الفرقان بين الهدى والضلال
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- الفرقان بين الهدى والضلال
الفرقان بين الهدى والضلال
خالد بن محمد الحسن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
فقد اطَّلعتُ على ما كتبه الشيخ: خالد بن محمد الحسن بعنوان «الفرقان بين الهدى والضلال» فألفيته كتابًا قيمًا في بابه، يناسب أن يُهدى للمبتعد، وأرجو أن يكون دافعًا له في الرجوع إلى الله وسببًا لتوبته. ويناسب من عاد إلى الله ويسليه ويؤنسه في حياته الجديدة، وأرجو أن يدفع عنه الوحشة مما مضى والخوف من سابق حياته.
ويناسب طالب العلم والداعية ويجعل مما احتواه هذا الكتاب مسلكًا يدعو الناس إليه وثروة يزود بها تجارته في تعامله مع الله ومع خلقه.
وعندما يجد المؤمن حلاوة الإيمان وتغمر بشاشته قلبه يعرف من خلال هذا المؤلف وغيره أن ذلك هو سُنَّةُ الله في خَلْقِه. وأن الدنيا لا ينعم بها إلا أهل الإيمان. وأما أهل الزيغ فيعيشون الجحيم كما قال الحسن البصري: «أبى الله إلا أن يذل من عصاه».
وأجدها مناسبة لدعوة طلاب العلم والدعاة إلى الله أن يزيدوا من ثروتهم العلمية وأن يبحثوا المسائل الشرعية من أمهات الكتب والمراجع الشرعية. وأن يدارسوا العلماء فيما أشكل عليهم وأن يجعلوا العلم منارًا لسبيلهم وشرطًا لدعوتهم وقولهم.
وأن يدركوا أن ليس ثم أمر عام أو خاص إلا وفي كتاب الله أو سنة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بيانه وإيضاحه ويحذروا من توجيه الناس بآراء الرجال وإملاء العقول.
وفي الختام، أسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب وأن يرزق كاتبه المثوبة، وأن يجعله خالصًا لوجهه وصلى الله على محمد.
وكتبه
د. عبد الله بن سليمان الجاسر
الأستاذ المساعد بقسم العقيدة
بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم
المقدمة
الحمد لله قابل التوب شديد العقاب ذي الطَّول لا إله إلا الله هو إليه المصير، الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأصلي وأسلم على محمد المبعوث رحمة للعالمين الذي رَغَّبَ في التوبة، وبذل جهده من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ذل المعصية إلى عز الطاعة، فصلى الله عليه وسلم صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا زالت قوافل التائبين تتوافد. ولا زال الناس يسمعون كل يوم بتوبة عدد من الناس فهذا مدمن مخدرات. وذاك مغنٍ وآخر لا يوجد معصية إلا وقد ارتكبها ثم لا نلبث إلا ونسمع بتوبة أحد هؤلاء، وهكذا تتوافد قوافل التائبين. فيكون الواحد قد عاش كلا المرحلتين،مرحلة الضلالة ومرحلة الهدى.
سبب طرق هذا الموضوع:
عندما رأيت بعض الشباب الذين يفرقون بين العديد من المعاصي. وتحدثت معهم وجدت أنهم قد أخذوا فكرة سيئة عن الالتزام بالدِّين وأهله. وظنوا أن حياة الالتزام حياة معقدة ومعيشة ضنكًا، بل إن البعض يتصور الملتزم وكأنه شبح مخيف.
ومن هذا المنطلق عزمت على بحث هذا الموضوع لعلنا أن نعرف أي الطريقين هو الطريق المعقد؟ وأي الحياتين هي الحياة الكئيبة؟ وأي المعيشة هي المعيشة الضنك؟
ولما انعقد العزم على ذلك استشرت بعض أهل العلم فشجعوا على طرق هذا الموضوع والكتابة فيه. فشرعت في هذا البحث المتواضع.
ومن هذه الرؤية أقدم بين يدي أخي القارئ هذه الرسالة المتواضعة التي سأوضح فيها:
1 – الفرق بين الهدى والضلال
2 – لمحات من حياة الأتقياء.
