فوائد من كتاب الحج من صحيح مسلم
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
فوائد من كتاب الحج من صحيح مسلم
للشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله
تم الفراغ منه يوم السادس من ذي الحجة لعام 1441هـ
1- عن صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ t، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا أَثَرٌ مِنْ خَلُوقٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ أَفْعَلُ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتُرُهُ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُظِلُّهُ، فَقُلْتُ لِعُمَرَ t: إِنِّي أُحِبُّ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ أُدْخِلَ رَأْسِي مَعَهُ فِي الثَّوْبِ، فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمَّرَهُ عُمَرُ t بِالثَّوْبِ فَجِئْتُهُ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي مَعَهُ فِي الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا عَنِ الْعُمْرَةِ؟، فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: انْزِعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ الَّذِي بِكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا كُنْتَ فَاعِلًا فِي حَجِّكَ.
في هذه الأحاديث: وجوب الرجوع إلى العلماء عند النوازل، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
فالواجب على العامي إذا لم يعلم حكم مسألة ما أن يرجع إلى العلماء، ويسألهم، أما إن كان عنده أهلية النظر في الأدلة فإنه ينظر فيها ويعمل بما دلت عليه.
وفيها: دليل على أن النبي ﷺ لا يعلم إلا ما أعلمه الله ﷻ؛ ولهذا لم يُجب هذا السائل حتى نزل عليه الوحي.
وفيها: دليل على أن العالم، والمفتي، والقاضي يجب عليه أن يتوقف في المسائل التي لا يعلمها، كما توقف النبي ﷺ لما سأله هذا الرجل، فسكت ساعة حتى نزل عليه الوحي، وثبت عن ابن مسعود t أنه قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُل: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قال تعالى لنبيه ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
2- التلبية إذا قالها مرة واحدة كفت، ولكن المستحب للحاج والمعتمر أن يكررها، وهي مشروعة في كل وقت عند تغير الأحوال، وعند إقبال الليل، وإدبار النهار، وعند الالتقاء بالملبّين، وإذا فعل محظورًا ناسيًا.
3- كان الصحابة y يرفعون أصواتهم بالتلبية، أما المرأة فإنها تلبي ولا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها التي بجوارها؛ خشية أن يفتتن بها الناس.
4- السُّنة في التلبية ألا تكون جماعية؛ لأن الجماعية لا أصل لها.
5- الأفضل أن تكون التلبية بعد الركوب اقتداءً بالنبي ﷺ، وكأن الحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه قبل ذلك قد يكون محتاجًا إلى طيب، أو إلى شيء فإذا ركب يكون قد انتهى من حوائجه.
6- الركنان من الكعبة المراد بهما: الركن اليماني، والحجر الأسود في الطواف، فإن لم يتيسر أن يستلم الحجر الأسود ويقبله أشار إليه وكبر، أما الركنان الآخران: الشامي، والعراقي فلا يستلمهما، والسبب في ذلك: أنهما ليسا على قواعد إبراهيم
7 - عن عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
الحديث: دليل على أن المسك إذا بقي بعد الإحرام لا يضر.
8- المرأة لا يحرم عليها لبس المخيط وتغطية رأسها ووجهها، لكن من غير نقاب، وتغطي أيضًا رجليها بالشراب، لكنها لا تغطي يديها؛ لقول النبي ﷺ: وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ، لكن تغطي يديها بثيابها، ووجهها بخمارها إذا مر بها الرجال الأجانب.
9- عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ t يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ ﷺ يَفْعَلُ.
الحديث دليل على أنه لا بأس بالإعانة على الوضوء؛ لهذا قال أبو أيوب t: (اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ).
-10 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
الحديث دليل على أنه لا يشرع إكمال بقية الحج على الميت؛ لأنه لو شرع إكمال بقية الحج عنه لصار متحللًا من إحرامه ولم يكن ملبيًا، والحالة هذه.
-11 فائدة الاشتراط في الحج: أنه إذا حصل له مانع من إكمال بقية الحج كالمرض، أو غيره فإنه يخرج من إحرامه، ولا شيء عليه؛ لأنه اشترط على ربه، وله شرطه.
- 12 المرأة إذا أحرمت بعمرة، ثم نزل عليها الدم فإنها تبقى في البيت، ولا تدخل البيت الحرام حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت، وطافت وسعت، وقصرت، وتحللت.
- 13 فإن كانت متمتعة فعلت ذلك، فإذا جاء الحج وهي على حالها، وجاء اليوم الثاني ولم تطهر فإنها تغتسل، وتلبي للحج، وتدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، كما فعلت عائشة رضي الله عنها بأمر النبي ﷺ.
- 14 المعتمر إذا أراد أن يحرم بالعمرة وهو في مكة فإنه يخرج إلى الحل، سواء إلى التنعيم، أو إلى غيره
-15 الصواب: أن النبي ﷺ أهل بالحج والعمرة جميعًا؛ ثبت ذلك عنه في بضعة عشرة حديثًا.
-16 النبي ﷺ ضحى عن نسائه بالبقر ولم يستأذنهن؛ لأنه قائم بحَاجتهن، والنفقة عليهن، فلا يحتاج أن يستئذنهن؛ خلافًا للنووي القائل بأن النبي ﷺ استأذنهن في ذلك.
-17 النبي ﷺ طاف في آخر الليل طواف الوداع، ثم أدركته صلاة الفجر، فصلى بالناس، وقرأ سورة (الطور)، ثم طاف ورجع إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على أن من طاف طواف الوداع، فلا حرج عليه أن يصلي ولا يُعَدُّ هذا مكثا يترتب عليه إعادة طواف الوداع.
-18 عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.
هذا على اعتبار تمام الشهر، أما إذا كان الشهر ناقصًا فيكون: لأربع بقين، وجلس النبي ﷺ يومًا كاملًا في ذي الحليفة، وأحرم يوم الأحد بعد الظهر، وقدم مكة في الرابع من ذي الحجة، فتكون مدة السفر سبعة أيام، أربعة أيام من ذي القعدة، وثلاثة أيام من ذي الحجة.
