مواضيع تهم الشباب
التصنيفات
- فقه >> الأسرة >> المجتمع المسلم
- فقه >> الأسرة >> شؤون الشباب
المصادر
الوصف المفصل
- مواضيع
تهم الشباب
- مقدمة
- من أوصاف المؤمنين
- أسباب السعادة
- أوصاف المؤمنين الجامعة
- فوائد الإيمان وثمراته
- شكر النعم ومحاسبة النفس
- وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
- من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
- مفاتيح الخير والشر
- شهادة الحق
- من مزايا الدين الإسلامي
- نصيحة لطلبة العلم
- عمل اليوم والليلة
- أهمية الوقت في الإسلام
- حفظ الأوقات والاستفادة منها
- أفضل ما يُشغَل به الوقت
- أهمية
القراءة وفوائدها
- نِعْمَ النَّدِيمُ إِذَا خَلَوْتَ كِتَابُ
- إِنْ خَانَكَ النُّدَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ
- فَأَبِحْهُ سِرَّكَ قَدْ أَمِنْتَ لِسَانَهُ
- وَإِذَا هَفَوْتَ أَمِنْتَ غَرْبَ لِسَانِهِ
- يَا مَلِكًا مَا تَزَالُ رَاحَتُهُ
- هَبْ لِمُقِرٍّ بِالذَّنْبِ مُعْتَرِفٍ
- أَعَرْتَهُ دَفْتَرًا تَضِنُّ بِهِ
- إِعْظَامُكَ الْعِلْمَ إِذْ فُجِعْتَ بِهِ
- أَيُّهَا الْمُسْتَعِيرُ مِنِّي كِتَابًا
- إِنْ رَدَدْتَ الْكِتَابَ كَانَ صَوَابًا
- أَنْتَ وَاللَّهِ إِنْ رَدَدْتَ كِتَابًا
- من أسباب تحصيل العلم
- المكتبة المختارة للشباب المسلم
- ظاهرة قضاء الإجازة خارج البلاد
- دور المسلم في الحياة[39]
- الأمر بالاجتماع والائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف
- مقتضى العبودية لله
- حكم السفر إلى بلاد الكفرة
- (التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق)
- حال الصحابة مع رسول الله ﷺ
- مشروعية الصلاة على النبي ﷺ بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر
- موقف الإسلام من القلق
- علاج الإسلام لأتباعه
- فتاوى إسلامية[79]
- (من فضائل ذِكْر الله تعالى)
- مشروعية رفْع اليدين في الدعاء
- نصيحة للشباب[82]
- حكم الأناشيد الإسلامية
- الالتزام بالمنهج الإلهي
- حكم ضرب الطبل، وقول: صدق الله العظيم، والتعليق على القراءة
- ما ينجي من عذاب الله تعالى
- آداب الأكل والشرب[95]
- آداب اللباس[115]
- حكم إسبال الثياب للرجال
- التحذير من السِّحْر والشعوذة
- الزواج وفوائده وآثاره النافعة[131]
- التحذير من المغالاة في المهور والإسراف في حفلات الزواج
- من أضرار الزِّنا
- أهم الطرق لمكافحة الزنا
مواضيع تهم الشباب
جمع وتحقيق الفقير إلى الله تعالى
عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله
غفَر الله له ولوالدَيْه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وأصحابه وأتباعه المتمسِّكين بسنته، المهتدين بهديه إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فقد رأيت أن أفردَ من كتابي «الثمار اليانعة من الكلمات الجامعة» مواضيع تهم الشباب نحو ربِّهم ودينهم، ودنياهم وآخرتهم ومجتمعهم، مواضيع منوعة، ومختصرة وجامعة، اشتملتْ على أوصاف المؤمنين، وأسبابِِِِِ السعادة، والحث على شكر النعم، ومحاسبة النفس في القول والعمل، وعلى التنبيه على الأعمال المشروعة للمسلم في اليوم والليلة بإيجاز، وعلى ذكْر شيء من محاسن الدين الإسلامي، كما اشتملتْ على ذِكر أهمية الوقت في حياة المسلم، وحفظ الأوقات والاستفادة منها، وأهم ما يُشغل به الوقت، وعلى ذكر أهمية القراءة وفوائدها وقواعد المذاكرة السلمية، وعلى بيان دور المسلم في الحياة، ومقتضى العبودية لله، وحُكم السفر إلى بلاد الكفرة، والتحذير منه وبيان خطره، وعلى ذِكْر شيء من أخلاق الرسول ﷺ وموقف الإسلام مِن القلق، والحث على الالتزام بالمنهج الإلهي، وذِكْر شيء من المنجيات من عذاب الله، وآداب الأكل والشرب واللباس، إلى غير ذلك ممَّا اشتملتْ عليه من أحكام، وفتاوى، وفوائد، وهي مستفادة من كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - وكلام العلماء المحقِّقين، واسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن ينفع بها مَن كتبها أو قرأها، أو طبعها أو سمعها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومن أسباب الفوز لديه بجنات النعيم، وهو حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المؤلف
في 13/ 5/ 1407 هـ.
من أوصاف المؤمنين
قال الله - تعالى -: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 1-5].
يقول - تعالى -: هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنَّه منزَّل من عند الله، وأنه الحق والصدق، ثم وصفه بأنه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: هادٍ لهم ومرشدٌ ومبيِّن الحلال من الحرام، والرشد من الغي، والحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخصتِ الهداية للمتقين، وهم المؤمنون؛ لأنهم هم المنتفعون به، العاملون بما فيه من الأوامر والنواهي والفرائض والحدود، وفعل الواجبات، وترك المحرمات؛ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44] ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].
والتقوى هي: طاعةُ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والمتقون هم الذين يعملون الواجبات، ويمتثلون المأمورات؛ رغبةً في الثواب، ويتركون المحرمات، ويتجنبون المنهيات؛ خوفًا من العقاب، ثم وَصَف الله هؤلاء المؤمنين بأوصاف خمسة:
1- أولها: أنهم يؤمنون بالغيب؛ أي: يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، يصدقون بذلك بأقوالهم وأفعالهم واعتقادهم؛ فالإيمان الشرعيُّ المتفق عليه لا بدَّ وأن يكون قولاً باللسان، واعتقادًا بالقلب، وعملاً بالجوارح، فهؤلاء المؤمنون يُصدِّقون بالله وأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وأنَّه - سبحانه - مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، وأنَّه - تعالى - مع عباده أينما كانوا، يرى مكانهم، ويسمع كلامهم، ويعلم إسرارهم وإعلانهم، ويصدقون بملائكة الله العباد المكرمون؛ ﴿يُسَبِّحُونَ الليْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال - تعالى -: ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، ويُصدِّقون بوجود الجن، حيث أخبر الله عنهم في كتابه، ويُصدِّقون بكلِّ كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله.
2- الثاني من أوصاف المؤمنين المتقين في هذه الآيات: أنهم يقيمون الصلاة، وإقامة الصلاة إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال على الله فيها، والمحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها، فهم يقيمونها ويحافظون عليها؛ لِمَا يعلمون ما في إقامتها من الثواب، وما في تركها والتهاون بها من العقاب؛ فقد قال الله - تعالى - في حقِّ المحافظين عليها: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [المعارج: 34 - 35]، وقال في حقِّ المضيعين لها بتأخيرها عن وقتِها: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4 - 5].
والصلاة صِلةٌ بالله - عز وجل - وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده ودعائه والتوكل عليه، فينال المصلِّي بهذه الصلاة تكفيرَ السيئات، وزيادةَ الحسنات، ورفعَ الدرجات، وإجابةَ الدعوات، وقضاءَ الحاجات، فهي راحة المؤمنين، ولذَّةُ نفوسهم، وقرَّةُ عيونهم؛ كما قال سيدُهم وإمامُهم محمدٌ ﷺ: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))[1] ، وقال: «جعلت قرة عيني بالصلاة»[2].
3- الثالث ممَّا وصف الله به المؤمنين في هذه الآيات: أنهم يُنفقون ممَّا رزقهم الله النفقاتِ الواجبةَ والمستحبة، فيُخرِجون زكاةَ أموالهم، وينفقون على أولادهم ووالديهم وأزواجهم وأقربائهم، ثم على سائر الفقراء والمساكين، بقدر يُسْرهم واستطاعتهم؛ لِمَا يرجون من الثواب، ويعلمون أن الأموالَ عوارٍ وودائعُ، سوف يفارقونها؛ لذلك يبادرون في إنفاقها في حياتهم؛ لتُفيدَهم بعدَ وفاتهم، وأتى بـ"مِن" الدالة على التبعيض؛ لأنَّه لم يأمرهم إلاَّ بإنفاق جزء يسير لا يضرُّهم، وفي قوله: «رزقناهم» تنبيه إلى أنَّ هذه الأموال لم يكتسبوها بحَوْلِهم وقوَّتِهم، وإنما هي رزقُ الله ساقه إليهم، ويسَّره لهم؛ ليختبرهم به: هل يشكرون فيزيدهم، أو يكفرون فيعذِّبهم؟
4- مِن أوصاف هؤلاء المؤمنين: أنَّهم يُصدِّقون بما جاء به محمدٌ ﷺ من عند الله، وما جاء به مَن قبله مِن المرسلين، لا يفرِّقون بينهم ولا يكذِّبونهم، ولا يجحدون ما جاؤوا به من ربِّهم، وقد أنزل الله من السماء مائةَ صحيفة وأربعة كتب، أَنْزل منها خمسين صحيفة على شيث بن آدم، وعلى إدريس النبي ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرة، وعلى موسى عشرة قبلَ التوراة، وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، والقرآن على محمد ﷺ وهو أفضلُها وأكملها وأعلاها، وقد اشتمل على كلِّ ما يحتاج إليه البشرُ في دينهم ودنياهم؛ كما قال - تعالى -: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، فهم يؤمنون به، ويتدبَّرون معانيَه، ويعملون به؛ ليكونَ حُجَّةً لهم عند ربهم، وشفيعًا لهم يوم القيامة.
5- والخامس من أوصاف المؤمنين: أنَّهم يؤمنون بالآخرة إيمانًا يقينيًّا، لا شكَّ فيه ولا تردُّد، فيعملون عملَ مَن يرجو الثواب، ويخاف العقاب، والآخرة اسمٌ لما يكون بعد الموت.
وأولُها القبر، فيُصدِّقون بنعيمه وعذابه، وأنَّه روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرةٌ من حُفَرِ النار، ويؤمنون بالبعث والجزاء والحساب، والثواب والعقاب، والحوض المورود للنبي ﷺ ماؤه أشدُّ بياضًا من اللَّبَن، وأحلى من العسل، وألْيَن من الزُّبد، وأبردُ من الثلج، وأطيبُ رائحةً من المسك، آنيتُه عدد نجوم السَّماء، مَن شَرِب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، تَرِد عليه أمَّةُ محمد ﷺ ويُطرَد عنه مَن غيَّر سُنته وبدَّلها، أو ردَّها أو خالفها، كما يُطرد البعير الهامِل عن حِياض القوم، كما يُصدِّق المؤمنون بصُحُفِ الأعمال التي تكون باليمين والشمائل، ويصدقون بالميزان؛ ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنين: 102، 103]، كما يصدِّقون بالصراط، وهو الجسر الموضوع على متن جهنم، يمرُّ الناس عليه على قدْر أعمالهم؛ فناجٍ مسلَّم، ومكردسٌ في النار.
ويُصدِّقون أنَّ هناك نارًا تلظَّى، لا يصلاها إلاَّ الأشقى، الذي كذَّب وتولَّى، فلا يموت فيها ولا يحيا، كلما نضجتْ جلودُهم بُدِّلُوا جلودًا غيرها؛ ليذوقوا العذاب، والتي جُمع فيها أنواعُ العذاب مِن الزقُّوم والحميم والإحراق، والجوع والعطش، والضيق والحبس؛ ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: 36] ولا لحظةً واحدة، ثم يقولون: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 107، 108]، ويقولون: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ ليمتْنا، فنستريحَ، فيقول: ﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [الزخرف: 77-87].
وأنَّ هناك جَنَّةً عرضُها السموات والأرض، أُعدتْ للمتقين، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وهم فيها خالدون؛ ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الدخان: 55-57].
جنَّة عالية، قطوفها دانية، ويقال لهم: كُلُوا مِن هذه الثمار، واشربوا من هذه الأنهار، هنيئًا بسبب أعمالكم الطيبة في الدنيا؛ ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: 15] وهم فيها خالدون، جزاءً بما كانوا يعملون، فهل يستوي هؤلاء، ومَن هو خالد في النار؛ ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: 15]؟! ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20].
إذا دخلوها نُودُوا: ((إنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تخلدوا فلا تخرجوا أبدًا، وإن لكم أن تحيَوْا فلا تموتوا أبدًا))؛ رواه مسلم.
لمثل هذا فليعملِ العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ثم أخبر الله - تعالى - أنَّ المتصفين بالإيمان بالغيب، وإقامِ الصلاة، والإنفاقِ ممَّا رزقهم الله، والإيمانِ بما أُنزل إلى الرسول ومَن قبله مِن الرسل، والإيمان والإيقان بالدار الآخرة، مع الاستعداد لها بالأعمال الصالحات، وترك المحرمات، هؤلاء على هدًى من ربهم؛ أي: على نور وبيان وبصيرة من الله - تعالى - وهم الفائزون والمفلحون في الدنيا والآخرة بحصول الثواب، والسلامة من العقاب، والفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أسباب السعادة
قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]، وقال الله - تعالى -: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[3]، وقال - تعالى -: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقال - تعالى -: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3] وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 56]، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
وعن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يخطب في حجَّة الوداع، فقال: «اتَّقوا ربكم، وصَلُّوا خَمسَكم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم - تدخلوا جنَّةَ ربكم»؛ رواه مسلم، وقال ﷺ: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويُدخَل الجنة، فلتأتِه منيتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يُؤتَى إليه»؛ رواه مسلم، وقال ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إن أصابتْه سراءُ شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضراءُ صَبَر، فكان خيرًا له»[4]، وقال ﷺ: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام - تدخلوا الجنة بسلام»[5]، وقال: «الكيِّس مَن دان نفسَه، وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني»[6]، وقال: «قد أفلح مَن أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»[7]، وقال: «ثلاث منجيات: تقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحقِّ في الغضب والرِّضا، والقصْد في الفقر والغِنى»[8].
فيتلخَّص ممَّا سبق مِن أسباب السعادة ما يأتي:
1- الإيمانُ الصادق بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيرِه وشرِّه.
2- العملُ الصالح الخالص لله، الموافق للسُّنة، وفي مقدمة ذلك القيامُ بأركان الإسلام الخمسة.
3- التواصي بالحق الذي شَرَع الله ورسوله وأمر به.
4- التواصي بالصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصيه، والصبر على أقداره المؤلِمة.
5- تقوى الله - تعالى - وطاعته، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
6- التوبةُ النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات.
7- طاعةُ ولي الأمر في غير معصية الله.
8- معاملةُ الناس بما تحبُّ أن يعاملوك به.
9- الشكرُ عند النِّعم، والصبر عند المصائب.
10- إفشاءُ السلام، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والصلاة في الليل والناس نيام.
11- القناعةُ برزق الله، وهي كَنز لا يفنى.
12- الاقتصادُ في النفقات.
13- الاستمرارُ على ذلك والثبات، والاستقامة عليه حتى الموت؛ ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13 - 14].
14- الجهادُ في سبيل الله بالأموال والأنفس، ويشمل جهادَ النفس، وجهادَ الشيطان، وجهادَ الكفار، وجهادَ المنافقين.
15- الهجرةُ من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهجْرُ ما نهى عنه الله ورسوله.
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، ويسِّر لنا أسبابها يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا قريب يا مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أوصاف المؤمنين الجامعة
لَمَّا كان الإيمان أصلَ كل خيرٍ وفلاح في الدنيا والآخرة، وبفقده يُفقد كلُّ خير ديني ودنيوي وأخروي؛ أكثر الله من ذِكرِه في القرآن، أمرًا به، ونهيًا عن ضده، وترغيبًا فيه، وبيانًا لأوصاف أهله وما لهم من الجزاء الدُّنيوي والأخروي.
وَصَف الله المؤمنين في كتابه بتصديقهم، وإذعانِهم لجميع عقائد الدِّين، وبحبِّ ما يحبه الله ويرضاه، وبالعمل به، والتباعد والحذر من كل ما يبغضه الله، وبإدامةِ الإنابة والرجوع إلى الله في كلِّ حال، وكان لإيمانهم أطيبُ الثمرات في الأعمال والأخلاق.
فوصَفَ المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيرِه وشرِّه، وأنهم يؤمنون بكل ما جاء به الرسل كلُّهم، ويؤمنون بالغيب، ووصفهم بالسمع والطاعة، والانقياد ظاهرًا وباطنًا لأوامر الله ورسوله، ووصفهم بأنَّهم: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2 - 4]، ووصفهم بأنعمِ وأطيبِ البشرى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: 34، 35].
ووصَفَهم بأنَّ جلودهم تقشعر، وعيونَهم تَفيضُ من الدمع، وقلوبَهم تَلين وتطمئنُّ لآيات الله وذِكْره، وبأنهم يخشَوْن ربهم بالغيب والشهادة، وأنهم يُؤتُون ما آتَوْا وقلوبُهم وجلة أنَّهم إلى ربهم راجعون، ووصفَهم بالخشوع في أحوالهم عمومًا، وفي الصلاة خصوصًا، وأنَّهم عن اللغو معرضون، وللزَّكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلاَّ على أزواجهم أو ما ملكتْ أيمانُهم، وأنهم بشهاداتهم قائمون، ولأماناتهم وعهدهم راعون.
ووصفَهم بأنهم يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، وأنهم يبيتون لربِّهم سجدًا وقيامًا، وأنهم يقولون بدعائهم وأعمالهم وأخلاقهم: ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: 65]، وأنهم مقتصدون وسطٌ في كلِّ شؤونهم، وإذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قوامًا، وأنَّهم لا يدْعون مع الله إلهًا آخر، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا يزنون، وأنهم لا يشهدون الزُّور، وإذا مروا باللغو مرُّوا كرامًا، وأنَّهم إذا ذُكِّروا بآيات ربِّهم لم يخرُّوا عليها صمًّا وعميانًا؛ بل خروا سجدًا وبكيًّا، ويخرُّون للأذقان يبكون، وتَزيدهم رؤيةُ آيات الله وسماعها خشوعًا وإخباتًا، وأنَّهم يطلبون السمو والعلو دائمًا، فلا يرضَوْن إلاَّ أن يكونوا أئمَّة الهدى والإيمان والتقوى ومكارم الأخلاق، وأنهم يقدِّرون الواجب عليهم ومسؤوليتهم أمام الله عمَّا استرعاهم من الأولاد والزوجات وغيرهم، فيحسنون القيام عليهم في تأديبهم وتربيتهم؛ ليكونوا قُرَّة عين لهم.
ووصفَهم باليقين الكامل الذي لا ريبَ فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله، ووَصَفَهم بالإخلاص لربِّهم في كلِّ ما يأتون ويذرون.
ووصَفَهم بمحبَّة المؤمنين، والدعاء للسابقين واللاَّحقين منهم، وأنَّهم مجتهدون في إزالة الغِلِّ من قلوبهم على المؤمنين، وبأنَّهم يتولَّوْن الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرَّؤون من موالاة جميع أعداء الدِّين، وبأنَّهم يأمرُون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم، فجمع الله لهم بين العقائد الحقَّة، واليقين الكامل، والإنابة التامة، التي آثارُها الانقيادُ لفعل المأمورات، وتَرْك المنهيات، والوقوف على الحدود الشرعيات.
فوائد الإيمان وثمراته
فهذه الأوصاف الجليلة هي وصفُ المؤمن المطلق الذي سَلِم من أسباب العقاب، ويستحقُّ جميلَ الثواب، ونال كلَّ خير رُتِّب على الإيمان، فإنَّ الله رتَّب على الإيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقلُّ عن مائة فائدة، كلُّ واحدة منها خيرٌ من الدنيا وما فيها، رتَّب على الإيمان نيلَ رضاه الذي هو أكبرُ من كل شيء، ورتَّب عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، والسلامةَ من عذاب القبر ومن أهوال القيامة، والبشرى الكاملة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثباتَ في الدنيا على الإيمان والطاعات، وعند الموت وفي القبر، ورتَّب عليه الحياةَ الطيِّبة في الدنيا والرزقَ الكريم، وتيسيرَه لليسرى، وتجنيبه للعسرى، وطمأنينة القلوب، وراحة النفوس، والقناعة التامة، وصلاح الأحوال، وصلاح الذرية، والصبر عند المحن والمصائب، وحمل الله عنهم الأثقال، ومدافعةَ الله عنهم جميعَ الشرور، والنَّصرَ على الأعداء، ورفْعَ المؤاخذة عند النسيان والخطأ، وإنَّ الله قد وضع عنهم الآصارَ والأغلال التي تكبَّل بها المقلدون الغافلون الأشقياء، المعذبون في الدنيا والآخرة بكفرهم وشِرْكهم، فالإيمان أكبرُ وسيلة للقُرْب من الله والقرب من رحمته، ونيل ثوابه، وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب، وإزالة الشدائد وتخفيفها[9].
شكر النعم ومحاسبة النفس
يا أخي المسلم، أذكِّرك اللهَ ربَّك، الذي خلقك ورزقك، وأحياك وعافاك، والذي أطعمك وسقاك، وكساك وآواك، والذي متَّعك بسمعك وبصرك، وعقلك وقواك، والذي أمَّنك في وطنك على نفسك وأهلك ومالك، والذي علَّمك ما لم تكن تعلم، وفضَّلك على كثير ممن خلق تفضيلاً، والذي سخَّر لك ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نِعَمَه ظاهرة وباطنة.
فاحمدِ الله يا أخي المسلم، واشكره على نِعمه، بالاستعانة بها على طاعته؛ لكي تستقرَّ ويزيدك منها؛ قال - تعالى -: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
يا أخي المسلم، انتهزْ فرصة شبابك وصحتك وحياتك قبل زوالها؛ فإن الحياة محدودة، والأنفاس معدودة، والأعمال والأقوال محسوبةٌ ومكتوبة ومحفوظة، وسوف تُسأل عنها، وتجازَى عليها أتمَّ الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وسوف تُسأل عن سمعك وبصرك وما انطوى عليه ضميرُك؛ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: 36]، كما سوف تُسأل عن عمرك فيمَ أفنيتَه؟ وعن شبابك فيمَ أبليتَه؟ وعن مالك من أين اكتسبتَه وفيمَ أنفقتَه؟ وعن عِلمك ماذا عملتَ فيه؟ فأعدَّ للسؤال جوابًا صحيحًا.
يا أخي المسلم، أخلصْ لله نيَّتَكَ وأقوالك وأفعالك، وحافظْ على الصلوات في أوقاتها، وأخرِجْ زكاةَ مالك إلى مستحقيها، قبلَ أن تكون ثُعبانًا يُطوِّقك في قبرك ويوم حشرك، أخرج زكاة مالك قبلَ أن يُحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينُك وجنبُك وظهرُك، حافظ على صيام رمضان بالامتناع عن المفطِّرات، وحفظ الجوارح عن المحرمات، من الكلام المحرَّم، والنظر المحرم، والسماع المحرم، والأكل والشرب المحرم؛ فإنَّ هذه الأعمال تمنع الأجرَ والثواب، وتُذهب الحسناتِ، وتوجب العقابَ الأليم والعذاب لِمَن لم يتبْ منها، ومن تاب تابَ الله عليه وغفر له ورحمه، وهو التواب الرحيم.
حجَّ البيت الحرام، وليكنْ حجُّك مبرورًا؛ لتُجزى به الجنة، بأن تحجَّ كما شَرَع الله، وكما حجَّ رسولُ الله ﷺ وذلك بالمحافظة على الواجباتِ والمستحبَّات، وتَرْك المحرمات والمكروهات، وعليك ببرِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والفقراء والأيتام، واذكرِ الله كثيرًا بلسانك وقلبك، قائمًا وقاعدًا على جنبك، يذكرْك برحمته ومغفرته، ويُثنِ عليك عندَ ملائكته، واستغفرْه يَغفرْ لك.
قال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وقال ﷺ: ((قال الله - تعالى -: يا ابنَ آدم، لو بلغتْ ذنوبُك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك))، فهو - تعالى - يغفر للتائبين والمستغفرين ذنوبَهم جميعًا؛ كما قال - تعالى -: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، فتبْ إلى الله يتبْ عليك؛ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].
واحفظ الله يحفظك، واتقِ الله حيثما كنت، وادعُ الله يستجبْ لك، واسألْه يُعطِك، وكن مع الله يكن معك؛ ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وأحسن عبادةَ الله كأنك تراه، فإنه - تعالى - يراك ويسمعك، ويعلم سرَّك وعلانيتك، وأحسن إلى عباد الله بما تستطيع يحسن إليك ويرحمْك؛ ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].
يا أخي المسلم، انتبه لنفسك وحاسِبْها قبل الحساب، وقبل هجوم الموت وانقطاع اللذات ودوام الحسرات؛ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
اللهم تبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا خطايانا يوم الدين، ولا تُخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ مَن أتى الله بقلب سليم، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، آمين يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا قريب يا مجيب، يا سميع الدعاء، يا واسع الفضل والعطاء، و صلَّى الله على محمد.
وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فقد يبتلي الله عبادَه بالفقر والحاجة، كما حصل لأهل هذه البلاد في أول القرن الماضي؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 155، 156].
كما يبتليهم بالنِّعم وسَعة الرزق - كما هو واقعنا اليوم - ليختبر إيمانَهم وشكرهم؛ قال - تعالى -: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، والعاقبةُ الحميدة في كل ذلك للمتقين، الذين تكون أعمالُهم وَفْقَ ما شرع الله، كالصبر والاحتساب في حال الفقر، وشكرِ الله على النِّعم وصرف المال مصارفه في حال الغنى، ومن الاقتصاد صرفُ المال مصارفه في المأكل والمشرب، من غير تقتير على النفس والأهل، ولا إسراف في تضييع المال من غير حاجة، وقد نهى الله عن ذلك كله؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، وقال - تعالى - في النهي عن إضاعة المال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5].
نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية عن إعطاء الأموال للسفهاء؛ لأنهم يصرفونها في غير مصارفها، فدلَّ ذلك على أن صرْفها في غير مصارفها أمرٌ منهي عنه؛ وقال - تعالى -: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، وقال: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26، 27].
والإسراف الزيادةُ في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتبذير في غير وجهها، وقد ابتُلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب، خاصة في الولائم وحفلات الأعراس، فلا يكتفون بقدر الحاجة، وكثيرٌ منهم إذا انتهى الناس من الأكل، ألقوا باقي الطعام في الزبالة والطرق الممتهنة.
وهذا من كفر النعمة، وسبب في تحوُّلها وزوالها، فالعاقل من يزن الأمور بميزان الحاجة، وإذا فضل شيءٌ عن الحاجة، بحث عمَّن هو في حاجته، وإذا تعذر ذلك وضَعَه في مكان بعيد عن الامتهان؛ لتأكله الدواب ومن شاء الله، ويسلم من الامتهان، والواجب على كل مسلم أن يحرص على تجنُّب ما نهى الله عنه، وأن يكون حكيمًا في تصرفاته، مبتغيًا في ذلك وجهَ الله، شاكرًا لنعمه، حذِرًا من التهاون بها وصرفها في غير مصارفها؛ قال - تعالى -: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال - عز وجل -: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]، وأخبر - سبحانه - أن الشكر يكون بالعمل لا بمجرد القول؛ فقال - سبحانه -: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، فالشكرُ لله - سبحانه - يكون بالقلب واللسان والعمل، فمن شكر الله قولاً وعملاً، زاده من فضله، وأحسَنَ له العاقبة، ومن كفر بنِعم الله ولم يصرفها في مصارفها، فهو على خطر عظيم، قد توعَّده الله بالعذاب الشديد، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقنا وإياهم لشكر نعمه، والاستعانة بها على طاعته، ونفع عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد.
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
قال ابن القيم - رحمه الله -: ما حرَّم الله على عباده شيئًا إلا عوَّضهم خيرًا منه، كما حرَّم الاستقسامَ بالأزلام وعوضهم عنه الاستخارة، وحرَّم الربا وعوضهم عنه التجارةَ الرابحة، وحرَّم القمار وأعاضهم عنه المسابقةَ النافعة، وحرَّم عليهم الحرير وعوضهم عنه أنواعَ الملابس الفاخرة، وحرم الزنا واللواط وأعاضهم عنها بالنكاح والتسرِّي بالنساء الحسان، وحرم آلاتِ اللهو وعوضهم عنها سماعَ القرآن، وحرم عليهم شربَ الخمر وأعاضهم عنه الأشربةَ اللذيذة المتنوعة، وحرم عليها الخبائث من المطاعم وغيرها وعوضهم عنها الطيبات.
فمن تلمَّح هذا وتأمَّله، هان عليك ترك الهوى المُرْدي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرَف حكمة الله ورحمته في الأمر والنهي (اهـ، من "روضة المحبين"، لابن القيم)[10].
وهذه القاعدة وردتْ في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ، منها: ما ذَكَره الله عن المهاجرين الأوَّلين الذين هَجَروا أوطانَهم وأموالهم وأحبابَهم لله، فعوَّضهم الله الرِّزقَ الواسع في الدنيا، والعزَّ والتمكين، وإبراهيمُ الخليل - عليه السلام - لما اعتزل قومَه وأباه، وما يدْعون من دون الله، وهب له إسحاق ويعقوب والذرية الصالحين، ويوسفُ - عليه السلام - لما امتنع خوفًا من الله عن الوقوع مع امرأة العزيز، مع ما كانت تمنِّيه به من الحظوة، وقوة النفوذ في قصر العزيز ورياسته، وصبَر على السجن وأحبَّه وطلبه؛ ليبعد عن دائرة الفساد والفتنة، عوَّضه الله أنْ مكَّن له في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء، ويستمتع بما يشاء مما أحلَّ الله له من الأموال والنساء والسلطان، وأهلُ الكهف لما اعتزلوا قومَهم وما يعبدون من دون الله، نَشَرَ لهم من رحمته، وهيَّأ لهم أسبابَ المرافق والراحة، وجعلهم سببًا لهداية الضالين، ومريم ابنة عمران لما أحصنتْ فرجها، أكرمها الله ونفخ فيه من روحه، وجعلها وابنها آية للعالمين.
وهكذا مَن ترك ما تهواه نفسُه من الشهوات لله - تعالى - عوَّضه الله من محبَّتِه وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذاتِ الدنيا كلها (اهـ، من "القواعد الحسان لتفسير القرآن"، للشيخ عبدالرحمن السعدي)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
مفاتيح الخير والشر
مفاتيح الخير
مفتاح الصلاة: الطُّهور.
ومفتاح الحج: الإحرام.
ومفتاح الجنة: التوحيد.
ومفتاح البِر: الصِّدق.
ومفتاح العِلم: حُسن السؤال، وحسن الإصغاء.
ومفتاح النصر والظفر: الصبر.
ومفتاح الفلاح: التقوى.
ومفتاح المزيد: الشكر.
ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزهد في الدنيا.
ومفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة.
ومفتاح الإجابة: الدعاء.
ومفتاح الإيمان: التفكُّر في آيات الله ومخلوقاته.
ومفتاح حياة القلب: تدبُّر القرآن، والتضرُّع بالأسحار، وترْك الذنوب.
ومفتاح الرزق: السعيُ مع الاستغفار والتقوى.
ومفتاح العز: طاعة الله ورسوله.
ومفتاح الاستعداد للآخرة: قصر الأمل.
ومفتاح كل خير: الرغبة في الله والدار الآخرة.
ومفتاح الرحمة: الإحسان في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده.
وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم، لا يوفَّق لمعرفته ومراعاته إلا مَن عظُم حظُّه وتوفيقه.
مفاتيح الشر
مفتاح كل إثم: الخمر؛ فهي أم الخبائث.
ومفتاح الزِّنا: الغناء وسماعه.
ومفتاح الخيبة والحرمان: الكسل وحب الراحة.
ومفتاح النفاق: الكذب.
ومفتاح البخل وقطيعة الرحم: الشح والحرص.
ومفتاح كل بدعة وضلالة: الإعراض عما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام.
ومفتاح كل شر: حبُّ الدنيا وطول الأمل.
ومفتاح الكفر: المعاصي كلها.
فطوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، والويل لمن كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير[11].
شهادة الحق
من واجب كل مسلم أن يعتقد ويقول هذه الكلماتِ، ويعمل بموجبها، وهي:
1- أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمتُه ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌّ، والنار حق، وأن الله يبعث في القبور[12].
2- آمنتُ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره[13].
3- رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا ورسولاً[14].
4- لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير[15].
5- سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[16].
6- اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين[17].
من مزايا الدين الإسلامي
قال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: يعجبني أن يكتب بماء الذهب، وفي سويداء القلوب ما قاله عبد الفتاح الإمام في كتابه (التفسير العصري القديم) ما يلي:
1- لا يُوجد دِينٌ من الأديان يؤاخي العقل والعِلم في كل مَيْدان إلاَّ الإسلام.
2- ولا يُوجد دِينٌ رُوحيٌّ مادي إلاَّ الإسلام.
3- ولا يُوجد دِينٌ يدعو إلى الحضارة والعمران إلاَّ الإسلام.
4- ولا يُوجد دِينٌ شَهِد له فلاسفةُ العالَم المتحضِّر إلاَّ الإسلام.
5- ولا يُوجد دِينٌ يَسهُل إثباته بالتجرِبة إلاَّ الإسلام.
6- ولا يُوجد دِينٌ مِن أصوله الإيمانُ بجميع الرسل والأنبياء والكتب الإلهيَّة إلاَّ الإسلام.
7- ولا يُوجد دِينٌ جامعٌ لجميع ما يحتاجه البشر إلاَّ الإسلام.
8- ولا يُوجد دِينٌ فيه من المرونة واليُسْر الشيء الكثير إلاَّ الإسلام.
9- ولا يُوجد دِينٌ تشهد له الاكتشافاتُ العلميَّة إلاَّ الإسلام.
10- ولا يُوجد دِينٌ صالح لكلِّ الأمم والأزمان إلاَّ الإسلام.
11- ولا يُوجد دِينٌ يَسهُل العمل به في كلِّ حال إلاَّ الإسلام.
12- ولا يُوجد دِينٌ لا إفراطَ فيه ولا تفريط إلاَّ الإسلام.
13- ولا يُوجد دِينٌ حُفِظ كتابُه المقدَّس إلاَّ الإسلام.
14- ولا يُوجد دِينٌ صرَّح كتابُه المنزَّل بأنَّه عامٌّ لكلِّ الناس إلاَّ الإسلام.
15- ولا يُوجد دِينٌ يأمر بجميع العلوم النافعة إلاَّ الإسلام.
16- الحضارة الحاضرة قبسٌ من الإسلام.
17- هذه الحضارة مريضةٌ، ولا علاجَ لها إلاَّ الإسلام.
18- ما شَهِد التاريخ حضارةً جمعتْ بين الرُّوح والمادة إلاَّ حضارة الإسلام.
19- السلام العالمي لا يتمُّ إلاَّ بالإسلام.
20- لا يوجد دينٌ يَسهُل إثباتُه بالتحليل العِلمي إلاَّ الإسلام.
21- لا يوجد دين وحَّد قانون المعاملات بين البشر إلاَّ الإسلام.
22- لا يوجد دين أزالَ امتيازَ الطبقات إلاَّ الإسلام.
23- لا يوجد دين حقَّق العدالةَ الاجتماعيَّة إلاَّ الإسلام.
24- لا يوجد دين لا يشذُّ عن الفطرة في شيء إلاَّ الإسلام.
25- لا يوجد دين مَنَع استبدادَ الحكَّام، وأَمَر بالشورى، إلاَّ الإسلام.
26- لا يوجد دين أَمَر بالعدالة مع الأعداء إلاَّ الإسلام.
27- لا يوجد دين بشَّرت به الكتبُ السماوية إلاَّ الإسلام.
28- لا يوجد دين أَنْقَذ المرأة في أدوارها: أُمًّا، وزوجة، وبنتًا إلاَّ الإسلام.
29- لا يوجد دين ساوَى بين الأبيض والأسود، والأصفر والأحمر إلاَّ الإسلام.
30- لا يوجد دين أَمَر بالتعليم، وحرَّم كتمانَ العِلم النافع إلاَّ الإسلام.
31- لا يوجد دين قرَّر الحقوقَ الدوليَّة إلاَّ الإسلام.
32- لا يوجد دين تُوافِق أوامره ما اكتشفه الطبُّ الحديث إلاَّ الإسلام.
33- لا يوجد دين أنقذ الرقيقَ من المعاملات الوحشيَّة، وأَمَر بمساواته لسادته، وحضَّ على إعتاقه إلاَّ الإسلام.
34- لا يوجد دين قرَّر سيادةَ العقل والخضوع لحُكمه إلاَّ الإسلام.
35- لا يوجد دين يُنقِذ الفقراء والأغنياء بفرْض جزء من مال الأغنياء يُعطَى للفقراء إلاَّ الإسلام.
36- لا يوجد دينٌ قرَّر من الأخلاق مقتضى الفِطرة والحِكمة الإلهية، فللشدَّة موقف، وللرحمة موقف إلاَّ الإسلام.
37- لا يوجد دين أمَرَ بالإحسان والرِّفْق بجميع الخَلْق إلاَّ الإسلام.
38- لا يوجد دين قرَّر أصولَ الحقوق المدنية على قواعد فِطريَّة إلاَّ الإسلام.
39- لا يوجد دينٌ اعتنى بصحَّة الإنسان وثروتِه إلاَّ الإسلام.
40- لا يوجد دين أثَّر في النفوس والأخلاق والعقول كالإسلام[18].
نصيحة لطلبة العلم
لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسوله، نبيِّنا محمَّد، وآله وصحبه.
أمَّا بعد:
فلا ريبَ أنَّ طَلَب العِلم مِن أفضل القُربات، ومِن أسباب الفوز بالجنَّة والكرامة لِمَن عمل به، ومِن أهمِّ المهمَّات الإخلاصُ في طلبه، وذلك بأن يكونَ طلبُه لله، لا لغَرَضٍ آخرَ؛ لأنَّ ذلك هو سبيلُ الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغِ المراتب العالية في الدنيا والآخرة.
وقد جاءَ في الحديث عن النبيِّ ﷺ أنه قال: « مَن تعلَّم عِلمًا ممَّا يُبتغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلاَّ ليصيبَ به عَرَضًا من الدنيا، لم يجدْ عَرْفَ الجَنَّة يومَ القيامة»؛ يعني: رِيحَها؛ أخرجه أبو داود بإسناد حسن، وأخرج الترمذي بإسناد فيه ضَعْف عنه ﷺ أنَّه قال: « مَن طلب العِلمَ ليجاريَ به العلماء، أو ليماريَ به السُّفهاء، أو ليصرفَ به وجوهَ الناس إليه - أدخلَه الله النار».
فأُوصي كلَّ طالب عِلم، وكلَّ مسلم يَطَّلع على هذه الكلمة، بالإخلاص لله في جميع الأعمال؛ عملاً بقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، وفي صحيح مسلم عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: «يقول الله - عز وجل -: أنَا أغْنى الشُّركاءِ عن الشِّرْك، مَن عمل عملاً أشْرك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكَه».
كما أُوصي كلَّ طالب عِلم وكلَّ مسلِم بخشية الله - سبحانه - ومراقبتِه في جميع الأمور؛ عملاً بقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12] وقوله - سبحانه -: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].
قال بعضُ السَّلف: "رأس العلم خشية الله"، وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - : "كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار به جهلاً"، وقال بعض السلف: "مَن كان بالله أعرفَ، كان منه أخوف"، ويدلُّ على صِحةِ هذا المعنى قولُ النبي ﷺ لأصحابه: «أمَا والله، إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له»[19]، فكلَّما قَوِيَ علمُ العبد بالله، كان ذلك سببًا لكمال تقواه وإخلاصه، ووقوفه عندَ الحدود، وحَذرِه من المعاصي.
ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فالعلماءُ بالله وبدينه هم أخشى الناس، وأتقاهم له، وأقومهم بدِينه، وعلى رأسهم الرسلُ والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم أتباعهم بإحسان، ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ: أنَّ من علامات السعادة أن يفقهَ العبد في دين الله؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين»؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث معاوية - رضي الله عنه - وما ذاك إلاَّ لأنَّ الفقهَ في الدِّين يُحفِّز العبدَ على القيام بأمر الله، وخشيته وأداء فرائضه، والحذر من مساخطِه، ويدعوه إلى مكارم الأخلاق، ومحاسنِ الأعمال، والنُّصح لله ولعباده.
فأسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يمنحنا وجميعَ طلبة العِلم وسائرَ المسلمين الفقهَ في دينه، والاستقامةَ عليه، وأن يُعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه.
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
عمل اليوم والليلة
شَرَع الله للمسلِم أعمالاً يوميَّة يتقرَّب بها إلى ربِّه، وتُقوِّي إيمانَه، وتكون سببًا في حِفظه وسلامته، وسببًا في تكفير سيِّئاته ومضاعفةِ حسناته، ورفْع درجاته؛ منها:
1- أربعون ركعةً كان النبي ﷺ يُحافظ عليها في اليوم والليلة، ولنا فيه أسوة حسنة على النحو التالي:
سبعَ عشْرةَ ركعةً الفرائض، وعشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة السنن الرواتب، وإحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل والوتر، ومجموعها أربعون ركعة؛ عدَا النوافل المطلقة، وصلاة الضحى.
2- ملازمة أذكارِ الصباح والمساء، والنَّوم، والانتباه، والأكْل والشُّرب، والأذكار الواردة بعدَ السلام من الصلاة، وهي موجودة في كتب الأذكار.
3- قراءة ما تيسَّر من القرآن الكريم، وينبغي ألاَّ ينقصَ عن قراءة جزء من القرآن يوميًّا.
4- ملازمة التوبة والاستغفار في اللَّيْل والنهار؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، وقال ﷺ : «يا أيُّها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإنِّي أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائةَ مَرَّة»؛ رواه مسلم.
،5- ملازمة أذكار الدُّخول والخروج بالنسبة للمسجد، والبيت، والحمام، التي تَطرُدُ الشيطان، وفي الحديث: ((مَن لَزِم الاستغفار، جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كلِّ ضِيق مخرجًا، ورَزَقه من حيثُ لا يحتسب))؛ رواه أبو داود.
6- ذكر الله كثيرًا بلسانك وقلبِك، قائمًا وقاعدًا، وعلى جنبك.
قال - تعالى -: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 25]، ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]، وفي الحديث: ((ما عَمِل آدمي عملاً أنجَى له من عذاب الله من ذِكْر الله))[20]، «مَثَل الذي يَذكُر ربَّه والذي لا يذكره مَثَلُ الحيِّ والميِّت»[21]، وقال ﷺ فيما يرويه عن ربِّه - تعالى -: «أنَا مع عبدي ما ذَكَرني وتحرَّكت بي شفتاه»[22]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يزال لسانُك رطبًا من ذِكْر الله»[23].
7- مراقبة الله - تعالى - في السِّرِّ والعلانية، ومحاسبة النفس ومجاهدتها في القَوْل والعمل، والفعل والتَّرْك، واعلم أيُّها المسلم أنَّ الله - تعالى - يراك ويسمعك، ويعلم ما يُكنُّه ضميرُك، فاحذر أن يراك حيث نهاك، أو يفقدَك حيث أمرك، وقد وكل بك ملائكةً حافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعل، ويكتبون ما تقول، فلا تُملِ عليهم إلا خيرًا.
8- دعاء الله وحمده وشكره، والثناء عليه؛ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ﴾ [الإسراء: 111]، ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [النمل: 40]، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
9- الإكثارُ من الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ تسليمًا كثيرًا.
فتوى رقم 5350، وتاريخ 28/ 2/ 1403 هـ
في حكم تحنيط الطيور وبيعها وشرائها
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، وبعد:
فقد اطَّلعتِ اللجنةُ الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما وَرَد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي فالح بن عبدالعزيز السعدون، وقال: سَأَل المستفتي عن سؤال واحد، هذا نصُّه:
"برز في الآونة الأخيرة ظاهرةُ بَيْع الحيوانات والطيور المحنطة، فنأمل من سماحتكم - بعدَ الاطلاع - إفتاءَنا عن حكم اقتناء الحيوانات والطيور المحنَّطة، وما حُكم بَيْع ما ذُكِر، وهل هناك فرق بين ما يحرُم اقتناؤه حيًّا، وما يجوز اقتناؤه حيًّا في حالة التحنيط؟ وما الذي ينبغي على المحتسب حيالَ تلك الظاهرة؟
وبعد دراسة اللجنة للسؤال، أجابتْ بما يلي:
"اقتناء الطيور والحيوانات المحنَّطة، سواء ما يَحرُم اقتناؤه حيًّا، أو ما جاز اقتناؤه حيًّا - فيه إضاعةٌ للمال وإسراف وتبذير في نفقات التحنيط، وقد نَهَى الله عن الإسراف والتبذير، ونهى النبي ﷺ عن إضاعةِ المال، ولأنَّ ذلك وسيلةٌ إلى اتِّخاذ الطيور من ذوات الأرواح، وتعليقها ونصبها، وهذا محرَّم، فلا يجوز بيعُه ولا اقتناؤه، وعلى المحتسِب أن يُبيِّن للناس أنَّها ممنوعة، وأن يمنع ظاهرةَ تداولِها في الأسواق.
والله الموفِّق، وصلَّى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
أهمية الوقت في الإسلام
لا شكَّ أنَّ الإحساسَ بالزمنِ يتفاوت مِن شخصٍ إلى آخرَ، كما يختلفُ مِن أمَّة إلى أمَّة، ولم يعرفِ التاريخُ أمةً قدَّس دستورُها الزمن، وعظَّم شأنَ الوقت، كهذه الأمَّة المحمديَّة، التي كان حديث الله - سبحانه وتعالى - إليها دائمًا مقاسًا بكلِّ دِقَّة، وذلك على سبيل التربية، كما هو من باب وصْف نِظام الكون ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3].
لقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - عن خَلْق السموات والأرض، فذكر أنَّه كان في ستَّة أيَّام، وحدَّث عن أمره وإرادته وقدرته على الخَلْق والإيجاد، فذكر أنَّ ذلك يتمُّ في أيِّ وقت؛ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
فأمرُه بين الكاف والنون، وحَدَّث - سبحانه - عن عِلْمه بالخلق وأحوالهم، فذَكَر أنَّ ذلك يتناول أدقَّ الأمور، وأنَّه يتمُّ على قياس دقيق بالِغ الدِّقَّة، شامل لكلِّ ما في الكون؛ ﴿اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8]، والمقدار هنا كما يكون وزنًا، يكون زمانًا أيضًا، كما حدَّثنا - جلَّ شأنُه - عن تسجيل أعمال الناس، فذَكَر أنَّ ذلك يتناول كلَّ جزئية من أعمارهم، حتى ما لا يتصورون أنَّه يدخل في حساب؛ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49].
كما حدَّثنا المولَى - جل وعلا - عن حسابه للناس يوم القيامة، فذَكَر أنه يتمُّ وَفْقًا لميزان دقيق، لا تفوته الذرة، ولا تسقط منه الخردلة؛ ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
بل لقدْ حدَّثنا - جلَّ شأنُه - حديثًا يأخذ بمجامع القلوب في آيات بيِّنات، تتصدَّع لسماعها الأفئدةُ عن طريقة الحِساب للعُمر الضائع، والزمن المهدور؛ فقال: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 112 - 116].
هذه هي الدقة الإلهيَّة، التي حَكَاها الله - سبحانه – لعباده؛ حتى يتعلَّموا منها دروسَ الحساب الذي يَضبط حياتَهم، ويَرْفع شأنَهم، ويدعم وجودَهم، ويجعلهم أمَّة وسطًا، شهداء على الناس، وفي آية أخرى يقول الحق - سبحانه -: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ﴾ [إبراهيم: 31].
وفي هذه الآية الكريمة يوجِّه الله - جلَّ جلالُه - إلينا رسالةً رحيمة كلَّ الرحمة، ومضمون الرِّسالة يُصوِّر إشفاقَ العناية الإلهية على عباد الرحمن، وحِرْصها على أن يَبلُغوا بأعمالهم أقصى درجاتِ الإتقان، وأن يَستغِلُّوا كلَّ ذرَّة من أعمارهم المحدودة في محاولة كسْب رضوان الله، وذلك بإقامة الصلاة، وبالإنفاق السخي سرًّا وعلانية، وهم قادرون على ذلك بما أُوتوا من حبٍّ للخير، وإيمان بالله، وإدراك لقيمة الوقت المتاح لهم، فهم حريصون على طاعةِ الله في هذه الفُرْصة مِن الزمن، قبل أن تفلتَ من بين أصابعهم، حين تنتهي أعمارُهم، ويذهب معها خيارُهم، ويُواجَه كلُّ امرئ بحصيلة عمله؛ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 - 8] ويُلاحظ في هذه الرِّسالة الإلهية أمران:
(أولهما) حساب الزمن:
فقد وهبَنَا - سبحانه - عُمرًا، وجعل له خاتمة ونهاية، ولا ريبَ أنَّ المؤمن الواعي يحسُّ في أعماقه بأنَّه في سباق مع هذه النهاية، يحاول أن يسجل قبلها أكبرَ قدر من العمل النافع؛ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: 30]، فموقِفُ الإنسان يومَ الحساب مرتبط بالزمن، فهو يحبُّ أن يُقرِّب اللهُ منه ما عَمِل من خير، وأن يجعل بينه وبين السُّوء أمدًا بعيدًا.
وثانيهما: أنَّ الرِّسالة الإلهية تجعل من أعمال الخير التي طلَبها الله من عباده - كالصلاة والإنفاق - رصيدًا مدَّخرًا ينفع صاحبَه يومَ الحساب، وهو يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خِلال، وإنَّما تدور حركته على الجزاء المؤدَّى لكلِّ مَن قدَّم عملاً صالحًا، أو اقترف عملاً سيِّئًا استوجب غضبَ الله عليه.
إنَّ الدقائق والثواني في أعمار الأمم، وفي حياة الأفراد - لها حساب، فالساعات الطِّوال ليستْ في حقيقتها سوى دقائقَ وثوانٍ، وضياع الثواني هو في حقيقتِه ضياعٌ لتلك الساعات التي ينقضي بمرورها عمرُ الإنسان، وينتهي بها كفاحُه من أجْلِ الحياة، والواقع أنَّ الثروة التي يجمعها أيُّ إنسان مكافِح ليست سوى كميةٍ من الزمن، تحوَّلت إلى مال، وكان من الممكن أن تضيعَ في النوم والكسل، أو إلى شخير ينطلق من صدر نائم خامل، أو شهوة خاطفة تمضي، وتُخلِّف لصاحبها حسرةَ العمر على الضياع والغفلة، والوقت الضائع، والطاقة المبدَّدة، كم مِن الأيَّام والسنين تضيع في حياة هذه الأمَّة، على حين يَسهرُ أعداؤنا ويَكْدحون في كلِّ دقيقة، بل في كلِّ ثانية من أجْل تحصيل أسباب القوَّة، ومِن أجل فَرْض سيطرتهم على مصائرِ العرب والمسلمين!!
فنحن نُضيِّع السنين ولا نحسُّ بمرورها، وهم يُحاسِبون أنفسَهم على الثواني؛ مخافةَ أن تمضيَ دون إنتاج؛ لأنَّ الزمنَ جزءٌ من تفوُّقهم ونجاحهم، كما هو جزءٌ من ضياعنا وفشلِنا، ونحن - المسلمين - مأمورون أن نحافظَ على الوقت، وأن نعمل حسابَ المستقبل، لقد أُمِرْنا بالصلاة خمسَ مرَّات في اليوم واللَّيلة، في أوقات معلومة، وشَرَع الله الأذانَ؛ إعلانًا لحلول الوقت، وإيذانًا ببَدءِ تكليف جديد متجدِّد.
كما جعل الإسلامُ مِن آدابه ألاَّ يَضيع وقتُ المؤمن في لغوِ الحديث، فلا وقتَ لدى المؤمن للغْو، بل كلُّ وقتِه للعمل الجادِّ المثمر؛ ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: 55] كذلك حدَّد الضوءَ وخطَّ الظلام، وهو أمر بالغ الدِّقة في القياس، فقال - عزَّ مِن قائل - ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187].
ونحن - المسلمين - مطالَبون بأن نحوِّل أوقاتنا إلى عمل صالح، وإلى إنتاج مثمِر، يعود علينا وعلى أُمَّتنا بالخير والتوفيق، ونحن على أبواب كِفاح طويل، نحاول أن نؤكِّد به وجودَنا في مواجهة قُوَى الشرِّ والعدوان، ولا سلاحَ لنا إلاَّ الوقت، الذي هو أمضى سلاح، نستطيع أن نحوِّلَه إلى مصانع، وإلى معامل، وإلى مصادر للقوَّة والثروة ومخترعات نُساير بها ركْبَ الحضارة والمدنيَّة، وإلى سلاح نُحارِب به عدوَّ الله وعدوَّنا.
ممَّا سَبق يتضح لنا قيمةُ الزمن، وأهميَّة الانتفاع بالوقت، وبهذا الحساب الدقيق ساد المسلمون الأوائل، وأقاموا أحكامَ شريعتهم، وأسَّسوا للدنيا حضارةً شامخة دونها كلُّ حضارة، وبذلك يمكن أن يَنطبِقَ علينا قوله - عزَّ مِن قائل -: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: 110] والله ولي التوفيق[24].
عمر بن محمد بن إبراهيم
حفظ الأوقات والاستفادة منها
أوجَدَ اللهُ الإنسانَ في هذه الحياة ليعبدَه؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وأعطاه القوَّة والسَّمْعَ والبصر والفؤاد، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وأسبغ عليه نِعمَه الظاهرة والباطنة؛ لكي يشكرَه عليها، باستعمالها في مرضاته، والاستعانة بها على طاعته.
وجعل له عمرًا محدودًا وأنفاسًا معدودة، وكلَّفه بحفظِها فيما ينفعه في دِينه ودنياه، ووكَّل به ملائكةً حافظين، كِرامًا كاتبين، يحفظون أعمالَه، ويكتبون أقواله وأفعاله من خير وشرٍّ، فإذا كان يومُ القيامة شهدتْ عليه حَفظتُه، وشهدتْ عليه جوارحُه، وشهدتْ عليه بقاعُ الأرض التي يعمل فوقَها بما عَمِل[25].
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 - 8]، فعلى المسلِم أن يكون رقيبًا على نفسه، محاسبًا لها في كلِّ يوم وساعة ودقيقة، ماذا عملت؟ وبأيِّ شيء تكلَّم به لسانُه؟ وما الذي سمعتْه أذناه، ونظرتْ إليه عيناه، ونواه قلبه، وبطشتْه يداه، ومشتْ إليه رجلاه؟ فإنَّ هذه الحواسَّ والجوارح سوفَ يُسأل عنها، وتشهد عليه؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36] ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24] وعلى المسلِم أن يُحاسِبَ نفسَه على لَفَظاته ولَحَظاته، وخطراته وخُطواته، فيحميها عن الكلام المحرَّم، والنظر المحرَّم، والسَّماع المحرَّم، والمشي المحرَّم، والبطش المحرَّم، والأكْل والشُّرْب المحرَّم، فيحفظ لسانَه بذِكْر الله، وجوارحَه بطاعة الله، حتى يكسبَ بها خيرًا، ويصرفَها عن الشرِّ؛ وقد قال - تعالى -: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30].
وفي الحديث: «النظر سَهمٌ مسمومٌ من سِهام إبليس، مَن تَرَكه لله أورثَه اللهُ إيمانًا يجد حلاوتَه في قلبه»[26]، وإنَّ في الاشتغال بهذه الحواس والجوارح بطاعةِ الله اشتغالاً عمَّا حرَّم الله، وفي ذلك فائدتان عظيمتان:
أحدهما: صونُها عمَّا حرَّم الله ممَّا يُوجِب سخطَه وعقابه.
والثاني: فوزُها بطاعة الله المقرِّبة من رضاه وجنته، فإنَّ في الاشتغال بذكْر الله اشتغالاً عن الكلام الباطل مِن الغِيبة والنميمة واللغو، ومَدحِ الناس وذمِّهم، وغير ذلك، فإنَّ اللِّسان لا يسكت أبدًا، فإمَّا لسان ذاكر، أو لسان لاغٍ، ولا بدَّ من أحدهما، فإنَّ النفس إن لم تشغلْها بالحق شغلتْك بالباطل، والقلْب إن لم تسكنه محبَّة الله - تعالى - سكنه محبَّة المخلوقين، واللِّسان إن لم تشغلْه بذِكْر الله، شغَلَك باللغو وما هو عليك، فاخترْ لنفسك إحدى الخطتين، وأنزِلْها في إحدى المنزلتين.
إنَّ العبد إذا نَسِيَ نفسَه من العمل بما يُسعده، أعرَض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها، هلكتْ وفسدت ولا بدَّ، كمَن له زرع أو بستان أو ماشية، أو غير ذلك، ممَّا صلاحُه بتعاهده والقيامِ عليه، فأهمله ونسيَه، واشتغل عنه بغيره وضيَّع مصالحه، فإنَّه يفسد ولا بدَّ، هذا مع إمكان قيامِ غيرِه مقامَه فيه، فما الظنُّ بفساد نفسِه وهلاكها إذا أهملها وضيَّعها، واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترَك القيامَ عليها بما يُصلِحها؟! وهذا هو الذي صار أمرُه فُرُطًا، فانفرط عليه أمرُه، وضاعت مصالحه، وخَسِر منفعة أوقاته، وأحاطت به أسبابُ القطيعة والخيبة والهلاك، ولا سبيلَ إلى الأمان من ذلك إلاَّ بحفظ الأوقات من أن تضيع سُدًى، معطَّلة من ذِكْر الله وطاعته.
وأعظمُ من ذلك إضاعتُها في معصية الله، وذلك هو الخُسران المبين، فطاعة العبد لربِّه وذِكْره له بمنزلة حياته التي لا غِنَى له عنها، ومنزلة غِذائه الذي إذا فقَدَه فقد جسمَه وهلك، ومنزلة الماء عندَ شدَّة العطش، وبمنزلةِ اللباس في الحَرِّ والبَرْد، وبمنزلة الكنِّ في شدة الشتاء والسَّموم، فحقيقٌ بالعبد أن يُنزل طاعةَ الله وذكْره في جميع أوقاته من نفسِه بهذه المنزلة، وأين هلاكُ الرُّوح والقلْب وفسادهما مِن هلاك البدن وفساده؟! فهلاك البدن لا بدَّ منه، وقد يعقبُه صلاحُ الأبد، وأمَّا هلاك القلْب والرُّوح، فهلاك لا يُرجَى معه صلاح ولا فلاح، ولا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم، وقد قيل: الوقت كالسَّيْف، إن لم تقطعْه قطعَك.
وإذا كانت أوقاتُ الغفلة عن طاعة الله وذِكْره تكون على العبد حسراتٍ يوم القيامة، فكيف بضياع الأوقات في معصية الله؟! وفي الحديث: ((نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحة والفراغ))[27]، ومعنى ذلك أنَّهم مقصِّرون في شُكر هاتين النِّعمتَين، وكلُّ من لا يقوم بشكر ما أنعم الله به عليه فهو مغبون، قال الشاعر:
وَلاَ يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلاً | وَلاَ تُغْبَنَنْ بِالنِّعْمَتَيْنِ بَلِ اجْهَدِ |
ومِن أعظم نِعم الله على عباده في هذا الوطن العزيز: نِعمةُ الإسلام، والصِّحة في الأبدان، والأمن والاستقرار في الأوطان، حيث يأمن الإنسانُ فيه على نفسِه وأهله ومالِه بفضل الله، ثم بفضل حكومتِه الرشيدة التي تَحكُم بالكتاب والسُّنَّة، وتقيم الحدودَ الشرعية، التي هي السبب في حماية وصيانة الأنفس والعقول، والدِّين والأنساب والأموال.
فعلى المسلم أنْ يتقيَ الله في نفسِه، وأن يحفظَ أوقاتَه فيما ينفعه ويسعده، وألاّ يخلي وقتًا معطَّلاً من عملٍ ينفعه، أو خيرٍ يطلبه، وأن يحاسب نفسَه ليلاً ونهارًا، وصباحًا ومساءً في قوله وعمله، وفِعْله وترْكه، وكلامه وسمْعه وبصره، وبطشه ومشيه، حتى يربحَ أوقاته، ويسلمَ له دِينه، ويزكوَ إيمانه ويقينه، ويفوزَ بسعادة الدنيا والآخرة، وتتمَّ له الأعمال الظاهرة والباطنة، قال الشاعر:
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ | وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ |
يجب على المسلِم أن ينتهزَ فرصَ الحياة والشباب، والصحة والفراغ بالعمل الصالِح ما دام قويًّا قادرًا، صحيحَ البدن والسمع والبصر، قبلَ أن تضعُفَ قوتُه، وتَذهب مقدرتُه، ويمرض جسمُه، ويَكِلَّ سمعه وبصره، وتذهب أوقاته، فيندم حين لا ينفعُه الندم، ويتأسَّف على تفريطه وإضاعته وإهماله، فيقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 23] ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [الزمر: 56] وفي الحديث: «اغنم خمسًا قبلَ خمس: شبابَك قبل هَرَمك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وحياتَك قبل موتِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وغناك قبلَ فَقرِك»[28]، وفي الحديث أيضًا : «لا تزول قدمَا عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسألَ عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابِه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن عِلمِه: ماذا عمل فيه؟»[29].
فعلى المسلِم الناصح لنفسه أن يتقيَ الله ربَّه، وأن يُعِدَّ للسؤال جوابًا صحيحًا، وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أفضل ما يُشغَل به الوقت
اللهمَّ صلِّ على أشْرفِ خلقك محمَّد ﷺ ولله الحمدُ وكفَى، وسلام على عباده الذين اصطفَى، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله ﷺ وبعد:
فإنَّ أفضلَ ما يُشغل به الوقت ذِكْرُ الله، ودعاؤه واستغفاره بعدَ أداء الفرائض؛ قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
فضل الذكر:
1- قال - تعالى -: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ [النور: 37].
2- وقال رسول الله ﷺ: «ألاَ أُنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذَّهَب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذِكْرُ الله»؛ رواه الترمذي، وقال حديث حسن.
3- وقال رجل: يا رسولَ الله، إنَّ شرائع الإسلام، قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبَّث به، قال: «لا يَزالُ لسانُك رطبًا من ذِكْر الله»؛ رواه الإمام أحمد.
4- وقال رسول الله ﷺ: «يقول الله - تعالى -: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرني، فإنْ ذَكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذَكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ بشِبْر تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً»؛ رواه أحمد والبخاري.
5- وقال رسول الله ﷺ: «لا يَقعدُ قومٌ يَذْكرون الله - تعالى - إلاَّ حفتْهم الملائكة، وغشيتْهم الرَّحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذَكَرهم الله - تعالى - فيمَن عنده»؛ رواه مسلم.
فضل التسبيح والتهليل:
1- قال رسولُ الله ﷺ: «كَلمتانِ خفيفتانِ على اللِّسان، ثقيلتانِ في الميزان، حبيبتانِ إلى الرحمن: سبحانَ الله وبحمده، سبحانَ الله العظيم»؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم.
2- وقال رسول الله ﷺ: «ألاَ أدلُّك على كَنْز من كنوز الجنَّة؟ لا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله»؛ متفق عليه.
3- وقال رسول الله ﷺ: «التسبيح نِصْف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إلهَ إلاَّ الله ليس لها دونَ الله حجابٌ حتى تخلصَ إليه»؛ رواه الترمذي، وصحَّحه السيوطي.
4- وقال رسول الله ﷺ: «مَن قال: سبحانَ الله وبحمده في يومٍ مائةً مرَّة، حُطِّتْ عنه خطاياه، وإنْ كانتْ مثلَ زَبَد البحر»؛ متفق عليه.
5- وقال رسولُ الله ﷺ: «أحبُّ الكلام إلى الله - تعالى - أربع: سبحانَ الله، والحمد لله، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبر، لا يَضرُّك بأيهنَّ بدأت»؛ أخرجه مسلم.
فضل "لا حول ولا قوة إلا بالله":
1- قال رسول الله ﷺ : «ألاَ أدلُّك على كلمةٍ من تحت العَرْش من كَنْز الجنة؟ تقول: لا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله، فيقول الله: أسلمَ عبدي واسْتسَلم»؛ رواه الحاكم، وصحَّحه السيوطي.
2- وقال رسول الله ﷺ: «لا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله، دواءٌ من تسعة وتسعين داءً، أيسرُها الهَم»؛ رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج بعد الشدة"، وحسَّنه السيوطي.
3- وقال رسولُ الله ﷺ : «استكثِروا من الباقيات الصالحات: التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله»؛ رواه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد، وصحَّحه السيوطي[30].
فضل الاستغفار:
1- قال الله - تعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19].
2- وقال الله - تعالى -: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الليْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17 - 18].
3- وقال رسولُ الله ﷺ: «مَن لَزِم الاستغفارَ، جَعَل الله له مِن كلِّ ضِيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فَرَجًا، ورَزَقه مِن حيثُ لا يحتسب»؛ رواه أحمد، وأبو داود وابن ماجه.
4- وقال - عليه الصلاة والسلام -: «قال الله - تعالى -: يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عَنانَ السَّماء، ثم استغفرتَني، غفرتُ لك»؛ رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
أهمية القراءة وفوائدها
للشيخ إسماعيل بن محمد السماعيل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فإنَّ القراءةَ هي مِفتاحُ العِلم، ويَكفينا دليلاً على ذلك أنها أوَّلُ ما أُمِر به الرسولُ ﷺ وأوَّل ما أنزل عليه؛ كما قال - تعالى -: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 - 5]، ولأهميَّة القراءة وطَلَب العِلم أخبر ﷺ أنَّ طلبَ العِلم فريضةٌ على كلِّ مسلم[31]، ولا شكَّ أنَّ من أهمِّ أسبابه القراءة، ولولا القراءةُ لم يتعلَّم الإنسان، ولم يحقِّق الحكمة من وجوده على هذه الأرض، وهي عبادةُ الله وطاعته، وعِمارةُ هذه الأرض.
ثم إنَّ القراءة تُمكِّن الإنسانَ من التعلُّم بنفسه، والاطِّلاع على جميع ما يُريد معرفتَه من دون الاستعانة بأحد في كثير من الأحيان.
وللقِراءة فوائدُ كثيرةٌ لا نستطيع حصرَها، ولكن يمكن أن نُلخِّص منها ما يلي:
1- أنَّها مع شقيقتِها الكتابة هما مِفتاحَا العلم.
2- أنَّها مِن أقوى الأسباب لمعرفة الله - سبحانه وتعالى - وعبادته وطاعتِه، وطاعة رسوله.
3- أنَّها من أقوى الأسباب لعمارةِ الأرض، والوصول إلى العلوم المؤدية لذلك.
4- أنَّها سببٌ لمعرفة أحوال الأُمم الماضية، والاستفادة منها.
5- أنَّها سببٌ لاكتساب المهارات، ومعرفة الصناعات النافعة.
6- أنَّها سببٌ لمعرفة الإنسان لِمَا ينفعه ولِمَا يضرُّه في هذه الحياة من العلوم.
7- أنَّها سببٌ لاكتساب الأخلاق الحميدة، والصِّفات العالية، والسُّلوك المستقيم.
8- أنَّه يحصُل بسببها للإنسانِ الأجرُ العظيم، والثواب الكبير، لا سيَّما إذا كانتْ قراءته في كتاب الله، أو في الكُتب النافعة، التي تدلُّه على الخير، وتنهاه عن الشَّرِّ.
9- أنَّها سببٌ لرِفْعة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة؛ لأنَّها من أسباب العِلم، والله يقول: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
10- أنَّها سببٌ قويٌّ لمعرفة مكائد الأعداء للإسلام والمسلمين مِن الكفرة والملحِدين والفِرَق الضالَّة، ودَحضِها، والحَذَر منها.
11- أنَّها سببٌ للأُنس والترويح عن النفس، واستغلال وقت الفراغ بما ينفع.
وقد صَدَق الشاعر حيث يقول:
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتْبٌ تُفِيدُهُ | عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيِّدِ |
وأخيرًا: يجب أن نتذكَّر دائمًا قولَه تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1- 5] وقوله - تعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4].
وفَّقنا الله جميعًا إلى العِلم النافع، والعمل الصالح الذي يُرضيه، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصْف الكتاب
الكتاب نعمَ الأنيسُ في ساعة الوَحْدة، ونعم القرين ببلاد الغُرْبة، وهو وعاء مُلِئَ علمًا، وليس هناك قرينٌ أحسنَ من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنًى - من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يَمدَحُك، والصَّدِيق الذي لا يذمُّك، والرفيق الذي لا يَملُّك ولا يخدعك، إذا نظرتَ فيه أمتعَك، وشحَذَ ذِهنَك، وبسط لسانَك، وجَوَّد بيانَك، وغذَّى رُوحَك، ونَمَّى معلوماتِك، وهو المعلِّم الذي إن افتقرتَ إليه لم يحقِّرْك، وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة، ولو لم يكن مِن فضله عليك إلاَّ حِفظُه لأوقاتك فيما ينفعك، وصَوْنها عمَّا يضرُّك مِن فضول النظر والكلام، والاستماع والمخالطة، ومجالسة مَن لا خيرَ فيهم - لكانَ في ذلك على صاحبه أسبغُ نِعمة، وأعظم مِنَّة، فالكتاب صِديقٌ يقطع أوقاتَ فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة الممِلَّة، كما ينقل إليك أخبارَ البلاد النائية، فتعرف أنباءَها كما تعرف أنباءَ بلدتك[32].
لماذا نقرأ الكتب؟
نقرؤها لأنَّ في القراءةِ فوائدَ متعدِّدة سوى ما تقدَّم، منها:
1- أنَّ في القراءة متعةً للنفس، وغذاءً للعِلم والعقل والرُّوح.
2- وفيها إزالةٌ لفوارقِ الزَّمان والمكان، فيعيش القارئُ مع الناس جميعًا أينما كانوا، وأينما ذهبوا.
3- وفي القراءة ينابيعُ صافيةٌ لخِبرة كلِّ مجرِّب يفيض بالهُدى والرَّشاد، والنُّصْح والتوجيه والمعرفة.
4- وفي القراءة سِياحةٌ للعقل البشري بين رِياض الحاضر، وآثارِ الماضي وبقاياه، وآمال المستقبل.
5- والقراءة تَنقلُنا من عالَم ضيِّق محدودِ الأفق إلى عالَمٍ آخرَ أوسعَ أفقًا، وأبعدَ غايةً.
6- ويستطيع القارئُ أن يعيشَ في كلِّ العصور، وفي كلِّ الممالك والأمصار والأقطار.
7- ونقرأ وصفَ الرحلات في مختلف أنحاءِ الأرض، فيحملنا الكاتبُ إلى قِمم الجبال، ثم ينزل بنا إلى الأودية، ويسير بنا من الرِّياض الخضراء، ثم ينتقل بنا إلى الصحاري الجدباء، وكأنَّنا رِفاقُه لا يَفْصِلُنا عنه طولُ الزمان، ولا يحول بيننا وبينه بُعدُ المكان، إن شئتَ فاقرأ رحلة ابن بطوطة في مجلدين.
8- وبالقراءة تستطيعُ أن تُكوِّنَ مع الكتَّاب والعلماء والمفكِّرين صداقةً تحسُّ بفضلها، وتشعرُ بوجودها، فالقارئ أخَذَ من صديقه المؤلِّف أحسنَ وأجمل ما عنده؛ لأنَّ المؤلِّف لا يكتب في كتابِه إلاَّ كلَّ ما فيه فائدة، أو خِبرة، أو نَفْع، أو توجيه، ويختار من الكلام أحسنَ ما يجده[33].
9- وبالقراءة يُعرَف تفسيرُ كلام الله القرآن الكريم، الذي هو أهمُّ المهمَّات، وتُستخرج كُنوزُه وعلومُه وأحكامه، ويُعلم حلالُه وحرامه، ومُحْكَمُه ومتشابهه، وأمثالُه وبشاراته وإنذاره، وعظاتُه وقصصُه.
10- وبالقراءة تُعرف سُنَّةُ رسول الله ﷺ التي هي شقيقةُ القرآن، والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي تُفسِّر القرآن، وتُبيِّنه وتدلُّ عليه، وتُعبِّر عنه.
11- وبالقراءة تُعرف سيرةُ رسول الله ﷺ وأخلاقه، التي لنا فيها عِظة وعِبرة، ولنا فيها أُسوةٌ حسنة - صلوات الله وسلامه عليه.
12- وبالقراءة تُعرف علومُ الأوَّلين والآخِرين، وأحوالُ السابقين واللاَّحقين.
13- وبالقراءة يسير الإنسان بفِكره وعِلمه في أنحاء المعمورة، وهو جالس في بيته أو مكتبته.
14- وبالقراءة يُعرَف الفرْقُ بين الحلال والحرام، والواجب والمستحب، والمكروه والمباح.
15- وبالقراءة يُعرَف طريقُ الخير والسعادة، وطريقُ الشرِّ والشقاوة، وأعمالُ أهل الجنَّة، وأعمالُ أهل النار، وتُعرَف أوصاف الجنَّة وأهلها، وأوصاف النار وأهلها.
16- وبالقراءة يُعرف الجزاءُ والثواب للمطيعين، والعقابُ للعاصين.
17- وبالقراءة والعمل بها تحصُلُ سعادةُ الدنيا والآخرة، والسلامة من شقاوة الدنيا والآخرة.
هذا وإنَّ العِلم بحرٌ عميق لا ساحلَ له، وعمر الإنسان قصيرٌ محدود؛ لذا ينبغي له أن يحفظَه بالقراءة فيما ينفعه، وأن يعمل بما يقرأ، وأن يبدأَ بالأهمِّ فالأهم، وأهمُّ المهمَّات تعلُّمُ كتاب الله - تعالى - وتفسيره، والعمل به، وسُنَّة رسولِ الله ﷺ وشروحها، ففيهما السعادة، والنجاة؛ قال ﷺ : «إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به لن تضلُّوا أبدًا: كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه»؛ رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد.
نعم الرفيق "كتاب"
قال الشاعر:
نِعْمَ الْمُحَدِّثُ وَالرَّفِيقُ كِتَابُ | تَلْهُو بِهِ إِنْ خَانَكَ الْأَصْحَابُ | |
لاَ مُفْشِيًا لِلسِّرِّ إِنْ أَوْدَعْتَهُ | وَيُنَالُ مِنْهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابُ |
بمِثل هذه الأبيات من الشِّعر وأقوال كثيرة كان السَّلف الصالح يتفانَوْن في حبِّ الكتب ومجالستها؛ لِمَا فيها مِن العِلم والفائدة، وإن كنَّا في هذا العصْر نشهد ثورةً ثقافيَّة هائلة في عالَم الكتب، حتى أصبحتِ المنازل لا تكاد تخلو من مكتبة تحوي أصنافَ العلوم والمعارف، إلاَّ أنَّنا في عالَمنا الإسلاميِّ بعدُ لم نُدرك قيمةَ الكتاب، وليس للكتاب المكانةُ التي كانت عند سلفنا الصالح، فالمشهور عن العَرَب أنَّهم لا يقرؤون، وفعلاً هم لا يقرؤون، ولا يَقْدُرون الكتاب قدْرَه، ولا نريد أن نضربَ المثل بالغربيِّين واحتفائهم بالكتب - كما يفعل الكثيرون ممَّن اغترُّوا بالحضارة الغربية - ففي سلفِنا الصالح - كما ذكرتُ - القدوة الكاملة، فهُمُ الذين حملوا تُراثَ العالَم لهذه الأمَّة، وحصَلُوا على السبق في هذا المجال، ولكي يعرفَ المسلمون أهميَّة الكتاب والدَّوْر الذي يؤدِّيه في رفْع شأن الإنسان، ومن ثَمَّ الأمَّة؛ نستعرض معًا صفحاتٍ من حياة سلفنا، وتقديرهم للكتاب والاهتمام به.
الحرص على الكتابة:
حين شاعتْ في هذا العصر وسائلُ التَّرف، ورَكَن الناس إلى الخُمول، كسلوا عن الكتابة، وسمَّوْا عصرَهم عصرَ السرعة؛ لذلك فالقارئ يحتاج إلى كلِّ شيءٍ سريع وخفيف، وإن كان هزيلاً، فالماديات لا تدعُ له مجالاتٍ للتعمُّق، أمَّا الخليل بن أحمد، فإنَّه يفتح طريقًا لكلِّ سالك عِلم فيقول: ما سمعتُ شيئًا إلا كتبتُه، ولا كتبتُ شيئًا إلاَّ حفظتُه، ولا حفظتُ شيئًا إلاَّ انتفعتُ به.
فما كانوا يسمعون شيئًا إلاَّ كتبوه خشيةَ أن يضيع عليهم؛ فإنَّ آفَة العِلم النسيان، وهم بذلك يَسمعون وصايةَ الشافعي - رحمه الله - حين خَرَج على أصحابه وهم مجتمعون، فقال لهم: "اعلموا - رحمكم الله - أنَّ هذا العِلمَ يندُّ كما تندُّ الإبل، فاجعلوا الكتبَ له حماة، والأقلامَ عليه رعاة".
شغف بالكتاب:
وقد أرسلوا لأقلامهم العِنان، فقامتْ ملكتُهم الأدبية بوصْف الكتاب وصفًا أخَّاذًا، يُنبئ عن حبِّهم للكتب، وإدراكهم لقيمتها وشغفِهم بها، فهذا ابنُ المعتز يصف الكتابَ، فيقول: "الكتاب والجٌ للأبواب، جريءٌ على الحجاب، مُفْهِم لا يَفهَم، وناطق لا يتكلَّم، وبه يشخص المشتاق، إذا أقعده الفِراق"، وقال آخَرُ : "إنَّه حاضرٌ نفعُه، مأمونٌ خيرُه، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويملُّ بملالك فينقبض عنك، إنْ أدنيتَه دَنَا، وإن أنأيتَه نأى، لا يبغيك شرًّا، ولا ينبش عليك سرًّا، ولا ينمُّ عليك، ولا يسعى بنميمة إليك"، وعبَّر الشاعر عن الْتصاقه بالكتاب، وقُربِه إليه، فقال:
نِعْمَ النَّدِيمُ إِذَا خَلَوْتَ كِتَابُ | إِنْ خَانَكَ النُّدَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ | |
فَأَبِحْهُ سِرَّكَ قَدْ أَمِنْتَ لِسَانَهُ | أَوْ أَنْ يَغِيبَكَ عِنْدَهُ مُغْتَابُ | |
وَإِذَا هَفَوْتَ أَمِنْتَ غَرْبَ لِسَانِهِ | إِنَّ الْعِتَابَ مِنَ النَّدِيمِ عَذَابُ |
بل إنَّ بعضَهم كان يستعين به على الغُرْبة ووحشتها، ويُوصِي به المسافر، فودَّع أحدُهم صديقًا له، فقال له: "استعنْ على وحشةِ الغُرْبة بقراءة الكتب، فإنَّها ألسنٌ ناطقة، وعيونٌ رامقة".
وهو النديمُ حين يتفرَّق الندماء، وبه تَأْنس الوَحْدة، وتطيب المجالس، قيل لبعضهم: أمَا تستوحش؟ فقال: أيستوحش مَن معه الأنسُ كلُّه، قيل: وما الأنسُ كلُّه؟ قال: الكتاب.
استشعَرَ ذلك ابنُ المبارك، فكان يَطيب له كثيرًا مجالسةُ الكتب والخلوة معها، فلامَه أصحابُه على عدم رؤيتهم له، فقال لهم : "إنِّي إذا كنتُ في المنزل جالستُ أصحابَ محمد ﷺ"؛ يعني: النظر في الكتب.
اقتناء الكتب:
وطبيعيٌّ أن يكون هذا الحبُّ والشَّغف للكتب مع إدراك قيمتها وفائدتِها دافعًا لهم لشرائها واقتنائها، لا لوَضعِها لزينة وديكور تُزيَّن به الغرف - كما يفعل الناس الآن - إنَّما للمطالعة، والبحث والاستفادة، ولهم حوادثُ طريفةٌ كلَّ الطرافة في حسرتِهم على فَقْد الكتب وبيعها، أو في سعادتهم بشراء الكتب، فحدَث أنْ باع أحدُهم كتابًا ظن أنَّه لا يحتاج إليه، ثم إنه احتاج إليه، فالْتمس نسخةً منه، فلم يجدْها بعارية ولا ثمن، وكان الذي ابتاعه قد خَرَج به إلى بلده فشخص إليه، وسألَه الإقالةَ وارتجاع الثمن منه، فأبى عليه، فسأله إعارتَه لنسْخ الكلمة منه، فلم يُجِبْه، فانكفأ قافلاً، وآلَى على نفسه ألاَّ يبيعَ كتابًا أبدًا.
