إنما الجزاء من جنس العمل
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن سنة الله في خلقه اقتضت أن يكون الجزاء من جنس العمل.. ولا تزال وقائع الأيام.. تحكي ما للمعاصي والظلم من آلام.. وما للطاعة والإحسان من ثمراتٍٍِ عظام! }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ{.
والله جلّ وعلا لا يظلم الناس شيئًا.. فهو يجازيهم في الدنيا والآخرة بحسب نياتهم وأعمالهم؛ فيجزي على السيئة بمثلها.. وعلى الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء ويغفر لمن يشاء.
والمسلم له حالان:
حال مع الله جل وعلا.
وحال مع خلقه سبحانه.
فبحسب حاله مع الله يكون له، كما قال تعالى: }فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ{، وقال سبحانه في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظنَّ شرًًّا فله» [صحيح الجامع: 1491]، وقال تعالى: }أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{، فبحسب تقرب المسلم من ربه يقرب منه الخير ويناله من الدنيا والآخرة.
وكذلك بحسب حاله مع الخلق يكون الله معه.. فإن أحسن إليهم أحسن إليه.. وإن عفا عنهم عفا عنه.. فجزاؤه من جنس خُلقه وتعامله مع الناس.. وهذه القاعدة تدل عليها نصوص كثيرة في كتاب الله وسنته.. وهي مما يتفق عليها العامة والخاصة..
الله لك مثلما تكون لخلقه
وهذه القاعدة يدل عليها قول الله جلَّ وعلا: }هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ{، فهي دليل على أن الله جلّ وعلا يحسن إلى من يحسن، ويرحم من يرحم، ويعفو عن العافين.
ومن تتبع نصوص الشريعة وجدها تؤكِّد هذا المعنى تأكيدًا مطلقًا؛ فما من معروف يعمله المؤمن إلا ويجد ثوابه حاصلاً من جنسه في الدنيا ولا بد.. ولذلك لما كان الجزاء من جنس العمل فقد جعل الله جلّ وعلا للمؤمن الحريص على العمل الصالح إحسانًا يليق بإيمانه وأعماله الصالحة في الدنيا والآخرة.. فقال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{.
فها هنا جزاءان:
أحدهما في الدنيا: وهي الحياة السعيدة الطيبة.
والثاني: في الآخرة وهو الجنة.
ولكن هذا الجزاء لا يكون إلا لمؤمن صادق الإيمان في عباداته وإحسانه في تعامله مع الناس.
وإذا سألت أخي: عن كيفية الإحسان إلى الخلق الذي به يكتمل العمل الصالح؛ فإنه هو ما بينه الله جل وعلا في كتابه وسنة رسوله ﷺ، ومن ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: «من أحبَّ أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الناس مثل الذي يحب أن يؤتى إليه» [رواه مسلم].
والإنسان – كل الإنسان – يحب من الناس أن يعاملوه معاملة حسنة، وأن يرحموه ويوقروه.. ويقدروه.. ويغفروا له أخطاءه.. ولا يتتبعوا سيئاته وعثراته.. وأن يعاملوه بما هو مقتضى الخُلق الحسن.. فإذا كان المسلم يحب ذلك من الناس.. فليكن هو كذلك معهم.. فإن ذلك يوجب له الجنة عند الله سبحانه..
وذلك لأن الجزاء عند الله من جنس العمل..
فمن رحم الناس رحمه.. ومن أحسن إليهم أحسن إليه.. ومن عفا عنهم عفا عنه.. ومن غفر لهم غفر له.. ومن يسَّر عليهم يسَّر عليه.. ومن ستر عليهم ستر عليه.. كما أن من فضحهم فضحه.. ومن ظلمهم سلط عليه من يقهره.. ومن شدَّد عليهم شدَّد عليه.. ومن أشقاهم أشقاه.. ومن خانهم عذَّبه.. ومن تتبع عوراتهم تتبع عورته.
فالله جلّ وعلا لك مثلما تكون أنت للناس.. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جامعة.. فمنها:
قول الرسول ﷺ: «والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم! قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة».
[السلسلة الصحيحة برقم: 167]
فها هنا الرحمة تشمل كل مظاهر الإحسان ولا يستحقها إلا رحيم.. ليس بأقربائه وأصحابه فقط.. ولكن بالناس كافة.. قريبهم وبعيدهم.. صغيرهم وكبيرهم.. مالكهم ومملوكهم.. فقيرهم وغنيهم.. طائعهم وعاصيهم..
وقوله ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء [والرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» [السلسلة الصحيحة برقم: 935].
ورحمة الناس إنما تكون بالإحسان إليهم بالمال، والصدقة والكلمة الطيبة.. وكلَّ مفردات الخُلق الحسن، وكفِّ الأذى عن الناس.
