×
يناقش هذا الكتاب زينة المرأة في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية.

 التبرج


بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:

فقد آلمني أشد الألم، ما بلغت المرأة من المهانة والازدراء بنفسها، إلى الحد الذي تعرض به جسمها وأنوثتها هذا العرض المخجل في الشوارع، والمجامع العامة، والشواطئ، ورأيت أن المجتمع بذكوره وإناثه مغض عن ذلك الفساد بل وراضٍ به، ومغتبط له، ومستمتع به، غير آبه لما يجره ويهوي به في هوة الضلال والكفر بالله وكتابه!

إن وراء ذلك ولابد طامة كبرى، ستحيق بهذا المجتمع، لن ينجو منها إلا الذين ينهون عن السوء ويصرخون في أولئك الهاوين الغافلين لعلهم يفيقون ويرجعون.

فأمسكت قلمي الضعيف؛ لأحاول أن أنهى عن السوء، وأن أدعو إلى الله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

وما أن استعرضت في مخيلتي شتى الصور لتبرج المرأة وتبلد الرجل، وتجرد الاثنين من الحياء والعفاف في هذا العصر المشئوم حتى انفجر بركان غضبي وسخطي لهول ما رأيت، واندلع لهيبه، وقذف على الورق بحمم تحجرت غلظة وقسوة.

وعدت أراجع دراسة وفحص هذا المجتمع الغارق في لجج الغفلة والهوى، السابح في بحر الملذات فإذا بي أعود مشمئزة مقتنعة أشد الاقتناع أنه لا ينبغي أن أستر كلامي عمن تجرد من ثوب الحياء، فلم يستر جسمه العاري، وألا أبالي بسخرية فاسق أو استهزاء من اتخذ آيات الله هزوًا، واستنكار من لا يستنكرون المنكر؛ ذلك لأني أعتقد أن الجهالة والوقاحة لابد أن تقابلا بالشدة والصراحة.

ولأن الذي لا يستحي لا ينبغي أن يستحيا منه وليس بعد هذا التبرج وقاحة وجهالة وعدم حياء من الله ومن الناس. وأن المستغرق في نوم عميق إذا لم يفق بلمسة خفيفة ليتنبه ويتقي الخطر الذي سيحيق به، يجب أن يهز هزة عنيفة، إذا كان هناك شفقة به وعطف عليه، بل يجب أن يوكز ويوكز ويلكم إن لم يستيقظ من الهزات وتمادى في نومه وغفلته.

وعجبًا ألا يخجل المسيء من إساءته ثم يخجل ويشمئز من وصفها! فكيف لا نتألم من قبيح نأتيه ونراه، ونتألم إذا كتبناه وقرأناه؟! وكيف نستنكر كلمات صريحة ولا نستنكر عورات مكشوفة؟! أيكون التخيل أظهر من الواقع، والخيال أوضح من الحقيقة ذاتها؟ وقد قيل: «ليس الخبر كالعيان» واعجبًا أأستحي أن أقول للسارق: «أيها اللص» وهو لا يستحيي من أن يسرق، ويغضب من وصفه باللصوصية؟ فمن منا أولى بالخجل والحياء؟!

إذا كان الوعظ والتحذير ووصف تبرج النساء وتهتكهن وما يسمعن من مستهجن القول وبذيئه من الكلام والذئاب في الشوارع تشمئز منه النفوس فكيف بالعمل نفسه؟

معشر الناس!!!!

إن كانت الحقيقة مؤلمة جارحة فهل يليق بنا أن نتغاضى ونتعامى عنها، مهما كانت قاسية جارحة لئلا نتألم؟ أم يجب أن نواجهها ونحتمل قسوتها؛ لنرعوي عما يضرنا ونتهذب؟

هل من الحكمة والعقل ألا نشرب الدواء لمرارته، أو نترك الصديد في الدمل ولا ننظفه خوفًا من أن يؤلمنا، وألا نمس الجرح ولا نعالجه كيلا نشعر بألمه؟

كلا أيها السادة: بل ينبغي أن نطعن هذا الدمل بالمبضع بشدة؛ لننظفه من الصديد، وأن نكوي الجرح لنطهره، إذا لزم الأمر يجب أن نتواصى بالحق والصبر، وأن نحاول أن ندخل الحق في القلوب بكل ما نستطيع، وبأية طريقة شرعية وبكل لهجة، وليس بعد النصح والإرشاد غاية مقدسة يأمر الله سبحانه بها ورسوله، وتدعو إليها الشفقة الإنسانية الكريمة.

أيها المسلمون!

إنكم تتحمسون وتثورون من أجل حطام الدنيا، من أجل جزء من الأرض انتهكت حرمته، ولا تتحمسون ولا تثورون من أجل الدين أو الشرف وقد ديست كرامته. فأيهما أهم وأقدس؛ وأيهما أعز وأنفس؟.

نرى منكم في الهين البسيط الحماس والتفاني ولا نرى منكم نحو الأهم الخطير إلا التهاون والتواني تتقون وتخشون عدوًا من العباد، ولا تخشون ألد عدو في نفوسكم اسمه «الفساد» يقتل النفوس، فمن منهما العدو الأكبر؟ ومن منهما الأخوف والأخطر؟! ألا فثوروا أيها المسلمون على من امتهن أوامر الإسلام، وقاطعوا من خرج على الآداب والاحتشام، وحاربوا هذا الداء الوبيل الذي يهتك ويفتك بالأعراض والأجسام.

لقد انتشر بينكم وباء كوباء «الكوليرا» فكيف تسكتون؟! وقد كثرت ضحاياه، وعمت عدواه، وانتشرت الجثث الحية حواليكم فكيف لا تجزعون؟ بادروا إلى إنقاذ أنفسكم وأهليكم من الوباء الفتاك، وقوهم وعالجوهم بآداب وشرائع الإسلام؛ لينجوا من شر هذا الهلاك.

ولقد من الله علي بالشفاء من هذا الوباء الذي كان قد سرى إلي من البيئة والغفلة عدواه، فداواني منه ربي سبحانه بمرض أليم في بدني، أعاد الصحة والعافية إلى روحي وقلبي، فإن الرسول ﷺ‬ يقول:: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة».

الابتلاء بالمرض:

مرضت مرضًا شديدًا بعد خلع ضرس، قاسيت منه آلامًا مبرحة حرمتني طعم النوم والأكل شهرًا كاملاً، إذ لم يكن يكف طعن الألم لحظة ليلاً ولا نهارًا.

وزاد الورم حتى كاد خدي ينفجر، وامتد إلى عنقي ورأسي وأغلق جفني عيني، فحار في أمري الجراحون والأطباء، وعجز الطب، وعز الدواء، وقطع الأمل بتاتًا من الشفاء.

وإذا بيد الله الكريمة تمتد وتمسح المرض، وتمحو على مهل الجرح وتصرف الورم، فوقف الأطباء مدهوشين من هذه المعجزة، وقالوا خاشعين: «حقًّا إن الله القدير الرحيم، يحيي العظام وهي رميم». فعاينت تفاهة الخلق، وعجز من ادعى العلم والسلطان، وأدركت أن الخالق سبحانه أبر وأرحم بعبده من كل إنسان.

وفي أثناء مرضي عادتني سيدة وقالت لي مجاملة: «إنك لا تستحقين كل هذا العذاب؟ أنت السيدة المؤمنة المصلية الحاجة لبيت الله الحرام. فماذا اقترفت من الآثام، حتى يعاقبك الله بهذه الآلام؟».

فصرخت قائلى: «لا تقولي ذلك فإن الله لا يظلم الناس شيئًا؛ ولكن الناس أنفسهم يظلمون. إني آثمة أستحق هذا العقاب وزيادة، هذا الفم الذي أدبه الله بالمرض والألم كان يصبغ بالأحمر، وكان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وهذا الوجه الوارم كان يتجمل بالمساحيق، وهذا الجسم الطريح كان يتبرج بالثوب الأنيق. وهذا الرأس المتألم المتأجج بنار الحمى كان لا يحجب بالخمار كما أمر الله، وهو الآن يحجب قهرًا باللفائف الطبية تحيط به كالخمار تمامًا، لم أختمر بخمار الاحتشام، فخمرني الله بخمار الآلام!

جملت فمي ووجهي بالأصباغ والأدهان؛ فصفعها الله صفعة العذاب والهوان».

أجابتني السيدة قائلة: «إنك لم تفعلي إلا ما يفعله غيرك، بل وأقل مما يفعله غيرك. فكل النساء يتبرجن ويتجملن أكثر منك، وها هن يرتعن في بحبوحة الصحة، ويرفلن في حلل السعادة».

فقلت: «هذا من فضل ربي علي وحبه لي ورحمته بي، فإن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه وطهره بعذابه ورباه. ثم إذا أراد ساق له العافية ونجاه، ففاز بجزاء الصبر، وحظي بفضيلة الشكر، وسعد بالتوبة والطهر. فشكرًا لله على هذا الدرس النافع، وهذا الألم الشافي الناجع، وهذا العقاب المؤدب الرادع، وهذا المرض المهذب اللاذع.

إن الله سبحانه يأمرني بعمله عندما رآني لم أأتمر بقوله، فكيف لا أشكره على هذه العناية؟! وكيف لا أطيع من يرعاني هذه الرعاية؟!».

شفاء وتوبة وندم:

وهكذا شفيت من مرضي ضعيفة الجسم قوية الإرادة، ضعيفة الهوى قوية الصبر والجلادة، وفهمت ما قاله الله لي بهذا المرض، وما سكبه في قلبي بلا ألفاظ، وما صوره لعيني فرآه عقلي جليًّا واضحًا.