-19 عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ خَمْسٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ؟ قَالَ: أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ - قَالَ الْحَكَمُ: كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ، أَحْسِبُ- وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلُّ كَمَا حَلُّوا))\\.
في هذا الحديث: أن التمتع أفضل الأنساك.
فيه: دليل على أن النبي ﷺ أمرهم أن يتحللوا، فلم يستجيبوا في أول الأمر، لا امتناعًا منهم، وإنما رجاء أن يسمح لهم بأن يبقوا على إحرامهم.
فيه: أنه لا بأس بالغضب، بل يشرع من أجل إنكار المنكر.
فيه: جواز الدعاء على من لم يمتثل الأمر، كالدعاء على العصاة على وجه العموم، وهذا كقوله ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ.
فيه: جواز تمني الخير، وأن كلمة (لو) لتمني الخير لا محظور فيها، وما جاء من النهي في قوله ﷺ: احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، فهذا إذا كان فيه تحسر أو اعتراض على القضاء والقدر.
- 20 كَانَ النبي ﷺ يَقْرَأُ فِي ركعتي الطواف: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ أي: بعد الفاتحة؛ لبيان أن المسلم إنما يعبد الله، ولا يعبد الكعبة، وإن قرأ بغير السورتين فلا حرج، أو صلاهما في غير هذا المكان فلا حرج-أيضًا-.
-21 فائدة: في الحج، ستة مواطن تُرفع فيها الأيدي في الدعاء:
الأول: على الصفا.
الثاني: على المروة.
الثالث: في عرفة.
الرابع: في مزدلفة.
الخامس: بعد الجمرة الأولى.
السادس: بعد الجمرة الثانية.
-22 قول جابر t في وصف حال النبي ﷺ في عرفة: - ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. وقوله: حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، أي: لم يُصَلِّ بين الظهر، والعصر شيئًا، ولا بين المغرب والعشاء شيئا؛ لأن الصلاتين المجموعتين لا يصلى بينهما سنة.
-23 (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) الحصاة تكون أكبر من الحمصة قليلًا، أي: مثل حبة الفول، أو مثل بعرة الغنم، أما الرمي بالحجارة الكبار فهذا من الغلو، والنبي ﷺ قال: إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّه، فلا بد للإنسان أن يتأدب ويذكر الله، ويتأسى بالنبي ﷺ، ويبتعد عن الأعمال السيئة.
-24 وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ونحن نشهد أنه بلَّغ الرسالة عليه الصلاة والسلام، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
-25 جمع النبي ﷺ للصلاتين في عرفة ومزدلفة دليل على أن المسافر- ولو كان مقيمًا- فإنه يشرع في حقه القصر دون الجمع، وإن جمع فلا حرج؛ لأنه ثبت أن النبي ﷺ كان نازلًا في تبوك، وجمع بين الظهر، والعصر، وجمع المغرب والعشاء، خلافًا لشيخ الإسلام ابن تيمية.
-26 رفع النبي ﷺ إصبعه إلى السماء يستشهد الله عليهم. في خطبته في حجة الوداع: دليل على أن الرب I في العلو، وأنه فوق العرش؛ وفيه: الرد على الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع الذين ينكرون أن يكون الله ﷻ في العلو، ويمنعون الإشارة إلى السماء، حتى إنهم من شدة إنكارهم للعلو لو خلا جهمي بأحد من أهل السنة يرفع إصبعه للسماء لقطعه.
-27 الوقوف في عرفة معناه: الوجود على أرض عرفة، سواء أكان واقفًا، أو جالسًا، حتى لو كان نائمًا يسمى واقفًا.
-28 النبي ﷺ أردف أسامة بن زيد في طريقه إلى عرفة وجعله خلفه، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، خلافًا للمتكبرين الذين يأنفون من الإرداف.
-29 لما وصل النبي ﷺ إلى مزدلفة نام من أول الليل؛ ليكون ذلك أعون له على أداء الوظائف يوم العيد، ولا يمنع هذا من كونه أوتر، وإن لم يكن في حديث جابر t؛ لأنه معروف عليه الصلاة والسلام أنه لا يترك الوتر حضرًا، ولا سفرًا.
لما وصل ﷺ وادي محسر أسرع قدر رمية حجر. واختلفوا في السبب: فقيل: لأن هذا المكان عُذِّب فيه أصحاب الفيل. والصواب: أن المكان الذي عُذِّب فيه أصحاب الفيل هو المغمس.
-30 النبي ﷺ نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين بدنة، على قدر سني عمره عليه الصلاة والسلام.
-31 لما حلق ﷺ شعره أعطاه زوجُ أم سليم رضي الله عنها أبا طلحة t يوزعه على الناس شعرة شعرة؛ للتبرك به؛ لما جعل الله فيه من البركة عليه الصلاة والسلام. وهذا خاص به ﷺ؛ دون غيره.
-32 عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ لِي: أَحَجَجْتَ؟، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: فَقَدْ أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَحِلَّ، قَالَ: فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، قَالَ: فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ t. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُوسَى- أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ- رُوَيْدَكَ بَعْضَ فُتْيَاكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدَكَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ فُتْيَا فَلْيَتَّئِدْ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَائْتَمُّوا، قَالَ: فَقَدِمَ عُمَرُ t، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
-33 الحديث فيه: أدب أبي موسى عبد الله بن قيس t مع ولاة الأمور؛ حيث ترك فتياه لرأي أمير المؤمنين t
-34 عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ كَلِمَةً، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: أَجَلْ وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. وفي رواية قال علي لعثمان: مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَنْهَى عَنْهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ، فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا.
فيه: أن من خالف السنة لا يؤخذ بقوله، كائنًا من كان، ولو كان من أفضل الناس كالخلفاء الثلاثة y؛ ولهذا لما اختلف ابن عباس t مع بعض الناس في متعة الحج قال: ((تَمَتَّعَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ! أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ))، يعني: أنتم تعارضون السنة بقول الشيخين!
وابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له: ((إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا، وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ، أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ))
-35 يشرع لمن أحرم بالحج مفردًا، أو قارنًا أن يأتي مكة أولًا ويطوف للقدوم، وإن أحب أن يسعى سعي الحج فله ذلك، وإن أحب أن يطوف طواف الإفاضة فله ذلك.
أما قول ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يأتي مكة حتى يكون بعد عرفة، فهذا قول ضعيف؛ لأن النبي ﷺ طاف طواف القدوم.
-36 عن أبي جَمْرَةَ الضُّبَعِيَّ قَالَ: تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِي نَاسٌ عَنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي بِهَا، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَنِمْتُ، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ.
في هذا الحديث: مشروعية التكبير عند موافقة السنة، وعند رؤية ما يسر الإنسان، لا التصفيق؛ لأن التصفيق والصفير من أخلاق المشركين، قال تعالى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً.
-37 مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وهو وجوب التمتع على كل أحد، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختارها ابن القيم رحمه الله، ومن المتأخرين الألباني رحمه الله. وذهب أبو ذر t إلى أن فسخ الحج إلى العمرة خاص بالصحابة. وذهب معاوية t إلى أن التمتع لا يجوز.
والذي عليه الجمهور: أنه جائز، وليس بواجب، بل الإنسان مخير بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن فسخ الحج إلى العمرة واجب على الصحابة؛ لإبطال اعتقاد أهل الجاهلية أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ومن بعد الصحابة فالتمتع مستحب في حقهم، وليس بواجب. والأقرب عندي: قول شيخ الإسلام رحمه الله.
-38 عن أبي هُرَيْرَةَ t يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا.
وفيه: أن البيت يُحَج بعد نزول عيسى u، وبعد خروج يأجوج ومأجوج، وجاء في الحديث الآخر: ليُحَجَّنَّ هَذَا الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وهو من أشراط الساعة الكبرى.
-39 عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: أَرْبَعَ عُمَرٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ، وَنَرُدَّ عَلَيْهِ، وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَلَا تَسْمَعِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَرْبَعَ عُمَرٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.
هذا محمول على أنه نسي، فظن أن واحدة من عمراته ﷺ كانت في رجب، فقالت له عائشة رضي الله عنها: ((يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ).
وقولها: ((إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ)) أي ابن عمر t، قالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان ولم تنكر عليه إلا قوله إحداهن في رجب. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون له عمرة في رجب، ولكن هذا بعيد.
-40 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ- لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ سِنَانٍ-: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟، قَالَتْ: نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلَانٍ- زَوْجِهَا- حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكَانَ الْآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامُنَا، قَالَ: فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي.
في هذا الحديث: بيان فضل العمرة في رمضان، وأنها تعدل حجة مع النبي ﷺ في الأجر والثواب، وليس المعنى: أنها تُسقط عنه حجة الإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله: ((إن عُمَرَ النبي ﷺ كلها في ذي القعدة، وما اعتمر في رمضان قط)).
فالصواب: أن العمرة في رمضان تعدل حجة في الأجر والثواب، وأنها أفضل من العمرة في ذي القعدة.
-41 عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ.
أي: يدخلون من كَدا، ويخرجوا من كُدا، والقاعدة: افتح وادخل، واضمم واخرج.
وكانت عادته عليه الصلاة والسلام أنه يخالف طريقه في العيدين فيذهب من طريق، ويرجع من طريق.
واختلف العلماء في الحكمة من ذلك، فقيل: الحكمة من ذلك لتشهد له البقاع.
وقيل: ليقضي حاجة أصحاب الطريقين، أو لغير ذلك من الحكم.
وفي هذه الأحاديث: أن الرسول ﷺ كان يخالف الطريق إذا دخل مدينة يدخل من طريق، وإذا خرج يخرج من طريق.
-42 كَانَ ﷺ لَا يَسْتَلِمُ إِلَّا الْحَجَرَ، وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ.
لأنهما على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بخلاف الركن العراقي والشامي فلا يستلمهما؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فلهذا اقتصر النبي ﷺ على استلام الركن اليماني، والركن الأسود.
-43 عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ، وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ، وَلَا رَخَاءٍ)).
هذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، حيث كان يزاحم على استلام الحجر، والركن اليماني. والصواب: ألا يزاحم عليهما، وإنما يستلمهما إذا كان في رخاء، أما في الشدة فلا.
-44 استلام الحجر فيه أربع سنن:
الأولى: استلام الحجر باليد اليمنى وتقبيله بالفم.
الثانية: إذا لم يتيسر التقبيل يستلمه بيده ويقبل يده.
الثالثة: يستلمه بعصا أو محجن وهو عصا معوجة الرأس، كالصولجان ثم يقبله.
الرابعة: إذا عجز يشير إليه بيده ويقبل يده، فإذا لم يتيسر ذلك كله فلا حرج عليه.
-45 الركن اليماني ففيه سُنَّتَان:
إحداهما: استلامه باليد بدون تقبيله، وقيل: بتقبيل اليد.
والأخرى: الإشارة إليه، عند العجز كالحجر الأسود، وفي ثبوت دليلها نظر.
-46 استقبال البيت عند الاستلام يكفيه أن يشير إليه وهو ماشٍ دون استقبال.
وهذه سنن لو تركها لا حرج عليه، وطوافه صحيح.
-47 قول عمر t للحجر: ((وَاللَّهِ إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَأَنَّكَ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ)).
فيه: أنه قال ذلك خوفًا على قريبي العهد بالإسلام ممَّن أَلِفَ عبادة الأحجار، فبيَّن أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، وإنما هو التأسي بالرسول ﷺ، والاقتداء به.
وقال عمر t هذا في الموسم؛ ليشيع بين الناس، ويبين لهم أنه يفعله تأسيًا واقتداءً بالنبي ﷺ.
