أطول عبادة بدنية: الحج
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
أطولُ عبادةٍ بدنيَّة: الحَجُّ([1])
إنَّ الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّهِ من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنَّجوى.
أيُّها المسلمون:
اللَّهُ سبحانه هو الغَنيُّ القويُّ، وما سواه مُفتقِرٌ إليه مُحتاجٌ له؛ فلم يخلُق الخلقَ تكثُّراً بهم ولا تقويةً لجلاله، بل خلقَهم لحكمةٍ عظيمةٍ هي: عبادتُهم له، وبعبادتهم له يسعَدون.
ولِفَضلِه ورحمتِه بخلقِه شرعَ لهم أعمالاً وأقوالاً يتقرَّبون بها إليه، ولتتضاعَفَ أجورُهم ولتُقضى عنده حاجاتُهم، وفاضَلَ سبحانه بين عباداته فجعل تحقيقَ التَّوحيد والعملَ به واجتنابَ نواقِضِه أجلَّ عملٍ يُحبُّه اللَّه، وجعل إظهارَ هذه العبادةِ بالقول أزكى الأقوالِ إليه؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَحَبُّ الكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» (رواه مسلم)؛ بل جعل سبحانه توحيدَه شرطاً لِقَبول أيِّ عملٍ صالحٍ، وإن انتقضَ هذا الشَّرطُ لم ينتفِعِ العبدُ بعمله ورُدَّ عليه؛ قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِين﴾.
ولتحقيقِ أساسِ الدَّين وإظهارِه في أقوال العباد وأعمالهم؛ نوَّع سبحانه الطَّاعاتِ والأعمالَ الصَّالحةَ ليُعظَّمَ الرَّبُّ في كلِّ حين، فما إِنْ ينتهيَ موسمٌ إلَّا ويَعْقُبُه موسمٌ آخر يُظهِرون فيه توحيدَه سبحانه والتُّذلُّل إليه؛ فشرعَ سبحانه أطولَ عبادةٍ بدنيَّةٍ مُتصلةٍ يتلبَّسون بها أيَّاماً لإظهار إفراد اللَّه بالعبادة وحده وأنَّ عبادةَ ما سواه باطلة، ولتزكُوَ بها أبدانُهم وأموالُهم، وتطهُرَ بها قلوبُهم وأفواهُهم، فمن أدَّاها كما أمره اللَّه عادَت صحائِفُ أعماله بلا أدرانٍ ولا خطايا، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ أَتَى هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَع كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (متفق عليه).
ويتعرَّضُ الحُجَّاج في هذه العبادة لنفَحَاتِ ربهم في مكانٍ عظيم، وفي يومٍ هو أكثرُ أيامٍ تُعتقُ فيه الرِّقابُ من النَّار؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» (رواه مسلم)، ومَنْ كان حافظاً لحجِّه ممَّا حرَّم اللَّه وعدَه اللَّه بالجنَّة؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ» (متفق عليه).
الحجُّ ركنٌ من أركان الدِّين، مليءٌ بالمنافع والعِبَر، أمرَ سبحانه بفِعلِه في أطهر بُقعةٍ وأشرفِها؛ ليجتمِعَ شرفُ العمل والمكان، بنى الخليلُ فيها بيتَ اللَّه وأسَّسه على التَّقوى والإخلاص، وأبقَى اللَّه ما بناه إبراهيم عليه السلام ليرَى العبادُ أنه لا يبقى من العمل إلَّا ما كان خالصاً لوجه اللَّه، ويستفتِحُ الحُجَّاجُ عبادتَهم بإظْهار الوَحدانيََّة للَّه وحده، والبراءةِ من عبادة ما سواه: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ».
وشهادةُ أنَّ مُحمَّداً رسولُ اللَّه لا تتمُّ إلَّا بطاعة النَّبيِّ ﷺ واقتفاءِ أثَره، وتقبيلُ الحجر الأسود منهجٌ في الطَّاعة والاتِّباع، فتقبيلُه تعبُّداً لا تبرُّكاً بالحجر، فهو لا ينفعُ ولا يضُرُّ؛ جاء عمر رضي الله عنه إلى الحجَر فقبَّله وقال: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (متفق عليه).