فهمت كيف يجب أن يحاط رأسي ووجهي بالخمار كما مثله لي الله، وأن يدعو فمي ولساني إليه شكرًا وخوفًا وطمعًا، فكنت بعد مرضي غير ما كنت قبله، وكان أعظم نعمة علي جعلتني أقهر هوى نفسي، وصيرت يومي أغنى وأقنى من أمسي.

ولم تقتصر هذه النعمة علي وحدي، بل عمت بيتي وانتشرت من حولي، وأنقذت بناتي وكثيرًا من معارفي وأهلي.

والحمد لله على أني تبت إلى الله من قريب، ولم أصر على ما فعلت وأنا أعلم، واحتشمت قبل فوات الوقت، لا كما تفعل كل النساء اللاتي يحتشمن ويختمرن في وقت لا جناح عليهن فيه أن يضعن ثيابهن. فلا يكون تركهن المعصية إلا عن عجز، لا عن توبة صادقة.

ومنذ ذلك اليوم عزمت على أن أحارب الفسق، وأن أجاهد في سبيل الله بلساني وقلمي، كرست لذلك كل ما أستطيع من قوتي ووقتي وفهمي.

نظرت حولي ويا لهول ما رأيت!! رأيت السواد والأعظم من الناس مستغرقًا في نوم عميق، مهما ابتلاه ربه وألهبه بسوط عذاب وضيق، لا يفهم ما أراده الله بذلك فلا يرعوي ولا يفيق، أو كأنهم غير مسئولين عن ذنوبهم، أو كأنهم ما يهلكهم إلا الدهر وليس لله يد فيما حل بهم، أو كأن الله سبحانه ظالمهم في عقابه لهم، فلو كانوا يفهمون حكمة الله في الابتلاء لانتفعوا بنعمته، ولو كانوا يشعرون بحبه وخشيته لما استهانوا بنقمته، ولو كانوا يؤمنون به لما اجترءوا على عداوته.

فاحذري أيتها العاقلة الغفلة عن آثامك، وكلما ابتلاك ربك ففتشي عما أغضبه، واستوجب عقابه؛ لتجني ثمرة الابتلاء توبة وتهذيبًا، واجتهدي أن تتحلي بالفضائل، وأن تتجردي من الرذائل، فإن أصابك الله بمحنة لم تكن مجرد عقاب، بل تغنمين عظيم الثواب، ولِمَ تخسرين بعصيانك ثمرة العذاب؟

فإياك أن تحولي الأجر إلى قصاص وزجر: ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ [ق: 37]. وإني لأسأل ربي – الذي من أجل مرضاته وحده سبحانه كتبت، ومن أجل وجهه الكريم وحده جاهدت – أن ينفع بهذا الكلام خلقه وعباده، وأن يجزيني عليه ما هو له أهل من الفضل والإحسان، إنه سميع، وبعباده رءوف رحيم، وصلى الله على نبيه وسلم أفضل صلاة وأزكى تسليم.

نعمت

حرم الدكتور محمد رضا


التبرج

التبرج هو إظهار الجمال، وإبراز محاسن الوجه والجسم ومفاتنهما، أو كما يقول البخاري رحمه الله: «التبرج: أن تخرج المرأة محاسنها».

وأصل التبرج مأخوذ من البروج، وهي القصور العالية البينة الارتفاع، فالمرأة المتبرجة تعلن عن محاسنها بإبرازها أو تحديدها، كما تعلن البروج عن نفسها بارتفاعها.

وحفظًا للمجتمع من ضرر التبرج، وصيانة لأجسام النساء من التهتك ولحيائهن وعفافهن من الفساد، وإبعادًا لنفوس الرجال من الإغراء والتدهور؛ نهى الله العليم الحكيم النساء عن التبرج، وهو سبحانه الخبير بضعف الإنسان وطيش الشباب.

فاسمعن أيتها المسلمات أوامر الله لكن، إن كنتن حقًّا من المؤمنات: ]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ...[ [النور: 31].

اعلمن أن الخمار في قوله: ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[ هو ما يغطي الرأس والوجه، والجيب هو فتحه الصدر مما يلي العنق، فلا تتغافلن عن أن الله تعالى يأمر كل مؤمنة بأن تغطي صدرها وعنقها بالخمار، لا رأسها فحسب، إذ يقول: ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[.

وهذا صريح جدًّا في وجوب الخمار الساتر لرأس المرأة وصدرها. إذن فمن خلعته فكشفت عن رأسها أو صدرها، فإنها لم تحترم أمر الله تعالى، فتصبح بذلك من العاصيات المستهترات بغضبه، وعقابه.

تنبهن أيتها المسلمات إلى قوله تعالى: ]وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ[؛ إذ إنه لم يعين زينة في عضو أو ثوب. فإن ذلك يدل صراحة على أن كل عضو قد يكون زينة وفتنة. وأن المؤمنة التقية هي التي تقدر ذلك خوفًا من عقاب الله وغضبه.

والزينة: هي كل ما يضفي حسنًا وبهجة [لسان العرب، مادة «زين»]، ولا يقتصر ذلك على ما تتحلى به المرأة من الحلي والثياب والجواهر، وما تتجمل به من الأصباغ والأدهان، بل إن الزينة أكبر الزينة، ما خلق الله في جسمها من مفاتن وما فطره عليه من تناسق الأعضاء وجمال تناسبها.

المخادعة في الحجاب:

إن الله أنزل هذه الآية وهو يعلم أن من النساء من تتحجب للزينة والفتنة، وتتجمل بالخمار لأنها تديره على رأسها مائلاً ذات اليمين وذات الشمال، وتحليه ببعض الحلية، أو بإرسال خصلات من شعرها اللامع على جبينها، أو تجعله على شكل تاج؛ تزيد في جمال وجهها، حتى ليكون الخمار نفسه زينة للناظرين، عكس ما أراد الله من جعله ساترًا لزينتها وفتنتها، وزعمت أنها أطاعت الله واحتجبت كما أمر.

ألا فلتعلم هذه المخادعة أن الله عليم بما في نفسها من شهوة التجمل والتبرج، وأنه لا يخفى عليه ما في قلبها من الاحتيال والمخادعة، فرغبتها في أن تبدو جميلة، وأن تحوز إعجاب من يراها ولو بالخمار، تبرج يمقته الله، ومعصية يعاقب عليها، ولذلك عقب قوله: ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[ بقوله: ]وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ[، أي: أن الخمار وحده لا يكفي مع التجمل والتزين.

ثم تدبرن قوله: ]وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ[ [النور: 31].

تعلمن أنه تعالى ينهى عن استلفات النظر إلى زينة، وإن كانت مستورة، فالثوب الفضفاض الذي لا يبدي جمال الجسم يبرز منه شكل الأعضاء باهتزازها في الحركة العنيفة والمشية أو الالتواءة الخليعة، كما قد يسمع عن الحركة رنين بعض الحلي المستترة.

ثم تدبرن قوله تعالى لأزواج النبي ﷺ‬ وهن المؤمنات القانتات العابدات: ]فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ[ [الأحزاب: 32].

تعلمن أن التبرج يكون حتى في الصوت بتكلفه ولينه ودلاله.

وهاكم قول الرسول ﷺ‬ «أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية» وهو يثبت أن التبرج كذلك يكون بتضوع ريحها، وتعمد لفت النظر إليها بطيب العطر.

فتدبروا يا أولي الألباب آيات الله، وحديث رسوله، واعقلوا ما فيها من حكمة وأدب، واعرفوا هذا الاحتياط الشديد، وهذا الحذر في الابتعاد عما يدعو إلى الزلل. فما أحكم هذا الحرص الذي يأمر المرأة بأن لا تمتع غير عين زوجها بجمالها، ولا أذنًا غير أذنه بحلو حديثها؛ ولا أنفًا غير أنفه بشذا عبيرها، ولا خيالاً إلا خياله بما تخفيه من زينتها وحليها! لتكون بذلك في حصن حصين، وسياج من الصون متين أمين، بعيدة عن أنظار الفجرة الفاسقين.

فزينة المرأة وظهور جمالها بين الرجال غواية وإغراء وشرارة تضرم ما كمن وخمد في نفوسهم من شهوة حيوانية، كما أن رؤية الطعام وشم رائحته يوقظان الشهية، فالعين هي زناد الشهوة، والنفس لا تشتهي إلا ما تقدم العين لها، ولذلك أمر الله تعالى الرجال بأن يغضوا من أبصارهم، وأتبعها بقوله تعالى: ]وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ[.

وكذلك أمر النساء بأن يغضضن من أبصارهن، وأتبعها بقوله: ]وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ[.

ومعنى ذلك أن النظر بريد الزنا.

شبهة أن التبرج انتشر:

ما بال الناس غفلوا، وخادعوا أنفسهم، فزعموا أن التبرج قد أصبح أمرًا عاديًا مألوفًا، لا يؤثر في الأخلاق، ولا يثير دفائن الشهوات، ولا يوقد نار المحرم من اللذات. أما إنهم لو عقلوا لعلموا أن هذا الزعم باطل ومحال ولا شك. فإنه لو كان الأمر كذلك لصدق في حالة الزوج مع زوجه، ولانقلبت المودة بينهما عداوة، والشوق نفورًا، ولأصبح كل من الزوجين حريصًا أن يغير زوجه بعد حين من الزمن.

فهل هذا هو الواقع؟ أبدًا فإن الرجولة هي الرجولة، والأنوثة هي الأنوثة، وإن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجاذبية الفطرية، لا تتغير مدى الدهر. وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها من الأعضاء، بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر، ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها، وفي أخلاقها وأفكارها وميولها. كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله.

