×
هذا الكتاب عبارة عن جواب لسؤال وُجِّه إلى الإمام ابن القيم - رحمه الله - عن كيفية الجزية وسبب وضعها ومقدارها، ثم استطرد فذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم، ومعاملتهم عند اللقاء، وعيادتهم وشهود جنائزهم وتعزيتهم وتهنئتهم، وأحكام ذبائحهم، ومعاملاتهم في البيع والشراء، وأحكام نكاحهم ومناكحاتهم، وأحكام مواريثهم، وأحكام أطفالهم في الدنيا وفي الآخرة، وختم الكتاب بذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها.

 أحكام أهل الذمة

تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي سليمان بن عبد الله العمير

(المقدمة/3)


 مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب «أحكام أهل الذمة» للإمام ابن القيم - رحمه الله -، وهو آخر كتاب يحقق في هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «آثار الإمام ابن قيِّم الجوزية وما لحقها من أعمال». وهو أهمُّ ما أُلِّف في هذا الباب، وأوسعُه وأشملُه، توسَّع فيه المؤلف وأطال الكلام في الموضوعات التي تناولها بالبحث، بالاعتماد على مصادر مهمة لم يصل إلينا بعضها، ويحتفظ الكتاب بنصوص نادرة منها. ويشمل الكتاب أيضًا الشروط العُمَرية التي شرحها المؤلف شرحًا مفصلًا (على غرار شرحه لكتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء في «أعلام الموقعين»)، بحيث أصبح كتابًا مستقلًّا، وأذِن المؤلف أن يُفرد لأهميته. وفيما يلي الكلام على بعض الموضوعات التي تعتبر مدخلًا للكتاب وتوطئةً له: - عنوان الكتاب - توثيق نسبته إلى المؤلف - موضوع الكتاب وما أُلِّف فيه

(المقدمة/5)


- أهمية الكتاب - بناء الكتاب وترتيب مباحثه - موارده - أثره في الكتب اللاحقة - وصف النسخة الخطية - الطبعات السابقة - منهج العمل في هذه الطبعة * * * * *

(المقدمة/6)


عنوان الكتاب عنوان الكتاب كما في مخطوطته: «أحكام أهل الذمة»، وبه سمَّاه بعض المؤلفين عند النقل عنه (كما في: «كشاف القناع» 4/ 246، و «مطالب أولي النهى» 2/ 614، 4/ 283). ونقل عنه بعض المؤلفين وسمَّوه «أحكام الذمة» (كما في: «الإنصاف» 10/ 454، 27/ 165، و «الإقناع» 2/ 50، و «كشاف القناع» 3/ 132، و «إرشاد أولي النهى» للبهوتي 1/ 619). والأمر فيه قريب، ولا يُعدّ اختلافًا. كما نقول: «أهل السنة» و «السنة» بمقابل الشيعة. وذكره المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 441 ط. عالم الفوائد) فقال: «كتابنا في أحكام أهل الملل»، وأشار الدكتور صبحي الصالح في مقدمة تحقيقه (ص 54) إلى احتمال وقوع التحريف هنا في تسمية الكتاب «أحكام أهل الملل» استنادًا إلى كثرة التصحيفات في نشرة «الشفاء» فكأن الناشر لم يحسن قراءتها، أو كانت في الأصل غامضة، أو تساهل في نقلها ثم طبعها على ما ترجَّح لديه. والذي ترجَّح لدينا أنه ليس مبنيًّا على التحريف لاجتماع الأصول الخطية لـ «شفاء العليل» على هذه التسمية، ولأن هذا الكتاب صالح لأن يسمَّى بهذا الاسم الشامل الواسع «أحكام أهل الملل»، فإنه تحدَّث في بعض أبوابه عن أحكام أهل الملل عامَّةً ولو لم يكونوا من أهل الذمة، كما في مسألة حكم

(المقدمة/7)


أطفال المشركين في الآخرة. وصالحٌ لأن يُسمَّى باسم أخصَّ وأدلَّ على موضوعه الذي غلب عليه، وهو «أحكام أهل الذمة». ولم نجد ذكر الكتاب في المصادر القديمة التي ترجمت لابن القيم إلا عند ابن رجب في «المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي» (ص 101)، ولكن حصل فيه تحريف حيث ورد فيه «كتاب اختلاف أهل الملل مجلدان». والصواب «أحكام أهل الملل» كما ذكره ابن القيم في «شفاء العليل». وقد أثبتنا العنوان الموجود في المخطوطة وما ذكرتْه المصادر الناقلة التي سبق ذكرُها، وبه عُرِف الكتاب عند المتأخرين، ولا داعي لتغييره، فأبقيناه كما هو. * * * * *

(المقدمة/8)


 توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف

لم يرد ذكر هذا الكتاب في عامة المصادر القديمة لترجمة ابن القيم إلا «المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب» كما سبق، وهو ثابت النسبة له بوجوه من الشواهد الداخلية والخارجية: أولًا: أشار المؤلف في مبحث تحريم «الطَّرِيفا» عند اليهود إلى كتابه «هداية الحيارى» فقال: «وقد ذكرنا في كتاب «الهداية» سبب هذا التحريم، ومن أين نشأ، وأن التوراة لم تحرِّمه، وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه، وذكرنا نصّ التوراة وأنهم حملوه على غير محله» (1/ 374). وهذا المبحث موجود في «هداية الحيارى» (ص 307 - 310). ثانيًا: بحث في موضع آخر هل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد، ورجَّح الثاني وقال: «الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتاب مفرد» (1/ 32). وهو الكتاب الذي أشار إليه في «تهذيب السنن» (3/ 137) بقوله: «كتاب مفرد في الاجتهاد»، وفي «مفتاح دار السعادة» (1/ 155) بقوله: «كتاب الاجتهاد والتقليد». ثالثًا: ذكر المؤلف هذا الكتاب في «شفاء العليل» فقال: «وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا، فإنا قد استوفيناها في كتابنا «أحكام أهل الملل» بأدلتها، واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها، وذكر مآخذهم، وإنما المقصود ذكر الفطرة وأنها هي الحنيفية، وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة» (2/ 441).

(المقدمة/9)


وقد فصّل المؤلف الكلام في هذا الموضوع في كتابنا هذا (2/ 66 - 103) الذي أشار إليه بقوله: «كتابنا في أحكام أهل الملل»، وأهل الملل هم اليهود والنصارى والمجوس والصابئة الذين يكونون أهل الذمة في الحكومة الإسلامية، وقد ذكر المؤلف أحكامهم في كل ما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم وأنكحتهم وغيرها، وتوسَّع في كل بابٍ بما لا مزيد عليه. رابعًا: ذكر المؤلف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة (ينظر فهرس الأعلام) نقل فيها اختياراته وكلامه من كتبه وفتاواه، وانفرد هذا الكتاب بنصوص مهمة عنه لا توجد في كتبه المطبوعة. وهذه طريقة ابن القيم في استفادته من علوم شيخه، وأسلوبُه في التأليف في كل موضوع، حيث ينقل كلام شيخه ويختصره ويُهذّبه ويزيد عليه، ويشير إليه غالبًا ويُغفِل الإشارة إليه أحيانًا. وقد قمنا بمراجعة كتب شيخ الإسلام وتتبعنا النقول عنها، وأشرنا إلى النقول التي لا توجد في المطبوع من كتب الشيخ. خامسًا: اعتماد المؤلفين على هذا الكتاب واقتباسهم منه، مع التصريح بذكر المصدر أو عدم التصريح به. وسيأتي بيان ذلك في مبحث أثره في الكتب اللاحقة. سادسًا: قال المؤلف في الكتاب: «وبذلك أفتينا وليَّ الأمر بانتقاض عهد النصارى لما سَعَوا في إحراق الجامع والمنارة وسوق السلاح، ففعل بعضهم، وعلم بعضهم وكتمَ ذلك ولم يُطلِع عليه وليَّ الأمر» (2/ 336). وذكره المؤلف أيضًا في «زاد المعاد» (3/ 162) فقال: «وبهذا القول أفتينا وليَّ الأمر لما أحرق النصارى أموال المسلمين بالشام ودُورَهم، وراموا

(المقدمة/10)


حَرْق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكاد ــ لولا دفاع الله ــ أن يحترق كلُّه، وعلم بذلك من علم من النصارى، وواطأوا عليه وأقرُّوه ورضُوا به ولم يُعلِموا به وليَّ الأمر، فاستفتى فيهم وليُّ الأمر من حضره من الفقهاء، وأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك أو أعان عليه بوجهٍ من الوجوه ... ». وهذا الحدث كان سنة 740 كما بيَّن ذلك ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 414، 415)، وذكر حيلة النصارى لإحراق السوق والمسجد، والقبض عليهم وتنفيذ حكم الشرع فيهم. وتدل الإشارة إلى هذا الحدث أن هذا الكتاب أُلِّف بعد سنة 740، وأن المؤلف أفتى فيه بما يقتضيه الشرع. * * * * *

(المقدمة/11)


موضوع الكتاب وما أُلِّف فيه أحكام أهل الذمة باب من أبواب «كتاب الجهاد» في كتب الفقه، ويُعَنْون له بـ «كتاب السِّير» أيضًا، لاسيما في كتب الفقه الحنفي والشافعي، والمقصود به سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من بعدِه ومنهجهم في المعاملة مع الكفار من أهل الحرب، ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة، ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين. فلفظ «السير» يشمل جميع هؤلاء الأصناف وبيان أحكامهم، بدءًا من الجهاد وفرضيته وشروطه، وما يجب قبل القتال وبعده، وانتهاء الحرب بالإسلام أو بالأمان أو بالهدنة أو بعقد الذمة، وحكم الأنفال والفيء والغنائم، وحكم الأسرى والسبي. وتوجد أحكام أهل الذمة في كتب الفقه عامة وكتب السِّير المفردة خاصة، إلّا أنها في كتب السِّير أكثر تفصيلًا واستيعابًا للجزئيات. وقد ألَّف فيه أبو إسحاق الفزاري (ت 185 أو بعدها) (1)، قال الشافعي: لم يصنّف أحدٌ في السِّيَر مثله. ونظر فيه الشافعي، وأملى كتابًا على ترتيبه ورضيه (2)، ذكر فيه قول أبي حنيفة ثم الأوزاعي وأبي يوسف، وعلق على كلامهم، وهو ضمن كتاب «الأم» له (9/ 171 - 277) بعنوان «سير الأوزاعي» (3). وللشافعي _________ (1). طُبعت قطعة منه بمؤسسة الرسالة بتحقيق فاروق حمادة. (2). «تهذيب التهذيب» (1/ 152)، و «إكمال تهذيب الكمال» (1/ 270). (3). طبعه بعض الحنفية مستلًّا منه بحذف كلام الشافعي بعنوان «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف.

(المقدمة/12)


أيضًا كتاب «سير الواقدي» (5/ 639 - 721)، ولا ندري لماذا نُسب للواقدي (1)، فالكلام فيه كله للشافعي. ولمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189) كتاب «السير الصغير» و «السير الكبير» (2)، وشرحَ الثاني: السرخسي وغيره. وكلها مطبوعة. وأملى أحمد بن كامل القاضي (ت 350) كتابًا في السِّيَر (3) لم يصل إلينا. هذه أهمّ كتب «السير» المفردة، واعتمد عليها من ألَّف في هذا الباب من المتأخرين. ويوجد كتاب الجهاد والسير أيضًا في كثير من كتب الحديث كالصحيحين والسنن والجوامع. ومن أوسع مَن بوَّب لأحكام أهل الذمة عبد الرزاق الصنعاني (ت 211) في «مصنفه» بعنوان «كتاب أهل الكتاب» (6/ 3 - 132) و «كتاب أهل الكتابين» (10/ 311 - 378)، نثر فيهما جلَّ الأحكام المتعلقة بهم (4). وكذلك يوجد كثير من الأبواب المتعلقة بأحكام أهل الذمة _________ (1). ذكره ابن النديم في «الفهرست» (ص 264) ضمن مؤلفات الشافعي. (2). انظر ما ذكره السَّرخسي في مقدمة «شرح السير الكبير» من سبب تأليف محمد بن الحسن للكتابين والنفرة بينه وبين أبي يوسف، وكيف تلقَّى الأوزاعي كتاب «السير الصغير» له. (3). كما في «تاريخ بغداد» (5/ 121)، و «معجم الأدباء» (1/ 421)، و «الوافي بالوفيات» (7/ 299)، و «الثقات» لابن قطلوبغا (1/ 466). وفي «لسان الميزان» (1/ 581): «كتابًا في السنن»، فليحرَّر. (4). أفادنا بذلك الشيخ سليمان العمير حفظه الله، كما زاد مشكورًا في القائمة الآتية بعض العناوين.

(المقدمة/13)


في كتاب «الخراج» لأبي يوسف القاضي (ت 182) وكتاب «الأموال» لأبي عبيد القاسم بن سلَّام (ت 224). ثم اتجه بعض العلماء إلى إفراد أحكام أهل الذمة بالتأليف، سواءٌ بصفة عامَّة أو في بابٍ من الأبواب، نذكر فيما يلي ما عرفنا منها مرتَّبةً على الوفيات، ولم نشر إلى الكتب والبحوث والدراسات في العصر الحديث، فهي كثيرة. - «الحكم بين أهل الذمة»، لداود الظاهري (ت 270). ذكره ابن النديم في «الفهرست» (ص 272). - «أحكام أهل الملل والردة» ضمن كتاب «الجامع» للخلال (ت 311)، وقد طبع مفردًا. - «جزء فيه شروط النصارى»، لعبد الله بن أحمد بن زَبْر الربعي (ت 329)، مطبوع، ذكر فيه الشروط العمرية على أهل الذمة. - «جزء فيه شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على النصارى»، لأبي عمرو بن السَّماك (ت 344)، مطبوع. - «شروط أهل الذمة» لأبي الشيخ (ت 369). ذكره السمعاني في «المنتخب من معجم شيوخه» (1/ 546). ونقل عنه ابن القيم في هذا الكتاب، وسماه «شروط عمر» (2/ 339). - «شرح كتاب عمر بن الخطاب»، للالكائي (ت 418). نقل عنه ابن القيم في هذا الكتاب كثيرًا.

(المقدمة/14)


- «شروط أهل الذمة»، للقاضي أبي يعلى (ت 450). ذكره الذهبي في «تاريخ الإسلام» (10/ 105). - «أحكام أهل الذمة» لأبي بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني (ت 507)، ألَّفه قبل سنة 480. ذكره الونشريسي في «المعيار المعرب» (2/ 257، 258)، وسماه «الفصول الجامعة فيما يجب على أهل الذمة من أحكام الملة». وهو مما رواه ابن خير الإشبيلي في «فهرسته» (ص 259). - «شروط أهل الذمة» لابن الزاغوني (ت 527). ذكره الحارثي في «شرح المقنع» (2/ 152، 5/ 149، 170). - «تجريد سيف الهمة لاستخراج ما في ذمة أهل الذمة»، لعثمان بن إبراهيم النابلسي (ت 660) مطبوع. - «النفائس في هدم الكنائس»، لابن الرفعة (ت 710)، ألَّفه سنة 707، مخطوط. - «ردٌّ على أهل الذمة ومن تبعهم»، لشهاب الدين غازي بن أحمد ابن الواسطي (ت 712)، مطبوع. - «مسألة في الكنائس» لابن تيمية (ت 728)، ضمن «مجموع الفتاوى» (28/ 632 - 646). - «فتوى في أمر الكنائس»، لابن تيمية، ضمن «جامع المسائل» (3/ 361 - 370).

(المقدمة/15)


- «قاعدة في ذبائح أهل الكتاب»، لابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» (35/ 212 - 233). - «فصل في شروط عمر بن الخطاب التي شرطها على أهل الذمة»، لابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» (28/ 651 - 656). - «كشف الغمة في أحكام أهل الذمة» لبدر الدين ابن جماعة (ت 733). ورد ذكره في «الأنس الجليل» (2/ 137)، و «إيضاح المكنون» (2/ 362). - «أحكام أهل الذمة» لابن القيم، وهو كتابنا هذا، وسيأتي الحديث عنه. - «كشف الغمة في ميراث أهل الذمة»، لتقي الدين السبكي (ت 756)، ذكره ابنه في «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 310)، ونقل منه في (6/ 42 وما بعدها). وهو مخطوط في دار الكتب المصرية والمكتبة الخالدية بالقدس. - «كشف الدسائس في منع ترميم الكنائس» للتقي السبكي، طبع بعنوان «مسألة في منع ترميم الكنائس» ضمن «فتاواه» (2/ 369 - 417). - «إيضاح كشف الدسائس ... »، للتقي السبكي، مخطوط. - «رسالة في ذبائح أهل الكتاب ونكاح نسائهم»، للتقي السبكي، مخطوطة. - «رسالة في أطفال المشركين»، للتقي السبكي، مخطوطة. - «منهج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب»، لابن الدُّريهم (ت 762). لم يُذكَر مؤلفه في «كشف الظنون» (2/ 1882)، وطبع

(المقدمة/16)


كذلك في دار الغرب الإسلامي غفلًا من اسم المؤلف. ثم وُجدت نسخ أخرى تنسب الكتاب لابن الدريهم، فطبع منسوبًا إليه. - «المذمة في استعمال أهل الذمة»، لمحمد بن علي بن النقاش الدكَّالي (ت 763)، مطبوع. وقد ألَّفه سنة 759. - «الرياسة الناصرية في ردّ من يعظّم أهل الذمة ويستخدمهم على المسلمين»، لعماد الدين محمد بن الحسن الإسنائي (ت 764)، كما في «كشف الظنون» (1/ 934). وفي «حسن المحاضرة» (1/ 430) أنه لأخيه جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الآتي ذكره. - «رسالة في عدم استخدام أهل الذمة وعدم توليتهم أمور المسلمين»، لعبد الرحيم الإسنوي (ت 772). ولعلها «نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى للكتاب» كما في «كشف الظنون» (2/ 1957). ويُنظر هل هو المطبوع باسم «الكلمات المهمة في مباشرة أهل الذمة» له؟ - «العهود العمرية في اليهود والنصارى»، لشهاب الدين ابن العطّار الدنيسري (ت 794). ورد ذكره في «المنهل الصافي» (2/ 178) و «كشف الظنون» (2/ 1180). - «رفع الحجاب عن مناكحة أهل الكتاب»، لأبي اللطف الحصكفي (ت 859)، كما في «الضوء اللامع» (8/ 222).

(المقدمة/17)


- «رسالة في ذبائح المشركين ومناكحتهم»، لابن قاضي عجلون (ت 876)، كما في «الضوء اللامع» (8/ 97). - «القول المتّبَع في أحكام الكنائس والبِيَع»، لقاسم بن قطلوبغا (ت 879)، مخطوط. - «وفاء العهود في وجوب هدم كنيسة اليهود» و «نفيس النفائس في وجوب تحري مسائل الكنائس وكشف ما للمشركين من الدسائس» كلاهما لأحمد بن محمد الشافعي المعروف بابن شكم (ت 893)، مخطوط. - «القول المعهود فيما على أهل الذمة من العهود»، للسخاوي (ت 902)، ذكره في «الضوء اللامع» (8/ 18) و «وجيز الكلام» (2/ 759). ألَّفه سنة 868، وهو مخطوط. - سؤال عن الكنائس في بلاد المسلمين هل هي مملوكة للكفار؟ جوابه لابن أبي شريف (ت 906)، مخطوط. - «مسألة ذبائح أهل الكتاب»، ليوسف بن عبد الهادي (ت 909). - «رسالة في اجتناب الكفار وعما يلزم أهل الذمة من الجزية والصغار»، لمحمد بن عبد الكريم المغيلي (ت 909)، وتسمَّى «مصباح الأرواح في أصول الفلاح»، مطبوع. وهو بعنوان «أحكام أهل الذمة» في بعض المخطوطات. - «بشرى العابس في حكم البِيَع والديور والكنائس»، للسيوطي (ت 911)، مخطوط.

(المقدمة/18)


- «رسالة في أطفال المشركين»، للسيوطي، مخطوطة. - «سيف النقمة في شروط أهل الذمة»، لابن طولون (ت 953). ورد ذكره في «إيضاح المكنون» (2/ 37). - «إرشاد الحيارى إلى حلّ ذبيحة اليهود والنصارى»، لابن طولون، كما في كتابه «الفلك المشحون» (ص 79). - «القول المعهود فيما على أهل الذمة من العهود»، لعبد الله بن محمد باقشير (ت 958)، كما في «إيضاح المكنون» (2/ 254). - «رسالة في الكنائس المصرية»، لزين الدين ابن نجيم (ت 970)، مطبوعة. - «حلّ مناكح أهل الكتاب في زماننا هذا وذبائحهم»، لمجهول. مخطوط في برلين، من القرن العاشر. - «الإسفار من الأسفار عن الاستفسار في أولاد الكفّار»، لعلي آغا (من القرن العاشر)، مخطوط. - «النفائس في أحكام الكنائس»، لمحمد بن عبد الله التمرتاشي (ت 1004). ورد ذكره في «خلاصة الأثر» (4/ 19). - «الدرر النفائس في شأن الكنائس»، لمحمد بن يحيى بن عمر القرافي (ت 1008)، مخطوط. - «رسالة متعلقة بأهل الذمة»، لعبد الباقي الحنبلي (ت 1017). ذكرها السفاريني في «غذاء الألباب» (2/ 19).

(المقدمة/19)


- «إرشاد الحيارى إلى استخدام اليهود والنصارى»، لمحمد بن صالح الكتامي (ت بعد 1029)، مخطوط. - «فتوى في شأن اليهود»، لأحمد بن علي السوسي (ت 1046)، مخطوطة. - «إماطة التوبيخ والذمة عن أحكام أهل الذمة»، لمجهول (حنفي)، مخطوط. - «الشروط والحدود المشترطة على النصارى واليهود»، لمجهول. ورد ذكره في «إيضاح المكنون» (2/ 48). - «إظهار نعمة الإسلام وإشهار نقمة الإجرام» (قصيدة سينية) نظمها: أبو الفضل محمد بن النجار الحنفي (؟)، ذكر فيها أحكام أهل الذمة. انظر: «كشف الظنون» (1/ 81). وعليها شرح لمحمد بن عبد اللطيف المقدسي بعنوان «بحر الكلام»، مخطوط. - «الأثر المحمود في قهر ذوي العهود الجحود»، للشرنبلالي (ت 1069)، مطبوع ضمن مجموعة رسائله «التحقيقات القدسية». - «قهر الملة الكفرية بالأدلة المحمدية لتخريب دير المحلة الجوانية»، للشرنبلالي، مطبوع. - «الفوائد المهمة في بيان اشتراط التبري في إسلام أهل الذمة»، لنوح بن مصطفى الرومي (ت 1070)، مخطوط.

(المقدمة/20)


- «رسالة في حكم أطفال المشركين»، للأمير الصنعاني (ت 1182)، مخطوطة. - «كتاب عمر فيما شرطه على أهل الذمة» للأمير الصنعاني، مخطوط. - «رسالة في أحكام الكفار من أهل الكتاب والمعاهدين: هل تقبل شهادتهم أم لا؟» للأمير الصنعاني، مخطوطة. - «إقامة الحجة الباهرة عن هدم كنائس مصر والقاهرة»، لأحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (ت 1192)، مخطوط. - «رسالة في الكنائس في الأراضي المأخوذة عنوةً من أيدي الكفار»، لمحمد بن عبادة بن بري العدوي (ت 1193)، مخطوطة. - «رسالة في الذمة والذميين»، لأعظم بن أبي البقاء بن موسى الكرماني الحنفي (من القرن الثاني عشر)، مخطوطة. - «حكم تزويج الكتابية والمجوسية والصابئة والوثنية والتعريف بهن»، لحسين بن إبراهيم البارودي (من القرن الثاني عشر)، مخطوط. - «رسالة في تزويج الصابئة والوثنية»، لمجهول (حنفي)، مخطوطة. - «رسالة في تحريم استخدام أهل الذمة»، لمجهول (حنبلي)، مخطوطة في تونس. - «رسالة في منع أهل الذمة من الكتابة وغيرها من أمور المسلمين»، لمجهول، مخطوطة.

(المقدمة/21)


- «سراج الظلمة في شرح حقوق أهل الذمة»، لمجهول، مخطوط في الأزهرية. - «رسالة في صلح أهل الذمة»، لعبد القادر الكوكباني (ت 1207). - «رسالة في انتزاع أطفال أهل الذمة عند موت الأبوين»، ليحيى بن صالح السحولي (ت 1209). مخطوطة في مكتبة الإمبروزيانا بعنوان: «نقاش في سؤال عن كيفية معاملة أطفال أهل الذمة عند موت آبائهم». - «بحث فيمن مات أبواه من أطفال اليهود»، للحسين بن عبد الله الكبسي (ت 1223)، مخطوط. - «رسالة في طعام أهل الكتاب»، لأبي الفدا إسماعيل بن محمد التميمي (ت 1248)، مخطوطة. - «رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم»، للشوكاني (ت 1250)، مطبوعة ضمن «الفتح الرباني» (10/ 4979 - 4994). - «رسالة في أحكام الكنائس»، لأبي بكر التوقادي. مخطوطة كتبت سنة 1301. - «مسألة في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت بأمر ولاة الأمور إذا ادَّعى أهل الذمة أنها أُغلقت ظلمًا»، فتاوى لمجموعة من العلماء، مخطوطة. - «مسائل حول اليهود» لمجهول. مخطوط.

(المقدمة/22)


- «عناية الوهاب في ذبائح أهل الكتاب»، لعبد الرحمن أفندي الأماني (ت بعد 1287). - «أجوبة الحيارى عن حكم قلنسوة النصارى»، لمحمد بن أحمد عليش (ت 1299)، مخطوط. - «مقدمة في عهد أهل الذمة»، لابن قضيب البان (ت بعد 1304)، مخطوطة. - «الأحكام المهمة في شروط أهل الذمة»، لضياء الدين علي أبي الهدى (؟)، مخطوط. - «رسالة في أحكام أهل الذمة»، لجعفر بن إدريس الكتاني (ت 1323)، مطبوعة. - «جلاء الظلمة في حقوق أهل الذمة»، لكامل بن حسين الغزي (ت 1351)، مخطوط. - «إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة»، لمحمد بخيت المطيعي (ت 1354)، مطبوع. - «النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار»، لمصطفى بن محمد الوارداني، مطبوع. * * * * *

(المقدمة/23)


 أهمية الكتاب

سبق أن استعرضنا ما وصل إلينا من المؤلفات المفردة في أحكام أهل الذمة. وكتاب الإمام ابن القيم أهمُّها وأوسعها وأشملها للأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الباب، وأكثرها استيعابًا للأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومذاهب أئمة فقهاء الأمصار. وكل من يقارن هذا الكتاب بغيره من المؤلفات في هذا الباب يظهر له ذلك. وهذا أمر واضح لا نطيل الكلام بذكره، فالكتاب بين أيدي القراء يستطيعون أن ينظروا فيه بأنفسهم. وانفرد الكتاب بخصائص أخرى نُجمل الإشارة إليها فيما يلي: - يحوي الكتاب نصوصًا نادرة من كتب مفقودة، منها: كتاب «أحكام القرآن» لإسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282) الذي وصفه الذهبي بقوله: «لم يُسبق إلى مثله» (1). نقل منه نصوصًا طويلة في موضعين. وكتاب «الرد على ابن قتيبة» لمحمد بن نصر المروزي (ت 294) الذي نقل منه نصوصًا كثيرة. وكتاب «شرح الشروط العمرية» لهبة الله بن الحسن اللالكائي (ت 418) الذي نقل منه روايات كثيرة في الباب وكلام المؤلف عليها. ولعله كتاب مستقل أو جزء من كتابه في «السنن» غير «شرح السنة» وقد ذكرهما الخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 70). وهو كتاب نادر لم نجد من نقل عنه. _________ (1). «سير أعلام النبلاء» (13/ 340).

(المقدمة/24)


وكذلك كتاب «شروط عمر» لأبي الشيخ الأصبهاني (ت 369) الذي نقل عنه بعض النصوص. واعتمد المؤلف على «الرعاية» لابن حمدان (ت 695)، وقد وجدنا بعض النصوص المنقولة عنه في «الرعاية الكبرى» إلا أنه لم يصل إلينا كاملًا، فلم نجد بقية النصوص فيه. - يشتمل الكتاب على شرح الشروط العمرية على أهل الذمة، بحيث أصبح كتابًا مستقلًّا، وأذِن المؤلف «لمن أراد أن يُفرِده من جملة الكتاب» (2/ 419). ولذا نشره الدكتور صبحي الصالح نشرةً مستقلةً أيضًا إلى جانب نشره تابعًا للكتاب على أنه آخر مبحث فيه. وشروط عمر هذه مبنية على رواية عبد الرحمن بن غَنْم لها (1)، وقال المؤلف: «شهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقَّوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجُّوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها» (2/ 277). وفصَّل المؤلف الكلام على شرح هذه الشروط العمرية، حتى وصل إلى الفقرة الأخيرة من هذه الشروط، وفيه الكلام على ما ينقض العهد وما لا ينقضه، فأطال في شرحه، وذكر سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسائل المتعلقة به. ولم يصل إلينا إلّا قسم منه في المجلد الأول من _________ (1). توجد منه ثلاث نسخ خطية، كلٌّ منها في ورقتين. وهي في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم 4/ 4715 مجاميع، وبرقم 18/ 13837 مجاميع، ودار الكتب الوطنية بتونس برقم 170/ 17 (الورقة 185 أ- 186 أ). وربما يكون بعضها منقولًا من «أحكام أهل الذمة» هذا. ولا يمكن البتُّ في هذا الأمر إلَّا بالاطلاع على النسخ المذكورة أو مصوراتها، ولم يتيسر لنا ذلك الآن.

(المقدمة/25)


النسخة الخطية، وبقية الشرح كانت في المجلد الثاني الذي لم نعثر عليه، ونرجو أن يكون محفوظًا في إحدى المكتبات. ويُشبه شرحَ الشروط العمرية شرحُ كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء في ما يقارب مجلدين من «أعلام الموقعين» (1/ 185 - 508 ثم 2/ 3 - 520)، قال في أوله: «هذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبَنَوا عليه أصول الحكم والشهادة. والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه». وقال في آخره: «فهذا بعض ما يتعلق بكتاب أمير المؤمنين - رضي الله عنه - من الحِكم والفوائد». فلا يُستغرب من المؤلف أن يتوسع كذلك في شرح الشروط العمرية، ويأتي بفوائد ونقول تناسب الموضوعات التي تحتوي عليها. - ومما يميِّز الكتاب أنه يصحّح كثيرًا من النقول التي توجد محرَّفةً في المصادر التي رجع إليها المؤلف، مثل «الجامع» للخلال، و «الأموال» لأبي عبيد، و «المغني» لابن قدامة، و «الصارم المسلول» وغيرها، بل بعض هذه النصوص سقطت من النسخ المطبوعة. وقد نبَّهنا في الحواشي على هذه المواضع. * * * * *

(المقدمة/26)


بناء الكتاب وترتيب مباحثه هذا الكتاب عبارة عن جواب لسؤال وُجِّه إلى العلامة ابن القيم عن كيفية الجزية وسبب وضعها ومقدارها، فأطال في الجواب واستوفى الكلام على أحكام الجزية، ثم استطرد فذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم، ومعاملتهم عند اللقاء، وعيادتهم وشهود جنائزهم وتعزيتهم وتهنئتهم، والمنع من استعمالهم في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم، وأحكام ذبائحهم، ومعاملاتهم في البيع والشراء، وأحكام أوقافهم ووقف المسلم عليهم، وأحكام نكاحهم ومناكحاتهم، وأحكام مهورهم، وضابط ما يصح من أنكحتهم وما لا يصحّ، وولايتهم في النكاح، وأحكام نكاح نساء أهل الكتاب والسامرة والمجوس، وأحكام مواريثهم وهل يجري التوارث بينهم وبين المسلمين وبيان الخلاف في ذلك، وأحكام أطفالهم في الدنيا وفي الآخرة. وختم الكتاب بذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها، كما أشار إليها في أول الكتاب بقوله: «وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروطَ العمرية وشرحها» (1/ 36). وقسَّم الشروط إلى ستة فصول كبيرة أو أبواب: الأول: في أحكام البِيَع والكنائس، وفي أثنائها بيان حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه المعابد، وما يجوز إبقاؤه منها وما يجب إزالته ومحو رَسْمه. الثاني: فيما يتعلق بإظهار المنكر من أقوالهم وأفعالهم مما نُهوا عنه.

(المقدمة/27)


الثالث: فيما يتعلق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس ونحوه. الرابع: في أمر معاملتهم للمسلمين بالشركة ونحوها. الخامس: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلق بذلك. السادس: فيما يتعلق بضرر المسلمين والإسلام، وبيان ما ينقض العهد وما لا ينقضه، وذكر مذاهب العلماء في ذلك (2/ 278). ثم توسَّع في الكلام على وجوب قتل سابِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقاض عهده، وذكر الأدلة على ذلك من القرآن ثم من السنة، وفي أثناء الدليل الرابع من السنة ينتهي المجلد الأول من الكتاب والذي وصلت إلينا نسخته الفريدة. والظاهر أن المجلد الثاني كان يحتوي على بقية الأدلة من السنة على قتل سابّ الرسول، وأدلة الإجماع والقياس على هذه المسألة، ومسائل أخرى مهمة متعلقة بسبّ الرسول، وكان اعتماد المؤلف في بيان ذلك على كتاب شيخه «الصارم المسلول على شاتم الرسول»، ويمكن الرجوع إليه لتمام الكلام. وقد أشار المؤلف إلى ثلاث مسائل يذكرها في آخر الكتاب فقال (2/ 439): «واختلف العلماء فيما ينتقض به العهد وما لا ينتقض، وفي هذه الشروط هل يجري حكمها عليهم وإن لم يشترطها إمام الوقت اكتفاءً بشرط عمر - رضي الله عنه -، أو لا بدّ من اشتراط الإمام لها في حكمهم إذا انتقض عهدهم. فهذه ثلاث مسائل». ثم بدأ الكلام في المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما

(المقدمة/28)


لا ينقضه، وفي أثنائها انتهى المجلد الأول، وبقي الكلام على المسألتين، وهما في الحقيقة مسألة واحدة ذات شقين، وتكلم عليهما شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» باختصار، ولم يتوسَّع في ذلك توسُّعَه في المسألة الأولى. فلعلَّ المؤلف أطال الكلام عليهما وزاد على ما كتبه شيخه، وشرحَه بذكر الأمثلة والوجوه، كما هو منهجه في الاستفادة من كُتب الشيخ، فهو يميل إلى التهذيب والاختصار أحيانًا، ويجنح إلى الشرح والبيان والتفصيل أحيانًا أخرى. وبهذا تمَّ هذا الكتاب في مجلدين كما ذكر الناسخ في آخر النسخة. وكان الدكتور صبحي الصالح ــ - رحمه الله - ــ يظنّ أنّ القسم المفقود من «أحكام أهل الذمة» قليل، ويستبعد ما كتبه الناسخ في آخر النسخة من وجود مجلد ثانٍ للكتاب، ويقول: إن ما فقدناه من الأصل لم يكن إلّا تلخيصًا للأدلة الأحد عشر الباقية من السنة التي احتج بها شيخ الإسلام في «الصارم» على قتل الساب، واختصارًا لرأيه هو أيضًا في المسألتين التاليتين المتعلقتين باشتراط إمام الوقت لهذه الشروط وعدم اشتراطها. وإذا كان عرض هذه المسألة مفصَّلةً في «الصارم» لم يستغرق إلّا نحو مئة صفحة، فمن المنطقي أن يجيء في «الأحكام» أقلّ من النصف بعد تلخيصها قياسًا على ما نقله ابن القيم من أقوال شيخه. فكيف يكون ذكر هذه الأدلة ــ رغم تلخيصها ــ مُحوِجًا إلى مجلدٍ ثان كما يذكر الناسخ صراحة؟ ويُرجّح الدكتور أنه قد اشتبه الأمر على الناسخ، إذ كان ــ والله أعلم ــ ينقل من كتاب «مجموع» يشتمل على تتمة أقوال ابن القيم في هذا الصدد، وعلى فتاوٍ أخرى قد تكون له أو لسواه في موضوعات مشابهة لأحكام أهل

(المقدمة/29)


الذمة أو مقاربة، أو في مسائل من الفقه الحنبلي على الأقلّ، فوهم الناسخ واعتبر هذا المجموع كله تتمة لكتاب ابن القيم «أحكام أهل الذمة». انظر طبعة الدكتور (ص 657، 871 - 872، 890 - 891، ومقدمة التحقيق 58 - 61). أقول: كتاب «الصارم المسلول» يحتوي على أربع مسائل: الأولى: أن السابّ يُقتل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا. الثانية: أنه يتعين قتله، ولا يجوز استرقاقه ولا المنّ عليه ولا فداؤه. الثالثة: في حكمه إذا تاب. الرابعة: في بيان السبّ وما ليس بسبٍّ. والكتاب في 600 صفحة من الطبعة القديمة، و 1113 صفحة في الطبعة الجديدة المحققة، وجميع هذه المسائل متعلقة بأحكام السب الذي ينتقض به عهد الذمة، ولا نتصور أن ابن القيم عندما يتكلَّم في هذا الباب يقتصر على المسألة الأولى منها فقط ويترك المسائل الثلاث الأخرى التي لها ارتباط وثيق بما يَنقُض عهدَ الذمة. وأخطأ الدكتور عندما ظنَّ أن ابن القيم اقتصر على المسألة الأولى، بل ظنَّ أنه اقتصر منها على ذكر أدلة السنة على وجوب قتل السابّ، وأنَّ بها يتم الكلام على المسألة، فألحقَ بالكتاب تلخيصَ بقية أدلة السنة في صفحات معدودة (ص 877 - 890). وفاتَه أن شيخ الإسلام في «الصارم» استدل على هذه المسألة بإجماع الصحابة وبالقياس أيضًا في صفحات كثيرة (ص 378 - 464). ثم تكلم على المسائل الثلاث الأخرى

(المقدمة/30)


في الثلثين الباقيين من الكتاب (ص 465 - 1113). فكيف يُتصَّور أن ابن القيم عندما يؤلف في هذا الباب يترك هذه المسائل المهمة ولا يشير إليها أدنى إشارة؟ أو يكون كتاب شيخه بين يديه ولا يستفيد منه؟ بل أرى أنه إلى جانب نقله واقتباسه من «الصارم» زاد عليه من كتب ومصادر أخرى زيادات بيِّنة، وتوسَّع في بعض المواضع فأطال الكلام فيها عندما وجد شيخه اختصر. وهذا منهج معروف لابن القيم، نجده يختصر أحيانًا من كلام شيخه، ويزيد عليه أحيانًا كثيرة فوائد ونقولًا وتعليقات. والكتاب الذي بين أيدينا خير شاهدٍ على ذلك، فقد نقل من مؤلفات شيخه (مثل: «اقتضاء الصراط المستقيم»، و «درء تعارض العقل والنقل»، و «الصارم المسلول»، وغيرها من رسائله وفتاواه)، ويزيد عليها ويستدرك ويأتي بفوائد ونقول، ويُعلّق عليها من كلامه وبناتِ فكره. وخلاصة القول أن ما توهَّمه الدكتور ظنٌّ بعيد عن الصواب، واتّهامه للناسخ بأن الأمر اشتبه عليه فظنَّ أن للكتاب مجلدًا ثانيًا= بعيد عن الواقع. وقد صرَّح ابن رجب في «المنتقى» من معجم شيوخ أبيه (ص 101) بأن الكتاب مجلدان، وهذا مما يؤكّد صحة قول الناسخ. وعلينا أن نبحث عن بقية الكتاب في مكتبات المخطوطات في العالم ضمن المخطوطات المجهولة العنوان والمؤلف، وخاصةً تلك التي تتعلق بالفقه وأحكام أهل الذمة. ولعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا. * * * * *

(المقدمة/31)


موارده من أهم مرتكزات تحقيق الكتب الوقوف على موارد المؤلفين في تآليفهم، لاسيما إذا كان الكتاب يحقَّق على نسخة فريدة فيها شيء من التصحيف والسقط، فإن الرجوع إلى موارد المؤلف يعين على تصحيح العبارة واستدراك السقط، كما أنه يعين على معرفة منشأ الوهم الذي في كتاب المؤلف، فقد لا يكون من المؤلف وإنما من المصدر الذي ينقل منه، إلى غير ذلك من الفوائد التي تعود على المؤلف وكتابه. والموارد التي تهمُّنا هنا هي ما عدا مصادر الحديث المشهورة كـ «الصحيحين» و «مسند أحمد» و «السنن» التي لا تختص بكتاب دون كتاب أو مبحث دون مبحث. وفيما يلي أهمُّها: - «الأموال» لأبي عُبيد القاسم بن سلَّام (ت 224). نقل منه كثيرًا من الأحاديث والآثار بأسانيدها في مباحث الجزية والخراج والفيء وأحكامِها ومتعلقاتها، كما نقل منه كلامَه وترجيحاته في هذه المباحث. وفي أغلب تلك المواضع يذكر اسم المؤلف دون الكتاب، وقد صرَّح بذكر الكتاب في موضعين (1/ 7؛ 2/ 420). - «الجامع» للخلال (ت 311)، لاسيما «كتاب أهل الملل والردَّة والزنادقة» منه، فقد اعتمد عليه في الكتاب كلِّه في نقل الروايات عن الإمام

(المقدمة/32)


أحمد، وقد يكتفي بـ «قال الخلال» وهو الكثير، وقد يضيف إليه «في الجامع» أو «في جامعه» (1/ 162، 200؛ 2/ 6، 16، 94 وغيرها)، وقد يقول: «قال الخلال في كتاب أحكام أهل الملل» (2/ 275، 309). و «جامع الخلال» أغلبه مفقود، ومن حسن الحظ أن كتاب أهل الملل منه موجود مطبوع. وقد رجعنا إلى طبعة مكتبة المعارف بتحقيق إبراهيم بن حمد السلطان. ورجعنا إلى طبعة دار الكتب العلمية في بعض المواضع عند وجود سقط في هذه الطبعة. وكما أن هذا الكتاب أفاد في تصحيح النصوص الواردة في كتابنا، فكذلك بالعكس، فإن كلتا الطبعتين فيهما تصحيف في مواضع كثيرة يُصحَّح بعضُها من كتابنا. - «الاستذكار» و «التمهيد» كلاهما لابن عبد البر. وقد صرَّح باسم الأول في (2/ 244، 263). ونقل منه كلامًا في مسألة إسلام أحد الزوجين، عزاه إلى المؤلف دون ذكر اسم كتابه (1/ 455 - 457). وصرَّح بذكر الثاني في (2/ 217) ونقل منه ما يتعلَّق بحكم أطفال المسلمين في الآخرة. - «أحكام القرآن» للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (ت 282) نقل منه فصلًا طويلًا (1/ 353 - 357) حول اختلاف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح، وفصلًا آخر في معنى «الإحصان» (1/ 566 - 568). ولا يوجد الفصلان في القدر المطبوع من الكتاب. - «الخلافيات» للبيهقي (ت 458). نقل منه دون التصريح باسم الكتاب، وإنما يكتفي بذكر المؤلف. انظر: (1/ 461 - 475)

(المقدمة/33)


- من أوسع مصادر المؤلف في الفقه المذهبي: «المغني» لابن قدامة (ت 620)، اعتمد عليه كثيرًا في نقل المذهب والمذاهب الأخرى في ثنايا الكتاب كلِّه، تارةً يصرِّح بذكره فيقول: «قال الشيخ في المغني» (1/ 120، 253، 550؛ 2/ 8، 76 وغيرها)، وقال مرَّة: «قال أبو محمد في المغني» (1/ 61)، ومرَّة: «قال الشيخ أبو محمد المقدسي» (1/ 117). ونقل منه في مواضع كثيرة مع تصرُّف دون العزو إليه (1/ 68، 259، 346، 382؛ 2/ 71، 331 وغيرها). - ومن المصادر الأخرى التي نقل عنها في الفقه الحنبلي: «التعليق» (1/ 390، 2/ 8، 12، 318، وغيرها) و «الجامع الكبير» (2/ 189) و «الأحكام السلطانية» (1/ 33، 67، 2/ 423) كلها للقاضي أبي يعلى، و «الرعاية» لابن حمدان (1/ 116، 126، 172، 210، 298). - وأما الفقه الشافعي، فنقل عن «المختصر» للمزني (1/ 97، 2/ 46، 311) و «نهاية المطلب» للجويني (1/ 107، 125، 2/ 68، 312 وغيرها) و «روضة الطالبين» للنووي (2/ 84). - وأما في الفقه المالكي فيعتمد على «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس المالكي (ت 616)، وقد صرَّح به في موضعين (2/ 313، 356)، ولم يصرِّح به في أكثرها (1/ 37، 68، 225، 263؛ 2/ 96 وغيرها). - وفي الفقه الحنفي نقل عن «الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود الموصلي (ت 683)، دون التصريح به (2/ 98، 311).

(المقدمة/34)


- من مصادر المؤلف كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد نقل منها ترجيحاته ومناقشاته في عدة مباحث، ففي معنى الفطرة التي يولد كل مولود عليها نقل عن «درء التعارض» (2/ 111 وما بعدها). وفي مسألة وجوب قتل ساب الرسول اعتمد على «الصارم المسلول» مع تهذيب مباحثه واستدلالاته وتنقيحها وترتيبها والزيادة عليها. وفي مسألة توريث المسلمين من أهل الذمة نقل كلام شيخ الإسلام (2/ 30 - 43) من مصدرٍ لا زال في عداد المفقود. - ومن موارد المؤلف في التفسير: «البسيط» للواحدي (ت 468). نقل منه دون التصريح بذكره (1/ 17؛ 2/ 279، 282). - وفي مسألة أطفال المشركين نقل عدَّة أحاديث وآثار مسندة من كتاب «الرد على ابن قتيبة» لمحمد بن نصر المروزي، كما نقل منه كلامه في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها وتعقَّب بعضه. انظر: (2/ 105، 184، 257). - وفي شرح الشروط العمرية أكثر المؤلف النقل عن هبة الله الطبري اللالكائي من كلام له في «شرح كتاب عمر بن الخطاب»، وصرَّح بكتابه في (2/ 376). - ونقل أيضًا عن «شروط عمر» لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 339). - وفي التعريف بالصابئة اعتمد على «الملل والنحل» للشهرستاني دون أن يشير إليه (1/ 133 وما بعدها). * * * * *

(المقدمة/35)


 أثره في الكتب اللاحقة

من أوائل مَن نقل عن «أحكام أهل الذمة» واعتمد عليه اعتمادًا كاملًا دون أن يذكر المصدر: شمس الدين محمد بن علي الشهير بابن النقّاش (ت 763) في كتابه «المذمة في استعمال أهل الذمة» الذي ألَّفه سنة 759. فقد بدأ كتابه بسرد الآيات الدالة على عدم موالاة اليهود والنصارى والكفار (ص 257 - 265) [ط. دار الكتب العلمية 1422] بنفس السياق والترتيب الذي يُوجد عند ابن القيم في هذا الكتاب (1/ 336 - 340) مما يدلُّ على أن ابن النقاش نقلها عنه. وممّا يؤكّد ذلك أن ابن القيم قدَّم لبعض الآيات بكلامٍ من عنده، فنقله ابن النقّاش كما هو بدون تصرُّف، والفصل الذي يلي الآيات منقول عنه أيضًا برمَّته. وكذلك الأحاديث والآثار الدالة على منع استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم منقولة مع شرحها كما هي عند ابن القيم، قارن «المذمة» (ص 268 - 273) بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 299 - 304). ووهم في عزو بعض النصوص إلى المصادر، ومن أمثلة ذلك أنه قال: «وفي مسند أحمد عن عياض الأشعري عن أبي موسى ... » (ص 270)، وعند ابن القيم (1/ 302): «وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي ... ». ولا يوجد الحديث في «مسند أحمد» وزيادات عبد الله، وإنما نقله ابن القيم عن «الجامع» للخلال (1/ 197). ونقل ابن النقاش فصولًا طويلة في معاملة الخلفاء والأمراء مع أهل

(المقدمة/36)


الذمة وعدم استعمالهم في شؤون المسلمين (ص 274 - 319)، وهي منقولة بحذافيرها من كتاب ابن القيم (1/ 305 - 333، 340 - 343). ولم يزد عليه شيئًا إلّا بعض الأحداث التي كانت في القرن الثامن («المذمة» ص 319 - 325)، ولعلها منقولة من بعض التواريخ، وبه ينتهي الكتاب. وعلى هذا فكتاب «المذمة» لابن النقاش مبني على كتاب «أحكام أهل الذمة» لابن القيم، ولم يُشر المؤلف أدنى إشارة إلى مصدره الذي كان أمامه ونقل عنه ما أراد! ولم يزد عليه شيئًا ذا بال. وإذا تجاوزنا كتاب «المذمة» نجد في كتب الفقه الحنبلي نقولًا من كتاب «أحكام أهل الذمة»، وهذه بعض النصوص المنقولة عنه: 1 - في «تحفة الراكع والساجد» للجراعي (ت 883) (ص 195، 196): «قال ابن القيم: وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب ... فهذا القول غلط محض» قرابة عشرة أسطر. وهذا النقل من «أحكام أهل الذمة» (1/ 258 - 259) 2 - في «الإنصاف» للمرداوي (10/ 454): «قال ابن القيم في بدائع الفوائد وأحكام الذمة له: والصواب إثبات الواو [في «وعليكم» إجابةً على سلام أهل الذمة]، وبه جاءت أكثر الروايات، ذكرها الثقات الأثبات». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 277 - 278). 3 - وفي «الإنصاف» (27/ 165) أيضًا في مبحث إسلام الطفل من أهل الذمة بموت أبويه أو أحدهما: «وعنه: لا يُحكَم بإسلامه، قال ابن القيم في

(المقدمة/37)


أحكام الذمة: وهو قول الجمهور. وربما ادُّعي فيه إجماع متيقن معلوم، واختاره شيخنا تقي الدين». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (2/ 61). 4 - في «الإقناع» للحجاوي (2/ 50) و «كشاف القناع» (3/ 132): «فقال ابن القيم في كتاب أحكام الذمة له: لا تقرّ، لأن التعلية مفسدة، وقد شككنا في شرط الجواز». قارن بـ «أحكام أهل الذمة (2/ 329). 5 - في «كشاف القناع» (4/ 246) و «مطالب أولي النهى» لمصطفى الرحيباني (4/ 283): «قال في أحكام أهل الذمة: وللإمام أن يستولي على كل وقفٍ وُقِف على كنيسة وبيت نار أو بيعة، ويجعلها على جهة قربات». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 417). 6 - في «مطالب أولي النهى» (2/ 614) أيضًا: «لأنها محرمة في نفسها، كبائع نحو الميتة أو الخنزير، فإنه لا يُقضى له بثمنها، لأن نفس هذه العين محرمة. أفاده ابن القيم في أحكام أهل الذمة». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 319). ويبدو أن الكتاب لم تكثر نسخه الخطية، فلم تكن متداولة بين العلماء، ولم ينقل عن الكتاب إلّا بعض المؤلفين، ولكنه كان موجودًا إلى القرن الثالث عشر، فقد نقل عنه مصطفى الرحيباني (ت 1243) وبعض علماء نجد المتأخرين كما سيأتي ذكرهم في وصف النسخة الخطية. * * * * *

(المقدمة/38)


 وصف النسخة الخطية

هي محفوظة في «مدرسة محمَّدية» في مدينة مَدْراس (وتسمَّى اليوم: تِشينَّاي) في ولاية «تاميل نادو» الهندية. وهي في قطع صغير، فكل صفحة منها كحجم الكفِّ أو أكبر بقليل. وعدد صفحاتها 569 صفحة بحسب الترقيم المثبت على الصفحات، فيكون عدد أوراقها 285 ورقة (1)، في كلِّ صفحة 21 سطرًا بالمداد الأسود، إلا أن العنوان والفصول و «قيل» و «قلت» ونحوها رُقِمت بمداد أحمر. كُتب على صفحة العنوان بمداد أحمر بخط الناسخ: «أحكام أهل الذمة للإمام العلامة شمس الدين ابن القيم الحنبلي». وتحته في الجهة اليسرى: «الحمد لله [دخل] في ملك الحقير إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الأمير ــ لطف الله بهم وعفا عنهم ــ بمكة المشرفة سنة 1167». وإبراهيم هذا هو ابن صاحب «سبل السلام»، عالم مفسِّر، وصاحب سنَّة كأبيه، رحل إلى مكة مرَّات ثم استقرَّ بها إلى أن توفي - رحمه الله -. له ترجمة في «التاج المكلل» للنواب صديق حسن خان (ص 377) و «الأعلام» للزركلي (1/ 69). _________ (1). وهم الشيخ صبحي الصالح ــ رحمه الله ــ في مقدمته (ص 49) حيث ظن أن (569) المرقوم على الصفحة الأخيرة هو عدد الأوراق، فقال: إنها 1138 صفحة.

(المقدمة/39)


وتحته قيد تملُّك آخر: «ملكه ملكًا مجازًا لا حقيقة، أضعف العباد وأحوج الخليقة، راجي عفو ربِّه الغفور: محمد درويش بن المرحوم (1) الخطيب محمد عبد الشكور المدني، في 18 جماد آخر (كذا) سنة 46». وذُيِّلت هذه العبارة بختم لم يتَّضح ما فيه إلا أن صبحي الصالح ذكر أن نصَّه: «درويش عبد الشكور». ثم عن يمينه تملُّكٌ آخر: «في ملك الفقير إلى الله تعالى أحمد بن عبد القادر بالخير الحضرمي عفا اللهُ عنهما وغفر ذنوبهما». وتحته مباشرة بخط حديث «محمود بن صبغة الله». وهو أحد أبناء الشيخ القاضي صبغة الله بن محمد غوث المدراسي المعروف بالقاضي بدر الدولة المتوفى سنة 1280. له ترجمة في «نزهة الخواطر» (7/ 991). وفي آخر المجلد: «آخر المجلد الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى في الثاني: فصل: الدليل الخامس. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وكان الفراغ من كتابته ومقابلته في يوم الأحد حادي عشري جمادى الثاني من شهور سنة تسعٍ وستين وثمانمائةٍ ... » (2). ولم يذكر الناسخ اسمه، وهو ــ كما في بعض المخطوطات التي وصلت إلينا بخطه (3) ــ إبراهيم بن علي بن أحمد بن بُرَيد الديري القادري الشافعي _________ (1). قرأه الشيخ صبحي: «الحصوم»، خطأ. (2). انظر: (2/ 518). (3). أفادنا بذلك الباحث النِّقاب عبد الله بن علي السليمان، جزاه الله خيرًا.

(المقدمة/40)


المتوفى سنة 880. ترجم له السخاوي في «الضوء اللامع» (1/ 80). والمخطوط بخط نسخي واضح، ويكتب الناسخ تعقيبة في نهاية كل ورقة. وآثار المقابلة عليها واضحة من استدراك السقط في الهامش، كما أنه ذكر كلمات في الهامش وعليها (خ) بمداد أحمر، ولعلها إشارة إلى نسخة أخرى قابل عليها الناسخ أو كانت كما هي في النسخة الأم المنقول منها. وأيضًا كُتبت عناوين جانبية في بعض الصفحات، ولكنها بخط آخر متأخر. وقد يستشكل الناسخ بعض الكلمات من حيث السياق والمعنى فيكتب عليها (كذا) بالحمرة، وقد يستشكل رسم بعض الكلمات فلا يتمكن من قراءتها فيحاكي رسمها غيرَ محرَّرٍ ثم يُعلِم عليها بالحمرة ويكتب في الهامش (ظ)، أي: يُنظر في أمرها. ورغم تلك العناية، فالناسخ قد وقع في تصحيف عددٍ من الكلمات، لاسيما في أواخر المجلد. * قطع أخرى من الكتاب: إلى جانب النسخة الخطية التي وصفناها توجد مقتطفات من هذا الكتاب في بعض المجاميع المخطوطة التي كتبت في القرن الثالث عشر، مما يدل على أن الكتاب كان موجودًا عند العلماء إلى نهاية القرن المذكور، ونرجو أن تكون نسخته محفوظة في بعض المكتبات، ولعلّ الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا. في مكتبة وزارة الأوقاف بالكويت ضمن مجموع برقم 324 (الورقة

(المقدمة/41)


46 - 47) توجد قطعة من الكتاب بخط أحد علماء نجد في القرن الثالث عشر، تبدأ بقوله: «قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب أحكام أهل الذمة بعد ما ساق حديث بريدة الذي في صحيح مسلم ... قال: وفي هذا الحديث أنواع من الفقه ... ». ثم أورد الناسخ مقتطفات من الكتاب هي في طبعتنا (1/ 9 - 12، 14 - 15، 27 - 31، 32). وفي المكتبة المذكورة برقم 1372 (الورقة 7) بعض النصوص المنقولة من الكتاب (2/ 183، 186، 207 - 208) بخط أحد علماء نجد المتأخرين، وصرَّح بأنها منقولة من كتاب «أحكام أهل الذمة» لابن القيم. وفي مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم 4767/ 9 ورقتان من الكتاب بخط بعض العلماء، كما في فهرس المكتبة (1/ 655). * * * * *

(المقدمة/42)


الطبعات السابقة طبع الكتاب قبل أكثر من نصف قرنٍ، بتحقيق الدكتور صبحي الصالح - رحمه الله -، ثم بالاعتماد عليها صدرت طبعات أخرى حديثة، أشهرها طبعة دار رمادي للنشر. وفيما يلي وصف هاتين الطبعتين وما لهما وما عليهما: 1 ــ طبعة صبحي الصالح صدرت عن دار العلم للملايين (بيروت) سنة 1961 م (= 1380 هـ). اعتمد فيها على نسخة استنسخها الدكتور محمد حميد الله من النسخة الفريدة التي بالهند، قام بنسخها له السيد محمد قدرت رحيم فاروقي من أهل العلم بمدينة حيدراباد، انتهى منه في 27 ذي الحجة 1369 (1)، ثم عارضها الدكتور حميد الله بالأصل قاصدًا إثبات أرقام صفحات الأصل في المنسوخة حتى يتيسر الرجوع إلى الأصل إذا احتيج إليه. كما أثبت بعض الملاحظات في الهامش، لا سيما في المواضع التي فيها تصحيف أو سقط. وكان الدكتور محمد حميد الله - رحمه الله - ينوي إخراج الكتاب بنفسه لولا أنه شُغل عنه بدراسات أخرى في ذلك الحين، فرغَّب صديقه الدكتور صبحي الصالح في أن يقوم به، وأرسل إليه تلك المنسوخة من الأصل. وبالاعتماد على هذه المنسوخة حقَّق صبحي الصالح الكتاب ونشره. _________ (1). كما أثبته صبحي الصالح في آخر نشرته (2/ 873).

(المقدمة/43)


وكان أراد أن يجلب الأصل أو صورة منه من الهند، ولكن لغلاء التصوير لم يطلب إلا تصوير ما كان بحاجة ماسَّة إليه من الصفحات. وقد بذل - رحمه الله - جهدًا مضنيًا في تصحيح العبارة بالرجوع إلى المصادر التي اعتمدها المؤلف وغيرها من كتب الفقه والحديث والتراجم، حتى تسنَّى له أن يدَّعي في مقدمته أنه «مطمئن كلَّ الاطمئنان إلى سلامة نصِّ الكتاب كلِّه من الخطأ والتحريف والتصحيف» (1). ولكن مع ذلك وقع في هذه الطبعة سقط في مواضع كثيرة، ومنشأ كثير من ذلك من ناسخ الفرع المعتمَد في إخراج هذه الطبعة. كما وقع فيه تصحيف وتحريف في كثير من الكلمات، وسيأتي ذكر الأمثلة على ذلك. وقدَّم - رحمه الله - بمقدمة حافلة (2) عرَّف فيها بالكتاب وعرض المسائل الواردة فيه والنسخة التي اعتمدها وقصَّة الحصول عليها. ثم ألحق في آخر الكتاب ملحقَين إكمالًا للنقص الذي في آخر النسخة: الأول في تتمة الاحتجاج بالسنة على وجوب قتل السابِّ، والثاني في تلخيص القول في المسألتين الباقيتين. وقد لخَّصهما من «الصارم المسلول»، حيث كان المؤلف صادرًا عنه في الأدلة الأربعة الأولى من السنة التي أوردها. وفيما يلي نماذج من السقط والتحريف الذي وقع في هذه النشرة: _________ (1). (ص 65). (2). انظر ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود في «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (1/ 140) في نقد بعض ما جاء فيها.

(المقدمة/44)


- (ص 3): «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 6). - (ص 22): «حديث بُريدة: «فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» صريحٌ في [أن حكم الله] واحدٌ». ما تحته خط سقط من النسخة الفرعية لانتقال النظر، فسقط من المطبوع إلا القدر الذي بين الحاصرتين، فإن المحقق زاده من عنده ليقيم السياق، فوافق لفظَ الأصل. انظر طبعتنا (1/ 32). - (ص 22): «فمن قال: كل مجتهدٍ مصيبٌ بمعنى أنه يصيب حكم الله الذي حكم به في نفس الأمر فقوله خطأ، وإن أراد أنه مصيب للأجر بمعنى أنه مطيعٌ لله في أداء ما كُلِّف به، فقوله صحيح». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 32). (ص 43): «ألا تراه إنما جعلها على الذكور المذكورين دون الإناث والأطفال». ما تحته خط تصحيف عن «المُدرِكين» كما في الأصل وفي طبعتنا (1/ 62). - (ص 46): «وعلى هذا استمرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه كلهم وعمل الأئمة في جميع الأعصار حتى يومنا هذا». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 67). - (ص 80): «وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا: رَامَهم عمر - رضي الله عنه -

(المقدمة/45)


على الجزية فقالوا: نحن عربٌ لا نؤدّي كما يؤدِّي العجم، ولكن خُذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعضكم، يعنون الصدقة، فقال عمر: هذا فرض على المسلمين، فقالوا: ازدَدْ ما شئتَ بهذا الاسم لا اسم الجزية». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 114). - (ص 125): «ووجه الوضع أن ما لا يناله [الماء] فينتفع به في مصالح [الناس يكون بمنزلة] ما يناله الماء». هكذا ورد النص في المطبوع، وصوابه كما في الأصل وطبعتنا (1/ 175): «ووجه الوضع أن ما لا يناله الماء تبعٌ لما يناله، فينتفع به في مصالح ما يناله الماء». لمَّا سقط ما تحته خط من النسخة الفرعية التي كانت بين يديه، اجتهد في إقامة السياق بإضافة كلمات بين المعكوفات. - (ص 126): «فإن نزل هو عنها أو اشتراها غيره صار الثاني أحقَّ بها». ما تحته خط تصحيف مخالف للأصل، صوابه: «وآثَرَ بها» كما في طبعتنا (1/ 176). - (ص 145): «ويُشبِّهه بماله ليس عليه فيه زكاةٌ إذا كان مقيمًا بين أظهُرِنا وبما شئت». ما تحته خط تصحيف عن «وبماشيته» كما في الأصل وفي طبعتنا (1/ 205). - (ص 159): «لو دخلوا بإماءٍ فابن حبيبٍ يمنعهم من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهن، إذ لا يرى الشركة». سقط ما تحته خط لانتقال النظر. انظر طبعتنا (1/ 225).

(المقدمة/46)


- (ص 194): «وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجهٍ من الوجوه». ما تحته خط تصحيف عن «كماله» كما في طبعتنا (1/ 273). - (ص 272): «وقال حربٌ: قلت لأحمد: رجل يدفع ماله مضاربةً إلى الذمي تكرهه؟ قال: لا». ما تحته خط تصحيف قلب المعنى، صوابه: «فكرهه»، أي أن الإمام أحمد كره ذلك وقال: لا. انظر طبعتنا (1/ 380). - (ص 445): «فحكى الميموني عن أبي عبد الله في أول المسألة ما يدل من قول أبي عبد الله واحتجاجِه». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 7). - (ص 466): «ثم لمَّا أسلموا عامَ الفتح أقرَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أسلموا عليه وقال: «مَن أسلم على شيء فهو له». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 34). - (ص 474): «وهاهنا علة الميراثِ الإنعامُ، واختلاف الدين لا يكون من علله». ما تحته خط خطأ نشأ من تصحيفٍ في النسخة الفرعية التي كانت بين يديه، فإنه كان فيها: «من بلاله» على ما ذكره في الهامش، فأصلحه إلى المثبت. والصواب كما في الأصل وطبعتنا (2/ 43): «مزيلًا له». - (ص 494): «نقله الحربي»، صوابه: «نقله الخِرَقي» كما في الأصل وطبعتنا (2/ 64).

(المقدمة/47)


- (ص 494): «فهناك موجِب الميراث عُلِّقَ بالموت فلم يوجبه، وهنا مانع الميراث علّق بالموت فلم يمنعه». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 64). - (ص 524): «فأمَّا عبد الله بن المبارك فإنَّه سُئل عن تأويل هذا الحديث، فقال: تأويله الحديث الآخر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أطفال المشركين». سقط ما تحته خط فاختل السياق. انظر طبعتنا (2/ 104). - (ص 524): «فكيف يكتم مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم». ما تحته خط تحريف، صوابه «يلتئم» كما في الأصل وفي طبعتنا (2/ 104). - (ص 525): «حكى أبو عبيد هذين القولين، ولم يحلَّ على نفسه في هذا قولًا ولا اختيارًا». ما تحته خط تحريف عن: «يحكِ عن». انظر طبعتنا (2/ 105). - (ص 564): «فإنَّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليلٌ عقليٌّ يعلم به إثبات الصانع= لم يكن في مجرَّد الرسالة حجةٌ عليهم». سقط ما تحته خط فاختل السياق. انظر طبعتنا (2/ 153). - (ص 577): «فمن كان صغيرًا بين أبوين كافرَين أُلحِق بحكم الكفَّار، ومن كان صغيرًا بين أبوين مسلمَين أُلحِق بحكم الإسلام». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 170). - (ص 581): «وكذلك قوله: (فقال هو والملائكة: شهدنا)، هذا خطاب قطعًا، بل هو من تمام كلامهم» ما تحته خط تصحيف في المطبوع تبعًا للأصل، صوابه: «خطأ» كما هو واضح من السياق. انظر طبعتنا (2/ 174).

(المقدمة/48)


- (ص 584): «وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنَّه كان بالغًا مطلقًا». ما تحته خط تحريف عن: «مكلَّفًا». انظر طبعتنا (2/ 178). - (ص 703): «وإذا لم يكن من هدمه بدٌّ فالوجه أن يبنوا جدارًا داخل البيعة، ثم قد يُفضي هذا إلى أن يبنوا جدارًا ثالثًا إذا ارتجَّ الثاني». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 322). - (ص 703): «وهكذا إلى أن تُبنى ساحة الكنيسة». ما تحته خط تحريف أفسد السياق، صوابه: «تفنى» كما في الأصل وفي طبعتنا (2/ 322). - (ص 712): «وإذا شاء المسلمون نزلوها منهم فإنَّها ملك المسلمين». ما تحته خط تصحيف في المطبوع تبعًا للأصل، صوابه: «نزعوها» كما هو واضح من السياق. انظر طبعتنا (2/ 333). - (ص 736): «ثم ساق من طريق العرياني: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ... ». إنما هو «الفريابي» كما في طبعتنا (2/ 363)، ولكن لمَّا تصحَّف رسمه في الأصل (وعنه في الفرع الذي بين يديه) لم يهتد إلى صوابه. ولو راجع ترجمة عبد الرحمن بن ثابت في كتب الرجال لوجد من الرواة عنه «محمد بن يوسف الفريابي». (ص 766): «أنَّ المسلمة مع الكافرة كالأختين اللَّتين تنظران [ما] تدعو إليه الحاجة». صوابه: «كالأجنبي الذي ينظر» كما في طبعتنا (2/ 402)، ومنشأ الخطأ: تحريف «كالأجنبي» إلى «كالأختين» في الأصل، فغيَّر المحقق ما بعده ليقيم السياق، فزاد التحريف تحريفًا.

(المقدمة/49)


- (ص 773): «وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبدؤوهم بالسلام»، فهو في واقعةٍ معينة؛ قال: «إني ذاهب إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام»، وهذا لمَّا ذهب إليهم ليُحارِبهم». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 413). - (ص 852): «أن كعبًا كان له عهدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمان، وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 497). * ما سبق أمثلة قليلة للتحريف والسقط الكثيرَين في هذه الطبعة، وقد يكون بعضها أو كثير منها بسبب التحريف والسقط في النسخة الفرعية التي كانت بين يديه - رحمه الله -. ولكن هناك مواضع عديدة كان ما في النسخة فيها صوابًا فغيَّره ظنًّا منه أنه خطأ، فمثلًا: (ص 348): «ثنا سوَّار بن مجشر عن أيوب عن نافع». قال في الهامش: «في الأصل (سرار بن مجشر) بالراء، وإنما هو سوَّار بالواو المشددة ـ ضبطه في القاموس المحيط». قلنا: الصواب هو ما في الأصل، وهو من رجال النسائي، له ترجمة في «تهذيب الكمال» وفروعه، ولا ندري لماذا عدل المحقق عن كتب الرجال إلى «القاموس المحيط»! - (ص 471): «فتثبت في حقه العصمة المُورِّثة دون المُضَمِّنة كما يقول ذلك أبو حنيفة وغيره». كان في الأصل كما ذكر المحقق نفسه في الهامش: «العصمة المؤثِّمة»، وهو الصواب، ولكنَّه ظنَّ أنه خطأ فغيَّره. انظر طبعتنا (2/ 39) والتعليق عليه لبيان معنى «العصمة المؤثِّمة».

(المقدمة/50)


- (ص 626): «وقال الخلال: أخبرنا حفص بن عمر الرازي». قال في الهامش: «في الأصل (حفص بن عَمرو الربالي) بدون إعجام اللفظ الأخير، وإنما هو حفص بن عمر الرازي، أبو عمران، نزيل البصرة ... الخلاصة 75». هكذا جزم بأنه هو، مع أن الخلال (ت 311) لا يمكن أن يكون أدرك حفصًا الرازي الذي هو من صغار أتباع التابعين (الطبقة التاسعة عند الحافظ)، ولو نظر في «الخلاصة» بعده بسطرين لوجد: «حفص بن عمر (كذا) الربالي»، وهو الذي ورد في الأصل. انظر طبعتنا (2/ 226). - (ص 652): «فيقول الرب سبحانه: قبل أن أخلقَكم علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خَلقتُكم، وإلى علمي تصيرون جميعكم، فتأخذهم النار». كان في الأصل: «ضُمِّيهم»، وهو أمر الله تعالى للنار أن تأخذهم، وهو لفظ الحديث، ولكن لم يفهم المحقق وجهه فغيَّره إلى المثبت. انظر طبعتنا (2/ 261). - (ص 741): «واتَّخذوا الوَفْر والجُمَم». وقال في الهامش: «في الأصل (الحمام) بالحاء المهملة، صوابه (الجُمم) كما أثبتناه ... » إلخ. قلنا: ما في الأصل صواب محض، فإن الجُمَّة تجمع على «جِمام» أيضًا كما هو منصوص عليه في «جمهرة ابن دريد» وغيره. وكونه لم يُعجم لا يضرُّه، فكثير من الكلمات تركها الناسخ من غير إعجام. - (ص 786): «أحدهما: ما ذكرناه من ظهور سبب الحق، لِتعذُّر الأخذِ وخفائه، فينسب إلى الجناية». صواب العبارة كما في طبعتنا (2/ 429): «ما ذكرناه من ظهور سبب الحق فيُعذَر الآخِذُ، وخفائه فيُنسَب إلى الخيانة». وقد

(المقدمة/51)


ذكر المحقق نفسه في الهامش أنه في الأصل: «فيعذر». وهو الصواب ولكن لمَّا لم يفهم السياق غيَّره. وأما «الجناية» فتصحيف في الأصل. (ص 837): «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حرث وأشجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -». قال في الهامش: «في الأصل (حدث واسحار) صوابه ما أثبتناه». كلَّا، بل ما في الأصل هو الصواب، وإعجامه الصحيح: «حدث واشتجار». (ص 838): «حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي رُهْم البطن الذي بُدئ بهم فيه هذه الصحيفة». صوابه كما في الأصل: «رهط ابن أُبَيٍّ، وهم». وقد ذكر المحقق في الهامش ما في الأصل، ولكنه لم يهتد إلى وجهه، فغيَّره بناءً على ما في نشرة محمد محيي الدين من «الصارم المسلول» (ص 64)، ولم يَفْطَن أن ابن أبي رُهْم - رضي الله عنه - قرشيٌّ من السابقين الأولين، وليس خزرجيًّا! ومع ذلك كلِّه، فللدكتور صبحي الصالح فضل السبق في إخراج الكتاب وبذلِ الجهد في تصحيحه حسب وُسعه، وقد استفدنا من قراءته في بعض المواضع وزياداته المقترحة لإقامة النص في مواضع أخرى مع الإشارة إلى ذلك، فرحمه الله تعالى وغفر له وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا. 2 ــ طبعة دار رمادي للنشر طُبعت سنة 1418 هـ/1997 م بتحقيق يوسف بن أحمد البكري وشاكر بن توفيق العاروري في ثلاثة مجلدات. هذه النشرة مأخوذ نصُّها من نشرة

(المقدمة/52)


صبحي الصالح، ولم يُعتمد فيها على الأصل الخطي، وبالتالي ففيها جلُّ ما في تلك النشرة من السقط والخطأ، وإنما استطاع المحققان استدراك بعض السقط وتصحيح بعض الأخطاء ــ لا سيما في أسماء الرواة ــ بالرجوع إلى مصادر المؤلف وكتب الحديث. وفاتهما الشيء الكثير من التصحيف والخطأ مع إمكان تصحيحه من المصادر التي وقفا عليها وعزَوا إليها، كما سيأتي الأمثلة على ذلك. وقد يكون من أسباب هذا العَوَز أن أغلب جهدهما كان منصبًّا على تخريج الأحاديث والتطويل فيها على حساب التأمل في النص وتفهُّمه على وجهه. وأكبر ما يؤخذ على هذه الطبعة: أن المحققَين عمدا إلى زيادات صبحي الصالح التي كان قد زادها اجتهادًا منه بين المعكوفات [] تمييزًا لها عن النص المنقول من الأصل الخطي= عمدَا إلى جميع تلك الزيادات فجعلاها في النص بحذف المعكوفات مع عدم الإشارة إلى ذلك في الهامش، فاختلط ما كان في الأصل الخطي بما زاده صبحي الصالح فيه. وهذه جناية في حق المؤلف وكتابه، فإن من وقع على خطأ في الكلام المقحم سيحمِّل المؤلف تبعته طالما أنه لم يتميّز عن كلامه، والمؤلف بَراءٌ منه. فمثلًا جاء في كلام المؤلف كما في الأصل وطبعتنا (2/ 110): « ... وبقوله تعالى عن مؤمن آل ياسين: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي}»، فتوهَّم صبحي الصالح - رحمه الله - أن في الكلام سقطًا فأصلحه هكذا: «وبقوله تعالى عن مؤمن آل [فرعون في سورة] يس ... ». وهو خطأ محض، فليس في سورة يس ذكر قصة موسى، ولا ذكر فرعون ولا مؤمن آل فرعون، إنما هو

(المقدمة/53)


مؤمن آل القرية المُضروب بها المَثَل في يس، فعبَّر عنه المؤلف بـ «مؤمن آل ياسين»، ولا غُبار عليه. وكان الخطب هيِّنًا ما دامت الزيادةُ الخاطئة محصورةً ومقصورةً بين المعكوفين، ولكن جاء محققا طبعة دار رمادي فحذفا المعكوفين ليصير الإقحام من كلام المؤلف، فكان رمًّا على فسادٍ وضغثًا على إبَّالة! * ومما يؤخذ عليها: أن فيها سقطًا في النص مما هو مثبت في نشرة صبحي الصالح. فمثلًا جاء في (ص 720 - 721): «وإنما فهم من قوله: «طلِّقْ أيتَهما شئتَ» مفارقتَها وإخراجها عنه وإمساك الأخرى، ولو كان قوله: «طلِّق أيتهما شئتَ» اختيارًا لها لنفذ الطلاق عليها» بسقط ما تحته خط مع ثبوته في نشرة صبحي الصالح (ص 361). (ص 774) منها: «والمسلم غير ممنوع من إثبات اليد صورةً، والذي يمتنع بالإسلام إثبات الملك على ذلك أو ما هو بمعناه من إثبات اليد المعنوية، ولا يمتنع إثبات اليد الصورية» ما تحته خط ساقط من هذه الطبعة، ثابت في نشرة صبحي الصالح (ص 399). وفي (ص 1433): «فقال لهما المشركون: نحن أهدى من محمد وأصحابه، فإنَّا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم، فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان»، فما تحته خط ساقط من هذه الطبعة مع ثبوته في نشرة صبحي الصالح (ص 853). * وفيما يلي نماذج أخرى من الأخطاء التي كان بإمكان المحققَين

(المقدمة/54)


تحاشيها دون الرجوع إلى الأصل الخطي: - (ص 97): ذكر المؤلف قولًا في تفسير بعض الآيات عن «الفرَّاء»، فظنَّ المحققان أن المقصود: القاضي أبو يعلى الفرَّاء، فترجما له في عشرة أسطر في الهامش، مع أنه من الواضح جدًّا أنه يحيى بن زياد الكوفي النحوي، صاحب «معاني القرآن»، والنص المنقول فيه (3/ 34). - (ص 194): «قال المزني: قد قال في كتاب النكاح: «إذا بدَّلَتْ بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهو حلالٌ». وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبلَ نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس». أولًا: «فهو» خطأ، والصواب: «فهي» كما في الأصل و «المختصر»، وقد عزوَا إلى «مختصر المزني» ولكن لم يستفيدا منه هذا التصحيح، وإن كان تأمل السياق وحدَه كفيلًا به! وثانيًا: «في قوله تعالى» من زيادات صبحي الصالح، وليس في الأصل ولا في «مختصر المزني» الذي بين أيدي المحققَين، ومع ذلك أثبتا الزيادة بحذف المعكوفين عنها ليكتمل التحريف ويستتبّ! وهي زيادة تفسد السياق، فإن قول: «فمن دان منهم ... » إلخ قول المزني لا ابن عباس. وابن عبَّاس إنما قرأ الآية فقط مجيبًا بها لمَّا سئل عن ذبائح من تنصَّر من العرب، كما في «تفسير الطبري» (8/ 130) وغيره. - (ص 282): «فإن ترك أرضه فلم يَعمُرها فذلك إلى الإمام، يدفعها

(المقدمة/55)


إلى من يَعمُرها لا تخرب، تصير فيئًا للمسلمين». ما تحته خط لا وجود له في الأصل، ولا في نشرة صبحي الصالح (ص 124)، فلا ندري من أين أتى به المحقِّقان! - (ص 336): « ... لم يَدَعْني زيادٌ ولا شُريحٌ ولا السلطان حتى دخلتُ فيه». «السلطان» تصحيف «الشيطان»، كما في «الأموال» لأبي عُبيد، وهو مصدر المؤلف. وقد عزا المحققان إليه، ولكن لم يستفيدا منه تصحيح النص، ولا أشارا إلى الفرق في الهامش. - (ص 649): «عن يزيد بن علقمة أن عُبادة بن النعمان الثعلبي كان ناكحًا امرأةً من بني تميمٍ فأسلمت». «الثعلبي» خطأ تابعا فيه نشرة صبحي الصالح. صوابه: «التغلبي»، كما في «مصنف ابن أبي شيبة»، وقد عزوا إليه. - (ص 840): « ... من يحتج فيها يقول: الكفن من جميع المال، ثم الوصية، ثم الميراث، ويحتج فيها بقول من قال: الحامل المتوفَّى عنها زوجها نفقتُها من جميع المال؛ هذه حجةٌ لمن ورَّثه». ما تحته خط من زيادات صبحي الصالح التي حذف المحققان المعكوفات عنها لتصبح من صلب النص، مع أن هذا النص منقول من «جامع الخلال»، وقد عزا المحققان إليه، ولم ينتبها إلى أن هذه الزيادة ليست فيه. - (ص 1251): «حدثنا أبو بكر بن أبي بكر داود، ثنا أحمد بن صالح». «بكر» مقحم خطأً في الأصل. والمحققان لم ينتبها إليه، مع أنهما ذكرا في الهامش أن «أحمد بن صالح» هو المصري أبو جعفر ابن الطبري. فلو رجعا

(المقدمة/56)


إلى ترجمته لوجدا من الرواة عنه «عبد الله بن أبي داود»، وهو أبو بكر بن أبي داود، ابُن صاحب «السنن». - (ص 1235): «وقد اتَّفق المسلمون على أنَّ حكم الرِّدَّة والمُباشِر في الجهاد كذا». ما تحته خط تصحيف عن «الردء»، وهو على الصواب في نشرة صبحي الصالح (ص 715). - (ص 1354): «قال شيخنا: ... هذا أصلٌ مقرَّرٌ في عقد البيع والنكاح [والهبة] وغيرهما من العقود». هكذا زادا «والهبة» بين المعكوفين أخذًا من «الصارم المسلول» لأن المؤلف صادر عنه متجاهلَين أو متغافلَين عن ضمير التثنية في «وغيرهما»؛ أنَّى يستقيم مع ثلاثة عقود؟! * هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أنهم أطالوا في تخريج الأحاديث، ولكن هذه الإطالة لم تسلم من الأوهام، مع قصور في الصناعة الحديثية، فمثلًا: - (ص 162 - 163) ذكرا في تخريج وصية أبي بكر - رضي الله عنه - ليزيد بن أبي سفيان حين وجَّهه إلى الشام: أن مالكًا وغيره رووه عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر. ثم قالا: «وهذا إسناد معضل، فإن يحيى بن سعيد هو القطان، متأخر، مات سنة (198) وله ثمان وسبعون سنة». هذا وهم ظاهر، فيحيى بن سعيد في الإسناد هو التابعي: يحيى بن سعيد الأنصاري (ت 144)، من شيوخ مالك (ت 179) وطبقته، أكثر عنه مالك في «الموطأ». أما القطَّان فهو من الرواة عن مالك، كما عند «البخاري» (1988) وغيره.

(المقدمة/57)


- (ص 294) قالا تعليقًا على أثر روي من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن علي - رضي الله عنه -: «هذا إسناد صحيح على شرط مسلم» كذا، مع أن فيه انقطاعًا ظاهرًا ظهور الشمس بين قتادة وعلي، ولعل قتادة لم يولد إلا بعد وفاته! - (ص 867 - 871) خرَّجا حديثَ: «ألا إن العبد قد نام» في بضعة وخمسين سطرًا، وكل ذلك ليُوردَا نصوص كبار أئمة العلل كابن المديني وأبي حاتم والترمذي وأبي داود والدارقطني على إعلاله، ثم ينقضاها بعد ذلك بذكر كلام بعض المتأخرين، فيصحِّحا الحديث في نهاية المطاف! وانظر تخريجنا عليه (2/ 42). * * * * *

(المقدمة/58)


 منهج العمل في هذه الطبعة

يصدر هذا الكتاب حسب المنهج المتبع عندنا في التحقيق، وقد شرحناه مرارًا في مقدمات الكتب التي صدرت من قبل. وكان المطلب الأساسي عندنا الحصول على مصورة النسخة الخطية الوحيدة والمقابلة عليها، فقد كانت طبعة الدكتور صبحي الصالح - رحمه الله - بالاعتماد على نسخة منسوخة حديثًا عن الأصل، وكانت فيها أخطاء كثيرة وسقط وتحريف في مواضع، كما ذكر ذلك المحقق في مقدمة تحقيقه وفي هوامشه، وقد حاول أن يصحح كثيرًا من الأخطاء ويستدرك السقط بالرجوع إلى مصادر المؤلف وباجتهاده الشخصي أحيانًا، ووضع كل زيادة بين معكوفتين، وأشار في الهوامش إلى ما في النسخة المنسوخة من أخطاء. والنسخة الخطية الوحيدة للكتاب توجد في مكتبة المدرسة المحمدية في تِشينَّاي (مَدْراس) بالهند، وقد كنت أنا (محمد عزير شمس) سافرت إليها قبل عشرين عامًا، ثم سافرت إليها مرة ثانيةً فيما بعد، واطلعتُ على النسخة وقابلتُ بعضَ الصفحات الأولى من المطبوع عليها، فوجدت التحريف والسقط في مواضع عديدة، وحاولت تصوير النسخة بشتى الطرق وبواسطة عدد من الأصدقاء والوجهاء، إلّا أن القائمين على المكتبة لم يسمحوا بذلك، فتأخّر تحقيق الكتاب في انتظار الحصول على صورة النسخة حتى صدرت معظم مؤلفات الإمام ابن القيم في هذه السلسلة، ولم يبقَ إلّا هذا الكتاب. وحينئذٍ قرَّرت الجهة الراعية للمشروع أن أسافر إلى المكتبة مرةً

(المقدمة/59)


ثالثةً لمقابلة المطبوع على المخطوط. فسافرتُ إليها في منتصف جمادى الأولى سنة 1440، وبقيتُ شهرًا هناك حتى أتممتُ أكثر المقابلة. وقد ساعدني في المقابلة شابٌّ مجتهد من أهل البلد تعلَّم اللغة العربية في مدة وجيزة، فصار يتكلم بطلاقة ويقرأ الكتب المطبوعة والمخطوطة بسهولة، وهو الأخ/سيد منير أحمد. وقد قام أيضًا بتصوير أوراق متفرقة من مواضع مختلفة من المخطوط بالجوال بعدما سمح بذلك ــ هذه المرة ــ القائم على المكتبة الأستاذ مجيد سعيد، فجزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله. ونحمد الله سبحانه وتعالى على أنه يَسَّر لنا الاستفادة من الأصل مباشرةً، وتصوير صفحات كثيرة منه ومقابلتها التي حلَّت كثيرًا من الإشكال، وصححت الأخطاء والتحريفات، وسدّت الخروم، التي بلغت أحيانًا أكثر من سطر. وكانت النسخة الخطية ــ على قِدمها وجودتها في الجملة ــ وقع فيها كثير من التحريف والسقط، فقمنا بالتصحيح والاستدراك بمراجعة المصادر الأخرى، وبالتأمُّل في السياق، وبتقليب الكلمات على أوجه مختلفة، حتى استقام النصُّ إن شاء الله. ثم خدمناه بالتوثيق والتعليق وتخريج الأحاديث والنصوص والأخبار على المنهج المتبع في المشروع، وأشرنا في الهوامش إلى ما في المطبوع من أخطاء، وقصدنا به طبعة الدكتور صبحي الصالح دون غيرها. وقد ساعدنا في تخريج بعض الأحاديث في الجزء الثاني الأخ سراج منير الباحث في المشروع.

(المقدمة/60)


وأثبتنا الآيات القرآنية على قراءة أبي عمرو البصري التي كانت سائدة في زمن المؤلف في بلاد الشام، وعليها وجدنا الآيات مرسومة في الأصل المخطوط، كقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]، وقوله تعالى: {أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173]، وعليها فسَّر المؤلف هاتين الآيتين (2/ 151 - 152). وصنعنا في آخر الكتاب فهارس متنوعة تقرِّب مباحثه، وقد قام بصنع بعض الفهارس الأخوان سراج منير وعبد الله غالب الكلاعي جزاهما الله خيرًا. وقد تولَّى الأخ خالد محمد جاب الله صفَّ الكتاب وإخراجه، فله منا جزيل الشكر والتقدير. وبعد، فهذا كتاب «أحكام أهل الذمة» للإمام ابن القيم - رحمه الله -، وهو أهمُّ كتاب ألِّف في هذا الباب، نقدِّمه إلى القرَّاء في أحسن حلَّة، ونرجو أن ينال رضاهم وقبولهم. كما نطلب منهم أن يُهدونا ملاحظاتهم لنستفيد منها في الطبعات القادمة إن شاء الله. والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، إنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. * * *

(المقدمة/61)


نماذج من النسخة الخطية

(المقدمة/62)


صفحة الغلاف

(المقدمة/63)


الصفحة الأولى

(المقدمة/64)


الصفحة الأخيرة

(المقدمة/67)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم كثيرًا. سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين ــ زاده الله من فضله ـــ عن كيفية الجزية الموضوعة على أهل الذمة بالبلاد الإسلامية، وسبب وضعها، وعن مقدار ما يُؤخذ من الأغنياء ومن المتوسطين ومن الفقراء، وعن حدِّ الغني والمتوسط والفقير فيها، وهل يُثاب أولياء أمور المسلمين ــ أيَّدهم (1) الله تعالى ــ على إلزامهم بها على حسب حالهم أم لا؟ وهل يُؤخذ من الغني والفقير والمتوسط؟ (2) وأجاب: [أما] سبب وضع الجزية فهو قوله تعالى: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْأَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. _________ (1) في المطبوع: "أمدهم" خلاف ما في الأصل. (2) هنا كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها: "فألف".

(1/3)


فأجمع الفقهاء على أن الجزية تُؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد توقَّف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوفٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هَجَرَ. ذكره البخاري (1). وذكر الشافعي (2) أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنعُ في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: أشهد لسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سُنُّوا بهم سنةَ أهل الكتاب". وهذا صريحٌ في أنهم ليسوا من أهل الكتاب، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 157]، فالله سبحانه حكى هذا عنهم، ولم ينكره عليهم ولم يكذِّبهم فيه. وأما حديث عليٍّ أنه قال: "أنا أعلم الناس بالمجوس: كان لهم علمٌ _________ (1) في "صحيحه" (3156). (2) في "الأم" (5/ 408) عن مالك ــ وهو في "الموطأ" (756) ــ عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر ... إلخ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10025) وابن أبي شيبة (10870، 33318، 33319) وأبو يعلى (862) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن محمد به. رجاله ثقات، إلا أنه منقطع كما قال الشافعي عند إيراده، وذلك أن محمدًا ــ وهو الباقر ــ لم يُدرك عمر ولا عبد الرحمن. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 116): هو منقطع ولكن معناه متصل من وجوه حسان. قلتُ: منها حديث البخاري المتقدم آنفًا. وانظر: "تنقيح التحقيق" (4/ 618) و"إرواء الغليل" (1248، 1249).

(1/4)


يعلمونه وكتابٌ يدرسونه، وإنَّ ملكهم سَكِرَ فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحدَّ، فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناتِه؟ فأنا على دين آدم! قال: فتابعه قومٌ وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلهم، فأصبحوا وقد أُسرِيَ بكتابهم ورُفع العلم الذي في صدورهم؛ فهم أهل كتابٍ، وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ــ وأُراه قال: وعمر ــ منهم الجزية". فهذا حديث رواه الشافعي في "مسنده" وسعيد بن منصورٍ وغيرهما (1)، ولكنَّ جماعةً من الحفَّاظ ضعَّفوا الحديث (2). قال أبو عبيد (3): لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظًا. وقد روى البخاري في "صحيحه" (4) عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعاملِ _________ (1) "مسند الشافعي" بترتيب سنجر (1775) وبترتيب السندي (432)، وهو في "الأم" (5/ 406 - 407)، ومن طريق الشافعي أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (140) والبيهقي في "السنن الكبير" (9/ 188) و"المعرفة" (13/ 366 - 367). ولم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من "سننه". وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10029) وابن أبي عمر في "مسنده" (المطالب العالية: 2063) وأبو يعلى (301). وفي إسناده أبو سعد البقَّال، وهو ضعيف منكر الحديث. وله طريق آخر عند القاضي أبي يوسف في "الخراج" (290 - تحقيق البنَّا) بنحوه، وفي إسناده انقطاع. (2) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 120): أكثر أهل العلم لا يصححون هذا الأثر. وانظر: "الجامع" للخلال (2/ 468)، و"مجموع الفتاوى" (32/ 189). (3) في كتاب "الأموال" (ص 83) ط. دار الفضيلة. ونقله في "المغني" (13/ 205). (4) برقم (3159).

(1/5)


كسرى: أمرَنا نبيُّنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحدَه أو تُؤَدُّوا الجزية. وفي "مسند الإمام أحمد" والترمذي (1) عن ابن عباس قال: مرِض أبو طالب فجاءته قريشٌ وجاءه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَكَوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابنَ أخي، ما تريد من قومك؟ قال: "أريد منهم كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ، وتُؤدِّي إليهم بها العجمُ الجزيةَ". قال: كلمةً واحدةً؟ قال: "كلمةً واحدةً، قولوا (2): لا إله إلا الله". قالوا: جعل الآلهة إلهًا واحدًا، إن هذا لشيء عجابٌ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاقٌ. قال: فنزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله: {اَخْتِلَاقٌ} [ص: 1 - 6]. وفي "الصحيحين" (3) من حديث عمرو بن عوفٍ الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين (4)، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي. _________ (1) "مسند أحمد" (2008، 3419) و"جامع الترمذي" (3232)، وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (8716) وأبو يعلى (2583) وابن حبان (6686) والحاكم (2/ 432) والضياء في "المختارة" (10/ 390)، كلهم من طريق الأعمش عن يحيى بن عُمارة ــ وقيل: ابن عبَّاد، وقيل: عبَّاد بن جعفر ــ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ويحيى هذا فيه جهالة، ولم يوثقه غير ابن حبان. على أن الترمذي صحَّح حديثه فقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم واختاره الضياء. (2) "قولوا" ليست في المطبوع. (3) البخاري (3158، 4015، 6425) ومسلم (2961). (4) "ياتي ... البحرين" ساقطة من المطبوع.

(1/6)


وذكر أبو عبيد في "كتاب الأموال" (1) عن الزهري قال: قَبِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسًا. وفي "سنن أبي داود" (2) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ فأخذوه فأتوا به، فحقَنَ له دمه، وصالحه على الجزية. وقال الزهري: أول ما أُخِذت الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى (3). وفي "صحيح البخاري" (4) عن ابن أبي نَجيحٍ (5) قال: قلت لمجاهدٍ: ما _________ (1) (ص 41)، وبنحوه في (ص 203). (2) برقم (3037) من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس، وعن عثمان بن أبي سليمان. وإسناده جيِّد، إلا أنه على طريقة ابن إسحاق في جمع متون الروايات المسندة والمرسلة في سياق واحد. والظاهر من "العلل" لابن أبي حاتم (967) أن ذكر الجزية ليس مسندًا من طريق أنس. وقد ذكرها ابن إسحاق في "مغازيه" ــ ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 250 - 251) ــ عن يزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ــ وهما من ثقات التابعين العالمين بالمغازي ــ مرسلًا في سياق قصة أُكيدر وأَسره ومصالحته. وانظر: "البدر المنير" (9/ 185). (3) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (69، 87) والبلاذري في "فتوح البلدان" (1/ 81). (4) كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، تعليقًا عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به. ووصله عبد الرزاق (10094) عن ابن عيينة به. (5) في المطبوع: "أبي نجيح" خطأ.

(1/7)


شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جعل ذلك من قِبَلِ اليسار. فاختلف الفقهاء فيمن تُؤخذ منهم الجزية، بعد اتفاقهم على أخذها من أهل الكتاب ومن المجوس. فقال أبو حنيفة: تُؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعَبَدة الأوثان من العجم، ولا تُؤخذ من عَبَدة الأوثان من العرب (1). ونصَّ على ذلك أحمد في رواية عنه (2). واحتج أرباب هذا القول على ذلك بحججٍ، منها: قوله في الحديث المتقدم: "وتُؤدِّي إليكم بها العجمُ الجزيةَ"، واحتجوا بحديث بُريدة الذي رواه مسلم في "صحيحه" (3) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغْزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتِلوا من كفرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَمثُلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ ــ أو خلالٍ ــ، فأيتهنَّ ما أجابوك إليها فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم _________ (1) انظر: "حاشية ابن عابدين" (4/ 198). (2) كما في "المغني" (13/ 31). وانظر "مجموع الفتاوى" (31/ 381). (3) برقم (1731).

(1/8)


إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبِرْهم أنهم إن فعلوا ذلك (1) فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أَبَوا أن يتحوَّلوا منها، فأخبِرْهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يَجري عليهم حكمُ الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوا فسَلْهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبَوا فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّةَ الله وذمَّةَ نبيِّه فلا تجعلْ لهم ذمَّةَ الله ولا ذمَّة نبيِّه، ولكن اجعلْ لهم ذمتَك وذمةَ أصحابك، فإنكم أن تُخْفِروا ذِمَمَكم وذِمَمَ أصحابكم أهونُ من أن تُخْفِروا ذمةَ الله وذمةَ رسوله. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلهم على حكم الله، ولكن أَنزِلْهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟ ". وفي هذا الحديث أنواعٌ من الفقه: منها: وصية الإمام لِنوَّابه وأمرائه ووُلاتِه بتقوى الله، والإحسان إلى الرعية، فبهذين الأصلين يُحفظ على الأمير منصِبُه، وتَقَرُّ عينُه به، ويأمن فيه من النكَبات والغِيَر. ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بدَّ أن يسلبه الله عزَّه، ويجعله عبرةً للناس، فما أُزِيلت (2) النِّعم إلا بترك تقوى الله والإساءة إلى الناس. _________ (1) "ذلك" ساقطة من المطبوع. (2) في المطبوع: "فما إن سلبت" خلاف ما في الأصل.

(1/9)


ومنها: أن الجيش ليس لهم أن يَغُلُّوا من الغنيمة، ولا يَغدِروا بالعهد، ولا يَمْثُلوا بالكفّار، ولا يقتلوا من لم يبلغ الحُلُم. ومنها: أن المسلمين يدعون الكفار قبل قتالهم إلى الإسلام، وهذا واجبٌ إن كانت الدعوة لم تبلُغْهم، ومستحبٌّ إن بلغَتْهم الدعوة. هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوةٍ، لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم. ومنها: إلزامهم بالتحوُّل إلى دار الإسلام إذا كانوا مقيمين بين الكفار، فإن أسلموا كلُّهم وصارت الدار دارَ إسلامٍ لم يُلْزَموا بالتحوُّل منها، بل يقيموا (1) في ديارهم. وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي دار الإسلام، فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها. ومنها: أن الأعراب ليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنائم ما لم يقاتلوا، فإذا قاتلوا استحقُّوا من الغنيمة ما يستحقُّه مَن شهد الوقعةَ، وأما الأعراب الذين لا يقاتلون الكفار مع المسلمين فليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنيمة. ومنها: أن الجزية تُؤخذ من كل كافرٍ، هذا ظاهر هذا الحديث، ولم يستثنِ منه كافرًا من كافرٍ. ولا يقال: هذا مخصوصٌ بأهل الكتاب خاصَّةً، فإن اللفظ يأبى _________ (1) كذا في الأصل بحذف النون.

(1/10)


اختصاصَه (1) بأهل الكتاب. وأيضًا فسرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه أكثرَ ما كانت تقاتل عَبَدةَ الأوثان من العرب. ولا يقال: إن القرآن يدلُّ على اختصاصها بأهل الكتاب، فإن الله سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال المشركين حتى يُعطوا الجزية، فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المجوس وهم عُبَّاد النار، لا فرقَ بينهم وبين عبدة الأوثان. ولا يصح أنهم أهل الكتاب ولا كان لهم كتابٌ، ولو كانوا أهلَ كتابٍ عند الصحابة - رضي الله عنهم - لم يتوقَّفْ عمر - رضي الله عنه - في أمرهم، ولم يقلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب"، بل هذا يدلُّ على أنهم ليسوا أهلَ كتابٍ. وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع، وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام، ولم يذكر للمجوس ــ مع أنها أمةٌ عظيمةٌ من أعظم الأمم شوكةً وعددًا وبأسًا ــ كتابًا ولا نبيًّا، ولا أشار إلى ذلك، بل القرآن يدلُّ على خلافه كما تقدَّم، فإذا أُخِذت من عُبَّاد النيران فأيُّ فرقٍ بينهم وبين عُبَّاد الأوثان؟ فإن قيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذها من أحدٍ من عُبَّاد الأوثان مع كثرة قتاله لهم. قيل: أجلْ، وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عامَ تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبقَ بها أحدٌ من عبَّاد الأوثان، _________ (1) في المطبوع: "اختصاصهم" خلاف الأصل. وضمير المفرد للفظ.

(1/11)


فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس، ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة، ولا من يهود خيبر، لأنهم (1) صالحهم قبل نزول آية الجزية. وهذه الشبهة هي التي أوقعتْ عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود، ثم أكَّدوا أمرها بأن زوَّروا كتابًا (2) فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط عنهم الكُلَفَ (3) والسُّخَر (4) والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما. وهذا الكتاب كذِبٌ مختلقٌ بإجماع أهل العلم من عشرة أوجهٍ (5): منها: أن أحدًا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر (6) أن ذلك وقع البتةَ، مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثيرٍ. الثاني: أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر، فحينَ صالح أهل خيبر لم _________ (1) في المطبوع: "لأنه" خلاف ما في الأصل. (2) انظر: "مجموعة الوثائق السياسية" (ص 91، 93، 95). (3) جمع كُلْفة، ما يتكلَّفه الإنسان على مشقة. والمراد هنا ما يكلَّفون به من الضرائب ونحوها. (4) جمع سُخْرة، ما يُسخّره الإنسان من دابّة أو رجلٍ بلا أجرٍ ولا ثمنٍ. (5) نقل المؤلف في "زاد المعاد" (3/ 178، 179) عن شيخ الإسلام بعض هذه الأوجه. وذكرها كاملة في "المنار المنيف" (ص 92 - 94). وسيذكر المؤلف وجوهًا أخرى فيما يأتي (ص 77 - 79). (6) في الأصل: "لم يذكروا".

(1/12)


تكن الجزية نزلت حتى يضَعَها عنهم. الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعدُ، فإنه إنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر. الرابع: أن سعد بن معاذٍ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر. الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر كُلَفٌ ولا سُخَرٌ حتى تُوضَع عنهم. السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضعَ الجزية عنهم، وقد كانوا من أشدِّ الكفار عداوةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأيُّ خيرٍ حصل بهم للمسلمين حتى تُوضع عنهم الجزية دون سائر الكفار؟ السابع: أن الكتاب الذي أظهروه ادَّعَوا أنه بخط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهذا كذبٌ قطعًا، وعداوة علي - رضي الله عنه - لليهود معروفةٌ، وهو الذي قتل مرحبًا اليهودي (1)، وأثخنَ في اليهود يومَ خيبر حتى كان الفتح على يديه. الثامن: أن هذا لا يُعرف إلا من رواية اليهود، وهم القوم البُهت، أكذبُ الخلق على الله وأنبيائه ورسله، فكيف يُصدَّقون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يخالف كتاب الله تعالى؟! _________ (1) كما في "صحيح مسلم" (1807/ 132). وانظر الخلاف في ذلك عند المؤلف في "زاد المعاد" (3/ 382 وما بعدها).

(1/13)


التاسع: أن هذا الكتاب لو كان صحيحًا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين، وفي أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام المنصور والرشيد، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن تُوضع عنهم الجزية، أو يذكر (1) ذلك فقيهٌ واحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا يجوز على الأمة أن تُجمِع على مخالفة سنة نبيِّها. وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتابٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتجُّون به كلَّ وقتٍ على من يأخذ الجزية منهم، ولا يذكره عالمٌ واحدٌ من علماء السلف؟ وإن اغترَّ به بعضُ من لا علْمَ له بالسيرة والمنقول من المتأخرين، فَشنَّع (2) عليه أصحابه، وبيَّنوا خطأه، وحذَّروا من سقطته. العاشر: أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب، وأنه زُورٌ مفتعلٌ وكذبٌ مختلقٌ (3). ولما أظهره اليهود بعد الأربع مائةٍ على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة، فأوقفَه عليه فقال الحافظ: هذا الكتاب زورٌ، فقال له الوزير: من أين هذا؟ فقال: فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان، وسعدٌ مات يومَ الخندق قبل خيبر، ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمانٍ، وخيبر كانت سنة سبعٍ. فأعجب ذلك الوزير (4). _________ (1) في المطبوع: "لذكر" خلاف ما في الأصل. (2) في الأصل: "وشنع". (3) انظر: "البداية والنهاية" (6/ 355، 356 و 16/ 28)، و"المغني" (13/ 252)، و"مجموع الفتاوى" (28/ 664). (4) انظر: "المنتظم" (16/ 129)، و"معجم الأدباء" (1/ 386)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 280)، و"الوافي بالوفيات" (7/ 192، 193)، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" (ص 60)، و"طبقات الشافعية" (4/ 35).

(1/14)


والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ الجزية من أحدٍ من مشركي العرب لأن آية الجزية نزلت بعد عام تبوك، وكانت عُبَّاد الأصنام من العرب كلهم قد دخلوا في الإسلام، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود ومن النصارى ومن المجوس. قال المخصِّصون بالجزية لأهل الكتاب: المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدامُ الكفر والشرك من الأرض وأن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وفي الآية الأخرى: {وَيَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. ومقتضى هذا أن لا يُقَرَّ كافرٌ على كفره، ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أَعطَوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فاقتصرنا بها عليهم، وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدَّالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله. قالوا: ولا يصح إلحاق عَبَدة الأوثان بأهل الكتاب؛ لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب، فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عبَّاد الأصنام، ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف عبدة الأصنام. وعَبَدة الأصنام حربٌ لجميع الرسل وأممِهم من عهد نوحٍ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين؛ ولهذا أثَّر هذا التفاوتُ الذي بين الفريقين في حلِّ الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عُبَّاد الأصنام.

(1/15)


ولا ينتقض هذا بالمجوس، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُسَنَّ بهم سنةَ أهل الكتاب، وهذا يدلُّ على أن الجزية إنما تُؤخذ من أهل الكتاب، وأنها إنما وُضِعت لأجلهم خاصةً، وإلا لو كانت الجزية تعمُّ جميعَ الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم، ولقال: لهم حكم أمثالهم من الكفَّار يقاتَلون حتى يُسلِموا أو يعطوا الجزية. وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاقٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثورٍ طَرْدَه القياسَ وإفتاءه بحلِّ ذبائحهم وجواز مناكحتهم (1)، ودعا عليه أحمد (2) حيث أقدمَ على مخالفة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسدَّ قياسًا ورأيًا، فإنهم أخذوا في الدماء بحَقْنِها موافقةً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله حيث أخذَها منهم، وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطًا وإبقاءً لها على الأصل، وإلحاقًا لهم بعبَّاد الأوثان، إذ لا فرقَ في ذلك بين عبَّاد الأوثان وعبَّاد النيران، فالأصل في الدماء حقْنُها، وفي الأبضاع والذبائح تحريمها، فأبقَوا كلَّ شيء على أصله، وهذا غاية الفقه وأسدُّ ما يكون من النظر. قالوا: ولله تعالى حِكَمٌ في إبقاء أهل الكتابين بين أظهُرِنا، فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار، وفي كتبهم من البشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرِ نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته، وما يشهد بصدق الأول والآخر. _________ (1) انظر: "الجامع" للخلال (1/ 241 و 2/ 469، 470). (2) كما في "مسائل إسحاق بن إبراهيم" (2/ 168).

(1/16)


وهذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عَبَدة الأوثان، فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكري النبوات والمعاد والتوحيد، وقد قال الله تعالى لمنكري ذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ذكر هذا عقب قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، يعني: سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالًا يوحى إليهم أم كان محمد بِدْعًا من الرسل لم يتقدمه رسولٌ، حتى يكون إرساله أمرًا منكرًا لم يَطْرُقِ العالمَ رسولٌ قبله؟ وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]، والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به: هل فيه أن الله شرع لهم أن يُعبدَ من دونه إلهٌ غيره؟ قال الفراء (1): المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل، فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم. وقال ابن قتيبة (2): التقدير: واسألْ من أرسلنا إليهم رُسُلًا من قبلك، وهم أهل الكتاب. وقال ابن الأنباري (3): التقدير: وسَلْ تُبَّاعَ (4) من أرسلنا من قبلك. _________ (1) في "معاني القرآن" (3/ 34). (2) في "تفسير غريب القرآن" (ص 399)، و"تأويل مشكل القرآن" (ص 209، 210). (3) كما في "الوسيط" للواحدي (4/ 75)، و"البسيط" له (20/ 52)، و"زاد المسير" (7/ 319). (4) "تباع" ساقطة من المطبوع. وهي جمع "تابع". وفي بعض المصادر: "أتباع". وهو جمع تبع.

(1/17)


وعلى كل تقديرٍ، فالمراد التقرير لمشركي قريشٍ وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد، وأن الله أرسل رسولًا أو أنزل كتابًا أو حرَّم عبادة الأوثان. فشهادة أهل الكتاب بهذا حجةٌ عليهم، وهي من أعلام صحة رسالته - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدَّموه من رسل الله سبحانه، ولم يكن بِدْعًا من الرسل، ولا جاء بضدِّ ما جاؤوا به، بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهدٍ (1) ولا اقترانٍ في الزمان، وهذا من أعظم آيات صدقه. وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]. وقد أشكلت هذه الآية على كثيرٍ من الناس، وأورد اليهودُ والنصارى على المسلمين فيها إيرادًا وقالوا: كان في شكٍّ فأُمِر أن يسألنا. وليس فيها بحمد الله إشكالٌ، وإنما أُتِي أشباهُ الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم، وإلّا فالآية من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه. وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلًا، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه، كما قال تعالى: {كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 62]، ونظائره، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشكَّ ولم يسألْ. _________ (1) في الأصل: "شاعر".

(1/18)


وفي تفسير سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أشكُّ ولا أَسأل" (1). وقد ذكر ابن جريجٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فإن كنتَ في شكٍّ أنك مكتوبٌ عندهم فسَلْهم (2). وهذا اختيار ابن جريرٍ؛ قال: يقول تعالى لنبيِّه: فإن كنت يا محمد في شكٍّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولًا إلى خلقي، لأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوفٌ في كتبهم، فسَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كعبد الله بن سلامٍ ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك. وكذلك قال ابن زيدٍ، قال: هو عبد الله بن سلامٍ. وقال الضحاك: سلْ أهلَ التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب (3). ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها، وأين كان عبد الله بن سلامٍ وقتَ نزول هذه الآية؟ فإن السورة مكيةٌ، وابن سلامٍ إذ ذاك على دين قومه، وكيف يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه؟ _________ (1) أخرجه الطبري (12/ 288). وأخرجه عبد الرزاق (10211) والطبري أيضًا من طريق معمر عن قتادة بنحوه. والحديث مرسل. (2) أخرجه الطبري (12/ 286). (3) الأثران أخرجهما الطبري (12/ 286، 287).

(1/19)


وقال كثيرٌ من المفسرين (1): هذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره؛ لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره، كما يقول متمثِّلُهم: إياكِ أعني واسمعِيْ يا جَاره (2). وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، والمراد أتباعه بهذا الخطاب. قال أبو إسحاق (3): إن الله تعالى يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب شاملٌ للخلق، والمعنى: وإن كنتم في شكٍّ [فاسألوا]. والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 104]. وقال ابن قتيبة (4): كان الناس في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصنافًا: منهم كافرٌ به مكذِّبٌ، وآخر مؤمنٌ به مصدِّقٌ، وآخر شاكٌّ في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدِّم رجلًا ويؤخِّر رجلًا، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال: فإن كنتَ أيها الإنسان في شكٍّ مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسَلْ. _________ (1) انظر: "تفسير الطبري" (12/ 289)، و "البسيط" للواحدي (11/ 314)، و"تفسير البغوي" (2/ 368)، و"تفسير القرطبي" (8/ 382). (2) مثل يُضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا آخر، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري، قاله لأخت حارثة بن لأم الطائي. انظر "الأمثال" لأبي عبيد (ص 65)، و"الفاخر" للمفضل بن سلمة (ص 158)، و"فصل المقال" (ص 76، 77) وغيرها. (3) هو الزجاج، وقوله في كتابه "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 32)، ومنه الزيادة. (4) في "تأويل مشكل القرآن" (ص 168).

(1/20)


قال (1): ووحَّد وهو يريد الجمع، كما قال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، و: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 9]. وهذا وإن كان له وجهٌ فسياق الكلام يأباه، فتأمَّلْه وتأمَّلْ قوله تعالى: {يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وهذا كله خطاب واحدٌ متصلٌ بعضه ببعضٍ. ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجَّه إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاكّ. وكل هذا فرارٌ من توهُّمِ ما ليس بموهومٍ، وهو وقوع الشك منه والسؤال، وقد بيَّنا أنه لا يلزم إمكان ذلك فضلًا عن وقوعه. فإن قيل: فإذا لم يكن واقعًا ولا ممكنًا فما مقصود الخطاب والمراد به؟ قيل: المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد، وأنهم مقرُّون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه، فمن شكَّ في ذلك فليسأل أهل الكتاب. فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارةٍ وأدلِّها _________ (1) الكلام لابن قتيبة في المصدر السابق.

(1/21)


على المقصود، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشكَّ قطُّ ولم يسألْ قطُّ، ولا عرضَ له ما يقتضي ذلك. وأنتَ إذا تأملتَ هذا الخطاب بدا لك على صفحاته: مَن شكَّ فليسألْ فرسولي لم يشكَّ ولم يسألْ. والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية، وهذه الحكمة منتفيةٌ في حق غيرهم، فيجب قتالهم حتى يكون الدين كلُّه لله. والمسألة مبنيةٌ على حرفٍ، وهو أن الجزية هل وُضِعت عاصمةً للدم، أو مُظهِرًا لصَغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبةٌ؟ فمن راعى فيها المعنى الأول قال: لا يلزم من عصمتها لدم من خفَّ كفرُه بالنسبة إلى غيره ــ وهم أهل الكتاب ــ أن تكون عاصمةً لدم من يغلُظ كفره. ومن راعى فيها المعنى الثاني قال: المقصود إظهار صَغار الكفر وأهله وقهرهم، وهذا أمرٌ لا يختصُّ أهلَ الكتاب بل يعمُّ كلَّ كافرٍ. قالوا: وقد أشار النصُّ إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فالجزية صَغارٌ وإذلالٌ، ولهذا كانت بمنزلة ضرب الرقّ. قالوا: وإذا جاز إقرارهم بالرقّ على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بل أولى (1)؛ لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق؛ ولهذا يُسترقُّ من لا _________ (1) كذا في الأصل. وفي المطبوع: "بالأولى".

(1/22)


تجب عليه الجزية من النساء والصبيان وغيرهم. فإن قلتم: لا يُسترقُّ غيرُ (1) الكتابي ــ كما هي إحدى الروايتين عن أحمد (2) ــ كنتم محجوجين بالسنة واتفاق الصحابة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَسترِقُّ سبايا عبدةِ الأوثان، ويجوز لساداتهن وطؤهن بعد انقضاء عدتهن، كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في قصة سبايا أوطاسٍ ــ وكانت في آخر غزوات العرب بعد فتح مكة ــ أنه قال: "لا تُوطأُ حاملٌ حتى تضَعَ، ولا حائلٌ حتى تُستبرأَ بحيضةٍ" (3). فجوَّز وطأهن بعد الاستبراء ولم يشترط الإسلام، وأكثر ما كانت سبايا الصحابة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من عَبَدة الأوثان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّهم على تملُّكِ السبي. وقد دفع أبو بكر الصديق إلى سلمة بن الأكوع - رضي الله عنهما - امرأةً من السبي نفَّلَها إياه، وكانت من عُبَّاد الأصنام (4). _________ (1) في المطبوع: "عين" تحريف. (2) انظر: "الروايتين والوجهين" (2/ 357)، و"المغني" (13/ 50). (3) أخرجه أحمد (11228) وأبو داود (2157) والدارمي (2341) والحاكم (2/ 195) بإسناد حسن في الشواهد. وأصله في "صحيح مسلم" (1456) وفيه موضع الشاهد، وهو حل وطء سبايا أوطاس المشركات. وأما النهي عن وطء الحامل حتى تضع واستبراءُ الحائل ففيه عدة أحاديث. انظر: "التلخيص الحبير" (239) و"إرواء الغليل" (187) و"أنيس الساري" (4397). (4) أخرجه مسلم (1755) من حديث سلمة، والمرأة كانت فزاريةً، فاستوهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه وفدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أُسِروا بمكة.

(1/23)


وأخذ عمر وابنه - رضي الله عنهما - من سبي هوازن (1)، وكذلك غيرهما من الصحابة. وهذه الحنفية أم محمد بن علي من سبي بني حنيفة (2). وفي الحديث: "من قال كذا وكذا فكأنما أعتقَ أربعَ رِقابٍ من ولد إسماعيل" (3)، ولم يكونوا أهل كتابٍ، بل أكثرهم من عبدة الأوثان. قالوا: وإذا جاز المنُّ على الأسير وإطلاقُه بغير مالٍ ولا استرقاقٍ، فلَأن يجوزَ إطلاقه بجزيةٍ تُوضع على رقبته تكون قوةً للمسلمين أولى وأحرى. فضربُ الجزية عليه إن كان عقوبةً فهو أولى بالجواز من عقوبة الاسترقاق، وإن كان عصمةً فهو أولى بالجواز من عصمته بالمنّ عليه مجَّانًا. فإذا جاز إقامته بين المسلمين بغير جزيةٍ فإقامته بينهم بالجزية أجوزُ وأجوزُ، وإلا فيكون أحسنَ حالًا من الكتابي الذي لا يقيم بين أظهُرِ المسلمين إلا بالجزية. _________ (1) كما في حديث ابن عمر عند أحمد (4922، 5374) ومسلم (1656). (2) انظر: "أنساب الأشراف" للبلاذري (2/ 201) و"التلخيص الحبير" (1744). (3) أخرجه أحمد (23583) ومسلم (2693) عن أبي أيوب الأنصاري فيمن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" عشر مرات. وهو عند البخاري (6404) بلفظ: "كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل".

(1/24)


فإن قلتم: إذا مننَّا عليه ألحقناه بمأمنه، ولم نمكِّنه من الإقامة بين المسلمين. قيل: إذا جاز إلحاقه بمأمنه ــ حيث يكون قوةً للكفار وعونًا لهم وبصدد المحاربة لنا ــ مجَّانًا، فلَأن يجوزَ هذا في مقابلة مالٍ يؤخذ منه يكون قوةً للمسلمين وإذلالًا وصَغارًا للكفر وأهله (1) أولى وأولى. يوضحه أنه إذا جازت مهادنتُهم للمصلحة بغير مالٍ ولا منفعةٍ تحصل للمسلمين، فلَأَن يجوز أخذُ المال منهم على وجه الذلِّ والصَّغار وقوة المسلمين أولى، وهذا لا خفاء به. يوضحه أن عَبَدة الأوثان إذا كانوا أمةً كبيرةً لا تُحصى ــ كأهل الهند وغيرهم ــ حيث لا يمكن استئصالهم بالسيف، فإذلالُهم وقهرهم بالجزية أقربُ إلى عزِّ الإسلام وأهله وقوته من إبقائهم بغير جزيةٍ فيكونون أحسنَ حالًا من أهل الكتاب. وسرُّ المسألة: أن الجزية من باب العقوبات، لا أنها كرامةٌ لأهل الكتاب فلا يستحقُّها سواهم. وأما من قال: إن الجزية عوضٌ عن سكنى الدار ــ كما يقوله أصحاب الشافعي (2) ــ فهذا القول ضعيفٌ من وجوهٍ كثيرةٍ سيأتي التعرضُّ إليها فيما _________ (1) "وأهله" ساقطة من المطبوع. (2) انظر "نهاية المطلب" (18/ 7)، قال الجويني: وهذا غير سديد.

(1/25)


بعد إن شاء الله تعالى. قالوا: ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحِراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يُقتل النساء ولا الصبيان ولا الزَّمْنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا. وهذه كانت سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل الأرض: كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يُهادِنَه أو يدخل تحت قهره بالجزية، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث بُريدة، فإذا ترك الكفَّار محاربةَ أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون كان في ذلك مصلحةٌ لأهل الإسلام وللمشركين. أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوةً للإسلام مع صَغار الكفر وإذلاله، وذلك أنفع لهم من ترك الكفّار بلا جزيةٍ. وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه، أو بلغَتْهم أخباره، فلا بدَّ أن يدخل في الإسلام بعضهم، وهذا أحبُّ إلى الله من قتلِهم. والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى، كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كونَ كلمةِ الله هي العليا وكونَ الدين كلِّه لله، فإنّ من كون الدين كلِّه لله: إذلالَ الكفر وأهلِه وصَغارَه، وضرْبَ الجزية على رؤوس أهله، والرقَّ على رقابهم. فهذا من دين الله، ولا يناقض

(1/26)


هذا إلا تركُ الكفار على عزِّهم وإقامة دينهم كما يحبُّون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة، والله أعلم. فصل وقد احتج بحديث بُريدة هذا من يرى أن قسمة الفيء والخمس موكولٌ (1) إلى اجتهاد الإمام، يضعُه حيث يراه أصلحَ وأهمَّ، والناس إليه أحوج، كما يقول مالك ومن وافقه رحمهم الله تعالى. قالوا: والمهاجرون كانوا في ذلك الوقت أولى بذلك من غيرهم، ولذلك لم يُجعل فيه للأعراب شيء، فإن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم لله، ووصلوا إلى المدينة فقراء، وكان أحقّ الناس بالفيء هم ومن واساهم وآواهم. قال القاضي عياضٌ (2): ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُؤثِرهم بالخُمس على الأنصار غالبًا، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار. وأما الشافعي (3) رحمه الله تعالى فإنه أخذ بحديث بُريدة - رضي الله عنه - في الأعراب، فلم يرَ لهم شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم المردودة في فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين أحقُّ _________ (1) في المطبوع: "موكولة". (2) "إكمال المعلم" (6/ 32، 33). وكلام الشافعي وأبي عبيد أيضًا منقول منه. (3) انظر نحوه في "الأم" (5/ 350).

(1/27)


بالفيء والصدقة (1). وذهب أبو عبيد إلى أن هذا الحديث منسوخٌ (2)، وأن هذا كان حكمَ من لم يهاجر أولًا في أنه لا حقَّ له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجرين، ولا في التوارث بينهم وبين المهاجرين. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيةٌ" (3). فلم يكن للأعراب إذ ذاك في الفيء نصيبٌ، فلما اتسعت رقعةُ الإسلام وسقط فرض الهجرة صار للمسلمين كلهم حقٌّ في الفيء حتى رعاة الشاء. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لئن سلَّمني الله ليأتينَّ الراعيَ نصيبُه من هذا المال لم يَعْرَق فيه جبينُه (4). _________ (1) في "إكمال المعلم": "لا حق لهم من الصدقة". (2) انظر: "الأموال" (1/ 330). (3) أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (1864) أيضًا من حديث عائشة. (4) أخرجه معمر في "جامعه" (20040 - عبد الرزاق) ــ ومن طريقه الطبري في "تفسيره" (22/ 516) وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 420) ــ وأبو عبيد في "الأموال" (41، 540) والبيهقي في "الكبير" (6/ 351) بنحوه. وإسناده صحيح.

(1/28)


فصل وقوله: "فإن سألوك على أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلْهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكمَ الله فيهم أم لا" فيه حجةٌ ظاهرةٌ على أنه لا يَسُوغ إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينًا من مسائل الاجتهاد، كما قال بعض السلف (1): ليتَّقِ أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا أو حرَّم كذا، فيقول الله له كذبتَ، لم أُحِلَّ كذا ولم أُحرِّمه. وهكذا لا يَسُوغ أن يقول: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لِما لا يعلم صحته ولا ثقةَ رُواته، بل إذا رأى أيَّ حديث كان في أي كتابٍ، يقول: "لقوله - صلى الله عليه وسلم - "، أو "لنا قوله - صلى الله عليه وسلم - ". وهذا خطرٌ عظيمٌ، وشهادةٌ على الرسول بما لا يعلم الشاهد (2). وكذلك لا يَسُوغ له أن يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم _________ (1) رُوي ذلك عن الربيع بن خُثيم، أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2090)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 53)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 529) وغيرهم. (2) انظر: "المجموع" للنووي (1/ 63)، ففيه: قال المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ... وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن يُطلق إلّا فيما صح، وإلّا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه. وهذا الأدب أخلَّ به جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذَّاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح.

(1/29)


يخبر به سبحانه عن نفسه، ولا أخبر به رسوله عنه، كما يستسهله أهل البدع. بل لا يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله عنه. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد منع الأمير أن يُنزِل أهلَ الحصن على حكم الله وقال: "لعلك لا تدري أَتُصِيبُه أم لا"، فما الظنُّ بالشهادة على الله والحكمِ عليه بأنه كذا أو ليس كذا؟ والحديث صريحٌ في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحدٌ معينٌ، وأن المجتهد يصيبه تارةً ويخطئه تارةً، وقد نصَّ الأئمة الأربعة على ذلك صريحًا. قال أبو عمر بن عبد البر (1): ولا أعلم خلافًا بين الحذَّاق من شيوخ المالكيين ــ ثم عدَّهم ــ ثم قال: كلٌّ يَحكي أن مذهب مالك في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام= أن الحقَّ من ذلك عند الله واحدٌ من أقوالهم واختلافهم، إلا أنَّ كلَّ مجتهدٍ إذا اجتهد كما أُمِر، وبالغ ولم يَألُ، وكان من أهل الصناعة، ومعه آلة الاجتهاد= فقد أدَّى ما عليه، وليس عليه غيرُ ذلك، وهو مأجورٌ على قصده الصوابَ وإن كان الحق من ذلك واحدًا. قال: وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي (2). قال: وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسن _________ (1) في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 919). (2) انظر "الأم" (9/ 77)، و"البرهان" (2/ 1319)، و"المستصفى" (2/ 357) وغيرها.

(1/30)


وأبو يوسف والحُذَّاق من أصحابهم (1). قلت: قال القاضي عبد الوهاب (2): وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهدٍ فقال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ــ - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم ــ سعةٌ، إنما هو خطأٌ أو صوابٌ. وسئل أيضًا (3): ما تقول في قول من يقول: إن كل واحدٍ من المجتهدين مصيبٌ لِما كلِّف؟ فقال: ما هذا هكذا، قولان مختلفان لا يكونان قطُّ صوابًا. وقد نصَّ على ذلك الإمام أحمد، فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (4): إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضدّه، فالحق عند الله في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد، ثم قال: وإذا اختلف آخر عن رجل آخر منهم فالحق واحد، وعلى الرجل أن يجتهد (5)، ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ. _________ (1) انظر: "أصول البزدوي" (ص 615 وما بعدها)، و"أصول السرخسي" (2/ 131) وغيرهما. (2) نقله عنه الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 54). وقول مالك في "الموافقات" (5/ 75). (3) أي مالك، انظر: "جامع بيان العلم" (2/ 906، 907)، و"الإحكام" لابن حزم (6/ 87)، و"الموافقات" (5/ 75). (4) انظر: "العدّة" لأبي يعلى (5/ 1542)، و"التمهيد" للكلوذاني (4/ 310). (5) "ثم قال ... يجتهد" ساقطة من المطبوع.

(1/31)


وأصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا، وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتابٍ مفردٍ (1)، وبالله التوفيق. والمقصود أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بُريدة: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" صريحٌ في (2) أن حكم الله واحدٌ، وأن المجتهد قد يُصيبه وقد يُخطئه، كما قال في الحديث الآخر: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ" (3). فمن قال: كل مجتهدٍ مصيبٌ بمعنى أنه يصيب حكم الله الذي حكم به في نفس الأمر فقوله خطأ، وإن أراد أنه مصيب (4) للأجر بمعنى أنه مطيعٌ لله في أداء ما كُلِّف به، فقوله صحيح إذا استفرغ المجتهد وُسْعَه وبذلَ جهدَه. فصل فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا _________ (1) لعله الكتاب الذي أشار إليه في "تهذيب السنن" (3/ 137) بقوله: "كتاب مفرد في الاجتهاد"، وفي "مفتاح دار السعادة" (1/ 155) بقوله: "كتاب الاجتهاد والتقليد". (2) "فيهم أم لا صريح في" ساقطة من المطبوع. (3) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص بنحوه. (4) "بمعنى أنه ... مصيب" ساقطة من المطبوع.

(1/32)


الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالًا وصَغارًا، والمعنى: حتى يُعطوا الخراج عن رقابهم. واختُلف في اشتقاقها، فقال القاضي في "الأحكام السلطانية" (1): اسمها مشتقٌّ من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صَغارًا، أو جزاءً على أماننا لهم لأخذِها منهم رفقًا. قال صاحب "المغني" (2): هي مشتقّةٌ من جزاه بمعنى قضاه، لقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 47]. فتكون الجزية مثل الفدية. قال شيخنا: والأول أصح، وهذا يرجع إلى أنها عقوبةٌ أو أجرةٌ. وأما قوله: {عَن يَدٍ}، فهو في موضع النصب على الحال، أي يعطوها أذِلَّاء مقهورين. هذا هو الصحيح في الآية. وقالت طائفةٌ (3): المعنى من يدٍ إلى يدٍ نقدًا غير نسيئةٍ. وقالت فرقةٌ (4): من يده إلى يد الآخذ، لا باعثًا بها ولا موكِّلًا في دفعها. _________ (1) (ص 153). وهو صادر عن "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 221). (2) (13/ 202). (3) منهم شريك وعثمان بن مقسم، انظر: "زاد المسير" (3/ 420)، و"تفسير البغوي" (2/ 282). (4) روي ذلك عن ابن عباس، انظر "تفسير البغوي" (2/ 282)، و"تفسير القرطبي" (8/ 115)، و"الوسيط" للواحدي (2/ 489)، و"زاد المسير" (3/ 420).

(1/33)


وقالت طائفةٌ (1): معناه عن إنعامٍ منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم. والصحيح القول الأول، وعليه الناس. وأبعدَ كلَّ البعد ولم يُصِبْ مراد الله من قال (2): المعنى: عن يدٍ منهم، أي عن قدرةٍ على أدائها، فلا تُؤخذ من عاجزٍ عنها. وهذا الحكم صحيح، وحملُ الآية عليه باطلٌ، ولم يفسِّر به أحدٌ من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين. وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حالٌ أخرى، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم أن يأخذوها بقهرٍ وعن يدٍ، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغرٌ ذليلٌ. واختلف الناس في تفسير "الصغار" الذي يكونون عليه وقتَ أداء الجزية، فقال عكرمة (3): أن يدفعها وهو قائمٌ، ويكون الآخذ جالسًا. وقالت طائفةٌ (4): أن يأتي بها بنفسه ماشيًا لا راكبًا، ويُطال وقوفُه عند _________ (1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 442)، و"تفسير البغوي" (2/ 282)، و"زاد المسير" (3/ 420). (2) نقله الماوردي في "النكت والعيون" (2/ 128)، و"الأحكام السلطانية" (ص 223). (3) أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/ 408)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1780). (4) انظر: "تفسير الطبري" (11/ 408)، و"تفسير البغوي" (2/ 282)، و"النكت والعيون" (2/ 128)، و"زاد المسير" (3/ 421)، و"المغني" (13/ 252).

(1/34)


إتيانه بها، ويُجَرُّ إلى الموضع الذي تُؤخذ منه بالعنف، ثم تُجَرُّ يدُه ويُمتَهَن. وهذا كله مما لا دليلَ عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نُقِل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك. والصواب في الآية أن الصَّغار هو التزامهم لجريان أحكام الملَّة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصَّغار. وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبلٍ (1): كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يُؤدُّوا، [قيل له: فترى ذلك؟ قال: نعم، وهو] الصَّغار الذي قال الله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وهذا يدلُّ على أن الذمّي إذا بذلَ ما عليه والتزم الصَّغار لم يحتجْ إلى أن يُجَرَّ بيده ويُضْرَب. وقد قال في رواية مهنا بن يحيى (2): يُستحبُّ أن يتعبوا في الجزية. قال القاضي (3): ولم يُرِد تعذيبَهم ولا تكليفَهم فوقَ طاقتهم، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالَهم. _________ (1) "الجامع" للخلال (1/ 164، 165) ومنه الزيادة. وفيه: "وكانوا يحدّون". (2) المصدر نفسه (1/ 165). وفيه: "يبعثوا" تصحيف. (3) لم أجد كلامه في المصادر التي رجعت إليها، ولعله فيما لم يصل إلينا من كتابه "التعليقة".

(1/35)


قلت: لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجهٍ تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دلالةٌ على أن هؤلاء النصارى الذين يتولَّون أعمال السلطان، ويظهر منهم الظلمُ والاستعلاء على المسلمين وأخذُ الضرائب= لا ذمَّةَ لهم، وأن دماءهم مباحةٌ؛ لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصَّغار والذُّل. وهذا الذي استنبطه القاضي من أصحِّ الاستنباط؛ فإن الله سبحانه وتعالى مدَّ القتال إلى غايةٍ، وهي إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافيةً للذُّل والصَّغار فلا عصمةَ لدمِه ولا ماله، وليست له ذمَّةٌ. ومن هاهنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الشروط التي فيها صَغارهم وإذلالهم، وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهدَ لهم ولا ذمةَ، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يَحِلُّ من أهل الشقاق والمعاندة. وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروطَ العمرية وشرحها. فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن الجزية وُضِعتْ صَغارًا وإذلالًا للكفار، لا أجرةً عن سكنى الدار، وذكرنا أنها لو كانت أجرةً لوجبتْ على النساء والصبيان والزَّمْنى

(1/36)


والعميان. ولو كانت أجرةً لما أنِفَتْ منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم، والتزموا ضِعْفَ ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةَ المدَّة كسائر الإجارات. ولو كانت أجرةً لما وَجَبتْ بوصف الإذلال والصَّغار. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةً بحسب المنفعة، فإن سكنى الدار قد يُساوي في السنة أضعافَ أضعافِ الجزية المقدرة. ولو كانت أجرةً لما وجبتْ على الذمّي أجرةُ دارٍ أو أرضٍ يسكنها إذا استأجرها من بيت المال. ولو كانت أجرةً لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المُؤجِر والمستأجر. وبالجملة ففساد هذا القول يُعلم من وجوهٍ كثيرةٍ. وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية، فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: ويُجعل على الفقير المعتمل دينارٌ، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير. وأقلُّ ما يُؤخذ دينارٌ، وأكثره ما وقع عليه التراضي، ولا يجوز أن يُنقصَ من دينارٍ. وقال أصحاب مالك (2): أكثر الجزية أربعةُ دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الوَرِق، ولا يُزاد على ذلك. فإن كان منهم ضعيفٌ خُفِّف عنه بقدر ما يراه الإمام. _________ (1) انظر: "الأم" (5/ 424، 428)، و"التنبيه" للشيرازي (ص 237). (2) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 488).

(1/37)


وقال ابن القاسم (1): لا يُنقَص من فرض عمر - رضي الله عنه - لمعسرٍ، ولا يُزاد عليه لغني. وقال القاضي أبو الحسن (2): لا حدَّ لأقلها، قال: وقيل: أقلُّها دينارٌ أو عشرة دراهم. وقال أصحاب أبي حنيفة (3) رحمهم الله تعالى: تُوضَع على الغني ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، وعلى المتوسط أربعةٌ وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر. ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط، قالوا: والمختار أن يُنظَر في كل بلدٍ إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك، فإن عادة البلاد في ذلك مختلفةٌ. وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه، فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدَّرة الأقل والأكثر، فتؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا، ومن المتوسط أربعةٌ وعشرون، ومن الموسر ثمانيةٌ وأربعون. قال (4) حربٌ في "مسائله" (5): وسألت أبا عبد الله قلت: خراج الرؤوس إذا كان الذمي غنيًّا؟ قال: ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، قلت: فإن كان دون ذلك؟ _________ (1) كما في المصدر السابق. والكلام متصل بما قبله. (2) المصدر نفسه. (3) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" للموصلي (4/ 137). (4) من هنا إلى بداية الفصل الآتي في ورقة مستقلة مستدركة في الأصل. (5) نقله الخلال في "الجامع" (1/ 167).

(1/38)


قال: أربعةٌ وعشرون، قلت: فإن كان دون ذلك؟ قال: اثنا عشر (1)، قلت: فليسَ دون اثني عشر شيء (2)؟ قال: لا. وقال في رواية ابنه صالحٍ وإبراهيم بن هانئٍ وأبي الحارث (3): أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانيةٌ وأربعون، والمتوسط أربعةٌ وعشرون، والفقير اثنا عشر. زاد في رواية أبي الحارث (4): أن عمر ضربَ على الغني ثمانيةً وأربعين، وعلى الفقير اثني عشر (5). قال الخلال (6): والذي عليه العمل من قول أبي عبد الله: أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وليس لمن دونه أن يفعل ذلك. وقد روى يعقوب بن بختان خاصةً عن أبي عبد الله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك. وروى عن أبي عبد الله أصحابُه في عشرة مواضع أنه لا بأسَ بذلك. قال (7): ولعل أبا عبد الله تكلَّم بهذا في وقتٍ، والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وقد أشبعَ الحجة في ذلك. _________ (1) في الأصل: "أربعة عشر"، وهو تحريف. (2) في الأصل: "شيئًا". (3) روايتهم عند الخلال في "الجامع" (1/ 167). (4) بل في رواية صالح في المصدر السابق (1/ 167). (5) سيأتي تخريجه (ص 45). (6) المصدر نفسه (1/ 169). (7) المصدر نفسه، والكلام مستمر.

(1/39)


وقال الأثرم (1): سمعت أبا عبد الله يُسأَل عن الجزية كم هي؟ قال: وضع عمر - رضي الله عنه - ثمانيةً وأربعين وأربعةً وعشرين واثني عشر. قيل له: كيف هذا؟ قال: على قدر ما يُطيقون. قيل: فيُزاد في هذا اليومَ ويُنقص؟ قال: نعم، يُزاد فيه ويُنقَص على قدر طاقتهم، وعلى قدر ما يرى الإمام. وقال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن حديث عثمان بن حُنيفٍ تذهب إليه في الجزية (3)؟ قال: نعم. قلت: ترى الزيادة؟ قال: لمكان قول عمر - رضي الله عنه -: [أنا زدتُ عليهم]، فإن زاد فأرجو أن لا بأسَ إذا كانوا مطيقين، مثل ما قال عمر - رضي الله عنه -. وقال أحمد بن القاسم (4): سئل أبو عبد الله عن جزية الرؤوس، وقيل له: بلغَك أن عمر - رضي الله عنه - جعلها على قدْرِ اليسار من أهل الذمة: اثنا عشر وأربعةٌ وعشرون (5) وثمانيةٌ وأربعون؟ قال: [هكذا] على قدر طاقتهم. فكيف يصنع به إذا كان فقيرًا لا يقدر [على] ثمانيةٍ وأربعين؟ [قال: إنما هو على قدر الطاقة. قيل له: فيزاد عليهم أكثر من ثمانيةٍ وأربعين؟] قال: على حديث الحكم عن عمرو (6) بن ميمونٍ أنه قال: والله إن زدتُ عليهم درهمين _________ (1) المصدر نفسه (1/ 169). (2) المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة. وسيأتي حديث عثمان بن حنيف (ص 162). (3) في المطبوع: "بالجزية" خلاف الأصل ومصدر المؤلف. (4) المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة. (5) في الأصل: "وأربعة عشر" خطأ. (6) في المطبوع: "عمر" خطأ.

(1/40)


لا يُجهِدهم، قال: وكانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. قال: ولم يبين قوله في الزيادة أكثر من هذا. قلت لأبي عبد الله (1): يحكى عن الشافعي أنه قال: إذا سأل أهل الحرب أن يؤدُّوا إلى الإمام عن رؤوسهم دينارًا [دينارًا] لم يجز له أن يحاربهم؛ لأنهم قد بذلوا ما حدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأعجبَه هذا وفكَّر فيه، ثم تبسَّم وقال: مسألة فيها نظر. وقال صالح بن أحمد (2): وسألتُ أبي: [إلى] أيّ شيء تذهب في الجزية؟ قال: أما أهل الشام [فـ] ـعلى ما وظف (3) عمر - رضي الله عنه - أربعة دنانير وكسوةٌ وزيتٌ، وأما أهل اليمن فعلى كل حالمٍ دينارٌ، وأما أهل العراق فعلى ما يؤخذ منهم. وقال الأثرم (4) لأبي عبد الله: على أهل اليمن دينارٌ، شيء لا يزاد عليهم؟ قال: نعم. قيل له: ولا يؤخذ منهم ثمانيةٌ وأربعون؟ قال: كل قومٍ على سنَّتهم. ثم قال: أهل الشام خلاف غيرهم أيضًا، وكل قومٍ على ما قد جُعلوا عليه. فقد ضمِنَ مذهبُه أربعَ رواياتٍ: _________ (1) المصدر نفسه (1/ 170). والكلام متصل بما قبله. (2) المصدر نفسه (1/ 171). (3) في الأصل و"الجامع": "وصف". والتصويب من "مسائل صالح" (1/ 216). (4) المصدر نفسه (1/ 171).

(1/41)


إحداها: أنه لا يُزاد فيها ولا يُنقَص على ما وضعه عمر - رضي الله عنه -. والثانية: تجوز الزيادة والنقصان على ما يراه الإمام، قال الخلال: وهو الذي عليه العمل من مذهبه (1). والثالثة: تجوز الزيادة دون النقصان. والرابعة: أن أهل اليمن خاصةً لا يزاد عليهم ولا ينقص. فصل ولا يتعيَّن في الجزية ذهبٌ ولا فضّةٌ، بل يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم من ثيابٍ وسلاحٍ يعملونه، وحديدٍ ونُحاسٍ ومَواشٍ وحبوبٍ وعُروضٍ وغير ذلك. وقد دلَّ على ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل خلفائه الراشدين، وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد. ونصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم (2)، وقد سأله: يؤخذ في الجزية غيرُ الذهب والفضة؟ قال: نعم، دينارٌ أو قيمته مَعَافر. والمَعَافر ثيابٌ تكون باليمن. وذهب في ذلك إلى حديث معاذٍ - رضي الله عنه -، الذي رواه في "مسنده" (3) _________ (1) "من مذهبه" ساقطة من المطبوع. (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 168). (3) برقم (22013، 22037)، وأخرجه أيضًا أبو داود (1576، 3038) والترمذي (623) والنسائي (2450) وابن خزيمة (2268) وابن حبان (4886) والحاكم (1/ 398)، كلهم من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق (ولم يُذكر في بعض الطرق، وذكره أصح)، عن معاذ. وهذا إسناد جيِّد كما قال المؤلف. وقد روي عن مسروقٍ وغيره مرسلًا إلا أن وصله صحيح. انظر: "العلل" للدارقطني (985).

(1/42)


بإسناد جيدٍ عن معاذٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافِر. ورواه أهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن. وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهبًا ولا فضةً، وإنما أخذ منهم الحُلَل والسِّلاح. فروى أبو داود في "سننه" (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ نجران على ألفَي حُلَّةٍ ــ النصف في صفرٍ والنصف في رجبٍ ــ يؤدُّونها إلى المسلمين، وعارية (2) ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنفٍ من أصناف السلاح يغزون (3) بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كيدٌ أو غَدرةٌ؛ على أن لا تُهدَم لهم بِيعةٌ، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يُفتَنون عن دينهم، ما لم _________ (1) برقم (3041) ــ ومن طريقه الضياء في "المختارة" (9/ 508) ــ من حديث السُّدِّي عن ابن عبّاس. وفي سماع السدي من ابن عباس نظر، ولكن له شواهد مرسلة تعضده، كما في التعليق على "زاد المعاد" (3/ 181، 801). ويُزاد عليها شاهد من "مغازي عروة" من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه، أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (519). (2) في المطبوع: "وعلى" خلاف ما في الأصل والسنن. (3) في المطبوع: "يقرون" تحريف.

(1/43)


يُحدِثوا حَدَثًا أو يأكلوا الربا. وهو صريحٌ في أن أهل الذمة إذا أحدثوا في الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمةَ لهم، وقد دلَّ على ذلك القرآن والسنة واتفاق الصحابة - رضي الله عنهم -، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (1). قال الزهري: أول من أعطى الجزيةَ أهلُ نجران، وكانوا نصارى (2)، وقد أُخذ منهم الحُلَل. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأخذ النَّعَم في الجزية (3). وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ من متاعه؛ من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المسالِّ مَسَالَّ (4)، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا فاقتسِموا، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خياره وتركتم _________ (1) في الفصل السادس من الشروط العمرية في آخر الكتاب. (2) تقدم تخريجه. (3) كما في "الأم" (3/ 226) و"الأموال" لأبي عبيد (122) و"السنن الكبير" للبيهقي (7/ 35) من حديث مالك ــ وهو في "الموطأ" برواية محمد (334) ــ عن زيد بن أسلم عن أبيه. وإسناده صحيح. (4) كذا في الأصل وموضع من كتاب "الأموال" وسائر المصادر، و"المَسالُّ" جمع المِسلَّة، وهي الإبرة العظيمة الضخمة، ويؤيده العطف على صاحب الإبر. وفي المطبوع وموضع من كتاب "الأموال": "المَسانّ" جمع المِسَنٍّ، وهو آلة السَنِّ أي: آلة تحديد السكين ونحوه.

(1/44)


شراره؟ لَتحمِلُنَّه (1)! فيؤخذ من عُروضه بقدر ما عليه من الجزية، هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه التي لا مَعدلَ عنها. فقد تبيَّن أن الجزية غير مقدَّرةٍ بالشرع تقديرًا لا يقبل الزيادة والنقصان، ولا معيَّنة الجنس. قال الخلال (2): العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، على ما رواه عنه أصحابه (3) في عشرة مواضع، فاستقرَّ قوله على ذلك. وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم. وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقاتٍ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، جعلها على الغني ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعةً وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر (4). وصالحَ بني تغلبَ على مثلَيْ ما على المسلمين من الزكاة (5). _________ (1) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (121 واللفظ له، 939) وابن زنجويه (175) وابن أبي شيبة (33571) بإسناد جيِّد. (2) في "الجامع" (1/ 169). والمؤلف صادر عن "المغني" (13/ 210). (3) بعدها في المطبوع: "معينة الجنس"، ومكانها الصحيح قبل سطرين. (4) أخرجه ابن أبي شيبة (10825) وأبو عبيد في "الأموال" (106، 107) وابن زنجويه (157، 158، 258، 261) من طرق. (5) أخرجه ابن أبي شيبة (10684) وأبو عبيد (72، 74، 1499، 1500).

(1/45)


وهذا يدلُّ على أنها إلى رأي الأمام، ولولا ذلك لكانت على قدرٍ واحدٍ في جميع المواضع، ولم يجُزْ أن تختلف. وقال البخاري (1): قال ابن عيينة: عن ابن أبي نَجيحٍ قلت لمجاهدٍ: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جُعل ذلك من أجل اليسار. وقد زادها عمر أيضًا على ثمانيةٍ وأربعين فصيَّرها خمسين درهمًا (2). واحتجَّ الشافعي (3) رحمه الله تعالى بأن الواجب دينارٌ على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدَّرها بذلك في حديث معاذٍ - رضي الله عنه -، وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ولم يُفرِّق بين غني وفقيرٍ، ولا (4) جعلهم ثلاث طبقاتٍ، وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أن تُتَّبع من اجتهاد عمر. ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا: لا منافاةَ بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما فعله عمر - رضي الله عنه -، بل هو من سنته أيضًا. وقد قرنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع (5)، فما سنَّه خلفاؤه فهو كسنَّتِه في الاتباع. وهذا _________ (1) في "صحيحه" (كتاب الجزية) وقد تقدم. (2) أخرجه أبو عبيد (108) ــ وعنه ابن زنجويه (159) ــ وأبو القاسم البغوي في "مسند ابن الجعد" (148) والبيهقي في "الكبير" (9/ 196). (3) انظر: "الأم" (5/ 425 وما بعدها)، و"المغني" (13/ 211). (4) "لا" ساقطة من المطبوع. (5) في حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وغيرهما، وصححه الترمذي وابن حبان (5) والحاكم (1/ 95).

(1/46)


الذي فعله عمر - رضي الله عنه - اشتهر بين الصحابة، ولم ينكره منكرٌ، ولا خالفه فيه واحدٌ منهم البتةَ، واستقرَّ عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده، فلا يجوز أن يكون خطأً أصلًا. وقد نصَّ الشافعي على استحباب العمل به فقال (1): الواجب على كل رجل دينارٌ، لا يُجزئ أقلُّ من ذلك. فإن كان الذميّ مُقِلًّا ولم يكن مُوسِرًا ولا متوسطًا عقد له الإمام الذمة على دينارٍ في كل سنةٍ. وإن كان متوسطًا فيستحبُّ أن يقول له الإمام: جزيةُ مثلك ديناران، فلا أعقد لك ذمةً على أقلَّ منهما، ويحمل عليه بالكلام، فإن لم يقبل حملَ عليه بعشيرته وأهله، فإن لم يقبل وأقام على بذل الدينار قَبِل منه وعَقَد له الذمة. وإن كان موسرًا فيستحب أن يقال: جزيةُ مثلك أربعة دنانير لا أقبل منك أقلَّ منها، ويتحامل عليه بالكلام، ويحمل عليه بعشيرته وقومه، فإن لم يفعل وأقام على بذل الدينار قبل منه وعُقِدت له الذمة عليه. قلت: ولا يخلو حديث معاذٍ من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ: الأول: أن يكون أمره بذلك؛ لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر. وقد أشار مجاهدٌ إلى ذلك في قوله: إنما جُعِل على أهل الشام ثمانيةٌ وأربعون درهمًا من أجل اليسار. الوجه الثاني: أنهم كانوا قد أُقرُّوا بالجزية، ولم يتميز الغني منهم من الفقير، _________ (1) لم أجد قوله في "الأم" ولا غيره من المصادر التي رجعتُ إليها.

(1/47)


والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن، بل كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو حيٌ بين أظهرهم، فلما لم يتفرَّغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية كلها طبقة واحدةً. فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة، ومعرفةِ غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم، فجعلوهم ثلاث طبقاتٍ، وأخذوا من كل طبقةٍ ما لا يَشُقُّ عليهم إعطاؤه. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدِّرها تقديرًا عامًّا لا يقبل التغيير، بل ذلك موكولٌ إلى المصلحة واجتهاد الإمام. فكانت المصلحة في زمانه أخذَها من أهل اليمن على السواء، وكانت المصلحة في زمن خلفائه الراشدين أخذَها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يَسارِهم وأموالهم. وهكذا فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أخذها من أهل نجران حُلَلًا في قِسطَينِ، قسطٍ في صفرٍ وقسطٍ في رجبٍ. وقال مالك (1): عن نافعٍ عن أسلم أن عمر - رضي الله عنه - ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيامٍ. وقال الليث بن سعدٍ: عن كثير بن فَرْقدٍ ومحمد بن عبد الرحمن [عن نافعٍ] عن أسلم، عن عمر - رضي الله عنه -: أنه ضرب الجزية على أهل الشام ــ أو قال: _________ (1) في "الموطأ" (757) ومن طريقه أخرجه أبو عبيد (103). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10090، 10095) ... وأبو عبيد (104) وابن زنجويه (155، 156) من طرق عن نافع به مطولًا ــ وسيأتي لفظه ــ ومختصرًا.

(1/48)


على أهل الذهب ــ أربعة دنانير، وأرزاق المسلمين من الحنطة مُدَّين وثلاثة أقساطِ زيتٍ لكل إنسانٍ كلَّ شهرٍ. وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وخمسة عشر صاعًا لكل إنسانٍ. قال: ومن كان من أهل مصر فإرْدَبٌّ (1) كلَّ شهرٍ لكل إنسانٍ. قال: ولا أدري كم [ذكر لكل إنسانٍ] من الوَدَكِ (2) والعسل (3). وعلى هذا فلو كان فيهم من لا يقدر إلا على بعض دينارٍ لوجب قبوله منه بحسب قدرته. وهذا قياسُ جميع الواجبات إذا قدَرَ على أداء بعضها وعجَزَ عن جميعها، كمن قدرَ على أداءِ بعض الدَّين، وإخراجِ بعضِ صاع الفطرة، وأداءِ بعض النفقة إذ لا يقدر على تمامها، وغسْلِ بعض أعضائه إذا عجَزَ عن غَسْل جميعها، وقراءةِ بعض الفاتحة في الصلاة إذا عجَزَ عن جميعها، ونظائر ذلك. قال أبو عبيد (4): والذي اخترناه أن عليهم الزيادة كما يكون لهم النقصان، للزيادة التي زادها عمر - رضي الله عنه - على وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللزيادة التي زادها هو نفسُه حين كانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. ولو عجَزَ أحدهم عن دينارٍ لحَطَّه من ذلك، حتى قد رُوِي عنه أنه أجرى على شيخٍ _________ (1) الإردبُّ: مكيال يسع أربعة وعشرين صاعًا. (2) الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. (3) أخرجه أبو عبيد (104) عن يحيى بن بكير، وابنُ زنجويه (156) عن عبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث به. واللفظ لأبي عبيد. (4) "الأموال" (1/ 97).

(1/49)


منهم من بيت المال (1)، وذلك أنه مرَّ به وهو يسأل على الأبواب، وفعله عمر بن عبد العزيز (2). قال أبو عبيد: ولو علم عمر أن فيها سنَّةً موقَّتةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تعدَّاها إلى غيرها. فصل ولا يحلُّ تكليفُهم ما لا يقدرون عليه، ولا تعذيبُهم على أدائها، ولا حبسُهم وضربُهم. قال أبو عبيد (3): حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن (4) هشام بن حكيم بن حزامٍ أنه مرَّ على قومٍ يُعذَّبون في الجزية بفلسطين، فقال هشامٌ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا". وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أنَّ عِياض بن غَنْمٍ رأى نَبَطًا (5) _________ (1) أخرجه أبو يوسف في "الخراج" (277 - نشرة البنَّا) بإسناد ضعيف، فيه عمر بن نافع الثقفي، قال ابن معين: ليس بشيء. ولكن له شاهد من أثر عمر بن عبد العزيز عن عمر بلاغًا، وسيأتي. (2) سيأتي الأثر بإسناده (ص 55)، وثَمَّ تخريجه. (3) "الأموال" برقم (114). والحديث عند مسلم (2613) من طرق عن هشام به. (4) في المطبوع: "وعن" خطأ. (5) شعبٌ سامي كانت له دولة في شمال شبه الجزيرة العربية، وعاصمتهم سَلْع، وتُعرف اليوم بالبتراء. وأُطلق اللفظ أخيرًا على أخلاط الناس من غير العرب.

(1/50)


يُشمَّسون (1) في الجزية فقال لصاحبهم: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله تبارك وتعالى يُعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا" (2). وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيمٍ هو الذي قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ (3). قال (4): [حدثنا] نُعيم بن حمادٍ، عن بقية بن الوليد، عن صفوان بن _________ (1) كذا في الأصل، وفي مطبوعة "الأموال" لأبي عبيد: "يُعذَّبون"، والظاهر أنه تصحيف، فقد أخرجه ابن زنجويه من الطريق نفسه بلفظ: "يشمَّسون". ومعناه: يُوقَفون في الشمس يعذَّبون بحرِّها. (2) "الأموال" (115) وكذا ابن زنجويه (170)، كلاهما عن عبد الله بن صالح عن الليث، عن يونس، عن الزهري به. وهو في "مسند أحمد" (15334) من طريق آخر عن يونس به. ولفظ هذه الروايات مقلوب، والذي في عامَّة الطرق أن هشام بن حكيم قال ذلك لعياض بن غنم، كما سيأتي. (3) "الأموال" (116)، وكذا أحمد (15335) وابن زنجويه (169)، كلهم عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وأخرجه ابن حبان (5612) من طريق الزُّبَيدي عن الزهري به. وأخرجه مسلم (2613/ 119) وأبو داود (3045) والنسائي في "الكبرى" (8718) من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري به، ولكن دون تسمية عياض. (4) أبو عبيد في "الأموال" (117). وأخرجه أيضًا أحمد (15333) وابن أبي عاصم في "السنة" (1130) والطبراني في "مسند الشاميين" (977) من طرق عن صفوان بن عمرو به. رجاله ثقات، إلا أن شُريح بن عُبيد يُرسل كثيرًا، وقيل: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة. والظاهر أنه سمع الخبر من جُبير بن نُفير ــ من كبار تابعي أهل الشام ــ، فقد أخرجه ابن أبي عاصم (1131) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5425) من طريق ضَمْضَم بن زُرعة، عن شُريحٍ بن عبيد قال: قال جُبير بن نُفير ... فذكره بنحوه. وإسناده حسن.

(1/51)


عمرٍو، عن شُريح بن عبيد: أن هشام بن حكيمٍ قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عياضٌ لهشامٍ: قد سمعتُ ما سمعتَ ورأيتُ ما رأيتَ. أَوَلم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أراد أن ينصحَ لذي سلطانٍ فلا يُبْدِهِ له علانيةً، ولكن لِيأخذْ بيده فيخلُو به، فإن قبلَ منه فذاك، وإلّا فقد أدَّى الذي عليه". قال (1): وحدثنا نُعيمٌ، نا بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرٍو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفيرٍ عن أبيه: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أُتي بمالٍ كثيرٍ ــ أحسبه قال: من الجزية ــ فقال: إني لأظنُّكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عَفْوًا صَفْوًا. قال: بلا سوطٍ ولا نَوْطٍ (2)؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني. قال (3): وحدثنا أبو مُسهر، نا سعيد بن عبد العزيز قال: قدم سعيد بن _________ (1) "الأموال" (118)، ولم أجده عند غيره. وإسناده لا بأس به. (2) أي بلا ضرب ولا تعليق. انظر: "النهاية" (5/ 128). (3) "الأموال" (119)، وهو ظاهر الانقطاع بين سعيد بن عبد العزيز ــ التنوخي، من أئمة أتباع التابعين ــ وبين سعيد بن عامر بن حِذْيَم - رضي الله عنه -، إلا أن ابن عساكر أخرجه في "التاريخ" (21/ 163) من طريق آخر عن سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني عطية بن قيس ــ الكلابي، تابعي حمصي ــ أن عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم على جُند حمصٍ (بعد وفاة عياض بن غَنْم)، فقدم عليه ... إلخ بنحوه.

(1/52)


عامر بن حِذْيَمٍ على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلما أتاه علاه بالدِّرَّة، فقال سعيد: سبقَ سيلُك مطرَك! إن تُعاقِبْ نصبِرْ، وإن تَعْفُ نشكُرْ، وإن تَستعتِبْ نُعْتِبْ. فقال: ما على المسلم إلا هذا، ما لك تُبطئ بالخراج؟ فقال: أمرتَنا أن لا نزيد الفلَّاحين على أربعة دنانير، فلسنا نزيدهم على ذلك، ولكنّا نؤخّرهم إلى غلَّاتهم. فقال عمر - رضي الله عنه -: لا عَزلتُك ما حَيِيتُ! قال أبو عبيد: وإنما وجهُ التأخير للرِّفق بهم، ولم أسمع في الخراج والجزية وقتًا من الزمان يجتبى فيه غيرَ هذا. قال (1): ونا مروان بن معاوية الفَزاري عن خَلَفٍ مولى آل جَعدة عن رجل من آل أبي المهاجر قال: استعمل علي بن أبي طالب رجلًا على عُكبَراء فقال له على رؤوس الملأ: لا تَدَعَنَّ لهم درهمًا من الخراج. قال: وشدَّدَ عليه القول، ثم قال: الْقَنِي عندَ انتصاف النهار، فأتاه فقال: إني كنتُ _________ (1) "الأموال" (120)، والرجل المبهم من آل أبي المهاجر هو إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، فقد أخرجه أبو يوسف في "الخراج" (47)، وابن زنجويه (173) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من ثقيف قال: استعملني علي بن أبي طالب على عكبراء ... إلخ بنحوه. وإسماعيل هذا ضعيف، إلا أنه توبع، تابعه جعفر بن زياد الأحمر عند يحيى بن آدم في "الخراج" (234) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير" (9/ 205) ــ بنحوه.

(1/53)


أمرتُك بأمرٍ وإني أتقدَّم إليك الآن (1)، فإن عصيتَني نزعتُك: لا تبيعَنَّ لهم في خراجهم حمارًا ولا بقرةً ولا كسوةً، شتاءً ولا صيفًا، وارْفُق بهم، وافعَلْ بهم وافعَلْ بهم. قال (2): وحدثني الفضل بن دُكَينٍ، عن سعيد بن سِنانٍ، عن عنترة قال: كان عليٌّ يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ، من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المَسَالّ مَسَالّ، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو العُرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خِياره وتركتم عليَّ شِراره؟ لتَحمِلُنَّه! قال أبو عبيد (3): وإنما توجَّه هذا من علي - رضي الله عنه - أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رؤوسهم، ولا يحمِلُهم على بيعها ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادةَ الرفقِ بهم والتخفيفِ عليهم. قال: ومثل هذا حديث معاذٍ - رضي الله عنه - حين قال باليمن: ائتوني بخميسٍ أو لَبِيسٍ (4) آخذه منكم مكانَ الصدقة، فإنه أهونُ عليكم وأنفعُ للمهاجرين _________ (1) أي: إن الأمر السابق كان ليُسمِع القومَ الذين ولَّاه عليهم، ولفظه في رواية ابن زنجويه: "إنما قلتُ لك الذي قلتُ لأُسمِعهم". (2) "الأموال" (121)، وقد تقدَّم. (3) "الأموال" (1/ 102). (4) الخميس: الثوب الذي طولُه خمسُ أذرع. قيل: سُمِّي خميسًا لأن أول من عمله ملكٌ باليمن يقال له الخِمْس. واللبيس: الثوب الذي أُكثِر لُبسُه فأَخلقَ. وانظر: "فتح الباري" (3/ 312). وفي المطبوع: "بحميس" بالحاء وشرحه في الهامش بأنه التنور، وهو خطأ.

(1/54)


بالمدينة (1). وكذلك فعل عمر - رضي الله عنه - حتى كان يأخذ الإبل في الجزية. وإنما يراد بهذا كلِّه الرفقُ بأهل الذمة، وأن لا يباع عليهم من متاعهم شيء، ولكن يؤخذ مما سهُلَ عليهم في القيمة، ألا تسمع إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو عِدْله من المَعَافر"؟ فقد بيَّن لك ذِكرُ العِدْل أنه القيمة. قال (2): وحدثنا محمد بن كثيرٍ، عن أبي رجاءٍ الخراساني، عن أبي جعفر قال: شهدتُ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عَدي بن أَرطاة قرئ علينا بالبصرة: أما بعدُ، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام، واختار الكفر عِتِيًّا (3) وخسرانًا مبينًا، فضَعِ الجزيةَ على من أطاقَ (4) حمْلَها، وخلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك _________ (1) أثر معاذ أخرجه يحيى بن آدم في "الخراج" (526) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير" (4/ 113) وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 13) ــ وابن أبي شيبة (10540) والدارقطني (1930) من رواية طاوس عن معاذ. قال الدارقطني: هذا مرسل، طاوس لم يدرك معاذًا. وذكره البخاري في "صحيحه" (الزكاة/باب العرض في الزكاة) تعليقًا عن طاوس قال: قال معاذ ... إلخ بنحوه إلا أن فيه "خميص" بدل "خميس". (2) "الأموال" (123)، وأخرجه البلاذري في "أنساب الأشراف" (8/ 147) من طريق يحى بن آدم (ولم أجده في مطبوعة "الخراج") عن فضيل بن عياض قال: كتب عمر بن عبد العزيز ... بنحوه مختصرًا دون ذكر قصة عمر بن الخطاب. (3) في المطبوع: "عنتا". (4) في هامش الأصل: "أراد" بعلامة خ.

(1/55)


صلاحًا لمعاش (1) المسلمين وقوةً على عدوهم. ثم انظُرْ مَن قِبَلَك من أهل الذمة قد كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّتْ عنه المكاسبُ، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلِحُه؛ فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوكٌ كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّت عنه المكاسبُ كان من الحق عليه أن يَقُوتَه (2) حتى يفرِّق بينهما موتٌ أو عتقٌ. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنّا أخذنا منك الجزيةَ في شَبيبتِك ثم ضيَّعناك في كِبَرِك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصْلِحه (3). قال (4): وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن محمد بن طلحة، عن داود بن سليمان الجعفي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: سلامٌ عليك، أما بعدُ، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاءٌ وشدَّةٌ وجورٌ في أحكامٍ وسُنَنٍ خبيثةٍ سنَّتها عليهم عُمَّال السوء، وإنّ أقْومَ الدينِ العدلُ والإحسان، فلا يكوننَّ شيء أهمَّ إليك من نفسك أن تُوطِّنَها الطاعةَ لله _________ (1) في المطبوع: "لمعاشر" خلاف الأصل. (2) أي يُطعِمه ما يمسك الرمَق. (3) قصة عمر بن الخطاب التي ذكرها عمر بن عبد العزيز بلاغًا، رويت موصولةً بإسناد آخر ضعيف كما سبق (ص 49 - 50). (4) "الأموال" (124). وأخرجه ابن زنجويه (180) وابن أبي شيبة (33389) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 286، 9/ 49) من طرق عن محمد بن طلحة به. والزيادة بين معكوفتين من "الأموال" وغيره.

(1/56)


عز وجل، فإنه لا قليل من الإثم. وأمرتُك أن تُطرِّز (1) عليهم أرضَهم، وأن لا تَحمِلَ خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خرابٍ، ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق، ولا من العامر إلا وظيفةَ الخراج، في رفقٍ وتسكينٍ لأهل الأرض. وأمرتُك أن لا تأخذ في الخراج [إلا وزنَ سبعةٍ (2) ليس لها آسٌ (3)، ولا] أجور الضرَّابين (4)، ولا إذابة الفضة، ولا هدية النَّيروز والمِهْرَجان (5)، ولا _________ (1) في الأصل: "تطرق". والتصويب من مصادر التخريج. وتطريز الأرض: إصلاح ما فيها من الارتفاع والانخفاض واندراس الأنهار لتكون قابلة لوصول الماء إليها والزراعة فيها. وفي "كتاب الخراج" لأبي يوسف (ص 214 - تحقيق إحسان عباس): "انظر الأرض". وفي "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 549): "فاحرز عليهم أرضهم". وكلاهما تحريف. (2) يقولون: عشرة دراهم وزن سبعة، لأنهم جعلوا عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. انظر "العين" (1/ 345)، و"تهذيب اللغة" (2/ 71)، و"الصحاح" (سبع)، و"مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ص 142). (3) كذا في "الأموال" و"المصنف". وعند ابن زنجويه: "ليس لها أبين". وفي "الخراج" لأبي يوسف (ص 215): "ليس فيها تِبرٌ". وفي "الرتاج": "ليس فيها تربيص تبرٍ". أي معالجة التبر بالرباص وتصفيته من الغش. ومن معاني "الآس": بقية الرماد وأثر الدار، فكأن المعنى: لا غش فيها .. (4) يقال: ضربَ الدرهم ونحوه أي سكَّه وطبَعه. (5) النيروز: أول يوم من السنة الشمسية الإيرانية، ويوافق اليوم الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية. وعيد النيروز أكبر الأعياد القومية للفرس. والمهرجان: احتفال الاعتدال الخريفي، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين: مِهْر (أي الشمس) وجان (أي الحياة أو الروح).