3 – أسباب السعادة
4 – وقفة وتأمل
5 – لقاء مع تائب.
ثم خاتمة هذا البحث.
والله المسؤول أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجه وأن ينفع به إنه جواد كريم.
وكتبه:
أبو عاصم
خالد بن محمد بن فهد الحسن
الفرق بين الهدى والضلال
لا شك أن الطريقين والحياتين بينهما فرق شاسع وبون واسع كما بين الثرى والثريا. قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾([1]) .
وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([2]) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. فالكافر مَثَلهُ فيما هو فيه كمثل من يمشي منكبًا على وجهه، أي يمشي منحنيًا لا مستويًا على وجهه أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال. أهذا أهدى﴿أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا﴾ أي منتصب القامة ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي على طريق واضح بيّن وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا ([3]).
وعن أنس بن مالك قال: قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم»([4]) .
حال أهل الضلال في الدنيا والآخرة:
إن من يعرض عن طاعة مولاه وعن اتباع أوامر خالقه وينتهك حرمات رازقه. فإن الله قد حكم عليه بالضياع والحيرة والقلق في الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾([5]).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، وأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هواه. فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا. فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة ([6]) .
وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾.
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنه: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»([7]) .
فرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - فرق بين من يقف عند حدود الله ويحل حلالها ويحرم حرامها. وبين من ينتهك محارم الجبار – جل وعلا – وأوضح أن الهدى والتقى والصلاح سبب نجاة وفوز وسعادة على العكس من الضال الموغل في العصيان فهو مهلك لنفسه ولغيره. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك أو تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحًا خبيثة»([8]) .
فالإنسان اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش بدون رفقاء.
ولكن عليه أن يختار الرفقة والأصحاب من تتوفر فيهم المزايا الطيبة من الإيمان والصلاح ليرشدوه إذا ضل ويقوموه إذا اعوج.
وقد شبه رسولنا الكريم تلك الصلة بين الصديق واختيار أصدقائه بريح المسك لما فيها من رائحة طيبة . فإن امتثل كلام الأخيار كان كمن اشترى. وإن اكتفى بصحبتهم كان كمن يشم رائحة ذلك العطر.
وذلك بخلاف صحبة الأشرار الذين يوجهونه إلى مالا تحمد عقباه مما يسلبه صفة الخير ويسيء إلى سمعته. وشبه صلى الله عليه وسلم حالة الرجل مع جلساء السوء كالذي يجاور نافخ الكير وهو صاحب الحدادة، إن لم تصبه النار وتحرق ملابسه فلا أقل من أن يتصاعد الدخان والرماد إلى خياشيمه ويسد نفسه.
فكذا قرناء السوء إن لم يشاركهم في ارتكاب الجرائم والموبقات أساء إلى سمعته وأهبط من منزلته وعرض نفسه للتهم بسبب صحبتهم فقط.
أخي الحبيب:
وبما تقدم وغيره يظهر لنا جليًّا الفرق بين أهل الهدى والتقى وما لهم من الفضل وما حباهم الله من النعم والمنن في الدنيا والآخرة. وبين أهل المعاصي والردى وشرهم المستطير وأذاهم للناس وما لهم عند الله عز وجل من العذاب والنكال جزاءًا وفاقًا.
لمحات من حياة المهتدين والضالين
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ([9]) . فقوله ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك فهذه علامات على الخير قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ يقول تعالى: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به. وكذا قال أبو مالك وغير واحد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن عمر بن قيس عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرًا للموت وأكثرهم لما بعده استعدادًا» وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح». قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت»([10]) .
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾([11]).
قال السدي: «أي هو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء مما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه»([12]) .
نظرة إلى الواقع:
أخي الحبيب: وفقك الله - لو نظرنا إلى ما حولنا وقلبنا النظر يمنة ويسرة. ونظرنا إلى حال الصالحين وغير الصالحين لوجدنا الفرق واضحًا بين الفئتين فالصالح قد تكفل الله بإسعاده والتفريج عنه فهو سعيد بطاعة ربه. قد امتلئت حياته فرحًا وسرورًا. إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر. فالله قد جعل له القبول في الأرض.
يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة: «إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل إني أحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانًا فيوضع له القبول في الأرض»([13]) .
ولا ريب أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا قرابة ولا سبب لصلة إلا ما شرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من عبادته وتقواه فأنعم بمن كان تقيًا مهتديًا.
والإنسان إذا أصلح علاقته بربه – عز وجل – وقام بحق الله حق القيام وزاد على ذلك من السنن والمستحبات وابتعد عن المكروهات فإنه حريٌّ أن يكون من أحباب الله تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن للحسنة ضياء في الوجه. ونورًا في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق»([14]) .
وقال عثمان بن عفان: «ما عمل رجل عملاً إلا ألبسه الله تعالى رداءه إن خيرا فخير وإن شرًّا فشر»([15]) .
قال ابن قيم الجوزية عليه رحمة الله: وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم. حتى أن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة وإن لم يمس طيبًا فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه والفاجر بالعكس ([16]).اهـ.
فالصالح مطمئن في شؤون حياته مبارك أينما كان. وقد بلغت السعادة والاطمئنان ببعض الصالحين أن يعبروا عنها بأوصاف في غاية الروعة والبهاء والجمال ومن ذلك ما قاله أحد الصالحين: «لو يعلم الملوك وأولاد الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف».
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: «ما يفعل بي أعدائي أنا جنتي في صدري، وسجني خلوة بربي، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة» فبهذه المقالة سد على جميع أعدائه كل الطرق فهو سعيد بطاعة ربه أينما كان.
وكثير من الناس يطلب السعادة ويلتمس الراحة وينشد الاستقرار وهدوء النفس والبال كما يسعى في البعد عن أسباب الشقاء والاضطراب ومثيرات القلق. ولكن ليعلم أن كل ذلك لا يتحقق إلا بالإيمان بالله وحده والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه مع الأخذ بما وضعه من سنن وشرعه من أسباب ([17]) .
ومن هنا نعلم أن السعادة كل السعادة في تقوى الله وطاعته وأن الخير كل الخير في اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والتوكل عليه سبحانه وليست السعادة بجمع الأموال والأولاد وتحقيق متع الحياة وما تشتهيه الأنفس ولله در القائل.
ولست أرى السعادة جمع مال | ولكن التقي هو السعيد | |
وتقوى الله خير الزاد ذخرًا | وعند الله للأتقى مزيد |
وقال آخر:
ألا يا جامع الدنيا المعنا | كأنك قد دُعيت إلى الرحيل | |
أما تنفك من شهوات نفس | تجور بهن عن قصد السبيل | |
وللدنيا دوائر دائرات | لتذهب بالعزيز وبالذليل | |
وللدنيا يدُ تهب المنايا | وتستلب الخليل من الخليل | |
فمالك غير تقوى الله مال | وغير فعالك الحسن الجميل |
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار»([18]) .
وأما غير الصالح:
فلقد أخبر عنه المولى عز وجل أنه يعيش حياة ضنك المعيشة ومرارة الحياة قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾([19]) ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: «وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضًا في قلوب الخلق»([20]) .
فصاحب المعاصي يعيش حياة مهددة بالفشل قد رماه مجتمعه في قوس واحد ونبذوه. والأكثر من ذلك أنه فشل في القيام بحق الله عز وجل وبحق والديه وصار كما وصف الله بعض عباده: ﴿فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾([21]) .
وبهذا وغيره – يتبين لنا أن حياة الضلالة حياة كئيبة حياة مليئة بالأكدار والمصائب والقلق.
فالمال لا ينفع معها، والزوجات والأولاد لا تجلب السعادة ولا تطرد الكآبة، لأن كل ذلك قد وجد على غير هدى من الله. قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾([22]) .
