التأويل خطورته وآثاره
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
التأويل خطورته وآثاره
تأليف
الدكتور عمر بن سليمان الأشقر
قام بصف الكتاب ونشره على الإنترنت إخوانكم في [شبكة الدفاع عن السنة] نسأل الله أن ينفع به.
الطبعة الأولى 1412هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
" فاتحة كل خير وتمام كل نعمة "
كلمة الافتتاح
الحمد لله الذي أضاء القلوب بنور كتابه ، وأرشد العقول إلى البراهين ، والأدلة التي تظهر الحق وتعليه ، وتبطل الباطل وتبليه ، وأصلي وأسلم على عبده المصطفى ونبيه المجتبى الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، وعلى آله وصحبه الذين تلقوا عن نبيهم هذا الدين ، وفقهوه وفقهوا به عباد الله ، وبلغوه لمن ورائهم ، حتى استنارت به الدنيا ، وبلغت أنواره أقطار الأرض. وعلى الذين سلكوا سبيلهم وساروا مسارهم إلى يوم الدين ، وبعد:
فقد لفت نظري عظم جنايــة التأويل على هذه الشريعة المباركة أثناء بحثي في موضوع: "أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة" ، وقد طال البحث في التأويل وآثاره ، وأصبح من غير المقبول أن يدخل في صورته التي أنتهى إليها في الكتاب المذكور ، فأفردته في رسالة خاصة.
لقد كان التأويل باب شرّ كبير، ولج منه الذين يردون هدم الإسـلام ، فما تركوا شيئاً إلا أولوه ، ولولا حماية الله ورعايته لهذا الدين لدرست معالمه وضاعت حدوده.
لقد أول الضالون الواجبات فصرفوها عن وجهها ، وهونوا على أتباعهم رميها وراء ظهورهم.
وأولوا المحرمات تأويلاً جر الذين ضلوا بضلالهم على ارتكابها والولوغ فيها.
وأولوا نصوص عذاب القبر ونعيمه ، والساعة وأهولها ، والمعاد والحشر والميزان والجنة والنار بحيث فقدت النصوص تأثيرها في نفوس العباد.
وأولوا نصوص الصفات تأويلاً أضعف صلى العباد بربهم ، وأفقد النصوص هيبتها إذ جعلها لعبة في أيدي المؤولين ، يجتهدون ليلهم ونهارهم في صرفها عن وجهها بشتى أنواع التأويل.
وقد اقتصرت في هذه الرسالة على النوع الأخير من المؤولات ، تأويل الأسماء والصفات ، فإن التأويلات التي أبطلت بها الأوامر والنواهي ، ونصوص المعاد ، والجنة والنار لم ترج عند عوام أهل السنـة فضلاً عن علمائهم.
ولكن تأويل نصوص الصفات وجد آذاناً صاغية عند جمع من أصحاب العقول من هذه الأمة ، وجازت هذه الفرية على أقوام أتوا ذكاء ونباهة ورأيا.
لقد ألف في موضوع الرسالة مؤلفات توسع فيها كاتبوها ، وتأتي هذه الرسالة لتعالج المشكلة بصورة مبسطة ومختصرة ، ولكنها – إن شاء الله- كافية وافية بالغرض ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
د- عمر بن سليمان الأشقر
الجامعة الأردنية – كلية الشريعة
عمان – الأردن
دعوى باطلة
أجهد الذين خالفوا منهج الكتاب والسنة الذي فقهه السلف الصالح في أسماء الله وصفاته أنفسهم في ليّ أعناق النصوص ، ليصرفوها عن ظاهرها بشتى أنواع التمحلات ، وسموا عملهم هذا تأويلاً ، ليروج على من لا يدرك الباطل الذي جاءوا به ، وزعموا فيما زعموه أنهم علموا بالقرآن الذي ألزم بتأويل المتشابه ، وساروا على هدي علمائنا الأعلام الذين أولوا ما تشابه من آيات الكتاب.
وهذا الذي جاءوا به باطل لا شك في بطلانــه.
هذا ليس بتأويل بل تحريف
والذي يعرف التأويل عند العرب في كلامها ، ويفقه معنى التأويل الذي جاءت به النصوص ، والتأويل الذي عناه الأصوليون والفقهاء يعلم قطعاً أنما جاءوا به ليس تأويلاً ، بل هو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذمه القرآن وذم أهله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- بعد ذكره لهذا النمط من التأويل:
" هذا التأويل في كثير من المواضع – أو أكثرها وعامتها- من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية ، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمة ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ، ورموا في أثرهم بالشهب.
وقد صنف الإمام أحمد كتاباً في الرد على هؤلاء سماه: (الرد على الجهمية والزنادقة) " مجموع فتاوى شيخ الإسلام 4/69.
ويقول في موضع آخر:
" هذا التأويل المذموم الباطل هو تأويل أهل التحريف والبدع ، والذين يتأولونه على غير تأويله ، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك ... " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/67.
التأويل في لغة العرب وفي اصطلاح الشارع
مفهوم التأويل في لغة العرب لا يأتي على هذا المعنى الذي أرادوه فمداره مادة "أوْل" في لغة العرب في استعمالاتها على الرجوع والعود.
يقول ابن منظور:
" الأوْل الرجوع ، آل الشيء يؤول ومآلا رجع ، وأوّل إليه الشيء: رَجَعَهَ. وألْتُ عن الشيء: ارتددت. يقال: طبخت النبيذ حتى آل إلى الثلث أو الربع أي رجع ، والأيّل من الوحش: الوعل ، قال الفارسي: سمي بذلك لمآله إلى الجبل يتحصن فيه" لسان العرب لابن منظور 1/130.
ويأتي التأويل في لغة العرب بمعنى التفسير أيضاً ، وهذا المعنى ليس بعيد عن المعنى السابق ، فالتفسير تأويل ، لأن المفسر يراجع نفسه عند الشرح والبيان ويدبر الكلام ويقدره ، ففيه معنى العود والرجوع.