وهذه قاعدة فطرية طبيعية، لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة.

]أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى[ [القيامة: 37-39].

]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[ [الروم: 3].

]فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[ [فاطر: 43].

لقد حذر الله المؤمنين والمؤمنات مما يثير شهواتهم وشهواتهن، فلم يشدد التحذير من الزنا فحسب، بل مما يدعو إلى الزنا فقال: ]وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا[ [الإسراء: 32].

يريد سبحانه وتعالى بذلك أن اجتناب عمل الفاحشة ليس هو كل ما يجب على المؤمن والمؤمنة، بل ينبغي أن يبتعد كل منهما عما يقوده إلى الزنا من مغريات، وألا يقرب مما يحيط به أو يدني من متعة العين ولذة البصر أو الأذن أو أي حاسة من الحواس الأخرى؛ لأن من يقترب من التيار الجارف لابد أنه غارق فيه، ولابد هالك مهما قويت ذراعاه، ومهما بعد باعه في السباحة ومغالبة الأمواج. فالتيار الشديد يجذب إليه الأجسام الطافية التي تحوم حوله وتتعرض له فيجترفها، وما هي إلا لحظات ومحاولات فاشلة حتى يبتلعها.

زنا البصر:

قال رسول الله ﷺ‬: «العينان تزنيان وزناهما البصر» وقال أيضًا: «ثلاث أعين لا تمسها النار: عين غضت عن محارم الله، وعين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله».

نفهم من ذلك أن تمتع النظر ضرب من الزنا، وحظ عظيم من اللذة، وجزء منهم من تمتع الرجل بالمرأة، لذلك فهو يمتد ويصبو إلى الجميلة، وينفر من الدميمة، وهما في الأنوثة سواء.

ولذة النظر متعة عظيمة للإنسان فكم أنفق الناس من النفقات الباهظة؛ لتتمتع أنظارهم، فزينوا البيوت والسقوف والجدران، وأنشئوا الحدائق ونسقوها بأشجار وأزهار، أثثوا ديارهم بفاخر الرياش والأثاث الذي يلذ العين، ويمتع البصر وهم لا يلمسون، ولكنهم يتلذذون بأبصارهم، فلذة العين تشترك في كل لذة، حتى لذة الأكل، ولذلك يقال: العين تأكل أكثر من الفم، بل إن النظر إلى الأكل الشهي يكفي وحده لبدء إفرازات العصارات الهاضمة في المعدة.

فإن كانت العين تتلذذ بمنظر المآكل والفواكه الشهية أكثر مما يتلذذ الفم بطعمها، فكيف بتلذذها في التهام الجمال، ولحم ذات السن والدلال. فينبغي للمسلم أن يلجم عينيه بلجام الحياء والعفاف حتى ينجو من الزلل. فالشهوة لا تصحو إلا إذا أيقظها، ولا تنتبه إلا إذا دعاها.

والمرأة المتبرجة شرارة للزناد، تغوي بجمالها العباد، وتنشر من حولها الفساد؛ لأن كثيرًا ممن يرونها ضعاف عزاب في سن الطيش، تتحكم فيهم رعونة الشباب، تتضور نفوسهم جوعًا عند رؤية لحمها كذئاب فيبحثون عما يشبع نهمهم ولو كان جيفة منتنة، فيتهافتون عليها تهافت الذئاب، فالويل لها من شيطان رجيم، تأخذ الرجل إلى نار الجحيم.

فلو احتشمت المرأة واجتنبت التبرج والخلاعة في كلامها ومشيتها لما انتشر هذا الفساد والشر المستطير، إذ من المحال أن تصان الأعراض وكرامة الأسر إلا بالاحتشام والغض من البصر. فكم من نظره جرت الخراب والشقاء، وفرقت بين الأزواج، وأشقت الأبناء. وأصل البلاء كله نظرة كما قال الشاعر:

نظرة فابتسامة فسلام

فكلام فموعد فلقاء

وقال آخر:

كل الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحبًا بسرور جاء بالضرر

كل امرأة خرجت من خدرها إلى الطرقات عروسًا قد أخذت زخرفها وازينت. لسان حالها يقول: ألا تنظرون إلى هذا الجمال؟ هل من راغب في القرب والوصال؟ إنها تعرض جمالها في أسواق الشوارع كما يعرض التاجر المتجول سلعته، وكما يعرض بائع الحلوى ما عنده مزينًا بالألوان الزاهية والأوراق اللامعة؛ ليسترعي الأنظار ويتهافت الطلاب والجياع النهمون.

كيف تقبل المرأة المصونة العفيفة عرض جمالها في السوق سلعة رخيصة تتداولها الأعين؟ وكيف يرضي لها حياؤها أن تكون مبعث إثارة شهوة في نفس كل رجل يراها؟ بل كيف تطيق الشعور بأنه يصبو إليها ويتمناها؟! إنها لو فكرت في ذلك الأمر برهة لاحمرت خجلاً، ولسترت جمالها وزينتها عن الأعين الشرهة الوقحة.

قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[ [الأحزاب: 59].

معنى الجلباب:

يحيط الله المرأة المؤمنة في هذه الآية بهالة من الصون والكرامة، وأن تكون في إطار من الإجلال والإكبار. فأمر نبيه ﷺ‬ بأن يلزم نساء المؤمنين أن يدنين عليهم من جلابيبهن، والجلباب: ثوب واسع، أي أن يسترن بثيابهن الواسعة؛ ليعرفن بالحصانة والتقوى والعفاف، فلا يؤذين بأعمال سافلة، دنيئة، ولا تنغص حياتهن بنظرات وقحة جريئة، ولا توجه إليهن أقوال مهينة بذيئة.

فبالله ماذا سترت نساء من يدعون الإسلام الآن من زينتهن التي أمرن بسترها إذا كن هكذا في الطريق، عاريات الأذرع والسيقان والصدور، باديات النهود والأرداف والخصور، مصبوغات الوجوه والعيون والثغور، حاسرات الرءوس مسترسلات الشعور. ماذا تركت الشريفة لغيرها من فنون التبرج، وما أبقت لنفسها من ضروب الاحتشام؟ إنها لم تترك من ذلك ولم تبق شيئًا.

فبالله أيتها السيدة المحترمة أتستطيعين أن تفرقي ما بين الراقصة الخليعة الفاجرة، وبين السيدة الشريفة الطاهرة؟.. لذلك تطارد الذئاب الشريفة كغيرها! إذا يظنونها صيدًا وقنيصة. فتسمع وترى ما يخجلها ويؤذيها، لأنها تشبهت بمن لا كرامة ولا شرف لها، ولم تتعزز وتتحصن بوقار الاحتشام. فضاعت عزتها وظنوها سلعة كبقية السلع وعرضت نفسها للمهانة والازدراء.

فيا حسرتا على النساء. لقد فقدت أيتها المسلمة احترامك عندما خلعت الخمار، وارتديت ثوب الخلاعة والاستهتار، فنظر إليك بعين الازدراء والاحتقار.

* * *


 الخمار

شعار التقوى والإسلام. الخمار برهان الحياء والاحتشام. والخمار سياج الإجلال والاحترام. الخمار يا سيدتي المسلمة أشرف إكليل لجمالك، وأعظم دليل على أدبك وكمالك.

صوني أيتها الشريفة المؤمنة جسمك الطاهر من اعتداء الأعين الزانية، وحصنيه بالاحتشام؛ لتذودي عنه السهام الغازية، فليست الشريفة الطاهرة من لا تسمح لرجل أن يتمتع ببدنها وأن يلامسه، بل الطاهرة الحقة هي التي لا تسمح لعين أن تقع على جسمها الطاهر فتدنسه، والتي لا تطيق نظرة آثمة تنتهك طهارتها المقدسة.

فإن للعفاف والطهارة درجات، كما أن للتهتك والعهر درجات، فهناك عاهرة يتمتع بها الرجل ببدنه، وهناك عاهرة يتمتع بها الرجل بعينه، والنفوس تتفاوت علوًّا على درجات طهارتها وعفتها ونزولاً على دركات عهارتها وشراهتها، فهناك نفس عفيفة شريفة يصونها الحياء تتألم لنظرة جريئة، فتختمر احتفاظًا لهيبتها، وتحتشم وتستتر؛ حرصًا على كرامتها، وإشفاقًا من أن يكون جمالها مطمع الأنظار، ومطرح أقذار الأفكار.

 نفسية المتبرجة:

وهناك نفس خبيثة غاوية، مستهترة عابثة لاهية شرهة، تنعم وتسعد بأن تعانقها وتداعب بدنها الأنظار، وتبتهج بأن تكون شهوة النفوس ومتعة الأبصار، فتبالغ في استعراض جسمها وأناقتها، وتغالي في التبرج والخلاعة طلبًا للذاتها، هذه هي نفسية المتبرجة الشرهة، التي تعتبر في نظر المدنية الكاذبة امرأة راقية، ولكن هل هي في نظر الإسلام مسلمة أو عفيفة طاهرة؟

لو أن المتبرجة تأملت بعين بصيرتها، ولو كان لها قلب يعي لوجدت أنها –باصطناعها هذا الجمال المزور ومبالغتها في التزين– لا تكتسب في الحقيقة جمالاً ولا محاسن، بل إنها لتمسخ وجهها، وتخفي ما حباها الله به من الجمال الفطري بقناع من الأصباغ الزاهية التي تختلف وتشذ عن الطبيعة، وينبو عنها الذوق السليم، وهي لا تأبه لذلك، ولا تفطن لما صنعت بوجهها من التشويه والتقبيح.

فإن الله تعالى لم يخلق جفونًا زرقاء لامعة، ولا سوداء قاتمة إلا في القردة والكلاب، ولا شفاهًا حمراء قانية، كأنها ولغت في الدم المسفوح، ولا خدودًا مضطرمة متوهجة الاحمرار، ولا حواجب هلالية لامعة تذكر بما يتخيلون ويصفون في الأساطير من حواجب الشياطين، ولا أظافر مدببة حمراء كأنها مخالب حيوان كاسر مخضبة بدماء فريسته، فبالله هل هذا جمال أم دمامة وبشاعة؟

 شعر في ذم التبرج:

وما أصدق قول الشاعر:

قل للجملية أرسلت أظفارها

إني لخوفي كدت أمضي هاربا

إن المخالب للوحوش تخالها

فمتى رأينا للظباء مخالبا

بالأمس أنت قصصت شعرك غيلة

ونقلت عن وضع الطبيعة حاجبا

وغدًا نراك نقلت ثغرك للقفا

وأزحت أنفك – رغم أنفك - جانبا

من علم الحسناء أن جمالها

في أن تخالف خلقها وتجانبا

إن الجمال من الطبيعة رسمه

إن شذ خط منه لم يك صائبا

فلم هذه المبالغة المشوهة للخلق الذي جعله الله في أحسن تقويم، فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، وإتقان الجمال إنما يكون بمحاكاة خلق الله سبحانه، الذي أتقن كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. ولن يكون أحذق ولا أبدع منه تصويرًا ولا أدق منه تجميلاً، ولا أحسن منه تنسيقًا. فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

فالمصور البارع هو الذي يقلد بإتقان خلق الله، ويحاول أن يحاكي الطبيعة كاملة من كل نواحيها المتناسقة. فإذا بالغ أو غير في لون من الألوان، أو وضع جزءًا مكان جزء آخر أفسد عمله.

فكم من سيدة شوهت جمالها بالمبالغة في التجمل، وكم من سيدة أظهرت عيوب وجهها بالأصباغ، فزادت الدمامة وضوحًا، وهتكت عيوب جسمها بالملابس الضيقة القصيرة، فاستلفتت الأنظار إليها. وكم من عجوز متصابية تزينت وتجملت، فصارت سخرية الناس، وهي تظن أنها بعملها هذا قد صغرت سنًّا، ولا تدري أنها في الحقيقة صغرت عقلاً وقلت احترامًا.

ألا فاعملن أيتها السيدات أن الأصباغ والزينة تزيد الدميمة دمامة، وتزيد العجوز شيخوخة، وأن الجمال الحقيقي إنما هو جمال النفس المهذبة التقية، يشع من العيون، ويتدفق على الوجه فيكسوه جمالاً، جمال الحياء يتألق ويغمر الوجه نورًا وبهاءً ينفذ إلى القلوب، ويبهر الأبصار، فكم من وجه جميل يغشاه الخبث والوقاحة فتظلم بهجته!

وكم من عيون جميلة الشكل، يعلوها صدأ الجهل والغباوة، أو ينتابها مرض التبجح والوقاحة، فيطمس بريقها، ويطفئ نورها، ويتحول جمالها قبحًا!

وكم من وجه دميم يزهو ويسطع بنور التقوى والعلم والأدب!

فكيف تفضلين أيتها المسلمة أن تكوني أنيقة خليعة فاتنة، على أن تكوني محتشمة محترمة مؤمنة؟

كيف تقدمين جمال جسمك وهندامك، على جمال نفسك واحتشامك؟

كيف يهون عليك أن تخفى نور الإيمان في وجهك بغشاء من التزوير، ونقاب من الكذب والتزييف؟

كيف تستبدلين بجمال الحياء والخفر قناعًا من الوقاحة؟

إن المرأة التي تواجه الرجال متوقحة بأصباغها، مستعرضة لزينتها ولحمها، قد تجردت من ثوب الحياء، ففقدت بذلك أكبر جاذبية في جمالها وأجمل زينة لوجهها. فجمال احمرار الحياء على وجه المرأة لا تجاريه الأصباغ. وإن يد الإنسان لتعجز عن أن تقلد جمالاً فطره الله في الروح، لا على الظاهر.

قال الأديب الفرنسي الشهير فكيتور هوجو: «إن أجمل فتاة هي التي لا تدري بجمالها».

أجمل فتاة:

فإذا كانت أجمل فتاة هي التي لا تدري بجمالها، كانت بلا ريب أقبح فتاة المفتونة المغرورة بجمالها، الخليعة المخلوعة المفككة الأوصال والمفاصل، تتلوى زهوًا وعجبًا، وتتمطى اختيالاً وكبرًا، ويبدو في حركتها ومشيتها الطيش والتكلف، وفي نظرتها التبجح والتعجرف، وفي كلامها التدلل والتظرف، فتفوق الدميمة دمامة، مهما كانت جميلة، فكيف بها لو كان جمالها طلاء موهومًا، وحسنها مصطنعًا تافهًا مزعومًا؟!

فهؤلاء الجاهلات المغرورات بنفوسهم، الغافلات عن عيوبهن، يغضبن عليهم الله بتبرجهن، فيظلمن أنفسهن في الآخرة، ويضحكن منهن الناس، فيظلمن أنفسهن في الدنيا.

نعم؛ أليس من المضحكات المبكيات أن ترى العجوز السمراء الشمطاء تردم بالمسحوق الأبيض حفرًا وأخاديد وجهها الذي أكل عليه الزمان وشرب، فيصبح كالمستنقعات كتلاً من الملح، حولها الماء الآسن المختلط بالتراب؟ وذات الشفتين الغليظتين، والفم الذي تقع ساحته على مشارق الوجه إلى مغاربه تحدد طوله وعرضه بالأصباغ، وتبرز اتساعه وضخامته، وتستلفت الأنظار إلى مساحته الشاسعة؟ وذات الشعر القطط والمنفوش، تخرج حاسرة وهي تحلم فوق رأسها غابة عذراء كثة الأدغال، كثيفة الظلال، تضل في غاباتها وظلماتها العيون؟! والتي ترسم بالأصباغ حول عينيها الجاحظتين وفوق جفنيها البارزين كجفون الضفدع هالة سوداء أو زرقاء لامعة، فتبرز عيوبها بدهن تلك القباب الشامخة؟! التي تحسر ثوبها لتفزع الناس بساقيها الوارمتين، أو ساقيها النحيلتين اللتين تذكران برقاد القبور والعظام النخرة؟! والسمينة المترهلة التي تلبس الثوب الضيق اللاصق على جسمها، المحدد لكل عضو من أعضائها الهائلة، لتخفيف الناس بجبالها الشاهقة، ووهادها السحيقة، ووديانها العميقة؟!

فما أجهلك وأشقاك أيتها المرأة المغرورة الطائشة! التي تأتي المنكر، لتزدري وتستنكر، والتي تقترف المعصية لتصير سخرية. وما أصدق قول رسول الله ﷺ‬: «النساء ناقصات عقل ودين» فكلما نقص عقل المرأة زاد تبرجها، وكلما زادت جهلاً أفرطت في تزينها وتهتكها وفرطت في جنب الحياء، وتمثلت بنساء الجاهلية الأولى، كما قال الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ]وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى[ [الأحزاب: 33].

 الرأس الفارغ والرأس المملوء:

وما أحكم المثل الذي يقول: «الرأس الفارغ يحتاج إلى الزينة، أما الرأس المملوء بالعلم فإنه لا يحتاج إلى الزينة» لأن العلم يزينه وهو أعظم وأجمل زينة.

فالمرأة الخالية من جواهر العلم الصحيح كالصندوق الفارغ، تنحصر عنايتها في صقل خارجه وطلائه لاستلفات الأنظار إليه، فتقضي سحابة نهارها بالتبرج والتطرئة إذ ليس لها ما يشغل قلبها غير ذلك، وهي ضيقة الخيال؛ لأنها محصورة في دائرة واحدة، دائرة بدنها وبطنها بينما المتعلمة كالخزانة شحنت بالجواهر واللآلئ فباتت لا يعبأ بظاهرها بإزاء ما فيها من التحف، وأثمن ما في الوجود، ما لا تقع عليه العين بل تقدره البصيرة المشرقة من الآداب والأخلاق الكريمة. فالذي صندوقه فارغ يعني بظاهره، والذي صندوقه ملآن يعني بما فيه النفائس.

ولذلك نرى الأساتذة وأهل الفن والعلم الصحيح يتبسطون في لباسهم، ولا يعنون بأناقتهم وهندامهم، لأن الإنسان كلما عني بعقله، أهمل جسده، وكلما اهتم باللب احتقر المظاهر الخارجية. فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه، لا ببرديه، معطفه وفستانه.

وقد قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 التبرج دليل صغر العقل:

وآية أن التبرج نتيجة الجهل والطيش وصغر العقل: أن الطفل يعشق التبرج ويزدهي ويباهي بثيابه الجديدة، ويطيل النظر في المرآة كما تفعل المتبرجة. ولكن الطفل لا يلبث أن ينسى جماله وزينته. أما هي فتقضي حياتها في المرآة، وتحرص على ملازمتها في كل لحظة من حياتها فتأخذها معها في حقيبة يدها أينما ذهبت؛ لتتمتع بالنظر إلى جمالها ولتراقب أصباغ وجهها، فهي قائمة على قدم الاستعداد، لتبادر إلى إسعافه بالترميم مثابرة على فرائض التجمل تكرس له جل وقتها في خضوع وخشوع؛ لأنها تجد فيه متعة نفسها الضئيلة، ولذة عقلها الصغير.

 التبرج اتباع الهوى:

وإنه ليشق على المرأة الطائشة أن تستر جمالها المصطنع، ويؤلمها أشد الألم ألا تفتن الناس بمحاسنها وأناقتها، وتترقب كلمة الاستحسان من السفهاء فتطريها فرحًا وترقص لها طربًا.

وأعجب العجب أن تحذو حذوها وتعمل عملها مثقفة متنورة، متخرجة من الكليات، حاملة لأعلى الشهادات، فتتغافل عن أمر الله، وتتبرأ من الخمار، وتبيح لنفسها ما حرم ربها، مستهترة بغضبه، متعمدة مصرة على اتباع هواها: ]وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ [القصص: 50].

فويل لهذه المتعلمة المتجاهلة التي لا تستطيع أن تعصي هواها، وتستهين بأن تعصي خالقها ومولاها، وتسمع آيات الله وتفهم أمره المؤكد بالاحتشام والاختمار ثم تصر على تبرجها مستكبرة، كأنها لم تسمعها: ]وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[ [الجاثية: 7، 8]. أو تظن هذه المتغافلة أن الله جعل إليها الاختيار في شرائعه بما تهوي لها نفسها؟ فتختار منها ما تشاء، وتعصي منها ما تشاء، وكأنها في سوق خردوات تنتقي منه ما يوافق هواها، وتترك ما لا يوافقه، إذ تطيع بعض أوامر الكتاب وتعصي البعض الآخر.

ألم تسمع وعيد الله لها ولأمثالها في قوله: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ [البقرة: 85].

إن الله لم يجعل الشرائع والأوامر تبعًا لأهواء الناس ومزاجهم وهو القائل جل جلاله: ]وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ[ [المؤمنون: 71].

وإنه سبحانه لم يجعل لأحد من المؤمنين والمؤمنات أن يختار برأيه وهواه، وإلا كان عاصيًا ضالاً ضلالاً مبينًا، إذ قال جل ذكره: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا[ [الأحزاب: 36].

فهذه الظالمة لنفسها – التي عرفت الحق ورأت نوره فأغمضت عينيها، وأشاحت بوجهها عن هذا النور، ونأت عنه لتظل في الظلام باختيارها – قد غلبت شهوتها على إرادتها، وطغى هواها على تقواها، ولذا جرؤت على معصية الله على علم، وتغافلت عن أمره على فهم، وسعت إلى رضا الفاسقين، ولم تكتثرت لرضا رب العالمين، تلك التي ينطبق عليها قول الله جل جلاله: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا[ [الجاثية: 23].

 معاذير المتبرجات:

نعم؛ إن التبرج هوى سيطر على النفوس، واستعبد القلوب، وأعمى بصائر النساء والرجال معًا، هوى خضع له – صاغرًا – المتعلم المتنور كما خضع له الجاهل المتبلد، وخضع له المسلم المتدين كما خضع له الفاسد والملحد، وانقاد له الجميع بلا تردد ولا تورع ولا تأمل، بل في امتثال واستسلام ونشوة ولذة، أسكرتهم خمرته، وسلبت نُهَاهم فتنته، فتغاضوا عن تحريم الله له وأباحوه، وانتحلوا المعاذير، واختلقوا له المزايا ليبرروه:

1- فمن قائلة: إنه من الصغائر.

2- ومن قائلة: إنه عنوان المدنية.

3- ومن قائلة: إنها لا تستطيع مخالفة غيرها، فتضع نفسها موضع السخرية والنقد.

4- ومن قائل: إنه أقرب سبيل للتعجيل بزواج بناته.

5- ومن النساء من ادعت أنها تتجمل طاعة لزوجها، وحرصًا على إرضائه، وخوفًا من انصرافه عنها إلى غيرها.

6- ومن ادعت أنها صغيرة السن ولم يحن – بعد – وقت الاحتشام.

7- ومن ادعت أنها عجوز لا يعبأ بها أحد.

8- ومن ادعت أنها تبيح لنفسها السفور والأصباغ لأنها دميمة ينفر الرجال من منظرها.

ولعب الشيطان ببعضهم فادعوا أن الحجاب لم ينشأ إلا في زمن العباسيين أو في زمن العثمانيين، وكأن القرآن في نظرهم نزل على هارون الرشيد أو على السلطان عبد الحميد.

وهكذا خدع كل منهم نفسه، وتغافل عن ذنبه، وأصر على معصية الله، وهو يعين ليرضي هواه!

فالمرأة المتعلمة أقدر النساء على الجدل ولو بالباطل، ينطبق عليها قول الله تعالى: ]وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا[ [الكهف: 56].

فهي تجادل وتعارض وتحاور وتداور وتسمي تقوى الله جمودًا وتطرفًا، وتعتبر الاحتشام والاختمار تزمتًا، كأنها لم تعرف الإسلام، ولم تفهم القرآن، إن المسلمة المتنورة بتعاليم دينها ترى أن من أوجب الواجبات عليها أن تحارب الفجور والعصيان، وأن تنهى عن المنكر، وأن تحاول أن تنقذ نفسها وبنات جنسها ووطنها ودينها من الخروج على آداب الإسلام، وأن تدعو إلى الله ربها بما وهبها من بلاغة اللسان، وقوة المنطق، وبراعة القلم شكرًا له على ما آتاها من هذه النعم العظيمة.

إلا أن أولئك المتعلمات الغافلات يعلمن ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهن عن الآخرة غافلات، ولذلك يرين الكبائر صغائر، وأن حسناتها الكثيرة – من صلاة وصدقات وحج وصيام – ستمحو هذه الذنوب؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.

 التبرج من الكبائر:

ألا فاعلمي أيتها المستهينة بأمر الله، المستخفة بغضبه، المستهترة بعقابه. اعلمي أن كل ما نهى الله عنه في القرآن فهو من الكبائر خصوصًا هذا التبرج الذي شدد الله فيه الوعيد والتحذير، وشدد فيه الرسول ﷺ‬ أعظم التشديد فزعمك هذا باطل.

ألا فتيقني أن التبرج هادم لكل الحسنات، بل وهادم لحقيقة الإسلام، وهو إثم من أكبر الآثام. ففكري أيتها السيدة كم مرة أتيت هذا الأمر الكبير، وكم أظهرت من عورة، وكم هتكت من حرمة؟ وكم أيقظت من عين شرهة التهمت لحمك وتمتعت بجمالك، وكم من نفس مجرمة تلهفت عليك؟

اجمعي يا سيدتي هذه الآثام في كل خروجك ونزهاتك طوال حياتك، فستجدين وزرًا ثقيلاً تنوئين تحته، ولا تستطيعين حمله يوم الحشر. إنك تستصغرين كبير الإثم، وهو ذنب آخر مع الذنب نفسه، فإن من يستصغر الذنب يكبر إثمه على قدر استصغاره له، وإن في تصغير الذنب تصغيرًا لأمر الرب، وفي تعظيم الذنب تعظيم الرب سبحانه وتعالى.

وفي الحديث: «المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كالذباب وقع على وجهه فأطاره».

إن الحسنات إنما يذهبن السيئات مع الندم والتوبة أما مع الإصرار على المعصية، والجرأة والاستهتار بالسيئات فإن السيئات عندئذ هي التي تذهب بالحسنات، وتحرقها حرقًا. قال الله تعالى: ]إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[ [الفرقان: 70].

فكيف يهون على المسلمة العاقلة المتعلمة أن تحبط عملها، وتخسر حسناتها، وتضحي بسعادتها الأبدية، من أجل شيء تافه ولذة وقتية، بل ليس هناك لذة، إنما هي تعب مضن ومضيعة للوقت والمال في الفسوق والضلال.

 المتبرجة تبيع الجنة بثمن بخس:

فيا لهذه المتبرجة من ضالة غافلة، تبيع الجنة بثمن بخس، وتشتري الجحيم بثمن غال، لأن المواظبة على هذا التبرج والتجمل تتطلب مالاً كثيرًا وصبرًا ووقتًا طويلاً، أكثر مما تتطلبه عبادة الله سبحانه، ولكن قاتل الله الهوى والغفلة فلقد تمكن منها الشيطان، الذي حبب إليه الفجور والعصيان، وكره إليه الطاعة والإيمان.

فكم ضيعت الصلاة من أجل قليل من الأصباغ على وجهها، وتنسيق شعرها، فلا تتوضأ؛ لتحافظ على الزينة، ولا تحافظ على الصلاة، بل إن صلاتها على كل حال حابطة لأنها لم تنهها عن هذا المنكر، قال الله تعالى: ]إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[ [العنكبوت: 45].

وكما قال رسول الله ﷺ‬: «من لم تنهه صلاته فلا صلاة له.

وهي تضيع كذلك صومها لأن الرسول ﷺ‬ يقول: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

وهل أعظم من التبرج زورًا وضلالاً وإصرارًا على العصيان؟ ألم تسمع هذه المتبرجة المتعلمة المتنورة ما يثبت أن العصيان يبطل الأعمال في قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[ [محمد: 33]؟

فكيف نجرؤ على العصيان، فنبطل أعمالنا، ونفقد حسناتنا ونحن نفهم معنى الآية الكريمة ثم نزعم بعد ذلك أننا تعلمنا وتثقفنا وأننا آمنا بالقرآن؟

وكيف نقرأ في القرآن أمر مولانا وخالقنا ورازقنا: ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ[ [النور: 31] ثم نجسر على مخالفة أمره مستهينين مستهترين، ولا نخشى غضبه، ونزعم أننا نعقل ونعرف مصلحتنا ونفعنا، وأننا على جانب عظيم من الحكمة والحصانة والتنور والتمدن؟!

حقًّا إن من العلم جهلاً، وإن لم يستنر بنور القرآن، يتخبط في ظلمات الضلال، ويرسف في قيود الجهالة، بالرغم من حصوله على أعلى الشهادات وأعظم الدرجات العلمية أو الأدبية.

 الفهم الخاطئ للمدنية:

وما أعجب أمر أولئك الذين يتشدقون بالمدنية يقولونها كلمة جوفاء، لا يفقهون لها معنى! فيزعمون أن التبرج هو ما تقتضيه مدنية العصر الحاضر، وأنه عنوان العلم والتحضر والتنور. وأن الخمار أصبح من مخلفات العصور الغابرة، لا يتفق مع حضارتنا، وأنه يحط من قدر المرأة المتمدينة المثقفة ويصمها بالجهل والتأخر.

والحقيقة عكس ذلك فإن السيدة المحتشمة المختمرة طاعة وحياء، لا تقليدًا ووراثة، هي التي عرفت دينها، وخافت مولاها، ومعرفة الدين والخوف من الله هو أعظم علم، وأكبر تنور وتمدين.

والطائشة المتبرجة تدل على أنها لم تعرف الحياء، وأنها جهلت دينها وربها، وأنها عرفته، وأصرت على عصيان خالقها، الجهل بالدين والجرأة على انتهاك حرماته، هو أعظم جهل وتأخر، وأكبر بربرية وهمجية، وأبعد شيء عن المدنية.

إن المدنية لتتبرأ من قوم مزقوا ثوب الحياء، فانظروا معي إلى الإنسان الأول في حياته الوحشية الأولى، أو إلى الشعوب الزنجية المتوحشة، تروا أن أبرز ما تمتاز به هو العري والإباحية في العادات، وجدل الشعر، والتزين بالريش والعظام والقواقع والحلي البراقة الزاهية، وتغيير لون الشفاه والخدود والعيون، وإطالة الأظافر، والرقص العنيف، هذه هي مظاهر همجية الشعوب المتأخرة.

وهذا هو ما تقهقرت إليه الشعوب الغربية بخطا واسعة سريعة، وهي تجرف الشعوب الشرقية المقلدة الغافلة الساذجة، التي فقدت شخصيتها حين أعرضت عن تعلم الدين الإسلامي الصحيح من موارده الصافية فاتبعتها في تأخرها، لا في تقدمها، وفي همجيتها لا في مدنيتها، وسارعت النساء المسلمات إلى تقليد المرأة الفاجرة اللادينية، وظنن أن هذا التهتك هو ما يستلزمه نظام القرن العشرين ورقيه، كأن الله تعالى لا يدري من شئون الحضارات ما يدرين، وكأن الناس أعرف بما يصلحهم من رب العالمين، فما أعظم شقاءَكن يا من تعبدن الموضة وتكفرن بكتاب رب الأرض والسموات!

ماذا جرى لعقولكن حتى تفجرن مع الفاجرات، وتقلدنهن تقليدًا أعمى صاغرات؟! كيف تحترمن تقاليد الفسقة الفجار، وتستهترن بشرائع المنتقم الجبار؟! فإذا أمرت المدنية شيئًا، قلتن سمعنا وأطعنا، ولو كان في ذلك هلاككن وخزيكن في الدنيا والآخرة.

فما كان لامرأة إذا أمرت المدنية أن تكون لها الخيرة من أمرها. وإذا أمر الله تعالى، جادلتن وعارضتن وقلتن سمعنا وعصينا، لن نستطيع مخالفة عصرنا، لا نطيق الخمار في هذا الحر، ولا نطيق أن نكون عرضة لسخرية الناس. فهل تطقن – أيتها الغافلات – حر نار جهنم، وأن تكن عرضة لعذاب رب الناس: ]قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[ [التوبة: 81].

 التقليد الأعمى:

فيا أيتها الذاهلة المقلدة، التي تقلد غيرها تقليدًا أعمى، واهمة أن ما يعلمه كل الناس لابد أن يكون حقًا؛ لأنه رأى الأغلبية الغالبة.

لقد جرفك تيار مدنية عصرك الكاذبة وأغرقك سيل الفسق والفجور؛ لأنك أسيرة الهوى؛ ضعيفة الإيمان، جاهلة بدينك، هاجرة للقرآن، فلو كنت راسخة في العلم بدينك وتشريعه وأوامره لما استحسنت ما ترين عليه النساء، ولقبح في نظرك ما تقلدين عن غير تفكير. فإن السيل لا يجرف إلا الغثاء والزبد، أما القوي الراسخ فإنه لا يتزعزع من مكانه، ولا يستطيع السيل أن يزحزحه مهما كان قويًّا جارفًا.

أيتها الغافلة!

نساء عصرك استهترن بأحكام الله فلم تقلدينهن؟! نساء عصرك سيدخلن الجحيم، فلم تحرصين على أن ترافقيهن!!

ألا تعلمين أن رسول الله ﷺ‬ قال: «من أحب قومًا حشر معهم»، وقال أيضًا: «من تشبه بقوم فهو منهم»، وقال: «لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت. ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم»، وهو ﷺ‬ الذي قال أيضا: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون».

وأعجب لزعم المتبرجة أنها تتبرج لتكون كبقية الناس، وحتى لا تمتاز عن غيرها بالاحتشام الذي يستلفت إليها الأنظار، ويحوطها بالتهكم ونظرات السخرية والاحتقار.

فويحك أيتها المغرورة المتغطرسة كيف تتجنبين الاحتشام؟ تخجلين من استلفات الأنظار إلى تقواك وحيائك، ولا تخجلين من استلفات الأنظار إلى تبرجك واستهتارك، فأيتهما أولى بالخجل أن تظهري بالأدب والرزانة، أم أن تظهري بهذا التبرج والاستهتار؟

كيف لا تخجلين من أن تجهري بالفسق والعصيان وتخجلين من أن تجهري بالتقوى والإيمان؟! بل كيف لا تفخرين بامتيازك عن غيرك بالاحتشام، وتشرفك بآداب وشرائع الإسلام؟ فيا للعجب أتخجلين مما يشرف ويبجل، ولا تخجلين – بل وتفخرين – بما يحقِّر ويسفِّل؟!

أتفسقين مع من فسق لتكوني مثلهم، فلا يسخرون منك، أتسرقين مع من سرق لئلا يسخر منك اللصوص؟ أتشربين الخمر لئلا يسخر منك المدمنون؟! أتظلمين لئلا يسخر منك الظالمون؟ أتستبدلين الذي هو شر بالذي هو خير خوفًا من نظرة تهكم من الفسقة العصاة، وتقدمين رضاهم على رضا الله؟!

إن هؤلاء الناس ينظرون إليك ساخرين مدهوشين؛ لأنهم لم يروا الاحتشام من أمد بعيد ونسوا أوامر الإسلام وآدابه من زمن مديد فذكريهم وعرفيهم يا سيدتي ما لم يعرفوه، وكوني قدوة حسنة للنساء الغافلات، وسراجًا منيرًا للعيون النائمة والقلوب المظلمة، وتهيي فخرًا بأدبك واحتشامك وازدهي بنور تقاك وإسلامك. فإنك على قمة الكرامة، وفي أوج الفخار، وهم في الدرك الأسفل من العار.

أنت تتبعين سبيل المؤمنين الأبرار، وهم يتبعون سبيل العصاة الفجار فانظري إليهم من عليائك بعين الاحتقار، ولا تبالي بنظرات السخرية والاستهتار وقولي كما قال نوح u: ]إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ[ [هود: 38، 39].

وواصلي دعوتك لهم سائلة الله توفيقهم كما وفقك. إن الاحتشام لا يمنع الأناقة، ولا يدعو إلى التهكم، بل قد يكون التبرج أدعى إلى السخرية، وبعيدًا عن الأناقة، وقد يكون الاحتشام في أناقة لا يمكن للتبرج أن يجاريها.

 ازدراء المتبرجة من المحتشمة:

ومما يدهش له أن تزدري المتبرجة المسلمة المحتشمة، كأن قيمة المرأة بأصباغها وطول مخالبها، لا بكمال عقلها وتقواها وأدبها. فتسخر الطائشة المقلدة لنساء باريس المتهتكات من التقية المتبعة لنساء النبي المؤمنات.

فهل بلغ حد الكفر والجهل في عصرنا أن يضحك الباطل من الحق، والجنون من العقل، والفسق من التقوى، والتهتك من التعفف؟!

مهلاً أيتها الساخرات الضاحكات، فإن تضحكن منهن فسيضحكن منكن غدًا، والفوز لا يكون إلا للضاحك الأخير: ]إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[ [المطففين: 29-36].

 التبرج والزواج:

قد يظن الآباء والأمهات أن تبرج بناتهن واستعراض جمالهن يعجل بزواجهن، فيعرضون لذلك بناتهم كما يعرض التاجر سلعته للبيع ولم يفطن هؤلاء الآباء والأمهات إلى أن الذي يطلب الزواج بابنتهم لجمالها ودلالها، ولا يستنكر تجردها من الحياء والاحتشام، وخروجها عن آداب الإسلام، هو رجل فاسق شهواني يبحث عن جسم جميل خليع ليتمتع، ولا يعبأ ولا يبحث عن قلب سليم تقي ليسعد، فلن يكون هذا الرجل زوجًا صالحًا كريمًا.

أما الرجل الذي يطلب الزواج الصالح من ابنتهم لتقواها واحتشامها، ويعجبه حياؤها وتدينها، فهو الرجل المسلم المستقيم، وهو الزوج الصالح الكريم، ولا سعادة حقة بلا تقوى ولا دين فتقوى الله أس الاستقامة، والاستقامة أس السعادة، ومن يخش الله لا يخشَ منه فزوجوا ابنتكم من التقي، فإذا أحبها أكرمها، وإذا كرهها لم يظلمها، ولا تزوجوها من حيوان شهواني، إذا فرغت منها حاجته، وأكلها لحمًا طرحها ونبذها عظمًا، بدون حياء ولا خوف من الله، لأنه إنما كان ينشد المتعة البهيمية، ولا يفهم معنى السعادة الإنسانية.

 التبرج لإرضاء الزوج:

وأنت أيتها السيدة التي تزعم أنها تتبرج إرضاءً لزوجها، وتخر متزينة طاعة لأمره، أتظنين أن هذا العذر ينفع عند الله بعدما أبطل عذرك بقول رسوله ﷺ‬: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، و «لا طاعة إلا في معروف»، قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[ [النساء: 59].

كيف تغضبين ربك الخالق لترضي زوجك الفاسق فأيهما أولى بالطاعة والخشية؟! هذا الزوج الفاسق الذي يأمرك بالفسق، والذي لا يستحيي ولا يغار، وسيهوي بك وبنفسه في عذاب النار. تبررين فسوقك بزعم أنك تخافين أن يهجرك إلى غيرك، أو يطلقك فتحرمين أولادك وسعادتك، فهل هذه السعادة البيتية الوقتية أهم وأعظم من سعادة الجنة الأزلية؟ فما هي هذه السعادة الموهومة المهددة؟ بل لو كنت مؤمنة عاقلة لعلمت أنه من المحال أن تكون سعادة مع زوج فاسق فقد صفات الرجولة، وغفل عن أمر ربه، بل جاهر بالخروج على الدين والأخلاق.

نعم، لو كنت صادقة الإيمان لما شعرت مع مثل هذا الزوج بسعادة تخافين ضياعها، بل لشعرت بشقوة تتمنين الخلاص منها، ولا تطيقين احتماله؛ لأنه من المحال أن تنسجم الروح الطاهرة مع الروح الفاجرة، وأن يحب المؤمن المنافق ويوده، ويسعد بمعاشرته، كما قال الله تعالى: ]لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [المجادلة: 22].

فحاولي إصلاح حال زوجك معتمدة على الله، واذكري له أنك ترغبين في أن تكوني له وحده.

وكم غر الشيطان المتبرجات زاعمًا لهن أنهن لا يزلن في ميعة الشباب وزهرة الصبا، ولم يحن وقت الاحتشام كأن الخمار جعل لستر الشيب والشيخوخة لا لستر الجمال والزينة!

ولكن كلما كانت المرأة صغيرة وجميلة كانت أدعى للفتنة، فيجب عليها ستر هذا الجمال والشباب عن أعين الشرهين الفاسقين، وعن أعين المؤمنين الورعين، الذين يتألمون من سرقة أبصارهم لجمال ليس لهم حلالاً، ويخشون الله، ويعلمون أنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

ومن السيدات من تزعم أنها كبيرة في السن، فلن ينظر إليها رجل، وفي الوقت نفسه تتصابى وتتجمل وتتزين، وتحاول ما استطاعت أن تصلح ما أفسده الدهر، وهي ليست من القواعد كما تدعي، وإنما تفعل ذلك لتبرز عملها، وتبيح تبرجها، مع أن الله تعالى نهى القواعد عن التبرج بزينة، وهي تعلم جيدًا خداعها، وتوقن أن هناك من الرجال من هو في سنها، أو أكبر منها يرغبها ويستحسنها.

ومن السيدات من تزعم أنها دميمة، لا تسترعي أنظار الرجال، وهي تقول ما لا تعتقد وتعمل ما ينادي بكذبها إذ إنها تكثر من التجمل والتزين لتخفي هذه الدمامة فإذا كانت تعتقد حقيقة أنها لم ينظر إليها رجل، فلماذا تحاول إذن ستر هذه الدمامة بالأصباغ والزينة لتستلفت إليها الأنظار؟ ولماذا لا تسترها بالاختمار والتحجب؟.

 أذواق الرجال وميولهم:

مهلًا يا سيدتي، فأذواق الرجال وميولهم تختلف وتتفاوت فمن يفضل النحيفة غير من يفضل البدنية، ومن يحب الشقراء غير من يحب السمراء، فتأكدي من وجود من يستحسنك من الرجال، وإن «كل فولة ولها كيال»، وإن «لكل ساقطة في الحي لاقطة»، وربما يوجد من يرى دمامتك جمالًا، بل ويوجد من الرجال الشره الذي يشتهي كل امرأة مهما كانت دميمة، فالنفس الخبيثة تستسيغ كل طعام، والنفس المحرومة الجائعة يعجبها أي غذاء. إذن فلا يجوز لأي امرأة دميمة أو كبيرة أن تتبرج، مهما كانت سنها أو شكلها.

كم من حكمة عظيمة في الاحتشام والاختمار والتحجب وعدم الاختلاط، لا يفطن إليها إلا العاقل. فبذلك لا تستر الجمال فحسب بل وتستر الدمامة فلا تخجل الدميمة من قبحها، ولا تزدهي الجميلة بحسنها، ولا يرى زوج الدميمة محاسن غيرها، فيتحسر على حظه، ويحسد غيره، بل هناك من الرجال (كما قلنا) من يصبو إلى من هي أدنى من زوجه جمالاً وكلما رأى نوعًا من الجمال تمناه، وكلما رأى حسنًا لم يمتلكه اشتهاه، وكره جمال زوجه، وأصبح لا يرى منه ما كان يراه، ثم يتوق إلى كل ما لم تمتلكه يداه، وإلا تذوق كل ما لم يعرفه ولو كان في ذلك أذاه، فيسعى ما استطاع لإشباع شهوته، وإرضاء هواه، ولا يبالي بهتك عرض ولا بشقاء أسرة، ولا بغضب الله.

 التبرج ضرره وخطره:

فتبرج المرأة ضرر جسيم، وخطر عظيم، يخرب الديار ويجلب الخزي والعار. فكم دعا إلى العداوة والبغضاء بين الأخت وأختها والأخ وأخيه، وكم فصل الزوج عن زوجه وحرمه وبناته وبنيه، وكم خيب الآمال، وحسر قلوب النساء والرجال، ودعا إلى الحرام وترك الحلال؟

فأخفي جمالك الفتان أيتها المرأة، ولا تؤذي النفوس وتغويها، ولا تضيعي به الآداب والأخلاق وتفسديها، والزمي حدود ربك ولا تتعديها واستري زينتك كما أمر ربك ولا تبديها.

فما أسعد المرأة التي تشعر بأن جمالها بريء، لم يقترف إثمًا، ولم يؤذ أحدًا، ولم يسبب حسرة، ولم يثر شهوة، ولم تلتهم لحمها الأنظار، ولم تَلُكْ عرضها الأفواه.

فجمالك إذ صنته كان سعادة ونعمة، وإذا ابتذلته حولته شقوة ونقمة.

 إغواء الشيطان للمتبرجة:

فكم من جميلة أغراها شيطان جمالها بالانغماس في التبرج والتزين والإفراط في الخروج والتجوال، تهيم على وجهها مستعرضة لزينتها في كل وادٍ، وتجول مستلفتة إليها الأنظار في كل نادٍ. فذهب شبابها، وخسرت مستقبلها في الدارين، ورغب الرجال عنها ونفروا منها مستنكرين، ولم يتزوجها واحد ممن كان يحوم حولها متملقًا، وكان ينظر إلى هذا الجمال العاري معجبًا محملقًا، بل كان ينزلف إليها، ويجزل لها الهدايا حتى ظنته عاشقًا، وهي ربما لم تفرط في عرضها، ولكنها عملت ما يوجب الشك وكانت مستهترة. فخسرت بجهلها وطيشها الدنيا والآخرة.

فبالله عليك أيتها المتبرجة، اعلمي أن الله يراك، وأنه معك أينما حللت، ففكري هل هو راض عنك؟ وتصوري كيف يكون انتقامه منك؟ فكيف تخدعين نفسك أيتها القاسية على نفسك، إذ تتجاهلين مستهترة، وأنت على يقين من أن الله يغضب عليك، والرسول بريء منك، والإسلام غريب عنك. ولن تعتبري من المسلمات يوم القيامة.

ولن تدخلي الجنة، بل ولن تشمي ريحها كما قال الرسول ﷺ‬: «صنفان من أمتي من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة».

لقد اتبعت خطوات الشيطان، وخالفت أوامر القرآن، وتعديت حدود الرحمن، واجترأت على الفسق والعصيان: ]وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ[ [النساء: 14].

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يعي. فيا أيتها الغافلة انتبهي واسمعي وأنصتي لآيات الله بقلبك، واخشعي، واقنتي لربك واسجدي واركعي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى وبادري إلى التوبة قبل فوات الوقت. أسرعي، وأسرعي، فطوبى لمن اهتدى، وويل لمن أصر بعد أن دُعِي.

