب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ئبت في الأحاديث الصحيحة: حديث المغيرة بن شعبة وعبد الله بن الزبير. والناس في هذه المسألة طرفان ووسطٌ: منهم من لا يستحب ذكرًا ولا دعاءً، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو والمأمومون كأنَّهم قد فرُّوا من قسورةٍ! وهذا ليس بمستحبٍّ. ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم، وهو أيضًا خلاف السنَّة. والوسط هو اتباع ما جاءت به السنَّة من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ويمكث الإمام مستقبل المأمومين على الوجه المشروع. ولكن إذا دعوا أحيانًا لأمرٍ عارضٍ -كاستسقاءٍ واستنصارٍ أو نحو ذلك- فلا بأس بذلك، كما أنَّهم لو قاموا ولم يذكروا لأمرٍ عارضٍ جاز ذلك ولم يكره، وكلُّ ذلك منقولٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بعد أن يسلِّم، وقبل أن يستقبلهم يستغفر الله ثلاثًا، ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت __________ = قال: - بل الفاعل أحق بالإنكار، فإن المداومة على ما لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعًا، بل مكروه ... إلخ) ا. هـ وانظر أيضًا: (22/ 516 - 517).

(1/83)


يا ذا الجلال والإكرام. وكان يجهر بالذكر، كقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ. وأحيانًا كان يقوم عقيب السلام) (1). * * * __________ (1) انظر: "الفتاوى": (22/ 512 - 514، 516 - 519)، ثم وجدته بنصه في "المجموعة العلية": (ص: 134 - 136) و"جامع المسائل": (4/ 316 - 317).

(1/84)