وقيل لآخرَ: ألاَ تبيعُ من كتبك التي لا تحتاجُ إليها؟ فقال: إنْ لم أحتجْ إليها اليوم احتجتُ إليها بعدَ اليوم.
وقد لاموا أحدَهم بشراء كلِّ كتاب يراه، وقالوا له: إنَّك لتشتري ما لا تحتاج إليه، فقال: إنَّما احتجتُ إلى ما لا أحتاجُ إليه، وكان بعضُ القضاة يشتري الكتب بالدَّيْن والقَرْض، فقيل له في ذلك، فقال: أفلا أشتري شيئًا بَلَغ بي هذا المبلغَ؟! قيل: فإنَّك تُكثِر، فقال: على قَدْر الصناعة تكون الآلة.
استعارة الكتب وآدابها:
قرأتُ في إحدى المجلاَّت عن أشخاص كوَّنوا لهم مكتباتٍ من كتب الناس، فكانوا يستعيرونها، ثم لا يُرجعونها، وانتشرتْ سَرقةُ الكتب هذه تحت ستار الاستعارة، حتى اشتهرَ بها أناسٌ من المعروفين بالمكانة الاجتماعيَّة، وإن كان هذا طريقًا غيرَ شرعي ولصوصية، فقد ذمَّه السلف، ووضعوا آدابًا لاستعارة الكتب، مَن خالفها يمتنعون عن إعارتِه مرَّة أخرى.
فمِن آدابِ الاستعارة: توقيرُ الكتاب، والاهتمامُ بنظافته، فكثيرٌ ممَّن يستعيرون الكتبَ يُرجعونها إلى أصحابها أبعدَ ما تكون عن النظافة، وحَدَث هذا مع أبي حامد أحمد بن طاهر الإسفرائيني الفقيهِ، حين استعار منه رجلٌ كتابًا، فرآه يومًا وقد أخَذَ عليه عنبًا، ثم إنَّ الرجل سأله بعد ذلك أن يُعيرَه كتابًا، فقال تأتيني إلى المنزل فأتاه، فأخرجَ الكتابَ إليه في طَبقٍ وناوله إيَّاه، فاستنكر الرجل ذلك، وقال: ما هذا؟! فقال أبو حامد: هذا الكتاب الذي طلبتَه، وهذا طبق تضع ما تأكلُه عليه، فعَلِم بذلك ما كان مِن ذنبه.
ومِن آداب الاستعارة: ألاَّ تُرجِعَ الكتاب متغيِّرًا متكسرًا مهلهلاً، فإن فعلتَ ذلك عوقبتَ بمنعك من الاستعارة، كما فعَل بعضُ أهل العلم حين استعار مِنه رجل كتابًا، ثم ردَّه إليه بعد حين متكسِّرًا متغيرًا، عليه آثارُ البذور وغيره، فسأله أن يُعيرَه غيرَه، فقال له: ما أحسنتَ ضيافةَ الأول، فنضيفك الثاني؟!
أمَّا فقْدُ الكتاب المستعار، فهذه كبيرةٌ من كبائر الاستعارة، لا يحقُّ لِمَن فعلها أن يعارَ بعد ذلك، حتى إنَّ أحدهم بيَّن ندمَه على تضييع كتاب قد استعاره، فقال: إنَّه أعاره رجلٌ من وجوه بني هاشم بالبصرة دفترًا فضاع، فتفجَّع لذلك، فاعتذرتُ إليه، وقلت:
يَا مَلِكًا مَا تَزَالُ رَاحَتُهُ | تُعْطِي الْمَعَالِي وَتَبْسُطُ النِّعَمَا | |
هَبْ لِمُقِرٍّ بِالذَّنْبِ مُعْتَرِفٍ | بِوَاسِعِ الْعَفْوِ مِنْكَ مَا اجْتَرَمَا | |
أَعَرْتَهُ دَفْتَرًا تَضِنُّ بِهِ | فَخَانَهُ الدَّهْرَ فِيكَ فَاصْطَلَمَا | |
إِعْظَامُكَ الْعِلْمَ إِذْ فُجِعْتَ بِهِ | يَزِيدُ عِندِي خَطِيئَتِي عُظْمَا |
وجعل الشاعرُ ردَّ الكتاب المستعار شرطًا في الإعارة، فقال:
أَيُّهَا الْمُسْتَعِيرُ مِنِّي كِتَابًا | إِنْ رَدَدْتَ الْكِتَابَ كَانَ صَوَابًا | |
أَنْتَ وَاللَّهِ إِنْ رَدَدْتَ كِتَابًا | كُنْتَ أُعْطِيتَهُ أَخَذْتَ كِتَابًا |
وبعد، يا أخي المسلم، إسلامُك يُحتِّم عليك أن تكون ذلك الداعية الذي يحمل دعوتَه عن عِلم، لا عن جهل، وأعداءُ الإسلام يُغرقون الأسواقَ بكتبهم المبتذلة، وهم مع ذلك لا يجدون مَن يُقبِل عليها، فيضطرون لتوزيعها مجانًا، فأقْبِلْ أنت على الكتاب الإسلامي، وشَجِّع هذا الكتابَ، واحرص على اقتنائه، وبَذْل الدعاية له، ونشْره بين أوساط الناس، وحين تفعل ذلك تكون قد نشرتَ فكرتَك بين الناس، وواجهتَ أيَّ أفكار معادية.
وبالله التوفيق.
(من مجلة الدعوة، ولم يذكر اسم الكاتب، فجزاه الله خيرًا).
من أسباب تحصيل العلم
أخي الطالب، هذه مجموعةُ قواعدَ وملاحظات تساعدك على المذاكرة السليمة - إن شاء الله تعالى - وتذكَّرْ يا أخي، أنَّ الله معك دائمًا متى أخلصتَ العمل لوجهه الكريم.
قواعد المذاكرة السليمة:
1- التوكُّل على الله، والاعتمادُ عليه، وإخلاصُ العمل له، ثم الثِّقة بالنفس دون غرور أو تكبُّر.
2- المحافظةُ على أداء الصلوات مع الجماعة، ولا سيَّما صلاة الفجر؛ لِمَا لها من تهيئة لصفاءٍ ذهني، ودرجة تركيز أكبرَ، وهو ما يكون الطالبُ في أمسِّ الحاجة إليه.
3- حدِّد مكانًا مناسبًا للمذاكرة يتوفَّر فيه ما يأتي: الهدوء، تجدُّد الهواء، الإضاءة الجيِّدة، خلو المكان من الصُّور والرسوم.
4- عند المذاكرة حاولْ أن تبدأَ بقراءة العناوين، ثم اقرأِ الموضوع إجمالاً وتفصيلاً.
5- حاولْ أن تجعل قراءتَك للموضوع سريعةً؛ للإلمام بالمقصود، ثم أتْبِعها بقراءة الحِفظ والتَّكْرار.
6- اتَّبعْ طريقة التسميع بعدَ الفَهْم والاستيعاب، فذلك يساعدك على تثبيت المعلومات، ويُعالج الشرودَ الذهنيَّ.
7- حاولْ تلخيص ما تمَّ فهمُه، مع التنظيم والتنسيق، حتى يسهلَ عليك مراجعتُه بسرعة.
ملاحظات هامة:
1- تذكَّرْ يا أخي، أنَّ الرفقة الصالحة توفِّر لك الجوَّ المناسب للمذاكرة، وتعينك على طاعة الله، وفي المقابل تجنَّبْ معاشرةَ الطلبة الفاشلين؛ حتى لا تقعَ فيما وقعوا فيه.
2- تذكَّر أنَّ اهتمامَك بصحتك الجسميَّة يكون بحِفْظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها[34].
3- تذكَّرْ يا أخي، أنَّك مطالَب بالكثير، فأنت أملُ الأمَّة، ومستقبلُها الزاهر - بإذن الله تعالى.
نصيحة:
إذا كنتَ يا أخي، تُعاني من مشكلةِ النِّسيان وعدم الحِفْظ، فتذكَّر هذه الحِكمة التي رُويتْ عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - عندما شَكَا إلى شيخه (وكيع بن الجراح) سوءَ حفظه فقال:
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي | فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي | |
وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ | وَنُورُ اللَّهِ لاَ يُؤْتَاهُ عَاصِي |
فما أحرانا أخي الطالب، أن نُقلِعَ عن المعاصي، وأن نُقبِلَ على الله بقلوب خاشعة، حتى تصفوَ نفوسُنا، وتشرقَ قلوبنا.
ومن أسباب تحصيل العلم ما يلي:
1- لزومُ تقوى الله - تعالى -: بامتثال أوامرِه، واجتناب نواهيه؛ قال - تعالى -: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282].
2- دعاءُ الله وسؤاله العلمَ والفَهْم؛ قال - تعالى -: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
3- مذاكرةُ الدُّروس قبلَ شَرْحها.
4- الانتباه إلى شَرْح المدرِّس بجميع الحواس.
5- المذاكرة بعدَ الخروج من المدرسة؛ لترسخَ في الذِّهْن.
6- سؤال المدرِّس عمَّا أشكَل بعدَ الشَّرْح.
7- الجِدُّ والاجتهاد والمواظبة، وحلُّ الواجبات، وحِفْظ الأوقات وتنظيمُها، والاستفادة منها.
8- العملُ بالعِلم وتعليمه، ونشْرِه بين الناس، وبذلك يزكو وينمو ويُثمر، فمَن عمل بما عَلِم، أورثَه اللهُ علمَ ما لم يعلم، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم[35].
المكتبة المختارة للشباب المسلم
وممَّا ينبغي أن يُعلمَ أنَّه ليس كلُّ كتاب يصلُح للقراءة، ولا كلُّ كاتب ومؤلِّف ينبغي أن يقرأَ له؛ لأنَّ هناك كتَّابًا وأقلامًا مسخَّرة لهدمِ الإسلام، والقضاءِ عليه، والتشكيكِ في عقائده وأعمالِه وأخلاقه، وتضليلِ معتنقيه، خصوصًا الشبابَ الذين هم رجالُ المستقبل؛ لذا ينبغي للشباب المسلِم إذا أراد أن يقرأَ أن يستشيرَ مَن يثق بعِلمه ودِينه عن الكتب المفيدة النافعة، الصالحة للقراءة، وعن المؤلِّفين الذين يُنصَح باقتناء مؤلَّفاتهم وقراءتها.
وينبغي أن يُعلَم أنَّ العلم النافع الذي وردتِ النصوصُ بفضْله وفضْل أهله هو علمُ الكتاب العزيز - القرآن - وتفسيره ومعرفة علومه وأحكامه، والسُّنَّة النبويَّة المطهَّرة وشروحها، وهما اللَّذان تضمَّنَا الهداية إلى الصِّراط المستقيم، وتكفَّلاَ بسعادة الدنيا والآخرة لِمَن تمسَّك بهما علمًا وعملاً واعتقادًا، وما سوى ذلك فهو فضل، وبهذه المناسبة يَسرُّني أن أُتحِفَ القارئ الكريم بأسماء بعض الكتب التي يُنصح باقتنائها، والقراءة فيها:
أولاً: في التفسير:
1- تفسير القرآن العظيم؛ للشيخ إسماعيل بن كَثِير.
2- تفسير الإمام محمَّد بن جَرِير الطَّبَري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن).
3- تفسير القُرطبي (الجامع لأحكام القرآن).
4- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان؛ للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعْدي[36].
ثانيًا: في التوحيد والعقائد:
1- العقيدة الواسطية؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وشروحها (لابن رشيد، وابن سلمان، وغيرهما، كشرْح الشيخ صالح الفوزان).
2- لُمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرَّشاد؛ لموفَّق الدِّين بن قُدامة، وشرحها لابن عثيمين.
3- كتاب الإيمان؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.
4- شرح العقيدة الطحاوية.
5- مجموعة التوحيد النجديَّة.
6- كتاب التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد؛ للشيخ محمد بن عبدالوهاب وشروحه.
7- فتْح المجيد بشرح كتاب التوحيد؛ للشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ.
8- القول السديد بشرح مقاصد التوحيد؛ للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعْدي.
9- معارج القَبول بشرح سلم الوصول؛ للشيخ حافظ بن أحمد الحَكَمي.
ثالثًا في الحديث:
1- التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (مختصر صحيح البخاري)؛ للشيخ أحمد الزَّبِيدي.
2- مختصر صحيح مسلم؛ للمنذري.
3- رِياض الصالحين؛ للنووي.
4- المنتقَى من أخبار المصطفَى (في أحاديث الأحكام مجلدين)؛ لمَجْدِ الدِّين عبدالسلام ابن تيميه، وشرحه نيل الأوطار؛ للشوكاني.
5- بلوغ المَرام من أدلَّة الأحكام؛ لابن حجر العسقلاني، مجلد، وشرحه سبل السلام للصنعاني.
6- الترغيب والترهيب؛ للمُنذري.
7- جامع الأصول من أحاديث الرسول ﷺ لابن الأثير.
8- مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي (3) مجلدات.
9- شرح السُّنَّة للبغوي (16) مجلدًا.
10- مُوطَّأ الإمام مالك.
11- مجموعة الحديث النجديَّة.
12- الجامع الصغير بأحاديث البشير النذير؛ للسيوطي (يذكر مَن أخرَجَ الحديث، ودرجته في الصحة).
13- فَيْض القدير بشرح الجامع الصغير؛ للمناوي.
14- الفتح الربَّاني لترتيب مسند الإمام أحمد، مع شرحه بلوغ الأماني؛ للشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنَّا.
15- جامع العلوم والحِكَم؛ لابن رجب (شرح الأربعين النووية، وتكملتها إلى خمسين حديث).
رابعًا: في الفقه:
1- عُمدة الفقه؛ لابن قدامه.
2- العُدَّة شرح العمدة؛ للشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم المقدسي.
3- المغني؛ لابن قدامة.
4- زاد المعاد في هَدي خيرِ العِباد؛ لابن القيم (ويشتمل على الفقه، والسيرة النبوية، والطب، وأقضية الرسول ﷺ).
5- المجموع شرح المهذب؛ للنووي.
6- الكافي؛ لابن قدامة.
7- مِنهاج الطالبين؛ للنووي.
8- بداية المجتهد ونهاية المقتصد؛ لابن رُشْد (يذكر المذاهب الأربعة، وسبب اختلافهم في المسألة مع الترجيح).
9- رحمة الأمَّة في اختلاف الأئمَّة (يذكر اتفاق واختلاف الأئمة الأربعة)؛ الشيخ عبدالرحمن الدمشقي الشافعي.
10- الإفصاح عن معاني الصحاح؛ لابن هبيرة، يَذكر ما اتفقت عليه المذاهب الأربعة، وما اختلفوا فيه كسابقه.
11- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (37 مجلدًا).
12- الكافي في فِقه أهل المدينة؛ لابن عبدالبرِّ المالكي.
13- الإرشاد إلى معرفة الأحكام؛ للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، مائة سؤال مقرونة بالأجوبة.
14- منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين؛ للشيخ عبدالرحمن السعدي.
15- منهاج المسلم؛ لأبي بكر الجزائري (ويشتمل على عقائد وأخلاق وآداب وعبادات ومعاملات).
خامسًا: في السيرة والتاريخ:
1- البداية والنهاية؛ لابن كَثِير.
2- الكامل؛ لابن الأثير.
3-المختصر في أخبار البشر؛ للشيخ إسماعيل أبي الفداء.
4- تتمة المختصر في أخبار البشر؛ للشيخ محمد بن الوردي.
5- السِّيرة النبويَّة؛ لابن هشام.
6- مختصر سيرة الرسول ﷺ للشيخ محمد بن عبدالوهاب وابنه عبدالله.
7- عنوان المجد في تاريخ نجد؛ للشيخ عثمان بن بشر.
8- تاريخ نجد؛ للشيخ حسين بن غنَّام.
9- حياة الصحابة؛ للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي.
10- السِّيرة النبوية (دروس وعبر)؛ للدكتور مصطفى السباعي.
سادسًا في الأدب:
1- الآداب الشرعيَّة؛ لابن مُفلِح.
2- شرح منظومة الآداب؛ لابن عبدالقوي، للسفاريني (مجموع من 300 كتاب).
3- أدب الدنيا والدِّين؛ للماوردي.
4- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء؛ لابن حبَّان.
5- أدب الكاتب؛ لابن قُتَيبة.
6- جواهر الأدب؛ للشيخ أحمد الهاشمي.
7- المعارف؛ لابن قُتَيبة.
8- لطائف المعارف؛ للثعالبي.
9- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله؛ لابن عبدالبر.
10- مداواة الأخلاق والنفوس؛ لابن حزم.
11- الأدب النبوي؛ تأليف عبد العزيز الخولي.
سابعًا: كتب ثقافية معاصرة:
1- جاهلية القرن العشرين؛ لمحمَّد قطب.
2- شبهات حولَ الإسلام؛ لمحمَّد قطب.
3- ماذا خَسِر العالَم بانحطاط المسلمين؛ للندوي.
4- الغارة على العالَم الإسلامي؛ لمحب الدِّين الخطيب.
5- حصوننا مهدَّدة من داخلها؛ لمحمد محمد حسين.
6- دور الطلبة في بِناء مستقبل العالَم الإسلامي؛ لأبي الأعلى المودودي.
7- بروتكولات حكماء صِهْيون؛ ترجمة محمد خليفة التونسي.
8- الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه؛ عبدالقادر عودة.
9- أساليب الغزو الفكري للعالَم الإسلامي؛ علي جريشة.
10- الإسلام بين العلماء والحكَّام؛ عبدالعزيز البدري.
11- الإسلام يتحدَّى؛ وحيد الدين خان.
12- العبادة في الإسلام؛ يوسف القرضاوي.
13- الصلاة عماد الدين؛ حسن الترابي.
14- مبادئ الإسلام؛ لأبي الأعلى المودودي.
15- خُلق المسلِم؛ محمد الغزالي.
16- أخلاقنا الاجتماعيَّة؛ مصطفى السباعي.
17- قوارب النجاة في حياة الدعاة؛ فتحي يكن.
18- نظرية الإسلام وهديه؛ لأبي الأعلى المودودي.
19- الإيمان والحياة؛ يوسف القرضاوي.
20- الإيمان وأثره في حياة المسلم؛ حسن الترابي.
21- مجموعة رسائل حسن البنَّا.
مؤلِّفون يُنصَح باقتناء مؤلفاتهم، والاستفادة منها:
1- شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
2- شيخ الإسلام محمد بن القيم.
3- الحافظ عبدالرحمن بن رجب.
4- الإمام يحيى بن شرف النووي.
5- الإمام موفَّق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة.
6- الحافظ إسماعيل بن كثير - صاحب التفسير والتاريخ.
7- الحافظ محمد بن عثمان الذهبي.
8- الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني - صاحب كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري.
9- الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
10- الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعْدي.
11- الشيخ محمد الصالح العثيمين.
12- الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم.
13- الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
14- الشيخ أبو الأعلى المودودي.
15- الشيخ أبو الحسن الندوي.
16- الشيخ الإمام حسن البنَّا.
17- الشيخ ناصر الألباني.
18- سيِّد قطب.
19- محمد قطب.
ظاهرة قضاء الإجازة خارج البلاد
بقلم: ناصح
إذ آنَ أوانُ العطلة الصيفيَّة، واشتداد الحرِّ، والبحث عن الجِهة التي يقضي فيها الفردُ هذه الفترة، تطلَّع الكثيرُ من الناس إلى قضاء الإجازة في الخارج، ومَوْضة قضاء الإجازة خارجَ البلاد في المناطق الباردة، أو معتدلة الجو، موضةٌ جاءتْ مع الحضارة الزائفة، ومع موجة التَّرَف وارتفاع مستوى المعيشة، وكثرة الأموال بأيدي الناس، ونقصِ الإيمان والوازع الدِّيني.
إنَّ الاستعمارَ الذي تغلْغَل في البلاد الإسلاميَّة ينخر في جسمها - قد خطَّط للقضاء على أخلاقها وإسلامها، وهو حاليًّا جادٌّ في تنفيذ مخططاته الهدَّامة؛ لعِلمه علمَ اليقين أنَّ الإسلام هو العدوُّ اللدود الواقف في طريقه؛ لإحباط مخطَّطاته الاستعماريَّة العَدائيَّة.
وما يُسمَّى اليوم بالحضارة الزائفة ما دخلتْ وحدَها بلدًا إلاَّ هدمت أخلاقياتِه ومُثلَه العليا، وقوَّضت بناءَ أركانه، وقد استخدمها الاستعمارُ اليوم وصقلها؛ لتكونَ من أوسع المنافذ العديدة، التي يدخل منها الفسادُ لهذا المجتمع المسلِم، وقد حشَاها بالأفكار المضلِّلة؛ ليستفيدَ منها ماديًّا معنويًّا.
ماديًّا: هذه العُملَة الصَّعْبة التي يُبعثرها السائِح أثناءَ إقامتِه خارج وطنِه.
ومعنويًّا: حينما يعود مدَّعِي السياحة مشبَّعًا بالأفكار الاستعماريَّة يحكي لنا مغامراتِه البشعةَ، وصفقاتِه الخاسرة، يُشيد بالإباحيَّة الفاجرة، والتحلُّل من الدِّين والأخلاق والمُثُل، ويتهم الإسلامَ بالتحجُّر والرجعية؛ لأنَّه يفرض القيود، ويضع الحدود، ويمنع الحرية المطلقة - الحرية البهيميَّة والوحشيَّة.
إنَّ هذه الظاهرةَ الخطيرة التي يَدمَى لها قلْبُ كلِّ مسلِم غيور، يذهب ضحيتَها إيمانٌ وأموال وأخلاق، كلَّ عام يستشرى شرُّها، ويتضاعف العددُ بسبب الدعايات، التي يُروِّجها مَن وقع في حمأة الرذيلة، وانغمَسَ في مستنقعات العُهْر، وبُؤَر الفساد، حتى شملتِ النساءَ والشباب اليافعين الصغار، وأشدُّ ما يُذكي نارَها، ويشب أوراها[37] تشجيعُ هؤلاء على مستوى الأجهزة والمستوى الشعبي، فتجد بعضَ الأجهزة تدفعهم، ولو بطريقٍ غيرِ مباشر إلى طُرُق هذه الأبواب بتهيئة الجوِّ لهم، وتيسير سُبُل الراحة في الحصول على أسباب السَّفر.
ولكن لهذا التخفيف مغزًى آخر أشدُّ خطورةً من تطويل الرُّوتين، وهو إتاحة الفُرْصة لأكبر عدد ممكن للسَّفَر في أيِّ وقت؛ لإفساد أخلاقِه ونقضِ إسلامه، ودَفْع المبالَغ الطائلة للمغنيِّين والمغنيات، والممثِّلين والمهرِّجين، دعاة الشر، عبَّاد المادة، الذين باعوا أخلاقَهم وشرفهم للشيطان؛ تشجيعًا لهم على مواصلة باطلِهم، كما تفعل أجهزةُ الإعلام اليوم بتشجيع العاهرات والمومسات، ودعاة الفجور، الخالعين لرِبقة الإسلام من أعناقهم، إن كانوا ممَّن يدَّعي الإسلام بشراء تُرهَّاتهم ومفاسدهم، وتأوهاتهم من أغانٍ خليعة، وتمثيليات ماجنة تفسد الأخلاق، وتَحلُّ عُرى الإسلام عروةً عروةً، تدفع المبالغ الطائلة في الوقت الذي نحن بحاجة إلى قِرش، ويصرف على معاطن الفجور باسم الفنِّ وتشجيع الفنانين (الذين يجب قمعُهم وتأديبهم حسبَ تعاليم الإسلام الحنيف).
إنَّنا في زمانٍ الإسلامُ فيه في أشدِّ غربته، ما دامت هذه الأجهزة تدفع إمكاناتِها - عصب حياتها - على حبائل الشيطان، ومطايا جنوده، تشتري هذه المفاسدَ بأموال أمَّة مسلِمة تحت شعار إرضاء الجمهور، أو الاحتيال لتكذيب المَثَل القائل (رِضَا الناس غايةٌ لا تُدرك).
إنَّ مجتمعَنا اليومَ قد اختلط فيه الحابلُ بالنابل، وصار الدخلاء هم السوادَ الأعظم، وفيهم المندسُّون الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، وهم الصوت النَّشاز الذي نسمع أنَّه غير راضٍ عن الحلقات الدِّينيَّة والتوجيهيَّة.. إلخ، إنَّ هؤلاء لو أتيتَ بكلِّ مفاسدِ الدنيا، لطلبوا منك الزيادة، ولظلُّوا غيرَ راضين عنك مهما التمستَ رِضاهم بسخط الله؛ لأنَّ مَن طلب رِضَا الناس بسخط الله، سخط اللهُ عليه، وأسخط عليه الناس، ومَن طلب رِضَا الله بسخط الناس، رَضِيَ الله عنه، وأرْضى عنه الناس.
إنَّ هذه الأجهزةَ الخطيرة أُوجدتْ لتوجيه المجتمع المسلِم، لا لتُرضي الغوغاءَ فيه، وتشبع ميولَهم البهيمية، إنَّها أوجدتْ لتقولَ: هذا حلال وهذا حرام، وهذا ما يجب أن تكون عليه، أوجدتْ لتدعوَ إلى الدِّين الحنيف، والتمسُّك بآدابه وأخلاقه، أوجدتْ لترشيد الناس داخلَ البلاد وخارجها.
أوجدتْ لتُسمِعَ صوتَ الإسلام مدويًا في جميع بقاع العالَم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، ولم توجد للتخطيط لهدْمِ الدِّين، والتجنِّي على الإسلام والمسلمين.
بأموالنا وأيدينا نهدم دِينَنا ومُثلَنا وأخلاقنا ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الحشر: 2] كل هذا بدعوى إرضاءِ الجمهور، أو مجاراة لإعلام الآخَرين الذين يتَّخذون الأغاني والأنغام ترانيمَ دِينيَّة ونوعًا من العبادة في كنائسِهم، ويستحلُّون الحرام، إنَّ لهؤلاء دينًا يؤمنون به - إن صحَّ التعبير - ولنا دين نؤمن به، والحمد لله، ولو جاريناهم لخرجْنا من دِيننا إلى ما يؤمنون به، كما أنهم لو جارونا، وعملوا مثلَ ما يفعله الصالحون منَّا، لصاروا مثلَنا ولدخلوا في ديننا.
يا أخي المسؤول، هل أنتَ تابع للجمهور، أم أنَّ الجمهور تابع لك؟ فإنك إن طلبتَ رضاه كنتَ تابعًا له، إنَّ المريض المدنف لا يرضَى بشُرْب الدواء، ولكن الطبيب يُرغِمه على شرْبه، ولا ينظر إلى رغبته؛ لأنَّ الطبيب أعلمُ منه بما ينفعه، ويَشفِي مرضَه، وإنَّه لو لم يشربْ هذا الدواء، فإنَّه لن يحصل على الشِّفاء، وهذه أوجدتْ لتعالجَ ما في هذا المجتمع من أمراض أخلاقيَّة وسلوكيَّة، والتلفزيون والإذاعة مؤسَّستان حكوميتان، وليستَا ملزمتَيْن بإرضاء الجمهور، وضعتهما الدولةُ - دولةُ الإسلام والمسلمين الكبرى - لتوجِّهَ الناس، وليس لإرضائهم، ويتحتَّم على الجميع لزومُ طريق الطاعة، وإن كان طويلاً، وأن نصبرَ على ذلك، وموضوعُنا الذي به حديثنا هذا لا يقلُّ خطرًا على الدِّين ممَّا أسلفْنا.
فهو من الوباء الفتَّاك الذي ينخَرُ في جِسْم الأمَّة الإسلاميَّة، الذي تجب محاربتُه في عقر داره بالمهنَّد المصقول، وليس ببذْل المال، وبعث البعوث؛ ليُصفِّقوا لهذه الأشباح الموحشة، والجِيف المنتِنة الخبيثة، ودماء الاستعمار وألاعيبه التي يُحرِّكها كما يشاء، ونحن أمَّة الإسلام نُموِّلها بدمائنا بعصْبِ حياتنا، بأخلاقنا، بإسلامنا الغالي الذي أرخصْناه، وبِعْناه بالزهيد بالشهوات الفانية، بضياع أبنائنا.
إنَّنا على المستوى الشعبي أيضًا نشجِّع دعاةَ الرذيلة بشراء أشرطتهم وصُورهم ومخازيهم، نسمحُ لأولادنا الصِّغار والكبار بالسَّفر إليهم، وإعطائهم المالَ الوفير لإنفاقه على مسارحهم الماجنة، ومعاطنِ فسادهم المنتنة، ونسائهم العارية، ومراقصِهم الخليعة، ومستنقعات الدعارة، وبيَّارات الفجور والبغاء، وحاناتِ الخمر، وبارات السَّلْب والنَّهْب واستنزاف الأموال.
وإذا سافَر أحدُهم إلى تلك الأماكن المتبرِّجة، لا للتجارة ولا للعلاج، ولا لأيِّ سببٍ، أو غرض من الأغراض الشريفة، وهو لا يقصد بسفرِه هذا إلاَّ مجرَّد الالْتقاء بتلك العاهرات، والخائنات الماجنات، والخلوة بهنَّ، وارتكاب الفاحشة علنًا، والتردُّد على حانات الخمر، والتحلُّل من التكاليف الإسلاميَّة، ونشدان الحريَّة الإباحيَّة المطلقة، البعيدة عن الرُّقباء، فلا يخشى ردْعَ السلطان، أو وخزَ الجيران، فلا يصلُ إلى هناك إلاَّ وقد تخلَّى عن الالتزام بأوامر الدين، ثم يعود وقد ارتكب الخطايا، وكبائرَ الذنوب، هذا إن رجع بشيءٍ من الإسلام، ثم نستقبله في المطار، ونختفي به ونأخذُه بحفلات التكريم، وكأنَّه قد عاد من الحجِّ أو العمرة، أو الجِهاد في سبيل الله (حاشَا لله)، وبهذا نكون قد أقررْناه على أفعالِه وخطاياه، ونكون بذلك قد أعنَّاه على تَكْرار فجوره وعصيانه.
كان السابقون - رحمهم الله - إذا عاد الإنسانُ من بلد غير إسلاميَّة، أو بلد يحكُمها غيرُ المسلمين، ولو كان عائدًا من تجارته - يُهجَر ثلاثةَ أيَّام لا يُسلَّم عليه، وقد أقمنا لهم بدلَ الهجر المهرجاناتِ والحفلات، ونَحْتفي بهم احتفاءً يدفعُهم إلى السَّفر مرَّات ومرَّات، إنها لمآسٍ تجرحُ قلوبَ المسلمين، وتجرح إيمانَهم.
وللحدِّ من هذه الظاهرة الخطيرة نقترح أن توضعَ حدودٌ للسَّفر، وتُشرِف على ذلك لجنةٌ تشترك فيها وزارة العدل والإفتاء والدعوة والإرشاد، ورئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُمثِّل هاتين الجهتين مشايخُ مشهودٌ لهم بالتقوى والصلاح، وتُعطَى صلاحية الموافقة والتسفير، فمن كان قاصرًا أو سفيهًا، أو معروفًا بالانحراف، أو ليس لديه سببٌ شريف، فإنَّ بقاءَه خيرٌ له من السَّفر، وبهذا نوفِّر أموالاً وأخلاقًا وجهودًا، ونحافظ على سمعتِنا وسمعة بلادنا الإسلاميَّة، ونحافظ على شبابنا من الضَّياع، وقد أوردتْ (جريدة اليوم) في أحد أعدادها قصصًا ومآسيَ وقع بها هؤلاء، يَدمى لها الجبين، وطالبتْ بوضع حدٍّ للسفر، وألاَّ يتركَ الباب على مصراعيه لهؤلاء.
إنَّها صَرْخة في آذان المسؤولين، راجين أن يُعيروها اهتمامَهم المعهودَ؛ ليَنجُوا من عذاب الله؛ «كلُّكم راعٍ، وكلُّ راعٍ مسؤول عن رعيته»[38]؛ لأنَّ الفردَ المسلِم إذا سعى إلى معصية، فكلُّ مَن ساعده للوصول إليها مشتركٌ معه في الإثم، وهذا معروف في كلِّ الأعراف: أنَّ مَن سهَّل الأمر، وساعدَ مرتكبَ الجريمة شريكٌ له فيها، فمَن ساعد هؤلاء مِن أهلٍ أو أصدقاء أو مسؤولين على السفر، وهم يعلمون أنَّهم لم يذهبوا إلاَّ لارتكابِ الكبائر، فإنهم شركاءُ معهم، والأمر عظيم، والتهاون به أعظم.
وبجانب هذا نهتمُّ بتطوير المستشفيات، ورفْعِ شأنها؛ سدًّا للذريعة، ونحن - ولله الحمد - قادرون على ذلك، وفتْحِ الأقسام المختلفة في الجامعات والدِّراسات العُليَا، وجلْب كِبار الأساتذة والمعامل، وتطوير المناطق السياحيَّة التي يناسب جوُّها لقضاءِ الإجازة، بفتح الطُّرق وبناء الوحدات السكنية والفنادق السياحيَّة، مثل الطائف وعسير وحائل، والمناطق الأثرية، مثل الدرعية، وغيرها، والمدن الساحليَّة، وبهذا نحتفظ بمليون مسافِر سنويًّا، ونوفِّر عشرة آلاف مليون ريال، بمعدل كلِّ مسافر عشرة آلاف ريال، وبعضُهم ينفق مائةَ ألف ريال في اللَّيْلة الواحدة، ثم نبني بهذه المبالغِ دِينَنا وأمَّتنا ومجتمعنا وبلادنا وسمعتنا، فهل نحن سامعون؟ نرجو ذلك. (عن مجلة الدعوة).
دور المسلم في الحياة[39]
إنَّ للمسلِم دورًا كبيرًا وهامًّا في هذه الحياة يسمو فوقَ المُتع الجسديَّة والشهوانيَّة، التي تشترك في طلبها كلُّ دابَّة في الأرض؛ بل إنَّ الإنسان قد كرَّمه الله ورزقه، وفضَّله على كثير ممَّن خلق؛ قال - جلَّ وعلاَ -: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].
وجاءتْ نِعمة الإسلام مِن الله للمسلِم يُكرمه بها، ويرفع من مكانته وقدْرِه، وكان قبل الإسلام في حالة لا يُحسد عليها، من الجهل والانحطاط، والتخلُّف والهمجيَّة؛ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة: 2-4].
كان الإنسانُ قبلَ الإسلام له وضْع، وبعدَ الإسلام له وضْعٌ آخرُ مغاير، وكان الإسلام يعني التحوُّل إلى الوضْع الصحيح، والسليم والأمثل، وما أحسنَ وما وصَفَ به جعفرُ بن أبي طالب - رضي الله عنه - حالَه، وحالَ قومه قبلَ وبعد الإسلام، وهو يتقدَّم وفدَ المهاجرين إلى النجاشيِّ ملِكِ الحبشة، ويُجيب عن أسئلته، فيقول - في عزَّة المؤمن الواثق بربِّه -: أيُّها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجُوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف، فكنَّا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبَه وصِدقَه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّدَه ونعبدَه، ونخلعَ ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، أمَرَنا بصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلَة الرحم، وحُسْن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفواحش، وقوْل الزُّور، وأكْل مال اليتيم، وقذْف المحصنات، وأمرنا أن نعبدَ الله وحده، فلا نشرك به شيئًا، وحرَّمْنا ما حرَّم علينا، وأحللْنا ما أحلَّ لنا، إلى آخر الحوار الذي دار بين النجاشيِّ ووفد المهاجرين[40].
لقد جاء الإسلام لِينقلَهم من الضعف والتشتت والفرقة، إلى العِزَّة والتآلف، والاتحاد والقوَّة، فيصبحوا إخوانًا مطبِّقين قولَ الحق - جلَّ شأنُه -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 102-105].
وماذا كان من أمرِهم لَمَّا أصبحوا بنِعمة الله إخوانًا، كان العجبُ العجاب: نشروا دِينَ الله في أرجاء الأرض، ورفرفتْ رايةُ التوحيد في كلِّ مكان وطئتْه أقدام الفاتحين المسلمين، تُعلن كلمة الحق صريحةً أمامَ قُوَى الكفر والطاغوت والضلال، وتردَّدتْ وتجاوبت أصواتُ دعاة الله من بيوت الله (لا إله إلا الله)، فتلقفتْها النفوسُ الظامئة، وسبقت (لا إله إلا الله) جحافلَ المجاهدين في سبيل الله، تنطلق من حناجِرِهم المؤمنة، فترعب أعداءَ الله، وتُلهِب الحماس، وتقوِّي العزيمة في نفوس أولياء الله وجُندِه.
يقف الفردُ المسلِم بهيئته المتواضعة أمامَ ملوك الفرس والروم، غيرَ آبهٍ بهيمانهم وصولاتهم، يطأُ بحوافرِ فرسِه، ويخرِّق برأس رمحه فُرَشَهم، ويُحدِّثهم حديثَ الندِّ للند، ملقيًا على مسامعهم ما أُرسل به إليهم من دعوتهم إلى دِين الله الحنيف، فإمَّا أن يستجيبوا ويذعنوا وينقادوا، وبشراهم الجنة، والعزَّة والكرامة في الدنيا، وإمَّا أن يتمرَّدوا ويرفضوا دعوةَ الحق، فينذرهم ويخوِّفهم، ويتوعدهم بما ينتظرهم في الدنيا والآخرة.
ويَكفي في وصْف عباد الله مدحُ الله لهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، وقوله - سبحانه -: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
إنَّنا لو استعرضْنا مآثرَ سلفنا الصالح، وما حَبَاهم الله به من الإيمان والتقوى، والتحرُّر من رِقِّ الشهوات، ونظرْنا إلى سيرتِهم العطرة، وماذا كانوا قبلَ الإسلام، وماذا كانوا بعدَ الإسلام - لعَلمْنا أنَّ ذلك كلَّه ما كان ليحصلَ إلاَّ بالإسلام، فمَن أخذ به وطبَّقه، أعزَّه الله ونصره، وأذلَّ له كلَّ شيء، ومَن هجر الإسلام ورفض الأخذَ به وتطبيقه، وطبَّق النُّظم والقوانين البشرية، وحَكَم بغير ما أنزل الله - أذلَّه الله، وسلَّط عليه مَن يسومُه سوءَ العذاب، وشتَّت شمله، ومزَّقه شرَّ ممزَّق، وجعل الخوفَ والفزع والقلق، والهمَّ والغمَّ والحزن - ملازمًا له، لا يشعر بالسعادة والراحة والطمأنينة والأمن، وإن كان لديه من المالِ والجاه والسلطان الشيءُ الكثير.
إنَّنا مطالَبون - أيُّها الإخوة المسلمون - أن نعيَ دورَنا في هذه الحياة، كما وعاه أسلافُنا الصالحون، وألاَّ يقتصر دورُنا على تحقيق رغبات هذا الجسد الفاني، والتسابُق والتنافس على ملذَّات الحياة، وشهوات النفس، وطلَبِ الدنيا إلى الحدِّ الذي يُنسينا الآخرة، ولا يكون لدينا تمييزٌ بين حلال وحرام، وطيِّب وخبيث، ونجعل الدنيا ووفرتَها هي المقياسَ والميزان والمنظار، دون اعتبارٍ للدِّين والخُلُق الفاضل، الذي جاء به هذا الدِّين، وحثَّ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق»[41].
إنَّ ما نُعانيه - معشرَ المسلمين - مِن ضعْف وتخلُّف وتَفرُّق وتشتيت وهوان، إنَّما مردُّه للتهاون والتساهُل في الأخْذ بالإسلام، وعدم تطبيقه كما يريد اللهُ ورسوله، والنقصُ والقصور ليسَ في ديننا كما يُردِّد ذلك أعداؤنا، ومَن دار في فَلكِهم، واتَّبع مذاهبهم وسُننَهم، فقد أكمل الله لعباده الدِّين، وأتمَّ عليهم النِّعمة؛ قال - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
دِيننا أيُّها الإخوة يحثُّ على القوَّة والْمَنَعة، والاكتفاء والاستغناء عن الاستجداء، ويريد منَّا أن نكون أعزَّة بالحق، لا نضعف أمامَ الباطل، ولا نخاف ولا نذلُّ، ولا نرهب إلاَّ مِن الله، ولا نرغب إلاَّ إليه، نأخذ بأسباب القوَّة، كما أَمَرَنا الله بذلك؛ لنستعينَ بها على طاعة الله، ونشْر دِينه، وقمْع الباطل وأهله، وما نراه اليومَ من تسلُّط قُوَى الشرِّ والضلال، وتحكُّمِها في بلاد وشعوب كثيرة، إنَّما هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا، وفي حديث قدسي يقول الله - تعالى -: «إذا عصاني مَن يعرفني سلَّطتُ عليه مَن لا يعرفني»[42].