والتأويل في الكتاب والسنة ليس بعيد عن المعنى اللغوي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى: " يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره ، وهذا هو المعنى المراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة" مجموع فتاوى شيخ الإسلام 3/36.
يقول شارح الطحاوية: " التأويل في كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- هو الحقيقة التي يؤول إليه الكلام ، فتأويل الخبر هو عين المخبر به ، وتأويل الأمر: نف الفعل المأمور به" شرح العقيدة الطحاوية ص232.
وقد أورد الباحثون في هذا الموضوع النصوص التي تدلل على أن معنى التأويل في القرآن هو هذا المعنى الذي قرروه ، فمن ذلك قوله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله ، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق }.
والمتحدث في هذا النص هو القرآن ، وانتظارهم لتحقيق ما أخبر الحق عنه من وقوع العذاب بهم يوم القيامة ، وهذا هو المراد بقوله: يوم يأتي تأويله عند ذلك يقر هؤلاء الذين كذبوا به في الدنيا ، ويقولون في ذلك: {قد جاءت رسلنا ربنا بالحق}.
وقد صح في السنة أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم وبحمدك يتأول القرآن)) [حديث متفق عليه من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها] ، أي يحقق ما أمره الله به في كتابه.
وعندما رفع نبي الله يوسف أبويه على العرش وخر والداه وإخوانه له ساجدين قال: {يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل} فتأويل الرؤيا تحققها في عالم الواقع.
ويأتي التأويل في اللغة وفي الكتاب والسنة بمعنى التفسير ، ومنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس: (( اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل)) .
ومن هذا الباب ما جرى عليه ابن جرير الطبري في تفسيره ، فإنه كثيراً ما يقول إذا شرع في تفسير آية: "القول في تأويل قوله تعالى".
اعتراض وجوابه
قد يقال: إن بعض معاجم اللغة العربية تذكر أن معنى التأويل هو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
أشار إلى ذلك ابن منظور وابن الأثير وغيرهما، فكيف تزعمون أن العرب لا تفقه من كلامها هذا المعنى.
والجواب: أن هذا المعنى دخل إلى معاجم اللغة العربية المتأخرة نقلاً عن استعمالات الفقهاء والأصوليين ، لا نقلاً عن كلام العرب الذي يحتج به ، يدل على صحة هذا القول أن معاجم اللغة العربية المتقدمة أمثال: تهذيب اللغة للأزهري ، ومقاييس اللغة لابن فارس وهما مما دون في القرن الرابع الهجري لم يشيرا إلى هذا المعنى الذي ذكره الفقهاء والأصوليون مما يدل على أنه معنى اصطلاحي خاص بهم ، فلا يجوز حمل ألفاظ القرآن عليه.
وعلى فرض أن هذا التأويل في لغة العرب هو هذا المعنى الذي أورده الأصوليون ، فإن المؤولين للنصوص لم يلتزموا بالشروط التي وضعها الأصوليون لجواز التأويل ، كما سيأتي بيانه ، ولذا فإن صنيعهم هذا لا يخرج تأويلهم عن التحريف.
المراد بالتأويل الذي يذم طالبه
التأويل الذي يذم طالبه هو البحث عن حقيقة ما اخبرنا الله به من الغيوب التي لا يستطيع العباد بعقولهم المجردة إدراك حقيقتها، فالله أخبرنا بنعيم القبر وعذابه في عالم البرزخ، كما أخبرنا بالبعث والنشور، والحشر وأهواله والجنة وأنهارها وثمارها وأطيارها وحورها، والنار وسمومها وحميمها وغسلينها، ونحن لا ندري حقيقة ما أخبرنا الله عنه، قال تعالى نافيا علم العباد بحقيقة ما أخبر الله به من نعيم أهل الجنة {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وفي الحديث القدسي: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
وصفات الباري غيب لا نعرف حقيقتها، فالكلام عن الصفات فرع عن الكلام عن الذات، وحقيقة الذات غير معروفة لنا، فكذلك صفاته تبارك وتعالى.
أما التأويل الذي يحمد طالبه فهو البحث عن تفسير الأسماء والصفات ومعرفة معانيها على الوجه الذي تعرفه العرب من كلامها.
فنحن نعرف معاني ما أخبرنا الله به من معاني أسماء الله وصفاته، كما نعلم معاني ما أخبرنا الله به من نعيم القبر وعذابه، وقيام الساعة، والبعث والنشور، والموقف وأهواله، والحساب والجزاء والميزان، والجنة ونعيمها، والنار وأهوالها.
فقه آية آل عمران في ضوء ما قررناه في المبحث السابق
قرر الحق تبارك وتعالى في سورة آل عمران أنه أنزل الكتاب {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} وقرر أن {الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
وقد قرر الحق في هذا النص أن أهل هذا الزيغ يتركون المحكم من النصوص ويجرون وراء المتشابه، قاصدين من وراء ذلك إثارة الفتن، وبلبلة العقول والقلوب، وتفريق الأمّة.
أما الراسخون في العلم فإنهم يحكِّمون المحكم ويؤمنون بالمتشابه.
فإن قيل: هل يعلم الراسخون تأويل المتشابه؟
فالجواب: أن أهل العلم اختلفوا في الوقف في النص، هل نقف على قوله (إلا الله) فيكون تأويل المتشابه مما استأثر الله به. أو نقف على (الراسخون في العلم) فيكون الراسخون في العلم ممن يعلم تأويله.
و في ضوء ما قررناه في البحث السابق يعلم الجواب، فإذا كان المراد بالتأويل حقيقة ما اخبر الله عنه من صفاته فالوقف على: (إلا الله) ويكون تأويل مما استأثر الله بعلمه.
وإن كان المراد معرفة ما أخبر الله به عن نفسه، وهو التفسير فإن الراسخين في العلم يعلمونه في الجملة، وإن كان فيهم من يخفى عليه المعنى، لكن لا يخلو أن يكون فيهم من يعرف مراد الله من قوله، ويعرف المعنى الذي عناه.