إذن أين السعادة؟
هذا ما سأدلك عليه وعلى أسبابه ووسائله في ضوء آيات من كتاب الله، وأحاديث من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهدي السلف رحمهم الله في الفقرة التالية.
أسباب السعادة وثمرات الهداية
إن راحة القلب وسروره وزوال همومه وغمومه هو المطلب لكل أحد. وبه تحصل الحياة الطيبة ويتم السرور والابتهاج. فالسعادة مطلب لكل عاقل وهي غاية منشودة ودرة مفقودة إلا ممن رحم الله وقليل ما هم.
ومن أراد الله هدايته فهو الموفق للسعادة وأعني السعادة الحقة التي بها اطمئنان القلب وانشراح الصدر وراحة البال ولتحقيقها أسباب دينية. وأسباب طبيعية.وأسباب عملية يمكن إجمالها فيما يلي:
الأول: صلاح العقيدة وتقوى الله عز وجل:
فهما من أعظم أسباب شرح الصدر، بخلاف الشرك والضلال فهما من أعظم أسباب ضيق الصدر وكبت النفس.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾([23]) .
ومن هنا نعلم أن الإيمان والعمل الصالح عاملان رئيسيان في انشراح الصدر. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([24]) .
فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الدار. بالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار.
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة معهم أصول وأسس يعرفون من خلالها أسباب السرور والابتهاج وأسباب القلق والهموم والأحزان ([25]) .
وتقوى الله هي أعظم سبب للحصول على السعادة الحقيقية ولو تدبرنا موارد التقوى في كتاب الله تعالى لوجدنا أن التقوى رأس كل خير ومفتاح كل خير وسبب كل خير في الدنيا والآخرة.
وإنما تأتي المصائب والبلايا والمحن والعقوبات بسبب الإهمال والإخلال بالتقوى وإضاعتها «والتقوى هي سبب السعادة والنجاح وتفريج الكروب»([26]) فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾([27]) .
قال بعض السلف: «هذه الآية أجمع آية في كتاب الله وما ذاك إلا لأن الله رتب عليها خير الدنيا والآخرة فمن اتقى الله جعل الله له مخرجًا من المصائب. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾([28]) .
الثاني: العلم والاشتغال بطلبه:
قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾([29]) وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾([30]) أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به لأنه كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر»([31]) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة»([32]) فبالعلم يعرف الإنسان مصيره ويعرف أن قسمًا من المكلفين ينتهون إلى الجنة والسعادة وأن الآخرين وهم الأكثرون ينتهون إلى دار الهوان والشقاء.
فمن هنا نعلم أن للعلم منزلة عظيمة. وقد حرص الإسلام من أول قيام الدعوة على تثبيت دعائمه وتوطيد أركانه فكانت أول آية نزلت من القرآن قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾([33]) .
وظهر فضل العلم في الحضارة الإسلامية وفيما توصل إليه محبوا الخير من كشوف ومخترعات علمية أفادت الإسلام والمسلمين وزادت من انتشار الإسلام.
الثالث: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف ونفعهم:
«فبالإحسان يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب. ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص لله واحتساب ورجاء لثواب الله جل وعلا»([34]) .
قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾([35]) وقد فرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المحسن وبين البخيل.
فالمحسن أشرح الناس صدرًا وأطيبهم نفسًا. والبخيل أضيق الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمهم همًّا وغمًّا. فهو صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للبخيل والمتصدق: «كمثل رجلين عليهما جُنتان من حديد كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت حتى يجر ثيابه وبعض أثره. وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقه مكانها ولم تتسع عليه»([36]) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة... الحديث»([37]) قال أهل العلم «إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها إذ التفريج إزالتها أما التنفيس فهو تخفيفها والجزاء من جنس العمل فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته. والتنفيس جزاءه تنفيس مثله»([38]) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي يعلى: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»([39]) .
قال ابن رجب في تعليقه على هذا الحديث: «الإحسان الواجب في معاملتهم ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله. والإحسان في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلها. والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب»([40]).
الرابع: الذكر والدعاء.
