الزحام وأثره في النسك (الحج والعمرة)
التصنيفات
- فقه >> العبادات >> الحج والعمرة فضائل وأحكام >> صفة الحج
الوصف المفصل
- الزحام
وأثره في النسك (الحج والعمرة)
- المبحث الأول: تعريف الزحام والنسك
- المبحث الثاني: الزحام وصلته بالنسك قديماً وحديثاً
- المبحث الثالث: اقتضاء الزحام التخفيف في النسك
- المبحث الرابع: أثر الزحام في وجوب النسك والخروج منه
- المبحث الخامس: أثر الزحـــام في الطواف
- المبحث السادس: أثر الزحــام في السعي
- المبحث السابع: أثر الزحام في الحلق أو التقصير
- المبحث الثامن: أثر الزحام في النزول في الحرم
- المبحث التاسع: أثر الزحام في يومي التروية وعرفة
- المبحث العاشر: أثر الزحام في ليلة مزدلفة
- المبحث الحادي عشر: أثر الزحام في يوم النحر وأيام التشريق
الزحام وأثره في النسك (الحج والعمرة)
تأليف
د. خالد بن عبد الله المصلح
www. almosleh. com
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أحمده جل في علاه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه. وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من عباده صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد
فمنذ أن بعث الله تعالى خاتم أنبيائه رسولنا محمداً بهذا الدين القويم والنور المبين، وأهل الإسلام لم يزالوا في إزدياد حتى طبق أهل الإسلام الخافقين، وقد ترافق مع هذه الزيادة في أعداد المسلمين زيادة أعداد من يقصدون البيت الحرام من الحجاج والعمار، لاسيما في هذا العصر الذي توافرت فيه وسائل النقل سهولة وسرعة وأمناً، كما توافرت سبل الراحة من كل وجه.
وقد نتج عن هذا التوافد الكثير زحام في كثير من أعمال الحج والعمرة ومناسكهما، مما جعل الحاجة قائمة إن لم تكن ماسة لمعرفة أثر الزحام في أحكام النسك الحج والعمرة، وما ذكره العلماء في ذلك. فاستعنت الله تعالى في بحث هذا الموضوع وجمع أطرافه ولمّ شعث مسائله وقد سميته الزحام وأثره في أحكام النسك (الحج والعمرة).
ولقد كان من دواعي هذه الدراسة ما يلي:
أولاً: مسيس الحاجة إلى بحث المسائل الشرعية المتعلقة بأثر الزحام في أحكام الحج والعمرة حيث إنه قد نشأ عن الزحام وكثرة أعداد الحجاج والعمار في الأعوام المتأخرة مضار كثيرة من ذهاب الأنفس أو الإصابات فيما دون النفس أو العناء والمشقة التي تلحق الأقوياء والأشداء فضلاً عن الضعفاء والنساء.
ثانياً: أن شدة الزحام سبب رئيس لزوال المقصود الأعظم من هذه العبادات من الخشوع والخضوع وذكر الله تعالى وغير ذلك حيث أصبح همّ أكثر الحجاج والعمار التخلص من شدة الزحام والنجاء بأنفسهم من مضاره. ففي بيان أحكام الزحام تبصير بما يمكن أن يحصل مقصود هذه العبادة مع توقي مضار الزحام.
ثالثاً: الإسهام في جمع ما ذكره أهل العلم في آثار الزحام في أحكام النسك الحج والعمرة، لا سيما أنني لم أقف على بحث يجمع مسائل هذا الموضوع ويستوعب قضاياه. ومن الجدير بالذكر أن هناك أبحاثاً مباركة وإسهامات نافعة تناولت بعض جوانب آثار الزحام في أحكام الحج والعمرة، ومن ذلك بعض البحوث الشرعية التي تضمنتها ندوة الزحام في الحج.
رابعاً: استفادتي من بحث هذه المسائل التي يكثر السؤال عنها، والاطلاع على كلام أهل العلم فيها.
خامساً: بيان ما يتصف به الفقه الإسلامي من القوة والسعة والاستيعاب لحوائج الناس وتقديمه الحلول التي تتحقق بها المصالح وتندفع بها المضار.
خطة البحث
وقد حرصت جهدي في بيان ما ذكره أهل العلم من أثر الزحام في جميع أعمال الحج والعمرة فكانت مباحث هذه الدراسة على النحو التالي:
المبحث الأول: تعريف الزحام والنسك.
المبحث الثاني: الزحام وصلته بالنسك قديماً وحديثاً.
المبحث الثالث: اقتضاء الزحام التخفيف في النسك.
المبحث الرابع: أثر الزحام في وجوب النسك والخروج منه.
المبحث الخامس: أثر الزحـــام في الطواف.
المبحث السادس: أثر الزحــام في السعي.
المبحث السابع: ثر الزحام في الحلق أو التقصير.
المبحث الثامن: أثر الزحام في النزول في الحرم.
المبحث التاسع: أثر الزحام في يومي التروية وعرفة.
المبحث العاشر: أثر الزحام في ليلة مزدلفة.
المبحث الحادي عشر: أثر الزحام في يوم النحر وأيام التشريق.
منهج البحث
وقد سرت في هذا كتابة هذا البحث وفق المنهج التالي:
1- اقتصرت في مسائل البحث على ذكر أقوال المذاهب المشهورة. وقد أذكر قول بعض السلف، أو أن هذا القول اختيار أحد أهل العلم من أهل التحقيق.
2- عند ذكر القول في المسألة ذكرت أقوال المذاهب الأربعة مرتبة حسب تأريخها الزمني، فبدأت بمذهب الحنفية ثم المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة. فإن كان هذا القول لبعض أتباع هذه المذاهب، فإنني سأذكره بعد ذكر المذاهب.
3- وثقت كل مذهب من المذاهب بالإحالة إلى كتبه الأصيلة دون نقل كلامهم، إلا إن دعت إلى ذلك حاجة.
4- بينت ما ترجح لي ذاكراً وجه الترجيح.
5- عزوت الآيات القرآنية بذكر السورة ورقم الآية.
6- خرجت الأحاديث والآثار الواردة في البحث، فإن كانت في الصحيحين أو أحدهما لم أذكر غيرهما. وإن كانت في الكتب الخمسة فسأخرّجها منها أو ممن أخرجه منها، وسأبين ما قاله أهل العلم فيها. فإن لم تكن في شيء مما تقدم فسأخرجها من كتب السنة حسب الطاقة مع بيان درجتها.
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله تعالى أن يسددني في القول والعمل وأن ينفع بهذا البحث وأن يجزل الثواب لكل من أعان في إتمامه ونشره.
كتبه
د. خالد بن عبدالله المصلح
15/7/1427هـ
المبحث الأول: تعريف الزحام والنسك
الزحام في اللغة:
يراد به التضايق قال في لسان العرب:((وزحم القوم بعضهم بعضاً يزحمونهم زحماً وزحاماً ضايقوهم))( ).
وقد سميت مكة شرفها الله ببكة لتضايق الناس فيها بالزحام( )، قال ابن سيدة:((بك الرجل صاحبه يبكه بكاً:زحمه، وتباك القوم: تزاحموا))( ).
قال ابن جرير الطبري: ((وأصل البك الزحم، يقال منه: بك فلان فلاناً إذا زحمه وصدمه، فهو ببكة مباركاً. وهم يتباكون فيه يعني به يتزاحمون ويتصادمون فيه، فكان بكة: فعلة من بك فلان فلاناً زحمه، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها))( ).
فالزحام: هو تدافع الناس في مكان ضيق( ).
أما النسك فهو في اللغة:
((يدل على عبادة وتقرب إلى الله تعالى))( ).
أما في الاصطلاح الفقهي فالنسك: هو أعمال الحج و العمرة( ).
المبحث الثاني: الزحام وصلته بالنسك قديماً وحديثاً
الظاهر أن سمة الزحام مرتبطة بمكة منذ القدم حتى قبل الإسلام ولعله منذ أن أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بالأذان في الناس للمجيء إلى هذا البيت المبارك في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾( ). ولذلك سماها الله بكة في سياق الآيات التي ذكر فيها فرضية الحج ووجوب قصده على المستطيع، فقال جل وعلا:﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾( ). وهذا مشعر بأن الزحام سببه قصد هذه البقعة للعبادة. فذكرها في هذه الآية بالوصف المناسب لما دعاهم إليه قال الطبري:(( بكة فعلة من بك فلانٌ فلاناً زحمه سميت البقعة بفعل المزدحمين بها))( ).
وقد خرج النبي عام حجة الوداع في جمع كبير من المسلمين بالنظر إلى حال الناس في ذلك الزمان فقد روى الإمام مسلم( ) من حديث جابر بن عبدالله في صفة حج النبي : إن رسول الله مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. وقد وصف جابر كثرة من صحب النبي فقال: فصلى رسول الله في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء. نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك.
وقد قدر جماعة من أهل العلم عدد من حج مع النبي . فقيل:خرج معه تسعون ألفاً. وقيل:مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. وقيل: أكثر من ذلك كما حكاه البيهقي( ). وهذا إحصاء تقريبي فإن الظاهر أن هذا هو عدد من خرج معه من المدينة وليس عدد كل من حج معه إذ من المعلوم أن من شهدوا حجة الوداع مع النبي جاءوا من جهات عديدة.
أما بعد حجة النبي فلم أقف على بيان يفصل أعداد الحجاج، ولكن مما لاريب فيه أن ذلك العدد الذي كان في حجة الوداع يعد استثناء عما كان عليه أعداد الحجاج في ذلك الزمان، ويمكن أن يستفاد ذلك من قول جابر في سياقه صفة حج النبي: ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ويعمل مثل عمله. فإن هذا يشير إلى سبب كثرة الحجيج تلك السنة. وقد اجتهدت في معرفة نسب الحجج بعد ذلك، ولو وصفياً فلم أظفر من ذلك بشيء ذي بال. وأول إحصاء وقفت عليه ما نشرته مجلة المنار في عددها التاسع لشهر ذي الحجة عام 1315هـ، وفيه ((وقال: إنه أضبط إحصاء حصل للحجاج. بلغ عـدد الحجاج الذين غادروا مِنًى بعد التضحية مائتي ألف نفس))( ). وقد ذكرت المجلة أيضاً في عدد شهر ذي القعدة عام 1316هـ عدد الحجاج الذين قصدوا الحجاز عن طريق الإسكندرية( ). وهذا نوع إحصاء؛ لأنه ذكر لأعداد الحجاج من جهات معينة ومثله ما ذكره صاحب مرآة الحرمين عن تعداد الحجاج المصريين( ).
ولقد كان أول إحصاء عام ينشر لعدد الحجاج ما نشرته جريدة البلاد الصادرة بمكة وذلك في عام 1372هـ، فقد ذكرت إحصاء لعدد الحجاج الوافدين من خارج البلاد السعودية ابتداء من عام 1342هـ إلى عام 1372هـ( ).
ثم بعد ذلك أصبح تعداد الحجاج وإحصاؤهم عملاً معتاداً يعلن عنه سنوياً في الصحف والجرائد وغيرها. والذي لا يخطئه النظر في النسب والإحصاءات أن أعداد الحجيج في زيادة مطردة. ومما لاشك فيه أن هذه الزيادة سبب رئيس للازدحام الذي يؤثر على أعمال الحج تاثيراً بيناً.
المبحث الثالث: اقتضاء الزحام التخفيف في النسك
لا يرتاب عالم بالشرع الحكيم أن من القواعد الكبرى التي عليها بناء أحكام هذه الشريعة المطهرة رفع الحرج ونفيه( ). وقد تظافرت الأدلة واستفاضت النصوص في تقرير ذلك وبيانه؛ فمن ذلك قول الله تعالى:﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( )، ومن ذلك قوله تعالى:﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾( )، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾( )، وكذلك قوله جل وعلا:﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ ( ).
أما السنة النبوية فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري( ) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على نفي الحرج وإثبات التوسعة، وهذا الأصل ينتظم أحكام الشريعة كلها العبادية منها والمعاملاتية.
ومن ذلك رفع الحرج ونفيه في الحج ، الذي هو أحد أركان الإسلام، فقد ذكر الله تعالى نفي الحرج في سورة الحج التي تضمنت ذكر شيء من أحكامه، فقال تعالى:﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( ). والذي يظهر أن مناسبة ذكر نفي الحرج في سورة الحج أن الحج في أعماله من المشقة ما تميز به عن غيره من أركان الإسلام ، فناسب أن يذَّكر بهذا الأصل؛ ليعلم أن المقصود بهذه العبادة الجليلة تعظيم الله تعالى، وتعظيم ما عظمه الله من البقاع والأزمنة، لا مجرد حصول المشقة، بل إنه إذا ترتب على الحج مشقة خارجة عن المعتاد فإن الشريعة المباركة قد رتبت من الأحكام ما يرفع الحرج وتلك المشقة.
فمن صور رفع الحرج والضيق في أحكام الحج:
ما يتعلق بأصل الوجوب فقد علق الله تعالى وجوب الحج بالاستطاعة رفعاً للحرج والمشقة عن المكلفين، فقال تعالى:﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾( ).
ومن صور رفع الحرج والضيق في الحج ما دلت عليه السنة من جواز النيابة في فرض الحج عند العجز عنه بالبدن والتمكن بالنائب، ففي البخاري ومسلم من طريق الزهري عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:((أن امرأة من خثعم سألت النبي ، فقالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة،أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع))( ).
ومن ذلك أيضاً دفع الحرج الحاصل بالازدحام وتدافع الناس في النسك عموماً: حجاً وعمرة، فإن الزحام من مظان حصول المشقة والحرج والضيق، بل قد يفضي إلى هلاك الأنفس وتلف الأموال. ولذلك فإن إعمال قاعدة رفع الحرج والتوسعة والتيسير لدفع حرج الزحام جاء اعتباره والإشارة إليه في عدة أحاديث نبوية.