(1/57)


ثمن المصحف، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح. ولا خراجَ على من أسلم من أهل الأرض. فاتَّبِعْ في ذلك أمري، فقد ولَّيتُك في ذلك ما ولَّاني الله، ولا تَعْجَلْ دوني بقطْعٍ ولا صَلْبٍ حتى تراجعني فيه، وانظُرْ من أراد من الذُّرية الحج فعَجِّلْ له مائةً يتجهَّز بها. والسلام عليك. قال عبد الرحمن: قوله: "دراهم النكاح" يريد به بَغايا كان يؤخذ منهن الخراج. وقوله: "الذُّرية" يريد به من كان ليس من أهل الديوان. فصل وتجب الجزية في آخر الحَول، ولا يطالَبون بها قبل ذلك، هذا قول الإمام أحمد والشافعي (1). وقال أبو حنيفة: تجب بأول الحول، وتؤخذ منه كل شهرٍ بقسطه (2). ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلٌ في الجزية، وهي أنها عنده عقوبةٌ محضةٌ يسلك بها مسلكَ العقوبات البدنية، ولهذا يقول: إذا اجتمعت عليه جزية سنين تداخلت كما تتداخل العقوبات، ولو أسلم وعليه جزية سنين سقطت كلها كما تسقط العقوبات، ولو مات بعد الحول وقبل الأخذ سقطت عنه (3). وفي "الجامع الصغير" (4): ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 212). (2) "الاختيار لتعليل المختار" (4/ 137). (3) انظر: "الهداية" (2/ 403)، و"الاختيار" (4/ 138، 139). (4) لمحمد بن الحسن (ص 470). وانظر: "الهداية" (2/ 403).

(1/58)


السنة وجاءت السنة الأخرى، لم يؤخذ منه. وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: تؤخذ منه. فإن مات عند تمام السنة لم تؤخذ منه في قولهم جميعًا. وعلى هذا فلو كانت تجب بآخر الحول لاستقرَّتْ بمضيِّه، ولم تسقط ولم تتداخل كالزكاة والدية. والجزية وجبت بدلًا عن القتل وعصمة الدم في حقّه، وعوضًا عن النصرة لهم في حقنا، وهذا إنما يكون في المستقبل لا في الماضي؛ لأن القتال إنما يُفعل لحِرابٍ قائمٍ في الحال لا لحِرابٍ ماضٍ، وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغُنية عنه (1). وسرُّ المسألة أن سبب الجزية قائمٌ في الحال، ويُعطيها على المستقبل شيئًا فشيئًا بحسب احتمال المحلِّ، كتعويض الضربات في الحدود. ولهذا قالوا: تؤخذ كل شهرٍ بقسطه، فإنها لو أُخِّرت حتى دخل العام الثاني سقطت، كما قال محمد في "الجامع" (2). وعلى هذا فلا تستقرُّ عليه جزيةٌ أبدًا، ولا سبيلَ إلى أن تؤخذ سلفًا وتعجيلًا، فأُخِذت مفرَّقةً على شهور العام لقيام مقتضٍ، لا (3) لصدقته من الكفر، وفي الأخذ من الذَّبِّ عنه والنصرة. وقال محمد في "كتاب الزيادات" (4) في نصراني مرِضَ السنةَ كلَّها فلم _________ (1) المصدر نفسه (2/ 403). (2) كما تقدم قريبًا. (3) "لا" ساقطة من المطبوع. (4) ما زال مخطوطًا. انظر: "تاريخ التراث العربي" (1: 3/ 57).

(1/59)


يقدر يعمل وهو موسرٌ: إنه لا تجب عليه الجزية، لأنها إنما تجب على الصحيح المعتمل. وكذلك إن مرِض نصفَ السنة أو أكثرها، فإن صحَّ ثمانية أشهرٍ أو أكثر فعليه الجزية، ولأن المريض لا يقدر على العمل فهو خالٍ من الغنى. وكذلك إذا مرِض أكثر السنة أن الأكثر يقوم مقام الجميع. وكذلك إذا مرض نصفَ السنة أن الموجب والمُسقِط (1) تساويا فيما طريقه العقوبة، وكان الحكم للمسقط كالحدود. واحتج لهذا القول بأن الله سبحانه أمر بقتالهم حتى يُعطوا الجزية، وبأنها عقوبةٌ وإذلالٌ وصَغارٌ للكفر وأهله، فلا يتأخَّر عن القدرة على أخذها. قالوا: وهذا على أصلِ من جعلها أجرةَ سكنى الدار أَطردُ، فإن الأجرة تجب عقيبَ العقد، وإنما أُخِذت منهم مُقسَّطةً بتكرر الأعوام رفقًا بهم، وليستمرَّ نفعُ الإسلام بها وقوَّتُه كلَّ عامٍ بخراج الأرضين. قال الأكثرون: لما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزيةَ على أهل الكتاب والمجوس لم يُطالِبْهم بها حتى ضربها عليهم، ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقتَ نزول الآية بل صالحَهم عليها، وكان يبعثُ رسلَه وسُعاتَه فيأتون بالجزية والصدقة عند محلِّهما، واستمرت على ذلك سيرةُ خلفائه من بعده. وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها، فإن الأموال التي تتكرر بتكرر الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله كالزكاة والدية، ولو أن رجلًا أجَّلَ على رجل مالًا كلَّ عامٍ يعطيه كذا وكذا لم يكن له المطالبة بقسط العام الأول عقيبَ العقد. _________ (1) في الأصل: "المقسط" خطأ.

(1/60)


وأما قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ}، فليس المراد به العطاء الأول وحده، بل العطاء المستمر المتكرر، ولو كان المراد به ما ذكرتم لكان الواجب أخذ الجميع عقيبَ العقد، وهذا لا سبيل إليه. على أن المعنى: حتى يلتزموا عطاء الجزية وبذْلَها، وهذه كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم أنهم إذا التزموا له بذْلَ الجزية كفَّ عنهم بمجرد التزامهم، ولهذا يَحرُم قتالهم إذا التزموها قبل إعطائهم إياها اتفاقًا، ولهذا [قال] في حديث بُريدة: "فادْعُهم إلى الجزية، فإن أجابوك فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم". وإنما كان يدعوهم إلى الإقرار بها والتزامها دون الأخذ في الحال. واختلف أصحاب الشافعي (1)، فقال بعضهم: تجب بأول السنة دفعةً واحدةً، ولكن تستقرُّ جزءًا بعد جزءٍ. وقال بعضهم: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساطه على جميع الأوقات، لا أنها تجب دفعةً واحدةً بأول السنة، وبَنَوا على ذلك الأخذ بالقسط إذا أسلم أو مات أو جُنَّ. وقال بعضهم: إنما يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة، وهذا هو المشهور. فصل ولا جزية على صبي ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ، هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم. قال ابن المنذر (2): ولا أعلم عن غيرهم خلافهم. وقال أبو محمد في "المغني" (3): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في هذا. _________ (1) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 32). (2) في "كتاب الإجماع" (ص 62). ونقله في "المغني" (13/ 216). (3) (13/ 216).

(1/61)


قال أبو عبيد (1): ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أيوب، عن نافعٍ، عن أسلم مولى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد: أن يقاتلوا في سبيل الله، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ولا يقتلوا النساء ولا الصبيان، ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي. [وكتب إلى أمراء الأجناد: أن يضربوا الجزيةَ، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جَرتْ عليه المواسي]. قال أبو عبيد (2): يعني من أَنبتَ. وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية ومن لا تجب عليه، ألا تراه إنما جعلها على الذكور المُدْرِكين (3) دون الإناث والأطفال، وأسقطَها عمن لا يستحقُّ القتلَ، وهم الذرية. وقد جاء في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذٍ باليمن: "خُذْ من كلِّ حالمٍ دينارًا" (4) تقويةً لقول عمر - رضي الله عنه -، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - خصَّ الحالم دون المرأة والصبي؟ إلا أن في بعض ما ذكرنا مِن كتبه: "الحالم والحالمة" (5)، فنرى _________ (1) "الأموال" (96) وإسناده صحيح. والزيادة منه وفيها موضع الشاهد. وأخرجه أيضًا يحيى بن آدم في "الخراج" (231) وابن زنجويه (155)، وعبد الرزاق (10096) وابن أبي شيبة (33304) والبيهقي في "الكبير" (9/ 198) من طرق عن نافع به. (2) عقب الأثر المذكور. (3) في المطبوع: "المذكورين" تحريف. (4) تقدَّم تخريجه، والكلام لا يزال لأبي عبيد. (5) أخرجه أبو عبيد (67، 68) عن الحكم بن عُتَيبة منقطعًا معضلًا، وعن عروة بن الزبير مرسلًا بإسناد ضعيف فيه ابن لَهِيعة. وقد رواه عبد الرزاق (10099) عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق. وقد خالف معمرًا سفيانُ الثوري وغيرُ واحدٍ، فرووه عن الأعمش ولم يذكروا فيه "حالمة". على أن معمرًا نفسه كان يقول ــ كما عند عبد الرزاق ــ: هذا غلط قوله: "حالمة"، ليس على النساء شيء.

(1/62)


ــ والله أعلم ــ أن المحفوظ المُثبَت من ذلك هو الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون، وبه كتب عمر - رضي الله عنه - إلى أمراء الأجناد. فإن يكن الذي فيه ذكر "الحالمة" محفوظًا، فإن وجهه عندي أن يكون ذلك كان في أول الإسلام، إذ كان نساء المشركين وولدانهم يُقتَلون مع رجالهم، وقد كان ذلك ثم نُسِخ. ثم ذكر (1) حديث الصَّعب بن جَثَّامة الذي في "صحيح البخاري" (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سريَّةً فأصابتْ من أبناء المشركين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هم من آبائهم". [قال أبو عبيد:] ثم جاء النهي بعد ذلك. وذكرَ الأحاديث التي فيها النهي عن قتل النساء والذُّرية. قلت (3): لم يشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلَ النساء والذُّرية في شيء من مغازيه البتةَ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء والذرية في مغازيه قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن، كما في "الصحيحين" (4) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وُجِدتْ _________ (1) "الأموال" برقم (97). (2) برقم (3013)، وأخرجه مسلم (1745) أيضًا. (3) من هنا تعليق المؤلف على كلام أبي عبيد. (4) البخاري (3014، 3015) ومسلم (1744).

(1/63)


امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلَ النساء والصبيان. ورأى الناس في بعض غزواته مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: امرأة قتيل، فقال: "ما كانت هذه لِتقاتلَ"، وكان على المقدّمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال: "قُلْ لخالدٍ لا يقتلنَّ امرأةً ولا عَسِيفًا" (1). وفي لفظ: "لا تقتلوا ذُرّيةً ولا عَسِيفًا"، ذكره أحمد (2). وفي "سنن أبي داود" (3) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أخرجه أبو داود (2669) ــ واللفظ له ــ والنسائي في "الكبرى" (8571 - 8573) وأبو يعلى (1546) وابن حبان (4789، 4791) والطبراني في "الكبير" (4622) والحاكم (2/ 122) وغيرهم من طرق عن المرقَّع بن صيفي عن جدِّه رَباح بن ربيعٍ - رضي الله عنه -. وفي بعض الطرق: عن المرقَّع عن حنظلة الكاتب - رضي الله عنه -، وهو أخو جدِّه رباحٍ، والأول أصح. وإسناده حسن على كلا التقديرين. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 314)، و"العلل" لابن أبي حاتم (914)، و"البدر المنير" (9/ 80) و"الصحيحة" (701)، و"أنيس الساري" (3340). (2) "مسند أحمد" (15992). (3) برقم (2614)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33790) والبيهقي في "الكبير" (9/ 90) و"معرفة السنن" (13/ 253)، كلهم من طريق حسن بن صالح، عن خالد بن الفِزْر، قال: حدثني أنس. وهو حديث حسن، وخالد بن الفِزْر وإن كان ابن معين قال فيه: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: شيخ، إلا أنه لم يأت بما يُنكَر عليه، بل له شواهد تعضده.

(1/64)


قال: "انْطلِقوا باسم الله وعلى ملَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا ولا صغيرًا ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأَصلِحوا وأَحسِنوا، إن الله يُحِبُّ المحسنين". بل النهي عن قتل النساء وقع يومَ الخندق ويوم خيبر، كما في "المسند" (1) من حديث ابن كعب بن مالك عن عمِّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعث إلى ابن أبي الحُقَيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان. وفي "المعجم" (2) للطبراني من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بامرأةٍ يومَ الخندق مقتولةٍ، فقال: "من قتلَ هذه؟ "، فقال رجلٌ: أنا يا _________ (1) برقم (24009/ 66) من طريق معمر، وأخرجه أحمد أيضًا (24009/ 67) والحميدي (898) وابن أبي شيبة (33787) والبيهقي في "الكبير" (9/ 77، 78) من طريق سفيان بن عُيينة، كلاهما عن الزهري عن ابن كعب بن مالك به، وسُمِّي عند ابن أبي شيبة "عبد الرحمن بن كعب". ورجاله ثقات، إلا أنه قد اختُلف على الزهري في إسناده على ألوان، فأخرجه مالك في "الموطأ" (1290) عن الزهري عن ابنٍ لكعب بن مالك مرسلًا، لم يذكر فيه: "عن عمِّه". وأخرجه الطبراني (19/ 74) من طريق يونس بن يزيد، ومن طريق مالك، كلاهما عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، "عن أبيه". وقد ذكر البخاري في "تاريخه " (5/ 310) الاختلاف عليه ولم يرجِّح شيئًا. (2) أي "الكبير" (11/ 388)، وأخرجه عبد الله في زوائد "المسند" (2316) وابن أبي شيبة (38052)، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وحجَّاج فيه لين، وقد روي عند أبي داود في "المراسيل" (333) بإسناد صحيح عن عكرمة مرسلًا، وفيه أن ذلك كان في غزوة الطائف. وغزوة الطائف أيضًا كانت قبل إرسال معاذ إلى اليمن ليأخذ الجزية منهم.

(1/65)


رسول الله، قال: "ولِمَ؟ "، قال نازعَتْنِي سيفي، فسكت. وهذا كله كان قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن. فالصواب أن ذكر الحالمة في الحديث غير محفوظٍ، والله أعلم. فصل (1) فإن بذلت المرأة الجزيةَ أُخبِرتْ أنه لا جزية عليها، فإن قالت: "أنا أتبرَّعُ بها" قُبِل منها، ولم تكن جزيةً ولو شرطَتْه على نفسها، ولها الرجوع متى شاءت. وإن بَذلَتْ لتصير إلى دار الإسلام ولا تُسترقَّ مُكِّنَتْ من ذلك بغير شيء، ولكن يُشترط عليها التزامُ أحكام الإسلام، وتُعقَد لها الذمَّة، ولا يؤخذ منها شيء، إلا أن تتبرَّع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها. وإن أُخِذ منها شيء على غير ذلك رُدَّ إليها، لأنها بذلَتْه معتقدةً أنه عليها وأن دمها لا يُحقَن إلا به، فأشبهَ من أدَّى مالًا إلى من يعتقد أنه له، فتبيَّن أنه ليس له. ولو حاصر المسلمون حِصنًا ليس فيه إلا نساءٌ فبذلن الجزيةَ لِتُعقَد لهنَّ الذمة عُقِدتْ لهن بغير شيء، وحَرُمَ استرقاقهن. فإن كان معهنَّ في الحصن رجالٌ فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصحَّ، وإن بذلوها عن الجميع جاز، وكان جزيةً على الرجال خاصةً. _________ (1) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "المغني" (13/ 216، 217).

(1/66)


فصل فإذا بلغ الصبي من أهل الذمة، وأفاق المجنون لم يحتَجْ إلى تجديد عقدٍ وذمةٍ، بل العقد الأول يتناول البالغين ومن سيبلغ من أولادهم أبدًا. وعلى هذا استمرَّتْ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه كلِّهم وعملُ الأئمة (1) في جميع الأعصار حتى يومنا هذا، لم يُفرِدوا كلَّ من بلغ بعقد جديدٍ. وقال الشافعي (2): يخيَّر البالغ والمُفِيق بين التزام العقد وبين أن يُردَّ إلى مأمنِه، فإن اختار الذمةَ عُقِدت له، وإن اختار اللَّحاقَ بمأمنِه أُجيبَ إليه. وقال القاضي في "الأحكام السلطانية" (3): وقول الجمهور أصحُّ وأولى، فإنه لم يأتِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد خلفائه تجديدُ العقد لهؤلاء، ولا يُعرَف أنه عُمِل به في وقتٍ من الأوقات، ولا يُهمِل الأئمة مثلَ هذا الأمر لو كان مشروعًا. ولأنهم دخلوا في العقد تبعًا مع أوليائهم كما كانوا يدخلون في عقد الهدنة تبعًا. ولأنه عقدٌ مع الكفار فلم يحتَجْ إلى استئنافه لهؤلاء كعقد [المؤمنين] (4). وكيف يجوز إلحاقُه بمأمنِه وتسليطُه على محاربتنا بماله ونفسه؟ وأيُّ مصلحةٍ للإسلام في هذا؟ وأيُّ سنةٍ جاءت به؟ وأيُّ إمامٍ عمِلَ به؟ _________ (1) "وعمل الأئمة" ساقطة من المطبوع. (2) انظر: "المغني" (13/ 217). (3) لم أجده فيه، فلعله في كتاب آخر له. واعتمد المؤلف على "المغني" في هاتين الفقرتين. (4) في الأصل بياض مكان المعكوفتين.

(1/67)


وإذا كان البلوغ والإفاقة في أولِ حَوْلِ قومه أُخِذت منه الجزية في آخره معهم، وإن كان في أثنائه أُخِذ منه في آخره بقِسْطِه، ولم يُترَكْ حتى يَتمَّ حولُه لئلا يُحتاجَ إلى إفراده بحول وضَبْطِ حولِ كلِّ واحدٍ منهم، وذلك يُفضِي إلى أن يصير لكلِّ واحدٍ حولٌ مفردٌ. وقال أصحاب مالك (1): وإذا بلغ الصبي أُخِذتْ منه عند بلوغه، ولم يُنتظر مرورُ الحول بعد بلوغه. ووجهُ هذا أن بلوغه بمنزلة حصول العقد مع قومه. وإذا صُولحوا أُخِذت منهم الجزية في الحال، ثم تُؤخذ منهم بعد ذلك لكل عامٍ، كما فعلَ معاذٌ بأهل اليمن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره حين بعثه إليهم أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ثم استمر ذلك مؤجَّلًا. وهكذا فعل لما صالح أُكيدِرَ دُومةَ، وهكذا فعل خلفاؤه من بعده، كانوا يأخذون الجزية من الكفار حينَ الصلح، ثم يؤجِّلونها كلَّ عامٍ. وهذا الذي أوجب لأبي حنيفة أن قال: تجب بأول الحول (2). فصل (3) ومن كان يُجَنُّ ويُفِيقُ فله ثلاثة أحوالٍ: أحدها: أن يكون جنونُه غيرَ مضبوطٍ، فهذا يُعتبر أغلبُ أحواله، فيجعل _________ (1) "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 487). (2) كما في "الاختيار لتعليل المختار" (4/ 137). (3) انظر: "المغني" (13/ 218).

(1/68)


من أهله. الثاني: أن يكون ذلك مضبوطًا كيومٍ ويومٍ، وشهرٍ وشهرٍ، ونحوه، ففيه وجهان. أحدهما: يُعتبر الأغلبُ من حالته، وهذا مذهب أبي حنيفة. والثاني: تُلفَّق أيَّامُ إفاقتِه، وعلى هذا الوجه ففي مقدار وقت جزيته وجهان. أحدهما: أنه إذا اجتمع له من أيام إفاقتِه حولٌ أُخِذت منه الجزية. والثاني: تؤخذ منه في آخر كلِّ حولٍ بقدر إفاقته منه. وإن كان يُجَنُّ ثلثَ الحول ويُفيق ثُلثَيْه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا. فإن استوتْ إفاقتُه وجنونه ولم يَغلِبْ أحدهما الآخرَ= لُفِّقَتْ إفاقته، [لأنه] تعذَّر (1) اعتبارُ الأغلب لعدمه، فتعين التلفيق. الحال الثالث: أن يُجَنَّ نصفَ حولٍ ثم يُفيق إفاقةً مستمرَّةً، أو يُفيقَ نصفَه ثم يُجَنَّ جنونًا مستمرًّا، فلا جزيةَ عليه في وقت جنونه، وعليه منها بقدر ما أفاق من الحول. فصل ولا جزيةَ على فقيرٍ عاجزٍ عن أدائها، هذا قول الجمهور. _________ (1) في الأصل: "بقدر"، والتصحيح من "المغني"، ومنه الزيادة.

(1/69)


وللشافعي ثلاثة أقوالٍ (1) هذا أحدها. والثاني: يجب عليه، وعلى هذا فله (2) قولان: أحدهما: أنه يخرج من بلاد الإسلام، أو لا سبيل إلى إقامته في دار الإسلام بغير جزيةٍ. والثاني: تستقرّ في ذمته، وتُؤخذ منه إذا قدر عليها. والصحيح أنها لا تجب على عاجزٍ عنها، فإن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعَها، وإنما فرضَها عمر - رضي الله عنه - على الفقير المعتمل لأنه يتمكَّن من أدائها بالكسب، وقواعد الشريعة كلُّها تقتضي أن لا تجب على عاجزٍ كالزكاة والدية والكفارة والخراج، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، ولا واجبَ مع عَجْزٍ ولا حرامَ مع ضرورةٍ. فإن قيل: نحن لا نكلِّفه بها في حال إعساره، بل تستقرُّ دينًا في ذمته، فمتى أيسرَ طُولِب بها لما مضى كسائر الديون. قيل: هذا مفعول (3) في ديون الآدميين، وأما حقوق الله تعالى فإنه إنما أوجبها على القادرين دون العاجزين. فإن قيل: الجزية أجرةٌ عن سكنى الدار، فتستقرُّ في الذمة. _________ (1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 300، 313). (2) "فله" ساقطة من المطبوع. (3) في المطبوع: "معقول" خلاف الأصل.

(1/70)


قيل: انتفاء أحكام الإجارة عنها جميعِها يدلُّ على أنها ليست بأجرةٍ، فلا يُعرَف حكمٌ من أحكام الإجارة في الجزية. وقد تقدَّم أن عمر - رضي الله عنه - أجرى على السائل الذمي رزْقَه من بيت المال، فكيف يكلَّفُ أداءَ الجزية وهو يُرزَق من بيت مال المسلمين؟! فصل (1) ولا جزيةَ على شيخٍ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى، ولا مريضٍ لا يُرجى بُرؤه بل قد أَيِسَ من صحته، وإن كانوا موسرين. وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه (2)؛ لأن هؤلاء لا يُقتَلون ولا يُقاتَلون، فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرِّية. قال الشافعي في القول الآخر (3): تجب عليهم الجزية بناءً على أنها أجرة السُّكنى، وأنهم رجالٌ بالغون موسرون، فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزيةٍ. وحديثُ معاذٍ يدلُّ عليه بعمومه، وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضًا، فإنه أمر أن تُضْرَب على من جَرتْ عليه المواسي. وإن الجزية إن كانت أجرةً عن سُكنى الدار فظاهرٌ، وإن كانت عقوبةً على الكفر فكذلك أيضًا، فعلى التقديرين: لا يُقَرُّون بغير جزيةٍ. وأصحاب القول الأول يقولون: لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 219). (2) في المطبوع: "أقواله" خلاف الأصل. (3) انظر: "الأم" (5/ 684)، و"الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 226).

(1/71)


يكن عليهم جزيةٌ كالنساء والصبيان، وقد قال أحمد في رواية عنه (1): من أطبق بابَه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه. فصل فأما الرُّهبان فإن خالطوا الناسَ في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين، وهم أولى بها من عوامّهم فإنهم رؤوس الكفر، وهم بمنزلة علمائهم وشَمامِسَتِهم (2). وإن انقطعوا في الصوامع والدِّيارات لم يخالطوا الناسَ في معايشهم ومساكنهم، فهل تجب عليهم الجزية؟ فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد. أشهرهما: لا تجب عليه، وهو قول محمد. والثانية: تجب عليه، وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملًا (3). وقال أحمد (4): تؤخذ من الشمَّاس والراهب وكل من أنبتَ. وهو ظاهر قول الشافعي، وعليه يدلُّ ظاهر عموم القرآن والسنة. ومن لم يَرَ وجوبها احتجَّ بأنه ليس من أهل القتال. وقد أوصى الصدّيق _________ (1) لم أجدها فيما بين يديّ من مصادر. (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (28/ 660). والشمامسة جمع شمَّاس: من يقوم بالخدمة الكنسية، ومرتبته دون القسّيس. (3) في الأصل: "معتمل". انظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 52)، و"حاشية ابن عابدين" (4/ 199). (4) لم أجد هذه الرواية فيما بين يديّ من المصادر.

(1/72)


- رضي الله عنه - بأن لا يُتعرَّض لهم، فقال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجَّهه إلى الشام: "لا تَقتُلْ صبيًّا ولا امرأةً ولا هَرِمًا، وستمرُّون على أقوامٍ في الصَّوامع احتبسوا أنفسَهم فيها، فدَعْهم حتى يُميتَهم الله على ضلالتهم، وستجدون أقوامًا فَحَصَوا عن أوساط رؤوسهم فاضرِبْ ما فَحَصوا عنه بالسيف" (1). فصل فإن ترهَّب بعد ضرب الجزية عليه وتركَ مخالطة الناس، فهل تسقط الجزية عنه بذلك؟ فلم أر لأصحابنا فيها كلامًا، فيحتمل أن يقال: لا تسقط عنه، وهو الذي ذكره مالك (2)؛ لأن ترهُّبه ليس بعذرٍ له في إسقاط ما وجب عليه. قالوا: ولأنه يمكن أن يكون ترهُّبه لتسقط الجزية عنه. واحتمل أن يقال بسقوطها، فإنه مانعٌ لو قارن العقد منع الجزية، فأشبه العجزَ والجنونَ والصِّغر. _________ (1) هذه الوصية رويت مطولة ومختصرةً من طرق عديدة، عامَّتها مراسيل إذ لم يُدرك رواتها أبا بكر، ولكنها تعضد بعضها بعضًا فتجعل أصل الوصية ثابتة. فمن تلك المراسيل: مرسل يحيى بن سعيد الأنصاري عند مالك في "الموطأ" (1292) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير" (9/ 89) ــ وعبد الرزاق (9375) وابن أبي شيبة (33793)، ومرسل الزهري عند عبد الرزاق (9377)، ومرسل صالح بن كيسان عند البيهقي (9/ 90)، ومرسل أبي عمران الجوني عند عبد الرزاق (9378)، ومرسل عبد الله بن عُبيدة الربذي عند سعيد بن منصور (2383). (2) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 486).

(1/73)


فصل وأما الفلَّاحون الذين لا يقاتلون والحرَّاثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنهم لم يستثنوهم مع من استُثْنِي، وظاهر كلام أحمد أنه لا جزيةَ عليهم فإنه قال: من أطبقَ بابه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه. وقال في "المغني" (1): فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يُقتَل، لما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: اتقوا الله في الفلَّاحين الذين لا يَنْصِبون لكم في الحرب (2). وقال الأوزاعي: لا يُقتَل الحرَّاث إذا عُلِم أنه ليس من المقاتلة. وقال الشافعي: يُقتَل إلّا أن يؤدِّي الجزيةَ، لدخوله في عموم المشركين. ولنا (3) قول عمر، وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد؛ ولأنهم لا يقاتلون فأَشْبَهوا الشيوخَ والرهبان. انتهى كلامه. وظاهره أنه لا جزيةَ عليهم. فصل وأهل خيبر وغيرهم من اليهود في الذمة والجزية سواءٌ، لا يُعلم نزاعٌ بين الفقهاء في ذلك. _________ (1) (13/ 180). (2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (3: 2/ 239)، والبيهقي (9/ 91). (3) في الأصل والمطبوع: "وأما". والتصويب من "المغني".

(1/74)


ورأيت لشيخنا في ذلك فصلًا نقلتُه من خطه بلفظه، قال (1): والكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ، وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم، كأبي العباس بن سُرَيج (2) والقاضي أبي يعلى والقاضي الماوردي وأبي محمد المقدسي وغيرهم، وذكر الماوردي (3) أنه إجماعٌ. وصدَق. قال: هذا الحكم ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، ثابتٌ بالعموم لفظًا ومعنى، وهو عمومٌ منقول بالتواتر لم يخصَّه أحدٌ من علماء الإسلام، ولا دليلٌ من أدلَّة (4) الشرع، فيمتنع تخصيصه بما لا تُعرف صحته، ولا وجد أيضًا في الشريعة [معنًى] للتخصيص، فإن الواحد من المسلمين ــ مثل أبي بُردة بن نِيار (5) وسالمٍ [مولى] أبي حذيفة (6) ــ إنما خُصَّ بحكمٍ لقيام معنًى _________ (1) نقل البعلي بعضَه في "الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لابن تيمية" (ص 457، 458). وانظر: "مجموع الفتاوى" (28/ 664). (2) في المطبوع: "شريح"، تحريف. (3) قال في "الأحكام السلطانية" (ص 223): "ويهود خيبر وغيرهم في الجزية سواء بإجماع الفقهاء". وكذا في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 154). (4) في الأصل: "شيء أوله" تحريف. (5) في المطبوع: "دينار"، تحريف. خصَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه تَجزي عنه جذعة في الأضحية وقال: "ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك"، وذلك لأنه تعجَّل الذبح قبل الصلاة، ولم يبقَ له شيء يذبحه بعد الصلاة غير جذعة من المعز. أخرجه البخاري (955) ومسلم (1961) من حديث البراء. (6) وذلك حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهيل أن تُرضعه بعد ما قد بلغ مبلغ الرجال، لتَحْرُم عليه، وكان قد تبنَّاه أبو حذيفة، فكان يدخل عليها قبل نزول آيات الأحزاب في النهي عن التبنِّي. أخرجه البخاري (4000) ومسلم (1453) من حديث عائشة. ورأت عامَّة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عدا عائشة أن رضاع الكبير كانت رخصة أرخصها النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالمٍ خاصَّة. أخرجه مسلم (1454).

(1/75)


اختصَّ به، وليس كذلك اليهود وأعقابهم، بل الخيابرة قد صدر منهم محاربة الله ورسوله وقتالُ عليٍّ لهم ما يكونون به أحقَّ بالإهانة، فأما الإكرام وترك الجهاد إلى الغاية التي أمر الله بها في أهل دينهم فلا وجهَ له. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب جزيةً راتبةً على من حاربه من اليهود، لا بني قَينُقَاع ولا النضير ولا قُريظة ولا خيبر، بل نفى بني قينقاع إلى أَذرِعاتٍ، وأجلى النَّضير إلى خيبر، وقتل قريظة، وقاتل أهلَ خيبر فأقرَّهم فلّاحين ما شاء الله، وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لكن لما بعث معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافرَ. قلت: ومقصود شيخنا: أن أهل خيبر وغيرهم من اليهود كانوا في حكمه سواءً، فلم يأخذ الجزية من غيرهم حتى (1) أسقطها عنهم، فإن الجزية إنما نزلت فريضتها بعد فراغه من اليهود وحربهم، فإنها نزلت في سورة براءة عامَ حجة الصديق - رضي الله عنه - سنة تسعٍ، وقتاله لأهل خيبر كان في السنة السابعة، وكانت خيبر بعد صلح الحديبية جعلها الله سبحانه شُكرانًا لأهل الحديبية وصبرهم، كما جعلَ فتحَ قريظة بعد الخندق شُكرانًا وجَبْرًا لما حصل للمسلمين في تلك الغزوة، وكما جعل النَّضير بعد أحدٍ كذلك، وجعل قينقاع _________ (1) في هامش الأصل: "حين" بعلامة خ.

(1/76)


بعد بدرٍ. وكل واقعةٍ من وقائع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعداء الله اليهود كانت بعد غزوةٍ من غزوات الكفّار، ولم تكن الجزية نزلتْ بعدُ، فلما نزلتْ أخذَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران، وهم أول من أُخِذتْ منهم الجزية كما تبيَّن، وبُعِث معاذٌ فأخذَها من يهود اليمن. فإن قيل: فلِمَ [لَم] يأخذْها من أهل خيبر بعد نزولها؟ قيل: كان قد تقدَّم صلحُه لهم على إقرارهم في الأرض بنصف ما يخرج منها ما شاء، فوفَى لهم عهدَهم، ولم يأخذ منهم غيرَ ما شرط عليهم. فلما أجلاهم عمر - رضي الله عنه - إلى الشام ظنُّوا أنهم يستمرُّون على أن يُعفَوا منها، فزوَّروا كتابًا يتضمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقطها عنهم بالكلية، وقد صنَّف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيفَ، ذكروا فيها وجوهًا تدلُّ على أن ذلك الذي بأيديهم موضوعٌ باطلٌ (1). قال شيخنا: ولما كان عام إحدى (2) وسبعمائةٍ أَحضر جماعةٌ من يهود دمشق عهودًا ادَّعَوا أنها قديمةٌ، وكلُّها بخط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقد غَشَّوها بما يقتضي (3) تعظيمها، وكانت قد نَفَقَتْ على ولاة الأمور من مدةٍ طويلةٍ، فأُسقِطت عنهم الجزية بسببها، وبأيديهم تواقيعُ ولاةٍ، فلما وقفتُ عليها تبيَّن في نفسها ما يدلُّ على كذبها من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا. _________ (1) تقدم الكلام عليه في أول الكتاب (ص 12 - 14). (2) كذا في الأصل، كأنه أراد: "سنة إحدى". (3) في الأصل: "يتقضى" سهوًا.

(1/77)


منها: اختلاف الخطوط اختلافًا متفاقمًا في تأليف الحروف، الذي يُعلَم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتبٍ واحدٍ، وكلها نافيةٌ أنه خطُّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ومنها: أن فيها من اللحن الذي يخالف لغةَ العرب مما لا يجوز نسبةُ مثله إلى علي - رضي الله عنه - ولا غيره. ومنها: الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ اليهود، مثل قوله: إنهم يُعامَلون بالإجلال والإكرام، وقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقوله: أحسنَ الله بكم الجزاء، وقوله: وعليه أن يُكرِمَ مُحسِنَكم ويعفو عن مُسيئكِم، وغير ذلك. ومنها: أن في الكتاب إسقاطَ الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضَعْ خراجًا قطُّ، وأرض الحجاز لا خراجَ فيها بحالٍ، والخراج أمرٌ يجب على المسلمين، فكيف يسقط عن أهل الذمة. ومنها: أن في بعضها إسقاطَ الكُلَفِ والسُّخَر عنهم، وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه. وفي بعضها أنه شهد عنده عبد الله بن سلامٍ وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود، وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود، وإنما كان من الأنصار، وإنما سمعوا اسم كعب الأحبار أنه كان من اليهود (1) فاعتقدوا أنه كعب بن _________ (1) "وإنما كان ... من اليهود" ساقطة من المطبوع.

(1/78)


مالك (1)، وذلك لم يكن من الصحابة، وإنما أسلم على عهد عمر - رضي الله عنه -. ومنها: أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن فيه من الإطالة والحَشْو ما لا يُشبِه عهود النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيها وجوهٌ أخرى متعددةٌ، مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحدٌ من العلماء المتقدمين قبل ابن سُرَيج (2)، ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحدٍ من ولاة الأمور فعملوا بها، ومثل ذلك مما يتعيَّن شهرتُه ونقلُه. قلت: ومنها أن هذا لم يروِه أحدٌ من المصنفين [في] كتب السير والتاريخ، ولا رواه أحدٌ من أهل الحديث ولا غيرهم البتةَ، وإنما يُعرف من جهة اليهود، ومنهم بدأ وإليهم يعود. فصل (3) وأما العبد فإن كان سيِّده مسلمًا فلا جزيةَ عليه باتفاق أهل العلم، ولو وجبت عليه لوجبتْ على سيده، فإنه هو الذي يؤدِّيها عنه. وفي "السنن" و"المسند" (4) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال _________ (1) حسب ظنّهم، وإلّا فهو كعب بن ماتع الملقب بكعب الأحبار، انظر ترجمته ومصادر أخباره في "سير أعلام النبلاء" (3/ 489). (2) في المطبوع: "شريح" خطأ. (3) انظر: "المغني" (13/ 220). (4) "سنن أبي داود" (3032) و"مسند أحمد" (1949) واللفظ له، وأخرجه أيضًا الترمذي (633، 634) والبيهقي (9/ 189) والضياء في "المختارة" (9/ 531)؛ كلهم من حديث قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس. وقابوس فيه لين، ثم إنه قد اختُلف عليه كما ذكره الترمذي، فروي عنه عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال أبو حاتم: هذا من قابوس، لم يكن قابوس بالقوي، فيحتمل أن يكون مرةً قال هكذا، ومرةً قال هكذا. "العلل" (943).

(1/79)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصلُح قِبلتانِ في أرضٍ، وليس على مسلم جزيةٌ". وإن كان العبد لكافرٍ فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزيةَ عليه أيضًا، وهو قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر (1): أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزيةَ على العبد. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جزيةَ على عبدٍ" (2). وفي رفعه نظر، وهو ثابتٌ عن ابن عمر. وإن العبد بحقون الدمِ أشبه (3) النساء والصبيان. ولأنه لا مالَ له، فهو _________ (1) "الإجماع" (ص 62). والمؤلف صادر عن "المغني". (2) ذكره ابن قدامة في "المغني" (13/ 220)، فقال: "يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " ثم قال: "وعن ابن عمر مثله". والمرفوع لا وجود له في دواوين الحديث، ولذا قال المؤلف: "في رفعه نظر". وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1913): "ليس له أصل". وأما الموقوف، فالذي صحَّ عن ابن عمر أنه قال: "ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق". أخرجه ابن أبي شيبة (10333) والبيهقي في "الكبير" (4/ 108). فأثر ابن عمر في عدم وجوب الزكاة، ولكن لمَّا استشهد الإمام أحمد به ــ كما سيأتي قريبًا ــ على نفي الجزية عنه أيضًا= نشأ منه هذا الذي نسبه ابن قدامة والمؤلف إلى ابن عمر. (3) في المطبوع: "محقون الدم فأشبه" خلاف الأصل.

(1/80)


أسوأ حالًا من الفقير العاجز. ولأنها لو وجبتْ عليه لوجبتْ على سيده، إذ هو المؤدِّي لها عنه، فيجب عليه أكثر من جزيةٍ. ولأنه تَبَعٌ، فلم تَجِبْ عليه الجزية كذرِّية الرجل وامرأته. ولأنه مملوكٌ، فلم تَجِبْ عليه كبهائمه ودوابِّه. وعن أحمد رواية أخرى أنها تجب عليه، ونحن نذكر نصوص أحمد من الطرفين (1). قال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن العبد النصراني عليه جزيةٌ؟ قال: ليس عليه جزيةٌ. وقال في موضع آخر: قلت فالعبد؟ [قال:] ليس عليه جزيةٌ (3)، لنصرانيٍّ كان أم لمسلمٍ، كما قال ابن عمر (4) - رضي الله عنهما -. وقال عبد الله بن أحمد (5): سألت أبي عن رجل مسلم كاتَبَ عبدًا نصرانيًّا هل تؤخذ من العبد الجزيةُ في مكاتبته؟ فقال: إن العبد ليس عليه جزية، والمكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم. وقال أحمد (6): ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، عن سفيان العقيلي، عن _________ (1) في المطبوع: "الطريقين". (2) كما في "جامع الخلال" (1/ 182). (3) كذا في الأصل، والذي في مطبوعة "الجامع": "صدقة"، وهو الموافق لما صحَّ عن ابن عمر كما سبق آنفًا. (4) في المطبوع: "أبو محمد" خطأ. (5) لم أجده في "مسائله" المطبوعة، والمؤلف صادر عن "الجامع" للخلال (1/ 182). (6) كذا، والظاهر أنه وهم، لأن الخلال أسنده في "الجامع" (1/ 176) عن عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يزيد ... إلخ. إذًا فهو من رواية حنبل بن إسحاق بن حنبل، عن أبيه (وهو عم الإمام أحمد)، عن يزيد بن هارون به. نعم، أخرجه أحمد ــ كما عند الخلال (1/ 178) ــ ولكن ليس عن يزيد بن زريع، بل عن إسماعيل بن علية عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه أبو عبيد في "الأموال" (209) وابن أبي شيبة (21195) والخلال في "الجامع" (1/ 177) من طرق عن سعيد به. وفي إسناده لين لجهالة حال سفيان العقيلي، ولكن له متابعات يصحُّ بها، وسيأتي بعضها.

(1/81)


أبي عِياضٍ قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم [شيئًا]، لأنهم أهل خراجٍ (1) يبيع بعضُهم بعضًا، ولا يُقرَّنَّ أحدُكم بالصَّغار بعد إذ أنقذه الله منه. قال حنبلٌ (2): سمعت أبا عبد الله قال: أراد عمر أن يوفِّر الجزية؛ لأن (3) المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداءُ ما يؤخذ منه، والذمي يؤدّي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، إذا كانوا عبيدًا أخذ منهم جميعًا الجزية. وقال إسحاق بن منصورٍ (4): قلت لأبي عبد الله: قول عمر لا تشتروا رقيق أهل الذمة؟ قال: لأنهم أهل خراجٍ يؤدي بعضهم عن بعضٍ، فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك. _________ (1) في الأصل: "حاح". والتصويب من "الجامع". (2) "الجامع" للخلال (1/ 177). (3) في الأصل: "لم". والتصويب من "الجامع". (4) في "مسائله" (2/ 549)، والنقل من "الجامع" (1/ 177).

(1/82)


فصل (1) ومَن بعضُه حرٌّ فقياس المذهب أن عليه الجزية بقدر ما فيه من الحرِّية. فصل (2) فإنْ عَتَق العبدُ فهل تجب عليه الجزية؟ فيه روايتان عن أحمد: إحداهما: أن الجزية واجبةٌ عليه سواءٌ كان المُعتِق مسلمًا أو كافرًا، وهذا ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم، منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعدٍ وسفيان الثوري وغيرهم. والثانية: لا جزيةَ عليه، نصَّ عليها في رواية بكر بن محمد (3) عن أبيه أنه قال لأبي عبد الله: النصراني الذي أُعتِق عليه جزية؟ قال: ليس عليه جزيةٌ، لأن ذمته ذمةُ مواليه، ليس عليه جزية. ووهَّن الخلال (4) هذه الرواية وقال: هذا قول قديمٌ رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه الجماعة. وعن الإمام مالك روايتان أيضًا (5)، إحداهما: أن عليه الجزية. _________ (1) "المغني" (13/ 220). (2) انظر: "المغني" (13/ 223). (3) "الجامع" (1/ 181). (4) "الجامع" (1/ 182). (5) كما في "المغني" (13/ 223).

(1/83)


والثانية (1): إن كان المعتق له مسلمًا فلا جزيةَ عليه، لأن عليه الولاءَ لسيِّده، وهو شعبةٌ من الرقّ، وكأنه عبد المسلم. قلت: وهي مسألة اختلف فيها التابعون، فعمر بن عبد العزيز أخذ منه الجزية، والشعبي لم ير عليه جزيةً وقال: ذمته ذمة مولاه. حكاه أحمد عنهما (2). فصل (3) ومن أسلم سقطت عنه الجزية، سواءٌ أسلم في أثناء الحول أو بعده، ولو اجتمعت عليه جزيةُ سنين ثم أسلم سقطتْ كلُّها. هذا قول فقهاء المدينة وفقهاء الرأي وفقهاء الحديث، إلا الشافعي وأصحابه فإنه قال: إن أسلم بعد الحول لم تسقط؛ لأنه دَينٌ استحقَّه صاحبه، واستحقَّ المطالبةَ به في حال الكفر، فلم تسقط بالإسلام، كالخراج وسائر الديون. وله ــ فيما إذا أسلم في أثناء الحول ــ قولان، أحدهما: أنها تسقط. والثاني: أنها تُؤخذ بقسطه. والصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره سقوطها، وعليه تدلُّ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه، وذلك من محاسن الإسلام وترغيبِ الكفار فيه. وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الكفار على الإسلام حتى يسلموا يتألَّفُهم بذلك، فكيف يُنفَّر عن الدخول في الإسلام من أجل دينارٍ؟ فأين هذا من ترك _________ (1) "والثانية" ليست في المطبوع. (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 181). (3) انظر: "المغني" (13/ 221).

(1/84)


الأموال للدخول في الإسلام؟ قال سفيان الثوري عن قابوس (1) بن أبي ظَبيان، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على مسلم جزيةٌ" (2). قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث: لو أن رجلًا أسلم في آخر السنة وقد وجبت الجزية عليه، أن إسلامه يُسقِطها عنه، فلا تؤخذ منه وإن كانت قد لزِمتْه قبل ذلك؛ لأن المسلم لا يؤدِّي الجزية، ولا تكون عليه دَينًا. وقد روي عن عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز ما يحقِّق هذا المعنى. حدثنا عبد الرحمن، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن رواحة قال: كنت مع مسروقٍ بالسِّلسلة فحدَّثني أن رجلًا من الشعوب ــ يعني الأعاجم ــ أسلم وكانت تؤخذ منه الجزية، فأتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين أسلمتُ والجزية تؤخذ منّي، فقال: لعلك أسلمتَ متعوِّذًا؟ فقال: أمَا في الإسلام ما يُعِيذني؟ قال: بلى (3)! قال: فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية (4). وحدثنا هُشيمٌ قال: أخبرنا سيَّارٌ، عن الزبير بن عدي قال: أسلم _________ (1) في الأصل: "حانوس" تحريف. (2) من طريق سفيان أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (125)، والكلام الآتي منه، وقد تقدَّم تخريج الحديث من أمهات المصادر. (3) "قال بلى" ليست في المطبوع. (4) "الأموال" (126) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير" (9/ 199) ــ وإسناده حسن. وأخرجه عبد الرزاق (19285) وابن زنجويه (185) من طريقين عن ابن سيرين بنحوه.

(1/85)


دِهقانٌ (1) على عهد علي - رضي الله عنه - فقال له علي - رضي الله عنه -: إن أقمتَ في أرضك رفعنا عنك جزيةَ رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحوَّلتَ عنها فنحن أحقُّ بها (2). وحدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن محمد بن عبيد الثقفي أن دِهقانًا أسلم، فقام إلى علي، فقال له علي: أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا (3). وحدثنا حجّاجٌ، عن حمّاد بن سلَمة، عن حُميدٍ قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتَن فلا تأخذوا منه جزيةً (4). _________ (1) الدهقان: رئيس القرية أو الإقليم وزعيم الفلّاحين، ومَن له مال وعقار. ويطلق على التاجر أيضًا. (2) "الأموال" (127). وأخرجه أيضًا يحيى في "الخراج" (188) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 142) ــ وسعيد بن منصور (2593) وابن أبي شيبة (21948)، كلهم عن هشيم به. والزبير بن عدي من صغار التابعين، روايته عن علي مرسلة. ويشهد له المرسل الآتي. (3) "الأموال" (128)، وأخرجه يحيى بن آدم (189) عن وكيع، وابن زنجويه (322، 365) عن أبي نعيم، كلاهما عن المسعودي به، وهما ممن روى عنه قبل اختلاطه. وأخرجه ابن أبي شيبة (21947) من طريق آخر عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر وعلي قالا: إذا أسلم وله أرض وضعنا عنه الجزية وأخذنا منه خراجها. والثقفي لم يدرك عمر ولا عليًّا، فروايته عنهما مرسلة. (4) "الأموال" (129)، وإسناده جيِّد. وأخرجه ابن زنجويه (188) عن النضر بن شميل عن عوف الأعرابي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة كتابًا قرئ على الناس وأنا أسمع ... بنحوه. وذكره مالك في "الموطأ" (188) بنحوه بلاغًا.

(1/86)


قال أبو عبيد (1): أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعتْ عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم، ولم ينظروا في أول السنة كان ذلك ولا في آخرها، فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله، وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمن بني أميَّة، لأنه يُروى عنهم ــ أو عن بعضهم ــ أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا؛ يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد، يقولون: لا يُسقِط إسلامُ العبد عنه ضريبتَه. ولهذا اختار من اختار (2) من القرَّاء الخروجَ عليهم. وقد رُوي عن يزيد بن أبي حبيبٍ ما يُثبِت ما كان من أخْذِهم إياها. حدثنا عبد الله بن صالحٍ، ثنا حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي حبيبٍ قال: أعظمُ ما أتتْ (3) هذه الأمة بعد نبيِّها ثلاثُ خصالٍ: قتلُهم عثمان بن عفّان، وإحراقُهم الكعبة، وأخْذُهم الجزيةَ من المسلمين (4). والجزية وُضِعت في الأصل إذلالًا للكفّار وصَغارًا، فلا تُجامِعُ الإسلامَ بوجهٍ، ولأنها عقوبةٌ فتسقُط بالإسلام، وإذا كان الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك والكفر والمعاصي فكيف لا يهدم ذُلَّ الجزية وصَغارها؟ وإن _________ (1) في "الأموال" عقب الآثار السابقة. (2) في "الأموال": "استجاز من استجاز". (3) في الأصل: "كانت". والتصويب من "الأموال". (4) "الأموال" (130). أخرجه أيضًا البخاري في "التاريخ الأوسط" (193) وابن زنجويه (193) وابن الأعرابي في "معجمه" (1891).

(1/87)


المقصود تألُّف الناس على الإسلام بأنواع الرغبة فكيف لا يُتألَّفون بإسقاط الجزية؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي على الإسلام عطاءً لا يعطيه على غيره، وقد جعل الله سبحانه سهمًا في الزكاة للمؤلَّفة قلوبهم، فكيف لا يُسقِط عنهم الجزية بإسلامهم؟ وكيف يُسلِّط الكفار أن يتحدَّثوا بينهم بأن من أسلم منهم أُخِذ بالضرب والحبس ومُنِع ما يملكه حتى يعطي ما عليه من الجزية؟ فصل فإن مات الكافر في أثناء الحول سقطتْ عنه، ولم تؤخذ بقدر ما أدرك منه. وإن مات بعد الحول فذهب الشافعي أنها لا تسقط وتُؤخذ من تَرِكته، وهو ظاهر كلام أحمد. وقال أبو حنيفة: تسقط بالموت، وحكاه أبو الخطَّاب عن شيخه القاضي (1). قال أبو عبيد (2): وأما موت الذمي في آخر السنة فقد اختُلف فيه. فحدثنا سعيد بن عُفيرٍ، عن عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الرحمن بن جُنادة (3) كاتبِ حيَّان بن سُرَيج (4)، وكان حيَّان بن سُرَيج بعثه إلى عمر بن عبد العزيز وكتب إليه يستفتيه: أيجعلُ جزيةَ موتى القِبْط على أحيائهم؟ _________ (1) كما في "المغني" (13/ 222). (2) "الأموال" (1/ 108). (3) في الأصل: "حبارة" تصحيف. (4) في المطبوع: "شريج"، وفي "الأموال": "شريح"، كلاهما تصحيف. انظر: "الإكمال" (4/ 273).

(1/88)


فسأل عمر عن ذلك عِراكَ بن مالكٍ ــ وعبدُ الرحمن يسمع ــ فقال: ما سمعتُ لهم بعَقْدٍ ولا عهدٍ، إنما أُخِذوا عَنوةً بمنزلة الصيد. فكتب عمر إلى حيَّان بن سُرَيج يأمره أن يجعل جزية الأموات على الأحياء. وكان حيَّان والِيَه على مصر (1). قال (2): وقد رُوي من وجهٍ آخر عن مَعقِل بن عبيد الله عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ليس على من مات ولا من أَبَقَ جزيةٌ. يقول: لا تؤخذ من ورثته بعد موته، ولا يجعلها بمنزلة الدَّين، ولا تؤخذ من أهله إذا هرب عنهم منها، لأنهم لم يكونوا ضامنين لذلك. قال الآخذون لها (3): هي دَينٌ وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته، كديون الآدميين. قال المُسقِطون: هي عقوبةٌ، فتسقط بالموت كالحدود؛ ولأنها صغارٌ وإذلالٌ فزال بزوال محلّه. وقولكم: "إنها دَينٌ فلا تسقط بالموت" إنما يتأتَّى على (4) أصلِ من لا يُسقِطها بالإسلام، وأما من أسقطها بالإسلام فلا يصحُّ _________ (1) "الأموال" (131). (2) أي أبو عبيد برقم (132). وقد وصله ابن أبي شيبة (33312) بلفظ: "لا يؤخذ من أهل الكتاب إلا صلب الجزية، ولا تؤخذ من فارٍّ، ولا من ميت، ولا يؤخذ أهلُ الأرض بالفارّ". (3) انظر: "المغني" (13/ 222). (4) في الأصل: "عند".

(1/89)


منه هذا الاستدلال. ولا ريبَ أن الجزية عقوبةٌ وحقٌّ عليه، ففيها الأمران، فمن غلَّب جانبَ العقوبة أسقطها بالموت كما تسقط العقوبات الدنيوية عن الميت، ومن غلَّب فيها جانبَ الدَّين لم يُسقِطها، والمسألة محتملة. والله أعلم. فصل (1) فإن اجتمعت عليه جزيةُ (2) سنين استُوفِيَتْ كلُّها عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: تتداخل، وتؤخذ منه جزية واحدة، وأجراها مجرى العقوبة، فتتداخل كالحدود. والجمهور جعلوها بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما. وقول الجمهور أصحُّ، لا يناسب التخفيفُ عنه بترك أداء ما وجب عليه للمسلمين، ولاسيَّما إذا [كان] ممن لا يُعذَر بالتأخير. ولو قيل بمضاعفته عليه عقوبةً له لكان أقوى من القول بسقوطها، والله أعلم. فصل وإذا بذلوا ما عليهم من الجزية أو الخراج أو الدية أو الدَّين أو غيره من عينِ (3) ما نعتقده نحن محرَّمًا، ولا يعتقدون تحريمه، كالخمر والخنزير= _________ (1) "المغني" (13/ 223). (2) في الأصل: "دية". وفي هامشه: "كذا". (3) في الأصل: "غير" تصحيف.

(1/90)


جاز قبوله منهم. هذا مذهب أحمد وغيره من السلف. قال الميموني (1): قرأت على أبي عبد الله: هل على أهل الذمة إذا اتَّجروا في الخمر والخنزير العُشْرُ؟ أنأخذ منه؟ فأملى عليَّ: قال عمر: "ولُّوهم بيعَها" (2)، لا يكون هذا إلا على الأخذ. قلت: كيف إسنادُه؟ قال: إسناده جيدٌ. وقال يعقوب بن بختان (3): سألت أبا عبد الله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم، قال: لا تقتُلْ خنازيرهم فإن لهم عهدًا، ولا يؤخذ منهم خمر ولا خنزير؛ يَلُون هم (4) بيعَها. وقال عبد الله (5): قلت لأبي: فإن كان مع النصراني خمرٌ وخنازير، كيف يُصنع بها؟ فقال: قال عمر: "ولُّوهم بيعَها"، [وقد قال بعض الناس: تُقوَّم عليهم]، وهو قولٌ شنيعٌ، ولا أراه يُعجِبني. _________ (1) كما في "جامع الخلال" (1/ 138). (2) أسنده الميموني ــ كما في المصدر السابق ــ عن أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غَفَلة أن عمر قال: "ولُّوهم بيعها: الخمرَ والخنزيرَ، نعشُرْها". وأخرجه أبو عبيد أيضًا كما سيأتي قريبًا. (3) كما في "الجامع" (1/ 139). (4) في الأصل: "يكون لهم". والتصويب من "الجامع". (5) كما في "الجامع" (1/ 139)، ومنه الزيادة، ولم أجده في "مسائله" المطبوعة.

(1/91)


وكذلك نقل عنه صالحٌ سواءً (1). وقال أبو عبيد (2): باب أخذ الجزية من الخمر والخنازير. حُدِّثنا [عن] (3) عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي، عن سُويد بن غَفَلة قال: بلغ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - أن ناسًا يأخذون الجزية من الخنازير، وقام بلالٌ فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر - رضي الله عنه -: لا تفعلوا، وَلُّوهم بيعَها (4). وحدثنا الأنصاري، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إن عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن وَلُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن (5). قال أبو عبيد (6): يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمةِ الخمرَ والخنازير من جزية رؤوسهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى _________ (1) كما في المصدر السابق. (2) "الأموال" (1/ 109). (3) الزيادة من "الأموال". (4) "الأموال" برقم (133)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (9886) عن سفيان به. وسبق أن الإمام أحمد قال: إسناده جيد. (5) "الأموال" (134). (6) عقب الأثر السابق.

(1/92)


المسلمون (1) بيعَها. فهذا الذي أنكره بلالٌ ونهى عنه عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولِّين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا يكون مالًا للمسلمين. ومما يبيِّن ذلك ما حدَّثني عليُّ بن مَعبدٍ، عن عبيد الله بن عمرٍو، عن ليث بن أبي سُليمٍ، أن عمر كتب إلى العُمَّال يأمرهم بقتل الخنازير، وتُقتَصُّ (2) أثمانُها لأهل الجزية من جزيتهم (3). قال أبو عبيد: فهو لم يجعلها قِصاصًا من الجزية إلا وهو يراها مالًا من أموالهم. فإذا مرَّ الذميُّ بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يَطِيب له أن يَعشُرها، ولا يأخذَ ثمنَ العُشْر منها وإن كان الذميُّ هو المتولِّي لبيعها أيضًا. وهذا ليس من الباب الأول ولا يُشبِهه، لأن (4) ذلك حقٌّ وجب على رقابهم وأرضهم. والعُشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفُسِها، فلذلك ثمنُها لا يطيب، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه" (5). _________ (1) في الأصل: "المسلمين". (2) في الأصل: "يقضي". والتصويب من "الأموال". (3) "الأموال" (135) (4) في الأصل: "ان". (5) أخرجه أحمد (2678) وأبو داود (3488) وابن حبان (4938) والضياء في "المختارة" (9/ 511) من حديث ابن عباس بإسناد صحيح.

(1/93)


قال أبو عبيد (1): وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك، وكذلك عمر بن عبد العزيز. ثنا أبو الأسود المصري، حدثنا عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبائي (2) أن عُتبة بن فَرْقَد بعث إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعين ألفَ درهمٍ صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرُ الناسِ بذلك، وقال: واللهِ لا أستعملك على شيءٍ بعدها، قال: فنزعه (3). قال (4): وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنَّى بن سعيد الضُّبَعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدِيّ بن أرطاة: أن ابعَثْ إليَّ بتفصيل الأموال التي قِبَلك من أين دخلَتْ؟ فكتب إليه بذلك وصنَّفه له، فكان فيما كتب إليه: مِن عُشْرِ الخمر أربعة آلاف درهمٍ. قال: فلبثنا ما شاء الله، ثم جاء جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إليَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهمٍ. إن الخمر لا يَعْشُرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها، فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجلَ فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل فرُدَّتْ عليه الأربعة الآلاف، وقال: أستغفر الله، إني لم أعلَمْ. _________ (1) "الأموال" (1/ 110). (2) في المطبوع: "الشيباني" تحريف. (3) "الأموال" برقم (137). وفيه: "فتركه". (4) "الأموال" (138).

(1/94)


قال أبو عبيد: فهذا عندي الذي عليه العمل، وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك. حدثنا يحيى بن سعيد القطّان وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن حمادٍ، عن إبراهيم في الذمي يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يُضاعَف عليه العُشر (1). قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَرَ الخمرَ ولم يَعْشُر الخنازير. سمعتُ محمد بن الحسن يحدِّث بذلك عنه. قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعمر بن عبد العزيز رحمه الله أولى بالاتباع، أن لا يكون على الخمر عُشْرٌ أيضًا، انتهى (2). وهذا الفرق هو محضُ الفقه، فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالًا، فإذا أخذناه منهم أخذنا [ما] هو حلالٌ عندهم ــ وإن كنّا لا نعتقد أنه يحلُّ سببُه (3) ــ كما اكتسبوه بعقودٍ ومواريثَ أو أسبابٍ من هباتٍ ووصايا وغيرها [ممَّا] لا يجوز في شرعنا؛ فعاملُونا به أو قَضَونا إياه مما لنا عليهم= ساغ لنا أخذُه، وإن لم يُسوَّغ في شرعنا تلك الأسباب التي _________ (1) "الأموال" (139). (2) أي انتهى النقل من "الأموال" لأبي عبيد. (3) في الأصل والمطبوع: "لا يعتقدونه كل سنة"، تحريف.

(1/95)


أخذوها (1)، كما تأخذ المرأة من مهرٍ في عقد نكاحٍ لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحًا. وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجهٍ يعتقدون تحريمه كالربا، فإنه حرام عليهم بنصّ التوراة. وأما ما منع الخليفتان فهو فرض العُشْر على نفس الخمر والخنازير إذا اتَّجروا فيها، فهذا غير أخذِ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجهٍ آخر. فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدَّين والدية وغيرها= ظاهرٌ، وبالله التوفيق. فصل وأخذُ الجزية من أهل الكتاب وحِلُّ ذبائحهم ومناكحتهم مرتَّبٌ على أديانهم لا على أنسابهم، فلا يُكْشَف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده، ولا قبلَ النسخ والتبديل ولا بعده، فإن الله سبحانه أقرَّهم بالجزية ولم يَشْرِط ذلك، وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يَشْرِط ذلك في حِلِّها، مع العلم بأن كثيرًا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه، وكانت المرأة من الأنصار تَنذُر إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما جاء الإسلام أرادوا منْعَ أولادهم من المُقام على اليهودية وإلزامَهم بالإسلام، فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254]، فأمسكوا عنهم (2). _________ (1) في الأصل: "حدها"، تصحيف. (2) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 546 وما بعدها). وسيأتي تخريجه (ص 102).

(1/96)


ومعلومٌ قطعًا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعدَ تبديله وبعدَ مجيء المسيح، ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا ممن أقرَّه بالجزية متى دخل آباؤه في الدين، ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من اليهود، ولا أحدٌ من خلفائه بعده (1) البتةَ. وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطًا في حِلِّ المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية، ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكلِّ شيء علمًا؟! وأيُّ شيء يتعلَّق به من آبائه إذا كان هو على دينٍ باطلٍ لا يقبله الله؟ فسواءٌ كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من يهود اليمن، وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تُبَّعٍ، وأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب، ولم يسألوا أحدًا منهم عن مبدأ دخوله في النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده، وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا؟ وقد اختلف كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في "المختصر" (2): وأصلُ ما أَبني عليه أن الجزية لا تُقبَل من أحدٍ دان دينَ كتابٍ، إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبلَ نزول الفرقان، فلا تُقبل ممن بدَّل يهوديةً بنصرانيةٍ أو نصرانيةً بمجوسيةٍ أو مجوسيةً بنصرانيةٍ أو بغير الإسلام. وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد، وذلك _________ (1) "بعده" ساقطة من المطبوع. (2) "مختصر المزني" (ص 387) و"الأم" (5/ 436).

(1/97)


خلاف ما أحدثوا من الدين بعده، فإن أقام على ما كان عليه وإلا نُبِذ إليه عهدُه وأُخرِج من بلاد الإسلام بماله، وصار حربًا، ومن بدَّل دينَه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحُها. قال المزني (1): قد قال في كتاب النكاح: "إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهي حلالٌ". وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53] (2). فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبلَ نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس. وبالله التوفيق. قال المنازعون له: الكلام على هذا من وجوهٍ: أحدها: أن يقال: الأصل الذي تبني عليه لا بدَّ أن يكون معلومًا ثبوتُه بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نصًّا أو استنباطًا، فأين في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله أن الجزية لا تُقبل ممن دان بدينٍ إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان؟ وأين يُستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلًا منصوصًا أو مستنبطًا؟ الثاني: أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع، وعن الإيماء إليه والدلالة عليه= دليل على عدم اعتباره. _________ (1) الكلام متصل بما قبله في "المختصر". (2) أي: قرأ ابن عباس هذه الآية مستدلًّا بها على أن من تنصَّر فحكمه حكمهم، كما عند الطبري (8/ 130) وغيره. وفي المطبوع: "وقال ابن عباس في قوله تعالى"، إقحام أفسد المعنى، فإن ما بعد الآية كلام المزني وليس تفسير ابن عباس.

(1/98)


الثالث: أن إطلاقهما وعمومهما المطَّردينِ في جميع المواضع متناولٌ (1) لكل من اتَّصف بتلك الصفة، ولم يَرِد فيهما موضع واحدٌ مخصّصٌ ولا مقيّدٌ، فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليلُ (2) تخصيصِه. الرابع: أن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبيِّنٌ أنه المراد منها، وقد عُلِم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَبْنِ (3) في أخذ الجزية وحلِّ الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على اعتبار (4) آبائهم وأنسابهم. الخامس: أنه سبحانه قد حكم ــ ولا أحسن من حكمه ــ أنه من تولَّى اليهود والنصارى فهو منهم، فقال (5): {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عامٌّ خُصَّ منه من يتولَّاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فإنه لا يُقَرُّ ولا تُقبل منه الجزية، بل إما الإسلام أو السيف، فإنه مرتدٌّ بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين. يوضحه الوجه السادس: أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان _________ (1) في الأصل: "متاول". والمثبت يقتضيه السياق. (2) بعدها في المطبوع: "على"، وليست في الأصل. (3) في الأصل: "لم يبين". (4) "اعتبار" ساقطة من المطبوع. (5) "فقال" ليست في المطبوع.

(1/99)


فقد انتقل من دينه إلى دينٍ خيرٍ منه وإن كانا جميعًا باطلينِ. وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلانِ ما انتقل إليه، فلا يُقَرُّ. السابع: أن دين أهل الكتاب قد صار باطلًا بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا فرقَ بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه، فإن كلَّ واحدٍ منهما اختار دينًا باطلًا، وما على الرجل من أبيه؟ وأي شيء يتعلق به منه؟ الثامن: أن تبعيته لأبيه منقطعةٌ ببلوغه، بحيث صار مستقلًّا بنفسه في جميع الأحكام، فما بالُ تبعية الأب بعد البلوغ أثَّرتْ في إقراره على دينٍ باطلٍ قد قطع الإسلامُ تبعيتَه فيه؟ التاسع: أن ذلك الدين قد عُلم بطلانه ونسْخُه قطعًا بمجيء المسيح، فقد أُقِرَّ على دينٍ دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله. العاشر: أن نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وتركَ دين المسيح، كنسبة من دخل في النصرانية بعد مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كلاهما دخل في دينٍ باطلٍ منسوخٍ. الحادي عشر: أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه، وأقام هو على دينه بعد بلوغه= لأقررناه ولم نتعرَّض له، مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه. فإذا أُقِرَّ على دينٍ قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يُقَرُّ على دينٍ دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته؟

(1/100)


الثاني عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر بالجهاد كان يُقِرُّ الناس على ما هم عليه، ويدعوهم إلى الإسلام، بل كانت المرأة تُسلِم وزوجها كافرٌ فلا يفرِّق الإسلام بينهما، ولم يَنزِل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في الدعوة مراتب: فإنه أُمِر أولًا أن يقرأ باسم ربه، ثم أُمر ثانيًا أن يقوم نذيرًا، فأُمِر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى، ثم أُمِر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه، ثم أُمر بالهجرة، ثم أُمر بقتال من قاتله، ثم أُمر بالجهاد العام، ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب، فضَربها عليهم وأَلحق بهم المجوس، وكانت العرب من عبّاد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّ الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم. فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله، ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حقَّ القيام، ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفَّار في النكاح، ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم، ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرَّض لهم ما لم ينقُصوه شيئًا مما شرط عليهم، فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهوُّد أو التنصُّر من أهل الأوثان، فلما علَتْ كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبةُ والقهر منع من أراد منهم التهوُّد أو التنصُّر بعد أن أقرَّ بالإسلام، وأمر بقتله إن لم يراجع دينَ الإسلام، ولم يمنع يهوديًّا من نصرانيةٍ، ولا نصرانيًّا من يهوديةٍ كما منع المسلم منهما.

(1/101)


وقد علم - صلى الله عليه وسلم - أن من أبناء الأنصار من دخل في اليهودية بعد النسخ والتبديل، كما روى أبو داود في "سننه" (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت المرأة تكون مِقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما أُجلِيتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا نَدَعُ أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254]. قال أبو داود: المِقْلات التي لا يعيش لها ولدٌ. وهو يدلُّ على أن من تهوَّد وإن كان أصله غيرَ يهودي فإنه مثلهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيًّا دخل في دين أهل الكتاب، بل ولا يهوديًّا تنصَّر أو نصرانيًّا تهوَّد أو مجوسيًّا دخل في التهوُّد والتنصُّر. بل جمهور الفقهاء اليوم يُقِرُّونه على ذلك (2) كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وعنه رواية ثانيةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام، وعنه رواية ثالثةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينًا يقرّ أهله عليه. الثالث عشر: أنه لو لم يعرف له أبٌ لكونه لقيطًا، أو انقطع نسبه من أبيه _________ (1) برقم (2682)، وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (10982، 10983) والطبري في "تفسيره" (4/ 546) وابن حبان (140) والضياء في "المختارة" (10/ 72 - 73)، من طرق عن شعبة، عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح على رسم الصحيحين. (2) انظر: "المغني" (12/ 32، 13/ 226)، و"نهاية المطلب" (12/ 251)، و"روضة الطالبين" (7/ 140).

(1/102)


بكونه ولد زنًا، فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه. ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه، ولم يُقرَّ عليه، لعدم أبيه حسًّا وشرعًا، إذ تبعيته هنا منتفيةٌ، وإنما له حكمُ نفسِه. ولهذا قال الإمام أحمد ومن تبعه: أنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما، وهو دون البلوغ؛ لأنه إنما كان كافرًا تبعًا لهما، وإلّا فهو على الفطرة الأصلية، فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلمًا؛ لأن مقتضى الفطرة موجودٌ والمغيِّر لها مفقودٌ. فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجودَ أبويه لتتحقق التبعية، والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعًا لهما، فإذا كان قد أقرَّه على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين عُلِم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه، وهو ظاهرٌ. الرابع عشر: قوله (1): "وإنما أذن الله تعالى بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده". فيقال: إن أُريد بما دانوا به قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك إنما هو قبل مبعث المسيح، فلا تُقبل من يهودي جزيةٌ إلا أن يُعلَم أن آباءه توارثوا اليهودية قبل مبعث المسيح، فإنها بطلتْ بمبعثه، كما بطلتْ هي والنصرانية وسائر الأديان بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن أريد به ما دانوا به قبلَ مبعثه وإن كان باطلًا منسوخًا، فما الفرق بين ذلك وبين ما دانوا به بعد المبعث قبل أن تبلغهم الدعوة وتقوم عليهم _________ (1) أي قول الشافعي المذكور قبل صفحات.

(1/103)


الحجة؟ فإنك إنما اعتبرتَ وقتَ مبعثه خاصةً. وإن أريد به ما دانوا به قبل قيام الحجة عليهم انتقض ذلك من وجهين: أحدهما: أنك لم تعتبر ذلك، وإنما اعتبرتَ نفس المبعث. الثاني: أن الدين إذا كان باطلًا قبل المبعث لم يكن لتمسك الآباء به أثرٌ في إقرار الأبناء. الخامس عشر: أنهم إذا دانوا بدينٍ قد أُقِرَّ أهله عليه بعد المبعث مع بطلانه قطعًا، فقد أُقِرُّوا على دينٍ مبدَّلٍ منسوخٍ وأُخِذَت منهم الجزية عليه. السادس عشر: أن قوله: "بخلاف ما أحدثوا من الدين بعده" يُشْعِر بأنه كان صحيحًا إلى زمن المبعث، فأحدثوا بعد المبعث دينًا آخر غيره، فلذلك لا يُقَرُّون عليه. وهذا خلاف الواقع، فإنهم كانوا قد أحدثوا وبدَّلوا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بُعث - صلى الله عليه وسلم - استمرُّوا على ذلك الإحداث والتبديل، وانضاف إليه إحداثٌ آخر وتبديلٌ آخر، فلم يكن دينهم قبل المبعث سالمًا من الإحداث والتبديل، بل كان كله قد انتقض إلا الشيء القليل منه. السابع عشر: قوله: "فإن أقام على ما كان عليه، وإلا نُبذ إليه عهدُه". فيقال: متى سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه في أهل الذمة هذه السيرة؟ ومتى قال هو أو أحدٌ من خلفائه ليهودي أو نصراني: متى دخل آباؤك في الدين؟ فإن كانوا دخلوا فيه قبل مبعثي وإلا نَبذتُ إليك العهد! وأيضًا فإن الذي كان عليه باطلٌ قطعًا، سواءٌ أدرك آباؤه حقَّه أو لم يُدركوه، فهو مقيمٌ على ما كان عليه آباؤه من الباطل.

(1/104)


الثامن عشر: أن إقراره بين أظهُرِ المسلمين على باطل دينه بالجزية والذُّلِّ والصَّغار والتزام أحكام الملة وكفّ شرِّه عن المسلمين= خيرٌ وأنفع للمسلمين من أن يخرج بماله إلى بلاد الكفار المحاربين، فيكون قوةً للكفار محاربًا للإسلام ممتنعًا من أداء الجزية وجريان أحكام الملة عليه مع إقامته على الدين الباطل. التاسع عشر: قوله: "ومن بدَّل دينه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحها". فيقال: إذا كان العلم بكون الكتابية دخل آباؤها في الدين قبل النسخ والتبديل شرطًا في حلِّ نكاحها لم يحلَّ نكاح امرأةٍ من أهل الكتاب حتى يعرف أن آباءها كانوا كذلك. وهذا لا سبيلَ إلى العلم به إلا من جهتهم، وخبرُهم لا يُقبل في ذلك، والمسلمون لا علم لهم بذلك، فلا يحلُّ نكاح امرأةٍ كتابيةٍ أصلًا، وهذا خلاف نص القرآن! ولا يقال: من لم يُعلَم حال أبويها جاز نكاحها، فإن شرط الحلِّ إذا لم يُعلَم ثبوته امتنع ثبوت الحلِّ، والصحابة - رضي الله عنهم - تزوَّجوا منهم، ولم يسألوا عن ذلك. وقد ألزم المزني الشافعيَّ بالنكاح، فقال الشافعي في كتاب النكاح (1): إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهو حلالٌ. قال المزني: وهذا عندي أشبهُ، ثم احتج بقول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، وهذا من أحسن الاحتجاج. _________ (1) "مختصر المزني" (ص 387). وقد تقدم.

(1/105)


ثم قال المزني (1): فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس. الوجه العشرون: أنه لو صح اشتراط ذلك الشرط لم يُبَحْ لنا ذبيحةُ أحدٍ من أهل الكتاب؛ لأنا لا نعلم متى دخل آباؤه في الدين، والجهل بوجود الشرط كالعلم بانتفائه في امتناع ثبوت الحكم قبل تحقُّقه. وقد قال الشافعي (2) - رحمه الله -: تنصَّرت (3) قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ويُنزِل عليه الفرقان فدانتْ بدين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أُكيدِر دُومةَ، وهو رجل يقال من غسَّان أو كِندةَ، ومن أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب، ومن أهل نجران وفيهم عرب، فدلَّ ما وصفتُ أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان. فقد صرَّح رحمه الله تعالى بعدم اعتبار الأنساب في الجزية، وأخبر أنها على الأديان، ومعلومٌ أن هذا لا فرقَ فيه بين (4) أن يكون الآباء دانوا بالدين قبل تبديله أو لم يكونوا كذلك، وكونُ الآباء قد دخلوا في الدين قبل نزول القرآن بعد بطلانه وتبديله لا أثرَ له، فإنهم بين المبعث وضرب الجزية كانوا قد دخلوا في دينٍ يُقَرُّون عليه. _________ (1) المصدر نفسه. (2) في "الأم" (5/ 403 - 405)، و"مختصر المزني" (ص 384). (3) كذا في الأصل، وفي "الأم" و"المختصر": "انتوت" أي قصدت. (4) في المطبوع: "ولا فرق بينه وبين" خلاف ما في الأصل.

(1/106)


ونكتة المسألة أنهم بعد المبعث وإن دخلوا في دينٍ باطلٍ فدخلوا (1) في دينٍ يُقَرُّون عليه، وذلك قبل الأمر بالجهاد. فهذه الوجوه ونحوها وإن كانت مُبطِلةً لهذا الأصل فإنها من أصول الشافعي رحمه الله تعالى وقواعده، فمن كلامه وكلام أمثاله من الأئمة استفدناها، ومنه ومنهم تعلَّمناها، ولم نخرج فيها عن أصوله وقواعده. وليس المعتنون بالوجوه والطرق واختلافِ المنتسبين إليه والاعتناء بعباراتهم أقربَ إليه منا ولا أولى (2) به، بل هذه طريقته وأصوله التي أوصى بها أصحابه، فمن وافقه في نفس أصوله أحقُّ به ممن أعرض عنها، والله المستعان. وقد قال أبو المعالي الجويني في "نهايته" (3) بعد أن حكى كلام بعض أصحاب الشافعي: أنَّ من تنصَّر أو تهوَّد بعد تبديل الدينين وتغيير الكتابين قبلَ مبعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - نُظِر: فإن تمسَّك بالدين غير مبدَّلٍ، وحدثَ (4) التبديلُ، ثم أدركه الإسلام= قُبِلت الجزية منه، وإن دخل في الدين المبدَّل ثم أدركه الإسلام لم تُقبل منه وإن كان ذلك قبل المبعث. وهل تُقبل من أولاده؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟ = قال: وهذا _________ (1) في المطبوع: "قد دخلوا". (2) في الأصل: "ولا ولى". (3) "نهاية المطلب" (18/ 11). (4) في الأصل: "وحذف".

(1/107)


كلامٌ مختلطٌ لا تعويلَ عليه، والمذهب: القطعُ بأخذ الجزية ممن تمسَّك بالدين المبدَّل قبل المبعث وأدركه الإسلام نظرًا إلى تغليب الحَقْن. وإذا تعلَّق بالكتاب فليس كله مبدلًا، وغير المبدل منه ينتصب شبهةً في جواز حَقْن دمه بالجزية، إذ ذاك لا ينحطُّ عن الشبهة التي تمسَّك (1) بها المجوس، فلا ينبغي أن يُعتدَّ بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية كما قدمنا. انتهى. وهذا الذي ذكره في غاية القوة، وما ذكره من حكى كلامه مخالفٌ للمعلوم المقطوع به من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبقي عليه درجةٌ واحدةٌ، وهي القطع بأخذها ممن تهوَّد بعد المبعث قبل الأمر بالقتال، إذ كانوا مُقَرِّين على دينهم، فقد دخل في دينٍ باطلٍ يقرّ أهله عليه، كما تقدم. فصل في بني تغلب وأحكامهم بنو تغلب بن وائل بن ربيعة بن نِزارٍ من صميم العرب، انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، وكانوا قبيلةً عظيمةً لهم شوكةٌ قويةٌ، واستمرُّوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فصُولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم عوضًا من الجزية. واختلفت الرواية متى صُولحوا. ففي "سنن أبي داود" (2) من حديث إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن _________ (1) في هامش الأصل: "تعلق". (2) برقم (3040)، وكذا أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (ص 223 - مسند علي) والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 440) وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 198)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن هانئ النخعي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر به.

(1/108)


حُدَيرٍ قال: قال عليٌّ: لئن بقيتُ لنصارى بني تغلب لأقتُلَنَّ المُقاتِلة، ولأَسبِينَّ الذرّيةَ، فإني كتبتُ الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُنصِّرُوا أبناءهم. لكن قال أبو داود: هذا حديث منكرٌ، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارًا شديدًا (1). وقال أبو علي (2): لم يقرأه أبو داود في العرضة الثانية. انتهى. وإبراهيم بن مهاجرٍ ضعَّفه غير واحدٍ (3). والمشهور أن عمر هو الذي صالحهم. قال أبو عبيد (4): ثنا أبو معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن السفَّاح، عن داود بن كُردوسٍ قال: صالحتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن بني تغلب ــ بعدما قطعوا الفُرات وأرادوا أن يلحقوا بالروم ــ على أن لا يَصْبُغوا صبيًّا، _________ (1) قال أحمد في عبد الرحمن بن هانئ النخعي: ليس بشيء، كما في "العلل" برواية ابنه (5691). وقال العقيلي بعد أن أخرج الحديث في ترجمته: "لا يتابَع عليه". أي من هذا الطريق، لأنه إنما يُعرف من رواية الكلبي، عن أصبغ بن نُباتة ــ وكلاهما متروك منكر الحديث ــ عن عليٍّ بنحوه. أخرجه عبد الرزاق (9975) وأبو يعلى (323، 332) من طرق عن الكلبي به. (2) هو اللؤلؤي راوي "السنن" عن أبي داود. (3) انظر "ميزان الاعتدال" (1/ 67، 68). (4) في "الأموال" (72)، وأخرجه يحيى بن آدم في "الخراج" (206، 208) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 216) ــ وابن أبي شيبة (10684) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني به.

(1/109)


ولا يُكرهوا على دينٍ غير دينهم، وعلى أن عليهم العُشر مضاعفًا، من كل عشرين درهمًا درهمٌ. فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمَّةٌ؛ قد صَبَغوا في دينهم. قال أبو عبيد: قوله "لا يَصبُغوا في دينهم" يعني: لا يُنصِّروا أولادهم. قال أبو عبيد: وكان عبد السلام بن حربٍ يزيد في إسناد هذا الحديث: عن داود عن عُبادة بن النعمان عن عمر (1). وحدثني سعيد بن سليمان عن هُشيمٍ (2) قال: أبنا مغيرة، عن السفَّاح بن المثنى، عن زرعة بن النعمان ــ أو النعمان بن زرعة ــ أنه سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكلَّمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر - رضي الله عنه - قد همَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرَّقوا في البلاد، فقال النعمان لعُمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قومٌ عرب يَأْنَفون من الجزية، وليست لهم أموالٌ، إنما هم أصحاب حروثٍ ومَواشي (3)، ولهم نكايةٌ في العدو، فلا تُعِنْ عدوَّك عليك بهم. فصالحَهم عمر - رضي الله عنه - [على] أن أَضعفَ عليهم الصدقة، واشترط _________ (1) أخرجه يحيى بن آدم (207) عن عبد السلام بن حرب عن أبي إسحاق الشيباني به. ومن طريق يحيى أخرجه البيهقي (9/ 216). وعبد السلام ثقة حافظ، على لين في بعض حديثه. وهنا قد خالف غيرَ واحدٍ بذكر عُبادة بن النعمان فيه. وإنما ورد ذكر "عُبادة بن النعمان بن زرعة" في قصة أخرى رويت من طريق الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس؛ أخرجها ابن أبي شيبة (18611) والبخاري في "التاريخ" (4/ 212). (2) في هامش الأصل: "هشام" بعلامة خ. (3) كذا في الأصل بإثبات الياء.

(1/110)


عليهم أن لا يُنصِّروا أولادهم (1). قال مغيرة: فحُدِّثتُ أن عليًّا قال: إن تفرَّغتُ لبني تغلب ليكونَنَّ لي فيهم رأيٌ، لأقتلنَّ مقاتِلَتَهم ولأَسبِينَّ ذراريَّهم، فقد نقضوا العهد، وبرئتْ منهم الذمة حين نصَّروا أولادهم (2). وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحَكَم، عن إبراهيم، عن زياد بن حُدَيرٍ: أن عمر - رضي الله عنه - أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العُشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر (3). قال أبو عبيد: والحديث الأول ــ حديث داود بن كُردوسٍ وزُرعة ــ هو الذي عليه العمل: أن يكون عليهم الضِّعف مما على المسلمين، أَلَا تسمعه يقول: من كل عشرين درهمًا درهمٌ؟ وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مرُّوا بأموالهم على العاشر: مِن كل أربعين درهمًا درهمٌ، فذلك ضِعف هذا، وهو المضاعف الذي اشترط عمر عليهم. وكذلك سائر أموالهم من المواشي _________ (1) "الأموال" (74)، وعلَّقه البخاري في "تاريخه" (4/ 212) عن النفيلي عن هشيم به. وخالف فيه مغيرة أبا إسحاق الشيباني في إسناده، فأسقط داود بن كردوس، وزاد زرعة بن النعمان، كما أنه أخطأ في اسم السفاح ــ وهو ابن مطر ــ فجعله ابن المثنَّى بن حارثة (كذا في تاريخ البخاري)، فأخشى أن يكون مغيرة ــ وهو ثقة مدلس ــ دلَّسه عن بعض الضعفاء. (2) سبق تخريجه وبيان وهيه، ولعل مغيرة سمعه من الكلبي ولذا أبهمه. (3) "الأموال" (75)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (19400) عن عبد الله بن كثير عن شعبة به. وإسناده صحيح.

(1/111)


والأرضين يكون عليها في تأويل هذا الحديث الضِّعفُ أيضًا، فيكون في خمسٍ من الإبل شاتان، وفي العشر أربعُ شياهٍ، وكذلك الغنم والبقر. وعلى هذا الحَبُّ والثمار، فيكون ما سَقَتْه السماء فيه عُشرانِ وفيما سُقِي بالغَرْب عُشر. وفي حديث عمر - رضي الله عنه -: وشرطه عليهم أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم مثلُ ما على أموال رجالهم، وكذلك يقول أهل الحجاز. انتهى. فهذا الذي فعله عمر - رضي الله عنه - وافقه عليه جميع الصحابة والفقهاء بعدهم. ويُروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى عليهم إلا الجزية، وقال: لا والله إلا الجزية، وإلا فقد آذنتم بالحرب (1). ولعله رأى أن شوكتهم ضعفتْ، ولم يخَفْ منهم ما خاف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فإن عمر - رضي الله عنه - كان بعدُ مشغولًا بقتال الكفار وفتح البلاد، فلم يأمن أن يلحقوا بعدوّه فيقوونهم عليه، وعمر (2) أمِنَ ذلك. وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: لئن بقيتُ لهم لأقتلنَّ مقاتِلتَهم _________ (1) ذكره ابن قدامة في "المغني" (13/ 224) بهذا اللفظ، والمؤلف صادر عنه. وفي "المدونة" (2/ 283) عن ابن وهب عن ابن أبي ذئب أن عمر بن عبد العزيز قال لنصارى كلب وتغلب: لا نأخذ الصدقة منكم، وعليكم الجزية. فقالوا: أتجعلنا كالعبيد؟ قال: لا نأخذ منكم إلا الجزية. قال: فتوفي عمر وهم على ذلك. (2) أي: ابن عبد العزيز.

(1/112)


ولأَسْبِيَنَّ ذريتَهم، فإنهم نقضوا العهد ونصَّروا أولادهم (1). وعلى هذا فلا تجري هذه الأحكام التي ذكرها الفقهاء فيهم، فإنهم ناقضون للعهد، ولكن العمل على جريانها عليهم، فلعل بعض الأئمة جدَّد لهم صلحًا على أن حكم أولادهم حكمهم كسائر أهل الذمة، والله أعلم. فصل (2) فتؤخذ الصدقة منهم مضاعفةً من مالِ مَن تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلمًا، من ذكرٍ وأنثى وصغيرٍ وكبيرٍ وزَمِنٍ وصحيح وأعمى وبصيرٍ. هذا قول أهل الحجاز وأهل العراق وفقهاء الحديث منهم الإمام أحمد وأبو عبيد، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استثنى الصبيان والمجانين بناءً على أصله في أنه لا زكاة عليهم (3)، ولا تُؤخَذ الصدقة مضاعفةً من أرضهم كما تُؤخذ من أرض الصبي والمجنون المسلم الزكاة. وأما الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال: المأخوذ منهم جزيةٌ وإن كان باسم الصدقة، فلا تُؤخذ إلا ممن تؤخذ منه الجزية، فلا تُؤخذ من امرأةٍ ولا صبي ولا مجنونٍ، وحكمها عنده حكم الجزية وإن خالفتْها في الاسم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: _________ (1) تقدم قريبًا. (2) انظر: "المغني" (13/ 224، 225). (3) كما في "الخراج" لأبي يوسف (ص 122).

(1/113)


هؤلاء حمقى رَضُوا بالمعنى وأَبَوا الاسم (1). وقال النعمان بن زرعة: خذ منهم الجزية باسم الصدقة (2). قال الشافعي (3) رحمه الله تعالى: واختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في نصارى العرب من تَنوخَ وبَهراء وبني تغلب، فرُوي عنه أنه صالحهم على أن يُضْعِف عليهم الجزية، ولا يُكرَهوا على غير دينهم. وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا: رَامَهم عمر - رضي الله عنه - على الجزية فقالوا: نحن عربٌ لا نؤدّي كما يؤدِّي العجم، ولكن خُذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعضكم، يعنون الصدقة، فقال عمر: هذا فرض على المسلمين (4)، فقالوا: ازدَدْ (5) ما شئتَ بهذا الاسم لا اسم الجزية. فراضَاهم على أن أَضْعفَ عليهم الصدقة، [وقال للمُعشّر]: فإذا أضعفتَها عليهم فانظر إلى مواشيهم وذهبهم وورِقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادنِ بلادهم وركازِها، وكل أمرٍ أُخِذَ فيه من مسلمٍ خُمسٌ فخذْ خُمسينِ، وعُشْرٌ فخُذْ عُشْرينِ، ونصفُ عُشرٍ فخُذْ عُشرًا، ورُبع عُشرٍ فخُذْ نصفَ عُشرِ، وكذلك مواشيهم فخُذِ الضِّعفَ منهم. وكلّ ما أُخِذ من عُشرِ ذمي فمسلكُه مسلكُ الفيء، وما اتَّجر به نصارى _________ (1) كذا في "المغني" (13/ 225)، ولم أجده في كتب الشافعي ولا في كتب البيهقي نقلًا عنه. (2) "المغني" (13/ 225). (3) انظر: "الأم" (5/ 690 وما بعدها)، والنقل من "مختصر المزني" (ص 386). (4) "فقالوا نحن ... على المسلمين" ساقطة من المطبوع. (5) كذا في الأصل. وفي "الأم" و"مختصر المزني": "فزِدْ". وفي المطبوع: "اردد" خطأ.

(1/114)


العرب وأهل دينهم وإن كانوا يهودَ تُضاعَفُ عليهم فيه الصدقة، انتهى. قالوا: ولأنهم أهل ذمةٍ، فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة، كغيرهم من أهل الذمة. قالوا: ولأنه مالٌ يؤخذ من أهل الكتاب لحَقْنِ دمائهم، فكان جزيةً كما لو أُخذ باسم الجزية (1). قالوا: ولأن الزكاة طُهرةٌ، وهؤلاء ليسوا من أهل الطهرة. قالوا: ولأن عمر - رضي الله عنه - إنما سألهم الجزية لم يسألهم الصدقة، فالذي سألهم إياه عمر - رضي الله عنه - هو الذي بذلوه بغير اسمه. قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم ومجانينهم ليسوا من أهل الزكاة ولا من أهل الجزية، فلا يجوز أن يُؤخذ منهم واحدٌ منهما. قالوا: ولأن المأخوذ منهم مصرف الفيء لا مصرف الصدقة، فيباح لمن يُباح له أخذُ الجزية. قال أصحاب أحمد (2): المتَّبَع في ذلك فعل عمر - رضي الله عنه -، وهم سألوه أن يأخذ منهم ما يأخذ من المسلمين ويُضعِفه عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وهو يأخذ من صبيان المسلمين ونسائهم ومجانينهم، وذلك هو الزكاة، وعلى هذا البذل والصلح دخلوا وبه أقرُّوا. _________ (1) في الأصل: "الصدقة". والمثبت من هامشه بعلامة خ. (2) انظر: "المغني" (13/ 225).

(1/115)


قالوا: ويدل عليه قوله: "من كل عشرين درهمًا درهم"، فهذا غير مذهب الجزية، بل مذهب الصدقة. قالوا: فشرط عمر - رضي الله عنه - يقتضي أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم ما على أموال رجالهم. قالوا: ولفظ الصلح إنما وقع على الصدقة المضاعفة لا على الجزية، وهم الذين بذلوا ذلك فيؤخذ منهم ما التزموه. قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم صِيْنوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه، فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء. قال أبو عبيد (1): وهذا أشبهُ لأنه عمَّهم بالصلح، فلم يَستثنِ منهم صغيرًا دون كبيرٍ، والله أعلم. فصل وعلى هذا فمن كان منهم فقيرًا أو له مالٌ غير زكوي كالدُّور وثياب البذْلة وعَبيدِ الخدمة فلا شيء عليه، كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين، ولا يُؤخذ مِن أقلَّ مِن نصابٍ، وإن كان المأخوذ من أحدهم أقلَّ من جزيةٍ كفى. وقال في "الرعاية" (2): يحتمل أن يكمل الجزية. _________ (1) "الأموال" (1/ 76). (2) (1/ 588).

(1/116)


وفي مصرفه روايتان (1): إحداهما: أنه مصرف الفيء، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى (2)، وهو الصحيح وهو مذهب الشافعي؛ لأنه مأخوذٌ من مشركٍ، وهو جزيةٌ باسم الصدقة. والثانية: أن مصرفه مصرف الصدقة، وهي اختيار أبي الخطاب، لأنه معدولٌ به عن الجزية في الاسم والحكم والقدر، فيُعدَل بمصرفه عن مصرفها. قال الشيخ أبو محمد المقدسي (3): والأول أقيس وأصح؛ لأن معنى الشيء أخصُّ به من اسمه، ولهذا لو سُمِّي رجلٌ أسدًا أو نَمِرًا أو أسودَ أو أحمرَ لم يَصِرْ له حكم المسمَّى بذلك. قال: ولأنَّ هذا لو كان صدقةً على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراءِ من أُخِذتْ منهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْلِمْهم أن عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدُّ في فقرائهم" (4). _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 225). (2) في "الأحكام السلطانية" (ص 137). (3) "المغني" (13/ 225). (4) أخرجه البخاري (1395) ومسلم (19) عن ابن عباس في حديث إرسال معاذٍ إلى اليمن.

(1/117)


فصل (1) فإن بذَلَ التغلبيُّ الجزية وتُحَطُّ عنه الصدقة فهل يقبل منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل منه، لأن الصلح وقع على هذا، فلا يُغيَّر. والثاني: يُقبل منه، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، وهذا قد أعطى الجزية، ولأن الجزية هي الأصل والصدقة بدلٌ، فإذا بذل الأصل حرم قتله وقتالُه (2)، ولأن الجزية هي الصَّغار والذُّل الذي أَنِفُوا منه، فترك لمصلحةٍ، فإذا زالت المصلحة وأقرُّوا به والتزموه قُبِل منهم. وهذا أرجح، والله أعلم. وأما إن كان باذلُ الجزية منهم حربيًّا لم يدخل تحت الصلح فإنها تُقبل منه قولًا واحدًا، ولا يلزمه ما صالح عليه إخوانه. وإن أراد الإمام نقْضَ صلحهم وإلزامهم بالجزية لم يكن له ذلك؛ لأن عقد الذمة على التأبيد، وقد عقد معهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلم يكن لغيره نقضُه ما داموا على العهد. فصل وهذا الحكم يختصُّ ببني تغلب، نصَّ عليه أحمد. _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 226). (2) "وقتاله" ساقطة من المطبوع.

(1/118)


وقال علي بن سعيد (1): سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صُولحوا على أن تؤخذ منهم، كما صنع عمر - رضي الله عنه - بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم. وقال صالح بن أحمد (2): قلت لأبي: هل على نساء أهل الذمة وصبيانهم ونخيلهم وكُرومِهم وزروعهم ومواشيهم صدقةٌ؟ قال: ليس عليهم فيها شيء إلا على نصارى بني تغلب. وكذلك قال في رواية ابن منصورٍ (3). وقال حرب بن إسماعيل (4): قلت لأحمد: فالذي (5) تكون له الغنم أو الإبل هل تؤخذ منهم؟ قال: كيف تؤخذ منهم؟! إلا نصارى بني تغلب فإنها تُضاعَف عليهم. قال: وكذلك قال قومٌ في أرضهم: تُضاعَف عليهم، أُراه قال: إن اشتروا من المسلمين. وقال الميموني (6): قرأت على أبي عبد الله هل على أهل الذمة صدقةٌ _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (1/ 142). (2) المصدر نفسه (1/ 143). (3) كما في المصدر السابق. (4) "الجامع" (1/ 143). (5) كذا في الأصل، وفي "الجامع": "فالذمي". (6) كما في "الجامع" (1/ 143).

(1/119)


في إبلهم وبقرهم وغنمهم؟ فأملى عليَّ (1): ليس عليهم. وقال الزهري: لا نعلم في مواشي أهل الذمة صدقةً إلا بني تغلب (2). قال: وعمر - رضي الله عنه - لمَّا أقرَّهم على النصرانية أضعفَ عليهم لأنهم عرب. قلت: وتذهب إلى أن تُؤخذ من مواشي بني تغلب خاصّةً؟ قال: نعم. قلتُ: وتُضعِف عليهم على ما فعل عمر - رضي الله عنه -؟ قال: نعم. وقال القاضي وأبو الخطّاب (3): حكمُ من تنصَّر من تَنُوخَ وبَهْراء، أو تهوَّدَ من كِنانة وحِمْير، أو تمجَّس من تميمٍ (4) = حكمُ بني تغلب سواءً. وهذا مخالفٌ لنص أحمد ولعموم الأدلة، فلا يُلتفَت إليه، وإنما أُخِذ ذلك قياسًا على نصارى بني تغلب، وقد حكينا كلام الشافعي أن هذا الحكم في نصارى بني تغلب وتنوخ وبهراء، والمحفوظ عن عمر - رضي الله عنه - إنما هو في نصارى بني تغلب خاصةً. وقد ظنَّ القاضي وأبو الخطّاب أن ذلك لكونهم عربًا، فألحقوا بهم هذه القبائل، وهذا لا يصح، وقد نص أحمد على الفرق كما ذكرنا نصوصه. قال الشيخ في "المغني" (5): ولنا عموم قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا _________ (1) في الأصل: "عليهم". والتصويب من "الجامع". (2) قول الزهري أخرحه يحيى بن آدم (201) عن ابن المبارك عن يونس عنه. (3) انظر: "المغني" (13/ 226). (4) في الأصل: "فهم"، وفي هامشه: "تهم" بعلامة خ. والتصويب من "المغني". (5) (13/ 226).

(1/120)


اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إلى اليمن فقال: "خُذْ من كل حالمٍ دينارًا" وهم عرب، وقبِلَ الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعبٍ. قال الزهري: أول من أعطى الجزية أهلُ نجران، وكانوا نصارى (1). وأخذَ الجزيةَ من أُكيدِرِ دُومةَ وهو عربي. وحكم الجزية ثابتٌ بالكتاب والسنة في كل كتابيٍّ، عربيًّا كان أو غير عربي، إلا ما خُصَّ به بنو تغلب لمصالحة عمر - رضي الله عنه - إياهم، ففي من عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة. ولم يكن بين [غير] بني تغلب وبين أحدٍ من الأئمة صلحٌ كصلحِ بني تغلب فيما بلغنا، ولا يصح قياسُ غير بني تغلب عليهم لوجوهٍ: أحدها: أن قياس سائر العرب عليهم مخالفٌ للنصوص التي ذكرناها، ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفةُ النص. الثاني: أن العلة في بني تغلب الصلح، ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلُّف العلة. الثالث: أن بني تغلب كانوا ذوي قوةٍ وشوكةٍ، لَحِقوا بالروم وخِيفَ منهم الضرر إن لم يُصالَحوا، ولم يوجد هذا لغيرهم. فإن وُجِد هذا لغيرهم فامتنعوا من أداء الجزية، وخِيفَ الضررُ بترك مصالحتهم، فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة= جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة. وقد ذكر ذلك الشيخ أبو إسحاق في _________ (1) تقدَّم تخريجه.

(1/121)


"المهذَّب" (1)، ونص عليه أحمد. والحجة في هذا قصةُ بني تغلب وقياسهم عليهم. قال علي بن سعيد (2): سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ، ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صُولِحوا على أن تُؤخذ منهم، كما صنع عمر - رضي الله عنه - بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم، إذا كانوا في معناهم. أما قياس من لم يُصالَح عليهم في جعلِ جزيتهم صدقةً فلا يصح، والله أعلم، انتهى (3). فصل (4) وأما مناكحتهم وحلُّ ذبائحهم ففيها قولان للصحابة، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا تحلُّ، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (5) والشافعي رحمه الله تعالى. وطردَ الشافعي المنعَ في ذبائح العرب من أهل الكتاب _________ (1) (3/ 307). (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 142). (3) أي انتهى النقل من "المغني". (4) انظر "المغني" (13/ 228). (5) أخرجه عبد الرزاق (10034) وابن أبي شيبة (16447) والطبري في "تفسيره" (8/ 133) وفي "تهذيب الآثار" (ص 226 - مسند علي) من طرق صحاحٍ وحسان.

(1/122)


كلهم (1). واختُلِف في مأخذ هذا القول فقالت طائفةٌ: لم يتحقق دخولهم في الدين قبل التبديل، فلا يثبت لهم حكم أهل الكتاب (2). وهذا المأخذ جارٍ على أصل الشافعي، وقد عرفتَ ما فيه. وقالت طائفةٌ أخرى: إنهم لم يدينوا بدين أهل الكتاب، بل انتسبوا إليه ولم يتمسكوا به عملًا. وهذا مأخذ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنه قال: إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر (3). وهذا المأخذ أصح وأفقه. والقول الثاني: أنه تحلُّ مناكحتهم وذبائحهم، وهذا هو الصحيح عن أحمد، رواه عنه الجماعة، وهو آخر الروايتين عنه. قال إبراهيم بن الحارث: وكان آخر قوله أنه لا يرى بذبائحهم بأسًا (4). وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - (5)، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (6)، وبه قال الحسن والنخعي والشعبي وعطاءٌ الخراساني والحكم _________ (1) انظر: "الأم" (3/ 606). (2) "المهذب" (1/ 457). (3) جزء من أثر عليٍّ الذي سبق تخريجه آنفًا. (4) "الجامع" للخلال (2/ 440). (5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1407)، وابن أبي شيبة (16451) والطبري في "تفسيره" (8/ 130، 132) وفي "تهذيب الآثار" (ص 228 - مسند علي)، من طرق عنه. (6) أخرجه البيهقي في "السنن الكبير" (9/ 216، 284).

(1/123)


وحمادٌ وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه. قال الأثرم (1): وما علمتُ أحدًا كرهه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عليًّا - رضي الله عنه -. وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]، ولأنهم أهل كتابٍ يُقَرُّون على دينهم ببذل المال، فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل. فصل وقعت مسألة: وهي هل يصح ضمان الجزية عمن هي عليه أم لا؟ فكان الجواب: لا يخلو إما أن يكون الضامن مسلمًا أو كافرًا: فإن كان مسلمًا لم يصح ضمانه؛ لأن الجزية صَغارٌ وإذلالٌ (2)، فلا يجوز للمسلم أن يضمنه عن الكافر؛ لأنه يصير مطالَبًا بها، وهو فرعٌ على المضمون عنه، فلا يصح ذلك، كما لو ضمن ما عليه من العقوبة. وإن كان الضامن ذميًّا، فإن ضمِنَها بعد الحول صح ضمانه، لأنه ضمن دَينًا مستقرًّا على من هو في ذمته، وإن كان بعرض السقوط (3) بالإسلام فهذا لا يمنع صحة الضمان، كما يصح ضمان الصداق قبل الدخول وإن كان _________ (1) انظر: "الجامع" للخلال (2/ 440). (2) "وإذلال" ساقطة من المطبوع. (3) في المطبوع: "بمعرض من السقوط".

(1/124)


بعرض سقوطه كله أو نصفه، و [يصح] ضمان ثمن المبيع (1) قبل قبضه، وإن كان بصدد السقوط بتلفه. وإن ضمنها قبل الحول فهذا ينبني على ضمان ما لم يجب، والجمهور يصحِّحونه والشافعي يُبطِله، فإذا صححناه صحَّ ضمان الذمي للجزية، كما يصح ضمان ما يُدايِنه به أو ما يُتلِفه عليه، وغايته أنه ضمانٌ معلَّقٌ بشرطٍ، وذلك لا يُبطله، فإن الضمان يجري مجرى النذر، فإنه التزامٌ، فلا يُنافيه التعليق بالشرط. ولأصحاب الشافعي وجهان في صحة ضمان المسلم للجزية عن الذمي. قال بعضهم: وذلك مبنيٌّ على أنه هل يجب عند أداء الجزية الصَّغارُ من جَرِّ اليد والانتهار والإذلال أم لا؟ فإن أوجبناه لم يصح الضمان، وإن لم نُوجِبه صح. قال الجويني في "نهايته" (2): والأصح عندي تصحيح الضمان، فإن ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه. قلت: وعلى هذا المأخذ فينبغي أن لا يصح ضمان الذمي أيضًا للجزية؛ لأنه يُفضي إلى سقوط الصَّغار عن المضمون عنه إذا أدَّى الضامن، كما أجْرَوا الخلافَ في توكيل الذميِّ الذميَّ في أداء الجزية عنه. _________ (1) في المطبوع: "البيع". (2) "نهاية المطلب" (18/ 17).

(1/125)


ولم أر لأصحابنا في هذه المسألة كلامًا إلا ما ذكره أبو عبد الله بن حمدان في "رعايته" (1) فقال: وهل للمسلم أن يتوكَّل لذمي في أداء جزيته أو أن يضمنها عنه أو أن يحيل الذمي عليه بها؟ يحتمل وجهين أظهرهما المنع، انتهى. وعلى هذا يجري الخلاف فيما إذا تحمَّلَها عنه مسلم أو ذمي، والحَمالة أن يقول: أنا ملتزمٌ لما على فلانٍ بشرط براءة ذمته منه. وقد اختلف الفقهاء في أصل هذه الحمالة. فالشافعي وأحمد لا يصحِّحانها، هكذا ذكره أصحابه عنه، ولا نصَّ له في المنع، والصحيح الجواز، وهو مقتضى أصوله، وهو اختيار شيخنا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. قالت الحنفية (2): المضمون له بالخيار، إن شاء طالب الأصل وإن شاء طالب الضامن، إلا إذا اشترط فيه براءة الأصل، فحينئذٍ تنعقد حوالةً اعتبارًا بالمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ المحيلُ تكون كفالةً. فعندهم تصح الحوالة بشرط أن لا يبقى الدَّين في ذمة المحيل، وينقلب ضمانًا، ويصح الضمان بشرط براءة المضمون عنه، وتنقلب حوالةً. وهذا صحيح لا يخالف نصًّا ولا قياسًا، ولا يتضمَّن غررًا، فالصواب القول به. والمقصود أن المسلم لو تحمَّل عن الذمي بالجزية لم يصح تحملُه، _________ (1) لم أجد كلامه في "الرعاية الصغرى" و"الكبرى". (2) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 3، 4).

(1/126)


وإن تحمَّل بها ذمي آخر عنه احتمل وجهين. والذي يظهر في هذا كله: التفصيل في مسألة الحوالة والحمالة والضمان والتوكيل في الدفع، أنه إن فعله لعذرٍ من مرضٍ أو غَيبةٍ أو حبسٍ ونحوه جاز، وإن فعله غيرةً وأنفةً وهربًا من الصَّغار لم يجز ذلك، والله أعلم. فصل في السَّامرة واختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا؟ فذهب الجمهور إلى إقرارهم بالجزية، وتردَّد الشافعي فيهم، فمرةً قال: لا تؤخذ منهم الجزية، وقال في موضع آخر: تؤخذ منهم (1). وقال في "الأم" (2): يُنظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون اليهود في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضرَّ مخالفتهم، فيُقَرُّون على دينهم فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقَرُّوا على دينهم ببذل الجزية. هذا نقل الربيع عنه. وأما المزني (3) فنقل عنه أنهم صنفٌ من اليهود فتؤخذ منهم الجزية. واختلف أصحابه في حكمهم، فقال بعضهم: يقرون بالجزية، وقال بعضهم: لا يقرون بها. وقال أبو إسحاق المروزي: لم يكن الشافعي يعرف _________ (1) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 11). (2) (5/ 435) بمعناه. (3) في "مختصره" (ص 384).

(1/127)


حقيقة أمر دينهم، فتوقف في ذلك، ثم بان له أنهم من جملة أهل الكتاب، فرجع إلى ذلك وألحقهم بهم (1). وهذا الذي قاله المروزي هو الصواب المقطوع به، وغَلِط من قال: لا يقرون بالجزية ويقر المجوس بها لأن لهم شبهة كتابٍ. وهذا من العجب أن يُقَرَّ قومٌ يعبدون النار، ويعتقدون أن للعالم إلهينِ اثنين النور والظلمة، ولا يؤمنون ببعثٍ ولا نشورٍ، ولا أن الله يبعث من في القبور، ويرون نكاح الأمهات والبنات، ولا يؤمنون برسولٍ ولا يحرِّمون شيئًا مما يحرِّمه الأنبياء؛ ولا يُقَرُّ السامرة بالجزية مع أنهم يؤمنون بموسى والتوراة، ويَدينون بها، ويؤمنون بالمعاد والجنة والنار، ويصلُّون صلاة اليهود ويصومون صومهم، ويستنُّون بسنتهم، ويقرؤون التوراة، ويحرِّمون ما يحرِّمه اليهود، ولا يخالفون اليهود في التوراة ولا في موسى وإن خالفوهم في الإيمان بالرسل، فإن السامرة لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ويوشع وإبراهيم فقط، ويخالفونهم في القبلة، فاليهود تصلِّي إلى بيت المقدس، والسامرة تصلِّي إلى جبل عزون (2) ببلد نابلوس، _________ (1) "نهاية المطلب" (18/ 12). (2) كذا في الأصل، وفي "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 220): "غريزيم". ويقال: "جريزيم"، وفي الترجمة العربية للعهد القديم: "جرزيم". وهو جبل يقع جنوبي مدينة نابلس، وتسكن الطائفة السامرية على قمته. انظر: "خطط الشام" لكرد علي (6/ 214). أما عزون فهي بلدة في الضفة الغربية جنوبي مدينة نابلس. وانظر عن "السَّامرة": "مروج الذهب" (1/ 59) و"الفصل" (1/ 82)، و"المواعظ والاعتبار" (4/ 384، 385). ومناظرة المؤلف مع أحدهم في "بدائع الفوائد" (4/ 1606، 1607).

(1/128)


وتزعم أنها القبلة التي أمر الله موسى أن يستقبلها، وأنهم أصابوها وأخطأتها اليهود، وأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلوس، وهو عندهم الطور الذي كلَّم الله عليه موسى، فخالفه داود وبناه بإيليا، فتعدَّى وظلَمَ بذلك. ولغتهم قريبةٌ من لغة اليهود وليست بها. وهم فرقٌ كثيرةٌ تشعَّبت عن فرقتين: دوسانيةٍ وكوسانيةٍ (1). فالكوسانية تُقِرُّ بالمعاد وحشر الأجساد والجنة والنار، والدوسانية تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا. وبينهما اختلافٌ في كثيرٍ من الأحكام. وهذه الأمة من أقلِّ الأمم في الأرض وأحمقها، وأشدِّها مجانبةً للأمم، وأعظمِها آصارًا وأغلالًا. وإذا أردتَ معرفة نسبتهم إلى اليهود فهم فيهم كالرافضة في المسلمين. وهذه الأمة لم تحدث في الإسلام، بل هي أمةٌ موجودةٌ قبل الإسلام وقبل المسيح، وقد فتح الصحابة الأمصار، فأجمعوا على إقرارهم بالجزية، وكذلك الأئمة والخلفاء بعدهم، فعدمُ إقرارهم بالجزية تخطئةٌ لهم، وهذا مما لا سبيلَ إليه. فصل في الصابئة وقد اختلف الناس فيهم اختلافًا كثيرًا (2)، وأشكل أمرهم على الأئمة _________ (1) في "الملل والنحل" (ص 219): "دوستانية وكوستانية". (2) انظر: "الفصل" لابن حزم (1/ 36، 37)، و"الملل والنحل" (ص 259 - 298)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 1008 - 1015)، و"مفتاح دار السعادة" (2/ 1002، 1172).

(1/129)


لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم. فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: هم صنفٌ من النصارى. وقال في موضع: يُنظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضرَّ مخالفتهم (2) فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقَرُّوا على دينهم ببذل الجزية. واختلف أصحابه (3) فقال أبو سعيد (4) الإصطخري: ليسوا من النصارى، ولا يجوز إقرارهم على دينهم، قال: لأنهم يقولون: إن الفلك حيٌّ ناطقٌ، وإن الكواكب السبعة آلهةٌ، فهم في حكم عبدة الأوثان. واستفتى القاهر بالله العباسي الفقهاء فيهم، فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يُقَرُّون، فأمر بقتلهم، فبذلوا مالًا عظيمًا فتركهم. وأما أقوال السلف فيهم: فذكر سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: هم قومٌ بين اليهود والمجوس ليس لهم دينٌ (5). _________ (1) ينظر: "الأم" (5/ 583، 435، 6/ 17)، و"المغني" (9/ 547). (2) "لم تضر مخالفتهم" ليست في المطبوع. (3) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 11، 12). (4) في الأصل: "أبو سعد" خطأ. انظر ترجمته في "طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 230). (5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 47) عن سفيان به. وأخرجه الطبري (2/ 35، 36) وابن أبي حاتم (1/ 127، 128) من طرقٍ عنه بنحوه.

(1/130)


وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: الصابئة قومٌ يعبدون الملائكة (1). قال محمد بن جريرٍ (2): واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل، فقال بعضهم: يلزم كلَّ من خرج من دينٍ إلى غير دينٍ. وقالوا: الذي عنى الله بهذا الاسم قومٌ لا دينَ لهم. ثم ذكر عن عبد الرزاق عن سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون قومٌ ليسوا يهودَ ولا نصارى، ولا دينَ لهم. وحكى عن حجاجٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم. وقال ابن جريجٍ: قلت لعطاءٍ: الصابئون زعموا أنهم ليسوا بمجوسٍ ولا يهود ولا نصارى، قال: قد سمعنا ذلك. وقال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ: الصابئون أهل دينٍ من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبي إلا قول "لا إله إلا الله"، قال: ولم يؤمنوا برسولٍ لله عز وجل، فمِن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يُشبِّهونهم بهم. _________ (1) لم أجده من طريق شيبان، وقد أخرجه الطبري (2/ 37، 16/ 485) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه ــ وسيأتي قريبًا ــ، ومن طريق معمر عنه. (2) في "تفسيره" (2/ 35 - 37)، والآثار الآتية كلها منه.

(1/131)


وقال سعيد عن قتادة: هم يعبدون الملائكة، ويُصلُّون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور. وقال سفيان عن السدِّي: هم طائفةٌ من أهل الكتاب. وقال ابن جريرٍ (1): الصابئ المستحدِث سوى دينه دينًا، كالمرتدِّ من أهل الإسلام عن دينه، وكلُّ خارجٍ من دينٍ كان عليه إلى آخَر غيرِه تُسمِّيه العرب صابئًا، يقال منه: صبأ فلانٌ يصبأ صبأً، ويقال: صَبَأتِ النجوم إذا طلعت، وصَبَأ علينا فلانٌ إذا طلع. قلت: الصابئة أمةٌ كبيرةٌ فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمنٍ وكافرٍ، فإن الأمم قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان: نوع كفّارٌ أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس. ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة. وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61]. وكذلك قال في المائدة (2). _________ (1) في "تفسيره" (2/ 34). (2) الآية 69: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

(1/132)


وقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، فلم يقل هاهنا: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر)؛ لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا، فذكر ستَّ أممٍ، منهم اثنتان شقيتان، وأربع أممٍ منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أممٍ ليس إلا. ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلهما معهم، فعُلِم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد. وهذه أمةٌ قديمةٌ قبل اليهود والنصارى، وهم أنواعٌ: صابئةٌ حنفاء وصابئةٌ مشركون. وكانت حرَّان دارَ مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتبٌ وتآليف وعلومٌ، وكان في بغداد منهم طائفةٌ كبيرةٌ، منهم إبراهيم بن هلالٍ الصابئ (1) صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفةٌ، ولهم مقالاتٌ مشهورةٌ ذكرها أصحاب المقالات (2). وجملة أمرهم أنهم لا يكذِّبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم فهو سعيد ناجٍ، وأن من أدرك بعقله ما دَعَوا إليه فوافقَهم فيه _________ (1) من الكتّاب المشهورين، توفي سنة 384. انظر ترجمته في "يتيمة الدهر" (2/ 242 وما بعدها)، و"معجم الأدباء" (1/ 130 - 158)، و"وفيات الأعيان" (1/ 52 - 54، 392 - 393) وغيرها. (2) انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 259 وما بعدها). وقد اعتمد عليه المؤلف في بيان عقائدهم.

(1/133)


وعمل بوصاياهم فهو سعيد وإن لم يتقيَّدْ بهم. فعندهم دعوةُ الأنبياء حقٌّ، ولا تتعيَّن طريقًا للنجاة. وهم يُقِرُّون أن للعالم صانعًا مدبرًا حكيمًا منزَّهًا عن مماثلة المصنوعات، ولكنْ كثير منهم أو أكثرهم قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط، والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدَّسين، المطهَّرين عن المواد الجسمانية، المبرَّئين عن القوى الجسدية، المنزَّهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جُبِلوا على الطهارة وفُطِروا على التقديس. قالوا: وإنما أرشدنا إليهم معلِّمنا الأول هرمس، فنحن نتقرب إليهم وبهم، وهم آلهتنا وشفعاؤنا عند ربِّ الأرباب وإله الآلهة، فالواجب علينا أن نطهِّر نفوسنا عن الشبهات الطبيعية ونهذِّب أخلاقنا عن علائق القوة الغضبية (1)، حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، فحينئذٍ نسأل حاجاتنا منهم، ونَعرِض أحوالنا عليهم، ونَصْبُو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهر (2) والتهذيب لا يحصل إلا برياضتنا وفطامِ أنفسنا عن دَنِيَّات الشهوات، وذلك إنما يتمُّ بالاستمداد من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرُّع والابتهال بالدعوات، وإقامةِ الصلوات وإيتاء الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات مع العزائم، _________ (1) في المطبوع: "العصبية"، تصحيف. (2) كذا في الأصل. وفي المطبوع: "التطهير".

(1/134)


ليحصل لنفوسنا استعدادٌ إلى الاستمداد العالي من غير واسطةٍ، فيكون حكمنا وحكم الأنبياء في ذلك واحدًا. قالوا: والأنبياء أَتَوا بتزكية النفوس وتهذيبها وتطهير الأخلاق من الرذائل، فمن أطاعهم فهو سعيد. قالوا: والروحانيات هي الأسباب المتوسطة في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وهي تستمدُّ القوة من الحضرة القدسية، وتُفِيض الفيضَ على الموجودات السُّفلية، فمنها مدبِّرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها، فلكل روحاني هيكلٌ وهو فلكٌ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختصَّ به نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربُّه ومُدِيره (1) ومدبِّره. ويقولون: الهياكل آباءٌ، والعناصر أمهاتٌ، فتفعل الروحانياتُ تحريكَها على قدرٍ مخصوصٍ، ليحصل من حركتها انفعالاتٌ في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيباتٌ وامتزاجاتٌ في المركبات، فتتبعها قُوًى نفسانية (2)، وتركبت عليها نفوسٌ روحانيةٌ مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان (3)، ثم قد تكون التأثيرات كليةً صادرةً عن روحاني كلي، وقد تكون جزئيةً صادرةً عن روحاني جزئي. ومنها مدبِّرات الآثار العُلْوية الظاهرة في _________ (1) "ومديره" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و"الملل والنحل" (ص 261). (2) "فتتبعها قوى نفسانية" ساقطة من المطبوع. (3) في المطبوع: "الحيوانات" خلاف الأصل.

(1/135)


الجوّ كالمطر والثلوج والبرد والرياح والصواعق والشُّهب والرعد والبرق والسحاب، والآثار السُفْلِية كالزلازل والمياه وغيرها. قالوا: ومدبّراتٌ هاديةٌ شائعة (1) في جميع الكائنات حتى لا يُرى موجودٌ (2) ما خالٍ عن قوةٍ وهدايةٍ بحسب قبوله واستعداده. وأما أحوال الروحانيات من الرَّوح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والفرح والسرور في جِوار ربِّ الأرباب فمما لا يخطر على قلب بشرٍ، طعامهم وشرابهم: التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد، وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فهم بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ وقاعدٍ لا يريد تبديل حالته التي هو فيها بغيرها، إذ لذته وبهجته وسروره فيما هو فيه. قالوا (3): والروحانيات مبادئ الموجودات وموادُّ الأرواح (4)، والمبادئ أشرف ذاتًا وأسبق وجودًا وأعلى رتبةً من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها، فعالَمها عالَمُ الكمال، والمبدأ منها والمعاد إليها، والمصدر عنها والمرجع إليها، والأرواح إنما (5) نزلت من عالمها، حتى _________ (1) في المطبوع: "سارية" خلاف الأصل. (2) في الأصل والمطبوع: "بوجود". والتصويب من "الملل والنحل" الذي نقل عنه المؤلف. (3) انظر: "الملل والنحل" (ص 284). (4) في "الملل والنحل": "وعالمها معاد الأرواح". (5) في الأصل: "لها". والتصويب من "الملل والنحل".

(1/136)


اتصلت بالأبدان، وتوسَّخت بأوضار الأجسام، ثم طهرتْ عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية، حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول، فالنزول هو النشأة الأولى، والصعود هو النشأة الأخرى. قالوا (1): وطريقنا في التوسل إلى حضرة (2) القدس ظاهرٌ وشرعنا معقول، فإن قُدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصًا في مقابلة الهياكل العلوية على نِسَبٍ وإضافاتٍ وهيآتٍ (3) وأحوالٍ وأوقاتٍ مخصوصةٍ، وأوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العُلويات لباسًا وبخورًا وأدعيةً مخصوصةً وعزائم، تقرَّبوا بها (4) إلى رب الأرباب ومسبِّب الأسباب، وتلقينا ذلك عن عاذيمون (5) وهرمس. فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات من دين الصابئة، وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر، وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورَضُوه لأنفسهم، وعقْدُ أمرِهم أنهم يأخذون بمحاسنِ ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهلَ ملةٍ ويعادون أخرى، ولا يتعصَّبون لملّةٍ على ملّةٍ، والملل عندهم نواميسُ لمصالح العالَم، فلا _________ (1) "الملل والنحل" (ص 286). (2) في الأصل: "حضيرة". والمثبت موافق لما في "الملل والنحل". (3) "وهيآت" ساقطة من المطبوع. (4) في المطبوع: "يقربونها" خلاف ما في الأصل و"الملل والنحل". (5) في الأصل: "عاديموت". والتصويب من "الملل والنحل".

(1/137)


معنى لمحاربة بعضها بعضًا، بل يُؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذَّب به الأخلاق، ولذلك سُمُّوا صابئين، كأنهم صَبَأوا عن التعبد بكل ملّةٍ من الملل والانتساب إليها. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: ليسوا يهودَ ولا نصارى ولا مجوس (1)، وهم نوعان: صابئةٌ حنفاء، وصابئةٌ مشركون؛ فالحنفاء هم الناجون منهم، وبينهم مناظراتٌ وردٌّ من بعضهم على بعضٍ (2)، وهم قوم إبراهيم، كما أن اليهود قوم موسى، والحنفاء منهم أتباعه. وبالجملة، فالصابئة أحسن حالًا من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيهٌ على أخذها من الصابئة بطريق الأَولى، فإن المجوس من أخبث الأمم دينًا ومذهبًا، ولا يتمسكون بكتابٍ، ولا ينتمون إلى ملّةٍ، ولا يثبت لهم كتابٌ ولا شبهة كتابٍ أصلًا. ولهذا لما ظهرت فارسُ على الروم فرح المشركون بذلك؛ لأنهم مثلهم ليسوا أهل كتابٍ، وساء ذلك المسلمين، فلما ظهرت الروم على فارس فرح المسلمون (3)، لأن النصارى أقرب إليهم من المجوس من أجل كتابهم. وكل ما عليه المجوس من الشرك، فشركُ الصابئة إن لم يكن أخفَّ منه فليس بأعظم منه. وقد تردَّد الشافعي رحمه الله تعالى في أخذ الجزية منهم في _________ (1) كذا في الأصل غير ممنوع من الصرف، والصواب صرفه. (2) ذكر الشهرستاني هذه المناظرات في "الملل والنحل" (ص 263 - 298). (3) كما في مطلع سورة الروم، وانظر حديث ابن عباس الذي أخرجه أحمد (2495، 2769)، والترمذي (3193)، والنسائي في "الكبرى" (11389) وغيرهم. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

(1/138)


موضع، وقطع بأخذها منهم في موضع، وعلَّق القول في موضعٍ، كما حكينا لفظه (1). فصل فإن قيل: فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية؟ قلنا: ليس له ذلك إلا برضاهم، كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا ربِّ المال، بل الجزية أولى بالمنع، فإنها تسقط بالإسلام وبالموت في أثناء السنة، وتتداخل عند أبي حنيفة، فهي بعرض السقوط قبلَ الحول وبعده. فإن قيل: فهل له أن يأخذ منهم في أثناء السنة بقسطِ ما مضى منها؟ قيل: هذا فيه نزاعٌ؛ فأبو حنيفة يجوِّز أن يأخذ في كل شهرٍ بقسطه، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان. قال أبو المعالي الجويني (2): أظهرهما أنه ليس له ذلك، فإن الطلبة في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرتْ سننُ الماضين وسنن المتقدمين، والجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة. فإن قيل: فما تقولون لو سقط عنه الوجوب في أثناء السنة بموتٍ أو عمًى أو زمانةٍ أو إسلامٍ، هل تؤخذ منه بقسط ما مضى؟ قيل: الصحيح من المذهب أنها تسقط عنه وأن لا يطالب بقسط ما مضى، ومن الأصحاب من لم يحكِ في ذلك نزاعًا، ولكن أبا عبد الله بن حمدان _________ (1) في أول الفصل. (2) في "نهاية المطلب" (18/ 32).

(1/139)


حكى في ذلك وجهين فقال (1): وفيمن (2) أسلم في الحول أو مات أو جُنَّ جنونًا مُطْبقًا أو أُقعِد أو عَمِي وجهان. فإن قيل: فإن اتفق اجتماع ديون الآدميين والجزية فهل تُقدَّم الجزية أو الديون؟ قيل: أما أصحاب الشافعي فبنَوا ذلك على الأصل وقالوا (3): يُنحَى (4) بالجزية نحوَ (5) حقوق الله كالزكاة، أو يُنْحَى (6) بها نحو حقوق الآدميين وليست من القُرَب، فعلى هذا تقع المحاصَّة بينها وبين غيرها من الديون. ومنهم من قال: هي من حقوق الله، فإنه لا مستحقَّ لها معيَّنًا ولا تسقط بإسقاط الآدمي، وهي عقوبةٌ على الكفر وصَغارٌ لأهله. وعلى هذا فيخرج على الأقوال الثلاثة في تقديم حقّ الله أو حقّ الآدمي أو وقوع المحاصَّة. ولأصحاب أحمد أيضًا ثلاثةُ أوجهٍ مثل هذه (7). _________ (1) في "الرعاية الكبرى" (2/ق 31 أ) نسخة تشستربيتي 3541. (2) في الأصل: "ومن". والتصويب من "الرعاية". (3) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 33). (4) قبلها في الأصل: "هذا". ولا موقع لها، وكأنها زائدة. (5) في المطبوع: "مستحق بالجزية يحق" تحريف. (6) في المطبوع: "ويحق" تحريف. (7) كما في "الرعاية الكبرى" (2/ 31 أ).

(1/140)


فصل في الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ الخراج هو جزية الأرض، كما أن الجزية خراج الرقاب، وهما حقّان على رقاب الكفار وأرضِهم للمسلمين، ويتفقان في وجوهٍ ويفترقان في وجوهٍ (1). فيتفقان في: أن كلًّا منهما مأخوذٌ من الكفار على وجه الصَّغار والذلة، وأن مصرفهما مصرف الفيء، وأنهما يَجِبان في كل حولٍ مرةً، وأنهما يسقطان بالإسلام، على تفصيلٍ نذكره إن شاء الله تعالى. ويفترقان في: أن الجزية ثبتت بالنص، والخراج بالاجتهاد. وأن الجزية إذا قُدِّرت على الغني لم تزد بزيادة غناه، والخراج يُقدَّر بقدر كثرة الأرض وقلَّتها. والخراج يجامع الإسلام حيث نذكره إن شاء الله تعالى، والجزية لا تجامعه بوجهٍ؛ ولذلك يجتمعان تارةً في رقبة الكافر وأرضِه ويسقطان تارةً، وتجب الجزية حيث لا خراجَ، والخراج حيث لا جزيةَ. ونحن نذكر كيف أصل الخراج وابتداء وضْعِه وأحكامه، فنقول: الأرض ستة أنواعٍ: أحدها: أرضٌ استأنف المسلمون إحياءها، فهذه أرضُ عُشْرٍ، ولا يجوز أن يوضع عليها خراجٌ بغير خلافٍ بين الأئمة. _________ (1) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 221).

(1/141)


قال أبو الصقر (1): سألت أحمد عن أرضٍ مَواتٍ في دار الإسلام لا يُعرف لها أربابٌ، ولا للسلطان عليها خراجٌ، أحياها رجل من المسلمين؟ فقال: من أحيا أرضًا مَواتًا في غير السواد كان للسلطان عليه فيها العشر، ليس عليه غير ذلك. وقال في رواية ابن منصورٍ (2): والأرضون التي يملكها ربُّها ليس فيها خراجٌ، مثل هذه القطائع التي أقطعها عثمان في السواد (3) لسعدٍ وابن مسعودٍ [وخبَّابٍ]. وقد استشكل القاضي (4) هذا النص، وتأوله على أنَّ عثمان أقطعَهم منافعَها، وأسقط الخراج على وجه المصلحة؛ لأن أرض السواد فُتِحتْ عَنْوةً فهي خراجيةٌ، وظاهر النص أن هذه الأرض قد صارت ملكًا لهم بإقطاع الإمام، وإذا ملكوها ملكوها (5) بمنافعها، والخراج من جملة منافعها، فإنه جارٍ مجرى الأجرة، فيملكونه بمِلْك منافعها، إذ لا يجب للإنسان على نفسه خراجٌ، فكأنه ملَّكهم الأرضَ وخراجَها. _________ (1) كما في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 162). (2) المصدر نفسه (ص 163). ومنه الزيادة بين معكوفتين. وهو في "المسائل" بروايته (1/ 245). (3) "في السواد" ساقطة من المطبوع. (4) أي أبو يعلى في المصدر السابق. (5) "ملكوها" الثانية ساقطة من المطبوع.

(1/142)


فصل النوع الثاني: أرضٌ أسلم عليها طوعًا من غير قتالٍ، فهي لهم (1)، لا خراجَ عليها، وليس فيها سوى العشر. وهذا كأرض (2) المدينة وأرض اليمن وأرض الطائف وغيرها. نصَّ على ذلك أحمد في رواية حربٍ (3) فقال: أرض العشر (4): الرجل يسلم بنفسه من غير قتالٍ وفي يده أرضٌ، فهو عُشْر. وقال في موضع آخر: أرض العشر: الرجل يسلم وفي يده أرضٌ فهو عُشْر، مثل مكة والمدينة. وأما قوله في رواية حنبلٍ (5): "من أسلم على شيء فهو له، ويؤخذ منه خراج الأرض"، فليس مراده أن يسلم على أرضه التي كانت بيده قبل الإسلام بغير خراجٍ؛ لأنه قد صرح أنه ليس في هذه الأرض غير العشر، وإنما مراده أنه يسلم وفي يده أرضٌ خراجيةٌ فتحها الإمام عَنْوةً، فهذه لا يسقط الخراج بإسلام من هي في يده كما سنذكره. _________ (1) كذا في الأصل. وفي المطبوع: "له". (2) في المطبوع: "كان في" بدل "كأرض" تحريف. (3) كما في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 163). (4) "العشر" ساقطة من المطبوع. (5) في "الأحكام السلطانية" (ص 163).

(1/143)


فصل النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا، فهذه فيها روايتان (1): إحداهما: أنها تكون غنيمةً تُقسم بين الغانمين كالمنقول، وتكون أرضَ عُشرٍ لا خراجَ عليها كما أحياه المسلمون. الثانية: أن الإمام بالخيار، إن شاء قسمَها وكانت كذلك عُشْريةً غيرَ خراجيةٍ، وإن شاء وقفَها على المسلمين ويضرب عليه خراجًا يكون كالأجرة لها، غيرَ مقدَّرِ المدة بل إلى الأبد، فهذه عُشْريةٌ خراجيةٌ. فإن استمرت في يد الكفار ففيها الخراج، زرعوها أو لم يزرعوها، ولا عُشْرَ عليهم، وإن أسلموا لم يُسقِط الإسلام خراجَها، ويجب عليهم فيها العُشْرُ، فيجتمع العشر والخراج بسببين مختلفين، العُشْر على المُغَلّ والخراج على رقبة الأرض، هذا قول الجمهور. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجتمع العُشر والخراج في أرضٍ (2)، بل إن أُخِذ ممن هي في يده الخراجُ لم يؤخذ منه العشر، وإن أُخِذ منه العشرُ لم يؤخذ منه الخراج. ورُوي في ذلك حديث باطلٌ لا أصلَ له، وليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع العُشْر والخراج" (3). _________ (1) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 163)، و"المغني" (4/ 189)، و"الفروع" (10/ 296). (2) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 215)، و"المغني" (4/ 199)، و"الاختيار لتعليل المختار" (1/ 114). (3) يراجع في تضعيفه وبيان بطلانه: "الكامل" لابن عدي (7/ 2710)، و"المجروحين" (3/ 124)، و"المجموع" (5/ 455)، و"فتح القدير" لابن الهمام (6/ 41، 42). قال شيخ الإسلام: إن المرفوع منه كذب باتفاق أهل الحديث، "مجموع الفتاوى" (25/ 55) و"منهاج السنة" (7/ 430). وإنما روي عن عكرمة مقطوعًا من قوله. أخرجه يحيى بن آدم (ص 24) وابن زنجويه (382). وانظر: "الأموال" لأبي عبيد (1/ 173)، و"الاستخراج" لابن رجب (ص 452).

(1/144)


وشبهة هذا القول أن الخراج في الأصل إنما هو جزية الأرض، فهو بمنزلة خراج الرؤوس، فهو على الكفار بمنزلة الجزية على رؤوسهم، وهو عوضٌ عن العُشر الذي يجب بالإسلام وبدلٌ عنه، فلو لم يوضع على الأرض لتعطَّلتْ إذا كانت مع كافرٍ عن العشر والخراج، فكان في ذلك نقصٌ على المسلمين فقام خراجُها مقام العُشْر، فإذا أسلموا أخذوا بالعشر، ولم يُجمع عليهم بين العشر والخراج في حال الإسلام، كما لم يُجمع عليهم بينهما في حال الكفر، بل إذا سقطت الجزية بالإسلام ــ وهي خراج الرؤوس ـــ فكذلك الخراج الذي هو جزية الأرض. ولهذا كره الصحابة - رضي الله عنهم - للمسلم الدخول في أرض الخراج؛ لأنه يسقط ما عليها من الخراج بدخوله فيها. وأما الجمهور فنازعوه في ذلك وقالوا: الخراج على رقبة الأرض زُرِعتْ أو لم تُزرع، والعُشْر في مُغَلِّها سواءٌ كانت مِلكًا أو عاريةً أو إجارةً، ولم يوضع الخراج بدلًا عن العشر، بل وُضِع حقًّا للمسلمين في رقبة الأرض. وإنما لم يجتمع على الكافر العشر والخراج لأن العُشر زكاةٌ وليس من أهلها، فلا تُؤخذ منه كما لم تؤخذ من مواشيه وأمواله. قالوا: وإنما كره الصحابة - رضي الله عنهم - الدخولَ في أرض الخراج؛ لأن

(1/145)


المسلم إذا دخل فيها التزم ما عليها من الخراج وهو صَغارٌ في الأصل، فلا ينبغي أن يلتزمه ويُقِرَّ به، ولما كان تابعًا للأرض كان باقيًا ببقائها تابعًا لها، ويزول بزوالها وتعطَّل نفعها، كما تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء. ولا تَنافِيَ بين اجتماع الحقَّين في العين الواحدة بسببين مختلفين، كما يجب عليه في الصيد المملوك إذا أتلفه في الإحرام قيمتُه لمالكه والجزاءُ لحقِّ الله، وكما لو قتل أمةً بالزنا غُرِّم قيمتها لسيدها ولزِمه الحدُّ لحقِّ الله سبحانه، وكذلك لو قتل عبدًا خطأً لزِمتْه قيمته لسيده والكفَّارة للمساكين، ونظائر ذلك كثيرةٌ. وهذا النوع من الأرض هو المعروف بوضع الخراج. فصل ويجوز بيع هذه الأرض وهبتها ورَهْنها وإجارتها، ونص الإمام أحمد في رواية ابنه صالحٍ (1) على جواز جعلها صداقًا. وهذا صريحٌ في جواز بيعها وهبتها. وقال بعض المتأخرين من أصحابه: لا يجوز نقل الملك فيها، لأنها وقفٌ فلا يجوز بيعها. وهذا ليس بشيء، فإنها تُورَث بالاتفاق والوقف لا يُورَث، وتُجعل صداقًا بالنص والوقف لا يجوز فيه ذلك. ومنشأ الشبهة أنهم ظنوا أن وقفها بمنزلة سائر الأوقاف التي تجري مجرى إعتاق العبد وتحريره لله. وهذا غلطٌ، بل معنى وقفها تركُها على حالها لم يقسمها بين الغانمين، لا أنه أنشأ تحبيسها وتسبيلها على المسلمين، _________ (1) لم أجدها في "مسائله"، وطبعتها ناقصة.

(1/146)


هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عمر ولا أحدٌ من الأئمة بعده، بل وقفُها هو ترك قسمتها وإبقاؤها على حالها، وضربُ الخراج عليها يؤخذ ممن تكون في يده، والوقف إنما امتنع بيعه لما في بيعه من إبطال وقفيته، وأما هذه فإذا بيعت أو انتقل الملك فيها فإنها تنتقل خراجيةً كما كانت عند الأول. وحق المسلمين في الخراج، وهو لا يسقط بنقل الملك، فإنها تكون عند المشتري كما كانت عند البائع، كما تكون عند الوارث كما كانت عند موروثه (1). ولهذا جاز بيع المكاتب ولم يكن بيعه مُسقِطًا لسبب حريته بالأداء، فإنه ينتقل (2) إلى المشتري كما كان عند البائع. فصل النوع الرابع (3): ما صُولح عليه المشركون من أرضهم على أن يُقِرَّها في أيديهم بخراجٍ يضرب عليها، وتكون الأرض لهم، فهذا الخراج جزيةٌ تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم، وتسقط عنهم بإسلامهم، ولهم بيعُ هذه الأرض والتصرف فيها كيف شاؤوا، فإن تبايعوها بينهم كانت على حكمها في الخراج، وإن بيعت على مسلم سقط عنه خراجها. وإن بيعت من ذمي فهل _________ (1) في المطبوع: "مورّثه" خلاف الأصل. والشخص الذي يموت يُورَث، فهو موروث، والذي يرثه: وارث. وفي القرآن: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ... }. (2) في المطبوع: "لا ينتقل"، وهو يقلب المعنى. (3) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 163)، وللماوردي (ص 228)، و"المغني" (4/ 191)، و"الفروع" (10/ 297).

(1/147)


يسقط عنه خراجها؟ ذكر القاضي (1) فيه احتمالين: أحدهما: لا يسقط خراجها لبقاء كفره. والثاني: يسقط لخروجه بالذمة من عقد من صُولح عليها (2). وقد قال أحمد في رواية ابن منصورٍ (3)، وذُكِر له قول سفيان: ما كان من أرضٍ صولح عليها ثم أسلم أهلها فقد وُضِع الخراج منها (4)، وما كان من أرضٍ أُخِذت عنوةً ثم أسلم صاحبها وُضِعت عنه الجزية وأُقِرَّ على أرضه بالخراج. فقال أحمد: جيدٌ. قال (5): فقد نصَّ على أن الخراج يسقط عن أرض الصلح بالإسلام. قال القاضي: وهذا محمولٌ على أن تلك الأرضين لهم، ولم يُسقِطها عن أرض العنوة؛ لأنها وقفٌ لجماعة المسلمين فهي أجرةٌ عنها. فصل النوع الخامس: أرضٌ جلا عنها أهلُها فخلَّصها المسلمون بغير قتالٍ، فهذه حكمها حكم العنوة، تُترك (6) وقفًا ويُضرب عليها خراجٌ يكون أجرةً _________ (1) في "الأحكام السلطانية" (ص 164). (2) في الهامش: "عليه" بعلامة خ. والمثبت موافق لما في "الأحكام السلطانية". (3) كما في المصدر السابق. وهو في "مسائله" (1/ 246 - 247). (4) كذا في الأصل، وفي المصدرين السابقين: "عنها". (5) أي أبو يعلى في "الأحكام السلطانية" (ص 165). (6) في الأصل: "ترك".

(1/148)


لمن تقرُّ في يده من مسلم وكافرٍ، ولا تتغير بإسلام ولا ذمةٍ. قال أحمد في رواية ابنه صالحٍ وأبي الحارث (1): كلُّ أرضٍ جلا (2) عنها أهلها بغير قتالٍ فهي فيءٌ. فصل النوع السادس: أرضٌ صالحناهم على نزولهم عنها، وتكون ملكًا لنا وتقرُّ (3) في أيديهم بالخراج، فحكم هذه الأرض أيضًا حكم أرض العنوة: أنها تصير وقفًا للمسلمين وتقرُّ في أيديهم بالخراج، ولا يسقط هذا الخراج بالإسلام، ولا يُمنعون من المناقلة فيها، ويكون ذلك مناقلةً عن حق الاختصاص، لا بيعٌ (4) لرقبة الأرض إذ ليست ملكًا لهم، وإنما يُعاوَضون على منفعة الاختصاص. وليس في ذلك إبطال حق المسلمين من رقبة الأرض ولا نفعها، فلا يُمنعون منه، ويكونون أحقَّ بهذه الأرض ما أقاموا على صلحهم، ولا تنتقل من أيديهم سواءٌ أسلموا أو أقاموا على كفرهم، كما لا تُنتزع الأرض من مستأجرها. وإن صاروا ذمةً وضُربت عليهم الجزية لم يسقط عنهم الخراج، بل يُجمع عليهم الخراج والجزية. _________ (1) "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 148، 164). (2) في الأصل: "خلا" تصحيف. (3) في هامش الأصل: "وتعشر" بعلامة خ. (4) كذا في الأصل مرفوعًا.

(1/149)


فصل وأما أصل وضع الخراج، فقال أبو عبيد (1): حدثنا الأنصاري ــ ولا أعلم إسماعيل إلا وقد حدَّثَناه أيضًا ــ عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي مِجْلَزٍ لاحق بن حميدٍ: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث عمار بن ياسرٍ إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم، وعبد الله بن مسعودٍ على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حُنيفٍ على مساحة الأرض، ثم فرض لهم في كل يومٍ شاةً بينهم: شطرها وسواقطها لعمّارٍ، والشطر الآخر بين هذين. ثم قال: ما أرى قريةً يؤخَذ منها كل يومٍ شاةٌ إلا سريعًا خرابها. قال: فمسحَ عثمان الأرضَ، فجعل على جَرِيب (2) الكَرْم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل خمسة دراهم، وعلى جريب القَصَب (3) ستة دراهم، وعلى جريب البُرّ أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين، وعلى أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون بها في كل عشرين درهمًا درهمًا، وجعل على رؤوسهم ــ وعطَّل النساء والصبيان من ذلك ــ أربعةً وعشرين كل سنةٍ، ثم كتب بذلك إلى عمر - رضي الله عنه - فأجازه ورضي به. فقيل لعمر: تجار الحرب كم نأخذ منهم _________ (1) في "الأموال" (182)، وعنه في "المحلى" (6/ 116). وأخرجه أيضًا أبو عبيد (105) وابن أبي شيبة (10826)، وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 43) والبيهقي في "الكبير" (6/ 354، 9/ 136) من طرقٍ عن سعيد به مطولًا ومختصرًا. وأخرجه عبد الرزاق (10128) عن معمر عن قتادة به. وهو مرسل، فإن أبا مجلز لم يُدرك عمر. (2) الجريب: قطعة متميزة من الأرض يختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم. (3) المقصود به قصب السكر.

(1/150)


إذا قدموا علينا؟ قال: فكم يأخذون منكم إذا قدمتم عليهم؟ قالوا: العشر، قال: فخذوا منهم العشر. حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال: وضع عمر - رضي الله عنه - على أهل السواد على كل جريبٍ عامرٍ درهمًا وقفيزًا، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أَقفِزةٍ، وعلى جريب الشجر عشرة دراهم وعشرة أقفزةٍ، وعلى رؤوس الرجال ثمانيةً وأربعين، وأربعةً وعشرين، واثني عشر (1). حدثنا إسماعيل بن مجالدٍ عن أبيه مجالد بن سعيد عن الشعبي أن عمر - رضي الله عنه - بعث عثمان بن حُنيفٍ، فمسح السواد فوجده ستةً وثلاثين ألف ألف جريبٍ، فوضع على كل جريبٍ درهمًا وقفيزًا (2). قال أبو عبيد (3): فأرى حديث الشعبي هذا غير تلك الأحاديث، ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - إنما كان أوجب الخراج على الأرض خاصةً بأجرةٍ مسماةٍ في حديث مجالدٍ، وإنما يذهب (4) الخراج مذهب الكراء، وكأنه أكرى كلَّ جريبٍ بدرهم وقفيزٍ في السنة، وألغى من ذلك النخلَ والشجرَ فلم يجعل لها أجرةً. _________ (1) "الأموال" (184)، وأخرجه ابن أبي شيبة (33381) أيضًا عن أبي معاوية به. (2) "الأموال" (185)، ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (6/ 44). وإسناده ضعيف، إسماعيل بن مجالد وأبوه ضعيفان، ورواية الشعبي عن عمر مرسلة. (3) "الأموال" (1/ 137). (4) في "الأموال": "مذهب".

(1/151)


قال (1): وهذا حجةٌ لمن قال: السواد فيءٌ للمسلمين، وإنما أهلها عمَّالٌ لهم فيها بكراءٍ معلومٍ يؤدونه، ويكون باقي ما تُخرِج الأرض لهم. وهذا لا يجوز إلا في الأرض البيضاء، ولا يكون في النخل والشجر؛ لأن قَبالتهما لا تطيب بشيء مسمًّى، فيكون بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يُخلق. وهذا الذي كرهه الفقهاء من القَبالة. حدثنا شريكٌ، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن زيادٍ الإفريقي قال: قلت لابن عمر: إنَّا نتقبل الأرضَ فنصيب من ثمارها ــ قال أبو عبيد: يعني الفضل ــ قال: ذلك الربا العَجْلان (2). حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميدٍ، عن الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: أتقبَّل منك الأُبُلَّةَ (3) بمائة ألفٍ، فضربه ابن عباس مئةً وصلبه حيًّا (4). حدثنا عبد الرحمن عن شعبة عن جَبَلة بن سُحيمٍ قال: سمعت ابن عمر يقول: القَبالات ربًا (5). حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي هلال عن ابن _________ (1) الكلام مستمر في المصدر السابق. (2) "الأموال" (186). (3) بلدة على شاطئ دجلة في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. انظر: "معجم البلدان" (1/ 77). (4) "الأموال" (187). (5) "الأموال" (189). وأخرجه ابن زنجويه (265) من طريق آخر عن شعبة به.

(1/152)


عباس - رضي الله عنهما - قال: القبالات حرام (1). قال أبو عبيد (2): معنى هذه القَبالة المنهي عنها أن يتقبَّل الرجل النخل والشجر والزرع النابت قبل أن يستحصد ويُدرك، وهو مفسَّرٌ في حديث يروى عن سعيد بن جبيرٍ. ثنا عبَّاد بن العوّام، عن الشيباني قال: سألت سعيد بن جبيرٍ عن الرجل يأتي القريةَ فيتقبلها وفيها النخل والشجر والزرع والعلوج، فقال: لا يتقبلها (3) فإنه لا خير فيها (4). قال أبو عبيد (5): وإنما أصل كراهة هذا أنه بيعُ ثمرٍ لم يبدُ صلاحه ولم يُخلَق بشيء معلومٍ. فأما المعاملة على الثلث والربع وكراء (6) الأرض البيضاء فليسا من القَبالات ولا يدخلان فيها، وقد رُخِّص في هذين، ولا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد هو المعروف عند الأئمة الأربعة، وجعلوا كراء الشجر بمنزلة بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه. _________ (1) "الأموال" (188). وهذا الأثر قبل الأثر السابق في المطبوع. (2) عقب الآثار السابقة. (3) في الأصل: "لا تقبلها". والتصويب من "الأموال". (4) "الأموال" (190). (5) "الأموال" (1/ 138). (6) في الأصل: "وكرى".

(1/153)


ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: ليست إجارة الشجر من بيع الثمر في شيء، وإنما هي بمنزلة إجارة الأرض لمن يقوم عليها ويزرعها ليستغلَّها. وهذا مذهب الليث بن سعدٍ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا (1) وأبو الوفاء بن عقيل، وهو الذي نختاره. وقد فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما حكاه عنه الإمام أحمد في مسائل ابنه صالحٍ (2) أنه قبَّل حديقة أُسيد بن حُضيرٍ ثلاث سنين، وقضى به دينًا كان عليه. ولم ينكره على عمر أحدٌ من الصحابة مع شهرة هذه القصة، وهذا إن لم يكن إجماعًا إقراريًّا فهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولا نعلم له مخالفًا (3). ومن العجب أخذُ أبي عبيد بحديث مجالدٍ ــ وهو ضعيفٌ ــ عن الشعبي عن عمر وهو منقطعٌ، وإنما فيه السكوت عن جريب الشجر، لم يذكره بنفيٍ ولا إثباتٍ، وتركُه حديثَ أبي معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله _________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (20/ 547 - 549، 30/ 224 وما بعدها). وذكره المؤلف في "زاد المعاد" (6/ 519) و"إغاثة اللهفان" (2/ 673)، وابن مفلح في "الفروع" (7/ 130). (2) لم أجده في "مسائله" المطبوعة. وأثر عمر قد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 561) وحرب بن إسماعيل ــ كما في "زاد المعاد" (6/ 522) و"مسند الفاروق" (2/ 45) ــ وابن عساكر في "التاريخ" (9/ 93 - 95) من طرق بنحوه. وصحَّح شيخ الإسلام إسناد حرب في "مجموع الفتاوى" (29/ 479، 30/ 225). (3) في الأصل: "مخالف".

(1/154)


الثقفي، وهؤلاء كلهم أئمةٌ حفّاظٌ، وقد حفظ الثقفي ما لم يحفظ الشعبي وأنه جعل على جريب الكرم عشرة دراهم، قال: ولم يذكر النخل، وهذا يدل على أنه حفظ القصة وميَّز بين ما ذكره وما لم يذكره، فهذا عمر وعثمان بن حُنيفٍ قد وضعا على الشجر أجرةً لازمةً مؤبَّدةً، ولا مخالفَ لهم من الصحابة. وقد صرَّح أبو عبيد والفقهاء بعده بأن الخراج أجرةٌ، قال (1): ومعنى الخراج في كلام العرب إنما هو الكراء والغلَّة، ألا تراهم يسمُّون غَلَّة الأرض والدار والمملوك خراجًا؟ ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (2). وكذلك حديثه الآخر أنه احتجم، حجَمَه أبو طَيبة فأمر له بصاعين، وكلَّم أهله فوضعوا عنه من خراجه (3). فسمَّى الغلَّة خراجًا. فأرض العنوة يؤدِّي أهلُها إلى الإمام الخراج كما يؤدي مستأجر الأرض والدار كراءها إلى ربها _________ (1) "الأموال" (1/ 141). (2) أخرجه أحمد (24224) وأبو داود (3508 - 3510) والترمذي (1285، 1286) والنسائي (4490) وابن حبان (4927، 4928) والحاكم (2/ 15)، والبيهقي (5/ 321 - 322) عن عائشة من طرق ضعيفة أو معلولة. قال أحمد كما في "العلل المتناهية" (2/ 107): ما أرى له أصلًا، وقال البخاري كما في "العلل الكبير" للترمذي (ص 191): حديث منكر. على أن الترمذي قال في الموضع الأول ــ وقد أخرجه من طريقين ــ: حسن صحيح، وفي الثاني: حسن غريب. وصححه ابن حبان والحاكم، وحسَّنه الألباني في "الإرواء" (1315) بمجموع طرقه. وعليه العمل عند أهل العلم، كما ذكره الترمذي وغيره. وانظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 347). (3) أخرجه البخاري (2102) ومسلم (1577) من حديث أنس.

(1/155)


الذي يملكها، ويكون للمستأجر ما زرع وغرس فيها. ولما علم أبو عبيد أن وضع الخراج على جريب الشجر إجارةٌ له قال (1): أرى حديث مجالدٍ عن الشعبي هو المحفوظ. وقام أبو عبيد وقعد في فعل عمر - رضي الله عنه - هذا، وقال (2): لا أعرف (3) وجهه، وهي القبالة المكروهة. وقد بينّا أن حديث الشيباني أصح وأصرح، ويؤيده حديث تقبيل حديقة أُسيد بن حُضيرٍ، ومعه القياس ومصلحة الناس، فإنه لا فرقَ في القياس بين إجارة الأرض لمن يقوم عليها حتى تنبت وبين إجارة الشجر لمن يقوم عليها حتى تطلع، كلاهما في القياس سواءٌ. فإن قيل: مستأجر الأرض هو الذي يبذرها. قيل: قد يستأجرها لما ينبت فيها من الكلأ، وكونه يبذرها مثل قيامه على الشجر بالسقي والزبار (4) والإصلاح، وقد حكم الله سبحانه بصحة إجارة الظئر للبنها (5)، وهو بمنزلة إجارة الشجر لثمرها، وطردُ هذا ما جوَّزه مالك وغيره من إجارة الشاة والبقرة للبنها مدةً معلومةً، وهذا أحد الوجهين في _________ (1) في "الأموال" (1/ 138). (2) "الأموال" (1/ 145). (3) في هامش الأصل: "أعلم" بعلامة خ. (4) قال البعلي في "المطلع" (ص 263): هو في عرف زماننا: تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة، يقطعها بمنجل ونحوه. (5) في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وانظر: "زاد المعاد" (6/ 520)، و"أعلام الموقعين" (2/ 281).

(1/156)


مذهب أحمد اختاره شيخنا (1). والفرق بين إجارة الشجر لمن يخدمها ويقوم عليها حتى تُثمِر، وبين بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها= من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن العقد هنا وقع على بيع عينٍ، وفي الإجارة وقع على منفعةٍ، وإن كان المقصود منها العين فهذا لا يضر، كما أن المقصود من منفعة الأرض المستأجرة للزراعة العين. الثاني: أن المستأجر يتسلَّم الشجر فيخدمها ويقوم عليها كما يتسلَّم الأرض، وفي البيع البائع هو الذي يقوم على الشجر ويخدمها، وليس للمشتري الانتفاع بظلّها ولا رؤيتها ولا نَشْر الثياب عليها، فأين أحد البابين (2) من الآخر؟ الثالث: أن إجارة الشجر عقدٌ على عينٍ موجودةٍ مدةً (3) معلومةً لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع، وتدخل الثمرة تبعًا وإن كان هو المقصود، كما قلتم في نفع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعًا وإن كان هو المقصود. وأما البيع فعقدٌ على عينٍ لم تُخلَق بعدُ، فهذا لونٌ وهذا لونٌ. وسر المسألة: أن الشجر كالأرض، وخدمته والقيام عليه كشقِّ الأرض وخدمتها والقيام عليها، ومُغَلُّ الزرع كمغلّ الثمر، فإن كان في الدنيا قياسٌ _________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 230)، و"زاد المعاد" (6/ 524). (2) في المطبوع: "الرأيين" خطأ. (3) "مدة" ساقطة من المطبوع.

(1/157)


صحيح فهذا منه. وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - من منع القَبالة فليس مما نحن فيه، بل هو من القَبالة الفاسدة، وهي أن يستأجر الرجل الضَّيعةَ بكلِّ ما فيها من زرعٍ وشجرٍ وعُلُوجٍ وما فيها من إجارة بيوتٍ أو حوانيت وغير ذلك، فيتقبل الجميع ويدفع إلى ربها مالًا معلومًا، فهذه إجارةٌ فاسدةٌ تتضمن أنواعًا من المحذور، كما يفعله كثيرٌ من الناس ويسمونها الكراء (1)، ولهذا قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: ذلك الربا. ومعلومٌ أن إجارة الشجر بالدراهم والدنانير لا يدخلها ربًا، والذي منعها لم يمنعها لأجل الربا، وهذا بيِّن في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال له الرجل: أتقبَّلُ منك الأُبلَّة، فلم يطلب منه إجارة الشجر، بل يتقبل البلد كلَّه بما فيه، ويدفع إليه مالًا معلومًا، فهذا لا يجيزه أحدٌ، وقد صرّح بهذا في حديث ابن عباس سعيدُ بن جبيرٍ فقال: الرجل يأتي القريةَ فيتقبلُها وفيها النخل والزرع والشجر والعلوج (2). فهذه هي القَبالات المحرمة، لا التي فعلها أمير المؤمنين وأقرَّه عليها جميع الصحابة، ولا تتمُّ مصلحة الناس إلا به (3)، كما لا تتم مصلحتهم إلا بإجارة الأرض، فإن الرجل يكون له البستان وفيه الأشجار الكثيرة، ولا يمكنه أن يُفرِد كل نوع ببيعٍ إذا بدا صلاحه. _________ (1) في الأصل: "الكرى". وفي هامشه: "البلوى" بعلامة خ. ويمكن أن تكون الكلمة "التّكرِّي". (2) تقدَّم. (3) كذا في الأصل، وفي المطبوع: "بها".

(1/158)


والمساقاة (1) من الفقهاء من يمنعها كأبي حنيفة، ومنهم من يخصُّها بالنخل والكَرْم، ومن جوَّزها في جميع الشجر (2). فقد تتعذر عليه المساقاة في بستانه، والرجل الذي له غرضٌ في الثمار قد لا يُحسِن (3) المساقاة، فتتعطل مصلحة صاحب البستان ومصلحة المستأجر، وفي هذا فسادٌ لا تأتي به الشريعة. ومصلحة الإجارة أعظم مما يقدر فيها من الفساد بكثيرٍ، والشريعة جاءت بتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة. ولما كانت مصالح الناس لا تتم إلا بذلك وضع المانعون حيلًا للجواز، بأن يُؤجِروه بياضَ الأرض بأضعافِ أضعافِ ما تساوي، ثم يساقونه على ثمر الشجر بأدنى أدنى ما يكون، فلا الإجارة مقصودةٌ لهما ولا المساقاة، فقد دخلا على عقدٍ لم يقصده واحدٌ منهما، فالذي قصده هذا وهذا حرامٌ، والذي عقدا عليه لم يقصداه. ولم تكن هذه المسألة من مقصود الكتاب، وإنما وقعت في طريق الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الخراج في الحديث الصحيح المتفق عليه (4) _________ (1) هي أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعملِ سائر ما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره. (2) انظر: "المغني" (7/ 530). (3) في هامش الأصل: "يمس" بعلامة خ. (4) كذا، وإنما أخرجه مسلم (2896) من حديث أبي هريرة، ولم يخرجه البخاري.

(1/159)


من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: "مَنَعتِ العراقُ درهمَها وقَفيزَها (1)، ومنعت الشام دينارها ومُدْيَها (2)، ومنعتْ مصر دينارها وإردَبَّها (3)، وعُدتم كما بدأتم" ثلاث مراتٍ. والمعنى: سيُمْنَع ذلك في آخر الزمان (4). فصل (5) فأما قدر الخراج المضروب فمعتبرٌ بما تحتمله الأرض، نصَّ عليه أحمد في رواية أحمد بن داود (6)، وقد سئل عن حديث عمر - رضي الله عنه -: وضع على جريب الكَرْم كذا، وعلى جريب الزرع كذا، أهو شيء موظَّفٌ (7) على الناس لا يُزاد عليهم أو إن رأى الإمام غيرَ هذا زاد ونقص؟ قال: بل هو على رأي الإمام، إن شاء زاد عليهم وإن شاء نقص. وقال: وهو بيِّنٌ في حديث عمر _________ (1) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، وهو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك صاع ونصف. (2) المُدْي: مكيال معروف لأهل الشام، يسع خمسة عشر مكُّوكًا. (3) الإردبُّ: مكيال معروف لأهل مصر، يسع أربعة وعشرين صاعًا. (4) هذا الحديث من أعلام النبوة، فإن هذه الأقطار الثلاثة لم تكن قد فتحت في عصر النبوة، ففيه إشارة إلى أنها ستُفتح ويجيء حقّ بيت المال من أموالها وغلّاتها، ثم تحدث الفتن وينقطع عنها ذلك. وهذا ما حدث بسبب ضعف الدولة الإسلامية المركزية وتفككها. (5) اعتمد فيه المؤلف على "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 165 - 167). (6) كذا في الأصل. وعند أبي يعلى: "محمد بن داود". وكلاهما من تلاميذ الإمام أحمد كما في "طبقات الحنابلة" (1/ 43، 296)، إلَّا أن محمدًا أشهر، فقد كان من خواصّ أصحابه ورؤسائهم، وكان الإمام يكرمه ويحدّثه بأشياء لا يحدِّث بها غيره. (7) من: وظَّف عليه الخراجَ ونحوه: قدَّره وألزمه. وعند أبي يعلى: "موصوف" تحريف.

(1/160)


- رضي الله عنه -: إن زدتُ عليهم كذا لا يُجهِدهم، إنما نظر عمر - رضي الله عنه - إلى ما تُطيق الأرض. فقد نصَّ على أن ذلك موقوفٌ على اجتهاد الإمام، وليس بموقوفٍ على تقدير عمر - رضي الله عنه -. ونقل العباس بن محمد الخلال عن أحمد أنه قال: والإمام يُصيِّره (1) في أيديهم مقاسمةً على النصف وأقلَّ إذا رضي بذلك الأَكَرة (2)، يُحمِّلُهم بقدر ما يُطيقون. ونصَّ في موضع آخر أنه ليس للإمام أن يقهره على ما أقرَّه عليه عمر - رضي الله عنه -. وقال في رواية يعقوب بن بختان: لا يجوز للإمام أن ينقص، وله أن يزيد. وقال في رواية ابن منصورٍ (3): ووضع عليها عمر - رضي الله عنه - ــ يعني السواد ــ الخراج على كل جريبٍ درهمًا وقفيزًا من الحنطة والشعير، وما سوى ذلك من القصب (4) والزيتون والنخل أشياء موظَّفةً يؤدونها. _________ (1) عند أبي يعلى: "يقره". (2) الأكرة جمع أكّار، وهو الحرَّاث. (3) هو الكوسج، انظر "مسائله" (1/ 244). (4) كذا في الأصل، وفي المصدر المذكور: "القَضْب".

(1/161)


وقال: خراج السواد ــ في (1) حديث عمرو بن ميمونٍ ــ قفيزٌ ودرهمٌ. قال الخلال في "جامعه" (2): أبو عبد الله يقول: إن للإمام النظر في ذلك؛ فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يُطيقون. وقد ذكر ذلك عنه غير واحدٍ، وما قاله عباس الخلال عن أبي عبد الله فهو قولٌ أوَّل له، انتهى. وقد اختلفت الرواية عن عمر - رضي الله عنه - في قدر الخراج، ففي حديث عمرو بن ميمونٍ قال: شهدت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأتاه ابن حُنيفٍ فجعل يكلِّمه، فسمعناه يقول له: آللهِ (3) لئن وضعتُ على كل جريبٍ من الأرض درهمًا وقفيزًا لا يُجهِدها (4). وفي حديث محمد بن عبيد الله الثقفي قال: وضع عمر على أهل السواد على كل جريبٍ عامر أو غامرٍ درهمًا وقفيزًا، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم (5). وذكر الشعبي عن عمر أنه بعث عثمان بن حُنيفٍ إلى السواد، فوضع على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الرطبة أربعة دراهم، وعلى _________ (1) كذا في الأصل. وفي هامشه: "على" بعلامة خ. وكذا عند أبي يعلى. (2) لم أجده في المطبوع منه، والمؤلف ينقل عن "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى. (3) في المطبوع: "تالله" خلاف ما في الأصل و"الأحكام السلطانية". (4) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (108، 191) وابن أبي شيبة (33388) وأبو القاسم البغوي في "مسند ابن الجعد" (148) والبيهقي (9/ 196). (5) تقدَّم.

(1/162)


جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانيةً، وعلى جريب الكَرْم عشرةً (1). هذا ما حكاه أبو عبيد. قال أحمد (2): أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمونٍ. وهذا الاختلاف عن عمر - رضي الله عنه - يدلُّ على أن الخراج ليس بمقدَّرٍ شرعًا بحيث لا تجوز فيه الزيادة ولا النقصان، بل هو باعتبار الطاقة. ويجب أن يكون وضع الخراج مُراعًى في كل أرضٍ بحسب ما تحتمله، وذلك يختلف من جهة جودة الأرض ورداءتها ومن جهة الزرع والشجر، فإن منه ما تكثر قيمته ومنه ما تَقِلُّ، ومن جهة خفَّة مؤونة السقي وكثرتها، فإن منها ما يشرب بالدَّوالي والنَّواضِح (3)، ومنها ما يشرب بالأمطار والأنهار، فلا بدَّ لواضع الخراج من اعتبار هذه الأوصاف، ليعلم قدر ما تحتمله الأرض، فيقصد العدل في وضعه، فلا يُجحِف بأربابها ولا بمستحقي الخراج. ويجب عليه أن يدعَ لأرباب الأرض بقيةً يَجْبُرون بها النوائب والجوائح، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خرص الثمار في الزكاة أن يترك لأهل النخل الثلث أو الربع (4)، _________ (1) تقدَّم. (2) كما في "الأحكام السلطانية" (ص 166). (3) الدوالي جمع دالية، وهي الناعورة أو الساقية يديرها الماء أو الحيوان. والنواضح جمع ناضح، دابة يُستقى عليها. (4) كما عند أحمد (15713) وأبي داود (1605) والترمذي (643) والنسائي (2491) وابن خزيمة (2319) وابن حبان (3280) والحاكم (1/ 402) من حديث عبد الرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل بن أبي حثمة مرفوعًا. وعبد الرحمن هذا لم يوثِّقه معتبر، وبه أعل الحديث ابنُ القطان في "بيان الوهم" (4/ 215) والألباني في "ضعيف أبي داود - الأصل" (2/ 115). ثم إنه قد خولف في رفعه، فقد أخرجه مسدد (922 - المطالب) والحاكم (1/ 403) والبيهقي (4/ 124) من طريق بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة عن عمر أنه قال له لمَّا بعثه إلى خرص التمر: إذا أتيتَ أرضًا فَاخْرِصْها ودَعْ لهم قدر ما يأكلون. قال الحافظ في "المطالب": إسناده صحيح.