فالقرآن أنزل بلغة العرب، والراسخون في العلم لا بدّ أن يتميزوا عن الجهلاء وعوام الناس بمعرفتهم بمعان ما أنزل إليهم ربهم. و مما يدل على صحة هذا أن القرآن نزل بلغة العرب، وقد أمرنا الله بفقهه وتدبره، فكيف يكون في القرآن ما لا يفقه معناه؟!
تناقض أهل التأويل
الذين يوجبون تأويل ما أثبته الله لنفسه من الصفات، ويصرفونها عن ظاهرها يرون أن تأويل تلك النصوص لا يعلمه أحد إلا الله تبارك وتعالى.
وهم يتناقضون هنا تناقضا بينا، فإذا كانوا لا يعلمون معاني نصوص الصفات، فكيف يدعون إلى تأويلها، إن المنطق السليم يلزمهم بأن لا يبحثوا لها عن تأويل موافق لظاهرها أو مخالف له، لأنهم لا يعلمون لها معنى، أو له معنى غير مفهوم لهم، فكان الواجب عليهم أن يقولوا رضينا بالجهل بهذه النصوص سبيلا ولا نثبت ظاهرا ولا ننفيه ولا نؤوله.
أمّا أن يقولوا يجب علينا صرف ألفاظ النصوص من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل، فهذا تناقض مخالف لدعواهم أنه لا أحد يفقه معناها.
ثم هم يتناقضون مرة أخرى عندما يصرفون هذه النصوص إلى نظير ما نفوه من معاني، فهم يؤولون يد الله بقدرته، فإذا كان هذا التأويل حقّا ممكنا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعا كان الثابت مثله.
هل الصفات من المتشابه
الإحكام والتشابه قد يكون عامّا، فيوصف القرآن كله بالإحكام، كما يوصف كله بالتشابه، وقد يكون خاصا، فيكون بعض آيات الكتاب محكما وبعضها متشابها.
وقد جلَّى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسالة، وشرحها شرحا وافيا [راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3\59-66]، فالإحكام العام جاء في مثل قوله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} فأخبر هنا أنه تبارك وتعالى أحكم جميع آيات الكتاب.
وأما التشابه العام ففي مثل قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني} فأخبر أن القرآن كله متشابه.
وبين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أن المراد بالإحكام العام الإتقان بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، و قد سمى الحق القرآن بأنه حكيم {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} والحكيم بمعنى الحاكم، والله جعل القرآن حكما يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومن ذلك حكمه بين بني إسرائيل في أكثر ما اختلفوا فيه.
وبين أن التشابه العام ضد الاختلاف المنفي عن القرآن في قوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وهو الاختلاف المذكور في قوله: {وإنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك}.
ومعنى التشابه الذي يوصف به القرآن كله تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا فإذا أمر القرآن بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ.
وكذلك في الأخبار، لا يخبر بنقيض ما قرره، وعلى ذلك فالتشابه التوافق والتماثل، وهو يقابل الاختلاف والتضاد.
والتشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضا، ويعضد بعضها بعضا، ويناسب بعضها بعضا، ويشهد بعضها لبعض، كان الكلام متشابها بخلاف الكلام الذي يضاد بعضه بعضا.
فالتشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، ثم تكلم شيخ الإسلام على الإحكام الخاص والتشابه الخاص، وبين أن الإحكام الخاص ضد التشابه الخاص.
ثم بين أن المراد بالتشابه الخاص مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو مثله، وليس كذلك.
والإحكام الخاص هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك مع وجود الفال بينهما.
وبين رحمه الله تعالى: أن من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه هنا من الأمور النسبية الإضافية، يشتبه على بعض الناس دون بعض، وأهل العلم والإيمان عندهم من العلم ما يزيل هذا الاشتباه.
ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل.
وضرب شيخ الإسلام أمثلة كثيرة على المتشابه الذي اشتبه على كثير من الناس وعرف أهل العلم الفصل بين الحق والباطل فيه.
فقد اشتبه على بعض الناس وجود الرب بوجود العبد ووجود كل موجود، وساقهم هذا الاشتباه إلى عدم التفريق بين وجود المخلوق ووجود الخالق، حتى زعم أهل وحدة الوجود أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن المماثلة من الخالق بالمخلوق.
والسر في الخلل الذي أصاب هؤلاء أنهم رأوا الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع.
وظن آخرون أنه إذا قيل إن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فإنه يلزم من ذلك التشبيه والتركيب، وقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء على اختلاف أصنافهم إلى أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث.
وأهل العلم يعلمون أن وجود الخالق يخصه، ووجود المخلوقات يخصها، فهي وإن شاركت الخالق في مسمى الوجود، لكن هناك من الفروق ما يزيل التشابه، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام، لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.
وإذا تمسك النصراني بقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} مستدلاً بقوله: {نحن} على تعدد الآلهة، رد عليهم أهل العلم بالمحكم في قوله: {وإلهكم إله واحد} وبذلك يزول الاشتباه، وما ذكره الحق في صيغة الجمع فهو يعظم به نفسه تبارك وتعالى، ومن ذلك ما أخبر به الحق تبارك وتعالى مما في الجنّة من ماء ولبن وخمر وعنب وعسل ونحو ذلك فإنها وإن شاركت ما في الدنيا من أسماء ومعاني، إلا أن حقيقة هذه الخيرات في الجنات لا تعرف، ويكفي أن الرب أخبر أنها من نعيم الجنّة لنفرق بينها وبين ما نشاهده في الدنيا مما يتسمى بالأسماء نفسها.
ومن ذلك أسماء الباري – جل وعلا- وصفاته التي اختص بها، فإن معانيها معروفة معلومة، وقد يشتبه على بعض الناس هذه الصفات بصفات الخلق، فيظنون أن صفاتهم كصفاته وهؤلاء المشبهة، وفريق آخر يظن أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التشبيه، ولذلك يحتاج إلى تأويلها أو نفيها تنزيهاً للباري جل وعلا.