منها ما رواه البخاري ومسلم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به))( ).
فأذن النبي لسودة في الدفع من مزدلفة قبل دفعه؛ لأجل حطمة الناس أي زحمتهم( ). وهذا صريح في أن الزحام يوجب التخفيف سواء قيل بأن المبيت ركن أو واجب أو سنة.
ومنها ما رواه أبوداود( )بإسناد لا بأس به من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه رضي الله عنه قالت: ((رأيت رسول الله يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس وازدحم الناس، فقال النبي : يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف)).
ومنها ما ثبت في البخاري ، ومسلم من طرق عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن( )، فقد جاء ما يشعر بأن طواف النبي راكباً كان دفعاً لتزاحم الناس عليه ، ففي صحيح مسلم( )من طريق هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت: طاف النبي في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن؛ كراهية أن يضرب عنه الناس. وكذلك جاء في صحيح مسلم( )من طريق أبي الزبير عن جابر قال: طاف رسول الله بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه. وجاء في سنن أبي داود( )أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في بيان سبب ركوب النبي في طوافه: كان الناس لا يدفعون عن رسول الله ، ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير؛ ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه ولا تناله أيديهم. وهذا كله يبين أنه إنما ركب دفعاً لازدحام الناس عليه لما غشوه، مع أن الأفضل في الطواف أن يكون راجلاً بلا خلاف بين أهل العلم( ).
ويستأنس أيضاً في دفع الحرج الحاصل بالازدحام وتدافع الناس في أعمال النسك بما رواه أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي قال له: يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر( ).
المبحث الرابع: أثر الزحام في وجوب النسك والخروج منه
المطلب الأول: أثر الزحام في وجوب النسك
فرض الله تعالى الحج على عباده وجعل شرط الوجوب الاستطاعة فقال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(آل عمران: من الآية97). وفي صحيح مسلم( )من حديث كهمس بن الحسن عن عبدالله بن بريدة عن يحي بن يعمر عن عبدالله بن عمر عن عمر رضي الله عنه في سياق ذكر مجيء جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه قال النبي: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)).
أجمع أهل العلم على أن من شروط وجوب الحج الاستطاعة( ). كما أجمعوا أيضاً على أن من أوصاف الاستطاعة المشروطة للوجوب القدرة بالبدن( )، وذلك بسلامة ((البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما لا بد منه في سفر الحج))( ) وأعماله. يدل لذلك ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن امرأة من خثعم سألت النبي ، فقالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم"، وذلك في حجة الوداع.( ) فإن النبي أسقط عن هذا الرجل وجوب الحج ببدنه لوجود المانع.
وهل يمكن أن يقال إن الزحام يصلح أن يكون عذراً في سقوط وجوب الحج؟ الظاهر أنه من حيث الأصل لا يصلح أن يكون الزحام عذراً في سقوط الوجوب؛ لأن قدراً من الزحام لا بد منه في النسك كما هو معلوم. لكن لو قدر أن شخصاً لا يتمكن من الحج؛ لكونه مريضاً مرضاً لا يطيق معه الزحام الذي لا بد منه في مناسك الحج وأعماله، ولا يدفع ضرره الأخذ بالرخص المشروعة، فإن ذلك يُعد عذراً في سقوط فرض الحج عنه بنفسه لفوات الاستطاعة المشروطة لوجوب الحج.
المطلب الثاني: أثر الزحام في الخروج من النسك
حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع فيهما فيجب إتمامهما ولا يجوز قطعهما ولا الخروج منهما إلا في حال الإحصار( )، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾(البقرة: من الآية196). فما يفعله بعض الناس من ترك النسك ورفضه عندما تواجههم زحمة الحجاج أو المعتمرين لاسيما في أيام المواسم في العمرة مخالف لما أمر الله به من إتمام الحج والعمرة، ولا يمكن إلحاق ذلك بالإحصار؛ لأن الزحام مهما كان شدة فليس أمراً دائماً يتعذر معه القيام بما أمر الله تعالى من إتمام النسك، فالواجب أن يتحين الحاج والمعتمر الأوقات التي يتمكن فيها من إتمام نسكه وله أن يترخص بالرخص الشرعية التي تدفع ضرورته وضرره، لكن ليس له رفض النسك وتركه لمجرد الزحام والله تعالى أعلم.
المبحث الخامس: أثر الزحـــام في الطواف
المطلب الأول: أثر الزحام في صفة الطواف
اتفق أهل العلم على أن المشروع للطائف أن يجعل البيت عن يساره( ). وقد دل على هذا أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه النسائي( )من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل المسجد فاستلم الحجر ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً. وقال ابن عبد البر:(( ثم أخذ في طوافه يمضي على يمينه ويكون البيت عن يساره متوجهاً ما يلي الباب باب الكعبة إلى الركن الذي لا يستلم ثم الذي يليه مثله إلى الركن الثالث وهو اليماني الذي يلي الأسود من جهة اليمين ثم إلى الحجر الأسود يفعل ذلك ثلاثة أشواط يرمل فيها ثم أربعة لا يرمل فيها وهذا كله إجماع من العلماء))( ). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(( وجملة ذلك أن الطائف يبتديء في مروره بوجه الكعبة فإذا استلم الحجر الأسود أخذ إلى جهة يمينه فيصير البيت عن يساره ويكمل سبعة أطواف، وهذا من العلم العام والسنة المتواترة الذي تلقته الأمة عن نبيها وتوارثته فيما بينها خلفا عن سلف))( ).
وقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية( ) والشافعية( ) والحنابلة( ) إلى أنه لو جعل البيت عن يمينه أو أنه طاف ووجهه أو ظهره إلى البيت لم يصح طوافه. وقد شدد بعض الفقهاء في ذلك فقالوا بوجوب ملازمة هذه الصفة في جميع الطواف فلو أخل به في خطوة وجب عليه العود ليأتي به على الصفة الواجبة ولو كان ذلك الإخلال لعذر من زحام ونحوه. قال النووي في المجموع شرح المهذب:(( فلو خالف فجعل البيت عن يمينه ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لم يصح طوافه بلا خلاف عندنا ولو لم يجعل البيت على يمينه ولا يساره بل استقبله بوجهه معترضاً وطاف كذلك أو جعل البيت على يمينه ومشى قهقرى إلى جهة الباب ففي صحة طوافه وجهان حكاهما الرافعي قال الرافعي: أصحهما لا يصح، قال: وهو الموافق لعبارة الأكثرين، وجزم البغوي والمتولي في صورة من جعل البيت عن يمينه ومشى قهقرى بأنه يصح لكن يكره، والأصح البطلان))( ). وقال في أسنى المطالب:(( وإذا استقبل البيت لدعاء أو زحمة أو غيرهما فليحترز عن المرور في الطواف, ولو أدنى جزء قبل عوده إلى جعل البيت عن يساره ويطوف بالبيت أمامه جاعلاً له عن يساره للاتباع))( ).
وقد خالف في ذلك الحنفية فقالوا بأنه إذا طاف منكساً أو طاف القهقرى فإنه يجب عليه إعادة الطواف ما دام في مكة فإن رجع إلى بلده أعتد بهذا الطواف ووجب عليه دم لتركه الصفة الواجبة في الطواف( ).
وقد قال جماعة من فقهاء الشافعية بأن الطائف إذا أخلَّ بهذه الصفة في بعض طوافه فلم يجعل البيت عن يساره لزحمة ونحوها فاستقبل البيت أو جعله عن يمينه فإن طوافه صحيح كما هو ظاهر من كلام النووي رحمه الله الذي تقدم قريباً( ).
والذي يظهر لي أن القول بصحة الطواف فيما إذا أخلَّ بهذه الصفة لأجل الزحام قول قوي جداً، لاسيما وأن زحام الناس في أيام الحج ونحوها من المواسم لا يملك الطائف جعل البيت عن يساره في جميع الطواف بل كثيراً ما يطاف به وتسيره أمواج الناس. فالقول بعدم صحة الطواف إذا اختلت هذه الصفة في بعضه فيه حرج ومشقة تأباه أصول الشريعة وقواعدها فإن إلزام الطائف بإعادة ما طافه يترتب عليه أذى وتأذٍ بالغان فالطائف قد لا يسلم ولا يسلم منه مع كونه موافقاً لسير الناس، فكيف إذا كان في مواجهة أمواج الناس؟! وحتى إذا قيل يجب إعادة الشوط فإن في ذلك مشقة بالغة وإلزاماً للناس بما لم يظهر وجوبه. ومما يشهد لهذا أن الحاجة داعية إلى بيان مثل هذا لقيام موجبه من زحام أو طواف راكباً، فقد طاف النبي وبعض أصحابه راكباً ومعلوم أن الراكب قد تميل به دابته فيكون مستقبلاً البيت في بعض طوافه أو مستدبراً أو منحرفاً عن أن يكون البيت عن يساره، ومع ذلك لم يأت عن النبي ولا عن أحد من أصحابه شيء يستمسك به في إلزام الناس بوجوب إعادة خطوات أو شوط لأجل فوات كون البيت عن يساره في بعض طوافه، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر الزحام في الرَّمَل
المسألة الأولى: تعريف الرَّمَل وبيان حكمه
ا لرَّمَل: بفتح الراء والميم، وهو سرعة المشي مع تقارب الخطى، وهو الخبب.
والرَّمَل في الجملة سنة من سنن الطواف الذي يعقبه سعي في قول جماهير أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وغيرهم( ).
والحجة في ذلك أحاديث عديدة، منها؛ ما رواه مسلم( )من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رمل رسول الله من الحجر إلى الحجر ثلاثاً ومشى أربعاً. وكذلك ما رواه مسلم( )من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر.
المسألة الثانية: الرَّمَل في الزحام
وقد ذكر أهل العلم من الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) أن الطائف إذا تعارض عنده الدنو من البيت حال الطواف والرَّمَل؛ بسبب ازدحام الناس قريباً من البيت، فإن الأولى في حقه الخروج إلى حاشية المطاف؛ لتحصيل سنية الرَّمَل بعيداً عن الزحام. فإن كان تباعده من البيت لا يمكنه من الرَّمَل لأجل الزحام سقط عنه الرَّمَل؛ لما يخشى من حصول الأذى له والتأذي به.
وسقوط السنن في النسك دفعاً لمشقة الزحام له شواهد من السنة منها أن النبي طاف راكباً دفعاً لازدحام الناس عليه لما غشوه، ففي صحيح مسلم( ) من طريق أبي الزبير عن جابر قال: طاف رسول الله بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه.
ومن الشواهد أيضاً ما رواه أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي قال له: يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر. وقد روى الفاكهي في كتابه أخبار مكة عن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين كعطاء وجابر بن زيد النهي عن المزاحمة في استلام الحجر( ).
المطلب الثالث: أثر الزحام في مكان الطواف
لا خلاف بين أهل العلم في أنه يسن للطائف القرب من البيت( )؛ لقول الله تعالى:﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(الحج: من الآية29). فالطواف عبادة تتعلق بالبيت، وهو أخص العبادات تعلقاً بالبيت، ولذلك لما أمر الله إبراهيم عليه السلام بتطهير بيته ذكر في أول من ذُكِر ممن يطهر البيت لأجله الطائفين، فقال الله تعالى:﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة:125)، وقال تعالى:﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِِ﴾ (الحج: من الآية26).
ومما اتفق عليه أهل العلم أن من طاف بالبيت، وهو داخل المسجد سواء قرب من الكعبة أو تباعد، وسواء كان بينه وبين البيت حائل أو لا، صح طوافه. كما أجمعوا على أن من طاف خارجاً من المسجد لم يجزئه( ). ولا فرق في ذلك بين المسجد الذي كان في زمن النبي وبين ما طرأ عليه من زيادة وتوسعة، فإن أهل العلم متفقون على أن ما زيد على المسجد الحرام فله حكمه. قال ابن حزم رحمه الله:(( ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لو زيد في المسجد أبداً حتى يعم به جميع الحرم يسمى مسجداً حراماً))( ).
وقد نص الفقهاء على أنه إذا اتسع المطاف صح الطواف في جميعه، قال النووي رحمه الله:(( لو وسع المسجد اتسع المطاف))( ). وقال أيضاً:(( اتفق أصحابنا على أنه لو وسع المسجد اتسع المطاف، وصح الطواف في جميعه، وهو اليوم أوسع مما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بزيادات كثيرة زيدت فيه))( ). ومما يدل على أن العذر يسوغ البعد عن البيت في الطواف ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله أني أشتكي. قال: طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة فطفت، ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور( ). فأمر النبي أم سلمة أن تطوف من وراء الناس يدل على جواز البعد عن البيت في الطواف للحاجة، ومن الحاجة الزحام قال الباجي:(( من طاف غيره من الرجال على بعير فيستحب له إن خاف أن يؤذي أحداً أن يبعد قليلاً، وإن لم يكن حول البيت زحام وأمن أن يؤذي أحداً فليقرب كما فعل النبي))( ).
وقد اختلف أهل العلم في صحة الطواف على سطح المسجد فنص فقهاء المالكية( ) والشافعية( ) والحنابلة( ) على صحة الطواف على سطح المسجد؛ لأن سطح المسجد منه، وهذا القول هو مقتضى قول الحنفية حيث قالوا في جواز ائتمام من على سطح المسجد بمن في جوفه قال الكساني في تعليل ذلك: ((لأن سطح المسجد تبع للمسجد, وحكم التبع حكم الأصل، فكأنه في جوف المسجد))( ).