وفي التَّلبُّسِ بالإحرام دعوةٌ للنَّفس إلى عصيان الهوى - فلا لُبسَ مخيطٍ ولا مسَّ طِيبٍ ولا تقليمَ أظافر ولا خِطبةَ نكاح -.
وسوادُ الحجرِ الأسود تذكيرٌ للعباد بشُؤم المعصيةِ حتى على الجمادات، وعِظَمُ أثرها على القلب أشدُّ؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ؛ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ» (رواه الترمذي).
ويرى الحاجُّ أثرَ المعصية على العاصي، فإبليسُ ظهر لإبراهيمَ عليه السلام ثلاث مرَّاتٍ ليمنَعه عن امتثال أمر ربِّه بذبح ابنه إسماعيل؛ فرماهُ الخليلُ بالحجَر مُهيناً ومُظهِراً له العداوة، وعودةُ خروجه على الخليل تذكيرٌ من اللَّه لنا بأنَّ إبليس يُعاوِدُ وسوستَه لبني آدم وفي عدة مواطن.
والحجُّ إعلامٌ بأنَّ الإسلامَ هو الدِّينُ الحقّ، فلا ترى خَلْقاً يجتمعون من بِقاع الأرض على تبايُن أجناسِهم ومواطِنهم وطبقاتهم إلَّا في الحجّ، وهذا من عظمة الإسلام.
وفي أداءِ هذا الرُّكن انتظامُ عبادةٍ بعد أخرى، ودقَّةٌ في العمل والزَّمن، فعبادةٌ باللَّيل - كالمبيت بمُزدلِفة -، وأخرى بالنَّهار - كالوقوف بعرفة -، وعبادةٌ باللِّسانِ بالتَّكبيرِ والتَّلبية، وأخرى بالجوارح - كالرَّمْيِ والطَّواف -، وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ حياةَ المسلم كلُّها للَّه.
والأعمالُ بالخواتيم، وقد يُرى أثرُ خِتامها في المحشَر؛ فالمُتصدِّقُ يُظلُّ يوم القيامة بظلِّ صدقَته، والعادلُ في حُكمه على منابِرَ عن يمين الرَّحمن، ومَنْ مات مُحرِماً بُعِثَ مُلبِّياً.
وعلى العبدِ إذا انشقَّ فجرُ يومه أن يَعُدَّه خِتامَ عُمره؛ عملاً بقول النَّبيِّ ﷺ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (رواه البخاري)، ومَنْ علَّق قلبَه باللَّهِ والدَّارِ الآخرة، وقصَّرَ أمله في الدُّنيا وتزوَّد بزاد التَّقوى ظفَرَ بالنَّجاة والفلاح.
أعوذ باللَّه من الشَّيطان الرَّجيم
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِير﴾.
بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية
الحمد للَّه على إحسانه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحدَه لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
خصَّ اللَّه أمكنةً بالشَّرفِ والفضلِ، واختارَ اللَّه من العام أزمِنةً يزكُو بها العملُ الصَّالحُ ويتضاعَف؛ فاختارَ من الشُّهور: أشهُرَ الحجِّ ورمضان، ومن اللَّيالي والأيام: العَشْرَ الأخيرَة من رمضانَ وعشرَ ذي الحِجَّة، وأيَّامُ ذي الحِجَّة تفضُلُ على أيَّام العَشْرِ الأواخِر من رمضان، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامِ العَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ العَمَلِ فِي هَذِهِ، قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الجِهَادُ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» (رواه البخاري).
ومن العملِ الصَّالحِ فيها: المزيدُ من برِّ الوالدين وصِلَةِ الرَّحِم، والصَّدقَةِ والصَّوم، والذِّكرِ وتلاوةِ القرآن، وتفريجِ الكُرُوب والتكبير، وكان الصَّحابةُ رضي الله عنهم يُكبِّرون حتى في الأسواق.
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …
([1]) ألقاها الشيخ د. عَبْدُ المُحْسِنِ بْنِ مُحَمَّدٍ القَاسِمِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، يوم الجمعة، الأول من شهر ذي الحِجة، سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة وألف من الهجرة، في مسجد الرَّسول ﷺ.