وكما أن الإحسان إلى الناس جزاؤه الإحسان من الله، فإن ظلم الناس وإلحاق الأذى بالناس يوجب الأذى للإنسان بحسب ظلمه.
قطيعة الرحم توجب العذاب والوبال كما قال ﷺ: «من قطع رحمه لقي وباله قبل أن يموت».
وظلم الناس يوجب استجابة الله لدعائهم على الظالم كما قال ﷺ: «اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا فإنه ليس دونها حجاب».
[رواه أحمد وهو في صحيح الجامع: 118]
قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبه سرعة: ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
وتتبع العورة يوجب الفضيحة والعار كما قال ﷺ: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».
[رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع برقم: 7862]
وحجب الخير عن الناس مع القدرة على بذله يوجب تحوله وزواله؛ لأنه يناقض الشكر الواجب على النعمة وقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: «ابغوني في ضعفائكم»، وقال سبحانه: }وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{، وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك».
وحكي أن رجلاً جلس يومًا يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية، فوقف سائل ببابه فخرج عليه ونهره وطرده، ودارت الأيام وافتقر هذا الرجل وزالت نعمته حتى أنه طلق زوجته، وتزوجت من بعده برجل آخر فجلس يأكل معها يومًا من الأيام وبين أيديهما دجاجة مشوية، وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته، افتحي الباب وادفعي إليه هذه الدجاجة، فخرجت بها إليه فإذا به زوجها الأول، فأعطته الدجاجة، ورجعت وهي تبكي إلى زوجها فسألها عن بكائها، فأخبرته أن السائل كان زوجها الأول، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول وطرده، فقال لها زوجها وممَّ تعجبين وأنا والله السائل الأول. [الظلم مرتعه وخيم/ سليمان المفرج].
جزاء التعامل مع الوالدين
وأما انتظام قاعدة الجزاء من جنس العمل في التعامل مع الوالدين فمما يستوي في العلم به العامة والخاصّة.. فعوام الناس يدركون خطورة العقوق.. ليس لأنهم يعملون بأمر الله في طاعة الوالدين.. وزجره في عصيانهما فقط، ولكن لأن وقائع الأيام وأحداث الزمان تحكي الشواهد العظام.. التي تؤكد أن الجزاء من جنس العمل.. فمن أحسن إلى أبويه أحسن الله إليه.. ومن أساء إليهما ناله العقاب.
فالإحسان إلى الوالدين.. جزاؤه الإحسان.. قال تعالى: }وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا{، وقال تعالى: }هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ{.
وفي قصة النفر الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في غارٍٍٍِِِِِِ فلم يستطيعوا الخروج.. فأما أحدهم فتوسل إلى الله بعفافه.. وأما الآخر فتوسل إلى الله بصدقه وحفظه للعهد.. وأما الثالث فتوسل إلى الله بإحسانه لوالديه فقال: «اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وامرأة وصبيان وكنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وأنه نأى بي الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما؛ فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنَّا فرجة نرى منها السماء! ففرج الله لهم فرجة...» [رواه البخاري ومسلم].
وبدعائهم وتوسلهم إلى الله بهذه الأعمال الصالحة فرجَّ الله عنهم جلّ وعلا وانزاحت الصخرة عن الغار فخرجوا سالمين.
وأما الإساءة إلى الوالدين وعقوقهما.. فعاقبته وخيمة ولابد، إذ لا يعقهما إلا لئيم لا يشكر النعمة.. كيف وقد قرن الله جل وعلا شكره بشكرهما فقال: }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ{، فمن لم يشكر والديه ببرهما.. فإنه لم يشكر الله جل وعلا.
وعقوق الوالدين عمل جزاءه معجل من جنسه.. قال ﷺ: «بابان معجلان عقوبتهما: البغي والعقوق».
[رواه الحاكم وهو في السلسلة الصحيحة: 1120]
«وها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتيًا، وقام على خدمته زمنًا طويلاً، ثم ملَّه وسئمه فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة، وخرج به إلى الصحراء، فقال الأب لابنه: ماذا تريد مني هنا يا بني.
قال الابن: أريد أن أذبحك هنا.
قال الأب: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟!
قال الابن: لابد من ذبحك فقد أمللتني.
قال الأب: إن كان لابد يا بُنيَّ فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال الابن: أبتاه ما ضرك أن أذبحك هنا أو هناك.
قال الأب: إن كان الجزاء من جنس العمل، فاذبحني عند تلك الصخرة، فقد ذبحت أنا أبي عندها، ولك يا بني مثلها، وكما تدين تدان، ولا يظلم ربك أحدًا.