(1/163)


وقال: "إن في المالِ السابلةَ والعريَّةَ والواطئة (1) " (2). فصل ووضع الخراج ضربان: أحدهما: أن يوضع على الأرض. والثاني: أن يوضع على الزرع. فإن وُضع على الأرض اعتُبر حولُه بالسنة الهلالية دون الشمسية، وهي التي تُعتبر بها الآجال شرعًا؛ كالزكاة والدية والجزية وغيرها. _________ (1) في الأصل: "الوطنة" تصحيف. والواطئة: ما تأكل السابلة منه، سمَّوها واطئة لوطئهم الأرض. والعرية: ما يعرى للصِّلات في الحياة. انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 187)، ولأبي يعلى (ص 120). (2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (1342) وابن أبي شيبة (10665) وأبو داود في "المراسيل" (118) عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا بنحوه، وليس فيه "السابلة"، إذ الواطئة بمعناها. وروي نحوه عن عمر موقوفًا، كما عند أبي عبيد (1343) والبيهقي (4/ 124) من رواية الأوزاعي عن عمر بلاغًا.

(1/164)


وإن وضع على الزرع؛ فإن جعله مقاسمةً كان معتبرًا بكمال الزرع وتصفيته، وكان ذلك عامَه وأجلَه. وإن وضعه على مَكِيلته وأخذ على كل مقدارٍ معينٍ درهمًا أو نحوه اعتبر أيضًا بكمال الزرع. ووضعُه على رقبة الأرض أحوط؛ لأنه قد يُفرِّط في زرعها فيتعطَّل خراجها، وإذا وضع تأبَّد ما بقيت الأرض على حالها من شربها وقبولها للزرع. فإن تعطَّلت وبارتْ أو انقطع شربها فهو نوعان: أحدهما: أن يكون ذلك من جهة أهلها وهم قادرون على إصلاحها، فهذا لا يسقط الخراج لأنه بمنزلة الإجارة، فإذا عطَّل المستأجر الانتفاع لم تسقط عنه الأجرة. الثاني: أن يكون بسببٍ لا صنعَ لهم فيه، كانقطاع المياه وإجلاء العدو لهم عن أرضهم، وجورٍ لحِقَهم من العمَّال لم تمكنهم الإقامةُ عليه، وتخرب (1) الأرض بالأمطار والسيول ونحو ذلك، فهذا يُسقِط الخراج عنهم حتى تعود الأرض كما كانت، ويتمكنوا من الانتفاع بها. وعلى الإمام أن يَعمُر الأرض من بيت المال من سهم المصالح، ولا يجوز إلزامهم بعمارتها من أموالهم، فإن سألهم أن يَعْمُروها من أموالهم ويَعتدَّ لهم بما أنفقوا عليها من خراجها فرضُوا بذلك جاز، ولم يُجبَروا عليه إلا أن يكون سهم المصالح عاجزًا عن ذلك، ولا يضرُّ بهم عمارتُهم بالخراج، وفي ذلك مصلحةٌ لهم ولأصحاب الفيء، فهذا يسوغ له إلزامهم به. _________ (1) في الأصل: "وعرض". والتصويب من هامشه.

(1/165)


فإن أمكن الانتفاع بتلك الأرض بعد أن بارتْ لصيدٍ أو مرعًى جاز أن يستأنف عليها خراجًا بحسب ما تحتمله، ولا يجوز أن يحمل عليها خراج الأرض العامرة. فإن قيل: فهل للإمام أن يضع على الأرض المَوَات التي لا تزرع خراجًا يكون على مصايدها ومراعيها؟ قيل: لا يجوز ذلك لأنها مباحةٌ، ومَن أحياها ملَكَها، فكيف يجوز أن يوضع عليها الخراج؟ وسئل أحمد عن الصيد في أَجَمةِ قُطْرَبُّل (1)، وقيل له: إنهم يمنعوننا أن نصيد فيها حتى نعطيهم شيئًا، فقال للسائل: احرِصْ على أن لا تعطيهم شيئًا، فإن شارطْتَهم فلا تَخُنْهم (2). فصل (3) فإن زادت منفعة الأرض زيادةً عارضةً لا يُوثق بدوامها، لم يجز أن يزيد في خراجها بذلك، وإن وثق بدوام ذلك راعى المصلحة لأرباب الأرض وأرباب الفيء، واعتمد في الزيادة ما يكون عدلًا بين الفريقين. _________ (1) في المطبوع: "فطَوْبَل" بالواو، جعله المحقق نحتًا من (طوبى لك)، فأبعد النجعة. والصواب ما أثبتناه من الأصل. وقطربل: اسم قرية بين بغداد وعُكبرا ينسب إليها الخمر. انظر "معجم البلدان" (4/ 371). والأجمة: الشجر الكثيف الملتف. (2) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 168). (3) مأخوذ من المصدر السابق (ص 169).

(1/166)


فصل (1) وخراج الأرض ــ إن أمكن زرعها ــ واجبٌ وإن لم تُزرع. نصَّ عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حربٍ، وقد سئل عن رجل في يده أرضٌ من الخراج لم يزرعها يكون عليه خراجها؟ قال: نعم، العامر والغامر. وإذا كان خراج ما أخلَّ (2) بزرعها يختلف باختلاف الزرع= أُخِذ منه فيما أخلَّ بزرعه خراجُ أقلِّ ما يُزرع فيها؛ لأنه لو اقتصر (3) على زرعه لم يعارض فيه. ولو كانت أرض الخراج لا يمكن زرعها في كل عامٍ، بل تُراح في عامٍ أو تُزرع عامًا دون عامٍ= روعي حالها في ابتداء وضع الخراج عليها، واعتُبِر العدل لأهل الأرض وأهل الفيء في خصلةٍ من ثلاثٍ: إما أن يجعل خراجها على الشطر من خراج ما يُزرع في كل عامٍ. وإما أن يمسح كل جريبين منها بجريبٍ، ليكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك. وإما أن يضعه بكماله على مساحة المتروك والمزروع، ويستوفي على أربابه الشطر من مساحة أرضهم. وإذا كان خراج الزرع والثمار مختلفًا باختلاف الأنواع، فزُرِع أو غُرِس _________ (1) هذا الفصل أيضًا مأخوذ من المصدر السابق (ص 169). (2) في الأصل: "أجله" تحريف. والتصويب من المصدر السابق. (3) في الأصل: "افترص" تحريف.

(1/167)


ما لم ينصّ عليه، اعتبر خراجه بأقرب (1) المنصوصات شبهًا به. فصل (2) ولا يجوز أن ينقل أرض الخراج إلى العشر ويعطِّل خراجها، ولا أرضَ العشر إلى الخراج ويعطِّل عشرها، بل إذا كانت خراجيةً وزرعت ما يجب فيه العشر اجتمعا فيها كما تقدم. وإذا سُقي بماء الخراج أرضُ عشرٍ كان المأخوذ منها عُشرا، وإذا سُقي بماء العشر أرضُ خراجٍ كان المأخوذ منها خراجًا اعتبارًا بالأرض دون الماء. وقال أبو حنيفة: يعتبر حكم الماء فيؤخذ بماء الخراج [الخراجُ] وبماء العشرِ العشرُ. وكأنه نظر إلى أن الماء مادة الزرع، والأرض وعاءٌ له، فهو مستودعٌ فيها، كما لو وطئ رجل أمةَ غيره بريبةٍ فأولدها، فالولد للواطئ دون مالك الأمة. واعتبار الأرض أولى؛ لأن الخراج مأخوذٌ عن الأرض لا عن الماء، والزرع إنما يكون في الأرض، نحو من أخذ التراب والهواء المختص بها والبذر، فهذه ثلاثة أجزاءٍ تختص الأرض، والماء جزءٌ من أربعةٍ. وأما مسألة الوطء فهي حجةٌ عليه، فإنه لو وطئها عالمًا بأنها أمة الغير كان الولد لمالك الأم، وإنما ألحق في هذه الصورة بالواطئ للسرية، فإن الولد يتبع اعتقاد الواطئ شرطًا. ولو نَزا فحلٌ على رَمَكةٍ (3) فأولدها كان _________ (1) في الأصل: "أقرب". والمثبت من مصدر المؤلف. (2) اعتمد فيه المؤلف على "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 170). (3) الرمكة: الفرس البِرذَونة تُتّخذ للنسل.

(1/168)


الولد لصاحب الرمكة دون صاحب الفحل بالاتفاق. وأيضًا فالماء ليس عليه خراجٌ ولا عُشر، فلا يعتبر. قال القاضي (1): وعلى هذا الخلاف منع أبو حنيفة صاحبَ الخراج أن يَسقي بماء العشر، ومنع صاحبَ العشر أن يسقي بماء الخراج، ولم يمنع أحمد واحدًا (2) منهما أن يسقي بأي الماءين شاء. وقد قال أحمد في رواية صالحٍ: الخراج مثل الجزية على الرقبة. وقال في رواية ابن منصورٍ (3): وإنما [هو] جزية رقبة الأرض. فدل على أنه على رقبةٍ، فالاعتبار بها دون الماء الذي لم يوضع عليه خراجٌ. فصل (4) وإذا بنى في أرض (5) الخراج دورًا وحوانيت كان خراجها مستحقًّا عليه. هذا ظاهر كلام أحمد، وأنَّ (6) الخراج لا يتوقف على الزرع والغرس، فإنه قال في رواية يعقوب بن بختان، وقد سأله: ترى أن يخرج الرجل عما في يده من دارٍ أو ضَيعةٍ على ما وظّف عمر - رضي الله عنه - على كل جريبٍ فيتصدَّق به؟ _________ (1) في "الأحكام السلطانية" (ص 170). (2) في الأصل: "واحد". (3) "مسائله" (1/ 246). (4) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 170). (5) في الأصل: "الأرض". والمثبت من المصدر السابق. (6) في المطبوع: "لأن". والمثبت من الأصل موافق لما في المصدر السابق.

(1/169)


فقال: ما أجودَ هذا! فقال له يعقوب: بلغني عنك أنك تعطي عن دارك الخراج فتتصدق به، قال: نعم. قلت: إنما كان أحمد يفعل ذلك؛ لأن بغداد من أرض السواد التي وضع عليها عمر الخراج، فلما بُنيت مساكن راعى أحمد حالها الأولى التي كانت عليها من عهد عمر - رضي الله عنه - إلى أن صارت دورًا. قال القاضي (1): وقد قيل: إن ما لا يُستغنى عن بنائه في مقامه في أرض الخراج لزارعها وفلّاحها عفوٌ لا خراجَ عليه؛ لأنه لا يستقلُّ (2) فيها إلا بمسكنٍ يسكنه، وما بناه للكراء والتوسعة التي لا يحتاج إليها فعليه خراجه. قلت: وهذا هو الذي استمر عليه عمل الناس قديمًا وحديثا، وهو غير ما كان يفعله أحمد، على أن أحمد كان يفعل ذلك احتياطًا، ولم يأمر به أهل بغداد عامةً، بل عُدَّ من جملة ورعه أنه كان يُخرِج الخراج عن داره فيتصدق به، وغيره لم يكن يفعل ذلك ولا كان أحمد يُلزِم به الناس، وقد صرَّح أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم أنه لا خراج على المساكن. فصل (3) وإذا آجَرَ (4) أرض الخراج أو أعارها فخراجها على المُؤجِر والمعير. _________ (1) في "الأحكام السلطانية" (ص 170). (2) عند أبي يعلى: "لا يستقر". (3) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص 171). (4) ضبطه في المطبوع: "أجّر". وهو من الأخطاء الشائعة.

(1/170)


وقد قال أحمد في رواية أبي الصقر في أرض السواد يتقبلها الرجل: يؤدِّي وظيفةَ عمر، ويؤدِّي العشر بعد وظيفة عمر. وظاهر هذا أن الخراج على المستأجر، فإنه هو الذي يؤدي العشر. وكذلك قال في رواية محمد بن أبي حربٍ (1). وقد صرَّح به أبو حفصٍ (2) فقال: باب الدليل على أن من استأجر أرضًا فزرعَها كان الخراج والعشر جميعًا عليه دون صاحب الأرض، ثم ساق في هذا الباب رواية أبي الصقر المتقدمة. وقد يُحتجُّ لهذا القول بأن الخراج من تمام تربة الأرض، فهو بمنزلة السقي والحرث وتهيئتها للزراعة بما يصلح لها. والصواب القول [الأول] (3)، فإن منفعة الأرض إنما هي للمُؤجِر، وما يأخذه من الأجرة عوضٌ عن تلك المنفعة، فلا يكون النفع له والخراج على غيره، فانتفاعه بالأرض تارةً يكون بنفسه وتارةً يكون بنائبه (4)، والمستأجر _________ (1) كما في "الأحكام السلطانية" (ص 171). (2) هو العكبري المتوفى سنة 387، له "المقنع" و"شرح مختصر الخرقي". انظر: "طبقات الحنابلة" (2/ 163). وفي مصدر المؤلف "الأحكام السلطانية" (ص 171): "صرّح به أبو حفص في الجزء الثاني من الإجارة". وانظر: "الاستخراج" لابن رجب (ص 407). (3) زيادة ليستقيم المعنى. (4) في المطبوع: "بنيابته" خلاف الأصل.

(1/171)


نائبٌ عنه، وكذلك المستعير إنما دخل على أن ينتفع بالأرض مجَّانًا. والمذهب عند القاضي رواية واحدةٌ، وعند أبي حفصٍ على روايتين. وقد حكى أبو عبد الله (1) بن حمدان في "رعايته" بعد أقوالٍ فقال: وخراج العنوة على ربّها، مسلمًا كان أو كافرًا، وعنه: بل على مستأجرها ومستعيرها، وقيل: بل على المستأجر دون المستعير، وقيل عكسه. قال القاضي (2): وعندي أن كلام أحمد لا يقتضي ما قال أبو حفصٍ؛ لأنه إنما نصّ على رجل تقبَّلَ أرضًا من السلطان فدفعها إليه بالخراج، وجعل ذلك أجرتها، لأنها لم تكن في يد السلطان بأجرةٍ، بل كانت لجماعة المسلمين. والمسألة التي ذكرناها إذا كانت في يد رجل من المسلمين بالخراج المضروب فآجَرها، فإن الثاني لا يجب عليه الخراج، بل يجب على الأول، لأنها في يده بأجرةٍ هي الخراج، وهي في يد الثاني بأجرةٍ عن الخراج. فصل (3) وإذا اختلف العامل وربُّ الأرض في حكمها، فادعى العامل أنها أرض خراجٍ وادعى ربها أنها أرض عشر، وقولهما ممكنٌ، فالقول قول المالك دون العامل، فإن اتُّهِم (4) استحلف. _________ (1) في الأصل: "أبو عبيد الله" خطأ. انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 331) وغيره. (2) في "الأحكام السلطانية" (ص 171). (3) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 171). (4) في الأصل: "اتمها" تحريف.

(1/172)


ويجوز أن يُعتمد في مثل هذا على الشواهد الديوانية السلطانية، إذا عُلِم صحتها ووُثِق بكتابتها، ولم يتطرق إليها تهمةٌ. فصل وإذا ادعى ربُّ الأرض دفْعَ الخراج لم يُقبل قوله، ولو ادعى دفع الزكاة ويعرفها (1) بنفسه قُبِل قوله. والفرق بينهما أن الزكاة عبادةٌ، فهي كالصوم والصلاة والاغتسال من الجنابة، وقول المسلم في ذلك مقبولٌ من غير يمينٍ. وأما الخراج فهو حقٌّ عليه بمنزلة الديون، فلا يُقبل قوله إلا ببينةٍ، فهو كالجزية. فصل ومن أَعسر بالخراج أُنظِر به إلى يساره ولم يسقط، وإن أعسر بالجزية سقطت عنه ولم تستقر في ذمته. والفرق بينهما أن الجزية لا تجب مع الإعسار، فهي كالزكاة والنفقة الواجبة. وأما الخراج فهو أجرة الأرض، فيجب مع اليسار والإعسار كأجرة الدور والحوانيت، ولهذا لما ضربه عمر - رضي الله عنه - على الأرض لم يُراعِ فيه فقيرًا من غني. فصل وإذا مَطَل بالخراج مع يساره حُبِس حتى يؤدِّيه، فإن أصرَّ على الحبسِ (2) _________ (1) كذا في الأصل، ولعله "ويصرفها". (2) أي: مع الحبس.

(1/173)


ضُرِب. قال أصحابنا: وهكذا كل من عليه حقٌّ إذا امتنع من أدائه ضُرِب حتى يؤدّيه. فإن وُجِد له مالٌ غير الأرض الخراجية بِيع في أداء ما عليه ما لا يضرُّ به، فلا تُباع ثيابه ولا بقره ولا مسكنه ولا آلات الحرث، فإن لم يوجد له غير الأرض (1) الخراجية وكان في بيع بعضها ما يؤدِّي عنه خراجَه ولا يضرُّ به بِيعَ منها بقدر ذلك، أو آجرَه وقبض أجرته عوضًا عن الخراج، وإن أضرَّ به بيعُها لم يبعْ وأُنظِر إلى الميسرة. فصل (2) وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها قيل له: إما أن تُؤجِرها وإما أن ترفع يدك عنها لتدفع إلى من يقوم بعمارتها، ولم تُترك على خرابها وإن دفع خراجها (3). أومأ إليه أحمد، فقال في رواية حنبلٍ: من أسلم على شيء فهو له، ويؤخذ منه خراج الأرض، فإن ترك أرضه فلم يَعمُرها فذلك إلى الإمام، يدفعها إلى من يَعمُرها لا تخرب. فقد منع من ترك عمارة أرض الخراج على وجه الخراب، فإنها تصير بالخراب في حكم المَوات، فيتضرَّر أهل الفيء وغيرهم بتعطيلها وإن أُدِّي عنها الخراج. _________ (1) في الأصل: "أرض". (2) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 172). وفيه الروايات عن الإمام أحمد. (3) بعدها في المصدر السابق: "لئلا تصير بالخراب مَواتًا".

(1/174)


وهذا بخلاف ما لو أحيا أرضًا ميتةً ثم تركها لم يُطالَب بعمارتها، نصَّ عليه أحمد، فقال في رواية حربٍ في رجل أحيا أرضَ المَوات، فيحفر فيها بئرًا أو يسوق إليها ماءً أو يحيط عليها حائطًا ثم يتركها، قال: هي له. قيل له: فهل في ذلك وقتٌ إذا تركها؟ قال: لا. وكذلك قال في رواية أبي الصقر: إذا أحيا أرضًا ميتةً وزرعها ثم تركها حتى عادت خرابًا فهي له، وليس لأحدٍ أن يأخذها منه. والفرق بين المسألتين أنه بإحيائها قد ملكها، فهو مخيَّرٌ بين الانتفاع بملكه وبين تركه، وغايتها أن تعود مَواتًا كما كانت. وأما أرض الخراج فهي مِلْكٌ لأصحاب الفيء، فليس له تعريضها للخراب وتعطيلها عليهم. فصل واختلفت الرواية عن أحمد فيما لا يناله الماء من الأرض هل يوضع عليه خراجٌ أم لا، وعنه في ذلك روايتان. ووجه الوضع أن ما لا يناله الماء تبعٌ لما يناله (1)، فينتفع به في مصالح ما يناله الماء. ووجه المنع أنه لا ينتفع به ولا يمكن زرعه، فهو كالفقير العاجز عن الجزية. واختلفت الرواية عنه في المَوات الذي لا يمكن زرعه هل يوضع عليه _________ (1) "تبع لما يناله" ساقطة من المطبوع.

(1/175)


الخراج؟ على روايتين، نصَّ في إحداهما على أنه إن أمكن أن يُحييه من هو في يده أو غيره أُخِذ منه، وإلّا فلا. فصل ومن كانت بيده أرضٌ خراجيةٌ فهو أحقُّ بها بالخراج كالمستأجَرة، ويَرِثها وارثه على الوجه الذي كانت عليه بيد الموروث، وليس للإمام نزعُها من يده (1) ودفعُها إلى غيره، فإن نزل هو عنها وآثرَ بها (2) غيرَه صار الثاني أحقَّ بها. فصل ومن ظُلِم في خراجه فهل له أن يحتسب بالقدر الذي ظُلِم فيه من العُشر؟ فيه روايتان عن أحمد (3): إحداهما: ليس له ذلك، كما لو سُرِق متاعه لم يحتسب به من الزكاة، وهذا أمر العشر والخراج، يجبان بسببين مختلفين لمستحقين مختلفين، فهذا للمساكين وهذا لأهل الفيء. والثانية: له أن يحتسب به، لأنهما يجبان في الأرض بسبب المُغَلّ، فإذا _________ (1) في الأصل: "بيده". والمثبت يقتضيه السياق. (2) في المطبوع: "أو اشتراها" خلاف الأصل. (3) انظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 220).

(1/176)


تعدَّى عليه العامل وجب فيه التقدير (1) في أحدهما من ربح الآخر. فصل وللإمام ترك الخراج وإسقاطُه عن بعض من هو عليه وتخفيفُه عنه، بحسب النظر والمصلحة للمسلمين، وليس له ذلك في الجزية. والفرق بينهما أن الجزية المقصود بها إذلال الكافر (2) وصَغاره، وهي عوضٌ عن حَقْن دمه، ولم يمكِّنه الله من الإقامة بين أظهر المسلمين إلا بالجزية إعزازًا للإسلام وإذلالًا للكفر. وأما الخراج فهو أجرة الأرض وحقٌّ من حقوقها، وإنما وُضِع بالاجتهاد، فإسقاطه كله بمنزلة إسقاط الإمام أجرة الدار والحانوت عن المكتري. فصل ولا خراجَ على مَزارع مكة وإن فُتحت عنوةً. وقيل: يُضرب عليها الخراج كسائر أرض العنوة. وهذا القول من أقبح الغلط في الإسلام، وهو مردودٌ على قائله. ومكة أجلُّ وأعظم من أن يُضرب على أرضها الجزية، وهي حرم الله وأمنُه ودار نُسكِ الإسلام، وقد أعاذها مما هو دون الخراج بكثيرٍ. وهذا القول استدراكٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر وعثمان والأئمة بعدهم إلى زمن هذا القائل، وكيف يسوغ ضرب _________ (1) في الأصل: "وصيغة التعدير". ولا معنى له. (2) في الأصل: "الكفار" خلاف ما يقتضيه السياق.

(1/177)


الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها ورضيعُ لبنها على خيرِ بقاع الله وأحبِّها إلى الله، ودارِ النُّسك، ومتعبَّدِ الأنبياء، وقريةِ رسول الله التي أخرجته، وحرَمِ رب العالمين وأمْنِه ومحلِّ بيته، وقبلةِ أهل الأرض. قال أبو عبيد (1): صحت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح مكة وأنه منَّ على أهلها، فردَّها عليهم، فلم يقسِمْها ولم يجعلها فيئًا. فرأى بعض الناس أن هذا الفعل جائزٌ للأئمة بعده. ولا نرى مكة يشبهها (2) شيء من البلاد من جهتين: إحداهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد خصَّه الله من الأنفال والغنائم بما لم يجعله لغيره، وذلك لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فنرى هذا كان خاصًّا له. والجهة الأخرى: أنه قد سنَّ لمكة سُننًا لم يَسُنَّها (3) لشيء من سائر البلاد. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجرٍ عن يوسف بن ماهَك عن أمِّه (4) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله، ألا _________ (1) "الأموال" (1/ 129). (2) في الأصل: "بستها" تحريف. والتصويب من "الأموال". (3) في الأصل: "من لمكة سببًا لم يسببها" تحريف. والتصويب من المصدر المذكور. (4) في الأصل: "عن أبيه". والتصويب من "الأموال" وبقية المصادر.

(1/178)


تبني لك بيتًا أو بناءً يُظِلُّك من الشمس؟ ــ تعني بمنًى (1) ــ فقال: "إنما هي مُناخٌ لمن سَبق" (2). وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مكَّة حرامٌ حرَّمها الله، لا يَحلُّ بيعُ رِباعها (3) ولا أجورُ بيوتها" (4). وحدثنا شريك (5)، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مكة حرامٌ" ــ أُراه رفعه ــ قال: "مكة مُناخٌ؛ لا يُباع رِباعُها، ولا تُؤخذ إجارتُها، ولا تَحِلُّ ضالَّتها إلا لِمُنشِدٍ" (6). _________ (1) في "الأموال": "بمكة". والمثبت من الأصل يوافق المصادر الأخرى. (2) "الأموال" (169)، وأخرجه أيضًا أبو داود (2019) والترمذي وحسَّنه (881) وابن راهويه (1286) والدارمي (1980) وابن خزيمة (2891) والحاكم (1/ 467) كلهم من طريق إسرائيل به. وأعله ابن خزيمة في تبويبه عليه، وابن القطَّان في "بيان الوهم" (3/ 468) والألباني في "ضعيف سنن أبي داود - الأم" (2/ 190) بجهالة مُسيكة (أم يوسف بن ماهَك). والأظهر أنه حسن كما قال الترمذي، فإن مُسيكة تابعية كانت تخدم عائشة - رضي الله عنها -، وقد أثنى عليها ابنُها خيرًا كما في رواية ابن راهويه في "مسنده". (3) الرباع جمع رَبْع: المنزل ودار الإقامة والمحلّة. (4) "الأموال" (170)، وأخرجه ابن أبي شيبة (14898) أيضًا عن أبي معاوية به. والحديث مرسل. (5) في الأصل: "إسرائيل". والتصويب من "الأموال" وبقية المصادر. (6) "الأموال" (171)، وأخرجه ابن أبي شيبة (14899، 14910) والطحاوي في "معاني الآثار" (4/ 49)، كلاهما عن شريكٍ به. والحديث عندهما موقوف بلا شكٍّ في ذلك.

(1/179)


وحُدِّثتُ عن محمد بن سَلَمة الحرَّاني، عن أبي عبد الرحيم (1)، عن زيد بن أبي أُنيسة، [عن أبي الزبير]، عن عبيد بن عميرٍ بنحوه، وزاد فيه (2): "لا تحلُّ غنائمها" (3). حدثنا وكيعٌ عن عبيد الله بن أبي زيادٍ، عن أبي نَجيحٍ (4)، عن عبد الله بن عمرٍو قال: من أكلَ أجورَ بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم (5). حدثنا أبو إسماعيل المؤدِّب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عطاءٍ أنه كره الكراء (6) بمكة (7). _________ (1) في الأصل: "أبي عبد الرحمن". والتصويب من "الأموال". والزيادة الآتية أيضًا منه. (2) في الأصل: "وروا". والتصويب من "الأموال". وفي المطبوع: "وروايته". (3) "الأموال" (172)، وأخرجه عبد الرزاق (9190) عن ابن جريج عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير بأطول منه، ولفظه: "لا تحلُّ لُقَطتُها" بدل "غنائمها". وهو مرسل جيِّد، وعبيد بن عمير من كبار التابعين. (4) في الأصل: "ابن أبي نجيح". والتصويب من "الأموال" ومصادر التخريج. وأبو نجيح اسمه يسار الثقفي، له روايات عن بعض الصحابة. (5) "الأموال" (173)، وأخرجه ابن ابي شيبة (14903) والفاكهي في "أخبار مكة" (2/ 163) وابن زنجويه (245) وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 389) والدارقطني (3016، 3017) والبيهقي (6/ 35) من طرق عن عبيد الله بن أبي زياد به موقوفًا. وقد رواه بعضهم عنه فرفعه، وهو خطأ. انظر: "سنن الدارقطني" (3015). (6) أي أجرة البيوت. (7) "الأموال" (174)، وأخرجه عبد الرزاق (9210) وابن أبي شيبة (14900) والطحاوي في "معاني الآثار" (4/ 49) من طرق عن عطاء.

(1/180)


حدثنا إسماعيل بن عيّاشٍ عن ابن جريجٍ (1) قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: ينهى عن كراء بيوت مكة (2). حدثنا إسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير مكة: أن لا يدَعَ أهلَ مكة يأخذون على بيوت مكة أجرًا، فإنه لا يحلُّ لهم (3). حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ [عن ابن عمر] (4) عن عمر أنه نهى أن تُغْلَق دور مكة دون الحاج، وأنهم يضطربون (5) فيما وجدوا منها فارغًا (6). حدثنا [أبو] (7) إسماعيل، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن _________ (1) في الأصل: "ابن نجيح" تحريف. والتصويب من "الأموال" ومصادر التخريج. (2) "الأموال" (175)، وأخرجه عبد الرزاق (9212) وابن أبي شيبة (14902) وابن سعد (7/ 356) والأزرقي (2/ 163، 164) من طرق عن عمر بن عبد العزيز. (3) "الأموال" (176)، وأخرجه البلاذري في "فتوح البلدان" (1/ 49) عن عمرو الناقد، عن إسحاق الأزرق به. (4) الزيادة من "الأموال". (5) أي يضربون خيامهم. وفي الأصل: "طربون"، والتصويب من "الأموال". (6) "الأموال" (177)، وإسناده صحيح على رسم الشيخين. وأخرجه أيضًا ابن زنجويه (247) عن محمد بن عُبيد عن عبيد الله بن عمر به. (7) الزيادة من "الأموال". وفيه: "يعني المؤدب".

(1/181)


جبيرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الحرم كله مسجدٌ (1). حدثنا إسماعيل بن جعفرٍ عن إسرائيل عن ثُويرٍ عن مجاهدٍ عن ابن عمر: الحرم كله مسجدٌ (2). قلت: ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وهذا لمكة كلها. قال أبو عبيد (3): فإذا كانت مكة هذه سننها أنها مُناخُ من سبق إليها، وأنها لا تُباع رِباعها ولا يطيب كراء بيوتها، وأنها مسجدٌ لجماعة المسلمين، فكيف تكون هذه غنيمةً فتُقسَم بين قومٍ يحوزونها دون الناس؟ أو تكون فيئًا فتصير أرضَ خراجٍ؟ [وهي أرضٌ من أرض العرب الأميين الذين كان الحكم عليهم _________ (1) "الأموال" (179)، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1776) من طريق آخر عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير مقطوعًا من قوله. ولأثر ابن عباس طريق آخر صحيح عند ابن زنجويه (252) من رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. (2) "الأموال" (178)، وإسناده ضعيف، فيه ثُوير بن أبي فاختة، متروك. وهو محفوظ من قول مجاهد مقطوعًا عليه، كما عند عبد الرزاق (8005) وابن زنجويه (251، 253) من طرق عنه. تنبيه: ورد هذا الأثر في مطبوعة "الأموال" قبل أثر ابن عباس السابق. ولكن في "الأوسط" لابن المنذر (6/ 391) من طريق أبي عُبيد بنفس ترتيب المؤلف هنا. (3) "الأموال" (1/ 134).

(1/182)


الإسلام أو القتل، فإذا أسلموا كانت أرضهم أرضَ العشر] (1) ولا تكون خراجًا أبدًا. ثم جاء الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفسَّرًا حين قال: "لا تحلُّ غنائمها". قال: وليس تُشبِه مكة شيئًا من البلاد لِما خُصَّتْ به، فلا حجةَ لمن زعم أن الحكم على غيرها كالحكم عليها، وليست تخلو بلاد العَنْوة ــ سوى مكة ــ من أن تكون غنيمةً كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [بخيبر] (2)، أو تكون فيئًا كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وغيرِه من أرض الشام ومصر، انتهى. فغلِطَ في مكة طائفتان: طائفةٌ ألحقت غيرها بها، فجوَّزت أن لا تُقسَم ولا يُضرب عليها خراجٌ ولا تكون فيئًا، وطائفةٌ شبَّهت مكة بغيرها فجوَّزت قسمتَها، وضرْبَ الخراج عليها، وهي أقبح الطائفتين وأسوؤهم مقالةً، وبالله التوفيق. فصل في كراهة الدخول في أرض الخراج، وما نُقل عن السلف في ذلك قال أبو عبيد (3): حدثنا إسماعيل ويحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن سفيان (4) العُقيلي، عن أبي عياضٍ، عن عمر - رضي الله عنه - _________ (1) الزيادة من "الأموال". وليست في الأصل. (2) الزيادة من "الأموال". (3) في "الأموال" (209)، ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (6/ 37). (4) كذا في الأصل و"الأوسط" والطبعةِ المحققة من "الأموال" بالاعتماد على الأصول، وهو الصواب. وفي كتاب "الخراج" ليحيى بن آدم (163) والطبعة القديمة من "الأموال": "شقيق" وهو خطأ.

(1/183)


قال: لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة فإنهم أهلُ خراجٍ، وأرضهم فلا تتبايعوها، ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار بعد إذ نجَّاه الله منه. وقد ذكر الأنصاري عن أبي عُقَيل عن الحسن قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة ولا أرضَهم. قال: قلت للحسن: ولم؟ قال: لأنهم فيءٌ للمسلمين (1). وقد ذكر الإمام أحمد هذا الأثر عن يزيد ثنا سعيد عن قتادة (2). وقال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله قال: وأراد عمر أن يوفر الجزية؛ لأن (4) المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه، والذمي يؤدِّي عنه وعن مملوكه خراجَ جَماجِمهم (5)، إذا كانوا عَبيدًا أخذ منهم جميعًا الجزية. _________ (1) "الأموال" (210)، وأخرجه الخلال في "الجامع" (276) من طريق آخر عن بشير بن عقبة به. وأخرجه يحيى بن آدم (159، 160، 161) وعبد الرزاق (9960) وابن أبي شيبة (21189) من طرق عن هشام بن حسَّان عن الحسن. ورواية الحسن عن عمر مرسلة، إلا أنه يشهد له الأثر السابق من رواية أبي عياض عن عمر. وتابع الحسن أيضًا ابنُ سيرين عن عمر، كما عند يحى بن آدم (156)، وروايته مرسلة أيضًا. كما أنه تابعه "رجل من غِفار" عند عبد الرزاق (9966). (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 176). وتقدم الكلام عليه. (3) كما في المصدر السابق. (4) في الأصل: "ان". والتصويب من المصدر السابق. (5) في الأصل: "كما حمهم" تحريف.

(1/184)


وقال إسحاق بن منصورٍ (1): قلت لأبي عبد الله: قول عمر: "لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة"؟ قال: لأنهم أهل خراجٍ يؤدِّي بعضهم عن بعضٍ، فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك. وفي المسألة عن أحمد روايتان منصوصتان: إحداهما: لا جزية عليه. والثانية: عليه الجزية، وهو ظاهر كلام الخرقي (2): فيؤدِّيها عنه سيده. وهي ظاهر المنقول عن عمر وعلي - رضي الله عنهما -. قال أحمد (3): ثنا يحيى، ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يكره ذلك، يعني: شراء رقيقهم، ويقول: من أجل أنَّ عليهم خراجًا للمسلمين. وظاهر الأحاديث وجوبها على الرقيق، فإنه لم يجئ في حديث واحدٍ منها اختصاصُ ذلك بالأحرار؛ وإن الجزية ذلٌّ وصَغارٌ وهو أهل لذلك؛ ولأنه قوي مكتسبٌ فلم يُقَرَّ في بلاد المسلمين بغير جزيةٍ. وهذا القول هو _________ (1) المصدر السابق (1/ 177)، وهو في "مسائله" (2/ 549). (2) انظر: "المغني" (13/ 220). (3) المتبادر منه أنه الإمام أحمد، ولكن المقصود هاهنا أبو بكر الخلال، واسمه أحمد بن محمد، والنص في كتابه "الجامع" (1/ 178). ويحيى هو ابنُ أبي طالب جعفرِ بن الزِّبْرِقان البغدادي (ت 275) من شيوخ الخلال. وفي الإسناد انقطاع بيِّنٌ بين قتادةَ وعليٍّ، ووهم من صححه على شرط مسلم!

(1/185)


الذي نختاره. وقال مهنَّا بن يحيى الشامي (1): أخبرنا إسماعيل ابن عُلَية، عن ابن أبي عَروبة، عن قتادة، عن سفيان العُقيلي، عن أبي عياضٍ قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لا تبتاعوا رقيقَ أهل الذمة، فإنما هم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا، وأرضهم فلا تتبايعوها، ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار في عنقه بعد إذ أنقذه الله منه. قال مهنا: فسألته ــ يعني أحمد ــ عن سُفيان العقيلي، فقال: روى عنه قتادة وأيوب السختياني، قلت: أي شيءٍ روى أيوب عن سفيان؟ فقال: هذا الحديث مرسلٌ، لم يذكر فيه أبا عياضٍ. وسألته: لِمَ قال عمر: لا تتبايعوا (2) رقيقَ أهل الذمة، قال: لأنهم يؤدُّون الخراج. وقال الميموني (3): تذاكرنا قولَ عمر هذا، فقال أبو عبد الله: أظنه كرهه من أنهم كانوا جميعًا في الأصل حيث أُخِذوا مماليك، وإنما ملكوا هؤلاء بالقهر والغلبة منهم لهم، فكره شراءهم، واحتجَّ لقوله أنه نهاهم عن شراء ما في أيدينا، لأنهم إذا كان لهم أن يشتروا منا فلنا أن نشتري ما في أيديهم. قال: هذا معنى كلام أبي عبد الله. _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (1/ 177). (2) في "الجامع": "لا تبتاعوا". (3) كما في "الجامع" (1/ 176).

(1/186)


وما أرى الميموني فهِمَ ما قال أحمد، وإلا فلا أدري ما معنى هذا الكلام؟ وعمر - رضي الله عنه - إنما قال: لأنهم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا. وفي لفظ: يؤدّي بعضهم عن بعضٍ. قال أحمد: فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه. هكذا لفظه في رواية إسحاق بن منصورٍ، وقد صرَّح في رواية مهنأ بهذا، وقد سأله عن قول عمر - رضي الله عنه - ما معناه؟ فقال: إنهم يؤدُّون الخراج ويستعبد بعضهم بعضًا، فإذا اشتراه مسلم لم يكن عليه خراجٌ. قلت: كأنه جعل استعباد بعضهم بعضًا غيرَ مؤثِّرٍ في إسقاط الجزية عنهم، وقد صرَّح به عمر - رضي الله عنه - في قوله: إنهم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا. وللصحابة ــ لاسيما الخلفاء منهم، لاسيما عمر ــ فقهٌ ونظر لا تبلغه أفهامُ مَن بعدهم، فكأن عمر - رضي الله عنه - لم يُثبِت لرقيقهم أحكامَ الرقيق التي تثبت لرقيق المسلم، وعلم أنهم يبيع بعضهم بعضًا، وذلك لا يُثبِت الرقَّ في الحقيقة، فمنع المسلم من شرائه احتياطًا، ولم يُسقِط الجزية عن رقبته، وألزمها من ادَّعى أنه رقيقه. وهذا من أدقِّ النظر وألطفِ الفقه، وقد وافقه على ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكره للمسلم شراءهم. وقال: من أجل أنَّ عليهم خراجًا للمسلمين (1). _________ (1) "وقال: من أجل أنّ عليهم خراجًا للمسلمين" ساقطة من المطبوع.

(1/187)


وقال سعيد: كان قتادة يكره أن يُشترى من رقيقهم شيء إلا ما كان من غير بلادهم زنجيًّا أو حبشيًّا أو خراسانيًّا، لأنه لا يبيع (1) بعضهم بعضًا (2). قلت: وهذه مسألة قد عمَّ بها الإسلام، ووقع السؤال عنها مرارًا، وهي بيع الكفَّار أولادهم للمسلمين، هل يملكهم المسلمون بذلك ويحلُّ استخدامهم؟ فإن كانوا أهلَ حربٍ جاز الشراء منهم، وملكَ المشتري الأولادَ، لأنه يجوز ملكهم بالسِّباء والسرقة (3)، فيجوز بالشراء. وإن كانوا ذمةً تحت الجزية لم يجز اشتراء أولادهم، ولا يملكهم المشتري، لأنهم ملتزمون لجريان أحكام الإسلام عليهم، وذلك ينافي حكم الإسلام. وإن كانوا أهل هُدنةٍ لم تجرِ عليهم أحكام الإسلام، فهل يجوز شراء أولادهم منهم (4)؟ فيه وجهان، والجواز أظهر، فإنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام. ومن منع الشراء منهم قال: قد أمنوا بالهدنة من السباء، وهذا في حكم السباء. والفرق بينهما ظاهرٌ، والله أعلم. _________ (1) كذا في الأصل، وفي "الجامع" بحذف "لا" على أنه تعليل للكراهة. (2) أسنده الخلال في "الجامع" (1/ 178). (3) في المطبوع: "بالسبي والرق" خلاف ما في الأصل. (4) في الأصل: "منه". والمثبت يقتضيه السياق.

(1/188)


فصل وأما شراء أرض الخراج، فقال أبو عبيد (1): حدثني أبو نعيمٍ، حدثنا بُكَير بن عامر، عن الشعبي قال: اشترى (2) عُتبة بن فَرْقَدٍ أرضًا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قَضْبًا (3)، فذكر ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتَها؟ فقال: من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلُها فهل اشتريتَ منهم شيئًا؟ قال: لا، قال: فاردُدْها على من اشتريتَها منه وخذْ مالَك. وحدثنا [أبو] نعيمٍ عن سعيد بن سِنانٍ عن عنترة قال: سمعت عليًّا يقول: إياي وهذا السواد (4). وقال أحمد (5): ثنا وكيع، عن شريكٍ، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن _________ (1) في "الأموال" (211). وأخرجه يحيى بن آدم (168، 169) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 141) ــ وابن زنجويه (285، 303) والطبراني في "الكبير" (17/ 132) من طرق عن بكير بن عامر به. وبكير ضعيف، ولكن تابعه مجالد ــ على لين فيه ــ عند الشافعي في "الأم" (9/ 246). ورواية الشافعي وإحدى روايتي يحيى بن آدم صريحتان أن الشعبي رواه عن عُتبة بن فرقد، وإلا فظاهر هذه الرواية الإرسال. (2) في الأصل: "على شرا". والتصويب من "الأموال". (3) القضب: ما أُكل من النبات المقتضب غضًّا. (4) "الأموال" (212) ومنه الزيادة، وأخرجه أيضًا الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 83) عن أبي نعيم به. وإسناده لا بأس به. (5) كما في "الجامع" (1/ 178) ومنه الزيادة.

(1/189)


عباس - رضي الله عنهما - أنه كره شراء [أرض] أهل الذمة. وإنما كره الصحابة ذلك لأنه يدخل في التزامه الخراج، وهو نوع من الصَّغار، حتى كره ابن عباس قَبالتها. لذلك قال أبو عبيد (1): ثنا حجاجٌ، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابتٍ قال: تَبِعْنا ابن عباس فسأله رجل فقال: إني أكون بهذا السواد فأتقبَّل، ولستُ أريد أن أزداد، ولكني أدفع عني الضَّيم (2)، فقرأ عليه ابن عباس: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْأَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فقال: لا تَنزِعوه من أعناقهم وتجعلوه في أعناقكم! قال أبو عبيد (3): وحدثنا أبو معاوية ويزيد، عن الحجَّاج، عن القاسم بن عبد الرحمن ــ قال يزيد: عن أبيه ــ: أن ابن مسعودٍ اشترى من دهقانٍ أرضًا _________ (1) "الأموال" (213)، وأخرجه عبد الرزاق (10107) عن الثوري عن حبيب به. (2) في الأصل: "المصم". والتصويب من "الأموال". (3) في "الأموال" (214). وأخرجه يحيى بن آدم (166، 167) وابن زنجويه (306) والبيهقي (9/ 140) من طرق عن الحجاج به، ولم يتابع أحد منهم يزيد بن هارون في زيادة "عن أبيه". وعليه فالإسناد مرسل، القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يُدرك جدَّه، إلا أنه مغتفر هنا لكون الخبر مما يستفيض مثله في أهل البيت وأفراده. وله طريق آخر: أخرجه يحيى (170) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 140) ــ عن حفص بن غياث، عن مجالد، عن الشعبي مرسلًا.

(1/190)


على أن يَكْفِيَه جزيتَها (1). قال أبو عبيد (2): أُراه يعني بالشراء هاهنا الاكتراءَ، لأنه لا يكون مشتريًا والجزية على البائع، وقد خرجت الأرض من مِلْكه. قال: وقد جاء مثله في حديث آخر: حدثني ابن بُكَيرٍ، عن الليث بن سعدٍ، عن عبيد الله بن أبي جعفرٍ، عن القُرَظي قال: ليس بشراء أرض الجزية بأسٌ (3). يريد كراءها. قال: وقال (4) ذلك أبو الزناد. فابن مسعودٍ اكترى أرضَ الدهقان منه على أن يكفيه الدهقانُ جِزيتَها، فلا يكون ملتزمًا للصَّغار. وهذا قد يَستدلُّ به من يقول: الخراج على المستأجر، وإلا لم يكن للاشتراط على المُؤجِر معنى، وهو عليه بدون الشرط. ويُجاب عنه بأنه شرطٌ ليُقضى (5) العقد، فهذا تأكيدٌ له وتقريرٌ. وقال قَبيصة بن ذُؤيبٍ: من أخذ أرضًا بجزيتها فقد باء بما باء [به] أهل الكتابين من الذلّ والصَّغار (6). _________ (1) بعدها زيادة فقرة في المطبوع نقلًا عن "الأموال"، وليست في الأصل، فلم نثبتها لعدم الحاجة إليها. (2) "الأموال" (1/ 154). (3) "الأموال" برقم (216). (4) "وقال" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و"الأموال". (5) في المطبوع: "لمقتضى" خلاف الأصل. (6) "الأمول" (217) بإسناده إلى قبيصة. ومنه الزيادة.

(1/191)


وقال مسلم بن مِشْكَمٍ: من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). وقال عبد الله بن عمرٍو: ألا أُخبركم بالراجع على عقبيه؟ رجل أسلم فحسُنَ إسلامه، وهاجر فحسُنَتْ هجرته، وجاهد فحسن جهاده، فلما قَفَلَ حمل أرضًا بجزيتها، فذلك الراجع على عقبيه (2). وسئل عبد الله بن عمرٍو فقيل له: [أحدنا] يأتي النَّبَطيَّ فيحمل أرضَه بجزيتها، فقال: أتبدؤون بالصَّغار وتُعطون أفضلَ مما تأخذون؟! (3) وقال ميمون بن مِهران: ما يَسُرُّني أن لي ما بين الرُّها إلى حَرَّان بخراج خمسة دراهم (4). قال أبو عبيد: فقد تتابعت الآثار بكراهة شراء أرض الخراج، وإنما كرهها الكارهون من جهتين: إحداهما: أنها فيءٌ للمسلمين. والأخرى: أن الخراج صَغارٌ. وكلاهما داخلٌ في حديثي عمر اللذين ذكرناهما؛ أحدهما قوله: "ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار بعد إذ نجَّاه الله منه"، ووافقه على ذلك ابن مسعودٍ وابن عباس وعبد الله بن عمرٍو وقَبيصة بن ذُؤيبٍ وميمون بن مِهرانٍ ومسلم بن مِشْكمٍ في هذه الأحاديث التي ذكرناها. ومذهبه (5) في الفيء قوله _________ (1) "الأموال" (218) بإسناده إلى مسلم بن مشكم. (2) "الأموال" (219) بإسناد فيه انقطاع. (3) "الأموال" (219) بالإسناد السابق. ومنه الزيادة. (4) "الأموال" (220) بإسناده إلى ميمون. (5) أي مذهب عمر - رضي الله عنه -.

(1/192)


لعتبة بن فَرقد حين اشترى الأرض: "هؤلاء أهلُها" يعني المهاجرين والأنصار، ووافقه على ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. حدثنا يزيد عن المسعودي عن أبي عون الثقفي قال: أسلم دهقان على عهد علي - رضي الله عنه - (1)، فقال علي: أما أنت فلا جزيةَ عليك، وأما أرضُك فلنا (2). قلت: قوله: "لا جزيةَ عليك" يريد قد سقط عنك خراج رأسك ــ وهو الجزية ــ بإسلامك، وهذا يدلُّ على أن الإسلام لا يُسقِط الخراج المضروب على الأرض، فإن شاء المسلم أن يقيم بها إقامته به (3)، وإن شاء نزل عنها فسلمها إلى ذمي بالخراج، فإذا كانت الأرض خراجيةً ثم أسلم أُقِرَّت في يده بالخراج. وهو إجارةٌ حكمها حكم سائر الإجارات. [والخراج] (4) وإن شارك الإجارة في شيء فبينهما فروقٌ عديدةٌ: منها: أن الإجارة موقَّتةٌ، والخراج غير موقَّتٍ. ومنها: أن الأجرة غير مقدَّرة، والخراج مقدَّر (5). _________ (1) "حدثنا يزيد ... على - رضي الله عنه - " ساقطة من المطبوع. (2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (222)، وقد تقدَّم. (3) كذا في الأصل. وفي المطبوع: "أقام بها". (4) زيادة ليستقيم السياق. (5) هذا السطر ساقط من المطبوع.

(1/193)


ومنها: أنه لا يُكره استئجار المسلم لأرض الفيء، ويُكره دخوله فيها بالخراج، كما فعل ابن مسعودٍ. قال أبو عبيد (1): وأخبرني يحيى بن بكيرٍ أو غيره عن مالك أنه كان ينكر على الليث بن سعدٍ دخولَه فيما دخل فيه من أرض مصر. قال أبو عبيد (2): وحدثني سعيد بن عُفيرٍ، عن ابن لَهِيعة ونافع بن يزيد ــ وأظنه قال: ــ ويحيى بن أيوب وشيوخِهم أنهم كانوا ينكرون ذلك على الليث أيضًا. قال أبو عبيد (3): وإنما دخل فيها الليث لأن مصر كانت عنده صلحًا، فلذلك استجاز (4) الدخول فيها. كذلك حدثني عنه عبد الله بن صالحٍ وابن أبي مريم وغيرهما (5). وحرَّمها آخرون؛ لأنها كانت عندهم عنوةً. قال أبو عبيد (6): وكان أبو إسحاق الفزاري يكره الدخول في بلاد الثَّغر لأنها عَنوة، ولم يتخذ بها زرعًا حتى مات. _________ (1) "الأموال" (225). (2) "الأموال" (226). (3) "الأموال" (1/ 158). (4) في الأصل: "استخار". والتصويب من "الأموال". (5) في الأصل: "وغيرهم". (6) "الأموال" (1/ 158) وقال: حدَّثني بذلك محمد بن عيينة وغيره من أهل الثغر.

(1/194)


قال أبو عبيد (1): ومع هذا كله إنه قد سهَّل في الدخول في أرض الخراج أئمةٌ يُقتدى بهم، منهم من الصحابة: عبد الله بن مسعودٍ، ومن التابعين: محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز، وكان ذلك رأي سفيان الثوري فيما يُحكى عنه. فأما حديث ابن مسعودٍ فإن حجَّاجًا حدثني عن شعبة، عن أبي التيَّاح، عن رجل من طيِّئٍ، حسبته قال: عن أبيه، عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَبَقُّر (2) في الأهل والمال. قال: ثم قال عبد الله: فكيف بمالٍ بِراذانَ (3) وبكذا وبكذا؟! (4) وذَكر عن ابن سيرين أنه كانت له أرضٌ من أرض الخراج، فكان يعطيها بالثلث والربع (5). وذَكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى أرضًا بجزيتها من أرض السواد (6). _________ (1) "الأموال" (1/ 162). (2) في الأصل: "السفر" تصحيف. والتبقر: التوسع في المال وغيره، كما شرحه أبو عبيد في "الأموال" (1/ 163). (3) المقصود براذان في حديث ابن مسعود هذا: قرية بنواحي المدينة. انظر: "معجم البلدان" (3/ 13). (4) "الأموال" برقم (239). (5) "الأموال" (240) بإسناده إلى ابن سيرين. (6) "الأموال" (241) بإسناده إلى نُعيم بن عبد الله ــ وهو كاتب عمر بن عبد العزيز ــ أن عمر أعطاه ... إلخ. وأخرجه ابن أبي شيبة (21190) إلا أن فيه "نعيم بن سلامة"، والأول أصح.

(1/195)


قال أبو عبيد (1): وكان عمر بن عبد العزيز يتأوَّل بالرخصة في أرض الخراج أن الجزية التي قال الله: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، إنما هي على الرؤوس لا على الأرض. حدثنا عبد الله بن صالحٍ عن الليث بن سعدٍ عن عمر بن عبد العزيز قال: إنما الجزية على الرؤوس، وليس على الأرض جزيةٌ (2). يقول (3): فالداخل في أرض الخراج ليس بداخلٍ في هذه الآية، والذي يروى عن سفيان أنه قال: إذا أقرَّ الإمام أهل العَنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها (4)، فهذا يبيِّن لك أن رأيه الرخصة فيها. قال (5): فالعلماء قد اختلفوا في أرض الخراج قديمًا وحديثًا، إلا أن أهل الكراهة أكثر، والحجة في مذهبهم أبين. وقد احتجَّ قومٌ من أهل الرخصة بإقطاع عثمان مَن أقطعَ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواد. _________ (1) "الأموال" (1/ 163). (2) "الأموال" (242). (3) أبو عُبيد عقب الأثر السابق. (4) أسنده الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 246). (5) أي أبو عبيد في "الأموال" (1/ 164).

(1/196)


قال (1): وإنما كان اختلافهم في الأرض المُغِلَّة التي يلزمها الخراج من ذوات المزارع والشجر، فأما المساكن والدور فما علمنا أحدًا كره شراءها (2) وحيازتها وسكناها، وقد اقتسمت الكوفة خِطَطًا في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أذن في ذلك، ونزلها (3) من أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالٌ، منهم: سعد بن أبي وقاصٍ وعبد الله بن مسعودٍ وعمّارٌ وحذيفة وسلمان وخبَّابٌ وأبو مسعودٍ وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ثم قدِمَها عليٌّ فيمن معه من الصحابة (4)، فأقام بها خلافته كلها، ثم كان التابعون بعدُ بها، فما علمنا أحدًا منهم ارتاب بها، ولا كان في نفسه منها شيء، وكذلك سائر السواد. * * * * _________ (1) الكلام مستمر له في المصدر السابق. (2) في الأصل: "كراءها". والتصويب من "الأموال". (3) كذا في الأصل. وفي "الأموال": "وأقر لها". وكلاهما محتمل. (4) في "الأموال": "أصحابه".

(1/197)


 ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

أما أموالهم التي يتَّجرون بها في المقام أو يتخذونها للقُنية، فليس عليهم فيها صدقةٌ، فإن الصدقة طُهرةٌ وليسوا من أهلها. وأما زروعهم وثمارهم التي يستغلُّونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها شيء غير الخراج. وأما ما استغلُّوه من الأرض العُشْرية فهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، ونحن نذكر مذاهب الناس فيها وأدلة تلك المذاهب. قال أبو عبيد (1): أما أرض العشر تكون للذمي ففيها أربعة أقوالٍ. حدثنا محمد عن (2) أبي حنيفة قال: إذا اشترى الذمي أرضَ عُشرٍ تحولتْ أرضَ خراجٍ (3). قال: وقال أبو يوسف: يُضاعَف عليه العشر. قال أبو عبيد (4): وكذلك كان إسماعيل بن إبراهيم ــ ولم أسمعه منه ــ يحدث به عن خالدٍ الحذّاء وإسماعيل بن مسلم ورجلٍ ثالث ذكره، أنهم _________ (1) في "الأموال" (1/ 174). (2) في الأصل: "بن" خطأ. ومحمد هو ابن الحسن الشيباني. (3) "الأموال" (267). انظر: "الأصل" لمحمد بن الحسن (7/ 466 - 467). (4) "الأموال" (1/ 174).

(1/198)


كانوا يأخذون من الذمي بأرض (1) البصرة العُشر مضاعفًا. قال (2): وكان سفيان بن سعيد يقول: عليه العشر على حاله. وبه كان يقول محمد بن الحسن (3). أما مالك بن أنسٍ فحدثني عنه يحيى بن بُكيرٍ أنه قال: لا شيء عليه فيها؛ لأن الصدقة إنما هي على المسلمين زكاةٌ لأموالهم وطهرةٌ لهم، ولا صدقةَ على المشركين في أرضهم ولا مواشيهم، إنما الجزية على رؤوسهم صَغارًا لهم، وفي أموالهم إذا مروا بها في تجاراتهم. وروى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عُشرَ عليه ولكن يؤمر ببيعها، لأن في إقراره عليها إبطالًا للصدقة. وكذلك يروى عن الحسن بن صالحٍ أنه قال: لا عشر عليه ولا خراج إلا إذا اشتراها الذمي من مسلم، وهي أرض عشر، وهذا بمنزلته لو اشترى ماشيته، أولستَ ترى أن الصدقة قد سقطت عنه فيها؟ وقد حُكي عن شَرِيكٍ شيء شبيهٌ بهذا، أنه قال في ذمي استأجر من مسلم أرضَ عُشرٍ، قال: لا شيء على المسلم في أرضه؛ لأن الزرع لغيره، ولا شيء على الذمي [لا] عشرٌ ولا خراجٌ؛ لأن الأرض ليست له. هذا ما حكاه أبو عبيد (4). _________ (1) في الأصل: "أرض". والتصويب من "الأموال". (2) أي أبو عبيد في المصدر السابق. (3) كما في "الأصل" (7/ 466). (4) إلى هنا انتهى النقل من "الأموال".

(1/199)


وقال الخلال في "الجامع" (1): باب الذمي يشتري أرض العشر أو أرض الخراج أو يستأجرها. أخبرني محمد بن [أبي] هارون ومحمد بن جعفرٍ قال (2): حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله سئل عن أرض أهل الذمة؟ قال: من الناس من يقول ليس عليهم فيها شيء، ومن الناس من يقول: يُضعَفُ عليهم الخراج، قلت له: فما ترى؟ قال: فيها اختلافٌ. ثم ذكر من رواية أبي الحارث وصالحٍ ــ واللفظ لصالحٍ ــ أنه قال لأبيه: كم يؤخذ من أهل الذمة مما أخرجت أرضوهم؟ فقال: من الناس من يقول: لا يكون عليهم إلا فيما تجروا، ومن الناس من يقول: يُضاعَف عليهم (3). أخبرني حربٌ قال: وسألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر؟ قال: لا أعلم عليه شيئًا، إنما الصدقة طهرة (4) مال الرجل، وهذا المشرك ليس عليه. وأهل المدينة يقولون في هذا قولًا حسنًا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر. قال: وأهل البصرة يقولون قولا عجبًا، يقولون: يُضاعَف عليهم. قال: ويُعجبني أن يُحال بينه وبين الشراء (5). _________ (1) (1/ 154) والزيادة منه. وأقوال أحمد الآتية كلها منه. (2) كذا في الأصل و"الجامع". (3) المصدر المذكور، برقم (220). (4) في "الجامع": "كهيئة" تحريف. (5) "الجامع" (221).

(1/200)


أخبرني عِصمة بن عصامٍ قال: حدثنا أبو بكر الصاغاني قال: سمعت أبا عبد الله قال: يُمنع أهل الذمة أن يشتروا من أرض المسلمين. قال أبو عبد الله: وليس في أرض أهل الذمة صدقةٌ، إنما قال الله تعالى: {صَدَقَةٌ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 104]، فأي طُهرةٍ للمشركين! (1). وقال في رواية محمد بن موسى (2): وأما ما كان للتجارة فمَرُّوا فنصف العشر، وأما أرضوهم فمن الناس من يقول: يُضاعف عليهم العشر، [ومنهم من يقول: على أرضهم الصدقة]، وما أدري ما هو، إنما الصدقة طهرةٌ. قال: وقد روى حماد بن زيدٍ عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - أنه ضاعف عليهم الخراج، وهذا ضعيف (3). وأما أهل الحجاز فحُكي عنهم أنهم كانوا لا يَدَعونهم يشترون أرضهم، ويقولون: في شرائهم ضررٌ على المسلمين. وقال إبراهيم بن الحارث (4): سئل أبو عبد الله عن أرضٍ يُؤدَّى عنها الخراج أيؤدَّى عنها العشر بعد الخراج؟ قال: نعم، كل مسلم فعليه أن يؤدي العشر بعد الخراج، فأما غير المسلم فلا عشر عليه. وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (5) [عن أبي عبد الله] وسأله عن _________ (1) "الجامع" (222). (2) "الجامع" (223). ومنه الزيادة ليستقيم السياق. (3) أي: لانقطاعه بين زيدٍ وعمر. (4) "الجامع" (224). (5) "الجامع" (225). ومنه الزيادة. والنصوص الآتية كلها من هذا المصدر.

(1/201)


الذمي يشتري أرض المسلم، قال: لا أرى (1) عليه زكاةً. قال: وحكوا عن إسماعيل ابن عُلَيَّة أنه ما كان يعرف هذا حتى ولي خالدٌ الحذَّاء، فكان يأخذ من أهل الذمة الخمس، كأنه أضعفَ عليهم. وحكوا عن سفيان: ليس عليهم شيء. وحكى لي رجل من أهل المدينة أن أهل المدينة لا يدعون ذميًّا يشتري من أموال المسلمين، يقولون: تذهب الزكاة. قال أبو عبد الله: لا أرى بأسًا أن يشتري وليس عليه زكاة ماله، ألا ترى أن أموالهم ليس عليها شيء إلا أن يختلفوا بها في بلاد المسلمين، فأما لو كانت في منازلهم لم يكن عليهم فيها شيء؟ وكذلك قال في رواية ابن القاسم (2): إذا اشترى الذمي أرض العشر سقط عنه العشر. قال: وينبغي أن يُمنعوا من شرائها. وقال: أليس يُحكى أن مالكًا يقول: يُمنَعون من ذلك، لأنهم إذا اشتروا ما حولنا ذهبت الزكاة وذهب العشر؟ قال: وهذا في أرض العشر، فأما الخراج فلا. وقال ابن مُشَيشٍ (3): وسألت أبا عبد الله قلت: المسلم يؤاجر أرض الخراج من الذمي، قال: لا يؤاجر الذمي، وهذا ضررٌ، وأهل المدينة _________ (1) في المطبوع: "أرى" بحذف "لا"، فانقلب المعنى. (2) "الجامع" (226). (3) المصدر نفسه (227).

(1/202)


ــ وذكر مالكًا ــ يقولون: لا نَدَعُ ذميًّا يزرع لأنه يُبطِل العشر، إنما يكون عليه الخراج. وقال جعفر بن محمد (1): سمعت أبا عبد الله يقول: لا تُكرى أرضُ الخراج من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يؤدُّون الزكاة. قال أحمد (2): وحدثنا عفَّان قال: حدثني سهيلٌ، ثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال في أهل الذمة إذا اشتروا شيئًا من أرض العشر، قال: فيه الخمس. قال أحمد: أَضعفَه عليهم، وهذا مذهب البصريين. وقال أحمد (3): ثنا هُشيمٌ، أخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن ميمونٍ، عن أبيه أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مسلمٍ زارعَ ذميًّا، فكتب إليه عمر رحمه الله أن: خُذْ من المسلم ما عليه من الحق في نصيبه، وخُذْ من النصراني ما عليه. قال الخلال (4): والذي عليه العمل في قول أبي عبد الله أنه ما كان في _________ (1) المصدر نفسه (228). (2) "الجامع" (230). و"سهيل" هو ابن صَبْرة العجلي، يروي عن الأشعث بن عبد الملك، وروى عنه عفَّان، مستقيم الحديث. "الثقات" لابن حبان (8/ 303). وقع في مطبوعة "الجامع": "سهل بن صُقير"، وهو متأخر، من طبقة عفَّان بل لعله أصغر منه، ولم يُدرك الأشعث، فالظاهر أنه تصحيف. (3) "الجامع" (232). (4) "الجامع" (1/ 160).

(1/203)


أيديهم من صلحٍ أو خراجٍ فهم على ما صولحوا عليه أو جُعِل على أرضهم من الخراج. وما كان من أرض العشر فيُمنَعون من شرائها؛ لأنهم لا يؤدون العشر، وإنما عليهم الجزية والخراج. وذكر أبو عبد الله في قول أهل المدينة وأهل البصرة: فأما أهل المدينة فيقولون: لا يُترك الذّمي يشتري أرضَ العشر. وأهل البصرة يقولون: يُضاعَف عليهم. قال (1): ثم رأيت أبا عبد الله بعد ذكره لذلك والاحتجاج لقولهم مال إلى قول أهل البصرة، أنه إذا اشترى الذمي أرضَ العشر يُضاعَف عليه، وهو أحسنَ القولَ أن لا يُمكَّنوا أن يشتروا، فإن اشتروا ضُوعِف عليهم كما تُضاعَف عليهم الزكاة إذا مرُّوا على العاشر، وهي في الأصل ليست عليهم لو لم يمرُّوا (2) بها على العاشر واتَّجروا في منازلهم، لم يكن عليهم شيء، فلما مرُّوا جُعِلت عليهم وأُضعِفَ عليهم، وهو بمعنى واحدٍ. وإلَّا فأرض المسلمين هم أحقُّ بها من أهل الذمة. وكذلك ما كان في أيديهم مما صُولحوا عليه فإنما يُضاعَف عليهم العشر؛ لأن في أرضهم العشر، وإنما يُنظر ما يخرج من الأرض، يؤخذ منهم العشر مرتين. هذا معنى ما كان في أيديهم وما اشتروه أيضًا من أرض العشر على هذا النحو مُضاعَفٌ عليهم. قال (3): وأنا أفسِّر ذلك من قول أبي عبد الله رحمه الله تعالى. _________ (1) أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام متصل بما سبق. (2) في الأصل: "لم يمرون". (3) أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام مستمر.

(1/204)


أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال (1): قال لي أبو عبد الله في أرض أهل الذمة: من الناس من يتأول يأخذ من أرضهم الضعف، قلت: فإذا لم تكن أرضَ خراجٍ فكيف نأخذ منهم الضعف؟ قال: ننظر إلى ما يخرج. قلت: فهذا إذن في الحبّ إذا أخرجت ننظر إلى قدر ما أخرجت، فيؤخذ منه العشر، ونُضعف عليهم مرةً أخرى؟ قال: نعم. ثم قال: ويؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتَّجروا فيها، قُوِّمت ثم أخذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم، فمن الناس من يشبِّه الزرعَ بهذا. قال عبد الملك: والذي لا أشك فيه من قول أبي عبد الله غير مرةٍ= أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراجٌ، إنما يُنظَر ما أخرجت، يؤخذ منهم العشر مرتين. قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله: فالذي يشتري أرض العشر ما عليه؟ قال لي: الناس كلهم يختلفون في هذا، منهم من لا يرى عليه شيئًا، ويُشبِّهه بماله ليس عليه فيه زكاةٌ إذا كان مقيمًا بين أظهُرِنا وبماشِيته (2)، فيقول: هذه أموالٌ وليس عليه فيها صدقةٌ. ومنهم من يقول: هذه حقوقٌ لقومٍ، ولا يكون شراؤه الأرضَ يذهب بحقوق هؤلاء. والحسن يقول: إذا (3) اشتراها ضوعف عليه. قلت: فكيف يُضعف عليه؟ قال: لأن عليه العشر، _________ (1) "الجامع" (234). (2) في المطبوع: "وبما شئت" تحريف. وفي الطبعة الثانية: "بما يثبته" تحريف أيضًا. (3) في المطبوع: "من" خلاف الأصل و"الجامع".

(1/205)


فيؤخذ منه الخمس. قلت: تذهب إلى أن يُضعف عليه فيؤخذ منه الخمس؟ فالتفت إليَّ فقال: نعم، يُضعف عليهم. ثم قال لنا: ويدخل (1) على الذي قال: لا نرى بأن يؤخذ= لو أن رجلًا موسرًا منهم عَمَدَ إلى أرضٍ من أرض العشر فاشتراها فلم يؤخذ منه شيء أضرَّ هذا بحقوق هؤلاء. وقال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن الرجل من أهل الذمة يشتري أرض العشر يكون عليه فيها العشر أو الخراج؟ قال: عمر بن عبد العزيز يضاعف عليه، وقال بعض الناس: إنما الخراج على ما كان في أيديهم، وفي المال العشرُ أو نصفُ العشرِ، قلت: ما تقول أنت؟ قال: قول عمر والحسن، يُضعَّف عليهم، فقلت: فهو أحبُّ إليك، قال: نعم. قال الخلال (3): فقد بيَّن أبو عبد الله هاهنا مذهبَه، وحسَّن مذهبَ من جعل عليهم الضعف. قال الخلال (4): وأقوى من قول عمر بن عبد العزيز والحسن في الزيادة عليهم ما روي عن عائذ (5) بن عمرٍو، وإن كان أبو عبد الله لم يذكره في هذه الأبواب، فإنه قد رواه وهو صحيح، والعمل عليه مع ما تقدم من قول أبي _________ (1) أي يُورَد ويُعترض على هذا القائل بالجملة الشرطية الآتية: "لو أن ... ". (2) "الجامع" (235). (3) المصدر نفسه (1/ 162). (4) المصدر نفسه (1/ 162). (5) في المطبوع: "عائد" تصحيف.

(1/206)


عبد الله الاختيار له. أخبرنا عبد الله قال (1): حدثني أبي، حدثنا وهب بن جريرٍ، حدثنا شعبة عن أبي عمران الجَوني، قال: وسألت عائذ بن عمرٍو المُزَني عن الزيادة على أهل فارس، فلم يرَ به بأسًا وقال: إنما هم خَوَلُكم. قال الخلال (2): وأخبرنا يعقوب بن سفيان أبو يوسف قال: حدثني محمد بن فُضيلٍ، قال: ثنا سُويدٌ الكلبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن شعبة، عن أبي عمران الجَوني عن عائذ بن عمرٍو فيما أُخِذ عنوةً، قال: زِيدوا عليهم فإنهم خَوَلُكم، انتهى (3). فهذا مذهب أحمد كما تراه: أنه يجب عليهم عُشرانِ، وعليه أكثر نصوصه واحتجاجه. وكثيرٌ من أصحابه يحكي مذهبه أنه لا عُشرَ عليه، ومنهم من يقول: وعنه عليهم عشرانِ، وإذا كانوا إذا اتجروا في غير بلادهم أُخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلمين مع جواز التجارة لهم، وأنهم لا يُسقِطون بها حقًّا لمسلم، فإذا دخلوا في الأرض العشرية بشراءٍ أو كراءٍ وهم ممنوعون من ذلك، فلَأَن يؤخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلم بطريق الأولى، إذ لو لم يُؤخَذ منهم لتعطَّلتْ حقوقُ أربابِ العُشْر وما عليه من المنقطعين من الجند والفقراء وغيرهم، وفي ذلك فسادٌ عظيمٌ، فإنا لو مكَّناهم _________ (1) "الجامع" (236)، وإسناده صحيح إلى عائذٍ - رضي الله عنه -. (2) برقم (237). (3) أي انتهى النقل من "الجامع" للخلال.

(1/207)


من الدخول في أرض العشر وهم يعلمون أنه لا عُشْرَ عليهم لتهافتوا وتهالكوا عليها، لكثرة المُغَلِّ وقلَّة المؤونة، فتذهب حقوق المسلمين، وهذا باطلٌ. وقياس الأرض على المواشي والعُروض قياسٌ فاسدٌ، فإن المواشي والعروض لا تُراد للتأبيد، بل تتناقلها الأيدي، وتختلف عليها المُلَّاك. والأرض إذا صارت لواحدٍ منهم ولا عُشرَ عليه فيها ولا خراج= عَضَّ عليها بالنواجذ، وأمسكَها بكلتا يديه، وعطَّل مصلحتها على أهل العشر. ولهذا لما علم أبو حنيفة فساد هذا قال: إذا اشترى أرض العشر تحولت خراجيةً (1). ومذهب الشافعي في هذا: أنهم لا يُمكَّنون من شراء أرض العشر واكترائها، وأنه لا شيء عليهم في زروعهم وثمارهم، كما لا زكاةَ عليهم في مواشيهم وعروضهم ونقودهم. وهو اختيار أبي عبيد وطائفةٍ من أصحاب أحمد، وهو المشهور عند أصحاب مالك، ومذهبه الذي نصَّ عليه منعُهم من شراء أرض العشر (2). فإن قيل: فما مصرفُ ما يؤخذ من أرضهم؟ قيل: مصرفه مصرف ما يؤخذ من التغلبي، وفيه روايتان كما تقدم، أصحهما أنه مصرف الفيء، فكذا هذا. فإن قيل: فلو باعها لمسلم أو أسلم، فقال الأصحاب: يسقط عنه أحدُ _________ (1) انظر: "الأصل" (7/ 466)، و"الاختيار لتعليل المختار" (1/ 114). (2) انظر: "المغني" (4/ 202، 203)، و"الإنصاف" للمرداوي (3/ 114، 115)، و"الفروع" مع "تصحيح الفروع" (4/ 110، 111).

(1/208)


العشرين، ويبقى الآخر وهو عشر الزكاة، ولم يفصِّلوا. وقياس المذهب التفصيل، وأنه إن باعها أو أسلم قبل اشتداد الحبّ فكذلك، وإن باعها بعد اشتداده ووجوب العشرين لم يسقط أحدهما، وإن أسلم بعد اشتداد الحبّ وصلاح الثمر سقط عنه العشران. أما عُشر الزكاة فلأنه وقتَ الوجوب لم يكن من أهله، وأما العُشر المضاعَف فإنما وجب بسبب الكفر، فإذا أسلم سقط عنه، كما تسقط الجزية بإسلامه. فإن قيل: فلو اشترى ذمي أرضًا خراجيةً من تغلبي فما حكمها؟ قيل: قد اختلف في ذلك الأصحابُ على ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه لا شيء عليه في نَبْتها كما لو اشتراها من مسلم. والثاني: عليه فيها عشر واحدٌ. والثالث: عليها فيها عشران كما كان على التغلبي، وهو الأقيس والأصح (1). فإن قيل: فما تقولون لو اشترى ذمي أرضًا من مسلم لا عُشْرَ فيها، مثل أن كانت دورًا أو خانًا ونحو ذلك، فزرعَها فهل يجب عليه (2) في زرعها شيء؟ قيل: لا يجب عليه شيء في هذه الصورة، ولا يُمنع من شرائها، فإنه لم _________ (1) انظر: "الفروع" مع "تصحيحه" (4/ 113). (2) "عليه" ساقطة من المطبوع.

(1/209)


يسقط بذلك حق مسلم من الأرض. وكذلك الحكم لو اشترى أرضًا خراجيةً من ذمي فزرعها لم يكن عليه غير الخراج، كما كانت في يد البائع وكما لو ورثها. وقال أبو عبد الله بن حمدان في "رعايته": وإن اشترى ذميٌّ أرضًا خراجيةً أو أرضَ تغلبيًّ جاز، ولا شيء عليه في نَبْتها. وقيل: بل عُشرانِ، وقيل: بل عشر في نبت الخراجية، لا فيما اشتراه من تغلبي. قلت: أما شراؤه أرضَ التغلبي فإنه يتوجه أن يجب عليه عشران، كما كان يجب على التغلبي، ولا يسقط بشرائه حق المسلمين الذي كان على أرض التغلبي، بل إذا ضُوعِف عليه العشر بشرائها من مسلم حيث لم يكن واجبًا، فَلَأن يؤخذ منه ما كان واجبًا على التغلبي أولى وأحرى. وأما شراؤه للأرض الخراجية التي لا عشر عليها فهذا لا يتوجه فيه نزاعٌ، ولا نقبل ما ذكره من الأقوال، ولاسيما إذا اشتراها من ذمي، كما يدخل في عموم كلامه، فهذا لم يقل أحدٌ: إنّ عليه فيها عشرين ولا عشرًا (1). فإن قيل: يُحمل كلامه على ما إذا اشتراها من مسلم. قيل: إن كانت عُشريةً ــ مع كونها خراجيةً ــ فقد تقدم حكمها، وإن لم تكن عشريةً بأن كانت دارًا أو خانًا جاز له شراؤها، ولا عُشرَ عليه في زرعها اتفاقًا كما تقدم، بل هذا من سوء التفريع والتصرف، والله أعلم. _________ (1) في الأصل: "عشران ولا عشر" مرفوعين.

(1/210)


فإن قيل: فما تقولون في إجارة الأرض العشرية للذمي؟ قيل: قد نصَّ أحمد رحمه الله تعالى على صحة الإجارة مع الكراهة (1). والفرق بينها وبين البيع أن البيع يُراد للدوام بخلاف الإجارة، والحكم في زرعه كالحكم في زرع ما اشتراه. وقيل: لا شيء عليه هاهنا وإن أوجبنا عليه العُشرينِ في صورة الشراء، ويكون كما لو اشترى الزرع وحده. وهذا ليس بصحيح، فإن الموجب لمضاعفة العشر عليه في صورة الشراء هو بعينه موجودٌ في صورة الإجارة. وأما شراؤه الزرعَ، فإن اشتراه قبل اشتداد حبِّه لم يصح البيع، وإن اشتراه بعد اشتداد حبِّه فزكاته على البائع. فإن قيل: فلو اشتراه مع الأرض قبل اشتداد الحبّ. قيل: حكمه حكم ما زرعه بنفسه. فصل وأما أموالهم التي يتَّجرون بها من بلدٍ إلى بلدٍ فإنه يؤخذ منهم نصفُ عُشرِها إن كانوا ذمةً، وعُشرها إن كانوا أهلَ هدنةٍ. وهذه مسألة تلقَّاها الناس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ونحن نذكر أصلها وتفاصيلها (2)، وكيف كان ابتداء أمرها، واختلاف الفقهاء في ما _________ (1) انظر: "الفروع" (4/ 116، 117). (2) "وتفاصيلها" ساقطة من المطبوع.

(1/211)


اختلفوا فيه من أحكامها، بحول الله وقوته وتأييده، بعدَ أن نذكر مقدمةً في المُكوس وتحريمها والتغليظ في أمرها، وتحريمِ الجنة على صاحبها، وأمْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وأن قياسها على ما وضعه عمر - رضي الله عنه - على أهل الذمة من الخراج أو العشر كقياس أهل الشرك الذين قاسوا الربا على البيع، والميتةَ على المذكِّى. قال الإمام أحمد (1): حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عبد الرحمن بن شِماسة التُّجيبي، عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخلُ الجنةَ صاحبُ مَكْسٍ". وقال أبو عبيد (2): حدثنا يحيى بن بُكَيرٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير (3) قال: سمعت رُوَيفع بن ثابتٍ يقول: سمعت رسول _________ (1) في "مسنده" (17354) عن يزيد بن هارون به، ولكن سياق إسناده ومتنه يوافق سياق أبي عبيد في "الأموال" (1449)، فإنه رواه عن يزيد أيضًا. والحديث أخرجه أيضًا أبو داود (2937) والدارمي (1708) وابن خزيمة (2333) والحاكم (1/ 403) من طرق عن محمد بن إسحاق به. وإسناده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ولكن يشهد له الحديث الآتي. (2) في "الأموال" (1450)، وأخرجه أحمد (17001) والطبراني في "الكبير" (5/ 29) من طريقين آخرين عن ابن لَهِيعة به. وابن لهيعة ضعيف، إلا أن رواية أحمد من طريق قتيبة عنه، وحديث العبادلة وقتيبة عنه أعدل من حديث غيرهم، فهو على أقل تقدير حسن في الشواهد. (3) في المطبوع: "أبي الحسين" تحريف.

(1/212)


الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنّ صاحبَ المَكْس في النار". قال: يعني العاشر. حدثنا الهيثم بن جَميلٍ، عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن طاوسٍ، عن عبد الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما - قال: إن صاحب المكس لا يُسأل عن شيء، يُؤخذ كما هو فيُرمى به في النار (1). حدثنا حسان بن عبد الله، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن: ضَعْ عن الناس الفديةَ، وضَعْ عن الناس المائدة، وضَعْ عن الناس المكْسَ، وليس بالمكس ولكنه البَخْس الذي قال الله تعالى فيه (2): {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84]، فمن جاءك بصدقةٍ فاقبلْها منه، ومن لم يأتِك بها فالله حسيبُه (3). حدثنا نعيمٌ، عن ضَمْرة، عن كُريز (4) بن سليمان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوفٍ (5) القاري أن: اركَبْ إلى البيت الذي برَفَحٍ الذي يقال له بيت المَكْس، فاهدِمْه، ثم احمِلْه إلى البحر، فانسِفْه فيه _________ (1) "الأموال" (1451)، وإسناده لا بأس به، وهو موقوف. (2) "فيه" ساقطة من المطبوع. (3) "الأموال" (1453). (4) في الأصل: "جرير". والتصويب من "الأموال". (5) في الأصل: "عون". والتصويب من "الأموال". وانظر: "التاريخ الكبير" (5/ 156)، و"الجرح والتعديل" (5/ 125).

(1/213)


نَسْفًا (1). قال أبو عبيد (2): قد رأيته بين مصر والرملة. حدثنا عثمان بن صالحٍ، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان، حدَّثه عن عبد الرحمن بن حسَّان، عن رجل من جُذامٍ، عن مالك بن عَتاهية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لقي صاحبَ عُشُورٍ فليضرِبْ عُنقَه" (3). حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان عن عبد الرحمن بن حسان قال: أخبرني رجل من جُذامٍ [قال] سمع فلانَ بن عَتاهية يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا لقيتم عاشرًا فاقتلوه"، يعني بذلك الصدقةَ يأخذها على غير حقِّها (4). حدثنا حجاجٌ عن ابن جريجٍ (5) قال: أخبرني عمرو بن دينارٍ، قال: _________ (1) "الأموال" (1454). (2) في المصدر السابق. (3) "الأموال" (1455)، وأخرجه أيضًا أحمد (18057) والروياني (1457) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6014، 6015) من طرق عن ابن لهيعة به. وإسناده واهٍ، لضعف ابن لهيعة، وجهالة مخيِّس، وإبهام شيخ شيخه من جُذام. وقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1594)، وهو بـ"العلل المتناهية" أشبه. (4) "الأموال" (1456). (5) في الأصل: "ابن جرير". والتصويب من "الأموال".

(1/214)


أخبرني مسلم بن شَكَرَة أنه سأل ابن عمر: أعَلِمتَ أن عمر أخذ من المسلمين العُشر؟ قال: لا أعلمه (1). حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الله بن خالدٍ العَبْسي، عن عبد الرحمن بن مَعْقِلٍ (2) قال: وسألتُ زياد بن حُدَيرٍ مَن كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا. قلت: فمن (3) كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم (4). حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن مسروقٍ أنه قال: والله ما علمتُ عملًا أخوفَ عندي أن يُدخِلني الله النارَ من عملكم هذا، وما تراني (5) أن أكون ظلمتُ فيه مسلمًا أو معاهدًا دينارًا ولا درهمًا، ولكني لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يَسُنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر. قالوا: فما حملك على أن دخلتَ فيه؟ قال: لم يَدَعْني زيادٌ ولا شُريحٌ ولا الشيطان (6) _________ (1) "الأموال" (1457)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7248) عن ابن جريج به. (2) في الأصل: "مغفل" تصحيف. والتصويب من "الأموال". (3) في الأصل: "من". (4) "الأموال" (1459)، أخرجه أيضًا يحيى في "الخراج" (640) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وعبد الرزاق (10124) كلاهما عن سفيان به، إلا أن عندهما "عبد الله بن معقل"، والخطب يسير فكلا ابني معقل بن مقرِّن المزني ثقتان. (5) كذا في الأصل. وفي "الأموال": "وما بي". (6) في الأصل: "السلطان". والتصويب من "الأموال".

(1/215)


حتى دخلتُ فيه (1). قلت: هو (2) سلسلةٌ كان يُعتَرض بها على النهر تَمنع السُّفُنَ من المضي حتى تُؤخَذ منهم الصدقة، وكان مكانها يُسمَّى "السلسلة". وأقام بها مسروقٌ زمانًا يقصر الصلاة، كان عاملًا لزيادٍ، وكان أبو وائلٍ معه، قال: فما رأيتُ أميرًا قطُّ كان أعفَّ منه، ما كان يصيب شيئًا إلا ماء دجلة (3). وقيل للشعبي: كيف خرج مسروقٌ من عمله؟ قال: ألم تروا إلى الثوب يُبعث به إلى القصَّار فيُجِيد غَسْلَه؟ فكذلك خرج من عمله (4). قال أبو عبيد (5): وكان المكس له أصلٌ في الجاهلية، يفعله ملوك العرب والعجم جميعًا، فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مرُّوا بها عليهم. يبيِّن ذلك ما في كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كتب من أهل الأمصار، مثل ثقيفٍ والبحرين ودُومة الجندل وغيرهم ممن أسلم: أنهم لا يُحشَرون ولا _________ (1) "الأموال" (1460)، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 204) من طريق أبي عوانة عن الأعمش به. وأخرجه أحمد في "الزهد" (ص 421) من طريق سفيان الثوري يرسله عن شقيق، والظاهر أن بينهما الأعمش. وزياد هو ابن أبيه، عامل معاوية على الكوفة. (2) الإشارة بالضمير إلى الحبل المذكور في الأثر. (3) أسنده أبو عُبيد في "الأموال" (1462) وأبو القاسم البغوي في "مسند علي بن الجعد" (440). وفي الأصل: "ما دخله". والتصويب من "الأموال". (4) أسنده أبو عُبيد في "الأموال" (1461). (5) "الأموال" (1/ 201).

(1/216)


يُعْشَرون، فعلمنا بهذا أنه كان من سنة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرةٍ، فأبطل الله تعالى ذلك برسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة (1)، فمن أخذها منهم على وجهها فليس بعاشرٍ، لأنه لم يأخذ العُشر، إنما أخذ رُبعه. وهو مفسَّرٌ في الحديث الذي يحدِّثونه عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن جدِّه ــ أبي أمية (2) ــ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى" (3). قلت: وفي "المسند" و"سنن أبي داود" (4) عن رجل من بني تغلب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى". _________ (1) بعدها في "الأموال": "بربع العشر من كل مئتي درهم خمسة". وليست في الأصل. (2) كذا في الأصل، وفي هامشه بعلامة خ: "أبي أبيه". وفي مصادر التخريج اختلاف واضطراب في ذكره. وفي "الأموال": "عن جده أبي أمه". (3) أخرجه أحمد (15895 - 15897، 23483) وأبو داود (3046 - 3049) وابن أبي شيبة (10677، 10678) والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 31) والبيهقي (9/ 199) وغيرهم من طرق عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي، عن جده أبي أمِّه، أو عن جده عن أبيه، أو عن خاله، أو عن أبي أمية رجل من بني تغلب ... إلخ تلك الوجوه التي اضطرب عليها الحديث. قال البخاري كما في "العلل الكبير" للترمذي (ص 103): هذا حديث فيه اضطراب ولا يصحُّ. وانظر: "التاريخ الكبير" (3/ 60)، و"ضعيف سنن أبي داود ــ الأم" (2/ 477). (4) "مسند أحمد" (15897) ــ واللفظ له ــ و"سنن أبي داود" (3049).

(1/217)


قال أبو عبيد (1): فالعاشر الذي يأخذ الصدقة بغير حقّها، كما جاء في الحديث مرفوعًا وقد تقدم. وكذلك وجه حديث ابن عمر: أن عمر لم يأخذ العشور، إنما أراد هذا ولم يُرِد الزكاة. وقد كان عمر وغيره من الخلفاء يأخذونها عند الأعطية. وكذلك حديث زياد بن حُدَيرٍ: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا، أراد: أنا كنا نأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. قال (2): وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك: أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة، ومن أهل الحرب العشر تامًّا؛ لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم، فكان سبيله في هذين الصنفين بيِّنًا واضحًا. قال (3): وكان الذي يُشكِل عليَّ وجهُه أخْذَه من أهل الذمة، فجعلتُ أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة، ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا، فلم أدْرِ ما هو، حتى تدبَّرتُ فوجدتُه إنما صالح على ذلك صلحًا سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين. حدثنا الأنصاري، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي مِجْلَزٍ قال: بعث عُمَرعمَّارًا وابن مسعودٍ وعثمان بن حُنَيفٍ إلى الكوفة، ثم ذكر _________ (1) "الأموال" (1/ 201). (2) "الأموال" (1/ 202). ( 3) المصدر نفسه (1/ 203). والكلام مستمر.

(1/218)


حديثًا فيه طولٌ قال: فمسح عثمان الأرض، فوضع عليها الخراج، وجعل في أموال أهل الذمة التي يختلفون بها: من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وجعل على رؤوسهم ــ وعطَّل من ذلك النساء والصبيان ــ أربعةً وعشرين، وكتب بذلك إلى عمر - رضي الله عنه - فأجازه (1). قال أبو عبيد (2): فأرى الأخذ من تجّارهم في أصل الصلح، فهو الآن حق المسلمين عليهم. وكذلك كان مالك بن أنسٍ يقول، حدثنيه عنه يحيى بن بُكَيرٍ، قال (3): إنما صولحوا على أن يَقَرُّوا ببلادهم، فإذا مرُّوا بها للتجارات أُخِذ منهم كلما مرُّوا. حدثنا معاذ بن معاذٍ، عن ابن عونٍ، عن أنس بن سيرين قال: بعث إليَّ أنس بن مالك - رضي الله عنه - فأبطأتُ عليه، ثم بعث إليَّ فأتيته، فقال: إن كنتُ لأرى أني لو أمرتُك أن تَعَضَّ على حجر كذا وكذا ابتغاءَ مرضاتي لفعلتَ؛ اخترتُ لك عين عملي (4) فكرهتَه؟ إني أكتب لك سنة عمر - رضي الله عنه -. قلت: اكتب لي سنة عمر، فكتب: يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهم، _________ (1) "الأموال" (1472)، وقد تقدَّم (ص 150) بلفظ أطول. (2) المصدر نفسه (1/ 203). (3) انظر: "الموطأ" (1/ 377). (4) في الأصل: "غير عملي". والتصويب من "الأموال". وكان أنس بن مالك تولَّى الصدقات والعشور لعمر، ثم لمَّا ولي أنس أعمال أهل البصرة لابن الزبير استعمل أنس بن سيرين على العشور.

(1/219)


ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وممن لا ذمَّة له من كل عشرة دراهم درهمٌ، قلت: ومن لا ذمة له؟ قال: الروم، كانوا يقدمون الشام (1). حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن حُدَيرٍ قال: استعملني عمر على العُشر، وأمرني أن آخذ من تجّار أهل الحرب العشر، ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين ربع العشر (2). وقال مالك عن ابن شهابٍ عن السائب بن يزيد قال: كنت عاملًا على سوق المدينة في زمن عمر، فكنا نأخذ من النَّبط العُشر (3). وقال مالك عن ابن شهابٍ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: كان عمر يأخذ من النَّبط من الزيت والحنطة نصف العشر؛ لكي يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القُطْنية العُشرَ (4). ولهذا ذهب مالك إليه اتباعًا لعمر. _________ (1) "الأموال" (1474)، وأخرجه أبو يوسف في "الخراج" (308) وعبد الرزاق (7072، 10112) وابن سعد في "الطبقات" (5/ 334) والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 32) والبيهقي (9/ 210) من طرق عن أنس بن سيرين. (2) "الأموال" (1475)، وقد تقدَّم (ص 111، 215) بنحوه. (3) "الأموال" (1478) عن إسحاق بن عيسى عن مالك به. وهو في "الموطأ" (764). (4) "الأموال" (1479) من طرق عن مالك به. وهو في "الموطأ" (763). والقطنية: ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويُطبخ، مثل العدس.

(1/220)


وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمصر: من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من أموالهم من كل عشرين دينارًا دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثُلُثَ دينارٍ فلا تأخذ منها شيئًا، واكتبْ لهم بما تأخذ كتابًا إلى مثله من الحول (1). وقال عبد الله بن محمد بن زياد بن حُدَيرٍ: كنت مع جدي زياد بن حُدَيرٍ على العشور، فمرَّ نصراني بفرسٍ فقوَّموه عشرين ألفًا، فقال: إن شئتَ أعطيتنا أَلْفَين (2) وأخذتَ الفرس، وإن شئت أعطيناك ثمانية عشر ألفًا (3). قال أبو عبيد (4): وإنما فعل عمر في العشر ما فعل لمصالحته إياهم عليه، ولم يكن ذلك بعهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الذين صالحهم لم يكن شَرَطَ عليهم منه شيئًا، وكذلك دهر أبي بكرٍ، وإنما فُتِحت بلاد العجم في زمن عمر، فلذلك كان الذي كان. _________ (1) "الأموال" (1480) من طريق مالك ــ وهو في "الموطأ" (690) ــ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن رُزيق بن حيَّان (عامل عمر على مصر) به. وأخرجه أبو عبيد (1481) وعبد الرزاق (19278) وابن أبي شيبة (9971) من طرق أخرى عن يحيى بن سعيد به. (2) في المطبوع: "العين"، تحريف. (3) "الأموال" (1482)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (10685) وابن زنجويه (116)، من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن زياد به. (4) "الأموال" (1/ 206).

(1/221)


قال الشعبي: أول من وضع العشر في الإسلام عمر - رضي الله عنه - (1). قال أبو عبيد (2): وكان ابن شهابٍ يتأوَّل على عمر فيه شيئًا غيرُه أحبُّ إلينا منه. حدثنا إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنسٍ رحمه الله تعالى قال: سألتُ ابن شهابٍ لِمَ أخذ عمر العشر من أهل الذمة؟ فقال: كان يؤخذ منهم في الجاهلية فأقرَّهم عمر على ذلك (3). قال أبو عبيد (4): والوجه الأول الذي ذكرناه من الصلح أشبهُ بعمر وأولى به، وبه كان يقول مالك بن أنسٍ نفسه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن هشامٍ عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك على العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عُمَّالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر (5). _________ (1) "الأموال" (1483)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (36950). (2) "الأموال" (1/ 206). (3) "الأموال" (1484)، وهو في "الموطأ" (765). (4) "الأموال" (1/ 206). (5) "الجامع" للخلال (1/ 150)، وأخرجه البيهقي (9/ 209) من طريق آخر عن سفيان بن عُيينة به. وقد روي نحوه من طرق أخرى عن أنس بن سيرين، وقد سبق بعضها (ص 219).

(1/222)


فصل إذا عرف هذا فاختلف الأئمة في ذلك: هل يؤخذ من الذمي والحربي أم يختص الأخذ بالحربي؟ فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: لا يؤخذ من الذمي شيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام كلها غير الحجاز، فإن الجزية أثبتتْ له الأمانَ العام على نفسه وأهله وماله في المقام والسفر. فإن دخل إلى أرض الحجاز فيُنظر في حاله: فإن كان دخوله لرسالةٍ أو نقل مِيْرةٍ (2) أذن له [الإمام] بغير شيء، وإن كان لتجارةٍ لا حاجةَ بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضًا بحسب ما يراه، والأولى أن يشترط عليه نصف العشر؛ لأن عمر - رضي الله عنه - شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة. وأما الحربي فإن دخل إلينا لتجارةٍ لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوضٍ يشرطه، ومهما شرط جاز، ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر. وإن أذن مطلقًا من غير شرطٍ لم يؤخذ منه شيء، لأنه أمانٌ من غير شرطٍ، فهو كالهدنة. قال: ويحتمل أن يجب عليه العشر؛ لأن عمر - رضي الله عنه - أخذه، هذا نصه (3). _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 229). (2) الميرة: الطعام. (3) لم أجد هذا النصّ في كتاب "الأم" وغيره. وانظر معناه في "الأم" (5/ 492).

(1/223)


وأما أصحابه فتصرفوا في مذهبه وقالوا (1): أما المعاهد فإذا دخل بلاد الإسلام تاجرًا أخذ منه عشر ماله، وإن دخل بلاد الإسلام من غير تجارةٍ بأن أمَّنه مسلم، فإن دخل غير الحجاز لم يطالب بشيء وإن دخل الحجاز بأمان مسلم فهل يطالب وإن لم يكن تاجرًا فيه وجهان لأصحاب الشافعي. قالوا: وهل يفتقر أخذ العشر إلى شرط الأمام أو يكفي فيه شرط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على وجهين. قالوا: وإذا رأى الإمام أن يحطَّ من العشر في صنفٍ تدعو الحاجة إليه جاز، وإن رأى حط العشر بالكلية لتتسع المكاسب، فهل له ذلك؟ على وجهين: أحدهما: يجوز مراعاةً للمصلحة. والثاني ــ وهو الأصح ــ: لا يجوز، بل لا بد من أخذ شيء وإن قل. وهل له أن يزيد على العشر إذا رأى فيه المصلحة؟ فيه وجهان. قالوا: وإذا أخذ منه العشر في مالٍ ثم عاد به في تلك السنة لم يكرر عليه الأخذ؛ لأن ذلك بمثابة الجزية على رقبته، فإن وافى بمالٍ آخر غيره في ذلك العام أخذنا عشره. قالوا: فإن كان المال المتردد به إلى الحجاز فهل يؤخذ منه كرَّةً ثانيةً في العام؟ فيه وجهان. فهذا تحصيل مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -. _________ (1) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 66 - 68)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 76، 77)، و"روضة الطالبين" (10/ 319، 320).

(1/224)


وأما مذهب الإمام مالك (1) - رضي الله عنه - فيؤخذ العشر عنده من بضائع تجَّار [أهل] الحرب. وأما الذمي فإن اتجر في بلده لم يُطالَب بشيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام أُخذ منه العشر كلما دخل ولو مرارًا في السنة، من المال الصامت والرقيق والطعام والفاكهة وغيرها مما يتجر فيه. ثم اختلف قول ابن القاسم وقول عبد الملك بن حبيبٍ في المأخوذ: هل هو عُشْر ما يدخل به؟ وهو رأي ابن حبيبٍ، أو عشر ما يعوضه؟ وهو رأي ابن القاسم. قالوا: وسبب الاختلاف: هل المأخوذ منهم لحقِّ الوصول إلى البلد الثاني أو لحقِّ الانتفاع فيه؟ قالوا: ويتخرج على هذا فرعان: أحدهما: لو دخلوا ببضاعةٍ أو عينٍ ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا ويشتروا، فابن حبيبٍ يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه؛ لأنهم لم ينتفعوا فيه. الفرع الثاني: لو دخلوا بإماءٍ فابن حبيبٍ يمنعهم من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهن (2)، إذ لا يرى الشركة. _________ (1) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 489 - 491) والزيادة منه. (2) "لأنه يرى ... وبينهن" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل ومصدر المؤلف (عقد الجواهر).

(1/225)


ولو باعوا في بلدٍ ثم اشتروا فيه لم يؤخذ منهم إلا عشر واحدٌ، ولو باعوا في أفقٍ ثم اشتروا بالثمن في أفقٍ آخر أُخِذ منهم عُشرانِ. قالوا: ويُخفَّف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصةً، فيؤخذ منهم نصف العشر. هذا المشهور عن مالك. وروى ابن نافعٍ عنه أنه يؤخذ منهم العشر كاملًا، كما لو حملوا ذلك إلى غيرهما أو حملوا غيرهما إليهما. وإذا دخل الحربي بأمانٍ مطلقٍ أُخذ منه العشر، لا يزاد عليه، وتجوز مُشارطتُه على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول. ولو تَجَر بالخمر والخنزير وما يحرم علينا، فروى ابن نافعٍ عن مالك: يتركونه حتى يبيعوه (1)، فيؤخذ منهم عُشر الثمن. فإن خِيفَ من خيانتهم في ذلك جُعل معهم أمينٌ. قال ابن نافعٍ: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها. وفي "الواضحة" لعبد الملك بن حبيبٍ: إذا نزل الحربي بخمرٍ أو خنزيرٍ أراق الإمام الخمرَ وقتل الخنزير، ولم يُنزِلهم مع بقائهما. قال سحنونٌ: وإذا اشترى الذمي فأُخِذ منه العشر، ثم استُحِقَّ ما بيده أو ردّه بعيبٍ= رجع بالعشر. _________ (1) في الأصل: "حتى يبيعونه". والمثبت من "عقد الجواهر".

(1/226)


قال أشهب: ولو ثبت أن على الذمي دَينًا لمسلم لم يؤخذ منه عُشر، وإن ادَّعاه لم يُصدَّق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي. هذا تفصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى. فصل وأما تفصيل مذهب أحمد (1)، فقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من أين أخذوا [من] أموال أهل الذمة ــ إذا تَجَروا فيها ــ الضِّعفَ؟ على أيِّ سنةٍ هو؟ قال: لا أدري، إلا أنه فِعْل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ثم قال: تُؤخذ منا زكاتنا ربع العشر، ويُضعَّف عليهم فيُؤخذ منهم نصف العشر. قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وإن اتَّجروا ــ يعني أهل الذمة ــ بأموالهم بين أظهرنا هل لنا فيها شيء؟ فأملى عليَّ: ليس فيها شيء، وإنما يؤخذ منهم إذا مرُّوا بتجارتهم علينا. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: تجب على اليهودي والنصراني الزكاة في أموالهم؟ قال: لا تجب عليهم، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر فإن كان أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر، من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقصت من العشرين فليس عليه فيها شيء، ولا تؤخذ منهم إلا مرةً واحدةً، ومن المسلم من كل أربعين دينارًا دينارٌ. قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وما عليهم ــ يعني أهل الذمة ــ _________ (1) انظر: "الجامع" للخلال (1/ 134 - 137). والروايات الآتية منه.

(1/227)


في أموالهم التي يتجرون فيها إذا مرُّوا بها علينا؟ فأملى عليَّ: السنة مرةً. كذا يروي إبراهيم النخعي عن عمر: أن لا يأخذ في السنة إلا مرةً. قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: أهل الذمة إذا تَجَروا من بلدٍ إلى بلدٍ أُخِذ منهم الجزية ونصف العشر، فإذا كانوا في المدينة لم يؤخذ منهم إلا الجزية، وعلى المسلمين ربع العشر، من كل أربعين درهمًا درهمٌ. وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن النصراني واليهودي إذا مرُّوا على العاشر كم يأخذ منهم (1)؟ قال: يؤخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارًا دينارٌ، قلت: فإن كان مع الذمي عشرة دنانير؟ قال: يؤخذ منه نصف دينارٍ، قلت: فإن كان أقلَّ من عشرة دنانير؟ قال: إذا نقصتْ لم يؤخذ منه شيء؟ قال أبو الحارث: وقلت لأبي عبد الله: إذا مرَّ أهل الذمة بالعاشر مرتين يؤخذ منهم العشر كلَّما مرُّوا؟ قال: لا يُؤخذ منهم في السنة إلا مرةً واحدةً وإن مرُّوا بالعاشر مرارًا. قلت: فما أُخذ من أهل الذمة فهي زكاة أموالهم؟ قال: ليس على أهل الذمة زكاةٌ، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر عشَرَهم في السنة مرةً واحدةً. وقال سندي: قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعاشر: يأخذ منه نصف العشر، فقيل: في كم يؤخذ منه؟ قال: إذا كان معه نصف ما يجب على المسلمين فيه، قال: ولا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، هكذا هو في الحديث. _________ (1) في المطبوع: "إذا مرَّا ... يأخذ منهما" خلاف الأصل و"الجامع" للخلال.

(1/228)


وقال الميموني: قال أبو عبد الله: يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا تَجَروا فيها قُوِّمَتْ عليهم، ثم أُخِذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم لقول عمر - رضي الله عنه -: أَضْعِفْها عليهم، فمن الناس من شبَّه الزرع بهذا. وقال إسحاق بن منصورٍ: قلت لأبي عبد الله: قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: في أموال أهل الذمة العفو، فقال: عمر - رضي الله عنه - جعل عليهم ما بلغك، كأنه لم يَرَ ما قال ابن عباس. وروى الإمام أحمد (1) بإسناده قال: جاء شيخٌ نصراني إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: إن عاملك عشَرَني في السنة مرتين، قال: ومن أنت؟ قال: هو (2) الشيخ النصراني، قال عمر - رضي الله عنه -: أنا الشيخ الحنيفي (3). ثم كتب إلى عامله: أن لا تعشروا في السنة إلا مرةً. وأن (4) الجزية والزكاة إنما تؤخذ في العام مرةً. _________ (1) "الجامع" (1/ 148) من طريق صالح بن الإمام أحمد عن أبيه بإسناده عن إبراهيم النخعي مرسلًا، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (10692). وقد وصله أبو يوسف في "الخراج" (303) ويحيى بن آدم (211) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وأبو عُبيد في "الأموال" (1492) من طرق عن زياد بن حُدير ــ وهو العامل المشكو منه ــ عن عمر. (2) كذا، ولفظ أحمد وغيره: "أنا"، ولكن لقبح الكلمة حوَّله المؤلف إلى الغيبة. ومثله حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنه لمَّا حضرت أبا طالب الوفاةُ كان آخر ما كلّمهم: "هو على ملّة عبد المطلب". أخرجه البخاري (1360) ومسلم (24). (3) كذا في الأصل. وفي "الجامع" وغيره من المصادر: "الحنيف". (4) كذا في الأصل. وفي "المغني" (13/ 231): "ولأن"، فهو تعليل آخر، وليس جزءًا من مكتوب عمر.

(1/229)


فصل (1) ومتى أُخذ منهم ذلك مرةً كُتِب لهم حجةٌ بأدائهم، لتكون وثيقةً لهم، وحجةً على من يمرُّون به فلا يَعْشِرهم مرةً ثانيةً، وإن مرَّ ثانيةً (2) بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة وحدها؛ لأنها لم تُعشر. ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة شيء، فلو مرَّ بالعاشر منهم منتقلٌ ومعه أموالُه أو سائمةٌ لم يؤخذ منه شيء، نص عليه أحمد (3). وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها. واختلفت الرواية (4) في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر، فروى عنه صالحٌ: من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقص من العشرين فليس عليه شيء؛ لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاةٌ على المسلم ولا على التغلبي، فلا يجب فيه شيء على الذمي، كما فيما دون العشرة. وروي عنه: أنَّ في العشرة نصفَ مثقالٍ، وليس فيما دونها شيء كما تقدم لفظه في رواية أبي الحارث؛ لأن العشرة مالٌ يبلغ واجبه نصف دينارٍ، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم، ولأنه مالٌ يُعْشَر فوجب في العشرة منه كمالِ الحربي، هذا مذهبه المنصوص عنه. _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 231). (2) في الأصل: "وان من يأتيه" تحريف. والتصويب من "المغني". (3) كما في "المغني" (13/ 231). (4) انظر المصدر السابق.

(1/230)


وخالف ابن حامدٍ نصَّه فقال (1): يؤخذ عُشر الحربي ونصف عُشر الذمي مما قلَّ أو كثر. لأنّ عمر قال (2): "خذ من كل عشرين درهمًا درهمًا"، ولأنه حقٌّ عليه، فواجبٌ في قليل المال وكثيره، كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها. وهذا ضعيفٌ جدًّا، والمراد بقول عمر بيان القدر المأخوذ، لا عموم المأخوذ (3) منه في كل قليلٍ وكثيرٍ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في الرِّقَةِ (4) ربعُ العُشْر" (5)، وقوله: "فيما سَقَتِ السماء العُشْرُ" (6). فصل (7) واختلفت الرواية عن أحمد في الذمي يمرُّ على العاشر بخمرٍ أو خنزيرٍ، فقال في موضع: قال عمر: وَلُّوهم بيعَها، لا يكون إلا على الآخذ منه. يعني: من ثمنه، وقد ذكرنا نصَّه في الجزية وقول عمر. ووافقه على ذلك مسروقٌ والنخعي ومالك وأبو حنيفة ومحمد في الخمر خاصةً. _________ (1) كما في المصدر السابق. (2) في الأصل: "قال ابن عمر قال". والتصويب من "المغني". (3) "لا عموم المأخوذ" ساقطة من المطبوع. (4) الرقة: الفضة. (5) قطعة من كتاب أبي بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، أخرجه البخاري (1454). (6) أخرجه البخاري (1483) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (7) انظر: "المغني" (13/ 232).

(1/231)


وذكر القاضي (1) أن أحمد نصَّ على أنه لا يؤخذ منها شيء. وقد ذكرنا ذلك وأن المسألة رواية واحدةٌ، وأن أحمد إنما منع الأخذ من أعيانها لا من أثمانها، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: الخمر لا يعشرها مسلم. وهو الذي أنكره عمر بن الخطاب على عتبة بن فرقد حين بعث إليه بأربعين ألفَ درهم صدقةَ الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقةَ الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، والله لا استعملتُك على شيء بعدها، فنزعَه. قال أبو عبيد (2): ومعنى قول عمر: "ولُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن" أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعَها، فأنكره عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولِّين بيعَها. وذكرنا حديث سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إنَّ عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن ولُّوهم بيعَها وخُذوا أنتم من الثمن (3). قال أصحابنا (4): ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية _________ (1) أي أبو يعلى. والكلام في "المغني". (2) "الأموال" (1/ 110). (3) تقدَّم (ص 92). (4) انظر: "المغني" (13/ 233).

(1/232)


رؤوسهم وخراج أرضهم، احتجاجًا بقول عمر هذا؛ ولأنها من أموالهم التي نُقِرُّهم على اقتنائها والتصرُّف فيها، فجاز أخذُ أثمانها منهم كأثمان ثيابهم. قلت: ولو بذلوها في ثمنِ مَبيعٍ أو إجارةٍ أو قرضٍ أو ضمانٍ أو بدلِ مُتلَفٍ جاز للمسلم أخذها، وطابتْ له. قالوا (1): وإذا مرَّ الذمي بالعاشر وعليه دينٌ بقدر ما معه أو ينقص (2) عن النصاب، فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذَ نصف العُشر منه؛ لأنه حقٌّ يُعتبر (3) له مال النصاب والحول، فيمنعه الدين كالزكاة. ولا يُقبل قوله إلا ببينةٍ من المسلمين. وإن مرَّ بجاريةٍ فادعى أنها ابنته أو أخته ففيه روايتان (4): إحداهما: يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ملكه فيها. والثانية: لا يُقبل [إلا ببينةٍ]، لأنها في يده فأشبهتْ بهيمتَه. قال أبو الحارث (5): كتبتُ إلى أبي عبد الله وسألته، فقلت: نصراني مرَّ _________ (1) "المغني" (13/ 233). (2) في الأصل: "بنقصه". والمثبت كما في "المغني". (3) في الأصل: "يعيد". والمثبت من "المغني". (4) كما في "المغني" (13/ 233). ومنه الزيادة. (5) "الجامع" للخلال (199).

(1/233)


بعشّارٍ ومعه جاريةٌ، فقال: ابنتي أو أهلي؟ قال: يصدِّقه، ولا يصدِّقه في أن يقول: عليَّ دينٌ. وقال يعقوب بن بختان (1): قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعشَّار فيقول: عليَّ دينٌ، قال: لا يُقبل منه. قيل: فإن كان معه جاريةٌ فقال: هي أهلي أو أختي؟ قال: هو واحدٌ. قال الخلال (2): أشبه القولين لأبي عبد الله ما قال أبو الحارث: يصدِّقه في الجارية ولا يصدِّقه في الدين، وعلى هذا العمل من قوله. قلت: والفرق بينهما أن الأصل عدم الدَّين، والأصل عدم المِلْك في الجارية، وبالله التوفيق. فصل فهذا مذهبه في الذمي. وأما الحربي المُعاهَد فإنه يؤخذ منه العشر. قال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله يقول: من كان من أهل الحرب فعليهم العشرُ، ومن كان من [أهل] العهد فعليهم نصف العشر، في السنة مرةً واحدةً. ومراده بأهل العهد أهل الذمة. _________ (1) "الجامع" (200). (2) المصدر نفسه (1/ 145). (3) "الجامع" (201). ومنه الزيادة.

(1/234)


وقال الميموني (1): وسألت أبا عبد الله فأملى عليَّ: على أهل الحرب العشرُ، حديث أنس بن مالك (2). وقال صالحٌ (3): قال أبي: أهل الحرب إذا مرُّوا بالعشَّار أخذ منهم العُشر، من العشرة واحدًا. وفي موضع آخر قال: قلت لأبي: كم يُؤخذ من أهل الحرب؟ قال: العُشر؛ من كل عشرة دنانير دينارٌ. قلت (4): حديث عمر: "كم يأخذون منكم إذا قدمتم [عليهم؟ قالوا: العُشر" (5). قال: خذ منهم العُشر على حديث أنس]. حدثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ أن عمر بعثه أميرًا أو مصدِّقًا، وأمره أن يأخذ من المسلمين: من كل أربعين درهمًا درهمًا، ومن أهل الذمة: من كل عشرين درهمًا درهمًا، ومن أهل الحرب: من كل عشرةٍ واحدًا (6). _________ (1) المصدر نفسه (202). (2) كذا في الأصل و"الجامع". وفي المطبوع: "كما في حديث أنس بن مالك عن عمر". (3) "الجامع" (203). (4) القائل الخلال في المصدر السابق، ومنه الزيادة. (5) تقدَّم (ص 150) وسيأتي مرَّة أخرى قريبًا. وفي إسناده انقطاع، ولعله لذا قال أحمد: إن المعوَّل إنما هو على حديث أنس عن عمر. (6) "الجامع" (204)، وقد تقدَّم (ص 219، 222) من رواية أنس بن سيرين عن أنس.

(1/235)


فصل (1) ويؤخذ منهم العشر في جميع أموال التجارة. وقال القاضي (2): إذا دخلوا بمِيْرةٍ بالناس إليها حاجةٌ أُذِن لهم في الدخول بغير عُشرٍ، ليكثر على المسلمين. وهذا مذهب الشافعي، ومنصوصُ أحمد وعمر بخلافه. وقد روى مالك عن الزهري عن سالمٍ عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النَّبَط من القُطْنِيّة (3) العُشرَ، ومن الحِنطة والزيت (4) نصف العشر، ليكثر الحملُ إلى المدينة (5). ولكن إذا رأى الإمام التخفيفَ عنهم لهذه المصلحة أو التركَ بالكلية فله ذلك. وهذا عارضٌ، لا أنه ترك تعشير المِيْرة بالكلية. فصل (6) ويؤخذ العشر من كل تاجرٍ (7) صغيرٍ أو كبيرٍ ذكرًا أو أنثى. _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 235). (2) كما في المصدر السابق. (3) هي ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويطبخ مثل العدس. وتقدم تفسيرها. (4) كذا في الأصل و"الموطأ". وفي "المغني": "والزبيب". (5) "الموطأ" (1/ 377، 378). وتقدم. (6) انظر: "المغني" (13/ 235). (7) في "المغني": "ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر، ونصف العشر من كل ذمي تاجر".

(1/236)


وقال القاضي (1): ليس على المرأة عشر ولا نصفُ عشرٍ (2)، سواءٌ كانت حربيةً أو ذمِّيةً، لكن إن دخلتِ الحجازَ عُشِرتْ؛ لأنها ممنوعةٌ من الإقامة به. وهذا التفصيل لا يوجد في شيء من نصوص أحمد البتةَ، ولا تقتضيه أصوله؛ لأنه يأخذ الصدقة من نساء بني تغلب وصبيانهم. والأحاديث في هذا الباب عن الصحابة ليس فيها تفريقٌ بين ذكر أو أنثى ولا بين صغيرٍ وكبيرٍ، وليس هذا بجزيةٍ، وإنما هو حقٌّ يختصُّ بمال التجارة، فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة. فصل (3) ولا يُعشَرون في السنة إلا مرةً واحدةً، ولا يؤخذ من أقلَّ من عشرة دنانير، نصَّ عليهما أحمد. وحُكي عن ابن حامدٍ (4): نأخذ من الحربي كلما دخل إلينا من قليل المال أو كثيره. وهذا قول بعض الشافعية، وهو مخالفٌ لنصِّ عمر ونصِّ أحمد كما تقدم. _________ (1) كما في "المغني". (2) "ولا نصف عشر" ساقطة من المطبوع. (3) انظر: "المغني" (13/ 235). (4) كما في "المغني".

(1/237)


فصل وإن جاء الحربي منتقلًا إلينا بأهله وماله لم نأخذ منه شيئًا إلا من تجارةٍ معه، نص على ذلك أحمد (1). فصل ويؤخذ منهم العشر، سواءٌ أخذوه منّا إذا دخلنا إليهم أو لم يأخذوه، في ظاهر المذهب (2). وعن أحمد رواية أخرى: أنهم إن كانوا يأخذون منّا إذا دخلنا إليهم، وإلا فلا. فصل وأما تفصيل مذهب أبي حنيفة وأهل العراق رحمهم الله تعالى، فقال أبو حنيفة (3): لا نأخذ منهم شيئًا إلا أن يكونوا يأخذون منا فنأخذ منهم مثله، فنأخذ منهم ذلك على وجه القصاص. وحجة هذا القول حديث أبي مِجلَزٍ أنه قال: قيل لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟ _________ (1) انظر: "الجامع" للخلال (1/ 140)، و"المغني" (13/ 231). (2) "المغني" (13/ 233). (3) انظر: "المغني" (13/ 233).

(1/238)


قالوا: العشر، قال: فكذلك خذوا منهم (1). وقال زياد بن حُديرٍ: كنا لا نَعْشِر مسلمًا ولا معاهدًا. قيل: من كنتم تَعْشِرون؟ قال: كفار (2) أهل الحرب، نأخذ منهم كما يأخذون منا (3). ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ مائتي درهمٍ (4). قالوا: فإن [قال:] عليَّ دَينٌ، أو ليس هذا المال لي، وحلف عليه= صُدِّق على ذلك ولم يؤخذ منه شيء. قالوا: وإنما يؤخذ من الصامت والمتاع والرقيق، وما أشبهه (5) من الأموال التي تبقى في أيدي الناس، فإذا مرَّ بالفواكه وأشباهها التي لا بقاء لها فإنه لا يؤخذ [فيها] منه شيء. قالوا: ولا يؤخذ من المال الواحد أكثر من مرةٍ واحدةٍ في السنة، وإن مرَّ _________ (1) تقدَّم (ص 150)، ورواية أبي مجلز عن عمر مرسلة. وله شاهد عند عبد الرزاق (10121) من رواية ابن أبي نجيح عن عمر، وهو منقطع أيضًا، بل الظاهر أنه مُعضل. (2) كذا في الأصل و"المغني". وتقدم (ص 220) بلفظ: "تجّار". وهو أولى. (3) "الجامع" (1/ 150) من رواية عبد الرحمن بن معقل عن زياد بن حُدير، وقد تقدَّم من رواية إبراهيم بن مهاجر عن زياد بنحوه (ص 220). (4) انظر: "الأموال" (2/ 206). والأقوال الآتية منقولة منه، كما سيصرِّح بذلك المؤلف. (5) في الأصل: "وما اسربه". والتصويب من "الأموال".

(1/239)


به مرارًا. وكان سفيان الثوري يقول: لا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ مائة درهمٍ، فإذا بلغ مائة درهم أُخذ منه نصف العشر فيه، وبمقدار النصاب، وبقدر الواجب. قال أبو عبيد (1) بعد أن حكى بعض هذه الأقوال: وكل هذه الأقوال لها وجوهٌ: فأما الذين قالوا من أهل العراق: إنه لا يؤخذ من الذمي شيء حتى يبلغ ماله مائتي درهم، فإنهم شبَّهوه بالصدقة، ذهبوا إلى أن عمر - رضي الله عنه - حين سمَّى ما يجب في أموال الناس التي تُدار للتجارات، إنما قال: يُؤخذ من المسلمين كذا، ومن أهل الذمة كذا، ومن أهل الحرب كذا، ولم يوقِّت في أدنى مبلغ المال وقتًا. ثم قالوا: رأيناه قد ضمَّ أموالَ أهل الذمة إلى أموال المسلمين في حقٍّ واحدٍ، فحملنا وقتَ أموالهم على الزكاة، إذ كان لأداء الزكاة حدٌّ محدودٌ، وهو المائتان فأخذنا أهل الذمة بها وألقينا (2) ما دون ذلك. وأما مالك وأهل الحجاز فقالوا (3): الذي يؤخذ من أهل الذمة ليس بزكاةٍ فيُنظَر فيه إلى مبلغها وإلى حدِّها، إنما هو بمنزلة الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، ألا ترى أنها تجب على الغني والفقير [على] قدر طاقتهم، من غير _________ (1) "الأموال" (2/ 207). (2) كذا في الأصل. وفي "الأموال": "وألغينا". (3) "الأموال" (2/ 207، 208).

(1/240)


أن يكون لأداء ما يملك أحدهم وقتٌ يُوقَّت، وعلى ذلك صولحوا؟ قالوا: فكذلك ما مرُّوا به من التجارات يؤخذ من قليلها وكثيرها. وأما سفيان في توقيته بالمائة، فإنه لمَّا رأى أن الموظَّف (1) على أهل الذمة هو الضِّعف مما على المسلمين، في كل مائتين عشرةٌ، جعل فرع المال على حسب أصله، فأوجب عليهم في المائة خمسةً كما يجب عليهم في المائتين عشرةٌ، ليوافق الحكم بعضه بعضًا، وأسقط ما دون المائة كما عُفِي للمسلمين عما دون المائتين، فصارت المائة للذمي كالمائتين للمسلمين. فهذا رأيه (2) في أهل الذمة. ولستُ أدري ما وقَّت في أهل الحرب، غير أنه ينبغي أن يكون في قوله: إذا مرَّ أحدهم بخمسين درهمًا وجب عليه فيها العُشر. قال أبو عبيد (3): وقول سفيان هو عندي أعدلُ هذه الأقوال وأشبهها بالذي أراد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، مع أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد فسَّر ذلك في كتابه إلى زُريق بن حيَّان (4) الذي ذكرناه أنه كتب إليه: "من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من كل عشرين دينارًا دينارًا، فما نقصَ فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت _________ (1) في الأصل: "الوطف". والتصويب من المصدر السابق. (2) في الأصل: "الأثر". والتصويب من المصدر السابق. (3) "الأموال" (2/ 208). (4) في الأصل: "رقيق بن حنان" تحريف.

(1/241)


ثلث دينارٍ فلا تأخذْ منه شيئًا". قال أبو عبيد: فعشرة دنانير إنما هي معدولةٌ بمائة درهم في الزكاة، وهي عندنا تأويل حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع تفسير عمر بن عبد العزيز، ولا يوجد في هذا مفسِّرٌ هو أعلم منه، وهو قول سفيان. قال: فهذا ما جاء في توقيت أداء ما تجب فيه الحقوق من أموال أهل الذمة والحرب. وأما قولهم في الذمي إذا ادعى أن عليه دَيْنًا، واختيارُ أهل العراق أن يقبل منه، وقول مالك وأهل الحجاز إنه لا يُقبل منه وإن أقام البينة على دعواه= فإن الذي أختار من ذلك قولًا (1) بين القولين، فأقول: إن كان له شهودٌ من المسلمين على دَيْنه قُبِل ذلك منه، ولم يكن على ماله سبيلٌ؛ لأن الدَّين حقٌّ قد وجب لربه عليه، وهو أولى به من الجزية؛ لأنها وإن كانت حقًّا للمسلمين في عنقه فإنه ليس يُحصَى (2) أهل هذا الحق، فيُقْدَرَ على قَسْم مال الذمي بينهم وبين هذا الغريم بالحِصَص ولا يُعلَم كم يؤخذ منه، وقد عُلِم حقُّ هذا الغريم، فلهذا جعلناه أولى بالدَّين من غيره. وإن لم يُعلَم دَيْنُ هذا الذمي إلا بقوله كان مردودًا غير مقبولٍ منه؛ لأنه حقٌّ قد لزِمه للمسلمين، فهو يريد إبطاله بالدعوى، وليس بمؤتَمنٍ في ذلك كما يؤتَمن المسلمون على زكواتهم في الصامت، إنما هذا فيءٌ، وحكمه غير حكم الصدقة. _________ (1) في الأصل و"الأموال": "قولًا" هكذا منصوبًا، والوجه الرفع. (2) في الأصل: "يخص". والتصويب من "الأموال".

(1/242)


وأما اختلافهم في ممرِّه على العاشر مرارًا في السنة، وقول أهل العراق وسفيان: إنه لا يؤخذ إلا مرةً واحدةً، وقول مالك وأهل الحجاز: إنه يؤخذ منه في السنة (1) كلّما مر= فإن الرواية في هذا للإمامين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فقد كُفِينا النظَرَ فيه. حدثنا محمد بن كثيرٍ، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ابن زياد بن حُدَيرٍ: أن أباه كان يأخذ من نصراني في كل سنةٍ مرتين، فأتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك يأخذ مني العُشْرَ في السنة مرتين، فقال عمر - رضي الله عنه -: ليس ذلك له، إنما له في كل سنةٍ مرةً. ثم أتاه فقال: هو الشيخ النصراني، فقال عمر - رضي الله عنه -: وأنا الشيخ الحنيف، قد كتبتُ لك في حاجتك (2). حدثنا يزيد عن جرير بن حازمٍ قال: قرأتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن يأخذ العشور ثم يكتب بما يأخذ منهم البراءةَ، فلا يأخذ منهم من ذلك المال ولا من ربحه زكاة سنةٍ، ويأخذ من غير ذلك المال إن مرَّ به (3). قال أبو عبيد (4): فحديث عمر هذا هو عدلٌ بين قول أهل الحجاز وقول _________ (1) "في السنة" ساقطة من المطبوع. (2) "الأموال" (1492)، وقد تقدَّم تخريجه (ص 229). (3) "الأموال" (1493) (4) المصدر نفسه (2/ 210).

(1/243)


أهل العراق: أنه إن كان المال التالي هو الذي مر به بعينه في المرة الأولى لم يُؤخذ منه تلك السنةَ ولا من ربحه أكثرَ من مرةٍ؛ لأن الحق الذي قد لزِمَه فيه قد قضاه، فلا يُقضى حقٌّ واحدٌ من مالٍ مرتين. وإن مرَّ بمالٍ سواه أُخذ منه وإن جدَّد ذلك في كل عامٍ مرارًا، إذا كان قد عاد إلى بلاده ثم أقبل بمالٍ سوى المال الأول؛ لأن المال الأول لا يُجزئ عن الآخر، ولا يكون في هذا أحسنَ حالًا من المسلم. ألا ترى أنه لو مرَّ بمالٍ لم يُؤدِّ زكاته أُخذت منه الصدقة، ثم إن مرَّ بمالٍ آخر في عامه ذلك لم يكن أخذت منه الزكاة أنها تؤخذ منه من ماله هذا أيضًا؛ لأن الصدقة لا تكون قاضيةً عن المال الآخر؟ فهذا قدرُ ما في أهل الذمة. فأما أهل الحرب، فكلهم يقول: إذا انصرف إلى بلاده ثم عاد بماله ذلك أو بمالٍ سواه، إنَّ عليه العُشْرَ كلَّما مرَّ به؛ لأنه إذا دخل دار الحرب بطلتْ عنه أحكام المسلمين، فإذا عاد إلى دار الإسلام كان مستأنفًا للحكم كالذي لم يدخلها قطُّ، لا فرقَ بينهما. وكلهم يقول: لا يُصدَّق الحربي في شيء مما يدَّعي من دَينٍ عليه، أو قولِه: إن هذا المال ليس لي، ولكن يؤخذ منه على كل حالٍ. إلا أن أهل العراق يقولون: يُصدَّق الحربي في خصلةٍ واحدةٍ، إذا مرَّ بجوارٍ فقال: هؤلاء أمهاتُ أولادي، قُبِل منه، ولم يؤخذ منه عُشر قيمتهن. قلت: فقد حكى أبو عبيد الاتفاق على أن الحربي يُعشَر كلما دخل إلينا، وفرَّق بينه وبين الذمي. والذي نصَّ عليه الإمام أحمد والشافعي أنه لا يؤخذ منه في السنة إلا مرةً، وبعض أصحاب أحمد والشافعي قال: يؤخذ كلما دخل

(1/244)


إلينا (1)، وقد تقدم (2) نص أحمد في رواية حنبلٍ وابنه صالحٍ: أنه لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، واحتجَّ بحديث عمر. وأعدل الأقوال في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، وهو الذي اختاره أبو عبيد، فإن المال الثاني له حكم نفسه لا يتعلق به حكم المال الأول، كما لو أخذت الزكاة من مسلم لم ينسحبْ حكمُها على ما لم يؤخذ من سائر أمواله، ولا يؤخذ منه في السنة مرارًا، فهكذا مال المعاهد، والله أعلم. * * * * _________ (1) انظر: "المغني" (13/ 235). (2) (ص 227، 228). وانظر: "الجامع" للخلال (1/ 146).

(1/245)


 فصل في الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انطلِقُوا إلى يهودَ"، فخرجنا معه حتى جئنا بيتَ المِدْراس (1)، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداهم فقال: "يا معشرَ اليهود، أَسْلِموا تَسْلَموا"، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم. فقال: "ذلك أريد"، فقال: "أَسلِموا تَسلموا"، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك أريد"، ثم قالها الثالثة فقال: "اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد [أن] أُجْلِيَكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئًا فليَبِعْه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله". متفق عليه (2)، ولفظه للبخاري. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس! قال: اشتدَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعُه، فقال: "ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تَضِلُّوا (3) بعده _________ (1) المِدراس: الموضع الذي يُدرس فيه كتاب اليهود. (2) البخاري (7348) ومسلم (1765). (3) في المطبوع: "لا تضلون". والمثبت من الأصل موافق للرواية.

(1/246)


أبدًا"، فتنازعوا ــ ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازعٌ ــ فقالوا: ما له؟ أَهَجَرَ؟ استفهِمُوه. فقال: "ذَروني، الذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه"، فأمرهم بثلاثٍ فقال: "أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، وأَجيزوا الوفدَ بنحوٍ مما كنت أُجيزهم"، والثالثة إما سكتَ عنها، وإما قالها فنسيتُها. متفق عليه (1)، ولفظه للبخاري. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن يهودَ بني النضير وقُريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وأقرَّ قريظةَ ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة (2) بعد ذلك، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحِقُوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا فأَمَّنهم. وأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة كلهم: بني قَينُقاع وهم قوم عبد الله بن سلامٍ، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة. متفق عليه (3)، واللفظ لمسلم. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَع فيها إلا مسلمًا". رواه مسلم (4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: آخرُ ما عهِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُترك _________ (1) البخاري (3168) ومسلم (1637). (2) "ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة" ساقطة من المطبوع. (3) البخاري (4028) ومسلم (1766) (4) برقم (1767).

(1/247)


بجزيرة العرب دينانِ". رواه أحمد (1). وفي "مسنده" (2) أيضًا عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي، إن أنتَ وُلِّيتَ الأمرَ بعدي فأَخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب". وفي "المسند" (3) أيضًا عن أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قال: آخرُ ما تكلَّم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَخرِجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". قال بكر بن محمد عن أبيه (4): وسألت أبا عبد الله عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) برقم (23652)، وأخرجه أيضًا ابن هشام في "السيرة" (2/ 665) وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 19) والطبراني في "الأوسط" (1066) من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة. وهذا إسناد حسن. (2) برقم (661)، وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في "السنة" (1218) وابن بطة في "الإبانة" (2916 - نشرة عادل آل حمدان)، وإسناده واهٍ، فيه قيس بن الربيع الأسدي والأشعث بن سوَّار، كلاهما ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق (9994) من طريق آخر فيه الحسن بن عُمارة، متروك الحديث. وسيأتي في كلام المؤلف لاحقًا أنه غير محفوظ. (3) برقم (1691)، وأخرجه أيضًا الدارمي (2540) وأبو يعلى (872) والبيهقي (9/ 208). وإسناده جيِّد، وقد اختاره الضياء (3/ 319، 320). (4) "الجامع" للخلال (140). وليس فيه جواب الإمام أحمد، وكأنه سقط من النسخة. وهو ثابت في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 196).

(1/248)


"أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب"، قال: إنما الجزيرة موضع العرب، وأما موضع يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هو جزيرة العرب. موضع العرب: الذي يكونون فيه. وقال المرُّوذي (1): سئل أبو عبد الله عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب"، قال: هم الذين قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليست لهم ذمةٌ، ليس هم مثل اليهود والنصارى، أي يُخرَجون من مكة والمدينة دون الشام. يريد أن اليهود والنصارى يُخرَجون من مكة والمدينة (2). قال إسحاق بن منصورٍ (3): قال أحمد: ليس لليهود والنصارى أن يدخلوا الحرم. وقال حنبلٍ: قال عمي (4): جزيرة العرب يعني المدينة وما والاها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجلى يهودَ، فليس لهم أن يقيموا بها. وقال عبد الله بن أحمد (5): سمعت أبي يقول: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا _________ (1) "الجامع" (141). (2) الفقرة الأخيرة من المؤلف للإيضاح. (3) "الجامع" (142). وانظر "مسائله" (2/ 540). (4) أي الإمام أحمد، وقد كان حنبل بن إسحاق بن حنبل يدعو الإمام بـ"عمّي" مع أنهما ابنا عمّ، ولعلَّ ذلك لكبر سنّه إجلالًا له. وقوله هذا رواه الخلال في "الجامع" (143). (5) "الجامع" (144).

(1/249)


يبقى دينانِ بجزيرة العرب"، تفسيره: ما لم يكن في يد فارس والروم. وقال الأصمعي: كل ما كان دون أطراف الشام. وقال إبراهيم بن هانئٍ (1): سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب، فقال: ما لم يكن في يد فارس والروم. قيل له: ما كان خلف العرب؟ قال: نعم. وفي "المغني" (2): جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، قاله سعيد بن عبد العزيز. وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عَدَنٍ طولًا، ومن تِهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا. وقال أبو عبيدة: هي من حَفَرِ أبي موسى (3) إلى اليمن طولًا، ومن رَمْل يَبْرِين (4) إلى منقطَع السَّماوة (5) عرضًا. قال الخليل: إنما قيل لها: جزيرة العرب لأن بحرَ الحبش وبحرَ فارس والفراتَ قد أحاطت بها، ونُسِبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدِنها. _________ (1) المصدر السابق (145). (2) (13/ 243). وانظر لهذه الأقوال "معجم ما استعجم" (1/ 6). (3) بين فَلْج وفُلَيج، وهو على خمس مراحل من البصرة. انظر: "معجم ما استعجم" (1/ 457). (4) هو رمل معروف في ديار بني سعد من تميم. المصدر نفسه (4/ 1387). (5) السَّماوة: مفازة بين الكوفة والشام، وقيل: بين الموصل والشام، وهي من أرض كلب. المصدر السابق (3/ 754).

(1/250)


وقول الإمام أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها، يريد مكة واليمامة وخيبر واليَنْبُع وفَدَك ومخاليفها وما والاها. وهذا قول الشافعي، لأنهم لم يُجْلَوا من تَيْماء ولا من اليمن (1). قلت: وهذا يردُّ قول سعيد بن عبد العزيز: إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلا أن يريد أوَّلَه. وحديث أبي عبيدة صريحٌ في أن أرض نجران من جزيرة العرب، فإنه قال: "أخرِجوا أهلَ نجران ويهودَ أهل الحجاز من جزيرة العرب"، وكذا قوله لعلي - رضي الله عنه -: "أخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب". قال أبو عبيد (2): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد قال: جاء أهلُ نجران إلى علي - رضي الله عنه - فقالوا: شفاعتُك بلسانك، وكتابك بيدك، أخرَجَنا عمرُ من أرضنا فرُدَّها إلينا، فقال: ويلكم، إن عمر كان رشيدَ الأمر، ولا أغيِّر شيئًا صنعه عمر. قال أبو معاوية: قال الأعمش: فكانوا يقولون: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا. قلت: وهذا يدلُّ على أن حديث علي - رضي الله عنه - الذي ذكرناه قبلُ غير محفوظٍ، فإنه لو كان عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْرُه بإخراج أهل نجران من جزيرة _________ (1) إلى هنا انتهى النقل من "المغني". وبعدها تعليق المؤلف. (2) "الأموال" برقم (296)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (32667) وابن زنجويه (418) وعبد الله في "السنة" (1285) والآجري في "الشريعة" (1235) والبيهقي (10/ 120).

(1/251)


العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعلَ ذلك وكان رشيدَ الأمر، أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر - رضي الله عنه - قطعًا لمنازعتهم وطلبهم. فإن قيل: فأهلُ نجران كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالحهم، وكتب لهم كتابَ أمْنٍ على أرضهم وأنفسهم وأموالهم، فكيف استجاز عمر - رضي الله عنه - إخراجهم؟ قيل: قد قال أبو عبيد (1): إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران ــ وهم أهل صلحٍ ــ لحديث يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم خاصةً، يحدِّثونه عن إبراهيم بن ميمونٍ مولى آل سَمُرة عن ابن سمرة عن أبيه (2) عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان آخر ما تكلَّم به أن قال: "أخرِجوا اليهودَ من الحجاز وأخرِجوا أهلَ نجران من جزيرة العرب". فإن قيل: زدتم الأمر إشكالًا، فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح؟ قيل: الصلح كان معهم بشروطٍ فلم يَفُوا بها، فأمر بإخراجهم. قال أبو عبيد (3): وإنما نراه قال ذلك لنكْثٍ كان منهم، أو لأمرٍ أحدثوه بعد الصلح. _________ (1) "الأموال" (1/ 187). (2) "عن أبيه" ليس في "الأموال". وهو موصول بذكره في المصادر الأخرى، وقد تقدم تخريجه. (3) "الأموال" (1/ 188).

(1/252)


قال (1): وذلك بيِّنٌ في كتابٍ كتبه عمر - رضي الله عنه - إليهم قبل إجلائه إياهم منها. حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عونٍ قال: قال لي محمد بن سيرين: انظُرْ كتابًا قرأته عند فلان بن جبيرٍ، فكلِّمْ فيه زيادَ بن جُبيرٍ، قال: فكلَّمتُه فأعطاني، فإذا في الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم. من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رُعاشَ (2) كلهم، سلامٌ عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعدُ، وإنه من يَتُبْ منكم ويُصلِح لا يضرُّه ارتداده ونُصاحبه صحبةً حسنةً، فادَّكِروا ولا تَهلِكوا، وليُبشِرْ من أسلم منكم. فإن أبى إلا النصرانية فإنَّ ذمتي بريئةٌ ممن وجدناه ــ بعد عشرٍ تبقى من شهر الصوم ــ من النصارى بنجران. أما بعد، فإنَّ يعلى كتب يعتذر أن يكون أَكره أحدًا منكم على الإسلام أو عذَّبه عليه، إلا أن يكون وعيدٌ لم ينفُذْ إليه منه شيء. أما بعد، فقد أمرتُ يعلى أن يأخذ منكم نصفَ ما عملتم من الأرض، وإني لن أريد نزْعَها منكم ما أصلحتم" (3). وقال الشيخ في "المغني" (4): فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحَهم على ترك الربا، فنقَضُوا عهدَه. _________ (1) الكلام متصل بما قبله في المصدر السابق. (2) موضع من أرض نجران. انظر: "معجم ما استعجم" (2/ 660). وفيه ذكر كتاب عمر هذا. (3) "الأموال" (300)، وإسناده صحيح إلى زياد بن جبير. (4) (13/ 243، 244).

(1/253)


فإن قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرَّ أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب. وأصرحُ من هذا أنه مات ودِرعُه مرهونةٌ عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعًا من شعيرٍ أخذه لأهله. قيل: أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يُقِرَّهم إقرارًا لازمًا، بل قال: "نُقِرُّكم ما شِئنا". وهذا صريحٌ في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزًا من جهته متى شاء نقضه بعد أن يَنْبِذ إليهم على سواءٍ، فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر - رضي الله عنه -. فروى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فَدَّعَ (2) أهلُ خيبر عبدَ الله بن عمر قام عمر خطيبًا فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامَلَ يهودَ خيبر على أموالهم، وقال: "نُقِرُّكم ما أقرَّكم الله تعالى"، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدِي عليه من الليل، ففُدِّعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوٌّ غيرهم، هم عدوُّنا وتُهمتُنا، وقد رأيتُ إجلاءهم. فلما أجمع عمر - رضي الله عنه - على ذلك أتاه أحد بني [أبي] الحُقَيق فقال: يا أمير المؤمنين، أتُخرِجنا وقد أقرَّنا محمد وعامَلَنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر - رضي الله عنه -: أظننتَ أني نسيتُ قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) برقم (2730). والزيادة منه. (2) الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رُسْغ اليد أو القدم. والفعل الثلاثي منه لازم، والمتعدّي فدَّع كما ضبطه الصغاني في "التكملة" (4/ 315).

(1/254)


لك: "كيف بك إذا أُخرِجتَ من خيبر تَعدُو بك قَلُوصك ليلةً بعد ليلةٍ؟ " فقال: كانت هذه هُزَيلةً (1) من أبي القاسم، فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله! قال: فأجلاهم عمر - رضي الله عنه - وأعطاهم قيمةَ ما كان لهم من الثمر مالًا وإبلًا وعُروضًا من أقتابٍ وحبالٍ وغير ذلك. وفي "صحيحه" (2) أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلَبَهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يُجْلَوا منها ولهم ما حملَتْ رِكابهم، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء والحلقة ــ وهي السلاح ــ، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يُغيِّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهدَ، فغيَّبوا مَسْكًا فيه مالٌ وحُلِيٌّ لحُيَيِّ بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجلِيت النَّضير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمِّ حُيَيٍّ ــ واسمه سَعْية ــ: _________ (1) تصغير الهزل ضدّ الجدّ. (2) لم يخرجه البخاري بهذا الطول، وإنما أخرجه مختصرًا (2328، 2338، 2730) من طرق عن نافع عن ابن عمر. ومنشأ الوهم أن البخاري ذكر عقب الحديث السابق (2730) أنه قد "رواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله، أحسبه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ولم يَسُق لفظه، فأتى الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (1/ 165، 166) وساق لفظه مطوَّلًا من "مستخرج البَرقاني" ــ كما قاله الحافظ في "الفتح" (5/ 329) ــ ونسبه إلى البخاري. والظاهر أن المؤلف صادر عن الحميدي، وقد أورده أيضًا في "زاد المعاد" (3/ 388، 389). وهذا السياق المطوَّل أخرجه أيضًا ابن حبان (5199) وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 365) والبيهقي في "السنن" (9/ 137) و"الدلائل" (4/ 229)، من طرق عن حماد بن سلمة به. وإسناده جيِّد.

(1/255)


"ما فَعَل مَسْكُ حُيَيٍّ الذي جاؤوا (1) به من النضير؟ "، قال: أذهبَتْه النفقات والحروب، فقال: "العهد قريبٌ، والمال أكثر من ذلك". وقد كان حُيَيٌّ قُتِل قبل ذلك، فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَعْية إلى الزبير فمسَّه بعذابٍ، فقال: قد رأيتُ حُيَيًّا يطوف في خرِبةٍ هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المَسْك في الخربة، فقَتلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنَي أبي الحُقَيق وأحدهما زوج صفية بنت حُيَيّ بن أخطب، وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكْث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد، دَعْنا نكون في هذه الأرض نُصلِحها ونقومُ عليها. ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه غلمانٌ يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا، فأعطاهم خيبر على أنَّ لهم الشطْرَ من كل زرعٍ وشيءٍ ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عامٍ يَخْرُصها عليهم، ثم يُضمِّنهم الشطْرَ، فشكَوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدةَ خرصه، وأرادوا أن يَرْشُوه، فقال عبد الله: أتُطعِمونني السُّحتَ؟ والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليَّ، ولأنتم أبغضُ الناس إليَّ مِن عِدِّتِكم (2) من القردة والخنازير، ولا يَحملني بغضي إياكم وحبِّي إياه على أن لا أعدِلَ عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعطي كلَّ امرأةٍ من نسائه ثمانين وَسَقًا من تمرٍ كلَّ _________ (1) كذا في الأصل. وفي مصادر التخريج و"زاد المعاد": "جاء". (2) في المطبوع: "عدلكم" خلاف ما في الأصل و"صحيح ابن حبان".

(1/256)


عامٍ وعشرين وَسَقًا من شعيرٍ، فلمَّا كان زمان عمر - رضي الله عنه - غشُّوا المسلمين، وألقَوا ابنَ عمر من فوقِ بيت ففَدَعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر - رضي الله عنه - بينهم. فقال رئيسهم: لا تُخرِجْنا، دَعْنا نكونُ فيها كما أقرَّنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ، فقال عمر - رضي الله عنه - لرئيسهم: أتراه سَقَط عليَّ قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بك إذا رَقَصَتْ بك راحلتُك نحو الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا؟ ". وقسمها عمر - رضي الله عنه - بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية (1). وأما رَهْن النبي - صلى الله عليه وسلم - دِرعَه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يَقْدَمون المدينةَ بالمِيرة والتجارة من حولها، أو من أهل خيبر، وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف: بني قينقاع وبني النضير وقريظة. فأما بنو قينقاع فحاربهم أولًا، ثم منَّ عليهم. وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضًا، وقتل بني قريظة (2)، وأجلى كلَّ يهودي كان بالمدينة. فهذا اليهودي المرتهن: الظاهرُ أنه من أهل العهد قدِمَ المدينة بطعامٍ، أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه، فالله أعلم. فهذا أصل إجلاء الكفّار من أرض الحجاز. ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك، فقال مالك (3): أرى أن يُجلَوا من أرض العرب كلها؛ لأن رسول الله _________ (1) هنا انتهى لفظ حديث ابن عمر الطويل. (2) في الأصل: "بني النضير" خطأ. (3) كما في "المغني" (13/ 242).

(1/257)


- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع دينانِ في جزيرة العرب" (1). وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث عمر - رضي الله عنه - سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأُخرِجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أَدع فيها إلا مسلمًا". وقال الشافعي (3): يُمنعون من الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، وهي قراها. أما غير الحرم منه فيُمنَع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحةٍ، كأداء رسالةٍ أو حمل متاعٍ يحتاج إليه المسلمون، وإن دخل لتجارةٍ ليس فيها كبير حاجةٍ لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئًا، ولا يمكّن من الإقامة أكثر من ثلاثٍ. وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب (4)، ومنعهم من الإقامة فيها. وهذا وهمٌ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، وأقرَّهم فيها، وأقرَّهم أبو بكر بعده، وأقرَّهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولم يُجْلُوهم من اليمن مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلم يُعرَف عن إمامٍ أنه أجلاهم من اليمن. _________ (1) حديث حسن، سبق تخريجه. (2) برقم (1767). (3) انظر: "المهذب" (3/ 319). (4) انظر: "نهاية المطلب" (18/ 61، 62)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 67).

(1/258)


وإنما قال الشافعي وأحمد: يُخْرَجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر ويَنْبُع ومخاليفها، ولم يذكرا اليمن، ولم يُجلَوا من تَيماء أيضًا. وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر، فالبحر بينها وبين الجزيرة؟ (1) فهذا القول غلطٌ محضٌ. وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية، فلو قدِمَ رسولٌ لم يَجُزْ أن يأذن له الإمام في دخوله، ويَخرج الوالي أو من يثق به إليه، ولا يختصُّ المنع بخِطَّة مكة بل بالحرم كله. وأما حرم المدينة فلا يُمنع من دخوله لرسالةٍ أو تجارةٍ أو حَمْل متاعٍ. فصل فهذا تفصيل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. وأما مذهب أحمد (2) رحمه الله تعالى فعنده يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة؛ لأن النصارى كانوا يتَّجرون إلى المدينة في زمن عمر - رضي الله عنه - كما تقدم. وحكى أبو عبد الله بن حمدان (3) عنه رواية: أن حرم المدينة كحرم مكة _________ (1) كذا في الأصل. وينظر الخطّ الفاصل بين اليمن وبين باقي جزيرة العرب في "معجم البلدان" (5/ 447، 448). (2) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "المغني" (13/ 244، 245). (3) في "الرعاية الكبرى" (2/ 33 أ).

(1/259)


في امتناع دخوله. والظاهر أنها غلطٌ على أحمد، فإنه لم يَخْفَ عليه دخولُهم بالتجارة في زمن عمر - رضي الله عنه - وبعده وتمكينُهم من ذلك. ولا يأذن (1) لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيامٍ. وقال القاضي: أربعةٌ، وهي حدُّ ما يُتِمُّ المسافر الصلاة (2). وإذا مرِض بالحجاز جازت له الإقامة، لمشقَّةِ الانتقال على المريض. ويجوز أن يقيم معه من يُمرِّضه. وإن كان له دَينٌ على أحدٍ وكان حالًّا أُجبِر غريمُه على وفائه، فإن تعذَّر وفاؤه لمطْلٍ أو غيبةٍ مُكِّن من الإقامة لِيَستوفيَ دينَه، وفي إخراجه ذهاب ماله. وإن كان الدَّين مؤجَّلًا لم يُمكَّن من الإقامة، ويُوكِّل من يستوفيه؛ لأن التفريط منه. فإن أراد أن يضع ويتعجَّل فهل يجوز ذلك؟ على روايتين منصوصتين، أشهرهما المنع، وأصحهما عند شيخنا الجواز (3). والمنع قول ابن عمر (4) _________ (1) أي الإمام. (2) "المغني" (13/ 244). (3) انظر الكلام على هذه المسألة في "إغاثة اللهفان" (2/ 679 - 685). (4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1352)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (11/ 61)، والبيهقي (6/ 28).

(1/260)


- رضي الله عنهما -، والجواز قول ابن عباس (1) - رضي الله عنهما -. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك حديثًا رواه الدارقطني (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى يهود بني النضير قالوا: إن لنا ديونًا لم تَحُلَّ، فقال: "ضَعُوا وتعجَّلوا". وإسناده حسن، ليس فيه إلا مسلم بن خالدٍ الزنجي، وحديثه لا ينحطُّ عن رتبة الحسن. فإن دعت الحاجة إلى الإقامة لبيع بضاعته فوقَ ثلاثٍ، ففيه وجهان (3): أحدهما: يجوز له ذلك؛ لأن في تكليفه ترْكَها أو حمْلَها معه ضياعَ ماله، وذلك يمنع الدخول بالبضائع، ويضرُّ بأهل الحجاز، ويقطع الجلب عنهم، وهذا هو الصحيح. والثاني: يُمنع من الإقامة؛ لأن له منها بُدًّا. _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (8/ 72، 429)، وابن أبي شيبة (4/ 471)، والبيهقي (6/ 28). (2) برقم (2880 - 2983)، وأخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط" (817، 6755) والحاكم (2/ 52)، والبيهقي (6/ 28). وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي كما ذكر المؤلف، وقد اختُلف عليه في إسناده على أوجه، وجعل الدارقطني الحمل عليه فقال: "مسلم بن خالد ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث". وأعلَّه أبو حاتم ــ كما في "العلل" لابنه (1134) ــ بأن ابن جريج خالف الزنجي فرواه من حديث عكرمة مرسلًا، وقال: لا يمكن أن يكون مثل هذا الحديث متصلًا. (3) انظر: "المغني" (13/ 244).

(1/261)


فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز، ويقيم فيه ثلاثة أيامٍ أو أربعةً، ولا يدخلون إلا بإذنٍ من الإمام أو نائبه. وقيل: يكفي إذنُ آحاد المسلمين. هذا حكم غير الحرم. قال أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله تعالى (1): ولا يُمنعون من تَيماء وفَيْدَ ونجرانَ ونحوهن. وقد تقدم الحديث المصرِّح بأن نجران من جزيرة العرب. قالوا: فإن دخلوا غير الحرم لم يجز إلا بإذن مسلم. وأما الحرم فيُمنعون دخولَه بكل حالٍ، ولا يجوز للإمام أن يأذن في دخوله، فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أُخرِج، وإن دُفِن نُبِش (2). وهل يُمنَعون من حرم المدينة؟ حكي عن أحمد رحمه الله تعالى فيه روايتان (3) كما تقدم. وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنزل وفدَ نصارى نجران في مسجده، وحانتْ صلاتهم فصلَّوا فيه (4)، وذلك عام الوفود بعد نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ _________ (1) المصدر نفسه. (2) المصدر نفسه (13/ 245). (3) المصدر نفسه (13/ 246). (4) أخرجه ابن هشام في "السيرة" (1/ 574) والبيهقي في "الدلائل" (5/ 382) من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام ... (فذكر خبر دخولهم المسجد وصلاتهم إلى المشرق). وهذا إسناد مرسل. ولكن قد صحَّ واستفاض أنهم قد دخلوا المدينة والتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكفي هذا القدر مستدَلًّا للمسألة، وبالله التوفيق.

(1/262)


هَذَا} [التوبة: 28]، فلم تتناول الآية حرمَ المدينة ولا مسجدَها. فصل وأما تفصيل مذهب مالك (1) رحمه الله تعالى، فإنهم يُقَرُّون عنده في جميع البلاد إلا جزيرة العرب: وهي مكة والمدينة وما والاهما. وروى عيسى بن دينارٍ عنه دخول اليمن فيها. وروى ابن حبيبٍ أنها من أقصى عدنٍ وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب والمشرق، وما بين المدينة (2) إلى مُنقطَع السماوة. ولا يُمنَعون من الاجتياز بها مسافرين ولكن لا يقيمون. فصل وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فعنده: لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها، ولكن لا يستوطنون به. وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم. وكأنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح هذا القياس، فإن لحرم مكة أحكامًا يخالف بها _________ (1) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 487). (2) في المصدر السابق: "بين سَرَب". وسرب بلد قرب المدينة. انظر: "معجم ما استعجم" (2/ 731، 1234).

(1/263)


المدينة، على أنها ليست عنده حرمًا. فإن قيل: الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام، ولم يمنع أهل الكتاب منه، ولهذا أذن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحج الأكبر: "أن لا يحج بعد العام مشركٌ" (1). والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب، فلم يتناولهم المنع. قيل: للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين. فابن عمر وغيره كانوا يقولون: هم من المشركين. قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: لا أعلم شركًا أعظم من أن يقول: المسيح ابن الله وعُزير ابن الله (2). وقد قال تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. والثاني: لا يدخلون في لفظ المشركين؛ لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]. قال شيخنا (3): والتحقيق أن أصل دينهم دين التوحيد فليسوا من _________ (1) أخرجه البخاري (369) ومسلم (1347) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (5285). (3) انظر نحو هذا الكلام في "مجموع الفتاوى" (14/ 91 - 93، 32/ 179)، و"الجواب الصحيح" (3/ 115 - 116)، و"تلخيص كتاب الاستغاثة" (ص 148).

(1/264)


المشركين في الأصل، والشرك طارٍ عليهم، فهم منهم باعتبار ما عرضَ لهم لا باعتبار أصل الدين، فلو قُدِّر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجسًا، والحكم يعمُّ بعموم علّته. فإن قيل: فالآية نبَّهت على دخولهم الحرم عوضًا عن دخول عبَّاد الأصنام (1)، فإنه سبحانه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، فإنها لما نزلت انقطع عنهم ما كان المشركون يَجلبون إليهم من المِيرة، فأعاضهم الله بالجزية. قيل: ليس في هذا ما يدلُّ على دخول أهل الجزية المسجدَ الحرام بوجهٍ ما، بل تؤخذ منهم الجزية وتُحمل إلى من بالمسجد الحرام وغيره، على أن الإغناء من فضل الله وقع بالفتوح والفيء والتجارات التي حملها المسلمون إلى مكة. فإن قيل: فالآية إنما منعت قُربانَهم المسجدَ الحرام خاصةً، فمن أين لكم تعميم الحكم للحرم كله؟ قيل: المسجد الحرام يُراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله. فالأول كقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 143]. والثاني قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ _________ (1) في هامش الأصل: "الأوثان" بعلامة خ.

(1/265)


{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 23]، على أنه قد قيل: إن المراد به هاهنا الحرم كله، والناس سواءٌ فيه. والثالث كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وإنما أُسرِي به من داره من بيت أم هانئٍ (1)، وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] مكة كلّها والحرم، لم يخصَّ ذلك أحدٌ منهم بنفس المسجد الذي يُطاف فيه. ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها، ولم يكونوا يُمنَعون من المدينة، كما في "الصحيح" (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات ودِرْعُه مرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، فلم يُجْلِهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند نزولها من الحجاز، وأمر مؤذِّنَه أن يؤذِّن بأن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ. فإن قيل: فما تقولون في دخولهم مساجدَ الحلّ (3)؟ _________ (1) روى ذلك ابن سعد في "الطبقات" (2/ 182 - 183) والطبري في "التفسير" (14/ 414) والطبراني في "الكبير" (24/ 432) والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 404) من طرق عن أم هاني، وكلها واهية بمرة. والذي في "الصحيح" من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُسري به من بيته، وفي حديث مالك بن صعصعة أنه أسري به من عند البيت من الحطيم. أخرجهما البخاري (349، 3887) ومسلم (163، 164). (2) البخاري (2916) ومسلم (1603) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) انظر: "المغني" (13/ 246).

(1/266)


قيل: إن دخلوها بغير إذنٍ مُنِعوا من ذلك ولم يُمكَّنوا منه لأنهم نجسٌ، والجنب والحائض أحسنُ حالًا منهم وقد مُنِعا من دخول المساجد. وإن دخلوها بإذن مسلم ففيه قولان للفقهاء هما روايتان عن أحمد. ووجه الجواز: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل الوفود من الكفّار في مسجده، فأنزل فيه وفدَ نجران ووفدَ ثقيفٍ (1) وغيرهم. وقال سعيد بن المسيب: كان أبو سفيان يدخل مسجدَ المدينة وهو على شِركه (2). وقدم عُمير بن وَهْبٍ ــ وهو مشركٌ ــ فدخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ليَفْتِك به، فرزقَه الله تعالى الإسلام (3). ووجه المنع: أنهم أسوأ حالًا من الحائض والجنب، فإنهم نجسٌ بنص _________ (1) سبق تخريج ما يتعلق بوفد نجران، وأما خبر وفد ثقيف فأخرجه أحمد (17913) وأبو داود (3026) وابن خزيمة (1328) من حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص الثقفي. ورجاله ثقات. (2) لم أقف عليه. وخبر مجيء أبي سفيان إلى المدينة قبل إسلامه ذكره ابن إسحاق وغيره من أصحاب المغازي، وليس فيه التصريح بدخوله المسجد. انظر: "سيرة ابن هشام" (2/ 389)، ومرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة (38057). (3) روى ذلك أصحاب المغازي: عروة (من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه)، وموسى بن عقبة عن الزهري، وابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، كلهم مرسلًا. أخرجها الطبراني في "الكبير" (17/ 56 - 61) والبيهقي في "الدلائل" (3/ 147 - 149).

(1/267)


القرآن، والحائض والجنب ليسا بنجسٍ بنصّ السنة (1). ولما دخل أبو موسى على عمر بن الخطاب وهو في المسجد أعطاه كتابًا فيه حسابُ عمله، فقال له عمر: ادعُ الذي كتبه ليقرأه، فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولِمَ؟ قال: إنه نصراني (2). وهذا يدل على شهرة ذلك بين الصحابة. ولأنه قد انضمَّ إلى حدث جنابته حدثُ شركِه، فيتغلَّظ المنع. وأما دخول الكفار مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك لما كان بالمسلمين حاجةٌ إلى ذلك، ولأنهم كانوا يخاطبون النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهودهم، ويؤدُّون إليه الرسائل، ويحملون منه الأجوبةَ، ويسمعون منه الدعوة. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج من المسجد لكل من قصدَه من الكفار، فكانت المصلحة في دخولهم ــ إذ ذاك ــ أعظمَ من المفسدة التي فيه، بخلاف الجنب والحائض فإنه كان يُمكِنهما التطهرُ والدخول إلى المسجد. وأما الآن فلا مصلحةَ للمسلمين في دخولهم مساجدَهم والجلوس فيها، فإن دعت إلى ذلك مصلحةٌ راجحةٌ جاز دخولها بالإذن (3)، والله أعلم. * * * * _________ (1) كما في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لمَّا أخبره أنه انخنس منه لأنه كان جنبًا: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس". أخرجه البخاري (283) ومسلم (371). (2) أخرجه البيهقي في "السنن" (9/ 204، 10/ 127) بإسناد حسن. (3) في هامش الأصل: "بلا إذن" برمز خ.

(1/268)


ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدَهم في طريقٍ فاضطرُّوه إلى أضيقهِ"، رواه مسلم في "صحيحه" (1). وفي "الصحيحين" (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سلَّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السَّامُ عليك، فقل: وعليك". هكذا بالواو، وفي لفظ (3): "عليك" بلا واوٍ. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". رواه أحمد (4) هكذا. وفي لفظٍ للإمام أحمد (5): "فقولوا: عليكم" بلا واوٍ. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، ففهمتُها فقلت: عليكم السَّامُ واللعنة، فقال رسول الله _________ (1) برقم (2167). (2) البخاري (6257) ومسلم (2164/ 9). (3) البخاري (6928) ومسلم (2164/ 8). (4) برقم (11948)، وهو عند البخاري (6258) ومسلم (2163) أيضًا. (5) برقم (13211).

(1/269)


- صلى الله عليه وسلم -: "مهلًا يا عائشة، فإن الله يحبُّ الرفقَ في الأمر كله"، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد قلت: وعليكم". متفق عليه (1)، واللفظ للبخاري. وفي لفظ آخر: "قد قلت: عليكم"، ولم يذكر مسلم (2) الواو. وفي لفظ للبخاري (3): فقالت عائشة رضي الله عنها: عليكم! ولعنكم الله وغضب عليكم! قال: "مهلًا يا عائشة، عليكِ بالرفق، وإياكِ والعنف والفحش"، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: "أولم تسمعي ما [قلتُ]؟ رددتُ عليهم، فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ". وعند مسلم (4): "قلت: بل عليكم السَّام والذَّامُ". وعنده أيضًا (5) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سلَّم ناسٌ من يهودَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: "عليكم"، فقالت عائشة رضي الله عنها وغضبتْ: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: "بلى قد سمعتُ فرددتُ: عليكم، إنا نُجاب عليهم ولا يُجابون علينا". _________ (1) البخاري (6256) ومسلم (2165/ 10 - الطريق الأول). (2) (2165/ 10 - الطريق الثاني). (3) برقم (6030). والزيادة منه. (4) برقم (2165/ 11). (5) "صحيح مسلم" (2166).

(1/270)


وعن أبي بَصْرة (1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّا غَادُون على يهودَ، فلا تبدأوهم بالسلام، فإن سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم". رواه الإمام أحمد (2). وله أيضًا (3) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني راكبٌ غدًا إلى يهودَ فلا تبدأوهم بالسلام، وإذا سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم". لما كان السلام اسمًا من أسماء الرب تبارك وتعالى، وهو اسم مصدرٍ في الأصل ــ كالكلام والعطاء ــ بمعنى السلامة= كان الرب تعالى أحقَّ به من كل _________ (1) في المطبوع: "أبي نضرة" تصحيف. (2) برقم (27237)، وأخرجه بنحوه أحمد (27235، 27236) والبخاري في "الأدب المفرد" (1102) والنسائي في "الكبرى" (10148) وغيرهم من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني (ولم يُذكر في رواية أحمد: 27237)، عن أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. (3) برقم (17295 مسند عقبة، 18045 مسند أبي عبد الرحمن الجهني)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (3699) وأبو يعلى (936) والطبراني في "الكبير" (22/ 290) من طرق عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الجُهني (قيل: هو عقبة بن عامر). رجاله ثقات، وهو الحديث السابق بعينه، إلا أن ابن إسحاق وهم فيه فجعله عن أبي عبد الرحمن الجهني، والصحيح: عن أبي بصرة الغفاري. على أن ابن إسحاق نفسه قد رواه تارة على الصواب كما في "الأدب المفرد" (1102) وغيره. انظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص 342)، و"أنيس الساري" (1529).

(1/271)


ما سواه؛ لأنه السالم من كل آفةٍ وعيبٍ ونقصٍ وذمٍّ، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكمالُه من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك. والسلام يتضمن سلامةَ أفعاله من العبث والظلم وخلافِ الحكمة، وسلامةَ صفاته من مشابهة صفات المخلوقين، وسلامةَ ذاته من كل نقصٍ وعيبٍ، وسلامةَ أسمائه من كل ذمّ. فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له وسلْبَ جميع النقائص عنه، وهذا معنى "سبحان الله والحمد لله". ويتضمن إفراده بالألوهية وإفراده بالتعظيم، وهذا معنى "لا إله إلا الله والله أكبر". فانتظم اسم "السلام" الباقياتِ الصالحاتِ التي يُثنى بها على الرب جل جلاله. ومن بعض تفاصيل ذلك أنه الحيّ الذي سَلِمتْ حياته من الموت والسِّنَة والنوم والتغير، القادر الذي سلمتْ قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، العليم الذي سلِمَ علمُه أن يعزُبَ عنه مثقالُ ذرةٍ أو يغيبَ عنه معلومٌ من المعلومات، وكذلك سائر صفاته على هذا. فرضاه سبحانه سلامٌ أن ينازعه الغضب، وحلمه سلامٌ أن تُنازعه العَجلةُ، ورحمته سلام أن تنازعها العقوبة، وعفوه سلام أن (1) ينازعه الانتقام، وإرادته سلامٌ أن ينازعها الإكراه، وقدرته سلامٌ أن ينازعها العجز، ومشيئته سلامٌ أن ينازعها خلاف مقتضاها، وكلامه سلامٌ أن يَعرِض له كذِبٌ أو ظلمٌ، بل تمَّت كلماته صدقًا وعدلًا، ووعده سلامٌ أن يلحقه خُلْفٌ، وهو سلامٌ أن يكون قبله شيء أو بعده شيء أو فوقه شيء أو دونه شيء، بل هو _________ (1) "تنازعه العجلة ... وعفوه سلام أن" ساقطة من المطبوع.

(1/272)


العالي على كل شيء وفوق كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، والمحيط بكل شيء، وعطاؤه ومنعُه سلامٌ أن يقع في غير موقعه، ومغفرتُه سلامٌ أن يبالي بها أو تضيق بذنوب (1) عباده أو تصدر عن عجزٍ عن أخذِ حقِّه كما تكون مغفرة الناس. ورحمتُه وإحسانه ورأفته وبرُّه وجوده وموالاته لأوليائه وتحببُه إليهم وحَنانه عليهم وذكره لهم وصلاته عليهم= سلامٌ أن تكون لحاجةٍ منه إليهم أو تعزُّزٍ بهم أو تكثُّرٍ بهم. وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كمالَه (2) المقدس بوجهٍ من الوجوه. وأخطأ كلَّ الخطأ من زعم أنه من أسماء السلوب، فإن السلب المحض لا يتضمن كمالًا، بل اسم السلام متضمنٌ للكمال السالم من كل ما يضادُّه، وإذا لم تَظلم هذا الاسمَ ووفَّيتَه (3) معناه وجدتَه مستلزمًا لإرسال الرسل، وإنزالِ الكتب، وشَرْعِ الشرائع، وثبوتِ المعاد، وحدوث العالم، وثبوتِ القضاء والقدر، وعلوِّ الرب تعالى على خلقه ورؤيته لأفعالهم وسَمْعِه لأصواتهم واطلاعِه على سرائرهم وعلانياتهم، وتفرُّدِه بتدبيرهم، وتوحُّدِه في كماله المقدس عن شريكٍ بوجهٍ من الوجوه. فهو السلام الحق من كل وجهٍ، كما هو النزيه البريء عن نقائص البشر من كل وجهٍ. ولما كان سبحانه موصوفًا بأن له يدينِ لم يكن فيهما شمالٌ، بل كلتا يديه _________ (1) في الأصل: "ذنوب" بدون الباء. (2) في المطبوع: "كلامه" تحريف. (3) في الأصل: "ووفيناه". والمثبت أولى بالسياق.