ويروى أن عليًّا t قال: ((بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ))، وروى حديثًا عن النبي ﷺ أنه قال له: وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ، لكن هذا الحديث ضعيف، ولو صح فلا ينافي ما ذكره عمر t، وسيكون هذا من باب أن البقعة تشهد لصاحبها.
-48 الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، ولا يلزم من كون المسلمين يطوفون بهما أن يكون هذا مشابهًا لفعلهم في الجاهلية.
-49 قول أنس t: ((فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ ﷺ)).
فيه: جواز الاعانة في الوضوء، والإعانة في الوضوء على ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يحضر له الماء عنده، فهذا لا بأس به.
الثانية: أن يصب عليه الماء، ويتوضأ، فهذا كذلك لا بأس به.
الثالثة: أن يباشر الـمُعين أعضاء الوضوء لمن يعينه، فهذا إذا كان مريضًا، أو عاجزًا فلا بأس به.
-50 التلبية تستمر للحاج حتى يشرع في رمي الجمرات.
وقيل: حتى ينتهي من الرمي.
وقيل: يقطعها من فجر يوم عرفة.
وقيل: من ظهر يوم عرفة.
والصواب الذي دلت عليه الأحاديث: أن التلبية تستمر حتى يشرع في الرمي، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية؛ لأنه شرع في التحلل.
-51 عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قال: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغ الْوُضُوءَ.
قال بعضهم: إنه ﷺ لم يتوضأ وضوءً شرعيًّا، وإنما ورد أنه استنجى، وغسل بعض الأعضاء، لكن هذا ليس بظاهر.
-52 عن أُمِّ الْحُصَيْنِ سَمِعْت النبي ﷺ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَانْصَرَفَ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَوْلًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ- حَسِبْتُهَا قَالَتْ: أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
فيه: دليل على أن الخروج على ولاة الأمور الذين يحكمون بكتاب الله من الكبائر؛ ولهذا قال ﷺ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ؛ لأن الخروج على ولاة الأمور فيه مفاسد عظيمة، منها: إراقة الدماء، واختلال الأمن، وتربص الأعداء، وفي الحديث الآخر: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، يعني: إلا إن فعل كفرًا بواحًا صريحًا، وَوُجد البديل، وكانت هناك قدرة على إزالته، وجب الخروج والحالة هذه.
والواجب على أهل الحل والعقد، والعلماء أن يبذلوا النصيحة لولاة الأمور فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم.
- 53التقصير للرجال في الحج أو العمرة لا بد أن يكون من جميع جهات الرأس.
أما المرأة فعليها التقصير فحسب؛ لأن شعرها جمال لها، وتأخذ من كل ظفيرة قدر رأس الإصبع إذا كان لها ظفائر، فإن لم يكن له ظفائر جمعت شعرها، وأخذت من أطرافه بقدر رأس الإصبع.
-54 طواف الإفاضة يسمى: طواف الزيارة، وطواف الصدر، وطواف الركن، وهذا الطواف فرض على جميع الحجاج؛ المتمتع، والقارن، والمفرد.
-55 عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَانُوا يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ.
الأبطح: يقال له البطحاء، والمحصب، والحصباء، وخيف بني كنانة، والخيف هو: ما انحدر من الجبل.
فكانوا ينزلون في اليوم الثالث عشر؛ اقتداءً بالنبي ﷺ؛ لأنه لما نفر من مِنًى في اليوم الثالث عشر ونزل بالأبطح، وانتقل منه بعد ذلك إلى طواف الوداع.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة رضي الله عنها إلى أنه ليس بسنة، وأنه منزل نزله النبي ﷺ لكونه أسمح لخروجه.
والصواب: الأول، وهو أنه سنة إذا تيسر؛ ولأنه منزل الخلفاء، وهم أعلم بالسنة من ابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة رضي الله عنها.
-56 يجواز الاشتراك في الهدي والأضاحي بالبدنة، وكذلك البقرة، ولكن لا بد أن تكون بلغت السن المعتبر، وهو في الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وأما الشاة، والماعز فإنها تجزئ عن واحد فقط، ويشترط أن تبلغ الشاة ستة أشهر، والماعز سنة.
- 57عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا، فَقَلَّدَهَا.
فيه دليل على مشروعية الإهداء إلى البيت من بلده، أي: يهدي إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا وهو جالس في بلده يتقرب بها إلى الله.
-58 عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، فقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا، فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ: هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَدَقْتَ.
في هذا الحديث: أن زيد بن ثابت t كان يفتي بأن الحائض يجب عليها أن تجلس حتى تطهر، فتطوف طواف الوداع، فلما سأل المرأة الأنصارية أخبرته بما أمرها به النبي ﷺ، فتبين له أن الحائض يسقط عنها طواف الوداع، فرجع عن قوله.
وفيه: ما كان عليه الصحابة y من أخلاق طيبة وأدب رفيع، يظهر ذلك في سؤال زيد بن ثابت لابن عباس y بأدبٍ، ورد ابن عباس رضي الله عنهما بالحجة والبرهان ولم يستعلي عليه، ثم تقبل زيد بن ثابت t للحق ورجوعه إليه بصدرٍ رحبٍ.
-59 عَنْ عَائِشَةَ- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ-: أن رسول الله ﷺ قال: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْت.
أخذ العلماء من هذا الحديث بطرقه المتعددة قواعدَ أربعًا:
الأولى: سد الذرائع.
الثانية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
الثالثة: ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
الرابعة: تحصيل أعلى المصلحتين لدفع أدناهما.
وهذا مثل قوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم، فالله تعالى نهى عن سب المشركين؛ لئلَّا يسبوا الله، فسبُّ المشركين مطلوب، ولكن إذا كان يؤدي إلى سب الله فلا نَسُبُّهُم.
-60 عن عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
فيه: دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام يشير إلى بناء الكعبة؛ لهذا فعل ابن الزبير t ما أشار به وبناها من جديد.