وأهل العلم يعلمون الفارق الذي يزول به الاشتباه، فصفات الباري تخصه وتناسب جلاله وكماله، وصفات المخلوقات تناسب عجزهم وقصورهم، أما حقيقة صفات الباري على ما هي عليه فإننا لا نعرفها، فالحق – تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء.
ادعاء أهل التأويل أنهم يسيرون على خطا علماء الأصول
قد يقول أهل التحريف والتأويل إن منهجنا الذي سرنا عليه وسلكناه سار عليه كثير من أهل العلم من أهل الفقه و الأصول، يعنون أهل أصول الفقه وأصول الدين، فإن هؤلاء يعرفون التأويل بأنه صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
وجوابنا على هؤلاء من وجوه:
الأول: أن هذا التعريف للتأويل تعريف اصطلاحي لجماعة من متأخري العلماء، وليس هو التأويل الذي ورد في الكتاب والسنة، كما سبق بيانه.
فحمل التأويل الذي جاءت به النصوص على هذا المعنى الاصطلاحي المحدث لا يجوز، و إنما تحمل الألفاظ على ما تعرفه العرب من كلامها، ولم يفقه الصحابة ومن بعدهم من القرون الفاضلة التأويل على هذا الوجه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (التأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله-تعالى- بلفظ التأويل ذلك، وان للنصوص تأويلا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام5\35.وراجع:3\55، 67 من مجموع الفتاوى. راجح شرح العقيدة الطحاوية ص235].
وقال في موضع آخر بعد أن حكى هذا النوع من التأويل: (وتسمية هذا تأويلا لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلا طائفة من المتأخرين الحائضين في الفقه وأصوله والكلام) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام:4\69].
وينبغي أن ننبه هنا إلى أن حمل ألفاظ النصوص على معاني المصطلحات المحدثة طريق خطر يؤدي إلى تحريف النصوص، ويحجب ضوئها، وقد أغرق بعض الذين ينسبون إلى الإسلام في هذا التوجب، فقد فسر الغزالي في كتبه التي سماها "المضنون بها على غير أهلها": (اللوح المحفوظ) بالنفس الزكية، ولفظ (القلم) بالعقل الأول.
وجعل لفظ: (الملكوت والجبروت والملك) عبارة عن النفس والعقل.
والشفاعة عنده: (فيض يفيض من الشفيع إلى المتشفع، وإن كان الشفيع لا يدري) .
والقديم عند علماء الكلام عبارة عما لما يزل، أو عما لم يسبقه وجود غيره، إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه.
والقديم في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره كقوله تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} وقال تعالى عن إخوة يوسف: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [مجموع فتاوى شيخ الإسلام1\245].
وقد أخطأ هؤلاء بحمل اللفظ القرآني على المعنى الإصطلاحي دون المعنى الذي تفقهه العرب من كلامها.
الثالث: أن كثيرا مما أوله من سلك سبيل التأويل نصوص لا يجوز تأويلها، فالمجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص، وإنما يدخلان في الظاهر المحتمل له،
ويعرف كون اللفظ نصا بشيئين:
أحدهما: عدم احتماله لغير معناه وضعا كالعشرة.
والثاني: ما طردوا استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلا ولا مجازا، وإن قدر تطرق ذلك إلى بعض أفراده، وصار هذا بمنزلة خبر المتواتر لا يتطرق احتمال الكذب إليه، و إن تطرق إلى كل واحد من أفراده بمفرده، وهذه عصمة نافعة تدلك على خطأ كثير من التأويلات في السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها، وتأويلها في هذه الحالة غلط، فإن التأويل إنما يكون لظاهرها قد ورد شاذا مخالفا لغيره من السمعيات، فيحتاج إلى تأويلها لتوافقها، فأمّا إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة صارت بمنزلة النص وأقوى، وتأويلها ممتنع [بدائع الفوائد لابن القيم: 1\15].
الرابع: أن تأويلهم للنصوص لا يرتضيه أهل الفقه والأصول، لأن هؤلاء وضعوا للتـأويل شروطا حتى يصح التأويل عندهم، فإذا فقدت هذه الشروط أو فقد شرط منها كان هذا التأويل فاسدا، وكان صاحبه متلاعبا بالنصوص.
الشروط التي يجب توافرها في التأويل عند الأصوليين
وقد ذكر هذه الشروط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (صرف اللفظ عن ظاهره اللائق بجلال الله سبحانه وتعالى، وحقيقة المفهوم منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة
لابد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل في المعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بدّ أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأيِّ معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة) [الرسالة المدنية ص 40].
وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- أن أبن أبي دؤاد الذي تولى كبر فتنة القول بخلق القرآن أراد ابن الأعرابي أن يجد له في لغة العرب أن استوى تأتي بمعنى استولى ليصرف قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}، إلى هذا المعنى.
فقال له ابن الأعرابي: "والله ما أصبتُ هذا"[فتح الباري 13/406] .
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه.
وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازيّ بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء.
ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلا بدَّ له من دليل قاطع: عقلي أو سمعي يوجب الصرف، و إن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بدَّ من دليل مرجح للحمل على المجاز) [الرسالة المدنية ص 40].
وقد أشار كثير من العلماء المحققين إلى وجوب تحقق هذا الشرط.
يقول الزركشي: (في التأويل في الاصطلاح: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله، ثم إن حمل لدليل فصحيح، وحينئذ فيصير المرجوح في نفسه راجحا، أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب، لا تأويل) [البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 3/437].
أقول: وأكثر التأويلات المؤولة-هي من النوع الأخير الذي سماه الزركشي لعبا، لأنهم لم يقيموا على صحتها دليلا يصح الاعتداد به.