فإن الإكثار من ذكر الله له تأثير عجيب في انشراح الصدر وطمأنينته وزوال الأحزان. كيف لا وقد قال الله عز من قائل: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾([41]) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ([42]) ، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله»([43]) . وكذلك الدعاء فهو سبب انشراح الصدر وأنس المرء.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾([44]).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي. واجعل الحياة زيادة لي من كل خير. والموت راحة لي من كل شر»([45]) فإذا لهج العبد بهذا الدعاء الذي فيه صلاح مستقبله الديني والدنيوي بقلب حاضر ونية صادقة مع اجتهاده فيما يحقق ذلك حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له وانقلب همه فرحًا وسرورًا ([46]) .
الخامس: ترك فضول الكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم.
فإن هذا الفضول تتحول آلامًا وغمومًا وهمومًا يتعذب بها. قال ابن القيم رحمه الله: «فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم. وما أنكد عيشه. وما أسوأ حاله وما أشد حصر قلبه. ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من الخصال المحمودة بسهم وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها»([47]) .
أخي الحبيب:
واعلم أن من شر فضول الكلام: الغيبة والنميمة التي قال الله عنها: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾([48]) ويقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه أبو هريرة: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»([49]) .
فالنمام والمغتاب يكره الناس مجالسته ومصاحبته. بل إنه منبوذ من بين الخلق كل يشير إليه بالذم والشتم.
السادس: الصدق.
بجميع أنواعه:
الصدق مع الله.
الصدق مع النفس
الصدق مع الناس
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»([50]) .
فرسولنا الكريم يبين لنا مصير أهل الصدق ومصير أهل الكذب. فمصير أهل الصدق إلى جنات النعيم، ومصير أهل الكذب إلى نار الجحيم.
فالإنسان إذا كان مخلصًا في عمله لله تعالى صادقًا مع نفسه ومع الناس، فإن مصيره إلى السعادة بلا شك. بخلاف صاحب الحيل والخداع والكذب فمصيره إلى الفضيحة ومن ثم إلى الشقاء. وكفى بالكذب عارًا أن يسمى صاحبه فاجرًا. وعلى لسان من؟! على لسان من لا ينطق على الهوى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه. ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس فإن الكاذب يصور المعدوم موجودًا والموجود معدومًا والحق باطلاً والباطل حقًا والخير شرًا والشر خيرًا... إلى أن قال: ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار»)([51]) .
وكفى بالصدق فخرًا أن يسمى صاحبه برًا.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([52]) .
وقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾([53]) .
السابع: حسن الخلق:
فعن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»([54]) .
قال بعض السلف: جلس داود عليه السلام خاليًا فقال الله عز وجل: ما لي أراك خاليًا؟ قال هجرت الناس فيك يا رب العالمين. قال: يا داود ألا أدلك على ما تستبقي به وجوه الناس وتبلغ فيه رضاي؟ خالق الناس بأخلاقهم. واحتجز الإيمان بيني وبينك ([55]) .
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق أكمل خصال الإيمان قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»([56]) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة: «أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»([57]) وقد روى عن السلف تفسير حسن الخلق بعبارات مختلفة. فعن الحسن البصري قال: حسن الخلق هو البذلة والاحتمال.
وقال الشعبي: هو البذلة والعطية والبشر الحسن. وقال ابن المبارك: هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى ([58]) .
وقفة وتأمل
أخي المسلم... أختي المسلمة
ها نحن وقد عرفنا الفرق بين حياة الهدى وحياة الضلال وعلمنا أن السعادة ليست بجمع الأموال وكثرة الأولاد وعلمنا أن للسعادة الحقة أسبابًا وطرقًا. من وفق إليها فهو الموفق. ومن أصابها وعمل بها فهو السعيد حقًّا ومن حرمها فقد حرم الخير كله.
أخي المسلم:
إن الدنيا حلوة خضرة كما وصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وملذاتها ومغرياتها كثيرة ومع هذا وذاك فمكدراتها ومنغصاتها أكثر.