(1/273)


يمينٌ (1) مباركةٌ، كذلك أسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها خيرٌ، وصفاته كلها كمالٌ. وقد جعل سبحانه السلام تحيةَ أوليائه في الدنيا وتحيتَهم يوم لقائه، ولمَّا خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له: "اذهَبْ إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمعْ ما يُحيُّونك به، فإنها تحيتُك وتحيةُ ذريتك مِن بعدك" (2). وقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ اُلسَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 128]، وقال: {وَاَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ اِلسَّلَامِ} [يونس: 25]. وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام، فقيل: السلام هو الله، والجنة داره. وقيل: السلام هو السلامة، والجنة دار السلامة من كل آفةٍ وعيبٍ ونقصٍ. وقيل: سميت دار السلام؛ لأن تحيتهم فيها سلامٌ. ولا تَنافِيَ بين هذه المعاني كلها (3). وأما قول (4) المسلم: السلام عليكم، فهو إخبارٌ للمسلَّم عليه بسلامته من غيلة المسلِّم وغِشِّه ومكرِه ومكروهٍ يناله منه، فيردُّ الرادُّ عليه مثل ذلك، أي: فعلَ الله ذلك بك وأحلَّه عليك. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول: أنه في الأول خبرٌ، وفي الثاني طلبٌ. _________ (1) كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه مسلم (1827). (2) أخرجه البخاري (3326) ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة. (3) انظر: "حادي الأرواح" للمؤلف (1/ 194، 195). (4) هذا الوجه الثاني، وما تقدم كان الوجه الأول.

(1/274)


ووجهٌ ثالث: وهو أن يكون المعنى: أَذكُر الله الذي عافاك من المكروه، وآمنَك من المحذور، وسلَّمك مما تخاف، وعاملَنا من السلامة والأمان بمثل ما عاملك به. فيردُّ الرادُّ عليه مثلَ ذلك، ويُستحب له أن يزيده، كما أن من أهدى لك هديةً يُستحب لك أن تُكافئه بزيادةٍ عليها، ومن دعا لك ينبغي أن تدعو له بأكثر من ذلك. ووجهٌ رابع: وهو أن يكون معنى سلام المسلم وردِّ الراد بشارةً من الله سبحانه، جعلها على ألسنة المسلمين لبعضهم بعضًا بالسلامة من الشر، وحصول الرحمة والبركة، وهي دوام ذلك وثباته. وهذه البشارة أُعطُوها لدخولهم في دين الإسلام، فأعظمهم أجرًا أحسنهم تحيةً، وأسبقهم في هذه البشارة كما في الحديث: "وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام" (1). واشتقَّ الله سبحانه لأوليائه من تحية بينهم اسمًا من أسمائه، واسم دينه الإسلام الذي هو دين أنبيائه ورسله وملائكته. قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 82]. ووجهٌ خامس: وهو أن كل أمةٍ من الأمم لهم تحيةٌ بينهم من أقوالٍ _________ (1) أخرجه البخاري (6077، 6237) ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -.

(1/275)


وأعمالٍ، كالسجود وتقبيل الأيدي وضرْب الجُوك (1)، وقول بعضهم: انعمْ صباحًا، وقول بعضهم: عِشْ ألفَ عامٍ ونحو ذلك. فشرعَ الله تبارك وتعالى لأهل الإسلام "سلامٌ عليكم"، وكانت أحسنَ من جميع تحيات الأمم بينها، لتضمُّنِها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها، فهي الأصل المقدَّم على كل شيء. وانتفاع العبد بحياته إنما يحصل بشيئين: بسلامته من الشر وحصول الخير، والسلامة من الشر مقدَّمةٌ على حصول الخير وهي الأصل، فإن الإنسان ــ بل وكل حيوانٍ ــ إنما يهتمُّ بسلامته أولًا وغنيمته ثانيًا. على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير، فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص، ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة، فتضمنت السلامةُ نجاةَ العبد من الشر وفوزَه بالخير، مع اشتقاقها من اسم الله. والمقصود أن السلام اسمه ووصفه وفعله، والتلفظ به ذكرٌ له، كما في "السنن" (2) أن رجلًا سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردَّ عليه، حتى تيمَّم وردَّ عليه، _________ (1) الجوك (معرَّب «چوك» بالفارسية): الفخذ. وضرب الجوك نوع من البروك والجثوّ عند الترك والمغول في حضرة ملوكهم. انظر: المعجم الفارسي "برهان قاطع" (2/ 670)، و"تكملة المعاجم العربية" (2/ 351). وعلق عليه في المطبوع: لعله "الجنوك" جمع جنك، آلة يُضرب بها كالعود والدف. وهو بعيد ومخالف لما في الأصل و"زاد المعاد" (3/ 399). (2) لأبي داود (17)، والنسائي (38) وابن ماجه (350)، أخرجه أيضًا أحمد (19034) والدارمي (2683) وابن خزيمة (206) وابن حبان (803) والحاكم (1/ 167)، من حديث المهاجر بن قُنفذ - رضي الله عنه - بإسناد صحيح، إلا أن لفظه: "فلم يردَّ عليه حتى توضأ". وأمَّا ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - تيمم ثمَّ ردَّ عليه ففي حديث أبي الجهم عند مسلم (369) وغيره، ولكن ليس فيه اعتذاره إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كرهت ... ".

(1/276)


وقال: "إني كرِهتُ أن أذكر الله إلا على طهارةٍ". فحقيقٌ بتحيةٍ هذا شأنها أن تُصان عن بذْلِها لغير أهل الإسلام، وأن لا يُحيَّا بها أعداءُ القدوس السلام. ولهذا كانت كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكفار: "سلامٌ على من اتبع الهدى" (1)، ولم يكتب لكافرٍ "سلامٌ عليكم" أصلًا، فلهذا قال في أهل الكتاب: "ولا تَبدؤوهم بالسلام". فصل وأما الرد عليهم فأمر أن يقتصر به على "عليكم"، واختلفت الرواية في إثبات الواو وحذفها، وصحَّ هذا وهذا. فاستشكلت طائفةٌ (2) دخولَ هذه الواو هاهنا إذ هي للتقرير وإثبات الأول، كما إذا قيل لك: فعلتَ كذا وكذا وكذا، فقلتَ: وأنتَ فعلتَه، أو قال: فلانٌ يصلِّي الخمس، فتقول: ويزكِّي ماله. _________ (1) كما في حديث ابن عباس عند البخاري (7) ومسلم (1773) في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم. (2) منهم الخطابي في "معالم السنن" (8/ 75)، وابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 38). وانظر: "فتح الباري" (11/ 44 - 46)، ففيه ذكر هذا الإشكال والرد عليه. وراجع كلام المؤلف بنحو ما هنا في "بدائع الفوائد" (2/ 665 وما بعدها)، و"تهذيب السنن" (3/ 434).

(1/277)


قالوا: فالموضع موضع إضرابٍ، لا موضع تقريرٍ ومشاركةٍ، فهو موضع (بل عليكم)، لا موضع (وعليكم)، فإذا دخلت (1) الواو كان إعادةً لمثل قوله من غير إشعارٍ بأنك علمت مراده، وإذا أتيت بلفظة "بل" أشعرتَه أنك فهمت مراده ورددتَه عليه قصاصًا، والأول أليق بالكرم والفضل. ولهذا السر ــ والله أعلم ــ دخلت الواو، على أنه ليس في دخولها إشكالٌ، فإن الموت لا ينجو منه أحدٌ، وكأن الرادّ يقول: الذي أخبرتَ بوقوعه علينا نحن وأنت فيه سواءٌ، فهو علينا وعليك. وهذا أولى من تغليط الراوي في إثباتها إذ لا سبيلَ إليه. فإن قيل: بل إليه سبيلٌ، قال الخطابي (2): يرويه عامَّة المحدثين بالواو، وابن عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب. قيل: قد ضبط الواوَ عبدُ الله بن عمر، وضبطها عنه عبد الله بن دينارٍ، وضبطها عنه مالك. قال أبو داود في "سننه" (3): كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينارٍ، ورواه الثوري أيضًا عن عبد الله بن دينارٍ فقال: وعليكم، انتهى. وهذا الحديث قد أخرجه البخاري في "صحيحه" (4) كما تقدم. وحديث _________ (1) في الأصل: "حذف"، ولا يستقيم به المعنى. (2) في "معالم السنن" (8/ 75). وانظر التعليق عليه في "زاد المعاد" (2/ 496). (3) بعد أن أخرجه (5206) من طريق عبد العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بإثبات الواو. (4) برقم (6257) من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك به. وتابع التنيسي بإثبات الواو عن مالك: ابنُ أبي أويس (الأدب المفرد: 1106)، وابن وهب (مستخرج أبي عوانة: 9488)، وقتيبة بن سعيد (ابن السني: 243). ورواه آخرون عن مالك بحذف الواو، منهم: القعنبي (مسند الموطأ: 478)، وأبو مصعب الزهري (الموطأ: 2021)، ويحيى الليثي (الموطأ: 2759)، ومحمد الشيباني (الموطأ: 913)، وخالد بن مخلد (الدارمي: 2677).

(1/278)


سفيان الثوري رواه البخاري ومسلم، وهو بالواو عندهما (1). وأما قول الخطابي: وابن عيينة رواه بحذفها= فقد اختُلِف على ابن عيينة أيضًا (2). وجوابٌ آخر ولعله أحسن من الجواب الأول: أنه ليس في دخول الواو تقريرٌ لمضمون تحيتهم، بل فيه ردُّها وتقريرها لهم، أي: ونحن أيضًا ندعو لكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءهم قد حصل ووقع منهم، فإذا ردّ عليهم المجيب بقوله: "وعليكم" كان في ذكر الواو سرٌّ لطيفٌ، وهو أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردودٌ عليكم، لا تحيةَ لكم غيرُه. والمعنى: ونحن نقول لكم ما قلتم بعينه. _________ (1) نعم هو عند مسلم (2164/ 9) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري بإثبات الواو. ولكن البخاري أخرجه (6928) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري ومالك قالا: ثنا عبد الله بن دينار ... بحذف الواو. وكذا هي رواية يحيى عن سفيان عند أحمد (4698). وتابع ابن مهدي في روايته عن سفيان بإثبات الواو: وكيع (أحمد: 5221، ابن أبي شيبة: 26276) وعبد الرزاق (أحمد: 5938). (2) فرواه عنه بحذفها: الحميدي في "مسنده" (671)، والحارث بن مسكين عند النسائي في "الكبرى" (10139). ورواه عنه بإثباتها: أحمد بن عبدة عند البزار (6122).

(1/279)


كما إذا قال رجل لمن يسبُّه: عليك كذا وكذا، فقال: وعليك، أي وأنا أيضًا قائل لك ذلك، وليس معناه أن هذا قد حصل لي وهو حصل لك معي، فتأمَّلْه. وكذلك إذا قال: غفر الله لك، فقلت: ولك، وليس المعنى أن المغفرة قد حصلت لي ولك، فإن هذا علم غيبٍ، وإنما معناه أن الدعوة قد اشتركتُ فيها أنا وأنت. ولو قال: غفر الله لك، فقلت: لك، لم يكن فيه إشعارٌ بذلك. وعلى هذا فالصواب إثبات الواو، وبه جاءت أكثر الروايات، وذكرها الثقات الأثبات، والله أعلم. فصل هذا كله إذا تحقق أنه قال: السام عليكم، أو شكَّ فيما قال. فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: "سلامٌ عليكم" لا شكَّ فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 85]، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئًا من أحاديث الباب بوجهٍ ما، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالاقتصار على قول الراد "وعليكم" بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال: "ألا تَرَيْنَنِي قلتُ: وعليكم" لما قالوا: السام عليكم، ثم قال: "إذا سلَّم عليكم أهل

(1/280)


الكتاب فقولوا: وعليكم". والاعتبار وإن كان بعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: سلامٌ عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يردَّ عليه نظير سلامه، وبالله التوفيق. * * * *

(1/281)


فصل في عيادة أهل الكتاب قال المرُّوذي (1): بلغني أن أبا عبد الله سئل عن رجل له قرابة نصراني: يعوده؟ قال: نعم. قال الأثرم (2): وسمعت أبا عبد الله يُسأل عن الرجل له قرابة نصراني يعوده؟ قال: نعم. قيل له: نصراني، قال: أرجو أن لا تضيق العيادة. قال الأثرم (3): وقلت له مرةً أخرى: يعود الرجل اليهودي والنصراني (4)؟ قال: أليس عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهودي ودعاه إلى الإسلام؟ وقال أبو مسعودٍ الأصبهاني (5): سألت أحمد بن حنبلٍ عن عيادة القرابة والجار النصراني، قال: نعم. وقال الفضل بن زيادٍ (6): سمعت أحمد سُئل عن الرجل المسلم يعود أحدًا من المشركين؟ قال: إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (600). وفيه نقص. (2) المصدر نفسه. وفيه: "أرجو أن لا يضيق لعباده". ولعله تصحيف. (3) المصدر نفسه. (4) في الأصل: "والنصارى". والمثبت من "الجامع". (5) "الجامع" (601). (6) المصدر نفسه (602).

(1/282)


منه فليعُدْه، كما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلام اليهودي، فعرض عليه الإسلام. وقال إسحاق بن إبراهيم (1): سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون له الجار النصراني، فإذا مرض يعوده؟ قال: يجيء فيقوم على الباب ويعذر إليه. وقال مهنأ (2): سألت أبا عبد الله عن الرجل يعود الكافر؟ فقال: إذا كان يرتجيه فلا بأس به، ويعرض عليه الإسلام، قلت له: وترى إذا عاده يدعوه إلى الإسلام؟ قال: نعم. وقال أبو داود (3): سمعت أحمد يُسأل عن عيادة اليهودي والنصراني، فقال: إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام، نعم. وقال جعفر بن محمد (4): سئل أبو عبد الله عن الرجل يعود شريكًا له يهوديًّا أو نصرانيًّا، قال: لا، ولا كرامة. فهذه ثلاث رواياتٍ منصوصاتٍ عن أحمد: المنع، والإذن، والتفصيل، فإن أمكنه أن يدعوه إلى الإسلام ويرجو ذلك منه عاده. وقد ثبت في "صحيح البخاري" (5) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرِض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد _________ (1) المصدر نفسه (603). وفيه: "ويعتذر إليه". (2) المصدر نفسه (604). (3) المصدر نفسه (605). وانظر "مسائله" (ص 189). (4) المصدر نفسه (607). (5) برقم (1356).

(1/283)


عند رأسه، فقال له: "أسلِمْ"، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذَه من النار". وفي "الصحيحين" (1) عن سعيد بن المسيب أن أباه أخبره قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل بن هشامٍ وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: "أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعرِضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال آخرَ ما كلَّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 114]. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاد عبد الله بنَ أُبيٍّ ابنَ سلول رأس المنافقين (2). _________ (1) البخاري (1360) ومسلم (24). (2) أخرجه أحمد (21758) وأبو داود (3094) وابن هشام في "السيرة" (1/ 586) والطبراني (1/ 164) والحاكم (1/ 341) والبيهقي في "الدلائل" (5/ 285) من حديث ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد. وإسناده حسن، وقد ورد تصريح ابن إسحاق بالتحديث في رواية ابن هشام والبيهقي. وقد اختاره الضياء (4/ 117 - 119).

(1/284)


وقال الأثرم (1): حدثني مصرِّف بن عمرٍو الهمداني، ثنا يونس ــ يعني ابن بُكيرٍ ــ ثنا سعيد بن مَيْسرة قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد رجلًا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده، وقال: "كيف أنت يا يهودي يا نصراني؟ ". * * * * _________ (1) لم أجده في القدر المطبوع من "سننه" ولا في"الناسخ والمنسوخ" له. وقد أخرجه سمُّويه في "فوائده" (69) والبيهقي في "الشعب" (8803) من طريق محمد بن سعيد ابن الأصبهاني، عن يونس بن بكير به. وإسناده واهٍ، فإن سعيد بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، بل قد اتُّهم بالوضع.

(1/285)


فصل في شهود جنائزهم قال محمد بن موسى (1): قلت لأبي عبد الله: يُشيِّع المسلم جنازةَ (2) المشرك؟ قال: نعم. وقال محمد بن الحسن بن هارون (3): قيل لأبي عبد الله: ويشهد جنازته؟ قال: نعم، نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة؛ كان شهد جنازة أمِّه، وكان يقوم ناحيةً، ولا يحضر (4) لأنه ملعون (5). وقال أبو طالب (6): سألت أبا عبد الله عن الرجل يموت وهو يهودي _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (623). (2) في الأصل: "جاره". والتصويب من هامشه، وكذا في "الجامع". (3) "الجامع" (624). (4) في الجامع: "ولا يحفر"، وهو تصحيف، فقد جاء فيه على الصواب برقم (630). (5) لم أجد الأثر، ولكن أخرج ابن أبي شيبة (11964، 11965) من طريقين عن الشعبي قال: ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشهدها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 363) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 484) بإسناد لا بأس به عن الحارث بن أبي ربيعة أنه سأل ابن عمر عن أمٍّ له (ولفظ الطحاوي: أمِّ ولدٍ له) نصرانية ماتت، فقال له ابن عمر: "تأمر بأمرك وأنت بعيد ثم تسير أمامها، فإن الذي يسير أمام الجنازة ليس معها". (6) "الجامع" (625).

(1/286)


وله ولدٌ مسلم، كيف يصنع؟ قال: يركب دابته ويسير أمام الجنازة، ولا يكون خلفه، فإذا أرادوا (1) أن يدفنوه رجع، مثل قول عمر. قلت: أراد ما رواه سعيد بن منصورٍ (2) قال: حدثني عيسى بن يونس عن محمد بن إسماعيل، عن عامر بن شقيقٍ، عن أبي وائلٍ قال: ماتت أمي نصرانيةً، فأتيتُ عمر فسألته فقال: اركبْ في جنازتها وسِرْ أمامها. قال الخلال (3): حدثنا علي بن سهل بن المغيرة قال: حدثني أبي سهل بن المغيرة، حدثنا أبو معشرٍ، عن محمد بن كعبٍ القُرظي، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: جاء قيس بن شمَّاسٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمَّه توفيتْ وهي نصرانيةٌ، وهو يحبُّ أن يحضرها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اركَبْ دابتَك وسِرْ أمامها، فإذا ركبتَ وكنتَ أمامَها فلستَ معها". قال _________ (1) في الأصل: "أراد". والمثبت من "الجامع". (2) برقم (1040 - التفسير) ومن طريقه الخلال في "الجامع" (626)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (11966) ــ ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 363) ــ عن عيسى بن يونس به. وإسناده لا بأس به. (3) "الجامع" (627). وأخرجه أيضًا الدارقطني (1835) من طريق علي بن سهل بن المغيرة به، وضعَّفه بأبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي. ووقع في رواية الدارقطني: "ثابت بن قيس بن شماس" وهو أصح، لأنه ليس لأبيه صحبة، ولا ثبت إسلامه. إلا أن يكون المراد بـ "قيس بن شماس": قيس بن ثابت بن قيس بن شماس، من كبار التابعين، ولكن لا يكون الحديث مرفوعًا حينئذ. وعلى كلٍّ فهو من تخاليط أبي نجيح، فإنه كما قال أحمد: لا يقيم الإسناد.

(1/287)


علي بن سهلٍ: رأيت أحمد بن حنبلٍ يسأل أبي عن هذا الحديث، فحدَّثه به. وقال حنبلٌ (1): سألت أبا عبد الله عن المسلم تكون له أمٌّ نصرانيةٌ أو أبوه أو أخوه أو ذو قرابته، ترى أن يلي شيئًا من أمره حتى يواريه؟ قال: إن كان أبًا أو أمًّا أو أخًا أو قرابةً قريبةً وحضره فلا بأس، قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يواري أبا طالب (2). قلت: فترى أن يفعل هو ذلك؟ قال: أهل دينه يَلُونه وهو حاضرٌ يكون معهم، حتى إذا ذهبوا به تركه معهم، وهم يَلُونه. قال حنبلٌ (3): حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، أن عبد الله بن ربيعة قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن أمِّي ماتت، وقد علمتَ الذي كانت عليه من النصرانية، قال: أحسِنْ ولايتَها وكَفْنها، ولا تَقُمْ على قبرها. قال يوسف: كنا معه في ناحيةٍ، _________ (1) "الجامع" (1/ 299). (2) أخرجه أحمد (759) والنسائي (1/ 110) والبيهقي (1/ 304) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب. وإسناده ضعيف. (3) من طريقه أخرجه الخلال في "الجامع" (1/ 300). وفي إسناده لين من أجل علي بن زيد بن جدعان. والظاهر أن قوله: "عبد الله بن ربيعة" خطأ من بعض الرواة، وإنما هو "الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة" كما عند ابن المنذر وغيره من طريق آخر لا بأس به، وقد سبق قريبًا. بل وأخرجه الأثرم في "السنن" ــ كما في "إكمال تهذيب الكمال" (3/ 297) ــ من نفس طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران بلفظ: أن أم الحارث لما ماتت وكانت نصرانية سأل ابن عمر ... إلخ بنحوه.

(1/288)


والنصارى يَعُجُّون (1) مع أمه. وقال إسحاق بن منصورٍ (2): قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون له جارٌ مسلم ماتت أمه نصرانيةً، يتبع هذا جنازتَها؟ قال: لا يتبعُها، يكون ناحيةً منها. وقال الأثرم (3): سمعت أبا عبد الله يُسأل عن شهود جنازة النصراني الجار، قال: على نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة، كان شهد جنازة أمه، فكان يقوم ناحيةً ولا يحضر، لأنه ملعونٌ. وقال صالح بن أحمد (4): قلت لأبي: رجل مسلم ماتت له أمٌّ نصرانيةٌ، يتبع جنازتها؟ قال: يكون ناحيةً منها. وقال سعيد بن منصورٍ (5): ثنا سفيان، عن أبي سنانٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل مات أبوه نصرانيًّا، قال: يشهده ويدفنه. _________ (1) أي يرفعون صوتهم بالدعاء. (2) "الجامع" (629). (3) المصدر نفسه (630). (4) المصدر نفسه (631). (5) في "سننه" برقم (1037 - التفسير)، ومن طريقه الخلال في "الجامع" (632) والنقل منه. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (11969) والطبري في "تفسيره" (12/ 27) وابن المنذر في "الأوسط" (5/ 363) والضياء في "المختارة" (10/ 396) من طرق عن أبي سنان به، وإسناده صحيح.

(1/289)


قال الخلال (1): كان أبو عبد الله لم يعجبه (2) ذلك، ثم روى عنه (3) هؤلاء الجماعة أنه لا بأس به، واحتجَّ بالأحاديث. يعني أنه رجع إلى هذا القول، والله أعلم. * * * * _________ (1) في "الجامع" (1/ 301). (2) في "الجامع": "لا يعجبه". (3) في الأصل: "عن". والتصويب من "الجامع".

(1/290)


فصل في تعزيتهم قال حمدان الوراق (1): سئل أبو عبد الله: يُعزَّى أهل الذمة؟ فقال: ما أدري، أُخبِرك، ما سمعتُ في هذا. وقال الأثرم (2): سئل أبو عبد الله: أيعزَّى أهل الذمة؟، فقال: ما أدري. ثم قال الأثرم: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا إسحاق بن منصورٍ السلولي، ثنا هُريمٌ قال: سمعت الأجلح (3) عزَّى نصرانيًّا، فقال: عليك بتقوى الله والصبر. وذكر الأثرم (4): حدثنا مِنجاب بن الحارث، ثنا شريك، عن منصورٍ، عن إبراهيم قال: إذا أردتَ أن تُعزِّي رجلًا من أهل الكتاب فقل: أكثر الله مالَك وولدَك وأطال حياتك أو عمرك. وقال الفضل بن زيادٍ (5): سألت أبا عبد الله كيف يُعزَّى النصراني؟ قال: لا أدري، ولِمَ يُعزِّيه؟ _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (1/ 304). (2) المصدر نفسه. (3) الأجلح هو ابن عبد الله الكندي، أبو حُجَيَّة الكوفي، من أتباع التابعين. (4) "الجامع" (1/ 304). (5) "الجامع" (1/ 305).

(1/291)


وقال حربٌ (1): ثنا إسحاق، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا كثير بن أبانٍ، عن غالبٍ قال: قال الحسن: إذا عزَّيتَ الذمي فقل: لا يصيبك إلا خيرٌ (2). وقال عباس بن محمد الدوري (3): سألت أحمد بن حنبلٍ، قلت له: اليهودي والنصراني يُعزِّيني، أيّ شيء أردُّ عليه؟ فأطرقَ ساعةً ثم قال: ما أحفظ فيه شيئًا. وقال حربٌ (4): قلت لإسحاق: كيف يعزى المشرك؟ قال: يقول: أكثر الله مالك وولدك. * * * * _________ (1) المصدر نفسه. (2) في الأصل: "الاجر". (3) المصدر نفسه. (4) لم أجده في "الجامع"، ولعله سقط من مطبوعته.

(1/292)


فصل في تهنئتهم بزوجةٍ أو ولدٍ أو قدومِ غائبٍ أو عافيةٍ أو سلامةٍ من مكروهٍ ونحو ذلك وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فأباحها مرةً ومنعها أخرى، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا (1) فرقَ بينهما، ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهَّال من الألفاظ التي تدلُّ على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: متَّعك الله بدينك أو نيَّحَك (2) فيه، أو يقول له: أعزَّك الله أو أكرمك، إلا أن يقول: أكرمَك الله بالإسلام وأعزَّك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة. وأما التهنئة بشعائر (3) الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يهنِّئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيدٌ مباركٌ عليك، أو تَهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سَلِم قائلُه من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يُهنِّئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشدُّ مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثيرٌ ممن لا قدْرَ للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قُبحَ ما فعل. _________ (1) في الأصل: "ولكن". والتصويب من هامشه. (2) أي قوَّاك فيه. (3) في الأصل: "بشعار". والمثبت يقتضيه السياق.

(1/293)


فمن هنَّأ عبدًا بمعصيةٍ أو بدعةٍ أو كفرٍ فقد تعرَّض لمقتِ الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنَّبون تهنئةَ الظَّلمَة بالولايات، وتهنئةَ الجهَّال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه. وإن بُلِي الرجل بذلك فتعاطاه دفعًا لشرٍّ يتوقَّعه منهم، فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرًا، ودعا لهم بالتوفيق والتسديد= فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق. * * * *

(1/294)


فصل في المرأة الكافرة تموت وفي بطنها ولد مسلم قال حنبلٌ (1): سمعت أبا عبد الله يقول في امرأةٍ نصرانيةٍ حملَتْ من مسلم، فماتت وفي بطنها حملٌ من مسلم، فقال: يُروى عن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى (2). وقال حنبلٌ في موضع آخر (3): قلت: فإن ماتت وفي بطنها ولدٌ منه، أين ترى أن تُدفن؟ قال: قد قالوا: تُدفن [في] حجرةٍ من قبور المسلمين. وقال: أرى أن تُدفن ناحيةً من قبور المسلمين (4). قال أبو داود (5): سألت أحمد عن النصرانية تموت حبلى من مسلم، قال: فيها ثلاثة أقاويل، لو كانت مقبرةً على حدةٍ، قلت: ما الذي تختار؟ فذكر قوله هذا. _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (1/ 302). (2) سيأتي قريبًا. (3) كما في "الجامع" (1/ 302). ومنه الزيادة. (4) "وقال أرى ... المسلمين" ساقطة من المطبوع من هنا، وأضيفت إلى الفقرة التالية بعد "ثلاثة أقاويل"، خلاف ما في الأصل والمصدر السابق. (5) "الجامع" (1/ 302). و"مسائله" (ص 222).

(1/295)


وقال إسحاق بن منصورٍ (1): قلت لأبي عبد الله: المرأة النصرانية إذا حملت من المسلم فماتت حاملًا؟ قال: حديث واثلة. وقال الفضل بن زيادٍ: سمعت أحمد وسئل عن المرأة النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم؟ قال: فيها ثلاثة أقاويل، يقال: تُدفن في مقبرة المسلمين، ويقال: في مقابر النصارى. قال الفضل بن زياد (2): وقال سمرة: تُدفن ما بين مقابر المسلمين والنصارى. قيل له: فما ترى؟ قال: لو كان لهؤلاء مقابر على حدةٍ ما كان أحسنَه! قال الخلال: أخطأ أبو الحارث في قوله: سمرة، إنما هو واثلة. وقال أبو طالب (3): سألت أحمد عن أم ولدٍ نصرانيةٍ في بطنها ولد مسلم، قال: تدفن في ناحيةٍ، ولا تكون مع النصارى لمكان ولدها، ولا مع المسلمين فتؤذيهم. وقال المروذي (4): سألت أبا عبد الله عن النصرانية يكون في بطنها المسلم، فتبسم وقال: ما أحسنَ أن تُدفن بين مقبرتين! يعني مقابر المسلمين والنصارى. قال المروذي: وكان كلام أبي عبد الله أنه لا يرى بأسًا أن تُدفن _________ (1) المصدر نفسه (1/ 303). (2) كذا في الأصل. والصواب: "أبو الحارث" كما في "الجامع"، وكما يدل عليه تعقيب الخلال عليه. (3) "الجامع" (1/ 303). (4) المصدر نفسه.

(1/296)


في مقابر المسلمين للذي في بطنها. وسئل أيضًا (1): ما تقول في النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم أين تُدفن؟ قال: فيها ثلاثة أقاويل، عن عمر: تُدفن مع المسلمين، وعن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى (2)، وذكر آخر: أنها تُدفن مع النصارى. قال: أعجبُ إليَّ أن تُدفن بينهما، قلت: فإن لم يوجد إلا مقابر المسلمين؟ فتبسم ولم يكرهه. قلت (3): أما أثر واثلة، فقال ابن أبي شيبة (4): حدثنا جعفر بن عونٍ عن ابن جريجٍ عن سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع في امرأةٍ نصرانيةٍ في بطنها ولدٌ من مسلم، قال: تُدفن في مقبرةٍ بين (5) مقبرة المسلمين والنصارى. وأما أثر عمر فقال (6): حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرٍو، قال: ماتت امرأةٌ بالشام وفي بطنها ولدٌ من مسلم وهي نصرانيةٌ، فأمر عمر أن تُدفن مع المسلمين من أجل ولدها. _________ (1) المصدر نفسه. (2) سيأتي الأثران قريبًا. (3) الكلام للمؤلف. (4) في "المصنف" (12017). (5) في "المصنف": "ليست" بدل "بين". (6) في "المصنف" (12018).

(1/297)


قالوا (1): ويكون ظهرها إلى القبلة على يسارها؛ لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه فيكون حينئذٍ وجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن. قال أبو عبد الله ابن حمدان في "رعايته" (2): دُفِنتْ منفردةً كالمرتد. قلت: ووجه هذا أنه لم يثبت له حكمُ الدين الذي انتقل إليه من التوارث والموالاة ودفْعُه إلى الكفَّار يتولَّونه، وقد زال حكم الدين الذي كان عليه، فيُدفن وحدَه. ولأصحاب الشافعي في الذمية تموت وفي بطنها ولد مسلم أربعة أوجهٍ (3): أصحها: ما ذكرناه. والثاني: تُدفن في مقابر المسلمين. قال أصحاب هذا الوجه: وتكون للولد بمنزلة صندوقٍ مُودَعٍ فيه. والثالث: تُدفن في مقابر أهل دينها؛ لأن الحمل لا حكمَ له يُثبِت أحكام الدنيا من غسله والصلاة عليه وغيرها، فلم يثبت له شيء من أحكام أموات المسلمين، فتفرد بهذا الحكم وحده. والرابع: أنها تُدفن في طرف مقابر المسلمين. _________ (1) انظر: "المغني" (3/ 514)، و"الفروع" (3/ 395). (2) "الرعاية الصغرى" (1/ 371). (3) انظر: "روضة الطالبين" (2/ 135).

(1/298)


فصل في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم قال أبو طالب (1): سألت أبا عبد الله: يُستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يُستعان بهم في شيء. وقال أحمد (2): حدثنا وكيعٌ، ثنا مالك بن أنسٍ، عن عبد الله بن زيد (3)، عن ابن نِيار (4)، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نستعين بمشركٍ". قال عبد الله (5): قال أبي: هذا خطأ، أخطأ فيه وكيع (6)؛ إنما هو عن الفُضَيل (7) بن أبي عبد الله، عن عبد الله بن نِيارٍ، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدرٍ، فتبعَه رجل من المشركين فلحقه عند الحَرَّة، _________ (1) كما في "الجامع" (1/ 195). (2) كما في المصدر السابق من طريق ابنه عبد الله عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33834) وابن ماجه (2832) من طريق وكيع به. (3) كذا في الأصل. وفي "الجامع": "يزيد". وعند ابن ماجه (2832): قال علي في حديثه: عبد الله بن يزيد أو زيد. (4) في الأصل و"الجامع": "بيان" مهملًا، والصواب ما أثبتناه من المصادر. (5) كما في "الجامع" عقب الحديث. (6) وكذا قال أبو حاتم في "العلل" لابنه (915) والدارقطني في "علله" (3565). (7) في الأصل: "الفضل" خطأ.

(1/299)


فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيبَ معك، قال: "تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، قال: "ارجعْ، فلن أستعينَ بمشركٍ". ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له قوةٌ وجَلَدٌ، قال: جئتُ لأتبعك وأُصيبَ معك، قال: "تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، قال: "ارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ". ثم لحقه حتى ظهر على البيداء، فقال له مثل ذلك، قال: "أتؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: نعم، فخرج معه. رواه مسلم في "صحيحه" (1) بنحوه. وفي "مسند الإمام أحمد" (2) من حديث خُبيب بن عبد الرحمن، عن أبيه عن جده قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوًا أنا ورجلٌ من قومي ولم نُسلِمْ، فقلنا: إنَّا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، فقال: "أسلمتما؟ "، فقلنا: لا، قال: "فإنا لا نستعينُ بالمشركين على المشركين"، قال: فأسلمنا وشهدنا معه. وفي "السنن" و"المسند" (3) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن _________ (1) برقم (1817)، وأخرجه أيضًا أحمد (24386) والترمذي (1558) والنسائي في "الكبرى" (8708، 11536) وابن حبان (4726) من طرق عن مالك عن الفضيل بن أبي عبد الله به. (2) برقم (15763)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33831) والطبراني في "الكبير" (4/ 223) والحاكم (2/ 122)، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن المستلم بن سعيد الثقفي، عن خبيب به. وهذا إسناد حسن في الشواهد. (3) "سنن النسائي الكبرى" (9464) و"المجتبى" (5209) و"مسند أحمد" (11954)، وأخرجه أيضًا مسدَّد (إتحاف الخيرة: 4074) والطبري في "تفسيره" (5/ 710) والبيهقي في "السنن" (10/ 127) و"الشعب" (8930)، كلهم من طريق هشيم، عن العوَّام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس. إسناده ضعيف لجهالة أزهر بن راشد البصري، وقد خالفه قتادة فرواه عن أنس عن عمر موقوفًا: لا تنقشوا ولا تكتبوا في خواتمكم بالعربية، أخرجه ابن أبي شيبة (25625) والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 455) في ترجمة أزهر بن راشد مُعلًّا بذلك روايته.

(1/300)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَستضيئوا بنار المشركين، ولا تَنقُشوا على خواتيمكم عربيًّا". وفُسِّر (1) قوله: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، يعني: لا تَستنصحوهم ولا تَستضيئوا برأيهم (2). والصحيح أن معناه: مباعدتهم وعدم مساكنتهم، كما في الحديث الآخر: "أنا بريءٌ من كل مسلمٍ بين ظهرانَيِ المشركين لا تَراءى نارهما" (3). _________ (1) نقل ابن النقاش في "المذمة في استعمال أهل الذمة" (ص 269 وما بعدها) كلام المؤلف من هنا. وجلُّ كتابه مأخوذ من "أحكام أهل الذمة" كما يظهر بالمقارنة بينهما. (2) بعد رواية الحديث السابق ــ عدا روايتي أحمد والنسائي ــ قال أزهر: فأتوا الحسن فقالوا: إن أنسًا حدثنا اليوم بحديثٍ لا ندري ما هو، قال: وما حدثكم؟ فأخبروه، فقال: نعم، أما قوله: "لا تنقشوا خواتيمكم عربيًّا" فإنه يقول: لا تنقشوا خواتيمكم "محمدًا"، وأما قوله: "لا تستضيئوا بنار المشركين" فإنه يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}. (3) أخرجه أبوداود (2645) والترمذي (1604) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله مرفوعًا. وأخرجه الترمذي (1605) والنسائي (4780) وغيرهما عن قيس بن أبي حازم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال الترمذي: "هذا أصح" أي المرسل، ونقل عن البخاري قوله: "الصحيح حديث قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل". وكذا قال الدارقطني في "العلل" (3355).

(1/301)


وأما النهي عن نقش الخاتم بالعربي فهذا قد جاء مفسَّرًا في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" (1) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهبٍ، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتمًا من ورِقٍ، ونقش فيه "محمد رسول الله"، وقال: "لا ينقُشْ أحدٌ على نقشِ خاتمي". فإن كان الراوي حفظ اللفظ الآخر فيكون النهي عنه من باب حماية الذريعة، لئلا يتطرَّقَ بنقش العربي إلى نقش "محمد رسول الله"، فتذهبَ فائدة الاختصاص بالنقش المذكور، والله أعلم. وقال عبد الله بن أحمد (2): حدثنا أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا إسرائيل، عن سِماك بن حربٍ، عن عياضٍ الأشعري، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قلت لعمر - رضي الله عنه -: إنَّ لي كاتبًا نصرانيًّا، قال: ما لَك؟ قاتلك الله! أما سمعتَ الله _________ (1) برقم (2091). وفي الباب حديث أنس عنده (2092) وعند البخاري (5877). (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 197) عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1156) والبيهقي في "السنن" (10/ 127) و"الشعب" (8939) من طرق عن سماك بن حرب به. وإسناده جيِّد. والأثر أيضًا في "حسن السلوك" لابن الموصلي (ص 161)، و"المذمة في استعمال أهل الذمة" لابن النقاش (ص 270، 271) وعزاه إلى "مسند أحمد"، وهو وهْم.

(1/302)


تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: 53]، ألا اتخذتَ (1) حنيفًا؟ قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين لي كتابتُه وله دِينه، قال: لا أُكرِمهم إذ أهانَهم الله، ولا أُعِزُّهم إذ أَذلَّهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أَقصاهم الله. وكتب إليه بعض عُمَّاله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: إن المال قد كثر، وليس يُحصيه إلا هم، فاكتبْ إلينا بما ترى. فكتب إليه: لا تُدخِلوهم في دينكم، ولا تُسلِّموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلَّموا [الكتابة] فإنما هي [حلية] الرجال (2). وكتب إلى عماله: أما بعد، فإنه من كان قِبَلَه كاتبٌ من المشركين فلا يُعاشره ولا يُؤازِره ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باستعمالهم، ولا خليفته من بعده (3). وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن في عملي كاتبًا نصرانيًّا لا يَتمُّ أمرُ الخراج إلا به، فكرهتُ أن أقلِّده دونَ أمرك، فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأتُ كتابك في أمر النصراني، أما بعد، فإن _________ (1) في الأصل: "اتخذ". والمثبت يقتضيه السياق، وهو كذلك في "الجامع". (2) انظر: "منهج الصواب" (ص 183، 184)، و"المذمة في استعمال أهل الذمة" (ص 271)، و"الرياض النضرة" (2/ 362). (3) انظر: "المذمة" (ص 271، 272).

(1/303)


النصراني قد مات، والسلام (1). وكان لعمر - رضي الله عنه - عبد نصراني فقال له: أسلِمْ حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبى، فأعتقه وقال: اذهَبْ حيث شئتَ (2). وكتب إلى أبي هريرة (3) - رضي الله عنه -: أما بعدُ، فإن للناس نفرةً عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تُدركني وإياك. أَقِمِ الحدود ولو ساعةً من النهار. وإذا حضرك أمرانِ أحدهما لله والآخر للدنيا فآثِرْ نصيبَك من الله، فإن الدنيا تنفَدُ والآخرة تبقى. عُدْ مرضى المسلمين واشْهَدْ جنائزهم، وافتحْ بابَك وباشِرْهم. وأبعِدْ أهلَ الشرك (4) وأنكِرْ أفعالهم، ولا تَستعِنْ في أمرٍ من أمور المسلمين بمشركٍ. وساعِدْ على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملًا لأثقالهم (5). _________ (1) الخبر في "المذمة" (ص 272) وبنحوه في "حسن السلوك" لابن الموصلي (ص 162). وفيه "خالد بن الوليد" بدل "معاوية بن أبي سفيان". (2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (90)، وسعيد بن منصور في "سننه" (431 - التفسير)، وابن سعد في "الطبقات" (6/ 158) وغيرهم. وانظر: "الدر المنثور" (3/ 199). (3) كذا في الأصل، وفي مصدر التخريج: "أبي موسى الأشعري". ولكنه في "المذمة" (ص 272) كما هنا. (4) في الأصل: "الشر". والتصويب من "المذمة" لابن النقاش (ص 273) الذي نقل عن هذا الكتاب. (5) أخرجه الدِّينَوَري في "المجالسة" (1198)، وفي إسناده الفرات بن السائب وعبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، كلاهما متروك منكر الحديث.

(1/304)


فصل (1) ودرجَ على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناءٌ حسن في الأمة، كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر، ونحن نذكر بعض ما جرى. فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عمَّاله في الآفاق: أما بعد، فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، جعلهم الله حزب الشيطان، وجعلهم الأخسرين أعمالًا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 99]. واعلموا أنه لم يَهلِكْ من هلك من قبلكم إلا بمنْعِه الحقَّ وبسْطِه يدَ الظلم، وقد بلغني عن قومٍ من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدِموا بلدًا أتاهم أهلُ الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خِيَرةَ ولا تدبيرَ فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدةٌ وقد قضاها الله تعالى. فلا أعلَمَنَّ أن أحدًا من العمَّال أبقى في عمله رجلًا متصرفًا على غير دين الإسلام إلا نكَّلتُ به، فإنَّ مَحْوَ أعمالهم كمحو دينهم، وأنزِلوهم منزلتهم التي خصَّهم الله بها من الذلِّ والصَّغار. وآمرُ بمنع اليهود والنصارى من الركوب على _________ (1) هذا الفصل وما بعده من الفصول منقول برمته في "المذمة" (ص 274 وما بعدها)، فلا نكرر الإحالة إليه، ونرجع إليه في التصحيح. وانظر مقدمة التحقيق (ص 36 - 37).

(1/305)


السُّروج (1) إلا على الأُكُف (2). وليكتبْ كلٌّ منكم بما فعله من عمله (3). وكتب إلى حيَّان عاملِه على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة، وبطل ما يؤخذ منهم. فأرسل إليه رسولًا وقال له: اضرِبْ حيَّانَ على رأسه ثلاثين سوطًا أدبًا على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام فضَعْ عنه الجزية، فودِدتُ لو أسلموا كلُّهم، فإن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - داعيًا لا جابيًا (4). وأمر أن تُهدَم بِيَعُ النصارى المستجدّة. فيقال: إنهم توصَّلوا إلى بعض ملوك الروم وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: أما بعد، يا عمر، فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك لتجري أمورهم على ما وجدتَها عليه، وتُبقِي كنائسهم، وتُمَكِّنهم من عمارة ما خرِبَ منها، فإنهم زعموا أن من تقدَّمك فعلَ في أمر كنائسهم ما منعتَهم منه، فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلُكْ سنتَهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعلْ ما أردتَ. _________ (1) جمع سَرْج: رحل الفرس. (2) جمع إكاف: ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركَب عليه، كالسَّرْج للفرس. (3) انظر: "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم (ص 136)، و"الولاة والقضاة" للكندي (ص 60). وقد أخرج أبو يوسف في "الخراج" (279) كتابًا آخر إلى عاملٍ له، ومما جاء فيه: "ولا يركبنَّ يهودي ولا نصراني على سَرْج، وليركب على إِكَاف". (4) أخرج ابن سعد في "الطبقات" (7/ 373) نحوه مختصرًا بإسناد صحيح، وليس فيه أمر الرسول بضربه. وأخرج أبو يوسف في "الخراج" (295) نحوه في كتاب له إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان واليه على الكوفة.

(1/306)


فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنَّ مَثلي ومَثل من تقدَّمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (77) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 77 - 78] (1). وكتب إلى بعض عُمَّاله: أما بعد، فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًّا يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 59]، فإذا أتاك كتابي هذا فادعُ حسان بن زيدٍ ــ يعني ذلك الكاتبَ ــ إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منّا ونحن منه، وإن أبى فلا تَستعِنْ به، ولا تتخذْ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين. فأسلم حسانُ، وحسن إسلامه (2). فصل وأما أبو جعفرٍ المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعةٌ من المسلمين إلى شَبِيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم ولا يمكّن النصارى من ظلمهم وعَسْفهم في ضياعهم، ويمنعهم من انتهاك حرماتهم _________ (1) لم أقف عليه إلا في "المذمة" لابن النقاش. (2) انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 137)، و"معالم القربة" لابن الأخوة (ص 39)، و"حسن السلوك" للموصلي (ص 168)، و"منهج الصواب" لابن الدريهم (ص 182، 183).

(1/307)


وتحرّيهم لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية. قال شبيبٌ: فطفتُ معه، فشبَّك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكلِّمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه لم يرضَ لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحدًا، فلا ترضَ لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحدٌ. يا أمير المؤمنين، اتّقِ الله، فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدّى، وما دعاني إلى قولي إلا محضُ النصيحة لك، والإشفاق عليك وعلى نعم الله عندك. اخفِضْ جناحَك إذا علا كعبك، وابسُطْ معروفك إذا أغنى الله يدك. يا أمير المؤمنين، إنَّ دون أبوابك نيرانًا تأجَّج من الظلم والجور، لا يُعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -. يا أمير المؤمنين، سلَّطتَ الذمة على المسلمين، ظلموهم وعسفوهم وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم وجاروا عليهم، واتخذوك سُلَّمًا لشهواتهم، وإنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئًا يوم القيامة. فقال المنصور: خذْ خاتمي فابعثْ به إلى من تعرفه من المسلمين، وقال: يا ربيعُ اكتبْ إلى الأعمال واصرِفْ مَن بها من الذمة، ومن أتاك به شَبِيبٌ فأعلِمْنا بمكانه لنُوقِّع باستخدامه. فقال شبيبٌ: يا أمير المؤمنين، إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في جُمْلتك (1)، إن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغرَوك بهم، ولكن _________ (1) في المطبوع: "خدمتك" خلاف الأصل. وفي "المذمة" (ص 279): "حملتك" تصحيف.

(1/308)


تُولِّي في (1) اليوم الواحد عدةً، فكلما ولَّيتَ رجلًا عزلْتَ آخر (2). فصل وأما المهدي، فإن أهل الذمة في زمانه قويتْ شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يُعرِّفه بذلك وينصحه، وكان له عادةٌ في حضور مجلسه، فاستُدْعِي للحضور عند المهدي فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره، فقصَّ عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلِّمين من ظلم الذمة، ثم أنشده (3): بأبي وأمي ضاعت الأحلام ... أم ضاعت الأذهانُ والأفهام؟ من صدَّ عن دين النبي محمدٍ ... ألهُ بأمر المسلمين قيام؟ إن لا تكنْ أسيافُهم مشهورةً ... فينا، فتلك سيوفُهم أقلام ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنك تحمَّلت أمانةَ هذه الأمة وقد عُرِضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها، ثم سلَّمتَ الأمانةَ التي خصَّك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين، أما سمعت تفسير جدِّك لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 48]، إن الصغيرة التبسم، والكبيرة _________ (1) في الأصل: "من". (2) أسنده أبو نُعيم في "فضيلة العادلين من الولاة" (46) بنحوه. (3) الشعر مع الخبر في "حسن السلوك" (ص 163، 164)، و"المذمة" (ص 280، 281).

(1/309)


القهقهة (1)، فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتُك، وهذه النصيحة حجةٌ عليَّ ما لم تصل إليك. فولَّى عُمارة بن حمزة (2) أعمال الأهواز وكُوَرَ دجلة وكُورَ فارس، وقلَّد حمَّادًا أعمالَ السواد، وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحدًا من الذمة يكتب لأحدٍ من العمَّال، وإن علم أن أحدًا من المسلمين استكتب أحدًا من النصارى قطعت يده، فقطعت يد شاهويه (3) وجماعةٍ من الكتَّاب (4). وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتبٌ نصراني بالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلَّم المتظلمون إلى سوَّار بن عبد الله القاضي، فأحضر وكلاء النصراني واستدعي بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدِّي مناهج الحق، ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي سوَّارٍ بالتثبت في أمره، فجاء البصرةَ ومعه الكتاب وجماعةٌ من حمقى النصارى، _________ (1) هذا التفسير مروي عن ابن عباس في "ذم الغيبة" لابن أبي الدنيا (153) وتفسير ابن أبي حاتم، كما عزاه إليهما السيوطي في "الدر المنثور" (9/ 564). (2) مولى بني هاشم، من ولد عكرمة مولى ابن عباس. كان أحد الكتَّاب البلغاء، ولي ولاياتٍ جليلة للمنصور والمهدي. توفي سنة 199. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" (12/ 280)، و"معجم الأدباء" (5/ 2054). (3) في الأصل: "شاهونة"، وفي "المذمة": "ساهونة". وفي "منهج الصواب": "شاهويه الواسطي". وهو أقرب. (4) انظر: "منهج الصواب" (ص 200، 201).

(1/310)


وجاؤوا إلى المسجد فوجدوا سوَّارًا جالسًا للحكم بين المسلمين، فدخل المسجد وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده (1)، فمنعه الخَدَمُ فلم يعبأ بهم وسبَّهم، ودنا حتى جلس عن يمين سوَّارٍ ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه، ولم يقرأه وقال: ألستَ نصرانيًّا؟ فقال: بلى أصلح الله القاضي، فرفع رأسه وقال: جُرُّوا برجله، فسُحِبَ إلى باب المسجد وأدَّبه تأديبًا بالغًا، وحلفَ أن لا يبرحَ واقفًا إلى أن يوفّي المسلمين حقوقهم، فقال له كاتبه: قد فعلتَ اليوم أمرًا يُخاف أن تكون له عاقبةٌ، فقال: أعِزَّ أمرَ الله يُعِزَّك الله (2). فصل وأما هارون الرشيد، فإنه لما قلَّد الفضل بن يحيى أعمال خراسان، وجعفرًا أخاه ديوانَ الخراج، وأمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج (3) والسِّقايات (4)، وجَعلَ في المكاتب مكاتبًا لليتامى، وصَرفَ الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضًا منهم، وغيَّر زيَّهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام (5). _________ (1) في الأصل: "عنه". (2) لم أقف عليه إلا في "المذمة" (ص 282، 283). (3) جمع صِهْريج: حوض كبير للماء. (4) جمع سِقاية: موضع السقي. (5) انظر: "تاريخ الطبري" (8/ 324).

(1/311)


فصل وأما المأمون، فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بمصر، فقال لي: قد كثرتْ سعايات النصارى، وتظلَّم المسلمون منهم، وخانوا السلطان في ماله. ثم قال: يا عمرو، تعرف من أين أصل هؤلاء القبط؟ فقلت: هم بقية الفراعنة الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن استخدامهم، فقال: صِفْ لي كيف كان تناسلُهم في مصر، فقلت: يا أمير المؤمنين، لما أخذت الفرس المُلْكَ من أيدي الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأَنْصِنا (1) وغيرها، فتعلَّموا طبًّا وكتابًا، فلما ملكت الروم مُلْكَ الفرس كانوا سببًا في إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا في مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح (2). وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدةٍ له يمدح بها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ويحثُّه على قتلهم ويُغرِيه بهم (3): يا عمرو قد ملكتْ يمينُك مِصْرَنا ... وبسطتَ فيها العدلَ والإقساطا _________ (1) مدينة تاريخية من نواحي الصعيد على شرقي النيل. وكان قد اختطها الرومان، وكانوا يسمونها "أنطينوبولس"، هجرت من ألف عام أو أكثر، وما زالت أطلالها ظاهرة إلى اليوم. وانظر "معجم البلدان" (1/ 265). (2) لم أجد الخبر إلا في "المذمة" (ص 285). (3) الخبر والأبيات في المصدر السابق (ص 286)، و"غذاء الألباب" (2/ 17). وفي "الردّ على أهل الذمة" لابن الواسطي (ت 712) ستة أبيات ليس منها الرابع.

(1/312)


فاقتلْ بسيفك مَن تعدَّى طَوْرَه ... واجعلْ فتوحَ سيوفك الأقباطا فبهم أُقيمَ الجورُ في جَنَباتِها ... ورأى الأنامُ البغْيَ والإفراطا عبدوا الصليبَ وثلَّثوا معبودَهم ... وتوازروا وتعدَّوُا الأشراطا وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون ووصل إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، قال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟ فأمر المأمون بإحضار الذمة، فكان عدةُ من صُرِف وسُجِن ألفين وثمان مائةٍ، وبقي جماعةٌ من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسختُه: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلانٍ، فليقطَعْ ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى (1). ودخل بعض الشعراء على المأمون وفي مجلسه يهودي جالسٌ، فأنشده: يا ابنَ الذي طاعتُه في الورى ... وحكمه مفترضٌ واجب إن الذي عُظِّمتَ من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب فقال له المأمون: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله (2). _________ (1) الخبر في "المذمة" (ص 286، 287)، و"غذاء الألباب" (2/ 17). (2) ورد الخبر والشعر في كتاب ابن الواسطي (ص 48)، و"غذاء الألباب" (2/ 17). وفي "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 71) دون ذكر اسم الخليفة. وفي "بدائع السلك" لابن الأزرق (2/ 28) أنه الرشيد. وفي عامة المصادر أن الطرطوشي أنشد البيتين عند الأمير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فأقامه الأفضل من موضعه. انظر: "وفيات الأعيان" (4/ 263)، و"تاريخ الإسلام" (11/ 325)، و"سير أعلام النبلاء" (19/ 492) وغيرها.

(1/313)


فصل وأما المتوكل، فإنه صرفَ أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زِيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه وزادوا على الحد، وغلبوا على المسلمين لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين، فكانت الأعمال الكبار كلها أو عامتها إليهم في جميع النواحي، وكانوا قد أوقعوا في نفس المتوكل من مباشري المسلمين شيئًا وأنهم بين مفرطٍ وخائنٍ، وعملوا عملًا بأسماء المسلمين وأسماء بعض الذمة لينفوا التهمة، وأوجبوا باسم كل واحدٍ منهم مالًا كثيرًا، وعُرِض على المتوكل، فأُغرِي وظنَّ ما أوجبوا من ذلك حقًّا، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه. ودخل سلمة بن سعيد النصراني على المتوكل وكان يأنس به ويحاضره، فقال: يا أمير المؤمنين أنت في الصحاري والصيد، وخلفك معادنُ الذهب والفضة، ومن يشرب في آنية الذهب والفضة، ويملؤها ذهبًا عوضًا عن الفاكهة. فقال له المتوكل: عند مَن؟ فقال: عند الحسين بن مَخلدٍ، وأحمد بن إسرائيل، وموسى بن عبد الملك، وميمون بن هارون، ومحمد بن موسى، وكل واحدٍ من هؤلاء اسمه ثابتٌ في العمل المقدَّمِ ذكرُه المرفوعِ للمتوكل. فقال له المتوكل: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فسكت،

(1/314)


فقال: بحياتي عليك قل لي ما عندك، فقال: قد حلَّفتني بحياتك ولا بدَّ لي من صدقك على كل حالٍ، والله يا أمير المؤمنين لقد صاغ له صوالجة (1) وأُكَرًا (2) من ثلاثين ألف دينارٍ، فقلت له: أمير المؤمنين يضرب كرةً من جُلودٍ بصولجانٍ من خشبٍ وأنت تضرب كرةً من فضةٍ بصولجانٍ من فضةٍ! فالتفت المتوكل إلى الفتح بن خاقان وقال: ابعثْ فأحضِرْ هؤلاء، وضيِّقْ عليهم، فحضرتْ جماعةُ الكتاب وعلموا ما وقعوا فيه من الكافر. فاجتمعوا إلى عبيد الله بن يحيى فأنفذ معهم كاتبه إلى سلمة، وعاتبه فيما جرى منه، فحلف أنني لم أفعلْ ما فعلتُه إلا على سُكْرٍ، ولم أقلْ ما قلتُه عن حقيقةٍ، فأخذ خطَّه بذلك، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل وعرَّفه مأثمةَ أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمة، وقال: هذا قصدُه أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكتّاب المسلمين، ويتمكَّن هو ورهطُه منها (3). وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلِّمين ويُحضِرهم بين يديه على خلوةٍ، فأُحضِر بين يديه شيخٌ كبيرٌ، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عونٍ النصراني غصَبَه دارَه، فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ اشتدَّ غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالحٍ عامله بردِّ داره. قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحيةً لأكتبَ له بما أمرني فأتبعني رسولًا _________ (1) جمع صَوْلَجان: عصًا يُعطف طرفها، يُضرب بها الكرة على الدواب. (2) كذا في الأصل، وهي جمع أُكْرة: لغة في كُرَة، كما في "القاموس" و"التاج" (أكر، كرو). (3) لم أجد الخبر إلا في "المذمة".

(1/315)


يَستحِثُّني، فبادرتُ إليه، فلما وقف على الكتاب زاد فيه بخطه: "نفيتُ عن العباس؛ لئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجِّهن من يجيئني برأسك". ووصل الشيخَ بألف دينارٍ، وبعث معه حاجبًا، وكثر تظلُّم الناس من كتَّاب أهل الذمة وتتابعت الإغاثات (1). وحجَّ المتوكل (2) تلك السنة، فرُئِي رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاؤوا به سريعًا، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين، ما قلتُ ما قلتُه إلا وقد أيقنتُ بالقتل، فاسمعْ كلامي ومُرْ بقتلي، فقال: قل، فقال: سأُطلِق لساني بما يُرضي الله ورسوله ويُغضِبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنفتْ دولتَك كُتَّابٌ من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساؤوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسؤولٌ عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحتَ، فلا تُصلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقةً يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفسادِ آخرته، واذكر ليلةً تتمخَّضُ صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلةٍ يخلو المرء في قبره بعمله. فبكى المتوكل إلى أن غُشِي عليه، وطُلِب الرجل فلم يوجد، فخرج أمره بلُبْسِ النصارى واليهود الثيابَ العسلي (3)، _________ (1) لم أجد الخبر إلا في "المذمة". (2) الخبر في "صبح الأعشى" (13/ 366 وما بعدها)، و"مآثر الإنافة" (3/ 228 وما بعدها)، و"المذمة" لابن النقاش (ص 292 وما بعدها). (3) أي ما كان لونه لون العسل من الثياب.

(1/316)


وأن لا يُمكَّنوا من لُبس البياض (1) لئلا يتشبهوا بالمسلمين، ولتكنْ رُكُبُهم (2) خشبًا، وأن تُهدَم بِيَعُهم المستجدّة، وأن تُطبَّق عليهم الجزية، ولا يُفسَحَ لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن تُفرَد لهم حماماتٌ خَدَمُها ذمةٌ، ولا يَستخدموا مسلمًا في حوائجهم لنفوسهم، وأَفردَ لهم من يحتسب عليهم، وكتب كتابًا نسخته (3): أما بعد، فإن الله اصطفى الإسلام دينًا، فشرَّفه وكرَّمه وأناره ونصره (4) وأظهره وفضَّله وأكملَه، فهو الدين لا يُقبل غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 84]، بعث به صفيَّه وخِيَرتَه من خلقه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69]، وأنزل كتابًا عزيزًا: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، أسعدَ به أمتَه وجعلَهم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ _________ (1) في الأصل: "الثياب". والتصويب من "مآثر الإنافة". (2) جمع رِكاب: وهو للسَّرج ما توضع فيه الرِّجل، وهما ركابان. (3) الكتاب بطوله في "صبح الأعشى" (13/ 367 - 368)، و"مآثر الإنافة" (3/ 229 وما بعدها). وفي "تاريخ الطبري" (9/ 172 - 174) كتاب آخر من المتوكل إلى عمَّاله في الآفاق في هذا الموضوع. (4) في "مآثر الإنافة": "ونضره".

(1/317)


وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]. وأهان الشرك وأهله، ووضَعهم وصغَّرهم، وقمَعَهم وخذلَهم، وتبرأ منهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وطبعَ (1) على قلوبهم وخُبْث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم (2) والثقة بهم، لعداوتهم للمسلمين وغِشّهم وبغضائهم، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] . وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53]. _________ (1) كذا في الأصل ونسخة "مآثر الإنافة"، وغيَّره محقق "المآثر" إلى: "واطلع". (2) في الأصل: "انتمائهم" تصحيف.

(1/318)


وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسًا لا رأيَ لهم ولا رويَّة، يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةً من دون المسلمين، ويُسلِّطونهم على الرعية فيَعْسِفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغَشْمهم والعدوان عليهم، فأعظَمَ أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبرَه وتبرَّأ إلى الله منه، وأحبَّ التقربَ إلى الله تعالى بحَسْمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عمَّاله على الكُوَر والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراكِ لهم في أماناتهم وما قلَّدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، إذ جعل في المؤمنين الثقةَ في الدين والأمانةَ على إخوانهم المؤمنين، وحسنَ الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حُمِّلوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذِّبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلهًا آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له. ورجاء أمير المؤمنين ــ بما ألهمه الله من ذلك وقذَفَ في قلبه ــ جزيلُ الثواب وكريمُ المآب، والله يُعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه. فلْيُعلَم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يُستعان (1) بأحدٍ من المشركين، وإنزال (2) أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأَشِعْه فيهم. ولا يعلمنَّ أمير المؤمنين أنك استعنتَ ولا أحدٌ من عمَّالك وأعوانك بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ. والسلام. _________ (1) في "مآثر الإنافة": "فلتعلم ... ولا تستعن". (2) في "مآثر الإنافة": "وأنزِلْ".

(1/319)


فصل وأما المقتدر بالله، فإنه سنة خمسٍ وتسعين ومائتين عَزلَ كُتَّاب النصارى وعمَّالهم، وأمر أن لا يُستعان بأحدٍ من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي ياسرٍ النصراني عامل مؤنسٍ الحاجب. وكتب إلى نُوَّابه بما نسختُه: عوائدُ الله عند أمير المؤمنين تُوفي على عادة (1) رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحدٌ يُظهِر عصيانه إلا جعله الله عِظةً للأنام، وبادرَه بعاجل الاصطلام، والله عزيز ذو انتقامٍ. فمن نكث وطغى وبغى، وخالف أمير المؤمنين وخالف محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين= عاجله أمير المؤمنين بسَطْوته، وطهَّر من رجسِه دولتَه، والعاقبة للمتقين. وقد أمرَ أمير المؤمنين بترك (2) الاستعانة بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ من الأعمال، فليحذرِ العمَّال تجاوزَ [أوامر] أمير المؤمنين ونواهيه (3). فصل وكذلك الراضي بالله (4)، كثرت الشكايةُ من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه _________ (1) كذا في الأصل و"مآثر الإنافة". ولعل الصواب: "غاية"، كما في "صبح الأعشى". (2) في الأصل: "ترك". والتصويب من "مآثر الإنافة". (3) "مآثر الإنافة" (3/ 233، 234)، و"صبح الأعشى" (13/ 368 - 369). (4) كذا في الأصل، ومثله في "نهاية الأرب" (31/ 421). والصواب أنه القائم بالله (391 - 467)، والشاعر مسعود البياضي توفي سنة 468. أما الراضي بالله فقد توفي سنة 329، ولم يدركه الشاعر. ثم ابن فضلان اليهودي كان كاتبًا للست أرسلان زوجة القائم، انظر: "المنتظم" (16/ 30)، و"مرآة الزمان" (19/ 342).

(1/320)


الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي (1): يا ابنَ الخلائفِ من قريشٍ والأُلى ... طَهُرتْ أصولُهمُ من الأدناس قلَّدتَ أمرَ المسلمين عدوَّهم ... ما هكذا فعلَتْ بنو العباس حاشاكَ من قولِ الرعية: إنه ... ناسٍ لقاءَ الله أو مُتناسِ ما العذرُ إن قالوا غدًا: هذا الذي ... ولَّى اليهود على رقاب الناس؟ أتقول: كانوا وفَّروا الأموالَ إذ ... خانوا بكفرِهمُ إلهَ الناس؟ لا تذكرنْ إحصاءَهم ما وفَّروا ... ظلمًا وتنسى مُحصِيَ الأنفاس وخَفِ الإلهَ غدًا إذا وُفِّيتَ ما ... كَسبتْ يداك اليومَ بالقسطاس في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ ... أو مُهطِعٌ أو مُقنِعٌ للراسِ أعضاؤهم فيه الشهود، وسجنُهم ... نارٌ، وحارِسُهم شديدُ الباس إن تَمطُلِ اليوم الديونَ مع الغنى ... فغدًا تُؤدِّيها مع الإفلاس لا تعتذِرْ عن صَرْفهم بتعذُّرِ الـ ... متصرفين الحُذَّقِ الأكياس ما كنتَ تفعلُ بعدهم لو أُهلِكوا ... فافعلْ، وعُدَّ القومَ في الأرماس وكتب إليه وقد صرف ابنَ فَضْلان اليهودي بابن مالك النصراني (2): أبعدَ ابنِ فضلانٍ تُولِّي ابنَ مالك ... بماذا غدًا تحتجُّ عند سؤالكا؟ خَفِ الله وانظُرْ في صحيفتِك التي ... حَوَتْ كلَّ ما قدَّمتَه من فعالكا! _________ (1) الأبيات له في "نهاية الأرب" (31/ 421). وفيه اسم الشاعر "مسعود بن المحسن". وفي "حسن السلوك" (ص 162، 163) أنها للشريف ابن مسعود البياضي. وفي "المذمة" (ص 299) كما هنا. وهي للبياضي في "مرآة الزمان" (19/ 315، 316). (2) الأبيات سوى الأول مع بيت آخر في "المدهش" (ص 289).

(1/321)


وقد خَطَّ فيها الكاتبون فأكثروا ... ولم يبقَ إلا أن يقولوا: فذلكا (1) فواللهِ ما تدري إذا ما لقيتَها ... أتُوضَع في يُمناك أم في شمالكا فصل (2) وكذلك في أيام الآمر بأمر الله امتدَّتْ أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفنَّنوا في أذى المسلمين وإيصال المضرَّة إليهم، واستُعمل منهم كاتبٌ يُعرف بالراهب، ولُقِّب بالأب القدِّيس الروحاني النفيس أب (3) الآباء وسيد الرؤساء، مقدَّمِ دينِ النصرانية وسيد البَتْركية، صفيِّ الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريِّين. فصادَرَ اللعينُ عامةَ من بالديار المصرية من كاتبٍ وحاكمٍ وجندي وعاملٍ وتاجرٍ، وامتدَّتْ يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوَّفه بعضُ مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذَّره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سببًا لهلاكه. وكان جماعةٌ من كتَّاب مصر وقِبْطِها في مجلسه، فقال مخاطبًا له ومُسمِعًا للجماعة: نحن مُلَّاك هذه الديار حربًا وخراجًا، ملَكَها المسلمون منا، وتغلَّبُوا عليها وغَصَبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قُبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبةٌ إلى مَن قُتِل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال _________ (1) كان من عادة الكتَّاب إذا فرغوا من جمع حسابهم أن يختموا بعبارة "فذلك"، ومنه "الفذلكة". ومعناه: النتيجة والعاقبة. (2) هذا الفصل بتمامه في "صبح الأعشى" (13/ 369 - 377). ومنه قسم في "مآثر الإنافة" (3/ 234، 235). (3) كذا في الأصل بدون الياء، وكذا يكتبه النصارى.

(1/322)


المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلٌّ لنا، وبعضُ ما نستحقُّه عليهم، فإذا حملنا لهم مالًا كانت المنة لنا عليهم، وأنشد (1): بنتُ كرمٍ غَصَبوها أمَّها ... وأهانوها فدِيْسَتْ بالقَدَمْ ثم عادوا حكَّموها فيهمُ ... ولَناهيكَ بخصمٍ يُحتكَمْ فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضُّوا عليه بالنواجذ، حتى قيل: إن الذي احتاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألفٍ واثنان وسبعون ألفًا ما بين دارٍ وحانوتٍ وأرضٍ بأعمال (2) الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل، ومِن الأموال ما لا يحصيه إلا الله. ثم انتبه الآمِر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضِبَ لله غضَبَ ناصرٍ للدين وثائرٍ (3) للمسلمين، وألبس الذمَّةَ الغِيار، وأنزلَهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن يُنزَلوا بها من الذلّ والصَّغار، وأمر أن لا يُوَلَّوا شيئًا من أعمال الإسلام، وأن يُنشِئ في ذلك كتابًا يقف عليه الخاص والعام، فكتب عنه ما نسخته: _________ (1) البيتان في "نهاية الأرب" (28/ 169)، و"صبح الأعشى" (13/ 370)، و"غذاء الألباب" (2/ 17، 18). وفي كتاب ابن الواسطي (ص 40) ورد البيتان في قصة عمرو بن العاص بعد الأبيات الطائية التي تقدمت (ص 312، 313). (2) في الأصل: "بأعماله". والمثبت من "صبح الأعشى". (3) في الأصل: "وباين". وفي المطبوع: "وبار". والمثبت من "صبح الأعشى".

(1/323)


الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاءَ من يدعوه بأسمائه، المنفرد بالقدرة القاهرة، المتوحِّد بالقوة الظاهرة، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، هدى العبادَ بالإيمان إلى سبيل الرشاد، ووفَّقهم في الطاعات لما هو أنفع زادٍ في المعاد، وتفرَّد بعلم الغيوب فعلِمَ من كل عبدٍ إضمارَه كما علم تصريحَه: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، الذي شرَّف دينَ الإسلام وعظَّمه، وقضى بالسعادة الأبدية لمن انتحاه وتيمَّمه، وفضَّله على كل شرعٍ سبقَه وعلى كل دينٍ تقدمه، فنصره وخذلَها، وأشاد به وأخملَها، ورفعه ووضعَها، ووطَّده وضعضعَها، وأبى أن يقبل دينًا سواه من الأولين والآخرين. فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وشهد به لنفسه وأشهد به ملائكته وأولي (1) العلم الذين هم خلاصةُ الأنام، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19] [آل عمران: 18 ــ 19]. ولمّا ارتضاه لعباده وأتمَّ عليهم به نعمته= أكمله لهم، وأظهره على الدين كله، وأوضحه إيضاحًا مبينًا، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4]. _________ (1) في الأصل: "وأولوا".

(1/324)


وفَرقَ به بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الهدى والضلال، وأهل البغي والرشاد، فقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات، فقال ــ وبقوله يهتدي المؤمنون ــ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. وهو وصية إمامِ الحنفاء لبنيه، وإسرائيلَ من بعده كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (131) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 ــ 132]. وأشهد عليه الحواريون عبدَ الله ورسولَه وكلمتَه عيسى بن مريم، وهو الشاهد الأمين، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 51]. وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه، ويشهد من تولَّى منهم بأنه عليه، فقال تعالى ــ وقوله الحق المبين ــ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ

(1/325)


بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وصلى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محلِّه المنيف، وبعثه إلى الناس كافةً بالدين القيم الحنيف، وجعله أفضلَ من كان وأفضلَ من يكون، وأرسله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، فكانت نبوته لظهر الكفرِ قاصمةً، وشريعتُه لمن لاذَ بها ولجأ إليها من كل شرٍّ عاصمةً، وحججُه لمن عاند وكفر خاصمةً، حتى أذعنَ المعاندون واعترف الجاحدون وذلَّ المشركون، و {جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48]، وأشرقَ وجهُ الدهر برسالته ضياءً وابتهاجًا، ودخل الناس بدعوته في دين الله أفواجًا، وأشرقت على الوجود شمسُ الإسلام، واتسقَ قمرُ الإيمان، وولَّت على أدبارها مهزومةً عساكر الشيطان. ورضي الله عن أصحابه وخلفائه الذين اتبعوا سنتَه، وابتغَوا في القيام بها رضوانَه، ووقفوا عند شرعه، فأعزُّوا من أعزَّه وأهانوا من أهانَه. أما بعد، فإن الله سبحانه ببالغِ حكمته وسابغِ نعمته شرَّفَ دين الإسلام وطهَّره من الأدناس، وجعل أهله خير أمةٍ أخرجت للناس. فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قُدْسِه، فارتضاه واختاره. وجعل خيرَ عباده وخاصَّتَه هم أولياءَه وأنصارَه، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكرون، ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم بآيات ربهم يؤمنون،

(1/326)


وإلى مرضاته يسارعون، ولمن خرج عن دينه يجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته يثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربهم يتوكَّلون، وبالآخرة هم يوقنون، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4]. هذا، وإن أمةً هداها الله إلى دينه القويم، وجعلها ــ دون الأمم الجاحدة ــ على صراطٍ مستقيمٍ، تُوفِي من الأمم سبعين، هم خيرها وأكرمها على رب العالمين= حقيقةٌ بأن لا تُوالي من الأمم سواها، ولا تستعين بمن خان (1) الله خالقَه ورازقَه وعبدَ من دونه إلهًا، فكذَّب رسلَه وعصى أمره، واتبع غير سبيله، واتخذ الشيطان وليًّا من دونه. ومعلومٌ أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشرك به والجحد لوحدانيته، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوه هدايةَ سبيل الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبَهم سبيلَ الذين أبعدهم من رحمته وطردَهم عن جنته، فباؤوا بغضبه ولعنته، من المغضوب عليهم والضالين. فالأمة الغضبية هم اليهود بنصّ القرآن، وأمة الضلال هم النصارى المثلِّثة عُبَّاد الصلبان. وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ _________ (1) في الأصل: "خاف". وفي "صبح الأعشى": "حادّ".

(1/327)


كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]. وأخبر بأنهم باؤوا بغضبٍ على غضبٍ، وذلك جزاء المفترين، فقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90]. وأخبر سبحانه أنه لعنهم، ولا أصدقَ من الله قيلًا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 46]. وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكمًا ترتضيه العقول، ويتلقاه كلُّ منصفٍ بالإذعان والقبول، فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 62]. وأخبر عمّا أحلَّ بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلًا في العالمين، فقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 ــ 166]. ثم حكم عليهم حكمًا مستمرًّا عليهم في الذراري والأعقاب، على ممرِّ

(1/328)


السنين والأحقاب، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167]، فكان هذا العذاب في الدنيا ببعض الاستحقاق، ولعذاب الآخرة أشقُّ، {وَمَا لَهُم مِّنَ اَللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 35]. فهم أنجس الأمم قلوبًا، وأخبثهم طويَّةً، وأردؤهم سجيَّةً، وأولاهم بالعذاب الأليم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 43]. فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 14]. وأخبر عن سوء ما يستمعون ويقبلون، وخُبْث ما يأكلون ويجمعون، فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 44]. وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون، فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (80) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (81) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80 - 82].

(1/329)


وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولَّاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53]. وأخبر عن حال متولِّيهم بما في قلبه من المرض المؤدِّي إلى فساد العقل والدين، فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 54]. ثم أخبر عن حبوط أعمال متولِّيهم ليكون المؤمن لذلك من الحذِرين، فقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 55]. ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوءٍ ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:1 - 2].

(1/330)


وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوةً حسنةً في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرَّؤوا ممن ليس على دينهم امتثالًا لأمر الله، وإيثارًا لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفَّار أولياء من دون المؤمنين وحذَّره نفسَه أشدَّ التحذير، فقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. فمن ضُروبِ الطاعات: إهانتُهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله تعالى الواجبة: أخذُ جزية رؤوسهم التي يُعطونها عن يدٍ وهم صاغرون. ومن الأحكام الدينية أن تَعُمَّ جميعَ الذمة ــ إلا من لا تجب عليه ــ باستخراجها، وأن يُعتمد في ذلك على سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها، وأن لا يُسامَح بها أحدٌ منهم ولو كان في قومه عظيمًا، وأن لا يُقبل إرسالُه بها ولو كان فيهم زعيمًا، وأن لا يُحِيلَ بها على أحدٍ من المسلمين، ولا يُوكِّل في إخراجها عنه أحدًا من الموحدين، وأن تؤخذ منه على وجه الذلّة والصَّغار، إعزازًا للإسلام وأهله وإذلالًا لطائفة الكفّار، وأن تُستوفى من جميعهم حقَّ الاستيفاء، وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء.

(1/331)


وأما ما ادَّعاه الخيابرة (1) من وضع الجزية عنهم بعهدٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك زورٌ وبهتانٌ، وكذبٌ ظاهرٌ يعرفه أهل العلم والإيمان (2)، لفَّقه القومُ البُهْتُ وزوَّروه، ووضعوه من تلقاء أنفسهم وتمَّموه، وظنُّوا أن ذلك يخفى على الناقدين، أو يَروجُ على علماء المسلمين، ويأبى الله إلا أن يكشفَ محالَ المبطلين وإفكَ المفترين. وقد تظاهرت السنن وصحَّ الخبر بأن خيبر فُتِحت عنوةً، وأَوجف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الخيلَ والركاب، فعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانَهم من أهل الكتاب، فلما ذكروا أنهم أعرفُ بسَقْيِ نخلها ومصالحِ أرضها أقرَّهم فيها كالأُجَراء، وجعل لهم نصفَ الانتفاع (3)، وكان ذلك شرطًا مبينًا، وقال: "نُقِرَّكم فيها ما شئنا" (4). فأقرَّ بذلك الخيابرة صاغرين، وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين، ولم يكن للقوم من الذِّمام والحرمة ما يوجب إسقاطَ الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة، كيف وفي الكتاب المشحونِ بالكذب والمَيْن: شهادةُ سعد بن معاذٍ وكان قد توفِّي قبل ذلك بأكثر من سنتين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر سنة ثمان. وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر، ولم يكن على زمانه - صلى الله عليه وسلم - شيء _________ (1) أي أهل خيبر. وفي الأصل و"صبح الأعشى": "الجبابرة" تصحيف. (2) تقدم الكلام على ذلك في أول الكتاب. (3) في الأصل: "الارتفاع". (4) أخرجه البخاري (2338) ومسلم (1551/ 6) من حديث ابن عمر، وقد سبق.

(1/332)


من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسنَ السِّيَر. ولما اتسعت رقعةُ الإسلام، ودخل فيه الخاص والعام، وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسَقْي النخيل، أجلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اليهودَ من خيبر ممتثلًا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخرجوا اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب" (1)، وقال: "لئن بقيتُ لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَعَ فيها إلا مسلمًا" (2). فصل وأما الغِيار (3) فلم يُلزَموا به في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما اتُّبِع فيه أمرُ عمر - رضي الله عنه -. وكان بدءُ أمره أن خالد بن عُرفُطة أمير الكوفة جاءت إليه امرأةٌ نصرانيةٌ وأسلمت، فذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية، وأقامت على ذلك بينةً، فضربه خالدٌ وحلَّقه، وفرَّق بينه وبينها. فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأشخَصَه وسأله عن ذلك، فقصَّ عليه القصة، فقال: الحكمُ ما حكمتَ به، وكتب إلى الأمصار أن يَجزُّوا نواصيهم، ولا _________ (1) أخرجه الدارمي (2540) وغيره من حديث أبي عبادة بنحوه، وقد تقدم. (2) أخرجه مسلم (1767) بنحوه. (3) المقصود به نوع من الزيّ مغاير لزيّ المسلمين. وذكر الخفاجي في "شفاء الغليل" (ص 196) أن الغيار أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل. وسيأتي تفصيل الغيار عند المؤلف (2/ 363).

(1/333)


يلبَسُوا لِبسةَ المسلمين حتى يُعرَفوا من بينهم (1). وكيف يجوز أن يُستعان بهم على شيء أو يُؤتَمنوا على أمرٍ من أمور المسلمين، وقد سَمُّوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الذِّراع؟! ولما حضرته الوفاة قال: "ما زالتْ أُكْلةُ خيبر تُعاوِدني، وهذا أوانُ انقطاعِ أَبْهرِي" (2). وقد رأى أمير المؤمنين ــ لقيامه بما استُحفِظ من أمور الديانة وحفظ نظامها، ولانتصابِه لمصالح أمةٍ جعله الله رأسَها وإمامَها، ولرعاية ما يتميز به المسلمون على من سواهم، ويجعل الكفّار يُعرفون بسيماهم ــ أن يعتمد كلٌّ من اليهود والنصارى ما يصيرون به مستذلِّين ممتهَنِين؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ اِلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. فلْتُسْتَأْدَ جزيةُ رؤوسهم أجمعَ من غير استثناءٍ من حزب المشركين لأحدٍ، ولْيُتَنَبَّهْ في استخراجها والحوطةِ عليها إلى أبعدِ غايةٍ وأمدٍ. ولْيُفَرَّقْ بين المسلمين وبينهم في الشَّبه والزيّ، ليتميز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والغيّ. _________ (1) أسنده البلاذري في "أنساب الأشراف" (10/ 13) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، عن خليفة بن قيس (مولى خالد بن عرفطة) بمثله سواء. وعبد الرحمن وخليفة كلاهما ضعيف. (2) ذكره البخاري (4428) معلَّقًا عن يونس عن الزهري عن عُروة عن عائشة. ووصله البزار (115) والحاكم (3/ 58) من طريق عنبسة بن خالد ــ وهو متكلم فيه ــ عن يونس به. وأخرجه عبد الرزاق (19815) وأحمد (23933) وأبو داود (4512 - 4514) والدارمي (68) والحاكم (3/ 219) والبيهقي في "الدلائل" (4/ 264) من وجوه أخرى مرسلة ومسندة، على اختلاف في أسانيدها. وانظر: "تغليق التعليق" (4/ 162).

(1/334)


ولْيُوسَمُوا بالغيار وشَدِّ الزُّنَّار، وإزالةِ ما على المسلمين من تشبُّههم بهم من العار. ولْيؤمروا بأن يُغيِّروا من أسمائهم ما يختصُّ به أهل الإيمان، كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعلي وعثمان، وكذلك الكنى المختصَّة بالمسلمين، كأبي علي وأبي الحسن وأبي عبد الله وأبي الحسين، فلْتُغيَّر هذه الأسماء بما يليق بهم ويصلُح لهم، ولْيُنْسَخْ بالثاني المستجدِّ السالف الأول، ولْيقرَّرْ بالتعويض عنه على ما ليس فيه متأوَّلٌ. ولولا أنهم لم يتقدم إليهم في ذلك بنهيٍ ولا تحذيرٍ، لنالَهم ما لا طاقةَ لهم به من النَّكال والتدمير. فلْيحذروا التعرضَ لهذا العقاب الأليم والعذاب الوبيل. وليكنِ الغِيارُ وشدُّ الزنَّار مما يؤمرون به بالحضرة وبالأعمال بالديار المصرية والأقاصي، من صَبْغ أبوابِهم وعمائمِهم باللون الأغبر الرصاصي. وليؤخذْ كلٌّ منهم بأن يكون زُنَّاره فوقَ ثيابه، وليحذرْ غايةَ الحذر أن يُرى منصرِفًا إلا به. ولْيُمنَعْ لابسُه أن يَستره بردائه، ولْيحذرِ الراكب منهم أن يُخفِيه بالجلوس عليه لإخفائه. ولا يُمكَّنوا من ركوب شيء من أجناس البغال والخيل، ولا سلوك مدافنِ المسلمين ولا مقابرهم في نهارٍ ولا ليلٍ، ولا يُفْسَحْ لأحدٍ منهم في المراكب المحلَّاة، ولتكنْ توابيتُ موتاهم مشدودةً بحبال اللِّيف مكشوفةً غير مُغشَّاةٍ، ولْيُمنَعوا من تعلية دورهم على دور من جاورهم من المسلمين. وجملةُ الأمر: أن يُنتهَى فيهم إلى قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20].

(1/335)


فصل (1) في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنِّيهم السوء لهم، ومعاداةِ الرب تعالى لمن أعزَّهم أو والاهم أو ولَّاهم أمورَ المسلمين قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 104]. وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 108]. وقال تعالى لرسوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 119]. وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي _________ (1) الآيات الواردة في هذا الفصل توجد بهذا الترتيب في كتاب "المذمة في استعمال أهل الذمة" لابن النقاش (ص 257 - 265). وقد ألَّف كتابه سنة 759 كما ذكر (ص 257)، فيكون هو الناقل عن كتاب ابن القيم هذا.

(1/336)


صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 44]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (50) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 50 - 51]. وقال تعالى مبشِّرًا لمن والاهم بالعذاب الأليم فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (137) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 137 - 138]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 143]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (53) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (54) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا

(1/337)


خَاسِرِينَ} [المائدة: 53 - 55]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (59) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:59 - 60]. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (82) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 82 - 83]. وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 8 - 10]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]. وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ

(1/338)


مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة: 14، 15]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ}إلى قوله : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:1 - 4]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]. وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 84]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119 - 120].

(1/339)


وقد أخبر سبحانه عن أهل الكتاب أنهم يعتقدون أنهم ليس عليهم إثم ولا خطيئةٌ في خيانة المسلمين وأخْذِ أموالهم، فقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 74]. والآيات في هذا كثيرةٌ، وفي بعض هذا كفايةٌ. فصل (1) ولما كانت الوِلاية شقيقةَ الوَلاية كانت توليتهم نوعًا من تَوَلِّيهم، وقد حكم تعالى بأن من تولَّاهم فإنه منهم، ولا يتمُّ الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدًا، والولاية إعزازٌ، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدًا، والولاية صلةٌ، فلا تُجامِع معاداةَ الكافر أبدًا. فصل (2) ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتَّاب، ومكاتبتهم الفرنجَ أعداء الإسلام، وتمنِّيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الأمكان= لثَناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال. _________ (1) هذا الفصل أيضًا بتمامه في "المذمة" لابن النقاش (ص 266، 267). (2) نقله ابن النقاش في "المذمة" (ص 317 وما بعدها). والخبر في "الرد على أهل الذمة" لابن الواسطي (ص 57).

(1/340)


وهذا المَلِك الصالح (1) كان في دولته نصراني يُسمَّى بخاصِّ الدولة أبي (2) الفضائل بن دخانٍ، ولم يكن في المباشرين أمكنُ منه. وكان المذكور قَذاةً في عين دين الإسلام، وبَثْرةً في وجه الدين، ومثالبه في الصحف مسطورةٌ، ومخازيه مخلَّدةٌ مذكورةٌ، حتى بلغ مِن أمره أنه وقَّع لرجلٍ نصراني أسلم بردِّه إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية. ولم يزل يكاتب الفرنجَ بأخبار المسلمين وعمَّالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها. وكان مجلسه معمورًا برسل الفرنج والنصارى، وهم مُكْرَمون لديه وحوائجهم مقضيَّةٌ عنده، ويُحمل لهم الأَدرار والضِّيافات، وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنْصَفوا في التحية ولا في الكلام. فاجتمع به بعض أكابر الكتَّاب فلامَه على ذلك، وحذَّره من سوء عاقبة صُنْعه، فلم يزِدْه ذلك إلا تمرُّدًا. فلم يمضِ على ذلك إلا يسيرٌ حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابرُ الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعضَ الجماعة (3) عن أمرٍ أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى، فبسط لسانه _________ (1) المقصود به هنا طلائع بن رزّيك (495 - 556)، لا نجم الدين أيوب (603 - 647)، وكلاهما لقّب بالملك الصالح. وخاصّ الدولة ابن دخان كان أشهر كتاب النصارى في وزارة طلائع بن رزّيك. (2) في الأصل: "محاضر الدولة أبا" تحريف. والمثبت من "تجريد سيف الهمة" للنابلسي و"المذمة". ويقال: "خاصة الدولة" كما في "النكت العصرية" (ص 90) طبعة باريس، و"تاريخ أبي صالح الأرمني" (ص 41) طبعة أكسفورد. (3) هو الشيخ زين الدين بن نجا الواعظ الحنبلي (ت 599)، كما في كتاب ابن الواسطي (ص 57). وترجمته في "تاريخ الإسلام" (12/ 1175) و"ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 436).

(1/341)


في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثةً والثلاثة واحدًا، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 75]. وأولُ أمانتهم وعقدِ دينهم: باسم الأب والابن وروح القدس إلهٌ واحد. فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، وقال في قصيدةٍ له (1): كيف يَدرِي الحسابَ من جعلَ الوا ... حدَ ربَّ الورى تعالى ثلاثَهْ ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانةً؟ وكلما استخرج ثلاثةَ دنانير دفع إلى السلطان دينارًا وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربةً وديانةً؟ وانصرف القوم، واتفق أن كَبَتْ بالنصراني بطْنَتُه، وظهرت خيانته فأُرِيق دمه، وسُلِّط على وجوده عدمُه. وفيه يقول عُمارة اليمني (2): قلْ لابن دخانٍ إذا جئتَه ... ووجهُه يَنْدَى من القَرْقفِ (3) لم تَكْفِك الدنيا ولو أنها ... أضعافُ ما في سورة الزخرف _________ (1) البيت في "المذمة" (ص 318). وفي كتاب ابن الواسطي (ص 58) باختلاف القافية. (2) الأبيات له في "النكت العصرية" (ص 294). (3) القرقف: الخمر يرعد عنها صاحبها.

(1/342)


فاصفَعْ قَفا الذلِّ ولو أنه ... بين قَفا القسِّيس والأُسْقف ملَّكَك الدهْرُ سِبالَ الورى ... فاحْلِقْ لحاهم آمنًا وانْتِف خلا لك الديوانُ من ناظرٍ ... مستيقظِ العزم ومن مُشرِف فاكسِبْ وحصِّلْ وادَّخِرْ واكتنِزْ ... واسرِقْ وخُنْ وابْطِشْ ولا تَضْعُفِ وابكِ وقلْ ما صحَّ لي درهمٌ ... فردٌ وصَلِّبْ وابتهِلْ واحلِفِ واغتنمِ الفرصةَ من قبلِ أن ... تَقضِي على الإنجيلِ والمصحف * * * *

(1/343)


فصل في أحكام ذبائحهم قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 6]. ولم يختلف السلف أن المراد بذلك الذبائح. قال البخاري (1): قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم. وكذلك قال ابن مسعودٍ ومجاهدٌ وإبراهيم وقتادة والحسن وغيرهم (2). وقال أحمد بن الحسن الترمذي (3): سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب، فقال: لا بأس بها، فقلت: إلى أي شيء تذهب فيه؟ قال: حديث عبد الله بن مغفَّلٍ يوم فتح خيبر: دُلِّي جِرابٌ من شحمٍ ... الحديث. قال إسحاق: أجاد (4). _________ (1) في كتاب الذبائح، باب ذبائح أهل الكتاب، معلَّقًا بصيغة الجزم. ووصله الطبري (8/ 136) والبيهقي في "السنن" (9/ 282) من رواية علي بن أبي طلحة عنه. (2) لم أجد أثر ابن مسعود في تفسير الآية، وقد روي عنه حلُّ ذبائحهم في أثر آخر عند عبد الرزاق (10176) وابن أبي شيبة (33362)، وانظر: "المغني" (13/ 293). وأما آثار التابعين فعند الطبري في "تفسيره" (8/ 135 - 137). (3) أسنده عنه الخلال في "الجامع" (1021). (4) كما في "المغني" (13/ 293). وهو في "مسائل إسحاق بن منصور الكوسج" (2/ 358).

(1/344)


وقال حنبلٌ (1): سمعت أبا عبد الله يقول: تؤكل ذبيحة اليهودي والنصراني. وقال إسحاق بن منصورٍ (2): قال أبو عبد الله: لا بأسَ أن يذبح أهل الكتاب للمسلمين غيرَ النسيكة. وقال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله قال: لا بأسَ بذبيحة أهل الكتاب إذا هلَّلوا لله وسمَّوا عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. وما أُهِلَّ لغير الله به مما ذبحوا لكنائسهم وأعيادهم يجتنب ذلك، وأهل الكتاب يسمُّون على ذبائحهم أحبُّ إلي. وقال مهنا بن يحيى (4): سألت أبا عبد الله عن ذبائح السامرة، قال: تؤكل، هم من أهل الكتاب. وقال عبد الله بن أحمد (5): قال أبي: لا بأسَ بذبائح أهل الحرب إذا كانوا أهلَ الكتاب. _________ (1) "الجامع" (1010). (2) المصدر نفسه (1011). (3) المصدر نفسه (1012). (4) المصدر نفسه (1019). (5) المصدر نفسه (1022).

(1/345)


وقال ابن المنذر (1): أجمع على هذا كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم. وتفرَّدت الشيعة دون الأمة بتحريم ذبائحهم، واحتجُّوا بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، وبأنه إجماع أهل البيت، وبأن التسمية شرطٌ في الحلِّ، ولا يُعلم أنهم يُسَمُّون، وخبرهم لا يقبل، وبأنهم لو سمَّوا لم يسمُّوا الله في الحقيقة؛ لأنهم غير عارفين بالله. قالوا: والآية مخصوصةٌ بما سوى الذبائح لما ذكرنا من الدليل. وهذا القول مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلا يُلتفت إليه (2). وأما احتجاجهم بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، فإن أرادوا بالذكاة الشرعية ما أباح الله ورسوله الأكلَ بها فهذه ذكاةٌ شرعيةٌ، وإن أُريد بها ذكاة المسلم لم يلزم من نفيها نفْيُ الحلّ، ويصير الدليل هكذا: لأن ذكاة المسلم لم تُدرِكها، فغيَّروا العبارة وقالوا: لم تدركها الذكاة الشرعية. وأما قولهم: إنه إجماع أهل البيت، فكذبٌ على أهل البيت. وللشيعة طريقةٌ معروفةٌ، يقولون لكل ما تفرَّدوا به عن جماعة المسلمين: هذا إجماع أهل البيت! وهذا عبد الله بن عباس عالم أهل البيت يقول: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله يقول في كتابه: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا _________ (1) "الإشراف" (3/ 442)، والمؤلف صادر عن "المغني" (13/ 293). (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (35/ 212، 213).

(1/346)


منهم. قال سليمان بن حربٍ: ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عكرمة عنه (1). وإنما دخلت عليهم الشبهة من جهة أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب. قال محمد بن موسى (2): قلت لأبي عبد الله: نصارى بني تغلب تؤكل ذبائحهم؟ فقال: فيما أحسب هذا عن علي: "لا تؤكل ذبائحهم" بإسناد صحيح (3). وقال إسحاق بن منصورٍ (4): سألت أحمد عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقال: ما أَثْبَتَه (5) عن علي! _________ (1) لم أجد رواية سليمان بن حرب، ولكن أخرجه ابن أبي شيبة (16451) والطبري في "تفسيره" (8/ 132) وكذا ابن أبي حاتم (4/ 1157) والطحاوي في "مشكل الآثار" (15/ 401) من طرق عن حمَّاد به. وأخرجه الطبري (8/ 130) وابن أبي حاتم (4/ 1156، 1157) من طريقين آخرين عن عكرمة به. وأخرجه الطبري (8/ 130، 8/ 509) من روايتي سعيد بن جبير وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه. (2) "الجامع" للخلال (1025). (3) صحَّ ذلك من طرق عنه، انظر: "تفسير الطبري" (8/ 133، 134) و"تهذيب الآثار- مسند علي" (ص 226، 227). (4) "الجامع" (1026). (5) ضُبط في الطبعتين: "ما أُثبِته"، وهو يقلب المعنى ويجعله نفيًا لثبوته، وأحمد إنما يريد ــ والله أعلم ــ: ما أصحَّ الأثرَ عن علي في ذلك. لا سيما وقد فسَّر الخلال قول أحمد عقب الرواية فقال: "يقول أحمد: هو يثبت عن علي - رضي الله عنه - ".

(1/347)


وهذه مسألة تنازع فيها السلف والخلف، وفيها عن أحمد روايتان. وقال الأثرم (1): قلت لأحمد: ذبائح نصارى العرب، ما ترى فيها؟ بني تغلب وغيرهم من العرب، فقال: أما علي فكرهها وقال: إنهم لم يتمسَّكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وابن عباس رخَّص فيها. وقد تقدَّمت المسألة (2). وأما قولهم: إن التسمية شرطٌ في الحلّ، فلعمر الله إنها لشرطٌ بكتاب الله وسنة رسوله، وأهلُ الكتاب وغيرهم فيها سواءٌ، فلا يؤكل متروك التسمية سواءٌ ذبحه مسلم أو كتابي، لبضعة عشر دليلًا مذكورةٍ في غير هذا الموضع (3). وأما قولهم: إنه لا يُعلم هل سمَّى أم لا، فهذا لا يدلُّ على التحريم؛ لأن الشرط متى شقَّ العلمُ به وكان فيه أعظمُ الحرج سقطَ اعتبار العلم به كذبيحة المسلم، فإن التسمية شرطٌ فيها ولا يعتبر العلم بذلك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: إن ناسًا يأتوننا باللحم لا ندري أسمَّوا الله أم لا، فقال: "سَمُّوا أنتم وكلوا" (4). _________ (1) "الجامع" (1027). (2) انظر (ص 122 وما بعدها). (3) انظر: "جامع المسائل" (5/ 377 - 389). (4) أخرجه البخاري (2057) من حديث عائشة.

(1/348)


وقولهم: إن قوله غير مقبولٍ، لو صح ذلك لم يجزْ بيعه ولا شراؤه ولا معاملته ولا أكل طعامه؛ لأنه إنما يستند إلى قوله فيه. وقولهم (1): إنهم لا يسمُّون الله لأنهم غيرُ عارفين به= حجةٌ في غاية الفساد؛ فإنهم يعرفون أنه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وإن جهلوا بعض صفاته أو أكثرها، فالمعرفة التامّة ليست بشرطٍ لتعذُّرها، وأصل المعرفة معهم. وأما تخصيص الآية بما عدا الذبائح فمخالفٌ لإجماع الصحابة ومن بعدهم، وللسنة الصحيحة الصريحة، ومستلزمٌ لحملها على ما لا فائدة فيه، فإن الفاكهة والحبوب ونحوها لا تسمَّى من طعامهم (2)، بخلاف ذبائحهم، ففهمُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماعة المسلمين بعدهم أولى من فهم الرافضة، وبالله التوفيق. فصل إذا ثبت هذا فلا فرقَ بين الحربي والمعاهد، لدخولهم جميعًا في أهل الكتاب. وأما نصارى بني تغلب ففيهم روايتان، وهما قولان للصحابة رضي الله عنهم. _________ (1) في الأصل: "وقوله". (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (35/ 217 - 218).

(1/349)


فصل وهاهنا خمس مسائل: إحداها: ما تركوا التسمية عليه. الثانية: ما سمَّوا عليه غير الله. الثالثة: ما ذبحوه غير معتقدين حلَّه وهو حلالٌ عندنا. الرابعة: ما ذبحوه معتقدين حلَّه، هل يحرم علينا منه الشحوم التي يعتقدون تحريمها؟ الخامسة: ما ذبحوه فخرج لاصِقَ الرئة، ويسمُّونه الطَّرِيفا (1)، هل يحرم علينا أم لا؟ ونحن نذكر هذه المسائل، واختلاف الناس فيها ومأخذها، بعون الله وتوفيقه. فأما المسألة الأولى: فمن أباح متروك التسمية إذا ذبحه المسلم، اختلفوا: هل يُباح إذا ذبحه الكتابي (2)؟ فقالت طائفةٌ: يباح؛ لأن التسمية إذا لم تكن شرطًا في ذبيحة المسلم لم تكن شرطًا في ذبيحة الكتابي. وقالت طائفةٌ: لا يُباح وإن أبيح من المسلم، وفرقوا بينهما بأن اسم الله _________ (1) انظر كلام المؤلف عليه في "إغاثة اللهفان" (2/ 1111، 1112)، و"هداية الحيارى" (ص 307 - 309). (2) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 55، 59، 60)، و"المغني" (13/ 290، 293).

(1/350)


في قلب المسلم وإن ترك ذكره بلسانه، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما (1)، وهو ظاهر نصِّ أحمد، فإن أحمد قال في رواية حنبلٍ (2): لا بأس بذبيحة أهل الكتاب إذا أهلُّوا بها لله وسمَّوا عليها، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. فقد خرج بالفرق كما ترى. ومن حرَّم متروك التسمية من المسلم فلهم قولان في متروكها من الكتابي (3): أحدهما: أنه يباح، وهذا مروي عن عطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ. والثاني: أنه يحرم كما يحرم من المسلم، وهذا قول إسحاق وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم. فصل المسألة الثانية: إذا ذكروا اسم غير الله على ذبيحتهم كالزُّهرَة و المسيح وغيرهما، فهل يُلحق بمتروك التسمية فيكون حكمُه حكمَه، أو يحرم قطعًا وإن أبيح متروك التسمية؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما تحريمه. _________ (1) أخرج عبد الرزاق (8548) وسعيد بن منصور (914 - التفسير) والدارقطني (4806) بإسناد صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: "إن في المسلم اسمَ الله، فإن ذبح ونسي اسم الله فليأكل" لفظ عبد الرزاق. (2) في "الجامع" للخلال (1012). (3) انظر: "المغني" (13/ 311، 312).

(1/351)


قال الميموني (1): سألت أبا عبد الله عمن يذبح من أهل الكتاب ولم يُسمِّ؟ فقال: إن كان مما يذبحون لكنائسهم يَدَعون التسمية فيه على عمدٍ، إنما يذبح للمسيح، فقد كرهه ابن عمر (2)، إلا أن أبا الدرداء يتأوَّل أن طعامهم حلٌّ (3)، وأكثر ما رأيت منه الكراهية لأكل ما ذبح لكنائسهم. وقال الميموني أيضًا (4): سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسمِّ، قال: إن كانت ناسيةً فلا بأس، وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدَعون التسمية على عمدٍ. وقال في رواية ابنه عبد الله (5): ما ذُبِح للزُّهرة فلا يُعجِبني أكله، قيل له: أحرامٌ أكلُه؟ قال: لا أقول حرامًا، ولكن لا يعجبني. وقال في رواية حنبلٍ (6): يجتنب ما ذُبح لكنائسهم وأعيادهم. وقال أبو البركات في "محرَّره" (7): وإن ذكروا عليه اسم غير الله ففيه _________ (1) "الجامع" للخلال (1032). (2) سيأتي لفظه وتخريجه قريبًا (3) سيأتي الأثر عنه قريبًا. (4) سقط هذا النص من "الجامع" للخلال طبعة مكتبة المعارف. وهو ثابت في طبعة دار الكتب العلمية بيروت (ص 367). (5) "مسائله" (ص 266). (6) انظر: "الجامع" للخلال (2/ 445)، و"المغني" (13/ 295). (7) (2/ 192).

(1/352)


روايتان منصوصتان، أصحهما عندي تحريمه. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا تؤكل ذبائحهم التي سمَّوا عليها اسم المسيح (1). قال القاضي إسماعيل في "أحكام القرآن" (2): وكان أهلُ الكتاب خُصّوا بإباحة ذبيحتهم، حتى كانت قد أُهِلَّ بها لله مع الكفر الذي هم عليه، فخرجت (3) ما أُهلَّ به لغير الله إذ كانوا قد أهلُّوا بها وأشركوا مع الله تعالى. ولهذا الوضع ــ فيما أحسب ــ اختلف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح، فكرهه قومٌ لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة، فصارت مما أُهِلَّ به لغير الله، ورخَّص في ذلك قومٌ على الأصل الذي أبيح من ذبائحهم. فأما من بلغنا عنه الرخصة في ذلك فحدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن أبي الزاهرية، عن عمير بن الأسود السَّكوني قال: أتيت أهلي فإذا كتِفُ شاةٍ مطبوخةٌ، قلت: من أين هذا؟ قالوا: جيراننا من النصارى ذبحوا كبشًا لكنيسة جرجس، قلَّدوه عمامةً وتلقَّوا دمه في طَسْتٍ، ثم طبخوا وأهدوا إلينا وإلى جيراننا. قال: قلت: _________ (1) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 57). (2) ليس في القدر المطبوع منه. (3) كذا في الأصل بتأنيث الفعل.

(1/353)


ارفعوا هذا، ثم هبطتُ إلى أبي الدرداء فسألته، وذكرتُ ذلك له، فقال: اللهم غفرًا، هم أهل الكتاب طعامهم لنا حلٌّ وطعامنا لهم حلٌّ (1). ثنا علي عن (2) زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالحٍ، حدثني أبو الحكم التُّجيبي، حدثني جرير بن عتبة ــ أو عتبة بن جريرٍ ــ قال: سألت عبادة بن الصامت عن ذبائح النصارى لموتاهم، قال: لا بأس به (3). ثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي عن مكحولٍ فيما ذبحت النصارى لأعياد كذا، قال: كُلْه، قد علم الله ما يقولون وأحلَّ ذبائحهم (4). وثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ يقول: سمعت القاسم بن مُخَيمِرة قال: كُلْها، ولو سمعتُه يقول: "على اسم جرجس" لأكلتُها (5)! حدثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، _________ (1) أخرجه الطبري (8/ 138) من طريق ابن وهب عن معاوية به. وإسناده حسن. (2) في الأصل: "بن" تحريف. (3) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 214) عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح به. وفي إسناده أبو الحكم التجيبي لم أهتد إلى ترجمته، وجرير بن عتبة لم يوثّقه غير ابن حبان. والأثر ضعَّفه ابن حزم في "المحلَّى" (7/ 411). (4) لم أجده مسندًا، وقد ذكر البغوي في "تفسيره" (3/ 18) عنه وعن الشعبي نحوه. (5) لم أجده مسندًا، وقد ذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" (ص 363، 435) بنحوه معلَّقًا.

(1/354)


عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ عن أبيه قال: كُلْها (1). وبه إلى أبي بكر، عن حبيب بن عبيد أن العرباض بن سارية قال: كُلْه (2). ثنا سليمان بن حربٍ، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الملك، عن عطاءٍ في النصراني يذبح ويذكر اسم المسيح، قال: كُلْه، قد أحلَّ اللهُ ذبائحهم، وقد علم ما يقولون (3). وذكر عن عطاءٍ أيضًا أنه سئل عن النصراني يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: كل (4). وقال إبراهيم في الذمي يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: إذا توارى عنك فكلْ (5). _________ (1) لم أجده مسندًا. وفي إسناده ضعف، لضعف أبي بكر بن عبد الله بن مريم. (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/ 260) من طريق آخر عن الوليد بن مسلم، عن أبي بكر، عن حبيب بن عُبيد، عمَّن حدَّثه عن عرباض قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذبائح النصارى [في] أعيادهم، فقال: "إن لم تأكلوه فأطعموني". قلتُ: الصواب وقفه كما عند القاضي إسماعيل، والظاهر أن رفعه وهمٌ من شيخ الطبراني في الإسناد: بكر بن سهل الدمياطي، فإنه ضعيف. على أن الموقوف نفسه فيه ضعف كما سبق في الأثر السابق، وقد ضعَّفه ابن حزم في "المحلَّى" (7/ 411). (3) أخرجه عبد الرزاق (10184) قال: أخبرني من سمع عطاء يقول ... بنحوه. (4) أخرجه عبد الرزاق (10180) بنحوه. (5) أخرجه عبد الرزاق (10185) بنحوه.

(1/355)


وقال عبد الله بن وهبٍ: حدثني حَيْوة بن شريحٍ، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافعٍ الأشجعي أنهما قالا: حِلٌّ لنا ما يُذبح لعيد الكنائس، وما أُهدِي من خبزٍ أو لحمٍ، وإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة: فقلت أرأيت قول الله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اِللَّهِ بِهِ} [المائدة: 4]، فقال: إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون (1). وقال أيوب بن نجيحٍ: سألت الشعبي عن ذبائح نصارى العرب، فقلت: منهم من يذكر الله، ومنهم من يذكر المسيح، فقال: كُلْ وأطعِمْني (2). قال القاضي إسماعيل: وأما من بلغنا عنه أنه كره ذلك، فحدثنا محمد بن أبي بكرٍ، ثنا ابن مهدي، عن قيسٍ، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي: قال إذا سمعت النصراني يقول: "باسم المسيح" فلا تأكل، وإذا لم تسمع فكُلْ، فقد أُحِلّ ذبائحهم (3). حدثنا علي، ثنا جرير، عن قابوس (4) بن أبي ظبيان، عن أبيه أن امرأةً سألت عائشة فقالت: إنَّ لنا أظآرًا من العجم لا يزالون يكون لهم عيدٌ، فيُهْدون لنا فيه أفنأكلُ منه؟ فقالت: أما ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، ولكن كلوا من أشجارهم (5). _________ (1) أخرجه الطبري (3/ 57) عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به. (2) لم أجده مسندًا. (3) علَّقه ابن حزم (7/ 411) عن عبد الرحمن بن مهدي به. وإسناده لا بأس به. (4) في هامش الأصل: "كابوس" برمز خ. (5) أخرجه ابن أبي شيبة (24856). وإسناده لا بأس به.

(1/356)


حدثنا علي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: ما ذُبِح للكنيسة فلا تأكلْه (1). وقال حمادٌ: كُلْ ما لم تسمعهم أهلُّوا به لغير الله. وكرهه مجاهدٌ وطاوسٌ، وكرهه ميمون بن مهران (2). وقال القاضي إسماعيل: وكان مالك يكره ذلك من غير أن يوجب فيه تحريمًا (3). قال المبيحون: هذا من طعامهم، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيصٍ، وقد علم سبحانه أنهم يسمُّون غيرَ اسمه. قال المحرِّمون: قد صرَّح القرآن بتحريم ما أُهِلَّ به لغير الله، وهذا عامٌّ في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهلَّ بها لغير الله، وإباحة ذبائحهم وإن كانت مطلقةً لكنها مقيدةٌ بما لم يهلُّوا به لغيره، فلا يجوز تعطيل المقيّد وإلغاؤه، بل يُحمل المطلق على المقيّد. قال الآخرون (4): بل هذا من باب العام والخاص، فأما ما أهلَّ به لغير _________ (1) علَّقه ابن حزم (7/ 411) عن ابن عمر. (2) أثر ميمون بن مهران أخرجه الخلال في "الجامع" (2/ 445). ولم أجد قول مجاهد وطاوس. (3) إلى هنا انتهى النقل الطويل من "أحكام القرآن" لإسماعيل القاضي. (4) أي المبيحون.

(1/357)


الله عامٌّ (1) في الكتابي وغيره، خصَّ منه ذبيحة الكتابي فبقيت الآية على عمومها في غيره. قال الآخرون (2) بل قوله تعالى: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 6]، عامٌّ فيما أهلُّوا به لله وما أهلُّوا به لغيره، خصَّ منه ما أهلَّ به لغيره، فبقي اللفظ على عمومه فيما عداه، قالوا: وهذا أولى لوجوهٍ. أحدها: أنه قد نصَّ سبحانه على تحريم ما لم يُذكر عليه اسمه، ونهى عن أكله، وأخبر أنه فسقٌ. وهذا تنبيهٌ على أن ما ذُكر عليه اسم غيره أشدُّ تحريمًا وأولى بأن يكون فسقًا. الثاني: أن قوله: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} قد خُصَّ بالإجماع (3)، وأما ما أُهِلَّ به لغير الله فلم يُخصَّ بالإجماع، فكان الأخذ بالعموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه أولى من العموم الذي قد أُجمِع على تخصيصه. الثالث: أن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172]، فحصر التحريم في هذه الأربعة، فإنها محرَّمةٌ في كل ملةٍ، لا تباح بحالٍ إلا عند الضرورة، وبدأ بالأخفِّ تحريمًا ثم بما هو أشدُّ منه، فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم، فإنه _________ (1) كذا في الأصل بدون الفاء. (2) أي المحرمون. (3) في نحو الخنزير وغيره، فإنه لا يحل بالإجماع ولو كان من طعامهم.

(1/358)


أخبث منها، ولحم الخنزير أخبث منهما، وما أهلَّ به لغير الله أخبث الأربعة. ونظير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31]، فبدأ بالأسهل تحريمًا ثم ما هو أشدُّ منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات، وهو القول عليه بلا علمٍ. فما أُهِلَّ به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات. الرابع: أن ما أهلَّ به لغير الله لا يجوز أن تأتي شريعةٌ بإباحته أصلًا، فإنه بمنزلة عبادة غير الله. وكل ملةٍ لا بدَّ فيها من صلاةٍ ونسكٍ، ولم يشرع الله على لسان رسولٍ من رسله أن يصلي لغيره، ولا ينسك لغيره، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 164 - 165]. الخامس: أن ما أُهلَّ به لغير الله تحريمه من باب تحريم الشرك، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث والمعاصي. السادس: أنه إذا خُصَّ من طعام الذين أوتوا الكتاب ما يستحلُّونه من الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فلأن يُخصَّ منه ما يستحلُّونه مما أهِلَّ به لغير الله أولى وأحرى. السابع: أنه ليس المراد من طعامهم ما يستحلُّونه وإن كان محرمًا عليهم، فهذا لا يمكن القول به، بل المراد به ما أباحه الله لهم فلا يحرم علينا أكله، فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلُّونه ولا يُباح لنا، وتحريم ما أهلَّ

(1/359)


به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير. وسرُّ المسألة أن طعامهم ما أبيح لهم، لا ما يستحلُّونه مما حرِّم عليهم. الثامن: أن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قُدِّر تعارضُ دليلَي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى، لثلاثة أوجهٍ. أحدها: تأيُّدُه بالأصل الحاظر. الثاني: أنه أحوط. الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا، ورجع إلى أصل التحريم. فصل المسألة الثالثة: إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه كالإبل (1) والنَّعام والبطّ وكل ما ليس بمشقوق الأصابع، هل يحرم على المسلم؟ اختُلف فيه (2): فأباحه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قول جمهور أصحابه. وحكى ابن أبي موسى في "الإرشاد" (3) أنه لا يباح ما ذكاه اليهود من الإبل. ووجهُ هذا: أنه ليس من طعام المذكِّي، ولأنه ذبحٌ لا يعتقد الذابح حلَّه _________ (1) كذا في الأصل، وفي مطبوعة "المغني": "الإيَّل". وهو الوعل. (2) انظر: "المغني" (13/ 312). (3) (ص 378).

(1/360)


فهو كذبيحة المُحرِم. ولأن لاعتقاد الذابح أثرًا في حلِّ الذبيحة وتحريمها. ولهذا لو ذبح المسلم ما يعتقد أنه لا يَحلُّ له ذبحُه ــ كالمغصوب ــ كان حرامًا، فالقصد يؤثِّر في التذكية كما يؤثِّر في العبادة. وهذا مذهب مالك (1)، واحتج أصحابه على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 147]، ولما كانت حرامًا عليهم لم تكن تذكيتهم لها ذكاةً، كما لا يكون ذبح الخنزير لنا ذكاةً. وهذا الدليل مبني على ثلاث مقدماتٍ: إحداها: أن ذلك حرامٌ عليهم، وهذه المقدمة ثابتةٌ بنصّ القرآن. الثانية: أن ذلك التحريم باقٍ لم يزل. الثالثة: أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم تؤثِّر الذكاة في حلِّه. فأما الأولى فهي ثابتةٌ بالنص. وأما الثانية فالدليل عليها أنَّ سبب التحريم باقٍ، وهو العدوان، قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، وبغيهم لم يزل بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل زاد البغي منهم، فالتحريم تغلَّظ بتغلُّظ البغي. يوضحه أن رفع ذلك التحريم إنما هو رحمةٌ في حقّ من اتبع الرسول، فإن الله وضع عن أتباعه الآصار والأغلال التي كانت عليهم قبل مبعثه، ولم يَضَعْها عمن كفر به، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ _________ (1) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 584).

(1/361)


مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. وأما المقدمة الثالثة، وهو (1) أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم يؤثِّر ذلك في الحلّ، فقد تقدَّم تقريرها. فصل المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم؟ هذا مما اختُلِف فيه. قال عبد الله بن أحمد (2): وسألت أبي عن الشحوم، تحرم على اليهود؟ فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، قال: والقرآن يقول: {حَرَّمْنَا}، وقال في آيةٍ أخرى بعد سورة المائدة: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 147]، يعني نزل بعد: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، قلت: فيحلُّ لمسلم أن يطعم يهوديًّا شحمًا؟ قال: لا؛ لأنه محرَّمٌ عليه. _________ (1) كذا في الأصل. (2) "الجامع" للخلال (2/ 443).

(1/362)


وقال مهنا (1): حدثني أحمد عن الزبيري عن مالك، في اليهودي يذبح الشاة، قال: لا يأكل من شحمها، قال أحمد: هذا مذهب دقيقٌ. فاختلف أصحابه في ذلك (2): فذهب ابن حامدٍ وأبو الخطاب وجماعةٌ إلى الإباحة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. وذهب القاضي وأبو الحسن التميمي إلى التحريم، وصنَّف فيه التميمي مصنَّفًا ردَّ فيه على من قال بالإباحة (3)، واختاره أبو بكر أيضًا. وذهب مالك إلى الكراهة، وهي عنده مرتبةٌ بين الحظر والإباحة (4). قال المبيحون (5): القول بالتحريم خلاف القرآن والسنن والمعقول. أما القرآن فإن الله تعالى يقول: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]. قالوا: وقد اتفقنا على أن المراد بذلك ما ذبحوه، لا ما أكلوه؛ لأنهم يأكلون الخنزير والميتة والدم. قالوا: وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخَ كل دينٍ كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه _________ (1) المصدر نفسه. (2) انظر: "المغني" (13/ 312)، و"الروايتين والوجهين" (3/ 37). (3) ذكره أبو يعلى في كتاب "الروايتين والوجهين" (3/ 37). (4) "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 584). وينظر "الموطأ" رواية ابن زياد (ص 156). (5) انظر: "المحلى" (7/ 454).

(1/363)


كافرٌ، وقد أبطل الله كلَّ شريعةٍ كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائعَ الإسلام، فلا حرامَ إلا ما حرَّمه الإسلام، ولا فرضَ إلا ما أوجبه الإسلام. وأما السنة فحديث عبد الله بن مغفَّلٍ الذي رواه البخاري في "صحيحه" (1) أن جِرابًا من شحمٍ يوم خيبر دُلِّي من الحصن، فأخذه عبد الله بن مغفَّلٍ وقال: والله لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقرَّه على ذلك. وثبت في "الصحيح" (2) أن يهوديةً أهدَتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاةً، فأكل منها، ولم يُحرِّم شحم بطنها ولا غيره. قالوا: وأما المعقول فمن المحال الباطل أن تقع الذكاة على بعض شحم الشاة دون بعضها. قالوا: وقد قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}، وهذا محض طعامنا. قالوا: وقد قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أحلَّ سبحانه لهم الطيبات على لسان رسوله، وهذا من الطيبات. _________ (1) برقم (3153، 4214، 5508) وليس فيه: "والله لا أعطي ... " إلخ، وإنما هو عند أحمد (16791) ومسلم (1772) وغيرهما بنحوه. (2) للبخاري (2617) ومسلم (2190) من حديث أنس.

(1/364)


قال ابن حزمٍ (1): ويُسألون عن الشحم والجمل أحلالٌ هما اليوم لليهود أم هما حرامٌ إلى اليوم؟ فإن قالوا: بل هما حرامٌ عليهم إلى اليوم كفروا بلا مريةٍ، إذ قالوا: إن ذلك لم ينسخه الله تعالى. وإن قالوا: بل هما حلالٌ لهم صدقوا، ولزِمَهم تركُ قولهم الفاسد. قال: ونسألهم عن يهودي مستخفٍّ بدينه ذبح شاةً يعتقد حلَّ شحمها، هل يحرم علينا الشحم أم لا؟ فإن قلتم: يحرم علينا كان محالًا، فإنه ذكَّى ما يعتقد حلَّه ونحن نعتقد حلَّه، فمن أين جاء التحريم؟ وإن قلتم: لا يحرم علينا كانت ذبيحة هذا المستخفِّ بدينه أحسنَ حالًا من ذبيحة المتمسك بدينه، وهذا محالٌ. قال: ويلزمهم أن لا يستحلُّوا أكْلَ ما ذبحه يهودي يومَ سبتٍ، ولا أكْلَ حيتانٍ صادها يهودي يوم سبتٍ، وهذا مما تناقضوا فيه. قال: وقد روينا عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وعائشة أم المؤمنين، وأبي الدرداء، وعبد الله بن يزيد، وابن عباس، والعرباض بن سارية، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وابن عمر رضي الله عنهم (2) = _________ (1) "المحلى" (7/ 455). (2) تقدَّمت الآثار عن عامَّة هؤلاء، إلا أبا أمامة وعبد الله بن يزيد الخطمي، فأما الأول فأشار إليه ابن حزم في "المحلى" (7/ 411) مضعِّفًا إسناده، وأما الآخر فأخرجه الطبري في "تفسيره" (9/ 528) بإسناد صحيح قال: "كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ".

(1/365)


إباحةَ ما ذبحه أهل الكتاب دون اشتراطٍ لما يستحلُّونه. وكذلك عن جمهور التابعين، لم نجد عن أحدٍ هذا القول إلا عن قتادة، ثم عن مالك وعبيد الله بن الحسن، وهذا مما خالفوا فيه طائفةً من الصحابة لا مخالفَ لهم، وخالفوا فيه جمهورَ العلماء. قال المحرِّمون: إنما أباح الله سبحانه لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، والشحوم المحرمة عليهم ليست من طعامهم، فلا تكون لنا مباحةً، والمقدمتان ظاهرتان غنيتان عن التقرير. قالوا: ولأنه شحمٌ محرَّمٌ على ذابحه، فكان محرَّمًا على غيره بطريق الأولى، فإن الذكاة إذا لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى المذكِّي لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى غيره، وهذا كذبح المُحرِم الصيد، فإنه لما كان حرامًا عليه، ولم تُفِدِ الذكاةُ الحلَّ بالنسبة إليه، لم تُفِده بالنسبة إلى الحلال. قالوا: وطردُ هذا تحريم الجمل إذا ذبحه اليهودي. قالوا: وأيضًا فللقصد تأثيرٌ في حلّ الذكاة كما تقدَّم، فإذا كان الذابح غير قاصدٍ للتذكية لم تحلَّ ذكاتُه، ولا ريبَ أنه غير قاصدٍ لتذكية الشحم، فإنه يعتقد تحريمه وأنه بمنزلة الميتة. قالوا: ولا محذورَ في تجزُّء الذكاة، فيحلُّ بها بعض المذكَّى دون بعضٍ، فيكون ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد المذكِّي حلَّه وليس ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد تحريمه، فإن ما يأكله يعتقد ذكاته ويقصدها، وما لا يأكله لا يعتقد ذكاته ولا يقصدها فصار كالميتة.

(1/366)


قالوا: والمعتمد في المسألة أن الله سبحانه حرَّم ذلك عليهم، والتحريم باقٍ لم يُنسَخ إلا عمن التزم الشريعة الإسلامية، ويدلُّ على بقاء التحريم وجوهٌ: أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأنه حرَّمه ولم يُخبِر بأنه نسخَه بعد تحريمه، وإنما يزول التحريم عمن التزم الإسلام. الثاني: أنه علَّل التحريم بالبغي، وهو لم يزل بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: ما في "الصحيح" (1) عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهودَ حُرِّمتْ عليهم الشحومُ فجَمَلُوها، فباعوها وأكلوا أثمانَها". وفي "المسند" (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحومُ، فباعوها وأكلوا أثمانَها، وإنَّ الله لم يُحرِّم على قومٍ أكلَ شيءٍ إلا حرَّم عليهم ثمنَه". فلو كان التحريم قد زال عنهم لم يلعنهم على فعل المباح. قالوا: ولا يمتنع ورود الشرع بإقرارهم على آصارهم وأغلالهم تغليظًا عليهم، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124]، فأخبر أنه جعل عليهم، ولم يخبر بأنه رفعه عنهم، وإنما يرفع عمن التزم أحكام الإسلام. _________ (1) للبخاري (2236) ومسلم (1581) بنحوه. (2) برقم (2221، 2678)، وإسناده جيِّد.

(1/367)


وفي بقاء تحريمه عليهم قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب أحمد، وعلى أحد القولين نُلزمهم به، ولا نُمكِّنهم من كسره. وقد نصَّ أحمد على بقاء تحريم الشحوم عليهم (1)، فقال في رواية ابنه عبد الله (2): لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُطعِم يهوديًّا شحمًا، لأنه محرَّمٌ عليه. قال أبو بكر عبد العزيز (3): ويدلُّ على التحريم أن المسلم لما لم تعمل ذكاته فيما حرم عليه، فاليهودي أولى. قال: فذكاة اليهودي لا تعمل في الشحم، كما لا تعمل ذكاة المسلم في الغُدَّة وأُذنِ القلب (4)، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وقد نصَّ أحمد على ذلك، فقال ابن منصورٍ (5): قلت لأحمد: آكل أذن القلب؟ فقال: لا تؤكل. وقال عبد الله (6): قلت لأبي: الغدة؟ فقال: لا تؤكل، النبي - صلى الله عليه وسلم - كرهها. وقد روى الدارقطني (7) من حديث بقية بن الوليد، عن أبي المنذر، عن _________ (1) انظر: "الروايتين والوجهين" (3/ 37)، و"الجامع" للخلال (2/ 443). (2) كما في "الجامع" (2/ 443). (3) لم أجد كلامه في "زاد المسافر". (4) أذن القلب: إحدى الزنمتين في أعلى القلب، فهما أذنا القلب. (5) لم أجده في "مسائله" المطبوعة. (6) "مسائله" (ص 272). (7) لم أجده في "سننه"، ولا في "أطراف الغرائب والأفراد". والإسناد غريب، ولم أعرف أبا المنذر وعبد الله بن زيد.

(1/368)


عبد الله بن زيدٍ، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألها عن أذن القلب، فقالت: ألقيتُها، فقال: "طابت قِدْرُكِ وحلَّ أكلُه". وقال أبو طالب (1): قلت لأحمد: حدَّثوني عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثيرٍ، فقال: ثقةٌ، ثم قال: من حدَّثك عنه؟ قلت: مسددٌ (2)، قال: سمع منه باليمامة، قلت: رواه عن أبيه عن رجل من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أذن القلب. فقال: نعم هكذا، قلت: ما هذا الحديث؟ قال: نهى عن أكل أذن القلب (3). قالوا: وقد ثبت أن القصد في الذكاة معتبرٌ، ولهذا اختلفت باختلاف _________ (1) أشار إلى هذه الرواية ابن مفلح في "الفروع" (10/ 401)، والمرداوي في "الإنصاف" (10/ 368). (2) هو عنده في "مسنده" (المطالب: 2349)، وعنه أخرجه أبو داود في "المراسيل" (467). وظاهر صنيع أبي داود أن "الرجل من الأنصار" تابعي والحديثَ مرسل. ولوكان صحابيًّا كان الإسناد مرسلًا أيضًا ــ أي: منقطعًا بين يحيى والأنصاري ــ إذ رواية يحيى بن أبي كثير عن عامَّة الصحابة مراسيل، فإنه لم يدرك من الصحابة إلا أنس، رآه رؤية ولم يسمع منه. انظر: "المراسيل" (ص 240 - 244) و"بيان الوهم والإيهام" (5/ 172) و"الضعيفة" (6220). (3) "فقال نعم ... القلب" ساقطة من المطبوع. وفي "المغني" (13/ 252): "ويُكره أكل الغدة وأذن القلب، لما رُوي عن مجاهد ... ولأن النفس تعافُهما وتستخبثهما، ولا أظنُّ أحمد كرههما إلّا لذلك، لا للخبر، لأنه قال فيه: هذا حديث منكر".

(1/369)


المذكِّين، وعكسه إزالة النجاسة، لما لم يكن القصد فيها معتبرًا لم يعتبر باختلاف المُزِيلين. قالوا: وأما حديث عبد الله بن مغفَّلٍ فجوابه من وجوهٍ: أحدها: أنه لم يقل: "فأخذتُه فأكلتُه"، فلعله أخذه لغير الأكل. الثاني: أنه لعله كانت رغبته في الظرف لا في المظروف. الثالث: لعله كان مضطرًّا إلى أكله فلم ينهَه عنه. الرابع: أنه لعله من ذبيحة مسلم، ولا يتعيَّن أن يكون من ذبيحة كتابي. وهذا من أفسد الأجوبة، فإنه دُلِّي من الحصن والمسلمون محاصروه. الخامس ــ وهو أصح الأجوبة ــ: أنه لا يتعيَّن كونه من الشحم المحرَّم عليهم، بل الظاهر أنهم إنما كانوا يأكلون الشحوم المباحة لهم، فيجوز لنا أكلُه كما يجوز لنا أكلُ ذبائحهم وأطعمتهم، والظاهر أنه من شحم الظهر والحوايا وما اختلط بعظمٍ، فإنه هو الشحم الذي كانوا يأكلونه. وأما أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشاة التي ذبحتها اليهودية فإنها كانت شاةً مشويَّةً، والشاة إنما تُشوى بعد نزْعِ شحمها، وهو إنما أكل من الذراع وليس بحرامٍ. وأما قولكم: إنه من المحال أن تقع التذكية على بعض الشاة دون بعضٍ، فهذا ليس بمحالٍ عقلًا ولا شرعًا أن تعمل الذكاة فيما يباح من الشاة دون ما يحرم منها أو يُكره، والشريعة طافحةٌ من تبعُّض الأحكام، وهو محض الفقه.

(1/370)


وقد جعل الله سبحانه البنتَ من الرضاعة بنتًا في الحرمة والمَحْرمة، وأجنبيةً في الميراث والإنفاق. وكذلك بنت الزنا عند جمهور الأمة بنتٌ في تحريم النكاح، وليست بنتًا في الميراث. وكذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ وليدة زَمْعة (1) أخًا لـ [سودة بنت] زَمْعة في الفراش، وأجنبيًّا في النظر لأجل الشَّبه بعتبة (2). فلا يستحيل أن تكون الشاة مذكَّاةً بالنسبة إلى اللحم والشحم المباح، غيرَ مذكَّاةٍ بالنسبة إلى الشحم المحرَّم. وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]، وأن هذه الشحوم من طعامنا، فلَعمرُ الله إنها من طعامنا إذا ذكّاها المسلم ومن تَحِلُّ له، فأما إذا ذكَّاها من يعتقد تحريمها فليست في هذه الحال من طعامه ولا من طعامنا. وأما استدلالكم بقول المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وبقوله تعالى عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَيُحِلُّ لَهُمُ اُلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمِ اِلْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فهذا الإحلال إنما هو لمن آمن بالمسيح وبمحمد نعمةً من الله عليه وكرامةً له، لا لمن أصرَّ على كفره وتكذيبه، وإنما هو لمن التزم الشريعةَ التي جاءت بالحلِّ. _________ (1) أي ابن جاريته. وما بين المعكوفتين زيادة لازمة. (2) كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي أخرجه البخاري (2053) ومسلم (1457)، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو لك يا عبد بن زمعة"، ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" لما رأى من شَبَهه بعتبة.

(1/371)


وأما سؤال ابن حزمٍ (1): هل الجمل والشحم اليوم حرامٌ عليهم أم حلالٌ لهم؟ فإن قالوا: حرامٌ عليهم كفروا، وإن قالوا: حلالٌ تركوا قولهم= فكلامُ متهوِّرٍ مُقْدِمٍ على تكفير من لم يكفِّره الله ورسوله، وعلى التكفير بظنّه الفاسد، ولا يستحقُّ هذا الكلام جوابًا لخلوِّه عن الحجة. وهم يَقلِبُون عليه هذا السؤال فيقولون له: نحن نسألك هل أحلَّ الله لهم هذه الشحوم مع إقامتهم على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأباحها لهم وطيَّبها في هذه الحال، أم بقَّاهم (2) على ما هم عليه من الآصار والأغلال؟ فإن قلت: بل أباحها لهم وطيَّبها وأحلَّها مع بقائهم على اليهودية وتكذيبِ رسوله، فهذا كفرٌ وكذبٌ على الله وعلى كتابه. وإن قلت: بقَّاهم على ما هم عليه تركتَ قولك وصرتَ إلى قولنا. فلا بدَّ لك من واحدٍ من هذين الأمرين، وأحسنُ أحوالك أن تتناقض، لِتسلَم بتناقضِك من الكفر. وأما سؤالك عن ذبيحة المستخفِّ بدينه الذي يعتقد حلَّ الشحوم، فهذا السؤال جوابه فيه، فإنه متى اعتقد حلَّ الشحوم خرج عن اليهودية: إما إلى الإسلام، وإما إلى الزندقة، فإن تحريم الشحوم ثابتٌ بنصِّ التوراة، فإن كذَّب التوراة وأقام على يهوديته فليس بيهودي ولا تحلُّ ذبيحته. وإن آمن بالتوراة واعتقد حلَّ الشحوم؛ لأن شريعة الإسلام أبطلتْ ما سواها من الشرائع، والواجب اتباعها= فهذا الاعتقاد حقٌّ، ولكن لا يُبيح له الشحومَ المحرَّمة إلا _________ (1) تقدم نقله (ص 365). (2) كذا في الأصل هنا وفيما يأتي، وهو صحيح في اللغة. وغيَّره في المطبوع بـ"أبقاهم".

(1/372)


بالتزام شريعة الإسلام التي رفع الله بها عنهم الآصار والأغلال، فإذا لم يلتزم شريعة الإسلام وأقام على اليهودية لم ينفعه اعتقاده دون انقياده شيئًا. كما لو اعتقد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقَدْ للإسلام ومتابعته. وأما قوله: ويلزمهم أن لا يأكلوا ما ذبحه يهودي يوم سبتٍ، فهذا لا يمنع أن يلتزموه، فإنهم إن اعتقدوا تحريمَ ما ذبحوه يومَ السبت كان بمنزلة ما ذبحوه من دوابِّ الظُّفُر، وإن لم يعتقدوا تحريمه كان من طعامهم، فكان حلالًا. ولأصحاب هذا القول في بقاء تحريم السبت عليهم قولان. وأما صيدُهم الحيتانَ يوم السبت فخفي على أبي محمد (1) أن غايتها أن تكون ميتةً، وميتة السمك حلالٌ، ولهذا لا يحرم ما صاده منه المجوسي والوثني في أصحِّ قولي العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد في السمك والجراد (2)، فلم يتناقضوا فيه كما زعمتَ. وأما فتاوى من ذكرتَ من الصحابة بحلِّ ذبائح أهل الكتاب فنعم، لعَمْر الله لا يُعرف عنهم فيها خلافٌ، وليس الكلام فيها، والصحابة إنما أفتَوا بحلِّ جنس ذبائحهم، وأنها تخالف ذبائح المجوس، ولم يريدوا بذلك حلَّ ما لا يعتقدونه من ذبائحهم وأطعمتهم، فلا يُحفظ عن الصحابة التصريحُ بهذا ولا هذا، وبالله التوفيق. المسألة الخامسة: في الطَّرِيفا، وهو ما لصِقَتْ رئتُه بالجَنْب، هل يحرم _________ (1) أي ابن حزم. (2) انظر: "المغني" (13/ 299، 300).

(1/373)


علينا لكونهم لا يعتقدون حلَّه أم لا؟ فالجمهور لا يحرمونه، وهذا هو الصواب قطعًا؛ لأن تحريم هذا إنما عُلِم من جهتهم لا بنصّ التوراة، فلا يُقبل قولهم فيه، بخلاف تحريم ذي الظُّفر والشحوم المحرمة. وقد ذكرنا في كتاب "الهداية" (1) سبب هذا التحريم، ومن أين نشأ، وأن التوراة لم تُحرِّمه، وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه، وذكرنا نصَّ التوراة وأنهم حملوه على غير محمله. وذهب أصحاب مالك إلى تحريمه طردًا لهذا الأصل، وأنه ليس من طعامهم (2). وهذا ليس بمنصوصٍ عن مالك ولا هو مقتضى أصوله، والذابح في هذه الصورة اعتقد حلَّ المذبوح وأنه من طعامه، بخلاف ذابحِ ذي الظفر، وتحريم هذا غير ثابتٍ بالنص، بخلاف تحريم ذي الظفر، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر، والله أعلم. * * * * _________ (1) "هداية الحيارى" (ص 307 - 310). وانظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 1111 - 1113). (2) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 584)، و"المدونة" (3/ 67).

(1/374)


ذكر أحكام معاملتهم فصل في البيع والشراء منهم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى من يهودي سِلعةً إلى الميسرة (1). وثبت عنه أنه أخذ من يهودي ثلاثين وَسَقًا من شعيرٍ، ورَهَنَه دِرْعَه (2). وفيه دليل على جواز معاملتهم، ورهْنهم السلاح، وعلى الرهن في الحضر. وثبت عنه أنه زارَعَهم وساقاهم (3). وثبت عنه أنه أكل من طعامهم. وفي ذلك كلِّه قبولُ قولهم: إن ذلك الشيء مِلْكُهم. قال حنبلٌ (4): سمعت أبا عبد الله في الرجل يجيئه الذمي يشتري منه المتاع، فيُماكِسُه مِكاسًا شديدًا، فيبيعه المتاع، ثم يجيء بعد ذلك المسلم _________ (1) أخرجه أحمد (25141) والترمذي (1213) والنسائي (4628) من حديث عائشة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وظاهر الحديث أن البيع لم يتم وأن اليهودي لم يوافق حين سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع له ثوبين إلى الميسرة. (2) أخرجه البخاري (2916) ومسلم (1603) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) وذلك بخيبر، كما تقدم. (4) كما في "الجامع" للخلال (295).

(1/375)


فيستقصي أيضًا في شدة المكاس، فيبيعه أغلى مما يبيع الذمي، وربما باع الذمي أغلى. قال: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. * * * *

(1/376)


فصل في شركتهم ومضاربتهم قد تقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاركهم في زرع خيبر وثمرها. قال إسحاق بن إبراهيم (1): سمعت أبا عبد الله، وسئل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني، قال: يشاركهم، ولكن يلي هو البيع والشراء، وذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلُّون الأموال. ثم قال أبو عبد الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 74]. وقال إبراهيم بن هانئ (2): سمعت أبا عبد الله قال في شركة اليهودي والنصراني: أكرهه، لا يعجبني إلا أن يكون المسلم الذي يلي البيع والشراء. وقال الأثرم (3): سألت أبا عبد الله عن مشاركة اليهودي والنصراني؟ قال: شارَكَهم، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه، يكون هو يليه؛ لأنه يعمل بالربا. وقال إسحاق بن منصور (4): قيل لأبي عبد الله: قيل لسفيان: ما ترى في مشاركة النصراني؟ قال: أمَّا ما يغيب عنك فما يُعجبني. قال أحمد: حسن. _________ (1) "الجامع" (296). (2) المصدر السابق (297). وليس فيه "لا يعجبني". (3) المصدر السابق (298). (4) المصدر السابق (299).

(1/377)


وقال عبد الله بن أحمد (1): حدثني عبد الأعلى، ثنا حماد بن سلمة قال: قال إياس بن معاوية: إذا شارك المسلم اليهودي أو النصراني، وكانت الدراهم مع المسلم فهو الذي يتصرف بها في الشراء والبيع، فلا بأس، ولا يدفعها إلى اليهودي والنصراني يعملان فيها لأنهما يُرْبِيان. قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك، فقال مثل قول إياسٍ. وقال العباس بن محمد الخلال (2): قال أبو عبد الله في المسلم يدفع إلى الذمي مالًا يشاركه، قال: أما إذا كان هو يلي ذلك فلا، إلا أن يكون المسلم يليه. وقال حنبلٌ (3): قال أبو عبد الله: ما أُحِبُّ مخالطته بسببٍ من الأسباب في الشراء والبيع، هذا لفظه. قال الخلال في "الجامع" (4): يعني المجوسي؛ لأن عصمة بيَّن ذلك. أخبرنا عِصمة بن عِصامٍ، حدثنا حنبلٌ أن أبا عبد الله قال: أما المجوسي فما أُحِبُّ مخالطتَه ولا معاملتَه. _________ (1) المصدر نفسه (300). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (20353) عن زيد بن حُباب عن حماد بن سلمة به. (2) "الجامع" (301). (3) المصدر نفسه (302). (4) عقب الرواية السابقة.

(1/378)


قال الخلال (1): وأخبرني عبد الله (2) بن حنبلٍ قال: حدثني أبي ــ في موضع آخر ــ قال: سألت عمِّي قلت له: ترى للرجل أن يشارك اليهودي والنصراني؟ قال: لا بأس، إلا أنه لا تكون المعاملة في البيع والشراء إليه، يشرف على ذلك، ولا يدعه حتى يعلم معاملته وبيعه. فأما المجوسي فلا أُحِبُّ مخالطته ولا معاملته؛ لأنه يستحلُّ ما لا يستحلُّ هذا. قال حنبلٌ (3): وحدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازمٍ قال: سئل حمادٌ عن مشاركة المجوسي، قال: لا بأس بذلك، قيل له: فيدفع إليه مالًا مضاربةً؟ قال: لا. قال حنبلٍ: قال عمي: لا يشاركه ولا يضاربه. وقال حربٌ (4): سألت أحمد بن حنبلٍ قلت: ما قولك في شركة اليهودي والنصراني؟ فكرهه وقال: لا يُعجِبني إلا أن يكون المسلم هو الذي يلي الشراء والبيع. قال حربٌ (5): وحدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، حدثنا أبو صالحٍ، _________ (1) في المصدر السابق (304). (2) كذا في الأصل، وفي "الجامع": "عبيد الله". وهو عبيد الله بن حنبل بن إسحاق بن حنبل، ويقال له: عبد الله. يروي عن أبيه حنبل، وهو عن الإمام أحمد بن حنبل. انظر: "طبقات الحنابلة" (1/ 143). وحنبل بن إسحاق ابنُ عم الإمام أحمد، ولكنه عند ما يروي عنه يقول: "عمّي" لكبر سنّه، وقد سبق مثله. (3) "الجامع" (304). (4) المصدر نفسه (305). (5) المصدر نفسه (306)، ولم أهتدِ إلى معرفة أبي صالح وبكير بن عمرو. وعلى كلٍّ فرفعه لا يصح، إنما هو موقوف على عطاء كما في الرواية الآتية.

(1/379)


حدثنا بكير بن عمرٍو قال: قال عطاءٌ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم. وهذا الحديث ــ على إرساله ــ ضعيف السند. وقال وكيعٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ وطاوسٍ أنهم كرهوا شركة النصراني (1). وقال وكيعٌ، عن الفضل بن دَلْهَم، عن الحسن: لا تُشارِكْ يهوديًّا ولا نصرانيًّا في شراءٍ ولا بيعٍ (2). وقال حنبل (3): سمعت أبا عبد الله قال: لا أحبُّ الرجل أن يشارك المجوسي، ولا يعطيه ماله مضاربةً، ولا يهودي ولا نصراني، ويأخذ منهما. وقال حربٌ (4): قلت لأحمد: رجل يدفع ماله مضاربةً إلى الذمي؟ فكرهه (5) قال: لا. _________ (1) "الجامع" (307). وأخرجه ابن أبي شيبة (20351) عن وكيع عن الحسن بن صالح عن ليث به. (2) "الجامع" (308). والإسناد فيه لين، فإن الفضل بن دلهم ليس بالقوي. ويخالفه ما رواه ابن أبي شيبة (20349) بإسناد صحيح عنه أنه لم يكن يرى بأسًا بشركة اليهودي والنصراني إذا كان المسلم هو الذي يلي الشراء والبيع. (3) "الجامع" (309). (4) المصدر نفسه (310). (5) في المطبوع: "تكرهه؟ " تحريف يقلب المعنى.

(1/380)


وقال وكيعٌ (1) عن سفيان عن معمر عن رجل عن الحسن: خذ من اليهودي والنصراني مضاربة، ولا تُعْطِهم (2). قال الخلال (3): استقرت الروايات عن أبي عبد الله بكراهة شركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون هو يلي. وتفرَّد حنبلٌ في المجوس خاصةً، فذكر عن أبي عبد الله الكراهة له البتة، قال: وهم أهل ذلك؛ لأنهم ــ كما قال أبو عبد الله ــ يستحلُّون ما لا يستحلُّ هؤلاء. قال (4): وعلى هذا العملُ من قوله، وبالله التوفيق. قلت (5): الذين كرهوا مشاركتهم لهم مأخذان: أحدهما: استحلالهم ما لا يستحلُّه المسلم من الربا والعقود الفاسدة وغيرها، وعلى هذا تزول الكراهة بتولِّي المسلم البيعَ والشراء. والثاني: أن مشاركتهم سببٌ لمخالطتهم، وذلك يجرُّ إلى موادَّتهم. وكره الشافعي مشاركتهم مطلقًا. ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أكره أن يشارك المسلم اليهودي (6). _________ (1) كما في "الجامع" (311). (2) كذا في الأصل و"الجامع". وغيّره في المطبوع إلى "ولا تعطهما". (3) عقب الأثر السابق في "الجامع" (1/ 189). (4) أي الخلال. (5) القائل هو المؤلف. (6) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 156)، و"البيان" للعمراني (6/ 363)، و"المغني" (7/ 110).

(1/381)


وابن عباس إنما كره مشاركتهم لمعاملتهم بالربا، كذلك رواه الأثرم (1) وغيره عنه من طريق أبي جمرة عنه: لا تُشارِكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا؛ لأنهم يُرْبُون، والربا لا يحلُّ. وقد علَّلت طائفةٌ (2) كراهة مشاركتهم بأن كسبهم غير طيبٍ، فإنهم يبيعون الخمر والخنزير. وهذه العلُّة لا توجب الكراهة، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: وَلُّوهم بيعَها، وخُذوا أثمانَها (3). وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنه حلالٌ لاعتقادهم حِلَّه، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسدٌ، فإن الشريك وكيلٌ والعقد يقع للموكِّل، والمسلم لا يَثبتُ مِلْكه على الخمر والخنزير. فرع قال مهنا (4): سألت أحمد عن مسلم ونصراني لهما على رجل نصراني مائة درهمٍ، فصالحه النصراني من حصته على خنزيرٍ أو على دَنِّ خمرٍ بالذي له عليه؟ قال: يكون للمسلم على النصراني خمسون درهمًا. _________ (1) كما في "المغني" (7/ 110). (2) هم الشافعية، وانظر مناقشتهم بنحو ما هنا في "المغني" (7/ 110، 111). (3) تقدم. (4) "الجامع" للخلال (312).

(1/382)


فتأملْ هذا الفقه، كيف جعل ما قبضه النصراني من الخمر أو الخنزير من حصته وحده، حيث لم يُجِز للمسلم مشاركته فيه، وجعل الخمسين الباقية كلها للمسلم؛ لأن المعاوضة صحَّت بالنسبة إلى النصراني ولم تصح بالنسبة إلى المسلم، وهي معاوضةٌ من أحد الشريكين، فصحَّحها في حقه دون شريكه. * * * *

(1/383)


فصل في استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم أما استئجارهم فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استأجر دليلًا يدلُّه على طريق الهجرة، وكان مشركًا، فأَمِنَه ودفع إليه راحلته هو والصديق (1). وأما إيجارهم نفسه فهي مسألة تفصيلٍ، ونحن نذكر نصوص أحمد. قال إسحاق بن إبراهيم (2): سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بنَّاءٌ: أبني للمجوس (3) ناووسًا (4)؟ قال: لا تبنِ لهم، ولا تُعِنْهم على ما هم فيه. وقال محمد بن عبد الحكم (5): سألت أبا عبد الله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بكراءٍ، قال: لا بأس به. وليس هذا باختلاف رواية. قال شيخنا (6): والفرق بينهما أن الناووس _________ (1) أخرجه البخاري (2263) من حديث عائشة. (2) كما في "الجامع" للخلال (340). (3) في الأصل: "للمجو". (4) الناووس: صندوق من خشب أو نحوه توضع فيه جثة الميت. (5) كذا في الأصل، والصواب: محمد بن الحكم كما في "طبقات الحنابلة" (1/ 295). والنص في "الجامع" للخلال (337) بإسناده إليه: (أخبرني محمد بن علي قال: حدثنا بكر بن محمد عن أبيه) فاختصره المؤلف وتوهم أنه "محمد بن عبد الحكم". وهو على الصواب في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 21). (6) في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 21).

(1/384)


من خصائص دينهم الباطل فهو كالكنيسة، بخلاف القبر المطلق؛ فإنه ليس في نفسه معصيةً ولا من خصائص دينهم. وقال إسحاق بن منصورٍ (1): قيل لأبي عبد الله: يؤاجر الرجل نفسه [من اليهودي والنصراني؟ قال: لا بأس، نعم]. [وقال مهنا (2): قلت لأحمد: هل تكره للمسلم يؤاجر نفسه] للمجوسي؟ قال: لا. قال (3): وسألت أحمد قلت: يُكرِي الرجل نفسَه لمجوسي، يخدمه ويذهب في حوائجه؟ قال: لا بأس، قلت له: فيقول له: لبيك إذا دعاه؟ قال: لا. وقد قال في رواية الأثرم (4): إن آجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز، وإن كان في عملِ شيء جاز. وقال في رواية أحمد بن سعيد (5): لا بأس أن يؤاجر نفسه من الذمي. فهذه ثلاث رواياتٍ عنه: رواية مطلقةٌ بالجواز، ورواية مصرحةٌ بالمنع _________ (1) "الجامع" للخلال (335)، وهو في "مسائله" (2/ 81). وقد تداخلت الروايتان في الأصل، فميَّزنا بينهما بالاعتماد على مصدر المؤلف، ووضعنا الزيادة بين معكوفتين. (2) المصدر نفسه (336). (3) المصدر نفسه (1/ 198) بعد النصّ السابق. (4) كما في "الروايتين والوجهين" (1/ 430) و"المغني" (8/ 135). (5) المصدر نفسه (8/ 136).

(1/385)


في الخدمة خاصةً، ورواية مصرحةٌ بالجواز في الخدمة (1). وللشافعي قولان في إجارة نفسه له للخدمة. وقد اختلف أصحاب أحمد في ذلك (2)، فمنهم من منع إجارة نفسه منه إجارة العين مطلقًا للخدمة وغيرها، وجوَّز إجارة نفسه منه على عمل في الذمة. ومنهم من منع إجارة الخدمة خاصةً، وجوَّز إجارة العمل، وهذه طريقة أكثر أصحابنا. وفرَّقوا بينهما بأن إجارة الخدمة تتضمن حبْسَ نفسه على خدمته مدة الإجارة، وذلك فيه نوعُ إذلالٍ للمسلم وإهانةٍ له تحت يد الكافر فلم يجز، كبيع العبد المسلم له. قالوا: ويحقِّقه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه، والبيع لا يتحقق فيه ذلك، فإذا منع منه فالمنع من الإجارة أولى. قالوا: ولأنها بيعُ منافعه، والمنافع تجري مجرى الأعيان، فلا يجوز بيع رقبته ولا بعضِها ولا منافعِه من الذمي. قالوا: وهذا بخلاف الإجارة على الذمة، فإنها لم تتضمن ذلك، وإنما هي التزامٌ لعملٍ مضمونٍ في الذمة. وتلخيص مذهبه: أن إجارة المسلم نفسه للذمي ثلاثة أنواعٍ: _________ (1) المصدر نفسه (8/ 135). وانظر: "الإنصاف" (6/ 25). (2) انظر: "المغني" (8/ 135).

(1/386)


أحدها: إجارةٌ على عمل في الذمة، فهذه جائزةٌ. الثانية: إجارةٌ للخدمة، فهذه فيها روايتان منصوصتان عنه أصحُّهما المنع منها. الثالثة: إجارة عينه منه لغير الخدمة، فهذه جائزةٌ، وقد آجر علي - رضي الله عنه - نفسه من يهودي يستقي له كلَّ دلوٍ بتمرةٍ، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر (1). هذا كله إذا كان الإيجار لعملٍ لا يتضمن تعظيم دينهم وشعائره، فإن كانت الإجارة على عمل يتضمن ذلك لم يجز، كما نصَّ عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم (2)، وقد سأله رجل بنَّاءٌ: أبني ناووسًا للمجوس؟ فقال: لا تَبْنِ لهم. وقال الشافعي في كتاب الجزية من "الأم" (3): وأكره للمسلم أن يعمل بناءً أو نجارةً أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم. وقال أبو الحسن الآمدي (4): لا يجوز أن يُؤجِر نفسه لعمل ناووسٍ ونحوه، رواية واحدةً. _________ (1) أخرجه ابن ماجه (2446) من حديث ابن عباس، وفي إسناده حنش، ضعَّفه أحمد وغيره. (2) تقدمت قريبًا. (3) (5/ 510). (4) كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 42).

(1/387)


فإن قيل: فقد قال الخلال (1): أخبرني أبو نصرٍ إسماعيل بن عبد الله بن ميمونٍ العجلي قال: قال أبو عبد الله فيمن حمل خمرًا أو خنزيرًا أو ميتةً لنصارى: يكره أكل كرائه، ولكنه يقضي للحمَّال بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد كراهيةً. قيل: اختلف الأصحاب في هذا النص على ثلاثة طرقٍ (2): إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدةٌ. قال ابن أبي موسى في "الإرشاد" (3): وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتةٍ أو خنزيرٍ لنصراني، فإن فعل قُضِي له بالكراء. وإن آجر نفسَه لحمل محرَّمٍ لمسلم كانت الكراهية أشدَّ، ويأخذ الكراء، وهل يطيب له؟ على وجهين: أوجهُهما أنه لا يطيب له، وليتصدقْ به. وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال (4): إذا آجر نفسَه من رجل في حمل خمرٍ أو خنزيرٍ أو ميتةٍ كره؛ نص عليه، وهذه كراهة تحريمٍ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها (5). إذا ثبت هذا فيُقْضى له بالكراء، وغير ممتنعٍ أن يُقضى بالكراء وإن كان _________ (1) في "الجامع" (339). (2) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 42 وما بعدها). (3) (ص 214). (4) كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 43). (5) في عشرةٍ لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الخمر، وسيأتي تخريجه.

(1/388)


محرَّمًا، كإجارة الحجام، فقد صرَّح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمةً عليه على الصحيح. الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعْلُ المسألة رواية واحدةً: أن هذه الإجارة لا تصح. وهي طريقةٌ ضعيفةٌ، فإنه صنَّف "المجرَّد" (1) قديمًا، ورجع عن كثيرٍ منه في كتبه المتأخرة. الطريقة الثالثة: تُخرَّج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحةٌ يستحقّ بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرةً وإن حملها. وقد قال إسحاق بن منصورٍ (2): قلت لأبي عبد الله: سئل الأوزاعي عن الرجل يُؤجِرُ [نفسَه] لنظارة كَرْم النصراني، فكره ذلك. فقال أحمد: ما أحسن ما قال؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس. هذا لفظه. فقد منع مرةً (3) إجارة نفسه لحفظ الكرم الذي يتخذ للخمر، فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر. _________ (1) هو للقاضي أبي يعلى. (2) "الجامع" للخلال (338). (3) في "الاقتضاء": "منع من".

(1/389)


وهذه طريقة القاضي في "التعليق"، وطريقة أصحابه. وهذا قياس مذهب أحمد ونصوصه في الخمر: أنه لا يجوز إمساكها، ويجب إراقتها. وقد قال في رواية أبي طالب (1): إذا أسلم وله خمرٌ أو خنزيرٌ يصبُّ الخمر ويسرح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس. فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها، وفي حملها إمساكٌ لها. وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملها، فكيف تصح الإجارة على حملها؟ وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد. هذا كله فيما إذا استأجر [على حمل] (2) الخمر والميتة، حيث لا يجوز إقرارها. فأما إن استأجره لحملها للإراقة أو الإلقاء في الصحراء، فإنه تجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عمل مباحٌ، لكن إن كانت الأجرة لجِلد (3) الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه ردَّه على صاحبه. وهذا مذهب مالك والشافعي. قال شيخنا (4): والأشبه طريقة ابن أبي موسى، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها _________ (1) في "الجامع" للخلال (828). (2) الزيادة من "اقتضاء الصراط المستقيم". (3) في "الاقتضاء": "جلد". (4) في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 45).

(1/390)


وحاملها والمحمولة إليه (1). فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعةٍ تستحق العوض، وليست محرَّمةً في نفسها، وإنما حرِّمت بقصد المعتصر والمستحيل (2)، فهو كما لو باع عنبًا أو عصيرًا لمن يتخذه خمرًا، وفات العصير والعنب في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانًا، بل يُقضى له بعوضه، كذلك هاهنا، المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانًا، بل يُعطى بدلَها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر، لا من جهته. ثم نحن نحرم الإجارة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنا أو التلوُّط أو السرقة ونحو ذلك، فإن نفس هذا الفعل محرمٌ في نفسه، فهو كما لو باعه ميتةً أو خمرًا أو خنزيرًا، فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمةٌ. ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقًا، ولا بالفساد مطلقًا، بل يقال: هي صحيحةٌ بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه تجب عليه الأجرة والجُعْل، فاسدةٌ بالنسبة إلى الآجر، يعني أنه يحرم عليه الانتفاع بالمال، ولهذا في الشريعة نظائر. _________ (1) وبائعها ومبتاعها، وساقيها وشاربها، وآكل ثمنها، والخمر بعينها. وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده، أخرجه أحمد (4787، 5716) وأبو داود (3674) وابن ماجه (3380) والحاكم (2/ 32) عن ابن عمر. وأخرجه الترمذي (1295) وابن ماجه (3381) والضياء في "المختارة" (6/ 181) من حديث أنس بنحوه. وأخرجه أحمد (2897) وابن حبان (5356) والحاكم (2/ 31) من حديث ابن عباس بنحوه. (2) في "الاقتضاء": "والمستحمل".

(1/391)


ونصُّ أحمد على كراهة نظارة كَرْم النصراني لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه، ولو لم يفعل هذا لكان فيه منفعةٌ عظيمةٌ، وإعانةٌ للعصاة، فإن من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصَّلوا غرضَهم منه، ثم لا يعطونه شيئًا، وإذا أخذ منهم العوض ينزع منه ثم يرد إليهم هنيئًا موفرًا. فإن قيل: فما تقولون فيمن سلَّم إليهم المنفعة المحرَّمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنا واللواط؟ قيل: إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به، باتفاق الأمة، وإن كان قد قبض له لم يطب له أكله ولم يملكه بذلك. والجمهور يقولون: يردُّه عليهم لأنه قبضه قبضًا فاسدًا، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنه يردُّه عليهم. والثانية: لا يأكله ولا يرده، بل يتصدق به. قال شيخنا (1): وأصح الروايتين أنه لا يرده عليه، ولا يباح للآخذ، ويُصرَف في مصالح المسلمين، كما نصّ عليه أحمد في أجرة حمّال الخمر. ومن ظنّ أنها تُردُّ على الباذل المستأجر؛ لأنها مقبوضةٌ بعقد فاسدٍ، فيجب ردُّها عليه كالمقبوض بعقد الربا ونحوه من العقود الفاسدة= قيل له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه الترادُّ من الجانبين، فيردُّ كلٌّ منهما على الآخر ما قبضه منه، كما في عقود الربا، وهذا عند من يقول: المقبوض بالعقد _________ (1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 46).

(1/392)


الفاسد لا يُملَك. فأما إذا تلف المعوض (1) عند القابض وتعذَّر ردُّه فلا يقضى له بالعوض الذي بذله، ويجمع له بين العوض والمعوض، فإن الزاني واللائط ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا عوضه المحرم، وليس التحريم الذي فيه لحقهم، وإنما هو لحق الله، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذَّر على المستأجر ردُّ المنفعة لم يردَّ عليه المال الذي بذله في استيفائها. وأيضًا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضررٌ في أخذ منفعته وعوضها جميعًا، بخلاف ما كان العوض خنزيرًا أو ميتةً فإن ذلك لا ضرر عليه في فواته، فإنه لو كان باقيًا أتلفناه عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث يتمكن من صرفها في أمرٍ آخر، أعني القوة التي عمل بها. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تقضوا له بها إذا طالب بقبضها: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردّها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض [لم نحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض] (2) لم نحكم بالرد، لكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدًا لتحريمها بخلاف الكافر. فإذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرَّطتَ حيث صرفتَ قوتك _________ (1) كذا في الأصل. وفي "الاقتضاء": "المقبوض". (2) الزيادة من "الاقتضاء" ليستقيم السياق.

(1/393)


في عمل محرمٍ، فلا يقضى له بالأجرة. فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضُوا لي بردِّه، فإنه قبض مني باطلًا، قلنا له: أنت دفعته بمعاوضةٍ رضيتَ بها، فإذا طلبتَ استرجاع ما أخذ منك فاردُدْ إليه ما أخذته منه، فإن في بقائه معه منفعةً له. فإن قال: قد تعذَّر ردُّ المنفعة التي استوفيتُها منه. قيل له: فلا يجمع لك بين ما استمتعتَ به من منفعته وبين العوض الذي بذلتَه فيها. فإن قال: أنا بذلتُ ما لا يجوز بذله، وهو أخَذَ ما لا يجوز أخذُه. قيل: وهو بذل لك من منفعته ما لا يجوز له بذله، واستوفيتَ أنت ما لا يجوز استيفاؤه، فكلاكما سواءٌ، فما الموجب لرجوعك عليه، ولا يفوت عليك شيء، وتفوت (1) المنفعة عليه، وكلاكما راضٍ بما بذل مستوفٍ لعوضه؟ فإن قال: ما بذلتُه أنا عينٌ يمكن الرجوع فيها فيجب، وما بذلَه منفعةٌ لا يمكن الرجوع فيها. [قيل:] (2) إذا أمكن الرجوع في معوَّضها الذي بذلت في مقابلته، أو إذا لم يمكن: الأول مسلَّم، والثاني هو محل النزاع، فكيف يُجعل مقدمةً من _________ (1) في الأصل: "وتفويت". والمثبت يقتضيه السياق. (2) زيادة ليستقيم السياق.

(1/394)


مقدمات الدليل؟ وقياسه على المقبوض عوضًا عن الخمر والميتة لا يصح كما عرف الفرق بينهما. على أنا لا نسلِّم أن مشتري الخمر إذا قبض ثمنها وشربها ثم طلب أن يعاد إليه المال أن يُقضَى له به، بل الأوجه أن لا يردّ إليه الثمن، ولا يباح للبائع أيضًا، لاسيما ونحن نعاقب الخمَّار ــ بيَّاعَ الخمر ــ بأن يحرق الحانوت التي يباع فيها، نصَّ عليه أحمد وغيره من العلماء. فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حرَّق حانوتًا يباع فيها الخمر (1)، وعلي بن أبي طالب حرَّق قريةً يباع فيها الخمر (2). وهذا على أصل من يرى جواز العقوبات المالية أطردُ، فإنه إذا جاز عقوبته بمالٍ ينزع منه يفسده عليه ويحول بينه وبينه، فأن لا يقضى له بمالٍ أخرجه في المعصية ويُمنع من استرجاعه أولى وأحرى، وبالله التوفيق. فصل (3) فهذا حكم إجارة نفسه لهم، وأما إجارة داره لأهل الذمة فقال _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (10051، 17035) وأبو عبيد في "الأموال" (290) وابن سعد في "الطبقات" (7/ 60) وابن زنجويه في "الأموال" (410) والدولابي في "الكنى والأسماء" (1041) بأسانيد صحيحة. (2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (291) عن علي بن أبي طالب بإسناد فيه لين. (3) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 21 - 31).

(1/395)


الخلال (1): باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه، ثم ذكر عن المرُّوذي (2) أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريب (3)؟ فاستعظم ذلك، وقال نصراني؟! لا تباع، يضرب فيها الناقوس وينصب فيها الصُّلبان! وقال: لا تباع من الكافر، وشدَّد في ذلك. وعن أبي الحارث (4) أن أبا عبد الله سُئل عن الرجل يبيع داره، وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار، ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي؟ قال: لا أرى له ذلك، يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها؟ يبيعها من مسلم أحبُّ إليَّ. فهذا نصٌّ على المنع. ونقل عنه إبراهيم بن الحارث (5): قيل لأبي عبد الله: الرجل يُكرِي منزلَه من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيه الخمر ويشرك فيه؟ فقال: ابن عونٍ كان لا يُكري إلا من أهل الذمة، يقول: يُرعِبهم. قيل له: كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا؟ قال: لا، ولكنه أراد أنه كره أن يُرعِب المسلمين، يقول: إذا جئتُه أطلب الكراء من المسلم أرعبته، فإذا كان ذميًّا كان أهونَ عنده. وجعل أبو عبد الله يعجب من ابن عونٍ فيما رأيت. _________ (1) في "الجامع" (1/ 200). (2) المصدر نفسه (345). (3) المقصود بها الأماكن التي تخصَّص لصلاة التطوع وصلاة النساء في المنزل. (4) "الجامع" (346). (5) المصدر نفسه (342).

(1/396)


وهكذا نقل الأثرم سواءً، ولفظه: "قلت لأبي عبد الله" (1). ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها غالبًا (2). ونقل عنه مهنا (3): سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسيَّ داره أو دكَّانه وهو يعلم أنهم يُرْبُون (4)؟ فقال: كان ابن عونٍ لا يرى أن يكري المسلم، ويقول: أُرعِبهم في أخذ الغلّة، وكان يرى أن يكري غير المسلمين. قال الخلال (5): كل من حكى عن أبي عبد الله في الرجل يُكرِي داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عونٍ، ولم يُنقَل لأبي عبد الله فيه قول، وقد حكى عنه إبراهيم أنه رآه معجبًا بقول ابن عونٍ. والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهيةً شديدةً. فلو نُقِل لأبي عبد الله قول في السكنى كان السكنى والبيع عندي واحدًا. والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه؛ لأنه يكفر فيها وينصِب الصُّلبان وغير ذلك. والأمر عندي أن لا يباع منه ولا يُكرى لأنه معنى واحدٌ. قال (6): وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال: سئل أبو عبد الله _________ (1) كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 22). (2) هذا أيضا كلام شيخ الإسلام في المصدر السابق. (3) "الجامع" (344). (4) كذا في الأصل، وفي "الجامع" و"اقتضاء الصراط": "يزنون". (5) "الجامع" (1/ 201). (6) أي الخلال في "الجامع" (347).

(1/397)


عن حُصَين بن عبد الرحمن (1)، فقال: روى عنه حفصٌ (2)، لا أعرفه. قال له أبو بكرٍ: هذا من النسَّاك. حدثني أبو سعيد الأشجّ، سمعت أبا خالدٍ الأحمر يقول: حفصٌ هذا العُدَيُّ (3) نفسِه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابدِ أهل الكوفة من عونٍ البصري! فقال له أحمد: حفصٌ؟ قال: نعم، فعجب أحمد من حفص بن غياثٍ. قال الخلال: وهذا أيضًا تقويةٌ لمذهب أبي عبد الله. قال شيخنا (4): وعونٌ هذا كان من أهل البدع أو من الفُسَّاق بالعمل، فأنكر أبو خالدٍ الأحمر على حفص بن غياثٍ قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من مبتدعٍ، وعجب أحمد من فعل القاضي. قال الخلال (5): وإذا كان يكره بيعها من فاسقٍ فكذلك من كافرٍ، وإن كان الذمي يُقَرُّ والفاسق لا يقرُّ، لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم. _________ (1) هو النخعي الكوفي، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: "تهذيب التهذيب" (2/ 383). (2) أي حفص بن غياث النخعي الكوفي، القاضي المشهور. (3) كذا في الأصل. وفي هامشه: "السعدي". وفي "الجامع": "العدني". وفي "اقتضاء الصراط": "العدوي". والمثبت تصغير "العدوّ". (4) في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 25). (5) لم أجد كلامه في "الجامع". ونقله عنه شيخ الإسلام في المصدر المذكور.