الثالث: لا بدَّ أن يسلم ذلك الدليل –الصارف- عن المعارض، و إلا فإذا قام دليل قرآني و إيماني يبين أن الحقيقة مراده امتنع تركها.
ثم إن كان هذا الدليل قاطعاً لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلا بدّ من الترجيح [الرسالة المدنية ص 40].
وقد تأمَّل أهل السنة في النصوص التي زعم أهل التأويل وجوب تأويلها، فوجدوا أن في النصوص نفسها ما يدل على وجوب ترك تأويلها، فمن ذلك الحديث الذي يدَّعون رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) .
ومنه الحديث ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((عبدي جعت فلم تطعمني ... )).
وقد بين العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- أن في الحديث الأول ما يدل صراحة على أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: ((فمن قبَّله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه)).
ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به.
ففي الحديث نفسه بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وليس هو نفس يمينه، فليس ظاهر الحديث كفراً يحتاج إلى تأويل، كما جعلته المؤولة، بحيث يحتاج إلى تأويله.
وقد نبه شيخ الإسلام إلى أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، وإنما يعرف عن ابن عباس.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن))، فإنه غير محتاج إلى تأويل، فالمؤولة زعموا أنه يلزم تأويله (لاستحالة وجود الأصبعين حساً، وكل من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين، فأولوه على ما به تقليب الأشياء، وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان، وبهما يقلب الله القلوب، فكنى بالأصبعين عنهما) [البحر المحيط 3/442].
ولو تأمل هؤلاء في النص لعلموا أنهم أخطئوا في الفهم، فالحديث يصرح أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولم يصرح بأن الأصابع مماسة للقلوب، فجعلهم ظاهر النص أنها مماسة للقلوب، وأن عدم رؤيتهم لهذه المماسة في صدر كل واحد منا يوجب التأويل فهم خاطئ للنص، فالنص لم يصرح، وليس فيه أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوف العباد، وإذا قيل السحاب مسخر بين السماء والأرض، وكثير من الكواكب والنجوم بين السماء والأرض لم يقتض هذا أن يكون مماس للسماء والأرض.
فالمؤولون أوتوا في هذا الحديث من عدم فقههم له، بينما كان خطؤهم في الحديث الأول في جعل ظاهره المعنى الباطل المردود، وهو ليس كذلك [راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3/45].
ومما أوله المؤولون من النصوص زاعمين وجوب تأويله حديث ((عبدي جعت ولم تطعمني)). قالوا هذا الحديث يُثْبت لله معنى باطلاً هو الجوع، ولذا يجب صرفه عن ظاهره وتأويله، لأن الله منزه عن صفات النقص.
والجواب: أن هذا الذي زعمتموه ظاهر النص ليس بظاهره، وفي الحديث ما يدل على هذا ويفسر مراد الله منه، ففي الحديث: (( يقول الله: عبدي، جعت فلم تطعمني.
فيقول: رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟
فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
عبدي، مرضت فلم تعدني.
فيقول: رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟
فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)).
يقول ابن تيمية: (هذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده، وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبقى في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3/43-44].
الرابع: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلا بدَّ أن يبين لأمته أنه لم يرد به حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح.
فإن الله سبحانه جعل القرآن نوراً وهدىً، وبياناً للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل) [الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص 42].
فلا يجوز أن يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهر، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره.
إما أن يكون عقلياً ظاهراً مثل قوله: {وأوتيت من كل شيء} فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك {خالق كل شيء} يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم.
أو سمعياً ظاهراً، مثل الدلالات في الكتاب والسنة والتي تصرف بعض الظواهر.
ولا يجوز أن يحيلهم على معنى دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعياً أو عقلياً.
لأنَّه إذا تكلَّم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مراراً كثيرة، وخاطب به الخلق كلّهم، وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه، وأوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب عليهم أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئاً من ظاهره، لأن هناك دليلاً خفياً يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان ذلك تدليساً وتلبيساً، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان.
فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهرة أقوى بدرجات من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟
كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ [ الرسالة المدنية بشيء من الاختصار: ص 42-44].
مثال تطبيقي للشروط السابقة
وإذا نظرنا في تأويلات الذين أوّلوا الصفات في ضوء المقامات الأربعة التي ذكرها شيخ الإسلام تبين لنا مدى الضلال والتحريف الذي تلبس به المؤولة.
وقد ذكر لنا شيخ الإسلام مثلاً يوضح المسألة ويبينها، فالله – تبارك وتعالى- وصف نفسه بأن له يدين، وجاءت النصوص كثيرة طيبة مصرحة بذلك، فقالت المؤولة: المراد باليد النعمة والعطية، سمّي الشيء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات سماء، وقول العربي: لفلان عندي أياد.
وجاء في الأخبار أن عروة بن مسعود قال لأبي بكر في يوم الحديبية: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وقد تفسر المؤولة اليد بالقدرة، تسمية للشيء باسم مسببه، لأن القدرة هي التي تحرك اليد، ومنه قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} والنكاح كلام يقال.
وإنما معناه أنه مقتدر عليه.
والعرب قد تجعل إضافة الفعل إلى الأيدي إضافة الفعل إلى الشخص نفسه فمما جاء عن العرب: يداك أو كتا، وفوك نفخ، تقوله توبيخاً لكل من جرَّ على نفسه جريرة، لأن أول ما قيل هذا لمن فعل بيديه وفمه.
ومما جاء في القرآن على هذا النحو قوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} أي بما قدمتم، لأن بعض ما قدموه كلام تكلموا به.
من هنا حمل المؤولون قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} وقوله مؤنبا إبليس {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} على النعمة أو القدرة.
وقد نظر شيخ الإسلام في هذه الصفة التي أولها الجهمية ومن سار سيرهم في ضوء المقامات التي ذكرها ليبين فساد هذا التأويل.