والإنسان لابدَّ له وأن تمر عليه الحالتان. فالطمع من سلوكيات ابن آدم. فهو يلهث وراء تلك المغريات ويلهث وراء جمع الأموال والأولاد التي وصفها الله بأنها زينة الحياة الدنيا فقال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾([59]) .
فمن اهتم بهذه الزينة وأعرض عن طاعة ربه فستكون الشقاوة منتهاه.
ومن جعل هذه الزينة وسخرها في طاعة مولاه وقدم طاعة ربه وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على هوى نفسه وطاعة الشيطان ورغبات أهله وأولاده الضارة. فستكون السعادة بمشيئة الله نصيبه وقرينته.
إن لذة الطاعة لا تعادلها لذة وحلاوة الإيمان لا تعادلها حلاوة وعز الطاعة لا يعادله عز . كما أن مرارة المعصية لا تعادلها مرارة وشؤم الذنب لا يعادله شؤم. وذل المعصية لا يعادله ذل.
يقول أحد الصالحين: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة وهذه الجنة هي الإيمان وحلاوته».
وقد استنبط العلماء من بعض الأحاديث قولهم: «من ذاق طعم الإيمان هانت عليه الشدائد».
اعلم أن التوبة ليست بالتمني ولا بالتحلي وإنما تكون بالمجاهدة ([60]) قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾([61]) . فالهداية ثمرة للمجاهدة والمجاهدة مطلب للصالحين من أجل أن يثبتوا على صلاحهم.
أخي المسلم:
وهل تتصور أن لذة العبادة وحلاوة الطاعة وطمأنينة الاستقامة تكون بلا مجاهدة ... بالطبع لا.. فإنه لا بد من المجاهدة ولا بد من السعي في طلب الاستقامة والإتيان بأسباب ذلك وحينذاك تحصل الحياة الطيبة الهنيئة التي وعد الله بها عباده المؤمنين في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾([62]).
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – حفظه الله -: (والحياة الطيبة هي حياة أهل العلم والإيمان كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾([63]))([64]) .
ولقد رسم لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريق السعادة وأوضح لنا طريق الإيمان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فأسعد الخلق وأعظمهم نعيمًا وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعًا وموافقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملاً)([65]) .
ومن خلال ما تقدم: فإنه يلزم من أراد إسعاد نفسه في الدارين أن يسعى جاهدًا في طلب الاستقامة والهدى ويأتي بأسباب ذلك.
وأن يتضرع إلى الله راجيًا التوفيق إلى هذا الأمر. والله سبحانه جواد كريم إذا رأى من عبده صدقًا وفقه إلى ما يرجوه
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾([66]) قال ابن مسعود في قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يطاع فلا يعصى. وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ قال الحافظ: أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات عليه بعث عليه فعياذًا بالله من خلاف ذلك)([67]) .
وأما من فرط في الاستقامة وفي طلبها وطلب أسبابها يوشك أن يخسر الخسارة العظمى. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾([68]) .
لقاء مع تائب
ومما يزيد القضية التي نحن بصدد الحديث عنها وضوحًا أن نذكر أنموذجًا ممن عايش الفترتين وذاق طعم الحياتين.
فهاك طرفًا من حوار دار بيني وبين بعض الأشخاص الذين هم حدثاء عهد باستقامة وإقلاع عن أسباب الضلال فسألت أولاً قائلاً:
- بما أنك قد عاصرت كلا من حياة الضلال وحياة الهدى فأرجو أن توضح لنا الفرق بينهما.
- فأجاب قائلاً:
- قد يطول بنا المقام لنفرق بين الحياتين ولكن أسأل الله أن يجعل في هذه الكلمات المختصرة الفائدة المرجوة.
أما حياة الضلال فأرجو من الله أن لا يعيدني إليها وأن يثبتني على دينه إنه ولي ذلك والقادر عليه. فحياة الضلال هي حياة الكآبة والذنوب والآثام وحياة القلق والتوتر النفسي. فهي أشبه ما تكون بحياة البهائم التي لا تميز بين الصالح وغير الصالح.