(1/398)


وهكذا ذكر القاضي (1) عن أبي بكر عبد العزيز (2)، وقد ذكر قول أحمد في رواية أبي الحارث: لا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر بالله فيها، يبيعها من مسلمٍ أحبُّ إلي. فقال أبو بكرٍ: لا فرقَ بين الإجارة والبيع عنده، فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة. ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك. قال شيخنا (3): وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من كافرٍ فقد ذكرنا منع أحمد منه، ثم اختلف أصحابه في ذلك هل هذا تنزيهٌ أو تحريمٌ؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى: كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى، ويستبيح المحظورات، فإن فعل أساء ولم يبطل البيع. وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرًا عليها. وأما الخلال وصاحبه (4) والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك، وصرَّح به القاضي فقال (5): لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه كنيسةً أو بيت نارٍ، أو يبيع فيه الخمر، سواءٌ شرط أنه يبيع فيه الخمر أم لم يشرط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر. وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث: لا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها بالله، إلى آخر كلامه. _________ (1) هو القاضي أبو يعلى، ونقل عنه شيخ الإسلام في المصدر المذكور. (2) في الأصل: "أبي بكر بن عبد العزيز" خطأ. فعبد العزيز بن جعفر هو أبو بكر. (3) "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 26). (4) يعني أبا بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال، المذكور قريبًا. (5) كما في "اقتضاء الصراط" (2/ 26). ومنه نقل المؤلف ما في هذا الفصل.

(1/399)


قال القاضي: وقال أحمد أيضًا في نصارى وقفوا ضيعةً لهم للبِيْعة: لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يُعينهم على ما هم فيه، قال: وبهذا قال الشافعي. ثم قال القاضي: فإن قيل: أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك؟ قيل: المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عونٍ وعجب منه، وذكر القاضي رواية الأثرم. وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوِّز إجارتها من ذمي، وقد قال أبو بكرٍ: إذا أجاز البيع أجاز الإجارة، وإذا منع منع. قال شيخنا (1): وكلام أحمد يحتمل الأمرين، فإن قوله في رواية أبي الحارث: "يبيعها من مسلم أحبُّ إليَّ" يقتضي أنه منع تنزيهٍ. واستعظامُه لذلك في رواية المروذي، وقولُه: لا يباع من الكافر، وتشديدُه في ذلك= يقتضي التحريم. وأما الإجارة فقد سوَّى الأصحاب بينها وبين البيع، وما حكاه عن ابن عونٍ فليس بقول أحمد، وإعجابه بفعله إنما هو لحسن مقصد ابن عونٍ ونيته الصالحة. ويمكن أن يقال: ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك، فإن إعجابه بالفعل دليلُ جوازه عنده، واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين. _________ (1) "اقتضاء الصراط" (2/ 27).

(1/400)


والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضَه مصلحةٌ أخرى، وهي صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم، وإنزال ذلك بالكافر، وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية، فإنه وإن كان إقرارًا لكافرٍ لكن لما تضمنه من المصلحة جاز، ولذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة. فأما البيع فهذه المصلحة منتفيةٌ فيه، وهذا ظاهرٌ على قول ابن أبي موسى وغيره إن البيع مكروهٌ غير محرمٍ، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة، كما في نظائرها. فيصير في المسألة أربعة أقوالٍ. قال شيخنا (1): وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرَّمة، فأما إن آجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسةً أو بِيْعةً لم يجز، قولًا واحدًا. وبه قال الشافعي وغيره. كما لا يجوز أن يُكري أَمتَه أو عبدَه للفجور. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يؤاجرها لذلك (2). قال أبو بكر الرازي (3): لا فرقَ عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين أن لا يشترط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح. _________ (1) "اقتضاء الصراط" (2/ 29). والكلام مستمر. (2) أي إجارة الدار لبيع الخمر واتخاذها كنيسة. (3) لم أجد كلامه في كتبه المطبوعة.

(1/401)


ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء (1)، وإن شرط له أن لا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسةً، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة. فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواءً. كما لو اكترى دارًا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذلك يقول فيما إذا استأجر رجلًا لحمل خمرٍ أو خنزيرٍ أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل عليه بدلَه عصيرًا استحق الأجرة، فهذا التقييد عنده لغوٌ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزةٌ، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوِّز بيع العصير لمن يتخذه خمرًا. ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمولٌ للقتال لا يصلح لغيره. وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيَّد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعةٌ محرمةٌ، وإن جاز للمستأجر أن يقيم مثله مقامه. وألزموه ما لو اكترى دارًا ليتخذها مسجدًا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناءً على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارةٍ. ونازعه أصحابنا وكثيرٌ من الفقهاء في المقدمة الثانية، وقالوا: إذا غلب على ظنِّه أن المستأجر ينتفع بها في محرَّمٍ حرمت الإجارة له؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) في الأصل: "فعل هذه الإجارة فعل هذه الأشياء".

(1/402)


لعن عاصرَ الخمر ومعتصرها (1)، والعاصر إنما يعصر عصيرًا، لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرًا أو عصيرًا استحقَّ اللعنة، وهذا أصلٌ مقرَّرٌ في غير هذا الموضع، لكن معاصي الذمي قسمان: أحدهما: ما اقتضى عقدُ الذمة إقرارَه عليها. والثاني: ما اقتضى عقدُ الذمة منْعَه منها أو من إظهارها. فأما القسم الثاني فلا ريبَ أنه لا يجوز على أصل أحمد أن يؤاجر أو يبايع إذا غلب على الظنّ أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى. وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى: يُكره ولا يحرم؛ لأنا قد أقررناه على ذلك، وإعانته على سكنى هذه الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام، فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقرارهم بالجزية. وإنما كُرِه ذلك؛ لأنه إعانةٌ من غير مصلحةٍ لإمكان بيعها من مسلم، بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة. وعلى ما قاله القاضي: لا يجوز؛ لأنه إعانةٌ على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحةٍ تقابل هذه المفسدة، فلم يجز، بخلاف إسكانهم دار الإسلام، فإن فيه من المصالح ما هو مذكورٌ في فوائد إقرارهم بالجزية. فصل وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين _________ (1) تقدم تخريجه.

(1/403)


فيه حقٌّ من عقارٍ أو رقيقٍ أو زوجةٍ مسلمةٍ أو إحياء مواتٍ أو تملُّكٍ بشفعةٍ من مسلم؛ لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا (1)، وإنما أُقِرُّوا بالجزية للضرورة العارضة، والحكم المقيد بالضرورة مقدَّرٌ بقدرها، ولهذا لم يثبت عن واحدٍ من السلف لهم حقُّ شفعةٍ على مسلم، وأخذ بذلك الإمام أحمد، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشِّقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعةً لذمي كنّا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافرٍ بطريق القهر للمسلم، وهذا خلاف الأصول. والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر، بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم، كإجابة الدعوة وعيادة المريض، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته. قال عبد الله بن أحمد (2): سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعةٌ؟ قال: لا، قلت: المجوسي؟ قال: ذاك أشدُّ. وقال حربٌ (3): سألت أحمد قلت: أهل الذمة لهم شفعةٌ؟ قال: لا. وقال أبو داود (4): سمعت أبا عبد الله يُسأل: للذمي شفعةٌ؟ قال: لا. وكذلك نقل أبو طالب وصالحٌ وأبو الحارث والأثرم، كلهم قالوا _________ (1) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 40)، فقد نقل عنه المؤلف ما يأتي. (2) "الجامع" للخلال (323). (3) المصدر نفسه (324). (4) المصدر نفسه (325)، و"مسائله" (ص 276).

(1/404)


عنه (1): ليس للذمي شفعةٌ. زاد أبو الحارث: مع المسلم. قال الأثرم: قيل له: لم؟ قال: لأنه ليس له مثل حق المسلم، واحتجَّ فيه. قال الأثرم: ثنا الطباع، ثنا هُشيمٌ، أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول: ليس لذمي شفعةٌ. وقال سفيان عن حميدٍ عن أبيه: إنما الشفعة لمسلم، ولا شفعة لذمي. وقال أحمد (2): حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيدٍ عن ليثٍ عن مجاهدٍ أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعةٌ. وقال الخلال (3): أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي، قال: ليس للذمي شفعةٌ، ليس له حق المسلم. أخبرني عِصمة بن عصامٍ (4)، حدثنا حنبلٌ قال: سمعت أبا عبد الله قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعةٌ، إنما ذلك للمسلمين بينهم. _________ (1) المصدر نفسه (326). والنصوص الآتية كلها منه. (2) كما في "الجامع" للخلال (327). (3) المصدر نفسه (328). (4) المصدر نفسه (329).

(1/405)


وقال في رواية إسحاق بن منصورٍ (1): ليس لليهودي والنصراني شفعةٌ، قيل: ولم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" (2). وهذا مذهب شريحٍ والحسن والشعبي (3). واحتج الإمام أحمد بثلاث حججٍ: إحداها: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعضٍ، فلا حقَّ للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك، لا من حق المِلْك. الحجة الثانية: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطَرُّوهم إلى أضيقِه" (4). وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل له حقًّا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقًّا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرًا؟ بل هذا تنبيهٌ على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحقِّ الكافر، لنفي ضرر الشركة عنه، وضررُ الشركة على الكافر أهونُ عند الله من تسليطه على إزالة مِلْك المسلم عنه قهرًا. _________ (1) المصدر نفسه (330). (2) حديث حسن، تقدم تخريجه (247، 248). (3) انظر: "المغني" (7/ 524). وفيه: روي ذلك عن الحسن والشعبي. ورُوي عن شريح أن له الشفعة. (4) أخرجه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة.

(1/406)


الدليل [الثالث]: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع دينانِ في جزيرة العرب" (1). ووجه الاستدلال من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين، لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، فكيف نسلِّطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرًا وإخراجهم منها؟ وأيضًا، فالشفعة حقٌّ يختصُّ بالعقار، فلا يساوي الذمي فيه المسلم، كالاستعلاء في البنيان. يوضحه أن الاستعلاء تصرفٌ في هواء ملَكَه المختصُّ به، فإذا مُنع منه فكيف يسلَّط على انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفًا يستعلي فيه على المسلم؟ فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرًا؟ وأيضًا، فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضررٌ بالمشتري، فإذا كان المشتري مسلمًا فسلِّط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرًا كان فيه تقديم حقّ الذمي على حق المسلم، وهذا ممتنعٌ. وأيضًا، فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارًا بالدين، وتملُّكَ دار المسلمين منهم قهرًا، وشغْلَها بما يُسخِط الله بدلَ ما يرضيه. وهذا خلاف قواعد الشرع. ولذلك حرِّم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاءٍ عليهن، ولذلك لم يَجز القصاصُ بينهم وبين المسلمين ولا حدُّ القذف، ولا يُمكَّنون من تملُّك رقيقٍ مسلم، وقد قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ _________ (1) تقدم تخريجه.

(1/407)


عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 140]، ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرًا، وقد قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وهذا يقتضي مطلق المساواة بين المسلم والكافر، لا نفي المساواة المطلقة، فإنها منتفيةٌ عن كل شيئين وإن تماثلا. وبهذه الآية احتجَّ من نفى القصاص بينهم وبين المسلمين. وأيضًا، فالذمي تَبَعٌ لنا في الدار، وليس بأصلٍ من أهل الدار، ولهذا عند الشافعي يؤدِّي الجزية أجرةً لمكان السكنى والتبسط في دار الإسلام، ولهذا متى نقض العهد أُلحق بمأمنه، وأُخرج من دارنا وأُلحق بداره، فهو في دار الإسلام أُجرِي مُجرى الساكن المنتفع، لا مُجرى الساكن الحقيقي. وحقُّ السكنى لا يقوى على انتزاع الشِّقص من يد مالكه، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 104]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود: "اعلموا أن الأرض لله ورسوله" (1). فعباده الصالحون هم وارثوها، وهم المُلَّاك لها على الحقيقة، والكفار فيها تَبَعٌ ينتفعون بها لضرورة إبقائهم بالجزية، فلا يساوون المالكين حقيقةً، ولهذا منعهم كثيرٌ من الأئمة من شراء الأرض العشرية، لما في ذلك من إسقاط حقّ المسلم من العُشْر الذي يجب، فكيف يسلَّطون على انتزاع نفس أرض المسلم وعقاره منه قهرًا؟ _________ (1) أخرجه البخاري (3167) ومسلم (1765) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/408)


وأيضًا، فلو كانوا مالكين حقيقةً لما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم من جزيرة العرب وقال: "لئن عِشْتُ لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب" (1). هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقةً لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدًا. ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعةَ لهم على مسلم، وهذا من ألطفِ ما يكون من الفهم، وأدقِّ ما يكون من الفقة. وأيضًا، فالشفعة تقف على مِلْكٍ ومالك، فإذا اختصَّت الشفعة بملكٍ دون مالك، وهو العقار دون غيره، فأولى أن تختصَّ بمالك دون مالك، وهو المسلم دون غيره. وهذا على أصل من يقول: "الشفعة تَثْبُت على خلاف القياس" ظاهرٌ جدًا، فإنها تسليطٌ على انتزاع ملك الغير منه قهرًا، لمصلحة الشفيع، فيجب أن يقتصر بها على ما قام عليه الدليل، وثبت به الإجماع دون غيره. وأما نحن فليست الشفعة عندنا على خلاف القياس، ولكن حكمة الشارع وقياس أصوله أوجبتها، دفعًا لضرر الشركة بحسب الإمكان (2)، وإذا كان البائع قد رغب عن الشِّقص ورضي بالثمن، فرغبته عنه لشريكه ليدفع عنه ضرر الشريك الدخيل أولى، وهو يأخذ منه الثمن الذي يأخذه من الشريك، ولا يفوت عليه شيء. _________ (1) تقدم تخريجه. (2) انظر كلام المؤلف في الشفعة في كتابه "أعلام الموقعين" (2/ 446 وما بعدها).

(1/409)


فهذا محض قياس الأصول، ولكن هذا حقٌّ للمسلم على المسلم، فلا حقَّ للذمي فيه كسائر الحقوق التي لأهل الإسلام بعضهم على بعضٍ، وإذا كان كثيرٌ من الفقهاء يمنعون الذمي من التمليك بالإحياء، كعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد في رواية وكثيرٍ من المالكية (1)، مع أن الإحياء لا يتضمن انتزاع ملك مسلم منه، فلأن يُمنع من انتزاع أرض المسلم وعقاره منه قهرًا أولى وأحرى. وأيضًا، فإذا مُنع من مشاركة المسلم في تجديد الملك فيما هو مشتركٌ ــ وفيه عِمارةُ دار الإسلام ــ فأحرى أن يُمنع من انتزاع عقارٍ ثبت عليه مِلْك المسلم واختصَّ به، فإن إزالة الملك الخاص وانتزاعه من المسلم قهرًا أشدُّ ضررًا من المشاركة فيما هو مشتركٌ بين العموم. وليس مع الموجبين للشفعة نصٌّ من كتاب الله ولا سنةٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعٌ من الأمة (2)، وغاية ما معهم إطلاقاتٌ وعموماتٌ، كقوله: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يُقْسَم (3)، وقوله: "من كان له شريكٌ في ربعةٍ أو حائطٍ فلا يحلُّ أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شريكَه" (4)، ونحو ذلك مما لا يُعرَض فيه للمستحق، وإنما سِيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك من _________ (1) انظر: "المغني" (8/ 147، 148). (2) انظر: "المغني" (7/ 524). (3) أخرجه البخاري (2257) ومسلم (1608) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (4) أخرجه مسلم (1608) من حديث جابر.

(1/410)


أهل الملة وغيرها. وليس معهم قياسٌ استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضًا، فإن الذمي يُستحقّ عليه القصاص، ولا يَستحَقُّه هو على المسلم، ويُستحقّ عليه حدُّ القذف ولا يَستحقُّه، وكذلك المطلِّق في مرض الموت يستحقّ عليه الميراث ولا يستحقّه، وكذلك المسلم يَستحقّ تعلية البنيان على الذمي ولا يَستحقّه الذمي عليه، والمسلم يَستحقّ نكاح الكافرة وشراء الرقيق الكافر، ولا يَستحقّ الذمي نكاحَ المسلمة ولا شراء الرقيق المسلم، والمسلم يستأجر الكافر للخدمة دون العكس. وكذلك قياس بعضهم الأخذَ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظُّلامة وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، واستيلائه عليه؟ وكذلك قياس بعضهم ذلك على ثبوت الخيار في البيع هو من هذا الضرب، فإن الخيار إن كان خيار شرطٍ فهو شرطه له على نفسه، وإن كان خيار مجلسٍ فمن لا يثبته كيف يحتجُّ به؟ وإن ألزم به من يثبته فهو يُفرِّق بأن خيار المجلس هو موجب العقد شرعًا فلا يتخلَّف عن العقد، كالحلول والتقابض والسلامة.

(1/411)


وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على التملك بالإحياء، مع أنه تملُّكٌ بغير عوضٍ يرجع إلى المسلمين، فيقال: من الذي سلَّم الحكم في هذه المسألة؟ وقد تنازع فيها الفقهاء قديمًا وحديثًا على أقوال أربعةٍ (1): أحدها: أنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامدٍ، وهو منصوص الشافعي، وقول طائفةٍ من المالكية وأهل الظاهر. الثاني: أنه يملك به كالمسلم، وهو المنصوص عن أحمد في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ ويعقوب بن بختان ومحمد بن [أبي] حرب (2)، وهي (3) قول الحنفية وأكثر المالكية، واختيار أكثر الأصحاب. واستثنى المالكية ما أحياه بجزيرة العرب، فإنه لا يملكه فإن فعل أعطي قيمة ما عَمَرَ ونزع منه. والقول الثالث: أنه إن أذن له الإمام ملك به وإلا لم يملك، وهذا مذهب ابن المبارك. القول الرابع: أنه إن أحيا فيما بَعُدَ من العمران ملَكَه، وإن أحيا فيما قرب من العمران لم يملكه وإن أذن فيه الإمام، فإن فعل أُعطِي قيمةَ ما عمرَ ونزع _________ (1) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 16)، و"المغني" (8/ 148)، و"الاختيار لتعليل المختار" (3/ 66)، و"المهذب" (2/ 294)، و"المحلى" (8/ 243). (2) انظر: "الجامع" للخلال (1/ 152، 153). (3) كذا في الأصل.

(1/412)


منه، وهذا قول مطرِّفٍ وابن الماجشون (1). والذين يملِّكونه بالإحياء اختلفوا فيما أحياه، هل يلزمه عنه خراجٌ أو عشر، أو لا يلزمه شيء من ذلك؟ فقال صاحب "المحرر" (2): والذمي كالمسلم في الملك بالإحياء، نص عليه، لكن إن أحيا مواتَ عنوةٍ لزمه عنه الخراج، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه فيه. ونقل عنه حربٌ: عليه عشْرُ ثمرِه وزرعه. والمقصود أنا إن قلنا: لا يملك الذمي بالإحياء بطل الاستدلال به، وإن قلنا: يملك به فالفرق بينه وبين تملكه بالشفعة من وجوهٍ ثلاثةٍ: أحدها: أنه بالإحياء لا ينتزع ملك مسلم منه، بل يُحيي مواتًا لا حقَّ فيه لأحدٍ ينتفع به، فهو كتملُّك المباحات من الحطب والحشيش والمعادن وغيرها. الثاني: أنه ليس في إحيائه ضررٌ على المسلم ولا قهرٌ وإذلالٌ له، بخلاف تسليطه على إخراجه من داره وأرضه، واستيلائه هو عليها. الثالث: أنه بالإحياء عامرٌ للأرض الموات، وفي ذلك نفعٌ له وللإسلام، بخلاف قهره للمسلم وأخذ أرضه وداره منه، وإخراجه منها، فقياس الأخذ بالشفعة على الإحياء قياس باطلٌ. _________ (1) "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 17). (2) (1/ 167).

(1/413)


وعلى هذا فيجاب عن هذا القياس بالجواب المركب: أنه إن لم يكن بين الإحياء والأخذ بالشفعة فرقٌ، فالحكم فيهما واحدٌ وهو عدم الملك بهما، وإن كان بينهما فرقٌ بطل الالتزام به، والله أعلم. * * * *

(1/414)


فصل في حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم أما ما وقفوه هم فينظر فيه، فإن أوقفوه على معيَّنٍ أو جهةٍ يجوز للمسلم الوقف عليها، كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة، أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم= فهذا الوقف صحيح، حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات، لكن إن شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر، فإن أسلموا لم يستحقُّوا شيئًا= لم يصح هذا الشرط، ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة، فإنه مناقضٌ لدين الإسلام، مضادٌّ لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أبلغ في ذلك من أن يقف على أولاده ما داموا ساعين في الأرض بالفساد مرتكبين لمعاصي الله، فمن تاب منهم أخرج من الوقف ولم يستحق منه شيئًا، وهذا لا يجيزه مسلم. فإن قيل: فما تقولون لو وقفوا على مساكين أهل الذمة، هل يستحقُّونه دون مساكين المسلمين، أو يستحقُّه مساكين المسلمين دونهم، أو يشتركون فيه؟ قيل: لا ريب أن الصدقة جائزةٌ على مساكين أهل الذمة، والوقف صدقةٌ، فهاهنا وصفان: وصفٌ يعتبر وهو المسكنة، ووصفٌ ملغًى في الصدقة والوقف، وهو الكفر، فيجوز الدفع إليهم من الوقف بوصف المسكنة لا بوصف الكفر، فوصف الكفر ليس بمانعٍ من الدفع إليهم، ولا هو شرطٌ في الدفع كما يظنُّه الغالط أقبحَ الغلط وأفحشَه، وحينئذٍ فيجوز الدفع إليه بمسكنته، وإن أسلم فهو أولى بالاستحقاق.

(1/415)


فالفرق بين أن يكون الكفر جهةً وموجبًا، وبين أن لا يكون مانعًا، فجعْلُ الكفر جهةً وموجبًا للاستحقاق مضادٌّ لدين الله تعالى وحكمه، وكونه غيرَ مانعٍ موافقٌ لقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9]. فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطعَ المودةَ بينهم وبينهم، توهَّم بعضهم أن برَّهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبيَّن الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهيّ عنها، وأنه لم يُنْهَ عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبُّه ويرضاه وكتبَه على كل شيء، وإنما المنهيّ عنه تولّي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة. ولا ريبَ أن جعْلَ الكفر بالله وتكذيب رسوله موجبًا وشرطًا في الاستحقاق من أعظم موالاة الكفار المنهيّ عنها، فلا يصح من المسلم، ولا يجوز للحاكم تنفيذه من أوقاف الكفار. فأما إذا وقفوا ذلك فيما بينهم ولم يتحاكموا إلينا ولا استفتونا عن حكمه لم يُتعرَّض لهم فيه، وحكمه حكم عقودهم وأنكحتهم الفاسدة. وكذلك وقف المسلم عليهم؛ فإنه إنما (1) يصح منه ما وافق حكم الله _________ (1) "إنما" ساقطة من المطبوع.

(1/416)


ورسوله، فيجوز أن يقف على معيَّنٍ منهم أو على أقاربه وبني فلانٍ ونحوه، ولا يكون الكفر موجبًا وشرطًا في الاستحقاق ولا مانعًا منه، فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بَقُوا على كفرهم، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق. وكذلك إن وقف على مساكينهم وفقرائهم وزَمْناهم ونحو ذلك استحقوا وإن بَقُوا على كفرهم، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق. وأما الوقف على كنائسهم وبِيَعِهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر فلا يصح من كافرٍ ولا مسلم، فإن في ذلك أعظم الإعانة لهم على الكفر والمساعدة والتقوية عليه، وذلك منافٍ لدين الله. وللإمام أن يستولي على كل وقفٍ وُقِف على كنيسةٍ أو بيت نارٍ أو بِيعةٍ، كما له أن يستولي على ما وقف على الحانات والخمَّارات وبيوت الفسق، بل أولى؛ فإن بيوت الكفر أبغض إلى الله ورسوله من بيوت الفسق، وشعار الكفر أعظم من شعار (1) الفسق، وأضرُّ على الدين. وإن كنا نُقِرُّ بيوت الكفر الجائز إقرارها ولا نقرُّ بيوت الفسق، فما ذاك لأنها أسهلُ منها وأهونُ، بل لأن عقد الذمة اقتضى إقرارَهم عليها، كما نقرُّ الكافر على كفره ولا نقرُّ الفاسق على فسقه. فللإمام أن ينتزع تلك الأوقاف ويجعلها على القربات، ونحن لم نقرَّ أهل الذمة في بلاد الإسلام على أن يتملَّكوا أرض المسلمين ودورهم، ويستعينوا بها على شعار الكفر. _________ (1) في المطبوع: "شعائر" خلاف الأصل.

(1/417)


وقد بيَّنا أنهم في دار الإسلام تبعٌ، ولهذا قال الشافعي ومن وافقه (1): إن الجزية تؤخذ منهم عوضَ سكناهم بين أظهر المسلمين، وانتفاعِهم بدار الإسلام، وإلا فالأرض لله ولرسوله وعباده المسلمين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أنه يورثها عباده الصالحين (2). وقد صرَّح بذلك المالكية في كتبهم، فقال القاضي أبو الوليد (3): والظاهر عندي أنه لا يجوز الوقف على الكنيسة؛ لأنه صرف صدقته إلى وجه معصيةٍ محضةٍ، كما لو صرفها في شراء خمرٍ وعطائه لأهل الفسق. ونصَّ الإمام أحمد على ما هو أبلغ من ذلك. قال الخلال في "جامعه" (4): باب النصارى يوقفون على البِيَع، فيموت النصراني، ويُخلف أولادًا فيسلمون. أخبرني محمد بن أبي هارون الوراق أن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ حدثهم، وأخبرنا محمد بن علي، ثنا يعقوب بن بختان قال: سئل أبو عبد الله عن أقوامٍ نصارى أوقفوا على البِيعة ضياعًا كثيرةً، فمات النصارى ولهم أبناءٌ نصارى، ثم أسلم بعد ذلك الأبناء، والضياع بيد النصارى، ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى؟ قال أبو عبد الله: نعم يأخذونها، وللمسلمين أن يُعِينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم. _________ (1) انظر: "كفاية النبيه" لابن الرفعة (17/ 40). (2) كما في سورة الأنبياء: 105. (3) كما في "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 33). (4) (2/ 412). وليس فيه التبويب.

(1/418)


وهذا مذهب الشافعي أيضًا. قال الشيخ في "المغني" (1): ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنّ ما لا يصح من المسلم الوقفُ عليه لا يصح من الذمي، كالوقف على غير معيَّنٍ. قال (2): فإن قيل: فقد قلتم: إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودًا فاسدةً وتقابضوا، ثم أسلموا وترافعوا إلينا، لم ننقُضْ ما فعلوه، فكيف أجزتم الرجوعَ فيما وقفوه على كنائسهم؟ قلنا: الوقف ليس بعقد معاوضةٍ، وإنما هو إزالةٌ للمِلْك في الموقوف على وجه القربة، فإذا لم يقع صحيحًا لم يَزُلِ المِلْك، فبقي بحاله كالعتق. قال: وقد روي عن أحمد (3) في نصراني أشهدَ في وصيته أن غلامه فلانًا يخدم البِيْعة خمس سنين ثم هو حرٌّ، ثم مات مولاه وخدم سنةً ثم أسلم، ما عليه؟ قال: هو حرٌّ، ويرجع على الغلام بأجرة خدمة مبلغ أربع سنين. وروي عنه (4) أنه حرٌّ ساعةَ مات مولاه؛ لأن هذه معصيةٌ. قال: وهذه الرواية أصح وأوفق لأصوله. ويحتمل أن قوله: "يرجع عليه بخدمة أربع سنين" لم يكن لصحة الوصية، بل لأنه إنما أعتقه بعوضٍ _________ (1) (8/ 235). (2) المصدر السابق، والكلام متصل بما قبله. (3) كما في "الجامع" للخلال (2/ 428) من رواية عبد الله ابنه عنه. (4) كما في رواية أبي طالب عنه في المصدر السابق (2/ 428).

(1/419)


يعتقدانِ صحته، فإذا تعذر العوض (1) بإسلامه كان عليه ما يقوم مقامه، كما لو تزوج الذمي ذميةً على ذلك ثم أسلم، فإنه يجب عليه المهر، كذا هاهنا يجب عليه العوض، والأول أولى. انتهى كلامه (2). فقد صرَّح في مسألة الوقف أنه يُنْزَع ويُدفع إلى أيدي أولاده الذين أسلموا، وهذا تصريحٌ منه ببطلان الوقف، وأنه لما مات انتقل ميراثًا عنه إلى أولاده، ثم أسلموا بعد أن ورثوه. وأما مسألة الوصية فلا تُناقِض ذلك؛ لأن العتق فيها بعوضٍ، فإذا لم يصح رجع الوارث في مقابله، وهو القيمة كما ذكره الشيخ. فصل وقد قال أحمد في رواية حربٍ (3)، وقد سأله: الرجل يوصي لقرابته وله قرابةٌ مشركون هل يُعطَون شيئًا؟ قال: لا، إلا أن يسمِّيهم. وقال أبو طالب (4): سألت أبا عبد الله عن الرجل يوصي لقرابته وفيهم يهودي أو نصراني ومسلمون؟ قال: سمَّاهم؟ قلت: لا، قال: فلا يُعطى اليهودي والنصراني، يُعطى المسلمون، قلت: فإن سمى اليهودي والنصراني؟ قال: إذا سمَّاهم نعم. _________ (1) في المطبوع: "الغرض" تحريف. (2) أي كلام صاحب "المغني". (3) في "الجامع" للخلال (648). (4) المصدر السابق (649).

(1/420)


وقد استشكل هذا من لم يدرك دقة فقه أبي عبد الله، فقال بعض الأصحاب: كأنه رأى أن وصيته لأقاربه وصِلَتَه لهم قرينةٌ تدل على أنه أراد أهلَ الإسلام منهم، والكفار وإن دخلوا في القرابة فيجوز تخصيصهم بقرينةٍ تُخرِجهم، فإذا سمّاهم فقد نصَّ عليهم، فيستحقون. وقد تضمن جواب أحمد أمورًا ثلاثةً: أحدها: صحة الوصية للذمي المعيَّن، وكذلك يصح الوقف عليه، وفعلت صفية بنت حُيَيّ أم المؤمنين هذا وهذا. قال سعيد بن منصورٍ (1): حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة أن صفية بنت حُييٍّ باعت حجرتها من معاوية بمائة ألفٍ، وكان لها أخٌ يهودي فعرضت عليه أن يُسلِم فأبى، فأوصتْ له بثلث المائة. وقال الشيخ في "المغني" (2): وروي أن صفية بنت حُييٍ وقفتْ على أخٍ لها يهودي. الأمر الثاني: أن الوصية لا تصح للكفار، وإن صحت للمعيَّن الكافر، فالفرق بين أن يكون الكفر جهةً أو تكون الجهة غيره، والكفر ليس بمانعٍ، كما أوصت صفية لأخيها وهو يهودي، فلو جعل الكفر جهةً لم تصح الوصية اتفاقًا، كما لو قال: أوصيتُ بثلثي لمن يكفر بالله ورسوله ويعبد الصليب _________ (1) في "سننه" (437 - نشرة الأعظمي). وأخرجه عبد الرزاق (9913) عن معمر عن أيوب به بنحوه. (2) (8/ 236).

(1/421)


ويكذِّب محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف ما لو قال: أوصيتُ به لفلانٍ وهو كذلك، فإن الوصية لا تصح على جهة معصيةٍ وفعل محرمٍ، مسلمًا كان الموصي أو ذميًّا، فلو وصى ببناء كنيسةٍ أو بيت نارٍ أو عمارتهما أو الإنفاق عليهما كان باطلًا. قال في "المغني" (1): وبهذا قال الشافعي وأبو ثورٍ. وقال أصحاب الرأي: يصح. وأجاز أبو حنيفة الوصية بأرضٍ تبنى كنيسةً، وخالفه صاحباه. وأجاز أصحاب الرأي أن يوصي بشراء (2) خمرٍ أو خنازير ويتصدَّق به على أهل الذمة. قال: وهذه وصايا باطلةٌ وأفعالٌ محرمةٌ؛ لأنها معصيةٌ، فلم تصح الوصية بها، كما لو وصَّى بعبده أو أمته للفجور. قال: وذكر القاضي أنه لو وصى بحُصُرٍ للبِيَع أو قناديلَ لها وما شاكل ذلك، ولم يقصدْ إعظامَها بذلك= صحت الوصية؛ لأن الوصية لأهل الذمة، فإن النفع يعود إليهم، والوصية لهم صحيحةٌ. قال: والصحيح أن هذا مما لا تصح الوصية به؛ لأن ذلك إنما هو إعانةٌ لهم على معصيتهم وتعظيمٌ لكنائسهم. قلتُ (3): هذا ذكره القاضي في "المجرد"، وهو من أوائل كتبه، وقد رجع عن كثيرٍ منه، وهذا مخالفٌ لنص أحمد وقواعده وأصوله، فإنه قد صرَّح _________ (1) (8/ 514). (2) في الأصل: "بشرب"، والتصويب من "المغني". (3) في الأصل: "قال" خطأ. فهذا من كلام المؤلف، وليس في "المغني".

(1/422)


ببطلان الوقف على البِيعة وعَوْد الوقف مِلكًا للورثة. وقد منع أحمد المسلم من كراء منزله من الكافر، فكيف يجوِّز الوصية بما يزيّن به الكنيسة وعملها؟ وكذلك من ذكر جوازَ مثل هذه الوصية من أصحاب الشافعي فقد خالف نصوصه وأصوله، فإنه قال في كتاب الجزية من "الأم" (1): لو أوصى ــ يعني الذمي ــ بثلث ماله أو بشيء منه يُبنى به كنيسةٌ لصلاة النصارى، أو يستأجر به خَدَمَ الكنيسة، أو يعمر به، أو ما في هذا المعنى= كانت الوصية باطلةً (2). ولو أوصى أن يبنى بها كنيسةٌ ينزِلُها مارُّ الطريق، أو وقفَها على قومٍ يسكنونها= جازت الوصية، وليس في بنيان الكنيسة معصيةٌ إلا أن تُتَّخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك. قال (3): وأكره للمسلم أن يعمل بناءً أو نجارةً أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم. هذا لفظه. قال في "المغني" (4): والوقف على قناديل البِيعة وفَرْشها ومن يَخدِمها ويَعمُرها كالوقف عليها؛ لأنه يراد لتعظيمها، وسواءٌ كان الواقف مسلمًا أو ذميًّا. قال أحمد (5) في نصارى وقفوا على البِيعة ضِياعًا كثيرةً، وماتوا ولهم أبناءٌ نصارى، فأسلموا والضِّياع بيد النصارى: فلهم أخذُها، وللمسلمين عونُهم يستخرجونها من أيديهم. _________ (1) (5/ 510). (2) في الأصل: "باطلا". (3) أي الشافعي في "الأم". والكلام مستمر. (4) (8/ 235). (5) تقدمت هذه الرواية قريبًا.

(1/423)


قال: وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافًا. الأمر الثالث الذي تضمَّنه جوابه: جواز التخصيص بقصد المتكلم وبالقرائن، وهذا هو الواجب في كلام الواقفين والموصين والمقرِّين، كما هو أصله في أيمان الحالفين. والواجب طَرْد هذا الأصل في كلامٍ للمكلَّف يترتب عليه أمرٌ شرعي، فإن الكلام إنما يترتب عليه موجبه لدلالته على قصد صاحبه، فإذا ظهر قصده لم يجز أن يُعدَل عنه إلى عموم كلامه وإطلاقه، فإن ذلك غلطٌ وتغليطٌ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها تُراعي مقاصدَ المتكلمين وإراداتِهم وقرائنَ كلامهم. ولو سُئل أحدهم عن جاريته وقيل له: إنها فاجرةٌ، فقال: كلا، بل هي عفيفةٌ حرةٌ= لم يشكُّوا أنه لم يُرِد عتقَها ولا خطر بباله، فإلزامه بعتقها بمجرد ذلك خطأٌ. واللفظ إنما يكون صريحًا إذا تجرد عن القرائن الصارفة له عن موضوعه عند الإطلاق، ولهذا لو وصل قوله: (أنت طالقٌ) بقوله: (من وَثاقٍ) لم يكن صريحًا. وكذا لو دُعي إلى غداءٍ فقال: والله لا أتغدى، لم يشك هو ولا عاقلٌ أنه لم يُرِد تركَ الغداء أبدًا إلى آخر العمر، فإلزامه بما لم يُرِده قطعًا بناءً على إطلاقِ لفظٍ لم يُرِد إطلاقَه وتعميمِ ما لم يُرِد عمومَه= إلزامٌ بما لم يُلْزِمه ولا ألزمه الله ورسوله به، وبالله التوفيق. * * * *

(1/424)


فصل في أحكام نكاحهم ومناكحاتهم قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} إلى آخر السورة [المسد: 1 - 5] فسماها "امرأته" بعقد النكاح الواقع في الشرك. وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11]، فسماها "امرأته". والصحابة - رضي الله عنهم - غالبهم إنما وُلدوا من نكاحٍ كان قبل الإسلام في حال الشرك، وهم يُنسبون إلى آبائهم انتسابًا لا ريبَ فيه عند أحدٍ من أهل الإسلام، وقد أسلم الجمُّ الغفير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمر أحدًا منهم أن يجدِّد عقده على امرأته. فلو كانت أنكحة الكفار باطلةً لَأَمَرهم بتجديد أنكحتهم. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو أصحابه لآبائهم، وهذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهوديين زنيا (1)، فلو كانت أنكحتهم فاسدةً لم يرجمهما، لأن النكاح الفاسد لا يحصن الزوج، وسيأتي الكلام في هذه المسألة. وأيضًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أسلم وتحته عشر نسوةٍ أن يختار منهن أربعًا ويفارق البواقي، وأمر من أسلم وتحته أختان أن يمسك إحداهما _________ (1) أخرجه مسلم (1699) من حديث ابن عمر.

(1/425)


ويفارق الأخرى (1). ولو كانت أنكحتهم فاسدةً لم يأمر بالإمساك في النكاح الفاسد، ولا رتَّب عليه شيئًا من أحكام النكاح. ولم ينصَّ أحدٌ من أئمة الإسلام على بطلان أنكحة الكفار، ولا يمكن أحدًا أن يقول ذلك. وإنما اختلف الناس في مسألتين: إحداهما: في الكافر يطلِّق امرأته ثلاثًا، هل يصح طلاقه أم لا؟ الثانية: في المسلم يطلِّق الذمية ثلاثًا، فتنكح ذميًّا، ثم يفارقها الثاني، فهل تحلُّ للأول؟ فأما المسألة الأولى: وهي وقوع الطلاق، فلا يخلو إما أن يعتقد الكافر نفوذ الطلاق أو لا يعتقده (2)، فإن اعتقده نفذَ طلاقُه، ولم يكن الإسلام شرطًا في نفوذه. هذا مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: الإسلام شرطٌ (3) في وقوع الطلاق. واحتج الجمهور بأن أنكحتهم صحيحةٌ كما تقدم، فإذا صح النكاح نفذ فيه الطلاق، فإنه حكمٌ من أحكام النكاح، فترتب عليه كسائر أحكامه، من التوارث والحلّ وثبوت النسب وتحريم المصاهرة وسائر أحكامه، وقد قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ اَلنِّسَا} [النساء: 22] فسماه نكاحًا وأثبت به تحريم المصاهرة، وكان الظهار يعدُّه أهل الجاهلية طلاقًا، _________ (1) سيأتي لفظ الحديثين وتخريجهما (ص 471، 472). (2) سيأتي الكلام على ما إذا كان لا يعتقد وقوع الطلاق (ص 434). (3) في الأصل: "شرطا".

(1/426)


وقام الإسلام حتى أبطل الله ما كان عليه أهل الجاهلية، وشرع فيه الكفارة. وكيف يحكم ببطلان نكاحٍ وُلد فيه سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - وزاده فضلًا وشرفًا لديه؟ وقد صرَّح بأنه - صلى الله عليه وسلم - وُلِد من نكاحٍ، لا من سِفاحٍ (1). قال الإمام أحمد في رواية مهنا (2) في يهودي أو نصراني طلق امرأته طلقتين، ثم أسلم وطلق أخرى: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وإذا ظاهر من امرأته، ثم أسلم، أخبرناه أن عليه ظهارًا. وإذا تزوج بلا شهودٍ، ثم أسلما، هما على نكاحهما. وقال في رواية ابن منصورٍ (3) في نصراني آلى من امرأته ثم أسلم: يوقف مثل المسلم سواءً. وقال في رواية حنبلٍ (4) في مسلم تحته نصرانيةٌ طلقها ثلاثًا فتزوجت بنصراني: تحلُّ للأول لأنه زوجٌ. _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (13273) وابن أبي شيبة (32298) والطبري في "تفسيره" (12/ 97) من حديث جعفر (الصادق) بن محمد (الباقر) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مرسل صحيح الإسناد. وروي موصولًا عن علي وابن عباس وعائشة وأنس بأسانيد واهية، وقد حسَّنه الألباني بمجموعها. انظر: "تنقيح التحقيق" (2752، 2753) و"التلخيص الحبير" (1537) و"إرواء الغليل" (1914). (2) في "الجامع" للخلال (569) القسم الأول. وفيه (579) القسم المتعلق بالظهار. وفيه (442) القسم المتعلق بالتزوج بلا شهود. (3) في "الجامع" (578)، وهو في "مسائله" (1/ 483). (4) "الجامع" (490).

(1/427)


قال المبطلون لأنكحتهم: هذا قول عبد الرحمن بن عوفٍ، ولا مخالفَ له من الصحابة، وقد أقره عمر على هذا القول، فقال أبو محمد بن حزمٍ (1): روينا من طريق قتادة أن رجلًا طلق امرأته تطليقتين في الجاهلية، وطلقةً في الإسلام، فسأل عمر، فقال: لا آمرك ولا أنهاك، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: لكني آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء (2). قال: وبهذا كان يفتي قتادة. وصحَّ عن الحسن وربيعة، وهو قول مالك وأبي سليمان (3)، وأصحابهما. قالوا: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" (4): "أُوصيكم بالنساء خيرًا، فإنكم أَخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فُروجَهن بكلمة الله". قالوا: ووجه الدليل أن كلمة الله هي قوله: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فأخبر أن الحلّ كان بهذه الكلمة، فكلمة الله هي إباحته للنكاح، أو أراد بكلمة الله الإسلام، وما يقتضيه من شرائط النكاح، فدل على أن الفروج لا تُستباح بغير كلمة الإسلام. قالوا: وأيضًا فكل آيةٍ أباحت النكاح في كتاب الله سبحانه فالخطاب بها _________ (1) "المحلى" (10/ 202). (2) أخرجه عبد الرزاق (12689) عن معمر عن قتادة به. وهو مرسل. (3) هو داود الظاهري. (4) برقم (1218/ 147) من حديث جابر في خطبة عرفة.

(1/428)


للمؤمنين، فدلَّ على أن المراد بكلمة الله الإسلام. قالوا: والمسألة إجماعٌ من الصحابة، وذكروا أثر عبد الرحمن المتقدم. قالوا: وكيف يُحكم بصحة نكاحٍ عَرِي عن ولي ورضًا وشاهدين؟ قالوا: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما امرأةٍ نكحتْ نفسَها بغير [إذن] وليها فنكاحها باطلٌ" (1)، وأنتم تصححون أنكحتهم ولو وقعت بغير ولي، فالحديث نصٌّ في بطلان مذهبكم. قالوا: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". قالوا: وهم يستبيحون النكاح بالخمر والخنزير، وفي العدة، بغير ولي ولا شهودٍ، وغير ذلك مما لا يستباح به في الإسلام، فوجب الحكم ببطلانه. قالوا: ولو مات الحربي عن زوجته، أو قُتل ثم سُبِيت فإنها تُستبرأ بحيضةٍ، ولا تعتد، ولو كان نكاحها صحيحًا لوجب أن تعتد، وقد [أخبر] تعالى أنهم لا يُحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يدينون دينَ الحق (2)، وهذا يقتضي أنهم لا يدينون دينَ الحق في نكاحٍ ولا غيره، ومن لم يَدِنْ دينَ الحق في نكاحه فهو مردودٌ. _________ (1) أخرجه أحمد (24372) وأبو داود (2083) والترمذي (1102) والدارمي (2230) وأبو يعلى (4682، 4837) وابن حبان (4074) والحاكم (2/ 168) من حديث عائشة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. انظر: "البدر المنير" (7/ 553) و"إرواء الغليل" (1840) و"أنيس الساري" (1657). (2) في سورة التوبة: 29.

(1/429)


قال المصححون: لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم. أما أثر عبد الرحمن بن عوفٍ، فإن الإمام أحمد قال في رواية مهنا (1): حديث يُروى أن عبد الرحمن بن عوفٍ قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: "ليس طلاق أهل الشرك بشيء" ليس له إسناد (2). فهذا جواب أحمد. وأجاب القاضي بأن هذا محمولٌ على جواز أنكحتهم لذوات المحارم، فإن الطلاق لا يقع فيه. وهذا من أفسد الأجوبة، وكيف يقول له عمر في نكاح أمه وابنته: لا آمرك ولا أنهاك؟ وكيف يقول له عبد الرحمن: لكني آمرك، ليس طلاقك بشيء، ولم يكن في العرب من يستحلُّ نكاحَ ذوات المحارم كالمجوس؟ وعندي جوابٌ آخر، وهو أن الطلاق كان في الجاهلية بغير عددٍ كما قالت عائشة: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلِّقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرةٍ أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته، والله لا أطلِّقك فتبيني منّي، ولا آوِيكِ أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلِّقك، فكلما همَّت عدَّتُك أن تنقضيَ راجعتُكِ. فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فأخبرتْها، فسكتتْ عائشة حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فسكت، حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 227]، قالت: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلًا، من _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (569). (2) أي: ليس له إسناد متصل، وقد سبق أنه رواه قتادة مرسلًا.

(1/430)


كان طلَّق ومن لم يكن طلَّق. رواه الترمذي (1) متصلًا، ثم رواه عن عروة، لم يذكر فيه عائشة، وقال: هذا أصح. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (2) فما أصحَّه من حديث! وما أضعفَ الاستدلالَ به على بطلان أنكحة الكفار! وقد أجاب عنه أصحاب الشافعي وأحمد بأن كلمة الله هي لفظ الإنكاح والتزويج اللذين لا ينعقد النكاح إلا بهما. وهذا جوابٌ في غاية الوهن، فإن "كلمة الله" هي التي تكلَّم بها، ولهذا أضيفت إليه. وأما الإيجاب والقبول فكلمة المخلوق، فلا تُضاف إلى الله، وإلا كان كل كلامٍ تكلَّم به العبد يضاف إلى الرب، وهذا باطلٌ قطعًا، فإن كلمة الله كسمع الله وبصره وقدرته وحياته وعلمه وإرادته ومشيئته، كل ذلك للصفات القائمة به، لا للمخلوق المنفصل عنه. والجواب الصحيح أن هذا خطاب للمسلمين، ولا ريبَ أنهم إنما استحلُّوا فروج نسائهم بكلمة الله وإباحته. أما المبتدأ نكاحُها في الإسلام فظاهرٌ، وأما المستدام نكاحُها فإنما استُدِيم بكلمة الله أيضًا، فلا يمس الحديثُ محلَّ النزاع بوجهٍ. وأما قولكم: كل آيةٍ أباحت النكاح في القرآن فالخطاب بها للمسلمين، _________ (1) رقم (1192). وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (2/ 279، 280) وصححه، والبيهقي (7/ 333). وفي إسناده يعلى بن شبيب ليّن الحديث. (2) جزء من حديث جابر عند مسلم، وقد تقدم قريبًا.

(1/431)


فهذا الاستدلال من أعجب الأشياء، فإن الأمة بعد نزول القرآن مأخوذةٌ بأحكامه وأوامره ونواهيه، وأما قبل ذلك فما أقرَّه القرآن فهو على ما أقرَّه، وما غيَّره وأبطله فهو كما غيَّره وأبطله، فأين أبطل القرآن نكاح الكفار ولم يُقِرَّهم عليه في موضع واحدٍ؟ على أن البيع والرهن والمداينة والقرض وغيرها من العقود إنما خُوطب بها المؤمنون، فهل يقول أحدٌ: إنها باطلةٌ من الكفار؟ وهل النكاح إلا عقدٌ من عقودهم، كبياعاتهم وإجاراتهم ورهونهم وسائر عقودهم؟ وليس النكاح من قبيل العبادات المحضة التي يُشترط في صحتها الإسلام، كالصلاة والصوم والحج، بل هو من عقود المعاوضات التي تصح من المسلم والكافر. وأما قولهم: المسألة إجماعٌ من الصحابة، فهو ذلك الأثر الذي لا يصحُّ عن عبد الرحمن، ولو صحَّ لم يكن فيه حجةٌ، فأين قول رجل واحدٍ من الصحابة فضلًا عن جميعهم؟ وأما قولكم: كيف يُحكم بصحة نكاحٍ عَرِي عن الولي والشهود وشروط النكاح= فمن أضعف الاستدلال، فإن هذه إنما صارت شروطًا بالإسلام، ولم تكن شروطًا قبله حتى نحكم ببطلان كل نكاحٍ وقع قبلها، وإنما اشترطت في الإسلام في حق من التزم الإسلام، وأما من لم يلتزمه فإن حكم النكاح بدونها كحكم ما يعتقدون صحته من العقود الفاسدة التي لا مساغ لها في الإسلام، فإنها تصح منهم، ولو أسلموا وقد تعاملوا بها وتقايضوا لم تنقضِ وأُمضِيتْ. فإن قيل: الإسلام صحّحها لهم، وهكذا صحّح النكاح.

(1/432)


قلنا: لكن الإسلام لم يُبطِل ترتُّبَ آثارها عليها قبله، فيجب أن لا يبطل ترتبُ آثار النكاح عليه من الطلاق والظهار والإيلاء. وأما استدلالكم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما امرأةٍ نكحتْ نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطلٌ" فهذا عجبٌ منكم، فإنها لو زوَّجها الولي كان النكاح فاسدًا عندكم. فإن قلتم: الولي الكافر كلا ولي، قيل: نعم، هذا في نكاح المسلمة، فأما الكافرة فقد قال تعالى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" ففي غاية الصحة، والاستدلال به ضعيفٌ من وجوهٍ: أحدها: أن هذا في حق المسلمين، وأما الكفار فإنا لا نردُّ عليهم كل ما خرج عن أمره - صلى الله عليه وسلم -، فإنا نُقِرُّهم على عقودهم التي يعتقدون صحتها، وإن لم تكن على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن إقرار الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهم على أحكام هذه الأنكحة هو من أمر الشارع، ولا جَرمَ ما كان منها على غير أمره فهو ردٌّ، كنكاح المحارم وما لا يعتقدون صحته، فأما ما اعتقدوا صحته فإقرارهم عليه من أمره. الثالث: أن هذا لا يمكن أن يُستدلَّ به على بطلان أنكحتهم، كما لم يُستدل به على بطلان عقود معاوضاتهم التي يعتقدون صحتها وإن وقعت على غير أمره. وأما استبراء الحربية بحيضةٍ إذا سُبيت، وحكمُنا بزوال النكاح، فليس

(1/433)


ذلك لكون أنكحتهم كانت باطلةً، ولكن لتجديد الملك على زوجته، وكونها صارت أمةً للثاني، واستولى على محلِّ حق الكافر وأزاله، وانتقلت من كونها زوجةً إلى كونها أمةً رقيقةً تُباع وتشترى. وأما قوله تعالى إنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب، فلم يزيدوا بذلك على كونهم كفارًا. ومن نازع في كفرهم حتى يحتج عليه بذلك؟ وهل وقع النزاع إلا في نكاح من هو كذلك؟ ولا ريبَ أن هذا القدر كما لم يؤثِّر في بطلان عقود معاوضاته من البيع والشراء والإجارة والقرض والسلم والجعالة وغيرها لم يؤثر في بطلان نكاحه. فصل وأما إن كان الكافر لا يعتقد وقوعَ الطلاق ولا نفوذَه فطلَّق، فهل يصح طلاقه؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يصح طلاقه، وهذا هو مقتضى أصوله، فإنا نُقِرُّهم على ما يعتقدون صحته من العقود، فإذا لم يعتقد نفوذ الطلاق فهو يعتقد بقاء نكاحه، فيُقَرَّ عليه وإن أسلم. وأيضًا، فإن وجود هذا الطلاق وعدمه في حقه واحدٌ، فإنه لم يلتزم حكم الطلاق ولا اعتقد نفوذه، فلم يلزمه حكمه. وهذا التفصيل في طلاقه هو فصل الخطاب. فصل وأما المسألة الثانية: وهي إذا تزوجها الذمي، فإنه يُحِلُّها للأول عند

(1/434)


الجمهور؛ لأنه زوجٌ وهي امرأةٌ له، فيدخل في قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228]، فأطلق النكاح والزوج، ولم يقيده بحرّ ولا عبدٍ، ولا مسلم ولا كافرٍ، وهذه قد نكحت زوجًا غيره، فتحلُّ للأول. ودليل كونه زوجًا: الحقيقةُ والحكمُ. أما الحقيقة: فلأن الزوج والتزويج حاصلٌ فيه حسًّا، وكفرُه لا يمنع ثبوت حقيقة الزوجية. وأما الحكم: فثبوت النسب، ووجوب المهر والعدة، والتمكين من الوطء، وتخييره بين الأختين إذا أسلم وفي الأربع، وغير ذلك من أحكام النكاح. وثبوتُ الأحكام يدلُّ على ثبوت الحقيقة. فصل إذا ثبتت صحةُ نكاحهم فهاهنا مسائل: المسألة الأولى (1): إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، فإن كانت المرأة كتابيةً لم يؤثِّر إسلامه في فسخ النكاح، وكان بقاؤه كابتدائه. وإن كانت غير كتابيةٍ وأسلم الزوجان معًا، فهما على النكاح سواءٌ قبل الدخول وبعده، وليس بين أهل العلم في هذا اختلافٌ. قال ابن عبد البر (2): أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معًا في حالةٍ واحدةٍ أن لهما المُقامَ على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسبٌ ولا رضاعٌ. _________ (1) ينظر في هذه المسألة "زاد المعاد" (5/ 183 - 194). (2) "التمهيد" (12/ 23).

(1/435)


وقد أسلم خلقٌ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم (1) نساؤهم، وأُقِرُّوا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شروط النكاح، ولا عن كيفيته، وهذا أمرٌ عُلِم بالتواتر والضرورة، فكان يقينًا (2). ثم قال كثيرٌ من الفقهاء (3): المعتبر أن يتلفظا بالإسلام تلفظًا واحدًا، يكون ابتداء أحدهما مع ابتداء صاحبه، وانتهاؤه مع انتهائه. والصواب أن هذا غير معتبرٍ، ولم يدلَّ على ذلك كتابٌ ولا سنةٌ، ولا اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قطُّ، ولا اعتبره في واقعةٍ واحدةٍ مع كثرة من أسلم في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل يومًا واحدًا لرجل أسلم هو وامرأته: تلفظا بالإسلام تلفظًا واحدًا لا يسبق أحدكما الآخر. وهل هذا إلا من التكلف الذي ألغتْه الشريعة ولم تعتبره؟ وليس لهذا نظيرٌ في الشريعة، بل إذا أسلما في المجلس الواحد فقد اجتمعا على الإسلام، ولا يؤثِّر سبقُ أحدهما الآخر بالتلفظ به. وهذا اختيار شيخنا (4). وإن أسلم أحدهما ثم أسلم الآخر بعده، فاختلف السلف والخلف في ذلك اختلافًا كثيرًا. _________ (1) "أسلم" ساقطة من المطبوع. (2) هذه الفقرة وما قبلها من "المغني" (10/ 5). (3) كالشافعية والحنابلة، انظر: "التهذيب" للبغوي (5/ 391)، و"فتح العزيز" (8/ 86)، و"المغني" (10/ 8)، و"الفروع" (5/ 246). (4) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 337، 338).

(1/436)


فقالت طائفةٌ: متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه، سواءٌ كانت كتابيةً أو غير كتابيةٍ، سواءٌ أسلم بعدها بطَرْفة عينٍ أو أكثر، ولا سبيلَ له عليها إلا بأن يسلما معًا في آنٍ واحدٍ، فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها ساعة إسلامه، ولو أسلمت بعده بطرفة عينٍ. هذا قول جماعةٍ من التابعين وجماعةٍ من أهل الظاهر، وحكاه أبو محمد بن حزمٍ (1) عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وحماد بن زيدٍ والحكم بن عتيبة (2) وسعيد بن جبيرٍ وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعدي بن عدي وقتادة والشعبي. قلت: وحكاية ذلك عن عمر بن الخطاب غلطٌ عليه، أو يكون رواية عنه، فسنذكر من آثار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد وغيره. فهذا قول. وقال أبو حنيفة (3): أيهما أسلم قبل الآخر، فإن كانا في دار الإسلام عُرِض الإسلام على الذي لم يسلم، فإن أسلما بقيا على نكاحهما، وإن أبى فحينئذٍ تقع الفرقة، ولا تُراعى العدة في ذلك. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومحمد: الفسخ هاهنا طلاقٌ، لأن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه، فينوب القاضي منابَه في التسريح _________ (1) "المحلى" (7/ 312). (2) في المطبوع: "عيينة" تصحيف. (3) انظر: "بدائع الصنائع" (2/ 336، 337)، و"الاختيار لتعليل المختار" (3/ 113). والمؤلف نقل الفقرة الأولى من "المحلى" (7/ 312).

(1/437)


بالإحسان، فيكون قوله كقول الزوج. وقال أبو يوسف: لا يكون طلاقًا، لأنه سببٌ يشترك فيه الزوجان، فلا يكون طلاقًا، كما لو ملكها أو ملكته، فلو كانت الزوجة مجوسيةً كانت الفرقة فسخًا قولًا واحدًا. قالوا: والفرق أن المجوسية ليست من أهل الطلاق بخلاف الذمية. وإن كانا في دار الحرب فخرجت المرأة إلينا مسلمةً أو معاهدةً، فساعةَ حصولها في دار الإسلام تقع الفرقة بينهما، لا قبل ذلك. فإن لم تخرج من دار الحرب، بأن حاضت ثلاثَ حِيضٍ قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذٍ، وعليها أن تبتدئ ثلاث حيضٍ أخر عدةً منه. وهل هذه الفرقة فسخٌ أو طلاقٌ؟ فيه عن أبي حنيفة روايتان، وهي فسخٌ عند أبي يوسف. ولو أسلم الآخر قبل مضيِّ ثلاث حيضٍ فهما على نكاحهما. فهذا قول ثانٍ. وقال مالك (1): إن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة، وإن كان بعده فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه، فإن أسلم هو ولم تسلم هي عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها، سواءٌ كان قبل الدخول أو بعده. وقال أشهب: إنما تتعجل الفرقة إذا كان قبل الدخول، وتقف على العدة _________ (1) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 57، 58)، و"المحلى" (7/ 312).

(1/438)


إن كان بعد الدخول. ثم قال ابن القاسم: إذا غَفَل عنها حتى مضى لها شهرٌ وما قرب منه فليس بكثيرٍ، وهما على نكاحهما. والفرقة حيث وقعت فسخٌ. وعن ابن القاسم رواية أخرى: أنها طلقةٌ بائنة (1)، فهذا قول ثالث. وقال ابن شُبرمة (2) عكس هذا، وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين، وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته، وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة، فهذا قول رابع. وقال الأوزاعي والزهري والليث والإمام أحمد والشافعي وإسحاق: إذا سبق أحدهما بالإسلام، فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان بعده فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما، وإن انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح، فهذا قول خامس (3). وقال حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخَطْمي أن نصرانيًّا أسلمت امرأته، فخيرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه (4). _________ (1) في الأصل: "ثانية"، والتصويب من "عقد الجواهر". (2) انظر: "المغني" (10/ 9) و"المحلى" (7/ 312) و"روضة الطالبين" (7/ 148). (3) انظر: "المغني" (10/ 8) و"المحلى" (7/ 312). (4) علَّقه ابن حزم (7/ 313) عن حمَّاد بن سلمة به. وأخرجه عبد الرزاق (10083) عن معمر عن أيوب به.

(1/439)


وعبد الله بن يزيد الخَطْمي هذا له صحبةٌ. وليس معناه أنها تقيم تحته وهو نصراني، بل تنتظر وتتربص، فمتى أسلم فهي امرأته، ولو مكثتْ سنين. فهذا قول سادسٌ، وهو أصحُّ المذاهب في هذه المسألة، وعليه تدلُّ السنة كما سيأتي بيانه، وهو اختيار شيخ الإسلام. وقال حماد بن سلمة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في الزوجين الكافرين يُسلِم أحدهما: هو أملك ببُضْعها ما دامت في دار هجرتها (1). وقال سفيان بن عيينة، عن مطرِّف بن طريفٍ، عن الشعبي، عن علي: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها (2). فهذا قول سابعٌ. وقال ابن أبي شيبة (3): نا معتمر بن سليمان، عن معمرٍ، عن الزهري: إن _________ (1) علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن حمَّاد بن سلمة به. وأخرجه الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 260) من طريق حماد به، ولفظه: "هو أحق بنكاحها ... ". (2) علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن ابن عيينة به. وأخرجه عبد الرزاق (10084) عن ابن عيينة به، ولفظه: "ما لم يُخرجها من مصرها". وأخرجه الشافعي في "الأم" (8/ 423) وسعيد بن منصور في "السنن" (1978)، كلاهما عن هُشيم عن مطرف عن الشعبي به، ولفظه: "ما لم يُخرجها من دار الهجرة". (3) علَّقه عنه ابن حزم (7/ 314) وهذا لفظه. وهو في "المصنف" (18633) بلفظ: "أيما يهودي أو نصراني أسلم ثم أسلمت امرأته فهما على نكاحهما، إلا أن يكون فرَّق بينهما سلطان". وأخرجه عبد الرزاق (12659) عن معمر عن الزهري في امرأة أسلمت وزوجُها مشرك فلم تَنْقَضِ عدَّتُها حتى أسلم قال: يُقرَّان على نكاحهما إلا أن يكون أمرُهما قد رفع إلى السلطان فيفرق بينهما.

(1/440)


أسلمَتْ ولم يُسلم زوجُها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطانٌ. فهذا قول ثامنٌ. وقال داود بن علي: إذا أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تقرّ عنده ولكن يمنع من وطئها (1). وقال شعبة: نا حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي في ذميةٍ أسلمت تحت ذمي، فقال: تقرُّ عنده (2). وبه أفتى حماد بن أبي سليمان. قلت: ومرادهم أن العصمة باقيةٌ، فتجب لها النفقة والسكنى، ولكن لا سبيلَ له إلى وطئها، كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواءً، فهذا قول تاسعٌ. ونحن نذكر مآخذ هذه المذاهب، وما في تلك المآخذ من قوي وضعيفٍ، وما هو الأولى بالصواب. فأما أصحاب القول الأول ــ وهم الذين يُوقِعون الفرقة بمجرد الإسلام ــ فلا نعلم أحدًا من الصحابة قال به البتةَ، وما حكاه أبو محمد بن حزمٍ عن عمر وجابرٍ وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثارٍ رويت عنهم مطلقةً، ونحن _________ (1) "المحلى" (7/ 313). (2) علقه ابن حزم (7/ 313) عن غُندر عن شعبة به. كما علَّقه عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن معتمر والمغيرة بن مِقْسَم، كلاهما عن إبراهيم النخعي.

(1/441)


نذكرها: قال شعبة: أخبرني أبو إسحاق الشيباني قال: سمعت يزيد بن علقمة أن جدَّه وجدَّته كانا نصرانيين، فأسلمت جدته ففرَّق عمر بن الخطاب بينهما (1). وليس في هذا دليل على تعجُّلِ الفرقة مطلقًا بنفس الإسلام، فلعله لم يكن دخل فيها، أو لعله فرق بعد انقضاء العدة، أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه، أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باقٍ حتى يفسخ السلطان. وقد روي عن عمر في هذا آثارٌ تُظَنُّ متعارضةً، ولا تعارض بينها، بل هي موافقةٌ للسنة، فمنها هذا. ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خيَّر المرأة: إن شاءت أقامتْ عليه، وإن شاءت فارقتْه. _________ (1) علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن شعبة به. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 212) من طريق شعبة به. وأخرجه ابن أبي شيبة (18613) عن عبَّاد بن العوام عن الشيباني به. وخالف شعبةَ وعبَّادًا عليُّ بن مسهرٍ ــ كما عند ابن أبي شيبة (18611) والبخاري ــ فرواه عن الشيباني، عن السفَّاح بن مطر، عن داود بن كردوس قال: كان رجل من بني تغلب يقال له عبادة بن النعمان بن زرعة، وكان نصرانيًّا، فأسلمت امرأته وأبى أن يسلم، ففرق عمر بينهما. قال ابن حزم: والسفاح، وداود بن كردوس، ويزيد بن علقمة كلهم مجاهيل.

(1/442)


ومنها ما رواه ابن أبي شيبة (1)، عن عبّاد بن العوّام، عن أبي إسحاق الشيباني، عن يزيد بن علقمة أن عُبادة بن النعمان التغلبي كان ناكحًا امرأةً من بني تميمٍ فأسلمت، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إما أن تُسلِم وإما أن نَنزِعها منك، فأبى، فنزعها عمر - رضي الله عنه -. وقد تمسَّك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني، فإن أبى فرِّق بينهما. وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارضَ بينها، فإن النكاح بالإسلام يصير جائزًا بعد أن كان لازمًا، فيجوز للإمام أن يُعجِّل الفرقة، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة، ويجوز للمرأة التربُّصُ به إلى أن يسلم، ولو مكثت سنين، كل هذا جائزٌ لا محذور فيه. والنكاح له ثلاثة أحوالٍ: - حال لزومٍ. - وحال تحريمٍ وفسخٍ ليس إلا، كمن أسلم وتحته من لا يجوز ابتداء العقد عليها. - وحال جوازٍ ووقفٍ، وهي مرتبةٌ بين المرتبتين لا يُحكم فيها بلزوم النكاح ولا بانقطاعه بالكلية، وفي هذه الحال تكون الزوجة بائنةً من وجهٍ دون وجهٍ. ولما قدم أبو العاص بن الربيع المدينةَ في زمن الهُدْنة وهو مشركٌ، _________ (1) علَّقه عنه ابن حزم (7/ 313)، وهو في "المصنف" (18613) بنحوه.

(1/443)


سألت امرأته زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل ينزل في دارها؟ فقال: "إنه زوجك، ولكن لا يصل إليك" (1). فالنكاح في هذه المدة لا يُحكم ببطلانه، ولا بلزومه وبقائه من كل وجهٍ، ولهذا خيَّر أمير المؤمنين المرأة تارةً، وفرَّق تارةً، وعرض الإسلام على الثاني تارةً، فلما أبى فرَّق بينهما. ولم يفرِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأته أسلم أحدهما قبل الآخر أصلًا، ولا في موضع واحدٍ. قال مالك (2): قال ابن شهابٍ: كان بين إسلام صفوان بن أمية وامرأته بنتِ الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهرٍ، أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حنينًا و الطائف وهو كافرٌ، ثم أسلم، فلم يفرِّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، واستقرَّت عنده امرأته بذلك النكاح. قال ابن عبد البر (3): وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده. وقال الزهري: أسلمت أم حكيمٍ يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة حتى _________ (1) أخرجه الحاكم (3/ 326 - 327) ــ وعنه البيهقي (7/ 185) ــ من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة. إسناده حسن إن صحَّ أن ابن إسحاق رواه موصولًا، وإلا فقد أخرجه ابن هشام في "السيرة" (1/ 657) والطبري في "التاريخ" (2/ 471) والطبراني في "الكبير" (22/ 430) من طريقين عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان مرسلًا. (2) في "الموطأ" (1565 - 1566). (3) "التمهيد" (12/ 19). وتمام كلامه: "لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمامها، وشهرة هذا الحديث ... ".

(1/444)


أتى اليمن، فارتحلت حتى قَدِمت عليه اليمنَ، فدعته إلى الإسلام، فأسلم وقَدِمَ فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فثبتا على نكاحهما (1). وقال ابن شبرمة: كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما (2). وأسلم أبو سفيان عام الفتح قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، ولم تُسلِم امرأته هند حتى فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، فثبتا على نكاحهما (3). وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن [أبي] أمية فلقيا النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح بالأبواء، فأسلما قبل نسائهما (4). وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ زينب ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول بعد ست سنين. قال أبو داود (5): حدثنا عبد الله بن محمد النُّفيلي، نا محمد بن سلمة، _________ (1) أسنده مالك في "الموطأ" (1568)، وعبدُ الرزاق (12646) عن معمر، كلاهما عن الزهري مرسلًا. (2) هذه الفقرة والفقرتان التاليتان في "المغني" (10/ 9). (3) انظر قصة إسلام أبي سفيان عند البخاري (4280). (4) قصة إسلامهما أخرجها الطبراني في "الكبير" (7264). وانظر "الفتح" (9/ 421). (5) برقم (2240)، وأخرجه أيضًا أحمد (2366) والترمذي (1143) وابن ماجه (2009) والحاكم (3/ 237) وغيرهم من طرق عن ابن إسحاق به. وقد ورد تصريح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد والترمذي والحاكم. قال الترمذي: "هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قِبَل حفظه". وداود متكلَّم في روايته عن عكرمة، حتى قال ابن المديني وأبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. ولكن هذا الحديث أجود وأصح مما يخالفه كما نصَّ عليه الأئمة (وستأتي أقوالهم قريبًا)، وله شواهد مرسلة عن عددٍ من التابعين تعضده. انظر: "أنيس الساري" (1003).

(1/445)


عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يُحدِث شيئًا. وفي لفظ له: بعد ست سنين. وفي لفظ: بعد سنتين. قال شيخ الإسلام (1): هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث، والذي روي أنه جدَّد النكاح ضعيفٌ (2). قال: وكذلك كانت المرأة تُسلِم، ثم يسلم زوجها بعد مدّةٍ (3)، والنكاح بحاله، مثل أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب، فإنها أسلمت قبل العباس بمدةٍ. قال عبد الله بن عباس: كنت أنا وأمي ممن عذَرَ الله بقوله: {إِلَّا اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَاَلنِّسَاءِ وَاَلْوِلْدَانِ} [النساء: 97] (4). _________ (1) لم أجد نصَّ كلامه الطويل الذي نقله المؤلف هنا. وأشار إليه في "منهاج السنة" (8/ 246). وانظر: "الفروع" (8/ 301)، و"الاختيارات" للبعلي (ص 325). (2) سيأتي ذكر الحديث وتخريجه قريبًا. (3) في المطبوع: "بعدها" خلاف الأصل. (4) أخرجه البخاري (4588).

(1/446)


ولما فُتح مكة أسلم نساء الطلقاء، وتأخَّر إسلامُ جماعةٍ منهم ــ مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهلٍ وغيرهما ــ الشهرين والثلاثة وأكثر، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقًا بين ما قبل انقضاء العدة وما بعدها. وقد أفتى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأنها تُردُّ إليه، وإن طال الزمان. وعكرمة بن أبي جهل قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ بعد رجوعه من حصار الطائف، وقَسْم غنائم حنينٍ (1) في ذي القعدة، وكان فتح مكة في رمضان، فهذا نحو ثلاثة أشهرٍ يمكن انقضاء العدة فيها وفيما دونها، فأبقاه على نكاحه، ولم يسأل امرأته هل انقضت عدتك أم لا؟ ولا سأل عن ذلك امرأةً واحدةً، مع أن كثيرًا منهن أسلم بعد مدةٍ يجوز انقضاء العدة فيها. وصفوان بن أمية شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينًا وهو مشركٌ، وشهد معه الطائف كذلك إلى أن قُسِم غنائم حنينٍ بعد الفتح بقريبٍ من شهرين، فإن مكة فتحت لعشرٍ بقين من رمضان، وغنائم حنينٍ قُسِمت في ذي القعدة، ويجوز انقضاء العدة في مثل هذه المدة. قال: وبالجملة، فتجديد ردِّ المرأة على زوجها بانقضاء العدة لو كان هو شرعه الذي جاء به لكان هذا مما يجب بيانه للناس من قبل ذلك الوقت، فإنهم أحوجُ ما كانوا إلى بيانه. وهذا كله ــ مع حديث زينب ــ يدلُّ على أن المرأة إذا أسلمت وامتنع زوجها من الإسلام فلها أن تتربَّص وتنتظر إسلامه. فإذا اختارت أن تقيم منتظرةً لإسلامه، فإذا أسلم أقامت معه= فلها ذلك، كما _________ (1) في الأصل: "خيبر" تصحيف.

(1/447)


كان النساء يفعلن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كزينب ابنته وغيرها، ولكن لا تُمكِّنه من وطئها، ولا حكمَ له عليها ولا نفقةَ ولا قسْمَ، والأمر في ذلك إليها لا إليه، فليس هو في هذه الحال زوجًا مالكًا لعصمتها من كل وجهٍ، ولا يحتاج إذا أسلم إلى ابتداء عقدٍ يحتاج فيه إلى ولي وشهودٍ ومهرٍ وعقدٍ، بل إسلامه بمنزلة قبوله للنكاح، وانتظارها بمنزلة الإيجاب. وسرُّ المسألة أن العقد في هذه المدة جائزٌ لا لازمٌ، ولا محذورَ في ذلك، ولا ضررَ على الزوجة فيه، ولا يناقض ذلك شيئًا من قواعد الشرع. وأما الرجل إذا أسلم، وامتنعت المشركة أن تُسلم، فإمساكه لها يضرُّ بها، ولا مصلحةَ لها فيه، فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالمًا، فلهذا قال تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فنهى الرجال أن يستديموا نكاحَ الكافرة، فإذا أسلم الرجل أُمِرتْ امرأته بالإسلام، فإن لم تُسلِم فرق بينهما. قال شيخنا: وقد يقال: بل هذا النهي للرجال ثابتٌ في حقّ النساء، ويقال: إن قضية زينب منسوخةٌ، فإنها كانت قبل نزول آية التحريم لنكاح المشركات، وهذا مما قاله طائفةٌ منهم محمد بن الحسن. قلت: وهذا قاله غير واحدٍ من العلماء. قال أبو محمد بن حزمٍ (1): أما خبر زينب فصحيح، ولا حجة فيه، لأن إسلام أبي العاص كان قبل الحديبية، _________ (1) "المحلى" (7/ 315).

(1/448)


ولم يكن نزلَ بعدُ تحريمُ المسلمة على المشرك. وكذلك قال البيهقي (1). قال شيخنا: لكن يقال: فهذه الآية كانت قبل فتح مكة بعد الحديبية، ثم لما فُتح مكة ردَّ نساءً كثيرًا على أزواجهن بالنكاح الأول، لم يُحدِث نكاحًا، وقد احتبس أزواجهن عليهن (2)، ولم يأمر رجلًا واحدًا بتجديد النكاح البتة. ولو وقع ذلك لنُقِل، ولما أهملت الأمة نقْلَه. قلت: وبهذا يُعلم بطلان ما قاله أبو محمد بن حزمٍ، فإنه قال (3): ولا سبيلَ إلى خبرٍ صحيح بأن إسلام رجل تقدَّم على إسلام امرأته، أو تقدَّم إسلامها عليه، وأقرهما على النكاح الأول، فإذْ لا سبيلَ إلى هذا فلا يجوز أن يطلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه إطلاق الكذب والقول بغير علمٍ. قال (4): فإن قيل: قد روي أن أبا سفيان أسلم قبل هند، وامرأة صفوان أسلمت قبل صفوان. قلنا: من أين لكم أنهما بقيَا على نكاحهما فلم يجدِّدا عقدًا؟ وهل جاء ذلك قطُّ بإسناد صحيح متصلٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عرف ذلك فأقرَّه؟ حاشَ لله من هذا. انتهى كلامه. _________ (1) كذا قال المؤلف، ولكن كلام البيهقي في "السنن الكبير" (7/ 188) و"الخلافيات" (6/ 112) أنه لم يلبث إلا يسيرًا بعد نزول التحريم حتى أُسر فأُتي به إلى المدينة فأظهر إسلامه، "فلم يكن بين توقُّف نكاحِها على انقضاء العدة وبين إسلامه إلا اليسير"، أي: إنه أسلم قبل أن تنقضي عدَّتها بعد نزول التحريم. (2) في الأصل: "عليهم" تحريف. (3) "المحلى" (7/ 315). (4) أي ابن حزم، والكلام متصل بما قبله.

(1/449)


وهذا من أوابده، وإقدامِه على إنكار المعلوم لأهل الحديث والسير بالضرورة. بل من له إلمامٌ بالسنة وأيامِ الإسلام وسيرةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيفيةِ إسلام الصحابة ونسائهم= يعلم علمًا ضروريًّا لا يشكُّ فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعتبر في بقاء النكاح أن يتلفظ الزوجان بالإسلام تلفظًا واحدًا، لا يتقدم أحدهما على الآخر بحرفٍ ولا يتأخر عنه بحرفٍ، لا قبلَ الفتح ولا بعده إلى أن توفّاه الله عز وجل. ويَعلم علمًا ضروريًّا أنه لم يفسخْ نكاح أحدٍ سبقَ امرأته بالإسلام أو سبقتْه، ثم أسلم الثاني، لا في العدة ولا بعدها. وكذلك أيضًا يَعلم أنه لم يُجدِّد نكاحَ أحدٍ سبقتْه امرأته بالإسلام أو سبقها (1)، ثم أسلم الثاني، لا في العدة ولا بعدها. وكذلك أيضًا يَعلم أنه لم يجدِّد نكاح أحدٍ سبقته امرأته أو سبقها بالإسلام، بحيث أحضر الولي والشهود وجدّد العقد والمهر. وتجويز وقوع مثل هذا ــ ولا ينقله بشرٌ على وجه الأرض ــ يفتح بابَ تجويز المحالات، وأنه كان لنا صلاةٌ سادسةٌ ولم ينقلها أحدٌ، وأذانٌ زائدٌ ولم ينقله أحدٌ، ومن هذا النمط، وذلك من أبطل الباطل وأبينِ المحال. فهذه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وأحوال أصحابه بين أظهر الأمة تشهد ببطلان ما ذكره، وأن إضافته إليه محضُ الكذب والقول عليه بلا علمٍ. فإن قيل: فقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ _________ (1) في الأصل: "أو سبقته".

(1/450)


ابنته على أبي العاص بمهرٍ جديدٍ ونكاحٍ جديدٍ. رواه الترمذي (1). فكيف تقولون: إنه لم يجدِّد لأحدٍ ممن تقدَّم إسلام امرأته نكاحًا؟ قيل: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاله أئمة الحديث. قال الترمذي (2): في إسناده مقال. وقال الإمام أحمد (3): هذا حديث ضعيف، والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرَّها على النكاح الأول. هذا لفظه. وقال الدارقطني (4): هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّها بالنكاح الأول. وقال الترمذي في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - "أنه ردَّها بالنكاح الأول، _________ (1) برقم (1142)، وأخرجه أيضًا أحمد (6938) وابن ماجه (2010) والدارقطني (3625) والحاكم (3/ 639) ــ ولم يصححه ــ وغيرهم من طرق عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (2) عقب الحديث (1142). وأسند عقب الحديث (1144) عن يزيد بن هارون أنه ذكر حديث الحجاج هذا وقال: "حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا". وبنحوه قول البخاري، وسيأتي. (3) عقب الحديث (6938) وفيه زيادةً على ما نقل المؤلف: "لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يسوى حديثه شيئًا". (4) في "السنن" عقب الحديث (3625)، وفيه بعد قوله: "هذا حديث لا يثبت": "وحجاج لا يُحتج به".

(1/451)


فكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين، ولم يُحدِث نكاحًا": هذا حديث حسن، ليس بإسناده بأسٌ. فإن قيل: الكلام مع من صحَّح هذا الحديث، فإنه حديث مضطربٌ. قد روي أنه كان بين إسلامهما سنتان، وروي ستُّ سنين، ولا يصح واحدٌ من الأمرين، فإن زينب لم تزل مسلمةً من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو العاص أسلم في السنة السادسة في زمن الهدنة، فبين إسلامه وإسلامها ثمان عشرة سنةً أو ما يزيد عليها، وكذلك رواية من روى سنتين هي غلطٌ قطعًا، فإن زينب لم تبق مشركةً إلى السنة الرابعة من الهجرة، والحديث من رواية ابن إسحاق، وكلام الأئمة فيه معروفٌ. فالجواب أن يقال: من أين لكم تقدُّم إسلام زينب من أول المبعث، فإنها كانت تحت أبي العاص بن الربيع وهو مشركٌ، وأصحُّ ما في تقدُّم إسلامها حديث ابن عباس هذا، وهو يقتضي أنها أسلمت حين هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. وكذلك قال ابن شهابٍ: أسلمت زينب وهاجرت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي ذكر ذلك. على أنه إن (1) كان إسلامها من حين المبعث كما حكى فيه الإجماع أبو محمد بن حزمٍ، فقال (2): وقد أسلمت زينب في أول مبعث أبيها - صلى الله عليه وسلم -، لا خلاف في ذلك، ثم هاجرت إلى المدينة وزوجها كافرٌ، فكان بين إسلامها _________ (1) "إن" ساقطة من المطبوع. (2) "المحلى" (7/ 315).

(1/452)


وإسلامه أزيدُ من ثمان عشرة سنةً، وقد ولدتْ في خلال ذلك عليَّ بن أبي العاص. وهذا الذي قاله أبو محمد هو الحق، وأنها لم تزل مسلمةً من حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن التوقيت بالسنتين أو بالست كان بين إسلامه وظهور إسلامها وإعلانه بالهجرة، فإن نساء المؤمنات كن يَستخفينَ من أزواجهن بالإسلام في مكة، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أظهر من هاجر معه منهن إسلامها، وزينب هاجرت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد وقعة بدرٍ، فكان بين ظهور إسلامها بهجرتها وإسلامِ أبي العاص سنتان. وأما الست سنين فهي بين ظهورِ الإسلام العام بالهجرة وإسلامِ أبي العاص. على أن عبد الرزاق (1) قد ذكر عن ابن جريجٍ، عن رجلٍ، عن ابن شهابٍ قال: أسلمت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة الأولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع بمكة مشركٌ، ثم شهد أبو العاص بدرًا مشركًا، فأُسِر ففَدى وكان موسرًا، ثم شهد أحدًا مشركًا، ورجع إلى مكة ومكث بها ما شاء الله، ثم خرج إلى الشام تاجرًا فأُسِر بطريق الشام، أسره نفرٌ من الأنصار، فدخلت زينب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن المسلمين يُجِير عليهم أدناهم، فقال: "وما ذاك يا زينب؟ "، فقالت: أجرتُ أبا العاص، _________ (1) برقم (12649)، وسنده ظاهر الانقطاع مع جهالة أحد رواته. وفي بعض متنه نكارة، وهو قوله: "ثم لم يُجِزْ جوارَ امرأةٍ بعدها"، فقد صحَّ أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاز جوار أم هانئ يوم الفتح.

(1/453)


فقال: "قد أجزتُ جِوارَكِ"، ثم لم يُجِزْ جِوارَ امرأةٍ بعدها، ثم أسلما (1)، فكانا على نكاحهما. وكان عمر خطبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقالت: أبو العاص يا رسول الله حيثُ علمتَ، وقد كان نِعَم الصهر، فإن رأيتَ أن تنتظره، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك. قلت: قوله: "ثم أسلما" أي اجتمعَا على الإسلام، وإلا فزينب أسلمت قبله قطعًا، وهاجرت بعد بدرٍ قطعًا كما في "المسند" و"السنن" (2) من حديث عائشة - رضي الله عنهما - قالت: لما بَعثَ أهل مكة في فداء أسراهم بَعثتْ زينب في فداء أبي العاص بمالٍ، وبَعثتْ فيه بقلادةٍ لها كانت عند خديجة أدخلَتْها بها على أبي العاص. قالت: فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقَّ لها رقَّةً شديدةً، وقال: "إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرَها وتردُّوا عليها الذي لها"، قالوا: نعم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عليه أو وعدَه أن يُخلي سبيلَ زينبَ إليه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال: "كونا ببطن يَأْجَجَ (3) حتى تمرَّ _________ (1) كذا، وعليه شرح المؤلف الآتي. والظاهر أنه تصحيف في النسخة التي اعتمدها المؤلف، فإن الذي في جميع طبعات "المصنف": "أسلم" بالإفراد، وكذا فيما اطلعت عليه من النسخ الخطية، وكذا نقله ابن عبد البر في "الاستذكار" (16/ 328). وهو مقتضى السياق، ففي أول الحديث: "أسلمت زينب ... ". (2) "مسند أحمد" (26362) و"سنن أبي داود" (2692) واللفظ له، وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير" (22/ 427) والحاكم (3/ 23) بإسناد حسن. (3) يأجج: وادٍ ينصبُّ من مطلع الشمس إلى مكة، قريب منها. انظر: "معجم ما استعجم" (2/ 1385). وهو على ثمانية أميال من مكة كان ينزله عبد الله بن الزبير.

(1/454)


بكما زينب، فتَصْحَباها حتى تَأتِيا بها". وأما تعلُّقكم على محمد بن إسحاق (1) فتعلُّقٌ ضعيفٌ، وقد صحَّح الأئمة حديثَه هذا، وبيَّنُوا أنه أولى بالصحة من حديث عمرو بن شعيبٍ أنه ردَّها بنكاحٍ جديدٍ، وأن ذلك لا يثبت، كما تقدم حكاية كلامهم. وثناء الأئمة على ابن إسحاق وشهادتهم له بالإمامة والحفظ والصدق أضعافُ أضعافِ القدح فيه. وقد أجيب عن حديث زينب - رضي الله عنها - بأجوبةٍ كلها ضعيفةٌ أو فاسدةٌ، ونحن نذكرها. قال أبو عمر (2): إن صحَّ حديث ابن عباس هذا، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أنها لم تَحِضْ ثلاث حِيَضٍ حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخٌ بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، يعني في عدتهن، وهذا ما لا خلافَ فيه بين العلماء: أنه عنى به العدة. وقال ابن شهابٍ في قصة زينب هذه: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض (3). _________ (1) أي: في حديثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول. (2) "الاستذكار" (16/ 327، 328). (3) أسنده الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 260) من طريق سفيان بن الحسين عن الزهري به. وسفيان بن الحسين ثقة إلا في روايته عن الزهري، فإنه ليس بالقوي فيه.

(1/455)


وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين (1). وقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته إلى أبي العاص بن الربيع بنكاحٍ جديدٍ. وإذا كان هذا سقطَ القول في قصة زينب. وكذلك قال الشعبي ــ مع علمه بالمغازي ــ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردَّ زينب إلى أبي العاص إلا بنكاحٍ جديدٍ (2). ولا خلاف بين العلماء في الكافرة تُسلم، ويأبى زوجها من (3) الإسلام حتى تنقضي عدتها، أنه لا سبيلَ له عليها إلا بنكاحٍ جديدٍ. وهذا كله يتبين به أن قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ردَّها على النكاح الأول" أنه أراد به على مثل الصداق الأول إن صحَّ، وحديث عمرو بن _________ (1) أسنده الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 260). (2) أسنده الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 256) من طريق يحيى الحماني عن حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند عنه. وفيه وصف الطحاوي للشعبي بقوله: "مع علمه بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كما هنا، فالظاهر أن ابن عبد البر صادر عنه. وفي صحَّة هذا القول عن الشعبي نظر، وذلك لضعف يحيى الحماني، ولأن سعيد بن منصور روى في "سننه" (2107) عن هشيم عن داود عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ردَّها عليه بالنكاح الأول". هذا إسناد صحيح على رسم مسلم. وكذلك أخرج عبد الرزاق (12640) من طريق جابر الجعفي، وابن سعد في "الطبقات" (10/ 33) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما (جابر وإسماعيل) عن الشعبي بنحوه. (3) "من" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و"الاستذكار".

(1/456)


شعيبٍ عندنا صحيح. انتهى كلامه (1). قلت (2): أما كونها لم تَحِضْ في تلك السنين الست إلا ثلاثَ حِيَضٍ، فهذا مع أنه في غاية البعد، وخلاف ما طبع الله عليه النساء، فمثله لو وقع لَنُقِل، ولم ينقل ذلك أحدٌ، ولم يحدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقاء النكاح بمدة العدة حتى يقال: لعل عدتها تأخرت، فلا التحديدُ بالثلاث حيضٍ ثابتٌ، ولا تأخُّرُها ست سنين معتادٌ. وأما ادعاء نسخ الحديث فأبعدُ وأبعدُ، فإن شروط النسخ منتفيةٌ، وهي وجود المعارض ومقاومته وتأخُّره، فأين معكم واحدٌ من هذه الثلاثة؟ وأعجب من هذا دعوى أن يكون الناسخ قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 226]، فإن هذا في المطلَّقات الرجعيات بنص القرآن واتفاق الأمة. ولم يقل أحدٌ: إن إسلام المرأة طلقةٌ رجعيةٌ يكون بعلُها أحقَّ بردها في عدتها، والذين يحكمون بالفرقة بعد انقضاء العدة لا يوقعونها من حين الإسلام، بخلاف الطلاق فإنه ينفُذ من حين التطليق، ويكون للزوج الرجعةُ في زمن العدة. وأما قول الزهري: إن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض، فكأنه أراد أن الحديث منسوخٌ. فيقال: وأين الناسخ له (3) من كتاب الله أو سنة رسوله؟ فإن _________ (1) أي كلام ابن عبد البر في "الاستذكار". (2) من هنا مناقشة المؤلف لكلام ابن عبد البر. (3) "له" ساقطة من المطبوع.

(1/457)


قال: الناسخ له قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فيقال: هذه الآية نزلت في قصة صلح الحديبية باتفاق الناس، وردُّ زينب على أبي العاص كان بعد ذلك لما قدم من الشام في زمن الهدنة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب: "أَكرِمي مَثْواه، ولكن لا يصلُ إليك"، امتثالًا لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. ثم ذهب أبو العاص إلى مكة، فردَّ الودائع والأمانات التي كانت عنده، ثم جاء فأسلم، فردَّها عليه بالنكاح الأول. وقوله: "إن ذلك كان قبلَ أن تنزل الفرائض" لم يُرِد به فرائض الإسلام، فابن شهابٍ أعلم وأجلُّ من أن يريد ذلك، والظاهر أنه إنما أراد فريضة تحريم نكاح المشرك والمشركة. وأقصى ما يقال: أن ردَّ زينب على أبي العاص ونزول آية التحريم كانا في زمن الهدنة، فمن أين يُعلم تأخُّر نزول الآية عن قصة الزوجين لتكون ناسخةً لها؟ ولا يمكن دعوى النسخ بالاحتمال. وأما قول قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين= فلا ريبَ أنه كان قبل نزول براءة، ولكن أين في سورة براءة ما يدل على إبطال ما مضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين بُعِث إلى أن توفَّاه الله تعالى من عدم التفريق بين الرجل والمرأة، إذا سبق أحدهما بالإسلام؟ والعهود التي نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين هي عهود الصلح التي كانت بينه وبينهم، فهي براءةٌ من العقد والعهد الذي كان بينه وبينهم، ولا تعرُّضَ فيها للنكاح بوجهٍ من الوجوه. وقد أكد الله سبحانه

(1/458)


البراءة بين المسلمين والكفار قبل ذلك في سورة الممتحنة وغيرها، ولكن هذا لا يناقض تربُّصَ المرأة بنكاحها إسلام زوجها، فإن أسلم كانت امرأته وإلا فهي بريئةٌ منه. وأما قوله: "وقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أنه ردَّها بنكاحٍ جديدٍ"، فلو وصل إلى عمرٍو لكان حجةً، فإنا لا ندفع حديث عمرو بن شعيبٍ، ولكن دون الوصول إليه مفاوزُ مُجدِبةٌ معطشةٌ لا تُسلَك، فلا يُعارَض بحديثه الحديثُ الذي شهد الأئمة بصحته. وأما قول الشعبي: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردَّها إلا بنكاحٍ جديدٍ"، فهذا إن صح عن الشعبي (1) فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه، وإن كان قاله رواية فهو منقطعٌ لا تقوم به حجةٌ، فبينَ الشعبي وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفازةٌ لا يُدرى حالها. وأما قوله: لا خلافَ بين العلماء في الكافرة تُسلم، ويأبى زوجها من (2) الإسلام حتى تنقضي عدتها، أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاحٍ جديد (3) = فهذا قاله أبو عمر رحمه الله تعالى بحسب ما بلغه، وإلا فقد ذكرنا في المسألة (4) مذاهب تسعةً، وذكرنا مذهب عليّ، ولا يُحفَظ اعتبار العدَّة عن صاحبٍ _________ (1) وقد بينَّا أنه لا يصح، يل الصحيح عنه خلافه. (2) "من" ساقطة من المطبوع. (3) "جديد" ساقطة من المطبوع. (4) في المطبوع: "المسلمة" تحريف.

(1/459)


واحدٍ البتةَ، وأرفعُ ما فيه قول الزهري الذي رواه مالك عنه في "الموطأ" (1)، ولفظه: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشامٍ أسلمت يومَ الفتح بمكة، وهربَ زوجُها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدِمَ اليمن، فارتحلت أم حكيمٍ حتى قدِمتْ على زوجها باليمن، ودَعتْه إلى الإسلام فأسلم، وقدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعه، فثبَتا على نكاحهما ذلك. قال ابن شهابٍ: ولم يبلغنا أن امرأةً هاجرت إلى الله وإلى رسوله، وزوجها كافرٌ مقيمٌ بدار الكفر، إلا فرَّقَت هجرتُها بينها وبين زوجها، إلا أن يَقْدَم زوجُها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدَّتُها. وأنه لم يبلغنا أن امرأةً فُرِّق بينها وبين زوجها إذا قَدِم وهي في عدَّتها (2). فلا يُعرف في اعتبار العدة غيرُ هذا الأثر. وأما قوله: "إنه ردَّها على النكاح الأول، أي: على مثل الصَّداق الأول"، فلا يخفى ضعفه وفساده، وأنه عكس المفهوم من لفظ الحديث، وقولُه: "لم يُحدِثْ شيئًا" يأباه. ونحن نذكر ألفاظ الحديث لنبيِّن أنها لا تحتمل ذلك: ففي "المسند" و"السنن" (3) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي _________ (1) رقم (1568). (2) رواه مالك في "الموطأ" برواية يحيى الليثي (1567) دون الجملة الأخيرة، فهي في "الموطأ" برواية ابن بكير (ق 265 - نسخة جامعة اسطنبول). ومن طريق ابن بُكير عن مالك أخرجه البيهقي في "السنن" (7/ 187) و"الخلافيات" (6/ 110). وأسنده عبد الرزاق (12646) عن معمر عن ابن شهاب بنحوه. (3) "مسند أحمد" (1876) و"سنن أبو داود" (2240)، وقد سبق تخريجه موسَّعًا.

(1/460)


- صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، لم يُحدِث شيئًا. وفي لفظ (1): بنكاحها الأول لم يُحدِث صداقًا. وفي لفظ (2): لم يُحدِث (3) شهادةً ولا صداقًا. وفي لفظ (4): لم يُحدِث نكاحًا. فهذا كله صريحٌ في أنه بقَّاهما على نفس النكاح الأول، لا يحتمل الحديث غير ذلك. وأما قوله: فحديث عمرو بن شعيبٍ عندنا صحيح= فنعم إذا وُصِل إليه بسندٍ صحيح، وهذا منتفٍ في هذا الحديث كما تقدَّم. قال الترمذي في كتاب "العلل" (5): سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: حديث ابن عباس أصحُّ في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيبٍ. _________ (1) لأحمد (3290) والحاكم (4/ 46). (2) لأحمد (2366). (3) "لم يحدث" ساقطة من المطبوع. (4) للترمذي (1143). (5) "العلل الكبير" بترتيب أبي طالب القاضي (ص 167). والمؤلف صادر عن "الخلافيات" للبيهقي (6/ 113).

(1/461)


وذكر أبو عبيد (1) عن يحيى بن سعيد القطّان أن حجاج بن أرطاة ــ وهو راويه عن عمرو بن شعيبٍ ــ لم يسمعه من عمرٍو، وأنه من حديث محمد بن عبيد الله العَرْزمي عن عمرٍو. قال البيهقي (2): فهذا الحديث لا يَعْبأ به أحدٌ يدري ما الحديث. قال: والذي ذكره بعض الناس في الجمع بين حديث عبد الله بن عمرٍو وحديث ابن عباس، بأن قال: علم عبد الله بن عمرٍو بتحريم الله سبحانه رجوعَ المؤمنات إلى الكفار، فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاحٍ جديدٍ. وأما ابن عباس فلم يعلم بتحريم الله عز وجل المؤمناتِ على الكفار حتى علِمَ بردِّ زينب على أبي العاص فقال: ردَّها بالنكاح الأول؛ لأنه لم يكن بينهما عنده فسخُ نكاحٍ. قال البيهقي (3): وليس هذا بجمعٍ صحيح، وما هو إلا سوء ظنٍّ بالصحابة، حيث نسبَهم إلى المجازفة برواية الحديث على ما وقع لهم من غير سماعٍ. وحديث عبد الله بن عمرٍو لم يُثبِته الحفّاظ على ما قدّمنا ذكره، وابن عباس لم يقل: "ردَّها عليه بالنكاح الأول، ولم يُحدِث شيئًا" إلا بعد إحاطة العلم به بنفسه أو عمن يثق به، وكيف يشتبه على مثله نزول الآية في _________ (1) كما في "الخلافيات" (6/ 113) و"السنن الكبير" (7/ 188)، ولم أجده في كتب أبي عُبيد المطبوعة. (2) في "الخلافيات" (6/ 114). (3) في "الخلافيات" (6/ 114 - 115).

(1/462)


الممتحنة قبل ردِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته على أبي العاص؟ وإن اشتبه ذلك عليه في وقت نزولها لم يشتبه على مثله الخبر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد علم منازلَ القرآن وتأويله، هذا بعيدٌ لا يجوز الحمل عليه. انتهى كلامه. قال أصحاب هذا القول: ثم نقول: دعونا من هذا كله، وهَبْ أنه صحَّ لكم جميع ما ذكرتم في قصة زينب، فمن أين لكم أن المُراعى في أمر أبي العاص وأمرِ هندٍ وامرأةِ صفوان وأم حكيمٍ وسائرِ من أسلم إنما هو العدّة؟ ومَن أخبركم بهذا، وليس في شيء من الأحاديث الصحاح ولا الحسان ذكْرُ عدّةٍ في ذلك، ولا دليلَ عليها أصلًا من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الصحابة؟ قالوا: ولا عدَّةَ في دين الله إلا في طلاقٍ أو خلعٍ أو وفاةٍ أو عتقٍ تحت عبدٍ أو حرٍّ، فمن أين جئتمونا بهذه العدة، وجعلتموها حدًّا فاصلًا بين الزوج المالك للعصمة وغيره؟ فصل قال المعجِّلون للفرقة: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10].

(1/463)


قالوا: فهذا حكم الله الذي لا يحلُّ لأحدٍ أن يخرج عنه، وقد حرَّم فيه رجوع المؤمنة إلى الكافر، وصرَّح سبحانه بإباحة نكاحها، ولو كانت في عصمة الزوج حتى يُسلم في العدة أو بعدها لم يجزْ نكاحها، لا سيما والمهاجرة تُستبرأ بحيضةٍ، وهذا صريحٌ في انقطاع العصمة بالهجرة. وقوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} صريحٌ في أن المسلم مأمورٌ أن لا يُمسِك عصمةَ امرأته إذا لم تُسلم، فصحَّ أن ساعةَ وقوع الإسلام منه تنقطع عصمة الكافرة منه. وقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، صريحٌ في تحريم أحدهما على الآخر في كل وقتٍ. فهذه أربعة أدلةٍ من الآية، ودَعُونا من تلك المنقطعات والمراسيل والآثار المختلفة، ففي كتاب الله الشفاء والعصمة. قال الآخرون: مرحبًا وأهلًا وسهلًا بكتاب الله، وسمعًا وطاعةً لقول ربنا، ولكن تأولتم الآية على غير تأويلها، ووضعتموها على غير مواضعها، وليس فيها ما يقتضي تعجيلَ الفرقة إذا سبق أحدهما الآخر بألفٍ أو ها (1)، ولا فهم هذا منها أحدٌ قطُّ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من التابعين، ولا يدلُّ على ما ذهبتم إليه أصلًا. أما قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ} فإنما يدلُّ على النهي عن ردِّ النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار، فأين في هذا ما يقتضي أنها _________ (1) كذا في الأصل، ولعل المقصود: "بالإسلام أو الهجرة". وفي المطبوع: "بإلغائها"، ولا يناسب السياق.

(1/464)


لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم تُرَدُّ إليه؟ ولقد أبعد النجعةَ كلَّ الإبعاد مَن فهم هذا من الآية. وكذلك قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين والكفار، وأن أحدهما لا يحلُّ للآخر، وليس فيه أن أحدهما لا يتربَّص بصاحبه للإسلام فيحلُّ له إذا أسلما. وأما قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا خطاب للمسلمين ورفعٌ للحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بِنَّ من أزواجهن وتخلَّين منهم، وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها. ولا ريبَ أن المرأة إذا انقضت عدتها تُخيَّر بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها، فترجع إليه إما بالعقد الأول على ما نصرناه، وإما بعقد جديدٍ على قول من يرى انفساخَ النكاح بمجرد انقضاء العدة. فلو أنا قلنا: إن المرأة تبقى محبوسةً على الزوج، لا نُمكِّنها أن تتزوج بعد انقضاء العدة، شاءت أم أبت= لكان في الآية حجةٌ علينا، ونحن لم نقل ذلك ولا غيرنا من أهل الإسلام، بل هي أحقُّ بنفسها، إن شاءت تزوَّجتْ وإن شاءت تربَّصتْ. فأما قوله تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} فإنما تضمَّن النهيَ عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها وهي مقيمةٌ على شركها وكفرها، وليس فيه النهي عن الانتظار بها أن تُسلم ثم يمسك بعصمتها. فإن قيل: فهو في التربص ممسكٌ بعصمتها، قلنا: ليس كذلك، بل هي

(1/465)


متمكنةٌ بعد انقضاء عدتها من مفارقتِه والتزوُّجِ بغيره، ولو كانت العصمة بيده لما أمكنها ذلك. وأيضًا فالآية إنما دلَّت على أن الرجل إذا أسلم ولم تسلم المرأة، أنه لا يُمسكها بل يفارقها، فإذا أسلمت بعده فله أن يمسك بعصمتها، وهو إنما أمسك بعصمة مسلمةٍ لا كافرةٍ. وأيضًا فإن تحريم النساء المشركات على المؤمنين لم يُستفَد بهذه الآية، بل كان ثابتًا قبل ذلك بقوله: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، وإنما اقتضت هذه الآية حكمه سبحانه بين المؤمنين والكفار في النساء اللاتي يرتددن إلى الكفار واللاتي يهاجرن إلى المسلمين، فإن الشرط كان قد وقع على أنَّ من شاء أن يدخل في دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في دين قريشٍ وعهدهم دخل، فهاجر نسوةٌ اخترن الإسلام، وارتدَّ نسوةٌ اخترن الشرك، فحكَمَ الله أحسنَ حكمٍ بين الفريقين في هذه الآية، ونهى المسلمين فيها أن يمسكوا بعصمة المرأة التي اختارت الكفر والشرك، فإن ذلك منع لها من التزوج بمن شاءت وهي في عصمة المسلم، والعهد اقتضى أن من جاء من المسلمين رجالهم ونسائهم إلى الكفار يقرُّ على ذلك، ومن جاء من الكفار إلى المسلمين يُرَدُّ إليهم، فإذا جاءت امرأةُ كافرٍ (1) إلى المسلمين زالت عصمة نكاحها، وأبيح للمسلمين أن يزوِّجوها. فإذا فاتت امرأةٌ من المسلمين إلى الكفار فلو بقيت في عصمته ممسكًا لها لكان في ذلك ضررٌ بها إن لم يُمكِنها أن تزوَّج، وضررٌ به إن أمكنها أن تتزوج وهي في _________ (1) في المطبوع: "كافرة"، وهو خطأ.

(1/466)


عصمته، فاقتضى حكمُه العدلُ الذي لا أحسن منه تعجيلَ التفريق بينه وبين المرأة المرتدة أو الكافرة عندهم، لتتمكن من التزويج كما تتمكن المسلمة من التزويج إذا هاجرت. فهذا مقتضى الآية، وهي لا تقتضي أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بمجرد إسلامها بينها وبين زوجها، فلو أسلم بعد ذلك لم يكن له عليها سبيلٌ. فينبغي أن تُعطى النصوصُ حقَّها، والسنةُ حقَّها، فلا تعارض بين هذه الآية وبين ما جاءت به السنة بوجهٍ ما، والكل من مشكاةٍ واحدةٍ يصدِّق بعضها بعضًا. قال شيخ الإسلام (1): وأما القول بأنه بمجرد إسلام أحد الزوجين المشركين تحصل الفرقة قبل الدخول أو بعده، فهذا قول في غاية الضعف، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من شريعة الإسلام، فإنه قد عُلِم أن المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كان يَسبِق بعضهم بعضًا بالتكلم بالشهادتين، فتارةً يُسلم الرجل وتبقى المرأة مدةً ثم تسلم، كما أسلم كثيرٌ من نساء قريشٍ وغيرهم قبل الرجال. وروي أن أم سليمٍ امرأة أبي طلحة أسلمت قبل أبي طلحة (2). وتارةً يسلم الرجل قبل المرأة، ثم تسلم بعده بمدةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ. وليس لقائل أن يقول: هذا كان قبل تحريم نكاح المشركين، لوجهين: _________ (1) لم أجد كلامه في "مجموع الفتاوى" وغيره. (2) نعم أسلمت قبله، ولكنها لم تكن زوجَه حينئذ، بل لم تتزوجه إلا بعد إسلامه، وقد اشترطت عليه ذلك حين خطبها وهو كافر، كما في حديث أنس عند النسائي (3341) وابن حبان (7187) والطبراني في "الكبير" (5/ 91) والضياء في "المختارة" (4/ 427).

(1/467)


أحدهما: أنه لو قدِّر تقدُّم ذلك فدعوى المدَّعي أن هذا منسوخٌ تحتاج إلى دليلٍ. الوجه الثاني: أن يقال: فقد أسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا بعد نزول تحريم المشركات، ونزول النهي عن التمسك بعِصَم الكوافر، فأسلم الطُّلقاء بمكة وهم خلقٌ كثيرٌ، وأسلم أهل الطائف وهم أهل مدينة، وكان إسلامهم بعد أن حاصرهم ونصب عليهم المنجنيق ولم يفتحها، ثم قسم غنائم حنينٍ بالجِعرانة، واعتمر عمرة الجعرانة، ثم رجع بالمسلمين إلى المدينة، ثم وفدَ وفدُ الطائف فأسلموا، ونساؤهم بالبلد لم يسلمن، ثم رجعوا وأسلم نساؤهم بعد ذلك. فمن قال: إن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيلَ الفرقة قبل الدخول أو بعده، فقوله مقطوعٌ بخطئه. ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا ممن أسلم: هل دخلتَ بامرأتك أم لا؟ بل كل من أسلم وأسلمت امرأته بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاحٍ. وقد قدِمَ عليه وفود العرب، وكانوا يسلمون ثم يرجعون إلى أهليهم، فيسلم نساؤهم على أيديهم بعد إسلام أزواجهن، وبعث عليًّا ومعاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأسلم على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله من الرجال والنساء، ومعلومٌ قطعًا أن الرجل كان يأتيهم فيسلم قبل امرأته، والمرأة تأتيهم فتسلم قبل الرجل، ولم يقولوا لأحدٍ: ليكن تلفظُك وتلفظُ امرأتك بالإسلام في آنٍ واحدٍ، لئلا ينفسخ النكاح، ولم يفرِّقوا بين من دخل بامرأته وبين من لم يدخل، ولا حدُّوا ذلك بثلاثة قروءٍ، ثم يقع الفسخ بعدها، بل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ــ وقد باشر ذلك بنفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي غيبته عنه ــ قد قال:

(1/468)


"هو أحقُّ بها ما لم تخرج من مصرها"، وفي رواية عنه: "ما لم تخرج من دار هجرتها" (1)، ولم يعجِّل الفرقة، ولا حدَّها بثلاثة قروءٍ. وفي قضية زينب الشفاءُ والعصمة. وكانت سنته - صلى الله عليه وسلم - أنه يجمع بين الزوجين إذا أسلم أحدهما قبل الآخر وتراضيا ببقائهما على النكاح، لا يفرِّق بينهما، ولا يُحوِجهما إلى عقد جديدٍ، فإذا أسلمت المرأة أولًا فلها أن تتربص بإسلام زوجها، أيَّ وقتٍ أسلم فهي امرأته، وإذا أسلم الرجل فليس له أن يحبس المرأة على نفسه ويُمسك بعصمتها، فلا يُكرِهها على الإسلام، ولا يحبسها على نفسه، فلا يظلمها في الدين ولا في النكاح، بل إن اختارت هي أن تتربص بإسلامه تربصت، طالت المدة أو قصرت، وإن اختارت أن تتزوج غيره بعد انقضاء عدتها فلها ذلك، والعدة هاهنا لحفظ ماء الزوج الأول. وأيهما أسلم في العدة أو بعدها فالنكاح بحاله، إلا أن يختار الرجل الطلاق فيطلِّق، كما طلَّق عمر - رضي الله عنه - امرأتين له مشركتين لما أنزل الله تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ}، أو تختار المرأة أن تزوَّج بعد استبرائها فلها ذلك. وأيضًا فإن في هذا تنفيرًا عن الإسلام، فإن المرأة إذا علمت أو الزوج أنه بمجرد الإسلام يزول النكاح، ويفارق من يحب، ولم يبقَ له عليها سبيلٌ إلا برضاها ورضا وليِّها ومهرٍ جديدٍ= نفَرَ عن الدخول في الإسلام. بخلاف ما إذا علم كلٌّ منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراقَ بينهما إلا أن يختار _________ (1) تقدَّم تخريجه وذكر ألفاظه (ص 440).

(1/469)


هو المفارقة= كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبتِه ما هو أدعى إلى الدخول فيه. وأيضًا فبقاء مجرد العقد جائزًا غيرَ لازمٍ من غير تمكينٍ من الوطء خيرٌ محضٌ ومصلحةٌ بلا مفسدةٍ، فإن المفسدة إما بابتداء استيلاء الكافر على المسلمة، فهذا لا يجوز كابتداء نكاحه للمسلمة، وإن لم يكن فيه وطءٌ، كما لا يجوز استيلاؤه بالاسترقاق. وإما بالوطء بعد إسلامها، وهذا لا يجوز أيضًا، فصار إبقاء النكاح جائزًا فيه مصلحةٌ راجحةٌ للزوجين في الدين والدنيا من غير مفسدةٍ، وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي بتحريمه. وكذلك الردة أيضًا، القولُ بتعجيل الفرقة فيها خلافُ المعلوم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، فقد ارتدَّ على عهدهم خلقٌ كثيرٌ، ومنهم من لم ترتدَّ امرأته، ثم عادوا إلى الإسلام، وعادت إليهم نساؤهم، وما عُرِف أن أحدًا منهم أُمِر أن يجدِّد عقد نكاحه، مع العلم بأن منهم من عاد إلى الإسلام بعد مدةٍ أكثر من مدة العدة، ومع العلم بأن كثيرًا من نسائهم لم ترتدَّ، ولم يستفصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه أحدًا من أهل الردة هل عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة أم قبلها؟ بل المرتد إن استمرَّ على ردته قُتِل، وإن عاد إلى الإسلام فامرأته وماله باقٍ عليه بحاله، فماله وامرأته موقوفٌ، وفي تعجيل الفرقة تنفيرٌ لهم عن العود إلى الإسلام، والمقصود تأليف القلوب على الإسلام بكل طريقٍ.

(1/470)


فصل ومن هذا أمر العقود التي وقعت منهم في الشرك، فإن الذين أسلموا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل أحدًا منهم: كيف كان عقدك على امرأتك؟ وهل نكحتَها في عدَّتها أم بعد انقضاء عدَّتها؟ وهل نكحتَ بولي وشهودٍ أم لا؟ ولا سأل من كان تحته أختان: هل جمعتَ بينهما في عقد واحدٍ أم تزوجتَ واحدةً بعد واحدةٍ؟ وقد أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلق الذين أسلموا، ودخلوا في دين الله أفواجًا، ولم يسأل أحدًا منهم عن صفة نكاحه، بل أقرَّهم على أنكحتهم، إلا أن يكون حين الإسلام أحدهم على نكاحٍ محرمٍ، كنكاح أكثر من أربع أو نكاح أختين، فكان يأمره أن يختار أربعًا منهن وإحدى الأختين، سواءٌ وقع ذلك في عقدٍ أو عقودٍ. وإن كان متزوجًا بذاتِ مَحرمٍ كامرأة أبيه أمره بفراقها، وهذا قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين ومن بعدهم. وأبو حنيفة ينظر إلى صفة العقد في الكفر: هل له مَساغٌ في الإسلام أم لا؟ فإن كان له مساغٌ صحَّحه، وإلا أبطله، فإن تزوج أكثر من أربع في عقد واحدٍ فسد نكاح الجميع، وإن كان في عقودٍ ثبت نكاح الأربع، وقد فسد نكاحُ من بعدهن من غير تخييرٍ، وكذلك الأختان. والذي مضت به السنة قول الجمهور، كما في "السنن" (1) من حديث _________ (1) "سنن أبي داود" (2243)، أخرجه أيضًا أحمد (18040، 18041 واللفظ له) والترمذي (1129، 1130)، وابن ماجه (1951) وابن حبان (4155)، كلهم من طريق أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي به. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصحح إسناده البيهقي في "معرفة السنن" (10/ 138). وأعلَّه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 249) فقال: "في إسناده نظر"، وقال في موضع آخر (4/ 333): "لا يعرف سماع بعضهم من بعض". وضعَّفه ابن القطان في "بيان الوهم" (3/ 494) لجهالة حال أبي وهب والضحاك.

(1/471)


الضحاك بن فَيروزٍ عن أبيه قال: أسلمتُ وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلِّق إحداهما. وفي لفظ للترمذي: "اختَرْ أيتَهما شئتَ". قال الإمام أحمد (1): حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفرٍ قالا: حدثنا معمرٌ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوةٍ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اختَرْ منهن أربعًا". فلما كان في عهد عمر طلَّق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فقال: إني لأظنُّ الشيطان فيما يسترِقُ من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك أن لا تمكثَ إلا قليلًا، وايمُ اللهِ لتُراجعَنَّ نساءَك ولتَرجعَنَّ في مالك، أو لأُورِثهن ولآمرنَّ بقبرك فيُرجَم كما رُجم قبر أبي رِغالٍ. _________ (1) في "المسند" (4631)، وأخرجه أحمد أيضًا (4609) والترمذي (1128) وابن ماجه (1953) وابن حبان (4156، 4157) والحاكم (2/ 192، 193)، من طرق عن معمر به. وقد أعلَّه أحمد (كما سيأتي) والبخاري (كما نقله الترمذي عنه) وأبو زرعة والدارقطني، فقالوا: الصحيح من رواه عن الزهري مرسلًا أنَّه بلغه ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1199) وللدارقطني (2997).

(1/472)


قال أحمد (1): حدثنا محمد بن جعفرٍ، ثنا معمرٌ، أخبرنا ابن شهابٍ الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه قال: أسلم غيلان بن سلمة، وتحته عشر نسوةٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتّخِذْ (2) منهن أربعًا". وقال أبو بكر بن أبي شيبة (3): حدثنا عبد السلام، حدثنا إسحاق بن عبد الله، عن أبي وهبٍ الجيشاني، عن أبي خِراشٍ (4) الرُّعيني، عن الديلمي قال: قدمتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي أختان تزوَّجتُهما في الجاهلية، فقال: "إذا رجعتَ فطلِّقْ إحداهما". ورواه الشالَنْجي (5)، عن الضحاك بن فيروزٍ، عن أبيه قال: أسلمتُ وعندي امرأتان أختان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اختَرْ إحداهما". _________ (1) أسنده الخلال في "الجامع" (1/ 252) عن عبد الملك الميموني عنه. تنبيه: وقع في طبعتَي "الجامع": "أخبرني عبد الملك قال: حدثنا حنبل ... ". الصواب: "ابن حنبل"، أي: أحمد كما عند المؤلف هنا، وله نظائر في "الجامع" نفسه. ثم إن عبد الملك لا يروي عن حنبل بن إسحاق، ولا أدرك حنبلٌ محمد بن جعفر. (2) في الأصل: "خذ". والمثبت من "الجامع". (3) أسنده الخلال في "الجامع" (1/ 255) عن المروذي عن ابن أبي شيبة به، وهو في "المصنف" (17466). وهذا الإسناد واهٍ، إسحاق بن عبد الله هو ابن أبي فروة، متروك الحديث، وقد خالفه غيرُه فرواه عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه، كما تقدَّم. (4) في المطبوع: "ابن خراش" خطأ. (5) لم أجد روايته فيما بين يدي من المصادر.

(1/473)


وفي "المسند" (1) من حديث قيس بن الحارث قال: أسلمتُ وتحتي ثمان نسوةٍ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له ذلك فقال: "اختَرْ منهن أربعًا". وحديث غيلان قد رواه الإمام أحمد والشافعي (2) ومالك (3)، لكنْ مالك أرسله عن الزهري، ومعمر وصله. وحكم الناس لمالك في إرساله، وغلَّطوا معمرًا في وصله، وقالوا: هو غير محفوظٍ (4). قال الأثرم (5): ذكرت لأبي عبد الله الحديث الذي رواه البصريون [عن معمر] عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوةٍ، _________ (1) كذا، وليس فيه ولم أجد من عزاه إليه. وقد أخرجه أبو داود (2241) وابن ماجه (1952) وأبو يعلى (6872) والدارقطني (3690) وغيرهم من طريقين ــ كلاهما ضعيف ــ عن حُميضَة بن الشَّمَرْدَل، عن قيس بن الحارث، وقيل: الحارث بن قيس. وحميضة مجهول، ولكنه توبع، تابعه رجل (وقد اختلف في اسمه) من ولد الحارث بن قيس قال: أسلم جدِّي وعنده ثمان نسوة ... إلخ، أخرجه البخاري في "التاريخ" (2/ 262) والدارقطني (3692، 3693) والبيهقي في "السنن" (7/ 183، 184) من طريق المغيرة بن مقسم الضبي عنه. والحديث حسَّنه الألباني في "الإرواء" (1885) بمجموع طرقه وشواهده. (2) تقدمت رواية أحمد. وأخرجه الشافعي في "الأم" (5/ 650، 6/ 420) قال: أخبرنا الثقة ــ قال الربيع: أحسبه ابن علية ــ عن معمر موصولًا. ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "السنن" (7/ 181) و"الخلافيات" (6/ 98). (3) في "الموطأ" (1717). (4) انظر: "المغني" (10/ 15)، و"مجموع الفتاوى" (32/ 318). (5) كما في "الجامع" للخلال (1/ 252). والزيادة منه.

(1/474)


أصحيح هو؟ قال: لا ما هو صحيح. قال مهنا (1): سألت أحمد عن حديث معمرٍ عن الزهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوةٍ، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه. كان عبد الرزاق يقول (2): عن معمرٍ، عن الزهري مرسلًا. وقال مسلم بن الحجاج (3): هذا الحديث رواه معمر بالبصرة متصلًا هكذا، فإن رواه عنه ثقةٌ خارج البصريين حكمنا له بالصحة، أو قال: صار الحديث صحيحًا (4)، وإلا فالإرسال أولى. قال البيهقي (5): فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن _________ (1) المصدر نفسه (1/ 253). (2) كما في "المصنف" (12621). ورواية عبد الرزاق ــ وهو صنعاني ــ عن معمر أصحُّ مِن رواية مَن رواه عنه بالبصرة موصولًا، وذلك ــ كما قال أحمد وغيره ــ أن معمر كان يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن، بخلاف حديثه بالبصرة ففيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه. انظر: "شرح العلل" لابن رجب (2/ 766). (3) كما في "المستدرك" (2/ 192) و"الخلافيات" (6/ 98). (4) في الأصل: "حديثًا". (5) في "الخلافيات" (6/ 98) متابعًا في ذلك كلام شيخه في "المستدرك" (2/ 192)، ثم أسند مرويات هؤلاء الثلاثة من طريق الحاكم. قلتُ: ولا يفيد كونهم كوفيين شيئًا لأنهم سمعوه منه بالعراق، لا باليمن حيث كان يحدِّث من كتبه على الصحة. انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 168).

(1/475)


محمد وعيسى بن يونس ــ وثلاثتهم كوفيون ــ حدَّثوا به عن معمر متصلًا. قال (1): ورواه يحيى بن أبي كثيرٍ وهو يمامي، عن (2) الفضل بن موسى وهو خراساني؛ عن معمرٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصحَّ الحديث بذلك، والله أعلم. وقد قال النسائي (3): ثنا عمرو بن يزيد (4) الجَرْمي، ثنا سيف بن عبيد الله، ثنا سرَّار (5) بن مُجَشِّرٍ، عن أيوب، عن نافعٍ وسالمٍ، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوةٍ، فأسلم وأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا. قال البيهقي: قال لنا أبو عبد الله: رواة هذا الحديث كلهم ثقاتٌ تقوم بهم الحجة. وقال أبو علي الحافظ: تفرد به سرَّار بن مجشِّرٍ، وهو بصري ثقةٌ. _________ (1) في "الخلافيات" (6/ 100) تبعًا "للمستدرك" (2/ 193). (2) كذا في النسخة، وهو خطأ، إذ ليس يرويه يحيى بن أبي كثير عن الفضل بن موسى، بل الرواية عن كليهما عن معمر به. وسياق البيهقي: "وروي عن يحيى ... وعن الفضل ... ". وقد أخرج الحاكم (2/ 193) الحديث من طريقيهما. (3) من طريقه أخرجه البيهقي في "الخلافيات" (6/ 100)، وليس في "سننه". وأخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط" (1701)، والبيهقي (7/ 183) من طريق عمرو به. وأعلَّه الطبراني والدارقطني بأنه غريب من حديث أيوب، تفرَّد به سرَّار بن مجشر عنه، وتفرَّد به سيف بن عبيد الله عن سرَّار. انظر: "أطراف الغرائب والأفراد" (3/ 435). (4) في الأصل: "يزيد بن عمرو" وهو خطأ. (5) في المطبوع: "سوَّار" تحريف.

(1/476)


وبالجملة، فشهرة القصة تُغني عن إسنادها، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خيَّره، ولم يُفرِّق بين الأوائل والأواخر ولم يستفصله، ولو اختلف الحال لتعيَّن الاستفصال، فإن الرجل حديثُ عهدٍ بالإسلام، غير عارفٍ بشرائع الأحكام وتفاصيل الحلال من الحرام، فجعل الاختيار إليه، ولم يَحْجُر في ذلك عليه. قال المنازعون: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بُريدة ومعاذٍ وغيرهما الأمرُ بدعاء الكفار إلى أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، والمسلم ليس له أن يتزوج أكثرَ من أربع، والأختين في عقد واحدٍ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌ" (1)، وهذا نصٌّ في المسألة قاطعٌ للنزاع. قالوا: ونكاح الخمس في عقد واحدٍ لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع، فكان باطلًا كنكاح ذوات المحارم. قالوا: ولا يرِدُ علينا النكاح بغير شهودٍ ولا ولي، والنكاح في العدة؛ لأن ذلك يمنع الابتداء دون البقاء. قالوا: وليس تحريم الخامسة من جهة الجمع، فلم يختلف فيه حال الابتداء والاستدامة، والإسلام والكفر، كعقد المرأة على زوجين. قالوا: ولو باع ذميٌّ درهمًا بدرهمين، ثم أسلم قبل القبض لم يُخيَّر في أحد الدرهمين، كذلك إذا أسلم وتحته أختان يجب أن لا يخيَّر في إحدى _________ (1) أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "من عمل عملًا ليس ... ".

(1/477)


الأختين، وبأن العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تقولوا: إنه صحيح أو فاسدٌ، ولا يجوز أن يقال: إنه صحيح، إذ لو كان كذلك لم يجز نقضُه بعد الإسلام، فثبت أنه فاسدٌ، وإذا كان فاسدًا لم يصحِّحه الإسلام، كنكاح ذوات المحارم. قالوا: ولأنه عقد على عددٍ محرمٍ، فلا يثبت فيه التخيير، كعقد السلم. قالوا: وأما الحديث، فنحن أول آخذٍ به، إذ المراد بقوله: "اختَرْ منهن أربعًا" تعقد عليهن عقدًا جديدًا. وكذلك قوله في الأختين: "اختَرْ أيتَهما شئتَ"، إنما هو تخيير ابتداءٍ لا تخيير استدامةٍ، لما ذكرنا من الأدلة. ولو كان تخيير استدامةٍ لاحتملَ أن يكون غيلان عقد عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع، وذلك في أول الإسلام، فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء وهي مدنيةٌ بالاتفاق. سلَّمنا انتفاء ذلك، فيجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم صورة الحال، وأنه تزوجهن في عقد واحدٍ، فأمره أن يختار منهن أربعًا يبتدئ نكاحهن، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء هذا. قال المصححون: الآن اشتدَّ اللزام، واحتدَّ الخصام، ووجب التحيُّز إلى فئة الحديث الذين قصْدُهم الانتصار له، أين كان ومع من كان. قالوا: أما احتجاجكم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأَعْلِمْهم أن لهم ما للمسلمين" (1) فما أصحَّه من حديث! وما أضعَفَه من استدلالٍ! وهل نازع في هذا مسلم _________ (1) أخرجه النسائي (8627) من حديث بريدة، وأصله في "صحيح مسلم" (1731) بمعناه.

(1/478)


حتى تحتجون (1) عليه به؟ وهكذا نقول نحن وكل مسلم: إن الرجل إذا أسلم فحينئذٍ يصير له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وأما قبل ذلك فلم يكن كذلك. فالحديث حجةٌ عليكم، فإنه لم يقل: أخبِرْهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام. والذي على المسلم: أنه لا يُمكَّن من العقد على أختين ابتداءً ولا استدامةً. وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - "كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وليس أمره - صلى الله عليه وسلم - على الجمع بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع، فلذلك كان ردًّا بالإسلام، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إن ما كان في الجاهلية مما يخالف أمري ومضى وانقضى فهو ردٌّ، وإنما يُردُّ منه ما قام الإسلام وهو على خلاف أمره، وهكذا فعلَ سواءً، فإنه أبطل نكاح إحدى الأختين وما زاد على الأربع إذ ذلك خلاف أمره، وجعل الخيرةَ في المُمْسَكات إلى الزوج، وهذا نفس أمره، فما خالف هذا وهذا فهو ردٌّ، فالحديث حجةٌ على بطلان قولكم، وبالله التوفيق. وأما قولكم: إن نكاح الخمس في عقد واحدٍ لا يختلف فيه حكم الابتداء والدوام، فكان باطلًا كنكاح ذوات المحارم، فجوابه من وجوهٍ: أحدها: أن تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح، والزيادة يمكن إبطالها دون النصاب، فإن المفسدة تختص بها، فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب، فإن في ذلك إضرارًا به وتنفيرًا له عن الإسلام من غير مصلحةٍ، وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على _________ (1) كذا في الأصل بإثبات النون.

(1/479)


النصاب، فيبقى النكاح في حق الأربع صحيحًا، فهذا محض القياس، كما أنه مقتضى السنة. وهذا بخلاف نكاح ذوات المحارم، فإن المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان النكاح، لقيام سبب التحريم. الوجه الثاني: أن تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز، وإلا فكلُّ واحدةٍ منهن لو انفردت صح العقد عليها، بخلاف تحريم ذوات المحارم، فإنه ثابتٌ لذاتها وعينها، فقياس أحد النوعين على الآخر فاسدٌ. الوجه الثالث: أن تحريم الزائد على الأربع أخفُّ من تحريم ذوات المحارم، ولهذا أبيح لنبينا - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع، ولم تُبَحْ له ذوات المحارم، فلا يصح اعتبار أحد النوعين بالآخر. ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع، بل إلى حاله عند الإسلام، ولهذا قد ساعدتم (1) على أنه لو تزوجها بغيرٍ ولي ولا شهودٍ ولا مهرٍ، أو في عدةٍ ثم انقضت، أو بغير تراضٍ= لم يُبطله الإسلام، فكذلك إذا عقد على خمسٍ لم نُبطله بالإسلام، وإنما يبطل الزائد على النصاب. وأما قولكم: إن تحريم الزائد على الأربع إنما كان من جهة الجمع، فلم يفترق الحال فيه بين الابتداء والاستدامة، كعقد المرأة على زوجين= فما أفسدَه من قياسٍ! فإن هذا مما لم تختلف فيه الشرائع ولا الطبائع، ولا تُسوِّغه أمةٌ من الأمم على اختلاف أديانها وآرائها. وأما الجمع بين الأختين وبين _________ (1) كذا في الأصل.

(1/480)


أكثر من أربع فقد كان جائزًا في بعض الشرائع، كما قال تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَينِ إِلَّا مَا قَد سَّلَفَ} [النساء: 23]، والجمع بين أكثر من أربع قد فعله داود وسليمان وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وبالجملة، فعقدُ الرجل على أكثر من امرأةٍ مصلحةٌ راجحةٌ، وعقدُ المرأة على أكثر من رجل مفسدةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، فاعتبار أحدهما بالآخر فاسدٌ عقلًا وطبعًا وشرعًا. وأما قولكم: لو باع ذميٌّ درهمًا بدرهمين ثم أسلم لم يُخيَّر في أحد الدرهمين، كذلك لا يُخيَّر في الأختين= فما أفسده من قياسٍ! فإن الصرف إذا لم يقبض لم يلزم في العقد إن قبض ثم أسلم أن يفسخ (1) العقد، فإنهم إذا تعاقدوا عقود الربا وتقابضوا ثم أسلموا لم نفسخها، وإن لم يتقابضوا لم نُمْضِها. وهكذا النكاح، فإنه إذا اتصل به الدخول، وسبب التحريم قائمٌ= أبطلناه، وإن كان قد انقضى لم نَعرِضْ له. وإنما لم نخيِّره في أحد الدرهمين، وخيَّرناه في إحدى الأختين؛ لأنه لا فائدة له في تخييره في أحد الدرهمين، ولا غرضَ له في ذلك ولا مصلحة، بخلاف تخييره بين إحدى الأختين. على أنه لا يمتنع أن يُخيَّر العقد في درهم بدرهمٍ، ويجعل له الخيار في أيهما شاء، فنفيُ الحكم في ذلك غير معلومٍ بنصٍّ ولا إجماعٍ. وأما قولكم: العقد على الخمس في حال الشرك إما أن يقع صحيحًا أو فاسدًا ... إلى آخره، فجوابه من وجهين: _________ (1) في الأصل: "لم يفسخ". والمثبت يقتضيه السياق.

(1/481)


أحدهما: أنه صحيح في الجميع، فإذا أسلم فسخ العقد في إحداهن. هذا جواب القاضي أبي يعلى. قال: وقد نصَّ أحمد على هذا: إذا تزوج الحربي أمًّا وبنتًا، ثم أسلم قبل الدخول، انفسخ نكاح الأم (1). قال: وهذا يدلُّ على أنه قد صحَّ النكاح في البنت حتى صارت هي من أمهات النساء فحرمت عليه، ولو لم يكن صحيحًا فيهما كان له أن يختار أيهما شاء، لأنها لم تكن من أمهات النساء، والجمع بين الأم والبنت في العقد كالجمع بين خمسةٍ. قال: وإنما حكمنا بصحة العقد في الجميع؛ لأن له أن يختار الخامسة بعد إسلامه، ويستديم نكاحها على حديث غيلان وغيره، ولا يجوز أن يستديم نكاحًا حكمنا بفساده. وقولكم (2): إنه لو كان صحيحًا لم يجز تغييره ونقضه بعد الإسلام، كما لو عقد على أربع لا يصح؛ لأن الإسلام لا يغيِّر ما يطابق حكم الإسلام، وما زاد على الأربع يخالف حكمه، فلهذا غيَّره، كما لو تعاقدا (3) عقدَ صرفٍ وأسلما قبل التقابض حكمنا بفساده، وإن كان الصرف في الجملة جائزًا. _________ (1) انظر: "الروايتين والوجهين" (2/ 238)، و"الإرشاد" (ص 286)، و"الهداية" للكلوذاني (ص 401)، و"شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (5/ 153). (2) في الأصل: "وقولهم". (3) في الأصل: "تعاقدوا".

(1/482)


ولأنه لو أسلم الوثني قبل الدخول انفسخ النكاح بعد الحكم بصحته. ولأن تغييره بعد الإسلام إنما هو إلزامٌ، ولا يمتنع أن يوجب الإسلام إزالة أشياء لم تكن حال الكفر، كالعبادات. وعندي جوابٌ آخر: وهو أن العقد الذي وقع في حال الكفر ــ على هذا الوجه ــ لا يُحكم له بصحةٍ ولا فسادٍ، بل يُقَرّون عليه كما يقرّون على كفرهم، فإن استمرُّوا على الكفر لم نتعرض لعقودهم، وإن أسلموا حُكِم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانَه من حين الإسلام، لا قبل ذلك، كالحكم في سائر عقودهم من بياعاتهم وغيرها، فما كان قبل الإسلام فهو عفوٌ لا نحكم له بأحكام الإسلام، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ ءَامَنُوا اُتَّقُوا اُللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبَوا} [البقرة: 277]، فأمر بترك ما بقي دون ردِّ ما قبض، ولم يكن صحيحًا بل كان عفوًا، كما قال سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 274]، فجعل له ما سلف من الربا وإن لم يكن مباحًا له، وكذلك سائر العقود له ما سلف منها، ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام. وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب جميعه، فإنه تعالى لم يُبطِل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه، وأمر بالتزام شرعه من حين قام الشرع. ومن تأملَ حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب أنكحة الكفار إذا أسلموا عليها وجده مشتقًّا من القرآن مطابقًا له. وأما قولكم: إنه عقد على أكثر من أربع، فلم يصح فيه التخيير كعقد السلم= فهل في القياس أفسدُ من هذا؟ وهل يمكن أحدًا أن يطرد هذا القياس

(1/483)


فيفسخَ كلَّ نكاحٍ وقع في الشرك، وكلَّ بيعٍ وكل إجارةٍ وكل عقدٍ لم يستوفِ شروطه في الإسلام، كالنكاح بلا ولي ولا شهودٍ ولا مهرٍ، وكلَّ عقد فاسدٍ وقع فيه التقابض؟! وأما قولكم: إنكم أول من أخذ بالحديث= فكلَّا، بل أول من تلطَّف في ردِّه بما لا يُردُّ به، وما تأولتم به الحديث من أن المراد به تخييره في ابتداء العقد على من شاء منهن= باطلٌ لوجوهٍ: أحدها: قوله في بعض ألفاظه: "أمسِكْ أربعًا وفارِقْ سائرهن"، وهذا يقتضي إمساكهنَّ بالعقد الأول، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 227]، ولا يُعقل الإمساك غير هذا. فإن قلتم: يعني "أمسِكْ أربعًا منهن": تزوَّجْ أربعًا، خرج اللفظ عن القياس إلى الإلغاز واللبس الذي يتنزَّه عنه كلام المبيِّن عن الله. الثاني: أنه جعل الإمساك والاختيار [إليه] (1)، ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه؛ لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن. الثالث: أنه أمره بالاختيار، وذلك واجبٌ عليه، ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه. ولهذا لو أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم، فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجبٌ عليه. _________ (1) زيادة ليستقيم المعنى.

(1/484)


الرابع: أن هذا التأويل لا يصحُّ عندكم إلا إذا كان قد تزوَّجهن (1) في عقد واحدٍ، فأما إذا تزوجهن بعقودٍ متفرقةٍ، فإنه يصح نكاح الأربع الأول ويبطل نكاح من عداهن، وحينئذٍ فيكون المراد من الحديث: إذا كنتَ قد تزوَّجتَهن في عقد واحدٍ فنكاح الجميع باطلٌ، ولك (2) أن تتزوج أربعًا منهن. ومعلومٌ أن هذا لا يُفهم أصلًا من قوله: "اختَرْ أربعًا، وفارِقْ سائرهن"، ولا يَفهم المخاطب ولا غيره هذا المعنى من هذا اللفظ البتةَ. الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل هذا الحديثَ العهدِ بالإسلام الجاهلَ بالأحكام عن كيفية عقده، ولا استفصلَه. السادس: ما رواه الشافعي (3) عن عوف (4) بن الحارث، عن (5) نوفل بن معاوية الدِّيلي (6) قال: أسلمتُ وعندي خمسُ نسوةٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمسِكْ أربعًا، وفارق الأخرى" فعمَدتُ إلى أقدمهن صحبةً: عجوزٍ عاقرٍ معي منذ ستين سنةً، ففارقتُها. ففهم المخاطب من هذا اللفظ حقيقته، _________ (1) في الأصل: "تزوجها". (2) في الأصل: "وذلك". والمثبت يقتضيه السياق. (3) في "الأم" (6/ 421)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (6/ 105). وفي إسناده لين لإبهام شيخ الشافعي في الإسناد. (4) في المطبوع: "عمرو" وهو خطأ. وأبعد المحقق النجعة في التعليق عليه، ولو راجع "الأم" لتبيَّن له الأمر. (5) في الأصل: "بن" خطأ. (6) في الأصل: "الديلمي"، تحريف.

(1/485)


وعمل بها. السابع: أنه قال للذي أسلم على أختين: "طلِّقْ أيتَهما شئتَ"، وهذا لا معنى له على قول المنازع، فإنه إن تزوَّج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الثانية باطلٌ، وليست محلًّا للطلاق، وإن تزوَّجهما معًا فنكاحهما عنده باطلٌ، وليست واحدةٌ منهما محلًّا للطلاق. الثامن: أن في بعض طرق الحديث: "أمسِكْ إحداهما"، وهذا على قولكم لا يتأتى، فإنه إن جمعهما في عقد لم يكن له سبيلٌ على واحدةٍ منهما حتى يمسكهما، وإن سبق عقد إحداهما الأخرى كان الواجب عندكم أن يقال: أَمسِكِ الأولى دون الثانية، وهذا لا يصح أن يعبَّر عنه بقوله: "أمسِكْ إحداهما" و"أيتَهما شئتَ". وأما قولكم: إن هذا يجوز أن يكون في الوقت الذي كان يجوز فيه العقد على أكثر من أربع، فجوابه من وجوهٍ: أحدها: أنه لا يُعلم أنه كان العقد على أكثر من أربع جائزًا في وقتٍ من الأوقات في الإسلام، لا قبل الهجرة ولا بعدها، ولو كان ذلك لنُقِل مع ما نُقِل من الناسخ والمنسوخ، ولم ينقل أحدٌ هذا قطُّ. فإن قيل: نحن لم ندَّعِ أن ذلك أبيح لفظًا ثم نُسِخ، بل كان على أصل الإباحة والعفو حتى حرَّمه القرآن. قيل: هذا لا يصح، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله،

(1/486)


وعكسُ هذا العقودُ والمطاعم، الأصل فيها الصحة والحلُّ إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه، وهذا تقرر في موضعه. الثاني: أن هذا لو كان مشروعًا أو مباحًا إباحةَ العفو لكان في المسلمين ولو رجل واحدٌ يفعله في الإسلام قبل التحريم، مع حرصهم على النكاح والاستكثار منه. ألا ترى أنهم فعلوا المتعة لما كانت مباحةً، وشرب الخمر منهم من شربها قبل التحريم. الثالث (1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله عن وقت العقد: هل كان قبل التحريم أو بعده؟ كما لم يسأله عن كيفيته. الرابع (2): أن هذا لا يصح على أصول المنازع، فإن أبا حنيفة قال: إذا تزوج الحر بأربع نسوةٍ ثم استرقَّ، فإنه يبطل نكاحهن، ومعلومٌ أنه إنما حرم عليه نكاح ما زاد على الثنتين بالاسترقاق، ونكاح الأربع وقع في الوقت الذي كان يجوز له فيه نكاحهن، فكان يجب ــ على ما ذكروا من التأويلات ــ أن يختار منهن اثنتين؛ لأنه عقد على أربع في حالٍ كان ذلك مباحًا له فيها، ثم ورد التحريم. وهذه المسألة ذكرها محمد بن الحسن في "الجامع الكبير" (3). وأما قولكم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون علم الحال، وأنه تزوجهن في عقد واحدٍ، فخيَّره بين أربع يبتدئ نكاحهن= فهو باطلٌ من الوجوه التي _________ (1) في الأصل: "الثاني". (2) في الأصل: "الثالث". (3) لم أجدها في مطبوعته.

(1/487)


تقدمت. ونزيد هاهنا وجهًا آخر: وهو أن ذلك يتضمن تعليق الحكم على غير السبب المذكور في الحديث، وإلغاء السبب الذي ذكر فيه، وهذا باطلٌ من الوجهين جميعًا، فإنه إنما علّق الاختيار بكونه أسلم على أكثر من أربع، وعندكم الاختيار إنما علّق على اجتماعهن في عقد واحدٍ لو كان اختيارًا. وبالله التوفيق. فإن قيل: ما تقولون لو أسلم وتحته أمٌّ وبنتها؟ قيل: إن أسلم قبل دخوله بواحدةٍ منهما فسد نكاح الأم، لأنها صارت من أمهات نسائه، وثبت نكاح البنت لأنها ربيبةٌ غير مدخولٍ بأمها. هذا مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي، اختاره المزني (1). وقال في القول الآخر: له أن يختار أيتهما شاء؛ لأن عقد الشرك إنما يثبت له حكم الصحة إذا انضم إليه الاختيار، فإذا اختار الأم فكأنه لم يعقد على البنت، فلا تكون من أمهات نسائه. والمنازعون له ينازعونه في هذه المقدمة ويقولون: أنكحة الكفار صحيحةٌ يثبت لها أحكام الصحة، ولذلك لو انفردت إحداهما بالنكاح كان صحيحًا لازمًا من غير اختيارٍ، ولهذا فُوِّض إليه الاختيار هاهنا، ولا يصحُّ أن يختار من ليس نكاحها صحيحًا. _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 23). والكلام على هذه المسألة هنا مأخوذ منه.

(1/488)


قالوا: وقد قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، وهذه من (1) أمهات نسائه، فتكون محرمةً. قالوا: ولأنها أمُّ (2) زوجته فتحرم عليه، كما لو طلَّق ابنتها في حال الشرك. ولأنه لو تزوَّج البنتَ وحدها ثم طلقها حرمتْ عليه أمُّها إذا أسلم، فإذا لم يُطلِّقها وتمسَّك بنكاحها فأولى بالتحريم. وإنما اختصَّت الأمُّ بفساد نكاحها لأنها تحرم بمجرد العقد على البنت، فلم يمكن اختيارها، والبنت لا تَحرُم قبل الدخول بأمها، فيتعيَّن النكاح فيها. فصل (3) وإن كان قد دخلَ [بهما] (4) حَرُمَتا على التأبيد: أما الأم فلكونها أم زوجته، وأما البنت فلأنها ربيبته من زوجته التي دخل بها. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من يُحفظ عنه من أهل العلم. وكذلك إن كان دخل بالأم وحدها؛ لأن البنت ربيبتُه المدخولُ بأمها، والأم حرمت بمجرد العقد على البنت. وإن دخل بالبنت وحدها ثبت نكاحها وفسد نكاح أمها، كما لو لم _________ (1) في الأصل: "هي" بدل "من". (2) "أم" ساقطة من المطبوع. وهي مثبتة في الأصل و"المغني"، وبها يستقيم المعنى. (3) اعتمد المؤلف فيه على "المغني" (10/ 24). (4) زيادة من "المغني".

(1/489)


يدخل بهما. ولو أسلم وله جاريتان إحداهما أمُّ الأخرى، وقد وطئهما جميعًا حرمتا عليه على التأبيد، وإن كان قد وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد ولم تحرم الموطوءة، وإن كان لم يطأ واحدةً منهما فله وطءُ أيَّتِهما شاء، فإذا وطئها حرمت الأخرى على التأبيد. فصل فإن طلَّق إحداهما أو طلَّق ما زاد على الأربع (1) ثبت النكاح في غير المطلَّقة، وكانت المطلَّقة هي المفارقة. ذكره شيخنا (2)، وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي. وقال الأصحاب: تكون المطلقة هي المختارة، وينفسخ نكاح البواقي، وهذا الذي قاله أصحاب الشافعي، وأظنه نصه. وقاله أصحاب مالك، ولكنه غير منصوصٍ عنه. وحجتهم أن الطلاق لا يكون إلا في زوجةٍ (3)، قالوا: فتطليقه لها اختيارٌ لها، ويقع عليها الطلاق لأنها زوجةٌ، وقد أوقع عليها الطلاق، فتطلَّق، وينفسخ نكاح البواقي باختيار المطلَّقات. قال القاضي (4): فإذا قال: أمسكتُ هذه، أو أمسكتُ نكاحها، أو _________ (1) في الأصل: "الأربعة". (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 302). (3) انظر: "المغني" (10/ 17). (4) لم أجد كلامه فيما رجعت إليه من المصادر.

(1/490)


اخترتُها، أو اخترتُ نكاحها= لزم نكاحها وانفسخ نكاح من عداها. وإن قال: فسختُ نكاح هذه أو عقْدَها، أو أخرجتُها من حِبالي، أو تركتها، ونحو ذلك= كان ذلك فراقًا لها. فإن قال: فارقتُها، أو فارقتُ عقدها، أو سرَّحتُها= احتمل أن يكون فسخًا؛ لأنه يحتمله، فتَبِين منه ويبقى نكاح البواقي. واحتمل أن يكون اختيارًا لها، ويقع الطلاق؛ لأنه صريحٌ في الطلاق. وإن قال: طلَّقتُ هذه كان ذلك اختيارًا لنكاحها وطلاقًا؛ لأن الطلاق لا يوقع إلا في زوجةٍ، فتطليقه لها [يكون] اختيارًا وتطليقًا. فإن وطئ واحدةً فقياس المذهب أنه يكون اختيارًا لها؛ لأنه قد نصّ على أن الوطء يكون رجعةً؛ لأن الوطء يدل على الرضا بها، فحصل بذلك الإمساك. ولهذا قلنا في الأمة إذا أعتقت تحت عبدٍ: لها الخيار، فإن وطئها قبل الخيار بطل خيارها؛ لأن تمكينها يدلُّ على الرضا، وكذلك إذا خيَّرها ثم وطئها كان وطؤها قطعًا لخيارها؛ لأنه يدل على الرغبة فيها والرجوع في طلاقها، خلافًا لأصحاب الشافعي: لا يكون الوطء اختيارًا لأنه لم يوضع لذلك، وكذلك لا تحصل به الرجعة. والدليل على أن الوطء اختيارٌ: أنه يوجب الاختيار باللفظ ومقصودِه ومآلِه، فهو أقوى من مجرد قوله: اخترتها؛ لأن قوله: "اخترتها" جعل اختيارًا لدلالته على إيثاره لها ورضاه بها، فوطؤها أقوى في الدلالة من مجرد اللفظ. ولهذا كان الوطء رجعةً عند جمهور العلماء، وإنما نازع فيه الشافعي وحده. إذا عُرِف هذا فالصواب أن تطليق إحداهن لا يكون اختيارًا لها، بل اختيارًا لغير المطلقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال للديلمي: "طلِّقْ إحداهما" لم يُرِد

(1/491)


بهذا: أمسِكْها، ولا فَهِم هو إمساكها من هذا اللفظ، ولا فهمه أحدٌ من أهل التخاطب، وإنما فهم من قوله: "طلِّقْ أيتَهما شئتَ" مفارقتَها وإخراجها عنه وإمساك الأخرى، ولو كان قوله: "طلِّق أيتهما شئتَ" (1) اختيارًا لها لنفذ الطلاق عليها، وانفسخ نكاح الأخرى بأنه لم يخترها (2)، فيكون أمرًا له بإرسال الاثنتين: هذه بالتطليق، والأخرى باختيار غيرها. وقد صرَّح به أصحاب هذا القول فقالوا: لا يكون الطلاق إلا في زوجةٍ، ففي ضمن تطليقه لها اختيارٌ (3) منه لها، فينفذ الطلاق وتنقطع العصمة بينه وبين البواقي. وهذا باطلٌ قطعًا، وكيف يكون الطلاق الذي جُعل لرفع النكاح وإزالته وحلِّ قَيْدِه دالًّا على ضدِّ موضوعه من الإمساك والاختيار؟! وهل هذا إلا قلب الحقائق! وهو بمنزلة جعل الإمساك والاختيار دليلًا على الفراق والطلاق، وأي فرقٍ حقيقةً أو لغةً بين قوله: أرسلتُكِ، وسيَّبتكِ، وأخرجتُكِ من نكاحي، وطلقتُكِ؟! وقولهم: إن الطلاق لا يكون إلا في زوجةٍ، فجوابه من وجوهٍ: أحدها: أن الطلاق المضاف إلى زوجةٍ لا يكون إلا في زوجةٍ، وأما الطلاق الذي هو عبارةٌ عن اختيار غير المطلقة، وإخراج المطلقة عن نكاحه فلا يلزم أن يصادف زوجةً. _________ (1) "مفارقتها وإخراجها ... أيتهما شئت" ساقطة من طبعة رمادي. (2) في الأصل: "لم يختارها". (3) في الأصل: "اختيارًا".

(1/492)


الثاني: أن الطلاق هاهنا كنايةٌ عن التسيُّب والإرسال، فهو بمنزلة قوله رغبتُ عنك وأرسلتُك، فهو طلاقٌ مقيَّدٌ بقيد القرينة، وهي من أقوى القرائن. الثالث: أنه كيف يمكن أن يقول هذا القول من يقول: إن أنكحة الكفار صحيحةٌ؟ ولهذا قال: ينفذ الطلاق في المطلقة، وإذا كانت صحيحةً فطلق واحدةً صارت كأنها لم يعقد عليها، وصار البواقي هن المعقود عليهن، فكأنه أسلم وتحته أربع أو إحدى الأختين فقط. فإن قيل: بالإسلام زال صحة نكاح الجميع، فلا يمكن أن يقال: نكاح الخمس صحيح بعد إسلامه، ولا يُحكم ببطلان نكاحهن، فإذا طلق واحدةً علمنا أنها حينئذٍ زوجةٌ، ومن ضرورة كونها زوجةً بطلانُ نكاح من عداها، فإذا كان تحته ثمان فطلق أربعًا علمنا أنهن حين الطلاق زوجاته، فبالضرورة يكون نكاح من عداهن مفسوخًا، إذ لا يمكن أن يكون حالَ الطلاق نكاحُ الثمان صحيحًا. قيل: هذه الشبهة التي لأجلها قالوا: إن الطلاق يكون اختيارًا. وجواب هذه الشبهة أن النكاح بين الإسلام والاختيار موقوفٌ لم ينفسخ بنفس الإسلام، ولا بقي صحيحًا لازمًا، إذ لو انفسخ بنفس الإسلام لم يختر، وهذا واضحٌ. ولهذا له أن يُمسك من شاء من الثمان إلى تمام النصاب، فما منهن واحدةٌ إلا والنكاح في حقها صحيح إذا اختارها، وباطلٌ إذا أخرجها عن عصمته، فالطلاق صادف هذه الزوجة الموقوفة، ولا يلزم منه اجتماع الثمان في الإسلام في عقد لازمٍ، وليس المحذور سوى ذلك.

(1/493)


فصل واختلاف الدارين لا يوقع الفرقة، وإنما التأثير لاختلاف الدين. قال أحمد في رواية ابن القاسم (1): الزوجان على نكاحهما ما دامت في العدة، فإذا أسلمت فهما على نكاحهما لا يُفرَّق بينهما. وكان الشافعي يحتج على أصحاب أبي حنيفة إذا أسلمت وهي في دار الحرب، ثم أسلم هو: أنها امرأته، وكذلك أقول. وقال أبو حنيفة (2): اختلاف الدارين يوقع الفرقة، فعنده إذا خرجت الحربية إلينا مسلمةً وخلفت زوجها في دار الحرب كافرًا وقد دخل بها (3) وقعت الفرقة بينهما في الحال. وقد تناظر الشافعي هو ومحمد بن الحسن ــ رحمهما الله تعالى ــ في هذه المسألة، وساق الربيع المناظرة (4)، فقال الشافعي: [إن] قال قائل: ما دلَّك على ذلك؟ قيل له: أسلم أبو سفيان بن حربٍ بمرِّ الظهران (5)، وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (1/ 265). (2) انظر: "المبسوط" (5/ 51)، و"فتح القدير" (3/ 291). (3) في الأصل: "بينهما". (4) في "الأم" (6/ 394 - 396). والزيادات بين المعكوفتين منه. (5) مرّ الظهران: موضع على مرحلة من مكة، بينهما خمسة أميال. انظر: "معجم البلدان" (5/ 104).

(1/494)


مقيمةٌ على غير الإسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيامٍ كثيرةٍ، وكانت كافرةً مقيمةً بدارٍ ليست بدار الإسلام يومئذٍ، وزوجها مسلم في دار الإسلام، وهي في دار حربٍ. ثم صارت مكة دارَ إسلام، وأبو سفيان بها مسلم، وهند كافرةٌ، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة، فاستقرَّا على النكاح؛ لأن عدتها لم تنقضِ حتى أسلمت. وكان كذلك حكيم بن حِزامٍ وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، فصارت دارهما دار الإسلام، وظهر حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حربٍ [وصفوان يريد اليمن وهي دار حربٍ،] ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام، وشهد حنينًا وهو كافرٌ، ثم أسلم، واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول [ورجع عكرمة وأسلم، فاستقرَّت عنده امرأته بالنكاح الأول،] وذلك أنه لم تنقض عدتها. فقلت له: ما وصفتُ لك من أمرِ أبي سفيان وحكيمٍ وأزواجهما [وأمرِ صفوان وعكرمة وأزواجهما] أمرٌ معروفٌ عند أهل العلم بالمغازي. وقد حفظ أهل المغازي أن امرأةً من الأنصار كانت عند رجل بمكة، فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، [فقدم زوجها] وهي في العدة، [فأسلم]، فاستقرَّا على النكاح. انتهى كلامه (1). وقد روى البخاري في "صحيحه" (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان _________ (1) أي كلام الشافعي. (2) برقم (5286) ومنه الزيادة.

(1/495)


المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: [كانوا] مشركي (1) أهل حربٍ يقاتلهم ويقاتلونه، [ومشركي أهل عهدٍ لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. وكان إذا] هاجرت (2) امرأةٌ من أهل الحرب لم تُخطَب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلَّ [لها] النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه. فهذا هو الفصل في هذه المسألة، وهو الصواب. وليس هذا الحيض هو العدة التي قدَّرها كثيرٌ من الفقهاء أجلًا لانقضاء النكاح، بل هو استبراءٌ بحيضةٍ تحلُّ بعدها للأزواج، فإن شاءت نكحت، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلام زوجها، فمتى أسلم فهي امرأته انقضت العدة أو لم تنقضِ. هذا الذي كان عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصواب بلا ريبٍ. قالت الحنفية: مَرُّ الظهران لم تكن صارت من بلاد الإسلام لأنها قريبةٌ من مكة، وهي كانت دار حربٍ، فكان حكم ما قرب منها حكمها إلى أن استولى النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة وقهر أهلَها وغلبهم، فصارت هي وما حولها من دار الإسلام، فثبت بهذا أن أبا سفيان أسلم في دار الحرب، فلم تختلف به وبامرأته الدارُ. قال الجمهور: أبو سفيان أسلم بمرِّ الظهران عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نزلها والمسلمون الذين معه وثبتتْ أيديهم عليها، وجرتْ أحكام الإسلام فيهم، وإذا كان كذلك كانت من دار الإسلام، وكانت في ذلك بمنزلة المدينة وسائر _________ (1) في الأصل: "مشركوا". والمثبت من البخاري. (2) في الأصل: "وإذا كانت إذا هاجرت". والمثبت من البخاري.

(1/496)


مدن الإسلام. قالت الحنفية: ولا حجة لكم في هروب عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح، وصفوان بن أمية إلى اليمن أو الطائف أو الساحل، حتى وافاهما نساؤهما، وأخذن (1) لهما الأمان، فإن مكة لما فُتحت صار ما قرب منها من دار الإسلام، فساحل البحر قريبٌ منها. والطائف وإن كانت دار كفرٍ إذ ذاك، فليس في القصة أنه وصل إليها بل قصدها، ولعله لم يخرج من دار الإسلام، ولم يصل إليها. وأما اليمن فإنها كانت قد صارت دار إسلام، وأقرَّ أهل الكتاب منهم بالجزية، وأما عبَّاد الأوثان فأسلموا على يد علي ومعاذٍ وأبي موسى، فلم تختلف الدار بين هؤلاء وبين نسائهم. قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجرِ عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصَقَها، فهذه الطائف قريبةٌ إلى مكة جدًّا، ولم تصر دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل. وأما اليمن فلا ريبَ أنه كان قد فشا فيهم الإسلام، ولم يستوثق كلّ بلادها بالإسلام إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن خلفائه، ولهذا أتوا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسالًا، وفتحوا البلاد مع الصحابة. وعكرمة لم يهرب من الإسلام إلى بلد إسلام، وإنما هرب إلى موضع يرى أن أهله على دينه. _________ (1) في الأصل: "وأخذا".

(1/497)


نزلنا عن هذا كله، فالذين أسلموا وهاجروا قبل فتح مكة لم يفرِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين نسائهم قطعًا مع اختلاف الدار قطعًا، ولو لم تكن الآثار متظافرةً بذلك لكان القياس يقتضي عدم التفريق باختلاف الدار، فإن المسلم لو دخل دار الحرب وأقام بها وامرأته مسلمةٌ، أو أقامت امرأة الحربي في دار الحرب، وخرج هو إلى دار الإسلام بأمانٍ لتجارةٍ أو رسالةٍ= فإن النكاح لا ينفسخ. فإن قلتم: الدار لم تختلف بهما هاهنا فعلًا وحكمًا، وإنما اختلفت فعلًا؛ لأن حكم المسلمة في دار الحرب حكمها في دار الإسلام، وكذلك حكم المسلم فعلًا. قيل لكم: إذا استوطنها كان من أهلها، ولهذا إذا قتله جيشُ المسلمين ولم يعلموا حاله لم تجب عليهم الدية؛ لأن الدار دار إباحةٍ، فلم يتعلق بالقتل وجوب الدية، ولو تعمّد قتل مسلم لم يجب عليه القود عندكم، ولكان الحربي إذا دخل إلينا مستأمنًا ثبت له حكم الدار، ولهذا من قتله وجبت عليه ديته، ولم يجز سبْيُه واسترقاقُه وأخذُ ماله. وأيضًا فالنكاح عقد من العقود، فلم ينفسخ باختلاف الدارين كالبيع وغيره. وأيضًا فإن المسلم لو دخل دار الحرب وتزوَّج حربيةً صحّ النكاح، ولو كان اختلاف الدارين يوجب فسخ النكاح لوجب أن لا يصح النكاح بينهما؛ لأن المسلم من أهل دار الإسلام وإن كان في دار الحرب، والحربية من أهل

(1/498)


دار الحرب، فالدار مختلفةٌ بينهما في الحقيقة. ولا يجوز أن يقال: إنهما مقيمان في دارٍ واحدةٍ فلم تختلف بهما؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بينه وبين امرأته التي في دار الإسلام؛ لأنه قد اختلفت بهما الدار، ولوجب إذا دخل الحربي دار الإسلام وله زوجةٌ في دار الحرب أن ينفسخ النكاح بينهما لاختلاف الدار، فلما لم ينفسخ عُلِم أن المسلم إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الإسلام، والحربي إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الحرب، ومع هذا النكاحُ لا ينفسخ، كذلك هاهنا. قالت الحنفية: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية [الممتحنة: 10]، فالدلالة منها من وجوهٍ: أحدها: قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وعندكم إذا خرج مسلمًا قبل أن تحيض ثلاث حيضٍ فهي حلٌّ له، وهو حلٌّ لها. الثاني: قوله: {وَءَاتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا}، ولو لم تقع الفرقة بينهما باختلاف الدارين لم تؤمر بردِّ المهر عليه. الثالث: قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ}، فأباح نكاحهن على الإطلاق، وعندكم لا يباح نكاحها في الحال إذا كانت مدخولًا بها. الرابع: قوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ}، وفي المنع من العقد عليها تمسُّكٌ بعصمة الكوافر. قال الجمهور: لا حجة لكم في شيء من ذلك، فإن قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} إنما هو في حال الكفر، ولهذا قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَلَا

(1/499)


تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ}، ثم قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. وأما قوله: {وَءَاتُوهُم مَّا أَنفَقُوا}، فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفةٌ: هذا منسوخٌ (1)، وإنما كان ذلك في الوقت الذي كان يجب فيه ردُّ المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وهذا عندكم أيضًا منسوخٌ. وأما من لم يره منسوخًا فلم يجب عنده ردُّ المهر لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين ورغبة المرأة عن التربُّص بإسلامه، فإنها إذا حاضت حيضةً ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت، وحينئذٍ تردُّ عليه مهره، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه. وأما قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ}، فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها، ورغبتها عن زوجها وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 228]، والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها. وأما قوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ}، فهذا لا يدلُّ على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدلُّ على أن المسلم ممنوع من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول: إنه موقوفٌ، فإن أسلمت في عدتها أو بعدها فهي امرأته. قالت الحنفية: زوجان اختلفت بهما الدار فعلًا وحكمًا، فوجب أن تقع _________ (1) انظر: "الدر المنثور" (14/ 424).

(1/500)


الفرقة بينهما، أصله الحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمانٍ، ثم أسلمت قبل الدخول، وإذا سُبِي الزوج وأُخرج إلى دار الإسلام فإن الفرقة تقع، كذلك هاهنا. قال الجمهور: هذا منتقضٌ بما ذكرنا من انتقال المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام، ودخول الحربي بأمانٍ لتجارةٍ أو رسالةٍ. وأما الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت فالموجب للفرقة هناك اختلاف الدين دون اختلاف الدارين، ألا ترى أنه لو وجد ذلك في دارٍ واحدةٍ كان الحكم كذلك. وأما السِّباء فليست العلة في الفرقة فيه اختلاف الدارين، ولا طَريانُ الرق، لأنا نحكم بالفرقة قبل حصول المرأة في دارنا بظهور الإمام عليها، ولأنا لا نحكم بالفرقة بسبب طريان الرقّ عليهما. ولهذا لو سُبي الزوجان معًا فهما على نكاحهما. وإنما نحكم بالفرقة لأن الغالب أن السباء إذا وقع في أحد الزوجين فلا سبيلَ إلى معرفة بقاء الزوج أو هلاكه، فينزل المجهول المشكوك فيه كالمعدوم. قالوا: ولا يلزمنا هذا (1) إذا علمنا وجود الزوج في دار الحرب؛ لأنه نادرٌ، والغالب عدم العلم به. قالوا: ولهذا المعنى حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سَابِيه؛ لأنه لا سبيلَ _________ (1) في الأصل: "على هذا".

(1/501)


إلى معرفة أبويه غالبًا، فجعلناه كالمتحقق، وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضًا لأنه نادرٌ. هذا جواب القاضي وأصحابه، وهو بناءً على أن الزوجين إذا سُبِيا معًا فهما على نكاحهما، وأن الفسخ لم يكن للاستيلاء على بُضْع المرأة ومِلكه، وهذا هو المشهور عن أحمد. والصحيح أن الفسخ لم يكن لهذه العلة، بل للاستيلاء على جميع ملك الرجل وحقوقه، وبُضْعُ زوجته من أملاكه، وقد استولى عليه وملَكَه السابي كما ملك رقبتَها، فلا معنى لبقاء العصمة في البضع وحده دون سائر أملاكه ودون سائر أجزاء المرأة ومنافعها. وعلى هذا فلا فرقَ بين أن تُسبى وحدها أو مع الزوج، وعلى هذا دلَّ القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، نزلت في السبايا، فحرَّم الله نكاح المتزوجات إلا المَسْبيَّات إذا انقضت عدتهن. كذلك قال أبو سعيد (1). ولم يُفرِّق بين أن تُسبى وحدها أو مع زوجها، وبين أن يُعلم هلاك الزوج أو يُعلم بقاؤه أو يُشكّ فيه. ولو كانت العلة إنما هي الجهل ببقاء الزوج، وتنزيل المجهول كالمعدوم= لما انفسخ النكاح مع العلم بوجوده في دار الحرب. وقولهم: إن هذا نادرٌ، والحكم للغالب= قول (2) في غاية الفساد، فإن الحكم إذا ثبت لعلةٍ زال بزوالها، وليس بقاء الزوج في دار الحرب نادرًا، ولو _________ (1) أخرج مسلم (1456) عن أبي سعيد الخدري قوله في سبب نزول الآية وتفسيره: أي فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهنّ. وانظر: "زاد المعاد" (6/ 318). (2) في الأصل: "فرق". والمثبت يقتضيه السياق.

(1/502)


كان نادرًا وهو معلومٌ كان بمنزلة المفقود في المَهْلَكة إذا عُلم بقاؤه، ومثل هذا لا يقال فيه: نادرٌ، ونكاح الأول قائمٌ، ووجود الزوج مقطوعٌ به، هذا في غاية الفساد. والصواب الذي دلَّ عليه القرآن وسيرةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبايا والقياسُ: أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقًا، فإنها قد صارت مِلكًا للسابي، وزالت العصمة عن ملك الزوج لها، كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها. وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا (1)، وهو مذهب الشافعي. وأما قولهم: إنا إنما حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سَابِيه؛ لأنه لا سبيلَ إلى معرفة أبويه غالبًا، فجعلناه كالمحقَّق، وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضًا؛ لأنه نادرٌ= فالصحيح خلاف هذا القول، وأنه يُحكم بإسلامه تبعًا لسابيه، ولو كان مع الأبوين أو أحدهما، فهذا أنصُّ (2) الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام (3)، فإن السابي له أحقُّ به من أبويه، وقد انقطعت تبعيته للأبوين بسباء المسلم له، وهو مولودٌ على الفطرة، وإنما جعلناه على دين أبويه تبعًا لهما، فإذا زالت التبعية صار مالكه أولى به، وصار تابعًا له. قالت الحنفية: فإن اختلاف الدارين يؤثِّر في قطع العصمة، ألا ترى أن _________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (31/ 380)، و"الأوسط" لابن المنذر (11/ 292). (2) في الأصل: "أقصى". والمثبت من هامشه. (3) انظر: "المغني" (13/ 115). وسيأتي الكلام عليه (2/ 85 وما بعدها).