فبين أولاً أن العرب قد تستعمل الواحد في الجمع كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} كما تستعمل صيغة الجمع في الواحد كقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} وتستعمل الجمع في الاثنين كقوله: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} ولكن العرب لا تستعمل لفظ الواحد في الاثنين، والاثنين في الواحد مطلقاً، وقد جاءت هذه الصفة مثناة فيما وصف الله به نفسه {بل يداه مبسوطتان} وقد بين شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى- السبب في عدم جواز استعمال الواحد في الاثنين، والاثنين في الواحد فمن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، ولا يتجوز بها، فلا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني رجلين، وعندي رجلان ويعني به الجنس لأن اسم الواحد يدل على الجنس ...، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد.
فقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} لا يجوز أن يراد به القدرة، لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة، لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية.
ولا يجوز أن يراد بقوله { لما خلقت بيدي} "بما خلقته أنا", لأن العرب إذا أرادوا هذا المعنى فإنهم يضيفون هذا المعنى إلى اليد, فيكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل كقوله {بما قدَّمت يداك} {بما قدمت أيديكم} ومنه قوله: {مما عملت أيدينا أنعما} أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدّى الفعل إلى اليد بحرف الباء كما هو الحال في هذه الآية {لما خلقت بيدي} فإنه نص في أنّه فعل الفعل بيده.
ولهذا لا يجوز أن يقال لمن تكلم أو مشي: فعلتَ هذا الفعل بيديك، أو يقال: هذا فعلته يداك، لأن مجرد قوله: فعلتَ كاف في الإضافة إلى الفاعل.
فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ويكاد يجزم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بأنه لا يجوز في كلام العرب ولا العجم أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي. أو فعل فلان هذا بيديه، إلا ويكون فَعَلَه بيده حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها.
ولا يرد على هذا الذي قرره شيخ الإسلام مثل قوله تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد}، قالوا: خاطب الواحد بصيغة التثنية {ألقيا} لأن تثنية الفاعل هنا لتثنية الفعل، فكأنه قال: ألق ألق. وقيل: إنّه خطاب للسائق والشهيد.
ومن قال: إنه خطاب الواحد، قال: إن الإنسان يكون معه اثنان أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول: خليلي، خليلي. ثم إنه يقع الخطاب، وإن لم يكونا موجدين، كأنه يخاطب موجدين.
فقوله: {ألقيا} عند هذا القائل إنما هو خطاب لاثنين يقدر وجودهما.
وبين شيخ الإسلام في المقام الثاني أنه على فرض أنه يعني باليد حقيقة اليد، ويجوز أن يعني بها القدرة والنعمة، وأن يجعل ذكرها كناية عن الفعل فإنه ليس هناك ما يوجب صرفها عن الحقيقة.
فإن قيل: إن الموجب لذلك أن إطلاق اليد على الله يوهم أنها يد من جنس أيدي المخلوقين.
والجواب: أن هذا المعنى مرفوض وممتنع على الله تعالى، ولكن اليد المثبتة للباري – تبارك وتعالى- يد تليق بجلاله وكماله، تستحق ما تستحقه ذاته الكريمة، فإذا كان هذا المعنى الذي نثبته لله تعالى، فلا موجل لصرف اليد من الحقيقة إلى المجاز.
وفي المقام الثالث أورد شيخ الإسلام الأدلة الجلية القاطعة الظاهرة الدالة على أن لله "يدين" حقيقة.
فمن ذلك قوله تعالى مخاطباً إبليس: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} فالباري جلّ وعلا ذكر هنا ما فضل به آدم على غيره من المخلوقات، فقد خلقه تبارك وتعالى بيديه، فلو كان الخالق – تبارك وتعالى- خلقه بقدرته أو بنعمته أو بمجرد إضافة خلقه إليه، لشاركه في ذلك إبليس وكل المخلوقات من الجماد والنبات والحيوان.
ونبه شيخ الإسلام هنا إلى أن كلَّ إضافة إلى الله – تبارك وتعالى- على وجه التشريف لا بدّ أن يكون فيها معنى تشرف به على غيرها، كقوله: (ناقة الله) و(بيت الله)، فلو لم يكن في الناقة والبيت من الآيات البينات ما امتازوا به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة.
ومن هذا النصوص التي صرحت بخلق آدم بيديه توجب أنه اختص بشيء لم يشركه فيه غيره، ألا وهو خلقه – تبارك وتعالى- بيديه دون غيره من المخلوقات التي خلقها بكلمة "كن".
ونبه أيضاً إلى أمرين:
الأول: أن العرب تفقه من مثل قوله تعالى: {بيد الملك} {مما عملت أيدينا} أمرين:
1- إثبات اليد.
2- إضافة الملك والعمل إلى اليد.
الثاني: هو الذي يقع التجوز كثيراً.
ولكنهم لا يطبقون هذا الكلام إلا لجنس له يد حقيقة فلا يقولون:
يد الهوى، ولا يد الماء فقوله تعالى: {بيده الملك} وإن قيل المراد به قدرة الله، إلا أن هذا التعبير لا يقال إلا لمن له يد حقيقة.
والأمر الثاني الذي نبه إليه هو الفارق بين قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} وقوله: {مما عملت بأيدينا}.
فقد فرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أنه في الآية الأولى أضاف الفعل إلى نفسه، وبين أنه خلقه بيديه، وفي الثانية أضاف الفعل إلى الأيدي.
وثانيهما: أن الآية الثانية وضع اسم الجمع وموضع التثنية، وهذا جائز عن العرب إذا أمن اللبس، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أي يديهما. وقوله: {فقد صغت قلوبكما} قلباكما.
ومن النصوص المصرحة بأن لله يدين قوله تبارك وتعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} وقوله: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمنه} وقد تواتر في السنة التصريح بذكر اليدين كقوله صلى الله عليه وسلم: ((المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)) رواه النسائي وأحمد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يأخذ الرب – عز وجل- سماواته وأرضه بيديه، وجعل يقبض يديه ويبسطهما، ويقول: أنا الرحمن، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط برسول الله)) رواه مسلم وابن ماجه في سننه.