فكنت أقدم على المعصية دون أي تردد ودون أي تفكير في العاقبة. ومثلي مثل الجائع الذي أمامه مائدة مملوءة بأصناف الأطعمة والأشربة فهو لا يفكر إلا بملئ بطنه، فحياة الضلال مليئة بالأكدار والمنغصات حتى أنه لم تفتنا أي أجازة إلا وسافرنا فيها إلى بلاد الفساد، وأطلنا الغياب عن الوطن وعققنا الوالدين. وكنت لا أرتاح إلا مع من هو على شاكلتي من رفقاء السوء فكانت حياتنا حياة خوف وقلق وكدر وبُعد عن الله.
وكنت أتوقع أني إذا عملت هذه الأعمال فسأكون سعيدًا ولكن يعلم الله أني أعيش حياة مرة حياة بعيدة كل البعد عن السعادة .
وأما حياة الهدى فهي حياة السعادة الحقيقية فعندما أنقذني الله من حياة الظلام والمعاصي إلى حياة النور والطاعة وتداركني الله برحمته على أيدي شباب وقفوا بجانبي فوجدت نفسي في عالم آخر وجدت نفسي في عالم الراحة والاطمئنان فأصبحت محافظًا على طاعة الله واقفًا عند حدوده. مسارعًا إلى فعل الخيرات واستبدلت الغناء بالقرآن. والدخان بالسواك والأفلام بالكتب النافعة. والسفر إلى بلاد الفساد بالسفر إلى بلاد الإيمان مكة المكرمة والمدينة المنورة ورفقاء السوء برفقاء صالحين كل حياتي مبنية على طاعة الله ورضا الوالدين وأصبحت فعلا أعيش حياة سعيدة مملوءة بالراحة والاطمئنان.
أما الأخ الثاني فقال: لا أدري بماذا أبدأ وماذا أقول من أجل أن أصف حياتي في زمن التعاسة وفي زمن السعادة ولكن أقول: لو وصفت حياتي الأولى لصمت الآذان ولأبكمت الألسنة وذلك لما لاقيته من التعاسة وكأنني أرغم عل كأس من الحنظل. كل ذلك جزاء ما ارتكبته من المعاصي والمنكرات التي إن وصفتها لك فلن أستطيع أن أبلغ النهاية فلا يوجد منكرًا إلا ارتكبته ولا معصية إلا واقعتها ولا سفر لبلاد العهر والفساد إلا وكنت من اللاحقين به.
ومع ذلك كله فأنا لا أشعر بشيء من الطمأنينة والهدوء كنت دائمًا قلقًا منزعجًا من كل شيء. وكنت كثيرًا ما أسئل نفسي لماذا لا أرتاح لماذا أنا تعيس؟ لماذا لا أشعر بالسعادة؟ لماذا؟... لماذا؟ .. أسئلة كثيرة وكثيرة كانت تدور في خاطري.
واستمرت هذه الحالة وهذه المعيشة حتى فرج الله عني وهداني إلى طاعته فله الحمد والشكر أولاً وآخرًا. فأصبحت عابدًا لله نادمًا على كل ما فات فانقلبت حياتي من الشقاوة إلى السعادة وشعرت بالراحة والطمأنينة وخاصة عندما ألتقي مع ذوي النفوس الزكية وأصحاب القلوب النقية .
ولم لا؟ .. وأنا متجه إلى ربي حتى أصبحت ذا ضمير مرهف وخشية مستمرة وحذر دائم أتقي أشواك الطريق.. وأحذر سراديب الحياة. فأشهد الله أني لم أشعر بالسعادة والأنس في يوم من الأيام حتى انتقلت إلى حياة الهدى والصلاح. فأصبحت ولله الحمد أشعر بلذة الإيمان وأحس بانشراح الصدر حتى أن المصائب مهما كانت عظيمة إلا أنها تكون بردًا وسلامًا على قلبي.
خاتمة
مما لا يشك فيه من له أدنى بصيرة أن بين طريق الهدى وطريق الضلال فرق كبير وبون شاسع في الدنيا والآخرة.