-61 العاجز تجب عليه الفريضة بماله، أو بمن يحج عنه إذا وجد من يحج عنه؛ لأن النبي ﷺ قال للخثعمية: فَحُجِّي عَنْهُ، أي: عن أبيها، أما إذا كان عاجزًا بالمال والبدن فليس عليه شيء؛ لقول الله ﷻ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
-62 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا، فقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ.
في هذا الحديث: دليل على جواز حج الصبي الذي لم يبلغ، كما هو مذهب جمهور العلماء أن حج الصبي يصح، فإن كان طفلًا في المهد ينوي عنه الإحرام وليه، وإن كان مميزًا يحرم بإذن وليه.
-63 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
في هذا الحديث: النهي عن شد الرحال لأي بقعة- ليتعبد فيها- إلا للمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ، والمسجد الأقصى.
ولهذا لما رحل أبو هريرة إلى الطور أنكر عليه أبو بَصْرة فعله ذلك، فعن عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيَ أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَاءٍ مِنَ الطُّورِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنَ الطُّورِ صَلَّيْتُ فِيهِ، قَالَ: أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهِ مَا رَحَلْتَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
لكن إذا سافر الإنسان للتجارة، أو لطلب العلم، أو للزيارة فلا يكون من هذا الباب؛ لأن المقصود ألا يسافر إلى بقعة بعينها يتقرب فيها إلى الله سوى الثلاثة مساجد المذكورة.
-64 عن ابن عباس قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ يَقُولُ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ.
الأحاديث تدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر في كل ما يسمى سفرًا إلا ومعها محرم، حتى ولو كان السفر للحج، ولكن لو سافرت وحجت بدون محرم، فحجها صحيح، مع الإثم.
والحكمة من وجود المحرم: حماية المرأة، وصيانتها والمحافظة عليها؛ حتى لا يطمع فيها الفساق، بخلاف ما إذا كانت المرأة ليس معها أحد فإن الفساق يطمعون فيها، وهذا مشاهَد.
مسألة: يقول بعض الناس: هل يجوز أن يوصل المرأة محرمها إلى المطار، ويستقبلها محرمها الثاني في المطار الثاني؟
الجواب: أن هذا لا يجوز؛ لأمور:
أولًا: أن المرأة إذا كانت في الطائرة وليس معها محرم قد يأتي بجوارها أحد، فيكلمها، وقد يواعدها.
ثانيًا: أنه قد يحصل في الطائرة خلل، فترجع وتنزل في مطار آخر، ولا تنزل في المطار الذي يستقبلها فيه محرمها الثاني.
أما قول بعض العلماء: إنه يجوز للمرأة أن تحج مع نساء ثقات، كما قاله النووي رحمه الله، فهذا قول مرجوح ليس عليه دليل؛ لأنه مخالف لحديثه ﷺ.
-65 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. سمي بذلك؛ لأن معظم أعمال الحج تكون في يوم العيد؛ كالرمي، والنحر، والحلق، والطواف، والسعي. وقيل: يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة؛ لأنه يوم عظيم.
والصواب: الأول، قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، والأذان إنما كان في يوم العيد.
-66 عن عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاء.
هذا الدنو من صفات الله تبارك وتعالى وهو كما يليق بجلاله وعظمته، فليس كدنو المخلوق، وكذلك نزوله سبحانه عشية عرفه، ونزوله في ثلث الليل الآخر من كل ليلة لا يماثل نزول المخلوقين، فينزل كيف يشاء I، ولا يعلم كيفية نزوله إلا هو I، كما أنه لا يعلم كيفية استوائه، وكيفية علمه، وسمعه، وبصره إلا هو سبحانه.
-67 قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ،
الجدال الممنوع هو الجدال بالباطل، كأن يماري صاحبه حتى يغضبه، أما الجدال في إظهار الحق، ورد الباطل فهذا مطلوب.
-68 عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ؟- وَذَلِكَ زَمَنَ الْفَتْح، قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ؟.
فيه: دلالة على أن المسلم لا يرث الكافر؛ لهذا فإن أبا طالب لما مات على الشرك ورثه عقيل وطالب؛ لأنهما كانا على دينه، ولم يرثه جعفر وعلي؛ لأنهما كانا مسلمين.
والكافر لا يرث المسلم بالاتفاق، أما إرث المسلم للكافر ففيه خلاف، والصواب: أن المسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم مطلقًا؛ لعموم قوله ﷺ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ.
-69 عن الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ أَخْبَرَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَكْثُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثٌ.
أي: أن الذين هاجروا من مكة وتركوها لله لا يحل لهم البقاء فيها أكثر من ثلاثة أيام، وهي مدة الرخصة، ثم أبيح لهم أن يقيموا بعد فراغهم من حجهم ثلاثة أيام.
وقوله: بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ أي: بعد الانتهاء من النسك إذا حج، وهذا خاص بمن هاجر من مكة إلى المدينة، أما المهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فيحتمل أنه كذلك.
-70 قوله ﷺ في الحرم وَلَا يَلْتَقِطُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا.
أي: ليعرفها أبد الدهر، والآن توجد لجنة تقبل المفقودات جهة الصفا فيسلمها إليهم، وتبرأ ذمته، وهذا من خواص مكة.
وأما غير مكة فيعرِّفها سَنَة، وبعد السَّنَة يتملكها، ويضبط أوصافها، وإن جاء طالبها بعد الدهر دفعها له، وإلا فهي له.
-71 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.
فيه: دليل على جواز لبس الأسود، ولبس الملون، وإن كان الأفضل البياض؛ لأن النبي ﷺ لبس الأسود، والأبيض، والأصفر، والأحمر.
-72 ورد أن النبي ﷺ قال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وفي الحديث الآخر: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ.
والجمع بينهما: أن الله I حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وأما إبراهيم فإنه أظهر تحريمها بعد أن نسي الناس ذلك بأمر الله له، وإلا فإن تحريمها سابق.
-73 عن سَعْدٍ بن وقاص، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ: أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا.