والأحاديث في ذلك كثيرة طيبة صحيحة، وقد ساق شيخ الإسلام بعضاً منها وعقب على ذلك قائلاً: هل تقبل هذه الأحاديث تأويلاً، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق؟
وفي المقام الرابع بين شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى- أنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة، كما أنه لم يرد عن واحد من الصحابة أو الأئمة الذين تابعوهم على أثرهم أن المراد باليد خلاف ظاهره، أو أن الظاهر غير مراد كما لم يرد نص عن الله ولا عن رسوله ولا عن واحد من أئمة السلف ينفي إثبات اليد لرب العزة، وأقصى ما يلجأ إليه المعارض هو الاحتجاج بالنصوص الدالة على تنزيه الباري كقوله: { قل هو الله أحد}، {ليس كمثله شيء}، {هل تعلم له سمياً} وهذه النصوص تدل على نفي التشبيه والتجسيم، ولكنها لا تدل على نفي الصفات التي جاءت بها النصوص، كل ما تدل عليه نفي مماثلة أيدي المخلوقين ليد الباري تبارك وتعالى.
وقد توصل شيخ الإسلام من خلال ما أورده من حجج وبينات إلى أنه لم يوجد في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد.
وكل ما يحتج به من ينفيها أو يؤولها إنما هو شبه فاسدة.
ويخلص إلى قوله بأنه لا يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله خلق آدم بيديه، وأن يداه مبسوطتان وأن الملك بيده، وفي الحديث، مالا يحصى، ثم لا يبين الرسول – صلى الله عليه وسلم- لأمته أن هذا الكلام يراد به حقيقة ظاهرة، حتى يأتي مثل الجهم بن صفوان وبشر بن غياث المريسي ومن سلك سبيلهم فيدَّعوون أنه يجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها، ويسلكون سبيلاً يخالفون به النصوص القرآنية والحديثية، وما كان عليه الصحابة وأعلام التابعين والأئمة [الرسالة المدنية ص 44-67 بتصرف].
الأدلة على بطلان التأويل
يزعم المؤولون أن الأدلة العقلية ألزمتهم بتأويل نصوص الصفات، فتراهم يزعمون أن العقل حكم بأن رؤية الباري مستحيلة، وإن إثبات السمع والوجه والاستواء لله يستلزم تشبيه الباري بخلقه.
والرد على هؤلاء من وجوه:
الأول: أن المعاني المحدثة المستحيلة على الله التي أرادوا صرف النصوص عن ظاهرها لاستبعادها ليست هي ظاهر النصوص، بل الظاهر هو ما يسبق إلى العقل السليم من اللغة التي يفقهها من تكلم بها [راجع الرسالة المدنية:ص 31].
وأهل العلم والإيمان عندما يسمعون كلام الله ورسوله في وصف الله – تبارك وتعالى- يتبادر إلى أذهانهم التعظيم والتنزيه والإجلال ولا يتبادر إلى أذهانهم هذه المعاني القذرة النجسة.
يقول شارح الطحاوية [شرح العقيدة الطحاوية: ص 233] : (يجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه).
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
الثاني: أن نفي التشبيه لا يكون بنفي الصفات وتأويلها، وإنما يكون بإثبات هذه الصفات، مع نفي التشبيه، وهذا لا يحيله العقل ولا يرفضه، يقول شارح الطحاوية: (هل يكون التنزيه بنفي صفات الكمال؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال إذ أن المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة) [شرح العقيدة الطحاوية: ص 231].
الثالث: إن منهجهم هذا أدى إلى تحكيم العقل في النصوص، فكل من لم يرض عقله عقيدة أو حكماً أو تشريعاً جاءنا من عند الله قال: إن حكم العقل لا يقبله، ومن هنا وجب تأويله.
وما أن العقول مضطربة في أحكامها فإنها تتناقض وتتعارض فيما بينها فيما تحكم عليه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عهن الإمام مالك بن أنس حيث قال: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد –صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء") [مجموع الفتاوى:5/29].
والجواب: أن العقول لا تحكم باستحالة إثبات الصفات، كما لا تحكم بوجوب التأويل، وإنما الذي يحكم بذلك كله هو العقول المريضة.
فالعقل الصريح لا يمكن أن يناقض ما جاءّت به النصوص، وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك ذلك التفصيل، والذي يجب الجزم به أن العقول وحدها لا تستطيع الوصول إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية بعيداً عن الشرع.
ومرض العقول الذي أصاب هؤلاء سببه شبهات ملأت رؤوسهم لم يجدوا من يكشف لهم ظلماتها، ومقررات سابقة جاءَتهم من الأديان والمبادئ والفلسفات التي كانوا يدينون بها، أو دخلت إليهم من خلال دراساتها ومعايشتها، فصعب عليهم مفارقتها كما شق عليهم مخالفة الدين الذي يعتنقونه، فحاولوا التوفيق بالتأويل، يقول العز بن عبدالسلام فيما نقله عنه الزركشي مبيناً السبب الذي من أجله أوّل أكثر المؤولين: (من أسباب التأويل الميل الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل من الإلف والعادة والعصبية، فإن هذه الأمور تحدث للنفس هيئة وملكة تقتضي الرجحان في النفس بجانبها، بحيث لا يشعر الناظر ذلك، ويتوهم أنه رجحان الدليل، وهذا محل خوف شديد، وخطر عظيم، يجب على المتقي أن يصرف نظره إليه، ويقف فكره عليه) [البحر المحيط: 3/438].
وهذا الذي قرره ابن عبدالسلام نظرة سديدة تدل على فقه عميق ونظر دقيق، وهو حال كثير من الذين انحرف بهم المسار عن فقه الكتاب والسنـــة، بحيث مالوا وأرادوا أن يميلوا فقه النصوص كما مالوا، ولكن الله حافظ دينه، ومظهر الحق والصواب، والله هو الهادي إلى سواء الصراط.