فمصير المهتدي إلى السعادة في الدنيا وإلى جنات النعيم في الآخرة. بخلاف الضال – عياذًا بالله – فمصيره إلى الشقاوة في الدنيا وإلى العذاب والنكال في الآخرة.
ومما لا مرية فيه أن الهداية لا تكون بالتمني ولا تكون بالأحلام وإنما تكون بالمجاهدة الحقة حتى يتغلب الإنسان على جميع شهواته.
ولقد أبانت الشريعة لنا سبل السعادة التي منها الهدى والتوحيد والإيمان والإحسان إلى الناس وقضاء حوائجهم ومعاملتهم بالأخلاق الحسنة والسعي في طلب العلم والصدق في كل شيء وترك فضول النظر والسمع والكلام والأكل.
فبهذا يتبين لنا كيف نصل إلى السعادة الحقيقية وكيف نسموا بأنفسنا من عالم الشقاوة والضجر إلى عالم السعادة والأمل
وصلى الله على نبينا محمد.
وكتبه
أبو عاصم
خالد بن محمد بن فهد الحسن
القصيم – الأسياح
هاتف: 3450371/06
حرر في تاريخ 28/ 8/ 1414هـ
([1]) السجدة: 20 - 23
([2]) الملك: 22
([3]) تفسير ابن كثير 4/ 399
([4]) متفق عليه ورواه أحمد.
([5]) طه: 124 - 126
([6]) تفسير ابن كثير (3/164).
([7]) رواه البخاري.
([8]) متفق عليه.
([9]) الأنعام: 125.
([10]) رواه الحاكم وغيره من طرق ضعفها أهل العلم ولكن قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/171 – 175) أن بعضها يشد بعضًا.
([11]) الأنعام: 125.
([12]) تفسير ابن كثير: 2/166
([13]) رواه البخاري.
([14]) الوابل الصيب/ 56.
([15]) الوابل الصيب/ 56.
([16]) الوابل الصيب/ 56.
([17]) توجيهات وذكرى للشيخ صالح بن حميد.
([18]) متفق عليه.
([19]) طه: 124.
([20]) الوابل الصيب/ 56.
([21]) الأنعام: 71.
([22]) التوبة: 55.
([23]) الأنعام: 125.
([24]) النحل:97.
([25]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي.
([26]) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز.
([27]) الطلاق: 2 – 3.
([28]) الطلاق: 4
([29]) الزمر: 9
([30]) فاطر: 28
([31]) تفسير ابن كثير : 3/531.
([32]) رواه أهل السنن والإمام أحمد وابن حبان عن أبي الدرداء.
([33]) العلق: 1 - 5
([34]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي.
([35]) النساء: 144
([36]) رواه البخاري ومسلم.
([37]) رواه مسلم.
([38]) توجيهات وذكرى للشيخ صالح بن حميد.
([39]) رواه مسلم.
([40]) جامع العلوم والحكم.
([41]) الرعد: 28.
([42]) أي أتعلق به.
([43]) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
([44]) النمل: 62.
([45]) رواه مسلم.
([46]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي.
([47]) زاد المعاد.
([48]) الحجرات:12
([49]) أخرجه مسلم.
([50]) متفق عليه.
([51]) الفوائد: 244.
([52]) التوبة: 119.
([53]) المائدة: 119.
([54]) رواه الترمذي وقال حديث حسن وفي بعض النسخ قال حديث حسن صحيح.
([55]) جامع العلوم والحكم لابن رجب.
([56]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان.
([57]) رواه أبو داود وسنده صحيح وله شاهد من حديث معاذ عند الطبراني.
([58]) جامع العلوم والحكم.
([59]) الكهف: 46.
([60]) أي مجاهدة هوى النفس والشيطان وأهل السوء.
([61]) العنكبوت: 69.
([62]) النمل : 97.
([63]) الأنفال: 24.
([64]) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز.
([65]) الفتاوى 4/26.
([66]) آل عمران: 102.
([67]) تفسير ابن كثير 1/366
([68]) الزمر: 15.