في هذا الحديث: دليل على أن المدينة لها حرمة، وأنه يحرم صيدها وقطع شجرها، إلا أن حرمتها أخف من حرمة مكة
-74 ليس في الدنيا إلا حَرَمَانِ على الصحيح: الحرم المدني، والحرم المكي.
واختُلف في حرم ثالث، وهو وادي (وج) موضع بناحية الطائف قريب من مكة ، فقيل: إنه حرم، والصواب: أنه ليس بحرم.
وأما ما يقوله بعض الناس بأن المسجد الأقصى حرم، وأنه ثالث الحرمين الشريفين فهذا غلط، ومن الأخطاء الشائعة.
-75 عن سَعْدٍ بن وقاص، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا، إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
هذه بشارة لمن صبر من أهل المدينة على الشدة والمشقة فيها، بشرط أن يكون معه الإيمان والاحتساب وأن لا يكون مشركًا.
وفيه: أن من خرج من المدينة رغبةً عنها فإن الله يبدلها خيرًا منه، لكن من خرج لا رغبة عنها فلا حرج؛ لأن الصحابة y خرجوا إلى الأمصار ينشرون دين الله ﷻ، ويبلغون العلم، ويجاهدون في سبيل الله.
وفيه: وعيد شديد لمن أراد المدينة بسوء، وكذلك من أراد مكة فهو أشد، وكذلك كل من أراد المسلمين بسوء فهو متوعد بهذا الوعيد الشديد.
-76 سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا، أَوْ يَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ.
السلب: هو ما كان على الغلام كسَلَب القتيل من الكفار، فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته، وغير ذلك.
وهذا الحديث استدل به بعض أهل العلم على أن من قطع شجرة، أو صاد صيدًا في المدينة فإن عقوبته بأن يسلب، ويؤخذ ما معه من السلاح، وليس فيه جزاء.
وقال آخرون من أهل العلم: فيه جزاء مثل حرم مكة، فالصيد فيه جزاء، والشجر فيه جزاء.
والراجح: ما دل عليه الحديث أن له سلبه.
وهذا إذا لم يترتب على سلبه مفسدة، يعني: إذا رأيت من يصيد وخشيت إن أخذت ثيابه، أو سلاحه، أو مركوبه، من حصول مضرة فتدرأ المفسدة، وترفع الدعوى للمحكمة، ويثبت أنه رآه يصيد فَيُعطى سلبه؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
-77 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا.
حرم المدينة مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا وهما جبلا عير وثور جهتي الشمال والجنوب، أما جهة الشرق والغرب فما بين اللابتين.
-78 عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أن رسول الله ﷺ قال في جبل أحد: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ.
جبل أُحُد جعل الله فيه من الإحساس، وأنه يحب المسلمين، وهم يحبونه، والصواب أن هذا الحديث على ظاهره، خلافًا لمن تأوله؛ لأن الله تعالى جعل في بعض الجمادات إحساسًا، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شيء إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وثبت عن النبي ﷺ أنه حَنَّ له الجذع، وسبَّح الطعام في يده، وقال: إنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ.
-79 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ. وَزَادَ: وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ.
قوله: فَمَنْ أَخْفَرَ أخفرت الرجلَ إذا نقضتَ عهده، وخفرته إذا أمَّنته، فيختلف المعنى بالتعدية بدخول همزة السلب على الفعل؛ وهي الهمزة التي تدخل على الفعل فتنقل معناه إلى ضده ، فخفره، يعني: حماه، وأجاره، وصانه، وأخفره، يعني: نقض عهده وذمته، فخفر ضد أخفر.
-80 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعَنْا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ، وَخَلِيلُكَ، وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ، وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ، بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
أي: أن النبي ﷺ خليل الله ﷻ، ولم يقل: أنا خليلك، إما تواضعًا مع جده إبراهيم؛ أو لأن الله لم يكن أعْلَمَهُ بأنه خليله، ثم أعلمه بعد ذلك، ويدل على ذلك قوله: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وفي لفظ آخر: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا يقال: الخليلان: إبراهيم، ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
والخُلَّة أعلى درجة في المحبة، فهي نهايتها وكمالها، ويسمى الخليل خليلًا؛ لأن محبته تصل إلى سويداء القلب، هذا بالنسبة للمخلوق، أما خُلَّة الله تعالى فهي صفة من صفاته I، لا تُكَيَّف، ولا تُمَثَّل، فلا يشارك المخلوق في صفاته I، وقلب المخلوق لا يتسع لأكثر من خليل، أما المحبة فتتسع لآخرين.
ومن هنا يظهر الغلط عند بعض الخطباء الذين يقولون: صلوا على حبيب الله، أو صلوا على الحبيب، والأولى أن يقولوا: صلوا على خليل الله، فيوصف بالخُلَّة؛ لأن الخُلَّة أكمل.
قوله: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
كان إذا أُتِيَ النبي ﷺ بشيء من الرطب أو العنب أول ما يظهر يدعو بالبركة، ثم يدعو الصبيان ويعطيهم هذا التمر؛ لأن الصبيان تتشوف نفوسهم إلى الثمار، ولا يصبرون بخلاف الكبار.
-81 قوله ﷺ عن حرم المدينة: وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا: أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ، إِلَّا لِعَلْفٍ.
دليل على جواز قطع الشجر لإعلاف الدواب في المدينة، بخلاف مكة فلا يجوز، وهذا يدل على أن حرم المدينة أخف من حرم مكة في الحرمة.
- 82قوله ﷺ عن حرم المدينة: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعَنْا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعَنْا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ.
دليل على أن النبي ﷺ دعا لأهل المدينة بالبركة مثل مكة ثلاث مرات، ويرجى أن الله أجاب دعوته، ولا يدل على أن المدينة أفضل من مكة، ولا أن المجاورة فيها أفضل من المجاورة بمكة.