وصحة الطواف داخل المسجد قرب من الكعبة أو تباعد كان بينه وبين البيت حائل أو لم يكن يشمل ما لو اجتاز الطائف المسعى حال طوافه بسبب الزحام كما يجري من الطائفين في سطح المسجد أيام المواسم، وهذا واضح فيما إذا قيل إن المسعى داخل المسجد في بنائه الحالي، أما على القول بأن المسعى خارج المسجد فالظاهرصحة الطواف أيضاً، والعلة أن الزحام يصير الجميع متصلاً بالبيت.
وقد علل فقهاء المالكية جواز الطواف تحت السقائف بالزحمة مع أنهم يرون عدم جواز الطواف تحت السقائف( )، وهي محل كان فيه قباب معقودة( ) يستظل بها المصلون، قال القرافي في وجه جواز ذلك: ((اتصال الزحام يصير الجميع متصلاً بالبيت))( )، وقد ذكر فقهاء الشافعية أنه لو وسع المسجد حتى انتهى إلى الحل وطاف في الحرم صح طوافه( ). وقد ذكر ابن عقيل من فقهاء الحنابلة أنه إن تباعد الطائف عن البيت من غير عذر لم يمنع الإجزاء؛ لأن هذه عبادة تتعلق بالبيت فلا يؤثر في إبطالها البعد مع مسامتته ومحاذاته كالصلاة، وظاهر هذا أنه فيما إذا كان الطائف داخل المسجد وكذا خارجه إذا كان ثمة حاجة، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد نقل كلام ابن عقيل: ((وإن طاف حول المسجد أو حول البيت وبينه وبين البيت جدار آخر احتمل أن لا يجزءه لأنه لا يسمى طائفاً بالبيت بل بالمسجد أو الجدار الذي هو حائل))( ).
ومما يؤيد القول بالجواز القياس على القول بجواز الصلاة خارج المسجد إذا اتصلت الصفوف، وعللوا ذلك بأن اتصال الصفوف يصير الموضع الذي امتدت إليه الصفوف كالمسجد في حكم الاقتداء بالإمام( )، وكذلك هنا، والله أعلم.
المطلب الرابع: أثر الزحام في مكان ركعتي الطواف
أجمع أهل العلم على أنه يشرع لمن طاف بالبيت أن يصلي بعد طوافه ركعتين عند مقام إبراهيم( )؛ لقول الله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً﴾( ). ولما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وعبدالله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال: وافقت ربي في ثلاث. فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً﴾)( ). ولما رواه مسلم( ) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال في صفة حج النبي : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً﴾). فجعل المقام بينه وبين البيت، كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون.
وقد أجمع أهل العلم على أن الأفضل في هاتين الركعتين أن تكونا عند المقام، وتصحان حيث صلاهما الطائف( ). فإن كان تحري الصلاة عند المقام يفضي إلى زحمة أو إلى التضيق على الطائفين، فعندئذ لا ينبغي له أن يصلي عنده بل يصلي حيث يتسير له( ).
المطلب الخامس: أثر الزحام في طوافي القدوم والوداع
ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية( ) والشافعية( ) والحنابلة( ) وغيرهم( ) إلى أن طواف القدوم سنة، وأن طواف الوداع واجب. وخالف في ذلك المالكية( )، فقالوا بوجوب طواف القدوم، وسنية طواف الوداع، وهو أحد القولين عند الشافعية( ).
وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على مشروعية طوافي القدوم والوداع( ). والأصل في مشروعية طواف القدوم ما رواه البخاري، ومسلم من طريق عروة بن الزبير قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها: إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي - أي في حجة الوداع - أنه توضأ، ثم طاف( ). أما الأصل في مشروعية طواف الوداع فما رواه البخاري، ومسلم من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض( ). وفي رواية مسلم من طريق طاوس عن ابن عباس قال:كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت( ).
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الحائض يسقط عنها طواف الوداع( ) كما أفاده حديث ابن عباس المتقدم، ويدل له أيضاً ما في البخاري ومسلم من طريق القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن صفية بنت حيي زوج النبي حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله، فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذاً.( ) وهذا يعد أصلاً في سقوط طواف الوداع للعذر فإن النبي أسقط الطواف عن الحائض لأجل الحيض وانتظار انقطاعه مظنة مشقة وضرر فلذلك أسقطه دفعاً لهذا الضرر.
وقد وسع فقهاء الحنفية هذا فجعلوه أصلاً قال الكساني:(( وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة))( ). وقد ألحق فقهاء الشافعية بالحائض الخائف من ظالم أو فوت رفقة أو غريم, وهو معسر ونحو ذلك( )، فقالوا بسقوط طواف الوداع عنهم. وقال بعضهم بعدم إلحاق المعذور لخوف ظالم أو فوت رفقة بالحائض وأوجبوا عليه الدم وبهذا قال فقهاء الحنابلة سواء تركه عمداً أو خطأ أو نسياناً لعذر أو غيره; قالوا: لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره.
والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الحنفية والشافعية أسعد بالدليل وأقرب إلى الصواب؛ فإن جميع الواجبات منوطة بالاستطاعة كما دلت عليه النصوص قال تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(التغابن: من الآية16). وقال النبي:(( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))( ). رواه البخاري ومسلم.
وعلى هذا فإن كل من ترك طواف الوداع لعذر يمنعه منه فإنه لا شيء عليه. فمن عجز عن طواف الوداع خشية التضرر بالزحام إما لمرض أو كبر أو صغر أو خشية فوات رحلة أو ذهاب رفقة أو خوف ضياع ونحو ذلك من الأعذار، ولم يتمكن من انتظار زوال الزحام، فإنه لاحرج عليه في ترك طواف الوداع، ولا يجب عليه شيء لذلك، والله أعلم.
أما طواف القدوم فالجمهور على أنه سنة لا شيء على من تركه، وعلى هذا فإن كان يخشى حصول الأذى بالزحام أو الأذية فإن فيه خلافاً للمالكية كما تقدم، ومع قولهم بالوجوب إلا أنهم رأوا سقوطه في حق الحائض والنفساء وغيرهم من أهل الأعذار كالمغمى عليه والناسي( ).
المطلب السادس : أثر الزحام في الموالاة في الطواف
المسألة الأولى: الموالاة في الطواف حال الزحام
لأهل العلم في الموالاة في الطواف قولان في الجملة:
القول الأول: أن الموالاة بين أشواط الطواف شرط لصحته، وهذا مذهب المالكية( )،والشافعي في القديم( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: أن الموالاة بين أشواط الطواف سنة، وهذا مذهب الحنفية( )، والصحيح عند الشافعية( )، وهو رواية عن أحمد( )، وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية( ).
وقد استدل كل فريق بأدلة تنصر ما ذهب إليه إلا أن الجميع متفقون على أن قطع الطواف لاستراحة يسيرة لا يؤثر في صحة الطواف( )، وإن كان قد كرهه بعض أهل العلم كما جاء عن مجاهد( ).
ومما لا ينافي الموالاة في قول الموجبين أيضاً الفصل اليسير، فالمالكية، وهم أشد المذاهب في اشتراط الموالاة، رخصوا بالفصل اليسير مع الكراهة( )، قال الخرشي:(( إن التوالي بين أشواط الطواف شرط , فإن فرقه لم يجزه إلا أن يكون التفريق يسيراً, أو يكون لعذر, وهو على طهارته))( ).
وبهذا قال الحنابلة أيضاً قال البهوتي:(( وإن قطع الطواف بفصل يسير بنى من الحجر؛ لعدم فوات الموالاة بذلك))( ).
ومما لا ينافي الموالاة في قول الموجبين قطع الطواف لعذر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق تقريره أن ترك الموالاة فيما تشترط فيه لا يؤثر إذا كان تركها لعذر:((وأيضا فالموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء، ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة تقام أو جنازة تحضر ثم يبني على الطواف ولا يستأنف فالوضوء أولى بذلك. وعلى هذا فلو توضأ بعد الوضوء ثم عرض أمر واجب يمنعه عن الإتمام كإنقاذ غريق أو أمر بمعروف ونهي عن منكر فعله ثم أتم وضوءه كالطواف وأولى. وكذلك لو قدر أنه عرض له مرض منعه من إتمام الوضوء. وأيضاً فإن أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز; والمفرط والمعتدي; ومن ليس بمفرط ولا معتد. والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد وهو الوسط الذي عليه الأمة الوسط وبه يظهر العدل بين القولين المتباينين)) ( ).
فقد نص المالكية( )، والشافعي في القديم( )، والحنابلة على جواز القطع لعذر بشرط ألا يطول الفصل( ).
والذي يظهر مما تقدم أن قطع الطواف للزحام الذي يلحق المكلف فيه ضيق ومشقة عذر لا يفوت الموالاة، سواء كان قطع الطواف للاستراحة أو كان دفعاً للمضرة الحاصلة بالـزحام أو كان لتكميل الطواف في الدور العلوي أو السطح بعيداً عن شدة الـزحام أو كان لوقوف الطائفين، وقد نص الشافعي على القطع للزحام قال رحمه الله:(( أو يصيبه زحام فيقف لا يكون ذلك قطعاً أو يعيا فيستريح قاعداً فلا يكون ذلك قطعاً أو ينتقض وضوءه فيخرج فيتوضأ وأحب إلي إذا فعل أن يبتدئ الطواف ولا يبني على طوافه, وقد قيل: يبني ويجزيه إن لم يتطاول فإذا تطاول ذلك لم يجزه إلا الاستئناف))( ).
وبإسقاط اشتراط الموالاة لأجل الزحام قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله( ). وقد تقدم بيان أن الزحام من الأعذار التي توجب التخفيف.
المسألة الثانية: البداية بعد قطع الطواف
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الطائف إذا قطع طوافه في حال يجوز له القطع فإن له أن يبني على ما تقدم من طواف إلا ما نقل عن الحسن من أنه يجب عليه الاستئناف.
وقد اختلف القائلون بالبناء على ما سبق في موضع بداية من قطع الطواف لعذر على قولين:
القول الأول: أنه يبدأ من حيث قطعه. قال عطاء: فيمن يطوف فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه إذا سلم يرجع إلى حيث قطع عليه فيبني، ويذكر نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم( ). وهذا مذهب الحنفية( )، وهو الأصح عند الشافعية( ).
القول الثاني: أنه يبدأ من الحجر الأسود. وهو أحد القولين عند الشافعية( )، والمذهب عند الحنابلة( ).
والقول الأول أقرب إلى الصواب لاسيما مع الزحام والضيق وصعوبة الرجوع؛ لعدم الدليل على وجوب البدأة من الحجر في حال القطع، ولأنه قد برئت ذمته مما قد طافه فلا وجه لمطالبته به، والله أعلم.
المبحث السادس: أثر الزحــام في السعي
المطلب الأول: أثر الزحام في مكان السعي
المسألة الأولى: الأصل في موضع السعي
لا خلاف بين أهل الإسلام أن السعي المشروع في الحج والعمرة هو ما كان بين الصفا والمروة. ويدل لذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:158).ويدل له أيضاً عمل النبي ففي صحيح مسلم( )من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه في حديث صفة حج النبي قال:((ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه)). والأحاديث في ذلك كثيرة.
وقد حكى بعض أهل العلم أن الفقهاء اختلفوا فيمن خرج قليلاً في بعض سعيه عن موضع السعي، وهو ما بين الصفا والمروة، هل يجزئه ذلك؟ على قولين:
الأول: أنه لا يجزئه لأن الواجب استيعاب ما بين الصفا والمروة في سعيه. وبهذا قال جماهير العلماء.
الثاتي: أنه يجزئه، لأنه لا يخرج بذلك عن كونه ساعياً بين الصفا والمروة ولأنه ليس هناك نص يضبط قدر عرض موضع السعي، قال الشرواني رحمه الله في بيان وجه هذا القول:(( الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على التقريب إذ لا نص فيه يحفظ عن السنة، فلا يضر الالتواء اليسير لذلك)).
والذي يظهر أن هذا القول لا يخالف القول السابق كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم فإنه محمول على ما إذا التوى يسيراً بما لا يخرج به عن كونه ساعياً بين الصفا والمروة( ). قال النووي رحمه الله:(( قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئاً يسيراً أجزأه. وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيراً جاز,وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا, والله أعلم))( ).
ومما تقدم يتبين أنه لا يجوز الخروج في السعي بين الصفا والمروة عن المسعى لا إلى داخل المسجد ولا إلى الممر الشرقي الذي خارج البناء؛ لأنه خروج عما شرع الله تعالى من السعي بين الصفا والمروة، قال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره:(( لا يجوز السعي في غير موضع السعي فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه وعن الشافعي في القديم أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيراً أنه يجزئه، والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه))( ). لكن هل يقال: إنه لو ازدحم المسعى بحيث لا يمكنه السعي إلا خارجه فإنه يجزئه؟ فيه احتمال قياساً على ما تقدم من جواز اجتياز المسعى في الطواف لأجل الزحام.
المسالة الثانية: السعي في سقف المسعى
الثابت عن النبي أنه سعى في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة روى مسلم( ) في صحيحه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي قال: ((ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة)).
وقد اختلف أهل العلم المعاصرون في السعي في علو المسعى سواء في الدور الثاني أو السطح فذهب الأكثرون إلى الجواز، وهذا القول يستند إلى عدة أوجه تعضده وتقويه أشار إليها بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية، ولخصه قرار الهيئة بما يأتي:
1- أن حكم أعلى الأرض وأسلفها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه.
2- جواز السعي بين الصفا والمروة راكباً لعذر باتفاق ولغير عذر على خلاف بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكباَ بعيراً ونحوه إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه، وعلى رأي من يرى جواز السعي راكباً لغير عذر فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذراً يبرر الجواز.
3- أجمع أهل العلم على استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه.
4- أن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام.
وبناء على ما تقدم صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ونصه:((بعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضاً))( ). وبهذا قال شيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله. و لاريب أن هذا القول قول وجيه بيّن الرجحان، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر الزحام في تقديم السعي على الطواف
لا خلاف بين أهل العلم في أن النبي إنما سعى بين الصفا والمروة في حجه وعمرته بعد طوافه بالبيت روى ذلك عبد الله بن عمر( ) وجابر بن عبد الله( ) وأبو هريرة( ) وعبدالله بن أبي أوفى( ) رضي الله عنهم. قال الماوردي في وجوب تقديم السعي على الطواف:(( فمن شرط صحته – أي السعي- أن يتقدمه الطواف، وهو إجماع ليس يعرف فيه خلاف بين الفقهاء؛ لأن رسول الله لم يسع قط إلا عقيب طواف))( ).
وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في تقديم السعي على الطواف، فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف، وقد تقدم حكاية الماوردي الإجماع على ذلك، وهو إجماع غير منضبط، فقد قال عطاء( ) والثوري( ) وأحمد في رواية بجواز تقديم السعي على الطواف( )، ونقله الجويني عن بعض أئمة الشافعية( )، وعن أحمد رواية أنه يجزئ تقديم السعي على الطواف حال النسيان والجهل( ). ولم أقف لأحد من أهل العلم على أثر للزحام في جواز تقديم السعي على الطواف على قول الجمهور.
والذي يظهر أن تقديم السعي على الطواف جائز؛ لأجل الزحام ويشهد لهذا ما رواه البخاري، ومسلم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج))( ). ومن أقرب الأسباب المحتملة لحصول التقديم والتأخير زحمة الناس، وعموم قول النبي افعل ولا حرج، يشمل التقديم لأجل الزحام. لاسيما وقد جاء عن النبي ما يدل على اعتبار الزحام سبباً للتخفيف في أعمال النسك حيث أذن للضعفة في الدفع من مزدلفة قبل حطمة الناس أي زحمتهم( )، روى البخاري ومسلم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس( ).
وقد جاء الإذن بتقديم السعي على الطواف فيما رواه أبو داود( )من طريق زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً، فكان يقول: لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم، وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك.
المطلب الثالث: أثر الزحام في الموالاة في السعي
اختلف أهل العلم في اشتراط الموالاة بين أشواط السعي نظير اختلافهم في اشتراطها في الطواف. وكذلك في البناء على ما مضى من سعي أو الاستئناف بعد قطعه.
ومهما يكن من أمر فإنه لا فرق بين السعي والطواف فيما تقدم من أن قطع السعي للزحام الذي يلحق المكلف فيه ضيق ومشقة عذر لا يفوت الموالاة، سواء كان قطع السعي لاستراحة أو كان دفعاً للمضرة الحاصلة بالزحام أو كان لتكميل السعي في الدور العلوي أو السطح بعيداً عن شدة الزحام، وكذلك في البناء على ما تقدم من سعي قبل قطعه. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله بعد تقرير اشتراط الموالاة في السعي كما هي في الطواف:(( لكن لو فرض أن الإنسان اشتد عليه الزحام فخرج ليتنفس أو احتاج إلى بول أو غائط فخرج يقضي حاجته ثم رجع،فهنا نقول لا حرج لعموم قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(الحج: من الآية78)، ولأنه رويت آثار عن السلف في هذا، ولأن الموالاة هنا فاتت للضرورة، وهو حين ذهابه قلبه معلق بالسعي، ففي هذه الحال لو قيل بسقوط الموالاة لكان له وجه))( ).
المبحث السابع: أثر الزحام في الحلق أو التقصير
المطلب الأول: أثر الزحام في مكان الحلق أو التقصير
ظاهر السنة أن الحلق أو التقصير في العمرة يكون في مكة فقد روى البخاري( )من طريق كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي e مكة أمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا.
بل جاء ما يدل على أن ذلك يكون على المروة فور فراغه فقد روى البخاري ومسلم من طريق طاوس عن ابن عباس عن معاوية رضي الله عنهم قال: قصرت عن رسول الله e بمشقص، وهو على المروة( ). وهذا لفظ مسلم. أما الحلق أو التقصير في الحج ففي منى فقد روى مسلم( )من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال: لما رمى رسول الله e الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر. فقال: احلق فحلقه فأعطاه أبا طلحة.
ولما كان الزحام لا سيما في أيام المواسم يحمل البعض على تأخير الحلق أو التقصير حتى يخرجوا من الحرم بل بعضهم لا يحلق أو يقصر إلا إذا رجع إلى بلده، فالذي عليه جمهور أهل العلم أن الحلق والتقصير يصحان في الحرم وخارجه قال بذلك أبو يوسف صاحب أبي حنيفة( )، وهو مذهب المالكية( )،........................... والشافعية( )، والحنابلة( ). وذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إلى أنه لا يجوز أن يؤخر الحلق إلى الحل فإن فعل فعليه دم، وهو المذهب عند الحنفية( ).
وأقرب هذين القولين إلى الصواب ما ذهب إليه الجمهور من جواز تأخير الحلق إلى الحل، وإن كان الأولى ألا يخرج من الحرم إلا وقد أنهى ما يتعلق بالنسك حجاً كان أو عمرة، فقد جعل الله الحلق والتقصير حال الصحابة، في دخولهم المسجد الحرام قال الله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾(الفتح: من الآية27)، لذا ينبغي ألا يخرج بهما عن الحرم. أما دليل جواز فعلهما في الحل فقد روى البخاري( )من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله e خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية. والحديبية خارج من الحرم كما قال بعض أهل العلم، وقال آخرون: بعضها في الحل وبعضها في الحرم. ومهما يكن فإن النبيe لم يأمر أحداً من أصحابه بأن يتحرى الحلاق أو التقصير في الحرم، ثم إن الحلاق أو التقصير فعل لا يتعلق بمكان من الحرم ولا يتعدى نفعه، فكان الحل والحرم فيه سواء إلا من جهة فضل المكان الذي تعظم به الأجور، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر الزحام في زمان الحلق أو التقصير
الثابت عن النبي e أنه حلق رأسه في حجة الوداع بعد نحر هديه في منى يوم النحر كما دل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر( ).
وقد اختلف أهل العلم في جواز تأخير الحلق أو التقصير عن أيام التشريق فذهب الحنفية( ) ................................................................. والمالكية( ) إلى أنه لا يجوز تأخيره عن أيام التشريق، وهو رواية في مذهب أحمد( ). وبه قال الثوري وإسحاق( ). وقد استدلوا بقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(الحج:29)، وقضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق( )، وقد دلت الآية على أن الحلق يكون بعد الذبح وقبل الطواف، وهكذا فعل النبي e فقد حلق e يوم النحر بعد ما نحر هديه وقبل أن يطوف بالبيت، فدل ذلك على أنه لا يجوز تأخيره عن يوم النحر والأيام التابعة له، وهي الأيام التي يجوز فيها الذبح والنحر، أي أيام التشريق أو اليومين بعد يوم النحر في قول( ).
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة( )، والشافعية( ) والحنابلة في المشهور من مذهبهم( )، بأنه يجوز تأخيره عن أيام التشريق، وبهذا قال عطاء وأبو ثور( ). واستدلوا بأنه ليس هناك ما يحدد آخر وقت الحلق، وإنما الذي جاء هو توقيت مبدأه في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾(جزء آية من البقرة:196) ( ).
والذي يظهر أنه ينبغي ألا يؤخر الحلق أو التقصير عن يوم النحر وأيام التشريق؛ لأنها محل هذه الأنساك، لكنه لو أخر لأجل الزحام أو غيره من الأعذار فليس عليه شيء ولا يتم تحلله إلا بالحلق أو التقصير، والله أعلم.
المبحث الثامن: أثر الزحام في النزول في الحرم
مما يلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة عدد الحجاج وازدحامهم في مكة حتى إن كثيراً منهم قد لا يتيسر له منزل إلا خارج الحرم إما لعدم وجود مسكن مناسب أو عدم القدرة على الأجرة أو إيثاراً للبعد عن الازدحام. ولهذا يخرج بعض الحجاج بعد فراغهم من عمرتهم إلى خارج الحرم.
وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في أثر هذا الخروج على صحة التمتع بعد اتفاقهم على أن من قدم من غير أهل مكة معتمراً وأقام فيها ثم أحرم بالحج من عامه فإنه متمتع، قال ابن عبد البر:(( وأجمعوا على أن رجلاً من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازماً على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه ذلك فحج أنه متمتع))( ).
أما من لم يقم في الحرم بل خرج منها فقد اختلف أهل العلم في انقطاع متعته بذلك على أقوال:
القول الأول:أن المتعة لا تنقطع بخروجه من الحرم بعد عمرته إلا إذا عاد إلى بلده، وهذا قول عمر وابن عمر، وبه قال ابن المسيب وطاوس ومجاهد وإبراهيم( ), وهو مذهب أبي حنيفة( )،وهو مذهب مالك أيضاً وألحق بالعودة إلى بلده ما لو عاد إلى مثله في المسافة( ).
القول الثاني: أن المتعة لا تنقطع بخروجه من الحرم إلا إذا عاد بعد عمرته إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه أو إلى مسافة مثل المسافة إليه، وهذا هو المذهب عند الشافعية( )، وهو قول عند الحنفية( )، وهو رواية عن أحمد( ).
القول الثالث: أن المتعة لا تنقطع بخروجه من الحرم بعد عمرته إلا إذا سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة، وبهذا قال عطاء( )، وهو مذهب الحنابلة( ).
القول الرابع: أن المتعة لا تنقطع بخروجه من الحرم بعد عمرته مطلقاً إذا عاد وحج من عامه، وهذا القول منقول عن ابن عباس والحسن البصري( )، وهو قول ابن حزم من الظاهرية( )، وقد حكي الإجماع على خلافه( ).
هذا منتهى أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وقد ذكر كل صاحب قول من هذه الأقوال حجة استظهر بها قوله وما ذهب إليه، وهذا ذكر لأبرزها.
احتج أصحاب القول الأول: بأن الله تعالى خص أهل مكة بأن لم يجعل لهم متعة وجعلها لسائر أهل الآفاق كما قال:﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(البقرة: من الآية196) , قالوا: والمعنى في ذلك إلمام أهل مكة بأهاليهم بعد العمرة مع جواز الإحلال منها, قالوا:(( وذلك موجود فيمن رجع إلى أهله لأنه قد حصل له إلمام بأهله بعد العمرة فكان بمنزلة أهل مكة)) ( ).
وقالوا أيضاً:(( إن الله جعل على المتمتع الدم بدلا من أحد السفرين اللذين اقتصر على أحدهما, فإذا فعلهما جميعا لم يكن الدم قائما مقام شيء, فلا يجب))( ).
أما أصحاب القول الثاني فحجتهم: بأن حقيقة المتعة هي الجمع بين الحج والعمرة دون الرجوع إلى الميقات فإذا عاد إليه أو إلى مسافته فقد انقطعت المتعة( ).
أما أصحاب القول الثالث فقالوا إنه إن كان سافر سفراً بعيداً (( فقد أنشأ سفرا بعيدا لحجه فلم يترفه بترك أحد السفرين فلم يلزمه دم))( )، ولا يكون متمتعاً.
أما أصحاب القول الرابع فحجتهم أنه ليس في النصوص الشرعية ما يشترط للمتعة ألا يخرج عن مكة إلى بلده أو إلى المواقيت أو إلى مسافة قصر، ((ولو كان هذا من شرط التمتع لما أغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه))( ).
وأقرب هذه الأقوال وأقواها حجة هو القول الأول وأن المتعة لا تنقطع بخروجه من الحرم بعد عمرته إلا إذا عاد إلى بلده، والله تعالى أعلم.
وعلى هذا فإنه يجوز للمتمتع أن يخرج من الحرم ويقيم حيث شاء ولا تنقطع متعته ما دام لم يرجع إلى بلده ثم إذا جاء الحج فإن حكمه حكم المكي يجب أن يحرم من الحرم وهذا هو المذهب عند الحنفية( ) والشافعية( ) ورواية عند الحنابلة( ). وقيل: إن له أن يحرم بالحج من الحرم أو من حيث نزل في الحل مما لا تنقطع المتعة بالخروج إليه، وهذا أقرب الأقوال للصوب.
المبحث التاسع: أثر الزحام في يومي التروية وعرفة
المطلب الأول: أثر الزحام في التوجه إلى منى يوم التروية
يوم التروية هو يوم الثامن من ذي الحجة، وهو أول أيام المناسك، وقد اتفق أهل العلم أن من السنة للحجاج أن يتوجهوا إلى منى قبل ظهر يوم الثامن، فيصلوا فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر( )، وذلك لما روى مسلم في صحيحه( )من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال في صفة حج النبي : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج وركب رسول الله ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وقد أجمع أهل العلم على أن من لم يفعل ذلك فإنه لا شيء عليه، وأن حجه صحيح( ).
وعلى هذا فإن من ترك التوجه إلى منى يوم التروية والمبيت بها ليلة عرفة لأجل الزحام، فإنه لاحرج عليه، وإنما فوّت فضيلة العمل بالسنة فقط، أما إن كان ترك ذلك لكونه لا يجد مكاناً ينزل فيه فالذي أرجو أن ينال ثواب ذلك بنيته التي حال دون العمل بها عدم وجود مكان ينزل فيه، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر الزحام في وقت دخول عرفة
الثابت من هدي النبي أنه لم يأت الموقف يوم عرفة إلا بعد أن زالت الشمس، ففي حديث جابر في صفة حج النبي عند مسلم قال رضي الله عنه: فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس( ).
ولا خلاف بين أهل العلم أن ما قبل طلوع فجر من يوم عرفة ليس زمناً للوقوف، وأجمعوا أيضاً على أن من وقف بعرفة بعد الزوال فوقوفه صحيح( )، وقد اختلفوا في الوقوف بعد الفجر وقبل الزوال هل يجزئ أو لا؟ فذهب جماهير العلماء من الحنفية( ) والمالكية( ) والشافعية( ) وغيرهم إلى أن وقت عرفة يبدأ من بعد الزوال، فمن وقف قبل الزوال ولم يقف بعد ذلك لم يصح وقوفه.
وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن ما يفعله بعض الحجاج من التقدم إلى عرفة ليلتها بدعة قال النووي:(( وأما ما يفعله معظم الناس في هذه الأزمان من دخولهم أرض عرفات قبل وقت الوقوف فخطأ وبدعة ومنابذة للسنة، والصواب أن يمكثوا بنمرة حتى تزول الشمس ويغتسلوا بها للوقوف))( )، وبهذا قال ابن الحاج المالكي( )، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية التقدم، وأنه خلاف السنة دون أن يصفه بالبدعة، فقال رحمه الله في جملة ما يفعله الحجاج من المخالفات في وقته:(( ويدخلونها قبل الزوال، ومنهم من يدخلها ليلاً ويبيتون بها قبل التعريف وهذا الذي يفعله الناس كله يجزي معه الحج لكن فيه نقص عن السنة))( ).
والذي يظهر أن وصف ذلك بالبدعة إنما يصدق على من فعل ذلك على وجه التعبد؛ أما من فعل ذلك لا تعبداً سواء لحاجة أو لغير حاجة فإنه لا يصدق عليه أنه بدعة، فإن كان ذلك التقدم لحاجة كما هو الحال الآن في أكثر حملات الحجاج حيث يتقدم أكثرهم في الدخول لعرفة خشية الزحام أو الضياع أو فوات الرفقة فإن ذلك جائز لا حرج فيه، وقد نص بعض الفقهاء على ذلك، قال الهيتمي رحمه الله:((وما حدث الآن من مبيت أكثر الناس هذه الليلة بعرفة بدعة قبيحة اللهم إلا من يخاف زحمة))( ).
المطلب الثالث: أثر الزحام في مكان صلاتي الظهر والعصر يوم عرفة
لا خلاف بين أهل العلم أن السنة للحاج يوم عرفة أن يجمع بين الظهر والعصر مع الإمام. قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون أن يصلوا الصلاتين الظهر والعصر مع الإمام بعرفة( ). وقال ابن عبد البر: السنة المجمع عليها الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يوم عرفة مع الإمام( ). وعلى هذا فإنه إذا خاف الحاج من شهود الصلاة مع الإمام يوم عرفة ضرراً أو زحاماً أو ضياعاً فلا حرج عليه في عدم شهودها مع الإمام، بل يصلي حيث تيسر له.
المطلب الرابع: أثر الزحام في الإنصراف قبل غروب الشمس
لا خلاف بين أهل العلم أن السنة لمن وقف بعرفة أنه لا ينصرف إلا بعد غروب الشمس. فقد ((أجمع العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة بالناس بعدما غربت الشمس يوم عرفة))( ). ومستند ذلك ما روى مسلم في صحيحه( )من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي قال:(( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص)).
وقد ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يجوز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس حتى إن الإمام أحمد لما سئل عن رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس؟ فقال رحمه الله: ما وجدت عن أحد أنه سهل فيه كلهم يشدد فيه( ).
قد اختلف أهل العلم فيمن وقف في النهار ودفع قبل غروب الشمس ولم يعد إلى عرفات, فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: يلزمه دم, ويجزئه وقوفه، وحجه صحيح( ). وخالف في ذلك مالك، وذلك أن المعتمد عنده في الوقوف بعرفة هو الليل, فإن لم يدرك شيئا من الليل فقد فاته الحج( ), وهو رواية عن أحمد( ). وقد ذهب ابن حزم إلى أنه لا شيء على من دفع من عرفة قبل غروب الشمس( ).
وقد ذكر بعض فقهاء الحنفية والمالكية جواز التقدم قبل الإمام يوم عرفة خشية الزحام لكنهم اشترطوا للجواز ألا يجاوز عرفة بالخروج. قال في الهداية:(( فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه لأنه لم يفض من عرفة))( ). قال في مواهب الجليل: (( من دفع قبل الغروب من المحل الذي يقف فيه الناس لأجل الزحمة ونيته أن يتقدم للسعة ويقف حتى تغرب الشمس فلا يضره ذلك))( ).
ولم أقف على من أجاز الدفع من عرفة قبل الغروب خوف الزحمة وذلك لأنه لم يرد أن النبي رخص في الدفع قبل الغروب لأحد، قال ابن عابدين في أن خوف الزحام ليس رخصة في الدفع قبل الغروب:(( ولم يجعل عذراً في عرفات؛ لما فيه من إظهار مخالفة المشركين، فإنهم كانوا يدفعون قبل الغروب فليتأمل))( ). وعلى هذا فإن الزحام ليس رخصة في جواز الدفع من عرفة قبل الغروب.
المبحث العاشر: أثر الزحام في ليلة مزدلفة
المطلب الأول: أثر الزحام في مكان صلاتي المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة
الإجماع منعقد على أن النبي صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بعدما دفع من عرفة قال ابن عبد البر: ((أجمع العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة في حجته بعدما غربت الشمس يوم عرفة، أخّر صلاة المغرب ذلك الوقت فلم يصلها حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء جمع بينهما بعدما غاب الشفق، وأجمعوا أن ذلك من سنة الحاج كلهم في ذلك الموضع))( ).
ومستند ذلك الإجماع ما جاء عن ((جماعات من الصحابة منهم: ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وأسامة بن زيد وجابر وكل رواياتهم في صحيح البخاري ومسلم إلا جابراً ففي مسلم خاصة))( ) أن النبي جمع بالمزدلفة تلك الليلة بين المغرب والعشاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(( والجمع بين الصلاتين بمزدلفة من السنة المتواترة التي توارثتها الأمة))( ).
بل قد ذهب جماعة من أهل العلم كأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر والحسن( ) وبعض المالكية( )، والظاهرية( ) إلى أن من صلى المغرب والعشاء قبل أن يصل المزدلفة لم تجزئه صلاته، واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم من طريق كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلى، ولم يصل بينهما( ).
والذي عليه الجمهور من أهل العلم أنه لو صلاها في عرفة أو في الطريق صحت صلاته وخالف السنة( ).
والجميع متفقون على أنه إذا خشي خروج الوقت وخاف الفوات فإنه يجب أن يصليهما في الوقت، ولو قبل الوصول إلى المزدلفة. قال في بدائع الصنائع في وجوب صلاة المغرب والعشاء في المزدلفة: (( هذا إذا كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر فأما إذا خشيء أن يطلع الفجر قبل أن يصل إلى مزدلفة؛ لأجل ضيق الوقت بأن كان في آخر الليل بحيث يطلع الفجر قبل أن يأتي مزدلفة فإنه يجوز بلا خلاف))( ).
المطلب الثاني: أثر الزحام في ترك الوقوف بمزدلفة
اتفق أهل العلم على أن مجئء الحاج إلى مزدلفة بعد الوقوف بعرفة من شعائر الحج وأنه من أعماله.
قال النووي رحمه الله: ((وهذا المبيت- أي بالمزدلفة- نسك بالإجماع))( ).
ومستند ذلك قول الله تعالى:﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾( ).
قال الجصاص: ((ولم يختلف أهل العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعاً))( ).
وكذلك ما جاءت به الأخبار المتوترة من مجئ النبي مزدلفة ومبيته بها ووقوفه إلى الإسفار مع قوله فيما رواه مسلم( ) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
ومع هذا الاتفاق إلا أن أهل العلم اختلفوا في حكم المبيت بمزدلفة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقوف بمزدلفة واجب من واجبات الحج وبهذا قال جمهور أهل العلم، منهم عطاء والزهري وقتادة والثوري( )، وهو المذهب عند الحنفية( )، والمالكية( )، والحنابلة( )، والأصح عند الشافعية( ).
القول الثاني: أن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج، وبهذا قال جماعة من أهل العلم، منهم عبدالله بن الزبير وعلقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري والأوزاعي, وبه قال أبو بكر بن خزيمة من الشافعية( )، وابن حزم( ).
القول الثالث: أن الوقوف بمزدلفة سنة من سنن الحج، وبهذا قال بعض المالكية( )، والشافعية( )، وهو رواية عن أحمد( ).
وقد استدل كل قوم بأدلة لما ذهبوا إليه، وأقربها إلى الصواب القول بأن الوقوف بمزدلفة واجب من واجبات الحج، ووجه الوجوب أن ((فعله خرج إمتثالاً لقوله تعالى:﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾(البقرة: من الآية198) والفعل إذا خرج امتثالاً لأمر كان بمنزلته، والأمر للوجوب))( ).
وبناء على ما تقدم من أقوال لأهل العلم في حكم الوقوف بمزدلفة فعلى القول بالركنية فإن من لم يتمكن من المجيء حتى فات وقت الوقوف بمزدلفة بطلوع شمس يوم النحر( )، فقد فاته الحج ويثبت له أحكام الفوات، فمن حبسه عن الوقوف بالمزدلفة السير أو زحام السيارات أو ضل الطريق أو أخطأ المكان فنزل في غيرها حتى مضى وقت الوقوف فقد فاته الحج.
أما على القول بالوجوب فإن جماهير العلماء يرون أن من لم يمكنه الوقوف بالمزدلفة لعذر كما لو حبسه السير أو ضل الطريق أو أخطأ المكان فنزل في غيرها حتى مضى وقت الوقوف فإنه لا شيء عليه، وقد نص على ذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية.
قال الكاساني في بدائع الصنائع:((ترك الوقوف بمزدلفة جائز لعذر))( ).
وقال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: ((ومن ترك النزول من غير عذر حتى طلع الفجر لزمه الدم ومن تركه لعذر فلا شيء عليه , ولو جاء بعد الشمس عند ابن القاسم))( )،وقال النووي في المجموع شرح المهذب: ((أما من ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر فلا دم))( ).
ومن الأعذار التي هي محل البحث في هذه الدراسة الزحام، فإن الزحام المشاهد في هذه الأزمنة قد يحول دون الوقوف في المزدلفة، إما لعدم التمكن من الوصول إليها بسبب زحمة السير، وإما لعدم التكمن من البقاء فيها لعدم تيسر مكان للنزول أو للتضرر به، أو لكون الحملة أو المطوف لن يمهل الحجاج للنزول أو نحو ذلك من الأسباب، فإن الذي يظهر أنه يسقط الوقوف بالمزدلفة لهذه الأسباب ونحوها من الأعذار المتعلقة بالزحام، ويمكن القول بأن هذا هو مقتضى ما ذكره فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية من سقوط الوقوف في مزدلفة بالعذر.
وقد نص جماعة من فقهاء الحنفية على أن الزحام عذر في ترك الوقوف بالمزدلفة، قال ابن نجيم في البحر الرائق:((وغيره أن واجب الحج إذا تركه بعذر لا شيء عليه حتى لو ترك الوقوف بالمزدلفة خوف الزحام لا شيء عليه كما لا شيء على الحائض بترك طواف الصدر))( ).
أما الحنابلة فأوجبوا الدم على من طلع عليه الفجر، ولم يأت المزدلفة سواء كان بعذر أو بغير عذر، قال البهوتي في كشاف القناع:(( وإن جاء مزدلفة بعد الفجر فعليه دم لتركه نسكاً واجباً))( )، ثم قال:(( عالماً كان أو جاهلاً ذاكراً أو ناسياً; لأنه ترك نسكاً واجباً، والنسيان إنما يؤثر في جعل الموجود كالمعدوم لا في جعل المعدوم كالموجود))( )، بل من أحصره عدو عن المزدلفة بأن منعه من المجيء إليها كان عليه دم قال البهوتي في كشاف القناع:(( ومن أحصر عن واجب كرمي الجمار لم يتحلل وعليه له أي: لتركه ذلك الواجب دم كما لو تركه اختياراً وحجه صحيح لتمام أركانه))( )، ومع هذا فإنهم قد قالوا بسقوط المبيت ليلة مزدلفة عن السقاة والرعاة، قال في مطالب أولي النهى:(( ولا مبيت على سقاة ورعاة بمنى ومزدلفة؛ لحديث ابن عمر( ): أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له))( ) متفق عليه، وكذلك ما رواه الترمذي( ) من حديث عدي بن عاصم عن أبيه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر, ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما، قال مالك: ظننت أنه قال:في أول يوم منهما, ثم يرمونه يوم النحر, وقال: حسن صحيح، فألحقوا المبيت بمزدلفة في السقوط بالمبيت بمنى لعذر السقاية والرعي، وهما من المصالح العامة للحجيج.
وتخريجاً على ما ذكروا من سقوط المبيت عن السقاة والرعاة فإن ما يشبههم من الأعمال العامة التي تتصل بمصالح الحجاج كرجال الأمن وأهل الطب والتمريض ونحوهم فإنهم يأخذون حكم السقاة والرعاة في سقوط المبيت بمزدلفة بجامع الاشتغال بمصالح الحجاج، والله أعلم.
المطلب الثالث: أثر الزحام في وقت الدفع من مزدلفة
المسألة الأولى: وقت الدفع من مزلفة للضعفة
اتفق أهل العلم على جواز تقديم الضعفة من مزدلفة إلى منى قبل الفجر( )، وقد اختلف أهل العلم في وقت جواز الدفع لهؤلاء؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز الدفع للضعفة ونحوهم بعد نصف الليل، وهذا هو مذهب الشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: يجوز الدفع للضعفة ونحوهم أي جزء من الليل بعد النزول وحط الرحل وهذا مذهب المالكية( ).
القول بجواز الدفع في أي جزء من الليل هو ظاهر مذهب الحنفية فإنهم لم يقيدوا ذلك بوقت، بل ولا بحط رحل ونزول، قال ابن نجيم:(( لو مر بها من غير أن يقف جاز كالوقوف بعرفة ولو مر في جزء من أجزاء المزدلفة جاز كذا في المعراج))( ).
القول الثالث: يجوز الدفع للضعفة ونحوهم بعد مغيب القمر، وهذا رواية عن أحمد( )، وهو قول البخاري( )، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية( )، وتلميذه ابن القيم( ).
وسبب هذا الخلاف هو أن النبي أذن للضعفة في التقدم إلى منى مطلقاً من غير توقيت لهذا التقدم، ففي البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن ثم دفعنا بدفعه( )، وفي البخاري ومسلم من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله من جمع بليل( ).
وفي البخاري ومسلم أيضاً من حديث الزهري قال سالم: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول .( )
ولذلك اختلفت آراء أهل العلم في وقت جواز الدفع، فلم يقدَّره الحنفية بشيء، وقدَّره المالكية بحط الرحل والنزول؛ لأن به يتحقق الوقوف واستمكان اللبث( ).
وقدَّره الشافعية والحنابلة بنصف الليل؛ لأنه يكون بذلك قد مضى أكثر الليل ومعظمه( ).
أما من قدَّره بمغيب القمر فعمدته ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن جريج حدثني عبد الله مولى أسماء قال: قالت لي أسماء: وهي عند دار المزدلفة هل غاب القمر؟ قلت:لا فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: ارحل بي، فارتحلنا حتى رمت الجمرة ثم صلت في منزلها، فقلت لها: أي هنتاه لقد غلسنا؟ قالت: كلا، أي بني إن النبي أذن للظعن( ).
ومن هذا يتبين أنه ليس هناك نص صريح في تحديد قدر وقت النزول في مزدلفة الذي يتحقق به الوقوف الواجب لأصحاب الأعذار، والذي يظهر لي أن كل تحديد يمكن أن يرد عليه اعتراض لعدم صراحة دلالة الأدلة عليه، ولكن بالنظر إلى العلة التي شرع من أجلها تقديم الضعفة ونحوهم، وهي توقي حطمة الناس أي زحامهم كما جاء حديث عائشة المتقدم، فيمكن أن يقال: إن الوقت الذي يجوز فيه الانصراف من مزدلفة هو ما يتوقى به الضعفة ومن في حكمهم ضرر زحام الناس.
وهذا الترجيح تشهد له علة الحكم، ويمكن أن يستفاد من قول الحنفية الذين لم يحدوا حداً لوقت التقدم، بل إنهم قد ذهبوا إلى إسقاط الوقوف بمزلفة خشية الزحام فقالوا: ((من جاوز المزدلفة قبل طلوع الفجر فعليه دم لترك الواجب إلا إذا جاوزها ليلاً عن علة وضعف فخاف الزحام فلا شيء عليه))( ).
المسألة الثانية: ضابط الذي يباح له التقدم ليلة مزدلفة
الرخصة في جواز التقدم من مزدلفة وردت للضعفة دفعاً لمضرة الزحام عنهم، ولذلك فإن كل من كان يضره الزحام فإن له التقدم من مزدلفة قبل زحمة الناس وحطمتهم؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً( ).
ولا يخفى أن التضرر بالزحام في هذه الأزمنة لا يقتصر على النساء والصبيان وكبار السن فحسب، بل يمتد إلى كثير من الأصحاء والأقوياء، وذلك بسب الزيادة المطردة غير المسبوقة في أعداد الحجاج، وغير خاف أن ما يحصل من الضرر بالزحام أمر يشق على أكثر الناس، سواء في ذلك زحمة السير من مزدلفة إلى منى، أو زحمة طرق الوصول إلى رمي الجمرة، أو زحمة الرمي، وهذا سبب يستوجب التخفيف.
قال شيخنا ابن باز رحمه الله في تعليل التسهيل في جواز دفع غير الضعفة من مزدلفة قبل الفجر:(( لأن الزحام وكثرة الناس تعطي قوة الرخصة، وأن الضعفة ما رخص لهم إلا من أجل المشقة، فإن جاءت المشقة جاء العذر، فإذا جاءت الشدة جاء التيسير ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ (الشرح:6)، والناس في الأوقات الأخيرة فيها زحام شديد، ومشقة لو جلس الناس كلهم حتى الأسفار))( ).
وقد ذكر ابن عابدين مع كونه لم يدرك هذه الأوقات أن الزحام في الطريق من مزدلفة إلى منى والرمي محقق، فكيف لو أدرك ما عليه الناس اليوم؟! قال في سياق كلامه عن أثر الزحام في سقوط الوقوف بمزدلفة:(( وهو شامل لخوف الزحمة عند الرمي, فمقتضاه أنه لو دفع ليلاً ليرمي قبل دفع الناس وزحمتهم لا شيء عليه, لكن لا شك أن الزحمة عند الرمي، وفي الطريق قبل الوصول إليه أمر محقق في زماننا, فيلزم منه سقوط واجب الوقوف بمزدلفة, فالأولى تقييد خوف الزحمة بالمرأة))( )، والذي يظهر أنه لا فرق في أثر شدة الزحام بين الرجل والمرأة والصغير والكبير لأن الضرر معنى جامع فيهم وإن كان متفاوتا القدر كلاً بحسبه.
المبحث الحادي عشر: أثر الزحام في يوم النحر وأيام التشريق
المطلب الأول: أثر الزحام في ترتيب أعمال يوم النحر
أجمع أهل العلم على أن أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة، أربعة أعمال: رمى جمرة العقبة ثم نحر الهدى ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الافاضة ويسعى بعده إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم( ). ولا خلاف أن السنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة على نحو ذكرها( ).
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يجوز تقديم بعض هذه الأعمال على بعض( )؛ فإن رسول الله ﷺ قد رخص في التقديم والتأخير بين هذه الأعمال ففي الصحيحين( ) من حديث الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو قال:((رأيت النبي ﷺ عند الجمرة، وهو يسأل، فقال رجل: يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. قال آخر: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر. قال:انحر ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج)). فدل هذا الحديث على جواز عدم مراعاة ترتيب هذه الأعمال لأجل دفع ضررالزحام وتوقيه فغاية ما هنالك تفويت السنة.
المطلب الثاني: أثر الزحام في الرمي
المسألة الأولى: أثر الزحام في وقت الرمي
الفرع الأول: أثر الزحام في وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر ابتداء وانتهاء
الأمر الأول: أثر الزحام في وقت ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر
اتفق أهل العلم على أن النبي ﷺ رمى جمرة العقبة ضحى يوم النحر( ). ففي صحيح مسلم( ) من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال:((رمى رسول الله ﷺ الجمرة يوم النحر ضحى)).
وقد تقدم أن النبي ﷺ رخص للضعفة ومن في حكمهم في الدفع ليلة النحر من مزدلفة؛ لأجل توقي حطمة الناس وزحامهم. ففي الصحيحين( ) من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي e سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس)).
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز رمي جمرة العقبة أول ليلة النحر، وأن من رماها أول الليل لم تجزئه( ).
ولأجل ذلك اختلف أهل العلم في أول وقت رمي جمرة العقبة على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن أول وقت رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة النحر، وبهذا قالت الشافعية( ) والحنابلة( ).
القول الثاني: أن أول وقت رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، وهو قول الحنفية( ) والمالكية( ) ورواية عن أحمد( ).
القول الثالث: أن أول وقت رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، وبهذا قال جماعة من التابعين( ).
وقد استدل كل فريق بأدلة لما ذهب إليه، وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب القول بأن أول وقت رمي جمرة العقبة هو من وقت جواز الدفع من مزدلفة، ويشهد لهذا ما في الصحيحين( ) من حديث ابن جريج عن عبد الله مولى أسماء قال: ((قالت لي أسماء وهي عند دار المزدلفة: هل غاب القمر؟قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: ارحل بي، فارتحلنا حتى رمت الجمرة ثم صلت في منزلها. فقلت: لها أي هنتاه لقد غلسنا؟ قالت: كلا، أي بني إن النبي e أذن للظعن)).
وكذلك يؤيده ما رواه الشيخان( ) من حديث الزهري عن سالم بن عبد الله: ((أن عبد الله بن عمر كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بالليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك. فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله e)).
فأفاد الحديثان أن النبي e رخص لمن دفع من مزدلفة ليلة النحر من الضعفة ونحوهم أن يرموا جمرة العقبة إذا وصلوا منى. فالذي يظهر أن الرخصة في التقدم من مزدلفة للضعفة ونحوهم هو اجتناب زحمة الرمي لا زحمة الطريق فإن زحام الطريق موجود في الانصراف من عرفة ولم ترد فيه رخصة لأحد.
وأما ما جاء من النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس، كالحديث الذي رواه الخمسة( ) عن ابن عباس: ((أن النبي ﷺ قدم أهله، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس)). فهو حديث اختلف أهل العلم في صحته( ). وعلى القول بصحته فيمكن الجمع بينه وبين ما دل عليه حديثا أسماء وابن عمر رضي الله عنهم بحمل النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس على الأفضلية والندب. فيكون النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس للكراهة لا للتحريم والمنع كما قال جماعة من أهل العلم.
قال الموفق ابن قدامة:(( والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب))( ). وقال النووي:((وأما حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعاً بين الأحاديث))( )، وإلى هذا ذهب ابن حجر في الجمع بين الأحاديث فحمل ((الأمر في حديث بن عباس على الندب)).قال:((ويؤيده ما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى بن عباس عنه قال: بعثني النبي ﷺ مع أهله، وأمرني أن أرمي مع الفجر))( ).
الأمر الثاني: أثر الزحام في وقت انتهاء رمي جمرة العقبة يوم النحر
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الوقت الذي ينتهي إليه رمي جمرة العقبة على ثلاثة أقوال في الجملة:
القول الأول: أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر يمتد إلى طلوع فجر يوم الحادي عشر. وبهذا قالت الحنفية( ).
القول الثاني: أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر يمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق. وبهذا قالت الشافعية( ).
القول الثالث: أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر يمتد إلى غروب شمس ذلك اليوم. وبهذا قالت المالكية( )، والحنابلة( ).
وقد استدل كل فريق بأدلة تؤيد ما ذهب إليه إلا أن أرجحها القول بأن رمي جمرة العقبة يوم النحر يمتد إلى ليلة الحادي عشر وقد ذكروا لذلك أدلة أبرزها ما رواه البخاري( ) من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(( كان النبي ﷺ يسأل يوم النحر بمنى. فيقول: لا حرج. فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج. وقال: رميت بعد ما أمسيت. فقال: لا حرج)). والمساء يصدق على جزء من الليل في قول طائفة من أهل اللسان، قال في لسان العرب:(( والمساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب: وقال بعضهم: إلى نصف الليل))( ).
فدل هذا على أن رمي يوم النحر لا ينقضي بغروب الشمس بل يمتد إلى الليل( ). وهذا يدل على سعة وقت رمي جمرة العقبة فلمن خشي الضرر بالزحام أن يؤخر الرمي إلى آخر النهار، فإن الإجماع منعقد علـى أن من رماها يوم النحـر قبل غروب الشمس فرميه صحيح( ). وكذلك له أن يؤخر الرمي إلى الليل على الراجح لأنه وقت رمي، والله أعلم.
الفرع الثاني: أثر الزحام في الرمي أيام التشريق
الأمر الأول: أثر الزحام في وقت ابتداء الرمي أيام التشريق
لا خلاف بين أهل العلم في أن النبي ﷺ إنما رمى الجمار أيام التشريق بعد الزوال، وبهذا جاءت الأحاديث.
ففي صحيح مسلم( ) من حديث جابر في صفة حج النبي ﷺ قال: ((رمى رسول الله ﷺ الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس)).
وفي سنن أبي داود( ) من حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: ((ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس)).
وفي صحيح البخاري( ) من حديث مسعر عن وبرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك، فارمه فأعدت عليه المسألة قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا.
وقد حكى ابن عبد البر إجماع أهل العلم على أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس( ). ومراده الوقت المجزئ اتفاقاً، قال في الاستذكار:(( هذه سنة الرمي في أيام التشريق عند الجميع لا يختلفون في ذلك))( ).
وقد اختلف العلماء في جواز الرمي في أيام التشريق قبل زوال الشمس على أقوال ثلاثة:
القول الأول: لا يجوز رمي الجمار أيام التشريق إلا بعد الزوال.
وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، فبه قال عطاء( )، وهو مذهب أبي حنيفة( )، ومالك( )، والشافعي( )، وأحمد( ).
القول الثاني: لا يجوز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال إلا يوم الثالث عشر فيجوز قبل الزوال.
وهو قول إسحاق( )، وقول أبي جعفر محمد الباقر( )، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة( )، وهو رواية عن أحمد( ).
القول الثالث: يجوز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال مطلقاً.
وبهذا قال طاووس( )، ونقل عن عطاء( )، ورواية عن أبي حنيفة( )، واختاره ابن الجوزي( ).
وقد احتج كل فريق بحجة تؤيد ما ذهب إليه فأبرز ما احتج به من قال بعدم جواز الرمي قبل الزوال فعل النبيe، وقوله e فيما رواه مسلم( ) من طريق أبي الزبير عن جابر: ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
أما من قال بجوازه يوم النفر دون اليوم الأول أو اليوم الثاني فاحتج بأن في ذلك دفعاً للحرج ومشقة التأخر في وصول مكة وتهيئة منزل قال الكاساني: ((لأنه إذا كان من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل إلى مكة إلا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمي قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع نزوله فيرخص له في ذلك))( ).