أخي الكريم: فبر والديك يبرك أبناؤك.. واعلم أنهم لك مثلما تكون لآبائك.. فإن كنت بارًّا بطيب الكلام.. وصدق الطاعة والحب والمودة.. والإنفاق والمعروف والإحسان.. وبرَّك أبناؤك وأتوك بمثل ما أتيت به والديك..
فوالداك أحق بحسن الخلق والصحبة من كل الناس، كما قال تعالى: }وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{.
جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال: «أمك»، قال ثُمَّ من؟ قال: «أمك». قال ثُمَّ من؟ قال: «أمك». قال: ثُمَّ من؟ قال: «ثُمَّ أبوك». [رواه مسلم].
جزاء من انتهك الأعراض
وقد أشار إليه الرسول ﷺ لما جاءه شاب يستأذنه – بكل صدق وجرأة – في الزنا.. فقال له رسول الله ﷺ: «يا فتى أفترضاه لأختك؟ أفترضاه لعمتك؟ أفترضاه لخالتك؟» وفي كل مرة يقول الشاب: لا يا رسول الله. ثم قال الشاب: ادع لي يا رسول الله! فوضع يده ﷺ على قلب الشاب، وقال: «اللهم حصِّن فرجَّه، وطهِّر قلبه، واغفر ذنبه» [رواه أحمد].
ويندر أن ينجو هاتك الأعراض من أداء دينه.. فإن وقائع الأيام شاهدة على أن الزناة يتجرَّعون مرارة هتك أعراضهم سواء بناتهم أو أخواتهم أو غيرهن من الأقارب.
«وفي أيامنا هذه. قبض أحد رجال الحسبة على شاب مع فتاة قد غرر بها وهددها.. حتى خرجت معه وفعل بها الفاحشة.. وتم الإجراء المناسب بحقهم!!
وبعد مدة تزيد عن ستة أشهر قبض على شاب مع فتاة، وتم استدعاء ولي أمرهما فإذا ولي أمرها هو الشاب الذي قبض عليه قبل ستة أشهر» [الهاربات إلى الأسواق ص82].
وكما قال الشاعر:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم | ||||
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم | ||||
يا هاتكًا سبل الرجال وقاطعًا | ||||
سبل المودة عشت غير مكرم | ||||
لو كنت حرًا من سلالة ماجد | ||||
ما كنت هتاكًا لحرمة مسلم | ||||
من يزن يزن به ولو بجداره | ||||
إن كنت يا هذا لبيبًا فافهم | ||||
من يزن في بيت بألفي درهم | ||||
في بيته يزنى بغير الدرهم | ||||
إن الزنا دين إذا استقرضته | ||||
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم | ||||
خاتمة
أخي الكريم: وتذكر أن قاعدة الجزاء من جنس العمل لا تستلزم بالضرورة وقوع الجزاء في الدنيا سواء كان ثوابًا أو عقابًا.. كما أن للجزاء موانع تمنعه سواء كان ثوابًا أو عقابًا.
فكثير من الظلمة يؤجِّل الله عقابهم إلى يوم الدين.. وهذا يكون في حقهم من أشد العقاب.. ولذلك فإن عدم جزاء الله لهم في الدنيا هو محض استدراج يمليه الله لهم ليغتروا بأعمالهم.. ويطمئنوا على أحوالهم.. حتى إذا تخبطهم الموت انقلبت أعمالهم حسرات عليهم.. ونالهم أشد العذاب..
كما قال تعالى: }سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{.
ولذلك ورد في الحديث القدسي أن الله جلّ وعلا يرد على دعوة المظلوم ويقول: «وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين».
ثم إن سعة مغفرة الله جلّ وعلا تسع الأعمال السيئة.. فليس كل من يخطئ في حق ربه يجزى بالسوء ولابد.. بل إنه إذا استغفر الله من ذنبه.. أو أتى بالحسنات المذهبات للسيئات رحمه الله يوم القيامة وتجاوز عنه.
كما أن من عمل صالحًا وأتى بما يقدح فيه لا ينال ثوابه عند الله.. ومثال ذلك من أتى بما يحبط عمله.. كترك الصلاة أو الرياء أو الشرك أو غير ذلك من محبطات الأعمال، فإنه لا ينال من الثواب ما يناسب عمله لأنه أتى بما يحبط ثوابه.
لكن الذي لا شك فيه أن سنة الله في خلقه قد اقتضت أن يكون الجزاء من جنس العمل في الدنيا غالبًا لا سيما في جنس المظالم التي تخص العباد.
فأحسن يحسن الله إليك.. واعلم أن الله لك مثلما تكون لخلقه..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *