×
كتيب يبين معالم مهمة لتجديد المودة الزوجية، وبعض الوسائل التي يمكن التعبير بها عن الحب بين الزوجين.

 معالم مهمة لتجديد المودة الزوجية

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه من والاه، أما بعد:

في الحياة قيم نبيلة متعددة تجعل من وجودنا شيئًا يبعث على الرضى والسعادة، ونظل ما حيينا نبحث – بوسائل شتى – بأفكارنا.. وطاقاتنا.. وعواطفنا.. عن كل شيء – أي شيء – يجعل من حياتنا هادئة مطمئنة ساكنة.

وتظل المعطيات التي تشكل بأبعادها وجودنا في أوسع معانيه؛ تجبرنا – إذا ما شئنا السعادة حقًا – على أن نتأملها واحدة.. واحدة.. وأن نحترم أبعادها بعدًا.. بعدًا..

فكما أن وجودنا على وجه البسيطة ليس محض صدفة عابثة.. وإنما أوجدنا وأتقن خلقنا الله الذي أتقن كل شيء.. فكذلك وجود العلاقة في وجودنا لم يكن إلا ناموسًا أتقن الله إيجاده وتشريعه وفطر الحياة عليه..

فالبعد الروحي في وجودنا يمثل جوهر السعادة في حياتنا.. فلا يمكن لنا أن نتذوق طعمها إلا بتحقيق العبودية للخالق بكل مفرداتها.. فهذا البعد هو النور الذي به نحيا.. ونسعد.. ونخطو في الحياة }أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا{ [الأنعام: 221].

ويبقى البعد النفسي والجسدي والاجتماعي مفردات تندرج تحت مفهوم العبادة الشامل وأسسًا لا يمكن تحقيق السعادة إلا بتكاملها جميعًا.

وفي هذا الإطار تأتي العلاقة الزوجية لتمد ظلالها على كل تلك الأبعاد وتفرض نفسها عليها جميعًا.. بشكل قاطع حاسم.. فإذا تلك الأبعاد.. دونما تلك العلاقة وكأنها خداج.. خداج.. خداج!

ومن خداجها أن يفقد صاحب الدين كماله! وأن تضطرب النفوس.. وتتعكر عافية الأبدان.. وتختل التركيبة الاجتماعية في الإنسان.

ألم تسمع قول رسول الله ﷺ‬ وهو يقول: «من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني» [رواه ابن حبان].

وقوله ﷺ‬ أيضًا: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» [رواه ابن حبان].

وقوله ﷺ‬: «الدنيا متاعه وخير متاعها المرأة الصالحة» [رواه مسلم].

فهذه الأحاديث وغيرها مما في معناها تدل على أبعاد السعادة جميعها ترتكز بشكل كبير على العاطفة الزوجية، ففي قوله ﷺ‬: «فقد أعانه على نصف دينه» دلالة صريحة على اكتمال البعد الروحي بالمودة الزوجية، وكذلك الأمر بالنسبة للبعد النفسي والاجتماعي والجسدي لمن تأمل الأحاديث في هذا الباب، ولهذا نجد القرآن الكريم تطرق في أكثر من آية للعلاقة الزوجية وجعلها أساس التكامل والسكينة فمن ذلك قول الله جل وعلا: }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا{ [الأعراف: 189].

وهل الحياة إلا السكينة! وهل السعادة إلا السكينة!!

وفي هذا دليل على أن المودة الزوجية هي باب عظيم من أبواب السعادة، وأن غيابها عن العلاقة الزوجية وموتها في الحياة الأسرية هو علامة شقاء نفسي تتنكد معه الحياة.

فما هي المفاتيح التي يمكن بها تجديد المودة والرحمة والحب بين الزوجين.

* * * *


الإيمان بالله

الإيمان بالله جل وعلا هو الأساس الصلب الذي يقوم عليه صرح المودة الزوجية.. فالإيمان هو ما يجعل تلك المودة عبادة يتقرب بها الزوجان إلى الله سبحانه.. ويلتمسان بصفاء حبهما ومودتهما ورحمتهما لبعضهما الأجر والمثوبة.

فالزوج في وده لزوجته يمثل لقول الله جل وعلا: }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ [النساء: 19] وفي كلمة [المعروف] تترامى كل معاني الفضيلة. والنقاء.. والإخلاص.. والمودة.. والرحمة.. والعدل.. والخلق الطيب!

والزوجة أيضًا حينما تود زوجها وتحبه تمثل لقول الله جل وعلا: }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ [البقرة: 228].

فالإيمان يجعل كلا الزوجين يتعبدان الله جل وعلا بعشرتهما.. ويتقاسمان في تلك العشرة المسئوليات التي فرضها الله على كل منهما.

وفي السنة أحاديث كثيرة تحث على عناية الرجال بالنساء، وطاعة النساء للرجال.. وكلها – إذا تأملناها – تدور على محور واحد هو تحقيق المودة والرحمة والحب، والخلق الطيب في العلاقة الزوجية. قال رسول الله ﷺ‬: «أكمل المؤمنين إيمانًا وأحسنهم خلقًا ألطفهم بأهله» [رواه الترمذي].

وقال ﷺ‬ أيضًا: «خيركم خيركم لنسائه وأنا خيركم لنسائي» [رواه الترمذي].

وعن أبي هريرة t: سئل رسول الله ﷺ‬ أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذ نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله بما يكره» [رواه النسائي].

والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جدًا.

لكننا في هذا الكتاب لسنا بصدد سرد الحقوق الزوجية حقًا حقًا، وإنما الإشارة في معالم مهمة إلى المفاتيح التي تجعل من أداء تلك الحقوق شيئًا سهلاً على النفوس، وأول تلك المعالم وأعلاها هو خوف الله جل وعلا والتعبد له بالعشرة الصالحة الطيبة التي هي من مقتضيات الإيمان بالله جل وعلا.

ولابد للزوجين أن يعلما أن لهما على كل ودر.. ومحبة.. ورحمة.. ومعاملة طيبة تسوء علاقتهما أجرًا ومثوبة كيف لا وقد بين الرسول ﷺ‬ في الحديث أن لهما على جماعهما ومعاشرتهما أجرًا، فقد سأله الصحابة رضوان الله عليهم: «أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [رواه مسلم].

* * * *


الـحــب

الحب.. كلمة رقيقة تختزل في رقتها كل معاني العواطف النبيلة.. لكن هل يكون جوهرها على نقائه وصفائه غامضًا من حيث ماهيته وحقيقته.. بينما تظل معانيه ممثلة في الانجذاب والميل والمتابعة وغيرها من المعاني السامية قائمة ما أقام ذاك الجوهر في الوجدان!

وهذا.. ما يجعل «الحب في العلاقة الزوجية» هو أعظم دليل إلى نجاحها بعد الإيمان بالله جل وعلا.

ففي الحب الطاهر الخالص تنحصر العلاقة الزوجية انحصارًا عظيمًا.. ثم تأخذ – باسم الله – مجراها في كل ينابيعه ومسالكه العميقة الغائرة في النفس، حتى إذا استوفت انصهارها فيها.. استقرت ورست.. على نحو يستحيل معه الفكاك..

ومن الحب وحده.. يتولد كل شيء! فله قدرة مدهشة على أن يجبرك على أن تقول الشعر ولست بشاعر!

وأن تقول ما تخجل من قوله! وأن تلين وإن كنت غليظًا! وأن تحن وإن كنت قاسيًا! وأن تستعذب فيمن تحب ما كنت بالأمس تستقذره!

ولذا فإن سر المودة الزوجية يكمن فيه وحده! كينونتها.. وكمالها.. وبقاؤها كل ذلك يعتمد على مدى الحب الذي يسكن قلب الزوجين.

فالزوج الذي يحب زوجته.. لا يقف عند حدود أداء حقوقها.. وإنما يتفاني بكل شيء لا محظور فيه ليسعدها ويرضيها.. حتى إن تفانيه في ذلك ليأتي بشكل تلقائي لا كلفة فيه.. والشيء نفسه ينطبق على الزوجة المحبة لزوجها.

فالكلام الطيب.. والابتسامة العذبة.. والنظرة الآسرة.. والحنان.. والمودة والرحمة.. والاحتمال والتغاضي عن ألأخطاء.. والتسامح.. والتعاطف.. والرفق.. والانجذاب.. كلها بعض ثمرات الحب الصادق الذي يسود العلاقة الزوجية، وتزداد تلك الثمرات حلاوة وطراوة كلما كان الحب أخلص وأصدق!

ومن العجيب أن بذرة الحب بذرة طيبة، فأحيانًا تنمو بذاتها دونما أن تحوجنا إلى فعل شيء! وأحيانًا أخرى يحتاج إلى نموه إلى بذل جهد حتى يخرج نباته بإذن ربه.

ومخطئ من ظن يومًا أن زواجًا لم تسبقه قصة حب هو زوج فاشل!

مخطئ.. ليس فقط لأن الوقائع تكذب ذلك ولكن أيضًا – لأن مساحة القلب أرحب من أن تضيق بالحب بعد الزواج!

يقولون: كي تكون متحضرًا لابد أن تكون مثقفًا، حسنًا – فالحب ظاهرة إنسانية تحكمها قوانين العلوم الإنسانية.. هكذا تقول الثقافة.. ونقول أيضًا: إن الظواهر الإنسانية هي ظواهر متجددة، خفية، ومتغيرة في الإنسان.. لها أسباب توجب وجودها وأخرى تدفعها إلى الزوال، وإذا أعملنا هذه الثقافة في واقع الحال.. نجد أن العلاقة الزوجية هي أخصب تربة لأطيب حب! وأن أي علاقة محرمة – فيها حب – هي إلى الزوال أقرب منها إلى البقاء، فالعلاقة الزوجية والعلاقة المحرمة تشتركان في استحسان العلاقة في أول نظرة! لكن تبقى العلاقة الزوجية – بميثاقها الغليظ – قوية البنيان.. صلبة الأركان.. واضحة لا خفاء فيها.. متينة تشق طريقها في اتجاه الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. فهي العش الدافئ الذي تجد فيه القلوب سكينتها.. وعواطفهما.. وتطير به في رحاب الحياة..

وعلى كل زوج.. وزوجة يريدان لحياتهما السعادة.. ولعلاقتهما النجاح أن يتأملا مليًا في هذه الزاوية من عواطفهما.. سيجدان أنهما يمتلكان الأرضية الخصبة لنمائها وتعاهدها من حين لآخر.. ما داما يشتركان في قواسم كثيرة في رابطتهما الزوجية.

ومن الوسائل التي تنمو بها المحبة والمودة أيضًا.

* * * *


التعـبـير

إذا كان الحب هو نبض المودة الزوجية وجوهرها.. فإن التعبير عنه هو ما يضمن تلاقي العواطف بين الزوجين وتواصلها.. فالزوج المقصر في التعبير عن حبه لزوجته.. وإن يكن يشعر بحبها – يعيش حالة انقطاع عاطفي بينها وبينه.. فيكون وجود حبه الخفي في قلبه كعدمه! والشيء نفسه يصدق على الزوجة كذلك.

لا شيء يمكن أن يقارن في هذا المجال – بقدرة الزوجين عن التعبير عن الأحاسيس الرقيقة بالعبارات الرقيقة.. وكل وسيلة تصل بالمودة إلى أعماق القلوب..

* * * *


 ومن الوسائل التي يمكن التعبير بها

الكلمة الحانية: من أنواع السحر: سحر العطف وسحر الصرف! فسحر العطف يجعل القلوب منصهرة في بعضها.. وسحر الصرف بعكس ذلك.. هذا يعرفه كثير من الناس! لكن ما يجهله أكثرهم أن للتعبير ما للسحر من التأثير.. لذلك قال رسول الله ﷺ‬: «إن من البيان لسحرًا».

فحينما يتقن الزوج بيان حبه لزوجته بأعذب عبارة في عرفه ولغته.. وحينما يمتلك مهارات التعبير.. بالشكل المناسب في الوقت المناسب.. فحينها يكون سحره في عطف قلبه الزوجة أسحر من هاروت وماروت.

طبيعة النفس أن تحب الكلمة الطيبة.. وطبيعة الزوجة أن تحب سماع ذلك من الزوج.. وأبغض ما تبغض فيه أن تراه بخيلاً في إبداء عواطفه ومشاعره.

ولك أن تتأمل.. وتتساءل عن السر في جواز الكذب في الحياة الزوجية في هذا الباب!

فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا» قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والصلح بن الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها» [رواه البخاري ومسلم].

النظرة الآسرة: فإذا كان أشعر ما قالته العرب هو قول الشاعر:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيينا قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له

وهن اضعف خلق الله إنسانا

فإن غيره قد جسد يعدًا آخر لجمال العين.. يجعل من العيون كيفما كان شكلها ولونها.. جميلة.. غاية في الجمال.. حيث قال في عبارته الوجيزة.. «إن الجمال في عين الناظر»!.

فهيئة نظرة العين.. أجمل ما في العين! لذلك فإن العين الجميلة المجردة عن هيئة النظرة الجميلة.. كالجسد المجرد عن الروح.. فلهيئة النظرة حس ولغة.. إذا أتقن كل من الزوجين توظيفها في عثرتهما كفتهما عن الكلام..!

وكما أن لعين الحاسد بريقًا خاطفًا في نظراته.؟. ولعين الحاقد قسوة تتحجر فويق حواجبه.. فلعين المحب روحًا تتكلم.. بل وتبتسم أيضًا.. فإذا إشراقها كإشراف الصباح.

* القبلة: تروي عائشة رضي الله عنها وتقول: «كان رسول الله ﷺ‬ يقبلني وهو صائم».

أخذ العلماء من هذا الحديث جواز تقبيل الزوجة في الصيام لمن يجد في نفسه القدرة على إمساك إربه.

وفي الحديث أيضًا دليل على أن القبلة من المعاني الطيبة للعشرة الزوجية الناجحة.

وللقبلة تأثير عجيب في توطيد المودة الزوجي.. فهي ليست دائمًا تأتي بدافع المعاشرة بمعناها الواسع.. كما أن لها أحيانًا لمسات تتجاوز معانيها حدود الشهوة.. ويرى تأثيرها في الروح والجسد بشكل غامض في جو من التلاحم والتراحم والحنان والانصهار تتلاشي فيه كل المعضلات التي قد تعكر صفو المودة الزوجية. فلا شيء يسكت به الزوج فم زوجته كالقبلة الحارة العذبة.. بين الحين والآخر.

* الهدية: وهي أيضًا من وسائل التعبير المهمة عن المودة والاهتمام.. تجبر كسر النفوس إذا كانت عقيب خصام.. فهي من دواعي تجديد المحبة كما قال رسول الله ﷺ‬: «تهادوا تحابوا» وتستحسن أيضًا في الأعياد والمسرات والمناسبات والأوقات بحسب الأعراف.. لكنها في العلاقة الزوجية.. أوسع شمولاً من ذلك.. فهي لا ترتبط بالمناسبات والأعياد.. والصلح فقط.. وإنما ترتبط بما في همة الزوجين من استعداد لتجديد المودة كل وقت وحين؛ فالهدية حينما يكسوها عنصر المفاجأة.. ولا تكون المناسبة فيها إلا التعبير عن المودة؛ تكون أشد وقعًا على النفس وأبعث على امتلاكها.. لا سيما حينما تكون بالأسلوب الشيق.. العذب..

وليس ضروريًا أن تكون الهدية باهظة الثمن.. وإنما المقصود معناها.. وأسلوبها.. فذاط ما يلفت عاطفة القلوب النقية.. ويأسرها.


 التـوحـد

التوحد.. هو أسمى حالات الانسجام النفسي والعاطفي بين الزوجين.. وهو ضروري جدًا في العلاقة الزوجية.

فالتوحد شعور يغمر نفسية كل من الزوج وزوجته ليجعل من الاثنين واحدًا متحديًا كل قواعد الرياضيات ومنطقها.. فالأبعاد النفسية في الإنسان أعمق وأغمض من أن تحكمها القواعد العلمية.

يظل الذكر ذكرًا.ز والأنثى أنثى.. }وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى{ لكن النفس التي منها خلق الله الأنثى تأبى إلا أن تشعر بالنقص الشديد.. وبحاجتها إلى الكمال بالتوحد من جديد مع زوجها! قال تعالى: }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا{ [الأعراف: 189].

وقال تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً{ [الروم: 21].

* * * *


ومن مفردات التوحد

* التوحد في الشعور والوجدان:

وهو أجمل شيء يجعل من المودة الزوجية حياة ناجحة طيبة، فكأن للزوجين بهذا الشعور قلبًا واحدًا! فما يكنه الزوج من الحب والإخلاص والنقاء لزوجه.. تكنه الزوجة أيضًا.. فإذا بنبضات قلبيهما تتناغم في توحد هذا الشعور.. تناغمًا يغدو في العلاقة الزوجة كالروح للجسد..

والشعور بالتوحد في المودة والحب.. أسمي من الحب نفسه! فقد يجب الرجل زوجته لكن لا يجد منها الشعور نفسه لسبب أو آخر! والعكس بالنسبة للزوجة.. لكن حينما تستيقن القلوب بكل وسائل التعبير أن التوحد يغمرها.. هنا.. فقط تكون المودة الزوجية في أسمى منازلها الرفيعة! وللتوحد في الشعور حلاوة يهون أمامها كا مرير! فهذا الشعور وحده كفيل بأن يزيح كل شيء يهدد العلاقة بين الزوجين مهما كان شأنه.. لأنه كما يفرض على النفس أن تكون مخلصة وفية.. فهو يفرض عليها أن تحضي بكل غالٍ ونفيس لأجل من تحب، ولذلك فإن من ثمراته:

* التوحيد في المسرات والأحزان:

طبيعة الحياة.. مسرات ونكد.. وفي الحياة الزوجية أيضًا مسرات ونكد.. لكن المودة الزوجية الناجحة تبقى ثابتة لا تهزها طبيعة الحياة.. بل تزيد من مستواها.. فحينما يشترك الزوجان في كل سراء وضراء تصيبها أو تصيب أحدهما. وحينما تتوحد الأحزان والدموع.. والابتسامات والأفراح.. في كل الظروف المحيطة بهما تكون الحياة الزوجية في أطيب لحظاتها..

تمضي الأحزان.. وتنقضي المصائب.. لكن تبقى لحظات التآزر والتوحد والنصرة فيها شاهدة على المودة الخالصة.. تزيد من شموخها.. وتضيف إلى سجل ذكرياتها واحدة من أجمل حكاياتها الخالدة.. وأكثرها وفاء!

* التوحد في العبادات:

عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا – أو صلي – ركعتين جميعًا؛ كتبا في الذاكرين والذاكرات» [رواه أبو داود].

هذا في قيام الليل.. وهو من أقوم العبادات.. وفي تعاون الزوجين على القيام بهذه العبادة.. في صف واحد.. في وقت مبارك واحد.. معنى زوائد على قيام الليل!

فكما أن من ثمرات صلاة الفريضة في جماعة توحيد المسلمين.. ومن ثمرات الجمعة ذلك أيضًا.. فكذلك لقيام الزوجين معًا في ظلمة الليل لعبادة الله ثمرات يانعة وتوحد.. وإن كان القصر هو وجه الله سبحانه..