وأما من أجاز الرمي قبل الزوال مطلقاً فاحتج بأن الرمي قبل الزوال مسكوت عنه والفعل لا يقوى على الإيجاب، بل يدل على الندب والاستحباب.
والذي يظهر لي أن القول بجواز الرمي قبل الزوال قول قوي من حيث النظر، فليس مع من قال بعدم الجواز حجة بينة واضحة تمنع الرمي قبل الزوال، لاسيما والحاجة داعية إلى القول بالجواز خصوصاً في يوم النفر الأول، وهو ثاني أيام التشريق، لشدة الزحام وعظيم الضرر الحاصل من جراء تدافع الناس واجتماعهم لتحين وقت الرمي كما لا يخفى. فلا يخلو عام من الأعوام تقريباً من وقوع وفيات وإصابات بسبب هذا الاكتظاظ والتزاحم عند رمي الجمار يوم الثاني عشر من ذي الحجة. وقد تقدم ترخيص بعض الفقهاء في الرمي قبل الزوال يوم النفر الأول لحاجة الوصول إلى مكة نهاراً، وهي حاجة لا تذكر إزاء ما يلحق الناس اليوم من العناء والتعب والمشقة الشديدة في رمي الجمار يوم الثاني عشر من ذي الحجة. بل إن ابن عمر روى حديث تحين الزوال للرمي لما سأله وبرة: متى أرمي الجمار؟ كما في صحيح البخاري( ) قال: إذا رمى إمامك. فلم يقل له: ارم بعد الزوال، بل رده إلى فعل إمامه، وهذا يشعر بأن في وقت الرمي سعة يراعى فيه تحصيل المصلحة ودفع المضرة.
وقد قال الحافظ ابن حجر في قول: إذا رمى إمامك فارمه:(( يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر))( ).
ولا ريب أن حفظ النفس من مقاصد الشريعة وكلياتها، فحفظ النفس ودفع الضرر عنها أولى بالاعتبار، والنظر من العمل بقول أقوى أدلته إيمات وإشارات، والله أعلم.
الأمر الثاني: أثر الزحام في وقت انتهاء الرمي أيام التشريق
أجمع أهل العلم على أن من رمى الجمار في كل يوم من أيام التشريق قبل غروب الشمس فقد رمى في الوقت( ).
واتفقوا أيضاً على أنه من أخر الرمي حتى تغرب شمس يوم الثالث عشر فقد فاته الرمي، ولا سبيل له إلى الرمي أبداً( ).
واختلفوا في آخر وقت رمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق على قولين:
القول الأول: أن وقت رمي في كل يوم من أيام التشريق يمتد إلى طلوع فجر اليوم التالي. وبهذا قالت الحنفية( )، والمالكية( )، وهو الصحيح عند الشافعية( ).
القول الثاني: أن وقت رمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق يمتد إلى غروب شمس ذلك اليوم، فإن فات رماها غداً بعد الزوال، وهذا قول عند الشافعية( )، وبه قالت الحنابلة( ).
وقد استدل كل فريق بأدلة تؤيد ما ذهب إليه إلا أن أرجحها القول بأن رمي كل يوم من أيام التشريق يمتد إلى فجر اليوم الذي يليه إلا يوم الثالث عشر فبغروب الشمس كما تقدم.
فإن طلع الفجر ولم يرم رماه مع رمي اليوم التالي. وذلك أن الرخصة قد جاءت في جمع رمي يومين للحاجة كما دل عليه حديث عاصم بن عدي قال: ((رخص رسول الله ﷺ لرعاء الإبل في البيتوتة، أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما))( ).
وعليه فإذا كان زحام عند الرمي أو في الطريق الموصل إليه فالذي يظهر أنه لا بأس بتأخير رمي اليوم إلى اليوم الذي يليه للحاجة. وهذا الترجيح بيّن على قول صاحبي أبي حنيفة ومذهب الشافعية والحنابلة؛ لأن وقت الرمي يمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق.
أما على القول بأن رمي كل يوم ينتهي بطلوع فجر اليوم التالي كما هو قول أبي حنفية ومذهب المالكية. فالذي يظهر أنه يجوز التأخير على قول الحنفية فقد ذكر بعض فقهاء الحنفية سقوط الرمي بالكلية خوف الزحام قال ابن نجيم:(( وقد قدمنا أن المرأة لو تركت الوقوف بالمزدلفة؛ لأجل الزحام لا يلزمها شيء، فينبغي أنها لو تركت الرمي له لا يلزمها شيء))( ). فالتأخير على هذا يجوز؛ لأنه أولى من الترك. أما على مذهب المالكية فلم أقف على ما يمكن تخريج القول بالجواز عليه، فقد قصروا الرخصة على الرعاة دون غيرهم، وفي قول يلحقون السقاة. كما أنهم يرون أن الرخصة في تأخير رمي الحادي عشر والثاني عشر لا تجيز تأخيره إلى آخر أيام التشريق بل لو أخره لوجب دم للتأخير( ).
المسألة الثانية: أثر الزحام في الإنابة في الرمي
الأصل في النيابة في الرمي ما رواه أحمد( ) من حديث أبي الزبير عن جابر قال: ((حججنا مع رسول الله ﷺ ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم)).
وقد أجمع أهل العلم على جواز النيابة عن الصغير الذي لا يقدر على الرمي( ). وقد نفى ابن عبد البر الخلاف في جواز النيابة للعذر حتى من الكبير، قال رحمه الله: ((لا يختلفون أنه من لا يستطيع الرمي لعذر رمي عنه وإن كبر))( ).
وعلى كل حال فالقول بجواز النيابة عن العاجز بنحو مرض هو قول أكثر أهل العلم( )؛ لأن علة الجواز في الصغير هو العجز وخوف الضرر. فكل من قام به الوصف المبيح ثبت له الحكم؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً قوة وضعفاً.
ولا ريب أن الرمي في هذه الزمان من أشق المناسك وأشدها خطراً وذلك لشدة الزحام. فلا يخلو عام من الأعوام غالباً من حصول وفيات وإصابات بسبب التدافع عند رمي الجمرات سواء يوم النحر أو يوم النفر الأول.
ولا يخفى أيضاً ما يحصل من التحام الرجال بالنساء على وجه لا يمكن أن تأتي بمثله الشريعة فضلاً عن أن تقره، وكذلك تكشفهن جراء التدافع.
ولذلك نص بعض فقهاء الحنفية على سقوط الرمي عن النساء من أجل الزحام قال ابن نجيم:(( وقد قدمنا أن المرأة لو تركت الوقوف بالمزدلفة؛ لأجل الزحام لا يلزمها شيء، فينبغي أنها لو تركت الرمي له لا يلزمها شيء))( ). بل نص بعضهم على أن ذلك لا يختص المرأة، بل يشمل الرجل إذا خاف الزحام قال ابن نجيم: ((ولم يقيد في المحيط خوف الزحام بالمرأة بل أطلقه فشمل الرجل))( ).
وقد صدرت الفتوى عن بعض المجامع العلمية المعاصرة فأفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية بجواز أن توكل المرأة في الرمي؛ لأجل الزحام، ففي جواب السائل عن ذلك قالت اللجنة:(( يجوز عند الزحام في رمي الجمرات أن توكل المرأة من يرمي عنها، ولو كانت حجتها حجة الفريضة، وذلك من أجل مرضها أو ضعفها، أو المحافظة على حملها إن كانت حاملاً، وعلى عرضها وحرمتها؛ حتى لا تَنتهك حرمتها شدة الزحام))( ).
وفي جواب آخر قالت اللجنة:(( قال تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾( )، وقال تعالى:﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾( )، فالعسر والحرج منفيان عن هذه الشريعة بهاتين الآيتين، وما جاء في معناهما.
والنساء تختلف أحوالهن: فمنهن الحامل، وضخمة الجسم جدًا، والهزيلة، والمريضة، والمسنة العاجزة، ومنهن القوية.
فأما المرأة التي يوجد فيها عذر من الأعذار المشار إليها ونحوها فتجوز النيابة عنها، ولا إشكال في ذلك، والذي يرمي عنها لا ينوب عنها إلا بإذنها قبل الرمي عنها، فيرمي عن نفسه ثم عنها. وأما القوية فإذا حصلت مشقة غير مألوفة جازت النيابة عنها على الوصف الذي سبق في كيفية النيابة، وأنه يرمي عنها بعد ما يرمي عن نفسه. والشخص الذي يكون نائباً في الرمي عن غيره يكون من الحجاج))( ).
المسألة الثالثة: أثر الزحام في موضع الرمي
الفرع الأول: أثر الزحام في بلوغ الحصى موضع الرمي
أجمع أهل العلم على أنه إذا رمى فأصاب مكان الرمي أجزأ على أية حال كان الرمي( ).
ومع اتفاقهم هذا إلا أنهم اختلفوا في تحديد مكان الرمي الذي إذا أصابه الرامي أجزأه. ولهم فيه مذهبان في الجملة:
الأول: حد مكان الرمي الواجب هو مجتمع الحصى. وقد نقل هذا الحد عن الإمام الشافعي، قال النووي:(( قال الشافعي رحمه الله: الجمرة: مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى. فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه. ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس بمجتمعه لم يجزه. والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي كان في زمان رسول الله ﷺ))( ). وبهذا قال جمهور الفقهاء من المالكية( ) والشافعية( ) والحنابلة( ).
الثاني: ليس هناك حد مقدر في الشرع لمكان الرمي فالواجب الرمي في المكان المعروف. وكذا يجزئ ما كان قريباً منها، ويرجع في تحديد القرب إلى العرف، وقد قدّره بعضهم بذراع وبعضهم بثلاثة أذرع وأطلق بعضهم ولم يقدر. وهذا هو قول الحنفية( ).
والذي يظهر أنه ليس هناك حد مقدر لمكان الرمي، فكل من قصد إلى مكان الرمي في رميه فإن رميه مجزئ. فإنه لم يثبت في تقدير موضع الرمي نص يستمسك به، وليس فيه عن الصحابة أثر يصار إليه.
ومما يؤكد السعة في مكان الرمي أنه لم يعمل بهذه الجمار أكثر من أن هناك علامات عند الجمرات تميزها وتدل عليها فكل ما ورد إنما هو لتعيين المكان لا لتحديده.
فقد أخذه بعض أهل العلم من قول أبي طالب في لاميته الشهيرة( ):
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها يؤمون قذفاً رأسها بالجنادل
أن الجمار كانت معلمة لا سيما الكبرى التي ذكرها في قصيدته( ).
وقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة أن عمرو بن لحي نصب صنماً على كل جمرة من الجمار( ). كما ذكروا علامة لجمرة العقبة بأنها عند الشجرة( ).
وقد ذكر الفاكهي في أخبار مكة ذرع ما بين الجمار( )، وفي ذلك بيان لمواضعها من غير تحديد لمكان الرمي عند كل جمرة.
فالذي يظهر أن في مكان الرمي سعة؛ لأنه لم يرد تحديد لقدر المكان الذي لا يجزئ الرمي إلا فيه، وما ذكره بعض الفقهاء من تحديدات إنما هو اجتهادات لتقدير مجتمع الحصى الذي ذكره الأكثرون. كما أنه غير خاف أن مجتمع الحصى ليس شيئاً منضبطاً من جهة قدر المساحة، بل إن ذلك يختلف باختلاف عدد الحجيج فإذا كثر الحجاج كثر الحصى فعظم مجتمعها، والله أعلم.
الفرع الثاني: أثر الزحام في توسيع موضع الرمي
لقد بقيت الجمار على ما كانت عليه في الزمن الأول حيث لم يغير فيها شيء يذكر، وأول ما وقفت عليه من التغيير ما ذكره الأزرقي من أن جمرة العقبة في زمن الخليفة العباسي المتوكل ((أزالها جهال الناس برميهم الحصى، وغفل عنها حتى أزيحت عن موضعها شيئاً يسيراً منها من فوقها فردها إلى موضعها الذي لم تزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه عليها ومسجدا متصلا بذلك الجدار لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها))( ).
وأما الأحواض التي على الجمار فإن أول حدوثها كان عام واحد وتسعين ومائتين وألف من الهجرة (1291هـ)، وذلك بشباك حديدي، كان الغرض منه دفع الزحمة عن جمرة العقبة، لا لتحديد مكان الرمي( ).
وقد اعترض على ذلك الشيخ علي باصبرين( )، فقال:(( إن المقصود من وضع ذاك الشباك رفع معظم زحمة الرامين، وهو حسن غير أنه بالتحويط بذلك الشباك على ما يعتبر فيه الرمي وما لا يعتبر يحصل إيهام العوام، فيتوهمون أن جميع ما أحاط بذلك مرمى، وليس الأمر كذلك، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح)). واقترح لمعالجة ذلك ((إحداث شباك ثان من حديد ، يكون بقدر منصوص المرمى المتفق عليه )) وكذلك أن يوضع (( دكة مرتفعة على المرمى المذكور بخصوصه ليميز من غيره مما أحاط بالشباك الحادث من الأرض التي لا يجزئ الرمي فيها، وإما بإزالة هذا الشباك الحادث الموهم))( ).
وبعد ذلك أزيل الشباك محل الاعتراض وبنيت أحواض حول الجمار الثلاث، وذلك في عام اثنين وتسعين و مئتين وألف من الهجرة (1292هـ)، ثم بقيت الحال على هذا حتى تجددت الحاجة لبحث الأمر وذلك لكثرة عدد الحجيج وشدة الزحام الحاصل عند رمي الجمرات.
وبناء على ذلك فقد تقدمت اللجنة العليا للحج باقتراح بناء حوض خارجي عن الحوض الحالي للجمار مع بقاء الحوض الأول ؛ ليجتمع فيه الحصى الذي لا يستوعبه الحوض الأول. وأحيل إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية التي أعدت دراسة كان من نتائجها النقاط التالية:
((1- أن الأصل في تحديد المشاعر التوقيف، ومن نظائر ذلك أوقات الصلوات الخمس.