* * *

 كلمة إلى الرجال

إن واجب الحق والنصح يقتضي أن أوجه كلمة إلى الرجال، كما وجهت كلمتي السابقة إلى النساء؛ إذ ليس النساء وحدهن مسئولات عما وصلن إليه من انهيار في الأخلاق بهذا التبرج والتبذل. بل كان الأحق والأولى أن يوجه الكلام كله إلى الرجال؛ لأن السبب في انتشار داء التبرج واستفحال شره إنما يرجع إلى إهمال الرجل في القيام بواجبه نحو المرأة، وهذا الإهمال ناشئ عن جهله أو تجاهله أنه مسئول عنها نفسًا وعقلاً وجسمًا، وأنه قيم عليها مكلف برعايتها أبًا كان أو زوجًا أو أخًا، كما قال الرسول ﷺ‬: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» [رواه البخاري، ومسلم]. وأنه مأمور بالقيام على تهذيبها والعناية بخلقها ودينها ودنياها وأخراها. كما قال تعالى: ]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ[ [النساء: 34].

وأنه رقيب على أعمالها وأحوالها وتقواها وأدبها، كما أمره ربه بقوله: ]وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ[ [النساء: 34] فما أفسد المرأة إلا فساد الرجل واستهتاره بدينه.

 من وراء فساد المتبرجة؟

فكل امرأة فاسدة إنما دفعها إلى الفساد وفتح لها الباب أب أو زوج فاسد، لم يعرف الله ربه، فعمي عن الصراط السوي، وجاهر بالخروج على الدين والأخلاق أو أب أو زوج ضعيف الإرادة مستضعف فقد نخوة الرجال وغيرتهم، ضعيف الإيمان متغافل عن أوامر الله مستهين بمعصيته.

فكم من ابنة منكودة شقية أضلها أبوها بضلاله! وغذاها بفساده! فشبت لا تعرف الحياء ولا الدين، إذ نشأت في أحضان الرذيلة، ولم تعاشر ولم تخالط إلا الشياطين. ثم قذف بها ذلك الأب إلى زوج فاجر مثله من الفاسدين المفسدين، فراحت فريسة فساد واستهتار الأب والزوج، وهامت مثلهما في غياب الضلال، وساقاها معهما إلى الجحيم.

وكم من ابنة بائسة نكبت بأب ضعيف الإرادة، استعبده هواه، يزعم الإسلام والإيمان بالله وكتابه، ويصلي ويصوم ويقرأ القرآن، ولكنه لا يعرف معروفًا ولا يستنكر منكرًا إذ يعشق التبرج، ويمقت الاحتشام، ويسخر من الحجاب ويعتبره قيودًا ثقيلة بغيضة، تحرم ابنته العزيزة حريتها بجمالها الفتان وشبابها الغض، فيغريها بالتبرج، ويدفعها إلى العصيان بلا رحمة، ولا يبالي بغضب الله، وهو يكرر قوله تعالى في القرآن: ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ[ وذلك لأنه أسير الهوى، مفتون بحب ابنته أعمى حبها قلبه وفتن لبه، فأضلها وعصى ربه.

فأعجب لهذا الأب الحنون الذي يشفق على ابنته من الاختمار ولا يشفق عليها من غضب الله وعذاب النار!

وأعجب لهذا الأب المغرور المفتون بجمال ابنته الذي ينظر إليها متغزلاً مبهورًا ويقدمها لكل العيون مباهيًا فخورًا، ولا يطيق أن يحبس حريتها في سجن الاحتشام وأن يدفن جمالها في قبر الخمار -كما يدعي- فكأنما بذلك يعترض على الله، ويزعم أنه ظلمها، وينتقد سنة الحكيم الخبير، كأنه أخطأ سبحانه وأساء التصرف، فحكم على المرأة بالعذاب والحرمان.

فلو كان هذا المخلوق حقًّا من المؤمنين لما عارض مولاه وخالقه إذا هو أمر أمرًا: ]إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [النور: 51]. ولو كان حقًّا من المؤمنين لما تجاهل وتغافل عن أمر ربه، ولانتفع بالذكرى كما قال تعالى: ]وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[ [الذاريات: 55]. فقل لي بربك أيها الأب الذي يزعم الإيمان بالقرآن، هل من التقوى والإيمان أن تفهم أمر الله بالاختمار والاحتشام، ثم لا تغضب لتبرج ابنتك ولا تنهاها عن العصيان؟ وهل من الحب والحنان ألا تبالي بتعرضها لغضب الله وعقابه، ولا تحاول إنقاذها من مخالب الشيطان، ألم تسمع قول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[ [التحريم: 6].

وإنك أيها الأب القاسي أهملت تربية ابنتك الدينية، ولم تعبأ بسعادتها الأبدية، في حين أنك عنيت أشد العناية بمتعها الدنيوية، وسعيت إلى تعليمها العادات والتقاليد الغربية، وتركتها ترتع في المدارس على غير هدى، تتعلم ما لا ينفعها، وتعتنق بعصبية مذاهب دعاة السفور والفجور، وتتشبع بآراء محرري المرأة بل مضليها ومقيديها بأغلال الجهل والعصيان، لقد أضللتها في سبل ملتوية من فلسفات عصرية تناهض الأديان، وتقوم حجر عثرة في سبيل طاعة الله وتنفيذ أوامر القرآن فما أشقاها! بل وأشقاك بها يوم تقفان بين يدي الملك الديان؟

وكم من زوج وأب يزعم أنه مسلم، وأنه رجل، يرافق زوجه وبناته إلى النوادي والملاهي وغيرها، وهن كاسيات عاريات مائلات مميلات، يمشين مشية خليعة تهز الصدور والأرداف، وترسل الشعور تداعب الأعناق والأكتاف لا يستشعر خجلاً من أن يتهادى بين الغيد الحسان من أهله، بل يفرح إن استرعى جمالهن الأنظار، ويفخر بأن تزوج أو أنجب جمالاً جذابًا بهر الأبصار، ويطيق أن يرى أو أن يسمع التغزل في زوجه أو ابنته، ولا يبالي بعين ترمقها، وقد تتبعها نظرة تفحصها وقبيحة تسمعها.

فيا للداهية الدهياء، ترى كم فقد الرجال من رجولتهم حتى أصبحوا أشباه الرجال ولا رجال؟! فإن الرجولة شخصية وروح وغيرة ونخوة قبل أن تكون خشونة صوت وشاربًا ولحية، أهذه هي الرجولة – أيها المدعي الرجولة – أن تسمح للعيون الدنيئة الطفيلية أن تجسر فتنظر إلى جسم نسائك وتنعم بحسنة ومفاتنه، وكأن هذا الحسن وليمة قد قمت بالدعوة إليها، وكأن هذا الجمال مشاع بينك وبين غيرك من الرجال، حلال مشترك لهم قبل أن يكون حلالك؟!

إنك تغضب يا هذا أشد الغضب ممن يحاول أن يطلع على دخائلك وخصائصك، وتخجل ممن يكشف سرًا من أسرارك، فهل هناك أمر أخص بك، وسر أقدس وأجدر بالصون من جسم زوجك وابنتك؟!

فويل ثم ويل لأولئك الذين لا يعرفون كرامتهم، ولا يحفظون رعيتهم، ولا يحسنون القيام على ما استرعاهم الله من الزوجات والبنات كما أمرهم.

أيها المسلمون:

ماذا جرى لعقولكم حتى رضيتم أن تتبرج أمامكم نساؤكم وأنتم تنظرون؟

]فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[ [الحج: 46].

فإن أعراضكم كأرواحكم. وقد فرطتم فيها كثيرًا، أفلا تعقلون؟!

أيها المسلمون!

ما بلغ النساء هذا الحد من الفساد إلا بإغرائكم، وما الله بغافل عما تعملون. فإنه ولاكم أمر نسائكم؛ لتصلحوا الولاية، فأسأتم باستهتاركم، أفلا تتقون؟!

أيها المسلمون!

لقد أهملتم الرعاية وأغفلتم الحذر، وشجعتم الغواية وركبتم الخطر، وإن تهلكون إلا أنفسكم وما تشعرون. إنكم لتتمردون على ربكم، ولا تبالون بغضبه وعقابه، وتلقون بأيديكم إلى التهلكة فهل أنتم منتهون؟! ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[ [الأعراف: 102].

فاتقوا الله أيها المسلمون، ولا تفرطوا في القيام على ما استرعاكم من النساء، وولاكم أمرهن بقوله: ]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ[ [النساء: 34].

كلكم راع:

فقوموا بأقدس واجب كلفكم به، وصونوا أنفس أمانة أمركم بالمحافظة عليها ورعايتها، وقد حذركم رسول الله ﷺ‬ ونبهكم إلى مسئوليتكم عنها بقوله: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» [رواه البخاري، ومسلم].

فكل أب مسئول عن ابنته، وكل زوج مسئول عن زوجه، كما أن كل رجل مسئول عن نسائه وأولاده، وكل أهل بيته وأسرته، وكل مسلم مسئول عما كلفه الله به ووضعه في يده وتحت نفوذه وملكه قياده وزمامه. فمن أرخى الزمام كان مسئولاً عن نتيجة إهماله، ولن ينجو مستهتر من عواقب استهتاره، ولا مفرط مقصر من العقاب على تقصيره، ولا مستهين بأمر الله مستخف بغضبه من انتقامه وقصاصه في الدنيا والآخرة.

فتوبوا إلى الله جميعًا أيها المسلمون المؤمنون لعلكم تفلحون، واذكروا دائمًا هذه الآية الكريمة ولا تتغافلوا عنها وتتجاهلوها: ]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [النور: 31].

واذكروا دائمًا الوعيد الرهيب في قوله تعالى: ]وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ[ [السجدة: 22].