وهذه الخصلة الطيبة واحدة من خصال كثير يحسن بالزوجين الحرص عليها.. كتلاوة القرآن في جلسة واحدة.. والقيامة بالعمرة.. وتقاسم الهموم الدعوية ومناقشتها في برنامج واحد.. ومدارسة الأعمال الخيرية وإنجازها.. ونحو ذلك من أ‘مال البر التي توحد الزوجين في جو روحاني تزداد به المودة سموًا وشرفًا!

* التوحد في العادات والرغبات:

ومن مفردات التوحد، التوحد في العادات عمومًا.. وهذه الناحية يلعب فيها الزوج دورًا رئيسًا؛ لأنه المَعْنِيُّ بالتنازل عن عاداته التي لا محظور في التنازل عنها.. ففي عمله هذا تدليل للزوجة.. ومجاراة لطبيعتها المحبة للتدلل، وتفاني الزوج في إرضائها..

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى عن عائشة أن رسول الله ﷺ‬ كانت إذا اشتهت شيئًا لا محظور فيه تابعها عليه.. وقد كان ﷺ‬ خير الناس لأهله..! فيحسن بالزوج أن يكون كذلك وأن يتوحد مع زوجته وشريكه حياته في رغباتها الجائزة والمستحبة والواجبة، فليس ثمة ما يخسره.. لكنه في الوقت نفسه يربح نفسيتها.. ويكسب بطيب خلقه ودها – وقد كان ﷺ‬ ينزل عند رغبات عائشة فسابقها في الْعَدْوِ، فسبقته يومًا، وسبقها في بعض الأيام، فقال ﷺ‬: «هذه بتلك» [رواه أبو داود].

وروي ﷺ‬ أنه كانت إذا شربت شرب من المكان نفسه الذي شربت منه ووضعه فيه فاها، وفي هذا المشهد لفتة آسرة دالة على أن الحرص على كل الرموز المباحة التي توحد بيت الزوجين فيه أثر عظيم على غرس المودة الزوجية بين الزوجين.


 الملاطفة والمعاشرة بالمعروف

لم يغفل الفقهاء القدامى – رحمهم الله رحمة واسعة – هذا الجانب المهم في الحياة الزوجية في اجتهاداتهم الفقهية، بل دونوه في ثنايا الأحكام الشرعية، وجعلوه جزءًا لا يتجزأ من أحكام النكاح..

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: «ويستحب أن يلاعب امرأته قبل الجماع لتنهض شهوتها فتنال من لذة الجماع مثل ما ناله، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «لا تواقعها إلا وقد أتاها من الشهوة مثل ما أتاك، لكيلا تسبقها بالفراغ قلت وذلك إلى أن قال: نعم. إنك تقبلها وتغمزها وتلمزها، فإذا رأيت أنه قد جاءها مثل ما جاءك واقعتها» فإن فرغ قبلها كره له النزع حتى تفرغ؛ لما روي أنس t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «إذا جامع الرجل أهله فليقصدها ثم إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» ولأن في ذلك ضررًا عليها ومنعًا لها من قضاء شهوتها» [المغني بالشرح الكبير (8/136)].

وفي هذا التأصيل الفقهي لمسألة المعاشرة الزوجية (الجماع) إشارة إلى مفتاح آخر من مفاتيح المودة الزوجية، فالمعاشرة حق مشترك بين الزوجين فكما لا يحل للمرأة الامتناع عن زوجها وهجران فراشه، فلا يجوز للزوج أن يحرم أهله من حق الفراش، أو أن يكون أنانيًا في معاشرته.. أو أن يبادر دونما تمهيدًا.

وما نقصده هنا ليس هو المعاشرة نفسها.. وإنما مراعاة عنصر التوحد الوجداني فيها.. وتجسيد ذلك في المداعبة.. والملاطفة.. وطرف الحديث والمشاعر الرقيقة.. على نحو ما سبق فإن ذلك أحرى أن يؤدم بين الزوجين ويحفظ المودة بينهما.