2- مما يدل على بقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار المساحة استصحاب العكس.
3- لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي بناء على قاعدة سد الذرائع))( ).
ومن الجدير بالذكر أنه لم يصدر عن مجلس هيئة كبار العلماء رأي في ذلك فقد جاء في قرار رقم(111):(( ورأت بالاتفاق أن يؤجل النظر فيه، والبت في حكمه إلى دورة أخرى حتى يصل الرسم الهندسي لهذا العمل، والذي سبق أن طلبته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء؛ لتعرف الهيئة منه تفاصيل الأمر المطلوب. وهل يحقق هذا الاقتراح مصلحة من غير استلزام مفسدة أم لا؟))( ).
ولم أقف على قرار للهيئة بعد ذلك، ثم بعد تكرر الحوادث عند الجمرات وكثرة الوفيات والإصابات والتضرر بالزحام عندها جرى توسيع أحواض الجمرات عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة (1425هـ) فتحول الحوض الذي كان دائريا إلى ما يقرب من الشكل البيضاوي, مع المحافظة على أن تقع الجمار في مكان الرمي المعهود وهو مجتمع الحصى.
وأما الحكم في توسيع أحواض الرمي فالذي يظهر أنه يمكن تخريجه على ما ذكره فقهاء المذهب من أن من رمى إلى موضع الرمي فأصاب شيئاً قبله ثم وقعت في مكان الرمي أجزأه ذلك، وقد صرح بذلك فقهاء المذاهب الأربعة.
قال ابن نجيم من فقهاء الحنفية:(( ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل أو على محمل وثبتت عليه كان عليه إعادتها وإذا سقطت عن المحمل أو عن ظهر الرجل في سننها ذلك أجزأه))( ).
وقال القرافي من فقهاء المالكية:(( فلو وقعت دون الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه لأنه من فعله))( ).
قال النووي من فقهاء الشافعية:(( ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض خارج الجمرة أو بمحمل في الطريق أو عنق بعير أو ثوب إنسان ثم ارتدت فوقعت في المرمى أجزأته بلا خلاف))( ).
قال المرداوي من فقهاء الحنابلة:(( لو رماها فوقعت في موضع صلب في غير المرمى, ثم تدحرجت إلى المرمى, أو وقعت على ثوب إنسان, ثم طارت, فوقعت في المرمى أجزأته))( ).
وغاية ما في الرمي في التوسعة الجديدة للأحواض لا يخرج عما ذكره أولئك الفقهاء. فالذي يظهر أنه جائز مجزئ لاسيما مع هذه الأعداد الكثيرة والزحام الشديد، والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: أثر الزحام في الترتيب بين الجمرات
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) إلى وجوب الترتيب في رمي الجمار لفعله ﷺ ففي البخاري( ) من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال، فيستهل ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي ﷺ يفعله.
واستدلوا بقوله ﷺ فيما رواه مسلم( ) من طريق أبي الزبير عن جابر: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه.
وخالف في ذلك الحنفية( )، فقالوا لا يجب الترتيب بل يسن، وبهذا قال عطاء( ) والحسن( ). واستندوا إلى أن غاية ما ورد الفعل وهو لا يقوي على الوجوب.
والذي يظهر أنه إذا رمى منكساً أو أخل بالترتيب فرميه مجزئ، لا سيما إن وجد زحاماً سواء في الرمي أو في الطريق إليه أو ما أشبهه من موجبات التخفيف، وإلا فالأحوط أن يعيد.
المطلب الثالث: أثر الزحام في المبيت بمنى ليالي التشريق
أجمع أهل العلم على أن رسول الله ﷺ سن في حجته المبيت بمنى ليالي التشريق( ). وقد ذهب جماهير أهل العلم من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) وغيرهم إلى وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق. وذهب طائفة من أهل العلم كالحنفية( )إلى أن المبيت سنة وليس بواجب، وهو قول عند الشافعية، ورواية عن أحمد( ). واتفقوا أيضاً على أن النبي ﷺ أرخص للرعاة في البيتوتة عن منى( ).
ومهما يكن من أمر فإن جميع الواجبات الشرعية منوطة بالاستطاعة كما قال الله تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)( ). وقال النبيe فيما رواه الشيخان( ) من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابي هريرة:(( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )). فإذا ضاقت منى عن الحجاج أو لم يجدوا مكاناً يصلح للنزول فيها غير الطرقات أوالأرصفة أوالمرافق فإنه يسقط عنهم وجوب المبيت، ولهم أن ينزلوا حيث تيسر لهم.
المطلب الرابع: أثر الزحام في الهدي
الفرع الأول: أثر الزحام في مكان ذبح الهدي وتوزيعه
ذهب جماهير العلماء إلى أن مكان ذبح هدي التمتع والقران الحرم( )، فلا يجزئ ذبحه خارجه( )، وقد ذكروا في ذلك أدلة من الكتاب والسنة.
والذي يظهر أنه ليس للزحام أثر في الذبح داخل الحرم فإنه لا يتصور أن يضيق الحرم عن الذبح. لكن يمكن أن يظهر أثر الزحام في تفريق لحوم الهدي في الحرم حيث تفوق كمية اللحوم حاجة المساكين، فتتكدس كميات كبيرة من اللحوم لا ينتفع منها أحد، بل على العكس، فإنها تكون عبئاً على الجهات المسؤولة عن الحج. وذلك بما تسببه من أمراض وتلويث للبيئة من جراء تعفن هذه اللحوم المتكدسة وصعوبة التخلص منها سريعاً. ولذلك صدرت توصيات من عدة جهات بنقل ما فاض عن حاجة فقراء الحرم من اللحوم إلى خارجه، فجاء في بحث أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في إطار ذكر الحلول المقترحة لعلاج مشكلة اللحوم في منى:((التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم خارج الحرم، ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء بلد المال إذا أعطي فقراء بلد المال حاجتهم، ولم يوجد أحد يستحق، فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة))( ).
وهذا التوسع في نقل ما زاد عن حاجة فقراء الحرم من لحوم الهدي يمكن أن يستند إلى ما ذهب إليه فقهاء الحنفية( ) والمالكية( ) من جواز تفرقة لحم الهدي خارج الحرم. بل حتى على القول بعدم جواز تفريقه خارج الحرم كما هو مذهب الشافعية( ) والحنابلة( ).
فلا أظن عالماً بالشريعة وحكمها وأسرارها يقول بمنع نقل ما زاد من اللحوم على حاجة مساكين الحرم إلى خارجه لاسيما إذا كان مآلها الترك إلى أن تفسد ثم ترمى فإن ذلك من إضاعة المال الذي نهى عنه الله ورسوله.
وقد صدر قرار عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية برقم(77) وتاريخ 21/10/1400 هـ في الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف جاء فيه:
(( إن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع :
1 - هدي التمتع والقران ، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم، وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم من لحوم هداياهم إلى المدينة، ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله ضي الله عنهما قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا النبي ﷺ فقال:((كلوا وتزودوا )) فأكلنا وتزودنا( ).
2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد، أو فدية لإزالة أذى، أو ارتكاب محظور أو ترك واجب- فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه؛ لأنه كله لفقراء الحرم.
3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء، أو هدي الإحصار، أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم- فهذا يوزع حيث ذبح، ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر.
وإن المجلس يوصي جميع الحجاج بأن يختاروا الجيد الطيب لهداياهم وذبائحهم، وأن يعلموا أنه يجب عليهم توزيعها حسب ما شرع الله ورسوله، ولا يجوز لهم ذبحها وتركها دون أن ينتفع بها أحد من المسلمين))( ).
الفرع الثاني: أثر الزحام في التعيين عند الذبح
لا خلاف بين أهل العلم أنه لا بد من نية عند ذبح الهدي أونحره؛ لقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ).
وما رواه الشيخان( ) من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
والإشكال الذي ينتج عن الزحام فيما يتعلق بالهدي هو تحقق تعيين الهدي. فقد ذكر الفقهاء أن الهدي يتعيين إما بالشراء أو بالتعيين أو عند الذبح بالنية( ).
وبالنظر إلى واقع عمل أبرز الجهات التي تقوم على ذبح الهدي وهو البنك الإسلامي للتنمية يمكن تلخيص آلية العمل في أن البنك يقوم بالتعاقد مع نقاط بيع للهدي موزعه في كافة أنحاء المملكة العربية السعودية تقوم هذه النقاط ببيع سندات الهدي وتحصيل ثمنه من المهديين. وهذه السندات يحتوي كل منها على ثلاث قسائم: القسيمة رقم(3) تسلم إلى المهدي، والقسيمة رقم(2) تسلم إلى اللجنة الخاصة الموكلة بالذبح، والقسيمة رقم(1) للمحاسبة بطاقات. بعد ذلك تقوم الجهة الموكلة بالذبح بتنفيذ ذبح الهدي وفق ما بلغت به من نقاط البيع عن أعداد السندات المباعه. وهناك آلية للتبليغ عن السندات تكفل مراعاة زمن الذبح. فهل يعد هذا كافياً في تعيين الهدي؟
فالذي يظهر أن ذبح الوكيل كاف في التعيين، ولو لم يسم الموكِّل عند الذبح واكتف بالنية عمن وكله. وذلك أن في تعيين الموكل عند الذبح عسراً ومشقة ظاهرة، بل قد يكون متعذراً لاسيما مع هذه الأعداد الكبيرة من الهدايا التي تبلغ مئات الآلاف. قال الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا في توكيل البنك الإسلامي للتنمية في الهدي ذبحاً وتوزيعاً:(( فالدفع إليه مُسبَقًا وتوكيله بالذبح والتوزيع يُطمأن معه إلى أنه سيقوم بالمُهمّة الشرعيّة في وقتها على الوجه الأكمل، وذلك قياسًا على من دفع الزكاة الواجبة عليه إلى جابي بيت المال، أو إلى المؤسّسة المختصّة في الدولة لتوزعها في مصارِفها الشرعيّة؛ فإن الدافع تَبرَأ ذمّته بهذا الدّفع من الزكاة الواجبة عليه باتفاق المذاهب، ولا سيِّما إذا لوحِظ أن مُشكلة ذبائح الهدى في الحجِّ لا يُمكن تنظيمها والقضاء على مآسيها إلا بمثل هذا الترتيب))( ).
وقد صدر عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قرار رقم(121) بتأريخ 24/10/1404هـ بعد إطلاعهم على محضر لجنة الاستفادة من لحوم الهدي والأضاحي الذي كان من مرفقاته نظام الوكالات، جاء فيه:(( فإن المجلس يقرر أنه لا مانع شرعاً من توكيل الحاج من يرتضيه وكيلاً عنه في شراء فديته أوهديه أو أضحيته وذبحها وتوزيعها سواء كان الوكيل واحداً أو جماعة)).
وقد نص بعض الفقهاء المعاصرين على أن ذلك من قبيل الضرورة ففي جواب سؤال عن إعطاء الهدي الشركات مع كونهم لا يأخذون أسماء أصحاب الهدي أجاب شيخنا محمد العثيمين رحمه الله تعالى:(( إننا لم نحذر من إعطاء الهدي؛ لأن الهدي في الحقيقة ضرورة، لأن الإنسان بين أمرين: إما أن يعطي هذه الشركات وإما أن يذبحه ويدعه في الأرض لا ينتفع به لا هو ولا غيره))( ).
وقال الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا: (( إذا كان القصد من تقديم الهدي في الحجّ ليس مجرَّد سقي الأرض بدماء الذبائح وترك الآلاف منها مُهدَرة، بل القصد الشرعيّ هو الأكل وإطعام الجائع القانِع والمُعْتَرّ بنصِّ القرآن الكريم، فهو عبادة ماليّة ذات مقصد دينيّ اجتماعيّ ومَبَرّة. وإذا كان هذا المقصد الشّرعيّ لم يعد من الممكن أن يتحقّق بسبب الكثرة الهائلة في عدد الحجاج من جميع أقطار العالم إلا بمثل هذا التنظيم الذي قام به البنك الإسلامي للتنمية، فإن الواجب عندئذٍ في الذبح الفعلي من الحاجِّ حيث يؤدِّي إلى تلك المشكلات من الإهدار والتقذير، ينتقل شرعًا إلى أداء قيمة الهدي للجِهة الرسميّة أو شبه الرسميّة التي تُهيَّأ للقيام بالذّبح والتوزيع بتوكيل من الحاجِّ الدافع، وهي تُحقّق هذه المهمة بصورة لا يستطيعها الحاجُّ نفسُه، إذ توزّع على فقراء محليّين وإلى محتاجين في جميع أقطار العالم الإسلامي فوريًّا بطائرات مبردة، فبمجرد أداء قيمة الهدي إلى هذه الجهة، وتوكيلها بالتنفيذ، يتحقّق به الواجب الشرعي، إذا تأمّلنا ببصيرة شرعية واعية قوله تعالى في أمر ذبائح الهدي ﴿لَنْ يَنَال اللهَ لُحومُها ولا دماؤُها ولكنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكم﴾( ). ولا شكّ أن التقوى تكون أكمل كلما كان تحقيق الغاية الشرعيّة من الأمر المكلَّف به أكمل وأشمل، ولا نظنُّ أحدًا له عقل وعلم يقول: إن ذبح الهدي في الحج وطرحه في الأرض بين الخيام هدرًا، دون قدرة لصاحبه على توزيعه للقانع والمُعْتَرِّ المحتاج كما أمر القرآن، مما يؤدي إلى إنتانه وفساده وإفساد البيئة به، كما هو الواقع من الكثيرين))( ).