وهل احتلال أعداء الله اليهود والشيوعيِّين والصليبيِّين لكثيرٍ من البلدان، ومنه بلدان إسلاميَّة - إلاَّ نتيجة لِمَا وقع فيه المسلمون من البُعد عن دِينهم، والإعراض عن كتاب ربِّهم، وسُنَّة نبيِّهم، ولكن مع ذلك فإنَّ المسلمين إذا عادوا إلى ربِّهم، وصَدَقوا في العودة، وغيَّروا ما بأنفسهم، فالله يُغيِّر حالهم؛ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55].
يجب علينا - معشرَ المسلمين - أن نُعليَ كلمةَ الله في الأرض، وهذا لن يتأتَّى إلاَّ إذا بدأنا بأنفسِنا، وعالجْنا أوضاعنا، وأصلحْنا أخطاءنا، وصححْنا سيرتنا، وعرضْنا واقعَنا على كتاب ربِّنا وسُنة نبيِّنا، فما وافقهما أخذْنا به، وما خالفهما نبذْناه، وبذلك نكون صادقين في إسلامنا.
وإنَّه لَمِن المؤسف والمؤلِم والمحزِن أن نرى بعضَ المسلمين يُضيِّعون أعمارَهم وأوقاتهم في اللهو والسَّفه، وتوافهِ الأمور، والشهوات المحرَّمة، بينما نجد أعداءَ الله يعملون من أجلِ التفوُّق والعلو، والسيطرة على المسلمين، وإظهارنا بمظهر المغلوبِ على أمرِه.
أيُّها الأخوة المسلمون، أمَا آنَ لنا أن نراجعَ أنفسنا، ونفكِّر بجدية في واقعنا، ونتذكَّر تاريخَنا الإسلاميَّ الزاهر، ونُلقي نظرةً على المراحل التي عاشها المسلمون بين مدٍّ وجَزْر، وتقدُّم وتأخُّر، ونهوض وتخلُّف، ونفهم أسبابَ التقدُّم والتأخُّر، وأنَّ التقدُّم مرهون بالْتزام الإسلام عقيدةً ومنهجَ حياة، وأن َّالتأخُّر سببُه البُعدُ عن الإسلام؟!
وإنَّ المسؤولية تقع على كاهلِ كلِّ مسلِم، ولكنَّها تعظم وتَكبُر على قدْر ومكانة حاملها، فمَن كان متوليًا أمرًا من أمور المسلمين، فمسؤوليتُه أعظمُ ولا شكَّ؛ لأنَّه يملك أن يقدرَ على التوجيه والتقويم؛ ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه))[43] وعلى رجال العِلم والفقه والدعوة والإرشاد واجبُ النُّصح والإرشاد، وتنبيه الغافلين، وتعليم الجاهلين، وهداية الضالِّين، ووضْع أيديهم في أيدي الوُلاةِ الصالحين، والتعاون معهم لِمَا فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، حتى تستقيمَ الأحوالُ، وتصلحَ الأعمال، ويرتدع أهلُ الفِسق والضلال، وتعلو كلمةُ الله في الأرض، وبالله التوفيق.
الأمر بالاجتماع والائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف
الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب عبادِه المؤمنين، وجعَلَهم أنصارًا وأعوانًا، وإخوة في الدِّين، أحمدُه وأستغفره، وأتوب إليه، وبه أستعين، وأصلِّي على رسوله محمَّد سيِّد الأوَّلين والآخرين، وأفضل السابقين واللاَّحقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
مِن صالح بن أحمد الخريصي إلى مَن يراه ويسمعه من إخواننا المسلمين، وفَّقني الله وإيَّاهم للقِيام بواجبات الدِّين، وعصَمَني وإيَّاهم من ارتكاب ما يُسخِط ويُغضِب ربَّ العالمين، ويحول بينهم وبين أسبابِ المغفرة عندَ حصولها للمستغفرين، أمَّا بعد:
فهذه كلمات يسيرة تحثُّ على الأمر بإصلاح ذاتِ البَيْن، والنهي عن التهاجُر والتقاطُع، والبغضاء والحِقد والحسد (والأمر بالاجتماع والائتلاف، والنهي عن التفرق والاختلاف)، والاعتصام بحَبل الله جميعًا؛ قال الله - عزَّ وجلَّ - وهو أصدقُ القائلين: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1] وقال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10] وقال - تعالى -: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114] وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 102، 103] وقال - تعالى -: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] فرتَّب الله - تبارك وتعالى - في هذه الآيات الكريمة الثوابَ الجزيلَ على الإصلاح والتآلُف بين المؤمنين، وجَعَل ذلك من أفضلِ الخصال المنجية يوم الدِّين، ونبَّه - سبحانه - على أنَّ الاعتصامَ بحبله، والاجتماعَ على طاعته فيه العزُّ والشرف في الدنيا والآخرة، وأنَّ الاختلاف يُورِث الفشلَ والجبن، وذهابَ القوَّة والوَحْدة، وما كانوا فيه من الإقبال والتقدُّم.
وأمَّا الأحاديث الواردة في فضْل الإصلاح بين الناس والنهي عن التهاجُر، فكثيرةٌ جدًّا، ولنذكُر منها ما تيسَّر، فمنها ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي ﷺ قال: «كلُّ سُلامَى من الناس عليه صَدقة، كلَّ يومٍ تطلع فيه الشمس، تَعدِل بين اثنين صدقة، وتُعين الرَّجلَ في دابته صدقة»[44] إلخ الحديث، فقوله: ((تعدل بين اثنين))؛ أي: تُوفِّق بينها، وتزيل الوحشةَ الواقعة بينهما.
ومنها قوله ﷺ في حديث أبي الدرداء: «ألاَ أُخبِركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: «إصلاحُ ذات البَيْن؛ فإنَّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة»[45].
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: بينما رسولُ الله ﷺ جالسٌ إذ رأيناه ضَحِك، حتى بدتْ ثناياه، فقال عمرُ - رضي الله عنه -: ما أضحكك يا رسول الله - بأبي أنت وأمي؟ فقال: «رَجُلان مِن أمَّتي جثَيَا بين يدي ربِّ العزَّة - تبارك وتعالى - فقال أحدهما: يا ربِّ، خذْ لي مظلمتي مِن أخي، فقال الله - عزَّ وجلَّ -: أعطِ أخاك مظلمتَه، فقال: يا ربِّ لم يبقَ من حسناتي شيء، فقال: فليحملْ مِن أوزاري»، قال: ففاضتْ عينَا رسولِ الله ﷺ بالبكاء، ثم قال: إنَّ ذلك لَيومٌ عظيم، يحتاج الناس إلى مَن يتحمَّل عنهم مِن أوزارهم، فقال الله - عزَّ وجلَّ - للطالب: ارفعْ بصرَك وانظر في الجِنان، فرَفَع رأسه فقال: يا ربِّ، أرَى مدائن فضَّة، وقصورًا من ذهب مُكلَّلة باللؤلؤ، لأيِّ نبي هذا؟ لأيِّ صِدِّيق هذا؟ لأيِّ شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لِمَن أعطى ثمنَه، قال: يا ربِّ، ومَن يملك ثمنَه؟ قال: أنت تملكه، قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك، قال: يا ربِّ، فإني قد عفوتُ عنه، قال الله - عزَّ وجلَّ -: خُذْ بيد أخيك، فادخلاَ الجَنَّة، ثم قال رسول الله ﷺ: فاتَّقوا الله وأصلحوا ذاتَ بينكم، فإنَّ الله يُصلِح بين المؤمنين يومَ القيامة»[46].
ومعنى قوله: اتقوا الله؛ أي: بطاعته، فراقبوه، وأصلحوا الحالَ بترْك المنازَعة والمخالفة.
وأمَّا الأحاديث الواردة في النهي عن التهاجُر والتقاطع، فمنها حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - المتفق عليه، قال: قال رسول الله ﷺ : ((لا يَحِلُّ للرَّجُل أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليال، يلتقيان فيُعرِض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام))[47].
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتَّفق عليه: «ولا تَباغَضوا ولا تَدابَروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا»[48]، فنَهَى المسلمين عن التباغُض بينهم في غيرِ ذات الله - عزَّ وجلَّ - بل على هوى النفوس، فإنَّ المسلمين جعَلَهم الله إخوة، والإخوةُ يتحابُّون بينهم ولا يتباغضون.
وأمَّا البُغض في الله، فهو مِن أوثق عُرَى الإيمان، وليس داخلاً في النهي؛ كما في الحديث: ((أوثقُ عُرَى الإيمان الحبُّ في الله والبُغضُ في الله))[49].
وفي الحديث أيضًا الذي أخرجه مسلم قال: قال رسول الله ﷺ: «تُفتح أبوابُ الجَنَّة يومَ الاثنين والخميس، فيُغفَر لكلِّ عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا، إلاَّ رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيقول: أنْظِروا هذين حتى يَصطلحَا»[50]، وفي الحديث أيضًا الذي أخرجه مسلم بلفظ: «تُعرَض أعمالُ الناس في كلِّ جُمُعة مرَّتين يومَ الاثنين والخميس، فيغُفَر لكلِّ عبدٍ مؤمن، إلاَّ عبدًا بينه وبين أخيه شحناءُ، فيقال: اترُكوا هذَين حتى يفيئَا»[51].
وفي الحديث أيضًا الذي خرَّجه أحمد، وأبو داود: أنَّ النبي ﷺ قال: «لا يحلُّ لمسلِمٍ أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث، فمَن هَجَر فوقَ ثلاثٍ فمات، دَخَل النار»[52].
وفي حديث أبي خراش السُّلَمي الذي أخرجه أبو داود: أنَّه سَمِع النبيَّ ﷺ يقول: «دَبَّ إليكم داءُ الأُمَم قبلَكم؛ الحسدُ والبغضاء هي الحالِقة، لا أقول: تحلق الشَّعْر، ولكن تحلِق الدِّين»[53].
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي ﷺ قال: «إيَّاكم وسوءَ ذاتِ البَيْن، فإنَّها الحالقة»[54]، ورُوي من حديث أبي أُمامة مرفوعًا: «تُرفَع الأعمالُ يومَ الاثنين والخميس، فيُغفَر للمستغفرين، ويُترك أهلُ الحقِّ كما هُم»[55]، وخرَّج أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «إيَّاكم والحسدَ، فإنَّ الحسدَ يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطبَ، أو قال: العُشْب»[56]، وخرَّج الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي ﷺ قال: «سيُصيب أمتي داءُ الأمم» قالوا: يا نبيَّ الله، وما داءُ الأمم؟ قال: «الأشرُ والبَطر، والتكاثُرُ والتنافس في الدنيا، والتباغُضُ والتحاسُد، حتى يكونَ البغي، ثم الهَرْج»[57].
واعلموا - رحمكم الله - أنَّ أكثَر ما يقع التشاجُر والتشاحن، وسوء ذات البين بسبب النميمة، وسوءِ الظنِّ بالمسلمين، أمَّا النميمة، فقد قال النبي ﷺ «لا يدخل الجنَّة نمَّام»[58]، وهو نقْل كلامِ إنسان إلى آخِر على جهة الإفساد، وفي الأثر: "يُفسِد النمَّامُ والكذابُ في ساعة ما لا يفسد الساحرُ في سَنَة".
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ «لَمَّا عُرِج بي، مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس، يَخمِشون وجوهَهم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس، ويقعون في أعراضِهم»؛ رواه أبو داود[59] ، وفي حديث المستورد بن شدَّاد: أنَّ النبي ﷺ قال: «مَن أكل برَجُل مسلِم أكلةً، فإنَّ الله يطعمه مثلَها من جهنم يوم القيامة، ومَن كسا ثوبًا برجل مسلِم، فإنَّ الله يكسوه مثلَه من جهنم، ومَن قام برجل مسلِم مقامَ سُمعة ورياء، فإنَّ الله يقوم له يومَ القيامة مقامَ سمعةً ورياء»[60]؛ رواه أبو داود.
فاحذروا - رحمكم الله - من الوقوع في أعراض الناس المسلمين، وطهِّروا أفواهَكم من لحومهم، لا سيَّما أهل الخير، وحملة الشرع؛ فإنَّ الوقوع في لحومهم أعظمُ.
وممَّا ينبغي للمسلِم: أن يَقبل عُذرَ أخيه إذا اعتذر إليه، فمَن ردَّ أخاه بعد عذرٍ وتوبة، كان عليه من الإثم مثل خطيئة صاحب مَكْس؛ كما ورد ذلك في حديث جابر الذي رواه البيهقيُّ: أنَّ النبي ﷺ قال: «مَن اعتذر إلى أخيه فلمْ يَعذِره، ولم يقبل عُذرَه، كان عليه إثم خطيئة صاحبِ مَكْس»[61].
وقد وصف الله أصحابَ محمد ﷺ ورضي عنهم بأنَّهم أشدَّاءُ على الكفَّار، رحماء بينهم، ووصف عباده المؤمنين المحبِّين المحبوبين بأنَّهم: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أهل رقَّة وشفقة، وعطف ولِين ورحمة لإخوانهم المؤمنين، كالولد مع والده، والعبد مع سيِّده؛ ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: أهل غِلظة وشدَّة، يلقونهم بوجوه مُكفهِرَّة عابسة، كالأسد على فريسته، ووصفهم نبيُّهم ﷺ في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد، إذا اشتكى منه عضو تَدَاعى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهر[62]، فهكذا كونوا يا عبادَ الله إخوانًا، ولا تتفرَّق بكم السُّبُل عن الطرق المثلى؛ عن الطريق المنجية، عن الطريق الموصلة إلى الله والدار الآخرة، فإنَّ الشيطان له غرضٌ في بني آدم، لكن لَمَّا أَيِسَ أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، رَضِي بالتحريش بين المسلمين، فشنَّ الغارة عليهم، وأتاهم من كلِّ طريق، فمَن اعتصم بحبل الله، وجاهَدَ العدوَّ، كان على سبيل نجاة، ومَن اتَّبع هواه، ولم يلتفت إلى ما أَمَره به مولاه، كان الهلاكُ إليه أقربَ من حبل الوريد.
فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله وراقبوه، واعتصموا بحبله جميعًا ولا تَفرَّقوا؛ ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: 26]
وأزيلوا ما في قلوبكم من الحسد والبغضاء، والحِقد والتهاجُر، ولا تُشمِتوا أعداءَكم بالتفرُّق والاختلاف، وأغيظوهم بالاجتماع والائتلاف، واشكروه على ما أسْداه عليكم، ومَنَّ به من النِّعم الدِّينيَّة والدنيوية والبدنية، التي لا تُحصَى ولا تستقصى، ولا تغيروا فيغيِّر الله عليكم، فإنَّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا تغْترُّوا بحلِمه وسِتره، فإنَّ أخْذَه أليمٌ شديد، واتَّقوا الله؛ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وأصلِحوا قلوبَكم، يصلحِ الله أعمالكم، وأخلصوا أعمالكم، يُصلحِ الله أحوالَكم، وارحموا ضعفاءَكم، يرفعِ الله درجاتِكم، وواسوا فقراءكم، يوسعِ الله في أرزاقكم، وخذوا على أيدي سفهائكم، يباركْ لكم في أعماركم.
هذا واسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم أن يمنَّ على الجميع بالهداية والتوفيق، وأن يسلكَ بنا وبكم أحسنَ منهج وأقوم طريق، وأن ينصرَ دِينَه، ويُعليَ كلمتَه، ويجعلنا وإيَّاكم من أنصار دِينه وشَرْعِه، وأن يحفظ إمامنا إمامَ المسلمين، ووليَّ عهده، إنَّه جوادٌ كريم، رؤوف رحيم، وصلَّى الله على محمَّد الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
صالح بن أحمد الخريصي
20/ 5/ 1402 هـ.
مقتضى العبودية لله
بقلم مهدي بن إبراهيم
في هذه الأيَّام برزتْ ظاهرةٌ خطيرة تستهدفَ التشريعَ لهذا الإنسان، كأنَّ اللهَ قد أهملَه ووكلَه إلى هذه الحثالة من الجِنس البشريِّ، وهذه الظاهرة الخطيرة ما يُنشر بين حِينٍ وآخرَ من دعوات حول تحرير الإنسان، وخاصَّة المرأة؛ انطلاقًا من مبدأ حريَّة الرأي، وقد كانت هذه الدعوة بين طبقات أهل الكفر والإلحاد، فأخذوا يَدْعُون إليها، ويُزيِّنونها في عقول العوامِّ من الناس، حتى وصل الأمر بها أنَّها اليوم تُنشر في صفوف المسلمين على أيدي أبناء المسلمين وبناتهم، وحيثُ إنَّنا عبيدٌ لله، الذي خلقَنا ورزقَنا، ونحن مؤمنون بذلك، فمقتضى هذه العبودية أن يُجعلَ الأمرُ لله وحده، كما أنَّ له الخَلْق وحدَه، وندعو الناس جميعًا إلى ذلك؛ ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116].
إنَّ الإسلامَ يطالِب معتنقيه أوَّلاً بالإيمان بأصوله، وهو يعني: التصديقَ الكامل بها، والاقتناعَ التامَّ بمضمونها قبلَ الدُّخول فيه، أمَّا أن يدخلَ أحدٌ قبلَ أن يقتنع بذلك، فهو الذي خَسِر نفسَه في الدنيا والآخرة؛ لأنَّه حينئذٍ يُعدُّ منافقًا؛ ولهذا كثيرًا ما يقرن الله - تعالى - بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأنَّ العمل الصالح يكون بعدَ الإيمان، إذ هو الذي يقود إليه، ويحمل عليه، ومِن هنا فالذي أَدينُ الله به: أنَّه لا يحقُّ لأحدٍ يؤمن بأصول هذه الشريعة الغرَّاء أن يتردَّد في فرْع من فروعها، وأنَّ عليه أن يقابلَها بالانقياد التامِّ، والاستسلام الصادق، بدليل قوله - سبحانه - ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 30-32] وقوله - سبحانه -: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وقوله ﷺ «كلُّ أمَّتي يَدخُلون الجنَّة إلاَّ مَن أبَى » قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَن أطاعني دَخَل الجَنَّة، ومَن عصاني فقد أبَى»[63].
وإذا حَدَث من أحد منهم خروجٌ في بعض المسائل الفرعيَّة عن طريق الغفلة، وتسويل الشيطان، فسرعانَ ما يرجع إلى ربِّه تائبًا، يرجو رحمتَه، ويخشى عذابَه؛ إذ لا معصومَ من ذلك سوى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإذا تقرَّر ذلك، فإنني أطلبُ من جميع المسلمين ذكورًا وإناثًا - وخاصَّة الكتَّابَ منهم - أن يتقيَّدوا بإسلامهم قولاً وعملاً - كما قدَّمت - وألا يُقدِموا على أمْر إلاَّ بعد أن يتعرَّفوا على حُكم الله فيه؛ لأنَّ ذلك هو مقتضى العبودية لله، ولأنَّهم قد رضُوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد ﷺ رسولاً، فهُمْ على نور من ربهم، ومَن كان لديه شكٌّ في فرْع من فروع الإسلام من أيِّ ناحية من نواحيه، فعليه في هذه الحال أن يبحثَ عن صِحَّة إسنادِه إلى الله، أو إلى رسوله ﷺ بأيِّ وجه من وجوه الصِّحة المعتبرة شرعًا، إن كان لديه أهليةُ البحث والاستفادة، وإلاَّ فليسأل أهل الذِّكْر، فإذا صحَّ فلا معنى للشكِّ حينئذٍ سوى نقصِ الإيمان، فعليه أن يُقويَ إيمانَه بأصول الشريعة، من خلال التعرُّف على معجزات هذا الدِّين، وأعظمها القرآن الكريم، وليحذرْ كلَّ الحذر من أن يقعَ فريسة للكفر والإلحاد وهو لا يشعر، فيهلِك في الدنيا والآخرة، وإذا خَفيتْ عليه حِكمةُ أمرٍ من الأوامر الإسلاميَّة، فليعلمْ أنَّ الله حكيم، ومَن باع نفسَه لله، فقد سَلِم: فـ((كلُّ الناس يغدو، فبائِعٌ نفسَه فمُعتِقُها، أو مُوبِقها))؛ رواه مسلم.
وفَّق الله الجميعَ لما يحبُّه ويرضاه، وسلامٌ على المرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
(انتهى من مجلة الدعوة)
حكم السفر إلى بلاد الكفرة
السَّفر إلى بلاد الكُفر والشِّرك، كأوربا وأمريكا، والصِّين واليابان، وغيرها من بلاد الكفر على نوعين:
أحدهما: السَّفر للضرورة، كالعِلاج والتجارة، والتخصُّصات العِلميَّة التي لا يوجد لها بديلٌ مماثِل في الداخل، فيجوز السفر لذلك، مع التحفُّظ والصيانة والتحصُّن من كيد الأعداء، وإظهار العداوة لهم، والبراءة منهم، وإقامة الشعائر الدِّينيَّة كالصلاة والصوم والأذان، وأمَّا السفر لغير ذلك كالنُّزهة والسياحة في بلاد الكفر، أو الدراسة التي ليستْ ضرورية، أو يوجد لها بديلٌ مماثِل في الداخل، كالعلوم الدينيَّة واللُّغة العربية، فلا يجوز السَّفَر لذلك إلى بلاد الكفر، كما لا يجوز السَّكن معهم؛ لأنَّ ذلك من أسباب موالتهم ومحبتهم، وهم أعداءُ الله، وأعداء كتابه، وأعداء رسوله، وأعداء دِينه، وأعداء المسلمين.
وقد جاءتِ الآياتُ القرآنية، والأحاديث النبويَّة بالوعيد الشديد على موالاة الكافرين؛ قال - تعالى -: ﴿لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: 29] ﴿لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1] ﴿لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 52] ﴿لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 14] ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 52] ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 114] ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 23] ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 5].
فدلَّت هذه الآياتُ الكريماتُ على تحريم محبَّة الكافرين وموالاتهم ومصادقتهم، ويستلزم ذلك تحريمَ السفر إلى بلادهم، والسُّكنى معهم، والتشبُّه بهم، وفي الحديث: ((مَن تشبَّه بقوم فهو منهم))؛ رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «المرءُ معَ مَن أحب»؛ متفق عليه.
وعنه ﷺ أنه قال: «مَن جامع المشرِك - اجتمع به - وسَكَن معه فهو مثله»؛ رواه أبو داود والترمذي، وأنَّه قال: «أنا بريء من كلِّ مسلِم يُقيم بين أظهر المشركين»؛ رواه أبو داود والترمذي: وقال: «لا تُساكنوا المشركين ولا تُجامعوهم – أي: لا تجتمعوا بهم - فمَن ساكَنَهم أو جامعهم فهو مثلُهم»؛ رواه الترمذي، ويُستثَنى مما تقدَّم السفر إلى تلك الدِّيار للدعوة إلى الله - تعالى - لِمَن يُجيدُ لُغتَهم، أو كان معه مترجِم، فإنَّه من أفضل الأعمال.
وبالمناسبة يحسُن بنا أن نذكِّر الأخ المسلِم، والطالبَ المسلم إلى أن تعلُّم اللُّغة الإنجليزية بنيَّة الدعوة إلى الله - تعالى - تكون دراستُها بهذه النية عبادة.
أيُّها المسلم، إنَّ من أكبر الوسائل لإفساد الشباب وأعظمها خطرًا سفرَهم إلى بلاد الكفر، ففيه خطرٌ على دِينهم وأخلاقهم وعقيدتهم، وإنَّ الخطر على هؤلاء الذاهبين إليها كما يكون في حقول التعليم، يكون كذلك في إقامتِهم في بلاد الكُفر التي لا يسمعون فيها أذانًا، ولا يُشاهِدون فيها مساجدَ تُقام فيها شعائرُ الإسلام، وإنَّما يسمعون أجراسَ النواقيس، ويشاهدون معابدَ اليهود والنصارى، ومسارحَ اللهو، وأمكنةَ الخمر والفساد، وعبادة المادَّة، فيرجع الكثيرُ من هؤلاء الشباب، وقد انقلب في دِينه رأسًا على عقب، ولوَّثوا أدمغتَهم بقذارة الكُفْر والإلحاد، والشكِّ في دِين الإسلام وكتابه، ورسوله وشريعته.
أيُّها الشاب المسلِم، لقد سمعتَ وقرأت عن قادة الكفر ماذا يريدون لدِينك من القضاء عليه، وسيحاولون أن يَنزِعوه من قلبِك، فتصبح خاليًِا من الدِّين، إنَّ وجود المرء في مجتمعٍ كافِر منحرف، وتعايشه معه، يجعله يتأثَّر بانحراف هذا المجتمع وقِيمِه؛ شاء أم أبى.
فيجب على المسلِم إذا اضطر إلى السَّفر إلى تلك البلاد الكافرة أن يحمل هذا الدِّين بقوَّة، وأن يُظهِرَه بشجاعة أمامَ أعدائه، فبلاد الكفر وإن كانت تُكسَى بالمظاهر البرَّاقة الخادعة، إلاَّ أنَّ أهلها يفقدون أعزَّ شيء، وهو الدِّين الصحيح الذي به تطمئِنُّ قلوبهم، وتزكو به نفوسهم، وتُصان به أعراضُهم، وتُحقَن به دماؤهم، وتُحفظ به أموالهم؛ ولذا يقول - تعالى -: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 176 - 177]، إنَّهم يَفقِدون كلَّ تلك المقومات، فماذا تُفيدهم تلك المظاهرُ الخادعة؟ عقائدهم باطلة، وأعراضهم ضائعة، وأُسرُهم متفكِّكة.
أيُّها المسلمون، إنَّ أعداء الإسلام يُخطِّطون الخططَ لسلب أموالكم، وإفساد دِينكم، والقضاء عليكم؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] وقال - تعالى -: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89]، إنَّه لَمِن المحزن أن أصبح السفرُ إلى بلاد الكفار موضعَ افتخار بعضِ المخدوعين من المسلمين، فيفتخر أحدُهم بأنَّه ابتُعِث، أو سيُبتعث إلى أمريكا، أو أنَّ له ولدًا يدرس في أمريكا، أو في لندن أو فرنسا، إنَّه يفتخر بذلك بدون تفكير في العواقب، أو تقدير للنتائج، وبعضُ المسلمين يسافرون بعوائلهم للمصِيف هناك، أو للسياحة، بدون اعتبار لحُكم الشَّرْع في ذلك السفر؛ هل يجوز أم لا؟ ثم إذا ذهبوا هناك ذابتْ شخصيتُهم، فلبسوا لباسَ الكفَّار، وتخلَّقوا بأخلاقهم، حتى نساؤهم يخلعنَ لباسَ السِّتر، ويلبسن لباس الكافرات.
أيها المسلِم، إنَّ خطر السفر إلى بلاد الكفَّار عظيم، وضرره جسيم، وإنَّ مَن سافر إلى تلك البلاد من غير ضرورة، فهو حريٌّ بأن يُعاقَب، وأن يُصاب في دِينه، وزيغ قلبه، إذا عَرَف الحقَّ فتركه، والباطلَ فارتكبه؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: 5].
أيُّها الشاب المسلِم، إنَّ بقاءك في بلادك، وهجرَك لبلاد الكفر - لا يُفقِدك العلم، ولا ينقصك الاستزادةَ منه، فهذه حكومتك - أيَّدها الله - قد هيَّأتْ لك كليات متعدِّدة في جامعات متعدِّدة، تُغنِيك عن السفر إلى بلاد الكفر، وتبقيك في دار الإسلام، قريبًا من أهلك وأقاربك وأصدقائك في راحة تامَّة وطمأنينة، وأمْن على نفسك ودِينك، ففكِّرْ أيها الشابُّ المسلم في هذا الأمر الخطير تفكيرًا جديًّا، بعيدَ المدى، ولا تعدلْ بسلامة دِينك شيئًا، فهو رأس مالِك، بل هو حياتك، وحِكمة وجودك؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 57] ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 - 163][64].
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق)
الحمدُ لله وحدَه، والصلاةُ والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فقد أنعم الله على هذه الأمَّة بنِعم كثيرة، وخَصَّها بمزايا فريدة، وجعلها خيرَ أمَّة أُخرِجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأعظمُ هذه النِّعم نِعمة الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده شريعةً، ومنهجَ حياة، وأتمَّ به على عباده النِّعمة، وأكمل لهم به الدِّين؛ قال - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
ولكنَّ أعداء الإسلام قد حَسَدُوا المسلمين على هذه النِّعمة الكبرى، فامتلأتْ قلوبهم حقدًا وغيظًا، وفاضتْ نفوسُهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدِّين وأهله، وودُّوا لو يَسلُبون المسلمين هذه النِّعمة، أو يخرجونهم منها؛ كما قال - تعالى - في وصْف ما تختلج به نفوسُهم: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89] وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118] وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 2].
وقال - جلَّ وعلاَ -: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217].
والآيات الدالَّة على عداوة الكفَّار للمسلمين كثيرة، والمقصود أنَّهم لا يألون جُهدًا، ولا يتركون سبيلاً للوصول إلى أغراضِهم، وتحقيق أهدافهم في النَّيْل من المسلمين، إلاَّ سلكوه، ولهم في ذلك أساليبُ عديدة، ووسائل خفية وظاهرة، فمِن ذلك ما ظهر من قيام بعض مؤسَّسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية، تتضمَّن دعوةَ أبناءِ هذا البلد لقضاء العطلة الصيفيَّة في رُبوع أوربا وأمريكا، بحجَّة تعلُّم اللُّغة الإنجليزية، ووضعتْ لذلك برنامجًا شاملاً لجميع وقْتِ المسافر، وهذا البرنامج يشتملُ على فِقْرات عديدة منها ما يلي:
(أ) اختيار عائلة إنجليزية كافِرة؛ لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
(ب) حفلات موسيقيَّة ومسارح، وعُروض مسرحيَّة في المدينة التي يُقيم فيها.
(ج) زيارة أماكن الرَّقْص والترفيه.
(د) ممارسة رقصَة الدِّيسكو مع فتيات إنجليزيات، ومسابقات في الرقص.
(ه) جاء في ذِكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الإنجليزية ما يأتي:
أندية ليليَّة، مراقص ديسكو، حفلات موسيقَى الجاز والروك، الموسيقى الحديثة، مسارح، ودُور سينما، وحانات إنجليزية تقليديَّة.
وتهدف هذه النشراتُ إلى تحقيق عددٍ من الأغراض الخطيرة؛ منها ما يلي:
(1) العملُ على انحراف شباب المسلمين وإضلالِهم.
(2) إفساد الأخلاق، والوقوعِ في الرذيلة، عن طريق تهيئِة أسباب الفساد، وجعْلها في متناول اليد.
(3) تشكيك المسلِم في عقيدته.
(4) تنمية رُوح الإعجاب والانبهار بحضارة الغَرْب.
(5) تخلُّقه بالكثير من تقاليد الغَرْب وعاداته السيِّئة.
(6) التعوُّد على عدم الاكتراث بالدِّين، وعدم الالْتفاتِ لآدابه وأوامره.
(7) تجنيد الشباب المسلِم؛ ليكونوا من دعاة التغريب في بلادِهم، بعدَ عودتهم من هذه الرِّحْلة، وتشبُّعهم بأفكار الغَرْب وعاداته وطرقِ معيشته.
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة، التي يعمل أعداءُ الإسلام لتحقيقها بكلِّ ما أوتوا مِن قوَّة، وبشتَّى الطُّرُق والأساليب الظاهرة والخفيَّة، وقد يتسترون ويعملون بأسماءٍ عربيَّة، ومؤسَّسات وطنية؛ إمعانًا في الكَيْد، وإبعادًا للشبهة، وتضليلاً للمسلمين عمَّا يَرومونه من أغراض في بلاد الإسلام.
لذلك فإني أُحذِّر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصَّة، وفي جميع بلاد المسلمين عامَّة، من الانخداع بمِثْل هذه النشرات، والتأثُّر بها، وأدعوهم إلى أخْذ الحيطة والحذر، وعدم الاستجابة لشيءٍ منها، فإنَّها سمٌّ زُعَاف، ومخطَّطات من أعداء الإسلام، تُفضِي إلى إخراج المسلمين من دِينهم، وتشكيكِهم في عقيدتهم، وبثِّ الفِتن بينهم، كما ذَكَر الله عنهم في محكم تنزيله؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] الآية.
كما أنصح أولياءَ أمور الطلبة خاصَّة بالمحافظة على أبنائهم، وعدمِ الاستجابة لطلبِهم السفرَ إلى الخارج؛ لِمَا في ذلك من الأضرار والمفاسِد على دِينهم وأخلاقهم وبلادهم - كما أسلفنا - وإرشادِهم إلى أماكن النُّزهة والاصطياف في بلادِنا، وهي كثيرة - بحمد الله - والاستغناء بها عن غيرها، فيتحقَّق بذلك المطلوب، وتحصُل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعِب، والعواقب الوخيمة، والصُّعوبات التي يتعرَّضون لها في البلاد الأجنبيَّة.
هذا، وأسأل الله - جلَّ وعلا - أن يحميَ بلادَنا وسائرَ بلاد المسلمين، وأبنائهم من كلِّ سوء ومكروه، وأن يُجنِّبهم مكايدَ الأعداء ومكرَهم، وأن يردَّ كيدهم في نحورهم، كما أسأله - سبحانه - أن يُوفِّق ولاةَ أمرنا لكلِّ ما فيه القضاءُ على هذه الدعايات الضارَّة، والنشرات الخطيرة، وأن يُوفِّقَهم لكلِّ ما فيه صلاح العباد والبلاد، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدِّين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
من أخلاق الرسول ﷺ
كان رسولُ الله ﷺ أحسنَ الناس خُلقًا، كما وصَفَه الله - تعالى - بذلك في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، قالت زوجتُه عائشةُ - رضي الله عنها -: "كان خُلُقه القرآن"؛ رواه أحمد ومسلم في صحيحه، ومعنى ذلك أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان يتخلَّق بأخلاق القرآن، ويتأدَّب بآدابه، ويُسارِع إلى ما حثَّ عليه، ويأتِمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، فمهما أمَرَه به القرآن فعَلَه، ومهما نهاه عنه تَرَكَه.
هذا ما جبَله اللهُ عليه من الخُلُق العظيم، مِن الحياء والكرم، والشجاعة والصَّفْح والحِلم، وكلِّ خُلُق جميل؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق»؛ رواه مالك وأحمد وغيرهما، وقال ابن عبدالبرِّ: هو متَّصل من وجوه صِحاح، وكان ﷺ يسلِّم على مَن لقيه، ويُجيب مَن دعاه، ويَقبَل الهَدية ويكافئ عليها، وكان يرحم الضعيف، ويعطِف على الفقير والمسكين، واليتيم والأرملة، فيجب أن نتخلَّق بأخلاق نبيِّنا محمَّد ﷺ ونتأدَّب بآدابِه، ونعملَ بسُنَّته، ونطيعَه في أمره، ونتجنَّب ما نهانا عنه؛ لأنَّه ﷺ قُدوتُنا وإمامُنا وأُسوتنا؛ كما قال - تعالى -: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
فإذا فعلْنا ذلك أفلحْنا ونجحنا، وفُزْنا وسَعِدْنا واهتدينا؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54] فما أَمَر به النبيُّ ﷺ وجَب اتباعُه، وما نهى عنه وجب اجتنابه، وما أمر به ﷺ فقد أمر الله به، وما نهى عنه فقد نهى الله عنه؛ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4] وقال - تعالى -: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، ومَن يُطعِ الرسول، فقد أطاع الله، ومن يعصِ الرسول، فقد عصى الله؛ قال - تعالى -: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80] ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71].
فهنيئًا لمَن أطاع الله ورسولَه بالفوز العظيم، والثواب الجسيم، وقال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13، 14]، ولا يحقِّق المسلم شهادةَ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله حتى يحبَّ اللهَ ورسولَه بكلِّ قلبه، ويُرضيهما بكلِّ جهده، ولا يكون مؤمنًا حقًّا حتى يكون حبُّه وبُغضُه، وفِعْله وترْكه، وقوله واعتقاده وعمله بحسبِ أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم – ونواهيه؛ كما قال - تعالى -: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
كما يجب على المسلِم أن يُقدِّم محبَّةَ النبي ﷺ على محبَّة نفسه وولده، ووالدِه والناس أجمعين، وبذلك يتحقَّق إيمانُه؛ كما قال ﷺ: «لا يُؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين»[65]؛ رواه مسلم، ولا ريبَ أنَّ المحبة تستلزم الانقيادَ والمتابعةَ والطاعة؛ كما قال - تعالى -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، ولَمَّا ادَّعى قومٌ أنهم يحبُّون الله، امتحنهم الله بهذه الآية.
فأوجب اتِّباعُ الرسول محبَّةَ الله لِمَن اتبعه، ومغفرةَ ذنوبه برحمة الله الغفور الرحيم، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، واحشرْنا في زمرته، وأدخلْنا في شفاعته، وأوردنا حوضَه، واسقِنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، واجمعْنا به في دار كرامتك، مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلالِ والإكرام، يا قادرًا على كلِّ شيءٍ، يا مالكَ الملك، يا مجيبَ دعوة المضطر إذا دعا، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدِّين، كلَّما ذَكَرك الذاكرون، وغفل عن ذِكْرك الغافلون، والحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وكما يَنبغي لجلاله، وعظيم سلطانه، وسبحان الله وبحمده زِنةَ عرشه، ورضاءَ نفسه، وعددَ خلقه، ومداد كلماته، ولله الحمد والشكر والثناء، ملءَ الأرض والسماء.
حال الصحابة مع رسول الله ﷺ
كانتْ حياةُ رسول الله ﷺ مع صحابته تُمثِّل العدالةَ الحقَّة، التي يتغنَّى بها الناس، وتُداعِب أحلامَهم في هذا العصر، فلم يكنْ بينه وبين أصحابه حجابٌ يمنعه عنهم، أو يمنعهم عنه، فهو يُخالِطُهم في المسجد والسُّوق والمنزل، والسَّفر والحَضَر، وهم حريصون على لقائه وصحبته وملازمته؛ للاقتباس منه، والاهتداءِ بهديهِ، والتأسِّي بسيرته، وبلغ تنافسُهم في ذلك إلى أنَّهم كانوا يتناوبون في ملازمة مجلسه، فعن عمر قال: "كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أميَّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنَّا نتاوب النزولَ على رسول الله ﷺ ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك"؛ رواه البخاري.
وحيثما حَدَث لأحدهم من الأمر ما لا يعرف أسرعَ في السفر إلى رسول الله ﷺ وقطع المسافاتِ الواسعةَ ليستفتَيه؛ فعن عقبةَ بن الحارث: أنَّه أخبرتْه امرأةٌ بأنها أرضعتْه هو وزوجته، فركِب من فوْرِه، وكان بمكَّة قاصدًا المدينة، حتى بلغ رسولَ الله ﷺ فسأله عن حُكم الله فيمَن تزوَّج امرأة لا يعلم أنَّها أختُه من الرضاع، ثم أخبرتْه بذلك مَن أرضعتهما، فقال له النبي ﷺ: كيف وقد قيل؟ ففارَق زوجتَه لوقته، فتزوَّجت بغيره[66].
ولم يكن الصحابة جميعًا على مبلَغ واحد من العِلم بأحوال الرسول ﷺ وأقواله؛ لتفاوتِ أحوالهم، وظروف حياتهم، وأماكنِ إقامتهم، ولم يكنْ للرسول ﷺ مجلسٌ خاصٌّ للتعليم يجلس إليه فيه الصحابة، بل كانتْ حياتُه كلُّها منارةً للعلم، وإنْ تخوَّلهم بالموعظة من وقتٍ لآخَرَ، فضلاً عن أيَّام الجُمُعة والعِيدَين.
وعن ابن مسعود قال: "كان رسول الله ﷺ يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيَّام؛ كراهةَ السآمة علينا"؛ رواه البخاري ومسلم، ومعنى يتخولنا: يتعهدنا.