- 83قول أبي سعيد: خَرَجْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ: حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ، فَأَقَامَ بِهَا لَيَالِيَ- فقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ مَا نَحْنُ هَا هُنَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ، مَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِكُمْ ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ لَآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرْحَلُ، ثُمَّ لَا أَحُلُّ لَهَا عُقْدَةً حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا: أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ، إِلَّا لِعَلْفٍ، إلى قوله ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنَ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ، وَلَا نَقْبٌ، إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا، حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: ارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا، فَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ- فَوَالَّذِي نَحْلِفُ بِهِ، أَوْ: يُحْلَفُ بِهِ- الشَّكُّ مِنْ حَمَّادٍ- مَا وَضَعْنا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَمَا يَهِيجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ.
فيه: دليل على أن المدينة حُرِسَت في وقت خروج النبي ﷺ، وهذا كان خاصًّا بعهد النبي ﷺ، وكذلك تحرس في وقت مجيء الدجال في آخر الزمان، كما ثبت في قوله ﷺ: الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوظَتَانِ بِالْمَلائِكَةِ، لا يَدْخُلُهُمَا الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ.
والحاصل: أن المدينة تُحرس في حالتين:
الأولى: في عهد النبي ﷺ في حال خروجهم منها.
والثانية: تحرس في وقت مجيء الدجال.
أما الأوقات الأخرى فليس هناك دليل على أنها تُحرس.
وكذلك تحفظ من الطاعون، وهو: وباء يصيب الإنسان فيموت في ساعته، وهو غدة تخرج في الآباط والمراق. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلَا الدَّجَّالُ.
والدجال يأتي إلى سبخة، أو إلى الجرف، وينعق ثلاث نعقات، فيخرج إليه من المدينة كل كافر، وكل منافق، وكل يهودي، ولا يبقى فيها إلا المسلمون.
وأما مكة فإنه ورد أنه لا يدخلها الدجال- أيضًا- وأنها محروسة منه.
أما الطاعون فهل يدخل مكة، أو لا يدخل؟ الله أعلم.
-84 قوله ﷺ: لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ: شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا.
-85 قوله: لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا- أَوْ: شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فيه: فضل من صبر على لأواء المدينة وشدتها ومشقتها، ومن الشدة واللأواء: الصبر على الفقر احتسابًا لوجه الله.
قوله: إِذَا كَانَ مُسْلِمًا هذا قيد في الشفاعة، فالمعنى: أنه إذا كان كافرًا فلا، وكذلك إذا كان من المنافقين، أو من الزنادقة، وهذا القيد لا بد منه حتى لو لم يُنَصَّ عليه؛ لأنه معلوم من نصوص الشريعة، وقواعدها، قال الله تعالى للكفار: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وقال: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ.
-86 عن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، قَالَ: ثُمَّ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَأْخُذُ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِدُ أَحَدَنَا فِي يَدِهِ الطَّيْرُ فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ.
يعني: إذا وجد أحدٌ أحدًا معه طير في المدينة فينزعه منه ويطلقه؛ لأنه لا يجوز أخذ الطير، وأما حديث: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟، فيحمل على أن هذا الطير صِيدَ خارج المدينة، ثم أدخله إليها، أو أنه كان قبل التحريم.
قال بعض العلماء: إذا صِيدَ الصيدُ خارج المدينة ثم أدخله إليها فله إبقاؤه، على الصحيح.
وقال بعضهم: يجب إطلاقه في الحرم المكي، ولا يمسكه، وأما في المدينة فلا بأس.
-87 عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَاشْتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَكْوَى أَصْحَابِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا، وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ.
قولها: وَهِيَ وَبِيئَةٌ يعني: فيها الوباء، والمرض.
وقوله: وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ دعا النبي ﷺ أن تنتقل الحمى إلى الجحفة؛ لأن ساكنيها في ذلك الوقت كانوا يهودًا.
- 88عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ، وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَوْ: شَهِيدًا.
-89 فيه فضل سكنى المدينة والصبر على شدتها، ومن الحكم أن الجلوس في المدينة يذكِّر المسلم بالرسول ﷺ وبسيرته، وكذلك السكنى في منازل الصحابة يذكر بحالهم، فيكون سببًا في السير على منهاجهم.
- 90عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
قوله: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يعني: أُمِرْتُ بالهجرة إليها، واستيطانها.
واختلف في معنى أكلها القرى:
فقيل: المعنى: إنها مركز الجيوش في زمن النبي ﷺ، وفي زمن الخلفاء.
وقيل: المعنى: أن ميرتها وأكلها إنما يكون من البلدان المفتوحة.
وفي هذا الحديث: دليل على خروج بعض الناس من المدينة إلى بلاد الخصب، والسعة، والرخاء، وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وفيه: أن المدينة كالكير تنفي خبثها، أي: تُخرج الكفرة، والمنافقين، مثل النار التي تصفي الذهب والحديد والفضة من الوسخ، وهذا يتبين في وقت نزول الدجال فيخرج الكفرة والمنافقون من المدينة يتبعون الدجال، وتبقى المدينة سالمة من هؤلاء، ولا يبقى فيها إلا المسلمون، وأما قبل ذلك فالله أعلم.
-91 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا.
قوله: أَقِلْنِي بَيْعَتِي أي: افسخ بيعتي على الإسلام والهجرة، (فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) لأنه لا يجوز ترك الإسلام وترك الهجرة، وكررها ثلاثًا. وقوله: ((فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ)) أي: من المدينة. وقوله: وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا أي: يصفو، ويخلص طيبها ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.
في هذا الحديث: أن هذا الأعرابي لم يستقر الإيمان في قلبه؛ ولهذا لم يصبر عندما أصابه المرض.
وفيه: أن هذا الرجل من الخبث الذي نفته المدينة؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلبه.
-92 عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّهَا طَيْبَةُ- يَعْنِي: الْمَدِينَةَ- وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ.