وفي شأن التغليظ على الزوجة الممتنعة عن زوجها جاءت الأحاديث زاجرة ناهية محذرة إياها من العواقب الوخيمة، قال رسول الله ﷺ‬: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» [رواه البخاري].

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الرجل إذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها: فهل عليه إثم أم لا؟ وهل يطالب الزوج بذلك؟

فأجاب: يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف؛ وهو من أوكد حقها عليه أعظم من إطعامها.

«والوطء والواجب» قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل: بقدر حاجتها وقدرته؛ كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته. وهذا أصح القولين، والله أعلم» [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (32/271)].

* * * *


 المسئولية

تقاسم الأدوار في أداء المسئوليات من أهم الأمور التي تضفي على العلاقة الزوجية ملح السعادة.

وفي الحديث عن النبي ﷺ‬ قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم» [رواه البخاري].

وعن عمرو بن الأحوص t أنه سمع رسول الله ﷺ‬ يقول في حجة الوداع: «ألا وإن لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقًا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم ممن تكرهون» [رواه الترمذي].

وباستقراء نصوص الكتاب والسنة نجد الإسلام قد جعل للزوجة حقوقًا على زوجها، كما جعل للزوج حقوقًا على زوجته، كما جعل بينهما مسؤوليات مشتركة في حياتهما الزوجية، وإن احترام هذه الحقوق في الحياة الزوجية والقيام بما تقتضيه من مسئوليات لَيجعل من العلاقة الزوجية علاقة ناجحة عارية عن المشاكل والخلافات.

فالحقوق التي أوجبها الله على كل من الزوجين.. هي معالم للحياة الطيبة.. فهو سبحانه أعلم بخلقه.. وأرحم بهم.. لذلك فكل تشريع جاء في العلاقة الزوجية فإنما هو منهج رباني تسعد به الأسرة جميعها.. وتجني من اقتنائه سعادتها في الدنيا والآخرة.

فالحب.. والمودة.. والتوحد هي بذور لا يمكن أن يكتب لها النماء.. ما لم تكن ترتبها نقية من كل شوائب الجاهلية والتغريب.. والتقليد الأعمى.. وحتى إذا نمت.. فما تفتأ تذبل ولا يكتب لها بقاء..

ولأجل هذا فإن المودة الزوجية لا يستقيم عودها إلا باتباع منهج الله وحده في أداء المسئوليات والحقوق دونما التأثر بالثقافات الوافدة والعادات المهربة، قال تعالى: }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{ [الأحزاب: 63].

وقد قضى الله جل وعلا على الزوجة بحقوق على زوجها، وأهمها: طاعته في المعروف.

فعن أنس t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» [رواه الترمذي وصححه الألباني].

وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت» [رواه أحمد].

فطاعة المرأة لزوجها في المعروف واجبة باتفاق أهل العلم، وهو من آكد الحقوق، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج» [مجموع الفتاوى (32/260)].

وهذا الحق يقتضي أن يكون الزوج هو القوام في البيت وأن يكون شخصًا يخاف الله في السر والعلن ولديه قدرة في تحمل المسئولية؛ لقوله جل وعلا: }الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ{ [النساء: 34].

ومن حقوقه عليها ألا تمتنع من فراشه، وأن لا تأذن لأحد بغير رضاه في بيته، وألا تقوم إلا بإذنه، وأن تحفظه في غيبته وحضوره، وأن ترعاه في ماله وولده، وأن تقنع بعيشه، وأن تصون أسراره، وتشكر أفضاله وتبر أرحامه، وتحفظه في دينه وعرضه.

كما قضى الله بحقوق للزوجة على زوجها، وأهمها: أن يعاشرها بالمعروف، وأن يستوصي بها خيرًا؛ لقول الرسول ﷺ‬: «اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف». [رواه مسلم].

وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «إني أُحْرَجُ حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» [رواه أحمد].

ومن حقوقها عليه أن يصون سرها ويحفظ ودها ويأذن لها بالخروج لحاجاتها الماسة، ولا يمنعها المساجد، وألا يطرق بابها ليلاً إذا جاء من سفر، وأن لا يجبرها على معصية، وأن يقيها النار بحثها على الطاعة، وأن يصبر على غيرتها، وأن ينفق عليها، وأن يبر أهلها وأن لا يظلمها في نفسها ولا مالها، وأن يصوم عرضها ودينها.

فهذه جملة مختصرة من المسؤوليات الواجبة على الزوجين، وبمراعاتها تحفظ المودة وتدوم العشرة.


 الاحتمال

كل علاقة زوجية لا تجعل من احتمال الزلات مبدأ في قاموسها لن تنجح! هذا ليس كلامًا إنشائيًّا عاريًّا عن الواقعية ولكنه حقيقة طالما نطقت بها حالات الطلاق المستشرية بقوة في أرجاء المجتمع؛ فأغلب أسباب الطلاق – بحسب ما تفيده الدراسات – تعود في العمق إلى النفسية التي تحكم العلاقة الزوجية، وليس إلى ما قد يتبادر للذهن من خيانة وأخطاء فادحة لا تحتمل!

فالحاجة إلى الاحتمال ملحة في كل علاقة زوجية.. فلابد فيها من أخطاء.. ولا بد فيها من تجاوزات.. ونسيان.. وحوادث.. ومشاكل.. والعفو واحتمال الزلات ضرورة شرعية وكونية في الحياة الزوجية، لذلك قال رسول الله ﷺ‬: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» [رواه مسلم].

وقد كان رسول الله ﷺ‬ مثالاً عمليًا في احتماله لزلات نسائه، فقد راجعت عمرَ امرأته t في الكلام فقال: أتراجعينني يا لكعاء. فقالت: إن أزواج رسول الله ﷺ‬ يراجعنه وهو خير منك».

وتأمل كيف كان رسول الله ﷺ‬ يعالج مشاكل نسائه، فعن أنس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ‬ عند بعض نسائه، وفي رواية عائشة: فأنزلت إليه إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع رسول الله ﷺ‬ فِلَقَ الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان فيه الصحفة، ويقول: «غارت أمكم غارت أمكم». ثم حبس الخادم، حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة إلى التي كسرت صحفها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه» [رواه البخاري].

وإذا كان العفو.. والتجاوز.. والحلم من الأخلاق الفاضلة التي يحرص عليها كل مؤمن ومؤمنة، فإن الحرص عليها في الحياة الزوجية أوكد وأولى؛ لأنها بتلك الأخلاق تصان الأسرة من الفرقة والضياع، وتحفظ المودة والمحبة.

* * * *


 خـاتمـة

تعد المودة الزوجية مصدرًا عظيمًا من مصادر سعادتنا في الحياة.. وفي أكنافها يوجد جزء كبير من السكينة التي ننشدها في عيشنا.

إن المودة الزوجية نعمة عظيمة امتن الله جلَّ وعلا بها على عباده.. }وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً{ [الروم: 21].

وحق النعمة أن تشكر وتحفظ؛ ليدوم عطاؤها، ولتزداد ثمارها وبركاتها.

وإنما تحفظ هذه المودة بتفاني الزوجين وحفظهما للعشرة الزوجية، وما تقتضيه من حب وإخلاص ووفاء ونقاء وصفاء وعواطف ومشاعر، وحفاظ على المسؤوليات ومراعاة للحقوق والواجبات، واحتمال للأخطاء والسيئات.

فلو أن الزوجين رعيا المودة وتعاهداها بالثناء بكل وسيلة مباحة لما كان للخلافات الزوجية قصصًا تروى.. ولا لمشاكل الطلاق حكايات تحكى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.