(1/503)


ذميًّا لو مات في دار الإسلام وخلف مالًا وله ورثةٌ من أهل الحرب في دار الحرب لم يستحقوا من إرثه شيئًا، وجُعل ماله في بيت المال لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحقَّ بتركته من جماعة المسلمين، لأنه لم يختلف به وبهم الدار. وكذلك لو سُبي من أهل الحرب دون أبويه فمات صُلِّي عليه، لأنه اختلف به وبأبويه الدار، فانقطعت العصمة بينه وبينهما، فصار مسلمًا بالدار كاللقيط، ولو سُبي مع أبويه أو أحدهما فمات لم يُصلَّ عليه، لأنه لم يختلف به وبهما أو بأحدهما الدارُ. قال الآخرون: انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة، ولهذا لو كان ذميًّا في دار [الإسلام] (1) فدخل قريبه الحربي مستأمنًا ليقيم مدةً ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدةً. وكذلك إذا سُبي الصبي دون أبويه ومات فإنه يصلَّى عليه، وإن كان موته في دار الحرب، لأنا نحكم بإسلامه بإسلام سَابِيه. وعلى أنا لا نسلِّم انقطاع التوارث بينهما، فإن يعقوب بن بختان سأل أحمد عن رجل من أهل الذمة دخل بأمانٍ فقتله رجل من المسلمين، فقال: يُبعث بديته إلى أهل بلاده (2). فقد نصَّ على أن ديته يُنفذ بها إلى بلاده، وإنما أراد بذلك إلى _________ (1) زيادة ليستقيم السياق. (2) لم أجد هذه الرواية، وهي برواية الأثرم في "المغني" (9/ 158). وهو قول مالك أيضًا كما في "الأوسط" لابن المنذر (6/ 311).

(1/504)


ورثته؛ لأنه لو لم يكن له ورثةٌ كانت ديته في بيت المال. وقد نصَّ على ذلك في رواية أبي طالب (1) في النصراني إذا مات وليس له وارثٌ، جُعل ماله في بيت مال المسلمين. والوجه فيه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 91]، وهذا عامٌّ في الذمي والمسلم، وعامٌّ فيه إذا كان أهله في دار الإسلام أو دار الحرب. ولأنهما قد اتفقا في الدين، فجاز أن يتوارثا كما لو كانا في دارٍ واحدةٍ، ولأنهما لو اجتمعا في دارٍ توارثا، فيجب أن يتوارثا وإن اختلفت بهما الدار، دليله المستأمن. يبيِّن صحة هذا: أن أحكام المستأمن والحربي مختلفةٌ؛ لأن المستأمن يحرم قتلُه، وتُضمَن نفسه، ويُقطع بسرقة ماله، والحربي بخلافه؛ ولأن اختلاف الدارين لا يوجب انقطاع العصمة، بدليل أنه لا يوجب فسخ الأنكحة. وقولهم: إن الميراث يثبت بالموالاة والنصرة، واختلاف الدارين يمنع من ذلك= لا يصح كما لم يصح إذا اختلفت الداران بالمسلمين، ولأن هذا يبطل باليهود والنصارى، فإنهم لا يتناصرون، ويتوارثون عند المنازع لنا وعندنا على إحدى الروايتين، ولا يتوارثون على الرواية الأخرى، لا لهذه العلة لكن لاختلاف الدين، فإن دينهم مختلفٌ، ولأن الصبي والمجنون والنساء يرثون (2)، ولا نصرة فيهم، ولهذا لما كان العقل طريقه النصرة لم _________ (1) "الجامع" للخلال (937). (2) في الأصل: "يرثن". والضمير لا يرجع إلى النساء خاصة. وسيأتي ضمير الجمع المذكر "فيهم" ليناسب الفعل.

(1/505)


يكن لهم مدخلٌ فيه. فصل ومن فروع هذه المسألة أنه قبل الاختيار هنَّ على النكاح في حكم الإنفاق، فعليه نفقة الجميع إلى أن يختار، لأنهن محبوساتٌ عليه وإن لم يكن النكاح صحيحًا لازمًا بعد الإسلام، ولأنهن في حكم الزوجات، ولهذا أيتهنّ اختارها كانت زوجةً من غير تجديد عقدٍ (1). فصل ولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله، وليس لأبيه الاختيار، لأن ذلك حقٌّ يتعلق بالشهوة، فلا يقوم غيره مقامه فيه، وتُحبَس عليه الزوجات إلى أن يبلغ، فيختار حينئذٍ، وعليه نفقتهن إلى أن يختار. هكذا قال أصحابنا (2) والشافعية (3). وهو في غاية الإشكال، فإنه ليس في الإسلام مسلم تحته عشر نسوةٍ مسلماتٍ يبقى نكاحهن مدة سنين، وفي ذلك إضرارٌ بالزوجات في هذه المدة بحيث تبقى المرأة ممنوعةً من الزوج مدة سنين، محبوسةً على صبي لا تدري أيختارها أم يفارقها، وفي ذلك _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 15). (2) انظر المصدر السابق (10/ 15، 16). (3) انظر: "فتح العزيز" (8/ 107)، و"روضة الطالبين" (7/ 157).

(1/506)


إضرارٌ عظيمٌ بها، وهو منتفٍ شرعًا. وقياسُ المذهب أن يختار عنه وليُّه كما لو كان مجنونًا. فإن قلتم: والحكم في المجنون كذلك، فهو في غاية الفساد، إذ تبقى المرأة ما شاء الله من السنين محبوسةً عليه. وإن فرَّقتم بأن البلوغ له حدٌّ ينتهي الصبي إليه، فلا يشقُّ انتظاره بخلاف الجنون. قيل أولًا: لا بدَّ لهذا الفرق من شاهدٍ بالاعتبار. وقيل ثانيًا: لا ريبَ أنه يشقُّ على المرأة الانتظارُ بضعَ عشرةَ سنةً لا يُدرى أيعيش الزوج حتى يصل إليها، أم يموت قبل ذلك. وقيل ثالثًا: والجنون قد يزول عن قربٍ أو بعدٍ، وإن لم يكن لزواله أمدٌ شرعي، وقد صرَّح الأصحاب بأنه إذا جُنَّ انتظر به عود عقله، ثم يختار. والصواب أن الولي يقوم مقامه في الموضعين. فصل والاختيار واجبٌ على الفور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به، والأمر المطلق على الفور، ولا سيما إذا تضمَّن التأخير إمساكَ المسلم أكثر من أربع، وهذا لا يجوز، فإن أبى الاختيار أُجبِر عليه بالحبس والضرب؛ لأنه حقٌّ عليه، وهو قادرٌ على الإتيان به، فأُجبِر عليه كإيفاء الدين (1). _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 15).

(1/507)


قال الشيخ في "الكافي" (1): وهكذا كلُّ من عليه حقٌّ إذا امتنع من أدائه. قال القاضي في "الجامع" (2): فإن لم يختر حبسه، ويكون الحبس ضربًا من التعزير، فإن لم يختر ضربه وعزَّره، ويفعل ذلك ثانيًا وثالثًا حتى يختار؛ لأن هذا حقٌّ تعيَّن عليه، ولا يقوم غيره مقامه، فوجب حبسه وتعزيره حتى يفعله. وهكذا إذا كان على رجل دينٌ، وله مالٌ فائضٌ لا يعرف بمكانه (3)، وامتنع من قضاء دينه، فإن الحاكم يحبسه ويضربه. فصل فإذا اختار أربعًا فهل يكون اختياره لهن فراقًا لسائرهن أم لا يَبِنَّ منه حتى يفارقهن بفعله؟ فصرَّح الشيخ في "المحرر" (4)، وصاحب "المغني" (5) أنهن يَبِنَّ منه بنفس الاختيار، ووقع في كلام بعض الأصحاب (6) أنه يجب عليه أن يفارق غير المختارات. وهذه العبارة تُوهِم أنهن لا يَبِنَّ حتى ينشئ لهن فراقًا. _________ (1) (3/ 75، 76). (2) لم أجد النصّ في "الجامع الصغير" المطبوع. (3) في الأصل: "لا يعرض مكانه". (4) (2/ 29). (5) (10/ 18). (6) انظر: "المغني" (10/ 15).

(1/508)


وحكاه الخطابي (1) عن بعض أهل العلم قال: وحديث فَيروزٍ الديلمي حجةٌ لمن قال ذلك، يعني قوله: "وفارق سائرهن"، ولو بِنَّ منه بنفس الاختيار لم يأمره بتحصيل الحاصل، وهذا مذهب مالك. والمسألة محتملةٌ. فصل فإن مات قبل الاختيار، فقال القاضي: قياس المذهب يقتضي أنه يجب على جماعتهن عدة الوفاة؛ لأن أكثر ما فيه أنه ممنوع من استدامة نكاحِ ما زاد على أربع، وهذا لا يمنع من عدة الوفاة، كالنكاح الفاسد إذا اتصل به الموت وجب فيه عدة الوفاة، نص عليه. وهذا أولى، لأنا نحكم بصحة العقد في الجميع. وتبعه الشيخ في "المقنع" (2)، وقال في "الكافي" و"المغني" (3): والأولى أن من كانت منهن حاملًا فعدتها بوضعه؛ لأن ذلك تنقضي به العدة في كل حالٍ. ومن كانت آيسةً أو صغيرةً فعدتها عدة الوفاة لأنها أطول العدتين في حقها. ومن كانت من ذوات الأقراء اعتدَّتْ أطولَ الأجلين من ثلاثة قروءٍ أو أربعة أشهرٍ وعشرٍ (4)، لتنقضي العدة بيقينٍ، ولأن كلَّ واحدةٍ منهن يحتمل أن _________ (1) "معالم السنن" (3/ 158) بنحوه. وليس في حديث فيروز: "وفارق سائرهن"، وإنما خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - غيلان بن سلمة الذي أسلم وعنده عشر نسوة. (2) (ص 217). (3) "الكافي" (3/ 76)، "المغني" (10/ 16). (4) في الأصل: "وعشرًا". والمثبت ما في "المغني".

(1/509)


تكون مختارةً أو مفارقةً، وعدة المختارة عدة الوفاة، وعدة المفارقة ثلاثة قروءٍ، فأوجبنا أطولَهما لتنقضي العدة بيقينٍ، كما قلنا فيمن نسي صلاةً من يومٍ لا يعلم عينَها: عليه خمس صلواتٍ، وهذا مذهب الشافعي. ولو قيل: إن من كانت منهن حاملًا اعتدت بالوضع، ومن كانت حائلًا فعدتها عدة الوفاة بكل حالٍ= لكان قويًّا؛ لأن وضع الحمل يأتي على جميع العدة، فلا عدة بعده. وأما الحائل فلأن النكاح قبل الاختيار في حكم الثابت، بدليل أن من اختارها منهن فهي زوجةٌ من غير تجديد عقدٍ، ومن طلقها نفذ طلاقه، وغايته أنه نكاحٌ غير مستقرٍّ، وهو آئلٌ إلى الفسخ في حق بعضهن، ولم تتعيَّن المفسوخُ نكاحها، والأصل في كل واحدةٍ منهن بقاء النكاح، وهذا أولى إن شاء الله تعالى. فصل فأما ميراثهن، فقال القاضي: فيهن أربع يستحققن الميراث، وأربع لا يستحققنه، فينظر؛ فإن اصطلحوا على أن يكون ذلك بينهن على السواء أو على التفاضل أو يكون لبعضهن= جاز، وإن تشاحّوا فقياس المذهب أنه يُقرَع بينهن، فإذا وقعت القرعة لأربع منهن كان الميراث بينهن بالسوية (1). قال: وأصل هذا ما نصَّ عليه أحمد في من طلق واحدةً من نسائه لا بعينها، أو بعينها لكنه أُنسِيها، فإنه يُقرَع بينهن، وتخرج بالقرعة، فإن مات قبل _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 16).

(1/510)


ذلك أقرع الورثة، وكان الميراث للبواقي منهن (1). ومذهب الشافعي أن الميراث يُوقَف حتى يصطلحن عليه. فصل وأما المهر فيُنظر، فإن كان بعد الدخول فالمهر واجبٌ لكل واحدةٍ منهن لأجل الدخول، وكذلك إن كان قد دخل ببعضهن كان لها المهر، وإن مات قبل الدخول نظر في السابق منهما إلى الإسلام، فإن كان الزوج وجب عليه نصف المهر لأربعٍ منهن كما أوجبنا الميراث لأربع منهن، وإن كان السابق الزوجات فلا مهر لواحدةٍ منهن؛ لأن الفرقة جاءت من جهتهن قبل الدخول. فصل فإن طلَّق الجميع، فقال أصحابنا: يخرج منهن أربع بالقرعة، فيكُنَّ المختارات، ويقع الطلاق بهن وينفسخ نكاح البواقي، وله تجديد العقد عليهن. فإن كان الطلاق ثلاثًا فمتى انقضت عدتهن فله أن ينكح من الباقيات، لأنهن لم يطلقن منه، ولا يحلُّ له المطلقات إلا بعد زوجٍ وإصابةٍ (2). قلت: وهذا بناءً على أن الطلاق يكون اختيارًا (3) للمطلقات، فيكُنَّ هن الزوجات ومن عداهن أجنبيات، وعلى أنه إذا كان تحته أربع فطلقهن لم _________ (1) المصدر نفسه (10/ 526). (2) انظر: "المغني" (10/ 18). (3) في الأصل: "اختيار".

(1/511)


يحلَّ له نكاح خامسةٍ حتى تنقضي عدة واحدةٍ منهن. وعندي ينفذ الطلاق في الجميع، لأنهن في حكم الزوجات قبل الاختيار، وكل واحدةٍ منهن صالحةٌ للإبقاء من غير تجديد عقدٍ. وكون النكاح [فاسدًا] (1) لا في الجميع، وآئلًا إلى الفسخ فيما زاد على الأربع= لا يمنع وقوع الطلاق، فإن الطلاق عندنا يقع في النكاح الفاسد الذي لا سبيل إلى الاستمرار به، وهنا له سبيلٌ إلى الاستمرار بكل واحدةٍ على انفرادها، ومع ثلاثٍ أخر. فصل (2) فلو أسلم، ثم طلق الجميع قبل إسلامهن، ثم أسلمن (3) في العدة= أُمِر أن يختار أربعًا منهن، فإذا اختارهن تبينَّا أن طلاقه وقع بهن لأنهن زوجاتٌ، ويعتددن من حين طلاقه، وبانَ البواقي باختياره لغيرهن، ولا يقع بهن طلاقه، وله نكاح أربعٍ منهن إذا انقضت عدة المطلَّقات؛ لأن هؤلاء غير مطلقاتٍ. والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها: أن طلاقهن قبل إسلامهن في زمنٍ ليس له الاختيار فيه، فإذا أسلمن تجدَّد له الاختيار حينئذٍ، وفي التي قبلها طلَّقهن وله الاختيار، والطلاق يصلُح اختيارًا، وقد أوقعه في الجميع، وليس بعضهن أولى من بعضٍ، فصرنا إلى القُرعة لتساوي الحقوق. _________ (1) هنا بياض في الأصل. (2) انظر: "المغني" (10/ 18، 19). (3) في الأصل: "أسلموا". والمثبت من "المغني".

(1/512)


فصل (1) وإذا اختار منهن أربعًا وفارق البواقيَ، فهل العدة من حين الاختيار أم من حين الإسلام؟ فيه وجهان: أشهرهما: أنها من حين الاختيار، لأنهن إنما بِنَّ منه بالاختيار. ووجه الوجه الثاني: أنهن يَبِنَّ منه بالإسلام، وإنما يتبين ذلك بالاختيار، فيثبت حكم البينونة من حين الإسلام، كما إذا أسلم أحد الزوجين ولم يُسلم الآخر حتى انقضت عدتها، فإنها تَبِين بانقضاء عدتها من حين الإسلام، وفرقتهن فسخٌ لا طلاقٌ. وأما عدتهن، فقال أصحابنا: كعدة المطلَّقات ثلاثة قروءٍ؛ لأن عدة من انفسخ نكاحها كذلك. وقال شيخنا (2): عدتهن حيضةٌ واحدةٌ، وكذلك عدة المختلعة وسائرِ من فسخ نكاحها، لأن العدة إنما جُعلت ثلاثة قروءٍ لتمكُّنِ الزوج من الرجعة فيها، وأما الفسوخ ــ كالخلع وغيره ــ فالمقصود منها براءة الرحم، فيكتفى فيها بحيضةٍ. قال: وبذلك أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة (3). _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 18). (2) لم أجد نصَّ كلامه، وانظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 336). (3) كما في حديث الرُّبيِّع بنت معوذ بن عفراء الذي أخرجه الترمذي (1185) وغيره. وإسناده صحيح.

(1/513)


قال: وهو مذهب ابن عباس، ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة (1). قلت له: فما تقول في المطلقة تمام الثلاث؟ فقال: الطلقة الثالثة من جنس الطلقتين اللتين قبلها، فكان حكمها حكمهما، هذا إن كان في المسألة إجماعٌ. انتهى. وإن ماتت إحدى المختارات أو بانت منه وانقضت عدتها، فله أن ينكح واحدةً من المفارقات، وتكون عنده (2) على طلاق ثلاثٍ؛ لأنه لم يطلقها قبل ذلك. فصل (3) وإذا أسلم وتحته ثمان نسوةٍ، فأسلم أربعٌ منهن، فله اختيارهن، وله الوقوف إلى أن يُسلم البواقي. فإن مات اللاتي أسلمن ثم أسلم الباقياتُ فله اختيار الميِّتات، وله اختيار الباقيات، وله اختيار بعض هؤلاء وبعض هؤلاء؛ لأن الاختيار ليس بعقدٍ، وإنما هو تصحيح للعقد الأول في المختارات، _________ (1) ولكن قال الترمذي بعد الحديث (1185): "واختلف أهل العلم في عدة المختلعة، فقال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: إن عدة المختلعة عدة المطلقة ثلاث حيض ... ". (2) في الأصل: "عدة" خطأ. والتصويب من "المغني" (10/ 18) الذي صدر عنه المؤلف. (3) انظر: "المغني" (10/ 20).

(1/514)


والاعتبار في الاختيار بحال ثبوته وصحته، لا بحال وقوعه، وحالَ ثبوته كنَّ أحياءً. وإن أسلمت واحدةٌ منهن، فقال: اخترتُها جاز، فإذا اختار أربعًا على هذا الوجه انفسخ نكاح البواقي. وإن قال: اخترتُ فسخَ نكاحها لم يصح، لأن الفسخ إنما يكون فيما زاد على الأربع، والاختيار للأربع، إلا أن يريد بالفسخ الطلاق فيقع لأنه كنايةٌ، ويكون طلاقه لها اختيارًا لها، ذكره أصحابنا (1). والصحيح أنه يصح، فإنه ما منهن واحدةٌ إلا وله أن يختارها ويختار مفارقتها، فإذا قال: فسختُ نكاح هذه فهو اختيارٌ لفراقها، وله أن يفارقها وحدها، ويفارقها (2) مع جملتهن، ويفارقها مع الزائدات على النصاب. فإذا قال: اخترت فسخ نكاحها، فكأنه قال: هذه من المفارقات، وهو لو اختار أربعًا سواها ولم يصرِّح بفسخ نكاحها (3) انفسخ نكاحها، فكيف إذا صرَّح به؟! فإن قيل: هي زوجةٌ، والرجل لا يستقلُّ بفسخ النكاح في غير المعيَّنة. قيل: وإن كانت زوجةً، لكنه يخيَّر (4) في إبقائها ومفارقتها، فإذا عجَّل مفارقتها كان اختيارًا منه لأحد الأمرين. _________ (1) كما في المصدر المذكور. (2) في الأصل: "ويفارقهن". والمثبت يقتضيه السياق. (3) "بفسخ نكاحها" ساقطة من المطبوع. و"انفسخ" الآتي تحرف إلى "نفسخ". (4) في الأصل: "يختر" تصحيف.

(1/515)


وقولهم: إن الفسخ إنما يكون فيما زاد على الأربع، قلنا: إن أردتم الانفساخ فصحيح، فإنه إذا اختار أربعًا انفسخ نكاح الزائد عليهن، وإن أردتم أن إنشاء الفسخ بالاختيار لا يكون إلا فيما زاد على الأربع فليس كذلك، فإن له أن يفارق الجميع بغير طلاقٍ، بل متى قال: فارقتُ الجميع أو سيَّبتُهن أو فسختُ نكاحهن= بِنَّ منه، كما لو قال: طلَّقتُهن. فصل (1) وإذا أسلم قبلهن ولم يُسلمن حتى انقضت عدتهن تبينَّا أنهنَّ بِنَّ منه منذ اختلف الدينان، فإن كان قد طلَّقهن قبل انقضاء عدتهن تبينَّا أن طلاقه لم يقع بهن، وله نكاح أربعٍ منهن إذا أسلمن. فإن كان قد وطئهن في العدة تبينَّا أنه وطئ أجنبياتٍ. وكذلك إن آلى منهن أو ظاهَرَ تبينَّا أن ذلك وقع في أجنبيةٍ. فإن أسلم بعضهن في العدة تبينَّا أنها زوجةٌ، فيقع طلاقه بها، فإذا وطئها بعد ذلك كان قد وطئ مطلقته. وإن كانت المطلَّقةُ غيرها فوطؤُه لها وطءٌ لامرأته. وإن طلّق الجميع، فأسلم أربعٌ منهن أو أقلُّ في عدتهن، ولم يسلم البواقي= تعيَّنت الزوجية في المسلمات، ووقع الطلاق بهن، فإذا أسلم البواقي فله أن يتزوَّج منهن، لأنه لم يقع طلاقه بهن. قلت: هذا مبنيٌّ على أن الطلاق اختيارٌ، وقد علمتَ ما فيه، وعلى أن البينونة إذا انقضت العدة تكون من حين الإسلام لا من حين الاختيار. ويحتمل أن يقال: إن البينونة إنما تقع من حين الاختيار؛ لأن كل واحدةٍ _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 19).

(1/516)


منهن قبل الاختيار في حكم الزوجة، ولهذا له اختيارها وعليه نفقتها، وإنما عُلِم خروجها عن زوجيته باختيار غيرها، فكان اختيار غيرها فراقًا لها، فتكون البينونة من حين ثبتت مفارقتها، وقد صرَّح الأصحاب بأنه إذا اختار منهن أربعًا وفارق البواقي فعدتهن من حين الاختيار، لا من حين إسلامه. فصل (1) وإن اختار أربعًا وفارق البواقي، فماتت إحدى المختارات، أو بانت منه وانقضتْ عدتها، فله أن ينكح من المفارقات تمام أربع، وتكون عنده على طلاق ثلاثٍ، لأنه (2) لم يطلقها قبل ذلك. وإن اختار أقلَّ من أربع، بأن اختار واحدةً من ثمانٍ، أو اختار ترْكَ الجميع، فقال في "المغني" (3): أُمر بطلاقِ أربعٍ أو تمامِ أربع، يعني: أُمر بطلاق أربعٍ فيما إذا اختار ترك الثمان، أو بتمام أربعٍ فيما إذا اختار واحدةً وترك السبع. قال: لأن الأربع زوجاتٍ لا يَبِنَّ منه إلا بطلاقٍ أو ما يقوم مقامه. قلت: اختياره ترْكَ الجميع أو الأكثرِ كافٍ في فسخ نكاحهن، فلأيِّ شيء يؤمر بطلاقِ أربعٍ في إحدى الصورتين، وتمامِ أربعٍ في الصورة الثانية؟ قوله: لأن الأربع زوجاتٍ لا يَبِنَّ منه إلا بطلاقٍ أو ما يقوم مقامه، فلا ريبَ أن اختياره ترْكَهن قائمٌ مقام الطلاق في إحدى الصورتين، فإنه إذا قال: _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 18). (2) في الأصل: "لأنهن". والمثبت من "المغني". (3) (10/ 18).

(1/517)


اخترتُ ترْكَهن كان بمنزلة قوله: اخترتُ فراقهن، وهذا كافٍ في مفارقتهن، واختيارُه بعضهن فسخٌ لنكاح من عدا المختارات، فإن قوله: اخترت هذه هو اختيارٌ لها ومفارقةٌ لمن عداها، كما لو قال: اخترتُ هؤلاء الأربع فإنه لا يلزمه أن يطلق الأربع البواقي، بل بمجرد اختياره للأربع تَبِينُ منه البواقي. فإن قيل: الفرق بين الصورتين أنه إذا اختار أربعًا كنّ هنّ الزوجات، فانفسخ نكاح من سواهن لزيادتهن على النصاب، فلا يحتاج أن يطلِّقهن، ولا ينشئ ما يقوم مقام طلاقهن، بخلاف ما إذا اختار واحدةً من ثمانٍ فإنه لا يكون اختيارها فراقًا لمن عداها، فلهذا أمرناه بطلاقِ أربعٍ أو تمامِ أربعٍ. قيل: هذا لا يصحُّ أولًا لأنه قد يريد فراق الجميع أو مَن عدا المختارة، فكيف يؤمر بطلاق أربعٍ وهو مريدٌ لفراق الثمان؟ هذا لا معنى له. وقوله: اخترتُ تركَهن ومفارقتهن ونحو ذلك قائمٌ مقام الطلاق، وكافٍ في فسخ نكاحهن. وأيضًا فإن قوله: اخترتُ هذه جعل إبقاءً لنكاح المختارة، وفسخًا لنكاح من عداها، كما لو قال: اخترتُ هؤلاء الأربع. فصل فإن قال: كلَّما أسلمت واحدةٌ اخترتُها، فقال الأصحاب (1): لا يصح، لأن الاختيار لا يصح تعليقه على الشرط، ولا يصح في غير معيَّنٍ. _________ (1) "المغني" (10/ 20).

(1/518)


ويحتمل (1) أن يصح، ولا يمتنع تعليق الاختيار على الشرط، كما يصح تعليق الجعالة والولاية والوكالة والعتق والطلاق، وكذلك يصح أيضًا تعليق الرجعة بالشرط، وإن قال كثيرٌ من أصحابنا وغيرهم: لا يصح. والأصل في الشروط الصحة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا. وكذلك الهبة يجوز تعليقها بالشرط، كما ثبت ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" (2). وكذلك هبة الثواب يجوز تعليقها بالشرط، نحو: اللهم إن كنتَ قَبِلتَ منّي هذا العمل فاجعلْ ثوابه لفلانٍ. وكذلك الدعاء في صلاة الجنازة يجوز تعليقه بالشرط، نحو: اللهم إن كان محسنًا فزِدْ في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوزْ عنه (3). وكذلك الإبراء يجوز تعليقه بالشرط، وقد نصَّ عليه أحمد. والعجب _________ (1) هذا تعقيب المؤلف على كلام الأصحاب. (2) أخرجه أحمد (6729، 7037) وأبو داود (2694) والنسائي (3688) من حديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه. (3) هذا جزء من الدعاء للميت في صلاة الجنازة، أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 249) والحاكم في "المستدرك" (1/ 359) من حديث يزيد بن ركانة مرفوعًا. وصححه الحاكم. ورُوي موقوفًا على أبي هريرة وأنس بن مالك وزيد بن ثابت، انظر: "مصنف عبد الرزاق" (6425، 6440) وابن أبي شيبة (11495، 11827).

(1/519)


ممن منع تعليقه، وهو إسقاطٌ محضٌ، فهو كالطلاق والعتق. وكذلك الفسوخ كلها يجوز تعليقها بالشرط. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أميركم زيدٌ، فإن قُتِل فجعفرٌ، فإن قُتِل فعبد الله بن رواحة" (1). وفي "سنن أبي داود" (2) من حديث طارق بن المُرَقَّع أنه قال: من يعطي رمحًا بثوابه؟ فقال له رجلٌ: وما ثوابه؟ قال: أزوِّجه أولَ بنتٍ تكون لي. فلما ولدت طلبها منه بعد كبرِها، فحلف أن لا يعطيها إياه إلا بصداقٍ آخر، وحلف الزوج أن لا يُصدِقها غير ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " [أرى] أن تتركها" (3)، ثم قال: "لا تأثم ولا يأثم صاحبك". ولم ينكر عليه الشرط ولم يقل له: لا نكاحَ بينكما. وقد نصَّ أحمد وقبله ابن عباس على جواز تعليق النكاح بالشرط، وهذا هو الصحيح. _________ (1) أخرجه البخاري (4261) من حديث ابن عمر بنحوه. (2) برقم (2103)، وأخرجه أيضًا أحمد (27064) وابن قانع في "المعجم" (2/ 394) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3948، 5884) من حديث سارة بنت مقسم عن ميمونة بنت كردم أنها سمعت أباها يستفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وفي إسناده لين لجهالة حال سارة بنت مقسم الثقفية. (3) في الأصل: "إن تركتها". والمثبت من "سنن أبي داود".

(1/520)


فقال الأثرم (1): سألت أبا عبد الله عن الرجل تزوَّج المرأة على أنه إن جاءها بالمهر إلى كذا وكذا، وإلا فلا نكاح بيننا. فقال: لا أدري، فقيل له: حديث ابن عباس: النكاح ثابتٌ والشرط فاسدٌ؟ قال: نعم. ونقل عنه ابن منصورٍ (2): إذا قال: إن جئت بالمهر إلى كذا وكذا، وإلا فليس بيننا نكاحٌ، فالنكاح والشرط جائزان. وهذا هو الذي تقتضيه أصوله وقواعد مذهبه، ومَن ضعَّف هذه الرواية لم يضعِّفها بما يقتضي تضعيفها. وغاية ما قالوا: أن النكاح مما لا يدخله الخيار، فشرطه فيه يفسده كالصرف والسلم. فيقال: نَقْنَع منكم بسؤال المطالبة، وهو تأثير الوصف في الأصل وثبوته في الفرع، ثم نتبرع بالفرق بأن السلم والصرف يجب تسليم العوض فيه في مجلس العقد بخلاف النكاح. قالوا: الخيار ينفي الإباحة في وقتٍ يقتضي إطلاق العقد ثبوته، فصار كما لو تزوَّجها شهرًا. وحقيقة هذا القياس التسويةُ بين العقد المطلق والمقيَّد، وهذا منتقضٌ بسائر الشروط التي تثبت في العقد المقيَّد دون المطلق. ثم يقال: كون العقد المطلق لا يقتضي ثبوتها لا يقتضي أن العقد المقيّد لا يقتضي ثبوتها، بل _________ (1) لم أجد هذه الرواية في المصادر. (2) أشار في "المغني" (9/ 488) إلى هذه الرواية.

(1/521)


مقتضى العقد المقيَّد ما قيِّد به، فهذا إذن مقتضى هذا العقد، وإن لم يكن مقتضى العقد المطلق. قالوا: فقد قال أحمد في رواية حنبلٍ (1): المتعة حرامٌ، وكلُّ نكاحٍ فيه وقتٌ أو شرطٌ فهو فاسدٌ. قيل: هذا لفظ عامٌّ، وما ذكرناه عنه فهو خاصٌّ. وكلام "المغني" (2) يقيِّد مطلقَه بمقيَّده وخاصَّه بعامِّه، كيف وقد عُلِم من مذهبه تخصيص هذا العام؟ فإنه يصحح النكاح بشرط (3) أن لا يُخرجها من دارها، وأن لا يتزوج ولا يتسرَّى عليها، ومتى فعل ذلك فلها الخيار، وهذا نظير إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلها الخيار، فالصواب التسوية بينهما. وقوله: "كل نكاحٍ فيه وقتٌ أو شرطٌ فهو فاسدٌ"، إنما أراد به شرط التحليل كما صرح به في غير موضع، ولهذا قرنَه بالمتعة، والجامع بينهما أن المستمتع والمحلِّل لا غرضَ لهما في نكاح الرغبة. فإن قيل: قياس قواعده وأصوله بطلان هذا النكاح المشروط فيه الخيار؛ لأنه قد أبطل نكاح المحلل لما فيه من الشرط المانع من لزومه. قيل: هو لم يُبطل نكاح المحلِّل لذلك، وإنما أبطله لأنه نكاحٌ محرَّمٌ، _________ (1) كما في "الهداية" للكلوذاني (ص 393). (2) فيه (9/ 483): "وإذا تزوَّجها وشرَطَ أن لا يُخرِجها من دارها أو بلدها فلها شرطها ... ، وإن تزوَّجها وشرط لها أن لا يتزوَّج عليها فلها فراقه إذا تزوَّج عليها". (3) "بشرط" ساقطة من المطبوع.

(1/522)


ملعونٌ فاعله، منهيٌّ عنه. ولهذا لو قصد بقلبه التحليل ولم يشرطه، أو شرط أن يُحِلَّها للأول فقط ولم يشرط طلاقها= كان نكاحًا باطلًا، مع أنه لا شرط هناك يمنع لزومه. وأحمد عنه في هذه المسألة ثلاث رواياتٍ منصوصاتٍ (1): صحة النكاح والشرط. وهي أنصُّ الروايات عنه وأصرحُها، نقلها [ابن] منصورٍ كما تقدم. وصحة النكاح وفساد الشرط، كما نقل الأثرم. وفساد الشرط والنكاح، وهي التي نقلها حنبلٌ باللفظ العام. والمقصود أن تعليق الاختيار على الإسلام يصح. ويصح تعليق الفسخ أيضًا على الشرط، وهو أولى بالصحة لأنه إزالة ملكٍ، فهو كتعليق الطلاق والعتاق. وقال أصحابنا: لا يصح. ولهم في صحة تعليق الطلاق هاهنا وجهان (2): فإذا قال: كل من تمسَّكتْ بدينها فهي طالقٌ، فهل يصح؟ على وجهين. ووجه البطلان أن الطلاق يتضمن الاختيار، وهو مما لا يصح تعليقه بالشرط، والمقدمتان ممنوعتان كما تقدم. فصل (3) وإذا أسلم ثم أحرم بحجٍ أو عمرةٍ، ثم أسلمنَ، فله الاختيار؛ لأن الاختيار استدامةٌ للنكاح وتعيينٌ للمنكوحة، وليس بابتداءٍ له. _________ (1) انظر: "المغني" (9/ 488). (2) انظر: "المغني" (10/ 20، 21). (3) انظر المصدر السابق (10/ 21).

(1/523)


وفيه وجهٌ آخر: أنه ليس له الاختيار، وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي. والخلاف هاهنا كالخلاف في رجعة المحرم. والصحيح في الموضعين الجواز، لأنها إمساكٌ، فلا ينافيها الإحرام. فصل (1) وإذا أسلم الجميع معه ثم مِتْنَ قبل أن يختار فله أن يختار منهن أربعًا، فيكون له ميراثهن، ولا يرث من الباقيات لأنهن لسنَ بزوجاتٍ. وإن مات منهن أربع وبقي أربع فله اختيار الميتات فيرثهن، وتَبِينُ الحيات، وله اختيار الحيَّات فيستمرُّ بهن، ولا يرِث الميتات، وله اختيار بعض هؤلاء وبعض هؤلاء. فصل (2) وإذا تزوج أختين ودخل بهما، ثم أسلم (3) وأسلمتا معه، فاختار إحداهما= لم يطأها حتى تنقضي عدة أختها، لئلا يكون واطئًا لإحدى الأختين في عدة الأخرى. وكذلك إذا أسلم وتحته ثمانٍ قد دخل بهن، فأسلمن معه، فاختار أربعًا وفارق البواقي= لم يطأ واحدةً من المختارات حتى تنقضي عدة واحدةٍ من المفارقات، فإذا انقضت عدة واحدةٍ فله وطء أيِّ المختارات شاء، فإن انقضت عدة اثنتين فله وطء اثنتين، وكذلك إلى _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 21). (2) المصدر نفسه (10/ 22). (3) في الأصل: "أسلما". والمثبت من "المغني".

(1/524)


تمام الأربع. فإن كنَّ خمسًا ففارق إحداهن فله وطء ثلاثٍ من المختارات دون الرابعة. وإن كن ستًّا ففارق اثنتين فله وطء اثنتين من المختارات. وإن كنَّ سبعًا ففارق ثلاثًا (1) فله وطء واحدةٍ من المختارات، وكلما انقضت عدة واحدةٍ من المفارقات فله وطء واحدةٍ من المختارات. وهذا مبنيٌّ على أن الرجل إذا طلَّق امرأته لم ينكح أختَها ولا الخامسةَ في عدة المطلقة، لئلا يكون جامعًا لمائه في رحم أختين أو أكثرَ من أربع. قال ذلك أصحابنا قياسًا على نصِّ أحمد فيما إذا طلَّق إحدى الأختين أو الخامسة، وذلك لحديث زُرارة بن أوفى (2): ما أجمع أصحاب محمد على شيء ما أجمعوا على أن الأخت لا تُنكح في عدة أختها. ولأنه بذلك يكون جامعًا ماءه في رحم أختين، فلا يجوز كجمع العقد وأولى. وعندي أنه إذا اختار أربعًا جاز وطؤهن من غير انتظارٍ لانقضاء عدة المفارقات، وهو قول الجمهور، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُمسِك أربعًا ويفارقَ سائرهن، وأمر مَن تحته أختان أن يفارِق أيتَهما شاء، وهو حديث عهدٍ بالإسلام، ولم يأمره أن ينتظر بوطء من أمسك انقضاءَ عدةِ من فارق، ولا ذكر له ما يدلُّ على ذلك بوجهٍ، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة. والمفارقات قد بِنَّ عنه وخرجن عن عصمته، وقد يسافرن إلى أهاليهن، وقد _________ (1) في الأصل: "ثلاثة". والمثبت من "المغني". (2) لم أجده عن زرارة، وهو مرويٌّ عن عبيدة السلماني كما في "المغني" (9/ 478) و"مجموع الفتاوى" (32/ 72).

(1/525)


يذهبن حيث شئن، فلا تُعلم أحوالهن، فما يُدرِيه بانقضاء عدتهن؟ فإن قلتم: ينتظر علمه بذلك، أو حتى يصرن إلى حد الإياس فيحسب ثلاثة أشهرٍ= كان هذا في غاية البعد، ولا تأتي الشريعة به. وإن قلتم: ينتظر مقدار ثلاث حيضٍ= فالحيضة قد يطول زمن مجيئها، فلا يُعلم متى تجيء، فكيف تنقضي العدة بالشك؟ فإن قلتم: هذا بعينه واردٌ فيمن طلَّق إحدى الأختين أو واحدةً من أربع، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الحكم في صورة النقض لم يثبت بنصٍّ يجب التسليم له، ولا إجماعٍ لا تجوز مخالفته. وأما ما ذكرتم من إجماع الصحابة فسألتُ شيخنا عنه فقال لي: الظاهر أنه أراد عدة الرجعية، وهاهنا يتحقق الإجماع، وأما البائن فأين الإجماع فيها؟ (1). قال الشافعي (2): والحجة على جواز ذلك انقطاعُ أحكام الزوجية بانقطاع أحكامها من الإيلاء والظهار واللعان والميراث وغير ذلك. قال: وهو قول القاسم وسالمٍ وعروة وأكثرِ أهلِ دارِ السنة وحرمِ الله. _________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 72، 73). (2) كما في "السنن الكبير" للبيهقي (7/ 150). وانظر: "الأم" (6/ 380، 381).

(1/526)


وقال مالك في "الموطأ" (1): عن ربيعة أن عروة والقاسم كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع فيطلِّق إحداهن [البتة]: إنه يتزوج إذا شاء، ولا ينتظر حتى تمضي عدتها. وقال سعيد بن المسيب في رجل كانت تحته أربع نسوةٍ [فطلَّق واحدةً منهن]: إن شاء تزوج الخامسة في العدة، وكذلك قال في الأختين (2). قال البيهقي (3): ورويناه عن الحسن وعطاءٍ وبكر بن عبد الله، وخِلاس بن عمرٍو. الوجه الثاني: الفرق بين المسألة المذكورة وبين مسألة الطلاق بأن في مسألة الإسلام تبيَّنَّا أن المفارقات لم يكنَّ زوجاتٍ بين الإسلام والاختيار، وما قبل ذلك لا نحكم عليه بشيء، فيجري وطؤهن قبل الإسلام مجرى وطء الشبهة. بخلاف المطلَّقة، فإنها كانت زوجه ظاهرًا وباطنًا، فالعدة في حقها أثرٌ من آثار نكاحٍ صحيح لازمٍ قابلٍ للدوام، فلا يلحق به الوطء في نكاحٍ لا يجيزه الإسلام، ولا نحكم له بالصحة. فصل (4) نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين: _________ (1) برقم (1577). (2) أخرجه البيهقي في "السنن" (7/ 150). ومنه الزيادة. (3) في "السنن" (7/ 151). (4) انظر: "المغني" (10/ 37).

(1/527)


أحدهما: أن لا يتحاكموا فيها إلينا، فإن تحاكموا فيها إلينا لم نُقِرَّهم على ما لا مساغَ له في الإسلام. الثاني: أن يعتقدوا إباحة ذلك في دينهم، فإن كانوا يعتقدون تحريمه وبطلانه لم نُقِرَّهم عليه، كما لا نُقِرُّهم على الربا وقَتْلِ بعضهم بعضًا وسرقةِ أموال بعضهم بعضًا، وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين لما زنيا، ولم يُقِرَّهم على ذلك. فإن قيل: فهل تُقِرُّون المجوس على نكاح ذوات محارمهم لاعتقادهم جوازَ ذلك، إذا لم يترافعوا إلينا؟ قيل: هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنهم يُقَرُّون على ذلك، نصَّ عليه في رواية مهنا (1)، وقد سأله عن المجوسي هل يُحال بينه وبين التزويج بمحرمٍ؟ وذكر له حديث عمر: فرِّقوا بين كل ذاتِ مَحرمٍ من المجوس (2). فقال: قال الحسن ــ يعني البصري ــ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، فأقرَّهم على ذلك ولم يَهِجْهم (3). وقال في رواية أبي طالب (4): لا يُفرَّق بين حريمه وبينه، إنما قال: "سُنُّوا _________ (1) "الجامع" للخلال (1/ 237). (2) أخرجه البخاري (3156) (3) قول الحسن أخرجه سعيد بن منصور (2183) والبيهقي في "السنن" (8/ 248). (4) "الجامع" للخلال (1/ 238).

(1/528)


بهم سنةَ أهل الكتاب"، وليس هم أهل كتابٍ. فإن قيل: فهل تُقِرُّونهم على الزنا واللواط والربا، وهو دون نكاح الأم والبنت؟ قيل: لا نُقِرُّهم عليه، نصَّ عليه أحمد في رواية إبراهيم بن أبانٍ (1) في مجوسي في زُقاقٍ ليس له منفذٌ، وطريق المسلمين عليه، وهو يزني (2) على الطريق، فقال: يُخرَج ولا يُترك؛ لأن المسلمين يزنون معه. والفرق بين إقراره على نكاح محرمه وإقراره على الزنا والربا واللواط: أن ذلك يتعدَّى ضرره إلى المسلمين، وأما نكاح محرمه فيختص ضرره به دون المسلمين. وعارض أحمد قولَ (3) عمر - رضي الله عنه - بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من المجوس ولم يشترط عليهم تركَ أنكحتهم، ولم يفرِّق بينهم وبين أزواجهم من ذوات المحارم مع علمه بما هم عليه. ومضى على ذلك الصديق - رضي الله عنه - خلفه. وهم إنما بذلوا الجزية ليقَرُّوا على كفرِهم وشركهم _________ (1) المصدر السابق (2/ 471). وفيه: "إبراهيم أن أباه" وهو تحريف، وهو إبراهيم بن أبان الموصلي، له عن الإمام أحمد مسائل. انظر: "طبقات الحنابلة" (1/ 93). (2) كذا في الأصل هنا وفيما بعد، والذي في "الجامع": "يُربي" و"يُربون" من الربا. وقد أشار محققه إلى أن في نسخة (ح) منه كما هنا. وعلى مثل هذه النسخة يكون اعتمد ابن القيم. (3) في الأصل: "بعد". والمثبت يقتضيه السياق.

(1/529)


الذي هو أعظم من نكاح محارمهم، فإقرارهم كإقرار اليهود على نكاح بنات الإخوة والأخوات، وعلى سائر أنكحتهم الفاسدة. والثانية: لا يُقَرُّون، فإن أحمد قال في مجوسي تزوج نصرانيةً، قال: يحال بينه وبينها. قيل: من يحول بينهما؟ قال: الإمام (1). ذكره أبو بكرٍ (2) ثم قال: لأن علينا ضررًا في ذلك، يعني بتحريم أولاد النصرانية علينا. قال: وهكذا يجيء على قوله في تزويج النصراني المجوسية. قال في "المغني" (3): ويجيء على هذا القول أن يُحال بينهم وبين نكاح محارمهم (4) فإن عمر - رضي الله عنه - كتب أن فرِّقوا بين كل ذي رحمٍ من المجوس. وقال أحمد في مجوسي ملك أمةً نصرانيةً: يحال بينه وبينها، ويُجبَر على بيعها؛ لأن النصارى لهم دينٌ. فإن ملكَ نصراني مجوسيةً فلا بأسَ أن يطأها، وقال أبو بكرٍ: لا يجوز له وطؤها أيضًا، لما ذكرنا من الضرر. قلت: لم يمنع أحمد من تزوُّج المجوسي بالنصرانية لما يلحقنا من الضرر بتحريم ابنتها علينا، ولا خطَرَ هذا التعليلُ ببال أحمد! وأيُّ ضررٍ علينا في ترك نكاح نسائهم بالكلية؟ ولو كان التسبُّب إلى تحريم البنت ضررًا علينا لكان في تحريم نكاح نسائهم مطلقًا ضررٌ، ولا ضررَ علينا بحمد الله من ذلك _________ (1) "الجامع" للخلال (2/ 475). (2) كما في "المغني" (10/ 38). (3) (10/ 38). (4) في الأصل: "محارمهن". والمثبت من "المغني".

(1/530)


بوجهٍ من الوجوه. وإنما مأخذ أحمد أن دين أهل الكتاب خيرٌ من دين المجوس، فلا يجوز أن يُمكَّن المجوسي والوثني أن يعلو امرأةً دينُها خيرٌ منه، كما لا يُمكَّن الذميُّ من نكاح مسلمةٍ، وعلى هذا فلا يُمنع النصراني من تزويج المجوسية؛ لأنه أعلى دينًا منها، وإن حرم علينا نحن نكاحها، ولا يلزم من تحريمها علينا تحريمُها على أهل الكتاب وأن لا نُقِرَّهم على نكاحها كما نُقِرُّهم على أكل الخنزير وشرب الخمر. وإذا أقررنا المجوس على نكاح ذوات محارمهم فإقرار أهل الكتاب على مناكحتهم أولى وأحرى. ولا يخرج من هذا النص عدمُ إقرار المجوس على نكاح ذوات محارمهم لما ذكرنا من مأخذه. وكذلك نصُّه على مجوسي ملك أمةً نصرانيةً يُحال بينهما، إنما ذلك لأن دينها أعلى من دينه، وقد صرَّح بهذا التعليل بعينه، فقال: لأن النصارى لهم دينٌ. فإن كان الأصحاب إنما أخذوا هذه الرواية من هذا النص فليست برواية، والمسألة رواية واحدةٌ. وقد تأملتُ نصوصه في هذا الباب في "الجامع"، فلم أجد عنه نصًّا بأنهم لا يُقَرُّون على نكاح ذوات المحارم. وأما تفريق عمر - رضي الله عنه - بينهم وبين ذوات محارمهم فاجتهادٌ منه - رضي الله عنه -، وقد أقرَّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته. وقد يقال: كانت شوكتهم قوية في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) وزمن أبي بكر - رضي الله عنه -، فلما عزَّ الإسلام وذلَّ المجوس في عهد عمر - رضي الله عنه - وكانوا أذلَّ ما كانوا= رأى أن يُلزِمهم بترك _________ (1) "وخليفته ... - صلى الله عليه وسلم - " ساقطة من المطبوع.

(1/531)


نكاح ذوات المحارم وأن يُفرِّق بينهم وبينهن. وعلى هذا، فإذا قويت شوكة قومٍ من أهل الذمة وتعذَّر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه، فإذا ذلُّوا وضعُفَ أمرهم ألزمناهم بذلك، فهذا له مساغٌ. إلا أنه قد يقال: فقد صالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب عليهم الجزية، ولم يشترط عليهم التفريق بينهم وبين ذوات محارمهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِرُّ على ما لا يَسُوغُ الإقرار عليه. وقد يُجاب عن ذلك: بأنه أقرَّهم في ابتداء الأمر والملكُ فيهم والشوكةُ لهم، وبلاد فارس وما والاها تحت قهرهم وملكهم، فلما صارت ممالكهم للمسلمين وصاروا أهلَ ذمةٍ منعهم عمر - رضي الله عنه - من ذلك، وحال بينهم وبينه. وهذا من أحسن اجتهاده - رضي الله عنه - وأقواه، وأحبِّه إلى الله ورسوله، فإنه (1) من أعظم القبائح التي يُبغضها الله ورسوله: نكاح الرجل أمَّه وابنته وعمَّتَه وخالته، ولا ريبَ أن إزالة هذا من الوجود أحبُّ إلى الله ورسوله من الإقرار عليه، ويكفينا في ذلك النقلُ الصحيح عمن ضرب الله الحقَّ على لسانه وقلبه، ومن كانت السكينة تنطق على لسانه، ومن وافق ربَّه في غير حكمٍ، ومن أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته (2). وهو أحبُّ إلينا من النقل في ذلك _________ (1) كذا في الأصل، وفي المطبوع: "فان". (2) أشار المؤلف هنا إلى الأحاديث الواردة في فضائل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وحديث ضرب الله الحق على لسانه وقلبه أخرجه الترمذي (3683) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وفي الباب عن غيره. ونطق السكينة على لسان عمر أخرجه أحمد (834) من قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فيه. وحديث موافقته ربَّه أخرجه البخاري (402) ومسلم (2399) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. والأمر باتباع سنته أخرجه أحمد (17145) وأبو داود (4607) وغيرهما من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -، بلفظ: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ... ".

(1/532)


عن أحمد والشافعي ومالك وأمثالهم من الأئمة - رضي الله عنهم -. فصل فإن قيل: فما تقولون في نصراني تزوج يهوديةً أو بالعكس، هل تُقِرُّونهم على ذلك أم لا؟ وإذا فعلوه فما حكم هذا الولد؟ قيل: لا يخلو إما أن يعتقدوا حلَّ ذلك أو تحريمَه، فإن اعتقدوا حلَّه جاز ذلك، ولم يُعرض لهم فيه. وإن اعتقدوا تحريمه لم نُقِرَّهم عليه، فإنا لا نُقِرّهم على نكاحٍ يعتقدون بطلانه وأنه زنًا. وقد نصَّ أحمد (1) أنه إذا تزوَّج المجوسي كتابيةً يُفرَّق بينهما، وأطلق الجواب، وظاهره التفريقُ وإن لم يترافعوا إلينا. وأما إن تزوَّج الذمي وثنيةً أو مجوسيةً، فهل يُقَرُّ على ذلك؟ فيه وجهان (2): أحدهما: يُقرّ؛ لأنه أعلى دينًا منها، فيقر على نكاحها كما يُقَرُّ المسلم _________ (1) تقدم قريبًا. وانظر: "المغني" (10/ 33). (2) انظر: "المغني" (10/ 33).

(1/533)


على نكاح الكتابية. والثاني: لا يُقرّ، لأنها لا يُقَرُّ المسلم على نكاحها، فلا يُقرُّ الذمي عليه. وعندي أنه إن اعتقد جواز هذا النكاح أُقِرَّ عليه، وإن اعتقد تحريمه لم يُقَرَّ. فإن قيل: فإن أسلموا على ذلك فهل يحتاج إلى تجديد النكاح أم يستمرُّون عليه؟ قيل: يحتمل أن يقال: لا بدَّ من تجديد النكاح؛ لأن الأول لم يكن نكاحًا يعتقدون صحته. ويحتمل أن يقال ــ وهو أصح ــ: لا يحتاج إلى تجديد نكاحٍ، والإسلام صحَّح ذلك النكاح كما يصحِّح الأنكحة الفاسدة في حال الكفر إذا لم يكن المفسد قائمًا. وأما حكم الولد هل يتبع أباه أو أمه، فالولد يتبع خيرَ أبويه دينًا، فإن نكح الكتابي مجوسيةً فالولد كتابي، وإن وطئ مجوسيٌّ كتابيةً بشبهةٍ، فالولد كتابي أيضًا، وإن كان أحدهما يهوديًّا والآخر نصرانيًّا، فالظاهر أن الولد يكون نصرانيًّا، وصرَّح به أصحاب أبي حنيفة، فإن النصارى تؤمن بموسى والمسيح، واليهود تكفُر بالمسيح، فالنصارى أقرب إلى المسلمين، واليهود خيرٌ من منكري النبوات، وكلما كان إيمان الرجل بالنبوات أكثر كان خيرًا ممن ينكر ما صدّق به. وأيضًا فإن اليهود بعد مبعث عيسى خرجوا عن شريعة موسى وعيسى جميعًا، فإن شريعة موسى موقَّتةٌ بمجيء المسيح، فكان يجب عليهم اتباعه،

(1/534)


ولهذا قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 84]، ولذلك أبقى الله سبحانه للنصارى مملكةً في العالم، وسلب اليهود مُلْكَهم وعزَّهم بالكلية إلى قيام الساعة (1). فصولٌ في أحكام مهورهم قال إسحاق بن منصورٍ (2): قلت لأبي عبد الله: نصراني تزوج نصرانيةً على قُلَّةٍ (3) من خمرٍ، ثم أسلما. قال: إن دخل بها فهو جائزٌ، وإن لم يكن دخل بها فلها صداق مثلها. وقال مهنا (4): سألت أبا عبد الله عن نصراني تزوج نصرانيةً على خنزيرٍ أو على دَنِّ (5) خمرٍ، ثم أسلموا (6)، فحدثني عن يحيى بن سعيد عن ابن جريجٍ أنه قال لعطاءٍ: أَبلغَك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أهلَ الجاهلية على ما _________ (1) وما نرى اليوم من شوكتهم ودولتهم فهو كما قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. والواقع أكبر شاهدٍ على ذلك. (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 234، 235). وهو في "مسائله" (1/ 428). (3) هي الجرَّة الكبيرة من الفخّار وغيره. (4) "الجامع" (1/ 234). (5) الوعاء الكبير للخمر ونحوها، يكون مدبب القعر لا يثبت على الأرض إلّا أن يُحفر له. (6) كذا في الأصل و"الجامع". وغيّره في المطبوع إلى "أسلما".

(1/535)


أسلموا عليه من نكاحٍ أو طلاقٍ؟ فقال: ما بلغنا إلا ذلك (1). فسألته: ما قوله؟ نكاحٌ أو طلاقٌ؟ قال: يُقَرُّون على نكاحهم، وجوّز طلاقهم في الجاهلية. وقال الخرقي (2): وما سُمِّي لها وهما كافران، فقبضته، ثم أسلما، وإن كانت حرامًا فليس لها غيره. ولو لم تقبضه وهو حرامٌ، فلها عليه مهرُ مثلها أو نصفُه حيث وجب ذلك. وهذا الذي ذكره هو الذي دلَّ عليه الكتاب وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكفّار في هذا، وفيما هو أعمُّ منه من عقودهم ومعاملاتهم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 277]، فأمر تعالى بترك ما بقي دون ما قُبِض. وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 274] ، وقد أسلم الخلق العظيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه، فلم يتعرض لأحدٍ منهم في صداقٍ أَصْدَقه في حال الكفر، إلا أن يكون المفسد مقارنًا للإسلام، كنكاح أكثر من أربع ونكاح الأختين، وكذلك ما مضى من بياعاتهم وسائر عقودهم ومواريثهم، وهذا معلومٌ بالاضطرار من دينه وسيرته. فإن لم يتقابضا ثم أسلما، أو ترافعا إلينا، فإن كان المسمى صحيحًا _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (12632) وابن أبي شيبة (19436). (2) انظر: "مختصر الخرقي مع شرحه المغني" (10/ 33).

(1/536)


حكمنا لها به أو بنصفه حيث يتنصف، وإن كان حرامًا كالخمر والخنزير بطل تسميته، ولم نحكم به. ثم اختلف الفقهاء: بماذا نحكم لها به؟ (1). فقال الشافعي وأحمد وأصحابهما: لها مهر المثل أو نصفه؛ لأن التسمية بطلت بالإسلام، فصارت كأن لم تكن، فتعيَّن المصير إلى مهر المثل كالتعويض (2). وقال أبو حنيفة: إن كان صداقها خمرًا أو خنزيرًا معيَّنينِ فليس لها إلا ذلك، وإن كانا غير معيَّنينِ فلها في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل استحسانًا (3). قالوا: لأن الملك في ذلك ثابتٌ في حال الكفر، ومعنى اليد ــ وهو التصرف ــ ثابتٌ أيضًا، والمتخلف بالإسلام صورة اليد، والمسلم غير ممنوع من إثبات اليد صورةً، والذي يمتنع بالإسلام إثبات الملك على ذلك أو ما هو بمعناه من إثبات اليد المعنوية، ولا يمتنع إثبات اليد الصورية. وأيضًا فإذا عيَّنَّا خمرًا أو خنزيرًا أُجري تعيينه مُجرى قبضه، لتمكُّنها بالمطالبة متى شاءت، ولإقرارنا لهم على تعيينه والتعاقد عليه. وسرُّ المسألة: أن لها حقَّ القبض في العين، وأما إذا لم تعيَّن فليس لها حق القبض. _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 34). (2) في الأصل: "كالتفويض" تصحيف. (3) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 112).

(1/537)


ثم اختلف أبو حنيفة وأصحابه (1)، فقال أبو حنيفة: يجب في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل. وقال أبو يوسف: لها مهر المثل فيهما، وقال محمد: لها القيمة فيهما. ووجه قول محمد: أن التسمية صحت في العقد، وصحة التسمية تمنع المصير إلى مهر المثل، لكن تعذَّر القبض بالإسلام، فصار كما لو تعذَّر بالهلاك، فوجبت القيمة. وأبو يوسف يقول: لما تعذَّر القبض كان الفساد في حق القبض بمنزلة الفساد في حق العقد، فوجب مهر المثل. وأبو حنيفة يقول: الأصل صحة التسمية، وهي تمنع المصير إلى مهر المثل، إلا أنا استقبحنا في الخنزير إيجاب قيمته، فأوجبنا مهر المثل؛ لأن القيمة كانت واجبةً قبل الإسلام أصلًا في حق التسليم لا خلفًا، فإن القدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف، ولو جاءها بالقيمة هاهنا أُجْبِرت على القبول مع القدرة على الخنزير، فدلَّ على أنها وجبت أصلًا، فلا يمكن إيجابها بعد الإسلام خلفًا، ولا يمكن الإيجاب على ما كان قبل الإسلام؛ لأنه إنما وجب قبله ضمنًا لوجوب تسليم الخنزير، وقد سقط وجوب التسليم بالإسلام. _________ (1) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 112)، و"المبسوط" للسرخسي (5/ 42، 43).

(1/538)


ومن أوجب مهر المثل في هذه المقدمات أو في بعضها يقول (1): الخمر لا قيمةَ له في الإسلام، فهو كالخنزير، فصار وجود تسميته كعدمها، فقد خلا النكاح من التسمية المعتبرة شرعًا، فيجب مهر المثل. قالوا: وليس في شريعة الإسلام للخمر قيمةٌ حتى نعتبرها هاهنا، وإنما يقوِّمه الكفار، ونحن لا نعتبر قيمته عندهم، وليس له عندنا قيمةٌ البتةَ. ويُقوِّي قولَ محمد أنها قد رضيت بإخراج بُضْعها على هذا المسمى، والزوج إنما دخل على ذلك، فلا يلزمه أكثر منه، ولِمَ يلزَمه ولا ألزمه به الشارع، وكون الخمر والخنزير لا قيمة له عندنا لا يمنع من اعتبار قيمته وقتَ العقد، فإنها رضيت بماليته، وانحصار المالية في هذا الجنس، فإذا فات ما انحصرت فيه المالية بالإسلام صرنا إلى قيمته وقتَ العقد كما لو عُدِم ذلك الجنس، ولا محذورَ في تقويم ذلك لتعيين مقدار الواجب للضرورة، كما يقوّم الحر عبدًا في باب الأَرْش (2) لتعيين مقدار الواجب. يوضحه أن المسمَّى حالَ العقد كان مالًا بالنسبة إليهم، فكان متقومًا بالنسبة إلى هذا العقد والمتعاقدين، وبالإسلام فاتت ماليته، فتعينت قيمتُه حينَ العقد. وهذا القول هو الذي نختاره، والله أعلم. _________ (1) في الأصل: "ويقول". (2) أي الدية.

(1/539)


فصل (1) فإن قبضتْ من المهر بعضَه وبقي بعضه سقط منه بقدر ما قُبِض، ووجب بحصة ما بقي من مهر المثل أو من القيمة على الخلاف، فإن أصدقَها عشرةَ زِقاقِ (2) خمرٍ متساويةً، فقبضتْ خمسةً، وجب نصف مهر المثل أو قيمة الخمسة، على ما تقدم. فإن كان بعضها أكبر من بعضٍ ففيه وجهان للقائلين بمهر المثل: أحدهما: يعتبر المقبوض، والباقي بالكيل. والثاني: يعتبر العدد، لأنه لا قيمة لها فاستوى كبرها وصغرها (3). وهذا فاسدٌ (4)، فإنه إذا أصدقَها زِقًّا كبيرًا وآخرَ صغيرًا، فقبضت الكبير، لم يكن الصغير نصف المهر، كما لو أصدقها زقًّا فقبضت أربعةَ أخماسِه وبقي خُمسه. وكذلك الوجهان (5): فيما لو أصدقَها عشرة خنازير بعضها شرٌّ من بعضٍ، فقبضت ما خَيرُه دونَه وأخسُّ منه. _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 34). (2) جمع زِقّ، وعاء من جلد يُجَزُّ شعره للشراب وغيره. (3) في "المغني": "صغيرها وكبيرها". (4) هذا تعليق المؤلف على الكلام السابق. (5) انظر: "المغني" (10/ 34).

(1/540)


فإن أصدَقها كلبًا وخنزيرين وثلاثةَ زِقاقِ خمرٍ، ففيه ثلاثة أوجهٍ (1) لأصحاب أحمد والشافعي: أحدها: يُقسَّم على قدر قيمتها عندهم. والثاني: يُقسَّم على عدد الأجناس، فيجعل لكل جنسٍ ثلثُ المهر، فللكلب ثلثه، وللخنزيرين ثلثه (2)، وللخمر ثلثه. والثالث: يُقسَّم على العدد كله، فللكلب سُدس المهر، وللخنزيرين ثلثه، وللخمر نصفه (3). فصل (4) فإن نكحها نكاحًا لا يُقَرُّون عليه إذا أسلموا، كنكاح ذوات المحارم، فأسلما قبل الدخول، وترافعوا (5) إلينا= فُرِّق بينهما ولا مهرَ لها. وإن دخل بها فهل يُقضى لها بالمهر؟ فهو على الخلاف فيمن وطئ ذات محرمةٍ بشبهةٍ، وفيه عن أحمد ثلاث رواياتٍ (6): إحداهن: لها مهر المثل؛ لأنه استوفى منها ما يقابله. _________ (1) المصدر نفسه (10/ 34، 35). (2) "وللخنزير ثلثه" ساقطة من المطبوع. (3) الذي في "المغني": "ولكل واحدٍ من الخنزيرين والزّقاق سدسه". وهو مخالف لما هنا. (4) انظر: "المغني" (10/ 35). (5) كذا في الأصل و"المغني". وجعله في المطبوع: "وترافعا". (6) انظر: "المغني" (9/ 170، 10/ 35).

(1/541)


والثانية: لا مهر لها؛ لأن تحريمها تحريمٌ أصلي لا يزول بحالٍ، فلم يوجب وطؤها مهرًا، كاللواط. والثالثة: يجب لمن تحلّ ابنتها كالعمة والخالة، ولا يجب لمن تحرم ابنتها كالأم والأخت، لغلظ التحريم في هذه وخفَّته في تلك. وقد نصَّ أحمد (1) في رواية أبي بكر بن صدقة، في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها، فيطلّقها أو يموت عنها، فترتفع (2) إلى المسلمين تطلب مهرها: أنه لا مهرَ لها. ولم يفرِّق بين ما قبل الدخول وبعده، بل صرَّح بسقوط المهر في الحالة التي يكمل بها وهي الموت. وكذلك نصَّ (3) في رواية أحمد بن هشامٍ في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها، فيموت أو يطلّقها، فلا صداق لها. فصل (4) فإن تزوج ذميٌّ ذميةً على أن لا صداق لها، أو سكت عن ذكره، فلها المطالبة بعوضه (5) إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده فلها مهر المثل كما في نكاح المسلمين. هذا قول الجمهور. _________ (1) كما في "الجامع" للخلال (2/ 473). وليس فيه ذكر أبي بكر بن صدقة. (2) كذا في الأصل. وفي "الجامع": "فترجع". (3) كما في "الجامع" (2/ 473). وليس فيه ذكر أحمد بن هشام. (4) انظر: "المغني" (10/ 35). (5) كذا في الأصل، وفي "المغني": "بفرضه".

(1/542)


وقال أبو حنيفة: إن تزوجها على أن لا مهرَ لها فلا شيء لها، وإن سكت عن ذكره فعنه روايتان، إحداهما: لا مهر لها. والأخرى: لها مهر المثل. قال من رجَّح هذا القول: المهر وجب في النكاح لحقِّ الله، ولهذا لو أسقطاه وتعاقدا على أن لا مهر لها لم يسقط، والذمي لا يُطالَب بحقوق الله من زكاةٍ ولا حجٍ ولا غير ذلك. وأيضًا فنحن نُقِرُّهم على أنكحتهم ما لم يكن المفسد مقارنًا للإسلام في حالة (1) الترافع إلينا، وعدم ثبوت المهر في هذه الحالة لا يقتضي فرضه فيها، وما قبل ذلك لا يتعرض لهم فيه، وهذا قول قوي جدًّا. فصل (2) في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ إذا ارتفعوا إلى الحاكم في ابتداء العقد لم يزوِّجهم إلا بشروط نكاح الإسلام، لقوله عز وجل: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 44]، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 51]. وإن أسلموا أو ترافعوا إلينا بعد العقد لم ننظر إلى الحال التي وقع العقد عليها ولم نسألهم عنها، ونظرنا إلى الحال التي أسلموا أو ترافعوا فيها، فإن _________ (1) في الأصل: "وحالة". (2) انظر: "المغني" (10/ 36).

(1/543)


كانت المرأة ممن يجوز عقد النكاح عليها الآن أقررناهما، وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرِّق بينهما. وعن أحمد ما يدلُّ على أنا ننظر في المفسد، فإن كان مؤبَّدًا أو مجمعًا على تحريمه لم نُقِرَّهم، وإن لم يكن مؤبَّدًا ولا مجمعًا على تحريمه أقررناهم، فإذا أسلما، والمرأة بنته من رضاعٍ أو زنًا، أو هي في عدةٍ من مسلم متقدمةٍ على العقد= فرِّق بينهما؛ لأن تحريم الرضاع مؤبَّدٌ مجمعٌ عليه، وتحريمُ ابنته من الزنا وإن لم يكن مجمعًا عليه فهو مؤبَّدٌ، والمعتدَّة من مسلمٍ تحريمُها وإن لم يكن مؤبَّدًا فهو مجمعٌ عليه. وإن كانت العدة من كافرٍ فروايتان منصوصتان عن أحمد، مأخذُ الإقرار أن المفسد غير مؤبَّدٍ ولا مُجمع عليه، فإن من لا يرى صحة نكاح الكفار لا يُوجب على من توفِّي زوجها الكافر عدة الوفاة. وإن كانت الزوجة حُبلى قبل العقد، أو قد شرط فيه الخيار مطلقًا أو إلى مدةٍ هما فيها، فوجهان: أحدهما: لا يُقرُّ عليه، لقيام المفسد له. والثاني: يُقر؛ لأن المفسد غير مجمعٍ عليه، فمن الناس من يرى جواز نكاح الحبلى من الزنا، ومنهم من يرى صحة النكاح المشروط فيه الخيار، كما هي إحدى الروايات عن أحمد بل أنصُّها كما تقدم. وإن أسلما وكان العقد بلا ولي أو بلا شهودٍ، أو في عدةٍ قد انقضت، أو على أختٍ وقد ماتت= أُقِرَّا عليه لعدم مقارنة المفسد للإسلام، وحكم حالة الترافع إلى الحاكم حكم حالة الإسلام في ذلك كله.

(1/544)


قال مهنا (1): سألت أحمد عن يهودي أو نصراني أو مجوسي تزوَّج بغير شهودٍ؟ قال: هو كذلك، يُقَرُّون على ما أسلموا عليه. قلت: فإن (2) تزوج امرأةً في عدتها ثم أسلما، أيُقَرَّانِ (3) على ذلك؟ قال: نعم، يقران على ذلك، اليهودي والنصراني إذا تزوج امرأةً في عدتها ثم أسلما جميعًا يقران على نكاحهما. قلت لأحمد: بلغك في هذا شيء؟ قال: نعم، حدثني يحيى بن سعيد عن ابن جريجٍ قال: قلت لعطاءٍ: بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أهل الجاهلية على ما أسلموا عليه؟ قال ما بلغنا إلا ذلك (4). قال مهنا (5): وسألت أحمد عن حربي تزوج حربيةً بغير شهودٍ ثم أسلما؟ قال: نعم، يُقَرَّان على ما أسلما عليه، من أسلم على شيء أُقِرَّ عليه. قلت لأحمد: حربي تزوَّج حربيةً في عدتها من طلاقٍ أو وفاةٍ بغير شهودٍ، ثم أسلما؟ قال: هما على نكاحهما، من أسلم على شيء فهو عليه. قال الخلال (6): أخبرنا يحيى بن جعفرٍ، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا ابن _________ (1) "الجامع" للخلال (1/ 235). (2) في الأصل: "فإنه". والمثبت من "الجامع". (3) في الأصل: "يقرا" هنا وفيما يأتي بحذف النون. والمثبت من "الجامع". (4) تقدم (ص 535). (5) "الجامع" (1/ 236). (6) "الجامع" (1/ 238). وهو مرسل.

(1/545)


جريجٍ، عن عمرو بن شعيبٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ الناس على ما أسلموا عليه، من طلاقٍ أو نكاحٍ أو ميراثٍ توارثوا عليه. قال ابن جريجٍ: فذكرتُ ذلك لعطاءٍ، فقال: ما بلغنا إلا ذلك. فصل في الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 72]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 74]. قال حنبلٌ (1): سمعت أبا عبد الله يقول: لا يزوِّج النصراني ولا اليهودي، ولا يكون النصراني واليهودي وليًّا. قال: وسمعت أبا عبد الله قال: لا يَعقِد نصراني ولا يهودي عقدةَ نكاحٍ لمسلم ولا مسلمةٍ، ولا يكونان وليينِ، لا يكون إلا مسلمًا. وقال في رواية الميموني (2)، وقد سأله رجل عن النصراني يكون وليًّا إذا كانت ابنته مسلمةً؟ قال: السلطان أولى. وقال مهنا (3): سألت أبا عبد الله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته، أيزوِّجها أبوها وهو نصراني أو يهودي؟ قال: لا يزوِّجها إذا كان نصرانيًّا أو _________ (1) المصدر نفسه (1/ 231). (2) المصدر نفسه (1/ 230). (3) المصدر نفسه (1/ 231).

(1/546)


يهوديًّا، فقلت له: فإن زوَّجها؟ قال: لا يجوز النكاح، يعني يُرَدُّ النكاح. قلت: فعلَ، وأذنت الابنة؟ قال: يعيد النكاح. قلت: يسافر معها؟ قال: لا يسافر معها، ثم قال لي أحمد بن حنبلٍ: ليس هو بمحرمٍ. قال الخلال (1): وقال في موضع آخر: قلت لا يسافر معها؟ قال: نعم. قال أبو بكرٍ (2): وهو الصواب، وبيَّنها مهنا مرةً في قوله: لا. قلت: فكيف يسافر معها وتقول (3): يعيد النكاح إذا أنكحها بأمرها؟ قال: نعم، هو يعيد نكاحها إذا أنكحها. قلت: فإن كانت المسلمة (4) وأبوها نصراني وهي محتاجةٌ يُجبَر أبوها على النفقة عليها؟ قال: لم أسمع في هذا شيئًا. قلت له: فإن قومًا يقولون: لا يُجبَر على النفقة عليها، فكيف تقول أنت؟ قال: يُعجبني أن ينفق عليها، فقلت له: يُجبَر؟ فقال: يُعجِبني، ولم يقل: يُجبَر. وقد تضمن هذا النص ثلاثة أمورٍ: أحدها: أن الكافر لا يصح أن يزوِّج وليتَه المسلمة. والثاني: أنه لا يكون مَحرمًا. والثالث: أنه لا يُجبر على النفقة مع اختلاف الدين، وسنذكر الكلام في _________ (1) في المصدر نفسه عقب الرواية المذكورة. (2) المصدر نفسه. (3) في المطبوع: "يقول" خطأ. وضمير الخطاب لأحمد كما في "الجامع". (4) كذا في الأصل و"الجامع" بالألف واللام، وحذفهما في المطبوع.

(1/547)


هاتين المسألتين عن قربٍ، إن شاء الله تعالى. قال حنبلٌ (1): حدثنا شُريح بن النعمان، حدثنا حماد بن سلمة، عن جعفر بن أبي وحشية أن هانئ بن قبيصة زوَّج ابنته من عروة البارقي على أربعين ألفًا، وهو نصراني، فأتاها القعقاع بن شَوْرٍ، فقال: إن أباكِ زوَّجكِ وهو نصراني لا يجوز نكاحه، زوِّجيني نفسَكِ، فتزوَّجها على ثمانين ألفًا، فأتى عروة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: إن القعقاع تزوَّج بامرأتي، فقال: لئن كنتَ تزوَّجتَ امرأته لأرجُمَنَّك، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ أباها زوَّجها وهو نصراني لا يجوز نكاحه. قال: فمن زوَّجك؟ قال: هي زوَّجتني نفسَها، فأجاز نكاحها وأبطلَ نكاح الأب، وقال لعروة: خذ صداقَك من أبيها. قال حنبلٌ (2): قال أبو عبد الله: إنما جعل الأمر إليها لأن الأب نصراني لا يجوز حكمه فيها، فردَّ الأمر إليها، ولا بدّ أن يجدّد هذا النكاح الآخر إذا رضيت، وإنما صيَّر لها الأمر بالرضا، ولا يجوز أن تزوِّج نفسها إلا بولي. وعليٌّ حينئذٍ السلطان، فأجاز ذلك وليها، وقال: خذ مهرك من أبيها؛ لأنه لم يكن دخل بها، ولو كان دخل بها لكان المهر لها والعدة عليها. وقال حربٌ (3): قلت لأحمد: امرأةٌ أبوها نصراني وأخوها مسلم، مَن _________ (1) كما في "الجامع" (1/ 231، 232). (2) في المصدر المذكور بعد النص السابق. (3) "الجامع" للخلال (1/ 233).

(1/548)


يزوِّجها؟ قال: الأخ. قلت: فهل للمشركين من الولاية شيء؟ قال: لا. وقال صالحٌ (1): قال أبي في امرأةٍ لها أبٌ ذمي ولها أخٌ مسلم، قال: لا يكون الذمي وليًّا. فصل فإن تزوَّج المسلم ذميةً بولاية أبيها الذمي، فهل ينعقد النكاح؟ فقال القاضي في "الجامع" (2): لا يجوز النكاح على ظاهر كلام أحمد في رواية حنبلٍ (3): لا يعقد يهودي ولا نصراني عقدَ نكاحٍ لمسلم ولا لمسلمةٍ، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: يجوز. والدلالة عليه: أن كل عقدٍ افتقرت صحته إلى شهادة مسلمين لا يصح بولاية كتابي، كما لو تزوج مسلمةً. قال: وعلى هذا القياس لا يلي في مالها كما لا يلي في نكاحها. وخالف القاضيَ أبو الخطاب، فقال (4): يجوز أن يزوِّج الكافر وليته الكافرة (5) من مسلم، قال: لأنه وليها، فصح تزويجه لها كما لو زوَّجها من _________ (1) المصدر نفسه (1/ 233). (2) لعله "الجامع الكبير"، فليس النصّ في "الجامع الصغير" له. (3) انظر: "المغني" (9/ 378). (4) كما في "المغني" (9/ 378). (5) في الأصل: "المسلمة". والتصويب من هامشه.

(1/549)


كافرٍ، قال: ولأنها امرأةٌ لها وليٌّ مناسبٌ، فلم يجز أن يليها غيره، كما لو تزوجها ذمي. قال الشيخ في "المغني" (1): وهو أصح. قلت: هو مخالفٌ لنصِّ أحمد، كما تقدم لفظه. فصل ولا يلي المسلم نكاحَ الكافرة، لما تقدَّم من قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، إلا أن يكون سلطانًا أو سيدًا لأمةٍ. فإن ولاية السلطان عامةٌ. وأما سيد الأمة فإن له أن يزوِّجها من كافرٍ، وإن لم يملك تزويج ابنته الكافرة من كافرٍ (2). والفرق بينهما أنه يزوِّجها بحكم الملك، فجاز ذلك كما لو باعها من كافرٍ، بخلاف ابنته، فإنه يزوِّجها بحكم الولاية، وقد انقطعت باختلاف الدين كما انقطع التوارث والإنفاق. فإن قيل: فما تقولون في أم ولد الذمي إذا أسلمت، هل يلي نكاحها؟ قيل: فيه وجهان لأصحابنا (3): أحدهما: يليه، لأنها مملوكته، فيلي نكاحها كالمسلم، ولأنه عقد على _________ (1) (9/ 378). (2) انظر: "المغني" (9/ 377). (3) "المغني" (9/ 377).

(1/550)


منافعها، فيليه كما يلي إجارتها. والثاني: لا يليه لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 72]، ولأنها مسلمةٌ، فلا يلي نكاحها كابنته. قال الشيخ في "المغني" (1): وهذا أولى لما ذكرنا من الإجماع. يعني قول ابن المنذر (2): أجمع كل من نَحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحالٍ. وقد قال في "المحرر" (3): ولا يلي مسلمٌ نكاحَ كافرةٍ إلا بالملك أو السلطنة. ولا يلي كافرٌ نكاحَ مسلمةٍ إلا بملكٍ نُقِرُّ له عليها، كمن أسلمت أمُّ ولده أو مكاتبتُه أو مدبَّرتُه في وجهٍ. ويلي الكافر نكاحَ موليته الكافرة من كافرٍ ومسلم. وهل يباشر تزويجَ المسلم في المسألتين، أو بشرط أن يباشره بإذنه مسلم أو الحاكم خاصةً؟ فيه ثلاثة أوجهٍ. قلت: في المسألة الأولى الزوجة هي المسلمة والولي كافرٌ، وفي المسألة الثانية المولية كافرةٌ والزوج مسلم. وقد حكى (4) الأوجه الثلاثة في المسألتين، فالصواب أن يقرأ: "وهل يباشر تزويج المسلم في المسألتين" ليعمَّ الصورتين، أي الشخص المسلم. وأما على ما رأيته في النسخ: "وهل _________ (1) (9/ 377). (2) "الأوسط" (8/ 292). (3) (2/ 16، 17). (4) في المطبوع: "وقلت على" بدل "وقد حكى".

(1/551)


يباشر تزويج المسلمة؟ " فإنه يختص بالمسألة الأولى، إلا أن يقال: أراد النفس المسلمة. وبكل حالٍ فمن قال: يباشر تزويجَ المسلم، فحجته أنه يزوِّجها بحكم الملك في المسألة الأولى، ويزوِّج الكافرة بحكم الولاية في المسألة الثانية، وهي ولايةٌ على كافرةٍ، ولا ولاية له على الزوج، فلا يمتنع تزويج الكافرة له. ومن قال: يعقده الحاكم خاصةً، فحجته انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم، فهذه المرأة في حكم من لا وليَّ لها في الصورة الأولى. وأما في الثانية فلما كان الزوج مسلمًا وللولي عليه ولايةٌ مَّا فإنه هو الذي يوجب له عقدَ النكاح، والكافر ليس أهلًا (1) لذلك، فكانت الولاية للحاكم. ومن قال: نأذن لمسلم يباشر العقد فلأنه ولي في الحقيقة، ولكن اتصال هذا العقد بمسلم يمنع من مباشرة الكافر له، فيباشره مسلم بإذن الوليِّ جمعًا بين الحقين: حق الولي وحق المسلم. فصل فإن تزوّج المسلم ذميةً بشهادة ذميين، فنصّ أحمد على أنه لا يصح. قال مهنا (2): سألت أحمد عن رجل مسلم تزوج يهوديةً بشهادة نصرانيين أو مجوسيين، قال: لا يصلح إلا عدولٌ. وهذا قول الشافعي. _________ (1) في الأصل: "أهل". (2) كما في "الجامع" للخلال (1/ 228).

(1/552)


وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يصح النكاح (1). وخرَّجه الأصحاب (2) وجهًا في المذهب بناءً على قبول شهادة بعضهم على بعضٍ. وحجة من أبطله قوله: "لا نكاحَ إلا بولي وشاهدَيْ عدلٍ" (3)، وأن الشهادة إنما شُرطت لإثبات الفراش عند التجاحد، ولا يمكن إثباته بشهادة الكفار، وبأن شهادتهم كلا شهادةٍ، فقد خلا النكاح عن الشهادة، وبأن النكاح لو انعقد بشهادتهما لسمعت شهادتهما على المسلم فيما يرجع إلى حقوق النكاح من وجوب المهر والنفقة والسكنى، وهذا ممتنعٌ. قال المجوِّزون: الشهادة في الحقيقة للمسلم على الكافرة، لأنهما يشهدان عليها بإثبات ملْكِ بُضْعها له أصلًا، فهي في الحقيقة شهادة كافرٍ على كافرٍ، ونحن نقبلها، فنصحح العقد بها. وأما حقوق النكاح فإنما تثبت ضمنًا وتبعًا، ويثبت في التبع ما لا يثبت في المتبوع، ونظائره كثيرةٌ جدًا. فصل ولا يكون الكافر مَحْرمًا للمسلمة. نصَّ عليه أحمد، فقال أبو الحارث (4): _________ (1) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 84). (2) انظر: "المغني" (9/ 349). (3) أخرجه ابن حبان (4075) من حديث عائشة بزيادة "وشاهدي عدل"، وقال: ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر. وإسناده حسن. وراجع كلام الدارقطني (3/ 255 - 256) والبيهقي (7/ 124 - 125) على هذه الزيادة ومن رواها. (4) "الجامع" للخلال (1/ 229).

(1/553)


قيل لأبي عبد الله: المجوسي مَحْرمٌ لأمه وهي مسلمةٌ؟ قال: لا. وقال أبو الحارث أيضًا (1): سئل أبو عبد الله عن امرأةٍ مسلمةٍ لها ابنٌ مجوسي وهي تريد سفرًا، يكون لها مَحْرمًا يسافر بها؟ قال: لا، هذا يرى نكاح أمه، فكيف يكون لها مَحْرمًا وهو لا يُؤمَن عليها؟! وقال مهنا (2): سألت أحمد عن مجوسي تُسلِم ابنته وهو مجوسي يُفرَّق بينه وبينها؟ قال: نعم، إن كان يتقى منه. فقلت له: وأي شيء يتقى منه؟ فقال: يجامعها. وقال أبو داود (3): سئل أبو عبد الله عن المجوسي تسلم أخته يُحال بينهما؟ قال: نعم، إذا خافوا أن يأتيها. قال (4): وسمعت أبا عبد الله يُسأل عن المجوسي يسافر بابنته أو يزوِّجها، قال: ليس هو لها بولي. وقال علي بن سعيد (5): سألت أحمد عن النصراني واليهودي يكونان مَحْرمًا؟ قال: هما لا يزوّجان، فكيف يكونان مَحْرمًا؟ _________ (1) المصدر نفسه. (2) المصدر نفسه (1/ 230). (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه (1/ 230).

(1/554)


وقال مهنا (1): سألت أبا عبد الله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته، أيزوِّجها أبوها وهو نصراني أو يهودي؟ قال: لا يزوِّجها. فقلت له: فإن زوّجها، قال لا يجوز النكاح. قلت: فعلَ وأذنت الابنة. قال: يعيد النكاح. قلت: يسافر معها؟ قال: لا يسافر معها، ثم قال لي: ليس هو بمَحْرمٍ. فقد نصَّ على أن مَحْرم المسلمة لا يكون كافرًا. فإن قيل: فأنتم لا تمنعون من النظر إليها، والخلوة بها، وكونهما في بيت واحدٍ. قيل: بل نمنعه إذا كان مجوسيًّا، كما نصَّ عليه أحمد. وأما اليهودي والنصراني فلا يؤمن عليها في السفر أن يبيعها أو يقتلها بسبب عداوة الدين، وهذا منتفٍ في خلوته بها، ونظره إليها في الحضر، فافترقا. والمقصود من المَحْرم كمالُ الحفظ والشفقة، وعداوة الدين قد تمنع كمال ذلك. فصل فإن قيل: فما تقولون في وجوب الإنفاق على الأقارب مع اختلاف الدين؟ لقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى اَلْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 231]، واختلاف الدين يمنع الميراث. [قيل: إن كانوا من غير عمودي النسب لم تجب نفقتهم مع اختلاف الدين] (2)، _________ (1) المصدر نفسه (1/ 231). (2) زيد ما بين المعكوفتين ليستقيم السياق. وانظر: "زاد المعاد" (6/ 152).

(1/555)


وأما عمود النسب ففيهم روايتان (1): إحداهما: لا تجب نفقتهم لذلك. والثانية: تجب لتأكد قرابتهم بالعصبة (2). وحكى بعض الأصحاب في وجوب نفقة الأقارب مطلقًا مع اختلاف الدين وجهين، وهذه الطريقة أفقه، فإن اختلاف الدين (3) إن منع وجوب الإنفاق منع في سائر الأقارب، وإن لم يكن مانعًا لم يمنع في حق قرابة الكلالة، كالرقّ والغنى. فأما أن يكون مانعًا في قرابةٍ دون قرابةٍ فلا وجه له، ولا يصح التعليل بتأكد القرابة؛ لأن الأخ والأخت أقرب من أولاد البنات. والذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وإن اختلف الدينان، لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 7]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14]، وليس من الإحسان ولا من المعروف تركُ أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة، وهو في غاية الغنى. وقد ذمَّ الله تبارك وتعالى قاطعي الرحم، وعظَّم قطيعتها، وأوجب حقّها وإن كانت كافرةً، قال تعالى: _________ (1) انظر: "المغني" (11/ 375، 376). (2) في الأصل: "بالبعضية". والتصويب من هامشه. (3) "وجهين ... الدين" ساقطة من المطبوع.

(1/556)


{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 26]، وفي الحديث: "لا يدخل الجنةَ قاطعُ رَحِمٍ" (1)، و"الرَّحِم معلَّقةٌ بساق العرش تقول: يا ربِّ، صِلْ من وصلني، واقطَعْ من قطعني" (2)، وليس من صلة [الرحم] (3) تركُ القرابة تَهلِك جوعًا وعطشًا وعُريًا، وقريبه من أعظم الناس مالًا. وصلة الرحم واجبةٌ وإن كانت لكافرٍ، فله دينه وللواصل دينه. وقياس النفقة على الميراث قياسٌ فاسدٌ، فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة، بخلاف النفقة فإنها صلةٌ ومواساةٌ من حقوق القرابة، وقد جعل الله للقرابة حقًّا وإن كانت كافرةً، فالكفر لا يُسقِط حقوقها في الدنيا، قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. وكل من ذكر في هذه الآية فحقُّه واجبٌ وإن كان كافرًا، فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصَّى الله بالإحسان إليه؟ ورأس الإحسان _________ (1) أخرجه البخاري (5984) ومسلم (2556) من حديث جبير بن مطعم. (2) أخرجه ابن أبي شيبة (25901) والبيهقي في "شعب الإيمان" (7560) من حديث عبد الله بن عمرو بنحوه. وأخرجه مسلم (2555) من حديث عائشة بلفظ: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". (3) ليست في الأصل.

(1/557)


الذي لا يجوز إخراجه من الآية هو الإنفاق عليه عند ضرورته وحاجته، وإلا فكيف يوصى بالإحسان إليه في الحالة التي لا يحتاج إلى الإحسان، ولا يجب له الإحسان أحوجَ ما كان إليه؟ والله سبحانه وتعالى حرَّم قطيعة الرحم وإن كانت كافرةً، وتركُ رحمِه يموت جوعًا وعطشًا وهو من أغنى الناس وأقدرِهم على دفع ضرورته= أعظمُ قطيعةً. فإن قيل: فهل تقولون بدفع الزكوات والكفارات إليه؟ قيل: إن كان في المسألة إجماعٌ معلومٌ لم يجز مخالفتهم، وإن لم يكن فيها إجماعٌ احتاج القول بعدم الجواز إلى دليلٍ. والفرق بين الزكاة والنفقة أن الزكاة حقُّ الله فرضَها على الأغنياء، تُصرَف في جهاتٍ معينةٍ، وهي عبادةٌ يُشترط لها النية، ولا تؤدى بفعل الغير، ولا تسقط بمضي الزمان، ولا تجوز على رقيقه وبهائمه. والنفقة بخلاف ذلك، فقياس أحد البابين على الآخر قياسٌ فاسدٌ. ثم يقال: إن لم يكن بينهما فرقٌ ولا إجماعٌ فالحق التسوية، وإن كان بينهما فرقٌ امتنع الإلحاق. فصل ويجوز نكاح الكتابية بنصّ القرآن، قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]. والمحصنات هنا هن العفائف، وأما المحصنات المحرَّمات في سورة النساء فهن المزوَّجات.

(1/558)


وقيل: المحصنات اللاتي أُبِحن هن الحرائر، ولهذا لم تحلَّ إماء أهل الكتاب. والصحيح الأول، لوجوهٍ: أحدها: أن الحرية ليست شرطًا في نكاح المسلمة. الثاني: أنه ذكر الإحصان في جانب الرجل كما ذكره في جانب المرأة، فقال: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ} [المائدة: 6]، وهذا إحصان عفةٍ بلا شكٍّ، فكذلك الإحصان المذكور في جانب المرأة. الثالث: أنه سبحانه ذكر الطيبات من المطاعم والطيبات من المناكح، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]. والزانية خبيثةٌ بنصِّ القرآن، والله سبحانه وتعالى حرَّم على عباده الخبائث من المطاعم والمشارب والمناكح، ولم يبح لهم إلا الطيبات. وبهذا يتبين بطلان قول من أباح تزويج الزواني، وقد بينا بطلان هذا القول من أكثر من عشرين وجهًا في غير هذا الكتاب (1). _________ (1) أشار إلى ذلك في "أعلام الموقعين" (5/ 347). وانظر: "زاد المعاد" (5/ 160، 161)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 108 - 110)، فقد ذكر فيهما بعض الوجوه. وللتفصيل راجع: "مجموع الفتاوى" (32/ 109 - 134).

(1/559)


والمقصود أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب، وفعله أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فتزوج عثمان نصرانيةً، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانيةً، وتزوج حذيفة يهوديةً. قال عبد الله بن أحمد (1): سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية؟ فقال: ما أُحِبُّ أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال صالح بن أحمد (2): حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن حذيفة بن اليمان وطلحة بن عبيد الله والجارود بن المعلَّى ــ وذكر آخر ــ تزوَّجوا نساءً من أهل الكتاب، فقال لهم عمر: طلِّقوهن، فطلَّقوا إلا حذيفة. فقال عمر: طلِّقْها. فقال: تشهد أنها حرامٌ؟ قال: هي جَمْرةٌ (3)، طلِّقها. فقال: تشهد أنها حرامٌ؟ فقال: هي جَمْرةٌ! قال حذيفة: قد علمتُ أنها جَمْرةٌ، ولكنها لي حلالٌ. فأبى أن يطلِّقها. فلمَّا كان بعدُ طلَّقَها، فقيل له: ألا طلَّقتَها حين أمرك عمر؟ فقال: كرهتُ أن يظن الناس أني ركبتُ أمرًا لا ينبغي. _________ (1) "الجامع" للخلال (1/ 240)، وفيه أنها رواية حنبل عن أحمد. (2) "الجامع" (1/ 243)، وهو في "مسائله" (2/ 320). وأخرجه عبد الرزاق (10057) عن معمر عن قتادة مختصرًا. وهو مرسل، قتادة لم يُدرك عمر - رضي الله عنه -. (3) في "الجامع": "خمرة" تصحيف.

(1/560)


وقد تأوَّلت الشيعةُ الآية على غير تأويلها، فقالوا: "المحصنات من المؤمنات" من كانت مسلمةً في الأصل، "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" من كانت كتابيةً ثم أسلمت. قالوا: وحمَلَنا على هذا التأويل قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، وأي شركٍ أعظم من قولها: الله ثالث ثلاثةٍ؟! وقوله تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وأجاب الجمهور بجوابين (1): أحدهما: أن المراد بالمشركات الوثنيات. قالوا: وأهل الكتاب لا يدخلون في لفظ المشركين في كتاب الله تعالى. قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]. وكذلك الكوافر المنهيّ عن التمسك بعصمتهن إنما هن (2) المشركات، فإن الآية نزلت في قصة الحديبية، ولم يكن للمسلمين زوجاتٌ من أهل الكتاب إذ ذاك، وغاية ما في ذاك التخصيص، ولا محذورَ فيه إذا دلَّ عليه دليلٌ. _________ (1) انظر: "المغني" (9/ 545، 546). (2) في الأصل: "هي".

(1/561)


الجواب الثاني: جواب الإمام أحمد، قال في رواية ابنه صالحٍ (1): قال الله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، وقال في سورة المائدة، وهي آخر ما نزل من القرآن: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}. فصل فإن قيل: فإذا كان قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} المراد به إحصان العفة لا إحصان الحرية، فمن أين حرمتم نكاح الأمة الكتابية؟ قيل: الجواب من وجهين (2)، أحدهما: أن تحريم الأمة الكتابية لم ينعقد عليه الإجماع، فأبو حنيفة يجوِّزه (3). وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم (4): الكراهة في إماء أهل الكتاب ليست بالقوية، إنما هو شيء تأوله الحسن ومجاهدٌ. هذا نصه. وهذا من نصِّه كالصريح بأنه ليس بمحرَّمٍ، وأقلُّ ما في ذلك توقُّفه عن التحريم، لكن قال الخلال (5): توقُّف أحمد في رواية ابن القاسم لا يَرُدُّ قول _________ (1) "الجامع" للخلال (1/ 245). وهي في "مسائله" (2/ 223). (2) انظر: "المغني" (9/ 554). (3) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 88). (4) "الجامع" للخلال (1/ 279). (5) الذي في "الجامع" له (1/ 280): لم ينفذ لأبي عبد الله قول يعمل عليه في هذا، وإنما حكى قلة تقوية ذلك عنده. والعمل على ما روى عنه الجماعة من كراهية ذلك. وانظر: "المغني" (9/ 554).

(1/562)


من قطع. وقد روى عنه هذه المسألة أكثرُ من عشرين نفسًا أنه لا يجوز. فالمسألة إذن مسألة نزاعٍ، والحجة تَفصِل بين المتنازعين (1). قال المبيحون: قال الله تعالى: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فإذا طابت له الأمة الكتابية فقد أذن له في نكاحها. وقال تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ولم يذكر في المحرمات الأمة الكتابية. وقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، والمراد بالصالحين من صلُح للنكاح، هذا أصحُّ التفسيرين. وذهبت طائفةٌ إلى أنه الإيمان (2). والأول أصح، فإن الله سبحانه لم يأمرهم بإنكاح أهل الصلاح والدين خاصةً من عبيدهم وإمائهم، كما لم يخصَّهم بوجوب الإنفاق عليهم، بل يجب على السيد إعفافُ عبده وأمته كما يجب عليه الإنفاق عليه، فإن ذلك من تمام مصالحه وحقوقه على سيده، فقد أطلق الأمر بتزويج الإماء مسلماتٍ كنّ أو كافراتٍ، ولم يمنع من تزويج الأمة الكافرة بمسلم. _________ (1) انظر الكلام عليه في "مجموع الفتاوى" (32/ 181 - 190)، و"زاد المعاد" (5/ 177، 178)، و"المغني" (9/ 554)، و"الاستذكار" (16/ 263، 264) و"الحجة على أهل المدينة" (3/ 359، 360). (2) انظر: "زاد المسير" (6/ 36).

(1/563)


قالوا: وقد قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 219]، فدلَّ على جواز نكاح النوعين، وأن هذا خيرٌ من هذا. قالوا: وقد أباح الله سبحانه وطأهن بملك اليمين، فكذلك يجب أن يباح وطؤهن بعقد النكاح، وعكسهن المجوسيات والوثنيات. قالوا: فكل جنسٍ جاز نكاح حرائرهم جاز نكاح إمائهم كالمسلمات. قالوا: ولأنه يجوز نكاحها بعد عتقها، فيجوز نكاحها قبله كالأمة المسلمة. قالوا: ولأنها يجوز للذمي نكاحها، فجاز للمسلم نكاحها كالحرة الكتابية، وعكسه الوثنية. قالوا: ولأنه تباح ذبيحتها، فأبيح نكاحها كالحرة. قال المحرّمون: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فأباح تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروطٍ: أحدها: عدم الطَّول لنكاح الحرة. والثاني: إيمان الأمة المنكوحة. والثالث: خشية العَنَت. فلا تتحقق الإباحة بدون هذه الأمور الثلاثة؛ لأن الفرج كان حرامًا قبل ذلك، وإنما أبيح على هذا الوجه وبهذا الشرط، فإذا انتفى ذلك بقي على

(1/564)


أصل التحريم. قال المبيحون: غاية هذا أنه مفهومُ شرطٍ، والمفهوم عندنا ليس بحجةٍ. قال المحرّمون: نحن نساعدكم على أن المفهوم ليس بحجةٍ، ولكن الأصل في الفروج التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الله ورسوله، والله سبحانه إنما أباح نكاح الأمة المؤمنة، فيبقى ما عداها على أصل التحريم. على أن الإيمان لو لم يكن شرطًا في الحلّ لم يكن في ذكره فائدةٌ، بل كان زيادةً في اللفظ ونقصانًا من المعنى، وتوهُّمًا لاختصاص الحلِّ ببعض محالِّه، وكلام العقلاء فضلًا عن كلام رب الأرض والسماء يُصان عن ذلك. يوضحه أن صفة الإيمان صفةٌ مقصودةٌ، فتعليق الحكم بها يدلُّ على أنها هي العلة في ثبوته، ولو أُلغيت الأوصاف التي عُلِّقت بها الأحكام لفسدت الشريعة، كقوله: {وَاَلَّذِينَ يَرمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، وقوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 24]، ونظائره أكثر من أن تحصر. قال المبيحون: لا يمكنكم الاستدلال بالآية؛ لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فلم يبح نكاح الأمة إلا عند عدم الطول لنكاح الحرة المؤمنة. وقلتم: لا يباح له نكاح الأمة إذا قَدَر على حرةٍ كتابيةٍ، فألغيتم وصف الإيمان في الأصل، فكيف تنكرون على من ألغاه في البدل؟ قال المحرمون ــ واللفظ لأبي يعلى ــ: لو خلّينا والظاهر لقلنا: إيمان

(1/565)


المحصنات شرطٌ، لكن قام دليل الإجماع على تركه، ولم يقم دليل على ترك شرطه في الفتيات. قلت: لم تُجمِع الأمّة (1) على أن إيمان المحصنات ليس شرطًا، بل أحد الوجهين للشافعية: أنه إذا قدر على نكاح حرةٍ كتابيةٍ، ولم يقدر على نكاح حرةٍ مسلمةٍ، أنه ينتقل إلى الأمة. وهذا قول قوي، وظاهر القرآن يقتضيه. وقد يقال: إن آية النساء متقدمةٌ على آية المائدة التي فيها إباحة المحصنات من أهل الكتاب، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]، فحينئذ أبيح نكاح الكتابيات. قال المحرمون: قال الله تعالى: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}، والإحصان هاهنا هو إحصان الحرية. قال القاضي إسماعيل في "أحكام القرآن" (2): يقع الإحصان على العفة، ويقع على الحرية، وإنما أريد بهذا الموضع الحرية؛ لأنه لو أريد به العفة لما جاز لمسلمٍ أن يتزوج نصرانيةً ولا يهوديةً حتى يثبت عفتها، ولما جاز له أيضًا أن يتزوج ــ بهذه الآية ــ مسلمةً حتى يثبت عفتها؛ لأن اللفظ جاء في _________ (1) في الأصل: "لم يجمع على الأمة". (2) طُبع منه قطعة ليس فيها هذا النص. وانظر مختصره المطبوع حديثًا (2/ 251). وانظر كلام شيخ الإسلام في معنى الإحصان في "مجموع الفتاوى" (32/ 121 - 123).

(1/566)


الموضعين على شيء واحدٍ، فعُلِم أنهن الحرائر المؤمنات والحرائر من (1) أهل الكتاب، لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. وقد حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، أخبرنا ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (2). حدثنا علي، حدثنا يزيد بن زُريعٍ، ثنا يونس: كان الحسن يكره أن يتزوج الأمة اليهودية والنصرانية، وقال: إنما رخّص الله في الأمة المسلمة، قال تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (3). ثم ذكر المنع من نكاح الأمة الكتابية عن إبراهيم ومكحولٍ وقتادة ويحيى بن سعيد، وعن الفقهاء السبعة. وأرفع ما روى فيه عن جابر بن عبد الله. _________ (1) في الأصل: "هن". والمثبت يقتضيه السياق. (2) أخرجه سعيد بن منصور (619 - تفسير) وابن أبي شيبة (16438) والطبري (6/ 599) من طرق عن سفيان به. ولفظه في أكثر الطرق: "لا ينبغي"، وعند سعيد: "لا يصلح". (3) أخرجه ابن المنذر في "تفسيره" (2/ 649) من طريق آخر عن يزيد بن زريع به. وأخرج ابن أبي شيبة (16436) من طريق آخر عن الحسن بنحو معناه.

(1/567)


قال القاضي (1): حدثنا ابن أبي أُويسٍ، حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا عن الرجل له عبد مسلم، وأمةٌ نصرانيةٌ، أينكحها إياه؟ قال: لا (2). قال المبيحون: لم يُجمِع الناس على أن الإحصان هاهنا إحصان الحرية. قال سفيان بن عيينة، عن مطرفٍ، عن عامر: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}، قال: إذا أحصنت فرجها، واغتسلت من الجنابة (3). وصحَّ عن مجاهدٍ: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}، قال: هن العفائف (4). قالوا: ولو طولبتم بموضع واحدٍ من القرآن أريد بالإحصان فيه الحرية لا يصلح لغيرها لم تجدوا إليه سبيلًا، والذي اطَّرد مجيء القرآن به في هذه اللفظة شيئان: العفة والتزويج، وأما الإسلام والحرية فلم يتعين إرادة واحدٍ منهما باللفظ. وقولكم: إنه لو أريد به العفة لما جاز التزوُّج بالكتابية ولا بالمسلمة إلا _________ (1) هو القاضي إسماعيل كما تقدم. (2) لم أجده في المصادر الأخرى، وإسناده لا بأس به. (3) أسنده عبد الرزاق (10066) عن ابن عيينة به. (4) أسنده ابن أبي شيبة (17696) والطبري (6/ 570).

(1/568)


بعد ثبوت عفتها، فهذا هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة في غير موضع. ومن محاسن الشريعة تحريم نكاح البغايا، فإنه من أقبح الأمور، والناس إذا اجتهدوا في تعيير الرجل قالوا: زوجُ بَغِيٍّ، ومثل هذا فطرةٌ فطر الله عليها الخلق، فلا تأتي شريعةٌ بإباحته. والبغيُّ خبيثةٌ، والله سبحانه حرَّم الخبائث من المناكح كما حرَّمها من المطاعم، ولم يُبِح نكاح المرأة إلا بشرط إحصانها، وقال في نكاح الزواني: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، ولم ينسخ هذه الآيةَ شيء. ويكفي في نكاح الحرة عدم اشتهار زناها، فإن الأصل عفتها، فعفتها ثابتةٌ بالأصل، فلا يشقُّ اشتراطها، فإذا اشتهر زناها حرم نكاحها، فإذا تابت فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأما ما ذكرتم عن جابرٍ - رضي الله عنه - والتابعين من التحريم فقد عارضهم آخرون. قال ابن أبي شيبة (1): حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن أبي مَيْسرة قال: إماء أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم. _________ (1) في "المصنف" (16435). وأسنده الخلال في "أحكام أهل الذمة" (1/ 280) من طريق الأثرم عن الإمام أحمد، والطبري في "تفسيره" (6/ 600) عن ابن حميد، كلاهما عن جرير به. قال الأثرم لأحمد: مغيرة عن أبي ميسرة مرسل هكذا؟ قال: "نعم هو مرسل". أي: لأن مغيرة بن مقسم الضبي لم يُدرك أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، فإنه من كبار التابعين توفي سنة 63.

(1/569)


قال المحرِّمون: وأما قياسكم التزوج بالأمة الكتابية على وطئها فقياسٌ فاسدٌ جدًّا، فإن واطئ الأمة بملك اليمين ينعقد ولده حرًّا مسلمًا، فلا يضرُّ وطء الأمة الكافرة بملك اليمين. وأما واطئ الأمة بعقد النكاح فإن ولده ينعقد رقيقًا لمالك الأمة، وفي ذلك التسببُ إلى إثبات ملك الكافر على المسلم، فافترقا. ولهذا يجوز وطء الأمة المسلمة بملك اليمين، ولا يجوز وطؤها بعقد النكاح إلا عند الضرورة بوجود الشرطين، وما ثبت للضرورة يقدَّر بقدرها، ولم يجز أن يتعدَّى، والضرورة تزول بنكاح الأمة المسلمة، فيُقتصَر عليها كما اقتُصِر في جواز أكل الميتة ولحم الخنزير على قدر الضرورة. قال المبيحون: هذا ينتقض عليكم بما لو كانت الأمة الكافرة كبيرةً لا يَحبَلُ مثلها، أو كانت لمسلم، فإن الولد لا يثبت عليه ملك كافرٍ. قال المحرِّمون: أليس الجواز يفضي إلى هذا فيما إذا كانت الأمة لكافرٍ، وهي ممن تحبل؟ ولم يفرِّق أحدٌ. بل القائل قائلان: قائل بالجواز مطلقًا، وقائل بالمنع مطلقًا، والشارع إذا منع من الشيء لمفسدةٍ تتوقع منه سدَّ بابَ تلك المفسدة بالكلية. ولهذا لما حرم نكاح الأمة إلا عند عدم الطول وخوف العَنَت خشية إرقاقِ الولد= لم يبح نكاح العاقر التي لا تَحْبَل ولا تلد بدون الشرطين. قالوا: وأما قولكم: إنه يجوز (1) نكاحها بعد العتق فجاز قبله= فحاصله _________ (1) في المطبوع: "لا يجوز"، وهو يقلب المعنى، ويخالف الأصلَ وما تقدم ذكره (ص 564).

(1/570)


قياس الأمة الكتابية على الحرة، وهو قياسٌ باطلٌ لما عُلِم من الفرق. وأما قولكم: إنه يجوز للكافر نكاحها، فجاز للمسلم= فمن أبطل القياس، فإن المجوسية يجوز للمجوسي نكاحها، ولا يجوز للمسلم، والخمر والخنزير مالٌ عندهم دون المسلمين. وأما قياسكم حلَّ النكاح على حلِّ الذبيحة فقياسٌ فاسدٌ، فإن الرقّ لا تأثير له في الذبائح، وله تأثيرٌ في النكاح. قالوا: وأما قوله تعالى: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فالمراد به ما حلَّ وأُذِن فيه، وهو سبحانه لم يأذن إلا في ثلاثة أصنافٍ من النساء: الحرائر من المسلمات، والحرائر من الكتابيات، والإماء من المسلمات، فبقي الإماء الكتابيات لم يأذن فيهن، فبقين على أصل التحريم. ولمّا أذن في وطئهن بملك اليمين قلنا بإباحته. وأما قوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ففي الآية ما يدلُّ على التحريم، وهو قوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، أي غير زناةٍ. والتزوُّج بمن لم يبح الله التزوّج بها حرامٌ باطلٌ، فيكون زنًا. على أنه عامٌّ مخصوصٌ بالإجماع، والعامُّ إذا خُصَّ فمن الناس من لا يحتجُّ به، والأكثرون على الاحتجاج به، لكنه إذا تطرق إليه التخصيص ضعف أمره. وقيل: التخصيص بالمفهوم والقياس وقول الصحابي وغير ذلك. وأما قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٌ} [البقرة: 219]، فمن استدلَّ به فقد أبعد النُّجعة جدًّا، وهو إلى أن يكون حجةً عليه أقرب.

(1/571)


قالوا: وحكمة الشريعة تقتضي تحريمها، لاجتماع النقصين (1) فيها، وهما نقص الدين ونقص الرق، بخلاف الحرة الكتابية والأمة المسلمة، فإن أحد النقصين جُبِر (2) بعدم الآخر. قالوا: وقد كانت قضية المساواة في الكفاءة تقتضي كون المرأة كفؤًا للرجل كما يكون الرجل كفؤًا لها، ولكن لما كان الرجال قوَّامين على النساء، والنساء عَوانٍ عندهم، لم يشترط مكافأتهن للرجال، وجاز للرجل أن يتزوَّج من لا تكافئه لحاجته إلى ذلك. فإذا فقدت صفات الكفاءة جملةً بحيث لم يوجد منها صفةٌ واحدةٌ في دينٍ ولا حريةٍ ولا عفةٍ اقتضت محاسن الشريعة صيانته عنها بتحريمها عليه. فهذا غاية ما يقال في هذه المسألة، والله أعلم. فصل قال القاضي: يكره نكاح الكتابية، فإن فعل عَزَلَ عنها. نصَّ عليه في رواية ابن هانئٍ. قلت: هذا وهم من القاضي، وإنما الذي نصّ عليه أحمد ما رواه عنه ابنه عبد الله (3)، قال: أكره أن يتزوج الرجل في دار الحرب، أو يتسرى من أجل ولده. _________ (1) في الأصل: "النقيضين" هنا وفيما يأتي. وهو تحريف. (2) في الأصل: "أجبر". والفعل بهذا المعنى ثلاثي. (3) في "مسائل الإمام أحمد" بروايته (1261).

(1/572)


وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم (1): لا يتزوج ولا يتسرى الأسير في دار الحرب، وإن خاف على نفسه لا يتزوج. وقال في رواية حنبلٍ (2): ولا يتزوج الأسير، ولا يتسرى بمسلمةٍ، إلا أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد. ولم يقل أحمد: إنه إذا تزوج الكتابية في دار الإسلام يعزِل عنها. ولا وجه لذلك البتة. فصل ويجوز نكاح السامرة، فإنهم صنفٌ من اليهود، وإن كانوا فيهم بمنزلة أهل البدع في المسلمين، فإنهم يدينون بزعمهم بالتوراة، ويَسْبِتون مع اليهود. وأما الصابئة فهل تجوز مناكحتهم؟ قال القاضي: ظاهر كلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما: أنهم صنفٌ من اليهود، قال في رواية محمد بن موسى (3) في الصابئين: بلغني أنهم يسبتون، فهؤلاء إذا أَسْبتوا (4) يُشبِهون اليهود. _________ (1) "مسائله" (2/ 122). (2) انظر: "المبدع" (7/ 5). (3) "الجامع" للخلال (2/ 438، 439)، و"المغني" (9/ 547). (4) كذا في الأصل و"الجامع"، وغيَّره في المطبوع إلى "سبتوا". وقد ورد الفعل ثلاثيًّا ورباعيًّا في اللغة.

(1/573)


والثانية: أنهم صنفٌ من النصارى، قال في رواية حنبلٍ (1): الصابئون جنسٌ من النصارى، إذا كان لهم كتابٌ أُكِل من طعامهم. قال القاضي: فينظر في حالهم، فإن وافقوا اليهود والنصارى في أصل دينهم وخالفوهم في الفروع جازت مناكحتهم، وإن خالفوهم في أصل دينهم لم تجز مناكحتهم، وقد تقدمت المسألة مستوفاةً في أول الكتاب (2). فصل قال القاضي: ومن كان متمسكًا بغير التوراة والإنجيل كزبور داود وصحف شِيث وإبراهيم، هل يُقَرُّون على ذلك؟ وهل تحلُّ مناكحتهم وذبائحهم؟ على وجهين (3): أحدهما: يُقَرُّون ويناكحون، على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصورٍ (4) وقد سئل عن نكاح المجوس، فقال: لا يعجبني إلا من أهل الكتاب. فأطلق القول في أهل الكتاب، ولم يخص أهل الكتابين. وقال في رواية حنبلٍ (5): قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام. ففسَّر الآية _________ (1) "الجامع" (2/ 438). (2) انظر: (ص 129 وما بعدها). (3) انظر: "المغني" (9/ 547). (4) "الجامع" (1/ 244). (5) المصدر نفسه (1/ 245).

(1/574)


على عبدة الأصنام. وظاهر هذا أن ما عدا عبدة الأوثان غير منهيّ عن نكاحهن. والوجه الثاني: لا تجوز مناكحتهم ولا يُقَرُّون. وهو قول أصحاب الشافعي. وجه الأول قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ}، وهذا عامٌّ في كل كتابٍ، ولأنه متمسكٌ بكتابٍ من كتب الله أشبهَ أهلَ التوراة والإنجيل. ووجه الثاني تعليلان: أحدهما: أن الكتاب ما كان منزلًا كالتوراة والإنجيل والقرآن، فأما ما لم يكن كذلك فليس بكتابٍ، بل يكون وحيًا وإلهامًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجةٍ" (1)، وقال: "وأمرني أن آمر أصحابي بالتلبية" (2)، ولم يكن ذلك قرآنًا، وإنما كان وحيًا. ولأن هذه الكتب وإن كانت منزلة ولكنها اشتملت على مواعظ، ولم تشتمل على أحكامٍ، وهي الأمر والنهي، فضعفت في بابها. قلت: ليس في الدنيا من يتمسَّك بهذه الكتب ويكفُر بالتوراة والإنجيل البتةَ، فهذا القسم مقدَّرٌ لا وجود له، بل كل من صدَّق بهذه الكتب وتمسَّك بها فهو مصدِّقٌ بالكتابين أو أحدهما، ولهذا لم يخاطبهم الله سبحانه في _________ (1) أخرجه البخاري (1534، 2337) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (2) أخرجه أحمد (16567) وأبو داود (1814) والترمذي (829) وغيرهم من حديث السائب بن خلّاد، وإسناده صحيح.

(1/575)


القرآن بخصوصهم، بل خاطبهم مع جملة أهل الكتاب. وأما قوله: إن الكتاب عامٌّ في قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ}، فعُرْف القرآن من أوله إلى آخره في الذين أوتوا الكتاب أنهم أهل الكتابين خاصةً، وعليه إجماع المفسرين والفقهاء وأهل الحديث. فصل قال أحمد في رواية الميموني (1) وقد سأله: هل ينكح اليوم الرجلُ ــ مع كثرة النساء ــ في أهل الكتاب؟ فقال: نعم، قد رخّص لنا في ذلك غير واحدٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال في رواية مهنا (2): يتزوَّج (3) الرجل المرأتين من أهل الكتاب لا بأس به، قيل له: وثلاثٌ؟ قال: وثلاثٌ، قيل له: وأربع؟ قال: وأربع. وذكره عن سعيد بن المسيب. فصل وأما المجوس فلا تحلُّ مناكحتهم ولا أكلُ ذبائحهم، وليس لهم كتابٌ. نصَّ على ذلك في رواية إسحاق بن إبراهيم وأبي الحارث وغيرهما. _________ (1) "الجامع" (1/ 244). (2) المصدر نفسه (1/ 248). (3) في الأصل: "يزوج". والمثبت من "الجامع".

(1/576)


فقال في رواية إسحاق (1): لا فرَّج الله عمن يقول هذه المقالة، يعني نكاح المجوس وأكل ذبائحهم. ونصَّ على أنه لا كتاب لهم في رواية الميموني (2)، فقال: المجوس ليس لهم كتابٌ، ولا تؤكل ذبيحتهم ولا ينكحون. وقال في رواية محمد بن موسى (3)، وقد سئل: أيصحُّ عن علي أن المجوس أهل كتابٍ؟ فقال: هذا باطلٌ، واستعظمه جدًّا، وقال: إن قومًا قد أساؤوا (4)، يقولون هذا القول، وهو قول سوءٍ. فقد نصَّ على تحريم مناكحتهم، وعلى أنه لا كتاب لهم. وقد ذكر ابن المنذر (5) عن حذيفة أنه تزوَّج بمجوسيةٍ، فقال له عمر: طلقها. ولكن ضعفه أحمد في رواية المروذي (6)، وقد سأله عن حديث ابن عونٍ عن محمد أن حذيفة تزوَّج مجوسيةً، فأنكره، وقال: الأخبار على خلافه. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: ثبت عندك؟ قال: لا. _________ (1) "الجامع" (1/ 241). (2) "الجامع" (2/ 469). (3) "الجامع" (2/ 468). (4) في "الجامع": "قد فشوا". (5) "الأوسط" (8/ 476). (6) "الجامع" (1/ 240، 241).

(1/577)


وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم (1): روى الداناج وأبو وائلٍ أنه تزوج يهوديةً. وروى المروزي عن الشافعي قولين (2)، أحدهما: يجوز مناكحتهم، وبناهما على أنه هل لهم كتابٌ أم لا؟ وأنكر غيره من أصحاب الشافعي هذا النقل والبناء، وقال: لو قلنا: تحلُّ مناكحتهم إذا قلنا لهم كتابٌ، لوجب أن نقول: لا يُقَرُّون بالجزية إذا قلنا لا كتاب لهم. وقال أبو ثورٍ: يجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، قال المرُّوذي (3): قلت لأحمد: إن أبا ثورٍ يحتج بأنهم أهل كتابٍ. فقال: وأيُّ كتابٍ لهم؟ قال القاضي: فإن قيل: فكيف استجاز أحمد في رواية إبراهيم أن يدعو على من يجيز نكاح المجوس وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد، لأنكم قد رويتم ذلك عن حذيفة وأبي ثورٍ؟ وخرَّجه بعض أصحاب الشافعي قولًا له. _________ (1) المصدر نفسه (1/ 241). وتصحف فيه "الداناج" إلى "الداتاج"، ولم يعرفه المحقق. وهو عبد الله بن فيروز من رجال "الصحيحين"، والداناج معَّرب "دانا" بالفارسية بمعنى العالم. (2) انظر: "روضة الطالبين" (7/ 135، 136). قال الجويني في "نهاية المطلب" (12/ 245): المذهب الذي عليه التعويل تحريم مناكحتهم وذبيحتهم، واختلف قول الشافعي في أنه هل كان لهم كتاب فرُفِع من بين أظهرهم أو لم يكن لهم كتاب أصلًا؟ (3) "الجامع" (1/ 241).

(1/578)


قيل له: أما ما رُوي عن حذيفة فقد بينَّا ضعفه، وأما أبو ثورٍ فيحتمل أن أحمد لم يظهر له خلافه في ذلك الوقت. وكذلك هذا القائل من الشافعية (1)؛ لأنه حدث بعد أحمد، ولم يظهر هذا في وقته عن الشافعي. والذي يبين هذا ما قاله في رواية المرُّوذي (2): ما اختلف أحدٌ في نكاح المجوس أو ذبائحهم، اختلفوا في اليهود والنصارى، فأما المجوس فلم يختلفوا، وضعَّف ما جاء فيه. قلت: قوله "لعله لم يظهر له خلافه" جوابٌ فاسدٌ، فإنه قد حكي له أن أبا ثورٍ يجيز نكاح المجوس، فقال: أبو ثورٍ كاسمه (3)، ودعا عليه، وقال: لا فرَّج الله عمن يقول بهذا القول. والمسألة عنده مما لا يسوغ فيها الاجتهاد، لظهور إجماع الصحابة على تحريم مناكحتهم. وهذا مما يدلُّ على فقه الصحابة، وأنهم أفقه الأمة على الإطلاق، ونسبةُ فقه من بعدهم إلى فقههم كنسبة فضلهم إلى فضلهم، فإنهم أخذوا في دمائهم بالعصمة، وفي ذبائحهم ومناكحتهم بالحرمة، فردُّوا الدماء إلى أصولها، والفروج والذبائح إلى أصولها. _________ (1) هو أبو إسحاق المروزي (ت 340) كما تقدم، وذكره النووي في "روضة الطالبين" (7/ 136) مع أبي عبيد بن حربويه (ت 319) من المجيزين لنكاح المجوسيات. (2) "الجامع" (1/ 241). (3) انظر: "الرد على السبكي" لابن تيمية (1/ 14)، و"طبقات الشافعيين" لابن كثير (ص 99)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 37) ط. الشعب.

(1/579)


فصل للمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض، وقد قال أحمد في رواية حنبلٍ (1): يأمرها بالغسل من الجنابة، فإن أبت لم يتركها. وقد علّق القول في رواية صالحٍ (2) في المشركة: يجب عليها الغسل من الجنابة والحيض، فإن لم تغتسل فلا شيء عليها، الشرك أعظم. قال القاضي: وظاهر هذا أنه لم يوجب ذلك عليها عند امتناعها. قال: وهذا محمولٌ على أنها امتنعت، ولم يوجد من الزوج مطالبةٌ بالغسل. قال: والدلالة على أن له إجبارها على ذلك: أن بقاء الغسل يُحرِّم عليه الوطء الذي يستحقّه، وكان له إجبارها عليه لاستيفاء حقه، كما له إجبارها على ملازمة المنزل، والتمكين من الاستمتاع، ليتوصل بذلك إلى استيفاء حقه. فأما الغسل من الجنابة، فهل للزوج أن يُجبِرها عليه (3)؟ فقد أطلق القول في رواية حنبلٍ وقال: يأمرها بالغسل من الجنابة، فإن أبت لم يتركها. وظاهر هذا أن له إجبارها. وقال في رواية مهنا (4) في رجل تزوَّج نصرانيةً فأمرها بتركه ــ يعني شرب _________ (1) "الجامع" (1/ 115)، و"الروايتين والوجهين" (2/ 101). (2) "الروايتين والوجهين" (2/ 101). (3) انظر: "المغني" (10/ 223)، فقد اعتمد عليه المؤلف في هذا الفصل. (4) "الجامع" (2/ 430).

(1/580)


الخمر ــ: فإن لم تقبل ليس له أن يمنعها. وظاهر هذا يقتضي أنه لا يملك إجبارها على الغسل من الجنابة، كما لم يملك إجبارها على الامتناع من شرب الخمر؛ لأنه يمنع من كمال الوطء، ولا يمنع من أصله. وجه الرواية الأولى أن بقاء الغسل عليها يمنعه من كمال الاستمتاع، فإن النفس تعاف وطء من لا تغتسل من الجنابة، فيفوته بذلك بعض حقه، فكان له إجبارها كما كان له في الاغتسال من الحيض. ووجه الثانية أن بقاء غسل الجنابة عليها لا يُحرِّم عليه وطأها، فلم يكن له إجبارها على ذلك، ويفارق هذا غسل الحيض؛ لأن بقاءه محرمٌ عليها. وهاتان الروايتان أصلٌ لكل ما لم يمنعه من أصل الاستمتاع، لكنه يمنعه من كماله، هل له إجبارها عليه أم لا؟ على روايتين. فمن ذلك: إذا كان عليها وسخٌ ودَرَنٌ، وأراد إجبارها على إزالته، على روايتين: إحداهما: له ذلك (1)، لأن النفس تعاف الاستمتاع مع وجوده. والثانية: ليس له ذلك. وأما أخذ الشعر وتقليم الأظفار فيُنظر، فإن طال الشعر واسترسل بحيث يستقذر ويمنع الاستمتاع، فله إجبارها على إزالته: رواية واحدة. وإن لم يخرج عن حد العادة، لكنه طال قليلًا، وكانت النفس تعافه فعلى الروايتين. _________ (1) "على روايتين إحداهما له ذلك" ليست في المطبوع.

(1/581)


وكذلك الأظفار، إن طالت وخرجت عن حد العادة، فصار يستقبح منظرها، ويتعذر الاستمتاع معها، كان له إجبارها على إزالتها: رواية واحدةً. وإن لم يخرج عن حد العادة، لكن النفس تعافها، فعلى الروايتين. فصل وأما الخروج إلى الكنيسة والبِيعة، فله منعها منه. نصّ عليه أحمد في رواية يعقوب بن بختان (1) في الرجل تكون له المرأة النصرانية: لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البِيعة. وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال وأبي الحارث (2) في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم: لا يأذن لها في ذلك. وقد علّل القاضي المنع بأنه يفوِّت حقَّه من الاستمتاع، وهو عليها له في كلّ وقتٍ. وهذا غير مراد أحمد، ولا يدلُّ لفظه عليه، فإنه منعه من الإذن لها، ولو كان ذلك لحقه لقال: لا تخرج إلا بإذنه. وإنما وجه ذلك أنه لا يُعِينها على أسباب الكفر وشعائره (3)، ولا يأذن لها فيه. قال القاضي: وإذا كان له منعُ المسلمة من إتيان المساجد، فمنعُ الذمية من الكنيسة أولى. _________ (1) في "الجامع" (2/ 431). (2) المصدر نفسه (2/ 430). (3) في الأصل: "مغايره".

(1/582)


وهذا دليل فاسدٌ، فإنه لا يجوز له منع المسلمة من المساجد. وأعجب من هذا أنه أورد الحديث، وأجاب عنه بجوابين فاسدين: أحدهما: أن المراد به صلاة العيد خاصةً. والثاني: المراد به منعها من الحج إلى المسجد الحرام. ولا يخفى بطلان الجوابين. فصل (1) وله منعها من السُّكْر؛ لأنه يتأذى به. وهل له منعها من شرب ما لا يُسكِرها؟ خرَّجه القاضي على الروايتين فيما يمنع كمال الاستمتاع دون أصله. والمنصوص عليه في رواية مهنا (2) أنه لا يمنعها، فإنه قال في رجل تزوج نصرانيةً، أله أن يمنعها من شرب الخمر؟ قال: يأمرها، قيل له: لا تَقبل منه، أله أن يمنعها؟ قال: لا. وظاهر هذا أنه لم يجعل له منعها، فإن شربت كان له إجبارها على غَسْل فمها من الخمر؛ لأنه نجسٌ يتعذر مع ذلك تقبيلها والاستمتاع بها فيه. فإن قيل: فلو أرادت المسلمة أن تشرب من النبيذ المختلف فيه ما لا يُسكِرها، هل له منعها؟ _________ (1) انظر: "المغني" (10/ 223). (2) "الجامع" (2/ 430). وتقدمت قريبًا باختصار.

(1/583)


قيل: نعم، له منعها. هذا الذي لا يحتمل المذهب غيره، فإن أحمد يحدّ عليه، فكيف تُقَرُّ على شربها؟ والإنكار بالحدّ من أقوى مراتب الإنكار. وقال القاضي: إن كانا حنبليين أو شافعيين له منعها منه، لأنهما يعتقدان تحريمه، وإن كانا حنفيين فهذا لا يمنعه الاستمتاع، ولكن يمنعه كماله، فيخرَّج على الروايتين. والصحيح الأول. قال: وهل له منعها من الثوم والبصل والكُرَّاث؟ يخرج على الروايتين (1). وكذلك هل له منعها من الثياب الوسخة؟ على الروايتين. فصل وقال أحمد في رواية مهنا (2) وقد سأله: هل يمنعها أن تُدخِل منزلَه الصليب؟ قال: يأمرها، فأما أن يمنعها فلا. وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال (3): في الرجل تكون له امرأةٌ أو أمةٌ نصرانيةٌ تقول: اشترِ لي زُنَّارًا (4)، فلا يشتري لها، تخرج هي تشتري. فقيل له: جاريته تعمل الزنانير؟ قال: لا. قال القاضي: أما قوله: لا يشتري هو الزنَّار لأنه يراد لإظهار شعائر _________ (1) "المغني" (10/ 223). (2) "الجامع" (2/ 430). (3) المصدر نفسه (2/ 431)، و"المغني" (10/ 224). (4) الزنّار: حزام يشدُّه النصراني في وسطه.

(1/584)


الكفر، فلذلك منعه من شرائه وأن يُمكِّن جاريته من عمله؛ لأن العوض الذي يحصل لها صائرٌ إليه ومِلكٌ له، وقد منع من بيع ثياب الحرير من الرجال إذا علم [أنهم] يلبسونها، وكذلك بيع العصير لمن يتخذه خمرًا. انتهى. وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه، وإن فوَّت عليه الاستمتاع في وقته، ولا من صلاتها في بيته إلى الشرق، وقد مكَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد نصارى نجران من صلاتهم في مسجده إلى قبلتهم (1). وليس له إلزام اليهودية إذا حاضت بمضاجعته، والاستمتاع بما دون الفرج. هذا قياس المذهب. وليس له حملها على كسر السبت ونحوه مما هو واجبٌ في دينهم، وقد أقررناهم عليه. وليس له حملها على أكل الشحوم واللحوم المحرمة عليهم، وهل له منعها من أكل لحم الخنزير؟ يحتمل وجهين. وهل له منعها من الخلوة بابنها وأبيها وأخيها؟ فإن كانت مجوسيةً فله ذلك، لأنهم يعتقدون حلَّها لهم، فليسوا بذوي مَحْرمٍ، وإن كانت يهوديةً أو نصرانيةً فليس له منعها من ذلك إذا كانوا مأمونين عليها، وإن كان له منعها من السفر معهم كما تقدم نصه، وذكرنا الفرق بين الموضعين. وليس له منعها من قراءة كتابها إذا لم ترفع صوتها به. فإن أرادت أن تصوم معه رمضان فهل له منعها من ذلك؟ يحتمل _________ (1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 382) عن ابن إسحاق.

(1/585)


وجهين: أحدهما: له ذلك لأنه لا يجب عليها، وله منعها منه كما له منع المسلمة من صوم التطوع ترفيهًا لها. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا حقَّ له في الاستمتاع بها في نهار رمضان، وإذا لم يكن له منعها من الصوم المنسوخ الباطل فأن لا يمنعها من صوم رمضان أولى وأحرى. وقد يقال: الفرق بينهما أنها تعتقد وجوب صيام دينها عليها، وقد أقررناهم على ذلك، فليس لنا أن نمنعهم منه بخلاف ما لا يعتقدون وجوبه. * * * *

(1/586)


ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعض وهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم، والخلاف في ذلك، وحجة كل قول قال الله تعالى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 74]، وقال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَاَلْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]. وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (1)، وأنه قال: «لا يتوارث أهل ملَّتين شتى» (2). واتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون؛ يرث اليهودي اليهودي، والنصراني النصراني. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وهل ترك لنا عَقِيل من رِباعٍ؟»، وكان عقيل ورث أبا طالب دون عليٍّ وجعفرٍ، لأنه كان على دينه مقيمًا بمكة، فورث رِباعه بمكة وباعها، فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: أين تنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عَقيل من رِباعٍ؟» (3). _________ (1) أخرجه البخاري (6764) ومسلم (1614) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه أحمد (6664، 6844) وأبو داود (2911) والنسائي في «الكبرى» (6350، 6351) وابن ماجه (2731) والدارقطني (4084، 4085) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وهذا إسناد حسن. (3) أخرجه البخاري (1588) ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -.

(2/3)


وقال عمر في عمَّة الأشعث بن قَيسٍ لمَّا ماتت: يرِثها أهلُ دينها (1). ويتوارثون وإن اختلفت ديارهم، فيرث الحربي المستأمَن والذمِّي ويرثانه. قال أحمد في رواية الأثرم (2) فيمن دخل إلينا بأمانٍ فقُتِل: إنه يُبعث بديته إلى مَلِكهم حتى يدفعها إلى ورثته. وفي «المسند» (3) وغيره أن عمرو بن أُمَيَّة الضَّمْري كان مع أهل بئر مَعُونة، فلما قتلوا أسلم هو ورجع إلى المدينة، فوجد رجلين في طريقه من الحي الذين قتلوهم، وكان معهما عهدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمان، فلم يعلم به عمرٌو فقتلهما، فوَدَاهما النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا ريب أنه بعث بديتهما إلى أهلهما. وهذا اختيار الشيخين أبي محمد وأبي البركات (4). واحتج من نصر هذا القول بالعمومات المقتضية لتوريث الملة الواحدة _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (9858) وسعيد بن منصور (144) وابن أبي شيبة (32089 - 32092) والدارمي (3032، 3039) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 463) من طرق عنه - رضي الله عنه -. (2) كما في «المغني» (9/ 158). (3) ليس فيه، ولعل منشأ الوهم أنه ذكره في «المغني» بعد قول أحمد المتقدم بلفظ: «وقد رُوي أن عمرو بن أمية ... » إلخ، فلو قرئ: «وقد رَوَى» لعاد الضمير إلى أحمد، ولغلب على الظنِّ حيئنذ أن يكون الحديث في «مسنده». وإنما أخرجه ابن هشام في «السيرة» (2/ 186) والطبراني في «الكبير» (20/ 356) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 338 - 341) عن ابن إسحاق مرسلًا. (4) انظر: «المغني» (9/ 158) و «المحرَّر» (1/ 413).

(2/4)


بعضِهم من بعضٍ من غير تخصيصٍ. قالوا: ومفهوم قوله: «لا يتوارث أهل ملتين» يقتضي توارث أهل الملة وإن اختلفت ديارهم، ولأن مقتضى التوريث قائمٌ وهو القرابة، فيَعمل عمَلَه ما لم يمنع منه مانع. وقال القاضي وأصحابه: لا يرث حربيٌّ ذميًّا، ولا ذمي حربيًّا، لأن الموالاة بينهما منقطعةٌ وهي سبب التوارث، فأما المستأمَن فيرثه أهل الحرب وأهل الذمة (1). وقال أبو حنيفة: المستأمَن لا يرثه (2) الذمي لاختلاف دارهما، ويرث أهل الحرب بعضهم بعضًا سواءٌ اتفقت ديارهم أو اختلفت. وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا اختلفت ديارهم بحيث كان لكل طائفة مَلِكٌ، ويرى بعضهم قتل بعضٍ، لم يتوارثا (3) لأنهم لا موالاة بينهم. فجعلوا اتفاق الدار واختلافها ضابطَ التوارث وعدمه. وهذا أصلٌ لهم في اختلاف الدار انفردوا به. قال في «المغني» (4): ولا نعلم لهذا حجةً من كتابٍ ولا سنةٍ مع مخالفته لعموم السنن المقتضي للتوريث. ولم يعتبروا _________ (1) انظر: «المغني» (9/ 158) و «الإنصاف» (18/ 276). (2) في متن الأصل: «يرث»، والمثبت من نسخة مشار إليها في هامش الأصل، وهو الموافق لمصدر المؤلف. (3) في المطبوع: «يتوارثوا» خلافًا للأصل ولمصدر المؤلف. (4) (9/ 158).

(2/5)


الدين في اتفاقه ولا اختلافه مع ورود الخبر فيه، وصحة العبرة به، فإن المسلمين يرث بعضهم بعضًا وإن اختلفت الدار بهم، وكذلك الكفار، ولا يرث المسلم كافرًا ولا كافرٌ مسلمًا لاختلاف الدين وإن اتحدت داراهما (1). يعني: أن اختلاف الدار ملغًى في الشرع، واختلاف الدين هو المعتبر. فصل فإن اختلفت أديانهم فقد اختلف العلماء: هل يتوارثون أم لا؟ فقال الخلَّال في «الجامع» (2): باب قوله: «لا يتوارث أهل ملتين». أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قال: أما الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يرث مسلم كافرًا، إنما عمرو بن شعيبٍ فقط يرويه: «لا يتوارث أهل ملتين» (3). قال: واحتج قومٌ في الملتين، قالوا: وإن كانوا أهل كتابٍ، وهي ملل مختلفةٌ أحكامهم، لهؤلاء حكمٌ، ولهؤلاء حكمٌ، فلم يورَّثوا بعضهم من بعضٍ. قال الميموني: ورأيت أكثر مذهبه أنه لا يورَّث بعضُهم من بعضٍ. ثم ذكر عن إسحاق بن منصورٍ (4) أنه قال لأبي عبد الله: «لا يتوارث _________ (1) الظاهر أنه هنا ينتهي النقل عن «المغني»، ولكن ليس في مطبوعته قوله: «وإن اتحدت داراهما». (2) في كتاب «أحكام أهل الملل» منه (1/ 405). (3) تقدم تخريجه (ص 3). (4) وهو في «مسائله» (2/ 404).

(2/6)


أهل ملتين شتَّى» (1) لا يرث اليهودي النصراني؟ قال: لا يرث، هما ملتان مختلفتان. ثم ذكر من مسائل الحسن بن ثواب قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع: هل يرث المسلم الكافر؟ قال: لا يتوارث أهل ملتين. أخبرني حرب أنه قال لأبي عبد الله: واليهودي يرث النصراني؟ فرخَّص في ذلك. قال أبو بكر الخلال (2): لا يتوارث أهل ملتين، فحكى الميموني عن أبي عبد الله في أول المسألة ما يدل من قول أبي عبد الله (3) واحتجاجِه أنه قال بتوريثهم، [وفي آخر مسألة قال: ورأيتُ أكثر مذهبه أنه لا يورثهم] (4). قال: وهذا كلامٌ غير محكمٍ، إنما هو شيء ظنه عن أبي عبد الله. والحسن بن ثوابٍ قال عنه: لا يتوارث أهل ملتين. وأما حرب فقد قال: إني قلت له: لا يتوارث أهل ملتين؟ قال: لا يرث المسلم الكافر. وحكى إسحاق بن منصورٍ أنه لا يورثهم، وهو قديم السماع. _________ (1) رسمه في الأصل: «شيا» فأثبت في المطبوع: «شيئًا»، والصواب أنه تصحيف عن «شتا» ــ أي: شتَّى ــ على ما جاء في حديث ابن عمرٍو و «المسائل» و «الجامع». (2) «الجامع» (2/ 406). (3) «في أول المسألة» إلى هنا سقط من المطبوع لانتقال النظر. (4) ما بين الحاصرتين من «الجامع»، ولعله سقط من الناسخ لانتقال النظر، ولا بدَّ منه فإن فيه الظن الذي أنكره الخلال على الميموني، لأن الخلال يرى أن التوريث هو الأشبه بقول أحمد كما سيأتي.

(2/7)


وحكى حرب أنه يورث بعضهم من بعضٍ، وهو أشبه بقول أبي عبد الله واحتجاجه في أمورهم كلِّها؛ أنه يورث بعضهم من بعضٍ (1) ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. وهذا الذي اختاره الخلال هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأهل الظاهر (2). واختار أبو بكر عبد العزيز الرواية الأخرى، وأن الكفر ملل مختلفةٌ لا يرث بعضهم بعضًا، وهو الذي نصره القاضي واختاره في «تعليقه» (3). وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو قول كثيرٍ من أهل العلم، وقول أهل المدينة مالك وأصحابه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»، ولأنهم لا يتناصرون ولا يتعاقلون، ولا يوالي بعضهم بعضًا. قال الشيخ في «المغني» (4): ولم نسمع عن أحمد تصريحًا بذكر أقسام الملل. قال القاضي: الكفر ثلاث ملل: اليهودية، والنصرانية، ودين من عداهم؛ لأن من عداهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم. وهذا قول شريح، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، والليث، وشريك، والحَكَم، ومُغِيرة الضَّبِّي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ووكيع. _________ (1) «وهو أشبه» إلى هنا سقط من المطبوع لانتقال النظر. (2) انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن (6/ 97) و «الأم» للشافعي (8/ 290). (3) هو «التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة»، ويُعرَف بـ «التعليقة الكبرى». طبع قطعة منه، وأكثره في عداد المفقود. (4) (9/ 156 وما بعدها).

(2/8)


قال الشيخ: ويحتمل كلام أحمد أن الكفر ملل كثيرة، فتكون المجوسية ملةً، وعُبَّاد الأوثان ملةً، وعُبَّاد الشمس ملةً، فلا يرث بعضهم بعضًا. روي ذلك عن علي (1)، وبه قال الزهري، وربيعة، وبعض فقهاء المدينة، وأهل البصرة، وإسحاق. قال الشيخ في «المغني» (2): وهو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوارث أهل ملتين شتّى (3)»، ولأن كل فريقين منهم لا موالاة بينهم، ولا اتفاق في دينٍ، فلم يرث بعضهم بعضًا، كالمسلمين والكفار. والعمومات في التوريث مخصوصةٌ، فيُخصُّ منها محل النزاع بالخبر والقياس. ولأن مخالفينا قطعوا التوريث بين أهل الحرب وأهل دار الإسلام مع اتفاقهم في الملة، لانقطاع الموالاة، فمع اختلاف الملة أولى. وقول من حصر (4) الملة بعدم الكتاب غير صحيح، فإنَّ هذا وصفٌ عدمي لا يقتضي حكمًا ولا جمعًا. ثم لا بد لهذا الضابط من دليل يدل على اعتباره. ثم قد افترق حكمهم، فإن المجوس يقرُّون بالجزية، وغيرهم لا يُقَرُّ بها، وهم مختلفون في معبوداتهم ومعتقداتهم وآرائهم، يستحِلُّ بعضهم دماء بعضٍ، ويكفِّر بعضهم بعضًا، فكانوا مللًا كاليهود والنصارى. وقد روي ذلك عن علي، فإن إسماعيل بن أبي خالدٍ روى عن الشعبي _________ (1) سيأتي تخريجه قريبًا. (2) (9/ 157). (3) في المطبوع: «شيئًا» على غرار ما سبق بيانه قريبًا. (4) في المطبوع: «خصَّ»، والرسم في الأصل أقرب إلى المثبت، وهو لفظ «المغني».

(2/9)


عن علي أنه جعل الكفر مللًا مختلفةً (1)، ولم نعرف (2) له من الصحابة مخالفًا، فكان إجماعًا (3). واحتج القاضي على ذلك بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 50]، فأثبت لكلٍّ شريعةً ودينًا (4). وقال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 76]، {وَاَتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 124]، فلو كان من خالف دين النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل ملةٍ واحدةٍ لم يخص إبراهيم بملةٍ. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقبَل شهادةُ ملةٍ على ملة، إلا ملة الإسلام» (5)، وهذا يقتضي أن هناك مللًا غير ملة الإسلام. ولأن أحكامهم مختلفةٌ، بدليل أن المجوس لا تؤكل ذبيحتهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا كتاب لهم، واليهود والنصارى بخلاف ذلك. ولأنهم مختلفون في النبي (6) والكتاب كاختلاف المسلمين والكفار. _________ (1) لم أجده مسندًا. بل حتى في «الأوسط» (7/ 475) و «الاستذكار» (15/ 494) و «فتح الباري» (12/ 51) لم يُنسب هذا القول إلى علي، وإنما إلى الحسن وابن شهاب وربيعة وغيرهم. (2) في الأصل: «يعرف»، والمثبت مقتضى نصب «مخالفًا» الآتي. في المطبوع و «المغني»: «لم يُعرف ... مخالف». (3) انتهى كلام أبي محمد من «المغني». (4) سقطت واو العطف من المطبوع فصار السياق: «فأثبت لكلِّ شريعةٍ دينًا». (5) جزء من حديث أبي هريرة، سيأتي تخريجه قريبًا. (6) زيد في المطبوع بعده: «- صلى الله عليه وسلم -»، ولا وجه له، فليس المراد هنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن جنس الأنبياء، فالملل مختلفة فيما بينها في النبي الذي تنتسب إليه.

(2/10)


فصل في ذكر أحاديث هذا الباب وعللها قال الإمام أحمد (1): حدثنا سفيان، عن يعقوب بن عطاء، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى». يعقوب هذا ليس بالقوي. وقال الترمذي (2): حدثنا حُميد بن مَسْعَدة، حدثنا حُصَين بن نُمَير، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابرٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتوارث أهل ملتين». قال الترمذي: «لا يعرف إلا من حديث ابن أبي ليلى»، وفيه ضعفٌ. وقال الدارقطني (3): حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا علي بن حربٍ، حدثنا _________ (1) في «مسنده» (6664)، وقد توبع يعقوب هذا، تابعه غير واحدٍ عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم، وقد تقدَّم (ص 3) (2) في «جامعه» (2108)، وأخرجه أيضًا الطبراني في «الأوسط» (8466) من طريق حصين بن نمير به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث جابر إلا من حديث ابن أبي ليلى. (3) في «سننه» (4064). وكذلك أخرجه عبد الرزاق (15525) والبزار (15/ 217) والطبراني في «الأوسط» (5434) والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 139) والبيهقي (10/ 163)، من طرق عن عمر بن راشد به. قال الدارقطني عقب الحديث: «عمر بن راشد ليس بالقوي». وقال أحمد: حديثه ضعيف، يحدث عن يحيى بن أبي كثير مناكير، ليس حديثه حديثًا مستقيمًا. «العلل ومعرفة الرجال» (4432). وانظر: «علل ابن أبي حاتم» (1420).

(2/11)


الحسن بن موسى (1)، ثنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرث أهل ملةٍ ملةً». وحدثنا (2) أبو بكر النيسابوري، حدثنا بحر بن نصرٍ، حدثنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس، قال أخبرني ابن شهابٍ، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيدٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرث الكافرُ المسلمَ، ولا يرث المسلمُ الكافرَ». وذكر القاضي في «التعليق» حديثين لا أعرف حالهما. أحدهما: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث أهل ملة ملةً، ولا تجوز شهادة ملة على ملة إلا أمتي تجوز شهادتهم على من سواهم» (3)، قال: رواه أبو بكر في «أدب القضاء» بإسناده. الثاني: قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، ولا يتوارث أهل ملتين» (4). وهذا السياق إن صح فهو ظاهرٌ جدًّا أو _________ (1) في الأصل: «محمد»، وأخشى أن يكون ثَمَّ سقط لانتقال النظر، فإن الدارقطني بعد أن ساق الإسناد إلى عمر بن راشد وضع علامة تحويل فقال: «ح وحدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، نا الحسن بن محمد الزعفراني، نا علي بن الجعد، أنا عمر بن راشد»، فيكون حصل انتقال نظر من «الحسن بن موسى» في الإسناد الأول إلى «الحسن بن محمد» في الإسناد الثاني. والله أعلم. (2) في «سننه» (4065). وقد سبق تخريجه من «الصحيحين». (3) هذا تمام لفظ حديث أبي هريرة الذي سبق تخريجه آنفًا. (4) أخرج هذا اللفظ الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 266) والطبراني في «الكبير» (1/ 163) من حديث أسامة بن زيد. وفي إسناده هُشيم بن بَشير، قال عبد الله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (2202): سمعت أبي يقول: «لم يسمع هُشيم من الزهري حديث علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يتوارث أهل ملتين شتى». إذًا ففي إسناده انقطاع. وأخرجه أيضًا ابنُ عدي في «الكامل» (4/ 365) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وفي إسناده الخليل بن مرة وهو ضعيف.

(2/12)


صريحٌ (1) في المسألة، وأظنه جمع الحديثين في سياقٍ واحدٍ، والله أعلم. قال الذين جعلوا الكفر ملةً واحدةً: قال الله عز وجل: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اَلْيَهُودُ وَلَا اَلنَّصَارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 119]، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ (6)} [سورة الكافرون]، فجعل لهم دينًا واحدًا، كما جعل لليهود والنصارى ملةً واحدةً. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الناس حَيِّزٌ، وأنا وأصحابي حَيِّزٌ» (2)، والله تعالى قسم خلْقه إلى كفارٍ ومؤمنين، فهؤلاء سعداء وهؤلاء أشقياء، والكفر وإن اختلفت شُعَبُه فيجمعه خصلتان: تكذيب الرسول في خبره، وعدم الانقياد لأمره. كما أن الإيمان يرجع إلى أصلين: طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر. _________ (1) في المطبوع: «وصريح»، خلاف الأصل. (2) أخرجه الطيالسي (602، 1010، 2319) وأحمد (11167، 21629) والطبراني في «الكبير» (4/ 286، 5/ 115) والحاكم (2/ 257) وغيرهم من حديث أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وهومرسل، فأبو البختري لم يدرك أبا سعيد، كما نصَّ عليه أبو حاتم في «المراسيل» (271). و «حيِّز» أي: في ناحية.

(2/13)


قال الآخرون: اشتراكهم في الكفر العام لا يوجب تساويهم في ملله، فإنهم كلهم يشتركون في الجحيم على اختلاف مراتبهم في الكفر. وقوله تعالى: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 119] لا يدل على أن ملة اليهود هي ملة النصارى، بل إضافة الملة إلى جميعهم لا يقتضي اشتراكهم في عين الملة. وكذلك قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ} [الكافرون: 6] لا يقتضي اشتراكهم في دين واحد بحيث يدين هؤلاء بعين (1) ما يدين به هؤلاء، بل المعنى: لكلٍّ منكم دينُه وملَّته. والله سبحانه يذكر الحق والهدى والإسلام ويجعله واحدًا، ويذكر الباطل والضلال والكفر ويجعله متعدِّدًا، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 154]. وقال تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (255) وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ} [البقرة: 255 - 256]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاَتَّقُونِ (53) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53 - 54]. وقال عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: خطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، وقال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: «هذه سبلٌ، _________ (1) في الأصل: «بغير»، والمثبت مقتضى السياق.

(2/14)


على كل سبيلٍ شيطانٌ يدعو إليه»، ثم قرأ قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (1). فصل وأما توريث الكافر من المسلم فلم يختلف فيه أحدٌ من الفقهاء أنه لا يرثه (2)، ولكن تنازعوا في مسألة، وهي أن يُسلم الكافر بعد موت قريبه المسلم وقبل قَسْم تركته، فيُسلِم بين الموت وقَسْم التركة. وفي ذلك روايتان عن الإمام أحمد. إحداهما: أنه يرثه، نقلها عنه الأثرم وابن منصورٍ، وبكر بن محمد (3)، وهي اختيار الخرقي (4)، وبها قال الحسن وجابر بن زيدٍ (5). ونقل أبو طالب عنه: لا يرث، وهي قول أبي حنيفة ومالك والشافعي (6). _________ (1) كتب بعده لحقًا في الهامش: «وقال تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا ... } إلى آخر هذا الحديث، تكرار. والحديث أخرجه أحمد (4142) والدارمي (208) والنسائي في «الكبرى» (11109، 11110) وابن حبان (6، 7) والحاكم (2/ 239، 318) بإسناد حسن. (2) انظر: «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 98). (3) بكر بن محمد بن الحكم، من أصحاب الإمام أحمد، ولكن هذه الرواية نقلها عن أبيه عن أحمد كما سيأتي. وانظر: «المغني» (9/ 160). (4) في «المختصر» (9/ 160 - المغني). (5) سيأتي تخريج قولهما. (6) كما في «المغني» (9/ 160). وانظر: «الروايتين والوجهين» (2/ 65).

(2/15)


قال الخلال في «الجامع» (1): باب من أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم. أخبرني حربٌ قال: سألت أحمد عمن أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم؟ قال: دعْ هذه المسألة، لا أقول فيها شيئًا. أخبرني محمد بن علي، حدثنا حنبلٌ قال: قال أبو عبد الله: من أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم يورَّث من ذلك الميراث. أخبرني محمد بن علي، حدثنا الأثرم، قال: مذهب أبي عبد الله: مَن أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم [أنه يورَّث مِن ذلك الميراث. أخبرنا ابن حازم، حدثنا إسحاق (2) أنه قال لأبي عبد الله بأنَّ (3) مَن أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم؟] (4) قال: يُقسَم له ما لم يُقسَم الميراث. أخبرني محمد بن علي، حدثنا صالح (5) أنه قال لأبيه: الرجل يُسلِم على ميراث، هل يرِث؟ قال: يروى عن عمر وعثمان أنهما كانا يورِّثان (6)، وقال سعيد بن المسيب: بُدِّدت (7) المواريث (8). _________ (1) في «كتاب أهل الملل» منه (2/ 410). (2) ابن منصور الكوسج، وهو في «مسائله» (2/ 502). (3) «بأن» كذا في مطبوعة «الجامع»، وليس في «المسائل». (4) ما بين الحاصرتين من «الجامع»، والظاهر أنه سقط من المؤلف أو الناسخ سهوًا لانتقال النظر، فتداخل قول الأثرم مع رواية إسحاق بن منصور. (5) وهو في «مسائله» (3/ 30). (6) أخرجه عنهما عبد الرزاق (9894) والطبراني في «الكبير» (22/ 243). وأخرجه سعيد بن منصور (185) وابن أبي شيبة (32290) عن عثمان. (7) في الأصل: «بردت»، وفي مطبوعة «الجامع»: «يردد»، والظاهر أنه تصحيف عن المثبت من «مسائل صالح». ومعنى «بُدِّدت»: أي: قد تفرَّقت وصارت من نصيب أهله الذين يرثونه عند موته، فلم يبق منها شيء للذي أسلم بعد ذلك. وقد استعملها أحمد في مسألة أخرى من «مسائل صالح» (3/ 31) حين سئل عن نفقة الحامل المتوفَّى عنها زوجُها، أي: هل تكون النفقة من الميراث؟ فقال: «تُنفِق مِن نصيبها، قد بُدِّدَت المواريث». (8) أخرجه ابن أبي شيبة (32285) بلفظ: «إذا مات الميت يُرَد الميراثُ لأهله».

(2/16)


أخبرني الميموني أنه سأل أبا عبد الله: مَن أسلم على ميراثٍ؟ قال: مسألة مشتبهةٌ، من يحتج فيها يقول: الكفن من جميع المال، ثم الوصية، ثم الميراث، ومن قال (1): الحامل المتوفَّى عنها زوجها نفقتُها من جميع المال؛ هذه حجةٌ لمن ورَّثه، يحتج بعد الموت بهذه الأشياء، يقول: أليس إنما وجبت الوصية والكفن بعد الموت؟ فإسلام هذا أكبرُ إذا أسلم قبل أن يقسم. قال الخلال: ومذهب أبي عبد الله في مسألة عبد الملك أيضًا: أنه يرث إذا أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم؛ لأنه يذهب إلى هذه الأشياء التي احتجَّ بها من الكفن والوصية وغير ذلك. أخبرني عبد الله بن محمد، حدثنا بكر بن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسأله عمَّن أسلم على ميراثٍ قبل أن يقسم، [قال: إذا أسلم على ميراث قبل أن يُقسَم] (2) فله الميراث، قال: فإذا أُعتِق العبدُ على ميراث لم _________ (1) في المطبوع: «و [يحتج فيه بقول] من قال»، ما زاده بين الحاصرتين ليس في الأصل ولا في «الجامع». (2) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر، واستُدرك من «الجامع».

(2/17)


يقسم له. ثم ذكر من مسائل إسحاق بن إبراهيم قال: سئل أبو عبد الله عن أقوام نصارى أوقفوا على البِيعة ضياعًا كثيرةً، فمات النصارى، ولهم أبناءٌ نصارى، ثم أسلم بعد ذلك الأبناء، والضياع بيد النصارى، ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى؟ قال أبو عبد الله: نعم، يأخذونها من أيديهم، وللمسلمين أن يُعينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم. فهذا مجموع ما ذكره الخلال من نصوص أحمد، ولم أجد عنه نصًّا أنه لا يرث (1) غيرَ توقُّفه في رواية حربٍ، فكأنَّهم جعلوا توقُّفه على روايتين، وعموم أجوبته يقتضي التسوية بين الزوجة وغيرها. وقد فصَّل أبو بكر (2) فقال: الزوجة لا ترث قولًا واحدًا، والخلاف في غيرها، ونازعه في ذلك القاضي وأصحابه. قال المورثون: قال أبو داود (3): حدثنا حجَّاج بن أبي يعقوب، ثنا _________ (1) مع أنه سبق أن أبا طالب روى عنه ذلك. (2) «أبو بكر» سقط من المطبوع. (3) في «سننه» (2914)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2485) والبزار (11/ 414) وأبو يعلى (2359) والبيهقي (9/ 122) كلهم من طريق موسى بن داود به. إسناده حسن من أجل محمد بن مسلم وهو الطائفي، صدوق يخطئ. قال ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 264): «إسناده جيد»، واختاره الضياء (9/ 521). وله طريق آخر عن ابن عباس عند البيهقي (9/ 122). والحديث صححه الألباني في «إرواء الغليل» (1717) بمتابعاته وشواهده، وسيأتي بعضها.

(2/18)


موسى بن داود، ثنا محمد بن مسلم (1)، عن عمرو بن دينارٍ، عن أبي الشَّعْثاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ قَسْم قُسِم في الجاهلية فهو على ما قُسِم، وكل قَسْم أدركه الإسلام فهو على قَسْم الإسلام»، فهذا الحديث رواه أبو الشعثاء وتأوَّله على عمومه وذهب إليه. وهذا قَسْمٌ أدركه الإسلام فيُقسَم على حكمه. وقال أبو عبد الله بن ماجه في «سننه» (2): حدثنا محمد بن رُمْح، حدثنا عبد الله بن لَهِيعة، عن عُقَيل أنَّه سمِع نافعًا يُخبِر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما كان مِن ميراث قُسِم في الجاهلية فهو على قِسمة الجاهلية، وما كان من ميراث أدركه الإسلام فهو على قِسمة الإسلام». وقال الإمام أحمد (3): حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شُعبة، عن عمرو بن _________ (1) في الأصل: «سلمة»، تصحيف. (2) برقم (2749)، وأخرجه أيضًا الطبراني في «الأوسط» (230، 6499) من طريق محمد بن رمح به. وإسناده ضعيف من أجل ابن لَهِيعة، ويشهد له الحديث السابق. (3) في «مسنده» (22005، 22006)، وأخرجه أيضًا أحمد (22057) والطبراني (20/ 162) والحاكم (4/ 345) والبيهقي (6/ 205، 254)، من طرق عن شعبة به. في إسناده انقطاع، أبو الأسود لم يدرك معاذًا، وتؤيده رواية أبو داود (2912) ــ ومن طريقه البيهقي (6/ 254) ــ بإسناده عن يحيى بن يعمر قال: حدثني أبو الأسود أنَّ رجلًا حدَّثه أن معاذًا ... إلخ. قال البيهقي: «وهذا رجل مجهول فهو منقطع. وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهب إليه، إنَّما أراد أنَّ الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة». وانظر: «الضعيفة» (1123) و «ضعيف أبي داود - الأم» (505).

(2/19)


أبي حَكيم (1)، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن يحيى بن يَعمَر، عن أبي الأسود الدِّيلي قال: كان مُعاذٌ باليمن، فارتفعوا إليه في يهودي مات، وترك أخاه مسلمًا، فقال معاذٌ: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الإسلام يزيد ولا ينقص»، فورَّثه. وقال سعيد بن منصور (2): حدثنا عبد الله بن المبارك، عن حَيْوَة بن شُرَيح، عن محمد بن عبد الرحمن بن نَوفَل، عن عُروة بن الزُّبَير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أسلَم على شيء فهو له». وهذا قد أسلم على ميراث قبل أن يُقسَم فيكون له. قالوا: وهذا اتفاقٌ من الصحابة، فذكر النجَّاد أنَّ يزيد (3) بن قتادة ماتت أمُّه، فأسلم بعض أولادها، فرفع ذلك إلى عثمان، فسأل عن ذلك أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يرثون ما لم يقسم (4). وذكر ابن اللَّبَّان (5)، عن أبي قِلابة، عن حسَّان بن بلال المُزَني: أنَّ _________ (1) في الأصل: «الحكم»، تصحيف. (2) في «سننه» (189)، وهو مرسل صحيح الإسناد كما قال ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 265). وأخرجه أيضًا (190) عن ابن أبي مليكة مرسلًا، وإسناده صحيح كذلك. وقد روي موصولًا من وجوه ضيعفة، ينظر: «الإرواء» (1716). (3) في الأصل: «زيد» هنا وفي الأثر الآتي، والتصحيح من مصادر التخريج. (4) ينظر تخريج الأثر الآتي، والذي سأله عثمان هو عبد الله بن الأرقم. (5) هو المحدِّث الفرضي محمد بن عبد الله بن الحسن البصري الشافعي، صنَّف كتبًا في الفرائض (ت 402)، ولعل بعضها كان مسندًا فنقل منه المؤلف هذه الآثار.

(2/20)


يزيد بن قتادة العَنبري (1) حدَّث أنَّ إنسانًا من أهله مات وهو على غير دين الإسلام، فورِثَتْه أختي وكانت على دينه، قال: ثم إنَّ جدِّي أسلم وشهِد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنَينَ (2)، فتُوُفِّي فلبثتْ سنةً، وكان ترك نخلًا، ثم إنَّ أختي أسلمت فخاصمتني في الميراث إلى عثمان، فحدَّثه عبد الله بن أرقم أنَّ عمر قضى أنَّه مَن أسلم على ميراث قبلَ أن يُقسَم فله نصيبه، فقضى به عثمان، فذهبت بذلك الأول، وشاركتني في هذا (3). وروى ابن اللَّبَّان أيضًا عن ابن سِيرين عن ابن مسعودٍ أنه سئل عن رجل مات وترك أباه عبدًا، فأُعتق قبل أن يُقسَم ميراثه، فقال ابن مسعودٍ (4): له ميراثه (5). _________ (1) كذا في الأصل. وفي «التاريخ الكبير» (8/ 353) و «الجرح والتعديل» (9/ 284) و «التمهيد» (2/ 58): «العنزي»، فليُنظر. (2) في الأصل والمطبوع: «خيبر»، ولعله تصحيف من الناسخ أو غيره، والتصحيح من مصادر التخريج، و «حنين» منصرف وقد يأتي غير منصرف كما أُثبت، فإن تصحيفه يدل على أنه كان مكتوبًا بغير ألف، وإلا فبعيد أن يتصحَّف «حنينًا» إلى «خيبر». (3) أخرجه أيضًا عبد الرزاق (19320) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 473) والطبراني في «الكبير» (22/ 243) وأبو بكر بن أبي داود ــ كما في «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 112) ــ وابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 56) كلهم من طريق أبي قلابة به بنحوه. ورجال إسناده ثقات. وقد وقع عند عبد الرزاق: عن أبي قلابة عن رجل، والظاهر أن المبهم هو حسان بن بلال كما عند المؤلف وفي سائر المصادر. (4) «أنه سئل ... » إلى هنا سقط من المطبوع لانتقال النظر. (5) وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (31804) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 470) ــ بلفظ: «يشترى من ماله فيُعتَق ثم يورَّث». قال ابن المنذر: «لا يثبت»، وذلك ــ والله أعلم ــ لأنه مرسل، فابن سيرين لم يدرك ابن مسعود. ولكن تابعه إبراهيم النخعي عنه كما عند ابن أبي شيبة (31803، 31805)، وهو وإن كان مرسلًا أيضًا إلا أن المشهور أنه إذا أرسل عنه فإنه قد سمعه من ثقات أصحابه كالأسود وعلقمة.

(2/21)


فإن قيل: فقد روي عن علي أنه لم يورِّث من أسلم وأُعتِق على ميراث (1). قلنا: فقد روى ابن اللبان عن الحسن عن علي - رضي الله عنه - قال: إذا أسلم النصراني قبل أن يقسم الميراث، فإنه يرث (2). وإذا اختلفت الرواية عنه فإمَّا أن يتعارضا ويتساقطا، وإما أن يكون الأخذ برواية التوريث أولى لأنَّه يوافق قول غيره من الصحابة. فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: «من أسلم على ميراث قبل أن يقسم» معناه: مَن أسلم عند حضرة الموت لمَورُوثه قبل أن يموت، ويقسمَ ميراثه. قيل: هذا فاسدٌ من وجوه: أحدها: أنَّ سياق الآثار التي ذكرناها صريحٌ في أنَّ إسلامه كان بعد _________ (1) فقد أخرج سعيد بن منصور (183) وابن أبي شيبة (32284) ــ ومن طريقه ابنُ المنذر (7/ 472) ــ من طريق أدهم السدوسي عن أناس من قومه أن امرأة ماتت وهي مسلمة وتركت أمًّا لها نصرانية، فأسلمت أمُّها قبل أن يقسم ميراث ابنتها، فأتوا عليًّا فذكروا ذلك له، فقال: لا ميراث لها، ثم قال: كم تركت؟ فأخبروه، فقال: أَنيلوها منه بشيء. (2) لم أجده.

(2/22)


الموت لا قبله. الثاني: أنَّه علق الاستحقاق بالقسمة، فقال: «من أسلم على ميراث قبل أن يقسم»، ولم يقل: قبل أن يموت الموروث. ولا يصلح أن يكون معنى (قبل أن يقسم) هو معنى (قبل أن يموت موروثه). والتأويل إذا خرج إلى هذا الحد فَحُش جدًّا. الثالث: أنَّه ليس في هذا كبير فائدة أن يقال: من أسلم قبل موت موروثه وَرِثه، فهذا أمرٌ لا يخفى على أحد حتى يحتاج إلى بيان. ولا يمتنع أن يوجد الاستحقاق بعد الموت، ويكون في حكمه قبله (1)، كما قلتم فيمن حفر بئرًا ومات ثم وقع فيها إنسانٌ: فإن الضمان متعلقٌ بتركته كما لو وُجِد الوقوع في حال حياته؛ فالحفر ــ سبب الضمان ــ وُجِد في حال الحياة، والوقوع شرطٌ في الضمان وُجِد بعد الموت. والنسب ــ سبب الإرث ــ وُجِد قبل الموت، والإسلام شرطٌ في استحقاقه وُجِد بعد الموت، فلا فرقَ بينهما. ولأنَّ لِعدم القسمة تأثيرًا في الاستحقاق، بدليل أنَّ الكفار إذا ظهروا على أموال المسلمين، ثم ظهر عليها المسلمون قبل القسمة كان صاحبه أحقَّ به، وبعد القسمة لا حقَّ له فيه. يبيِّن هذا أنَّ المال قبل القسمة لا تتعين حقوق الورثة فيه حتى تستقر الوصية إن كانت، إما بقبولٍ أو ردٍّ، فتتعين بالقسمة. _________ (1) كذا، ولعل صوابه: «في حكم ما قبله».

(2/23)


وأيضًا، فقد قال المنازعون لنا: إنَّ ما ينتقل إلى بيت المال عن ميت لا وارثَ له ينتقل إرثًا، فلو أسلم رجل بعد انتقال المال عن ميت إلى بيت المال استحق جزءًا منه كما لو كان مسلمًا قبل الانتقال، كذلك هاهنا. وهذا من فقه الصحابة - رضي الله عنهم - الذي عَجَز عنه كثيرٌ ممن بعدهم، فإنَّهم أجرَوا حالة الموت قبل القسمة مجرى ما قبل الموت، فإنَّ التركة لم يقع عليها استيلاءُ الورثة وحوزُهم وتصرُّفُهم، فكأَنَّها في يد الميت حكمًا. فهي ما بين الموت والقسمة لها (1) حالةٌ وسطٌ، فأُلحِقت بما قبل الموت، وكان أولى استصحابًا لحال بقائها. وأيضًا، فإنَّ التركة قبل القِسمة على ملك الميت، فلو زادت ونمَت وُفيَتْ ديونه من الزيادة. ولو نصب مناجل (2) وشبكةً قبل الموت، فوقع فيها صيدٌ بعده وقبل القسمة كان على ملكه، فتُوفَى منه ديونه وتُنفذ منه وصاياه. وأيضًا، فإنَّ توريث المسلم قبل القسمة مما يرغِّب في الإسلام ويزيد فيه ويدعو إليه، فلو لم يكن فيه إلا مجرد الاستحسان لكان ذلك من محاسن الشريعة وكمالها: أن لا يُحرَم ولدُ رجلٍ ميراثَه بمانعٍ قد زال [و] فَعَل (3) المقتضي عمَلَه، فإنَّ النسب هو مقتضٍ للميراث، ولكن عاقبه الشارعُ بالحرمان على كفره، فإذا أسلم لم يبقَ محلًّا للعقوبة، بل صار بالثواب أولى _________ (1) في الأصل: «له». (2) في الأصل: «مناجلًا» (3) زيادة الواو مني. ولا يصحُّ رفع «فِعلُ» على أنه فاعل «زال» كما في المطبوع، لأن فاعل زال ضمير عائد إلى «مانع».