هذا من أسماء المدينة، وتسمى طابة، وأما تسميتها يثرب فهذه تسمية جاهلية؛ فلا ينبغي أن تسمى بها، وأما قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا، فهذا إخبار من الله أنه من قول المنافقين، وأما تسميتها بالمدينة المنورة، فكلمة المنورة لا أصل لها، والأصل: المدينة النبوية. ككلمة مكة المكرمة، فالله I سماها مكة، قال تعالى: بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
-93 عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: مَنْ أَرَادَ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ بِسُوءٍ- يَعْنِي: الْمَدِينَةَ- أَذَابَهُ اللَّهُ، كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ.
قوله: مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ هذا ليس خاصًّا بأهل المدينة، فكل من أراد المسلمين بسوء فعليه الوعيد الشديد، ولا شك أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة، فلا يجوز العدوان على المسلم بغير حق، قال النبي ﷺ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وقال: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، وجاء في الحديث الآخر: ((وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ، أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ)).
وقوله: أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ وهذا يكون يوم القيامة.
-94 عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ- وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ- ثُمَّ يُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ- وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ- ثُمَّ يُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ- وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
في هذه الأحاديث: معجزات للرسول ﷺ، حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم على هذا الترتيب، فوقع كما أخبر، وأن الناس يتحملون بأهلهم إليها ويتركون المدينة.
وهذا يدل على فضل المدينة، وأنها هي ومكة أفضل البقاع، ومكة أفضل منها على الصحيح؛ لأن النبي ﷺ قال في مكة لما هاجر: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْت.
وقال بعض العلماء: المدينة أفضل من مكة. والصواب: القول الأول.
والتحقيق كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((أن الإقامة في بلدٍ يكون أصلح لقلب الإنسان أفضل، والإنسان قد يكون في المدينة فلا يجد من يعينه على طاعة الله، أو في مكة فلا يجد من يعينه على الطاعة))
- 95عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِي- يُرِيدُ: عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ- ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا.
قوله: الْعَوَافِي العوافي هي: السباع، وهذا في آخر الزمان عند قيام الساعة.
وقوله: ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا يعني: فيخران ميتين بسبب قيام الساعة، كما جاء في الحديث: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ، آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا، وكذلك هذان الراعيان يحشران فيجدان المدينة وحشًا أو وحوشًا ليس فيها أحد، فيخران على وجوههما ميتينِ عند قيام الساعة. وقال بعضهم: المعنى: أن غنمهم انقلبت وحوشًا، والله أعلم.
-96 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبَيْتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي.
قوله: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي قيل: حوض النبي ﷺ طوله مسافة شهر، ويمتد من أرض الشام إلى المدينة، فيكون منبره جزءًا من حوضه، وحوض النبي ﷺ في موقف القيامة يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر.
وقيل في معنى: مَا بَيْنَ مِنْبَرِي، وَبَيْتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ إن هذا الموضع ينتقل بعينه إلى الجنة، وقيل: إن الصلاة فيه والعبادة تؤدي إلى دخول الجنة.
والروضة مكانها معروف الآن، ما بين الحجرة النبوية إلى المنبر، والناس يصلون فيها الآن النافلة، أما الفريضة فينبغي أن يتقدم المصلى الصفوف الأمامية.
وأما رواية: مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي فهذه رويت بالمعنى، والمعروف: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال هذا في حياته.
-97 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فقَالَت: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ، فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِس، فَبَرَأَتْ، ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ- زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ- تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فقَالَت: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ.
في الحديث: فقه ميمونة رضي الله عنها؛ لأن هذه المرأة نذرت: ((إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ، فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِس))، فقالت لها ميمونة رضي الله عنها: صلي في مسجد النبي ﷺ؛ فإنه الأفضل، فأنت تنتقلين من الفاضل إلى الأفضل.
وقد جاء ما يدل على هذا، ففي السنن: أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: صَلِّ هَا هُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَا هُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذًا، فدل على أن من نذر أن يصلي في مكان، ثم أراد أن ينتقل إلى الأفضل فلا حرج، ومثل هذا- أيضًا-: لو نذر الإنسان أن يذبح شاةً، ثم أبدلها بخير منها جاز له فعل الأفضل.
وفيه: دليل على فضل مسجد النبي ﷺ، وأن الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وجاء في حديثٍ آخر: صَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِائَةُ أَلْفِ صَلاةٍ، وَصَلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاةٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلاةٍ.
واختلف في أيهما أفضل: المسجد الحرام، أو مسجد النبي ﷺ؟
فقال بعضهم: الصلاة في مسجد النبي ﷺ أفضل.
والصواب: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل، كما جاء في الأحاديث؛ ولهذا اختلف العلماء في المراد بالاستثناء في قوله: إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل.
قول القاضي عياض: أجمعوا على أن موضع قبره ﷺ أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلهما. هذا غلط، ولا يوجد فيه إجماع؛ لأن الفضيلة ليست للبقعة، وإنما الفضيلة لجسد النبي ﷺ. كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
-98 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
في هذا الحديث: أنه إذا كان شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة غير جائز فمن باب أولى السفر وشد الرحال إلى القبور والمشاهد.
ومعنى الأحاديث: لا تشد الرحال إلى بقعة للعبادة إلا للمساجد الثلاثة، أما السفر للزيارة، أو للتجارة، أو للسياحة، أو للتعزية، أو لطلب العلم فلا بأس بذلك ومثله لو سافر ليصلي مع فلان.
-99 عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
قوله: هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا يعني: مسجده ﷺ.
وأما المسجد المذكور في قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فهو: مسجد قباء، والمعنى: أنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فإن مسجد النبي ﷺ من باب أولى وأحرى أنه أسس على التقوى، وهذا لإزالة الوهم.
- 100عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. وعن ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً كُلَّ سَبْتٍ، وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ.
في هذه الأحاديث: استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن كان في المدينة، وجاء في الحديث: مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ.
وفيها: أنه لا بأس بالركوب إذا كان المسجد في نفس البلد. وفيها: تسمية الأسبوع باليوم.
عَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا.
انتخبها د. عبدالله الفايز