وقد أشار مسروقٌ إلى تفاوت الصحابة في تلقِّيهم عن رسول الله ﷺ حيث يقول: «لقد جالستُ أصحابَ محمَّد ﷺ فوجدتُهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرَّجُلين، والإخاذ يروي العَشَرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نَزَل به أهلُ الأرض لأصدرَهم"، ومن الطبيعي أن يكون أكثرُ الصحابة علمًا بسُنة رسول الله ﷺ مَن سبقوا إلى الإسلام، كالخُلفاء الأربعة، وعبدالله بن مسعود، ومَن كان أكثرَ ملازمةً له، وكتابةً عنه - كما سبق آنفًا.
أمَّا فيما يتعلَّق بالأمور المتَّصلة بالجِنس، وما يختصُّ بالمرأة، فقد كان الرِّجال يسألون تارةً رسولَ الله، وتارة يُرسل أحدهم أمرأتَه؛ لتسألَ زوجاتِه لعِلمهنَّ بأحوال رسول الله العائلية، وقد يسأل النساءُ رسولَ الله ﷺ ما يَشأْنَ السؤال عنه من أمورهنَّ، فإذا كان هناك ما يمنع النبيَّ ﷺ من التصريح للمرأة بالحُكم الشرعي أَمَر إحدى زوجاته أن تفهمها إيَّاه؛ كما جاء أنَّ امرأة سألتِ النبي ﷺ كيف تتطهَّر من الحيض؟ فقال لها: «خُذي فِرْصةً ممسَّكَة فتوضئي بها» فقالت: يا رسولَ الله، كيف أتوضأ بها؟ فأعاد كلامَه السابق، فلم تفهم، فأشار إلى عائشة أن تُفهمها ما يريد، فأفهمتْها المراد، وهو أن تأخذ قطعةَ قطن نظيفة، فتضعها مكانَ الدَّم، فإن خرجتْ بيضاءَ كان ذلك علامةَ طهرها. اهـ؛ من كتاب "التشريع والفقه في الإسلام تاريخًا ومنهجًا"؛ لفضيلة الشيخ منَّاع خليل القطان (ص: 79، 80).
مشروعية الصلاة على النبي ﷺ بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر
لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه.
أما بعد، فقد أرسل الله رسولَه محمدًا ﷺ إلى جميع الثقلَين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بالهُدى والرحمة، ودِين الحق، وسعادة الدنيا والآخرة لِمَن آمَن به وأحبَّه، واتَّبع سبيله ﷺ ولقد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، فجزاه الله عن ذلك خيرَ الجزاء، وأحسنه وأكمله.
وطاعتُه ﷺ وامتثالُ أمره، واجتناب نهيه من أهمِّ فرائض الإسلام، وهي المقصودُ من رسالته، والشهادةُ له بالرسالة تقتضي محبتَه واتباعه، والصلاةَ عليه في كلِّ مناسبة، وعند ذِكْره؛ لأنَّ في ذلك أداءً لبعض حقه ﷺ وشكرًا لله على نعمته علينا بإرساله - صلى الله عليه وسلم.
وفي الصلاة عليه ﷺ فوائدُ كثيرة؛ منها:
امتثال أمْر الله - سبحانه وتعالى - والموافقة له في الصلاة عليه ﷺ والموافقة لملائكته أيضًا في ذلك؛ قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 65].
ومنها أيضًا: مضاعفة أجْر المصلِّي عليه، ورجاء إجابة دُعائه، وسبب لحصول البركة، ودوام محبته ﷺ وزيادتها وتضاعُفها، وسبب هداية العبدِ وحياة قلْبه، فكلَّما أكْثَرَ الصلاةَ عليه وذكره استولتْ محبتُه على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضةٌ لشيء من أوامره، ولا شكَّ في شيء ممَّا جاء به - صلى الله عليه وسلم.
كما أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - رغَّب في الصلاة عليه بأحاديثَ كثيرةٍ ثبتتْ عنه؛ منها: ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «مَن صلَّى عليَّ واحدة، صلَّى الله عليه بها عشرًا»، وعنه - رضي الله عنه - أيضًا: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لا تجعلوا بيوتَكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ، فإنَّ صلاتَكم تبلغُني حيث كنتم»[67].
وقال ﷺ: «رَغِم أنفُ رجل ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليَّ»[68]، وبما أنَّ الصلاة على النبي ﷺ مشروعةٌ في الصلوات في التشهُّد، ومشروعة في الخُطب والأدعية والاستغفار، وبعد الآذان، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذِكْره، وفي مواضعَ أخرى، فهي تتأكَّد عند كتابة اسمه في كتاب، أو مؤلَّف أو رسالة، أو مقال، أو نحو ذلك؛ لِمَا تقدَّم من الأدلة.
والمشروع أن تُكتبَ كاملة؛ تحقيقًا لِمَا أمرنا الله - تعالى - به، وليتذكرها القارئ عند مرورها عليها، ولا ينبغي عند الكتابةِ الاقتصارُ في الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ على كلمة (ص)، أو (صلعم)، وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملُها بعضُ الكَتَبة والمؤلِّفين؛ لِمَا في ذلك من مخالفة أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز بقوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، مع أنَّه لا يتمُّ بها المقصود، وتنعَدِم الأفضلية الموجودة في كتابة (ﷺ) كاملةً، وقد لا ينتبه لها القارئ، أو لا يفهم المرادَ بها، علمًا بأنَّ الرمز لها قد كَرِهه أهلُ العِلم، وحذَّروا منه؛ فقد قال ابنُ الصلاح في كتابه "علوم الحديث"، المعروف بمقدمة ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من كتابة الحديث، وكيفية ضَبْط الكتاب وتقييده، قال ما نصُّه:
"التاسع: أن يُحافِظَ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله ﷺ عند ذِكْره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرُّره، فإنَّ ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجَّلها طلبةُ الحديث وكتَبَتُه، ومَن أغفل ذلك فقد حُرِم حظًّا عظيمًا، وقد رأينا لأهل ذلك مناماتٍ صالحةً، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته، لا كلام يرويه، فلذلك لا يتقيَّد فيه بالرِّواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على الله - سبحانه - عند ذِكْر اسمه نحو (عزَّ وجلَّ، وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك)، إلى أن قال: ثم ليتجنبْ في إثباتها نقصَين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصةً صورة، رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبَها منقوصة معنًى بألاَّ يكتب "وسلَّم"، وروي عن حمزة الكناني - رحمه الله تعالى - أنَّه كان يقول: كنتُ أكتب الحديث، وكنتُ أكتب عند ذكْر النبي: (صلى الله عليه)، ولا أكتب (وسلم)، فرأيت النبي ﷺ في المنام، فقال لي: ما لكَ لا تُتمُّ الصلاة علي؟! قال: فما كتبت بعد (صلى الله عليه)، إلاَّ كتبت (وسلم).
إلى إن قال ابن الصلاح: قلت: ويُكرَه أيضًا الاقتصار على قوله (عليه السلام)، والله أعلم، انتهى المقصودُ من كلامه - رحمه الله تعالى - ملخصًا.
وقال العلاَّمة السخاويُّ - رحمه الله تعالى - في كتابه "فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي" ما نصُّه: "واجتنبْ أيُّها الكاتب (الرمز لها)؛ أي: الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ في خطِّك، بأن تقتصرَ منها على حرفَين ونحو ذلك، فتكون منقوصة صورة، كما يفعله (الكسائي)، والجَهَلة من أبناء العجم غالبًا، وعوامُّ الطلبة، فيكتبون بدلاً من ﷺ (ص) أو (صم) أو (صلم) أو (صلعم)، فذلك لِمَا فيه من نقْص الأجْر لنقص الكتابة خلافُ الأولى.
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى - في كتابه "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي": "ويُكرَه الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا في كلِّ موضعٍ شُرِعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله - تعالى -: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، إلى أن قال: ويُكره الرمزُ إليهما في الكتابة بحَرْف أو حرفين، كمن يكتب (صلعم)، بل يكتبهما بكمالهما"، انتهى المقصودُ من كلامه - رحمه الله تعالى - ملخصًا.
هذه وصيتي لكلِّ مسلِم، وقارئ وكاتب، أن يلتمس الأفضلَ، ويبحث عمَّا فيه زيادة أجره وثوابه، ويبتعدَ عمَّا يُبطله أو ينقصه، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفِّقنا جميعًا إلى ما فيه رِضاه، إنَّه جواد كريم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
موقف الإسلام من القلق
مع طوفانِ الحضارة الماديَّة الوافدة من الغَرْب ظهرتْ عدَّةُ أمراض خطيرة، ما كانت تُعرَف من قبل، وباتتْ هذه الأمراض تهدِّد كيانَ كثيرٍ من الناس، وهذه الأمراض العضويَّة؛ مثل القرحة، والسكر، وضغْط الدَّم انتشرتِ انتشارًا كبيرًا كنتيجة حتميَّة للصِّراع النفسي الذي ولدتْه الحضارة، حتى عُرِفت هذه الأمراض بـ(أمراض الحضارة)، وهذه الأمراض العضويَّة منشؤها في الأصل مرضٌ نفسي هو (القلق)، فإذا علمنا أنَّ القلق هو الداءُ العضال الذي يُسبِّب كلَّ هذه الأمراض، فتبدأ الأوجاع بآثار نفسيَّة تؤثِّر على وظائفِ أجهزة الجِسم في الإنسان كعسر الهضم، وزيادة الحموضة في المَعِدة، ثم لا تلبث أن تتحوَّل إلى مرض عضويٍّ يؤثِّر بشكل أو بآخَرَ على جسم الإنسان ككلٍّ.
إذا علمْنا هذا، عَرَفْنا لماذا اهتمَّ بالقلق كثيرًا علماءُ النفس، وعلماءُ الطبِّ البشري أيضًا.
ومِن العلاجات التي توصَّل إليها علماءُ النفس: علاجٌ يُسمَّى (العلاج الإيماني)، وهو يعتمد على بعْث الإيمان بقوَّة عظمَى لها الهيمنة على الإنسان، وتملك كلَّ مقدراته، وإليها يرجع الفضلُ في وجوده، وفي سعادته، وفي كلِّ ما يرتبط به؛ لذا قالوا بأنَّ أهل الإيمان أقلُّ الناس إصابة بالقلق؛ لأنَّ الإيمان فيه العزاءُ للإنسان عندما تخذلُه كلُّ القوَى التي يعتمد عليها في حياته من دون الله، فإذا عرفْنا كلَّ ذلك، باتَ من الواجب أن نعرف رأيَ الإسلام في القلق، وكيف حَمَى أتباعَه من هذا المرض الفتَّاك؟ وكيف عالج مسبباتِه؟ وما هو الدواءُ الناجع الذي وَصَفَه لهم، حتى يتغلَّبوا عليه إذا داهمَهم، أو ألَمَّ بهم أمْر؟
القلق نتيجة حتمية لعدم الإيمان:
الإسلامُ كدِين لم يقتصرْ على النواحي التعبديَّة، ولم يقفْ عند حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكنَّه يتغلغَل في نفس المسلِم، كعقيدة ربانيَّة تمتزِج بدمه، فهو يتعرَّض للإيمان لا بوصفِه عملية فكريَّة مستقرُّها العقل والقلْب فقط، بل ينطلق به إلى نواحي حياةٍ لها الأثر في حياة الإنسان وسلوكه، تترتَّب على الإيمان أو عدمه سعادةُ الإنسان في الحياة أو شقاؤه؛ ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 32]، والتصويرُ الدقيق لحال المشرِك الذي تُمزِّقه الأهواء، وتجاذبه التياراتُ لا تقف عند هذا الحدِّ، بل وتنحدر به في حركة سريعة إلى قرارِ الهاوية - هاوية الضياع والصِّراع والقلق.
ويؤكِّد الإسلامُ هذه النتيجةَ الحتمية - نتيجة القلق - المترتبة على عدم الإيمان بالضلال والشقاء والحيرة في الدنيا بلفظ (معيشة ضنكًا)؛ قال - تعالى -: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 34، 38].
وهذا هو حالُ الوجوديِّين اليومَ والملاحدة الطبيعيَّة عمومًا، وما آل إليه مصيرُهم بعدَ أن فشلتِ الطبيعة التي عبدوها من دون الله في أن تحقِّق لهم الاطمئنان، فوَقَعُوا في القلق والحَيْرة.
أسباب القلق:
ومنشأُ القلق الخوفُ على أشياء معيَّنة، وهذا الخوف يُسيطِر على الإنسان، ويبقيه في مرحلة التفكير، فيظلُّ الفِكْر يتفاعل بما لديه من وساوس وافتراضات وتخيُّلات، حتى يقضيَ على نفس صاحبه، وإذا حاولْنا التعرُّف على هذه الأسباب وجدْناها تنحصر في الخوف على الأجل (العمر)، والخوف على الرِّزْق، والخوف من مصائب آتية، ومنغِّصات يوميَّة، ولكن السبب الثالث يرجع في كثيرٍ من النواحي إلى أحد السببين السابقين (العمر والرزق) أو كليهما معًا.
والإسلام يُطمئن الإنسان، ويبعث فيه الثِّقة والأمان، بأنَّ عمرَه محدَّدٌ بعِلم الله وبيد الله، لا تستطيع قوَّة - مهما عظمتْ - أن تَزيدَ فيه لحظة واحدة، ولا تستطيع قوَّة مهما كبُرت أن تَنقص منه لو كنتم تعلمون؛ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 35] ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 11]، وبهذا تهدأُ ثائرةُ الإنسان، وتستقرُّ نفسُه، ويثوب إلى رشده، ويطمئن خاطرُه.
وكما أنَّ العمر بيد الله، كذلك الرِّزق بيد الله، ليس لأحد سلطان عليه؛ ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6] ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت: 60]، فإذا شعر إنسان بضعْف في إيمانه، وزعزعة في يقينه من هذه الناحية، ورتَّب مسألة الرِّزق - عطاءً أو منعًا - على أناس معيَّنين، أو على سلوك معين، جاء نصٌّ قرآنيٌّ آخرُ يؤكِّد بأسلوب القَسَم هذه المرَّة ضمانَ الرزق؛ ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22، 23]، فعلامَ الخوف؟ وعلامَ القلق؟ وربُّ العزَّة يُقسِم بنفسه أنَّه حق، وأنَّه في السماء، وأنَّه بيد الله، لا سلطان لأحد عليه، إلاَّ الله الواحد الأحد.
فإذا استقرَّت النفس واطمأنت لذلك، هدأتْ وعاودَها الإيمان، وتفتَّحتْ للدنيا وللحياة؛ لتؤديَ رسالتها التي كلِّفت بها، هذان هما أهمُّ الأسباب التي تُثير القلق، وقد كفلهما الإسلام، ورسَّخ العقيدةَ بحفظهما، وبأنَّ الله المالك الوحيد لهما، ولا سلطانَ لأحد غيرِه عليهما، فهناك أشياءُ آتية وحوادثُ يوميَّة حياتيَّة تقع فتثير القلق: مرض إنسان عزيز، أو أصابته خسارة مالية متوقعة لأيِّ سبب كان، رسوب في امتحان، خلافات عائلية أو خلافات في العمل، ارتفاع في الأسعار، ارتفاع أُجْرة المنزل أو المحل، قضية إخراج من المنزل.. إلخ هذه المنغِّصات والمسببات للهمِّ والقلق.
وهنا نجد الإسلام دائمًا الحارسَ الأمين لأنفس أتْباعه، والدواءَ الناجع لكلِّ عِللهم، فيأتي للنفس البشرية ويعالجها من ناحية الإيمان، لا من ناحية ما هو كائنٌ فقط، فإذا استقرَّ الإيمان في النفس أصبح سهلاً عليها تقبُّل هذه الأزمات، إنَّها حتمية لا مفرَّ منها، وإنها سُنَّة الله في خلقه، ولا تبديلَ لسُنَّة الله، ثم بعدَ ذلك ينطلق الإنسان لعلاجها بنفس واثقة، فيقول له: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51] ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107].
وإذا تكالبتِ الدنيا على المسلِمِ بقوانينَ جائِرة، أو أنظمة ظالمة، أو بعَدَاءٍ خفي أو صريح، وتألَّب عليه الغوغاءُ من كلِّ صِنف ونَوْع، قال له: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 73 - 74].
ثم يؤكِّد له أنَّ هذه المنغصاتِ ما هي إلاَّ ابتلاءٌ من الله ومحنة؛ ليرى الصابرين والمحتسبين، ثم يرسم له طريقَ الخلاص من هذه المِحن، ويُريه النتيجة والجزاء؛ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وبهذا تُصبِح نفس المسلِم مستقرَّةً هادئة، راضية مطمئِنَّة، وسرعانَ ما يتلاشى ما علاَها من همٍّ وغمّ، وما لابَسَها من قلقٍ وأرق.
علاج الإسلام لأتباعه
إذا كان الإسلام قد طمأن الإنسانَ على عمرِه، وطمأنه على رِزقه، ووطَّن نفسَه على تحمُّل المصائب والمحن، إلاَّ أنَّه لم يكتفِ بذلك، فإنَّه إذا اعتبر الطمأنينةَ على الرِّزق أو العمر، أو التوطين ضدَّ المصائب - علاجاتٍ جزئية، إلاَّ أنَّه أراد وقَصَد إلى وضْع العلاج الكامل الشامل، وهو الوقاية بادئَ ذي بدءٍ ضدَّ كلِّ أنواع المخاوف، وما يترتَّب عليها من قلق، فكان الإيمانُ الذي يسبق كلَّ هذه الأمور، عندما وطَّد العقيدةَ لدَى المؤمن ورسَّخها بأنَّ كلَّ أمْر الإنسان بخيره وشرِّه يرجع إلى الله وحدَه؛ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: كنتُ خلفَ النبي ﷺ يومًا فقال لي: «يا غلامُ، إنِّي أُعلِّمك كلمات: احفظِ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلمْ أنَّ الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبَه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يَضرُّوك بشيء لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفَّت الصحف»[69]، وبذلك تستقرُّ النفوس، ويصبح أهلُ الإيمان أكثرَ الناس رضًا وسعادة في الحياة الدنيا، بما اتخذوا لأنفسهم من طريق الإيمان والتقوى والورع؛ ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62 - 64].
وتُصبِح حياةُ المؤمن تبعًا لذلك الإيمان المستقرِّ والسلوك السَّوي خيرًا كلُّها في السرَّاء، وفي الضرَّاء؛ قال رسولُ الله ﷺ: «عجبًا لأمْر المؤمن! إنَّ أمْرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابته سرَّاءُ شَكَر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيرًا له»؛ رواه مسلم.
ما يساعد على ذَهاب القلق:
ولكنَّ الإسلام دينٌ واقعيٌّ يَعْلم النفس البشرية تمامَ العِلم، ويعلم ما يكتنفها من ضعْف، وما يَعتريها من وهن، فهو رغمَ ما قدَّم لها من إيمان راسخ، ومن عقيدة ثابتة، يُقرِّر أنَّ هذه النفس أحيانًا تتغلَّب عليها المخاوفُ في لحظة ضعْف إيماني؛ ولذا يدلُّ الإنسانَ على كثير من الطُّرق العمليَّة لعلاج هذا الضعف والمقاومة والخوف والقلق، فما هي هذه الوسائل؟
أوَّل وسيلة يدلُّ الإنسان عليها: الصلاة:
فالصلاة صِلةٌ بين العبد وربِّه، أرأيتَ لو أنَّ إنسانًا تعرَّض لمصيبةٍ ما، أمَا تراه يهرب ويفزع إلى مَن هو أقوى منه؛ ليحميَه وليحتميَ في جنابه، ويلوذَ برحابه؟! وكذلك المؤمن كان حريًّا به أن يلوذ بحِمَى الله، وأن يلجأَ إلى الله، ليس هناك أفضلُ من الصلاة تقرِّبه إلى الله - سبحانه -: «أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد، فأكْثِروا الدُّعاء»[70]، فيفزع المسلِم إلى الصلاة ليستعينَ بها على المصائب والنكبات؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 154] ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45].
وقُدوةُ المسلمين في ذلك رسولُ الله ﷺ الذي كان يَفْزع إلى الصلاة كلَّما حزَبَه أمْر؛ قال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان رسولُ الله ﷺ إذا حَزَبه أمْرٌ صلَّى"[71]، وكثيرًا ما كان يقول لبلال: ((أقِمِ الصلاة، أرِحْنا بها))[72].
والصلاة دواء ناجع لهذا المرض الخطير، والمحافظون عليها تراهم دائمًا في ثِقة من سلوكهم ومِن حياتهم، وعلى ثِقة بربِّهم، فلا يتزعزع لديهم إيمان، ولا تهتزُّ عندهم القِيم، كما يحدث عندَ بقية بني البَشر؛ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 19، 25]، فالمسلِم في صلاته دائمًا يطلب العَوْنَ والهداية والسَّدادَ من الله، فيعطيه الله هذه المطالِب؛ ففي الحديث: «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفَين، فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمَِدَني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مجَّدني عبدي، وإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»[73]، وهكذا ترَى الصلاة دواءً ناجعًا لهذا المرض الخطير.
والدواء الثاني: قراءة القرآن:
فالإنسانُ عندما يقرأ القرآن، ويشعر أنَّه في رِحاب الله، ومع كلام الله، يزداد اطمئنانًا وثِقة، كما أنَّ القرآن فيه من الأمثال والعِبر، ومِن قَصص الأمم السابقة، وما مرَّت به من مصائبَ وآلام، ما يُطمئن الإنسانَ على أنَّه ليس الوحيدَ في هذا العالَم الذي يُبتلَى بذلك، ويعطيه الثقة بفَرَج الله، كما أنَّ القرآن شفاءٌ من الله ورحمة للذين يقرؤونه، ويُحلُّون حلالَه، ويُحرِّمونه حرامه؛ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82] ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44].
والعلاج الثالث لمرض القلق: هو تذكُّر الموت:
فإذا تكاثرتِ الهمومُ على الإنسان، وسُدَّت أمامَه سُبلُ الحياة السعيدة، تذكَّر الموت، عندها تهون عليه الدنيا ومَن فيها أمامَ هذه الحقيقة الكبرى، وينظر للدنيا على أنَّها شيء تافِه أمامَ عظمة الله وقدرته، وأنَّ الدنيا مرحلةٌ لا بدَّ أن يَعقُبَها الموت، هذه هي النهاية الحتمية اللاَّزمة؛ عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله ﷺ مرَّ بمجلس وهم يضحكون، فقال: «أكثروا مِن ذِكْر هاذم اللذَّات - أحسبه قال -: فإنَّه ما ذَكَرَه أحدٌ في ضِيق من العيش إلاَّ وسَّعه، ولا في سَعة إلاَّ ضيَّقها»؛ رواه البزار بإسناد حسن.
والدواء الرابع: الدعاء:
لأنَّ الدعاءَ فيه التنفيسُ عن القلْب، والتفريج عن الصَّدر، وتخفيف ما يجده الإنسان من همٍّ وغمّ؛ لأنَّه يربطه بخالقٍ أقوى وأقدر، وقوَّة أعظمَ وأحْكم، دخل رسول الله ﷺ المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أُمَامة، فقال: ((يا أبا أُمامةَ، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: همومٌ لزمتني، وديونٌ يا رسول الله، قال: أفلا أُعلِّمك كلامًا إذا قلتَه أذهبَ الله همَّك، وقضَى عنك دَيْنك؟ قلت: بلى يا رسولَ الله، قال: «قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيت: اللهمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، وأعوذ بك من العَجْز والكسل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من غَلبة الدَّيْن وقَهْر الرِّجال»، قال: ففعلت ذلك، فأذهَبَ الله همِّي، وقضَى عني دَيْني"؛ أخرجه أبو داود، قال الشوكانيُّ، ولا مطعنَ في إسناده.
وهناك دعاءُ نبيِّ الله يونس - عليه السلام - الذي ما دعا به مغمومٌ مؤمن بالله، ومخلصًا له الدِّين، مخلصًا له الدُّعاء، إلاَّ فرَّج الله غمَّه، وأذهب حزنَه، كما قال رسولُ الله ﷺ «فإنَّه لم يدعُ به مسلِم ربَّه في شيءٍ قطُّ، إلاَّ استجاب له»[74]، ودعوة يونس كما وردتْ في سورة الأنبياء: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87 - 88]، وهذه الدَّعْوة باقيةٌ إلى يوم القيامة لكلِّ مسلِم مؤمن يدعو الله بها؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ فعن سعيد بن المسيب قال: سمعتُ سعدَ بن أبي وقَّاص يقول: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اسم الله الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى: دعوةُ يونس بن متَّى»، قال: قلت: يا رسولَ الله: هي ليونس خاصَّة، أم لجماعة المسلمين؟ قال: ((هي ليونسَ ابنِ متَّى خاصَّة، ولجماعة المؤمنين عامَّة إذا دعَوْا بها، ألَمْ تسمعْ قولَ الله - عز وجل -: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، فهو شَرْط من الله لِمَن دعاه به[75].
والعلاج الخامس: العمل:
فالإسلام يَكره لأتباعِه الكسلَ والتواني، ويَكرَه لهم أن يظلُّوا في دائرة التفكير المضنِي في الهموم، وما يترتَّب على هذا من افتراضات واحتمالات وتوقُّعات، ممَّا يَزيد في تعقيد الأمر، وفي بلبلة الفِكْر، ولكنَّه يأمر أتباعه برفِق أن ينتقلوا إذا ما انتهوا من التفكير، إلى العمل المثمِر النافع، وبذلك يتخلَّصون من دواعي القلق، وهذا ما كان واضحًا في دعاء الرسول ﷺ: ((وأعوذ بك من العجز والكسل))، بعدَ أن دعا: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن))، فالهمُّ والحزن (مجاله التفكير)، والعجز والكسل (مجاله العمل)، والعمل يتبع التفكير، فواجبٌ أن ينتقل المسلِم إلى العمل، وبهذا يتخلَّص من همومه؛ لأنَّ العمل يصرِفُه عن التفكير المضني، ويدفعه إلى الإنتاج، ويُخفِّف عنه آلامَه، ويسدُّ حاجتَه، وهكذا عالَجَ الإسلامُ القلق، وفتَح لأتباعه طرقَ الخير والتفتح على الحياة للعمل بثِقة واطمئنان؛ لأداء الرِّسالة المناطة بهم، فالحمدُ لله الذي أكمل لنا دِيننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضِيَ لنا الإسلام دينًا[76].
حيدر عبد الفتاح قفه، عن مجلة المجتمع 20/ 5/ 1397 هـ.
أوائل
1 - أوَّل ما يُحاسب به العبد يومَ القيامة: الصلاة.
2 - أوَّل مَن قَلَّم أظافره، وجزَّ شاربه، واستحدَّ: إبراهيم - عليه الصلاة والسلام.
3 - أوَّل مَن دُفِن بالبقيع من الصحابة: عثمان بن مظعون - رضي الله عنه.
4 - أوَّل مَن دوَّن الحديث: ابن شِهاب الزهري.
5 - أوَّل مَن صنَّف الحديث الصحيح المجرَّد: البخاري.
6 - أوَّل مَن صنَّف في المغازي: عُروة بن الزبير.
7 - أوَّل مَن صنَّف في الفقه: أبو حنيفة.
8 - أوَّل مَن صنف في أصول الفقه: الإمام الشافعي.
9 - أوَّل مَن وضع عِلم العَرُوض: الخليل بن أحمد.
10 - أوَّل ما يُرفع من الناس: الخشوع.
11 - أوَّل ما نُسِخ من الشريعة الإسلاميَّة: القِبلة.
12 - أوَّل مَن تغنَّى: إبليس.
13 - أوَّل مَن يستظلُّ بظل العرش: رجل أنظرَ معسرًا (أي: أمهله حتى يجد).
14 - أوَّل فتنة في بني إسرائيل كانت في: النساء.
15 - أول مَن نَطق بالعربيَّة: إسماعيل - عليه السلام.
16 - أوَّل مَن زاد الأذان الأوَّل في الجُمُعة: عثمان - رضي الله عنه.
17 - أوَّل مَن صَنع الفلك: نوح - عليه السلام.
18 - أوَّل ذنب عُصِي اللهُ به في السماء والأرض: الحَسَد.
19 - أوَّل ما يُقضى بين الناس يوم القيامة: في الدِّماء.
20 - أوَّل مَن سُمِّي أحمد: هو النبي ﷺ ولم يُسمَّ هذا الاسم أحمد قبلَه[77].
21 - أوَّل بيت وُضِع في الأرض للعبادة: الكعبة المشرَّفة.
22 - أوَّل ما نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
23 - أوَّل مَن سعى بين الصفا والمروة: أم إسماعيل - عليهما السلام.
24 - أوَّل مَن آمن برسول الله ﷺ مِن الرجال: أبو بكر الصديق، ومِن الصبيان: علي بن أبي طالب، ومِن النساء: خديجة بنت خويلد - رضي الله عنهم.
25 - أوَّل شهيدة في الإسلام: (سمية) والدة عمَّار بن ياسر - رضي الله عنهما.
26 - أوَّل مَن جمع القرآن: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وأوَّل مَن جَمَعه في مصحف واحد: عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه.
27 - أوَّل ما يُفقد من الدِّين: الأمانة، ومِن العلم: عِلم الفرائض.
28 - أوَّل مَن يستفتح باب الجنة: نبيُّنا محمَّد ﷺ وأول مَن يدخل الجنة من الأمم أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم.
29 - أوَّل أشراطِ الساعة: طلوعُ الشمس من مغربِها، فإذا طلعتْ آمن الناس أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنتْ من قبل، أو كسبتْ في إيمانها خيرًا.
تَسْمَعْ بالمُعَيْدِي خيرٌ من أن تراه
هذا مَثَلٌ من أمثال العَرَب قاله شقَّة بن ضمرة للنعمان،[القائل هو النعمان لشقة]، وقد ازْدارَه حين رآه، وكان قد أعجبَه حسنُ بيانه، وهذا المثل يُضرب لِمَن قَبُح منظره، وحَسُن مخبره[78]، وهو ينطبق على كثيرٍ من الكتَّاب المسلمين الذين يُعجبك بيانُهم وحسنُ أسلوبهم في مقالاتهم وكتاباتهم، ولكنَّك إذا رأيتَهم قد خالفوا سُنَّةَ نبيهم وحلقوا لِحاهم، أسفتَ عليهم، وزهدتَ في كلامهم، وربَّما كان لدى أحدهم معاصٍ ومخالفات أخرى؛ كشُرْب الدُّخَان، وإسْبال الثِّياب، ولبس الذهب، إلى غير ذلك، ومن المعلوم أنَّ النبي ﷺ أمر بإعفاء اللِّحية، ونهى عن حلْقها، وأمْرُه للوجوب، ونهيه للتحريم، وكان الجدير بهم أن يكونوا قدوةً حسنة للناس في مظهرهم ومخبرهم، وأقوالهم وأفعالهم، فالتعليمُ بالفِعْل أبلغُ من التعليم بالقول، ومخالفتهم للسُّنة تجعل الناس يُعرِضون عن كلامهم؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه، فيصبح الداعية الذي لم يلتزمْ بتطبيق السُّنَّة يُناقض نفسَه بنفسه، والناس لا ينتفعون به، ولا يتأثَّرون بكلامه، وقد قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3] وقال - تعالى -: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44] وقال - تعالى - إخبارًا عن شُعَيب - عليه السلام -: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ﴾ [هود: 88].
وقال الشاعر:
لاَ تَنَهْ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ |
كما ينطبق هذا المثلُ على بعض المدرِّسين الذين وقَعُوا في معصية الله ومعصية رسوله - هداهم الله، وأخذ بنواصيهم إلى الحقِّ، وجعلهم هداة مهتدين - فاتَّقِ الله أيُّها المسلم، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتُبْ إلى الله توبةً نصوحًا بترْك المعاصي والمخالفات، والندم على ما كان منها، والعَزْم على عدم العودة إليها في المستقبل، وكن قدوةً حسنة لغيرِك بأقوالك وأفعالك؛ لتفوزَ بالأجر وتَسلَمْ من الإثم، ولتنفعَ نفسك، وينتفع بك غيرُك، وفَّقك الله لِمَا يُرضيه، وجعلنا وإيَّاك هداة مهتدين، وبالعِلم عاملين.
حاربوا هذه المجلات
بقلم/ عبدالله المحمد المسعود
أعتقدُ بأنَّني سأكتب في موضوع سَبَق أن تكلَّم الكثيرون عنه، وهو موضوع المجلاَّت الخلاعية، ذات الطابع الهادِم للمبادئ الأخلاقيَّة، والقِيم الإنسانية، هذه المجلاَّت التي انتشرتْ في أرجاء العالَم، وبأسفٍ شديد في عالَمنا الإسلامي، وفي اعتقادي - بل أجزم - أن مَن يُشرِف على تلك المجلاَّت، إنَّما هم أناس سفلة، منحطُّون أخلاقيًّا واجتماعيًّا.
أناس يسيرون وراءَ شهوات النفس التي توصلهم إلى مدارك الانحطاط الكليِّ، ناس يسيرون وراءَ المادة، همُّهم دنياهم فقط، أناس زيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم، وأقول بأسف شديد وبغَيرة شديدة بأنَّ تلك المجلاَّت تصدر أيضًا من عالَمنا العربي، ليس فقط من أوربا وما شابهها من دول ضالَّة ومُضلَّة، ويُشرِف عليها مَن يُسمُّون أنفسَهم عربًا ومسلمين، وأقول أيضًا ببالغِ الأسى والأسف بأنَّ تلك المجلاَّت قد وجدتْ مروِّجين لها، ووجدتْ مَن يتسابق لشرائِها، والاطِّلاع عليها منَّا - نحن المسلمين - ولو بأضعاف المبالِغ، تلك المجلاَّت التي تُرينا المرأةَ كالسِّلْعة لا قيمةَ إلاَّ لجسدها، أمَّا ما يُسمَّى بشرفها وأخلاقها فلا وجودَ لذلك، بل لا وجود للمرأة إطلاقًا، إنَّما الموجود هو (جسد المرأة)، هذا هو فعلاً ما نراه من خلال طريقتهم الزائفة، ومنهاجهم الحيوانيِّ الضالِّ المُضِلّ.
إنَّني أحبُّ أن أقول لهؤلاء السفلة والسافلات: اتَّقُوا الله يا مَن تسمُّون أنفسكم مسلمين، وتستترون خلفَ رداء العروبة والإسلام، فالدِّين الإسلاميُّ لا يُقرُّ بهذه الأشياء، ولا يعترف بها، بل يُحرِّمها ويحاربها، وأقول لكلِّ شباب وشابات المسلمين بأنَّ عليهم عدمَ الاطلاع على هذه المجلاَّت المُتلِفة لعقول البشر، أو شراؤها، فأنتم حين لا تَطَّلعون عليها، فإنَّ ذلك سيكون سببًا لتوقُّفِها وذل لأعداء الإسلام ممَّن يدَّعون بأنَّهم مسلمون.
وتذكَّروا قول الله - تعالى -: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14] صدق الله العظيم.
(عن مجلة الدعوة) (انظر رسالة فتن المجلات للشيخ محمد الصالح العثيمين).
فتاوى إسلامية[79]
الحمد لله وحده وبعد، فقد اطلعتِ اللجنةُ الدائمة للبحوث العِلميَّة والإفتاء على الاستفتاء المقدَّم من المدعو: أحمد بجاش ردمان، ونصه:
السؤال: اللِّحيةُ سُنَّة مِن سُنن النبي ﷺ وهناك أناسٌ كثيرٌ منهم مَن يحلقها، ومنهم مَن يَنتِفها، ومنهم من يُقصِّر منها، ومنهم مَن يجحدها، ومنهم مَن يقول: إنَّها سُنَّة يُؤجَر فاعلُها، ولا يُعاقب تاركُها، ومن السفهاء مَن يقولون: لو أنَّ اللحية فيها خيرٌ ما طلعتْ مكانَ العانة - قبَّحهم الله - فما حُكمُ كلِّ واحد من هؤلاء المختلفِين؟ وما حُكم مَن أنكر سُنَّةً من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: قد دلَّتْ سُنَّة رسول الله ﷺ الصحيحة على وجوب إعفاء اللحية، وإرخائها وتوفيرها، وعلى تحريم حَلْقِها وقصِّها، كما في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي ﷺ قال: «قصُّوا الشوارب، وأعفوا اللِّحى، خالِفوا المشركين»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي ﷺ قال: «جزُّوا الشوارِب، وأرْخوا اللِّحى، خالِفوا المجوس»، وهذان الحديثان وما جاء في معناهما من الأحاديث كلُّها تدلُّ على وجوب إعفاء اللِّحى وتوفيرها، وتحريم حلقِها وقصِّها، كما ذكرْنا، ومَن زعم أنَّ إعفاءها سُنَّة يُثاب فاعلها، ولا يستحق العقابَ تاركُها، فقد غَلِط وخالَف الأحاديثَ الصحيحة؛ لأنَّ الأصل في الأوامر الوجوبُ، وفي النهي التحريم، ولا يجوز لأحدٍ أن يُخالِف ظاهرَ الأحاديث الصحيحة إلاَّ بحجَّة تدلُّ على صرْفها عن ظاهرها، وليس هناك حجَّة تصرِف هذه الأحاديثَ عن ظاهرها.
وأما ما رواه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنِ النبي ﷺ أنَّه كان يأخذ من لحيته من طُولِها وعَرْضها، فهو حديثٌ باطل، لا صِحةَ له عن رسول الله ﷺ لأنَّ في إسناده راويًا متهمًا بالكذب.
أما مَن استهزأ بها وشبَّهها بالعانة، فهذا قد أتى منكرًا عظيمًا يوجب رِدَّتَه عن الإسلام؛ لأنَّ السخرية بشيء ممَّا دلَّ عليه كتابُ الله أو سُنة رسوله محمد ﷺ تُعتبر كفرًا وردةً عن الإسلام؛ لقولِ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65 - 66]، ونسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين الهدايةَ والتوفيق، والعافية من مضلاَّت الفتن، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
س: سبق أن استفسرْنا مِن فضيلتكم عن سماع الأغاني، وأجبْتُونا بأنَّ الأغاني الماجنة حرامٌ سماعُها؛ لهذا ما حُكم سماع الأغاني الدِّينيَّة والوطنيَّة، وأغاني الأطفال وأعياد الميلاد، عِلمًا بأنَّها تكون دائمًا مصحوبةً بعزْف، سواء في الراديو أو في التليفزيون؟
ج: العزْف حرامٌ مطلقًا، والأغاني الدِّينيَّة والوطنية وأغاني الأطفال إذا كانتْ مصحوبةً بالعزف، فهي محرَّمة، وأمَّا أعياد الميلاد فهي بِدعةٌ، ويحرُم حضورها والمشاركة فيها.
ومِن الأدلة على تحريم الأغاني والأناشيد المشتمِلة على العَزْف قولُ النبي ﷺ: «لَيكوننَّ من أمَّتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازِف»؛ رواه البخاري في صحيحه مع أحاديث أخرى وردتْ في هذا الباب.