(2/24)


منه بالعقاب. يوضِّحه أنَّ زوال المانع قبل القِسمة يجعله في حكم ما لم يكن أصلًا، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والنازع عن الكفر كمن لم يكفر، فلا معنى لحرمانه، وقد أكرمه الله بالإسلام، ومالُ موروثه لم يتعيَّن بعدُ لغيره، بل هو في حكم الباقي على ملكه من وجهٍ، وفي حكم الزائل من وجهٍ. يوضحِّه أنه إذا أسلم قبل القسمة، وقبل حيازة بيت المال التركة= ساوى المسلمين في الإسلام، وامتاز عنهم بقرابة الميت، فكان أحقَّ بماله. وهذه المسألة مما برَز بها الإمام أحمد ومن قال بقوله، وهي من محاسن الشريعة، وعند أحمد فيها من الآثار عن الصحابة ما لم يبلغ غيره. قال المانعون من التوريث: التركة تنتقل بالموت إلى ملك الورثة، ويستقر ملكهم عليها، فيجب أن لا يزول ملكهم عنها بالإسلام، كما لا يزول بحدوث وارثٍ آخر، وهو أن يموت ويُخلِف أمًّا وأختًا، فتَعْلَق (1) الأم بولدٍ آخر، فإنَّه لا يرث لحدوثه بعد الحكم بالميراث للموجود. قالوا: ولأنَّ مَن لم يكن وارثًا عند الموت لم يَصِر وارثًا بعده، لأنَّ فيه صيرورتَه وارثًا بعد موت مورِّثه، وهذا لا يعقل. قالوا: ولأنَّه لا يصير وارثًا بعد القسمة، فكذلك قبلها. قالوا: ولأنَّه لو عَتَق بعد الموت وقبل القسمة لم يرث، كذلك هاهنا، _________ (1) أي: تَحْبَل، وزنًا ومعنى. وظنَّ صبحي الصالح أن ما في الأصل خطأ فأثبت: «فتتعلَّق»!

(2/25)


ولا فرق بين الصورتين. قال المورِّثون: إنَّما حكمنا بالملك للموجودينَ من الورثة في الظاهر ملكًا مراعًى، كما حكمنا بالملك لهم إذا كان الوارث (1) قد حفر بئرًا ونصب سكِّينًا، فإنا نحكم به في الظاهر، فلو وقع في البئر إنسانٌ بعد ذلك فإنه يرجع عليهم بالأرش، وتبيَّنَّا أنَّ ذلك الحكم لم يكن صحيحًا؛ كذلك هاهنا. ويفارق هذا إذا حدث له وارثٌ بعد ذلك، لأنَّ سبب الإرث لم يكن موجودًا حال الموت، والسبب هاهنا موجودٌ وهو النسب، فجاز أن يرث بعد الموت والإسلام. يبيِّن صحة هذا أنَّه لو حفر العبد بئرًا في حياة السيد ومات السيد، فوقع فيها إنسانٌ بعد موته، تعلَّق الضمان بتركته. ولو حفرها العبد بعد موت السيد ووقع فيها إنسانٌ لم يتعلق بتركته، وإن كان العبد مضافًا إليه في الحالين. وكان الفرق بينهما ما ذكرنا. ولأنَّهم قد قالوا: لو أعتق المسلم عبدًا نصرانيًّا كان ميراثه مراعًى، فإن أسلم قبل موته ورثه بالولاء، وإن مات قبل أن يسلم لم يرثه. وهذا إلزامٌ جيدٌ، لأنهم جعلوا الميراث مراعًى على ما يحدث بعد العتق. وأمَّا إلزامهم مسألةَ العبدِ إذا عتَقَ بعد الموت وقبل القسمة، فإلزامٌ قويٌّ جدًّا. وقد نصَّ أحمد على أنَّه لا يرث مفرِّقًا بينها وبين مسألة إسلام الكافر في جوابٍ واحدٍ. ولكن قد سوَّى بينهما في الميراث: الحسنُ وأبو الشعثاء، _________ (1) كذا، والسياق يقتضي: «المورِّث» أو «الموروث».

(2/26)


حكاه ابن المنذر عنهما (1). فالمسألتان من مسائل النزاع، وفيهما ثلاثة أقوال: أحدها: عدم الميراث في المسألتين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك. والثاني: ثبوت التوارث في المسألتين، وهو قول الحسن وجابر بن زيد. والثالث: ثبوت التوارث في مسألة الكافر إذا أسلم دون العبد إذا عَتَق، وهو مذهب الإمام أحمد ومَن وافقه. وفرَّق أصحاب هذا القول بين المسألتين بأنَّ الكافر أقوى سببًا من العبد، لأنَّ الكافر في حال كفره على صفة من يرث كافرًا مثله، ويَعقِل (2) وينصُر، والعبد ليس على صفة من يرث، ولا يعقل ولا ينصر، فضَعُف في بابه. [بـ] ـهذا فرَّق القاضي وجمهور أصحابه. وفرَّق غيره بأنَّ الكافر حرٌّ فمعه مقتضي الميراث والكفر مانعٌ، بخلاف العبد فإنَّه ليس معه مقتضي الميراث وليس بأهلٍ، فبالعتق تجدَّد المقتضي، وبالإسلام زال المانع. وفرَّق آخرون بأنَّ الصحابة حكموا بتوريث الكافر يُسلم دون العبد يَعْتِق، ويكفي تفريقهم عن تكلُّف طلب الفرق! _________ (1) في «الأوسط» (7/ 472 - 473) و «الإشراف» (4/ 357). وأخرج عبد الرزاق (19318، 19329) قول أبي الشعثاء في الإسلام والعتق تباعًا. وأخرج سعيد (186) وابن أبي شيبة (32292) قول الحسن في المسألتين جميعًا. (2) أي: يَدِي (من الدية).

(2/27)


وفرَّق آخرون بأنَّ الإسلام وُجِد من جهته، فهو ممدوحٌ عليه ومثابٌ عليه، والعِتق وُجِد من غير جهته، فلا منَّةَ له فيه ولا ثواب، وإنما هو لسيده، فجاز أن يستحق بما يُمدَح عليه عوضًا يكون ترغيبًا له في الإسلام. فإن قيل: فما تقولون في الزوجة تسلم قبل قسمة الميراث؟ قيل: قد ذكر أبو بكر في كتاب الطلاق هذه المسألة فقال: إذا أسلم على ميراث قبل أن يقسم كان داخلًا في الميراث في أحد القولين. والقول الآخر: لا يرث. وأما الزوجة فخارجة عن الميراث في القولين جميعًا. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد والخرقي أنها ترث، وهو الصحيح عندي؛ لأن المانع من الميراث إذا كان لاختلاف الدين، فإذا زال قبل القسمة لم يمنع الإرث كالنسب. ووجه قول أبي بكر: أن إرث الزوجة بعقد النكاح على صفةٍ: وهو الاتفاق في الدين، وبالموت قد زال العقد، فإذا وُجد الاتفاق بعد ذلك لم يؤثر كعدم العقد. وليس كذلك النسب، لأنه يورَث به على صفة، وبالموت لم يَزُل النسب، فإذا وجد الاتفاق في الدين صادف نسبًا ثابتًا، فلهذا وَرِث. يبيِّن صحة هذا ما قلناه في المولى المناسب (1): إذا فسق سقطت ولايته، فإذا صار عدلًا عادت ولايته، لأن النسب باقٍ لم يزُل. ولو استفاد الولاية بالحكم، وفسق الحاكم سقطت ولايته، فإن صار عدلًا في الثاني لم تعد ولايته، لأنها إنما استفادها بالعقد، والعقد قد بطل، فلم يؤثر وجود العدالة في _________ (1) أي: الذي يجمعه به نسب.

(2/28)


الثاني. وأجاب آخرون بالجواب المركَّب وهو: إن لم يكن بين الصورتين فرقٌ في مسألة العبد والزوجة والكافر، فالصواب التسوية، وإن كان بينهما فرقٌ بطل الإلزام، والله أعلم. فصل وأمَّا توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثيرٌ منهم إلى أنه لا يرث كما لا يرث الكافر المسلم، وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت طائفةٌ منهم: بل يرث المسلم الكافر، دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد ابن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى بن يَعمَر (1)، وإسحاق بن راهويه (2). وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (3). قالوا: نرثهم ولا يرثونا (4)، كما ننكح نساءهم، ولا _________ (1) في الأصل: «معمر»، والتصحيح من نسخة أخرى أشير إليها بهامشه. وينظر لآثار هؤلاء: سنن سعيد بن منصور (145 - 147) ومصنف ابن أبي شيبة (32101، 32102) والأوسط لابن المنذر (7/ 464) والتمهيد (9/ 163) والاستذكار (15/ 491). (2) انظر: «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (2/ 436). (3) انظر: «الاختيارات» للبعلي (ص 283) و «الفروع» لابن مفلح (8/ 63). (4) كذا في الأصل، بحذف إحدى النونين تخفيفًا.

(2/29)


ينكحون نساءنا. والذين منعوا الميراث عمدتهم الحديث المتفق عليه: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (1)، وهو عمدةُ مَن منع ميراث المنافق الزنديق، وميراث المرتد. قال شيخنا (2): وقد ثبت بالسنة المتواترة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويُورَثون. وقد مات عبد الله بن أُبَيٍّ وغيره ممن شهد القرآن بنفاقه، ونُهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليه والاستغفار له، ووَرِثَهم ورثتُهم المؤمنون؛ كما ورث عبدَ الله بن أبيٍّ ابنُه. ولم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من تركة أحدٍ من المنافقين شيئًا، ولا جعل شيئًا من ذلك فيئًا، بل أعطاه لورثتهم. وهذا أمرٌ معلومٌ بيقينٍ، فعلم أنَّ الميراث مداره على النصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة، والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم، وإن كانوا من وجهٍ آخر يفعلون خلاف ذلك، فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على ما في القلوب. وأما المرتد فالمعروف عن الصحابة مثل عليٍّ وابن مسعودٍ: أن ماله لورثته من المسلمين أيضًا، ولم يدخلوه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم _________ (1) قد تقدم (ص 3). (2) قال ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 339): «وكان يميل أخيرًا لتوريث المسلم من الكافر الذمي، وله في ذلك مصنف وبحث طويل». فلعل هذا النص منه، وانظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 210).

(2/30)


الكافر». وهذا هو الصحيح. وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر»، المراد به الحربي لا المنافق، ولا المرتد، ولا الذمي، فإنَّ لفظ «الكافر»، وإن كان قد يعُمُّ كل كافر، فقد يأتي لفظه والمراد به بعض أنواع الكفار، كقوله: {إِنَّ اَللَّهَ جَامِعُ اُلْمُنَافِقِينَ وَاَلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 139]، فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ الكافرين. وكذلك المرتد، فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ الكافر عند الإطلاق، ولهذا يقولون: إذا أسلم الكافر لم يقضِ ما فاته من الصلاة، وإذا أسلم المرتد ففيه قولان. وقد حمل طائفةٌ من العلماء قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ» (1) على الحربي دون الذمي (2)، ولا ريب أن حمل قوله: «لا يرث المسلم الكافر» على الحربي أولى وأقرب محملًا، فإنَّ في توريث المسلمين منهم ترغيبًا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، فإنَّ كثيرًا منهم يمنعهم من الدخول [في] الإسلام خوفُ أن يموت أقاربهم، ولهم أموالٌ فلا _________ (1) أخرجه البخاري (111) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (2) وذلك أنه ورد في بعض طرق هذا الحديث عند أحمد (959) وأبي داود (4530) وغيرهما زيادة: «ولا ذو عهدٍ في عهده»، ولها شاهد عند أحمد (6690) وأبي داود (2751) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه. فدلَّت المقابلة بين «ذي عهدٍ» و «كافر» أن المراد بالكافر: الحربي. انظر: «شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (5/ 355).

(2/31)


يرثون منهم شيئًا. وقد سمعنا ذلك (1) من غير واحدٍ منهم شِفاهًا. فإذا علم أنَّ إسلامه لا يُسقط ميراثه ضَعُف المانع من الإسلام و [صارت] (2) رغبتُه فيه قويةً. وهذا وحده كافٍ في التخصيص، وهم يخصُّون العموم بما هو دون ذلك بكثيرٍ، فإنَّ هذه مصلحةٌ ظاهرةٌ يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثيرٍ من تصرفاته، وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم. وليس في هذا ما يخالف الأصول، فإنَّ أهل الذمة إنَّما ينصرهم ويقاتل عنهم المسلمون، ويفتكُّون (3) أسراهم، والميراثُ يستحق بالنصرة فيرثهم المسلمون، وهم لا ينصرون المسلمين فلا يرثونهم؛ فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب، ولو كان هذا معتبرًا فيه كان المنافقون لا يرثون ولا يورثون، وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون. وأمَّا المرتد فيرثه المسلمون، وأمَّا هو فإن مات له ميتٌ مسلم في زمن الرِّدَّة ومات مرتدًّا لم يرثه لأنَّه لم يكن ناصرًا له، وإن عاد إلى الإسلام قبل قِسمة الميراث فهذا فيه نزاعٌ بين الناس. وظاهر مذهب أحمد: أنَّ الكافر الأصلي والمرتد إذا أسلما قبل قسمة الميراث ورثا، كما هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. وهذا يؤيِّد هذا الأصل، فإنَّ هذا فيه ترغيبٌ في _________ (1) زيد في المطبوع هنا: «منهم»، خلافًا للأصل. (2) زيادة يقتضيها السياق، ولعل المؤلف لم يذكره على توهُّم أنه تقدَّم، أي: صار المانعُ من الإسلام ضعيفًا ورغبتُه فيه قويةً. (3) كذا في الأصل، وهو صواب محض، فـ (فكَّ الأسيرَ) و (افتكَّه) بمعنى. وغيَّره في المطبوع إلى: «يفتدون» مع التنبيه على ما في الأصل.

(2/32)


الإسلام، وقد نُقِل عن عليٍّ في الرقيق إذا كان ابنًا للميت: أنه يُشترى من التركة ويرث (1). قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأنَّ المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي: أنَّ الاعتبار في الإرث بالمناصرة، والمانع (2) هو المحاربة. ولهذا قال أكثر الفقهاء: إن الذمي لا يرث الحربي، وقد قال تعالى في الدية: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهْوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 91]، فالمقتول ــ إن كان مسلمًا ــ فدِيَتُه لأهله، وإن كان من أهل الميثاق فدِيَتُه لأهله، وإن كان من قوم عدوٍّ للمسلمين فلا ديةَ له؛ لأنَّ أهله عدو للمسلمين وليسوا بمعاهدين، فلا يُعطَون ديته، ولو كانوا معاهدين لأُعطُوا الدية. ولهذا لا يرث هؤلاء المسلمين، فإنَّهم ليس بينهم وبينهم أيمانٌ ولا أمانٌ. ولهذا لما مات أبو طالب ورثه عقيل دون علي وجعفرٍ، مع أن هذا كان في أول الإسلام. وقد ثبت في «الصحيح» (3) أنه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباعٍ؟»، وذلك لاستيلاء عقيل على رباع بني هاشم لمَّا هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ليس هو لأجل ميراثه، فإنه أخذ دار النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كانت له التي ورثها من أبيه، وداره التي كانت _________ (1) روي عنه نحو ذلك في مقتولٍ له أم وأخت مملوكتان، فقال: تُشتريان من الدية فتُعتَقان فتَرِثان ما بقي منها. أخرجه إسحاق الكوسج في «مسائل أحمد» (2/ 420) ــ ومن طريقه ابن المنذر (7/ 470) ــ من رواية جابر بن زيد أبي الشعثاء عنه. قال ابن المنذر: «لا يثبت»، وذلك ــ والله أعلم ـ لأن أبا الشعثاء لم يدرك عليًّا. (2) في الأصل: «المنانع»! (3) للبخاري (1588) ومسلم (1351)، وقد تقدَّم.

(2/33)


لخديجة، وغير ذلك مما لم يكن لأبي طالب، فاستولى على رباع بني هاشم بغير طريق الإرث، بل كما استولى سائر المشركين على ديار المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، كما استولى أبو سفيان بن حرب على دار أبي أحمد بن جحش (1) وكانت دارًا عظيمةً. فكان المشركون ــ لمَّا هاجر المسلمون ــ مَن كان له قريبٌ أو حليفٌ استولى على ماله، ثم لمَّا أسلموا عامَ الفتح أقرَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أسلموا عليه (2)، وقال: «مَن أسلم على شيء فهو له» (3)، ولم يرُدَّ إلى المهاجرين دُورَهم التي أُخِذت منهم، بل قال: «هذه أخذت في الله، أجورهم فيها على الله» (4). وقال لابن جحشٍ: «ألا ترضى أن يكون لك (5) مثلها في الجنة؟» (6). وكان المسلمون ينتظرون ما يأمر به في دار ابن جحش، فإن ردَّها عليه طلبوا هم أن يرُدَّ عليهم، فأرسل إليه مع عثمان (7) هذه الرسالة، فسكت _________ (1) انظر: «طبقات ابن سعد» (4/ 96) و «سيرة ابن هشام» (1/ 499) و «الآحاد والمثاني» (610) و «أخبار مكة» للأزرقي (2/ 244) والفاكهي (2120). (2) «عامَ الفتح أقرَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أسلموا عليه» سقط من المطبوع. (3) صحَّ ذلك مرسلًا، وقد سبق تخريجه (ص 20). (4) لم أجده. (5) في الأصل: «لها»، ولعله تصحيف عما أثبت. (6) ذكره ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 499) ــ مرسلًا بنحوه .. وذكر ابن سعد في «الطبقات» (4/ 96) نحوَه بإسناد شيخه الواقدي عن بعض آل أبي أحمد بن جحش. (7) في هامش الأصل: «عمار» من نسخة أخرى، والمثبت من المتن موافق لما عند ابن سعد.

(2/34)


وسكت المسلمون. وهذا كان عام الفتح، فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دارٍ؟!». قال الشيخ (1): وهذا الحديث قد استدل به طوائف على مسائل: فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة، وليس في الحديث أنه باعها. قلت: الشافعي إنما احتج بإضافة الدار إليه بقوله «في دارك» وأردفه بقوله تعالى: {وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} [آل عمران: 195]. والمنازعون له يقولون: الإضافة قد تصح بأدنى ملابسةٍ، فهي إضافة اختصاصٍ لا إضافة ملكٍ، لأن الله سبحانه جعل الناس في الحرم سواءً العاكفُ فيه والباد. المسألة الثانية: المنع من توريث المسلم من الكافر، فإنه قد روي أنه قاله عقيب هذا القول (2)، وكان قد استولى على بعضها بطريق الإرث من أبي طالب، وعلى بعضها بطريق القهر والغلبة. والظاهر أنه استولى على نفس ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - وداره التي هي له، فإنه قيل له: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دارٍ؟» يقول: هو أخذ داري ودار غيري من بني هاشم. وكان عقيل لم يُسلم بعد، بل كان على دين قومه، وكان حمزة وعبيدة بن الحارث وعلي وغيرهم قد هاجروا إلى المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعفر هاجر إلى الحبشة، فاستولى عقيل على رباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رباع آل أبي طالب. _________ (1) أي شيخ الإسلام. (2) كما عند أحمد (21752) والبخاري (4282، 4883).

(2/35)


وأمَّا رباع العباس فالعباس كان مستوليًا عليها، وكذلك الحارث بن عبد المطلب كان بمكة ابنه أبو سفيان وابنه ربيعة. وأمَّا أبو طالب فلم يبقَ له بمكة إلا عقيل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أخٌ فاستولى عقيل على هذا وهذا. فلهذا قال: «وهل ترك لنا عقيل من رِباع؟»، وإلا فبأيِّ طريقٍ يأخذ ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌّ، ولم يكن هو وارثَه لو كان يُورَث؟ فتبيَّن بهذا أنَّ الكفار المحاربين إذا استولَوا على أموال المسلمين ثم أسلموا كانت لهم، ولم تُرَدَّ إلى المسلمين، لأنها أخذت في الله وأجورهم فيها على الله، كما أتلفه الكفار من دمائهم وأموالهم، فالشهداء لا يُضمَنون، ولو أسلم قاتِلُ الشهيد لم يجب عليه دية ولا كفارةٌ بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين. وقد أسلم جماعةٌ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عرف مَن قتلوه، مثل وحشي بن حربٍ قاتل حمزة، ومثل قاتل النعمان بن قَوقَل (1) وغيرهما، فلم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا بشيء عملًا بقوله: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَّهُم مَّا قَد سَّلَفَ} [الأنفال: 38]. وكذلك المرتدون: قد أسلم طُليحة الأسدي بعد رِدَّته وقد قتل عُكَاشَة بن مِحصَن، فلم يُضَمِّنه أبو بكر وعمر وسائر الصحابة لا ديةً ولا كفارةً. وكذلك سائر من قتله المرتدون والمحاربون لمَّا عادوا إلى الإسلام لم يُضمِّنهم المسلمون شيئًا من ذلك. _________ (1) قتله صفوان بن أميَّة بن خلف الجمحي، أسلم بعد الفتح فحسُن إسلامه. انظر: «طبقات ابن سعد» (3/ 507) و «صحيح مسلم» (2313).

(2/36)


وهذا فيه نزاعٌ في مذهب الشافعي وأحمد، وطائفةٌ من أصحابهما ينصرون الضمان. وكثيرٌ من متأخري أصحاب أحمد يظن أن هذا هو ظاهر مذهبه، وأن عدم الضمان هو قول أبي بكر عبد العزيز (1)، ولم يعلم أن أحمد نصَّ على قول أبي بكر (2)، وأن أهل الردة والمحاربين لا يضمنون ما أتلفوه من النفوس والأموال كأهل الحرب الكفار الأصليين، فإنَّ هؤلاء ليس فيهم خلاف، وإنما النزاع في المرتدين والبُغاة المتأولين فإن فيهم نزاعًا في مذهب الشافعي وأحمد. والصواب فيهم الذي عليه الجمهور، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. وكذلك البُغاة المتأوِّلون من أهل القبلة كالمقتتلين بالجَمَل وصِفِّين لا يضمنون ما أتلفه بعضهم على بعض في القتال، وهذا هو المنصور عند أصحاب أحمد. قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أنَّ كلَّ دمٍ أو فرج (3) أصيب بتأويل القرآن فإنَّه هدرٌ، أنزَلُوهم منزلة الجاهلية (4). _________ (1) غلام الخلال. انظر: «الفروع» (10/ 204) و «الإنصاف» (27/ 158). (2) في رواية مهنَّا. انظر: «جامع الخلال» (2/ 514) و «المغني» (12/ 297). (3) في المطبوع: «جرح»، خلاف الأصل ومصادر التخريج. (4) أخرجه عبد الرزاق (18584) وابن أبي شيبة (28542) والخلال في «السنة» (125) ــ ولفظه أتمُّ ــ والبيهقي (8/ 174) بنحوه. وإسناده صحيح إلى الزهري. هذا، وذِكرُ قول الزهري عقب ذكر الجمل وصفين يوحي أن المراد بالفتنة في قول الزهري تانك الوقعتان. وكذا قال الألباني في «الإرواء» (2465): هي وقعة صفين. ولكن ظاهر ما نقله الخلال (122، 123) عن أحمد يدل على أن المراد بها فتنة الخوارج والحرورية. وهو الصواب، فإن المقتتلين بالجمل وصفين لم يستحلُّوا الفروج بخلاف الخوارج. والله أعلم.

(2/37)


يعني: لمَّا كانوا متأوِّلين أنزلوهم منزلة أهل الجاهلية، وإن كانوا مخطئين في التأويل كالكفار والمرتدين. وإنما يضمن من كان يعلم أنه لا يحلُّ له أن يقتل ويأخذ (1)، كالطائفتين المقتتلتَين على عصبيةٍ وكلٌّ منهما يعلم أنه يقاتل عصبيةً لا على حقٍ؛ فهؤلاء تضمن كل طائفةٍ ما أتلفته على الأخرى. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُلْقِصَاصُ فِي اِلْقَتْلَى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَاَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَاَلْأُنثى بِالْأُنثى} [البقرة: 177]. والمحاربون قطَّاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرمٌ يضمنون. وإذا تابوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدودُ الله كما تسقط عن الكفار الممتنعين إذا أسلموا قبل القدرة عليهم. وهل يعاقبون بحدود الآدميين مثل أن يقتل أحدهم قصاصًا؟ فيه قولان للعلماء، قيل: يؤخذون بحقوق الآدميين كالقَوَد، وقيل: لا يؤخذون. وما كان معهم من أموال الناس يؤخَذ بلا نزاعٍ. وما أتلفوه هل يضمنونه مع العقوبات البدنية؟ فيه نزاعٌ، كالسارق فإنه إذا وجد معه المال أُخِذ سواءٌ قطعت يده أو لم تقطع. وإن كان قد أتلفه، فهل يغرم مع القطع؟ على ثلاثة أقوالٍ، قيل: يُغرَم كقول الشافعي وأحمد، وقيل: لا يُغرَم كقول أبي حنيفة، وقيل: يُغرَم مع اليَسَار دون الإعسار كقول مالك. _________ (1) أي: المالَ بغير حقِّه. وغيَّره في المطبوع إلى «ويؤاخَذ» مع التنبيه على الأصل.

(2/38)


والمقصود هنا أن قوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهْوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 91] دلَّ به على أنَّ المحاربين لا يرثون المسلمين ولا يُعطَون ديتهم، فإنَّهم كفار والكفار لا يرثون المسلمين. وقد قيل: إنَّ هذا فيمن أسلم ولم يهاجر، فتثبت في حقه العصمة المُؤثِّمة (1) دون المُضَمِّنة كما يقول ذلك أبو حنيفة وغيره. وقيل: بل فيمن ظنَّه القاتلُ كافرًا وكان مأمورًا بقتله، فسقطت عنه الدية لذلك، كما يقوله الشافعي، وأحمد في أحد القولين. وهؤلاء يخصون الآية بمن ظاهره الإسلام، وأولئك يخصونها بمن أسلم ولم يهاجر. والآية في المؤمن إذا قتل، وهو من قومٍ عدوٍّ لنا، وهو سبحانه قال: {مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ}، ولم يقل: (من عدوكم)، فدلَّ على أنَّ القتل إذا كان خطأً كمن رمى غَرضًا فأصاب مسلمًا، فإنه لا دية فيه وإن عُلِم أنه مسلم، لأن أهله لا يستحقون الدية، ولا يستحقها المسلمون، ولا بيت المال، فهؤلاء الكفار لا يرثون مثل هذا المسلم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث الكافر المسلم»، لأنه حربي والمناصرة بينهم منقطعةٌ، فإنهم عدو للمسلمين، والميراث لا يكون مع العداوة الظاهرة، بل مع المناصرة الظاهرة. _________ (1) غيَّره صبحي الصالح إلى «المورثة» مع علمه بما في الأصل، وأبعد النُّجعة في تفسيرها. والمراد بالعصمة المؤثمة: أنها تؤثِّم من هتكها، أي تجعله آثمًا. والعصمة المضمِّنة: تجعل من هتكها ضامنًا. والمعنى أن مَن أسلم مِن المحاربين ولم يُهاجر فإن قاتِلَه يأثم ولكن لا يَضمن دِيَته. والحنفية يعبِّرون عن المضمنة بـ «المُقوِّمة» لأنها تُقوِّم على مَن هتكها قيمةَ ما أتلفه مِن مال أو نفس. انظر: «تبيين الحقائق» (3/ 268).

(2/39)


وأهل الذمة ليسوا عدوًّا محاربًا، وقتيلهم مضمونٌ، فإذا ورث المسلم منهم كان هذا موافقًا للأصول، وقوله: «الكافر» أريد به الكافر المطلق، وهو المعادي المحارب، لم يدخل فيه المنافق، ولا المرتد، ولا الذمي. فإذا كان المؤمن يرث المنافق لكونه مسالمًا له مناصرًا له في الظاهر، فكذلك الذمي، وبعض المنافقين شرٌّ من بعض أهل الذمة. وقد ذهب بعضهم إلى أنه يرث المسلمُ الكافر بالموالاة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، نصَّ عليه في رواية الجماعة: حنبل، وأبي طالب، والمروذي، والفضل بن زيادٍ؛ في المسلم يُعتق العبدَ النصراني، ثم يموت العتيق: يرثه بالولاء (1)، واحتجَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لمن أعتق» (2). قال المانعون من التوريث: له عليه الولاء، ولكن لا يرث به. قال المورِّثون: ثبوت الولاء يقتضي ثبوت حكمه، والميراث من حكمه. وقال عبد الله بن وهبٍ: حدثنا محمد بن عمرٍو، عن ابن جريجٍ، عن أبي الزبير، عن جابرٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرث المسلمُ النصرانيَّ إلا أن يكون عبدَه أو أمتَه» (3). _________ (1) انظر: «الجامع» للخلال (2/ 413). (2) أخرجه البخاري (456) ومسلم (1504) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6356) والدارقطني في «السنن» (4081) والحاكم (4/ 345) والبيهقيُّ (6/ 218)، كلهم من طريق ابن وهب، عن محمد بن عمرٍو به. ومحمد بن عمرٍو هو اليافعي، قال ابن عدي في «الكامل» (9/ 290): في حديثه مناكير، وأورد له هذا الحديث مستنكرًا له. وقد خالف اليافعيَّ هذا عبدُ الرزاق فرواه في «مصنفه» (9865) ــ ومن طريقه الدارقطني (4082) ــ عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر موقوفًا. قال الدارقطني عقبه: وهو المحفوظ. وانظر: «العلل» للدارقطني (3235).

(2/40)


قالوا: وهو إجماع الصحابة أفتى به عليٌّ، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله. فروى أبو بكر بإسناده عن الحارث عن علي - رضي الله عنه -: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، إلا أن يكون عبدًا له أو أمته (1). وكذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (2). قال المانعون: المراد بهذا العبدُ القِنُّ، إذا كان له مالٌ ومات فإن سيده يأخذ ماله. قال المورثون: لا يصح هذا، لأن العبد القن لا مال له فيورث عنه، فعلم أنه أراد من كان عبده فأعتقه كما حملتم عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل عبدَه قتلناه» (3)، وقلتم: معناه الذي كان عبده. _________ (1) وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (32094) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 462) وابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 168) من طرق عن الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث به. والحارث هو الأعور، متكلَّم فيه. (2) لم أجده. (3) أخرجه أحمد (20104) والدارمي (2403) وأبو داود (4515) والترمذي (1414) والنسائي (4737، 4738، 4753) وابن ماجه (2663) والبيهقي (8/ 35) وغيرهم من طرق عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. وعند أحمد صرَّح قتادة أن الحسن لم يسمع من سمرة، وعند البيهقي قال قتادة: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث فقال: لا يقتل حرٌّ بعبد، قال البيهقي: «يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث لكن رغب عنه لضعفه، وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة ... » ثم ذكر مذاهب أهل العلم في سماع الحسن من سمرة. وممن أثبته ابن المديني والبخاري، وقد ذكر الترمذي في «العلل الكبير» (ص 223) أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال: «كان علي بن المديني يقول بهذا الحديث، وأنا أذهب إليه».

(2/41)


وكذلك قوله في بلالٍ: «ألا إنَّ العبد قد نام» (1). قالوا: ولأنَّ الميراث بالولاء من حقوق الملك، فلم يمنع منه اختلاف الدين، كولاية (2) الكافر على أمته. ولأنَّ الشارع لم يجعله أحقَّ بميراثه لنسبٍ بينَه وبينَه، وإنما ذلك جزاء على نعمة المُعتِق. وهذا من محاسن الشريعة وكمالها، فأحق الناس بهذا الميراث أحقهم بالإنعام عليه بالعتق. يؤكِّده: أنَّ الميراث بالولاء يجري مجرى المُعاوَضة، ولهذا يرِث به المولى المعتق دون العتيق عوضًا عن إحسانه إليه بالعتق. _________ (1) أخرجه أبو داود (532) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 139) والدارقطني (954) والبيهقي (1/ 383) من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. قال الحافظ في «فتح الباري» (2/ 103): «رجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث علي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني= على أن حمَّادًا أخطأ في رفعه، وأنَّ الصواب وقفه على عمر بن الخطاب وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأنَّ حمادًا انفرد برفعه». وانظر: «جامع الترمذي» عقب (203)، و «علل ابن أبي حاتم» (308/أ)، و «علل الدارقطني» (2769، 2911). (2) في الأصل: «لولاية»، ولعل المثبت أشبه.

(2/42)


قال المانعون: الكفر يمنع التوارث، فلم يرث به المعتق، كالقتل. قال المورثون: القاتل يُحرَم الميراث لأجل التُّهمة، ومعاقبةً له بنقيض قصده. وهاهنا علة الميراث الإنعام، واختلاف الدين لا يكون مُزيلًا له (1). وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة، وهي: توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته، وتوريث المعتق عبدَه الكافر بالولاء، وتوريث المسلم قريبه الذمي، وهي مسألة نزاع بين الصحابة والتابعين. وأما المسألتان الأُخرَيان (2) فلم يُعلَم عن الصحابة فيهما نزاعٌ، بل المنقول عنهم التوريث. قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع، فإنَّ المسلمين لهم إنعامٌ وحقٌّ على أهل الذمة بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم وأموالهم، وفداء أسراهم، فالمسلمون ينفعونهم (3) وينصرونهم ويدفعون عنهم، فهم أولى بميراثهم من الكفار. والذين منعوا الميراث قالوا: مبناه على الموالاة، وهي منقطعةٌ بين المسلم والكافر. فأجابهم الآخرون بأنه ليس مبناه على الموالاة الباطنة التي توجب الثواب في الآخرة، فإنه (4) ثابتٌ بين المسلمين وبين أعظم أعدائهم، _________ (1) «مُزيلا له» تصحَّف في أصلِ صبحي الصالح إلى: «من بلاله»، فأصلحه إلى: «من علله». (2) نقط في الأصل بالتاء: «الاخرتان». وفي المطبوع: «الأخيرتان»، خطأ. (3) كذا في الأصل. وفي المطبوع: «يمنعونهم» (4) أي: الميراث.

(2/43)


وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {هُمُ اُلْعَدُوُّ فَاَحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]. فولاية القلوب ليست هي المشروطة في الميراث، وإنَّما هو بالتناصر، والمسلمون ينصرون أهل الذمة فيرثونهم، ولا ينصرهم أهل الذمة فلا يرثونهم، والله أعلم. فصل الكفار إمَّا أهل حرب وإمَّا أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصنافٍ: أهل ذمة، وأهل هُدْنَة، وأهل أمان. وقد عقد الفقهاء لكل صنفٍ بابًا، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة. ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلَّهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح، فإن الذِّمَّة من جنس لفظ العهد والعقد. وقولهم: هذا في ذمة فلان، أصله من هذا: أي في عهده وعقده، أي: فأُلزِمَه بالعقد والميثاق. ثم صار يستعمل في كل ما يمكن أخذ الحق من جهته، سواءٌ وجب بعقده أو بغير عقده، كبدل المتلف فإنه يقال: هو في ذمته. وسواءٌ وجب بفعله، أو بفعل وليه أو وكيله، كولي الصبي والمجنون، وولي بيت المال والوقف، فإن بيت المال والوقف يثبت له حقٌّ وعليه حقٌّ، كما يثبت للصبي والمجنون، ويطالب ولِيُّه الذي له أن يَقبض له ويُقبض ما عليه. وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض، وصلحهم مع الكفار. لكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهلُ الذمة عبارةً عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمةٌ مؤبَّدةٌ، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون

(2/44)


في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهُدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواءٌ كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكفُّ عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمَّون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة. وأمَّا المستأمَن فهو الذي يَقْدَم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسلٌ، وتجارٌ، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن ــ فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم ــ، وطالبُ حاجةٍ مِن زيارةٍ أو غيرها. وحكم هؤلاء: أن لا يُهاجوا (1)، ولا يُقتَلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يُعرَض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه أُلحِق به، ولم يُعرَّض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربيًّا كما كان. فصل إذا عُرف هذا، فهل يجوز لولي الأمر أن يعقد الهُدنة مع الكفار عقدًا مطلقًا لا يقدره بمدةٍ، بل يقول: نكون على العهد ما شئنا، ومن (2) أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر، ولم يغدر به؛ أو يقول: نعاهدكم ما شئنا، ونقركم ما شئنا؟ _________ (1) في هامش الأصل: «يُهاجروا»، وكذا أُثبت في المطبوع، وهو خطأ. (2) في هامش الأصل: «ومتى».

(2/45)


فهذا فيه للعلماء قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: لا يجوز، قاله الشافعي في موضع (1)، ووافقه طائفةٌ من أصحاب أحمد كالقاضي في «المجرد» والشيخ في «المغني» (2)، ولم يذكروا غيره. والثاني: يجوز ذلك، وهو الذي نصَّ عليه الشافعي في «المختصر» (3)، وقد ذكر الوجهين في مذهب أحمد طائفةٌ آخرهم ابنُ حمدان (4). والمذكور عن أبي حنيفة أنها لا تكون لازمةً بل جائزةً، فإنه جوَّز للإمام فَسْخها متى شاء. وهذا القول في الطرف المقابل (5) لقول الشافعي الأول. والقول الثالث: وسطٌ بين هذين القولين. وأجاب الشافعي عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر: «نُقِرُّكم ما أقرَّكم الله» (6) بأنَّ المراد: نُقِرُّكم ما أذن الله في إقراركم بحكم الشرع. قال (7): وهذا _________ (1) انظر: «الأم» (5/ 454). (2) (13/ 154). وفي «الإنصاف» (10/ 380) أن القاضي اختار صحة الهدنة إذا قال: هادنتكم ما شئنا. (3) للمزني (ص 386). (4) لم أجد الوجه الثاني في «الرعاية الكبرى» (كتاب الجهاد/ باب الأمان وغيره) نسخة تشستربيتي (18/ب). وقال في «الصغرى» (ص 582): «وإن هادنهم مطلقًا بطلت». (5) في الأصل: «القائل»، تصحيف. (6) أخرجه البخاري (2730) من حديث ابن عمر. (7) في «الأم» (5/ 454).

(2/46)


لا يعلم إلا بالوحي، فليس هذا لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصحاب هذا القول كأنَّهم ظنُّوا أنَّها إذا كانت مطلقةً تكون لازمةً مؤبَّدةً كالذمة، فلا تجوز بالاتفاق. وأن (1) تكون الهُدنة لازمةً مؤبَّدةً فلا بُدَّ من تَوفيتها، وذلك أنَّ الله عز وجل أمر بالوفاء ونهى عن الغدر، والوفاء لا يكون إلا إذا كان العقد لازمًا. والقول الثاني ــ وهو الصواب ــ أنَّه يجوز عقدُها مطلقةً وموقتةً، فإذا كانت موقَّتةً جاز أن تجعل لازمةً، ولو جعلت جائزةً بحيث يجوز لكل منهما فسخُها متى شاء كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوها جاز ذلك، لكن بشرط أن يُنبَذ إليهم على سواء. ويجوز عقدها مطلقةً، وإذا كانت مطلقةً لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد، بل متى شاء نقضها. وذلك أنَّ الأصل في العقود أن تُعقَد على أي صفةٍ كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا. وللعاقد أن يعقد العقد لازمًا من الطرفين، وله أن يعقده جائزًا يمكن فسخه إذا لم يمنع من ذلك مانعٌ شرعي. وليس هنا مانعٌ، بل هذا قد يكون هو المصلحة، فإنه إذا عقد عقدًا إلى مدةٍ طويلةٍ فقد تكون مصلحة المسلمين في محاربتهم قبل تلك المدة. فكيف إذا كان ذلك قد دل عليه الكتاب والسنة؟ _________ (1) كذا في الأصل، ولعله تصحيف «وإذْ».

(2/47)


وعامة عهود النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين كانت كذلك مطلقةً غير موقَّتةٍ، جائزةً غير لازمةٍ، منها عهده مع أهل خيبر، مع أن خيبر فُتحت وصارت للمسلمين، لكن سُكَّانها كانوا هم اليهود، ولم يكن عندهم مُسلِم، ولم تكن بعد نزلت آية الجزية، إنما نزلت في (براءة) عام تبوك سنة تسعٍ من الهجرة، وخيبر فتحت قبل مكة بعد الحديبية سنة سبعٍ. ومع هذا، فاليهود كانوا تحت حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ العقار ملك للمسلمين دونهم. وقد ثبت في «الصحيحين» (1) أنَّه قال لهم: «نُقِرُّكم ما شئنا» أو «ما أقرَّكم الله». وقوله: «ما أقرَّكم الله» يفسِّره اللفظ الآخر، وأنَّ المراد: أنَّا متى شئنا أخرجناكم منها. ولهذا أمر عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأنفذ ذلك عمر - رضي الله عنه - في خلافته (2). وقد ذكر طائفةٌ منهم محمد بن جرير: أنَّ كلَّ ذمةٍ عقدت للكفار في دار الإسلام فهي على هذا الحكم، يُقرِّهم المسلمون ما احتاجوا إليهم، فإذا استغنَوا عنهم أخرجوهم من ديار المسلمين. وهذا قول قويٌّ، له حظٌّ من الفقه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نُقِرُّكم ما أقرَّكم الله» أراد به ما شاء اللهُ إقراركم وقدَّر ذلك وقضى به. أي: فإذا قدَّر (3) إخراجكم بأن يريد إخراجكم فنخرجَكم لم نكن _________ (1) سبق اللفظ الأول آنفًا، والثاني في البخاري (2338، 3152) ومسلم (1551/ 6). (2) كما في حديث ابن عمر المتقدم تخريجه آنفًا. (3) غير محرَّرة في الأصل، وقرأها ناسخ الفرع: «قادر» فصححه صبحي الصالح إلى المثبت.

(2/48)


ظالمين لكم، كما يقول القائل: أنا أقيم في هذا المكان ما شاء الله وما أقامني. ولم يُرِد بقوله: «ما أقرَّكم الله»: أنَّا نُقِرُّكم ما أباح الله ذلك بوحي، وإن كان أراد ذلك فهذا معنًى صحيح، وهذا لا يمكن من غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لم يُرِد إلا الإقرار المقضي كما قال: «ما شئنا». وأيضًا فقد ثبت بالقرآن والتواترِ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نبذ إلى المشركين عهودهم بعد فتح مكة لمَّا حجَّ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عام تسعٍ، فنبذ إلى المشركين عهودهم ذلك العام. ولذلك أردف أبا بكر بعلي - رضي الله عنهما - (1)، لأنَّ عادتَهم كانت أنَّه لا يعقد العقود ويحلُّها إلا المُطاع أو رجل من أهل بيته. وقد أنزلت في ذلك سورة براءة، فقال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي اِلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاَعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اِللَّهِ وَأَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اِلْكافِرِينَ (2)} الآيات [التوبة: 1 - 7]، فهو سبحانه أنزل البراءة إلى المشركين، وجعل لهم سياحة أربعة أشهرٍ وهي الحرم المذكورة في قوله: {فَإِذَا اَنسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اُلْحُرُمُ فَاَقْتُلُوا اُلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وليست هذه الحُرُم هي الحُرُم المذكورة في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِندَ اَللَّهِ اِثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اِللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. قال شيخنا (2): ومن جعل هذه هي تلك فقوله خطأٌ، وذلك أن هذه قد _________ (1) كما في حديث أبي هريرة عند البخاري (369). (2) لم أجده بهذا التمام. وقال في «منهاج السنة» (8/ 514): «من قال ذلك فقد غَلِط غلطًا معروفًا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه».

(2/49)


بيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بأنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان (1)، وهذه ليست متواليةً فلا يقال فيها: فإذا انسلخت، فإنَّ الثلاثة إذا انسلخت بقي رجبٌ، فإذا انسلخ رجبٌ بقي ثلاثة أشهرٍ ثم تأتي الحُرُم، فليس جعْلُ هذا انسلاخًا بأولى من ذلك، ولا يقال لمثل هذا: (انسلخ)، إنما يستعمل هذا في الزمن المتصل. ثم إنَّ جمهور الفقهاء على أنَّ القتال في تلك الحُرُم مباحٌ، فكيف يقول: فإذا انسلخ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجبٌ فاقتلوا المشركين، وهو قد أباح فيها قتال المشركين؟ وأيضًا فهذه البراءة (2) نزلت عام حجة الصديق - رضي الله عنه -، وكان حجُّه في ذي القعدة على العادة لأجل النسيء الذي كانوا يَنْسَؤُون فيه الأشهرٍ، وإنما استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض لمَّا حجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حجةَ الوداع في العام المُقبِل سنة عشر. والله تعالى سيَّر المشركين أربعة أشهر يأمنون فيها، وتلك لا تنقضي إلا عاشر ربيع الأول. وقد اختلف المفسرون في هذه الأشهر الحرم ــ وهي أشهر التسيير (3) ــ على أقوالٍ: أحدها: أنها هي الحُرُم المذكورة في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}. وهذا _________ (1) أخرجه البخاري (3197) ومسلم (1679/ 29) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (2) في هامش الأصل: «الآية»، وهو الذي أثبته في المطبوع. (3) تصحَّف في فرع الأصل إلى «التيسير»، فأصلحه في المطبوع.

(2/50)


يُحكى عن ابن عباس (1)، ولا يصح عنه. الثاني: أنَّ أولها يومُ الحج الأكبر، كما نُقل عن مجاهد والسُّدِّي وغيرهما (2)، وهذا هو الصحيح. وعلى هذا فيكون آخرها العاشر من شهر ربيع الآخر. القول الثالث: أنَّ آخرها عاشر ربيع الأول. قال شيخنا: ولا منافاة بين القولين، فإنَّه باتفاق الناس أنَّ الصدِّيق - رضي الله عنه - نادى بذلك في الموسم في المشركين: أنَّ لكم أربعة أشهر تسيحون فيها، ويوم النحر كان ذلك العام بالاتفاق عاشر ذي القعدة، فانقضاء الأربعة عاشر ربيع الأول، فإنَّهم كانوا يَنسَؤُون الأشهر، فذو القعدة يجعلونه موضع ذي الحجة، وصفر موضع المحرم، وربيع الأول موضع صفر، وربيع الآخر موضع الأول، فالذي (3) كانوا يجعلونه ذا الحجة هو ذو القعدة، والذي جعلوه ربيعَ الآخرِ هو ربيع الأول. فمن المفسرين من تكلَّم بعبارتهم إذ ذاك، ومنهم من غيَّر العبارة إلى ما استقرَّ الأمر عليه. والمقصود: أنَّ الله سبحانه قسَّم المشركين في هذه السورة إلى ثلاثة أقسام: - أهل عهد موقَّتٍ لهم مدةٌ، وهم مقيمون على الوفاء بعهدهم لم ينقصوا المسلمين شيئًا مما شرطوا لهم، ولم يُظاهِروا عليهم أحدًا، فأمرهم _________ (1) أخرجه الطبري (11/ 306) من طريق العوفيين، ومن رواية علي بن أبي طلحة عنه. (2) كابن زيد وابن إسحاق، أخرجه عنهم الطبري (11/ 310، 345، 346). (3) في الأصل: «فالذين»، تصحيف.

(2/51)


بأن يُوفُوا لهم بعهدهم ما داموا كذلك. - قومٌ لهم عهودٌ مطلقةٌ غير موقَّتةٍ، فأمرهم أن يَنبِذوا إليهم عهدهم وأن يُؤجِّلوهم أربعة أشهر، فإذا انقضت الأشهر المذكورة حلَّت لهم دماؤهم وأموالهم. - القسم الثالث: قومٌ لا عهودَ لهم، فمن استأمن منهم حتى يسمع كلام الله أَمَّنه، ثم ردَّه إلى مأمنه، فهؤلاء يُقاتَلون من غير تأجيل. ومن لم يعرف (1) هذا وظنَّ أنَّ العهود كلَّها كانت مؤجَّلةً، فهو بين أمرين: أحدهما: أن يقول: يجوز للإمام أن يَنْبِذ إلى كل ذي عهدٍ (2) وإن كان موقَّتًا، فهذا مخالفٌ لنص القرآن بقوله: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]. وقد احتجوا بقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَاَنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 59]. والآية حجةٌ عليهم، لأنه إنما أباح نبذ عهدهم إليهم إذا خاف منهم خيانةً، فإذا لم يخَفْ منهم خيانةً لم يَجُز النبذ إليهم، بل مفهوم هذه الآية مطابقٌ لمنطوق تلك. الأمر الثاني: أن يقول: بل العهد الموقت لازمٌ كما دل عليه الكتاب والسنة، وهو قول جماهير العلماء. فيقال له: فإذا كان كذلك فلِمَ نبذ النبي _________ (1) في هامش الأصل: «ومن لم يفرق بين» بعلامة خ. (2) زيد في المطبوع بعده: «عهدَه».

(2/52)


- صلى الله عليه وسلم - العهد إلى جميع المعاهدين من المشركين، وقد قال تعالى: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}؟ فقد حرَّم نبذ عهد هؤلاء وأوجب إتمام عهدهم إلى مدتهم، فكيف يقال: إن الله سبحانه أمر بنبذ العهود الموقَّتة؟ فقول من لا يجوِّز العهد المطلق قولٌ في غاية الضعف (1)، كقول من يجوِّز نبذَ كل عهدٍ وإن كان مؤجَّلًا بلا سببٍ، فقوله سبحانه بعد هذا: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ اَلْمَسْجِدِ اِلْحَرَامِ فَمَا اَسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاَسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اُلْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، فهؤلاء ــ والله أعلم ــ هم المُستثْنَون في تلك الآية، وهم الذين لهم عهدٌ إلى مدةٍ، فإنَّ هؤلاء لو كان عهدهم مطلقًا لنبذ إليهم كما نبذ إلى غيرهم وإن كانوا مستقيمين كافِّين عن قتاله، فإنه نبذ إلى جميع المشركين لأنه لم يكن لهم عهدٌ مؤجَّلٌ يستحقون به الوفاء، وإنما كانت عهودهم مطلقةً غير لازمةٍ، كالمشاركة والوكالة. وكان عهدهم لأجل المصلحة، فلما فتح الله مكة وأعزَّ الإسلام وأذلَّ أهل الكفر لم يبقَ في الإمساك عن جهادهم مصلحةٌ، فأمر الله به (2)، ولم يأمر به حتى نبذ إليهم على سواءٍ لئلا يكون قتالهم قبل إعلامهم غدرًا. وهذا قد يستدل به على أنَّ العقد الجائز كالشركة والوكالة لا يَثبُت حكمُ فسخه في حق الآخر حتى يعلم بالفسخ. ويحتج به من يقول: إنَّ الوكيل لا _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 140). (2) أي: بالجهاد.

(2/53)


ينعزل حتى يعلم بعزله. قال غير واحد من السلف: الأشهر الأربعة أمانٌ لمن لم يكن له أمانٌ ولا عهدٌ، فأمَّا أرباب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مدتهم. وهذا لا يخالف قول من قال منهم: إنها للمشركين كافةً: مَن له عهدٌ ومَن ليس له عهدٌ، كما قاله مجاهد والسدي ومحمد بن كعبٍ (1)، فإنَّ أرباب العهد الموقَّت يصير لهم عهدٌ من وجهين. وقد قال ابن إسحاق: هذه الأربعة أجل لمن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمَّنه أقلَّ من أربعة أشهر، أو (2) كان أمانه غير محدودٍ، فأمَّا من لا أمان له فهو حربٌ (3). فبيَّن ابن إسحاق أنها لأصحاب الأمان المطلق، وإنما خالف من قبله: هل دخل فيها من لم يكن له عهدٌ أصلًا؟ وأمَّا ما يروى عن الضحاك وقتادة أنَّها أمانٌ لأصحاب العهد، فمن كان عهده أكثر منها حُطَّ إليها، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها، ومن لم يكن له عهدٌ فأجلُه انسلاخُ المحرَّم خمسون ليلةً (4) = فهذا قول ضعيفٌ، وهو مبني على فهمين ضعيفين (5): أحدهما: أن الحُرُم آخرها المحرم، وقد تقدم فساده. والثاني: أنه يجوز نقض العهد المؤجَّل المحدود، وقد تقدَّم بطلانه. _________ (1) سبق قول مجاهد والسدي، ولم أجد قول محمد بن كعب. (2) في الأصل: واو العطف، ولعل المثبت أشبه. (3) ذكره ابن هشام (2/ 543) والطبري (11/ 305) عن ابن إسحاق بنحوه. (4) قول الضحاك أخرجه الطبري (11/ 307)، وقول قتادة لم أجده. (5) في الأصل: «ضعيف».

(2/54)


والذين ظنُّوا أنَّ العهد لا يكون إلا موقَّتًا، والوفاء واجب (1)، حاروا في جواز البراءة إلى المشركين، فصاروا إلى ما يظهر فساده، فقالت طائفةٌ: إنما يبرأ من نقض العهد. وهذا باطلٌ من وجوه كثيرة، فإنَّ مَن نقض العهد فلا عهدَ له، ولا يحتاج هذا إلى براءةٍ ولا أذانٍ، فإنَّ أهل مكة الذين صالحهم يومَ الحديبية لما نقضوا العهد سار إليهم وكتم مسيره، ودعا الله أن يكتم خبره عنهم، ولمَّا كتب إليهم حاطب بن أبي بَلْتَعة بخبره أنزل الله فيه ما أنزل (2)، ولم يفجأ أهل مكة إلا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وجنود الله قد نزلوا بساحتهم، وهذا كان عام ثمانٍ قبل نزول (براءة). وأيضًا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكرٍ، وأردفه بعلي - رضي الله عنهما - يؤذن بسورة براءة (3)، فنبَذَ العهود إلى جميع المشركين مطلقًا، لم ينبذها إلى من نقض دون من لم ينقض. وأيضًا: فالقرآن نبذها إلى المشركين، وإنَّما استثنى من كان له مدةٌ ووفاءٌ، فمن كان فيه هذان الشرطان لم ينبذ إليه. وأيضًا: فإنه سبحانه قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ اَلْمَسْجِدِ اِلْحَرَامِ فَمَا اَسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاَسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، فجعل نفس الشرك مانعًا من العهد، إلا الذين _________ (1) في هامش الأصل: «جائز»، خطأ. (2) نزل فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. انظر: «صحيح البخاري» (4890) ومسلم (2494). (3) كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري (369).

(2/55)


لهم عهدٌ موقَّتٌ وهم به موفون. وقالت طائفةٌ من أصحاب الشافعي وأحمد: بل العهد الذي أمر بنبذه إنما هو مَنْعهم من البيت وقتالهم في الشهر الحرام. قالوا ــ وهذا لفظ القاضي أبي يعلى ــ: «وفصل الخطاب في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المشركين عهدٌ، وهو أن لا يُصَدَّ أحدٌ عن البيت، ولا يُخاف أحدٌ في الشهر الحرام، فجعل الله عهدهم أربعة أشهرٍ، وكان بينه وبين أقوامٍ منهم عهودٌ إلى أجلٍ مسمًّى، فأمر بالوفاء لهم وإتمام عهدهم إذا لم يخشَ غدرَهم». وهذا أيضًا ضعيفٌ جدًّا، وذلك أنَّ منعهم من البيت حكمٌ أُنزل في غير هذه الآية في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا اُلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وهذا المعنى غير معنى قوله: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1)}. وأيضًا: فمنعهم عن المسجد الحرام عامٌّ فيمن كان له عهدٌ ومن لم يكن له عهدٌ، والبراءة خاصةٌ بالمعاهدين كما قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1) ولم يقل: (إلى جميع المشركين) كما قال هناك: {إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا اُلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ}. وأيضًا: فمن له أجلٌ يُوفَى له إلى أجله، وهم الذين عاهدوه، فما استقاموا لهم يستقيم لهم، ومع هذا فهم ممنوعون من المسجد الحرام. وأيضًا: فالمنع من المسجد الحرام كان ينادي به أبو بكر وأعوانه علي وغيره رضي الله عنهم أجمعين، فينادون يوم النحر: «لا يَحُجَّنَّ بعد العام

(2/56)


مشركٌ، ولا يطوفَنَّ بالبيت عريانٌ» (1). وأما نبذ العهود، فإنَّما تولَّاه علي - رضي الله عنه - (2)، لأجل العادة التي كانت في العرب. وأيضًا: فالأمان الذي كان لحُجَّاج البيت لم يكن بعهدٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمانٍ منه، بل كان هذا دينَهم في الجاهلية، وقام الإسلام عليه حتى أنزل الله: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا اُلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. فبهذه الآية منعوا، لا بالبراءة من المعاهَدين. وقد كان أنزل الله فيهم: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اَللَّهِ وَلَا اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَلَا اَلْهَدْيَ وَلَا اَلْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، فنُهُوا عن التعرُّض لقاصديه مطلقًا، ثم لمَّا مُنِع منه المشركون، وعَلِموا أنَّهم ممنوعون من جهة الله تعالى، كان من أمَّنهم بعد ذلك ظالمًا لنفسه محاربًا لله ورسوله. وأمَّا القتل في الشهر الحرام فقد كان محرمًا بقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اِلشَّهْرِ اِلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]. وفي نَسْخه قولان للسلف، فإن كان لم يُنسَخ لم يكن في الآية إذن فيه، وإن كان منسوخًا فليس في البراءة ما يدل على نسخه، ولا قال أحدٌ من السلف: إن هذه الآية أباحت القتال في الشهر الحرام، وإنها الناسخة لتحريمه. فإن هذه الآية إنما فيها البراءة من المعاهَدين، والشهرُ الحرام كان تحريمه عامًّا، فلم يكن يجوز أن _________ (1) أخرجه البخاري (369) ومسلم (1347) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) جاء التصريح بذلك في رواية البخاري. وانظر: «مسند أحمد» (4) و «تفسير الطبري» (11/ 309 - 317).

(2/57)


يقاتل فيه المحاربون، وآية تحريم القتال فيه إنما نزلت بسبب ابن الحضرمي قبلُ (1)، ولم يكونوا معاهدين، وإنما عاهدهم بعد بدر بأربع سنين. وأيضًا: فإنه استثنى من الذين تبرَّأ إليهم مَن عاهده عند المسجد الحرام، وأولئك لا يباح قتالهم لا في الشهر الحرام ولا غيره، فكيف يكون الذي أباحه إنما هو القتال في الشهر الحرام؟ وأيضًا: فالأشهر الحرم في قوله: {فَإِذَا اَنسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اُلْحُرُمُ} [التوبة: 5] إن كانت الثلاثة ورجبَ (2) فهذا يدل على بقاء التحريم فيها، فبطل هذا القول. وإن كانت الأربعة التي أوَّلُها يومُ الحج الأكبر عامَ حَجَّ أبو بكر - رضي الله عنه - وآخرها ربيعٌ، فقد حَرُم فيها قتال من ليس له عهدٌ، وأباح قتالهم إذا انقضت، فلو كان إنَّما أباح قِتال مَن كان يُباح قِتالُه في الأشهر الحرم ولا عهدَ له، فهذا محاربٌ محضٌ لا حاجةَ إلى تأجيله أربعة أشهر، فإنَّ قِتالَه كان مباحًا عند هؤلاء في غير الأربعة. وأيضًا: فعلى هذا التقدير إنَّما أباح الله قتل من نبذ إليه العهد إذا انقضت هذه الأربعة، كما قال: {فَإِذَا اَنسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اُلْحُرُمُ فَاَقْتُلُوا اُلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فلو كان قتال هؤلاء الذين نبذ إليهم العهود مباحًا في _________ (1) كما في حديث جندب عند النسائي في «الكبرى» (8752) وأبي يعلى (1534). قال الطبري: لا خلاف بين أهل التأويل أن الآية نزلت بسبب قتل ابن الحضرمي وقاتله، ثم أسند قصة قتله عن ابن عباس وجندب وعدد من التابعين. «تفسير الطبري» (3/ 650 - 661). (2) كذا في الأصل، والوجه: الصرف.

(2/58)


غيرها لم يشترط في حِلِّه انقضاء الأربعة أشهرٍ، فإن ذلك يقتضي أنَّ قتالهم مباحٌ إذا انقضت الأربعة، فإنَّ المعلَّق بالشرط عَدَمٌ عند عدمه، فكيف يقال: إن قتالهم كان مباحًا سواءٌ انقضت هذه أو لم تنقض، وإنما كان يحرم قتالهم في تلك الأربعة لا مطلقًا؟ فهذه التكلُّفات التي يظهر فيها من تحريف القرآن ما يبيِّن فسادها بَناها أصحابُها على أصل فاسد، وهو أنَّ المعاهدين لا يكون عهدهم إلا إلى أجلٍ مسمًّى! وهو خلاف الكتاب والسنة، وخلاف الأصول، وخلاف مصلحة العالمين. فإذا عُلم أنَّ المعاهدين يتناول النوعين، وأنَّ الله أمر بنبذ العهد الذي ليس بعقد لازم، وأمر بالوفاء بالعهد اللازم، كان في هذا إقرارٌ للقرآن على ما دل عليه، ووافقته عليه السنة وأصول الشرع ومصالح الإسلام، والله المستعان. * * * *

(2/59)


ذكر حكم أطفالهم (1) وفيه بابان: الباب الأول: في ذكر أحكامهم في الدنيا. والباب الثاني: في ذكر أحكامهم في الآخرة (2). الباب الأول لمَّا كان الطفل غير مستقِلٍّ بنفسه لم يكن له بدٌّ من ولي يقوم بمصالحه، ويكون تابعًا له؛ وأحقُّ من نصب لذلك الأبوان، إذ هما السبب في وجوده، وهو جزءٌ منهما، ولهذا كان لهما من الحق عليه ما لم يكن لأحدٍ سواهما، فكانا أخص به وأحقَّ بكفالته وتربيته من كل أحدٍ. وكان من ضرورة ذلك أن ينشأ على دينهما كما ينشأ على لغتهما، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه. فإن كانا موحِّدَين مسلمَين ربَّياه على التوحيد= اجتمع له الفِطرة الخِلقية وتربية الأبوين. وإن كانا كافرين أخرجاه عن الفطرة التي فطره الله عليها بتعليم (3) الشرك وتربيته عليه، لِما سبق له في أم الكتاب. فإذا نشأ الطفل بين أبويه كان على دينهما شرعًا وقدرًا. فإن تعذَّر تبعيَّتُه للأبوين بموتٍ أو انقطاعِ نسبٍ كولد الزنا، والمنفي باللعان، واللقيط، والمسبيِّ، والمملوك= فاختلف الفقهاء في حكم الطفل في هذه الحال، ونحن _________ (1) في المطبوع: «ذكر أحكام أطفالهم»، خلاف الأصل. (2) يأتي الباب الثاني (ص 205). (3) في المطبوع: «بتعليمه»، خلاف الأصل.

(2/60)


نذكر ذلك مسألة مسألة. فأما المسألة الأولى وهي موت الأبوين أو أحدهما، فاختُلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه لا يصير بذلك مسلمًا، بل هو على دينه. وهذا قول الجمهور، وربَّما ادُّعِي فيه أنَّه إجماعٌ معلومٌ متيقَّن، لأنَّا نعلم أنَّ أهل الذمة لم يزالوا يموتون، ويخلفون أولادًا صغارًا، ولا نعرف قطُّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد (1) من الخلفاء الراشدين بعده ولا مَن بعدهم مِن الأئمة حكموا بإسلام أولاد الكفار بموت آبائهم. ولا نعرف أنَّ ذلك وقع في الإسلام مع امتناع إهمال هذا الأمر وإضاعته عليهم، وهم أحرص الناس على الزيادة في الإسلام والنقصان من الكفر. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها شيخنا - رحمه الله - (2). الثاني: أنَّه يُحكَم بإسلام الأطفال بموت الأبوين أو أحدهما، سواءٌ ماتا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وهذا قول في مذهب أحمد، اختاره بعض أصحابه، وهو معلوم الفساد بيقين لما سنذكره. _________ (1) كذا في الأصل. (2) انظر: «درء التعارض» (8/ 434). وذكره المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 438) أيضًا. وانظر: «الإنصاف» للمرداوي (27/ 165) حيث نقل عن «أحكام أهل الذمة». وفي مطبوعة «الاختيارات» للبعلي (ص 455): «ويُحكم بإسلام الطفل إذا مات أبواه»، وهو خطأ، والصواب ما ذكره محققه في الهامش نقلًا عن بعض النسخ الخطية: «ولا يُحكم ... ».

(2/61)


والقول الثالث: إنَّه يُحكم بإسلامهم إن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام، ولا يحكم بإسلامهم إن ماتا في دار الحرب. وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو اختيار عامة أصحابه (1). واحتجوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه». متفق عليه (2). قالوا (3): فجعل كُفره بفعل أبويه، فإذا مات أحدهما انقطعت التبعيَّة، فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها. قالوا: ولأنَّ المسألة مفروضةٌ فيمَن مات أبوه في دار الإسلام، وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها، ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها، وإنَّما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان تغليبًا لتبعيَّة الأبوين على حكم الدار، فإذا عُدما أو أحدهما وجب إبقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته للكافر. قالوا: ومما يوضِّح ذلك أنَّ الطفل يصير مسلمًا تبعًا لإسلام أبيه، فكذلك إنَّما صار كافرًا تبعًا لكفر أبيه، فإذا مات الأب زال من يتبعه في كفره، فكان الإسلام أولى به لثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه الفطرة الأصلية التي فطر الله عليها عباده، وإنَّما عارضها فعل الأبوين، وقد زال العارض، فعمل المقتضِي عمله. الثاني: أنَّ الدار دارُ الإسلام، ولو اختلط فيها ولد الكافر بولد المسلم _________ (1) انظر: «الجامع» للخلال (1/ 89) و «الإنصاف» (27/ 164 - 167). (2) البخاري (1358، 1385) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) انظر: «المغني» (12/ 286)، فالمؤلف صادر عنه.

(2/62)


على وجه لا يتميَّزان حكمنا بإسلامهما تغليبًا للدار. ولو وُجد فيها لقيطٌ في محلة الكفار لا يعرف له أبٌ حكمنا بإسلامه تغليبًا للدار. وإنَّما عارض الدار قوَّةُ تبعيَّة الأبوين، وقد زالت بالموت، فعمل مقتضي الدار عمله. الثالث: أنَّه لو سُبِي الطفلُ منفردًا عن أبويه كان مسلمًا عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بل ولو سُبي مع أحد أبويه لكان مسلمًا في أصحِّ الروايتين. بل أصح القولين أنَّه يحكم بإسلامه ولو سبي معهما، وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام وإحدى الروايتين عن أحمد (1). فإذا حكم بإسلامه في بعض هذه الصور اتفاقًا وفي بعضهما بالدليل الصحيح كما سنذكره ــ مع تحقُّق وجود الأبوين وإمكان عوده إلى تبعيَّتهما ــ فلأَن نحكم بإسلامه مع تحقُّق عدم الأبوين واستحالة تبعيَّتهما أولى وأحرى. وسِرُّ المسألة: أنَّه تبعٌ لهما في الإسلام والكفر، فإذا عُدِما زالت تبعيته، وكانت الفطرة الأولى أولى به. يوضِّحه أنَّه لو مات أقاربه جميعًا وربَّاه الأجانب من الكفار، فإنَّه لا يجوز جعله كافرًا، إذ فيه إخراجٌ عن الفطرة التي فطر الله عليها خلْقَه بلا موجبٍ، وهذا ممتنعٌ إذ يتضمن إدخالَ من فطر على التوحيد في الكفر من غير تبعيَّةٍ لأحدٍ من أقاربه، وهذا في غاية الفساد. فإذا عُدِم الأبوان لم تكن الولاية على الطفل لغيرهما من أقاربه، كما لا تثبت على أطفال المسلمين، بل تكون الولاية عليه للمسلمين، وحينئذٍ فيكون محكومًا بإسلامه كالمسبيِّ بدون أبويه، وأولى. _________ (1) انظر: «الإنصاف» (10/ 94).

(2/63)


فإن قيل: فهل تُورِّثونه من الميت منهما؟ قلنا: نعم، نورِّثه. نقله الخِرَقي (1)، فقال: وكذلك من مات من الأبوين على كفره قُسم له ــ يعني للطفل ــ الميراث، وكان مسلمًا بموت من مات منهما (2). وذلك كافٍ (3)، لأنَّ إسلامه إنَّما يثبت بموت أبيه الذي استحقَّ به الميراث، فلم يتقدَّم الإسلامُ المانعُ عن الميراث على سبب استحقاقه، ولأنَّ الحرية (4) المُعلَّقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيِّدُ العبدِ له: إذا مات أبوك فأنت حرٌّ، فمات أبوه، فإنَّه يَعتِقُ ولا يرث؛ فيجب أن يكون الإسلام المعلَّق بالموت لا يمنع الميراث، فهناك موجِب الميراث عُلِّقَ بالموت (5) فلم يوجبه، وهنا مانع الميراث علّق بالموت فلم يمنعه. وأيضًا: فكونه وارثًا أمرٌ ثابتٌ له قبل الموت، ولهذا يُمنع المريض من التصرُّف في الزائد على الثلث من ماله، فبالموت عمل المقتضي المتقدمُ لأخذ المال عمَلَه، وهو البعضيَّة والبنوَّة. وهذا بخلاف الإسلام، فإنَّه لم يكن _________ (1) في المطبوع: «الحربي»، تحريف، وعرَّف به المحقق وترجم له. وقول الخرقي في «مختصره» (12/ 285 - المغني). (2) نصَّ أحمد على ذلك في رواية أبي طالب. انظر: «الجامع» (1/ 89). (3) كذا، ولم يتبيَّن المشار إليه، أخشى أن يكون ثَم سقط أو تصحيف في النسخة. وفي «المغني» (12/ 286): «وإنما قُسم له الميراث لأن إسلامه ... » إلخ الفقرة بنحوه. (4) في الأصل: «جزية» خطأ. (5) «علِّق بالموت» سقط من المطبوع.

(2/64)


ثابتًا له قبل الموت، بل كان كافرًا حكمًا، وإنَّما تجدَّد له الإسلام بموت الأب، وهناك لم يتجدَّد كونه وارثًا بموت الأب، وإنما تجدَّد بالموت انتقال التَّرِكة إليه، وهذا ظاهرٌ جدًّا. فإن قيل: فما تقولون لو مات أبوه الكافر وهو حملٌ، هل يَرِثه؟ قلنا: لا يرثه، لأنَّا نحكم بإسلامه بمجرَّد موته قبل الوضع، نصَّ على هذا أحمد (1)، فيسبق الإسلامُ المانعُ من الميراث لاستحقاق (2) الميراث. وهذا بناءً على أنَّه لا يرث المسلم الكافر، وأمَّا على القول الذي اختاره شيخنا (3) فإنَّه يرثه. وكذلك لو كان الحمل من غيره فأسلمتْ أمُّه قبل وضعه، بأن يموت الذمِّي ويترك امرأة أخيه حاملًا من أخيه الذمِّي، فتُسْلِم أمُّه قبل وضعه؛ فنحكم بإسلامه قبل استحقاقه الميراث. فإن قيل: فيلزمكم أن تحكموا بإسلام أولاد الزنا من أهل الذمة لانقطاع أنسابهم من آبائهم. قيل: قد التزمه أصحاب هذا القول، وحكموا بإسلامهم طردًا لهذه القاعدة، وهذا ليس بجيد، فإنَّه من انقطع نسبه من جهة أبيه قامت أمُّه مقام _________ (1) في رواية محمد بن يحيى الكحال وغيره. انظر: «الجامع» (2/ 407). (2) كذا في الأصل، واللام زائدة، أي: يسبق الإسلامُ استحقاقَ الميراث بالوضع. أو يكون ثَمَّ سقط تقديره: «السببَ لاستحقاقِ الميراث». وسبب استحقاق الميراث هنا هو الوضع. وقد سبق آنفًا على غرار هذه العبارة قولُ المؤلف: «فلم يتقدَّم الإسلامُ المانعُ عن الميراث على سبب استحقاقه». (3) وقد تقدَّم (ص 33).

(2/65)


أبيه في التعصيب، ولهذا تكون أمُّه وعصباتها عصبةً له (1)، يرثون منه كما يرث الأب وعصباته، لانقطاع نسبه من جهة الأب. ويلزمهم على هذا أن يحكموا بإسلام ولد الذمِّي إذا لاعَنَ عليه، لانقطاع نسبه من جهة الأب، وهذا لا يُعلَم (2) به قائل من السلف. وأمَّا إذا اختلط أولاد الذمة بأولاد المسلمين ولم يتميزوا، فإنَّه يُحكم بإسلامهم، نصَّ عليه أحمد في رواية المرُّوذي، فإنه قال: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجل مسلم ونصراني في دار ولهما أولادٌ، فلم يُعرَف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يُجبَرون على الإسلام (3). فأحمد حكم بإسلام الأولاد هاهنا، لأنَّ بعضهم مسلم قطعًا، وقد اشتبه بالكافر فغلَّب جانب الإسلام، ولا يلزم من هذا الحكم بإسلام مَن انقطع نسبه من جهة أبيه لكونه ولد زنًا أو منفيًّا بلِعَانٍ، إذ لم يوجد هناك من يُغلَّب لأجله الإسلام، بل ولا شبهة إسلام. فصل ونحن نذكر قاعدةً فيما يقتضي الحكم بإسلام الطفل، وما لا يقتضيه. فنقول: إسلام الصبي يحصل بخمسة أشياء، متفقٌ على بعضها، ومختلفٌ في بعضها: الأول: إسلامه بنفسه إذا عقل الإسلام، فيصح عند الجمهور، وهو _________ (1) في الأصل: «لم» تصحيف. (2) في الأصل: «نعلم»، والمثبت مقتضى رفع «قائل» الآتي. (3) «الجامع» للخلال (1/ 64 - 65).

(2/66)


مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأصحابهم (1). والذين قالوا بصحة إسلامه قالوا: يصح باطنًا وظاهرًا، حتى لو رجع عنه أُجبِر عليه، ولو أقام على رجوعه كان مرتدًّا. ومنصوصُ الشافعي (2): أنه لا يصح إسلامه، ولأصحابه وجهان آخران: أحدهما: أنه يوقف إسلامه، فإن بلغ واستمرَّ على حكم الإسلام تيقَّنَّا أنَّه كان مسلمًا من يومئذٍ، وإن وصف الكفر تبيَّنَّا أنَّه كان لغوًا. وقد عُبِّر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرًا لا باطنًا. والوجه الثاني: أنَّه يصح إسلامه حتى يفرَّقَ بينَه وبينَ زوجته الكافرة، ويورَّث مِن قريبه المسلم. وهو اختيار الإصطخري. قالوا: وعلى هذا لو ارتدَّ صحَّت رِدَّتُه، ولكن لا يُقتَل حتى يبلغ، فإن رجع إلى الإسلام وإلا قتل. وعلى منصوص الشافعي فقد يقال: يُحَال بينَه وبينَ أبويه وأهله الكفار لئلَّا يَفْتِنونه (3)، فإن بلغ ووَصَف الكفرَ هُدِّد وطُولِبَ بالإسلام، فإن أصرَّ رُدَّ إليهم. وهل هذه الحيلولة مستحبةٌ أو واجبةٌ؟ فيه وجهان، أصحهما: _________ (1) في متن الأصل: «أصحابه»، والمثبت من الهامش. (2) انظر: «الأم» (6/ 707) و «الحاوي الكبير» (10/ 468) و «نهاية المطلب» (8/ 520). (3) كذا في الأصل بإثبات النون.

(2/67)


مستحبةٌ، فيُلطَف (1) بوالديه ليُؤخَذ منهما، فإنْ أبَيَا فلا حيلولةَ. هذا في أحكام الدنيا، فأمَّا ما يتعلق بالآخرة، فقال الأستاذ أبو إسحاق: إذا أَضمَر الإسلام كما أَظهَره (2) كان من الفائزين بالجنة. ويُعبَّر عن هذا بصحة إسلامه باطنًا لا ظاهرًا. قال في «النهاية» (3): «وفي هذا إشكالٌ؛ لأنَّ مَن حكم له بالفوز لإسلامه كيف لا نحكم بإسلامه؟». وأجيب عنه: بأنه قد نحكم بالفوز في الآخرة، وإن لم يَجرِ عليه أحكام الإسلام في الدنيا، كمَن لم تبلغه الدعوة. والذين قالوا: لا يصح إسلامه احتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبلُغ، وعن المجنون حتى يُفِيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (4). وهو حديث حسن. _________ (1) في المطبوع: «فيُتَلَطَّف»، خلاف الأصل. (2) في المطبوع: «إذا أضمر كما أظهر»، سقط «الإسلام» والضمير. (3) «نهاية المطلب» للجويني (8/ 521) بتصرف يسير. (4) أخرجه أحمد (940، 1328) وأبو داود (4399 - 4402) والترمذي (1423) والنسائي في «الكبرى» (7303 - 7307) وابن ماجه (2042) وابن خزيمة (1003) وابن حبان (143) من طرق عن علي - رضي الله عنه - موقوفًا ومرفوعًا. رجَّح الوقف الترمذيُّ في «العلل الكبير» (ص 226) والنسائي في «الكبرى» والدارقطني في «العلل» (291، 354). والموقوف قد علَّقه البخاري مجزومًا به في الطلاق (باب الطلاق في الإغلاق والكره) والحدود (باب لا يرجم المجنون والمجنونة). وله شاهد مرفوع من حديث عائشة عند أحمد (24694) وأبو داود (4398) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041) وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. وهذا إسناد حسن، وحماد بن أبي سليمان فقيه صدوق على لين فيه. قال البخاري كما في «العلل الكبير» (ص 225): أرجو أن يكون محفوظًا. وله شواهد أخرى ضعيفة. انظر: «البدر المنير» (3/ 225 - 238) و «إرواء الغليل» (297) و «أنيس الساري» (2170).

(2/68)


قالوا: ولأنَّه قول تثبت به الأحكام في حقه، فلم يصحَّ منه كالهِبة والبيع والعتق والإقرار. قالوا: ولأنه غير مكلَّف، فلم يصحَّ إسلامه كالمجنون والنائم. قالوا: ولأنَّه قبل البلوغ في حكم الطفل الذي لا يعقِل ما يقول، ولهذا كانت أقواله هدرًا. قالوا: ولأنَّه لو صحَّ إسلامه لصحَّت رِدَّته. قال المصحِّحون لإسلامه: هو مِن أهل قول: لا إله إلا الله، وقد حرَّم الله على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة. قالوا: وهو مولودٌ على الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فإذا تكلَّم بكلمة الإسلام فقد نطق بموجَب الفطرة، فعملت الفطرة والكلمة عملهما. قالوا: وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بقوله: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة» (1). وفي لفظ: «على هذه المِلَّة: فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه حتى يُعرِب _________ (1) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قريبًا.

(2/69)


عنه لسانُه، فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا» (1). فجعل الغاية إعراب لسانه عنه: أي بيان لسانه عنه، فإذا أعرب لسانُه عنه صار إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا بالنص. ولأنَّه إذا بلغ سِنَّ التمييز وعقَل ما يقول، صار له إرادةٌ واختيارٌ ونطقٌ يترتَّب عليه به الثواب وإنْ تأخَّرَ ترتُّبُ العقابِ عليه (2) إلى ما بعد البلوغ. فلا يلزم من انتفاء صحةِ أسبابِ العقاب انتفاءُ صحةِ أسبابِ الثواب، فإنَّ الصبي يصِحُّ حجُّه، وطهارته، وصلاته، وصيامه، وصدقته، وذِكْره، ويُثاب على ذلك، وإن لم يعاقب على تركه؛ فباب الثواب لا يعتمد البلوغَ. ولم يقم دليل شرعي على إهدار أقوال الصبي بالكليَّة، بل الأدلة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله في الجملة. وقد أمر الله تعالى بابتلاء اليتامى، وهو اختبارهم في عقودهم ومعاملاتهم. ولهذا كان قول الجمهور: إنَّ ذلك يحصل بإذنه له في العَقْد، ولا يحتاج إلى أن يأذن له في المُراوَضة (3) ثم يعقد وليُّه. _________ (1) لم نجده بهذا السياق، وهو ملفق من أكثر من رواية، فأخشى أن يكون ثَمَّ سقط من الناسخ نشأ عنه تداخل بين الروايات. فقد أخرجه مسلم عقب (2658/ 23) بلفظ: «ما من مولود يولد إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه»، وفي لفظ: «حتى يعبِّرَ عنه لسانه». وليس عند مسلم: «فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا»، وإنما روي ذلك من حديث جابر عند أحمد (14805) بإسناد فيه لين، ولفظه: «كلُّ مولود يولد على الفطرة، حتى يُعرِب عنه لسانُه، فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا». (2) تقدمت على «العقاب» في الأصل والمطبوع، فيكون السياق: «ترتَّبَ عليه العقابُ»، وهو خطأ يُذهب المعنى. (3) أي: المساومة والمجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن.

(2/70)


وقد ذهب عبد الله بن الزبير وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايات إلى قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في جراحاتهم إذا كانوا منفردين (1). وقد ذهب جماعةٌ من الفقهاء إلى صِحَّة وصيَّة الصَّبيِّ وطَلاقه وظِهاره وإيلائه، ولم يزل الصبيان يذهبون في حوائج أوليائهم وغيرهم، ويقبلون قولَهم في ثبوت الأسباب التي تقتضي الحِلَّ والحُرمة، ويعتمدون في وطء الفرج في الأمة والزوجة على قول الصبي، فلم يُهدِر الشارعُ أقوال الصبي كلَّها. بل إذا تأمَّلنا الشرعَ رأينا اعتبارَه لأقواله أكثر من إهداره لها، وإنَّما تُهدَر فيما فيه عليه ضررٌ، كالإقرار بالحدود والحقوق. فأمَّا ما هو نفعٌ محضٌ له في الدنيا والآخرة كالإسلام، فاعتبار قوله فيه أولى من إهداره، إذ أصول الشرع تشهد باعتبار قوله فيه. وأيضًا: فإنَّ الإسلام عبادةٌ محضة وطاعة لله وقربة له، فلم يكن البلوغ شرطًا في صحتها، كحجه وصومه وصلاته وقراءته، وأنَّ الله تعالى دعا عبادَه إلى دار السلام، وجعل طريقها الإسلام، وجعل مَن لم يُجِب دعوتَه في الجحيم والعذاب الأليم. فكيف يجوز منْعُ الصبي من إجابة (2) دعوة الله مع _________ (1) أخرجه مالك (2126) وعبد الرزاق (15494، 15495) وابن أبي شيبة (21433) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 271) والحاكم (2/ 286) من طريقين عن عبد الله بن الزبير. (2) في الأصل: «لمن جابه»، تصحيف. والتصحيح من «المغني» (12/ 279)، فإن المؤلف صادر عنه.

(2/71)


مُسارَعته ومُبادَرته إليها وسلوكِه طريقَها، وإلزامُه بطريق أهل الجحيم والكونِ معهم، والحكمُ عليه بالنار، وسَدُّ طريق النجاة عليه مع فراره إلى الله منها؟! هذا من أمحل المحال. ولأنَّ هذا إجماع الصحابة، فإنَّ عليًّا - رضي الله عنه - أسلم صبيًّا، وكان يفتخر بذلك، ويقول: سبقتكم إلى الإسلام طُرًّا ... صبيًّا ما بلغت أوان حلمي (1) فكيف يقال: إنَّ إسلامه كان باطلًا لا يصح؟ ولهذا قال غير واحد من التابعين ومَن بعدهم: أوَّل مَن أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان عليٌّ، ومن النساء خديجة، ومن العَبِيد بلال، ومن الموالي زيد (2). وقال عروة بن الزبير: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين (3). _________ (1) أخرجه البيهقي في «الكبير» (6/ 206) بنحوه وقال: وهذا شائع فيما بين الناس من قول علي - رضي الله عنه - إلا أنَّه لم يقع إلينا بإسناد يُحتَجُّ بمثله. (2) اختلف التابعون في أول مَن أسلم. وهذا القول إنما هو لإسحاق بن راهويه جمعًا بين الأقوال. انظر: «معالم التنزيل» للبغوي (4/ 87). (3) أخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (2535، 1096) والطبراني في «الكبير» (1/ 95، 122) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (308، 419) والبيهقي (6/ 339، 342)، كلهم من طريق الليث، عن أبي الأسود، عن عروة، مفرَّقًا كلٌّ منهما على حدة.

(2/72)


وبايع عبد الله بن الزبير وعمره سبع سنين أو ثمانٍ، فضَحِك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رآه (1). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كنتُ أنا وأمِّي من المستضعفين بمكة (2). ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحتلم. ولم يرُدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من الصبيان إسلامَه قط، بل كان يَقبَل إسلام الصغير والكبير، والحرّ والعبد، والذكر والأنثى. ولم يأمر هو ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أصحابه صبيًّا أسلم قبل البلوغ= عند البلوغ أن يجدِّد إسلامه، ولا عُرِف هذا في الإسلام قط. وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثةٍ» (3)، فلم يُرِد به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يصح إسلامُه، ولا ذكره، ولا قراءته، ولا صلاته، ولا صيامه؛ فإنه لم يخبر أنَّ قلم الثواب مرفوعٌ عنه. وإنَّما مُراده بهذا الحديث رفعُ قلم التأثيم، وأنَّه لا يُكتَب عليه ذنبٌ. والإسلام أعظم الحسنات، وهو له لا عليه، فكيف يُفهَم من رفع القلم عن الصبي بطلانُه وعدُم اعتباره، والإسلام له لا عليه، ويَسعَد به في الدنيا والآخرة؟ فإن قيل: فالإسلام يُوجِب الزكاةَ عليه في ماله ونفقةَ قريبه المسلم، ويَحرِمه ميراثَ قريبه الكافر، ويفسخ نكاحه، وهذه أحكامٌ عليه لا له، فتكون مرفوعةً عنه بالنص، ويستحيل رفعُها مع قيام سببها، فيلزم مِن رفعها رفعُ _________ (1) أخرجه مسلم (2146) من حديث أسماء بين أبي بكر - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه البخاري (1357، 4587، 4588). (3) سبق تخريجه قريبًا.

(2/73)


سببها وهو الإسلام. فالجواب من وجوه، أحدها: أن يقال: للناس في وجوب الزكاة عليه قولان، أحدهما: لا تجب عليه، فلا يصح الإلزام بها. والثاني: تجب في ماله، وهي نفعٌ محضٌ له، تعود عليه بركتها في العاجل والآجل، فهي في الحقيقة له لا عليه. وأمَّا نفقة قريبه، فقد قدَّمنا أنَّ الصحيح وجوبُها مع اختلاف الدين، فلم يتجدَّد وجوبُها بالإسلام. وإن تجدَّد وجوبها بالإسلام فالنفع الحاصل له بالإسلام في الدنيا والآخرة أضعافُ أضعافِ الضرر الحاصل بتلك النفقة. وليس في شرع الله ولا في قدره إضاعةُ الخير العظيم لما في ضِمنه من شرٍّ يسيرٍ لا نسبة له إلى ذلك الخير البتَّة، بل مدار الشرع والقدر (1) على تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما. وأمَّا حِرمان (2) الميراث من قريبه الكافر، فجوابه من وجوه: أحدها: أنَّ هذا يلزمهم نظيره، إذ قد يكون له قريبٌ مسلم، فإن لم يُصحَّح إسلامُه مُنع ميراثَه منه، وفي ذلك تفويت مصلحة دنياه وآخرته. الثاني: أنَّا قد قدَّمنا أنَّ مذهب كثير من الصحابة وجماعة من التابعين أنَّ المسلم يرث الكافر دون العكس، وبيَّنَّا رجحان هذا القول بما فيه كفاية. الثالث: أنَّه ولو حُرِم الميراث فما حصل له من عِزِّ الإسلام وغناه والفوز _________ (1) في هامش الأصل: «والمقدر»، والمثبت من متنه أولى. (2) في المطبوع: «حرمانه»، خلاف الأصل.

(2/74)


به خيرٌ له ممَّا فاته من شيء لا يُساوِي جميعُه وأضعافُه مثقالَ ذرةٍ من الإيمان. الرابع (1): أنَّ هذا أمرٌ متوهَّمٌ، فإنَّه قد لا يكون له مالٌ يزكِّيه، ولا قرابةٌ ينفق عليه، أو لا مال ينفق منه على قرابته، فكيف يجوز منع صحة الإسلام المتحقِّق النفع في الدنيا والآخرة خوفًا من حصول هذا الأمر المتوهَّم الذي قد لا يكون له حقيقةٌ أصلًا في حقِّ كثير من الأطفال؟ ولو كان محقَّقًا فهو مجبورٌ بميراثه من أقاربه المسلمين، ومجبورٌ بعزِّ الإسلام، وفوائدِه التي لا يحصيها إلا الله. ومثال تعطيل هذا النفع العظيم لأجل هذا الضرر المتوهَّم الذي لو كان موجودًا لكان يسيرًا جدًّا= مثال مَن عطَّل منفعة الأكل لِما فيها من تعب تحريك الفم وخسارة المال، وعطَّل منفعة اللُّبس لِما فيها من مفسدة خسارة الثمن وتوسيخ الثياب وتقطيعها! بل الأمر أعظم من ذلك، فلو فُرِض في الإسلام أعظمُ مضرةٍ تقدَّر في المال والبدن (2) لكان هباءً منثورًا بالنسبة إلى مصلحته ومنفعته. فصل إذا ثبت هذا فقال الخرقي (3): والصبي إذا كان له عشر سنين، وعقل الإسلام فهو مسلم. فشَرَط لصحة إسلامه شرطين، أحدهما: أن يكون له _________ (1) في الأصل: «الثالث»، وقد سبق الثالث آنفًا. (2) في الأصل: «والبدرة»، والمثبت من هامشه. (3) في «المختصر» (12/ 278 - المغني).

(2/75)


عشر سنين، الثاني: أن يعقل الإسلام. فأمَّا هذا الثاني فلا خلاف في اشتراطه، فإنَّ الطفل الذي لا يعقل لا يتحقَّق فيه اعتقاد الإسلام، وكلامُه لا عِبرةَ به، فلا يدلُّ على إرادته وقصده. وأمَّا الشرط الأول، فقال الشيخ في «المغني» (1): أكثر المصحِّحين لإسلامه لم يشترطوا ذلك، ولم يحدُّوا له حدًّا من السنين. وهكذا حكاه ابن المنذر عن أحمد (يعني: أنَّه يصح إسلامه من غير تقييدٍ بحدٍّ). وروي عن أحمد: إذا كان له سبع سنين فإسلامه إسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُرُوهم بالصَّلاة لسبعٍ» فدلَّ على أنَّ ذلك حدٌّ لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدًّا لصحة إسلامهم. انتهى. والمشهور في المذهب أنَّ الصبي إذا عقل الإسلام صحَّ إسلامه من غير اعتبار حدٍّ من السنين (2). والخرقي قيَّده بعشرٍ. وقيَّده غيره بتسعٍ، حكاه أبو عبد الله بن حمدان (3). ونصَّ أحمد في رواية على السبع. _________ (1) (12/ 280). (2) انظر: «الإنصاف» (27/ 123 - 127). (3) في «الرعاية الكبرى» نسخة تشستربيتي (35/ب) حيث قال: «وإن عقل صبيٍّ ــ وقيل لعشر سنين، وقيل لتسعٍ ــ صحَّ إسلامه». وفي مطبوعة «الرعاية الصغرى» (ص 595) مثله إلا أن فيه: «لسبعٍ». قلتُ: سبع سنين وعشر سنين روايتان مستفيضتان عن الإمام أحمد، وقد بوَّب عليهما الخلال في «الجامع» (1/ 106 - 108)، ولم يذكر تسع سنين، ولا ذكره صاحب «الإنصاف». فإما أن «لتسع» وهم من ابن حمدان، وما في مطبوعة «الرعاية الصغرى» تصحيف. وإما أن نسخة «الكبرى» مصحَّفة، وهي التي وقعت للمؤلف ــ وقد نسخت سنة 706 ــ أو مثلها.

(2/76)


وقال ابن أبي شيبة: إذا أسلم وله خمس سنين جعل إسلامه إسلامًا. قال في «المغني» (1): ولعله يقول: إنَّ عليًّا أسلم وهو ابن خمس سنين، لأنَّه قد قيل: إنَّه مات وهو ابن ثمان وخمسين، فعلى هذا يكون إسلامه لخمس سنين؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام من حيث بعث إلى أن توفي ثلاثًا وعشرين سنةً، وعاش علي - رضي الله عنه - بعد ذلك ثلاثين سنةً، فذلك ثلاثٌ وخمسون سنةً، فإذا مات عن ثمان وخمسين لزم قطعًا أن يكون وقت المبعث له خمسُ سنين. انتهى. وهذا ممَّا اختُلِف فيه فروى قتادة عن الحسن وغيره، قال: أوَّل مَن أسلم بعد خديجة عليٌّ، وهو ابن خمس عشرة سنةً أو ست عشرة (2). قلت: وصاحب هذا القول يَلزَمه أن يكون سِنُّه يوم مات سبعين سنة إلا سنتين، وهذا لم يقُله أحدٌ كما سيأتي. وقال الحسن بن زيد بن الحسن: أسلم علي وله (3) تسع سنين (4). وذكر الليث، عن أبي الأسود، عن عروة قال: أَسلَم عليٌّ وهو ابنُ ثمان سنين (5). _________ (1) (12/ 280) بعد أن حكى قول ابن أبي شيبة. (2) أخرجه معمر في «جامعه» (20391 - مصنف عبد الرزاق) عن قتادة به. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (998) والطبراني في «الكبير» (1/ 95) والبيهقي في «الكبير» (6/ 206). (3) «وله» لم يتبيَّن في الصورة لكونه لحقًا في طرف الصفحة المنعطف في التجليد. (4) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 19). (5) تقدَّم تخريجه قريبًا. وانظر: «إرواء الغليل» (2478).

(2/77)


وذكر مِقْسَمٌ عن ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الراية إلى عليٍّ وله عشرون سنةً (1). أراد الرَّاية يوم بدرٍ، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، فهذا يدلُّ على أنَّ إسلامه كان لخمس سنين، فإنَّه إذا كان له يوم بدر عشرون سنة كان بينَه وبينَ المبعث خمس عشرة. ولا يصح أن تكون هذه راية فتح خيبر، لأنَّه يَلزَم أن يكون له وقتَ المبعث سنةٌ واحدةٌ. ولذلك قال مِسعر عن الحَكَم عن مِقْسَم عن ابن عباس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع الراية إلى عليٍّ يومَ بدرٍ وهو ابن عشرين سنة (2). قال الحاكم: هذا على شرط البخاري ومسلم. وأما حديث الأَجلَح، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل، عن علي - رضي الله عنه - قال: ما أعرف أحدًا من هذه الأمة عبَدَ اللهَ بعد نبيِّها غيري، عبدتُّ اللهَ قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة سبعَ سنين= فالأجلح وإن كان صدوقًا، فإنَّه شيعي (3). _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (167) والطبراني في «الكبير» (1/ 106) من طريق قيس بن ربيع، عن الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم به. وروي من طريق مسعر عن الحكم به كما سيأتي. (2) أخرجه الحاكم (3/ 111) ومن طريقه البيهقي (6/ 207). (3) وقد وثَّقه ابن معين، ولكن ضعَّفه أكثر أئمة الحديث. وقد اختُلف عليه فيه، فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (8339) من طريق محمد بن فضيل عنه على الوجه الذي ذكره المؤلف. وأخرجه الحاكم (3/ 112) وابن الجوزي في «الموضوعات» (638) من طريق شعيب بن صفوان عنه، عن سلمة بن كُهيل، عن حبَّة بن جُوين، عن علي. وإسناده واهٍ، شعيب والأجلح متكلَّم فيهما، «وأما حبَّة فلا يساوي حبَّة» كما قال ابن الجوزي. وانظر: «تلخيص المستدرك» للذهبي. وللحديث طريق آخر من رواية عبَّاد بن عبد الله الكوفي عن علي بنحوه، أخرجه النسائي في «الكبرى» (8338) وابن ماجه (120) والحاكم (3/ 111) وغيرهم. قال ابن الجوزي في «الموضوعات» (637): «موضوع، المُتَّهم به عبَّاد. قال أحمد: اضرب عليه فإنه حديث منكر». اهـ باختصار. وقد تعقب الذهبي تصحيح الحاكم وأعلَّه بعبَّاد هذا، وقال في «ميزان الاعتدال» (2/ 368): هذا كذب على علي.

(2/78)


وهذا الحديث معلومٌ بطلانه بالضرورة؛ فإنَّ عليًّا - رضي الله عنه - لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين بحيث بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المبعث سبع سنين لم يستجب له أحدٌ في هذه المدة. هذا معلومٌ بطلانه قطعًا عند الخاصة والعامة (1). اللهم إلا أن يريد قبل المبعث، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعبَّد بغار حراء قبل أن يُوحَى إليه، ومع ذلك فلا يصح هذا، لأنَّه إذا كان قد عبَدَ الله قبل المبعث سبع سنين فلا بدَّ أن يكون في سِنِّ مَن يميِّز عند العبادة، فأقلُّ ما يكون له سبع سنين إذ ذاك، فيكون المبعث قد قام وله أربع عشرة سنةً، وأقام بمكة بعد المبعث ثلاث عشرة، فهذه سبع وعشرون سنة، وكانت بدرٌ في السنة الثانية، فيكون سِنُّه يومَ أخذ الراية ثلاثين إلا سنةً، فيكون ابن عباس - رضي الله عنهما - قد حطَّه من عمره إذ ذاك تسع سنين. قلت: ولعل لفظه: «صلَّيتُ قبل الناس لسبع سنين»، فقَصُرَت اللام _________ (1) وذلك ــ كما قال الذهبي ــ «لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن أوَّل ما أوحي إليه فقد آمن به خديجة وأبو بكر وبلال وزيدٌ مع عليٍّ، أو قبله بساعات أو بعده بساعات، وعبدوا الله مع نبيِّه، فأين السبع سنين؟! ولعلَّ السمع أخطأ، فيكون أمير المؤمنين قال: عبدتُ الله ولي سبع سنين، ولم يضبط الراوي ما سمع». انتهى من «تلخيص المستدرك» (3/ 112) بتصرف يسير.

(2/79)


فأسقطها الكاتبُ فصارت «سبع سنين»، فهذا محتملٌ وهو أقرب ما يُحمَل عليه الحديث إن صح. وبالجملة، فلا ريبَ أنَّه أسلم قبل البلوغ. أمَّا على قول ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: إنَّ عليًّا قُتِل وهو ابن ثمان وخمسين سنة (1)، فظاهرٌ، فإنَّه قُتِل سنة أربعين، فيكون له وقت المبعث خمس سنين. ولعلَّ هذا مأخذ أبي بكر بن أبي شيبة إذ صحَّح إسلام الصبي لخمس سنين. وأمَّا على قول حسين (2) بن زيد بن علي، عن جعفرٍ، عن أبيه: إنَّه قُتِل وله ثلاثٌ وستون سنةً (3)، فيكون له وقت المبعث عشر سنين. تابعه أبو إسحاق السَّبِيعي وأبو بكر بن عيَّاش (4). وقال ابن جُرَيج: أخبرني محمد بن عمر بن علي أنَّ عليًّا تُوفِّي لثلاثٍ وستين أو أربعٍ وستين (5). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (6789) عن ابن عيينة به. وأخرجه أيضًا البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 183، 2/ 381) و «الأوسط» (1/ 529، 663) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (162، 418، 419) والطبراني في «الكبير» (3/ 103) من طرق عن ابن عيينة به. (2) غير محرر في الأصل. وفي المطبوع: «حسن». والمثبت من مصادر التخريج. (3) أخرجه الطبراني في «الكبير» (1/ 95) ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (314). (4) لم أجد مخرجهما. (5) أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (315).

(2/80)


وأرفع ما قيل في وفاته ما رواه خباب بن علي، عن معروفٍ، عن أبي جعفرٍ أنَّه هلَكَ وله خمسٌ وستون سنة (1). وعلى هذا فيكون له عند المبعث اثنتا عشرة (2) سنةً، ولكن يبطل هذا ما قدَّمنا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع الراية إلى عليٍّ - رضي الله عنه - يوم بدرٍ وله عشرون سنة، والله أعلم. فصل الجهة الثانية (3): إسلام الأبوين أو أحدهما، فيَتْبَعه الولد قبل البلوغ والمجنون. لا يتبع جدَّه ولا جدَّته في الإسلام، هذا مذهب أحمد وأبي حنيفة (4). وقال مالك (5): لا يَتبَع أُمَّه في الإسلام، بل تختص التبعيَّة بالأب، لأنَّ النسب له والولاية على الطفل له، وهو عصبةٌ، وقد قال تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]. والذرية إنَّما تنسب إلى الأب. وخالفه ابنُ وهبٍ فوافق الجمهور في تبعية الأب والأم (6). _________ (1) لم أجده. (2) في الأصل: «اثنا عشر»، والوجه ما أثبت. (3) تقدم الوجه الأول (ص 66). (4) انظر: «الإنصاف» (27/ 169) و «الأصل» للشيباني (6/ 367). (5) انظر: «المدونة» (4/ 307، 308). (6) انظر: «النوادر والزيادات» (1/ 601).

(2/81)


وقال الشافعي: يتبع الأبوَين، وإن علَوا سواءٌ كانوا وارثين أو لم يكونوا (1) وارثين. قال أصحابه (2): فإذا أسلم الجد أبو الأب أو أبو الأم تَبِعه الصبي إن لم يكن أب (3) الصبي حيًّا قطعًا. وإن كان حيًّا فعلى وجهين، الأصحُّ أنَّه يتبعه. قالوا: فإذا بلغ الصبي، فإن أفصح بالإسلام تأكَّد ما حكمنا به، وإن أفصح بالكفر فقولان، المشهور: أنه مرتدٌ، لأنه سبق الحكم بإسلامه، فأشبه الإسلامَ اختيارًا، وكما إذا حصل العلوق في حال الإسلام. والثاني: أنه كافرٌ أصلي، لأنه محكومٌ بكفره أولًا، وأُزيل تبعًا، فإذا استقلَّ زالت التبعيَّة. والدليل على تبعيَّته لأمِّه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه» (4)، وإنَّما أراد من وُجد من أبويه، فإذا تبع أحد الأبوين في كفره فلأن يتبعَه في الإسلام بطريق الأولى. وقولهم: إنَّ الولاية والتعصيب للأب، فتكون التبعية له دون الأم، فيقال: ولاية التربية والحضانة والكفالة للأم دون الأب، وإنَّما قوَّة ولاية الأب على الطفل في حفظ ماله، وولاية الأم في التربية والحضانة أقوى، فتبعيَّة الطفل لأمِّه في الإسلام إن لم تكن أقوى من تبعيَّة الأب فهي مساويةٌ له. _________ (1) في المطبوع: «كانا ... لم يكونا»، خلاف الأصل. (2) انظر: «نهاية المطلب» (8/ 521 - 525). (3) كذا في الأصل، وله وجه. (4) سبق تخريجه.

(2/82)


وأيضًا: فالولد جزءٌ منها حقيقةً، ولهذا تبعها في الحرية والرِّقِّ اتفاقًا دون الأب، فإذا أسلمت تبعها سائر أجزائها، والولد جزءٌ من أجزائها. يوضحه: أنها لو أسلمت وهي حامل به حُكِم بإسلام الطفل تبعًا لإسلامها، لأنه جزءٌ من أجزائها، فيمتنع بقاؤه على كفره مع الحكم بإسلام أمِّه. فصل وأمَّا تبعيته لجدِّه وجدَّته فالجمهور منعوا منه، والشافعي قال به طردًا لأصله في إقامة الجد مقام الأب. ولكن قد نقض هذا الأصل في عدة مواضع، فلم يطرده في إسقاطه للإخوة، ولا في توريث الأم معه ثلثَ الباقي إذا كان معهما (1) أحد الزوجين. وقد أُلزِم الشافعي إسلامَ الخلق كلِّهم تبعًا لآدم، فإنَّه لم يقتصر بذلك على الجد الأدنى، ولا يغني الاعتذار بحياة الأب لوجهين: أحدهما: أنَّ كثيرًا من الأطفال يموت آباؤهم مع إسلام أجدادهم. والثاني: أنَّ وجود الأب عندهم ليس بمانع من تبعيَّة الطفل لجدِّه في الإسلام في أصحِّ (2) الوجهين. لكن لا يلزم الشافعي هذا الإلزام، لأنَّه إنَّما يحكم بتبعيَّة الطفل جدَّه في الإسلام إذا أسلم الجدُّ والطفل موجودٌ، فأمَّا إذا وُلِد الطفل كافرًا بعد موت الجدِّ فلا يَحكُم أحدٌ بإسلامه، وإلَّا كان كلُّ ولدٍ من أولاد الكفار يكون _________ (1) في المطبوع: «معها»، خطأ. (2) هامش الأصل: «أحد».

(2/83)


مسلمًا، وهذا باطلٌ قطعًا. فصل الجهة الثالثة: تبعيَّة السَّابي، فإذا سبي الطفل منفردًا عن أبوَيه حُكِم بإسلامه لأنَّه صار تحت ولايته وانقطعت ولاية الأبوين عنه. هذا مذهب الأئمة الأربعة. وقال صاحب «المهذَّب» (1): في الحكم بإسلامه وجهان. قال: وظاهر المذهب أنه لا يحكم بإسلامه. وقال صاحب «الروضة» (2): وشذَّ بهذا، وليس بشيء، والصواب المقطوع به في كتب المذهب الحكمُ بإسلامه، قال: وإنَّما ذكرتُ هذا لئلَّا يُغتَرَّ به. فلو سباه ذميٌّ لم نحكم بإسلامه. وللشافعية وجهان هذا أحدهما، والثاني: يُحكَم بإسلامه لأنَّه من أهل الدار. قالوا (3): والصحيح أنَّه لا يحكم بإسلامه، لأنَّ كونه من أهل دار الإسلام لا يؤثِّر فيه ولا في أولاده. قالوا: وعلى هذا، لو باعه الذميُّ لمسلم لا يُحكَم بإسلامه أيضًا، لأنَّ التبعية إنَّما تثبت في ابتداء السبي. فإن سُبِي مع أبويه أو مع أحدهما فلأصحاب أحمد فيه طرقٌ (4): _________ (1) (2/ 239). وهو أبو إسحاق الشيرازي. (2) أي: النووي في «روضة الطالبين» (5/ 431 - 432). (3) انظر: «روضة الطالبين» (5/ 432)، والمؤلف صادر عنه. (4) انظر: «الإنصاف» (10/ 93 - 95).

(2/84)


أحدها (1): أنَّه إن سبي مع أبويه فهو على دينهما. وإن سبي مع أحدهما تبع سابيه. وهذه طريقة أبي الخطاب وغيره. والثانية: أنَّه إن سبي منفردًا تبع سابيه، وإن سبي مع أحد أبويه ففيه روايتان، إحداهما: يتبع سابيه، والثانية: يتبع من سُبي معه. وهي طريقة القاضي وأبي البركات وغيرهما. الطريقة الثالثة: أن الروايتين في المسألتين أعني إذا سبي مع أبويه أو مع أحدهما. وهذه طريقة ابن أبي موسى. وقالت المالكية: متى سبي مع أبيه تبعه، وإن سبي منفردًا أو مع أمِّه تبع سابيه. وقالت الحنفية: إذا سبي الطفل فما دام في دار الحرب فهو على دين أبويه. فإن أُدخل إلى دار الإسلام، فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينهما، ولو مات الأبوان بعد ذلك فهو على ما كان. وإن لم يكن معه واحدٌ منهما حتى دخل دار الإسلام فهو مسلم تبعًا للدار. ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب فالصبي مسلم بإسلامه. وكذلك لو أسلم في دار الإسلام، ثم سُبي الصبي بعده وصار في دار الإسلام فهو مسلم. والصحيح في هذه المسائل أنَّه يحكم بإسلامه تبعًا لسابيه مطلقًا ــ وهذا مذهب الأوزاعي (2)، وهو إحدى الروايات عن أحمد ــ لأنَّه مولودٌ على _________ (1) كذا في الأصل. (2) انظر: «سير الأوزاعي» للشافعي (9/ 268 - الأم)، و «جامع الخلال» (1/ 87).

(2/85)


الفطرة، وإنَّما حُكم بكفره تبعًا لأبويه لثبوت ولايتهما عليه. فإذا انقطعت ولايتُهما بالسِّباء عمل مقتضي الفطرة عمَلَها إذ لم يبقَ له معارِض، فكيف يُحكَم بكفره وقد زال حكم الأبويَّة عنه، وهو لم يصف الكفرَ ولم يعرفه؟ وإنَّما كان كافرًا تبعًا لهما، والمتبوع قد زال حكم استتباعه إذ لم يبق له تصرُّفٌ في نفسه، ولا ولايةٌ على ولده. ومِن هاهنا قال الإمام أحمد ومَن تبعه: إنَّه يُحكم بإسلامه بموت الأبوين، إذ عدمهما أقوى في زوال التبعية من سِبائه (1) منفردًا عنهما أو معهما أو مع أحدهما. فصل في ذكر نصوص أحمد في هذا الباب (2) قال علي بن سعيد: سمعت أحمد وسئل عن السريَّة في أرض العدو يأخذون صبيانًا، قال: قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الولدان؛ [إن] (3) كان معهم غَنَمٌ يسوقونه (4)، وإن لم يكن معهم غنمٌ فلا أعلم له وجهًا، إلَّا أن يُدفَع إلى بعض الحصون من الروم. _________ (1) في المطبوع: «سابيه»، خطأ مخالف للأصل. (2) من «جامع الخلال»، باب الصغير يؤسر مع أحد أبويه (1/ 82 - 90) ولاءً. (3) مستدرك من «الجامع». (4) أي: إن كان مع السرية غنم أخذوه من العدوِّ فساقوه، جاز لهم أخذ الصبي الصغير، لأنه سيُسقى من لبن الغنم فلا يهلك.

(2/86)


وقال المروذي: سئل أبو عبد الله عن الرضيع يؤسر، وليس معهم من يُرضعه، قال: لا يُترَك، يُحمَل ويُطعَم ويُسقَى، وإن مات مات. وقال يعقوب بن بُختان: سألت أحمد بن حنبل عن الصبي الصغير يؤخذ من بلاد الروم، فلا يكون معهم من يرضعه قال: يحملونه معهم حتى يموت. وقال إسحاق بن إبراهيم (1): سألت أبا عبد الله عن الصبي الصغير الرضيع يُخرَج من بلاد الروم، وليس معهم أحدٌ يُرضعه، أيُخرَج به أو لا يُخرَج به (2)؟ قال أبو عبد الله: يُخرَج، فإن مات مات وهو مع المسلمين، وإن عاش عاش ــ فإنَّ الله يرزقه ــ وهو من المسلمين. قال الخلال (3): روى هذه المسألة عن أبي عبد الله أربعةُ أنفسٍ بخلاف ما قال علي بن سعيد. وما روى علي بن سعيد فأظنُّ أنَّه قولٌ لأبي عبد الله أوَّل، ثم رجع إلى أن يُحمَل ولا يُترَك، وهو مسلم إن مات أو بقي. وهو أشبه بقول أبي عبد الله ومذهبه، لأن الطفل عنده إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم، فكيف يترك مسلم في أيديهم ينصِّرونه؟ والذي أختار من قول أبي عبد الله ما روى عنه الجماعة: أن لا يترك، وبالله التوفيق. وكذلك الصغار ومن لم يبلغ الإدراك ممن يُسبى، أو يكون هاهنا، فإنَّ الحكم فيهم أن يكونوا مسلمين إذا لم يكن معهم آباؤهم، فإذا كان معهم _________ (1) ابن هانئ، وهو في «مسائله» (2/ 99 - 100). (2) «أو لا يُخرج به» ليس في مطبوعة «الجامع». (3) «الجامع» (1/ 83).

(2/87)


آباؤهم أو أحدهم كان حكمٌ آخر، أنا أبيِّنه بعد هذا إن شاء الله تعالى (1). وقال المَرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: فإن ماتوا ــ يعني الصغار ــ في أيدينا، أيُّ شيء يكون حكمهم؟ قال: حكم الإسلام. قيل له: غلامٌ ابن سبع سنين أُسِر (2)، فرأى أنَّه لا يُقتَل، وأن يُجبَر على الإسلام. قال: وهكذا الجارية. قيل له: يُباع على أنَّه مسلم؟ قال: نعم. وقال أبو الحارث: قال أبو عبد الله: إذا سبي الصغير وليس معه أبواه صُلِّيَ عليه. وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله، فقال: إذا كان الصغير ليس معه أبواه يُصلَّى عليه. وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأبي عبد الله: فإن سبي مولودٌ وحده ما يكون؟ قال: مسلمًا. وقال الفضل بن عبد الصمد: سألت أبا عبد الله عن الصبي من صبيان العدو يُسبَى فيموت أيُصلَّى عليه؟ فقال: إن كان مع أبويه لم يُصَلَّ عليه، وإن كان وحدَه وقد أُحرِز صُلِّيَ عليه. قلت: فإن لم يكن مع أبويه وكان مع جماعة السبي؟ قال: يُصَلَّى عليه. وقال إسحاق بن منصور (3): قلت لأبي عبد الله: قال الثوري: إذا كان _________ (1) لا يزال الكلام للخلال. (2) في الأصل: «أسري» خطأ، وفوقه «كذا» بالحمرة. (3) وهو في «مسائله» (2/ 83).

(2/88)


العجم صغارًا عند المسلم صُلِّي عليهم (1)، وإن لم يكن خرج بهم من بلادهم فإنَّه يُصلَّى عليهم، وقال حمَّاد: إذا ملك الصغيرَ فهو مسلم. قال أحمد: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم. وظاهر هذا النص أنَّه يحكم بإسلامه تبعًا لمالكه. وهذا محض الفقه، إذ لا فرقَ بين ملكه بالسِّباء وملكه بالشراء، لأنَّ المعنى الذي حُكِم لأجله بإسلامه إذا ملك بالسباء هو بعينه موجودٌ في صورة الملك بالشراء، فيجب التسوية بينهما لاستوائهما في علة الحكم. وقد صرَّح به في رواية الفضل بن زياد، فقال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن المملوك الصغير يُشترى، فإذا كبر عند سيده أبى الإسلام؟ قال: يُجبَر على الإسلام، لأنَّه قد ربَّاه المسلمون وليس معه أبواه. قيل له: فكيف يُجبَر؟ قال: يُعذَّب. قيل له: يُضرَب؟ قال: نعم. فقال رجل عنده: سمعت بقية (2) يقول: يُغوَّص في الماء حتى يرجع إلى الإسلام! فضحك من ذلك وعجب منه. = فقد صرَّح بأنَّه تابعٌ لمالكه (3). وقال أبو زكريا النَّيسابوري: سمعت أبا عبد الله يقول في غلام سُبي وهو صغيرٌ، فلما أدرك عُرض عليه الإسلام فأبى، فقال أبو عبد الله: يُقهَر عليه. _________ (1) في الأصل: «عليه»، والمثبت من «الجامع». (2) تصحَّف في المطبوع إلى: «فيه»، فزاد صبحي الصالح بعده «مَن» بين الحاصرتين لإقامة السياق. وبقيَّة هو ابن الوليد الحمصي، وسيأتي مثله عن شيخه الأوزاعي. (3) مع أنه ملكه بالشراء لا بالسباء. وهذا خلافًا للشافعية الذين يرون ــ كما سبق ــ «أنَّ التبعية إنَّما تثبت في ابتداء السبي» لا بالشراء.

(2/89)


قال: كيف يُقهَر عليه؟ قال: يُضرَب. فحكى مُهنَّا عن الأوزاعي قال: يُغوَّص في الماء حتى يرجع إلى الإسلام. قال: فرأيت أبا عبد الله يستعيد مهنَّا: كيف قال الأوزاعي؟ وجعل يبتسم. وقال أبو داود (1): قلت لأبي عبد الله: السبي يموتون في بلاد الروم، قال: معهم آباؤهم؟ قلت: لا، قال: يُصلَّى عليهم. قلت: لم يُقْسَموا ونحن في السرية؟ قال: إذا صاروا إلى المسلمين وليس معهم آباؤهم فإن ماتوا يُصلَّى عليهم وهم مسلمون. قلت: فإن كان معهم آباؤهم؟ قال: لا. قلت: لأبي عبد الله: إنَّ أهل الثغر (2) يُجبِرونهم على الإسلام وإن كان معهم آباؤهم، قال: لا أدري. وسمعت أبا عبد الله مرةً أخرى يُسأل عن هذه المسألة ــ أو ذكرها ــ فقال: أهل الثغر يَصنَعون أشياء ما أدري ما هي! وقال صالح: قلت لأبي: الصبي إذا أسره المسلمون؟ قال: يجبر على الإسلام. قلت: وإن كان مع أبويه؟ قال: بلغني أنَّ أهل الثغر يُجبِرونه على الإسلام، وما أُحبُّ أن أُجيبَ فيها. قلت: إنَّ بعض مَن يقول: لا يُجبَر يقول: إنَّ عمر بن عبد العزيز فادى بصبيٍّ صغيرٍ. قال أبي: هذا فادى به وهو مسلم (3). واستشنع قول من قال: لا يُجبَر. _________ (1) في «مسائله» (ص 330)، والنقل من «جامع الخلال». (2) في الأصل: «النفير»، تصحيف. (3) أي: الصغير الذي فادى به عمر بن عبد العزيز كان مسلمًا بالتبعية للمسلمين الذين سبوه.

(2/90)


وقال بكر بن محمد، عن أبيه أنَّه سأل أبا عبد الله عن أهل الشرك يُسبَون وهم صغارٌ ومعهم الأب والأم؟ قال: هم مع آبائهم نصارى، وإن كانوا مع أحد الأبوين فهكذا هم نصارى، فإذا لم يكن مع أبويه ولا مع أحدهما فهو مسلم. قال: وعمر بن عبد العزيز فادى بصبي، ولا يعجبني أن يفادي بصبي، ولا إن كان معه أبواه ــ ولا يُجبَر أبواه ــ، لأنه إذا كان مع أبويه أو مع أحد أبويه يُطمع أن يموت أبواه وهو صغيرٌ فيكون مسلمًا، وأهل الثغر والأوزاعي يقولون: إذا كانوا صغارًا مع آبائهم فهم مسلمون. وقال الحسن بن ثواب (1): قلت لأبي عبد الله: سألت بعض أصحاب مالك عن قومٍ مشركين سُبُوا ومعهم أبناؤهم صغار ما يَصنع بهم الإمام إذا ماتوا؟ يأمر بالصلاة عليهم، أو يجبرهم على الإسلام؟ قال لي: إذا كان مع أبيه لم أُجبِره على الإسلام حتى يعرف الإسلام ويصفه، فإن أسلم وإلا أُجبِر عليه. قلت: لا يعقل (2)؟ قال: اضرِبْه (3) ما دون نفسه. وإذا أُخِذ أطفالٌ صغارٌ وليس معهم آباؤهم حتى يصيروا في حيِّز المسلمين إلى بلدهم، ثم ماتوا صُلِّي عليهم ودُفِنوا. قلت: وسألتُ بعض أصحاب مالك عن رجل سُبِي وامرأته ومعهما (4) _________ (1) في الأصل: «أيوب»، والتصحيح من هامشه. وفي مطبوعة «الجامع» (1/ 87): «الحسين بن ثواب»، تصحيف. (2) في هامش الأصل: «لا يفعل»، والمثبت من متنه موافق لمطبوعة «الجامع». (3) يحتمل: «أضربُه» (4) في الأصل: «معهم»، والمثبت من «الجامع».

(2/91)


صبيٌّ صغيرٌ ما يصنع به؟ قال: أدَعُه حتى يعقل الإسلام، فإذا عقله فإمَّا أن يسلم وإلا السيف. قال أبو عبد الله: إنَّ قومًا يقولون: إذا سُبي وهو بين أبويه أُجبِر على الإسلام، وإذا سُبِي وليس معه أبواه فمات كُفِن وصُلِّي عليه، وإذا كان معه أبواه لم يُصَلَّ عليه (1)، وتبسَّم ثم ضَحِك. وقال حنبل: قال عمِّي (2) في السبي يُسبَى مع (3) العدو فيموت، قال: إذا صلَّى وعرف الإسلام صُلِّي عليه ودُفِن مع المسلمين، وإذا لم يُسلِم ويُصلِّ لم يُصَلَّ عليه. وفي الصغير يُسلِم ثم يموت قال: يُصلَّى عليه. قال حنبل: وحدثنا إبراهيم بن نصرٍ، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن الربيع، عن الحسن البصري في السبي يسبى مع أبويه فيموت: (4) يُصلَّى عليه. وقال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بوَاسِط فسألوني عن [الذي] (5) يموت هو وامرأته ويدَعا (6) طفلَين، ولهما عمٌّ، ما تقول فيها؟ _________ (1) «وإذا كان معه أبواه لم يُصَلَّ عليه» ليس في مطبوعة «الجامع»، ولعله سقط لانتقال النظر. (2) رسمه في الأصل يشبه: «عمر»، وكذا في المطبوع، وهو تصحيف. والمراد: الإمام أحمد. انظر ما سبق (1/ 249). (3) كذا في الأصل. وفي «الجامع»: «مِن»، وهو أشبه. (4) في الأصل زيادة: «ثمَّ»، ولا وجه لها. (5) مستدرك من «الجامع» (1/ 89). في المطبوع: «عمن يموت». (6) كذا في الأصل و «الجامع».

(2/92)


فإنَّهم كتبوا إلى البصرة (1) فيها، وقالوا: إنَّهم قد كتبوا إليك، فقال: أكره أن أقول فيها برأيي، دعْ حتى أنظر لعلَّ فيها عمَّن تقدَّم. فلما كان بعد شهر عاوَدته، فقال: قد نظرتُ فيها فإذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه»، وهذا ليس له أبوان، قلت: يُجبَر على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو الحارث: قال أبو عبد الله: ولو أن صبيًّا له أبوان نصرانيان فماتا وهو صغيرٌ، فكفله المسلمون فهو مسلم. وقال يعقوب بن بختان: قال أبو عبد الله: الذمي إذا مات أبوه (2) وهو صغيرٌ أُجبِر على الإسلام، وذكر الحديث: «فأبواه يهودانه وينصرانه». وقال إسحاق بن منصور (3): سألت أبا عبد الله عن نصرانيَّين يكون بينهما ولد فيموت الأب (4)، الابن (5) يُجبَر على الإسلام؟ قال: نعم، يُجبَر على الإسلام. _________ (1) في مطبوعة «الجامع»: «إليَّ بالبصرة»، ولعله تصحيف. (2) في المطبوع: «أبواه»، خلاف الأصل و «الجامع». (3) كذا في الأصل، وهو وهم، فإن الخلال رواه عن «محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدَّثهم». وإسحاق الذي يروي عنه محمد بن أبي هارون (في كتاب الخلال) هو ابن إبراهيم بن هانئ. وأما مسائل إسحاق بن منصور، فالخلال يرويها عن أحمد بن محمد بن حازم عنه. والمسألة في «مسائل ابن هانئ» (2/ 100). (4) في «الجامع»: «فيموتان»، وفي «المسائل»: «فيموت الأبوان». (5) في الأصل كلمة غير محررة تشبه «من»، وعليه علامة بالحمرة استشكالًا.

(2/93)


وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن ولد يهودي أو نصراني مات أبواه (1) وهو صغيرٌ؟ قال: هو مسلم إذا مات أبواه، قلت: يرث أبويه؟ قال: نعم يرثهما، ويُجبَر على الإسلام. قلت: فله عمٌَّ أو أخٌ، أرادوا أن يأخذوه؟ قال: لا يأخذوه، هو مسلم. قلت: فمات عمُّه أو أخوه يرثه؟ قال: لا. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: اشترى رجل عبدًا يهوديًّا أو نصرانيًّا وليس معه أبواه، يُجبَر على الإسلام؟ قال: يُعجِبني ذلك إذا لم يكن معه أبواه. فصل قال الخلَّال في «الجامع» (2): باب الصبي يخرج من دار الشرك إلى أبويه في دار الإسلام وهما نصرانيان في دار الإسلام. أخبرني محمد بن يحيى الكحَّال أنَّه قال لأبي عبد الله: الصبي يخرج إلى أبويه وهما نصرانيان؟ قال: هو مسلم، قلت: فإن مات يصلِّي عليه المسلمون؟ قال: نعم. فقد حكم بإسلامه مع وجود أبويه الكافرين من غير سباءٍ ولا رقٍّ حادثٍ عليه. ووجه هذا ــ والله أعلم ــ أنَّه لمَّا كان منفردًا عن أبويه، ولم يكن لهما عليه حكمٌ في الدار التي حُكمُ المسلمين فيها عليه دون أبوَيه= كان محكومًا بإسلامه بانقطاع تبعيَّته لهما، فإذا خرج إليهما وهما في دار الإسلام خرج إليهما (3) وهو _________ (1) في الأصل: «أبوه»، والمثبت من «الجامع»، وجواب الإمام الآتي يدل عليه. (2) (1/ 90). (3) المطبوع: «إليها»، خلاف الأصل.

(2/94)


مسلم، فلم يَجرِ الحكم بكفره، فالدار فرَّقت بينهما حكمًا كما فرَّقت بينهما حِسًّا. فإن قيل: فيلزمكم هذا فيما إذا كان الطفل في دار الحرب وأبواه في دار أخرى من دور الحرب غيرها. قيل: ما دام في دار الحرب فنحن لا نحكم له بحكم الإسلام، ودار الحرب دارٌ واحدةٌ وإن تعدَّدت بلادها، فما دام في دار الحرب فليس لنا عليه حكمٌ، فإذا صار إلى دار الإسلام ظهر حكم الدار في الحال التي لم يكن لأبويه عليه فيها حكمٌ، وكان حكمه فيها حكم من انقطعت تبعيَّته لأبويه، فإنَّه لمَّا صار إلى دار الإسلام كان الحكم عليه، وولايته للمسلمين دون أبويه. وسِرُّ المسألة: أنَّه حُكِم بإسلامه لتبعيَّة (1) الدار في الحال التي لا ولاية لأبويه عليه فيها. فصل الجهة الرابعة: تبعيَّة الدار، وذلك في صورٍ: إحداها: هذه الصورة التي نصَّ عليها أحمد. الثانية: اختلاط أولاد المسلمين بأولاد الكفار على وجهٍ لا يتميَّزون، قال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجلٍ مسلم ونصراني في دار _________ (1) في المطبوع: «حُكم بتبعية»، سقط: «إسلامه لـ».

(2/95)


ولهما أولادٌ، فلم يُعرَف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يُجبَرون على الإسلام (1). الثالثة: الالتقاط: فكلُّ لقيط وُجِد في دار الإسلام فهو مسلم. وإن كان في دار الكفر ولا مسلمَ فيها فهو كافر. وإن كان فيها مسلم فهل يُحكَم بإسلامه أو يكون كافرًا؟ على وجهين. هذا تحصيل مذهب أحمد (2). وقال أصحاب مالك (3): كلُّ لقيط وُجِد في قرى الإسلام ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشركٌ. وقال أشهب: إن التقطه مسلم فهو مسلم. ولو وُجِد في قرية ليس فيها إلا الاثنان (4) والثلاثة من المسلمين فهو مشركٌ، ولا يُعرَّض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه. وقال أشهب: حكمه في هذه أيضًا الإسلامُ؛ التقطه ذميٌّ أو مسلم، لاحتمال أن يكون لِمَن فيها من المسلمين. قال: كما أجعله حرًّا، وإن كنت لم أعلم حرٌّ هو أم عبدٌ لاحتمال الحرية؛ لأنَّ الشرع رجَّح جانبَهما (5). هذا تحصيل مذهبهم. _________ (1) «الجامع» للخلال (1/ 64 - 65). (2) انظر: «المغني» (8/ 351) و «الإنصاف» (16/ 284 - 285). (3) انظر: «المدونة» (11/ 398) و «النوادر والزيادات» (10/ 483). والمؤلف صادر عن «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 92). (4) المطبوع: «الابنان»، تصحيف. (5) أي: جانب الحرية والإسلام. وفي المطبوع: «جانبها»، خلاف الأصل. وفي مطبوعة «عقد الجواهر الثمينة»: «جانبَيهما».

(2/96)


وقالت الشافعية (1): إمَّا أن يوجد في دار الإسلام أو دار الكفر، فإن وجد في دار الإسلام فهي ثلاثة أضربٍ: أحدها: دارٌ يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل الذمة، تغليبًا للإسلام. الضرب الثاني: دارٌ فتحها المسلمون وأقرُّوها في يد الكفار بجزية، أو ملكوها (2)، أو صالحوهم ولم يملكوها= فاللقيط فيها مسلم إذا كان ثَمَّ مسلمٌ واحدٌ فأكثر، وإلا فكافرٌ على الصحيح. وقيل: مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتم إسلامه. الثالث: دارٌ كان المسلمون يسكنونها ثم جُلُوا (3) عنها وغلب عليها الكفار. فإن لم يكن فيها من يُعرَف بالإسلام فهو كافرٌ على الصحيح، وقال أبو إسحاق: هو مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتُم إسلامه. وإن كان فيها _________ (1) انظر: «نهاية المطلب» (8/ 531) و «الحاوي الكبير» (8/ 43). والمؤلف صادر عن «روضة الطالبين» للنووي (5/ 433). (2) كذا في الأصل «أو ملكوها»، قسيمًا لما قبله. وفي مطبوعة «روضة الطالبين»: «فقد ملكوها»، والظاهر أنه تصحيف عن: «بعد ما ملكوها» كما في «الشرح الكبير» للرافعي (6/ 403) و «الروضة» مختصر منه. وقد تكون الفاء تصحيفًا عن واو الحال، أي: أقرُّوها في يد الكفار وقد ملكها المسلمون. وأيًّا ما كان فالقسمة ثُنائية لا ثلاثية: دار فتحوها عَنوةً وملكوها، ودار فتحوها صُلحًا ولم يملكوها. وانظر: «المنهاج» (ص 332). (3) في المطبوع: «رحلوا»، تحريف.

(2/97)


معروفٌ بالإسلام [فهو مسلم] (1)، وفيه احتمالٌ للجويني (2). وإن وُجِد في دار الكفر فإن لم يكن فيها مسلم فاللقيط محكومٌ بكفره. وإن كان [فيها] (3) تُجَّار مسلمون ساكنين (4) فهل نحكم بكفره تبعًا للدار أو بإسلامه تغليبًا للإسلام؟ فيه وجهان، وكذا الوجهان لو كان فيها أسارى مسلمين (5). فأمَّا المحبوسون في المطامير (6) فلا أثرَ لهم، كما لا أثرَ للمجتازين المارِّين من المسلمين. هذا تحصيل مذهبهم. وقالت الحنفية (7): إن التقطه في دار الإسلام فهو مسلم تبعًا للدار، إلَّا أن يلتقطه من بِيعةٍ أو كنيسةٍ أو قريةٍ من قُراهم فيكون ذمِّيًّا، لأنَّ الظاهر أنَّ أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة، وكذلك بالعكس. _________ (1) ما بين الحاصرتين من «الروضة». (2) انظر: «نهاية المطلب» (8/ 532). (3) في هامش الأصل: «غير» بعلامة (خ) ولم يتبيَّن وجهه. والمثبت من «الروضة». (4) في الأصل آثار للكشط، أخشى أن يكون كتب الناسخ «ساكنون» أوَّلُ ــ وهو الموافق لمصدر المؤلف ــ ثم كشطه وغيَّره. (5) كذا في الأصل. والوجه الرفع. (6) جمع المَطْمُورة، وهي في الأصل حفرة أو مكان تحت الأرض يُطْمَرُ ــ أي يُخْبَأ ــ فيه طعام أو مال. والمراد هنا ــ والله أعلم ــ السجون مطلقًا ولو كانت فوق الأرض. والفرق بين المحبوسين فيها وبين الأسارى الذين فيهم خلاف: أن هؤلاء الأسارى «قوم ينتشرون إلا أنهم ممنوعون من الخروج من البلدة». انظر: «الروضة» و «الشرح الكبير». (7) انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن (5/ 244) و «بدائع الصنائع» (6/ 198). والمؤلف صادر عن «الاختيار لتعليل المختار» للموصلي (3/ 31).

(2/98)


قالوا: ففي ظاهر الرواية اعتبر المكان دون الواجد، كاللقيط إذا وجده مسلمٌ في دار الحرب. وروى أبو سليمان (1) عن محمد أنه اعتبر الواجد دون المكان، لأنَّ اليد أقوى. وفي رواية اعتبر الإسلامَ نظرًا للصغير (2). فصل فإن قيل: فما تقولون في الذمي يجعل ولدَه الصغير مسلمًا، فهل يحكم بإسلامه بذلك أم لا؟ قيل: قد قال الخلال في «الجامع» (3): بابٌ في الذميِّين يجعلون أولادهم مسلمين. أخبرني عبد الكريم بن الهَيثَم العاقولي قال: سمعت أبا عبد الله يقول في المجوسيين يولد لهما ولدٌ فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين، ثم يُتوفَّى، قال: ذاك يدفنه المسلمون. وقال عبد الكريم بن الهيثم: سألت أبا عبد الله، عن الصبي المجوسي يجعله أبوه وأمه مسلمًا، ثم يموت، أين يُدفَن؟ قال: «يهودانه وينصرانه»، إنَّ معناه أن يُدفَن في مقابر المسلمين. هذا لفظه، والمعنى أنَّه إنَّما حُكِم بكفره لأنَّ الأبوين يهوِّدانه وينصِّرانه، فإذا جعلاه مسلمًا صار مسلمًا. فصل فإن قيل: فما تقولون في المملوك الكافر يكون تحته جاريةٌ كافرةٌ، وهما _________ (1) هو موسى بن سليمان الجوزجاني الفقيه، صاحبُ أبي يوسف ومحمد. (2) انظر: «الأصل» (8/ 75). (3) (1/ 90).

(2/99)


ملك مسلمٍ، إذا ولد بينهما ولدٌ هل يكون تبعًا لأبويه، أو لسيد الأبوين؟ قيل: سئل أحمد عن هذه المسألة، وترجم عليها الخلال فقال في «الجامع» (1): باب الرجل والمرأة يُسبَون فيكونوا (2) عند المسلم فيولد لهما، أو يزوِّجهما المسلم، فيولد لهما في ملك سيدهما أولادٌ، ما الحكم فيه؟ أخبرنا أبو بكر المرُّوذي أنَّ أبا عبد الله قال: إذا وُلد لهما وهما في دار الإسلام في ملك مولاهما، لا أقول في ولدهما شيئًا. قلت: هذه هي المسألة المتقدمة، وهي تَبَعُ الولدِ لمالكه. وقد تقدَّم نصُّ أحمد على أنه يتبع مالكه في الإسلام، وإنَّما توقَّف في هذه المسألة ــ وإن كان مالكه مسلمًا ــ لأنَّ أبوي الطفل معه وهما كافران، لكن لمَّا لم يكن لهما عليه ولايةٌ وكانت الولايةُ لسيده ومالكه تبعه في الإسلام. وهذا أوجَهُ وأَطرَدُ على أصوله. فإن قيل: فهو لو سُبي مع أبويه كان مملوكًا لسابيه، وكان على دينهما، فما الفرق بين المسألتين؟ قيل: قد بيَّنَّا أنَّ الصحيح كونه مسلمًا وإن كان مع أبويه (3). وعلى هذا، فلا فرقَ بينهما. وإن قلنا بالرواية الثانية وأنه يكون على دينهما، فالفرق بينها وبين ما لو وُلد بين مملوكين لمسلمٍ: أنَّه قد ثبت له حكم تبعية الأبوين _________ (1) (1/ 92). (2) في مطبوعة «الجامع»: «فيكونون» وهو الوجه. وغيَّر صبحي الصالح ما في الأصل إلى «يُسبيان فيكونان». (3) انظر ما تقدم (ص 63).

(2/100)


بطريق الأصالة قبل السِّباء، وهنا ثبت (1) له حكمُ تبعية المالك. وقد نَصَّ على أنَّه يكون الولد في هذه الصورة مسلمًا إذا ماتت أُمُّه وكفله المسلمون، فقال أبو الحارث (2): سئل أبو عبد الله عن جاريةٍ نصرانيةٍ لرجل مسلم لها زوجٌ نصراني، فولدت عنده وماتت عند المسلم، وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي؟ فقال: إذا كفله المسلمون فهو مسلم. فهذا يحتمل أن يكون حكم بإسلامه لموت أمِّه، ويحتمل أن يكون حكم بإسلامه لكفالة المسلمين له ولا أثرَ لوجود أمِّه (3). وقد صرَّح بهذا المأخذ، وهو كفالة المسلمين، في رواية يعقوبَ بنِ بختان (4) فإنَّه قال: سئل أبو عبد الله عن جاريةٍ نصرانيةٍ لقومٍ، فولدت عندهم ثم ماتَت ما يكون الولد؟ قال: إذا كفله المسلمون ولم يكن له من يكفله إلا هم، فهو مسلم (5). قيل له: فإن مات بعد الأم بقليل؟ قال: يدفنه المسلمون. وهذا تقييدُ مطلقِ أجوبته في الحكم بإسلامه بمجرد موت الأبوين وإن كفله أهل دينه. وهذا التفصيل هو الصواب في المسألة، وهو الذي نختاره. وهو وسطٌ _________ (1) في هامش الأصل زيادة «لم» قبله بعلامة (خ)، فصار النص في المطبوع: «لم يثبت». وهو خطأ يُذهب المعنى ويُفسد المقصود. (2) كما في «الجامع» (1/ 92). (3) كذا في الأصل، والسياق يقتضي: «لموت أمه». (4) كما في «الجامع» (1/ 93). (5) في الأصل: «فهم مسلمون»، ولعله سبق قلم.

(2/101)


بين القولين المتقابلين، وبه يجتمع (1) شملُ الأدلة من الجانبين. فإنَّ القائلين ببقائه على الكفر قالوا: لا يُعرَف أنَّه عمل في الإسلام بقول من قال: يصير أطفال أهل الذمة مسلمين بموت آبائهم، مع العلم القطعي بأنَّه لم يزل في أهل الذمة الأيتامُ في الأعصار والأمصار من عهد الصحابة إلى وقتنا، وهم يرون أيتام أهل الذمة بين المسلمين ويشاهدونهم عيانًا ويتصدَّقون عليهم، فلو كانوا مسلمين عندهم لَمَا ساغ لهم إقرارهم على الكفر وأن لا يحولوا بينهم وبين الكفار. قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ هذا لو كان حكمَ أولادهم لكان من أهم الأمور، وكان ذكره فيما شرط عليهم آكد وأولى من تغيير لباسهم، وهيئة ركوبهم، وخفض أصواتهم بكنائسهم (2) وبالناقوس، ونحو ذلك من الشروط؛ فأين هذا من بقاء أطفالهم على [دينهم] (3) كفارًا، وقد صاروا مسلمين بمجرَّد موت الآباء؟ قالوا: وهذا يقرب من القطع. والذين حكموا بإسلامهم قالوا: من الممتنع أن يُجعل من فطره الله على الإسلام كافرًا بعد موت أبويه اللذين جعله الله تابعًا لهما شرعًا وقدرًا، فإذا زال الأبوان كان من الممتنع نقل الولد عن حكم الفطرة بلا موجِب، وقد قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} _________ (1) في الأصل: «يجمع»، ولعل المثبت أشبه. (2) في هامش الأصل: «بكتابهم». (3) زيادة لإقامة السياق.

(2/102)


[الروم: 30]، فما الموجب لتبديل الفطرة، وقد زال من كان يبدِّلها ممن هو أولى الناس به وبكفالته وتربيته وحضانته؟ فإذا كفله المسلمون، وقاموا بتربيته وحضانته، ومعه الفطرة الأصلية، والمغيِّر لها قد زال، فكيف نحكم بكفره؟ وهذا أيضًا قريبٌ من القطعي. ونحن نجمع بين الأمرين، ونقول بموجب الدليلين، والله أعلم. فصل فإن قيل: فهذا كله بناءً منكم على أنَّ الفطرة الأولى هي فطرة الإسلام، وأحمد قد نصَّ على أنَّ الفطرة هي ما فُطِر عليه من الشقاوة والسعادة، فقال في رواية الحسن بن ثواب (1): كلُّ مولود من أطفال المشركين على الفطرة؛ يولد على الفطرة التي خلقه الله عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في الكتاب، أرجِع في ذلك إلى الأصل، هذا معناه. وقال في رواية حنبل وأبي الحارث والفضل بن زياد (2): الفطرة التي فطر الله (3) العباد عليها من الشِّقْوة والسعادة. وقال في رواية علي بن سعيد، وقد سأله عن الحديث: «كلُّ مولود يولد على الفطرة» (4)، قال: على السعادة والشقاوة، وإليه (5) يَرجع على ما خُلق. _________ (1) كما في «الجامع» (1/ 76). (2) كما في «الجامع» (1/ 79). وكذا الروايتان الآتيتان. (3) الاسم المعظم سقط من المطبوع. (4) سبق تخريجه. (5) في مطبوعة «الجامع»: «قال»، ولعله تصحيف عمَّا هنا.

(2/103)


وقال محمد بن يحيى الكحال: قلت لأبي عبد الله: «كلُّ مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها: شَقِيٌّ أو سعيد. وإذا كان هذا نصَّه في الفطرة، فكيف يلتئم (1) مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم؟ قيل: هذا موضع قد اضطربت فيه الأقدام، وطال فيه النزاع والخصام، ونحن نذكر فيه بعض ما انتهى إلينا من كلام أئمة الإسلام: قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب «غريب الحديث» (2) الذي هو لِما بعده من كتب الغريب إمامٌ: سألت محمد بن الحسن عن تفسير هذا الحديث، فقال: كان هذا في أوَّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن يُؤمَر المسلمون بالجهاد (3). قال أبو عبيد: فأمَّا عبد الله بن المبارك فإنَّه سُئل عن تأويل هذا الحديث، فقال: تأويله: الحديث (4) الآخر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أطفال _________ (1) في المطبوع: «يكتم»، تحريف. (2) (2/ 265 وما بعده). (3) يقصد محمد بن الحسن بالنسخ: أن مقتضى هذا الحديث أنه لو مات الطفل «قبل أن يهوِّده أبواه أو ينصِّراه= ماورثهما ولا ورثاه، لأنَّه مسلم وهما كافران. وكذلك ما كان يجوز أن يُسبى لأنه مسلم. ثم نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك». انتهى من كلام أبي عُبيد بتصرف واختصار. (4) «فقال: تأويله الحديث» سقط من المطبوع فاختل السياق.

(2/104)


المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (1). قال أبو عبيد: يذهب (2) إلى أنَّهم يُولَدون على ما يصيرون إليه من كفرٍ أو إسلام. قال ابن قتيبة (3): حكى أبو عبيد هذين القولين، ولم يَحكِ عن نفسه (4) في هذا قولًا ولا اختيارًا. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب «الرد على ابن قتيبة» (5): فيقال له: وما على رجلٍ حكى اختلافًا في شيء، ولم يتبيَّن له الصواب، فأَمسَك عن التقدُّم على ما لم يتبيَّن له صوابه= ما على هذا من سبيل، بل هو محمود على التوقُّف عمَّا لم يتبيَّن له [عسى] (6) أن يتبيَّن له، بل المعيب (7) المذموم مَن اجترى على القول فيما لا عِلم له، ففسَّر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرًا خالَف فيه حكم الكتاب، وخرج من قول أهل العلم، وترك القياس والنظر، فقال قولًا _________ (1) أخرجه البخاري (1383، 1384) ومسلم (2660) من حديث ابن عباس. وأخرجه أيضًا البخاري (6598) ومسلم (2659) من حديث أبي هريرة. (2) في المطبوع: «فذهب»، خلاف الأصل. (3) لم أجد قوله هذا في مطبوعة «إصلاح غلط أبي عُبيد» (ص 55 - 59) عند كلامه على هذا الحديث، وفيه: «ولم أر ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله بن مبارك ومحمد بن الحسن مقنعًا لمن أراد أن يعرف معنى الحديث». (4) في المطبوع: «ولم يحِلَّ على نفسه»، تحريف أفسد السياق. (5) هو الردّ على ابن قتيبة في كتابه «إصلاح غلط أبي عبيد» انتصارًا لأبي عبيد، ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (5/ 8)، ووقف عليه في جزء لطيف كما في «المعجم المفهرس» له (ص 164). (6) زيادة قدَّرها صبحي الصالح لإقامة السياق. (7) في الأصل: «العتب»، وفي المطبوع: «العيب»، ولعل المثبت أشبه.

(2/105)


لا يصحُّ (1) في خبر، ولا يقوم على نظر. وهو هذا العائب على أبي عبيد زعم أنَّ الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ كلَّ مولودٍ يولد عليها= هي خلقه في كل مولودٍ معرفةً بربه - زعم - على معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية [الأعراف: 172] (2). قال محمد بن نصر: قال الله تعالى: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فزعم هذا أنَّهم يعرفون أعظم الأشياء، وهو الله تعالى؛ فمَن أعظمُ جرمًا، وأشدُّ مخالفةً للكتاب ممن سمع الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، فزعم أنَّهم يعلمون أعظم الأشياء، وهذا هو المُعانَدة (3) لرب العالمين والجهل بالكتاب. قلت: إن أراد أبو محمد بالمعرفةِ المعرفةَ الثابتةَ (4) بالفعل (5) التي هي _________ (1) في الأصل والمطبوع: «يصلح»، والمثبت مقتضى السياق. (2) انظر: «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 57 - 59)، فالفطرة عند ابن قُتيبة ليست هي الإسلام، بل الإقرار «بأن له صانعًا ومدبِّرًا، ولو سمَّاه بغير اسمه، أو عبد شيئًا دونه ليقرِّبه منه ... ». (3) في الأصل والمطبوع: «المعاند»، وأصلح صبحي الصالح السياق بتغيير: «الجهل» الآتي إلى «الجاهل». والمثبت موافق لما سيأتي قريبًا في تعقيب المؤلف على كلام محمد بن نصر. (4) في المطبوع: «الثانية»، تصحيف. (5) في هامش الأصل: «بالعقل»، خطأ.

(2/106)


للكبار، فإنكارُ أبي عبد الله عليه متوجِّهٌ، وإن أراد أنَّه مُهيَّأٌ للمعرفة، وأنَّ المعرفة فيه بالقوة كما هو مُهيَّأٌ للعقل (1) والنطق لم يلزمه ما ذكره أبو عبد الله، كما إذا قيل: يُولَد ناطقًا عاقلًا، بحيث إذا عَقَل عرف ربَّه بتلك القوة التي أودَعَها اللهُ فيه دون الجمادات، بحيث لو خُلِّي وما فُطِر عليه ولم تُغيَّر فطرتُه لكان عارفًا بربَّه موحِّدًا له محِبًّا له. فإن قيل: أبو عبد الله لم يُنكر هذا، وإنما أنكر أن يكون المراد بالفطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله سبحانه من بني آدم من ظهورهم حين أشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فأقرُّوا بذلك، ولا ريبَ أنَّ هذه المعرفة والإقرار غير حاصلٍ (2) من الطفل، فصحَّ إنكار أبي عبد الله. قيل: ابن قتيبة إنَّما قال: الفطرة هي خلقه في كل مولودٍ معرفةً بربه على معنى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية. وهذا لا يلزم منه أن تكون المعرفة حاصلةً في المولود بالفعل (3)، وتشبيهه (4) الحديثَ بالآية في هذا المعنى لا يدلُّ على أنَّ الميثاق الذي ذُكر في الآية هو المعرفة الفعلية قبل خروجهم إلى الدنيا أحياءً ناطقين، وإن كان هذا قد قاله غير واحدٍ من السلف والخلف، فلا يلزم ابن قتيبة أن يختار هذا القول، بل هذا من حسن فهمه في القرآن والسنة أنْ حمَلَ الحديث على الآية، وفسَّر كلًّا _________ (1) في الأصل والمطبوع: «للفعل»، والمثبت من هامش الأصل هو الصواب، وسيأتي قريبًا: «يولد ناطقًا عاقلًا». (2) كذا في الأصل، وغيَّره صبحي الصالح إلى «غير حاصلَين». (3) في هامش الأصل: «بالعقل»، خطأ. (4) في هامش الأصل: «وتفسيره».

(2/107)


منهما بالآخر. وقد قال هذا غير واحدٍ من أهل العلم قبله وبعده (1). وأحسن ما فسِّرت به الآية قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه»، فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم، والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم، والإقرار الذي أقرُّوا به= هو الفطرة التي فطروا عليها، لأنَّه سبحانه احتجَّ عليهم بذلك، وهو لا يحتجُّ عليهم بما لا يعرفه أحدٌ منهم ولا يذكره، بل بما يشتركون (2) في معرفته والإقرار به. وأيضًا، فإنَّه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} ولم يقل: من آدم. ثم قال: {ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهرهم. ثم قال: {ذُرِّيَّاتِهِمْ} ولم يقل: ذريته. ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وهذا يقتضي إقرارَهم بربوبيته إقرارًا تقوم عليهم به الحجة. وهذا إنَّما هو الإقرار الذي احتجَّ به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى: {قَالَتْ رُسْلُهُمْ أَفِي اِللَّهِ شَكّ} [إبراهيم: 13]، وقولِه (3): {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} [الزخرف: 87]،: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} [لقمان: 24]،: {قُل لِّمَنِ اِلْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 85 - 86]، ونظائرُ ذلك كثيرةٌ؛ يحتج عليهم بما فُطِروا عليه من _________ (1) ممن حمل الحديث على الآية: الحسن البصري كما عند الطبري (10/ 551)، وحماد بن سلمة كما عند أبي داود (4716). (2) رسمه في الأصل: «يشركون»، ولعل المثبت الصواب. (3) في الأصل: «وقولهم»، خطأ.

(2/108)


الإقرار بربهم وفاطرهم، ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده، وأن لا يشركوا به شيئًا. هذه طريقة القرآن. ومن ذلك هذه الآية التي في الأعراف وهي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، ولهذا قال في آخرها: {أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]. فاحتج عليهم بما أقرُّوا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره، وأن لا يعتذروا، إمَّا بالغفلة عن الحق، وإمَّا بالتقليد في الباطل، فإنَّ الضلال له سببان: إمَّا غفلةٌ عن الحق، وإمَّا تقليد أهل الضلال. فتطابق الحديثُ مع الآية وتبيَّن معنى كلٍّ منهما بالآخر. فلم يقع ابن قتيبة في مُعانَدة ربِّ العالمين ولا جهل الكتاب، ولا خرج عن المعقول. ولكن لمَّا ظنَّ أبو عبد الله أنَّ معنى الآية أنَّ الله سبحانه أخرجهم أحياءً ناطقين من صلب آدم في آنٍ واحدٍ، ثم خاطبهم وكلَّمهم وأخَذَ عليهم الميثاقَ وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته، ثم ردَّهم في ظهره، وأنَّ أبا محمد فسَّر الفطرة بهذا المعنى بعينه ألزمه ما ألزمه. ثم قال أبو عبد الله (1): واحتج ــ يعني ابن قتيبة ــ بقوله تعالى: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1] يعني: خالقها، وبقوله تعالى عن مؤمن آل _________ (1) في الأصل: «أبو محمد»، سبق قلم، فإن الكلام لأبي عبد الله محمد بن نصر في الرد على أبي محمد ابن قتيبة.

(2/109)


ياسين (1): {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 21] أي: خلقني، وبقوله: {رَبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ اِلَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] يعني: خلقهن (2)، وبقوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 30] (3). قال: وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - ينزع (4) بهذه الآية عند روايته لهذا الحديث (5) ليدل على أن الفطرة خِلْقة. قال محمد بن نصر: فيقال له: لسنا نخالفك في أنَّ الفطرة خِلقةٌ في اللغة وأنَّ فاطر السماوات والأرض: خالقهما، ولكن ما الدليل على أنَّ هذه الخلقة هي معرفة؟ هل عندك من دليل من كتاب الله أو سنةٍ أنَّ الخلقة هي المعرفة؟ فإن أتيت بحجة من كتاب الله أو سنةٍ أنَّ الخلقة هي المعرفة، وإلا فأنت مُبطِلٌ في دعواك، وقائلٌ ما لا عِلمَ لك به. قلت: لم يُرِد ابن قتيبة ولا مَن قال بقوله: إنَّ الفطرة خلقة= أنَّها معرفة حاصلةٌ بالفعل مع المولود حين يُولَد، فهذا لم يقله أحدٌ. وقد قال أحمد في رواية الميموني (6): الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، فقال له الميموني: _________ (1) في المطبوع: «مؤمن آل [فرعون في سورة] يس»، ما بين الحاصرتين وهم من المحقق. (2) سقطت هذه الآية ومعناها من المطبوع. (3) انظر: «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 58) وفيه آية فاطر فقط. وفي «غريب الحديث» (1/ 350) و «تأويل مختلف الحديث» (ص 200) آيتا فاطر والروم. (4) في المطبوع: «يُسرع»! (5) كما في البخاري (1358) ومسلم (2658/ 22). (6) أسندها الخلال في «الجامع» (1/ 77).

(2/110)


الفطرة الدين؟ قال: نعم. وقد نصَّ في غير موضع (1) أنَّ الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه، واستدل بالحديث: «كلُّ مولود يولد على الفطرة»، ففسَّر الحديث بأنَّه يُولَد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في الحديث. ولو لم يكن ذلك معناه عنده لَمَا صحَّ استدلاله به. وفي بعض ألفاظه: «ما من مولود إلا يولد على هذه الملة» (2). وأمَّا قول أحمد في مواضع أُخَر: يولد على ما فُطر عليه من شقاوة أو سعادة، فلا تنافي بينه وبين قوله: إنَّها الدين، فإنَّ الله سبحانه قدَّر الشقاوة والسعادة وكتبهما، وإنها تكون بالأسباب التي تحصُل بها كفعل الأبوين، فتهويدهما وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما (3) قدَّره الله تعالى. والمولود يولد على الفطرة مسلمًا، ووُلِد (4) على أنَّ هذه الفطرة السليمة قد يغيِّرها الأبوان كما قدَّر الله ذلك وكَتَبه، كما مثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: «كما تُنتَج البهيمةُ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء؟» (5). فبيَّن أنَّ البهيمة تولد _________ (1) وقد سبق (ص 93) بعض الروايات عنه في ذلك. والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 361 وما بعدها) إلى آخر هذا الفصل وما بعده من الفصول، وسيصرّح بذكر شيخ الإسلام في مواضع. وقد أورد المؤلف هذا البحث في كتابه «شفاء العليل» (2/ 390 وما بعدها) بنحوٍ مما هنا. (2) أخرجه مسلم عقب (2658/ 23)، وقد تقدم. (3) في الأصل: «بما»، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل». (4) كذا في الأصل، وكأن «ووُلِد» زائد، فالكلام مستقيم بدونه. (5) هو جزء من حديث أبي هريرة المتقدم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة».

(2/111)


سليمةً، ثم يَجْدَعها الناس، وذلك أيضًا بقضاء الله وقَدَره. فكذلك المولود يُولَد على الفطرة مسلمًا، ثم يُفسِده أبواه. وإنَّما قال أحمد وغيره: وُلِد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة؛ لأنَّ القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أنَّ الكفر والمعاصي ليس (1) بقدر الله، بل بما فعله الناس، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، وكُفْره بعد ذلك من الناس. ولهذا لما قيل لمالك: إنَّ القدرية يحتجُّون علينا بأول الحديث، قال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (2). فبيَّن الأئمة أنَّه لا حُجَّةَ فيه للقدرية، فإنَّه لم يقل: إنَّ الأبوين خلَقَا تهويدَه وتنصيرَه، والقدرية لا تقول ذلك بل عندهم أنَّه تهوَّد وتنصَّر باختياره، ولكن كان الأبوان سببًا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين. وهذا حقٌّ لا يقتضي نفي القدَر السابق من العلم والكتاب والمشيئة، بل ذلك مضافٌ إلى الله تعالى علمًا وكتابةً ومشيئةً، وإلى الأبوين تسبُّبًا وتعليمًا وتلقينًا، وإلى الشيطان تزيينًا ووسوسةً، وإلى العبد رِضًا واختيارًا ومحبةً. ولا ينافي هذا قوله في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «إنَّ الغلام الذي قتَلَه الخضر طُبِع يومَ طبع كافرًا، ولو عاش لأَرهَق أبويه طغيانًا وكفرًا» (3)، فإنَّ معناه أنَّه قضي عليه وقدِّر في أمِّ الكتاب أنَّه يكون كافرًا، فهي حالٌ مقدرةٌ _________ (1) وفي المطبوع: «ليست». والمثبت من الأصل موافق لـ «درء التعارض» و «شفاء العليل». (2) أسنده أبو داود في «السنن» (4715) ــ ومن طريقه البيهقي في «القضاء والقدر» (605) ــ وهبة الله الطبري في «شرح السنة» (1000) من رواية ابن وهب عن مالك. (3) أخرجه مسلم (2661) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي بن كعب - رضي الله عنهم -.

(2/112)


كقوله: {اَدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الزمر: 69]، وقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112]، ونظائر ذلك. وليس المراد: أنَّ كفره كان موجودًا بالفعل معه حين (1) طبع، كما يقال: وُلِد مَلِكًا، ووُلِد عالمًا، ووُلِد جبَّارًا. ومَن ظنَّ أنَّ الطبع المذكور في الحديث هو الطبع في قوله: {طَبَعَ اَللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108]، فقد غَلِط غلَطًا ظاهرًا، فإنَّ ذلك لا يقال فيه: «طُبِع يومَ طُبِع» فإنَّ الطبع على القلب إنَّما يُوجَد بعدَ كفره. فصل ويدلُّ على صحة ما فسَّر به الأئمةُ الفطرةَ أنَّها الدين ما رواه مسلم في «صحيحه» (2) من حديث عِيَاض بن حِمَار المُجاشِعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم عن دينهم وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا». وهذا صريحٌ في أنَّهم خُلِقوا على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اقتطعتهم بعد ذلك عنها، وأخرجوهم منها. قال تعالى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ} [البقرة:256]. وهذا يتناول إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «حتى»، ولعل المثبت أشبه. (2) برقم (2865).

(2/113)


وفي «المسند» (1) وغيره من حديث الأسود بن سريع قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريَّةً فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما حملكم على قتل الذرية؟»، قالوا: يا رسول الله، [أَ] ليسوا (2) أولاد المشركين؟ قال: «أَوَليس خياركم أولاد المشركين؟»، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا، فقال: «ألا إنَّ كلَّ مولود يُولَد على الفطرة حتى يُعرِب عنه لسانه». فخُطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟» نصٌّ أنَّه أراد أنهم وُلدوا غيرَ كفارٍ، ثمَّ الكفر طرأ بعد ذلك، ولو أراد أنَّ المولود حين يُولَد يكون إمَّا كافرًا وإمَّا مسلمًا على ما سبق به القدر، لم يكن فيما ذكره حجةٌ على ما قصده من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين. وقد ظنَّ بعضهم أنَّ معنى قوله: «أو ليس خياركم أولاد المشركين» معناه: لعلَّه أن يكون قد سبق في علم الله أنَّهم لو بقُوا لآمنوا، فيكون النهي _________ (1) برقم (15588، 15589)، وأخرجه أيضًا معمر في «الجامع» (20090) ــ واللفظ له إلا أن في مطبوعته سقطًا يستدرك من رواية ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1595) من طريقه ــ والنسائي في «الكبرى» (8562) وابن حبان (132) والحاكم (2/ 123) وغيرهم، من طرق عن الحسن عن الأسود بن سريع. رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، فإن الحسن لم يسمع من الأسود على ما ذكره ابن المديني في «العلل» (ص 55) فقد سئل عن هذا الحديث فقال: إسناده منقطع، والحسن عندنا لم يسمع من الأسود، لأن الأسود خرج من البصرة أيام علي، وكان الحسن بالمدينة. (2) همزة الاستفهام مستدركة من «جامع معمر» و «الإبانة الكبرى». ولفظ أحمد: إنما هم ــ وفي رواية: إنما كانوا ــ أولاد المشركين.

(2/114)


راجعًا إلى هذا المعنى من التجويز. وليس هذا معنى الحديث، ولكن معناه: أنَّ خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهؤلاء من أولاد المشركين، فإنَّ آباءهم كانوا كفارًا، ثم إنَّ البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنًا، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وهذا الحديث ــ وهو حديث الفطرة ــ ألفاظه يفسِّر بعضُها بعضًا، ففي «الصحيحين» (1) ــ واللفظ للبخاري ــ عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يُولَد إلا على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ} [الروم: 29] (2)، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (3). _________ (1) سبق تخريجه. واللفظ المذكور مجموع من روايتين كما يأتي بيانه في التعليقين الآتيين. والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 365). (2) إلى هنا لفظ الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، البخاري (1359، 1385، 4775) ومسلم عقب (2658/ 22). وكذلك أخرجه مسلم (2658/ 22) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. (3) الحديث مع هذه الزيادة عند البخاري (6599) من طريق همام، وعند مسلم (2658/ 23) من طريق أبي صالح، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولكن ليس فيه قوله: «اقرؤوا ... ».

(2/115)


وفي «الصحيح» (1) قال الزهري: يُصلَّى على كلِّ مولود يُتَوفَّى، وإن كان لِغيَّةٍ، من أجل أنَّه وُلِد على فطرة الإسلام إذا استهلَّ خارجًا، ولا يُصلَّى على مَن لم يستهِلَّ من أجل أنَّه سقط، وأنَّ أبا هريرة كان يحدِّث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنتَج البهيمة بهيمةً جمعاءَ، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]. وفي «الصحيح» (2) من رواية الأعمش: «ما من مولود إلا وهو على الملة». وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يُبِين عنه لسانه» (3). فهذا صريحٌ في أنَّه يُولَد على ملة الإسلام كما فسَّره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدلُّ على ذلك. قال ابن عبد البر (4): وسئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبةٌ مؤمنةٌ: أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه، وهو رضيعٌ؟ قال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة. قال ابن عبد البر ــ وقد ذكر أقوال الناس في هذا الحديث ــ (5): وقال _________ (1) أخرجه البخاري (1358)، نقله المؤلف باختصار وتصرف. (2) «صحيح مسلم» عقب (2658/ 23) من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. (3) «صحيح مسلم» عقب (2658/ 23). (4) في «التمهيد» (18/ 76)، والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 367) في نقل كلام ابن عبد البر كلِّه. (5) «التمهيد» (18/ 72).

(2/116)


آخرون: الفطرة هاهنا هي الإسلام. قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف، وأهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]، على أن قالوا: فطرة الله دين الإسلام. واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} (1). قال: وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، قالوا: فطرة الله: دين الله (2) الإسلام. {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، قالوا: لدين الله (3). واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثَور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأَزْدي، عن عِياض بن حِمار المُجاشِعي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس يومًا: «ألا أُحدِّثكم بما حدَّثني الله في الكتاب؟ إنَّ الله خلق آدم وبَنِيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامَ فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حرامًا وحلالًا» الحديث (4). _________ (1) تقدَّم قريبًا. (2) الاسم المعظم سقط من المطبوع. (3) انظر: «تفسير الطبري» (18/ 494) و «الدر المنثور» (11/ 598). (4) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 73)، وأخرجه أيضًا ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 404 - السفر الثاني) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (3878) والطبراني في «الكبير» (17/ 363). وإسناده جيِّد، ومَن فوق ابن إسحاق كلُّهم ثقات، وابن إسحاق توبع فيه كما سيأتي.

(2/117)


قال (1): وكذلك روى بكر بن مهاجرٍ عن ثور بن يزيد بإسناده مثلَه في هذا الحديث: «حنفاء مسلمين». قال أبو عمر: روي هذا الحديث عن قتادة، عن مُطرِّف بن عبد الله، عن عِياض بن حمار (2). ولم يسمعه قتادة من مُطرِّف (3)، ولكن قال: حدَّثني ثلاثةٌ: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، والعَلاء بن زِيادٍ، كلُّهم يقول: حدَّثني مُطرِّف عن عِياض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4)، فقال فيه: «وإنِّي خلقت عبادي حنفاء كلَّهم» لم يقل: «مسلمين». وكذلك رواه الحسن، عن مطرفٍ، عن عياض (5). ورواه ابن إسحاق عمَّن لا يتَّهم، عن قتادة بإسناده قال فيه: «وإنِّي خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم» (6)، ولم يقل: «مسلمين». _________ (1) ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 73).ولم نقف على رواية بكر بن مهاجر مسندةً. (2) أخرجه مسلم (2865) وغيره من طرقٍ عن قتادة به، ولفظه: «حنفاء كلَّهم». (3) ولكن جاء في إحدى المتابعات عند مسلم: «قال يحيى: قال شعبة: عن قتادة قال: (سمعت مطرِّفًا) في هذا الحديث». (4) أخرجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 403 - السفر الثاني) عن عفان بن مسلم، عن همَّام، عن قتادة عن ثلاثتهم به. وأخرج البزار (3490) من طريقين آخرين عن همَّام عن قتادة قال: حدثني أربعةٌ عن مطرف بن عبد الله، منهم يزيد بن عبد الله والعلاء بن زياد، ورجلان نسيهما همام. (5) أخرجه أحمد (18339) والنسائي في «الكبرى» (8017) وابن حبان (654) من طرق عن عوف عن حكيم الأثرم عن الحسن به. (6) أخرجه ابن أبي خيثمة (1/ 402 - السفر الثاني).

(2/118)


قال: فدلَّ هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه، لأنَّه ذكر «مسلمين» في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله «مسلمين»، وزاده ثورٌ بإسناده، فالله أعلم. قال أبو عمر (1): والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة أكبر من الإسلام. قال (2): وقد روي عن الحسن قال: الحنيفية حج البيت، وهذا يدل أنه أراد الإسلام، وكذلك روي عن الضحاك والسُّدِّي: حنفاء: حجاجًا، وعن مجاهدٍ: حنفاء: متبعين (3)، قال: وهذا كله يدل على أن الحنيفية: الإسلام. قال (4): وقال أكثر العلماء: الحنيف المخلص، وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} [آل عمران: 66]، وقال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اُلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 76]، قال الراعي (5): _________ (1) في «التمهيد» (18/ 71) ولفظه: «المستقيم السالم»، وكذا في «الاستذكار» (8/ 379). وليس فيهما قوله: «ولا استقامة أكبر من الإسلام»، وهو مدرج من كلام شيخ الإسلام في «درء التعارض» (8/ 369). (2) «التمهيد» (18/ 75). (3) أخرج الآثار الثلاثة ابن المنذر في «تفسيره» (1/ 246). وانظر: «تفسير الطبري» (2/ 592 - 593). (4) «التمهيد» (18/ 75). وليس فيه: «وقال أكثر العلماء: الحنيف المخلص». (5) «ديوانه» جمع راينهرت فايبرت (ص 229).