خطورة التأويل وآثاره المدمرة
تكلم كثير من العلماء على جناية التأويل الباطل على الإسلام وأهله، بل جنايته على كل الأديان، وقد بين ابن القيم – رحمه الله تعالى- أن التأويل أصل خراب الدين والدنيا، فما اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وأعداء الإسلام سلطوا علينا بالتأويل، ودماء المسلمين إنما أريقت بالتأويل.
فاليهود والنصارى أبطلوا البشارات المصرحة بصحة نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم- بتأويل هذه البشارات وتبديلها وكتمانها.
ودين النصارى إنما أفسد بالتأويل.
وافتراق اليهود إلى أحدى وسبعين فرقة والنصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة وافتراق هذه الأمّة إلى ثلاثة وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل.
وما أريقت دماء المسلمين في يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير إلا بالتأويل.
وما دخل أعداء الإسلام من الفلاسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية إلا من باب التأويل.
وما أريقت دماء بني جذيمة إلا بالتأويل.
وما تأخر الصحابة يوم الحديبية عن موافقة الرسول –صلى الله عليه وسلم- حتى اشتد غضبه إلا بالتأويل.
وما سفك دم الأخيار: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابنه الحسين، وعمار بن ياسر، وابن الزبير، وحجر بن عدي، وسعيد بن جبير وغيرهم إلا بالتأويل.
وما جرد الإمام أحمد بين العقابين وضربه بالسياط غير التأويل.
وما سلط سيوف التتار على ديار الإسلام غير التأويل" [أعلام الموقعين: 4/317-319].
وقد لخص برهان مفاسد التأويل الفاسد بقوله: (ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد) [نقله عنه الزركشي في البحر المحيط:3/436].
الثاني: أن التأويل فتح لأهل الشرك والبدع لإفساد دين الله، يقول شارح الطحاوية مخاطباً أهل التأويل: (لقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سدّه، فإنكم إذا سوغتم صرف آيات القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟
فإن قلتم: ما دل الدليل القاطع على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه.
قيل لكم:وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد.
ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى) [شرح العقيدة الطحاوية:236] وقد جعل المؤولة المنتسبون للإسلام للملاحدة سبيلاً عليهم، لأن الملاحدة ألزموا المؤولين في نصوص المعاد نظير ما ادعاه المؤولون في نصوص مصفات.
وحجة المؤولين في الرد على الملاحدة قولهم لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءَت بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه.
وأهل السنة يقولون لأهل التأويل: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءَت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ومن المعلوم أن مشرك العرب وغيرهم أنكروا المعاد بخلاف الصفات، وبذلك نعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وإن كان إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟ [مجموع فتاوي شيخ الإسلام: 5/33].
فرماهم أهل السنة بمثل ما أجابوا به على الملاحدة مؤولي نصوص المعاد.
والمؤولون الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن الإسلام بزعمهم لم يستطيعوا أن يقفوا أمام باطل الملاحدة، لأنهم قعدوا قواعد باطلة نفذ الملاحدة عبرها إليهم وأضعفوا حججهم كما رأينا هذا ظاهراً في منهج التأويل الذي سلكوه ولذا قال علماؤنا في أهل التأويل: (لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا) [المصدر السابق].
الثاني: التأويل يشوش القلوب، فإن القلوب تطمئن إلى معبودها إذا عرفته بصفاته وأسمائه، ووثقت بالنصوص التي تحدثنا عنه، فإذا أصبحت النصوص مجالاً للتأويل والأخذ والرد، فقدت هيبتها، وضعفت الثقة بها، وأدى ذلك إلى الجهل بالباري، وقد أبان شارح الطحاوية أن أحد المحذورين الذين يلزم من التأويل: (أن تتخلى القلوب عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ به العباد، وخاصة أن النبوة هي الإنباء، ولهذا نجد أن أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتقاد لا للاعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دلَّ عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه وهذا فتح باب الزندقة) [شرح العقيدة الطحاوية: ص 237].
مثال يبين خطورة التأويل
وقد ضرب ابن رشد – فيما نقله عنه ابن القيم- مثلاً للذين تأولوا شيئاً من القرآن، يبين مدى جنايتهم على هذا الدين.
فقد مثل أوَّل شيئاً من الشرع زاعماً ما أوله هو الذي قصده الشرع مثال طبيب ركَّب دواءً يحفظ صحة جميع الناس أو أكثرهم، فجاء رجل لم يلائم ذلك الدواء مزاجه لرداءة مزاج كان به، فزعم بعضهم أن تلك الأدوية التي ركب منها الدواء لم يرد بها ذلك الدواء. وإنما أراد بها دواءً آخر، فأزال ذلك الدواء، وجعل بدله دواءً آخر زعم أن الطبيب الأول قصده، فتابعه قوم أخذوا منه ذلك الدواء، ففسدت أمزجة كثير من الناس.
فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بدواء جديد غير الدواء الأول، فزاد المرض، ثم تتابع الذين تلاعبوا بذلك الدواء، وكلما غيروا في تركيب الدواء الأول ازدادت الأمراض وفساد الأمزجة، ولم يزل الأمر هكذا حتى فسدت منافع الدواء الأول.
وهذه حال أصحاب التأويل، كل واحد منهم يؤول الشرع تأويلاً غير ما أوله غيره، زاعماً أن تأويله هو الذي قصده الشرع حتى تمزق الشرع، واختلط عند كثير من الناس في وسط ذلك الركام من الآراء والتأويلات، وأدى هذا إلى افتراق الأمّة واختلافها [أعلام الموقعين: 4/320].
نسأل الله العصمة من الزلل، والسداد في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.
قام بصف هذه الكتاب أبو عمر (المنهج)
شبكة الدفاع عن السنة