(فتوى رقم 1068)
يقول السائل:
هل يُؤاخِذ اللهُ - عزَّ وجلَّ - حالقَ اللحية، ويُعاقبه لمخالفة الرسول ﷺ لقوله: «خالِفوا المشركين، وفِّرُوا اللِّحى، وأحفوا الشوارب»، وهل اللحية شرطٌ في الإيمان الكامل للمسلِم، يؤاخِذ الله عليها، ويعاقب حالقَها؟
فأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز:
الجواب: حَلْق اللحية - بعضها أو كلها - حرامٌ ينافي كمالَ الإيمان الواجب، وحالقُها يستحقُّ العقوبةَ والتعزير في الدنيا، والعذاب يومَ القيامة، إلاَّ أنْ يتوب قبلَ موته، فإن تاب توبةً صادقة وأعفى لحيته، تاب الله عليه؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82] وإن أصرَّ على حَلْقها حتى مات استحقَّ العقوبة، وهو في مشيئة الله - أي: إن مات على الإيمان - إن شاء عفَا عنه، وإن شاء عاقَبه، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
نصيحة
أُخَيَّ اسْتَمِعْ مِنِّي هُدِيتَ نَصِيحَةً | بِقَوْلٍ حَرِيٍّ بِالصَّوَابِ وَنَافِعِ | |
أَتَتْ مِنْ أَخِي وُدٍّ شَفِيقٍ عَلى الَّذِي | عَنِ الْكِبْرِ نَاءٍ مَائِلٍ لِلتَّوَاضُعِ | |
إِذَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ مَحْلُوقَ لِحَيْةٍ | مُقَلِّدَ أَهْلِ الْغَرْبِ صَهْبِ الْمَفَارِعِ | |
فَلِلَّهِ فَالْجَأْ حَامِدًا مُتَضَرِّعًا | وَقُلْ مَا أَتَى عَمَّنْ أَتَى بِالشَّرَائِعِ | |
لَعَلَّكَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُنَابِذًا | لِأَخْلاَقِهِمْ تَحْظَى بِأَعْلَى الْمَوَاضِعِ | |
وَتُعْنَى بِأَخْلاَقِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ | مُعَفِّي اللِّحَى أَهْلِ الْعُلُومِ الْجَوَامِعِ | |
فَكَمْ بَيْنَ مَنْ قَدْ شَابَهُوا خَيْرَ مُرْسَلٍ | بِإِعْفَائِهَا أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مُتَابِعِ | |
وَمَنْ رَدَّ أَمْرَ الْمُصْطَفَى فَاعْتَدَى لَهَا | بِحَلْقٍ لَهَا وَنَتْفِهَا بِالْأَصَابِعِ | |
أَوِ الْقَصِّ أَوْ تَحْرِيقِهَا وَبَكْيِهَا[ت.ر] | يَرَى تَرْكَهَا مِنْ مُعْظَمَاتِ الْفَظَائِعِ | |
يَغِيرُ عَلَيْهَا كُلَّ صُبْحٍ بِمَاحِقٍ | إِذَا مَا بَدَا شَعْرٌ عَلاَهُ بِقَاطِعِ | |
كَأَنَّ لَهُ ثَأْرًا عَلَيْهَا مُضَاعَفًا | فَمَا نَاصِحٌ مُغْنٍ وَلاَ شَفْعُ شَافِعِ | |
مُهَدَّدَةٌ فِي كُلِّ صُبْحٍ وَرَوْحَةٍ | فَمَا أَمْنُهَا إِلاَّ بِجِلْدٍ مُمَانِعِ | |
إِذَا قُلْتَ لِمْ تَعْصِي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا | فَتَحْلِقُهَا حَلْقَ الْعَنِيدِ الْمُدَافِعِ | |
أَمَا أَوْجَبَ الرَّحْمَنُ طَاعَةَ أَحْمَدٍ | عَلَيْنَا وَعِصْيَانَ الْعُدُوِّ الْمُقَاطِعِ | |
أَمَا قَالَ أَرْخُو اللِّحَى وَوَفِّرُوا[ت.ر] | فَوَفِّرْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى بِمُتَابِعِ | |
فَأَطْرَقَ حَتَّى إِنْ ظَنَنْتَ بِأَنَّهُ | سَيَرْجِعُ عَنْ إِتْلاَفِهَا بِمُسَارِعِ | |
وَيَنْدَمُ عَمَّا قَدْ مَضَى مِنْهُ أَوَّلاً | وَيَعْزِمُ فِي جِدٍّ مِنَ الْحَزْمِ قَاطِعِ | |
فَقَالَ بِمَا قَالَ الْكَثِيرُ مُعَانِدًا | أَلَسْتَ تَرَى غَيْرِي فَلَسْتُ بِسَامِعِ | |
فَقُلْتُ أَلَيْسَ الْأَكْثُرُونَ عَنِ الْهُدَى | تَوَلَّوْا فَضَلُّوا فِي وَخِيمِ الْبَلاَقِع | |
وَفِي تَافِهِ الْأَشْيَاءِ لِلضِّدِّ قَلَّدُوا | وَفِي الدِّينِ وَالْأَخْلاَقِ صِفْرُ الْبَضَائِعِ | |
فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا | تُقَارِنُ فِي عَدْلٍ عَنِ الْجَوْرِ شَاسِعِ ِ | |
وَأَخْتِمُ قَوْلِي حَوْلَ مَا قُلْتُ أَوَّلاً | فَمَا فِي يَدِي حَوْلٌ فَلَسْتُ بِدَافِعِ | |
سَلاَمٌ عَلَى مُعْفِي اللِّحَى كُلَّ مَا بَدَا | لَنَا شَعْرُهَا مَا بَيْنَ سُودٍ وَنَاصِعِ | |
وَصَلِّ إِلَهِي كُلَّ مَا ذَرَّ شَارِقٌ | عَلَى أَحْمَدَ الْمُخْتَارِ جَمَّ الْمَنَافِعِ |
(ناصح)
الوصية بتقوى الله
قصيدة من إنشاء المحتاج إلى عفو ربه المنان
صالح بن سليمان بن سحمان
خَفَافِيشُ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ لَهَا ضَرَرْ | وَأَوْبَاشُهَا بَيْنَ الْوَرَى شَرُّهَا ظَهَرْ | |
يَعِيبُونَ أَهْلَ الدِّينِ مِنْ جَهْلِهِمْ بِهِمْ | كَمَا عَابَتِ الْكُفَّارُ مَنْ جَاءَ مِن مُضَرْ | |
يَقُولُونَ رَجْعِيُّونَ لَمَّا تَمَسَّكُوا | بِنَصٍّ مِنَ الْوَحْيَيْنِ كَانَ لَهُ الْأَثَرْ | |
وَإِعْفَائِهِمْ تِلْكَ اللِّحَى لِجَمَالِهَا | وَتَرْكِ سَوَادٍ حِينَ كَانَ بِهِ غَرَرْ | |
وَحَمْلِهِمُ تِلْكَ الْعِصِيَّ لِأَنَّهَا | لَدَيْهِمْ حَمَاقَاتٌ وَمِسْوَاكُ مَنْ طَهُرْ | |
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ يُغْدَى بِهِمْ إِلَى | مَهَاوٍ سَحِيقَاتٍ بِهَا الشَّرُّ وَالضَّرَرْ | |
كَشُرْبِهِمُ تِلْكَ الْخُمُورَ سَفَاهَةً | مَعَ الْفِعْلَةِ الشَّنْعَا بِإِتْيَانِهِمْ ذُكِرْ | |
وَمَكِّهِمُ التَّنْبَاكَ وَهْوَ هَلاَكُهُمْ | وَنَارٌ تَلَظَّى كَيْفَ يَرْضَى بِذَا الْبَشَرْ | |
بِمَجْلَبَةٍ دَاءَ السَّرَاطِينِ كُلَّ مَنْ | تَعَاطَاهُ لاَ يَخْفَى لَدَى كُلِّ مَنْ خَبَرْ | |
كَذَلِكَ دَاءُ السَّكْتِ لا شَكَّ حَاصِلٌ | لِشَارِبِهِ تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ سَخِرْ | |
وَذَمِّهِمُ مَعْ سُخْرِهِمْ لِحُرُوبِنَا | بِسَيْفٍ وَرُمْحٍ فِعْلَ مَنْ مَاتَ أَوْ غَبَرْ | |
ثَكِلْتُكُمُ يَا أَجْهَلَ النَّاسِ فَاسْتُرُوا | مَخَازِيكُمُ لاَ تَكْشِفُوهَا فَتَنْتَشِرْ | |
مَتَى كُنْتُمُ أَهْلاً لِكُلِّ فَضِيلَةٍ | مَتَى كُنْتُمُ حَرْبًا لِمَنْ حَادَ أَوْ كَفَرْ | |
مَتَى دُسْتُمُ رَأْسَ الْعُدُوِّ بِفَيْلَقٍ | وَقُنْبُلَةٍ أَوْ مِدْفَعٍ يَقْطَعُ الْأَثَرْ | |
تَعِيبُونَ أَشْيَاخًا كِرَامًا أَعِزَّةً | جَهَابِذَةً نُورُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرْ | |
فَمَنْ لَمْ يُوَقِّرْ أَشْيَبَ الرَّأْسِ وَاللِّحَى | فَلَيْسَ حَرِيًّا بِالسَّعَادَةِ وَالظَّفَرْ | |
وَمَنْ وَقَّرَ الْأَشْيَاخَ فَهْوَ مُوَفَّقٌ | سَعِيدٌ بِهَذِي الدَّارِ وَالْأَجْرُ مُدَّخَرْ[80] | |
فَهُمْ بَرَكَاتٌ لِلْبِلاَدِ وَأَهْلِهَا | بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ الْبَلاَيَا عَنِ الْبَشَرْ | |
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طِفْلٌ وَشُبَّانُ رُكَّعٌ | . | وَبُهْمٌ رَتِيعٌ صُبَّ مِنْ فَوْقِنَا الْحَجَرْ[81] |
فَيَا مُدَّعِي الْإِسْلاَمِ بِاللَّهِ فَاقْبَلُوا | نَصِيحَةَ مَنْ يَرْضَى لَكُمْ كُلَّ مُفْتَخَرْ | |
عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ جَلَّ جَلاَلُهُ | وَحِفْظِ صَلاَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ تُنْتَظَرْ | |
فَمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ | سَيَرْحَلُ عَنْهَا كُلُّ مَنْ نَامَ أَوْ سَهِرْ | |
وَيَا مَنْ تَمَادَى فِي الضَّلاَلَةِ وَالْعَمَى | أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى الْإِلَهَ كَمَنْ حَضَرْ | |
فَرَبُّكَ بِالْمِرْصَادِ إِنْ كُنْتَ غَافِلاً | سَرِيعُ انْتِقَامٍ أَخْذُهُ أَخْذُ مُقْتَدِرْ | |
وَرَبُّكَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ خَفِيَّةٌ | وَيَعْلَمُ وَسْوَاسَ الصُّدُورِ وَمَنْ أَسَرّْ | |
فَتُوبُوا إِلَى الْمَوْلَى جَمِيعًا وَسَارِعُوا | إِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى وَسَوُّوهُ مُؤْتَمَرْ | |
تَنَالُوا بِدُنْيَاكُمْ جَمَالاً وَرِفْعَةً | وَعِزًّا وَتَمْكِينًا كَذَا الذَّنْبُ يُغْتَفَرْ | |
وَيَا آمِرِي بِالْعُرْفِ بِاللَّهِ فَأْمُرُوا | بِعِلْمٍ وَحِلْمٍ كَيْ بِذَا النَّاسُ تَأْتَمِرْ | |
وَقُومُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ قَبْلَ أَمْرِكُمْ | كَمَا فَعَلَ الْفَارُوقُ أَعْنِي بِهِ عُمَرْ | |
وَيَا عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْلِصُوا | مَعَ اللَّهِ نِيَّاتٍ لَكُمْ وَانْبِذُوا الْأَشَرْ | |
فَإِنَّ صَلاَحَ النَّاسِ طُرًّا صَلاَحُكُمْ | وَكُونُوا لَوَالِي الْأَمْرِ أَنْفَعَ مُؤْتَزَرْ | |
وَأَحْسَنُ مَا يَحْلُو الْخِتَامُ بِذِكْرِهِ | صَلاَةٌ وَتَسْلِيمٌ عَلَى سَيِّدِ الْبَشَرْ | |
مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ وَالْآلِ كُلِّهِمْ | وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْأَثَرْ |
(من فضائل ذِكْر الله تعالى)
حمدًا لك اللهمَّ على نِعمك، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على نبيِّنا محمَّد، وآله وصحبه أجمعين.
أخي المسلِم، هل تريد أن تكسبَ هذا اليوم مليونَ حَسَنة، ويُمحَى عنك مليون سيِّئة، ويُرفع لك مليونُ درجة، ما دام أنَّ جوابك: نعم، فاقرأْ ما قاله نبيُّك ﷺ تجدْ أنَّ هذا الخيرَ ينتظرك بأن تدخل السوق، فتكسب هذا الفضلَ العظيم؛ ففي الحديث عن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وغيره: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «مَن دخل السُّوق فقال: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، له المُلْك وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو حي لا يموت، بيَدِه الخير، وهو على كلِّ شيء قدير، كَتَب الله له ألْفَ ألْفَ حَسَنة، ومَحَا عنه ألفَ ألفَ سيِّئة، ورَفَع له ألفَ ألفَ درجة»؛ رواه الترمذي وغيره، وإسنادُه حسن، ورُواته ثِقات.
أخي في الله، هل تعلمتَ سيِّدَ الاستغفار؛ لتُضمنَ لك الجنة إن قلتَه صباحًا فمتَّ من يومك، أو تقوله إذا أمسيت، فتُضمن لك الجَنَّة إن أنت متَّ مساءً، ولا بدَّ لنا من الموت صباحًا أو مساءً، إذًا إليك سيِّدَ الاستغفار، أدعوك لحِفظه وتعليمه أهلَك وإخوانك؛ ففي صحيح البخاري: عن شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «سيِّدُ الاستغفارُ أن يقول العبد: اللهمَّ أنتَ ربِّي لا إلهَ إلاَّ أنت خَلقْتَني وأنا عبدُك، وأنا على عَهدِك ووعْدِك ما استطعتُ، أعوذ بك مِن شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنِعمتك عليَّ وأبوء بذنبي، فاغفرْ لي إنَّه لا يغفر الذُّنوبَ إلاَّ أنت»، مَن قالها في النهار مُوِقنًا بها فمات من يومِه قبلَ أن يُمسي، فهو من أهْل الجنة، ومَن قالها من اللَّيْل وهو مُوقِن بها، فمات قبلَ أن يُصبِح، فهو من أهل الجنَّة، معنى ((أبوء)): أُقِرُّ وأعترف.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن قال: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير» في يوم مائة مرَّة، كانت له عدلَ عشْرِ رقاب، وكُتِب له مائةُ حسنة، ومُحِيت عنه مائة سيِّئة، وكانت له حِرزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به، إلاَّ رجلٌ عَمِل أكثرَ منه: ومَن قال: سبحانَ الله وبحمده، في يوم مائةَ مرَّة، حُطَّت خطاياه، وإن كانت مِثلَ زَبدِ البحر))؛ رواه البخاري ومسلم، أرجوك يا أخي المسلم أن تحفظَ ذلك وتردِّدَه يوميًّا، حتى آخرِ يوم من أيَّامك؛ لتحصلَ على هذا الخير العظيم، وفَّقنا الله جميعًا لطاعته، وأعاننا على ذِكْره وشُكره وحُسن عبادته، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وآله وصحبه وسلَّم.
أدعوك لاقتناء كتاب "الأذكار" للنووي، و"الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله – و"الوابل الصيب" لابن القيم - رحمه الله.
عبدالله بن علي الغضية
مشروعية رفْع اليدين في الدعاء
قال البخاري في صحيحه (باب رفْع الأيدي في الدعاء)، وقال أبو موسى الأشعريُّ: دعَا النبي ﷺ ثم رَفَع يديه، ورأيتُ بياضَ إبْطيْه، وقال ابن عمر: رَفَع النبيُّ ﷺ وقال: «اللهمَّ إني أبرأُ إليك ممَّا صَنَع خالد».
قال أبو عبدالله: وقال الأويسي: حدَّثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، وشريك: سمعَا أنسًا عنِ النبي ﷺ رَفَع يديه، حتى رأيتُ بياضَ إبطيه، قال في "فتح الباري": وفيه ردٌّ على مَن قال: لا يَرفَع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلاً، وتمسَّك بحديث أنس: "لم يكنِ النبي ﷺ يرفع يديه في شيءٍ مِن دعائه إلاَّ في الاستسقاء"، وهو صحيح، لكن جُمِع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأنَّ المنفي صِفةٌ خاصَّة، لا أصْل الرفع، قال: وقد أشرتُ إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله أنَّ الرفع في الاستسقاء يُخالِف غيرَه، إمَّا بالمبالغة إلى أن تصيرَ اليدان في حَذْو الوجه مثلاً، وفي الدُّعاء إلى حذو المَنكِبين، ولا يُعكِّر على ذلك أنَّه ثبت في كلٍّ منهما (حتى يرى بياض إبْطَيه)، بل يُجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغَ منها في غيره، قال: ومِن الأحاديث الصحيحة في ذلك: ما خرَّجه البخاريُّ في جزء رفع اليدين (رأيتُ النبي ﷺ رافعًا يديه يدعو لعثمان)، ولمسلِم من حديث عبدالرحمن بن سمرة في قصة الكسوف (فانتهيتُ إلى النبيِّ ﷺ وهو رافعٌ يديه يدعو)، وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضًا (ثم رَفَع يديه يدعو)، وفي حديثه عنده في دعائه ﷺ لأهل البقيع (فرفع يديه ثلاثَ مرَّات) الحديث، ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتْح مكَّة (فرَفَع يديه وجَعَل يدعو).
وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصَّة ابن اللُّتْبِيَّة: (ثم رفع يديه حتى رأيتُ عُفرةَ إبطية يقول: اللهمَّ هل بلَّغت)، ومن حديث عبدالله بن عمرو (أنَّ النبي ﷺ ذكر قول إبراهيم وعيسى، فرَفَع يديه، وقال: اللهمَّ أمتي)، وفي حديث عمر: (كان رسول الله ﷺ إذا أُنزل عليه الوحي يُسمَع عند وجهه كدويِّ النَّحْل، فأنزل الله عليه يومًا، ثم سُرِّي عنه، فاستقبل القِبلة (فرَفَع يديه ودعَا)، والحديث أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي والحاكم، وفي حديث أسامة: (كنتُ رديفَ النبي ﷺ بعرفات، فرَفَع يديه يدعو، فمالتْ به ناقته فسقَط خِطامُها، فتناولها بيده وهو رافعٌ اليدَ الأخرى"؛ أخرجه النسائي بسند جيِّد.
وفي حديث قيس بن سَعْد عندَ أبي داود: (ثم رَفَع رسول الله ﷺ يديه وهو يقول: اللهمَّ صلواتك ورحْمَتك على آل سعْد بن عُبادة) الحديث، وسنده جيِّد، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد أخرج أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وغيرهما من حديث سلمان رَفَعه: ((إنَّ ربَّكم حَييٌّ كريم، يستحي مِن عبده إذا رَفَع يديه إليه أن يَردَّهما صِفرًا)) بكسر الصاد وسكون الفاء؛ أي: خالية، وسنده جيِّد"؛ (انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/ 141 - 143)، وقال في شرح السنة (باب أدب الدعاء ورفع اليدين فيه).
قال أبو هريرة: استقبلَ رسولُ الله ﷺ القِبلة ورَفع يديه، وقال: (اللهمَّ اهدِ دوسًا وأتِ بهم))؛ رواه البخاري ومسلم، ثم ذكر الأحاديث الواردة في هذا الباب (انظر شرح السنة للإمام البغوي) (5/ 200).
وقال الشوكانيُّ: "ويدلُّ على مشروعية رفْع اليدين في الدعاء ما وقع منه ﷺ من رَفْع يديه في نحو ثلاثين موضعًا في أدعية متنوِّعة"؛ (انظر تحفة الذاكرين بشرح عدة الحصن الحصين من كلام سيِّد المرسلين ﷺ للإمام الشوكاني) (36).
وقال ابن رجب: "رَفْع اليدين من آداب الدعاء التي يُرجَى بسببها إجابتُه، وكان النبيُّ ﷺ يرفع يديه في الاستسقاء حتى سَقَط رداؤه عن مَنْكِبيه"؛ انظر "جامع العلوم والحِكم" لابن رجب (1/ 253)، منشورات المؤسَّسة السعيدية بالرياض.
وفي كتاب "الدُّرر السَّنِيَّة في الأجوبة النجدية" (4/ 158): "وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: رفْع اليدين عندَ الدُّعاء فيه أحاديث كثيرة، ولا يُنكره إلاَّ جاهل، ثم قال: وذَكَر ابن حجر أنَّ رفْع اليدين في الدعاء سُنَّة في غير الصلاة، وفيها في القنوت، فأمَّا دعاء الإمام والمأمومين ورَفْع أيديهم بعدَ الصلاة، فقال الشيخ تقي الدِّين (ابن تيمية) في مجموع الفتاوى (22/ 492): ولم يَنقل أحدٌ أنَّ النبي ﷺ كان إذا صلَّى بالناس يدعو بعدَ الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعًا، بل يَذكُرون الله كما جاء في الأحاديث، وممَّا تقدَّم من الأحاديث الصحيحة، وكلام أهل العلم، يتَّضح مشروعيةُ رفْع اليدين في الدعاء، وأنَّه من آدابه، ومِن أسباب الإجابة فيه، وبالله التوفيق.
نصيحة للشباب[82]
الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وبعدُ:
أيُّها الشابُّ المسلِم، أدعوك ونفسي إلى إنقاذ أنفسِنا ما دام في العمر بقيَّة، وما دامت تُقْبل منَّا التوبة، أدعوك إلى الله - سبحانه وتعالى - والتوبةِ إليه بالإخلاص له - تعالى - وطاعته، واتِّباع الرسول ﷺ وأُذكِّرك بعمود الدِّين الصلاة، التي تهاون بها أكثرُ شباب المسلمين - هدانا الله وإيَّاهم - حافظْ عليها في أوقاتها مع جماعةِ المسلمين في المسجد، وصلِّها بنيَّة خالصة لله وخُشوع، فإنَّ مَن حَفِظها وحافظ عليها كانتْ له نورًا وبرهانًا، ونجاةً من النار، ومَن لم يُحافظْ عليها لم تكنْ له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وقد توعَّد - سبحانه - المتهاونين بها الساهين عنها بوَيل، وهو وادٍ في جهنَّم - والعياذ بالله.
أمَّا مَن ترَكَها بالكلية من المكلَّفين، فإنَّه كافرٌ خارجٌ عن الإسلام، إذا لم يتبْ ويصلِّي؛ قال رسولُ الله ﷺ: «بَين الرَّجُل وبين الكُفْر ترْك الصلاة»[83]، وقال: «العهدُ الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَن ترَكَها فقدْ كَفَر»[84].
فحافِظْ عليها يحفظْك الله في الدنيا والآخرة، واحذرْ أيُّها الشابُّ المسلم، داءً خطيرًا، ومنكرًا تفشَّى في المجتمع ولم ينجُ منه إلاَّ القليل، ذلك هو التدخين، وما في حُكمه من المُخدِّرات والمسكِرات، التي أوَّلها عبث، وأوسطها عادَة، ونهايتها دمارٌ وعارٌ ونار - والعياذ بالله - أفتى أكثرُ العلماء مِن كلِّ مذهب بتحريمه، وأنَّ شاربه وبائعه ومشتريَه عُصاةٌ لله؛ للأدلَّة الآتية التي يَكفي واحد بتحريمه:
(1) ثَبَت أنه مُفتِّر، يدرك ذلك مَن أبطأ عنه لصيام ونحوه، فإنَّه يُصاب بالفتور مدة حينما يشربه، بخلاف المنبِّهات كالقهوة والشاي، فهي على العكس منه؛ ففي الحديث: "نهى رسولُ الله ﷺ عن كلِّ مسكِر ومفتِّر"[85].
(2) أجمع الأطباءُ بأنَّه ضارٌّ، ينشأ عنه أمراضٌ فتَّاكة، كالسُّلِّ الرِّئوي، وسرطان الحَلْق، والكُحَّة المزمنة، وفساد كريات الدَّم، ومرض القلْب، ويُسبِّب موت الفجأة، وفي الحديث: ((مَن قُتِل بشيء عُذِّب به يومَ القيامة))[86].
(3) النفقة فيه تبذيرٌ، وقد سمَّى الله المبذِّرين إخوانَ الشياطين.
(4) فيه أذًى للمؤمنين والمؤمنات الذين لا يُدخِّنون لخُبث رائحته، وأذية المؤمن بغير حقٍّ من عظائم الذنوب.
(5) ما دام أنَّه كما تقدَّم، فهو خبيثٌ من الخبائث المحرَّمة بنصِّ الكتاب والسُّنة، إلى جانب أنَّه يُقرِّب شاربَه من الأشرار، ويباعده عن الأخيار، وعن بيوت الله، ومجالس الذِّكْر، فاستعنْ بالله يا مَن ابتليت بشربه واتركْه، وتبْ إلى الله، وابتعدْ عن شاربيه ولا تُجالسْهم، فإنَّهم في الحقيقة أعداء لك، وعليك بالأخيار ومجالس العِلم، يُنوِّرِ الله بصيرتَك، ويشرح صدرَك.
واحذر أيها الشابُّ المسلم الانخراطَ في سِلك المشجِّعين في الأندية الرِّياضيَّة الذين تستعرُ بينهم نارُ الجَدل والخِلاف والسِّباب، ويُلطِّخون أسوارَ المسلمين بالكتابات والأوساخ ويؤذونهم، فإنَّ ذلك الصُّنع حرامٌ بنصِّ الكتاب والسُّنة.
واحذر عملية الإقدام على اللَّعِب بالسيارات في الشوارع والميادين، وهو ما يُسمَّى بالتفحيط، فإنَّ هذه جريمة، وذنب يرتكبه فاعلُه في حقِّ المسلمين؛ لِمَا يسببه من إزعاج وأخطار، وحريٌّ أن يستجيبَ الله دعاءهم عليه، فيهلكه الله - سبحانه - شرَّ مهلكٍ في الدنيا والآخرة - والعياذ بالله - بالإضافة إلى ما يُسبِّبه على نفسه وأهله من خطر وتدمير لسيارته.
واحذرِ التشبُّهَ بأعداء الله من المجوس واليهود وغيرهم بارتكاب ما ارتكبَه أكثرُ الشباب - هداهم الله - مِن حَلْق اللِّحى، وإطالة الشوارب، وإسبالِ الملابس، ولبس الذهب، والعكوفِ على الملاهي المحرَّمة، والنظر إلى الصور الخليعة... فإنَّ هذا من أسباب انتكاس القلْب وعماه، وجالبٌ لسخط الله وعقابه في الدنيا والآخرة - نعوذ بالله من سخطه، وأليم عقابه.
فالذي أُوصيك به ونفسي تقوى الله وطاعته، واحرِصْ مهما أمكنَ على الزواج المبكِّر؛ امتثالاً لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
وقد قال - عليه الصلاة والسلام - وهو الصادِق المصدوق المعصوم: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوجْ؛ فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج، ومَن لم يستطعْ، فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء»[87].
واحذرْ دعاياتِ المتفرْنِجين المنفِّرين عن الزواج المبكِّر بحجَّة إكمال الدِّراسة أو غيرها، فإنَّهم في الحقيقة دُعاةٌ إلى الشرِّ والفساد والرذيلة، شَعَروا بذلك أم لم يَشعُروا، وقد جرَّبْنا الزواجَ ونحن في بداية المرحلة الثانويَّة، فوجدْناه أكبرَ عونٍ لنا - بعدَ الله - على العفافِ والسكينة، وراحةِ الضمير، والتفرُّغِ القلبي للمذاكرة، ولا تنسَ أنَّ أيَّ شيء يأمر الله به ورسولُه ﷺ فهو الخير في العاجِل والآجل، وأنَّ كلَّ شيء ينهَى الله عنه ورسوله ﷺ فهو الشرُّ في العاجِل والآجِل، أدْرَك الناسُ الحِكمةَ من وراء ذلك الأمر والنهي، أم لم يُدركوها، ومَن لم يُؤمِن بذلك ويعتقد أنَّه الحق، فهو ضالٌّ وليس بمؤمن.
وأوصيك بتعلُّم كتاب الله العزيز وتلاوته، وتعلُّم سُنَّة رسول الله ﷺ ومجالسة الصالحين، والاستعداد للمَوْت وما بعدَه، وأوصيك بطاعة والديك وبِرِّهما، ومُخالقةِ الناس بالخُلق الحسن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجهِ المشروع.
أسأل الله لي ولكَ التوفيق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا.
حكم الأناشيد الإسلامية
فتوى رقم (3259) وتاريخ (13/ 10/ 1400) هـ
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعتِ اللجنةُ الدائمة للبحوث العِلميَّة والإفتاء على السؤال المقدَّم من عبدالرحيم بن عبدالله القرعاوي إلى سماحة الرئيس العام، والمحال إليها برقم (1129) في (4/ 8/ 1400) هـ ونصُّه:
(إنَّنا نعلم حرْمةَ الأغاني المعروفة بشكلها الحالي؛ لِمَا فيها من كلام بذيء وساقط، وغير ذلك من الطَّرَب واللهو بالكلام الذي ليس فيه فائدة مرجوة، ونحن شباب الإسلام الذين أنار الله قلوبهم بالحق لا بدَّ لنا من بديل، وقد اخترْنا الأناشيد الإسلاميَّة التي فيها الحماس والعاطفة، وغير ذلك من تلك الألوان، والأناشيد عبارة عن أبيات شِعريَّة قالها دعاة الإسلام (قوَّاهم الله)، وصِيغت بشكل لحن كمثل قصيدة "أخي"؛ لسيد قطب - رحمه الله.
فما الحُكم في أناشيد إسلامية بحتة فيها الكلام الحماسي والعاطفي، الذي قاله دعاةُ الإسلام في العصر الحاضر، وغير الحاضر، وفيها الكلمات الصادقة التي تُعبِّر عن الإسلام، وتدعو إليه؟
ولكن كان ضمنَ هذه الأناشيد صوتُ الطبل (الدُّف)، فهل يجوز الاستماع إليها؟ وكما أعلم - وعِلمي محدود - أنَّ الرسول ﷺ قد أباح الطبل ليلة الزفاف، والطبل هو أهونُ الآلات الموسيقيَّة، مثله مثل الضرب على أيِّ شيء سواه، أفيدونا - وفَّقكم الله لِمَا يحبُّه ويرضاه.
وأجابت بما يلي:
صَدقْتَ في حكمك بالتحريم على الأغاني بشكلها الحالي؛ من أجْل اشتمالها على كلام بذيء ساقط، واشتمالها على ما لا خيرَ فيه، بل على ما فيه لهو وإثارة للهوى والغزيرة الجِنسيَّة، وعلى مجون وتكسُّر يُغري سامعَه بالشر، وفقنا الله وإيَّاك لِمَا فيه رضاه، ويجوز لك أن تستعيضَ عن هذه الأغاني بأناشيدَ إسلامية فيها من الحِكم والمواعظ والعِبر ما يُثير الحماسَ والغَيْرة على الدِّين، ويهزُّ العواطف الإسلامية، أو يُنفِّر من الشرود الذهني؛ لترفعَ نفس مَن ينشدها ومن يسمعها إلى طاعة الله، وتُنفِّره من معصيته - تعالى - وتعدِّي حدود إلى الاحتماء بحمَى شرْعه، والجهاد في سبيله، لكن لا يَتخذ مِن ذلك وردًا لنفسه يلْتزمه، وعادة يستمرُّ عليها، بل يكون ذلك في الفَيْنةِ بعدَ الفَيْنة عند وجود مناسبات ودواعٍ تدعو إليه، كالأعراس والأسفار للجهاد ونحوه، وعندَ فتور الهِمم؛ لإثارة النفس، والنهوض بها إلى فِعْل الخير، وعند نزوعِ النفس إلى الشرِّ وجموحها لردعها عنه، وتنفيرها منه.
وخيرٌ مِن ذلك أن يتخذ لنفسه حزبًا من القرآن يتلوه، ووردًا من الأذكار النبويَّة الثابتة، فإنَّ ذلك أزْكى للنفس، وأطهر وأقوى في شرْح الصدر، وطمأنينة القلْب؛ قال الله – تعالى -: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال – سبحانه -: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: 28 - 29].
وقد كان ديدنُ الصحابة وشأنهم - رضي الله عنهم - العنايةَ بالكتاب والسُّنة؛ حِفظًا ودراسةً وعملاً، ومع ذلك كانت لهم أناشيدُ وحداء يترنَّمون به في مِثل حَفْر الخندق، وبناء المساجد، وفي سَيْرِهم إلى الجهاد، ونحو ذلك من المناسبات دون أن يجعلوها شِعارَهم، ويعيروها جُلَّ هَمِّهم وعنايتهم، لكنه مما يُروِّحون به عن أنفسهم، ويُهيِّجون به مشاعرَهم، أمَّا الطبل ونحوه من آلات الطرب، فلا يجوز استعماله مع هذه الأناشيد؛ لأنَّ النبي ﷺ وأصحابه - رضي الله عنهم - لم يفعلوا ذلك.
والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز عبد الرزاق عفيفي
عضو عضو
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان
الالتزام بالمنهج الإلهي
بقلم الشيخ: عبدالله بن عبدالرحمن البعادي
إنَّ قضية الالْتزام بالمنهج الإلهي ليستْ مجرَّد آراء أو أفكار تُطرح في لقاء عابر، أو من خلال مِذياع أو تلفاز، أو صحيفة أو ندوة، أو محاضرة تأخذ بألْباب السامعين والمشاهِدين، وتشدُّ إليها أنظارَهم.
إنَّها إيمانٌ وثبات، ومن ثَمَّ تطبيقٌ عملي صادق، سواء على مستوى الفرْد أو الجماعة أو الحكومة، بحيث تتضافر الجهودُ مجتمعةً؛ للسَّيْر على المنهج الإلهي، والْتزام الإسلام عقيدةً ومنهجَ حياة، وطرْح كلِّ ما يتعارض مع أوامر الله وأوامر رسوله، سواء في التربية والتعليم، أو الثقافة والإعلام، أو الاقتصاد والتِّجارة أو الصناعة، والدِّفاع والنواحي العسكرية والأمنية، وما أشبه ذلك.
ولا شكَّ أن المنحرِفين عن منهج الله قد سلكوا منهجَ أعداء الله من يهود ونصارَى وشُيوعيِّين، فهُم يسيرون على وَفقِ ما يُمليه عليهم أولئك الأعداء، ويُخطِّطونه لهم على شكل دراسات واستشارات، وآراء ونظريات، تتعارض تمامًا مع المنهج الإلهي المستقيم.
ولن تستقيمَ حالُ الأمَّة الإسلامية ما لم تلتزم التزامًا صادقًا بمنهج الله، فتَبنِي حياتها من جميع جوانبها على مقتضى أوامر الله، وأوامر رسوله، والصَّبْر على ذلك، فلا يستخفها الكفرةُ والمضلِّلون الذين يرون في تطبيق الإسلام تأخُّرًا ورجعية، وتخلفًا عن ركْب الحضارة المادية المنهارة.
إنَّ علينا أن ننظرَ إلى واقع حياتنا اليومَ، هل نحن نستقي من مورد الإسلام في سلوكنا وعاداتنا، وعبادتنا ومعاملاتنا، أم أنَّنا نتمسك بخيوط بالية ونحسب أنَّنا بلغْنا درجةً من التقى والصلاح والورع؟
ينبغي أن يكون للإسلام الهيمنةُ على مجريات حياتنا، مهما رأينا في ذلك مخالفة لأهوائنا ورغباتنا ومطامعنا؛ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
«لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لِمَا جئتُ به»[88] ، وما كان الإسلام - ولن يكون - ظلاًّ باهتًا لا يجد مكانه في مجال الواقع والتطبيق العملي، والذين يظنُّونه أو يريدونه إمَّا مغفَّلون أو مخادِعون، ومن يخدع الله يخدعه.
إذا كنَّا ندَّعي الإسلام حقًّا، فيجب أن نعتزَّ به كلَّ الاعتزاز، ولا نرضى به بديلاً من فِكْر دخيل، أو قانون بشري؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 1].
والإسلام - بحمد الله - دينٌ سماويٌّ شامل، نظَّم شؤون الفرْد والمجتمع والأمَّة، وأقام كيانَ دولة إسلامية مترامية الأطراف، تُرفرِف على أرجائها رايةُ التوحيد، وتتخذ من القرآن الكريم نظامًا لحياتها، ومنهجًا لعملها.
إنَّ البشرية اليوم في أمسِّ الحاجة إلى الإسلام، وإنَّ المسلمين بالتالي مطالَبون بأن يكونوا مثالاً حيًّا، وعنوانًا صادقًا للإسلام، حتى إذا ما دَعوا إلى الإسلام غيرَهم وجدَ ذلك الغيرُ فيهم الأسوةَ الحسنة، والقُدوةَ الصالحة، وكانوا سببًا مباشرًا في اعتناقه الإسلام.
وإنَّ علينا كمسلمين - سواء كنَّا حكامًا أو محكومين - أن نُظهِر لغير المسلمين مدى الْتزامنا وتطبيقنا للإسلام، لا أن نسيرَ في فلكهم، ونتبع سُنَّتهم، يجب أن نقفَ من أوامر الله وأوامر رسوله موقفَ المطيع المستجيب، فإنَّه لا معنى للطاعة إذا كنَّا نرتكب المنهيات، ونفعل المحظورات؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 20 - 24].
مِن المؤسفِ أنَّ كثيرًا من المحظورات في الإسلام تُرتَكب، وكأنَّها شيء عادي، ومن أمثلة ذلك التبرُّج والسفور، واللهو المحرَّم، والتعامل بالرِّبا، والغش في المعاملات، وغير ذلك ممَّا شاع في مجتمعاتنا الإسلاميَّة، وأفقدها الإحساسَ والغَيْرة، والشعورَ بالخطر.
يجب أن يكون دَوْر الإسلام في الحياة دورًا فعَّالاً ومؤثرًا، لا أن يكون مجرَّد تعاليم لا يبدو أثرُها في السلوك الفرديِّ والجماعيِّ والقياديِّ - كما هو الحال في عالمنا الإسلامي.
إذا كان الإسلام ينهَى نهيَ تحريم عن الرِّبا، ويَلعن آكِلَه وموكلَه، وكاتبه وشاهديه، ويَعتبر آكلَه محاربًا لله ورسوله بنصِّ الكتاب والسنة والإجماع، فما معنى أن يستمرَّ التعامل بالربا قائمًا، وتَتخذ منه البنوك والمؤسسات المالية في الدول الإسلامية نظامًا للتعامل، فيدنس أموال المودِعين وأرزاقهم، وتنمو منه أجسامُهم، ويشبُّ عليه صغارُهم، ويشيب عليه كبارُهم؟! قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278] ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] ، ويقول ﷺ: «كلُّ لحم نَبَت مِن سُحْت، فالنار أولى به»[89]
إذا كان الإسلام ينهى عن التبرُّج والسفور، ويأمر بغضِّ البصر وحفظ الفرج، وعدم إظهار الزِّينة إلاَّ لمَحْرم، ولَعن الله المتشبهين من الرِّجال بالنساء، والمتشبهاتِ من النساء بالرجال[90] بنصِّ الكتاب والسُّنة والإجماع، فما معنى أن يُترَك الحبلُ على الغارب للسفهاء والسفيهات من بنين وبنات، يجوبون الشوارع طولاً وعَرْضًا، يُغرين بزينتهنَّ وما يفوح مِن عطرهنَّ، بينما عيون الشباب ترمقهنَّ كالسهام؟! وما معنى أن تنطلقَ أصواتُ المغنين والمغنيات بالأغاني الخليعة المهيجة لفِعْل السوء، والداعية للرذيلة؛ ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ [المجادلة: 2]؟!
إنَّ القادة والمفكِّرين والدُّعاة إلى الله مسؤولون مسؤوليةً جسيمة، فالقادةُ يجب أن يكونوا صالحين في أنفسهم، مصلِحين لغيرهم بما آتاهم الله مِن سلطان وقوَّة؛ «لتأخذنَّ على يدِ السفيه، ولتأطُرنَّه على الحق أطرًا»[91]، "إنَّ الله لَيَزعُ بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن"[92]، وعلى الدُّعاة والمفكِّرين أن يستغلُّوا ما آتاهم الله من عِلم وحكمة لهداية البشرية، وبيان الحقِّ لها، حتى تستقيمَ عليه.
وإنَّ ما تُعانيه أممٌ كثيرة في أرجاء الأرض مِن آلام ومآسٍ، ومتاعب اجتماعيَّة واقتصادية، إنَّما مردُّه البعدُ عن منهج الله، سواء في الاعتقاد أو السلوك؛ ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
ومتى ما صحَّحت الأمَّةُ سلوكَها، واستقامتْ على منهج الله، أفاض الله عليها من بركاته، وأبدَلَها بالرعب والخوف أمنًا واستقرارًا، وبالفقر غنًى ورغدًا؛ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].
إنَّ الالْتزام بالمنهج الإلهي مسؤوليةٌ مشتركة بين الحكومات والأفراد، ولا عُذرَ لأحد في التنصُّل منها، وسيقف الجميعُ بين يدي حَكَم عدلٍ، يُجازي كلاًّ بما عمل، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، فليتَّقوا الله، وليقولوا قولاً سديدًا، فالمسؤولية عظيمة.
وفَّقنا الله جميعًا - حُكَّامًا ومحكومين - إلى الأخْذ بمنهج الله، والتحاكُم إليه، والبُعد عن كلِّ ما يخالفه من قول أو فعل، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
عبدالله بن عبدالرحمن البعادي (عن مجلة الدعوة).
أقوال مضيئة
لا يكون العالِم عالمًا حتى تكونَ فيه ثلاثُ خصال: لا يحتقر مَن دونه، ولا يحسد مَن فوقه، ولا يأخذ على العِلم ثمنًا.
قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقربُ شيء؟ قال: الأمل، قيل له: فما أبعدُ شيء؟ قال: الأمل.
ثلاثةٌ لا تُعرَف إلاَّ في ثلاثة: ذو البأس لا يُعرف إلاَّ عند اللقاء، وذو الأمانة لا يُعرف إلاَّ عند الأخْذ والعطاء، والإخوان لا يُعرفون إلاَّ عند النوائب.
الاجتهاد قوام الحياة، يتسلَّح به الناس جميعًا، إلاَّ الخاملين والجهلة.
أعظمُ الناس ذلاًّ فقير داهَنَ غنيًّا وتواضع له، وأعظمُ الناس عزًّا غنِيٌّ تذلَّل لفقير وحَفِظ كرامتَه.
حكم ضرب الطبل، وقول: صدق الله العظيم، والتعليق على القراءة
فتوى رقم 4310 وتاريخ (15/ 1/ 1402 هـ)
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعتِ اللجنةُ الدائمة للبحوث العِلميَّة والإفتاء على الأسئلة المقدَّمة من محمد بن زيد العسكر إلى سماحة الرئيس العام، والمحالة إليها برقم (2047) في (1/ 12/ 1401هـ)، وأجابتْ عن كلٍّ منها عَقِبه فيما يلي:
س1: في حديث بيني وبين أهلي حصلتْ مشكلة؛ وهي ضرْب الطبل والرِّجال يسمعون، فما الحُكم؟
ج1: لا يجوز، والأصل فيه أنَّه من اللهو، فلا يجوز فعلُه، ولا الاستماع له، لكن يجوز ضرْبُ الدف لإعلان النِّكاح بين النِّساء خاصَّة.
س2: إذا أردتُ أن أصومَ ولم أتمكن من القِيام قبلَ أذان الفجر الثاني، فهل يجوز لي أن آكلَ بعدَ الآذان، مع العِلم بأنَّ الصيام صيامُ تطوُّع؟
ج2: إذا كان الواقعُ كما ذكرت، فلا تأكلْ أو تشرب بعدَ الأذان الثاني - أذان الفجر - ما دمتَ تريد الصوم، ولو كان صومك تطوعًا، فإذا أكلتَ بعد هذا الأذان فسَدَ صومُك.
س3: ما حكم قول: "صدق الله العظيم" بعد نهاية قراءة القرآن الكريم؟
ج3: قول القائل: "صدق الله العظيم" في نفسِها حقّ، ولكن ذِكْرها بعد نهاية قراءة القرآن باستمرار بدعة؛ لأنَّها لم تحصل من النبي ﷺ ولا من خلفائه الراشدين فيما نعلم، مع كثْرة قراءتهم القرآن، وقد ثَبَت عنه ﷺ أنَّه قال: «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»، وفي رواية: «مَن أحْدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»[93].
س4: سمعتُ مع أحد الشباب تلاوةَ القرآن الكريم في شريط، وبعد نهاية كلِّ آية يردِّد وراءَه جماهير كلمةَ (الله الله)، وأعِدْ أعد، وما أشبهها من هذه الكلمات، فما الحُكم؟ وما حُكم استماعه؟
ج4: استعمال لفظ (الله الله) في استحسان القراءة، والإعجاب بالصوت بدعة، واستعمال للفظِ الجلالة في غيرِ ما وُضِع له فهو منكر، وقول السامعين: أعِدْ أعد؛ استحسانًا لصوت القارئ كما هو معروف، لا رغبة في فَهْم الآية وتدبُّر معناها بدعة أخرى مُحْدَثة، وإخراج لقراءة القرآن والسماع له مخرجَ الغِناء والإعجاب به، فلا يجوز فِعلُه ولا الاستماع إليه، وأما إذا كان طلبُ الإعادة رغبةً في تفهُّم معنى ما قُرِئ فحسنٌ، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز عبد الرزاق عفيفي
عضو
عبدالله بن قعود
ما ينجي من عذاب الله تعالى
عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خَرَج علينا رسولُ الله ﷺ يومًا، وكنَّا في صُفَّة المدينة، فقام علينا فقال: ((إنِّي رأيت البارحة عجبًا؛ رأيتُ رجلاً من أمَّتي أتاه ملَك الموت ليقبضَ رُوحَه، فجاءه برُّه بوالديه فردَّ مَلَكَ الموت عنه، ورأيتُ رجلاً من أمَّتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذِكْر الله - عز وجل - فطرد الشيطان عنه، ورأيتُ رجلاً من أمَّتي قد احتوشتْه ملائكةُ العذاب، فجاءتْه صلاته فاستنقذتْه من أيديهم، ورأيتُ رجلاً من أمَّتي يلْتهب عطشًا - وفي رواية: يلهث عطشًا - كلَّما دنا من حوْض مُنِع وطُرِد، فجاءه صيامُ شهر رمضانَ فأسقاه وأرواه، ورأيتُ رجلاً من أمَّتي ورأيت النبيِّين جلوسًا حلقًا حلقًا، كلَّما دنا إلى حلقة طُرِد، فجاءه غُسْلُه من الجنابة فأخذ بيده فأقعدَه إلى جنبي، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي بين يديه ظُلْمة، ومِن خلفه ظُلْمة، وعن يمينه ظُلْمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحيَّر فيها، فجاءه حجُّه وعمرتُه فاستخرجاه من الظُّلْمة، وأدخلاه في النور، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي يتَّقي بيده وَهَجَ النار وشَررَها، فجاءته صدقتُه فصارتْ سُترةً بينه وبين النار، وظلَّلت على رأسه، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي يكلِّم المؤمنين ولا يكلِّمونه، فجاءتْه صلتُه لرحمه فقالت: يا معشرَ المؤمنين، إنَّه كان وصولاً لرحمِه فكلِّموه، فكلَّمه المؤمنون وصافحوه.
ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي قد احتوشتْه الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذَه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة.
ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي جاثيًا على رُكبَتيه وبينه وبين الله - عزَّ وجلَّ - حجاب، فجاءه حُسنُ خُلُقه فأخذ بيده فأدخله على الله - عزَّ وجلّ.
ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي ذهبتْ صحيفتُه من قِبل شِماله، فجاءه خوفُه من الله - عزَّ وجلَّ - فأخذ صحيفتَه فوضعَها في يمينه، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي خفَّ ميزانُه، فجاءه أفراطُه فثقَّلوا ميزانَه.
ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي قائمًا على شفير جهنَّم، فجاءه رَجاؤه من الله - عزَّ وجلَّ - فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي قد هوَى في النار، فجاءتْه دموعُه التي بكَى من خشية الله - عزَّ وجلَّ - فاستنقذتْه من ذلك، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي قائمًا على الصِّراط يرعد كما ترعد السَّعْفة في رِيح عاصف، فجاءَه حُسن ظنِّه بالله - عزَّ وجلَّ - فسكَّن رِعْدته ومضى.
ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا، ويتعلَّق أحيانًا، فجاءته صلاتُه عليَّ فأقامتْه على قدميه وأنقذتْه، ورأيتُ رجلاً مِن أمَّتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلِّقت الأبواب دونه فجاءته شهادةُ أن لا إله إلا الله ففتحتْ له الأبواب وأدخلتْه الجنة))؛ رواه الحافظ أبو موسى المديني، وبنَى كتابَه عليه، وأخرجه الطبراني أيضًا، وهذا الحديث حديثٌ عظيم، جليلٌ شريف، كان أبو العباس ابن تيمية - قدَّس الله روحَه - يعظم شأنَه، ويقول: شواهدُ الصِّحة عليه[94].
وهذا الحديث جليلُ القَدْر، عظيم الشأن، كثير الفوائد، ينبغي لكلِّ مسلِمٍ حفظُه وفَهْمه، والعمل بما فيه من الخِصال المنجية من عذاب الله، فقد ذُكِر فيه ثمان عشرة خَصْلة، كل واحدة منها صارتْ سببًا في نجاة المتصف بها من العذاب الذي كاد أن يُهلِكَه.
وهذه الخِصال المنجية هي الوضوء والصلاة، والصدقة والصيام، والحج والعمرة، وذِكْر الله - تعالى - وبِرُّ الوالدين وصلة الأرحام، والاغتسال من الجنابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحُسْن الخُلُق، والخوف من الله – تعالى - والصبر على موت الأولاد الصغار، والرجاء لرحمة الله، والبكاء من خشية الله - تعالى - وحُسن الظنِّ بالله - تعالى - والصلاة على النبي ﷺ وشهادة أن لا إله إلا الله، فَتحتْ لقائلها أبوابَ الجنة، وأدخلتْه فيها.
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وقال ﷺ: «ثلاثٌ منجيات وثلاثٌ مهلِكات؛ فالمنجيات: تقوى الله في السِّرِّ والعلانية، والقول بالحقِّ في الغضب والرِّضا، والقَصْد في الفقر والغِنى، وأمَّا المهلِكات: فشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهنَّ»؛ رواه البيهقي في شُعب الإيمان، وحسَّنه الألباني.
آداب الأكل والشرب[95]
المسلِم ينظر إلى الطعام والشراب باعتبارهما وسيلةً إلى غيرهما، لا غاية مقصودة لذاتها، فهو يأكلُ ويشرب من أجْل المحافظة على سلامة بدنه، الذي به يُمكِنُه أن يعبدَ الله – تعالى - تلك العبادة التي تُؤهِّله لكرامة الدار الآخرة وسعادتها، فليس هو يأكُلُ ويشرب لذَاتِ الأكْل والشُّرْب وشهوتها؛ فلذا هو لو لم يجُعْ لم يأكل، ولو لم يعطشْ لم يشربْ، وقد ورد عنه ﷺ قوله: «نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلْنَا فلا نشبع»[96].
ومن هنا كان المسلِم يلتزمُ في مأكله ومشربه بآداب شرعيَّة خاصَّة؛ منها:
(أ) آداب ما قبل الأكل، وهي:
1- أن يستطيبَ طعامَه وشرابه، بأن يُعدَّهما من الحلال الطيِّب الخالي من شوائب الحرام والشُّبه؛ لقوله – تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، والطيِّب هو الحلالُ الذي ليس بمستقذَر ولا مستخبث.
2- أن ينويَ بأكلِه وشربه التقويةَ على عبادة الله – تعالى - ليُثابَ على ما أكله أو شربه، فالمباح يصير بحُسنِ النيَّة طاعةً يُثاب عليها المسلِم.
3- أن يغسل يديه قبلَ الأكل إن كان بهما أذًى، أو لم يتأكَّدْ من نظافتهما.
4- أن يضعَ طعامَه على سُفرة فوقَ الأرض، لا على مائدة؛ إذ هذا أقربُ إلى التواضع، ولقول أنس - رضي الله عنه -: ((ما أكَلَ رسولُ الله ﷺ على خِوَان، ولا في سُكُرُّجَة))[97][98].
5- أن يجلس متواضعًا بأن يجثوَ على ركبتيه، ويجلس على ظهْر قدميه، أو ينصب رِجلَه اليمنى، ويجلس على اليُسرى؛ كما كان رسولُ الله ﷺ يجلس ولقوله ﷺ : «لا آكَلُ متكئًا، إنَّما أنا عبدٌ آكلُ كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»[99].
6- أن يرضى بالموجود من الطعام، وألاَّ يعيبَه، إن أعجبه أكَل، وإن لم يعجبه ترَك؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ((ما عابَ رسولُ الله ﷺ طعامًا قطُّ، إن اشتهاه أكَل، وإن كَرِهه ترَك))[100].
7- أن يأكل مع غيره مِن ضَيْف أو أهل أو ولد، أو خادم؛ لخبر: ((اجتمعوا على طعامكم وسَمُّوا الله، يُباركْ لكم فيه))[101].
(ب) آداب الأكل أثناءه، وهي:
1- أن يبدأ ببسم الله؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أكَلَ أحدكم فليَذْكُرِ اسمَ الله – تعالى - فإن نسي أن يذكرَ اسمَ الله - تعالى - في أوله فليقلْ: بسم الله أولَه وآخرَه»[102].
2- أن يختمَه بحمد الله – تعالى - لقول الرسول ﷺ : «مَن أكل طعامًا، وقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقني من غير حَولٍ منِّي ولا قوَّة، غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه»[103].
3- أن يأكل بثلاثةِ أصابعَ من يده اليمنى، وأن يُصغِّر اللقمة، ويجيد المضغ، وأن يأكل ممَّا يليه، لا من وسط القصعة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - لعمر بن أبي سَلَمة: «يا غلامُ، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكلْ مما يليك»[104]، وقوله ﷺ : «البركةُ تنزل وسطَ الطعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا مِن وسْطِه»[105].
4- أن يُجيدَ المضغ، وأن يلعق الصحفةَ وأصابَعه قبل مسحِها بالمنديل، أو غسلها بالماء؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أكَلَ أحدُكم طعامًا فلا يمسحْ أصابعه حتى يَلْعقها، أو يُلْعِقها»[106] ، ولقول جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله ﷺ أمَرَ بلعْق الأصابع والصحفة، وقال: «إنَّكم لا تدرون في أيِّ طعامكم البركة»)[107].
5- إذا سقط منه شيءٌ ممَّا يأكل أزالَ عنه الأذى وأكَلَه؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا سقطتْ لُقمةُ أحدكم فليأخذْها، وليمِطْ (ينح) عنها الأذى وليأكلْها، ولا يَدَعْها للشيطان»[108].
6- ألاَّ ينفخَ في الطعام الحار، وألاَّ يطعمَه حتى يبرد، وألاَّ ينفخ في الماء حالَ الشرب، وليتنفس خارج الإناء ثلاثًا؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - : أنَّ رسول الله ﷺ (كان يتنفس في الشراب ثلاثًا)[109]، ولحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - : أن النبي ﷺ (نهى عن النفخ في الشراب)[110]، ولحديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي ﷺ (نهى أن يُتنفَّس في الإناء، أو يُنفخ فيه)[111].
7- أن يتجنب الشِّبع المفرِط؛ لقول الرسول ﷺ : «ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، حسبُ ابن آدم لُقيماتٌ يُقمِن صُلبَه، فإن لم يفعل، فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه»[112].
8- أن يتناول الطعامَ أو الشرابَ أكبرُ الجالسين، ثم يديروه إلى الأيمن فالأيمن، وأن يكون هو آخِرَ القوم شُربًا؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - «كبِّر كبِّر»؛ أي: ابدأ بالأكبر من الجالسين، ولاستئذانه - عليه الصلاة والسلام - ابنَ عبَّاس في أن يناول الشرابَ الأشياخَ الكِبار على يساره؛ إذ كان ابن عباس - رضي الله عنهما - على يمينه والأشياخ الكِبار على يساره، فاستئذانه دالٌّ على أنَّ الأحق بالشراب الجالس على اليمين[113].
ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: «الأيمن فالأيمن»[114]، وقوله: «ساقي القوم آخِرُهم؛ يعني: شربًا»؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
9- ألاَّ يبدأَ بتناول الطعام أو الشراب وفي المجلس مَن هو أولى منه بالتقديم؛ لكِبَر سنٍّ، أو زيادة فضْل؛ لأنَّ ذلك مخلٌّ بالآداب، معرِّض صاحبه لوصف الجشع المذموم، قال بعضهم:
وَإِنْ مُدِّتِ الْأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ | بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ |
20- ألاَّ يُحوجَ رفيقَه أو مضيفَه إلى أن يقول له: كُلْ، ويلح عليه، بل عليه أن يأكل بأدب كفايتَه من الطعام، من غير حياء أو تكلُّف للحياء؛ إذ في ذلك إحراجٌ لرفيقه أو مضيفه، كما فيه نوْع رِياء، والرِّياء حرام.
11- أن يرفقَ برفيقه في الأكْل، فلا يحاول أن يأكل أكثرَ منه، ولا سيَّما إذا كان الطعام قليلاً؛ لأنَّه في ذلك يكون آكلاً لحقِّ غيره.
12- ألاَّ ينظرَ إلى الرفقاء أثناءَ الأكل، وألاَّ يراقبَهم فيستحوا منه، بل عليه أن يغضَّ بصرَه عن الأكلة حوله، وألاَّ يتطلع إليهم؛ إذ ذاك يؤذيهم، كما قد يسبب له بغضَ أحدهم، فيأثم لذلك.
13- ألاَّ يفعل ما يستقذره الناس عادةً، فلا ينفض يدَه في القصعة، ولا يُدني رأسه منها عندَ الأكل والتناول؛ لئلاَّ يسقطَ من فمه شيءٌ فيقع فيها، كما إذا أخذ بأسنانه شيئًا من الخبز لا يغمس باقيَه في القصعة، كما عليه ألاَّ يتكلم بالألفاظ الدالة على القاذورات والأوساخ؛ إذ ربَّما تأذَّى بذلك أحدُ الرفقاء، وأذية المسلِم مُحرَّمة.
14- أن يكون أكله مع الفقير قائمًا على إيثاره، ومع الإخوان قائمًا على الانبساط والمداعبة المرِحة، ومع ذوي الرُّتب والهيئات على الأدب والاحترام.
(ج) آداب ما بعد الأكل، وهي:
1- يُمسك عن الأكْل قبل الشِّبع؛ اقتداءً برسول الله - عليه الصلاة والسلام - حتى لا يقعَ في التُّخَمَة المهلِكة، والبطنة المذهِبة للفطنة.
2- أن يَلْعق يدَه ثم يمسحها، أو يغسلها، وغسلُها أولى وأحسن.
3- أن يقول: الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حولٍ مني ولا قوَّة.
4- أن يلتقطَ ما تساقط من طعامِه أثناءَ الأكْل؛ لأنَّه من باب الشكر للنِّعمة.
5- أن يُخلِّل أسنانه ويتمضمض؛ تطييبًا لفمه، إذ به يَذكُر الله – تعالى - ويخاطب الإخوان، كما أنَّ نظافةَ الفم قد تُبقي على سلامة الأسنان.
6- أن يحمد الله - تعالى - عقب أكْلِه أو شربه، وأن يقول إذ شرب لَبنًا: اللهمَّ باركْ لنا فيما رزقتنا، وزِدْنا منه.
وإن أفطر عندَ قوم قال: (أفطر عندكم الصائمون، وأكَلَ طعامكم الأبرار، وصلَّتْ عليكم الملائكة).
آداب اللباس[115]
المسلِم يرى أنَّ اللباس قد أمر الله - تعالى - به في قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
وامتنَّ به في قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26] ، وفي قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: 81] وفي قوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80]، وأنَّ رسولَ الله ﷺ قد أمر به في قوله: «كلُوا واشربوا، والْبسوا وتصدَّقوا، في غير إسراف ولا مخيلة»؛ أخرجه أبو داود وأحمد، وعلَّقه البخاري.
كما قد بيَّن ﷺ ما يجوز منه وما لا يجوز، وما يُستحبُّ لبسُه، وما يُكرَه، فلهذا كان على المسلِم أن يلتزمَ في لباسه بالآداب التالية:
1- ألاَّ يلبسَ الحريرَ مطلقًا، سواء كان في ثوْب أو عمامة أو غيرهما؛ لقول الرسول ﷺ : «لا تَلْبسوا الحرير، فإنَّه مَن لَبِسَه في الدنيا لم يَلْبِسه في الآخرة»[116]، وقوله وقد أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وذهبًا فجعله في شماله: «إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمَّتي»[117].
وقوله: «حُرِّم لباسُ الحرير والذهب على ذُكور أمَّتي، وأُحِل لنسائهم»؛ رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه.
2- ألاَّ يطيلَ ثوبه أو سرواله، أو برنسه أو رداءه إلى أن يتجاوز كعبيه؛ لقول الرسول ﷺ : «ما أسفل من الكعبَين من الإزار ففي النار»؛ رواه أحمد والبخاري، وقوله: «الإسبالُ في الإزار والقميص والعمامة، مَن جرَّ شيئًا خيلاء، لم ينظرِ الله إليه يومَ القيامة»؛ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقوله: «لا ينظر الله إلى مَن جرَّ ثوبه خيلاء»[118].
3- أن يُؤثِرَ لباس الأبيض على غيره، وأن يرى لباسَ كلِّ لون جائزًا؛ لقول الرسول ﷺ : «الْبسوا البياضَ، فإنَّها أطهر وأطيب، وكفِّنوا فيها موتاكم»[119] ، ولقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - مربوعًا، ولقد رأيتُه في حُلَّة حمراء ما رأيت شيئًا قطُّ أحسن منه»[120]، ولِمَا صحَّ عنه ﷺ أنَّه لبس الثوب الأخضر، واعتمَّ بالعمامة السوداء.
4- أن تُطيلَ المسلِمة لباسها إلى أن يسترَ قدميها، وأن تسبل خمارها على رأسها فتستر عنقَها ونحرها وصدرها؛ لقوله – تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 59]، وقوله – تعالى -: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ [النور: 31].
ولقول عائشة - رضي الله عنها -: (يرحم الله نساءَ المهاجرات الأول لما: "أنزل الله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، شقَقْنَ أكثفَ مروطهن فاختمرن بها[121].
ولقول أم سلمة - رضي الله عنها -: "لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾، خَرَج نساء الأنصار كأنَّ على رؤوسهن الغربانَ من الأكسية"؛ رواه أبو داود وغيره.
5- ألاَّ يتختمَ بخاتم الذهب؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الذهب والحرير: «إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمَّتي»، ولقوله: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمَّتي، وأُحِلَّ لنسائهم»، وقوله - وقد رأى خاتمًا من ذَهبٍ في يدِ رجل فنزعه فطرحه - وقال: «يعمد أحدُكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يدِه»، فقيل للرجل بعدما ذهب رسولُ الله ﷺ : خذْ خاتمك انتفع به، فقال: لا، والله لا آخذُه أبدًا، وقد طَرَحه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم[122].
6- لا بأس للمسلِم أن يتختم بخاتم الفِضَّة، أو ينقش في فصِّه اسمَه ويتخذه طابعًا يطبع به رسائلَه وكتاباته، ويوقِّع به الصكوك وغيرها؛ لاتخاذ النبي ﷺ خاتمًا من فضَّة، نقشُه: (محمد رسول الله)، وكان يجعله في الخِنصر من يدِه اليُسرى، ولقول أنس - رضي الله عنه - : (كان خاتمُ النبي - عليه الصلاة والسلام - في هذه، وأشار إلى الخِنصر من يدِه اليُسرى)[123].
7- ألاَّ يشتمل الصمَّاء، وهي أن يلفَّ الثوب على جسمه، ولا يترك مخرجًا منه ليديه؛ لنهي النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك، و ألاَّ يمشيَ في نعل واحدة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا يمشي أحدُكم في نعل واحدة، ليُحْفِهما أو ليُنعِلْهما جميعًا»[124].
8- ألاَّ يلبسَ المسلم لبسةَ المسلِمة، ولا المسلِمةُ لبسةَ الرجل؛ لتحريم الرسول ﷺ بقوله: «لَعَن الله المخنَّثين من الرِّجال، والمترجلاتِ من النساء»[125] وقوله: «لَعَن الله الرجلَ يلبس لبسةَ المرأة، والمرأة تلبس لبسةَ الرجل، كما لَعَن المتشبهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبهات من النِّساء بالرِّجال»[126].
9- إذا انتعل بدأ باليمين، وإذا نزع بدأ بالشِّمال؛ لقوله ﷺ «إذا انتعل أحدُكم فليبدأْ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ بالشِّمال، لتكنِ اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تُنْزع»[127].
10- أن يبدأَ في لبس ثوبه باليمين؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: (كان رسولُ الله ﷺ يُحبُّ التيمُّن في شأنه كلِّه: في تنعُّله، وترجُّله، وطهوره)[128].
11- أن يقولَ إذا لبس ثوبًا جديدًا أو عمامة أو أيَّ ملبوس جديد: (اللهمَّ لك الحمدُ، أنت كسوتنيه، أسألك خيرَه، وخيرَ ما صُنِع له، وأعوذ بك من شرِّه، وشرِّ ما صُنِع له)؛ لورود ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم[129].
12- أن يدعوَ لأخيه المسلِم إذا رآه لبس جديدًا، يقول له: أبلِ وأخلقْ؛ لدعائه ﷺ بذلك لأمِّ خالد لَمَّا لبست جديدًا.
حكم إسبال الثياب للرجال
قال النبيُّ ﷺ: «ما أسفلَ من الكعبَيْن من الإزار، فهو في النار»؛ رواه البخاري.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لا ينظر اللهُ إلى مَن جرَّ إزاره بطرًا»، وفي رواية: «لا ينظر الله يومَ القيامة إلى مَن جرَّ ثوبَه خيلاء»؛ رواه مالك والبخاري ومسلم.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يومَ القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم: المُسبِل، والمنَّان، والمُنفِّق سلعتَه بالحَلَف الكاذب»؛ رواه مسلم وأبو داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه.
والمسبِل: هو الذي يُسبِل ثوبَه أو إزاره أو سراويله، فيطيلها حتى تكون أسفلَ من الكعبين، والمنان: هو الذي يَمنُّ بما أعطى، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب: البائع الذي يُروِّج بضاعتَه بالحلف الكاذب، فيحلف أنَّه اشترى السلعة بكذا، أو أنَّها سِيمتْ بكذا، أو أنه باع بكذا، وهو كاذب؛ من أجْل ترويج سلعته.
وفي الحديث أيضًا: ((بينما رجلٌ يمشي في حُلَّة تعجبه نفسُه، مرجِّلاً رأسَه، يختال في مِشْيته، إذ خَسَف الله به الأرْض، فهو يتجَلْجَل فيها إلى يومِ القيامة))؛ متفق عليه، وقال ﷺ : ((الإسبالُ في الإزار والقميص والعمامة، مَن جرَّ شيئًا منها خيلاء لم ينظر الله إليه يومَ القيامة))؛ رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وقال ﷺ : «إزرةُ المؤمن إلى نِصف ساقيه، ولا حَرَج فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفلَ من الكعبين فهو في النار»؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وهذه الأحاديث عامَّة في الثياب والسراويل، وغيرِها من اللِّباس، وأخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الله لا يقبل صلاةَ رجل مسبل؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولِمَا تقدَّم من الأحاديث النبوية الشريفة، فإنَّ إسبالَ الثياب أسفل من الكعبين يُعتبر حرامًا، وكبيرةً من كبائر الذُّنوب، متوعَّد عليه بالنار، وتقصير الثياب فوقَ الكعبين أنظفُ لها، وأنقى لها من الأوساخ، وأتْقى لله - تعالى - لِذا يجب عليك - يا أخي المسلِم - أن تُقصِّر ملابسك فوقَ الكعبين؛ طاعة لله - تعالى - ورسوله، وخوفًا من عقاب الله، ورجاءً لثوابه، ولتكون قدوةً حسنة للآخرين، فتُب إلى الله - تعالى - توبة نصوحًا بلزوم طاعة الله - تعالى - والندم على ما حَصَل منك من تقصير في طاعة الله، والعزْم على عدم العودة إلى معصية الله في المستقبل، فإنَّ الله يتوب على مَن تاب، ويغفر لِمَن استغفر وهو التوَّاب الرحيم، اللهمَّ تبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهمَّ وفِّقنا وسائرَ إخواننا المسلمين لِمَا تحب وترضى، إنَّك على كل شيءٍ قدير، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
التحذير من السِّحْر والشعوذة
في حديث متفق عليه، يقولُ النبي ﷺ: «اجتنبوا السبعَ الموبِقات، فذَكَر منها: الشِّرْك بالله، والسِّحْر»؛ الحديث متفق عليه.
أخي المسلِم، لا تصدِّق الساحر، فتخسر دِينَك - حفظك الله من كلِّ سوء، وعصَمَك من فِتن المحيا والممات، اللهمَّ آمين.
الحمدُ لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أخي المسلم، إنَّ نعم الله عليك كثيرة، من أعظمها - بعدَ نعمة الإسلام - نعمةُ العقل، الذي ميَّزك الله به عن سائر مخلوقاته، ومِن كفران هذه النِّعمة تعطيلُها عن التفكُّر في مخلوقات الله، وإشغالُها بما لا ينفع من العلوم الضارَّة، كقراءة القصص الماجنة، والمجلاَّت الخالعة، وكتب الضلال والإلْحاد والشيوعية الخبيثة، وغير ذلك ممَّا يضرُّ بالعقيدة أو الأخلاق، وأعظمُ من ذلك وأشدُّه تعريض عقلك لأعمال السَّحرةِ والمشعوِّذين الذين يَعْرضون أعمالَهم السحرية في السِّرْك، وفي الأندية الرياضيَّة، وغير ذلك؛ إذ إنَّهم يعرضون أعمالاً لا يُصدِّقها العقل السليم المؤمن، فمِن ذلك الطيران بين السماء والأرض، أو سؤال أحد المشعوذين عمّا يحتويه جيبُ أحدِ المتفرِّجين، فيوحي شيطان الجن إلى شيطان الإنس أنَّ الجيب يحتوي على مفاتيح، ومحفظة نقود، وغير ذلك، ومِن أعمالهم ركوبُ الدرَّاجة وهي بين السماء والأرض، وجرُّ السيارة أو (الدركتر) بشَعْر الرأس، وغير ذلك من الأمور السِّحريَّة الشيطانية، التي يشترك فيها شيطانُ الإنس مع قرينه شيطانِ الجن.
أخي المسلِم، في هذه الكلمة لا يمكن أن أطيلَ معك الوصف عن أعمال الشيطنة السِّحريَّة، التي يعملها المشعوذ والساحر في السِّرْك أو الملْهَى أو غيره، ولكن هذه ذِكرَى والذِّكرى تنفع المؤمنين.
وأسوق لك أحاديثَ مرويَّةً عن النبي ﷺ لتستنيرَ بها، ولتتوب إلى الله إن كنتَ قد صدَّقت ساحرًا، فالتوبة لها بابٌ مفتوح أمام كلِّ مخطئ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، أو تُغرِغر الرُّوح في الحُلْقوم.
أخي المسلم، اقرأْ هذه الأحاديث؛ لتنيرَ لك الطريق، وتُهدَى بنورها - وفَّقك الله، وعصمك من كلِّ فتنة:
في حديث متفق عليه يقول النبي ﷺ : «اجتنبوا السبعَ الموبِقات»، فذكر منها: الشِّرْك بالله، والسِّحْر... الحديث.
ويروي الإمام أحمدُ، وابن حِبَّان وأبو يعلى، وغيرُهم: عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة لا يَدْخُلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رَحِم، ومُصدِّق بالسِّحر».
وروى البزَّار بإسناد جيِّد، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس منَّا مَن تَطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كَفَر بما أُنزل على محمَّد»، وأخرج الطبرانيُّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثٌ مَن لم يكن فيه واحدة منهنَّ، فإن الله - تعالى - يغفر له ما سوى ذلك لِمَن يشاء: من مات لا يُشرِك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السَّحَرة، ولم يَحقِد على أخيه».
ويروي مسلِم في صحيحه عن بعضِ أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: «مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ فصدَّقه، لم تقبل له صلاةٌ أربعين يومًا»، وقال ﷺ: «مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كَفَر بما أُنزِل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم»[130].
والأحاديث كثيرة، وفيما تقدَّم خيرٌ لِمَن ألْقى السمع وهو شهيد.
وفَّقني الله وإيَّاكم للإيمان الصادق، والقلْب الثابت، والإيمان الكامل، والعلم النافع، والعمل الصالح، ربَّنا لا تُزِغْ قلوبنا بعدَ إذ هديتنا، وهبْ لنا من لدنك رحمة، إنَّك أنت الوهاب، واعصِمْنا اللهم من شرِّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وما توفيقي إلاَّ بالله، عليه توكلتُ وإليه أُنيب، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
محبكم المخلص
عبدالله بن علي الغضية
الزواج وفوائده وآثاره النافعة[131]
قال الله - تعالى -: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32]، أيُّها المسلمون، الزواج في الإسلام حرْثٌ للنسل، وسكنٌ للنفس، ومتاع للحياة، وطُمأنينة للقلْب، وإحصان للجوارح، كما أنَّه نعمة وراحة، وسُنَّة وسِتْر، وصيانة ولذَّة، ولهذه المعاني المحبَّبة للنفس البشرية، ولِمَا ركَّبه الله - تعالى - في الإنسان من غرائز جنسيَّة، فلا بدَّ للرجل من زوجة يسكُن إليها، ولا بدَّ للمرأة من زوجٍ تسكُن إليه، وإنَّ تسمية الله - تعالى - لكلٍّ من الرجل والمرأة زوجًا في أكثرَ مِن آية لَدليلٌ على أنَّ كلاًّ منهما شطر، لا يتمُّ وجودُه ولا تكتمل حياته إلاَّ بصاحبه.
وفي هذه الآية الكريمة - آنفة الذِّكْر - يأمر اللهُ - عزَّ وجلَّ - الأولياءَ بتزويج مَن تحت ولايتهم من الأيامى رِجالاً ونساءً وأبكارًا، وأن يُعينوا مَن يقف المالُ عقبةً في طريقهم إلى النِّكاح الحلال، ولا يجعلوا الفقرَ عائقًا عن تزويجهم، متى كانوا صالحين للزواج، راغبين فيه رجالاً ونساءً، فالرِّزْق بيد الله - تعالى - وقد تكفَّل بإغنائهم إن هم اختاروا العِفَّة النظيفة والإحصان؛ كما في قوله – تعالى -: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وإذا كان الله - عزَّ وجلَّ - قد أَمَر الأولياءَ بإنكاح مَن تحت أيديهم، كان أَمْرُهم بالنكاح بأنفسِهم من باب أولى وأحرى، وقد رغَّب الإسلامُ في الزواج بصور متعدِّدة، فتارة يَذكر أنَّه من سُنن المرسَلين، وأنهم القادة الذين يجب علينا أن نَقتديَ بهداهم؛ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: 38].
وفي الحديث عن أبي أيُّوبَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «أربعٌ مِن سُنن المرسلين: الحياء والتعطُّر، والسِّواك والنِّكاح»[132].
وتارةً يذكره في معرض الامتنان؛ ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [النحل: 72].
وتارةً يَحْرِص على إتاحة فُرَصِه للجميع، ويُذلِّل عقباتِه ووسائل البحث عنه، بحيث يقدر عليه الفقراء؛ فعن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ أعظم النِّكاح بركةً أَيسرُه مؤونة»[133]، وقال رسولُ الله ﷺ: «إذا جاءَكم مَن ترضون دِينَه وأمانته فزوجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير»؛ رواه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
ولَمَّا كان الإنسان بطبيعته يَعْشق الجمال، ويهوى المَلاحَةَ والحُسن، تَرَك الإسلام له الحريَّة في اختيار الزوجة، وأباح له النظرَ إليها قبل الخِطبة، ولم يُسقِط الإسلام الجمالَ من حسابه، ولكن على أساس أنَّ جمال الظاهر بغير جمال الباطن أمرٌ لا تُحمد عقباه، ولَمَّا خطب المغيرة بن شعبة امرأةً، وأخبر النبيَّ ﷺ قال له: ((اذهبْ فانظرْ إليها، فإنَّه أحرى أن يُؤدَم بينكما))؛ أي: تدوم بينكما العشرة، وفي الصحيحين: قال رسولُ الله ﷺ: «تُنكَح المرأة لأربع: لمالِها ولحَسَبِها، ولجمالها ولدِينها، فاظفرْ بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك».
وإنَّما رغَّب الإسلام في الزواج وحبَّب فيه، وسهَّل طرقه؛ لما يترتب عليه من آثار نافعة، تعود على الفرْد نفسه، وعلى الأمَّة جميعًا، وعلى النوع الإنساني عامَّة، فإنَّ الغريزة الجنسيَّة من أقوى الغرائز وأعنفِها، وهي تلحُّ على صاحبها دائمًا في إيجاد مجال لها، فما لم يكن ثَمَّة ما يُشبِعها انتاب الإنسانَ الكثيرُ من القلق والاضطراب، ونَزعت به إلى شرِّ مَنْزَع، ولهذا فالزواج واجبٌ على مَن قدر عليه، وخشي العنت؛ لأنَّ صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ بالزواج، وما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب، فمَن خاف الضرر على نفسه ودِينه من العزوبة، لا يُختلَف في وجوب التزوُّج عليه، فإن عَجَز عن الإنفاق على الزوجة، فإنَّ الله يأمره بالعِفَّة، ويَعِدُه - سبحانه – بالغِنى؛ فيقول - تعالى -: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33].
ويقول الرسول ﷺ: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فلْيَتزوَّجْ، فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنَّه له وِجَاء»[134]، وفي الحديث: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتَب الذي يُريد الأداء، والناكِح الذي يريد العَفاف»[135].
والعزوبةُ بدون سبب شذوذٌ عن الفِطرة، لا يحبُّه الله - تعالى - لعبده المؤمن، ولهذا نهى - سبحانه - عن منْع المرأة المطلَّقة دون الثلاث مِن أن تنكح زوجها الأوَّل، إذا تراضيَا بينهما على ما يُرضِي اللهَ ورسولَه؛ فقال – تعالى -: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 232].
أيُّها الإخوة المستمعون، الزواج في الإسلام عقدٌ لازم، وميثاق غليظ، وواجبٌ اجتماعي، وسَكَن نفسي، وسبيل مودَّة ورحمة بين الرِّجال والنِّساء، يزول به أعظمُ اضطراب فِطري في القلْب والعقل، ولا ترتاح النفسُ وتطمئن في سريرتها بدونها، كما أنَّه عبادة، يستكمل الإنسانُ بها نصفَ دِينه، ويَلقَى بها ربَّه على أحسنِ حال من الطُّهْر والنقاء.
فعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «مَن رَزَقه اللهُ امرأةً صالحة، فقد أعانه على شَطرِ دِينه، فليتقِ الله في الشطر الباقي»[136]، وفي الصحيح قال رسول الله ﷺ : «الدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة»، ويُستحسَن أن تكون الزوجة بِكرًا، فإنَّ البكر ساذجة، لم يَسبقْ لها عهدٌ بالرِّجال، فيكون التزوُّج بها أدْعَى إلى تقوية عُقدة النكاح، ويكون حبها لزوجها في الغالب ألصقَ بقلبها، ولَمَّا تزوج جابر بن عبدالله ثيِّبًا، قال له رسول الله ﷺ: «هلاَّ بِكرًا تُلاعبها وتلاعبك».
كما أنَّ من مقاصد الزواج الأولى إنجابَ الأولاد، فينبغي أن تكون الزوجةُ منجبة، ويُعرف ذلك من سلامة بَدَنِها، وبقياسها على مثيلاتها من أخوات وعمَّات وخالات، فعندما خَطَب رجلٌ امرأة عقيمًا لا تلد، وأخبر رسولَ الله ﷺ نهاه، وقال: ((تزوَّجوا الودودَ الولود، فإنِّي مكاثرٌ بكم الأمم يومَ القيامة))؛ رواه أحمد.
وقال الله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وليعلم أنَّ في خُلق المرأة عوجًا طبيعيًّا، وأنَّ محاولة إصلاحه غير ممكن، فلا نتصوَّر في المرأة أو الخطيبة الكمال؛ لقول رسولِ الله ﷺ: ((المرأةُ خُلِقت من ضِلَع أعوج، وإنَّ أعوج ما في الضِّلَع أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج))[137]، ولكن علينا أن نَقْبلَها ونُصاحبها على ما هي عليه، ونعاملها كأحسن ما تكون المعاملة، ونَحرِص على تأديبها وتعليمها، وإرشادها إلى الصواب إذا اعوجَّتْ في أيِّ أمر من الأمور؛ قال رسول الله ﷺ : «استوصوا بالنساء خيرًا»، ولا نكون كمَن يغضُّ عن مزايا الزوجة وفضائلها، ويتجسَّد في نظره بعضُ ما يكره من خصالها، فالإسلامُ ينصح بوجوب الموازنة بين حَسنات المرأة وسيِّئاتها، وأنَّ الرجل إذا رأى منها ما يكره، فإنَّه يرى منها ما يحبُّ؛ قال رسول الله ﷺ «لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنة، إن كَرِه منها خُلقًا رَضِيَ منها آخَرَ»؛ رواه مسلم.
فاتَّقوا الله يا شبابَ الإسلام ورجالاتِه، وغضُّوا أبصارَكم عن النظر المحرَّم، وحصِّنوا فروجَكم بالحلال الطيِّب، وأطيعوا ربَّكم فيما أمركم به من النِّكاح، ينجزْ لكم ما وعدَكم من الغِنى، وإيَّاكم والإحجامَ عن الزواج؛ خوفًا من الاضطلاع بتكاليفه، فالأمرُ منوطٌ بالله - تعالى - في الفَرَج بعد الضِّيق، واليُسر بعد العُسر، وقد سمعتم آنفًا وعدَه - عز وجل - للمتزوِّجين بالغِنى، وأنه سيحمل عنهم الأعباء، ويمدُّهم بالقوَّة التي تجعلهم قادرين على التغلُّب على أسباب الحاجة والفقر.
فأولى للمؤمن أن يتَّبع مرضاة الله، وأن يعقدَ به الأمل، وأن يتَّجه إليه بالأمر كلِّه، وأن يراقبَه ويتقيه، ويحسن الظنَّ به، فهو المانح والمانع، والقابض والباسط؛ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
اللهمَّ أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخِرة حسنة، وقِنا عذابَ النار برحمتك يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
التحذير من المغالاة في المهور والإسراف في حفلات الزواج
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى مَن يراه من إخواننا المسلمين، وفَّقني الله وإياهم لِمَا يحبه ويرضاه، وجنَّبَنا جميعًا الوقوعَ فيما حرَّمه ونهى عنه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد:
فقد شَكَا إلي العديدُ من أهل الغَيْرة والصلاح ما فشَا في المجتمع من ظاهرة المغالاة في المهور، والإسرافِ في حفلات الزواج، وتنافُسِ الناس في البَذخ وإنفاق الأموال الطائلة في ذلك، وما يقع في الحفلات غالبًا من الأمور المحرَّمة المنكَرة؛ كالتصوير، واختلاط الرِّجال بالنِّساء، وإعلان أصوات المغنيين والمغنيات بمكبِّرات الصوت، واستعمال آلات الملاهي، وصرْف الأموال الكثيرة في هذه المحرَّمات وكل ذلك؛ ممَّا أدَّى بكثير من الشباب إلى الانصراف عن الزواج؛ لعدم قدرتِهم على دفْع تكاليفه الباهظة، وإنَّما الجائز في الأعراس للنِّساء خاصَّة ضرْبُ الدُّف والغناء العادي بينهن؛ إعلانًا للنكاح، وتمييزًا له عن السِّفاح، كما جاءتِ السُّنة بذلك، بدون إعلان ذلك بمكبِّرات الصوت، وحيث إنَّ الكثيرَ من الناس يفعلون تلك الأمورَ المحرَّمة تقليدًا للآخرين، وجهلاً بسُنَّة سيِّد الأولين والآخرين، رأيت كتابةَ هذه الكلمة، نُصحًا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامتهم، فأقول - والله المستعان -:
مِن المعلوم أنَّ النكاح من سُنن المرسَلين، وقد أمر الله ورسولُه به؛ قال – تعالى -: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3] الآية، وقال - تعالى -: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور: 32]، وقال النبي ﷺ: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ، فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفَرْج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنَّه له وِجاء»[138].
وقال في حديث آخرَ: ((لكنِّي أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رَغِب عن سُنَّتي فليس مني))[139].
وإنَّ على المسلمين عامَّة، وولاة أمورهم خاصَّة: أن يعملوا على تحقيق هذه السُّنة وتيسيرها؛ تحقيقًا لِمَا روي عنه ﷺ أنَّه قال: «إذا أتاكم مَن ترضَوْن دِينَه وخُلقَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[140]، وروى مسلم في صحيحه، وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: سألتُ عائشة - رضي الله عنها -: كم كان صَداقُ رسول الله ﷺ قالت: كان صَداقُه لأزواجه اثنتي عشرة أوقيَّة ونشًّا، قالت: أتدري ما النشُّ؟ قلت: لا، قالتْ: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم، وقال عمر - رضي الله عنه -: ما علمتُ رسولَ الله ﷺ نكح شيئًا من نسائه، ولا أنكح شيئًا من بناتِه على أكثرَ من اثنتي عشرة أوقية، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعدٍ الأنصاري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ ﷺ زوَّج امرأةً على رجل فقير ليس عنده شيءٌ من المال بما معه من القرآن، وروى أحمد والبيهقي والحاكم: أنَّ مِن يُمْن المرأة تيسيرَ خِطبتها وتيسير صَدَاقها.
ومع هذه السُّنة الواضحة الصريحة من أقوال الرسول ﷺ وفِعْله، فقد وقع كثيرٌ من الناس فيما يُخالِفها، كما خالفوا أمرَ الله ورسوله في إنفاق الأموال في غير وجهها، فقد حذَّر الله في كتابه العزيز من الإسرافِ والتبذير فقال: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 26 - 27]، وقال – سبحانه -: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].
وأخبر - عزَّ وجلَّ - أنَّ من صفات المؤمنين التوسطَ والاعتدال في الإنفاق؛ فقال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32]، فأمر بإنكاح الأيامى أمرًا مطلقًا؛ ليعمَّ الغنيَّ والفقير، وبيَّن أنَّ الفقر لا يمنع التزويج؛ لأنَّ الأرزاق بيده - سبحانه - وهو قادر على تغيير حال الفقير حتى يُصبح غنيًّا، وإذا كانتِ الشريعة الإسلامية قد رغَّبتْ في الزواج وحثَّت عليه، فإنَّ على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمْر الله وأمر رسوله ﷺ بتيسير الزواج، وعدم التكلُّف فيه، وبذلك يُنجِز الله لهم ما وعَدَهم.
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: "أطيعوا اللهَ فيما أمرَكم به من النِّكاح، يُنجزْ لكم ما وعَدَكم من الغِنى"، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "الْتمسوا الغِنَى في النكاح".
فيا عباد الله، اتَّقوا الله في أنفسكم، وفيمَن ولاَّكم الله عليهنَّ من البنات والأخوات وغيرهن، وفي إخوانكم المسلمين، واسْعَوا جميعًا إلى تحقيق البرِّ في المجتمع، وتيسير نموه وتكاثُره، ودفْع أسباب انتشار الفساد والجرائم، ولا تجعلوا نعمةَ الله عليكم سُلَّمًا إلى عصيانه، وتذكَّروا دائمًا أنَّكم مسؤولون ومحاسَبون على تصرُّفاتكم؛ كما قال - تعالى -: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92 - 93].
وروي عنه ﷺ أنَّه قال: «لن تزولَ قدمَا عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه، وعن مالِه: مِن أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن عِلمه: ماذا عَمِل به؟»[141].
وبادروا إلى تزويج أبنائكم وبناتِكم، مقتدين بنبيِّكم وصحابته الكرام، والسائرين على هديهم وطريقتهم، واحْرِصوا على تزويج الأتقياء ذوي الأمانة والدِّين، واقتَصِدوا في تكاليف الزواج ووليمته، ولا تغالوا في المهور أو تشترطوا دفْعَ أشياء تُثْقل كاهلَ الزوج، وإذا كانتْ لديكم فضول أموال فأنفقوها في وجوه البرِّ والإحسان، ومساعدة الفقراء والأيتام، وفي الدعوة إلى الله وإقامة المساجد، فذلك خيرٌ وأبقى، وأسلم في الدنيا والآخرة مِن صَرْفها في الولائم الكبيرة، ومباهاة الناس في مِثْل هذه المناسبات، وليتذكَّر كلُّ مَن فكَّر في إقامة الحفلات الكبيرة، وإحضار المغنين والمغنيات لها ما في ذلك مِن الخطر العظيم، وإنَّه يُخشَى عليه بذلك أن يكون ممَّن كَفَر نعمة الله، ولم يشكرْها، وسوف يلقَى الله ويسأله عن كلِّ ما عَمِل، فليقتصدْ في ذلك وليتحرَّ في حفلات الأعراس وغيرها ما أباح الله دون ما حرَّم.
ويَنبغي لعلماء المسلمين وأمرائهم أن يُعنوا بهذا الأمر، وأن يجتهدوا في أن يكونوا أسوةً حسنةً لغيرهم؛ لأنَّ الناس يتأسَّوْن بهم، ويسيرون وراءَهم في الخير والشر، فرَحِم الله امرأً جعل من نفسه أسوةً حسنة، وقدوةً طيِّبة للمسلمين في هذا الباب وغيرِه؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنَّه قال: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجْرُها، وأجْر مَن عَمِل بها مِن بعده لا ينقص ذلك مِن أجْرِه شيئًا... الحديث»؛ رواه مسلم.
ملاحظة هامة: بناءً على ما تقدَّم، ومحافظةً على طاعة الله ورسوله، وعلى غضِّ الأبصار، وحِفْظِ الفروج، وصيانةِ الأعراض والأنساب، فينبغي ألاَّ يُقبَل للدِّراسة في الجامعات من الطلبة والطالبات إلاَّ مَن تزوَّج منهم، ومن لم يستطعِ الزواج فيُعان من بيت مال المسلمين، ومن صناديق البِرِّ الخيرية، وأرجو أن تجدَ هذه الملاحظة آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وبالله التوفيق.
من أضرار الزِّنا
قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: 32] وقال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ [الفرقان: 69 - 70] الآية، فانظرْ كيف قَرَن الزِّنا بالشِّرْك بالله، وقتْلِ النفس التي حرَّم الله.
وقال - تعالى -: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النور: 2].
قال العلماء: هذا عذابُ الزاني والزانية في الدنيا، إذا كانَا غيرَ متزوِّجين، فإذا كان متزوِّجين أو قد تزوجَا، فإنهما يُرجمانِ بالحجارة حتى يموتَا، وفي الحديث الصحيح: «لا يَزْني الزاني حين يزني وهو مؤمِن»[142]، وفي الحديث الآخر: «مَن زَنا أو شرب الخمر، نَزَع الله منه الإيمانَ كما يخلع الإنسان القميص مِن رأسه»[143].
وأعظمُ الزِّنا الزِّنا بالأمِّ والبنت والأخت، وذوات المحارِم، وفي الحديث: «مَن وَقَع على ذات محْرَم فاقتلوه»[144]، والزِّنا يجمع خلالَ الشرِّ كلَّها، ومن ذلك:
1- قلَّة الدِّين.
2- ذَهاب الوَرَع.
3- فساد المروءة.
4- قلَّة الغَيْرة.
5- غضب الربّ.
6- سواد الوجه وظلمته.
7- ظلمة القلْب، وطمس نوره.
8- الفقر اللازم.
9- ذَهاب حُرْمة فاعله، وسقوطه من عين ربِّه، ومِن أعين عباده.
10- أنَّه يسلبه أسماءَ المدح من العفَّة والبرِّ، والعدالة والثِّقة، ويكسوه أسماءَ الذم، كاسم: الفاجر والخائن، والفاسق والزاني.
11- أنَّ الزاني يُعرِّض نفسه للعذاب في تنُّور من نار، أعلاه ضيِّق، وأسفله واسع، الذي رأى النبيُّ ﷺ فيه الزُّناةَ والزواني يُعذَّبون[145].
12- أنَّه يفارق الطيِّب، ويستبدل به الخبيثَ الذي وصف الله الزُّناةَ به.
13- وحْشَة يضعها الله في قلْب الزاني.
14- قِلَّة الهَيْبة التي تنزع من صدور أهلِه وأصحابه وغيرهم له.
15- أنَّ الناس ينظرونَه بعين الخِيانة، ولا يأمنه أحدٌ على حرمته وولده.
16- ضِيق صدر الزاني وحَرَجه.
17- أنَّه يُعرِّض نفسه لفوات الاستمتاع بالحُور العِين في المساكن الطيبة في جنات عَدْن.
18- أنَّ الزِّنا يُجرِّئه على عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وكسْب المال الحرام، وظُلْم الخَلق، وإضاعة أهله وعياله.
19- أنَّ هذه المعصية محفوفةٌ بالمعاصي، فهي لا تتمُّ إلاَّ بأنواع المعاصي قبلها ومعها وبعدها، فهي تجلب شرورَ الدنيا والآخرة.
20- وجوب الحدِّ على الزاني البِكر؛ مائة جلدة وتغريب عام عن وطنه، ورجْم الزاني الثيِّب (الذي قد تزوَّج) بالحجارة حتى يموت.
21- في الزِّنا ضياع الأنساب.
22- انتهاك الأعراض.
23- انتشار الأمراض الخطيرة، وفُشو الطاعون، وانتشار الأمراض التناسلية المستعصية للعِلاج غالبًا، وأهونها مَرَض الزهري.
24- تعريض المحارِم للوقوع بالفاحشة، فكما تَدين تُدان.
25- الإفلاس يومَ الحساب من الأعمال الصالحة.
26- أنَّه يُعرَض الزاني يومَ القِيامة على الذي زَنَى بامرأته؛ ليأخذَ من حسناته ما يشاء، وسوف لا يَبقَى للخائن حسنة.
27- شهادة الجوارح عليه من اليَدِ والرِّجْل والجِلْد، والسمع والبصر واللسان؛ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24][146].
(تنبيه هام): ويلْتحق بالزِّنا في العذاب والفضيحة، والعار في الدنيا والآخرة، بل هو أشنعُ منه - عملُ قوم لوط، وهو إتيانُ الذُّكْران من العالمين في أدبارهم، وقد لُعِن فاعلُه ثلاثَ مرَّات في حديثٍ رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي والنسائي، قاله ابن حجر الهيثميُّ في الزواجر، فالواقع في الزِّنا واللِّواط مجرِمٌ فاسق، ظالم خبيث، متعدٍّ حدودَ الله، وإذا أنكر تحريمَه فهو كافرٌ بالله العظيم، إلاَّ أن يتوب، فمَن تاب تاب الله عليه.
(فوائد غض البصر):
مِن أسباب الزِّنا واللِّواط إطلاقُ النظر إلى العورات، وإلى النِّساء الأجنبيات اللاَّتي لسنَ من محارِم الرجل، وكذلك النظر في الصُّور وإلى الأمرد الحَسَن بشهوة، وقد أمر الله المؤمنين والمؤمناتِ بغضِّ أبصارهم، وحفظ فروجهم، وأخبر أنَّ ذلك أطهرُ لقلوبهم، وأزْكى لأعمالهم، وفي غضِّ البصر منافعُ كثيرة، وفوائدُ عديدة، منها:
1- أنَّه امتثال لأمر الله، الذي هو غايةُ سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
2- طهارة القلْب، وزكاة النفس والعمل؛ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9].
3- أنَّه يمنع وصولَ أثر السهم المسموم؛ فإنَّ النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس.
4- تعويض مَن غضَّ بصرَه بحلاوة الإيمان في القلْب؛ ففي الحديث: ((مَن غضَّ بصرَه عن محاسنِ امرأةٍ، عوَّضه الله إيمانًا يجد حلاوتَه في قلْبه)) [147].
5- حصول الفِراسة الصادقة التي يُميَّز بها بين الحقِّ والباطل.
6- أنَّه يُخلِّص القلْب من ألَم الحسرة، فإنَّ من أطلق بصره دامتْ حسرتُه.
7- أنَّه يورث القلْب سرورًا وفرحًا، ونورًا وإشراقًا أعظمَ من اللذة الحاصلة بالنظر.
8- أنَّه يخلِّص القلْب من أسْر الشهوة، فإنَّ الأسير هو أسيرُ هواه وشهوته.
9- أنَّ غضَّ البصر يقوِّي العقل ويَزيده ويثبته، وإرسال النظر لا يحصل إلا مِن خِفَّة العقل، وعدم ملاحظته للعواقب، وبالله التوفيق[148].
أهم الطرق لمكافحة الزنا
1- منْع التبرُّج، وإلْزام القادمين بتنفيذ التعليمات الدينيَّة نحو محارمهم كستر الوجه والنحر والساقين، وما يُثير الفتنة كالملبس المُعرِّي (المظهِر للعورة؛ لكونِه قصيرًا، أو شفَّافًا، أو ضيقًا).
2- حماية الأخلاق الكريمة برَدْع السفهاء عن التعدِّي على النِّساء، أو ملاحقتهنَّ في جميع الميادين، ولا سيَّما في الأماكن التي يرتدنها للشِّراء أو النزهة.
3- عدم سماح وليِّ المرأةِ لها بالخروج إلاَّ لِمَا تقتضيه الضرورة، وبصحبة محرَم لها إن أمكن، وعدم إدخال أجنبيٍّ عليها كأخِ الزوج، وغيره من الأجانب.
4- الحيلولة لئلاَّ يخلوَ رجلٌ بامرأة إلاَّ مع محرَم لها، وأن تكون متحجِّبة متسترة، وذلك في الحالات الضروريَّة، كمراجعة الطبيب، أو للتحقيق مع المرأة، أو الخروج مع السائق، أو شراء أشياء لا يتمكَّن عليها الوالي، وتضطر لحضورها من مجوهرات أو أقمشة أو ساعات.
5- عدم السماح لأصحابِ الدكاكين التي يرتدنها النِّساء بوضْع المختصرات الداخليَّة، ولا سيَّما لبائعي الأقمشة أو الساعات أو المجوهرات أو الخياطة، أو من المحلاَّت المحظورة شرعًا، مع إيقاع أشدِّ العقوبات على المخالفين.
6- منْع الخادم أو السائق أو مَن هو في حكمهما ممَّن بلغوا وشعروا بالرغبة للنِّساء من الاختلاء بالمرأة، مهما بلَغَ مِن الثِّقة، وخاصَّة الخروجَ بها، ومَن سمح بهذا فهو مخالِف للهدي الإسلامي، وليس كلُّ واحد من هؤلاء معصومًا، والقصص القرآنيَّة تُوحِي بهذا لِمَا يترتب عليه من الأمور الخطيرة بعكس ما عليه دُعاةُ الإباحيَّة والتحلُّل.
7- نشْر مبادئ الفضيلة، ومنْع وسائل الغرام والتحلُّل، واللهو والغناء، ومضاعفة الجهود بتذكير الناس في دِينهم وآخرتهم، إذاعةً وصحافةً وتوجيهًا في جميع المجالات، مع تنشئة الناس على الشجاعة والرُّجولة والشهامة، والغَيْرة والمروءة، وتحذيرهم من السلوك السيِّئ، من مجاراة المرأة بطبيعتها الموهوبة في لبس الذَّهَب والميوعة، وإزالة شعْر الوجه.
8- تعيين الثِّقة بصُحبة أهلِه لِمَن يتولَّى جلْب العائلات، أو ترحيلهنَّ، أو السفر بهنَّ، أو الاتصال بهنَّ ومراقبتهن.
9- إبعاد سجون النِّساء عن أماكن الحُرَّاس، وتوجيههنَّ لدِينهن مع تعيين الثِّقة الطاعن في السن بصحبة أهله ليتولَّى الأبواب والاتصال ومراقبته.
10- إبراز ما تقتضيه المصلحةُ خارجَ البيوت، كالعدادات الكهربائيَّة والمائية، وخاصَّة للأسر الصغيرة.
11- عدم السماح لفتْح المسارِح والسينمات، ومنْع اختلاط الرِّجال بالنساء، ولا سيما في حفلات الزواج، ومنْع السَّهَر.
12- المسارعة إلى تخفيف المهور، والنظر في المرأةِ التي منَعَها وليُّها عن الزواج بدون مبرِّر شرعي، ورفْع ولايتها إلى غيره[149].
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
البصرُ مِن نِعم الله العُظمى، التي أنعم بها على الإنسان لكي يشكرَها، ويتمتعَ بها في شؤون حياته، ويستعينَ بها على أمور دِينه ودنياه، ولا يَعرِف قدرَ هذه النِّعمة حقَّ المعرفة إلاَّ مَن ابتُلي بذَهاب بصره، والبصرُ أداة خير إذا استُعمِل فيما شُرِع له النظر إليه، والتفكُّر فيه؛ ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101]، وقد يكون وسيلةَ شرٍّ على صاحبه إذا استعملَه في المحرَّمات، والنظرِ إلى العَوْرات وفضولِ زينة الحياة الدنيا نَظْرةَ إعجاب؛ ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه: 131]؛ لذا أمر الله المؤمنين بالغضِّ من أبصارهم؛ فقال - تعالى - مخاطبًا لنبيه محمَّد ﷺ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 30]، فأمر المؤمنين بما يمنعهم من الوقوع في ما يخلُّ بالإيمان، وهو غضُّ الأبصار عن النظر المحرَّم إلى العوْرات، وإلى النِّساء الأجنبيات.
ولَمَّا كان إطلاق النظر وسيلةً إلى الوقوع في الزِّنا، أمَرَ الله بحفظ الفروج بعدَ الأمر بغضِّ الأبصار، عن الوطء المحرَّم في قُبُل أو دُبُر، وعن التمكين من مسِّ الفروج، والنظر إليها، وأخبر أنَّ غضَّ الأبصار وحِفْظ الفروج أطهرُ وأطيب، وأنمى للأعمال، فإنَّ مَن غضَّ بصره، وحَفِظ فرْجه، طَهُر من الخبث الذي يتدنس به أهلُ الفواحش، وزَكَتْ أعماله بسبب ترْك المحرَّم الذي تطمعُ فيه النفس الأمَّارة بالسُّوء، وتدعو إليه، فمَن تَرَك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، ومَن غضَّ بصره أنار الله بصيرتَه.
ولِمَّا أمر الله المؤمنين بغضِّ أبصارهم، وحفظ فروجهم، أَمَر المؤمنات بذلك، و ألاَّ يُظهِرنَ ما يدعو إلى الافتتان بهنَّ من الزِّينة والحليِّ ، والثياب الجميلة وجميع البدن، إلاَّ ما ظهر منها كالثِّياب الظاهرة، التي لا يمكن إخفاؤها[150].
فكما أنَّه يجبُ على الرجل أن يغضَّ بصرَه عن النِّساء، فكذلك المرأة يجب عليها أن تغضَّ طَرْفها عن الرِّجال، فقد دخل ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى على النبيِّ ﷺ وعندَه امرأتانِ من نسائِه، فأمرهما بالاحتجابِ منه، فقالتَا: يا رسولَ الله، أليس هو أعمى لا يُبصرنا ولا يعرِفنا؟ فقال ﷺ: ((أفعمياوانِ أنتما؟! ألستُما تُبصرانِه؟!))[151]، فإذا وجب الاحتجابُ عن الأعمى، فكيف بغيره؟![152]، والنظرةُ بمنزلة الشرارة من النار تَسري في الحشيش اليابس، فإنْ لم تحرِقْه كلَّه أحرقتْ بعضه، وبمنزلة السَّهم من الرمِيَّة، كما قيل:
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ | وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ | |
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا | فَتْكَ السِّهَامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَرِ | |
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ | لاَ مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ |
ولَمَّا كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرَّم اقتضتِ الشريعة تحريمَه، وإباحته في مواضع الحاجة، كنَظر الخاطب إلى مخطوبته، وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنَّه قال: «النظرُ سهمٌ مسموم من سهام إبليس، فمَن غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ، أورثَ الله قلبَه حلاوةً يجدها إلى يومِ يلْقاه»، أو كما قال، وقال جرير بنُ عبدالله: سألتُ النبي ﷺ عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرفَ بصري[153]، ونظرة الفجأة هي النظرةُ الأولى التي تقع بغير قصْد من الناظر، فما لم يتعمدْه القلْب لا يؤاخذ عليه، فإذا نظر ثانيةً متعمِّدًا أثِمَ، فأمر النبي ﷺ عند النظر الفجأة أن يصرفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره، ففتنة النظر أصْل كلِّ فتنة؛ كما ثَبَت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنَّ النبي ﷺ قال: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرِّجال من النساء»، وفي الصحيح: ((كُتِب على ابن آدمَ حظُّه من الزِّنا، أدرك ذلك لا محالةَ، فالعَيْن تزني وزِناها النظر... الحديث))[154]، فالعين تعصي بالنظر المحرَّم، وذلك زناها، وثبت عنه ﷺ أنَّه قال: «يا عليُّ، لا تُتبعِ النظرةَ النظرة، فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخِرة))[155].
وكلَّما تواصلتِ النظرات، كانت كالماء يَسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحبِّ تنمو حتى يفسدَ القلْب، ويُعرِض عن الفكر فيما ينفعه، فيخرج بصاحبه إلى المِحن، ويوجب له ارتكابَ المحظورات والفتن، ويُلقي القلبَ في القلق، والسبب في هذا أنَّ الناظر الْتذَّتْ عينه بأوَّل نظرة، فطلبت المعاودة، كأكْل الطعام اللذيذ، إذا أكل منه لقمة، ولو أنَّه غضَّ بصره أولاً لاستراح قلبُه.
(من فوائد غض البصر):
ففي غضِّ البصر منافعُ كثيرة، وفوائد عديدة؛ منها:
أنَّه امتثال لأمر الله الذي هو غايةُ سعادة العبد في دنياه وآخرته، وأنَّه يمنع وصولَ أثر السهم المسموم، الذي ربَّما كان فيه هلاكه، ومنها أنَّه يُورِث القلبَ نورًا وإشراقًا، كما أنَّ إطلاقه يُكسبه ظلمةً تظهر في الوجه والجوارح.
ومن فوائد غض البصر: أنَّه يخلِّص القلب من ألَم الحسرة، فإنَّ من أطلق بصره دامتْ حسرتُه، وأنه يورث صحَّة الفِراسة الصادقة التي يُميِّز بها بين الصادق والكاذب، ويفتح له بابَ العلم والإيمان، والمعرفة بالله وأحكامه، ومن ذلك أنَّ غضَّ البصر يورث القلْب ثباتًا وشجاعة، وفي الأثر: "أنَّ الذي يخالف هواه يفرُّ الشيطان مِن ظلِّه"، ومنها أنه يورث القلْب سرورًا وفرحًا أعظمَ من اللَّذة الحاصلة بالنظر، وأنَّه يخلِّص القلبَ من أسْر الشهوة، فإنَّ الأسير هو أسيرُ هواه وشهوته، وأنه يُفرِّغ القلْب للتفكُّر في مصالحه، والاشتغال بها، وإطلاق البصر يُشتِّت عليه ذلك، وإنَّ غضَّ البصر يقوِّي العقل ويَزيده ويثبته، وإطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلاَّ مِن خفَّة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب، قال الشاعر:
وَأَعْقُلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ عَمَلاً | حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ |
وغضُّ البصر يخلِّص القلْب من سُكْر الشهوة، ورقدة الغفْلة، وإطلاقُ البصر يوجب استحكامَ الغفْلة عن الله والدار الآخرة، وفوائدُ غضِّ البصر وآفات إرساله أكثرُ من أن تُحصَى[156]، والحُرُّ تكفيه الإشارة؛ وقد قال - تعالى -: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36] ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، فليس الإنسان بمهمَل ولا مغفول عنه وإن غفل؛ ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة: 6].
ومن المؤسِف ما يُشاهَد في بعض أسواقنا مِن نساء كاسيات عاريات، فاتنات مفتونات، قد تجردْنَ من الحياء والشيمة والمروءة، بل ومن الإنسانية، فأبرزنَ الوجهَ والرأس، والعنقَ والذراعين والساقين، يخترقنَ الأسواق يَمنةً ويسرة، من غير خجل ولا حياء، ويُشاهد هناك بعضُ الشباب المغرورين ينخدعون بهذه المفاتن، فيُحدِّقون لهنَّ الأنظار، إنهنَّ بهذه العادات الممقوتة يُغرينَ بناتِنا، ويفتنَّ أبناءَنا، إننا نرجو من المسؤولين الكرام أن يتلافوا هذا الخطرَ الفاحش على أبنائِنا وبناتنا، وأن يضربوا بيدٍ مِن حديد على كلِّ مَن يخالف تعاليمَ ديننا، وتقاليد بلادنا.
إنَّ المرأة في هذه البلاد المسلِمة المتمسِّكة بتعاليم دِينها، وتحكيمِ شريعة الله - لم تزلْ، وما زالتْ متحجبةً متسترة، محتشمة عفيفة؛ امتثالاً لأمر الله، واقتداءً بسُنَّة رسول الله ﷺ ومحافظة على أخلاقها وتقاليدها وشرَفِها؛ ولذلك ساد الأمنُ في هذه البلاد على النفس والأهْل والمال؛ تحقيقًا لوعد الله المؤمنين بذلك؛ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].
ولعِظَمِ نِعمة البصر، عوَّض الله مَن ابتلي بذَهاب بصره فصبر له الجنة؛ قال النبيُّ ﷺ: قال الله – تعالى -: «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصَبَر، عوضتُه بها الجنَّة - يريد عينيه»، فعلى المسلِم أن يفكِّر في نِعم الله عليه، وأن يرعاها حقَّ رعايتها، فيعترف بها باطنًا، ويتحدَّث بها ظاهرًا، وأن يستعين بها على ما يحبه الله ويرضاه حتى تستقرَّ وتزداد، ويثابَ عليها في الدنيا والآخرة.
وبالله التوفيق، اللهمَّ متِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا، وقواتنا ما أبقيتنا.
اللهمَّ طهِّرْ قلوبنا من النِّفاق، وأعمالَنا من الرِّياء، وألْسنتنا من الكذب، وأعينَنا من الخيانة، إنَّك تعلم خائنةَ الأعين، وما تُخفي الصدور، اللهمَّ اجعل حواسنا وجوارحنا شاهدةً لنا باكتساب الخيرات، لا شاهدة علينا بانتهاك المحرَّمات، اللهمَّ اجعلنا من الذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، ومن الذين قالوا: سمعْنا وأطعنا، ربَّنا تقبَّل منَّا، إنك أنت السميع العليم، واغفرْ لنا وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
[2] رواه أحمد والنسائي، وسنده حسن.
[3] دلَّت السورة على أنَّ كل إنسان خاسر، إلا مَن اتصف بالصفات الأربع المذكورة.
[4] رواه أحمد ومسلم عن صهيب.
[5] رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
[6] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن شداد بن أوس، ورمز السيوطي لضعفه.
[7] رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
[8] رواه أبو الشيخ في "التوبيخ"، والطبراني في "الأوسط"، ورمز السيوطي لضعفه.
[9] من "القواعد الحسان لتفسير القرآن"، للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، (102-106).
[10] "روضة المحبين"؛ لابن القيم (ص: 9).
[11] انظر: كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"؛ للشيخ ابن القيم، (صفحة: 45).
[12] من شهد هذه الشهادة أدخله الله الجنة على ما كان من العمل؛ لحديث عبادة بن الصامت، متفق عليه.
[13] وهذه أصول الإيمان الستة التي لا يصح بدونها.
[14] من رضي بذلك ذاق طعم الإيمان، وغُفر له ذنبه، ووجبت له الجنة، وكان حقًّا على الله أن يرضيه، كما في الأحاديث الصحيحة التي رواها مسلم وغيره.
[15] وهذه كلمة الإخلاص، مَن قالها عن علم ويقين، وإخلاص وصِدق، ومحبة وانقياد، وقبول لها ولما دلَّتْ عليه من الأوامر والنواهي - حرَّمه الله على النار، ووجبت له الجنة؛ للأحاديث الصحيحة في هذا المعنى.
[16] وهذه الكلمات هي غراس الجنة، وأحبُّ الكلامِ إلى الله.
[17] وقد ذكر ابن القيم أربعين فائدة للصلاة على النبي e، انظر كتابه "جلاء الأفهام" (ص: 302 -310)، وانظر: "بهجة الناظرين"؛ للمؤلف (ص: 269-271).
[18] "التفسير العصري القديم" (جـ3)، وانظر كتاب "الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب"؛ تأليف أحمد بن حجر آل بوطامي، قاضي المحكمة الشرعية بدولة قطر (117 - 119).
[19] رواه البخاري ومسلم.
[20] رواه أحمد عن معاذ، ورمز السيوطيُّ لصحته.
[21] متفق عليه.
[22] رواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه.
[23] رواه الإمام أحمد.
[24] مجلة الدعوة عدد (600) في (28/ 5/ 1397) هـ.
[25] العاملون عليها من خير وشر، ويُنشر له يوم القيامة ديوان أعماله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها، فيجزَى بما عمل.
[26] رواه الطبراني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
[27] رواه البخاري.
[28] رواه الحاكم وصححه.
[29] رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[30] ملاحظة هامة:
اعتاد بعضُ الجهَّال إذا حصلت له مشكلة أن يقول (لا حول الله)، وهذا خطأ عظيم؛ لأنَّه بهذا الأسلوب ينفي الحول عن الله - تعالى - والواجب أن يقال: لا حَوْلَ ولا قوَّة إلاَّ بالله.
[31] رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، وقد حسَّنه بعضهم، وصحَّحه آخرون؛ انظر كشف الخفا (56، 57).
[32] انظر: "النصوص الأدبية"؛ للسنة الثالثة المتوسطة في المعاهد العلمية (94).
[33] انظر المطالعة العربية للسنة الثالثة المتوسطة في المعاهد العلمية (141، 142).
[34] انظر: "الطب النبوي"؛ لابن القيم (2).
[35] انظر: "بهجة الناظرين"؛ للمؤلف (220).
[36] فإنَّه تفسير سلفي عصري، واضح جلي، ويُعنَى بالمعاني والأحكام.
[37] الأوار: حرُّ النار والشمس، والعطش واللهب.
[38] رواه البخاري ومسلم.
[39] بقلم الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البعادي.
[40] انظر: "سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ لابن هشام (1/359).
[41] رواه مالك في الموطأ، وغيره، وهو صحيح.
[42] لم أجده.
[43] متفق عليه.
[44] البخاري (3/ 170 - 171) كتاب الصلح، مسلم (3/ 83) كتاب الزكاة.
[45] رواه أبو داود (5/ 218) كتاب الأدب، والترمذي (5/ 663) كتاب صفة القيامة، وقال: هذا حديث صحيح.
[46] ذكره ابن كثير في التفسير (2/ 305) وقال: إنَّ الحديث رواه أبو يعلى، وذكر إسناده، فقال: وإسناد الحديث ضعيف.
[47] البخاري (8/ 45) كتاب الاستئذان، مسلم (4/ 1984) كتاب البر والصلة والأدب.
[48] البخاري (7/ 91) كتاب الأدب، مسلم (8/ 8) كتاب البر والصلة.
[49] أحمد (4/ 286)، والطبراني في الكبير، وغيرهما، وهو حسن بمجموع طرقه.
[50] مسلم (8/ 12) كتاب البر والصلة.
[51] مسلم (8/ 1) كتاب البر والصلة.
[52] أحمد وأبو داود (5/ 215)، وإسناده صحيح.
[53] رواه الترمذي (4/ 664)، وأحمد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى البزار، وقال إسناده جيد.
[54] الترمذي (4/ 663، 664)، وقال: هذا حديث صحيح.
[55] ورد في مسلم بلفظين عن أبي هريرة (ترفع وتفتح أبواب الجنة).
[56] أبو داود (5/ 208، 209) عن إبراهيم بن أبي أسيد عن جده، وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 272) عن هذا الحديث: لا يصح؛ انتهى.
[57] المستدرك.
[58] رواه البخاري ومسلم.
[59] أبو داود (5/ 194)، وغيره، وهو حديث صحيح.
[60] أبو داود (5/ 195)، وإسناد ضعيف.
[61] رواه ابن ماجه، وله طرق لعلَّه يرتقي بها إلى درجة الحسن، والمكس: الجباية ظلمًا.
[62] في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
[63] رواه البخاري.
[64] انظر الكتب الآتية:
1 "مجموعة التوحيد النجدية" (209).
2 "الابتعاث ومخاطره"؛ للشيخ محمد لطفي الصباغ.
3 "حكم السفر إلى بلاد المشركين"؛ للشيخ حمد بن علي بن عتيق.
4 "الخطب المنبرية في المناسبات العصرية"؛ للدكتور صالح الفوزان (1/148).
5 "الضياء اللامع من الخطب الجوامع"؛ للشيخ محمد الصالح العثيمين (356).
[65] وقال e : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لِمَا جئت به))، قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحُجَّة بإسناد صحيح.
[66] رواه البخاري.
[67] رواه أبو داود بإسناد حسن.
[68] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
[69] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[70] رواه مسلم.
[71] رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة بن اليمان.
[72] رواه أبو داود عن سالم بن أبي الجعد.
[73] رواه مسلم.
[74] رواه أحمد والترمذي والنسائي.
[75] أخرجه ابن جرير عن سعد بن أبي وقَّاص مرفوعًا، ورواه ابن أبي حاتم بمثله.
[76] ويُقرأ لعلاج القلق أيضًا رسالة: "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"؛ للشيخ عبدالرحمن السعدي، وأسباب شرح الصدر لابن القيم في "زاد المعاد" (2/ 23-28) بتحقيق الأرناؤوط.
[77] انظر "لطائف المعارف"؛ للثعالبي (5/ 23)، و"الأوائل"؛ للعسكري، و"المعارف"؛ لابن قتيبة (240).
[78] انظر: تهذيب مجمع الأمثال للميداني (ص: 76).
[79] من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
[80] وفي الحديث: ((إنَّ من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط))؛ رواه أبو داود وهو حسن، وفي الحديث الصحيح: ((ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرفَ كبيرنا - وفي رواية: حق كبيرنا))؛ رواه أبو داود، والترمذي وصححه.
[81] وفي الحديث: مهلاً عن الله مهلاً؛ إنه لولا أشياخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع، لصب عليكم البلاء صبًّا؛ رواه البزار وغيره.
[82] من الشيخ عبدالرحمن الحماد العمر.
[83] رواه مسلم.
[84] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[85] رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة، وصحَّحه السيوطي والعراقي.
[86] رواه البخاري ومسلم.
[87] رواه البخاري ومسلم.
[88] قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
[89] رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية.
[90] كما في الحديث الذي رواه البخاري.
[91] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
[92] هذه حِكمة تُروى عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه.
[93] رواه البخاري ومسلم.
[94] انظر هذا الحديث في "الوابل الصيب"؛ لابن القيم، بتحقيق إسماعيل الأنصاري (176).
[95] من كتاب منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري (129-133).
[96] لم أقف على من خرَّجه، ولعلَّه أثر من آثار الصحابة - رضي الله عنهم - وليس بحديث نبوي، والله أعلم.
[97] البخاري.
[98] الخوان: ما يؤكل عليه، والسكرجه: إناء صغير، وكان يأكل على السفرة.
[99] البخاري.
[100] رواه البخاري ومسلم.
[101] أبو داود.
[102] أبو داود والترمذي وصححه
[103] أبو داود والترمذي وصححه
[104] أبو داود. [متفق عليه]
[105] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[106] أبو داود والترمذي وحسنه.
[107] مسلم.
[108] مسلم.
[109] متفق عليه.
[110] الترمذي وصححهما.
[111] الترمذي وصححهما.
[112] أحمد وابن ماجه والحاكم (حسن).
[113] متفق عليه.
[114] متفق عليه.
[115] من كتاب "منهاج المسلم" لأبي بكر الجزائري (141- 143).
[116] متفق عليه.
[117] أبو داود بإسناد حسن.
[118] متفق عليه.
[119] النسائي والحاكم وصححه.
[120] البخاري.
[121] البخاري.
[122] مسلم.
[123] مسلم.
[124] مسلم.
[125] البخاري.
[126] البخاري.
[127] مسلم.
[128] مسلم.
[129] أبو داود والترمذي وحسنه.
[130] رواه أهل السنن الأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
[131] من كتاب "الخطب الطوالع والحكم الجوامع" للشيخ إبراهيم بن علي الناصر (285).
[132] رواه أحمد والترمذي والبيهقي في شعب الإيمان، ورمز السيوطي لحسنه.
[133] رواه أحمد والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان، ورمز السيوطي لحسنه.
[134] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[135] رواه أحمد والترمذي والنسائي، ورمز السيوطي لصحته.
[136] رواه الطبراني في الأوسط والحاكم، وقال صحيح الإسناد.
[137] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[138] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[139] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[140] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
[141] رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح.
[142] رواه البخاري ومسلم.
[143] رواه الحاكم من حديث أبي هريرة، ورمز السيوطي لصحته.
[144] رواه الحاكم وصححه.
[145] في حديث رواه البخاري في صحيحه، عن سمرة بن جندب.
[146] انظر "روضة المحبين" لابن القيم (358، 361)، ورسالة "خطر الجريمة الخلقية" (10).
[147] رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة، وقال: صحيح الإسناد.
[148] انظر: روضة المحبين لابن القيم (90- 102)، والجواب الكافي له (205-208).
[149] (من رسالة خطر الجريمة الخلقية) (13، 15).
[150] تفسير ابن سعدي (5/201 – 202)، ط1.
[151] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[152] قال أبو داود في سننه (4/ 64) : هذا لأزواج النبي e خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم الأعمى بأمر النبي e كما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي ومسلم بمعناه (انظر منتقى الأخبار 2/ 654).
[153] رواه مسلم.
[154] رواه البخاري ومسلم.
[155] رواه أحمد.
[156] روضة المحبين لابن القيم (90- 102)، والجواب الكافي له (205-208).