(2/119)


أخليفةَ الرحمن إنَّا معشرٌ ... حنفاءُ نسجد بكرةً وأصيلا عرب نرى للهِ في أموالنا ... حقَّ الزكاة منزَّلًا تنزيلا قال: فوصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمرٌ واضحٌ لا خفاء به. قال (1): ومما احتج به مَن ذهب إلى أنَّ الفطرة في هذا الحديث: الإسلام قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خمسٌ من الفطرة» (2) ــ ويُروى: «عشرٌ من الفطرة» (3) ــ يعني: فطرة الإسلام. انتهى. قال شيخنا (4): فالأدلة الدالة على أنَّه أراد فطرة الإسلام كثيرةٌ، كألفاظ الحديث الصحيح المتقدمة، كقوله: «على الملة»، و «على هذه الملة»، وقوله: «خلقت عبادي حنفاء»، وفي الرواية الأخرى: «حنفاء مسلمين» (5)، ومثل تفسير أبي هريرة وهو أعلم بما سمع. ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك: «أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغيرٌ؟» (6)، لأنَّه لو لم يكن هناك ما يغيِّر _________ (1) «التمهيد» (18/ 76). (2) أخرجه البخاري (5889) ومسلم (257) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه مسلم (261) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وقد أنكره أحمد، أعلَّه والنسائي والدارقطني بالإرسال. انظر: «الضعفاء» للعقيلي (6/ 27)، و «الكبري» للنسائي (9241 - 9243) و «العلل» للدارقطني (3443) و «البدر المنير» (2/ 98). (4) في «درء التعارض» (8/ 371). (5) سبق تخريج هذه الروايات. (6) سبق تخريجه.

(2/120)


تلك الفطرة لمَا سألوه، والعلم القديم والكتاب السابق لا يتغيَّر. وقوله: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه» (1) بيَّن فيه أنَّهم يغيِّرون الفطرة المخلوق عليها بذلك. وأيضًا: فإنَّه شبَّه ذلك بالبهيمة التي تُولَد مجتمعةَ الخلق لا نقصَ فيه (2)، ثم تُجدَع بعد ذلك، فعُلِم أنَّ التغيُّر واردٌ على الفطرة السليمة التي وُلِد العبد عليها. وأيضًا: فالحديث مطابقٌ لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]. وهذا يعُمُّ جميعَ الناس، فعُلِم أنَّ الله فطَرَ الناس كلَّهم على فطرته المذكورة، و {فِطْرَتَ اَللَّهِ} أضافها إليه إضافة مدحٍ لا إضافة ذمٍّ، فعُلِم أنَّها فطرةٌ محمودةٌ لا مذمومةٌ. يبيِّن ذلك: أنَّه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، وهذا نَصْبٌ على المصدر الذي دلَّ عليه الفعل الأوَّل عند سيبويه وأصحابه، فدلَّ على أنَّ إقامة الوجه للدِّين حنيفًا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في نظائره مثل قوله: {كِتَابَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقوله: {سُنَّةَ اَللَّهِ [اِلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ] وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اِللَّهِ تَبْدِيلًا} (3) [الفتح: 23]. فهذا عندهم مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ لازمٍ إضمارُه، دلَّ عليه الفعل المتقدم، كأنَّه قال: كتبَ الله ذلك عليكم، وكذلك _________ (1) سبق تخريجه. (2) أي: في الخلق. في المطبوع: «فيها»، خلاف الأصل. (3) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل.

(2/121)


هنا: فطر الله الناس على ذلك= على إقامة الدين حنيفًا. وكذلك فسَّره السلف، قال ابن جرير (1) في هذه الآية: يقول: فسدِّد وجهَك نحوَ الوجه الذي وجَّهك الله يا محمد لطاعته وهو الدين حنيفًا، يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها. ونصب {فِطْرَتَ} على المصدر من معنى قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، وذلك أنَّ معنى [ذلك] (2): فَطَر اللهُ الناس على ذلك فطرةً. قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم روى عن ابن زيدٍ قال: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، قال: هي الإسلام، منذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرون بذلك، وقرأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فهذا قول الله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 211]. ثم ذكر بإسناد صحيح عن مجاهد قال: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]، قال: الدين الإسلام. [وقال:] حدثنا ابن حميدٍ، حدثنا يحيى بن واضحٍ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم قال: مرَّ عمر بمعاذ بن جبل، فقال: ما قِوام _________ (1) في «تفسيره» (18/ 493 وما بعدها)، وما زال النقل عن «درء التعارض» (8/ 373). (2) ما بين الحاصرتين من الطبري و «الدرء».

(2/122)


هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاثٌ وهُنَّ المُنجِيات: الإخلاص وهو الفطرة {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة. فقال عمر: صدقت (1). ثم قال: حدثني يعقوب الدورقي، حدثنا ابن عُليَّة، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة أنَّ عمر قال لمعاذ: ما قِوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه. قال: وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}، يقول: لا تغيير لدين الله، أي: لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يفعل. وروى [عن] (2) عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلًا يقال له: قاسم إلى عكرمة يسأله عن قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}، فقال: [هو الخصاء، فقال مجاهد: أخطأ، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} (3) إنما هو الدين، ثم قرأ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ}. _________ (1) وأخرجه أيضًا معمر في «الجامع» (20689) ــ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (6450) ــ ومسدد في «مسنده» (209 - المطالب العالية) وابن زنجويه في «الأموال» (29) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1343) وهبة الله الطبري في «السنة» (1530) من طرق بنحوه. (2) زيادة من مصدر المؤلف. (3) «فقال: هو الخصاء .... » إلى هنا سقط من مطبوعة «تفسير الطبري»، والظاهر أنه لانتقال النظر في نسخه الخطية المعتمدة في النشر، ويستدرك لفظه من «درء التعارض» (8/ 375)، واللفظ المثبت من «شفاء العليل»، وفيه تصرُّف يسير من المؤلف. وانظر الأثر من رواية القاسم بن أبي بزَّة في «تفسير عبد الرزاق» (1/ 173) والطبري (7/ 495).

(2/123)


وروى عن عكرمة {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} قال:] (1) لدين الله. ثم ذكر عن عكرمة: {فِطْرَتَ اَللَّهِ} قال: الإسلام (2). وكذلك روى عن قتادة، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهد، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وروى عن ابن عباس أنَّه سُئِل عن خِصاء البهائم، فكَرِهه وقال: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} (3). وكذلك قال عكرمة، ومجاهد في رواية ليث عنه (4). قال شيخنا (5): ولا منافاة بين القولين عنهما، كما قال تعالى عن الشيطان: {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ اَلْأَنْعَامِ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} [النساء: 119]، فتغيير ما خلقَ اللهُ عبادَه عليه من الدين تغييرٌ لدينه، والخصاء وقطع الأذن تغييرٌ لخلقه (6). ولهذا شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالآخر في قوله: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمة جمعاءَ، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟» (7)، فأولئك يغيِّرون _________ (1) ما بين الحاصرتين مستدرك من «درء التعارض» (8/ 385) و «شفاء العليل» (2/ 401) واللفظ له. (2) وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (11/ 598). (3) وأخرجه آدم بن أبي إياس في «تفسير مجاهد» (2/ 500) عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. (4) «تفسير الطبري» (18/ 496). (5) «درء التعارض» (8/ 377). (6) في الأصل: «لخلق»، والمثبت من مصدر المؤلف. (7) سبق تخريجه.

(2/124)


الدين، وهؤلاء يغيِّرون الصورة بالجدع والخصاء؛ هذا يغيِّر ما خُلِق عليه قلبُه، وهذا يغيِّر ما خُلق عليه بدنُه. فصل قال شيخنا (1): واعلم أنَّ هذا الحديث لمَّا صارت القدرية يحتجُّون به على قولهم الفاسد، صار الناس يتأوَّلونه تأويلاتٍ يُخرِجونه بها عن مقتضاه، فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام، والله لا يُضِلُّ أحدًا، ولكن أبواه يُضِلَّانه. والحديث حجةٌ عليهم من وجهين: أحدهما: أنَّه عند المعتزلة وغيرهم من المتكلمين لم يُولَد أحدٌ منهم على الإسلام أصلًا، ولا جعل الله أحدًا مسلمًا ولا كافرًا، ولكن هذا أَحدَث لنفسه الكفرَ، وهذا أَحدَث لنفسه الإسلامَ، والله لم يفعل واحدًا منهما عندهم بلا نزاع عند القدرية، ولكن هو دعاهما إلى الإسلام، وأزاح عللهما، وأعطاهما قدرةً متماثلةً (2) فيهما تَصلُح للإيمان والكفر، ولم يختصَّ المؤمنَ بسبب يقتضي حُصول الإيمان، فإنَّ ذلك عندهم غير مقدورٍ، ولو كان مقدورًا لكان ظلمًا. وهذا قول عامَّة المعتزلة، وإن كان بعض متأخِّريهم كأبي الحُسَين يقول: إنَّه خصَّ المؤمن بداعي الإيمان، ويقول: عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان، فهذا في الحقيقة موافقٌ لأهل السنة. فهذا أحد الوجهين. _________ (1) «درء التعارض» (8/ 377 - 379). (2) في المطبوع: «مماثلة»، خلاف الأصل.

(2/125)


الثاني: أنَّهم يقولون: إنَّ معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية، أو تكون من فعل الله تعالى. وإن احتجت القدرية بقوله: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه» من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين، فيقال لهم: أنتم تقولون إنَّه لا يَقدِر اللهُ ولا أحدٌ من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين ولا نصرانيين ولا مجوسيين، بل هما فعَلَا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما، ولا فعلٍ من غيرهما، فحينئذ لا حجةَ لكم (1) في قوله: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه». وأهل السنة متفقون على أنَّ غير الله لا يقدر على جعل الهدى والضلال في قلب أحد، فقد اتفقت الأمة على أنَّ المراد بذلك دعوة الأبوين إلى ذلك، وترغيبهما فيه، وتربية الولد عليه، كما يفعل المعلِّم بالصبي. وذِكْرُ الأبوين بناءً على الغالب المعتاد، وإلَّا فقد يقع ذلك من أحدهما ومن غيرهما حقيقةً وحكمًا (2). قال محمد بن نصر (3): واحتج ابن قتيبة بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فأجابوا بكلامٍ شاهدِين مُقرِّين على أنفسهم بأن الله ربهم، ثم وُلِدوا على ذلك (4). _________ (1) في الأصل: «لها»، والمثبت من هامشه موافق لمصدر المؤلف. (2) هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام. (3) في كتاب «الرد على ابن قتيبة»، وهو في عداد المفقود كما سبق. (4) لفظ ابن قتيبة في «إصلاح غلط أبي عُبيد» (ص 58): «إن كل مولود في العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الإقرار الأول». ونحوه في «تأويل مختلف الحديث» (ص 200).

(2/126)


قال محمد بن نصر: فقوله: «ثم ولدوا على ذلك» زيادةٌ منه ليست في الكتاب، ولا جاء في شيء من الأخبار. وسنذكر الأخبار المروية في تأويل هذه الآية لنبيِّن للناظر فيها أنَّه لا حجةَ له فيها، وأنَّه لا دليلَ في شيء منها أنَّ الأطفال يُولَدون وهم عارفون بالله من وقت سُقُوطهم من بطون أمهاتهم. قلت: قوله: «ثم ولدوا على ذلك» إن أراد به أنَّهم وُلِدوا حال سقوطهم وخروجهم مِن بطون أمهاتهم عالِمين بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، فقد أصاب في الرد عليه. وإن أراد أنَّهم وُلِدوا على حكم ذلك الأخذ، وأنَّهم لو تركوا لَما عدلوا عنه إذا عقلوا، فهو الصواب الذي لا يُرَدُّ. قال محمد: فمِن أجلِّ ما روي في تأويل هذه الآية حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حدثنا يحيى قال: قرأت على مالك (1)، عن زيد بن أبي أُنَيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد (2) بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجُهَني أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ}، فقال: سمعتُ رسول الله _________ (1) وهو في «الموطأ» (2617). وأخرجه أحمد (311) وأبو داود (4703) والترمذي (3075) والنسائي في «الكبرى» (11126) وغيرهم. قال الترمذي: «هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا»، وسيأتي في الرواية الآتية. (2) في الأصل: «يزيد»، تصحيف.

(2/127)


- صلى الله عليه وسلم - سئل عنها؟ فقال: «إنَّ الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريةً، فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقتُ هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، ففيمَ العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله إذا خلَقَ العبدَ للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من عملِ أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلَقَ العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عملٍ من أعمالِ أهل النار فيدخل به النار». حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرُّهاوي، عن أبيه، أخبرنا زيد بن أبي أُنَيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نُعَيم بن رَبيعة (1) الأَزْدي، قال مسلم: وسألت نعيمًا عن هذه الآية، فقال نعيمٌ: كنتُ عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاء رجل فسأله عنها؟ فقال ــ الحديث (2). وهذا يبيِّن عِلَّة الحديث الأول، وأنَّ مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر. _________ (1) في الأصل: «أبي ربيعة»، خطأ. وسيأتي على الصواب قريبًا. (2) علَّقه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 97) عن محمد بن يحيى به. وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (207) عن محمد بن مسلم بن وارة، عن محمد بن يزيد بن سنان به. وأخرجه أبو داود (4704) والجوهري في «مسند الموطأ» (ص 334) من طريقين آخرين عن زيد بن أبي أنيسة به متصلًا. وقد صوَّب الدارقطني في «العلل» (235) الرواية المتصلة. ولكنها ضعيفةٌ لجهالة نعيم بن ربيعة الأزدي، ولذلك ــ والله أعلم ــ أسقط مالك ذِكرَه لمَّا جهل حاله ولم يعرفه. انظر: «تفسير ابن كثير» (الأعراف: 172).

(2/128)


قال: وحدثنا إسحاق، أخبرنا حكام بن سلمٍ (1)، عن عنبسة، عن عمارة (2) بن عميرٍ، عن أبي محمد رجلٍ من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ}، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها كما سألتني، فقال: «خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من رُوحه، ثم أجلسه فمسح ظهرَه، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للجنة، يعملون بما شئتُ من عملٍ، ثم أَختِم لهم بأحسن أعمالهم فأُدخِلهم الجنة. ثم مسح ظهرَه فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للنار، يعملون بما شئتُ من عملٍ، ثم أَختِم لهم بأسوأ أعمالهم فأُدخِلهم النار» (3). قلت: هذا الحديث أدخله مالك في «موطئه» (4) على ما فيه من العلة، ونحن نذكر عِلَّته. قال الترمذي (5): هذا حديث حسن، مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا. وقال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني (6): لم يسمع مسلم بن يسار _________ (1) في الأصل: «مسلم»، تصحيف. (2) في الأصل: «عباد»، تصحيف. (3) ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 81 - 82) من كتاب محمد بن نصر. وأخرجه أيضًا الطبري (10/ 554) ــ ومن طريقه ابنُ منده في «الرد على الجهمية» (25) ــ عن محمد بن حميد عن حكَّام بن سلمٍ به. (4) برقم (2617). (5) في «جامعه» عقب (3075). (6) كما نقله عنه الجوهري في «مسند الموطأ» (ص 333).

(2/129)


هذا من عمر؛ رواه عن نعيم عن عمر. وقال ابن أبي خيثمة (1): قرأتُ على يحيى بن معين حديث مالك هذا (2) عن زيد بن أبي أُنَيسة، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرَف. وقال أبو عمر (3): هذا حديث منقطعٌ بهذا الإسناد؛ لأنَّ مسلم بن يسار هذا لم يلقَ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، وبينهما في هذا الحديث نُعَيم بن ربيعة، وهذا أيضًا ــ مع هذا الإسناد ــ لا تقوم به حجةٌ، ومسلم بن يسار هذا مجهولٌ، قيل: إنه مدني، وليس بمسلم بن يسار البصري. قال (4): وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسارٍ ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم. ولكن معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ ثابتةٍ كثيرةٍ يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره. انتهى. ونحن نذكر بعض تلك الأحاديث: قال إسحاق بن راهويه (5): أخبرنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزُّبَيدي _________ (1) في «التاريخ الكبير» (3/ 227 - السفر الثالث)، وهو في «التمهيد» (6/ 4) و «الاستذكار» (26/ 90) بإسناده عنه، وانظر أيضًا: «التاريخ الكبير» لابن أبي خيثمة (2/ 239، 347). (2) «هذا» سقط من المطبوع. (3) في «التمهيد» (6/ 3). (4) في «التمهيد» (6/ 6). (5) في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (2962)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (711). وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في «السنة» (174) والفريابي في «القدر» (22) والطبري في «التفسير» (10/ 562، 563) والطبراني في «الكبير» (22/ 169) وغيرهم من طرق عن بقية به، إلا أنه في أكثر الطرق: «عبد الرحمن بن قتادة النصري»، وأيضًا فقد سقط «عن أبيه» عند ابن أبي عاصم والفريابي وهو ثابت في أكثر الطرق. وقد خالف الزُّبيديَّ معاويةُ بن صالح ــ وهو صدوق له أوهام ــ في بعض الطرق عنه، فرواه عن راشد بن سعدٍ عن عبد الرحمن بن قتادة السُّلَمي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد (17660) وابن حبان (338) والحاكم (1/ 31) وغيرهم. قال البخاري في «التاريخ»: «هو خطأ». فرواية الزُّبيدي هي المحفوظة، فإنه ثقة ثبت، وبقيَّة قد صرَّح بالتحديث وتابعه عبد الله بن سالم الأشعري ــ كما عند البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 341) وابن أبي عاصم (175) والطبري (10/ 563) ــ عن الزُّبيدي به. وعليه فالحديث ضعيف، فإن «عبد الرحمن بن قتادة ــ أو بن أبي قتادة ــ النصري» مجهول، وكذا أبوه.

(2/130)


محمد بن الوليد، عن راشد بن سعدٍ، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة النصري (1)، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حِزام: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أتُبتَدَأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال: «إن الله لمَّا أخرج ذريةَ آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كَفَّيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار؛ فأهل الجنة مُيسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيسَّرون لعمل أهل النار». أخبرنا (2) عبد الصمد، حدثنا حمادٌ، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نَضْرة أنَّ _________ (1) في الأصل: «البصري»، والتصحيح من مصادر التخريج. (2) الظاهر أن القائل هو إسحاق بن راهويه المذكور في مطلع الحديث السابق، وعبد الصمد بن عبد الوارث من شيوخه، إلا أني لم أجد الحديث في «مسنده» ولا من عزاه إليه. والظاهر أن المؤلف صادر عن كتاب محمد بن نصر المروزي، فيكون هو الذي أسند هذه الأحاديث عن إسحاق بن راهويه عن شيوخه.

(2/131)


رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابُه يعودونه وهو يبكي، فقالوا (1) له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله قبَض قبضةً بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، فقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أُبالي». فلا أدري في أيِّ القبضتَين أنا (2). أخبرنا عمرو بن محمد، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن المَقبُري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حَمَأً مسنونًا، ثم خلقه وصوَّره، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخَّار كان إبليس يمُرُّ به فيقول: خُلِقتَ لأمرٍ عظيمٍ، ثم نفخ الله فيه من رُوحه، قال: يا رب ما ذُرِّيتي؟ قال: اخْتَر يا آدم. قال: أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمينٌ، ثم بسط الله كفَّه فإذا كلُّ من هو كائنٌ من ذريته في كفِّ الرحمن» (3). _________ (1) في الأصل: «فقال»، والسياق يقتضي المثبت. (2) وأخرجه أيضًا أحمد (17593، 17594) عن عبد الصمد، وعن عفَّان، كلاهما عن حمَّاد بن سلمة به. إسناده على رسم مسلم، وقد صحَّحه الحافظ في «الإصابة» (12/ 423) والألباني في «الصحيحة» (50). (3) وهذا الحديث أيضًا ليس في «مسند إسحاق». وقد أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (6580) عن عُقبة بن مكرم، عن عمرو بن محمد العنقزي به، ولفظه أتمَّ. وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن رافع، ولكنه توبع، تابعه الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب ــ على لين فيه ــ عن المقبري عن أبي هريرة. أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في «الكبرى» (9975) وابن حبان (6167) والحاكم (1/ 64) وغيرهم دون قصة مرور إبليس. قال الترمذي: «حسن غريب من هذا الوجه». وأما النسائي فأعلَّه، لأن محمد بن عجلان خالف ابنَ أبي ذباب، فرواه عن المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام موقوفًا، قال النسائي (9976): هذا هو الصواب. قلتُ: وسيذكر المؤلف هذه الرواية قريبًا.

(2/132)


أخبرنا النضر، أخبرنا أبو مَعشَر، عن سعيد المَقبُري، ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لمَّا أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له: يا آدم، أيُّ يدي أحبُّ إليك أن أُرِيَك ذريتَك فيها؟ فقال: يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذرِّيتُه كلُّهم: ما هو خالقٌ إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئتهم (1)، فقال: ألا أغنيتَهم كلَّهم؟ فقال: إني أحببتُ أن أُشكَر ... » وذكر الحديث (2). وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المَقبُري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم، ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اخْتَر يا آدم، فقال: اخْتَرتُ يمين ربي وكلتا يديك يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال مَن هؤلاء يا رب؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلقَ من _________ (1) رسمه في الأصل: «هياتهم»، وهو يحتمل ما أثبت، ويحتمل: «هيئاتهم». (2) أخرجه أيضًا ابن بشران في «أماليه» (663 - الجزء الأول) من طريق آخر عن أبي معشر به مطوَّلًا. وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر نَجِيح السِّندي.

(2/133)


ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة (1). حدثنا إسحاق، حدثنا جعفر بن عون المخزومي (2)، أخبرنا هشام بن سعد (3)، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لمَّا خلَقَ الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمةٍ هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ... » وذكر الحديث (4). حدثنا إسحاق، وعمرو بن زُرَارة قالا: أخبرنا إسماعيل، عن كُلثُوم بن جبر (5)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية، قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كلُّ نسمةٍ هو خالقها إلى يوم القيامة، بِنَعمانَ هذا الذي وراء _________ (1) أخرجه أيضًا الفريابي في «القدر» (1) ــ ومن طريقه الآجري في «الشريعة» (434، 748) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1709) ــ عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد به بسياق أطول. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (9976) مختصرًا بذكر جزءٍ آخر من سياقه الطويل. (2) في الأصل: «الخزاعي»، تصحيف. (3) في الأصل: «سعيد»، تصحيف. (4) أخرجه أيضًا الترمذي (3076) والبزار (8892) وأبو يعلى (6654) والحاكم (2/ 325) من طرق عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة به. ولعله لم يرد ذكر «أبي صالح» في هذا الطريق، فإن المؤلف نقله أيضًا في «شفاء العليل» (1/ 35) و «الروح» (2/ 460) بمثله. قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (5) في الأصل: «جبير» هنا وفي الإسناد الآتي، وهو تصحيف.

(2/134)


عرفة، فأخذ ميثاقهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا (1). حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية، قال: مسح الله ظهر آدم وهو ببطن نَعمان وادٍ إلى جنب عرفة، فأخرج من ظهر آدم ذريته، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا (2). ثم ساقه إسحاق من طرقٍ متعددةٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثم قال (3): أخبرنا المخزومي ــ وهو المغيرة بن سلمة ــ، حدثنا أبو هلالٍ، عن أبي جمرة الضُّبَعي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج _________ (1) أخرجه أيضًا من طريق إسماعيل ــ وهو ابن علية ــ ابنُ سعد في «الطبقات الكبير» (1/ 12) والطبري في «تفسيره» (10/ 548). وأخرجه ابن سعد (1/ 13) والفريابي في «القدر» (59، 60) والطبري (10/ 547، 550) من طرق عن كلثوم به. وأخرجه أحمد (2455) والنسائي في «الكبرى» (11127) والحاكم (1/ 27) وغيرهم من طريق جرير بن حازم، عن كلثوم، عن سعيد، عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد خالف جرير بذلك سائر الثقاتَ الذين وقفوه على ابن عباس، فالوقف هو المحفوظ. انظر: «تفسير ابن كثير» (الأعراف: 172) و «الصحيحة» (1623). (2) أخرجه أيضًا ابن سعد (1/ 12) والفريابي في «القدر» (60) والطبري (10/ 548، 550) من طريق وكيع وغيره عن ربيعة به، وذكره أيضًا ابن كثير في «تفسيره». (3) «ثم قال» كذا في الأصل، والسياق يقتضي: «فقال» إذ الطرق المتعددة عن ابن عباس هي الآتية.

(2/135)


ذريته في آذيٍّ (1) من الماء (2). أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مسح الله ظهر آدم، فخرجت منه كلُّ ذريةٍ بَدَدًا إلى يوم القيامة فعُرِضوا عليه (3). حدثنا المُلائي، حدثنا المسعودي، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: إنَّ الله أخذ على آدم ميثاقه أنَّه ربُّه، وكتب أجلَه ورِزقَه ومصيباتِه، ثم أخرج من ظهره ولدَه كهيئة الذرِّ، فأخذ عليهم الميثاق أنَّه ربُّهم، فكتب أجلَهم ورِزقَهم ومصيباتِهم (4). حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج كلَّ طيِّبٍ في يمينه، وفي يدِه الأخرى _________ (1) في الأصل: «آذر» تصحيف. والآذيّ: الموج الشديد، كما في «النهاية» (1/ 34). (2) أخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1613) والطبري (10/ 550) من طريقين عن أبي هلال ــ وهو الراسبي ــ به. وإسناده لا بأس به. (3) لم أجد من أخرجه بهذه الطريق. رواته ثقات، إلا أن غير واحدٍ خالف جريرًا فروَوه عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عن ابن عباس بنحوه، وسيأتي. (4) أخرجه أيضًا الدارمي في «الرد على الجهمية» (256) والفريابي في «القدر» (57) والطبري (10/ 550) وابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1449، 1454، 1753) والبيهقي في «القضاء والقدر» (67) من طرق عن المسعودي به، وفيهم من رواه عنه قبل الاختلاط كوكيع. وعليه فإسناده حسن.

(2/136)


كل خبيثٍ (1). حدثنا يحيى، حدثنا المسعودي، أخبرني علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال: خلق الله آدم، فأخذ ميثاقه أنَّه ربُّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرِّ، فأخذ مواثيقهم أنَّه ربُّهم، فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم (2). وقال عبد الرزاق (3): حدثنا مَعمَر، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية، قال: مسح الله على صلب آدم، فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنَّه ربُّهم فأعطوه ذلك، فلا تسألُ أحدًا ــ كافرًا أو غيره ــ مَن ربك؟ إلا قال: الله. قال معمرٌ: وكان الحسن يقول مثل ذلك. قال إسحاق: وأخبرنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن _________ (1) أخرجه أيضًا الطبري (10/ 549) عن ابن وكيع عن أبيه به. وأخرجه عبد الله في «السنة» (852) والطبري (10/ 549) وابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطَّة في «الإبانة الكبرى» (1451) من طرق أخرى عن الأعمش به بزيادة «سعيد بن جُبير» بين حبيب بن أبي ثابت وابن عباس. (2) وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطة (1454) من طريق يحيى ــ وهو ابن سعيد القطان ــ به. وله طرق أخرى عن المسعودي، سبق ذكرها آنفًا. (3) في «تفسيره» (1/ 242). ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن منده في «الرد على الجهمية» (37). وأبو النضر هو الكلبي، ومعروف شدَّةُ وَهْيِ روايته عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد أخرجه الطبري (10/ 561) من طريق محمد بن ثور عن معمر عن الكلبي من قوله مقطوعًا عليه.

(2/137)


عمرٍو في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: أخذهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس (1). قال محمد بن نصر: وحدثنا الحسن بن محمد الزَّعفراني، حدثنا حجَّاج، عن ابن جريج، عن الزُّبير بن موسى، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إنَّ الله تعالى ضرب مَنكِب آدم الأيمن، فخرجت كل نفسٍ مخلوقةٍ للجنة بيضاء نقيةً، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفسٍ مخلوقةٍ للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهدهم على الإيمان به، والمعرفة له وبأمره، والتصديق له وبأمره، من بني آدم كلهم، وأشهَدَهُم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقرُّوا (2). قال إسحاق: وحدثنا رَوح بن عُبادة، حدثنا محمد بن عبد الملك، عن أبيه، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذا الحديث، وزاد: قال ابن جريج: وبلغني أنَّه أخرجهم على كفِّه أمثال الخردل (3). _________ (1) أخرجه أيضًا الطبري (10/ 553) من طريق جرير عن منصور به. وأخرجه الطبري (10/ 552) وابن أبي حاتم (5/ 1613) من طريقين آخرين عن منصور به. (2) وأخرجه أيضًا ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1453) من طريق الحسن بن محمد الزعفراني به. وأخرجه الطبري (10/ 556) وابن منده في «الرد على الجهمية» (35) من طريقين آخرين عن حجاج بن محمد به، وأخرجه الفريابي في «القدر» (68) ــ ومن طريقه الآجري في «الشريعة» (442) ــ من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن جريج به. وإسناده لا بأس به في المتابعات. (3) لم أجد من أخرجه بهذه الطريق، وقول ابن جريج آخرَ الحديث: «بلغني ... » مروي في عند الطبري وابن منده من طريق حجاج عنه، انظر التخريج السابق.

(2/138)


قال إسحاق (1): وحدثنا حكَّام بن سَلْم (2) الرازي، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبَيِّ بن كعب في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: جمعهم يومئذٍ جمعًا ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم وتكلَّموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم، قال: فإنِّي أُشهِد عليكم السماواتِ والأرضين السبعَ، وأُشهِد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم هذا. اعلموا أنَّه لا إلهَ غيري، ولا ربَّ غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، فإنِّي سأرسل إليكم رُسُلًا يذكِّرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزِل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنَّك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ غيرُك، ولا إلهَ لنا غيرُك. فأقرُّوا يومئذٍ بالطاعة، ورُفِع لهم أبوهم آدم، فنظر فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب، لو سوَّيت بين عبادك! _________ (1) أخرجه عن إسحاق الفريابيُّ في «القدر» (52، 435)، ثم عنه الآجري في «الشريعة» (435). وأخرجه الطبري (7/ 705) وابن أبي حاتم (5/ 1615) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1450) والحاكم (2/ 323) من طرق عن أبي جعفر به. وأبوجعفر صدوق سيئ الحفظ، ولكنه توبع، فقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على «المسند» (21232) والفريابي (53) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1452) وابن منده في «التوحيد» (456) من طرق عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الربيع به. قال ابن منده: «هذا الحديث من رسم النسائي، وهذا إسناد متصل مشهور»، واختاره الضياء (3/ 363). (2) في الأصل: «سليم»، تصحيف.

(2/139)


فقال: إنِّي أحببتُ أن أُشكَر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج عليهم النور، وخُصُّوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: {غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وهو الذي يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، فلذلك قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ اَلنُّذُرِ اِلْأُولى} [النجم: 55]، وفي ذلك قال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 101]، وفي ذلك قال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74]، كان في علمه يومَ أقرُّوا بما أقرُّوا به ومَن (1) يكذِّب به ومَن يصدِّق. قال: وكان رُوح عيسى من تلك الأرواح التي أُخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك إلى مريم حتى {اِنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله: {حَمَلَتْهُ} [مريم: 15 - 21]، حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى (2). وفي تفسير أسباط بن نصر (3)، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي _________ (1) كذا في الأصل و «القدر» للفريابي بإثبات الواو. ولم ترد في عامَّة المصادر، وهو أشبه بالسياق. (2) أي حملت مريم الروحَ الذي تمثَّل لها بشرًا سويًّا وخاطبها فقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ... }، فإن المخاطب لها كان روحَ عيسى. وسيأتي إبطال المؤلف لهذا القول لاحقًا (ص 194). وقال عامَّة مفسري السلف: إن الروح الذي خاطبها هو جبريل. انظر: «تفسير الطبري» (15/ 485 - 486). (3) أخرجه الطبري (10/ 560، 561) مختصرًا، وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 85) مطوَّلًا بأسانيدهما عن أسباط.

(2/140)


صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهَمْداني عن ابن مسعودٍ، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية، قال: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحةَ ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذريةً بيضاء (1) مثل اللؤلؤ، وكهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذريةً سوداء (2) كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك حين يقول (3): {وَأَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} [الواقعة: 28]، {وَأَصْحَابُ اُلشِّمَالِ} [الواقعة: 43]. ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، فأعطاه طائفةٌ طائعين وطائفةٌ كارهين، فقالت الملائكة: {شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ}، فلذلك ليس أحدٌ من ولد آدم إلا وهو يعرف أنَّ ربَّه الله، ولا مُشرِكٌ إلا وهو يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 21]. فذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية، وذلك حين يقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، وذلك حين يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150] قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق. قال إسحاق: وأخبرنا رَوح بن عُبادة، حدثنا موسى بن عُبَيدة الرَّبَذي قال: _________ (1) رسمه يحتمل: «بِيضًا»، والمثبت موافق لمطبوعة «التمهيد». (2) رسمه يحتمل: «سُودًا»، والمثبت موافق لمطبوعة «التمهيد». (3) في الأصل: «بقوله»، تصحيف.

(2/141)


سمعت محمد بن كعب القُرَظي يقول في هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ}: فأقرُّوا (1) له بالإيمان والمعرفة الأرواحُ قبل أن يخلق أجسادها (2). قال إسحاق: وحدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: أُخرِجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق، ثم رُدُّوا في صلبه (3). قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأَجْلَح (4)، عن الضَّحَّاك قال: إنَّ الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فأخرجهم مثل الذرِّ، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، قالت الملائكة: {شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، ثم قبض قبضةً بيمينه، فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى، فقال: هؤلاء في النار (5). قال محمد بن نصر: وحدثنا بُندار، ثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن _________ (1) كذا في الأصل و «التمهيد» على لغة «يتعاقبون فيكم ملائكة». (2) أخرجه أيضًا ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 80) من طريق رَوح بن عُبادة به. وأخرجه الطبري (10/ 562) من طريق آخر عن موسى بن عبيدة به بنحوه، وموسى فيه لين. (3) أخرجه أيضًا الطبري (10/ 559) بإسناده عن عبد الملك به. (4) كذا في الأصل، ومثله في كتاب «الروح» للمؤلف (2/ 464). وهو تصحيف، فليس من الرواة أحدٌ بهذا الاسم، والصواب: «أخبرنا يعلى عن الأجلح» كما في «تفسير ابن أبي حاتم». ويعلى هو ابن عبيد الطنافسي، شيخ إسحاق بن راهويه، ثقة. والأجلح هو ابن عبد الله الكندي، صدوق شيعي، يروي عن الضحاك. (5) أخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1615) عن شيخه أبي سعيد الأشج عن يعلى بن عبيد به. وأخرجه الطبري (10/ 552، 559) من طرق عن الضحاك بنحوه مختصرًا.

(2/142)


الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82] قال: أخذه الميثاق (1). قال محمد: فقد ذكرنا ما حضَرَنا من الأخبار المروية عن السلف في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، وليس في شيء منها أنَّ الطفل يسقط من بطن أمِّه وهو عارفٌ بالله، ولا في شيء منها دليل على ذلك. قلت: أبو محمد لم يُرِد أنَّهم وُلِدوا عارفين بالله معرفةً حاصلةً معهم بالفعل، وإنَّما أراد أنَّهم وُلِدوا على حُكم تلك الفطرة والميثاقِ الذي أخذ عليهم، بحيث لو خُلُّوا وفِطَرَهم لَمَا عَدَلوا عن مُوجَب ذلك. قال محمد: فيقال له: هل عندك من دليل يدلُّ على أنَّ الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ كلَّ مولود يولد عليها هي المعرفة بالله؟ أو هل يُحكى عن أحد من السلف أنَّه قال ذلك؟ أو هل يُدَلُّ على ذلك بقياس؟ فإن أتى بشيء من هذه الدلائل، وإلا بان باطلُ دعواه. فإن هو رجع إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} الآية، فقال: استشهادُ الله ذريةَ آدم على أنَّه ربُّهم دليل على أنَّ معرفة ذلك متقدِّمةٌ عندهم كما (2) استشهدهم عليه، فهذه غاية حُجَّته عند نفسه. قال: لأنَّ كل مستشهَدٍ على شيءٍ لم تتقدَّم المعرفةُ عنده بما استُشهِد عليه قبلَ الاستشهاد، فإنَّ المستشهِد دعاه إلى أن شَهِد بقول الزُّور، والله لا يأمر أحدًا بذلك. _________ (1) أخرجه أيضًا الطبري (5/ 549) وابن أبي حاتم (2/ 696) من طريقين عن أبي جعفر الرازي عن الربيع به نحوه. (2) كذا في الأصل والمطبوع، ولعل صوابه: «لِما».

(2/143)


فيقال له: إنَّ إجابتك عن غير ما تُسأل عنه، واحتجاجك له هو الدليل على عجْزك، وعلى أنَّه لا حجةَ لك. إنَّا لم نسألك عن الوقت الذي استشهدهم الله فيه وقال لهم (1): {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فأجابوه بأن {قَالُوا بَلَى}، هل كانوا عارفين في ذلك الوقت أم لا؟ إنَّما سألناك عن وقت سقوطهم من بطون أمَّهاتهم، هل عندك حجةٌ تُثبِت أنَّهم في ذلك الوقت عارفون؟ فإن قال: إنَّ ثبوت المعرفة لهم في ذلك الوقت دليل على أنَّهم وُلِدوا على ذلك، فهم في وقت الولادة على ما كانوا عليه قبل ذلك. قيل له: فقد كانوا في ذلك الوقت مُقِرِّين أيضًا، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ أخبر أنَّه قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، والله عزَّ وجلَّ لا يخاطب إلا من يفهم عند المخاطبة، ولا يُجيب إلا مَن فهم السؤال، فإجابتهم إيَّاه بقولهم دليل على أنَّهم قد فهموا عن الله وعقلوا عنه استشهادَه إياهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، فأجابوه مِن بعد عقلهم للمخاطبة وفهمهم لها (2) بأن {قَالُوا بَلَى}، فأقرُّوا له بالربوبية. فيقال له: فهكذا نقول: إنَّ الطفل إذا سقَطَ من بطن أمِّه فهو من ساعته يَفهَم المخاطبةَ إن خُوطِب ويُجيب عنها، ويُقرُّ له بالربوبية كإقرار الذين أقرُّوا له بالربوبية في الوقت الذي أخذ عليهم الميثاق! فإن قال: نعم، كابَرَ عقلَه وأَكذَبه العيان. وإن قال: لا أقول ذلك، [و] فرَّقَ بين الوقتين، فجعل حالهم في وقت الولادة خلافَ حالهم في الوقت الأول عند أخذ _________ (1) في الأصل: «له»، تصحيف. (2) في الأصل: «وفهمه لهم»، تصحيف.

(2/144)


الميثاق منهم= فيقال له: فكذلك جائزٌ أن يكونوا كانوا (1) في الوقت الأول عارفين، وهم في وقت الولادة غيرُ عارفين كما كانوا في الوقت الأول؛ فقد فهموا المخاطبة وعقلوها وأجابوا مُقرِّين لله بالربوبية، وهم في وقت الولادة على خلاف ذلك. قلت: كلُّ مَن قال بأنَّ العهد الذي أُخِذ عليهم هو أنَّهم أُخرِجوا من صُلب آدم وخُوطِبوا، وأقرُّوا له بالربوبية، ثمَّ رُدُّوا في صلبه= فإنَّه يفرق بين حالهم ذلك الوقتَ وحالهم وقتَ الولادة قطعًا. ولا يقول ابن قتيبة ولا غيره: إنَّهم وُلِدوا عارفين فاهمين يفهمون السؤال ويرُدُّون الجواب. فالأقسام أربعةٌ: أحدها: استواء حالتهم وقت أخذ العهد ووقت سقوطهم في العلم والمعرفة. الثاني: استواء الوقتين في عدم ذلك. الثالث: حصول المعرفة عند السقوط، وعدمها عند أخذ العهد. وهذه الأقسام الثلاثة باطلةٌ لا يقول بواحدٍ منها أحد (2). الرابع: معرفتهم وفهمهم وقتَ أخذِ العهد دون وقت السقوط. وهذا يقوله كلُّ مَن يقول: إنَّه أخرجهم من صُلب أبيهم آدم وكلَّمهم وخاطبهم، وأشهَدَ عليهم ملائكته، وأشهدهم على أنفسهم، ثم ردَّهم في صُلبه. وهذا _________ (1) «كانوا» سقط من المطبوع. (2) «أحد» ساقط من المطبوع.

(2/145)


قول جماهير من السلف والخلف، واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار مرفوعها وموقوفها. وأحسن شيء فيها حديث مسلم بن يسار عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (1)، وقد ذكرنا كلام الأئمة فيه. على أنَّ إسحاق قد رواه عن حكَّام بن سَلْم، عن [عنبسة، عن] عُمَارة (2) بن عُمَير، عن أبي محمد رجلٍ من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: «خلق الله آدمَ بيده ونفخ فيه من رُوحه، ثم أجلسه فمسح ظهرَه، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للجنة، يعملون بما شئتُ من عمل، ثم أختم لهم بأحسن (3) أعمالهم فأُدخِلهم الجنة. ثم مسح ظهره، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتهم للنار، يعملون بما شئت من عملٍ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم، فأُدخلهم النار» (4). فهذا لا ذِكر فيه لمخاطبتهم وسؤالهم واستنطاقهم، وهو موافقٌ لسائر الأحاديث، ويُشبِه أن يكون هو المحفوظ عن عمر - رضي الله عنه -. وأمَّا سائر الأحاديث فالمرفوع الصحيح منها إنَّما فيه إثبات القبضتين، وتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة قبل إخراجهم إلى دار التكليف؛ مثل _________ (1) تقدَّم (ص 127 - 130). (2) في الأصل: «عبادة»، تصحيف. وما بين الحاصرتين سقط لانتقال النظر، وقد تقدَّم الإسناد بإثباته. (3) في الأصل: «بإحسان»، خطأ. (4) تقدَّم (ص 129).

(2/146)


الحديث الذي رواه أحمد (1) عن عبد الصمد، حدثنا حمادٌ، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نضرة أنَّ رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله قبض قبضةً بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، فقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا. وكذلك حديث المَقبُري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه الذي تقدَّم (2) هو وغيرُه من الأحاديث التي فيها: أنَّ الله أخرج ذرية آدم من ظهره وأراه إياهم، وجعل أهل السعادة في قبضته اليمنى، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى. وأمَّا الآثار التي فيها أنَّه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفةٍ ومرفوعةٍ لا يصح إسنادها؛ كحديث مسلم بن يسار، وحديث هشام بن حكيم بن حزام، فإنَّ في إسناده بقيةَ بن الوليد وراشدَ بن سعدٍ وفيهما مقال (3)، وأبو (4) قتادة النصري وهو مجهولٌ. وبالجملة: فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتَين كثيرةٌ لا سبيل إلى ردِّها وإنكارها، ويكفي وصولها إلى التابعين، فكيف _________ (1) في «المسند» (17593)، وقد تقدَّم تخريجه (ص 132). (2) (ص 132 - 134). (3) أمَّا بقية، فإن غاية ما يؤخذ عليه تدليسه عن الضعفاء، وهنا قد صرَّح بالتحديث، ثم إنَّه قد توبع كما سبق بيانه في تخريجه (ص 131). وأمَّا راشد بن سعد الحُبراني المَقرائي، فثقة عند عامَّة أهل الحديث، «وقال ابن حزم وحده: هو ضعيف، فهذا من أقواله المردودة» كما في «السير» (4/ 490). وإنما علَّة الحديث جهالةُ أبي قتادة وابنه. (4) كذا في الأصل، والجادة: النصب.

(2/147)


بالصحابة؟ ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين، ولكن الذي دلَّ عليه الصحيح من هذه الآثار: إثباتُ القدر وأنَّ الله عَلِم ما سيكون قبل أن يكون، وعَلِم الشقي والسعيد من ذرية آدم. وسواءٌ كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالَهم أو أعيانَهم. فأمَّا نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة (1)، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} فذكر الأخذ من ظهور بني آدم لا من نفس ظهر آدم، وذرياتُهم يتناول كلَّ من وَلَدُوه وإن كان كبيرًا (2)، كما قال في تمام الآية: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}، وقال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ اَصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران: 33 - 34]، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]، وقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 85]، فاسم الذرية يتناول الكبار. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره، فمن أقرَّ بحقٍّ عليه فقد شهد به على _________ (1) نعم، ليس في الأحاديث المرفوعة ذلك، ولكنه روي من ثلاثة طرق حسان (كلثوم بن جبر، وعلي بن بذيمة، وعطاء بن السائب)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا. انظر: ما سبق (ص 134 - 135)، و «طبقات ابن سعد» (1/ 12، 13)، و «تفسير الطبري» (10/ 547 - 550). (2) في المطبوع: «كثيرًا»، خطأ يحيل المعنى.

(2/148)


نفسه، قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ اِلْوَالِدَيْنِ وَاَلْأَقْرَبِينَ} [النساء: 134]، كما احتج الفقهاء بذلك على صحة الإقرار. وفي حديث ماعز بن مالك (1): «فلما شهد على نفسه أربع مرَّاتٍ»، أي: أقرَّ أربع مرَّاتٍ. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، فإنَّهم كانوا مُقرِّين بما هو كفرٌ، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم. ومنه قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ اُلْحَيَاةُ اُلدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 131]، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو أداء الشهادة على أنفسهم. ولفظ «شَهِد فلانٌ» و «أَشْهَدَ به» يراد به تحمُّل الشهادة ويراد به أداؤها، فالأول كقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، والثاني كقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135]. وقولُه: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} من هذا الثاني، ليس المراد أنَّه جعلهم يتحمَّلون الشهادة على أنفسهم ويؤدُّونها في وقتٍ آخر، فإنَّه سبحانه في مثل ذلك إنَّما يُشهِد على الرجل غيرَه، كما في قصة آدم لمَّا أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوارح على أصحابها. ولهذا قال بعض المفسرين: المعنى: أشهَدَ بعضَهم على بعضٍ (2)، لكن هذا اللفظ حيث جاء _________ (1) أخرجه مسلم (1695) وغيره من حديث بُرَيدة بن الحُصَيب - رضي الله عنه -. (2) هو قول الطبري (10/ 546).

(2/149)


في القرآن إنَّما يُراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه. وقولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} هو إقرارهم بأنَّه ربُّهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شَهِد به على نفسه، فإنَّ قولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} معناه: أنت ربُّنا. وهذا إقرارٌ منهم بربوبيته لهم، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقرُّوا به. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ} يقتضي أنَّه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنَّه ربُّهم. وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم. وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريبَ فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزولُه في أرحام الأمهات، لكن لم يذكر هنا الأمهات، كقوله: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}، وهم كانوا مُتَّبِعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات، كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. ولهذا قال: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23]. فهو سبحانه يقول: اذكر حين أُخِذُوا من أصلاب الآباء فخُلِقوا حين وُلِدوا على الفطرة مقرِّين بالخالق، شاهدين على أنفسهم بأنَّ الله ربُّهم. فهذا الإقرار حجةٌ لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، فإنَّه سبحانه خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، فأخْذُهم يتضمَّن خلْقَهم، والإشهاد يتضمَّن هُداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنَّه قال: {أَشْهَدَهُمْ} أي: جعلهم شاهدين، فهذا الإشهاد من لوازم الإنسان، وكل إنسان جعله الله مُقِرًّا بربوبيَّته شاهدًا على نفسه بأنَّه مخلوقٌ واللهُ خالقه. وهذا أمرٌ ضروري لبني آدم لا ينفكُّ منه مخلوقٌ، وهو مما جُبِلوا عليه، فهو علمٌ ضروري لهم لا يمكن أحدًا جحدُه.

(2/150)


ثم قال بعد ذلك: {أَن يَقُولُوا} أي: كراهية أن يقولوا، أو (1): لئلا يقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، أي: عن هذا الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنَّهم ما كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخلُ منها بشرٌ قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضروريةً ولكن قد يغفُل عنها كثيرٌ من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنَّها إذا تُصوِّرت كانت علومًا ضروريةً، لكن كثيرٌ من الناس غافلٌ عنها. وأمَّا الاعتراف بالخالق فإنَّه علمٌ ضروري لازمٌ للإنسان لا يغفُل عنه أحدٌ بحيث لا يعرفه، بل لا بدَّ أن يكون قد عرفه، وإن قُدِّر أنَّه نسيه. ولهذا يُسمَّى التعريف بذلك تذكيرًا، فإنَّه تذكيرٌ بعلومٍ فِطريةٍ ضروريةٍ، وقد ينساها العبد كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ نَسُوا اُللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وفي الحديث الصحيح: «يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتَني» (2). ثم قال: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]، فذكر سبحانه لهم حُجَّتين يدفعهما هذا الإشهاد: إحداهما: أن يقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، فبيَّن أنَّ هذا علمٌ فطري ضروري لا بدَّ لكلِّ بشرٍ من معرفته. وذلك يتضمَّن حجة الله في إبطال _________ (1) في الأصل: واو العطف، ولعل المثبت أشبه. (2) أخرجه مسلم (2968) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(2/151)


التعطيل، وأنَّ القول بإثبات الصانع علمٌ فطري ضروري، وهو حجةٌ على نفي التعطيل. والثاني: أن يقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ}، وهم آباؤنا المشركون. أي: أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنَّه لو قُدِّر أنَّهم لم يكونوا عارفين بأنَّ الله ربُّهم ووجدوا آباءَهم مشركين وهم ذريةٌ مِن بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أنَّ يحتذي الرجلُ حذوَ أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي ربَّاه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه؛ فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك= قالوا (1): نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنَّا ذريةً لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبيِّن خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به مِن أنَّ الله وحدَه هو ربُّهم، كان معهم ما يبيِّن بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجةَ عليهم الفطرةُ الطبيعيَّة الفعلية (2) السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرةُ الموجِبةُ للإسلام سابقةً للتربية التي يحتجُّون بها. وهذا يقتضي أنَّ نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجةٌ في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسولٍ، فإنَّه جعل ما تقدَّم حُجَّةً عليهم بدون هذا. _________ (1) جواب «إذا» أغنى عن جواب «لو قدِّر ... ». (2) في هامش الأصل: «القولية».

(2/152)


وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فإنَّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في (1) الفطرة دليلٌ عقليٌّ يعلم به إثبات الصانع= لم يكن في مجرَّد الرسالة حجةٌ عليهم. فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمَّن إقرارَهم بأنَّ الله ربُّهم ومعرفتَهم بذلك= أمرٌ لازمٌ لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله. فلا يمكن أحدًا أن يقول يوم القيامة إنِّي كنتُ عن هذا غافلًا، ولا أنَّ الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنَّه عارفٌ بأنَّ الله ربُّه لا شريكَ له، فلم يكن معذورًا في التعطيل والإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب. ثم إنَّ الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد إرسال الرسول إليه، وإن كان فاعلًا لِما يستحق به الذمَّ والعقاب، فلِلّه على عبده حُجَّتان قد أعدَّهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فَطَره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنَّه ربُّه ومليكه وفاطره، وحقُّه عليه لازمٌ. والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله. فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويُقِرُّ على نفسه بأنَّه كان كافرًا كما قال تعالى: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كافِرِينَ} [الأنعام: 130]، فلم ينفِّذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدَين، وهذا غاية العدل. _________ (1) «إن لم يكن في» سقط من المطبوع فاختلَّ السياق.

(2/153)


فصل (1) قال أبو عمر (2): وقد اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة. فقال ابن المبارك: تفسيره آخر الحديث: «الله أعلم بما كانوا عاملين». هكذا ذكر أبو عبيد (3) عن ابن المبارك لم يَزِد شيئًا. وذكر عن محمد بن الحسن أنَّه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: كان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. قال أبو عمر: أما [ما] (4) ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنعٌ من التأويل، ولا شرحٌ موعبٌ (5) في أمر الأطفال، ولكنها جملةٌ تؤدِّي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفرٍ أو إيمانٍ، أو جنةٍ أو نارٍ، ما لم يبلغوا العمل. قال: وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه، إمَّا لإشكاله عليه، وإمَّا لجهله به، أو لما شاء الله. _________ (1) المؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 379) وما بعدها. وقد أورد المؤلف هذا الفصل في «شفاء العليل» (2/ 403 - 407) أيضًا. (2) في «التمهيد» (18/ 66) وما بعدها. (3) في «غريب الحديث» (2/ 266). (4) زياد من مصدرَي النقل. (5) في هامش الأصل: «يرغب»، خطأ.

(2/154)


وأمَّا قوله: إنَّ ذلك كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا! فإن كان أراد أنَّ ذلك منسوخٌ، فغير جائزٍ عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله وأخبار رسوله؛ لأنَّ المُخبِر بشيءٍ كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخلُ رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطه فيما أخبر به، أو نسيانه؛ وقد عصم اللهُ رسولَه في الشريعة والرسالة منه. وهذا لا يخالف فيه أحدٌ له أدنى فَهْم، فقِفْ عليه، فإنَّه أمرٌ حتمٌ في أصول الدين. وقول محمد: «إنَّ ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد» (1) ليس كما قال، لأنَّ في حديث الأسود بن سريع (2) ما يبيِّن أنَّ ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد. وروى بإسناده عن الحسن، عن الأسود بن سريعٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوامٍ بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟»، فقال رجلٌ: أَوَليس إنما هم (3) أولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوليس خيارُكم أولادَ المشركين؟ إنَّه ليس من مولود يُولَد إلا على الفطرة حتى يبلغَ فيُعبِّر عنه لسانُه، ويهوِّدُه أبواه أو ينصِّرانه». قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعةٌ، منهم: بكرٌ المزني، والعلاء بن زيادٍ، والسري بن يحيى (4). وقد روي عن الأحنف عن _________ (1) من قوله: «فلا أدري ما هذا» إلى هنا ليس في مطبوعة «التمهيد». (2) سبق تخريجه (ص 114). (3) «إنما هم» تصحَّف في الأصل والمطبوع إلى: «آباؤهم»! (4) رواية بكر في «السنة» للخلال (870)، ورواية السري عند ابن حبان (132) وغيره. وأما رواية العلاء بن زياد فلم أجدها، وأخشى أن يكون سهوًا أو سبقَ قلمٍ من حافظ المغرب وأن الصواب: «المعلَّى بن زياد»، فإنه رواه عن الحسن كما عند الطبراني في «الأوسط» (1984) و «الكبير» (837)، وعند لوين في «حديثه» (30). وقال البيهقي في «القضاء والقدر» (ص 344) بعد أن أخرجه من طريق يونس بن عُبيد عن الحسن: «وبمعناه رواه المعلى بن زياد، وأشعث، ومبارك بن فضالة، وغيرهم عن الحسن».

(2/155)


الأسود بن سريعٍ (1)، وهو حديث بصري صحيح. وروى عوفٌ الأعرابي، [عن أبي رجاءٍ العُطاردي] (2)، عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مولود يُولَد على الفطرة»، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين» (3). انتهى. _________ (1) لم أجد هذا الحديث من رواية الأحنف عن الأسود. والمشهور من رواية الأحنف عنه حديث آخر، وهو: «أربعة يحتجون يوم القيامة ... »، وسيأتي لاحقًا. (2) ما بين الحاصرتين مستدرك من «التمهيد» (18/ 68)، وقد سقط من «الدرء» (8/ 382) مصدر المؤلف. وسيأتي عند المؤلف على الصواب لاحقًا (ص 235). (3) هذا جزء من حديث سمرة في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويلة التي رآى فيها صنوفًا يُعذَّبون، ورآى فيها روضة مُعْتَمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل حوله ولدان كُثُر. ثُمَّ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن «الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة»، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «وأولاد المشركين». هكذا أخرجه البخاري (7047) وأحمد (20094) وابن أبي شيبة (31126) والنسائي في «الكبرى» (7611) والروياني في «مسنده» (836) من خمسة طرقٍ عن عوف الأعرابي به، بلفظ: «فكل مولود مات على الفطرة». وروي باللفظ الذي ذكره ابن عبد البر: «كل مولودٍ يولد على الفطرة» عند أبي عوانة (10053) وابن حبان» (655) من طريق النضر بن شميل عن عوفٍ به. والأول أشبه، لوروده في عامَّة الطرق، ولأن الشأن هنا ليس فيمن وُلد على الفطرة وهم كل المواليد، بل فيمن مات على الفطرة قبل أن يبلغ الحنث مُهَوَّدًا أو مُنَصَّرًا. والظاهر أن اللفظ الثاني رواه النضر بالمعنى حملًا له على الحديث الآخر المشهور. والله أعلم.

(2/156)


قال شيخنا (1): أمَّا ما ذكره عن ابن المبارك ومالك فيمكن أن يقال: إنَّ المقصود أنَّ آخر الحديث يبيِّن أنَّ الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأنَّ منهم مَن يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم مَن يكفر فيدخل النار، فلا يُحتجُّ بقوله: «كل مولود يُولَد على الفطرة» على نفي القدر كما احتجت القدرية به، ولا على أنَّ أطفال الكفار كلَّهم في الجنة لكونهم وُلِدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أنَّ الأطفال على ما في آخر الحديث. وأمَّا قول محمد، فإنَّه رأى الشريعة قد استقرَّت على أنَّ ولد الكافر يَتْبَع أبوَيْه في الدين في أحكام الدنيا، فيُحكَم له بحكم الكفر في أنَّه لا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يرِثه المسلمون، ويجوز استرقاقُه، وغير ذلك، فلم يَجُز لأحدٍ أن يحتجَّ بهذا الحديث على أنَّ حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين. وهذا حقٌّ، ولكنَّه ظنَّ أنَّ الحديث اقتضى الحكمَ لهم في الدنيا بأحكام أطفال المؤمنين، فقال: هذا منسوخٌ كان قبل الجهاد، لأنَّه بالجهاد أُبِيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يُسترَقُّ. ولكن كون الطفل يَتبَع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمرٌ ما زال مشروعًا، وما زال الأطفال تبعًا لآبائهم في الأمور الدنيوية، فالحديث لم يَقصِد بيانَ هذه الأحكام، وإنما قصَدَ ما وُلِدوا عليه من الفطرة. وإذا قيل: إنَّه وُلِد على فطرة الإسلام أو خُلِق حنيفًا ونحو ذلك، فليس _________ (1) في «درء التعارض» (8/ 382).

(2/157)


المراد به أنَّه حين خرج من بطن أمِّه يعلم هذا الدين ويريده، فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا. ولكن فطرته سبحانه موجِبةٌ مقتضيةٌ لمعرفة دين الإسلام ومحبته، ففُطِروا على فطرةٍ مستلزمةٍ للإقرار بالخالق ومحبته وإخلاص الدين له، وموجَباتُ الفطرة ومقتضَياتُها تحصل شيئًا بعد شيءٍ بحسب كمال الفطرة إذا سَلِمت عن المعارض، كما أنَّ كلَّ مولودٍ يُولَد فإنَّه يُولَد على محبَّةِ ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه. وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 49]، وقوله: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 2 ــ 3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضُرُّه. ثم هذا الحُبُّ والبُغض يحصل فيه شيئًا بعد شيء، ثم قد يَعرِض لكثير من الأبدان ما يفسد ما وُلد عليه من الطبيعة السليمة. فصل (1) قال أبو عمر (2): وأمَّا اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله، فقالت فرقةٌ: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخِلقة التي خُلِق عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنَّه قال: كل مولود يولد على خِلقةٍ يَعرِف بها ربَّه إذا بلغ مَبلَغ المعرفة، يريد أنَّ خَلْقه مخالفٌ لخِلقة البهائم التي لا تصِل بخِلقتها إلى معرفته (3). قالوا: لأنَّ الفاطر هو الخالق. _________ (1) انظر: «درء التعارض» (8/ 384) و «شفاء العليل» (2/ 409). (2) في «التمهيد» (18/ 68). (3) في الأصل: «معرفة»، ولعل المثبت من «شفاء العليل» أشبه. ولفظ «التمهيد» و «الدرء»: «معرفة ذلك».

(2/158)


قال: وأنكرَتْ أن يكون المولود يُفطَر على إيمانٍ أو كفرٍ، أو معرفة أو إنكارٍ. قال شيخنا: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكُّن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملة. ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته حتى يُسأل عمَّن مات صغيرًا. ولأنَّ القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير. وهو لمَّا نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنَّهم أولاد المشركين قال: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (1). ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل. وإن أراد بالفطرة القدرةَ على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فإذا فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها كان ذلك مستلزمًا للإيمان ولم يتخلَّف موجَبُه ومقتضاه. فصل (2) قال أبو عمر (3): وقال آخرون معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» يعني: البَدْأة (4) التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولودٌ على ما فطر الله عليه خلقه _________ (1) جزء حديث الأسود بن سريع، تقدم تخريجه. (2) انظر: «درء التعارض» (8/ 386) و «شفاء العليل» (2/ 410). (3) «التمهيد» (18/ 78). (4) رسمه يحتمل: «البَداءة»، وهما بمعنى.

(2/159)


من أنَّه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم واعتقادهم. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة، والفاطر: المبتدئ. فكأنَّه قال: يُولَد على ما ابتدأه عليه من الشقاء والسعادة، وغير ذلك ممَّا يصير إليه. واحتجوا بقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 28]. وروى بإسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لم أَدرِ ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها (1). وذكروا ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في دعائه: اللهم جبَّار القلوب على فِطراتها شقيها وسعيدها (2). قال شيخنا: حقيقة هذا القول أنَّ كل مولود يُولَد على ما سبق في علم الله _________ (1) أخرجه أيضًا أبو عبيد في «غريب الحديث» (5/ 413) ــ ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (1559) ــ والطبري (9/ 175). (2) أخرجه ابن أبي شيبة (30134) والطبراني في «الأوسط» (9089) والآجري في «الشريعة» (420) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1694) وغيرهم من رواية سلامة الكندي ــ وهو مجهول، وفي رواية ابن أبي شيبة أُبهم الراوي فلم يُسمَّ ــ عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في دعاء طويل متكلَّفٍ فيه. قال ابن كثير: هذا مشهور من كلام علي إلا أنَّ في إسناده نظرًا. وضعَّفه السخاوي، وقال الألباني: منكر. انظر: «تفسير ابن كثير» (الأحزاب: 56) و «القول البديع» (ص 118 - 121) و «الضعيفة» (6544).

(2/160)


أنه صائرٌ إليه، ومعلومٌ أنَّ جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودةٌ على ما سَبَق في علم الله لها، والأشجار مخلوقةٌ على ما سبق في علم الله، وحينئذ فيكون كلُّ مخلوقٍ قد خلق على الفطرة. وأيضًا: فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه» (1) معنًى، فإنَّهما فَعَلا به ما هو الفطرة التي وُلِد عليها. وعلى هذا القول فلا فرق في الفطرة بين التهويد والتنصير وبين تلقين الإسلام، فإنَّ ذلك كلَّه داخلٌ (2) فيما سبق به العلم. وأيضًا: فتمثيله ذلك بالبهيمة قد وُلدت جمعاء ثم جدعت يبيِّن أن أبويه غيَّرا ما وُلِد عليه. وأيضًا: فقوله: «على هذه الملة» وقوله: «إني خلقت عبادي حنفاء» (3) مخالفٌ لهذا. وأيضًا: فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنَّه مِن حين كان جنينًا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في عِلم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيصٌ بغير مخصصٍ. وقد ثبت في «الصحيح» (4) أنَّه قبل نفخ الروح فيه يُكتَب رزقه، وأجله _________ (1) سبق تخريجه. (2) في هامش الأصل: «واحد»، خلاف مصدر النقل. (3) سبق تخريجهما. (4) للبخاري (7454) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (2643) أيضًا، ولكن ليس فيه التصريح بأن الكتابة قبل النفخ.

(2/161)


وعمله، وشقي أو سعيد. فلو قيل: كل مولود يُنفَخ فيه الرُّوح على الفطرة لكان أشبه بهذا القول، مع أنَّ النفخ هو بعدَ الكتابة. فصل (1) قال أبو عمر (2): قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيهٌ بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك. قال محمد: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه. قال أبو عمر: ما رسمه مالك في «موطئه» وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدلُّ على أنَّ مذهبه في ذلك نحو هذا. قال شيخنا: أئمة السنة مقصودهم أنَّ الخلق كلَّهم صائرون إلى ما سبق في علم الله من إيمانٍ وكفرٍ، كما في الحديث الآخر: «إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طُبع كافرًا» (3)، والطبع: الكتاب، أي: كُتِب كافرًا، كما قال: «فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» (4). وليس إذا كان الله قد كتبه كافرًا يقتضي أنَّه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنَّه لا بدَّ أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير. كما أنَّ البهيمة التي وُلدت جمعاء وقد سبق في علمه أنَّها تُجدَع= كَتَب أنها مجدوعةٌ بجدعٍ يَحدُث لها بعد الولادة، ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعةً. _________ (1) انظر: «درء التعارض» (8/ 388) و «شفاء العليل» (2/ 412). (2) في «التمهيد» (18/ 79). (3) أخرجه مسلم (2661)، وقد سبق (ص 112). (4) جزء من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - المتفق عليه، وقد سبق آنفًا.

(2/162)


فصل وكلام أحمد في أجوبة متعدِّدة يدلُّ على أنَّ الفطرة عنده: الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنَّه آخر قوليه، فإنَّه كان يقول: إنَّ صبيان أهل الحرب إذا سُبُوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإذا كانوا مع الأبوين فهم على دينهما، وإن سُبُوا مع أحدهما ففيه روايتان، وكان يحتج بالحديث. ثم ذكر (1) نصَّ أحمد في رواية المروذي في سبي أهل الحرب أنَّهم مسلمون إذا كانوا صغارًا، وإن كانوا (2) مع أحد الأبوين، واحتج بقوله: «كل مولود يُولَد على الفطرة» الحديث. وذكر نصَّه في رواية إسحاق بن منصور (3): إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم. وكذلك نقل يعقوب بن بختان (4)، قال أبو عبد الله: إذا مات أبواه، وهو صغيرٌ أُجبِر على الإسلام، وذكر الحديث: «فأبواه يهودانه وينصرانه». وقال في رواية عبد الكريم بن الهَيثَم العاقولي (5) في المجوسيين يُولَد لهما ولدٌ فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين ثم يُتوفَّى، قال: يدفنه المسلمون، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». _________ (1) أي: شيخ الإسلام في «الدرء» (8/ 390) نقلًا عن «جامع الخلال» (1/ 97). (2) في الأصل: «كان»، والتصحيح من مصدر النقل. (3) في «مسائله» (2/ 84)، وشيخ الإسلام صادر عن «جامع الخلال» (1/ 100). (4) في «جامع الخلال» (1/ 89). (5) في «جامع الخلال» (1/ 91).

(2/163)


وقال في رواية المَرُّوذي (1) في الأبوين الكافرين يموتان ويدعان طفلًا: يكون مسلمًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهودانه وينصرانه»، وهذا ليس له أبوان. قلت: يجبر على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كثيرٌ في أجوبته، يحتج بالحديث على أنَّ الطفل إنَّما يصير كافرًا بأبويه، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرةُ الإسلامَ لم يكن بعدم أبويه يصير مسلمًا، فإنَّ الحديث إنَّما دلَّ على أنَّه يُولَد على الفطرة. ونقل عنه الميموني (2): أنَّ الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى. فهذا آخر قولَي أبي عبد الله في الفطرة، وقد كان يقول أولًا: إنها ما فطروا عليه من الشقاوة والسعادة. قال محمد بن يحيى الكحَّال: قلت لأبي عبد الله: «كل مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي [فطر] (3) الله الناس عليها: شقي أو سعيد. وكذلك نقل الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث أنَّهم سَمِعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقوة والسعادة. وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنَّه سأله عن قوله: «كل مولود يولد على _________ (1) في «جامع الخلال» (1/ 89). (2) كما في «الجامع» (1/ 77). (3) زيادة لازمة من مصدر المؤلف.

(2/164)


الفطرة»، قال: على الشقاء والسعادة، وإليه يرجع كل ما خلق (1). وكذلك قال في رواية الحسن بن ثواب (2): كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يُولَد على الفطرة التي خُلِقوا عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في أم الكتاب؛ أَرفَعُ (3) ذلك إلى الأصل (4). قلتُ: أصحاب هذا القول يحتجون بقوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وبقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في خلق الجنين: «ثم يُبعَث إليه الملك فيُؤمَر بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» (5)، وبقوله: «إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يومَ طُبِع كافرًا» (6)، وبالآثار المعروفة: الشقي من شقي في بطن أمه (7)، وغير ذلك من الآثار الدالة على القدر السابق، وأن الشقاوة والسعادة بقضاءٍ سابقٍ وقدرٍ _________ (1) الروايات السابقة كلها في «الجامع» (1/ 79). والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 395) وما بعدها. (2) في الأصل: «أيوب»، والمثبت من هامشه الصواب. والرواية في «الجامع» (1/ 77). (3) في الأصل: «لدفع»، تصحيف. والمثبت من «درء التعارض» (8/ 396)، ويحتمل ضبطه: «ارْفَعْ» أمرًا. هذا، ولفظه في «الجامع»: «أرجع في ذلك»، وهو الذي قد سبق (ص 103) أن نقله المؤلف من «الجامع» مباشرةً. (4) هنا انتهى النقل عن «الدرء» الذي بدأ (ص 154). (5) جزء من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - المتفق عليه، وقد تقدم قريبًا. (6) أخرجه مسلم (2661)، وقد تقدم غير مرة. (7) أخرجه مسلم (2645) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا عليه.

(2/165)


متقدِّمٍ على وجود العبد. وهو حقٌّ لا ريبَ فيه، ولا نزاعَ فيه بين الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة، ولكن لا ينافي كونَ الطفل قد خُلِق على الفطرة التي هي دين الله، فإنَّ القدر السابق والعلم القديم اقتضى أن تهيَّأ له أسبابٌ تُخرِجه عن هذه الفطرة. وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، أي (1): لا يقدر أحدٌ أن يغيِّر الخِلقة التي خَلَق عليها عبادَه وفطرهم عليها مِن أنَّهم لو خُلُّوا ونفوسَهم لكانوا على الحنيفية. فخَلْقُهم على هذا الوجه لا تغييرَ له، وإنَّما التغيير بأسبابٍ طارئةٍ جاريةٍ على الخلقة. وأمَّا قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، فغايته أن يدلَّ على أنَّه خلق الكافر كافرًا، والمؤمن مؤمنًا. وهذا متفق عليه بين الصحابة وجميع أهل السنة، وليس فيه ما ينفي كونَهم مخلوقين على فطرة الإسلام، ثم خُلِق لهم أسبابٌ أخرجَتْ من أخرجته منهم عنها. وأمَّا قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28]، فقال سعيد بن جبيرٍ: كما كَتَب عليكم تكونون. وقال مجاهدٌ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} شقيًّا وسعيدًا. وقال أيضًا: يبعث المسلم مسلمًا والكافر كافرًا. وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} (2). _________ (1) في الأصل: «أن»، ولعل المثبت أشبه. (2) الآثار أخرجها الطبري (10/ 143 - 145). والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 412).

(2/166)


وهذا يتضمَّن إثباتَ علمه وقدره السابق، وأنَّ الخلق يصيرون إليه لا محالة. وكون هذا مراد الآية غير متعيِّنٍ، فإنَّ الآية اقتضت حكمين: أحدهما: أنَّه يُعيدهم كما بدأهم، على عادة القرآن في الاستدلال على المعاد بالبَدْأة. والثاني: أنَّه سبحانه هدى فريقًا وأضلَّ فريقًا، فالأمر كلُّه له: بدؤهم وإعادتهم، وهداية من هدى منهم، وإضلال من أضلَّ منهم؛ وليس في شركائهم مَن يفعل شيئًا من ذلك. وأمَّا أمر الملك بكَتْب شقاوة العبد وسعادته في بطن أمِّه، وقوله: الشقي من شقي في بطن أمه (1) = فحقٌّ لا يُخالِف فيه أحدٌ من أهل السنة، بل قد اتفقت كلمتهم وكلمة الصحابة قبلَهم على ذلك. وأمَّا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الغلام الذي قتله الخَضِر أنَّه طبع يوم طبع كافرًا (2)، فمثل ذلك سواءً. «وكافرًا» حالٌ مقدَّرةٌ لا مقارنةٌ، أي طبع مقدَّرًا كفرُه، وإلا فهو في حال كونه جنينًا وطفلًا لا يعقل كفرًا ولا إيمانًا. فإن قيل: فإذا كان هكذا فلِمَ قتله الخَضِر؟ فالجواب ما قاله لموسى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 81]، فالله تعالى أمره بقتل ذلك الغلام لمصلحةٍ، وأَمَر رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالكفِّ عن قتل النساء والذرية لمصلحةٍ، فكان في كلٍّ مِن أمرَيه (3) مصلحةٌ وحكمةٌ ورحمةٌ يشهدها أولو الألباب. _________ (1) هو قول ابن مسعود، وقد سبق قريبًا. (2) أخرجه مسلم، وقد تقدم. (3) في المطبوع: «في كل ما أمر به»، خلاف الأصل.

(2/167)


فصل (1) قال أبو عمر (2): وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أنَّ الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم، فقال: ألستُ بربكم؟ قالوا جميعًا: بلى، فأمَّا أهل السعادة، فقالوا: بلى، على معرفةٍ له طوعًا من قلوبهم، وأمَّا أهل الشقاوة فقالوا: بلى، كَرهًا غيرَ طوعٍ. قالوا: ويصدِّق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]. قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 28]. قال محمد بن نصرٍ المروزي (3): سمعت إسحاق بن إبراهيم ــ يعني: ابن راهويه ــ يذهب إلى هذا المعنى، واحتجَّ بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 30] (4). قال إسحاق: يقول: لا تبديل للخِلقة التي جَبَل عليها ولدَ آدمَ كلَّهم، يعني مِن الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار. _________ (1) انظر: «درء التعارض» (8/ 413) و «شفاء العليل» (2/ 423). (2) في «التمهيد» (18/ 83). (3) لعله في كتاب «الرد على ابن قتيبة». وما زال النقل من «التمهيد» بواسطة «الدرء». (4) سبق تخريجه.

(2/168)


واحتَجَّ بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]. قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنَّها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا: بلى، فقال: انظروا أن لا (1) تقولوا: إنَّا كنَّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل. وذكر (2) حديث أُبَيِّ بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر (3). قال: وكان الظاهر ما قاله موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 73]، فأعلم اللهُ سبحانه الخضرَ ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فُطِر عليها، وأنَّه لا تبديل لخلق الله، فأمره بقتله لأنَّه كان قد طُبِع يومَ طُبِع كافرًا. قال إسحاق: فلو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يبيِّن لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنَّهم لا يدرون ما جُبِل كلُّ واحدٍ عليه حين أُخرج من ظهر آدم، فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمَ الدنيا في الأطفال: «أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»، يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن _________ (1) أُعلِم عليها بالحمرة، ولم أتبيَّن المراد، ولعلها إشارة إلى استشكال الناسخ لها أو إلى عدم وجودها في نسخة أخرى. (2) أي: إسحاق احتجاجًا لقوله. (3) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الغلام الذي قتله الخضر طبعه اللهُ يوم طبعه كافرًا». هذا لفظ إسحاق بإسناده، كما في «التمهيد» (18/ 86). وقد أخرجه مسلم (2661) بنحوه، وقد سبق غير مرة.

(2/169)


كان صغيرًا بين أبوين كافرَين أُلحِق بحكم الكفَّار، ومن كان صغيرًا بين أبوين (1) مسلمَين أُلحِق بحكم الإسلام. وأمَّا إيمان ذلك وكفرُه ممَّا يصير إليه فعِلْم ذلك إلى الله. وإنَّما فضَّل الله الخضرَ في علمه بهذا على موسى ــ لمَّا أخبره بالفطرة التي فطره عليها ــ ليزداد موسى يقينًا وعلمًا بأنَّ مِن عِلم [الله] (2) ما لا يعلمه نبي ولا غيره، إلا قدْرَ ما علَّمهم (3). فصار الحكم على ما كان عند موسى، وما بطَنَ من علم الخضر كان الخضر مخصوصًا به. فإذا رأيتَ الصغير بين أبوين مسلمَين حكمتَ له بحكم الإسلام في المواريث والصلاة وكلِّ أحكام المسلمين، ولم تَعْتَدَّ بفعل الخضر، وذلك لأنَّه كان مخصوصًا بذلك لِما علَّمه الله من العلم الخفي، فانتهى إلى أمر الله في قتله (4). ولقد سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الوِلدان أفي الجنة هم ــ يعني: ولدان المسلمين والمشركين ــ؟ فقال: حسبُك ما اختصم فيه موسى والخضر (5). _________ (1) «كافرين ... أبوين» سقط من المطبوع لانتقال النظر. (2) زيادة مقترحة لإقامة السياق، وقدَّرها صبحي الصالح: [الخضر]، ثم أضاف الاسم المعظم بعدُ: «إلا قدر ما علَّمهم [الله]». (3) ليس في «التمهيد» (18/ 87) و «الدرء» (8/ 416) من هذه الفقرة إلا قوله: «وبعلم ذلك فَضَلَ الخضرُ موسى، إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصَّه بذلك العلم». (4) لم ترد هذه الفقرة في «التمهيد» و «الدرء». (5) أخرجه إسحاق في «مسنده» (2548 - ط. دار التأصيل) والحاكم (2/ 370) ــ وعنه البيهقي في «القضاء والقدر» (643) ــ بإسناد صحيح. وعزاه في «الدر المنثور» (9/ 612) إلى ابن أبي حاتم أيضًا.

(2/170)


وهو تفسير ما اقتصصنا مِن قبلُ مِن علم الله وحكمِ الناس أنَّهما مختلفان (1)، ألا ترى أنَّ عائشة - رضي الله عنها - حين قالت لمَّا مات صبيٌّ من الأنصار بين أبوين مسلمين: طوبى له، عصفورٌ من عصافير الجنة! فردَّ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مه يا عائشة! وما يدريكِ؟ إنَّ الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا (2)» (3). قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم. قال شيخنا (4): وما ذكرَتْه هذه الطائفةُ أنَّ المعنى أنَّ الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار، إن أرادوا به أنَّ الله سبق في علمه وقدَرِه بأنَّهم سيؤمنون ويكفرون، ويعرفون وينكرون، وأنَّ ذلك كان بمشيئة الله وقدَرِه وخلقه= فهذا حقٌّ لا يرُدُّه إلا القدرية. وإن أرادوا أنَّ هذه المعرفة والنكرة كانت موجودةً حين أخذ الميثاق، فهذا يتضمَّن شيئَين: أحدهما: أنَّ المعرفة كانت موجودةً فيهم كما قال ذلك كثيرٌ من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه. فهذا إن كان حقًّا، فهو توكيدٌ لكونهم وُلِدوا على تلك المعرفة والإقرار. وهذا لا يُخالِف ما دلَّت عليه الأحاديث _________ (1) «وهو تفسير ... مختلفان» ليس في «التمهيد» ولا «الدرء»، ولفظ «الدرء»: «قال إسحاق: ألا ترى ... ». (2) «وخلق النار وخلق لها أهلا» سقط من المطبوع. (3) أخرجه مسلم (2662) بنحوه، واللفظ لابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 88). (4) في «درء التعارض» (8/ 421).

(2/171)


الصحيحة من أنَّهم يُولَدون على الملة، وأنَّ الله خلقهم حنفاء، بل هو مؤيِّدٌ لها. وأمَّا قوله: إنَّهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائعٍ وكافرٍ، فهذا لم يُنقَل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السُّدِّي في «تفسيره» (1): لمَّا أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريةً بيضاء مثلَ اللؤلؤ كهيئة الذَّرِّ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح [صفحة] (2) ظهره اليسرى، فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذرِّ، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، وذلك قوله: {وَأَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} [الواقعة: 28]، {وَأَصْحَابُ اُلشِّمَالِ} [الواقعة: 43]. ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التقيَّة، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}، فليس أحدٌ من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنَّه ربُّه، وذلك قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150]، يعني يومَ أخذ الميثاق. قال شيخنا (3): فهذا الأثر إن كان حقًّا ففيه أنَّ كلَّ ولدِ آدمَ يعرف الله، _________ (1) أخرجه الطبري (10/ 560 - 561) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 85) ــ وابن تيمية صادر عنه ــ من طريق أسباط عن السدي به. (2) سقطت من الأصل. (3) «درء التعارض» (18/ 423).

(2/172)


فإذا كانوا وُلِدوا على هذه الفطرة فقد وُلِدوا على هذه المعرفة، ولكن فيه أنَّ بعضهم أقرَّ كارهًا مع المعرفة بمنزلة الذي يَعرِف الحقَّ لغيره ولا يُقِرُّ به إلا مُكرَهًا. وهذا لا يقدَح في كون المعرفة فطريةً، مع أنَّ هذا لم يبلُغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يُوثَق به، فإنَّه في تفسير السُّدِّي، وفيه أشياء قد عُرِف بطلان بعضها. وهذا هو السُّدِّي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، وهو ثقةٌ في نفسه. وأحسن أحوال هذه الأشياء أن تكون كالمراسيل إن كانت أُخِذَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذٌ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرًا، وقد عُرف أنَّ فيها شيئًا كثيرًا ممَّا يُعلَم أنَّه باطلٌ؟ ولو لم يكن في هذا إلا معارضتُه لسائر الأحاديث التي تقتضي التسوية بين جميع الناس في ذلك الإقرار (1). وأمَّا قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، إنَّما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقُلْ سبحانه: إنَّهم حين العهد الأول أسلموا طوعًا وكرهًا. يدلُّ على ذلك أنَّ ذلك الإقرار الأول جعله الله تعالى حُجَّةً عليهم عِند مَن يُثبِته، ولو كان فيهم مكرَهٌ لقال: لم أقُلْ ذلك طوعًا بل كرهًا، فلا تقوم به عليه حجةٌ. قلت: وكذلك قوله (2): «إنَّهم أقرُّوا على وجه التَقيَّة» كلامٌ باطلٌ قطعًا، فإنَّ التقيَّة: أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتِّقاء مكروهٍ يقع به لو لم يتكلَّم بالتقيَّة، وهم لم يكونوا يعتقدون أنَّ لهم ربًّا غير الله حتى يقولوا تقيةً: أنت _________ (1) جواب «لو» محذوف لدلالة السياق عليه، أي: لكفى ذلك دليلًا على عدم صحته. (2) أي: قول السدِّي في الأثر المذكور.

(2/173)


ربُّنا، بل هم في حال كفرهم الحقيقي وعنادهم وتكذيبهم للرسل مُقِرُّون بأنَّ الله ربُّهم. وقد عرَضَ لهم ما غيَّر تلك الفطرة التي فُطروا عليها، فكانوا مع ذلك مُقِرِّين بأنَّه ربُّهم طوعًا واختيارًا لا تقيَّةً، فكيف يقولون ذلك تقيَّةً في الحال التي لم يعرِض لهم فيها شيء من أسباب الشرك، ولا كان هناك شياطين تُضِلُّهم؟ فهذا ممَّا يُعلَم بطلانُ تفسير الآية به قطعًا بلا توقُّفٍ. وكذلك قوله: «فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا}»، هذا خطأ (1) قطعًا، بل هو من تمام كلامهم وأنَّهم قالوا: {بَلَى شَهِدْنَا}، أي: أقررنا، كما قال الرسل لما أخذ عليهم الميثاق في قوله: {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ آاقْرَرْتُمْ وَأَخَذتُّمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 80]. وكأنَّ قائل هذا القول ظنَّ أنَّ قوله: {أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} تعليل (2) لقوله: {شَهِدْنَا}، وذلك لا يلتئم علةً له، فقال: «قوله: {شَهِدْنَا} يقوله الله والملائكة»، أي: شهدنا عليهم لئلَّا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. ولكن ذلك تعليلٌ لأخذهم وإشهادهم على أنفسهم، أي: أشهدهم على أنفسهم فشهدوا لئلَّا يقولوا يوم القيامة ذلك. ليس المعنى: شهدنا لئلَّا يقولوا، ولكن: أشهَدَهم فشهدوا (3) لئلَّا يقولوا. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «خطاب»، خطأ. (2) في الأصل: «تعليلًا» على توهُّم أن السياق: «ظن قولَه». (3) «فشهدوا» ساقط من المطبوع.

(2/174)


يوضِّحه: أنَّ شهادتهم على أنفسهم هي المانعة من قولهم ذلك يوم القيامة، لا شهادة الله وملائكته عليهم. ولهذا يجحد العبدُ يومَ القيامة شِركه وفجوره مع شهادة الله وملائكته عليه بذلك، فيقول: لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا (1) منِّي ــ ولا يُقيم الله الحجة عليه (2) ــ فشهادته: حين تشهد عليه نفسه وتشهد عليه جوارحه، قال تعالى: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 64]. وهذا غاية العدل وإزالة شبه الخصوم من جميع الوجوه. وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150]، إنَّما معناه: لو شاء لوفَّقكم لتصديق رسله واتباع ما جاؤوا به، كما قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي اِلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدَى} [الأنعام: 36]. نعم، لو شاء في تقديره السابق لقدَّر إيمانهم جميعًا، فجاء الأمر كما قدَّره. قال شيخنا (3): وأمَّا احتجاج إسحاق بقول أبي هريرة - رضي الله عنه -: اقرؤوا _________ (1) في الأصل: «شهادًا»، تصحيف. والمثبت لفظ حديث أنس عند مسلم (2969). ويحتمل أن يكون صوابه: «شهادةً»، كما في المطبوع. (2) كذا العبارة في الأصل، ولعل فيها تصحيفًا. والمراد: أنه يظن أن الله لن يقيم الحجة عليه بهذا الشرط (أن يكون الشاهد منه). أو المعنى: أنه لا يرى أن بشهادة الله تقوم الحجة عليه. (3) «درء التعارض» (8/ 424).

(2/175)


إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، قال إسحاق: يقول: لا تبديل للخِلقة التي جبل عليها؛ فهذه الآية فيها قولان: أحدهما: أن معناها النهي، أي: لا تُبدِّلوا دين الله الذي فطر عليه عباده. وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره كالثعلبي والزمخشري (1)، واختيار ابن جرير (2). والثاني: ما قاله إسحاق: أنَّها خبرٌ على ظاهرها، وأنَّ خلق الله لا يبدِّله أحدٌ، وهذا أصحُّ. وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا يُبدَّل (3)، فلا يُخلَقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط. والمعنى: أن الخلق لا يتبدَّل، فيُخلقوا على غير الفطرة. ولم يُرِد بذلك أنَّ الفطرة لا تتغيَّر بعد الخلق، بل نفس الحديث يبيِّن أنَّها تتغيَّر، ولهذا شبَّهها بالبهيمة التي تُولَد جمعاء ثم تُجدَع، ولا تُولَد قط بهيمةٌ مخصيَّةً ولا مجدوعةً، وقد قال تعالى عن الشيطان: {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} [النساء: 118]، فالله تعالى أَقدَرَ الخلقَ على أن يغيِّروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته. وأمَّا تبديل الخلق بأن يُخلَقوا على غير تلك الفطرة، فهذا لا يقدر عليه _________ (1) «الكشف والبيان» (21/ 151) و «الكشاف» (12/ 245 - فتوح الغيب). (2) «تفسير الطبري» (18/ 494). (3) في الأصل: «لا تبديل». والتصحيح من «الدرء».

(2/176)


إلا الله، واللهُ لا يفعله، كما قال: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}. ولم يقُل: لا تغيير، فإنَّ تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، فلا يكون خلقٌ بدل هذا الخلق، ولكن إذا غُيِّر بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الوِلادة قد حصل بَدَلُه. وأمَّا قوله: «لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها ولدُ آدم كلُّهم من كفر وإيمان»، فإن عنى بها أنَّ ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، فهذا حقٌّ. ولكن ذلك لا يقتضي أنَّ تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنعٌ، ولا أنَّه غير مقدورٍ، بل العبد قادرٌ على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهى الله عنه من الكفر، وعلى أن يُبدِّل حسناتِه بالسيئات، وسيئاته بالتوبة، كما قال: {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النمل: 11]، وقال: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اُللَّهُ سَيِّآتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. وهذا التبديل كلُّه بقضاء الله وقدَره. وهذا بخلاف ما فُطِروا عليه حين الولادة، فإنَّ ذلك خلق الله الذي لا يَقدِر على تبديله غيرُه، وهو سبحانه لا يبدِّله قط، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس، فإنَّه يبدِّله والعبد قادرٌ على تبديله بإقدار الله له على ذلك. وممَّا يبيِّن ذلك أنَّه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، [فهذه فطرة محمودة أَمَر الله بها نبيه، فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أَمْرِ الله تعالى بها؟! وقد تقدَّم تفسير السلف: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}] (1) بأنَّه دين الله، _________ (1) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر. واستُدرك من «درء التعارض» (8/ 426) باللفظ الذي نقله به المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 430)، وفيه اختصار يسير.

(2/177)


ومنهم مَن فسره بأنَّه تبديل الخلقة بالخصاء ونحوه، ولم يقل أحد منهم إنَّ المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمانٍ إلى كفرٍ، ولا من كفرٍ إلى إيمانٍ؛ إذ تبديل ذلك موجود، وما وقع فهو الذي سبق به القدَر، والله عالمٌ بما سيكون، لا يقع خلاف معلومه، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي عَلِمه، وإن لم يقع كان عالمًا بأنَّه لا يقع. وأمَّا قوله: «إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يومَ طُبِع كافرًا»، فالمراد به: كُتِب وخُتِم، ولفظ «الطبع» لمَّا كان يستعمله كثيرٌ من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجِبِلَّة والخليقة ظنَّ الظَّانُّ أنَّ هذا مراد الحديث. وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنَّه كان بالغًا مكلَّفًا (1) وسُمِّي غلامًا لقرب عهده بالبلوغ، وعلى هذا فلا إشكال فيه. ويحتمل أن يكون مميِّزًا عاقلًا وإن لم يكن بالغًا، وعليه يدل الحديث، وهو قوله: «ولو أدرك لأرهق أبويه» (2)، وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلَّفًا في تلك الشريعة إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنَّما عُلِم بشريعتنا، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلًا، كيف وقد قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ المميِّزين مكلَّفون بالإيمان قبل الاحتلام؟ كما قاله طائفةٌ من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو _________ (1) في المطبوع: «مطلقًا»، تحريف. (2) وهو تتمة حديث أُبيٍّ السابق.

(2/178)


اختيار أبي الخطاب (1)، وعليه جماعةٌ من أهل الكلام. وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلامُ مكلَّفًا بالإيمان قبل البلوغ. ولو لم يكن مكلَّفًا، فكُفر الصبيِّ المميِّز معتبرٌ عند أكثر العلماء، فإذا ارتدَّ عندهم صار مرتدًّا له أحكام المرتدِّين، وإن كان لا يُقتَل حتى يَبلُغ فيثبت عليه (2) كفره. واتفقوا على أنَّه يُضرَب ويُؤدَّب على كفره أعظمَ ممَّا يُؤدَّب على ترك الصلاة. فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغًا فلا إشكال، وإن كان مراهقًا غير بالغٍ فقتله جائزٌ في تلك الشريعة، لأنَّه قتله بأمر الله. كيف وهو إنَّما قتله دفعًا لصوله على أبويه في الدين؟ كما قال: {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]. والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله إلا بقتله (3) جاز قتله. بل الصبي إذا قاتل المسلمين قُتِل. ولكن مِن أين يُعلَم أنَّ هذا الصبي اليوم يصول على أبويه أو غيرهما في دينهما حتى يَفتِنَهما عنه؟ فإنَّ هذا غيبٌ لا سبيلَ لنا إلى العلم به. ولهذا علَّق ابن عباس الفُتيا به فقال لنَجْدة (4) لمَّا استفتاه في قتل الغلمان: إنْ علِمتَ منهم ما علم الخَضِر من ذلك الغلام فاقْتُلْهم، وإلا فلا. رواه مسلم في _________ (1) لم أقف عليه في كتب أبي الخطاب. (2) في هامش الأصل: «على». (3) في الأصل: «لا اسام»، غير محرَّر. والمثبت من هامشه. (4) في هامش الأصل: «اغده»، غير محرر. ونجدة بن عامر الحروري من الخوارج.

(2/179)


«صحيحه» (1). ولكن يقال: قاعدة الشرع والجزاء أنَّ الله سبحانه لا يُعاقِب العِباد بما سيعلم أنَّهم يفعلونه، بل لا يُعاقِبهم إلا بعدَ فِعلهم ما يعلمون أنَّه نهى عنه وتقدَّم إليهم بالوعيد على فعله. وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنَّما فيها عِلمه بأسبابٍ تقتضي أحكامها، ولم يعلم موسى تلك الأسباب، مثل علمه بأنَّ السفينة كانت لمساكين، وأنَّ وراءهم ملكًا ظالمًا (2) إن رآها أخذها. فكان قلْعُ لوحٍ منها لتَسلَم جميعُها ثم يُعيده من أحسن الأحكام، وهو من دفع أعظم الشرَّين باحتمال أيسرهما. وعلى هذا، فإذا رأى إنسانٌ ظالمًا يستأصل مالَ مسلمٍ غائبٍ فدفعه عنه ببعضه كان محسنًا، ولم يلزمه ضمانُ ما دفعه إلى الظالم قطعًا، فإنَّه مُحسن وما على المحسنين من سبيل. وكذلك لو رأى حيوانًا مأكولًا لغيره يموت فذكَّاه لكان محسنًا ولم يلزمه ضمانه. وكذلك كون الجدار لغلامَين يتيمَين وأبوهما كان صالحًا أمرٌ يعلمه الناس، ولكن خفي على موسى. وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناسُ حتى أبواه، ولكن لحُبِّهما إياه لا يُنكِران عليه ولا يقبل منهما. وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجةٌ على أنَّه قَتل لِما يتوقع من كفره. ولو قُدِّر أنَّ ذلك الغلام لم يكفر أصلًا، ولكن سبق في علم الله أنَّه إذا بلغ _________ (1) برقم (1812/ 138 - 140). (2) في الأصل: «ملك ظالم».

(2/180)


يكفر، وأَطلع الله الخضرَ على ذلك، فقد يقول القائل: قَتْلُه بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لِما علم أنَّ آباءهم لا يلدوا (1) إلا فاجرًا كفارًا، فدعا عليهم بالهلاك العامِّ دفعًا لشرِّ أطفالهم في المستقبل. وقوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 29] لا ينافي كونهم مولودين على الفطرة الصحيحة، فإنَّ قوله: {فَاجِرًا كَفَّارًا} حالان مقدَّرتان، أي من سيفجر ويكفر. فصل (2) وأمَّا تفسيره (3) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أنه (4) أراد به مجرَّد الإلحاق في أحكام الدنيا دون تغيير الفطرة= فهذا خلاف ما دلَّ عليه الحديث، فإنَّه شبَّه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيهًا للتغيير بالتغيير. وأيضًا: فإنَّه ذكر هذا الحديث لما قتلوا أولادَ المشركين، ونهاهم عن قتلهم، وقال: «أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة» (5)، فلو أراد أنَّه تابعٌ لأبويه في الدنيا لكان هذا حجةً لهم، يقولون: _________ (1) كذا على الحكاية للفظ الآية. (2) انظر: «درء التعارض» (8/ 430) و «شفاء العليل» (2/ 434). (3) أي تفسير إسحاق بن راهويه، وقد سبق حكاية قوله (ص 169). (4) في هامش الأصل: «إن». (5) جزء من حديث الأسود بن سريع، وقد سبق (ص 114).

(2/181)


هم كفار كآبائهم فنقتلهم معهم. وكون الصغير يَتبَع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنَّه لابُدَّ له من مُربٍّ يُربِّيه، وإنَّما يُربِّيه أبواه، فكان تابعًا لهما ضرورةً. ولهذا إذا سُبِي منفردًا عنهما صار تابعًا لسابيه (1) عند جمهور العلماء، وإن سُبِي معهما أو مع أحدهما، أو ماتا أو أحدهما، ففيه نزاعٌ ذكرناه فيما مضى. واحتج الفقهاء والأئمة بهذا الحديث، ووجه الحجة منه: أنَّه إذا وُلِد على المِلَّة فإنَّما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيِّرانه عن (2) الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردًا عنهما لم يكن هناك من يغيِّر دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلمًا بالمقتضي السالم عن المعارض. ولو كان الأبوان يجعلانه كافرًا في نفس الأمر بدون تعليمٍ وتلقينٍ لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر، ومعلومٌ أنَّ الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يَصِر مسلمًا؛ لأنَّه صار كافرًا حقيقةً. فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرًا حقيقةً لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعُلِم أنَّه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعًا لأبويه، لا لأنَّه صار كافرًا في نفس الأمر. يبيِّن ذلك: أنَّه لو سباه كفارٌ ولم يكن معه أبواه لم يَصِر مسلمًا، فهو هنا كافرٌ في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوَّداه ونصَّراه ومجَّساه. فعلم أنَّ المراد بالحديث أنَّ الأبوين يلقِّنانه الكفرَ ويعلِّمانه إيَّاه. وذَكَر _________ (1) في الأصل: «لهما»، خطأ. والتصحيح من «الدرء»، وقد سبقت المسألة مفصَّلةً، وتأتي أيضًا في الفقرة الآتية. (2) في الأصل: «على»، خطأ.

(2/182)


الأبوين لأنَّهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإنَّ كلَّ طفلٍ فلا بدَّ له من أبوين، وهما اللذان يربِّيانه مع بقائهما وقدرتهما. ومما يبيِّن ذلك: قولُه في الحديث الآخر: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة حتى يُعرِب عنه لسانُه، فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا» (1)، فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميِّز، فحينئذ يَثبُت له أحد الأمرين. ولو كان كافرًا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يُولَد قبل أن يُعرِب عنه لسانُه. وكذلك قوله في حديث عياض بن حمارٍ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إنَّي خَلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانًا» (2) = صريحٌ في أنَّهم خُلِقوا على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اجتالتْهم وحرَّمتْ عليهم الحلال وأمرتْهم بالشرك. فلو كان الطفل يصير كافرًا في نفس الأمر من حينِ يُولَد، لكونه يتبع أبوَيه في الدِّين، قبل أن يعلِّمه أحدٌ الكفرَ ويلقِّنه إيَّاه= لم يكن الشياطين هم الذين غيَّروهم (3) عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حينِ وُلِدوا تبعًا لآبائهم. ومَنشَأ الاشتباه في هذه المسألة: اشتباهُ أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإنَّ أولاد الكفار لمَّا كانت تجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الوِلاية عليهم لآبائهم، وحضانةِ آبائهم لهم، وتمكينِ _________ (1) أخرجه أحمد (14805) من حديث جابر، وقد سبق. (2) أخرجه مسلم (2865)، وقد سبق. (3) في الأصل: «غيَّرهم»، خطأ.

(2/183)


آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثةِ بينهم وبين آبائهم، واسترقاقِهم إذا كان آباؤهم محاربين، وغير ذلك= صار يظُنُّ من يظُنُّ أنَّهم كفارٌ في نفس الأمر كالذي تكلَّم بالكفر وأراده وعمل به. ومن هنا قال مَن قال: إنَّ هذا الحديث كان قبل أن تنزل الأحكام، كما قاله محمد بن الحسن (1). وقد ردَّ عليه هذا القول غيرُ واحدٍ من الأئمة، فمنهم محمد بن نصر، قال في «كتاب الرد على ابن قتيبة» (2): وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن الحسن أنَّه سأله عن تفسير «كل مولودٍ يولد على الفطرة»، فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر بالجهاد= فإنَّ هذا رجلٌ سُئِل عمَّا لم يُحسِنْه، فلم يدرِ ما يجيب فيه، وأَنِف أن يقول: لا أدري، فأجابه عن غير ما سأله عنه، فادَّعى أنَّه منسوخٌ، وإنَّما سأله أبو عبيد عن تفسير الحديث، ولم يسأله: أناسخٌ هو أو منسوخٌ؟ فكان الذي يجب عليه أن يفسِّر الحديثَ أولًا إن كان يُحسِن تفسيرًا، فيكون قد أجابه عمَّا سأله، ثم يخبر أنه منسوخٌ. والذي ادَّعاه في هذا أنَّه منسوخٌ غيرُ جائزٍ، لأنَّ مَن أخبر عن شيء ثم أخبر عنه بخلاف ذلك كان مُكذِّبًا لنفسه، وذلك غيرُ جائز على الله تعالى ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ مَن قال: سمعت كذا، أو رأيت كذا، ثم قال بعدُ: لم يكن ما أخبرت أنِّي سمعتُه ورأيتُه، أو أخبر أنَّ شيئًا سيكون، ثم أخبر أنَّه لا _________ (1) فيما نقله عنه أبو عُبيد في «غريبه»، وقد سبق (ص 104). وإلى هنا كان نقل المؤلف من «الدرء» (8/ 433)، وسيعود إليه بعد سياق ردِّ المروزي على محمد بن الحسن. (2) تقدم ذكره والنقل منه (ص 105 وما بعدها).

(2/184)


يكون= فقد أكذب نفسَه فيما أخبر، ودلَّ على أنَّه أخبر بما لا يعلمه، أو تعمَّد الكذب، أو قال بالظَّنِّ وكان جاهلًا ثمَّ رجع عن ظنِّه. ولا يُعلَم أحدٌ يجوِّز الناسخ في أخبار الله غير صنفٍ من الروافض يصفونه بالبداء، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فلم يزل الله سبحانه عالمًا بما يكون، ومريدًا لما علم أنَّه سيكون، لم يستحدث علمًا لم يكن، ولا إرادةً لم تكن. فإذا أخبر عن شيء أنه كائنٌ فغيرُ جائزٍ أن يخبر أبدًا عن ذلك الشيء أنَّه لا يكون، لأنَّه لم يخبر أنَّه كائنٌ إلا وقد عَلِم أنَّه كائنٌ وأراد أن يكون، وهو الفاعل لِما يريد، العالِم بعواقب الأمور، لا تبدو له البَدَوات، ولا تحُلُّ به الحوادث، ولا تعتقبه الزيادة والنقصان. فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولودٍ يولد على الفطرة» خبرٌ منه عن كل مولودٍ أنَّه يُولَد على الفطرة، فغير جائز أن يخبر أبدًا بخلاف ذلك فيقول: إنَّ كل مولودٍ يولد على غير الفطرة. قال: وتفسير الحديث يدلُّ على خلاف ما قال ابن الحسن؛ قال الأسود بن سريع: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتل الناس يومئذٍ حتى قتلوا (1) الذرية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولودٍ يولد على الفطرة»، فأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوةٍ: «كل مولودٍ يولد على الفطرة»، فأبان أنَّ هذا القول كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأمر بالجهاد، وزعم محمد بن الحسن أنَّ هذا القول كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد، فخالف الخبر. والراوي لهذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة والأسود بن سريعٍ وسمرة (2). _________ (1) في المطبوع: «قُتلت». (2) سبق تخريجها.

(2/185)


وكلُّ هؤلاء لم يُدرِك أوَّل الإسلام؛ أسلم أبو هريرة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوٍ من ثلاث سنين أو أربع، وكذلك الأسود بن سريعٍ وسَمُرة لم يدركا (1) أول الإسلام، فقوله: كان هذا في أوَّل الإسلام باطلٌ. انتهى كلامه. قال شيخنا (2): فإذا عُرِف أنَّ كونهم وُلِدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة. قال: وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمنٌ في الباطن يَكتُم إيمانَه فيَقتُله المسلمون، ولا يُصلُّون عليه، ويُدفَن في مقابر الكفار وتربة الكفار، وهو في الآخرة من أهل الجنة. كما أنَّ المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فحكم الدار الآخرة غير حكم دار الدنيا. وقوله: «كل مولودٍ يولد على الفطرة» إنَّما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خُلِقوا عليها، وعليها الثواب في الآخرة إذا عمل بمُوجَبها وسَلِمت عن المعارض. لم يُرِد به الإخبار بأحكام الدنيا، فإنَّه قد عُلِم بالاضطرار من شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أولاد الكفار يكونون تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا، وأنَّ أولادهم لا يُنزَعون منهم إذا كان للآباء ذِمَّةٌ، وإن كانوا محاربين استُرِقَّت أولادهم، ولم يكونوا كأولاد المسلمين. ولا نِزاع بين المسلمين أنَّ أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم، لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما: هل يُحكم بإسلامه؟ _________ (1) في الأصل: «يدرك»، ولعل المثبت أشبه. (2) في «الدرء» (8/ 433).

(2/186)


قلت: وفيه عن أحمد ثلاث روايات منصوصات (1): إحداها: أنَّه يصير مسلمًا، واحتجَّ بالحديث. والثانية: لا يصير بذلك مسلمًا، وهي قول الجمهور، واختيار شيخنا. والثالثة: إنْ كَفَله المسلمون كان مسلمًا، وإلا فلا. وهي الرواية التي اخترناها، وذكرنا لفظ أحمد ونصَّه فيها (2). واحتجَّ شيخنا على أنَّه لا يُحكم بإسلامه بأنَّه إجماعٌ قديمٌ من السلف والخلف. قال: وهو ثابتٌ بالسنة التي لا ريب فيها، فقد عُلِم أنَّ أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، وأرض اليمن، وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولدٌ صغيرٌ، ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام يتامى أهل الذمة. وكذلك خلفاؤه، كان أهل الذمة في زمانهم طَبَق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان، وفيهم مِن يتامى أهل الذمة عددٌ كثيرٌ، ولم يحكموا بإسلام أحدٍ منهم، فإنَّ عقد الذِّمَّة اقتضى أن يتولى بعضُهم بعضًا، فهم يتولَّون حَضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولَّون (3) حضانة أولادهما. وأحمد يقول: إنَّ الذمي إذا مات ورثه ابنُه الطفل، مع قوله: إنَّه يصير مسلمًا، لأنَّ أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم، ولأنَّ الإسلام حصل مع _________ (1) تقدَّمت (ص 86 - 94) من «جامع الخلال». وقد ذكر شيخ الإسلام في «الدرء» (8/ 434) الروايتين الأوليين دون الثالثة. (2) انظر: (ص 101). (3) في المطبوع: «يتوليان». والمثبت من الأصل موافق لمصدر النقل.

(2/187)


استحقاق الإرث ولم يحصل قبله. قال في «المحرر» (1): «ويرث من (2) جعلناه مسلمًا بموته، حتى لو تُصُوِّر موتُهما ــ يعني الأبوين ــ معًا لوَرِثهما». نصَّ عليه في رواية أبي طالب (3)، ولفظ النصِّ في يهودي أو نصراني مات وله ولدٌ صغيرٌ فهو مسلم، إذا مات أبواه وَرِث أبويه. وفيه رواية مخرجةٌ: أنه لا يرث، لأنَّ المانع من الميراث ــ وهو اختلاف الدين ــ قارن سببُه الحكمَ وهو الموت. قال شيخنا (4): هذا مبني على أصلٍ: وهو أنَّ الأهلية والمحلية هل يشترط تقدُّمهما على الحكم، أو تكفي مقارنتهما؟ فيها قولان في المذهب أشهرهما الثاني، والأول مذهب الشافعي. وهنا اختلاف الدين مانعٌ، فهل يشترط في كونه مانعًا ثبوتُه قبل الحكم، أو تكفي المقارنة؟ فهنا قد اشترط التقدُّم، كما ذَكر في كتاب البيوع فيما إذا باع عبدَه شيئًا وكاتَبَه (5) في صفقةٍ واحدةٍ أنَّه يصح البيع (6)، وفي الكتابة وجهان اتباعًا لأبي الخطاب والقاضي _________ (1) (2/ 169). وهذا النقل ليس من «الدرء». (2) في مطبوعة «المحرر»: «ممن»، والأمر قريب فـ «من» هنا مفعول به، أي: يرث الطفلُ الأبوين اللذين جعلناه مسلمًا بموتهما. (3) كما في «جامع الخلال» (1/ 89)، وقد سبقت بتمام نصِّها (ص 94). (4) لم أجده في كتبه المطبوعة، ولعل ذلك من شرحه على «المحرر». (5) في الأصل: «أو كاتبه»، خطأ. (6) في «المحرر» (1/ 309): «بطل البيع». وفي «الإنصاف» (11/ 162): «بطل البيع، وهو الصحيح من المذهب ... وقيل: الصحة منصوص أحمد. واختاره القاضى، وابن عقيل فى النكاح، وأبو الخطاب».

(2/188)


في «المجرد»، والصحيح: صحة الكتابة كما قال في «الجامع الكبير» وغيره، فإنَّ المانع أقوى، فإنَّ ثبوت الحكم في حال وجود مانعه بعيدٌ، إلا أن يقال: إنَّ مِن أصل أحمد أنَّه لو أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة استحق الميراث، فكيف يجعل الإسلام مانعًا وهو لو أسلم بعد موت قريبه الكافر لم يمنع الميراث، ولأنَّ الولاء بين الأب وابنه كانت ثابتةً إلى حين الموت، وما يحدث بعد الموت لا عبرة به. قال القاضي في ضمن المسألة: واحتُجَّ بعين المُنازَع فيه بأن الحكم بإسلامه يوجب توريث المسلم من الكافر، لأنَّ عندكم أنه يرث الميت منهما. وهذا لا يجوز لأنَّ ثبوت الميراث واختلاف الدين أوجبهما (1) الموت، فهما يلتقيان في زمانٍ واحدٍ، فلا يصح اجتماعهما، كما لو قال لعبده: إذا مات أبوك فأنت حرٌّ، فلمَّا اجتمع الميراث والحرية في زمانٍ واحدٍ ــ وهو ما بعد الموت ــ لم يرث، كذلك هاهنا. قال: والجواب أنَّ هذا يَبطُل بالوصية لأمِّ ولده، فإنَّ الوصية تستحقُّ بالموت، والحرية التي بها تصحُّ الوصية تستحقُّ أيضًا بالموت (2)، ومع هذا فإنَّهما تجتمعان، فتحصل الحرية وتصح بالوصية. قال: وجوابٌ آخر: وهو أنَّه وإن كانا يلتقيان في زمانٍ واحدٍ إلا أنَّ حقَّه _________ (1) في المطبوع: «أوجبه»، خلاف الأصل. (2) «والحرية ... بالموت» سقط من المطبوع.

(2/189)


ثابتٌ في ماله إلى حين الوفاة، واختلاف الدين ليس معين (1) من جهة الوارث، فلا يسقط حقُّه من الميراث، كالطلاق في المرض. ويفارق العبدَ لأنَّه لا حقَّ له في الميراث، فلهذا إذا التقيا بعد الموت لم يرث. وجوابٌ آخر: أنَّه لا يمتنع أن يحصل الميراث قبل اختلاف الدين، كما قال الجميع في رجلٍ مات وترك ابنين وألفَ درهمٍ وعليه دَينٌ ألفُ درهمٍ: إنهما لا يرثان الألف، ولو مات أحد الابنين وترك ابنًا، ثم أبرأ الغريمُ، أخذ ابنُ الميت حِصَّتَه بميراثه عن أبيه، وإن لم يكن مالكًا له حين الموت، لكن جعل في حكم من كان مالكًا لتقدُّم سببه. قال شيخنا: أمَّا مسألة الحرية، فإنَّها تصلح أن تكون حجةً للقاضي لا حجةً عليه، لأنَّ الحرية شرطٌ كما أنَّ الكفر مانعٌ، وكما أنَّ مقارنة الشرط لا تؤثِّر ولا تفيد فيها، فكذلك مقارنة المانع. وهكذا كان القاضي قد نقض عليهم بهذه الصورة؛ أولًا ذكرها في جوابه، وهذا جيدٌ. ثم ذكرها في حجتهم مع أنَّ هذه الصورة فيها نظر، فإنَّ [الحرية] (2) حدثَتْ قبل انتقال الإرث إلى غيره. قلت: وهذا من أصحِّ شيء، لأنَّ النسب علة الإرث، ولكن منع من إعمال النسب مانعُ الرق، ثم زال المانع قبل انتقال الإرث إلى غير الولد، فلو _________ (1) كذا في الأصل، أخشى أن يكون فيه تصحيف. (2) بياض في الأصل مقدار كلمة، وقدَّرها صبحي الصالح: «مقارنة المانع»، ولا يصح. والمثبت يؤيده قول المؤلف الآتي: « ... مانع الرق، ثم زال المانع قبل انتقال الإرث إلى غير الولد».

(2/190)


مَنَعناه الإرثَ لعطَّلنا إعمال النسب في مقتضاه مع أنَّه لا مانعَ له حين اقتضائه، فإنَّ النسب (1) اقتضى حُكمَه بالموت، وهو في هذه الحال لا مانعَ له، وهذا ظاهرٌ جدًّا. قال القاضي: فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال وجعفر بن محمد (2) ــ واللفظ له ــ في نصراني مات، وله امرأةٌ نصرانيةٌ حُبلى، فأسلمَت بعد موته ثم وَلدَت: لا يرث الولد، إنَّما مات أبوه وهو لا يُعلَم ما هو، وإنما يرِث في الولادة، ويحكم [له بحكم] (3) بالإسلام. فظاهرُ هذا أنَّه حَكَم بإسلامه، ولم يَحكم بالميراث. قيل: يحتمل أن يُخرَّج من هذا روايةٌ: أنَّا نحكم بإسلامه ولا نحكم له بالميراث، وهو القياس لئلَّا يرث مسلم من كافرٍ. ويحتمل أن يفرَّق بينهما، فإذا مات أحدهما ــ وهو مولودٌ ــ حُكم بإسلامه ووَرِثه، وإن كان حملًا حكم بإسلامه ولم يرثه. وهو ظاهر تعليل أحمد، لأنَّه قال: «إنَّما مات أبوه وهو لا يُعلَم ما هو»، لأنَّه إذا أسلمت الأمُّ فالمانع قويٌّ لأنَّه مُجمَعٌ عليه، وإذا مات الأب فهو ضعيف لأنه مختلفٌ فيه. قلت: هذه الرواية لا تُعارِض نصَّه على الميراث في المسألة المتقدمة، لأنَّ الميراث إنَّما يثبت بالوضع، والإسلام قد تقدَّم عليه، وأنَّه ثبت له حكم الإسلام بسببين: متفقٍ عليه، ومختلفٍ فيه، وكلاهما سابقٌ على سبب _________ (1) في الأصل: «السبب»، ولعل المثبت أولى. (2) أسندهما الخلال في «الجامع» (2/ 407). (3) من «الجامع»، ولعله سقط لانتقال النظر.

(2/191)


الإرث، فوُجِد سببُ الإرث بعد سَبْق الإسلام. وفي مسألتنا وُجِد الإرث والإسلام معًا لاتِّحاد سببهما. والله أعلم. قلت: ما ذكره شيخنا (1) إنَّما يدل على أنَّ الطفل إذا كفَلَه أقاربُه من أهل الذِّمَّة فهو على دينهم، ولا يدلُّ على أنَّه لا نحكم بإسلامه إذا كفَلَه المسلمون. فصل وأمَّا قول إسحاق: إنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأعراف: 172] أنَّها الأرواح قبل الأجساد، فإسحاق ــ رحمه الله تعالى ــ قال بما بلغه، وانتهى إلى علمه، وليس ذلك بإجماع، فقد اختلف الناس: هل خُلِقت الأرواح قبل الأجساد (2) أو معها؟ على قولين حكاهما شيخنا (3) وغيره. وهل معنى الآية: أخذُ الذرية بعضهم من بعضٍ وإشهادُهم بما فطرهم عليه، أو إخراجهم من ظهر آدم واستنطاقهم؟ على قولين مشهورين. والذين قالوا: إنَّ الأرواح خُلِقت قبل الأجساد ليس معهم نصٌّ من _________ (1) مما سبق (ص 61) من أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وغيرها، وكان فيهم من يموت وله ولدٌ صغيرٌ، ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام يتامى أهل الذمة، ولا خلفاؤه من بعده. (2) في المطبوع: «الأجساد قبل الأرواح»، وهو مقتضى ما في هامش الأصل. والمثبت من متنه هو الصواب. (3) انظر: «درء التعارض» (8/ 422).

(2/192)


كتاب الله ولا سنَّة رسوله، وغاية ما معهم قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، وقد عُلِم أنَّها لا تدلُّ على ذلك. وأمَّا الأحاديث التي فيها أنَّه أخرجهم مثل الذَّرِّ، فهذا هل هو أشباحهم أو أمثالهم؟ فيه قولان، وليس فيها صريحٌ بأنَّها أرواحهم. والذي دلَّ عليه القرآن والسنة والاعتبار: أنَّ الأرواح إنَّما خُلِقت مع الأجساد أو بعدها، فإنَّ الله سبحانه خَلَق جسدَ آدم قبل رُوحِه، فلمَّا سوَّاه وأَكمَل خَلْقَه نفخ فيه من رُوحه، فكان تعلُّق الروح به بعد خلق جسده (1). وكذلك سُنَّته سبحانه في خلق أولاده، كما دلَّ عليه حديث عبد الله بن مسعودٍ المتفق على صحته (2) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الرُّوح». وقد غلِط بعض الناس حيث ظَنَّ أنَّ نفخ الروح إرسالُ الروح وبعثُها إليه، وأنَّها كانت موجودةً قبل ذلك، ونفخُها تعلُّقُها به. وليس ذلك مراد الحديث، بل إذا تكامل خلقُ الجنين أرسل الله إليه المَلَك فنفخ فيه نفخةً، فتَحْدُث الرُّوحُ بتلك النفخة، فحينئذ حدثَتْ له الروحُ بواسطة النفخة. وكذلك كان خلق المسيح: أرسل الله الملكَ إلى أمِّه، فنفخ في فرجها نفخةً فحمَلَت بالمسيح، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا _________ (1) وقد بحث المؤلف هذه المسألة بالتفصيل في المسألة الثامنة عشرة من «كتاب الروح» (2/ 453 - 510). (2) البخاري (3208) ومسلم (2643)، وقد سبق غير مرة.

(2/193)


بَشَرًا سَوِيًّا (16) قَالَتْ إِنِّيَ أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (17) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِاَهَبَ (1) لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 - 19]. وهذا صريحٌ في إبطال قول من قال: إنَّ هذه الروح التي خاطبها هي روح المسيح (2)، فإنَّ روح المسيح إنَّما حدثَتْ من تلك النفخة التي نفخها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، وكيف يقول المسيح لأمِّه: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ (3) لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}؟ وكيف يكون قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 90] أي: مِن روح ولدها، فتكون روح المسيح هي النافخةَ لنفسها في بطن أمه؟! وهذا قول تَكثُر الدلائل على بطلانه، وإنَّما أشرنا إلى ذلك إشارةً. فصل وقالت طائفةٌ أخرى (4): لم يُرِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الفطرة هاهنا كفرًا ولا إيمانًا، ولا معرفة ولا إنكارًا. وإنَّما أراد أنَّ كلَّ مولود يُولَد على السلامة _________ (1) رسمه في الأصل: «ليهب» على لفظ قراءة أبي عمرو، وهي قراءة نافع ويعقوب أيضًا، فإنهم قرأوا بالياء على الغيبة، أي: ليهب لكِ اللهُ؛ ولكن المصاحف جميعها اتفقت على رسمها بالألف بعد اللام وإن كان قد قرئ بالياء في قراءات سبعية كما سبق. انظر: «مختصر التبيين لهجاء التنزيل» (4/ 828) و «النشر» (2/ 317). (2) هو قول أبي العالية كما سبق (ص 139 - 140). (3) كذا في الأصل هنا على قراءة الهمزة للمتكلم، خلافًا لقراءة أبي عمرو التي سبقت آنفًا. والظاهر أن المؤلف قصد هذه القراءة بعينها هنا لأنها تبيِّن ضعف هذا القول، إذ كيف يقول روح المسيح: {لأَهَب لك غلامًا زكيًّا}، فيكون الواهب هو الموهوب نفسه؟! (4) كما في «درء التعارض» (8/ 442) و «شفاء العليل» (2/ 441) نقلًا عن «التمهيد» (18/ 69).

(2/194)


خِلقةً وطَبعًا وبِنْيةً، وليس معه كفرٌ ولا إيمانٌ، ولا معرفة ولا إنكارٌ، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ. واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء (يعني: سالمةً)، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء (يعني: مقطوعة الأذن)؟» (1)، فمثَّل قلوب بني آدم بالبهائم، لأنَّها تولد كاملة الخلق لا يتبيَّن فيها نقصانٌ، ثم تُقطَع آذانها بعدُ وأنوفها، فيقال: هذه بحائر، وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفرٌ حينئذ ولا إيمانٌ، ولا معرفة ولا إنكارٌ، كالبهائم السالمة (2)، فلمَّا بلغوا استهوَتْهم الشياطين، فكفر أكثرُهم، وعصم الله أقلَّهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيءٍ من الكفر أو الإيمان في أوَّليَّة أمرهم ما انتقلوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، ويكفرون ثم يؤمنون. قالوا: ويستحيل أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا، لأنَّ الله أخرجه في حالٍ ما يفقهون (3) فيها شيئًا، قال تعالى: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فمن لم يعلم شيئًا استحال منه كفرٌ أو إيمانٌ، أو معرفة أو إنكارٌ. قال أبو عمر (4): هذا القول أصحُّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد _________ (1) سبق مرارًا. (2) في الأصل: «السائمة»، تصحيف. وقد سبق على الصواب آنفًا. (3) كتب فوقه في الأصل: «يفقه»، وعليه المطبوع. (4) في «التمهيد» (18/ 70)، والنقل من «الدرء» (8/ 443).

(2/195)


الولدان عليها، وذلك أنَّ الفطرة: السلامةُ والاستقامةُ، بدليل قوله في حديث عياض بن حمارٍ: «إنَّي خلقت عبادي حنفاء» (1) يعني على استقامةٍ وسلامةٍ، وكأنَّه ــ والله أعلم ــ أراد الذين خَلَصُوا من الآفات كلِّها والمعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية، إذ لم يعملوا بواحدةٍ منهما. ومن الحجة أيضًا في هذا: قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 14]، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. قال شيخ الإسلام (2): هذا القائل إن أراد بهذا أنَّهم خُلِقوا خَالِين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام= فهذا قول فاسد، لأنَّه حينئذ لا فرقَ بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب. فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يجعلانه مسلمًا ويهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه. فلمَّا ذكر أنَّ أبويه يكفِّرانه دون الإسلام عُلِم أنَّ حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر. وأيضًا: فإنَّه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامةٌ ولا عطبٌ، ولا استقامةٌ ولا زيغٌ، إذ نسبتُه إلى كلٍّ منهما نسبةٌ واحدةٌ، وليس هو بأحدهما _________ (1) أخرجه مسلم (2865)، وقد سبق غير مرة. (2) في «درء التعارض» (8/ 444).

(2/196)


أولى منه بالآخر، كما أنَّ الورق قبل الكتابة لا يثبت له حكمُ مدحٍ ولا حكم ذمٍّ، والتراب قبل أن يبنى مسجدًا أو كنيسةً لا يثبت له حكمُ واحدٍ منهما. وبالجملة: فكلُّ ما كان قابلًا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحِقَّ مدحًا ولا ذمًّا، والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها، فكيف لا تكون ممدوحةً؟! وأيضًا: فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبَّهها بالبهيمة المجتمعة الخَلْق، وشبَّه ما يَطرَأ عليها من الكفر بجَدْعِ الأنف والأذن، ومعلومٌ أنَّ كمال الخِلقة ممدوحٌ ونقصَها مذمومٌ، فكيف تكون قبل النقص لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟! فصل (1) وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفةٌ من الناس أنَّ المعنى أنَّهم وُلِدوا على الفطرة السليمة التي لو تُرِكت على صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الصحة= فهذا القول قد يقال: إنه لا يَرِد عليه ما يرد على الذي قبله، فإنَّ صاحبه يقول: في الفطرة قوةٌ تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن الصحيح قوةٌ يحبُّ بها (2) الأغذيةَ النافعة. وبهذا كانت محمودةً، وذُمَّ من أفسدها. لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية، هل هي كافيةٌ في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلةٍ _________ (1) الفصل من المؤلف، ولا يزال الكلام لشيخ الإسلام. (2) في الأصل: «لها»، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» (2/ 444).

(2/197)


تتعلَّمها من خارج؟ فإن كانت المعرفة تَقِف على أدلةٍ تتعلَّمها من خارج أمكن أن توجد تارةً، وتعدم أخرى. ثم ذلك السبب الخارج امتنع أن يكون مُوجِبًا للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون مُعرِّفًا ومُذكِّرًا، فعند ذلك إن وجب حصولُ المعرفة كانت المعرفة واجبةَ الحصول عند وجود تلك الأسباب، وإلَّا فلا. وحينئذٍ فلا يكون فيها إلا قبولُ المعرفة والإيمان إذا وَجَدتْ مَن يعلِّمها أسبابَ ذلك، و [معلوم أن فيها قبولَ الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلِّمها] (1) أسبابَ ضدِّه من التهويد والتنصير والتمجيس. وحينئذٍ فلا فرقَ فيها بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنَّما فيها قوةٌ قابلةٌ لكلٍّ منهما واستعدادٌ له، لكن يتوقَّف على المؤثِّر الفاعل من خارج. وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه، وبيَّنَّا أنَّه ليس في ذلك مدحٌ للفطرة. وإن كان فيها قوةٌ تقتضي المعرفة بنفسها ــ وإن لم يوجد من يعلِّمها أدلَّة المعرفة ــ لَزِم حصول المعرفة فيها بدون ما تسمعه (2) من أدلَّة المعرفة، سواءٌ قيل: إن المعرفة ضروريةٌ فيها، أو تحصل بأسبابٍ كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن تسمع كلامَ مستدلٍّ، فإنَّ النَّفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا تحتاج معه إلى كلام أحدٍ. فإن كان كلُّ مولود يُولَد على هذه الفطرة، لزم أن يكون المقتضي للمعرفة حاصلًا لكلِّ مولود، وهو المطلوب، والمقتضي التام يستلزم مقتضاه. _________ (1) ما بين الحاصرتين من «الدرء» (8/ 446)، وبه يستقيم المعنى. (2) في هامش الأصل: «تعرفه»، خلاف مصدر النقل.

(2/198)


فتبيَّن أنَّ أحد الأمرين لازمٌ: إمَّا كون الفطرة مستلزمةً للمعرفة، وإمَّا استواء الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها. وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكنٌ بلا ريبٍ؛ فإمَّا أن تكون هي مُوجِبةً مُستلزِمةً له، وإمَّا أن يكون مُمكِنًا (1) بالنسبة إليها ليس بواجبٍ لازمٍ لها. فإن كان الثاني لم يكن فرقٌ بين الكفر والإيمان، إذ كلاهما ممكنٌ بالنسبة إليها. فتبيَّن أنَّ المعرفة لازمةٌ لها واجبةٌ، إلا أن يُعارِضها مُعارِضٌ. فإن قيل: ليست موجِبةً مستلزمةً للمعرفة، ولكنَّها إليها أميل مع قبولها للنكرة. قيل: فحينئذٍ إذا لم تستلزم المعرفةَ، وُجِدت تارةً وعدمت أخرى، وهي وحدَها لا تُحصِّلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام في ذلك كالتهويد والتنصير والتمجيس. ومعلومٌ أنَّ هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض، لكن مع ذلك لمَّا لم تكن الفطرة مقتضيةً لشيء منها أضيفت إلى السبب. فإن لم تكن الفطرة مقتضيةً للإسلام صارت نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن يُذكَر كما ذُكِر ذلك. وهذا كما لو كانت لم تقتضِ الأكل (2) إلا بسببٍ منفصل (3). والنبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أي: الإيمان. وفي الأصل: «ممكنة»، خلاف مقتضى السباق واللحاق، وخلاف مصدر النقل. (2) في الأصل والمطبوع: «الأجل»، تصحيف. والتصحيح من هامش الأصل. (3) أي: ولكنه ليس كذلك، فإن الفطرة تقتضيه بنفسها. والسياق في «الدرء» (8/ 448): «وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتضِ الأكل عند الجوع مع القدرة عليه، لم يوجد الأكلُ إلا بسببٍ منفصل»، فيحتمل أن يكون المؤلف أثبته كذلك فسقط ما تحته خط من الناسخ لانتقال النظر. ويحتمل أنه اختصره كما هو المثبت، ويؤيده سياق المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 446).

(2/199)


شبَّه اللَّبَن بالفطرة لمَّا عُرِض عليه اللَّبَن والخمْر، واختار اللَّبَن، فقال له جبريل: «أصبتَ الفِطرةَ، ولو أخذتَ الخمرَ لَغَوَتْ أمَّتُك» (1). والطفل مفطورٌ على أنَّه يختار شُربَ اللبن بنفسه، فإذا تمكَّن من الثدي لزم أن يرتضع لا مَحالة، فارتضاعه ضَروري إذ لم يوجَد معارض، وهو مولود على أن يرتضع. فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجَد معارض. وأيضًا: فإنَّ حُبَّ النَّفس وخضوعَها لله تعالى وإخلاصَ الدين له، والكفرَ والشركَ والنفورَ والإعراضَ عنه= إمَّا أن تكون نسبتهما إلى الفطرة سواءً، أو (2) الفطرة مقتضية للأول دون الثاني. فإن كانا سواءً لزم انتفاء المدح، ولم يكن فرقٌ بين اقتضائها للكفر واقتضائها للإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها، وهذا باطلٌ قطعًا. وإن كان فيها مقتضٍ للأول دون الثاني، فإمَّا أن يكون المقتضي مستلزمًا لمقتضاه عند عدم المعارض، وإمَّا أن يكون متوقِّفًا على شخصٍ خارجًا (3) _________ (1) أخرجه البخاري (3437) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) في الأصل: «إذ»، تصحيف. (3) كذا في الأصل منصوبًا على الحال.

(2/200)


عنها. فإن كان الأوَّل ثبت أنَّ ذلك من لوازمها، وأنَّها مفطورةٌ عليه (1) لا يُفقَد إلا إذا أفسدت الفطرة. وإن قيل: إنَّه متوقِّفٌ على شخص، فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفيةً كما يجعلها مجوسيةً، وحينئذٍ فلا فرقَ بين هذا وهذا. وإذا قيل: هي إلى الحنيفية أميَل كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل. فتبيَّن أنَّ فيها قوةً مُوجِبةً للحبِّ لله والذلِّ له وإخلاص الدين له، وأنَّها موجِبةٌ لمقتضاها إذا سَلِمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شُرب اللَّبن الذي فُطِرت على محبَّته وطلبه. فصل (2) وممَّا يبيِّن هذا أنَّ كلَّ حركةٍ إراديةٍ فإنَّ المُوجِب لها قوةٌ في المريد، فإذا أمكن الإنسانَ أن يحبَّ اللهَ ويعبدَه ويُخلِصَ له الدين كان فيه قوةٌ تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحيِّ المريد الفاعل. ولا يشترط في إرادته إلا مجرَّد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبَّة لله إذا شعرت به يقتضي حبَّه إذا لم يحصل معارضٌ. وهذا موجودٌ في محبَّة الأطعمة والأشربة والنكاح، ومحبة العلم، وغير ذلك. وإذا كان كذلك، وقد ثبت في النفس قوة المحبَّة لله والذلِّ له وإخلاص الدين له، وأنَّ فيها قوةَ الشعور به= لَزِم قطعًا وجود المحبَّة فيها والذلِّ في _________ (1) في الأصل: «على»، تصحيف. (2) الفصل من المؤلف، ولا يزال النقل من «الدرء» (8/ 449).

(2/201)


الفعل (1)، لوجود المقتضي الموجِب إذا سَلِم عن المعارض. وعُلِم أنَّ المعرفة والمحبة لا يُشترط فيهما وجودُ شخصٍ منفصل وإن كان وجودُه قد يذكِّر ويحرِّك، كما إذا خُوطِب الجائع بوصف الطعام، والمغتلم بوصف النساء، فإنَّ هذا مما يذكر ويحرك، لكن لا يشترط ذلك لوجود الشهوة. فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقَّف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذلِّ له ومحبته، وإن كان ذلك مذكرًا ومحركًا ومزيلًا للمعارض المانع. وأيضًا: فالإقرار بالصانع بدون عبادته والمحبة له وإخلاصِ الدين له لا يكون نافعًا، بل الإقرار مع البغض أعظم استحقاقًا للعذاب. فلا بد أن يكون في الفطرة مقتضٍ للعلم ومقتضٍ للمحبة، والمحبةُ مشروطةٌ بالعلم، فإنَّ ما لا يَشعُر به الإنسان لا يحبُّه، ومحبَّة الأشياء المحبوبة لا تكون بسبب من خارج، بل هي أمرٌ جبليٌّ فطريٌّ. وإذا كانت المحبَّة فطريَّةً فالشعور فطريٌّ. ولو لم تكن المحبَّة فطريَّةً لكانت النفس قابلةً لها ولضِدِّها على السواء، وهذا ممتنع. فعُلِم أن الحنيفية من موجَبات الفطرة ومقتضَياتها. والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال (2) الحنيفية، وذلك مستلزمٌ للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم؛ فعُلِم أنَّ الفطرة ملزومةٌ لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمةٌ لها، وهو المطلوب. _________ (1) في «الدرء»: «بالفعل»، وكذا في «الشفاء» (2/ 447)، وهو أولى. (2) في الأصل: «الأعمال»، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» (2/ 451).

(2/202)


فصل في تلخيص هذه الأقوال التي حكيناها * فمنها قولان من جنسٍ واحدٍ وهما: قول من يقول: وُلِدوا على ما سبق به القدر. وقول من يقول: وُلِدوا على وجود المقدَّر، وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول طوعًا وكرهًا. * وقولان من جنسٍ، وهما: قول من يقول: وُلِدوا قادرين على المعرفة. وقول من يقول: وُلِدوا قابلين لها وللتهوُّد والتنصُّر: إما مع التساوي، أو مع رجحان القبول للإسلام. * وقولان من جنسٍ، وهما: قول من يقول: وُلِدوا على فطرة الإسلام. وقول من يقول: وُلِدوا على الإقرار بالصانع، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق. * وقولان من جنسٍ، وهما: قول من يقول: وُلِدوا على سلامة القلب وخلوِّه من الكفر والإيمان. وقول من يقول: وُلِدوا مُهيَّئين لذلك قابلين له. * وقولان من جنسٍ، وهما:

(2/203)


قول من يقول: الحديث منسوخٌ. وقول من يَقِف في معناه. والصحيح من هذه الأقوال: ما دل عليه القرآن والسنَّة أنَّهم وُلِدوا حُنَفاء على فطرة الإسلام، بحيث لو تُركوا وفِطَرَهم لكانوا حُنفاء مسلمين، كما وُلِدوا أصِحَّاء كاملي الخِلقة، فلو تُركوا وخَلقهم لم يكن فيهم مجدوع ولا مشقوق الأذن. ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك شرطًا مقتضيًا غير الفطرة، وجعل خلاف مقتضاها من فعل الأبوين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل: «إني خلقتُ عبادي حنفاء، وإنَّهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم» (1)، فأخبر أنَّ تغيير الحنيفية التي خُلِقوا عليها بأمرٍ طارئ من جهة الشيطان. ولو كان الكفار منهم مفطورين على الكفر لقال: خلقتُ عبادي مشركين، فأتتهم الرسل فاقتطعتهم عن ذلك! كيف وقد قال: «خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم»؟! فهذا القول أصح الأقوال، والله أعلم. * * * * _________ (1) سبق تخريجه.

(2/204)


ذكر أحكام أطفالهم في الآخرة واختلاف الناس في ذلك، وحجَّة كلِّ طائفةٍ على ما ذهبت إليه وبيان الراجح من أقوالهم (1) فذهبت طائفةٌ من أهل العلم إلى التوقُّف في جميع الأطفال، سواءٌ كان آباؤهم مسلمين أو كفارًا، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة. وخالفهم في ذلك آخرون، فحكموا لهم بالجنة، وحكوا الإجماع على ذلك. قال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحدٌ أنَّهم في الجنة (2). واحتجَّ أرباب التوقف بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن مسعودٍ وأنس بن مالك وغيرهما: «إنَّ الله وكَّل بالرحم مَلَكًا، فإذا أراد الله أن يقضيَ خَلْقه قال الملَك: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك، وهو في بطن أمِّه» (3). وكذلك قوله في حديث ابن مسعودٍ: «ثم يُرسَل إليه الملك، فيُؤمَر بأربع كلماتٍ: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد». متفقٌ على صحته. _________ (1) وقد فصَّل المؤلف القول في هذه المسألة أيضًا في «طريق الهجرتين» (2/ 841 - 877)، كما ذكرها باختصار في «تهذيب السنن» (3/ 206 - 222). (2) إنما قال ذلك في أطفال المسلمين، وسيأتي نصُّ الرواية عنه. (3) هذا لفظ حديث أنس، أخرجه البخاري (318) ومسلم (2646). وأما حديث ابن مسعود المتفق عليه فقد سبق مرارًا. وفي الباب حديث حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - عند مسلم (2645).

(2/205)


ووجه الدلالة من ذلك أنَّ جميع من يُولَد من بني آدم إذا كُتب السعداء منهم والأشقياء قبل أن يُخلَقوا وجب علينا التوقُّف في جميعهم، لأنَّا لا نعلم هذا الذي تُوفِّي منهم: هل هو ممن كُتِب سعيدًا في بطن أمِّه أو كُتِب شقيًّا. واحتجت هذه الطائفة بما رواه مسلم في «صحيحه» (1) عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: دُعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا! عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أَوْ (2) غيرُ ذلك يا عائشة؛ إنَّ الله خلق للجنَّة أهلًا: خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا: خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم». وفي لفظ آخر: «وما يُدريكِ يا عائشة؟» (3). قالوا: فهذا الحديث صحيح صريح في التوقُّف فيهم، فإنَّ الصبِيَّ كان من أولاد المسلمين، ودُعِي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلِّيَ عليه كما جاء ذلك منصوصًا عليه. قال الآخرون: لا حجة لكم في شيء ممَّا ذكرتم. أمَّا حديث ابن مسعود وأنس، فإنَّما يدلُّ على أنَّ الله سبحانه كتب سعادة الأطفال وشقاوتهم وهم في بطون أمهاتهم، ولا ينفي أن تكون الشقاوة _________ (1) رقم (2662/ 31). (2) قيل في ضبطه: «أَوَ غير ذلك ... ؟» على الاستفهام، لكنه خلاف الظاهر. انظر: «مشارق الأنوار» (1/ 53). (3) أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1/ 141) وابن عساكر في «معجم الشيوخ» (1248) والذهبي في «السير» (14/ 462).

(2/206)


والسعادة بأشياءَ علمها سبحانه منهم، وأنَّهم عامِلوها لا محالة، تفضي بهم إلى ما كتبه وقدَّره، إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة مَن يُشقيه منهم بأنَّه يُدرِك ويعقل ويكفر باختياره. فمن يقول: أطفال المؤمنين في الجنة، يقول: إنَّهم لم يُكتَبوا في بطون أمهاتهم أشقياء، إذ لو كُتِبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمنَ التكليف، ويفعلوا الأسباب التي قُدِّرت وُصلةً إلى الشَّقاوة التي تُفضي بصاحبها إلى النار، فإنَّ النار لا تُدخَل إلا جزاءً على الكفر والتكذيب الذي لا يُمكِن إلا من العاقل المُدرِك. والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا اَلْأَشْقَى (15) اَلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى} [الليل: 14 - 16]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ (9) فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 8 - 10]، وقوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 83]، إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحةٌ في أنَّ النار جزاء الكافرين المكذِّبين. وأمَّا حديث عائشة - رضي الله عنها -، وإن كان مسلم رواه في «صحيحه» (1) فقد ضعَّفه الإمام أحمد وغيره (2). _________ (1) رقم (2662/ 31). وأخرجه أيضًا أحمد (24132) وأبو داود (4713) وغيرهم. (2) سيأتي نصُّ أحمد في ذلك. وانظر: «العلل ومعرفة الرجال» برواية ابنه عبد الله (1380)، و «الضعفاء» للعقيلي (3/ 160)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 343) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 462).

(2/207)


وذكر ابن عبد البر (1) عِلَّتَه بأنَّ طلحة بن يحيى انفرد به عن عمَّته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، وطلحة ضعيفٌ. وقد قيل: إنَّ فُضَيل بن عمرو رواه عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواءً (2). هذا كلامه. قال الخلال (3): أخبرني منصور بن الوليد أنَّ جعفر بن محمد حدَّثهم قال: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أطفال المسلمين؟ فقال: ليس فيه اختلاف أنَّهم في الجنة. أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أنَّ إسحاق بن منصورٍ حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه: أمَّا أولاد المسلمين فإنَّهم أهل الجنة. أخبرني عبد الملك المَيموني: أنَّهم ذاكروا أبا عبد الله أطفالَ المؤمنين، وذكروا له حديثَ عائشة - رضي الله عنها - في قصة الأنصاري، وقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فسمعت أبا عبد الله يقول غير مرةٍ: «وهذا حديث ... » وذكر فيه رجلًا _________ (1) في «التمهيد» (18/ 90، 105). (2) أخرجه مسلم (2662/ 30) وأبو عوانة (11689) وابن حبان (138) وغيرهم من طريق العلاء بن المسيِّب عن فضيل بن عمروٍ به. ولكن قال أحمد كما في «العلل ومعرفة الرجال» (1380): «وما أراه سمعه إلا من طلحة»، يعني: أن متابعة فضيل لا تنفع، لأن فضيلًا لم يسمعه من عائشة بنت طلحة، وإنما سمعه من طلحة بن يحيى فدلَّسه بإسقاطه. (تنبيه: هذا ما ظهر لي من كلام الإمام أحمد، وإلا فنصُّ الرواية في «العلل» وتفسير ابنه لها مُشوَّش جدًّا). (3) في «الجامع» (1/ 66 - 69).

(2/208)


ضعَّفه (1)، وهو طلحة. وسَمِعتُه يقول غير مرةٍ: وأحدٌ يشك أنهم في الجنة؟ ثمَّ أملى علينا الأحاديث فيه. وسمعتُه غير مرةٍ يقول: هو يُرجى لأبويه، كيف يُشَكُّ فيه؟! وقال أبو عبد الله: واختلفوا في أطفال المشركين، فابن عباس يقول (2): كنت أقول: [هم] (3) مع آبائهم حتى لقيت رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثني عن رجل آخر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِل عنهم (4) فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (5). وقال الحسن بن محمد بن (6) الحارث: سمعتُ أبا عبد الله يسأل عن _________ (1) كذا العبارة في الأصل و «الجامع». وزاد محققو الكتابين: «ضعيف» بين الحاصرتين بعد «حديث». ولعل الإمام أحمد كان قد قال: «هذا حديث طلحة، وهو ضعيف» أو نحوه، فلم يستحضر الميموني اسم الراوي فعبَّر هكذا، ويكون: «وهو طلحة» بيانًا من الخلال. (2) بعده في الأصل زيادة: «ما يقول»، ولم يتبيَّن وجهها، وليست في مصدر النقل. (3) من «الجامع». (4) في الأصل: «عليهم»، خطأ. (5) أخرجه أحمد (20697، 23484) وأبو داود الطيالسي (539) وابن أبي عاصم في «السنة» (221) والفريابي في «القدر» (175، 176) بإسناد جيِّد. (6) إلى هنا كانت صورة الأصل بين يدي. وما بعده إلى (ص 298) اعتمدت على مقابلة الشيخ محمد عزير شمس لنسخته من طبعة صبحي الصالح على الأصل الخطي في الهند، وما أثبت عليها من الفروق والتصحيحات.

(2/209)


السقط إذا لم تُنفَخ فيه الروح، فقال: الحديث: «يجيء السقطُ مُحْبَنطِئًا» (1). قال الخلال: سألت ثَعلبًا عن «السقط محبنطئًا»، فقال: غضبان (2)، ويقال: قد ألقى نفسه. وقد أُجِيب عنه بعد التزامِ صحَّتِه (3) بأنَّ هذا القول كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلِّمه الله بأنَّ أطفال المؤمنين في الجنَّة. وهذا جواب ابن حزم (4) وغيره. وأجابت طائفةٌ أخرى عنه بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما ردَّ على عائشة - رضي الله عنها - لكونها حكمَتْ على غيبٍ لم تعلمه، كما فعل بأمِّ العلاء إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون (5): شهادتي عليك أنَّ الله أكرمك، فأنكر عليها وقال لها: _________ (1) تمامه: «فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب وأبواي؟ فيقال له: ادخل الجنة أنت وأبواك». أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5746) من حديث سهل بن حنيف، وفي «الكبير» (19/ 416) من حديث معاوية بن حيدة، وأخرجه أبو يعلى (المطالب: 1630، 1631) من حديث أبي موسى وابن مسعود، وابنُ ماجه (1608) وأبو يعلى (468) من حديث علي، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (7191) عن رجل من حلب أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأسانيد جميعها واهية. وأصحُّ شيء في الباب مرسل ابن سيرين عند عبد الرزاق (10343) بإسناد صحيح إليه. انظر: «الضعيفة» (1413، 3267، 5893). (2) يؤيده أن لفظه في حديث عليٍّ: «إن السِّقط ليُراغِمُ ربَّه أنْ أَدخَلَ أبويه النار»، والمراغمة هي المغاضبة. (3) أي: حديث عائشة «عصفور من عصافير الجنة» وردِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها. (4) في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 64). (5) رُسم في الأصل هنا وفي الموضع الآتي بالضاد: «مضعون».

(2/210)


«وما يدريكِ أن الله أكرمه؟»، ثم قال: «أما هو فقد جاءه اليقين، وأنا أرجو له الخير، واللهِ ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل به» (1)، فأنكر عليها جزمَها وشهادتها على غيبٍ لا تعلمه، وأخبر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجو له الخير. ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان أحدكم مادحًا أخاه فليقل: أحسب فلانًا ــ إن كان يرى أنه كذلك ــ ولا أزكي على الله أحدًا» (2). وقد يقال: إنَّ من ذلك قولَه في حديثٍ لسعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - حين قال له: أعطيتَ فلانًا وتركتَ فلانًا وهو مؤمنٌ، فقال: «أَوْ مسلم» (3)، فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنَّه غيبٌ، دون الإسلام، فإنَّه ظاهرٌ. وإذا كان الأمر هكذا، فيُحمَل قوله لعائشة - رضي الله عنها -: «وما يدريك يا عائشة؟» على هذا المعنى، كأنَّه يقول لها: إذا خلق الله للجنة أهلًا وخلق للنار أهلًا، فما يدريكِ أنَّ ذلك الصبي من هؤلاء أو من هؤلاء؟ وقد يقال: إنَّ أطفال المؤمنين (4) إنَّما حُكِم لهم بالجنة تبعًا لآبائهم لا بطريق الاستقلال، فإذا لم يُقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتَبَعه بها؟ _________ (1) أخرجه البخاري (1243) من حديث أم العلاء - رضي الله عنها -. (2) أخرجه البخاري (2662، 6162) ومسلم (3000) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2941 - دار الكتب العلمية) عن معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رضي الله عنه -، ومن طريق عبد الرزاق كلٌّ من أحمد (1522) وأبو داود (4683) وابن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (560) والنسائي (4992) وابن حبان (163). (4) في هامش الأصل: «المسلمين».

(2/211)


يوضِّحه: أنَّ الطفل غير مستقلٍّ بنفسه بل تابعٌ لأبويه، فإذا لم يُقطع لأبويه بالجنة لم يجُزْ أن يقطع له بالجنة. وهذا في حق المُعيَّن، فإنَّا نقطع للمؤمنين بالجنة عمومًا، ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة إلا بنصٍّ. فهكذا أطفال المؤمنين نقطع بأنهم في الجنة، ولا نقطع للمعيَّن منهم بأنه في الجنة (1). فلهذا ــ والله أعلم ــ أَنكر على أمِّ العلاء حكمَها على عثمان بن مظعون بذلك. واحتجوا أيضًا (2) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جَمعاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تَجدَعونها؟»، قالوا: يا رسول الله، أرأيت من يموت وهو صغيرٌ؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (3). فلم يخُصُّوا بالسؤال طفلًا من طفل، ولم يَخُصَّ بالجواب، بل أطلق الجواب كما أطلقوا السؤال، ولو افترق الحال في الأطفال لفصَّل وفرَّق بينهم في الجواب. وهؤلاء لو تأملوا ألفاظه وطُرَقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج، فإنَّ هذا الحديث روي من طرقٍ متعددةٍ: فمنها حديث أبِي بِشْر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ــ أو أطفال المشركين ــ فقال: «الله _________ (1) من قوله: «إلا بنص .. » إلى هنا سقط من المطبوع. (2) أي: القائلون بالتوقف في جميع الأطفال. (3) أخرجه البخاري (6599) ومسلم (2658/ 24) من حديث معمر، عن همَّام بن منبِّه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(2/212)


أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم»، رواه عن أبي بِشْر جماعةٌ منهم: شُعبة وأبو عَوَانة (1). ومنها حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد اللَّيثي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم إذ خلقهم ما كانوا عاملين» (2). ومنها حديث الوليد بن مسلم، عن عُتبة (3) بن ضَمْرة، أنَّه سمع عبد الله بن قيسٍ (4) مولى مدرك بن عُفَيف قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن أولاد المشركين، فقالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (5). _________ (1) رواية شعبة عند أحمد (3165) والبخاري (1383، 6597) وغيرهما. ورواية أبي عوانة عند أحمد (3034) ومسلمٌ (2660) وأبي داود (4711) وغيرهم. (2) أخرجه أحمد (7520) والبخاري (1384) ومسلم (2659/ 26). (3) في الأصل: «عقبة»، تصحيف. (4) كذا في الأصل، ويقال: «عبد الله بن أبي قيس»، وهو أصح. وقد اختُلف أيضًا في اسم مولاه على أقوال. انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 173) و «الثقات» لابن حبان (5/ 44). (5) لم أجد من أخرجه من طريق الوليد بن مسلم. أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1678) من طريق بقية بن الوليد، عن عتبة بن ضمرة، عن عبد الله بن أبي قيس مولى عازب بن مدرك، عن عائشة به. وأخرجه أحمد (24545) والطبراني في «مسند الشاميين» (1240) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1602) وغيرهم من طريق أبي المغيرة عن عُتبة به. وأخرجه أبو داود (4712) من طريق آخر عن عبد الله بن أبي قيس به بنحوه، وسيأتي لفظه (ص 221). والحديث صحيح بهذه الطرق. تنبيه: في كل هذه الروايات عن عتبة بن ضمرة به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابها أولًا فقال: «هم مع آبائهم»، فقالت عائشة: بلا عمل؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وأخشى أن يكون سقط من الناسخ لانتقال النظر.

(2/213)


وهذه كلها صحاحٌ تُبيِّن أنَّ السؤال إنَّما وقع عن أولاد المشركين، وقد جاء مطلقًا في الحديث الآخر: «أرأيت مَن يموت وهو صغيرٌ؟» (1). على أنَّه لو كان السؤال عن حكم الأطفال مطلقًا لكان هذا الجواب غير ذلك على استواء أطفال المسلمين والمشركين، بل أجاب عنهم جملةً من جملة بقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، فإذا كان سبحانه يعلم أنَّ أطفال المسلمين لو عاشوا عملوا بطاعته، وأطفال المشركين ــ أو بعضهم ــ لو عاشوا لكانوا كفارًا= كان الجواب مطابِقًا لهذا المعنى. فصل في أدلة من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة فمنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن المسلمين مَن يموت له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغوا الحِنْثَ إلَّا أدخلهم الله الجنةَ بفضل رحمته. يُجاءُ بهم (2) يوم القيامة فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: لا حتى يدخل آباؤنا، فيقال: لهم ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي» (3). _________ (1) تقدم قريبًا. (2) في المطبوع: «بحالهم»، تصحيف. (3) أخرجه أحمد (10622) والنسائي (1876) وأبو يعلى (6079) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 133) ــ واللفظ له ــ من حديث عوف الأعرابي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح على رسم البخاري.

(2/214)


وفي لفظ (1): «مَن مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغوا الحِنْثَ (2) إلا (3) كانوا له حِجابًا من النار». ومنها حديثه أيضًا، وقد قيل له: حدِّثْنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث يُطيِّب أنفُسَنا عن موتانا، فقال: سمعتُه يقول: «صِغارُهم دَعَامِيص الجنة، يتلقَّى أحدُهم أباه فيأخذ بثوبه ــ كما آخذ أنا بصَنِفة ثوبِك هذا ــ، فلا ينتهي حتى يُدخِله الله وأبوَيه الجنةَ» (4). ومنها حديث معاوية بن قُرَّة عن أبيه أنَّ رجلًا جاء بابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أتحبه؟»، فقال: أحبَّكَ اللهُ يا رسولَ الله كما أُحِبُّه، فتُوفِّي الصبيُّ ففقَدَه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أين فلان بن فلان؟»، قالوا: يا رسول الله، تُوفِّي ابنُه. ثم دخل الرجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا ترضى أن لا تأتيَ بابًا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى يفتحه لك؟»، فقالوا: يا رسول الله، أله وحدَه أم لنا كلِّنا؟ فقال: «بل لكم كلِّكم» (5). _________ (1) أخرجه البخاري (1250) عن أبي هريرة بلفظ: «أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا حجابا من النار». أما اللفظ المذكور فعلَّقه البخاري في الجنائز (باب ما قيل في أولاد المسلمين) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجزومًا به. وانظر: «تغليق التعليق» (2/ 498). (2) في هامش الأصل: «الحلم». (3) الظاهر أن «إلا» مقحمة، فلا هي في مصادر التخريج، ولا سبق في الحديث نفي. (4) أخرجه مسلم (2635). والصَّنِفة: الطرف. (5) أخرجه أحمد (15595، 20365) والنسائي (1870) وابن حبان (2947) والحاكم (1/ 384) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 113) ــ واللفظ له ــ وغيرهم، من طرق عن شعبة عن معاوية بن قرَّة به. قال الحافظ في «الفتح» (11/ 243): إسناده على شرط الصحيح.

(2/215)


ومنها حديث أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يُتوَفَّى له ثلاثةٌ لم يبلُغوا الحِنث إلا أَدخَله الله الجنة بفضل رحمتِه إيَّاهم» (1). وهذه الأحاديث أكثرها في «الصحيح» وكلُّها صحيحةٌ. وهذا القول في أطفال المسلمين هو المعروف من قواعد الشرع حتى إنَّ الإمام أحمد أنكر الخلاف فيه، وأثبت بعضُهم الخلاف، وقال: إنَّما الإجماع على أولاد الأنبياء خاصةً. وأبو عمر اضطرب في النقل في هذا الباب، فقال عند كلامه على تأويل الفطرة (2): قد أجمع المسلمون من أهل السنة وغيرهم إلا المُجبِرة على أنَّ أولاد المؤمنين في الجنة. ثمَّ لمَّا ذكر الأخبار التي احتجَّ بها من قال: إنَّ الأطفال جميعَهم في المشيئة، قال (3): فهذه الآثار وما كان مثلها احتجَّ بها مَن ذهب إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو المشركين بجنة أو نار، وإليها ذهبت جماعةٌ كبيرةٌ من أهل الفقه والحديث: منهم حماد بن زيد، وحماد بن _________ (1) أخرجه البخاري (1248، 1381) والنسائي (1889) واللفظ له. (2) «التمهيد» (18/ 90). (3) «التمهيد» (18/ 111 - 112).

(2/216)


سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه (1)، وغيرهم. وهو يُشبِه ما رسمه مالك في أبواب القدر وما أورد في ذلك من الأحاديث، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص، إلَّا أنَّ المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أنَّ أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال المشركين خاصةً في المشيئة، لآثار رُوِيت في ذلك. هذا ما ذكره في باب أبي الزناد في «التمهيد» (2). وقال (3) في باب ابن شهابٍ عن سعيد بن المسيب: «لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولد ... » (4) الحديث: قد أجمع العلماء على أنَّ أطفال المسلمين في الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافًا إلا فِرقةً شذَّت من المُجبِرة فجعلَتْهم في المشيئة. وهو قول شاذٌّ مهجورٌ مردودٌ بإجماع أهل _________ (1) كذا نسبه إليه ابن عبد البر: أنه يرى التوقف في جميع الأطفال. والذي حكاه حرب الكرماني عنه أن توقَّف في أطفال المشركين فقال: «سألتُ إسحاق عن أطفال المشركين فقال: خلِّ أمرَهم إلى الله، الله أعلم بما كانوا عاملين. قال: وأطفال المسلمين هم في الجنة». «مسائل حرب» (2/ 957) بتحقيق فايز بن أحمد بن حامد حابس (رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى، 1422 هـ). (2) في شرح حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا: «كل مولود يولد على الفطرة ... ». (18/ 57 - 141). (3) في «التمهيد» (6/ 348، 349). (4) تمامه: «فتمسه النار، إلا تحلة القسم». أخرجه مالك (631) والبخاري (1251، 6656) ومسلم (2632) من حديث الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا.

(2/217)


الحُجَّة الذين لا يجوز مخالفتُهم، ولا يجوز على مثلهم الغلَطُ في مثل هذا، إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبار الآحاد الثقات (1). فتأمَّل كيف ذكر الإجماعَ على أنَّ أطفال المسلمين في الجنة، وأنَّه لا يعلم في ذلك نزاعًا، وجعل القول بالمشيئة فيهم قولًا شاذًّا مهجورًا، ونسبه في الباب الآخر إلى الحمَّادَين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك. وهذا من السهو الذي هو عرضةُ الإنسان، وربُّ العالمين هو الذي لا يَضِلُّ ولا يَنسى. فصل وأمَّا أولاد المشركين، فاختلف أهل العلم فيهم على عشرة مذاهب (2)، ونحن نذكرها (3) ونذكر أدِلَّتها، ونبيِّن راجحَها من مرجوحها بحول الله وقدرته وتوفيقه. المذهب الأول: الوقف في أمرهم. ولا نحكم لهم بجنة ولا نار، ونَكِل علمهم إلى الله. وهذا قد يُعبَّر عنه بمذهب الوقف، وقد يُعبَّر عنه بمذهب المشيئة، وأنَّهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء، ولا يُدرى حكمُه فيهم ما هو. واحتجَّ أرباب هذا القول بحُجَج منها: ما خرَّجا في «الصحيحين» (4) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول _________ (1) في المطبوع: «والثقات»، خلاف الأصل ومصدر النقل. (2) في «طريق الهجرتين» (2/ 842) و «تهذيب السنن» (3/ 215 - 220) ثمانية مذاهب. (3) «نذكرها و» ساقط من المطبوع. (4) البخاري (6599) ومسلم (2658/ 23، 24)، إلا أن هذا لفظ «الموطأ» (646).

(2/218)


الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مولود إلا يُولَد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه، كما تُنتَج البهيمةُ من بهيمةٍ جمعاء، هل تُحسُّ (1) فيها من جدعاء؟»، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت وهو صغيرٌ؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». ومنها ما في «الصحيحين» (2) أيضًا عن ابن عباس (3) - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، وقد تقدَّمت هذه الأحاديث آنفًا. وفي «صحيح أبي حاتم بن حبان» (4) من حديث جَرير بن حازم: قال سمعت أبا رجاء العُطارِدي قال: سمعتُ ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول وهو على المنبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال أمر هذه الأمة مُؤامًّا (5) ــ أو: مقاربًا ــ ما لم _________ (1) في هامش الأصل: «تحسُّون». (2) البخاري (6597) ومسلم (2660). (3) في هامش الأصل: «عائشة»، وقد روي عنها أيضًا كما سبق ولكن ليس ذلك في «الصحيحين». (4) برقم (6724)، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (13/ 3). وأخرجه أيضًا البزار (4739) والطبراني في «الأوسط» (4086) وفي «الكبير» (12/ 162) والحاكم (1/ 33) والبيهقي في «القدر» (445)، من طرق عن جرير بن حازم به. قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علّة». بلى له علّة، وهي أنه خولف هؤلاء الرواة عن جرير في رفعه، فرواه من هو أثبت منهم فوقفوه على ابن عباس من قوله، كما عند عبد الله في «السنة» (846)، والفريابي في «القدر» (259، 260)، والبيهقي في «القدر» (446 - 448). قال البيهقي: إن المرفوع ليس بمحفوظ، والموقوف هو الصحيح. وكذا رجَّح المؤلف كما سيأتي قريبًا. (5) في المطبوع: «موائمًا»، خطأ مخالف للأصل. وفي هامش الأصل: «مواتا»، ولعله تصحيف عن «مواتيًا» على ما جاء في بعض مصادر التخريج. ومعنى «مؤامًّا»: مقاربًا، أي: لا يزال أمر هذه الأمة جارياً على القصد والاستقامة. انظر: «النهاية» (4/ 604) وتعليقي على «تهذيب السنن» (3/ 216).

(2/219)


يتكلَّموا في الولدان والقدر». قال أبو حاتم: الولدان أراد بهم أطفال المشركين. وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظرٌ، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُجِب فيهم بالوقف، وإنَّما وكَّل عِلمَ ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله، والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العاملَ به لو عاش، والقابلَ منهم للكفر المؤثرَ له لو عاش. ولكن لا يدلُّ هذا على أنَّه سبحانه يَجزِيهم بمجرَّد علمِه فيهم بلا عمل يعملونه. وإنَّما يدلُّ هذا على أنَّه يعلم مَن يؤمن ومَن يكفر بتقدير الحياة. وأمَّا المُجازاة على العلم فلم يتضمَّنها جوابُه - صلى الله عليه وسلم -. وفي «صحيح أبي عوانة الإسفراييني» (1) عن هِلال بن خَبَّاب، عن _________ (1) لم أجده فيه، وإليه عزاه في «طريق الهجرتين» (2/ 844) أيضًا. وأخشى أن يكون وهمًا من المؤلف، إذ الحديث من رواية أبي عوانة ــ وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري (ت 176) ــ عن هلال بن خباب به. فلعله كان في بعض المصادر: «روى أبو عوانة عن هلال ... »، فظنَّ المؤلف أنه أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت 316). والله أعلم. هذا، والحديث أخرجه الفريابي في «القدر» (177) والبزار (2173 - كشف الأستار) والطبراني في «الأوسط» (1997) و «الكبير» (11/ 330) والضياء في «المختارة» (12/ 297)، من طريقين عن أبي عوانة عن هلال به. ورجاله ثقات، إلا أن هلالًا يهم وقد تغيَّر بأَخَرة. والحديث صحيح بشواهده.

(2/220)


عِكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مَغازيه، فسأله رجلٌ: ما تقول في اللَّاهين؟ فسكت عنه، فلمَّا فرغ من غزوة الطائف (1) إذا هو بصبيٍّ يبحث في الأرض، فأمر مُناديه فنادى: «أين السائل عن اللاهين؟»، فأقبل الرجل، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال وقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». فقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» عقيبَ نهيه عن قتلهم يكشف لك المعنى ويوضِّحه، ويبيِّن أن الله سبحانه يعلم لو أدركوا ما كانوا يعملون، وأنتم لا تعلمون ذلك، فلعلَّ أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ويكون مسلمًا، فهذا أحد الوجهين في جوابه - صلى الله عليه وسلم -. والوجه الثاني: أنَّه خرج جوابًا لهم حين أخبرهم أنَّهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، كما في «السنن» (2) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ فقال: «من آبائهم»، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ قال: «من آبائهم»، قلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». ففي هذا الحديث ما يدلُّ على أنَّ الذين يُلحَقون بآبائهم منهم هم الذين _________ (1) كذا في الأصل، ومثله في «طريق الهجرتين» بخط المؤلف، وهو تصحيف عن «فلمَّا فرغ من غزوِه طافَ» أو «وطاف»، كما في مصادر التخريج. (2) «سنن أبي داود» (4712) بإسناد جيِّد. وقد سبق (ص 213) تخريجه مطولًا.

(2/221)


علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم. ولا يقتضي (1) أن كلَّ واحدٍ من الذرية مع أبيه في النار، فإنَّ الكلام في هذا الجنس سؤالا وجوابًا إنَّما يدلُّ على التفصيل، فإنَّ قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يدلُّ على أنَّهم متبايِنون في التبعيَّة بحسب تبايُنهم في معلوم الله تعالى فيهم. يبقى أن يقال: فالحديث يدلُّ على أنَّهم يُلحَقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فَهِمت منه عائشة - رضي الله عنها - ذلك، فقالت: بلا عمل؟ فأقرَّها عليه وقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». ويُجَاب عن هذا بأنَّ الحديث إنَّما دلَّ على أنَّهم يُلحَقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا، وهو الذي فهمَتْه عائشة - رضي الله عنها -، ولكن لا ينفي هذا أن يُلحَقوا بهم في الآخرة بأسبابٍ أُخَر كامتحانهم في عَرَصات القيامة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فحينئذ يُلحَقون بآبائهم، ويكونون معهم بلا عمل عملوه في الدنيا. وأُمُّ المؤمنين - رضي الله عنها - إنَّما استشكلت لَحاقَهم بهم بلا عملٍ عملوه مع الآباء، وأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ الله يعلم منهم ما هم عامِلُوه، ولم يقُلْ لها: إنَّه يُعذِّب بمجرَّد علمِه فيهم، وهذا ظاهرٌ بحمد الله. وأمَّا حديث أبي رَجَاء العُطارِدي عن ابن عباس، ففي رفعه نظر، والناس إنما رووه موقوفًا عليه، وهو الأشبه. وابن حبان كثيرًا مَّا يرفع في كتابه ما يعلم أئمةُ الحديث أنَّه موقوف، كما رفع قول أبيِّ بن كعب: «كلُّ حرف في القرآن في القُنوت فهو الطاعة» (2). وهذا لا يُشبِه كلامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغايتُه أن _________ (1) في الأصل: «نقضي»، ولعل المثبت أشبه. (2) أخرجه ابن حبان (309) ــ وكذا أحمد (11711) وأبو يعلى (1379) والطبري (4/ 378، 5/ 400) وابن أبي حاتم (1/ 213) وغيرهم ــ من حديث من درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا. وهو طريق ضعيف معروف بمناكيره. ولم أجد من أخرجه عن أبي بن كعب مرفوعًا ولا موقوفًا. وإنما صحَّ موقوفًا على قتادة، كما عند عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 116).

(2/222)


يكون كلامَ أُبَيٍّ. والحديث ولو صحَّ إنَّما يدلُّ على ذمِّ مَن تكلَّم فيهم بغير علم، أو ضَرَب النصوص بعضَها ببعض، كما يفعله أهل الجدل والمُباحَثة الذين لا تحقيقَ عندهم، ولم يصلوا في العلم إلى غايته، بل هم في أطراف أذياله. وبلاءُ الأمة من هذا الضرب، وهم الغالب على الناس، وبالله التوفيق. فصل المذهب الثاني: أنَّهم في النار. وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد (1). وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد، وغلَّطه شيخُنا كما سيأتي بيان ذلك. واحتجَّ هؤلاء بحُجَج: منها: حديث أبي عَقِيل يحيى بن المتوكِّل، عن بُهَيَّة، عن عائشة - رضي الله عنها -: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المسلمين: أين هم؟ قال: «في الجنة»، وسألته عن أولاد المشركين: أين هم يوم القيامة؟ قال: «في النار»، فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجرِ عليهم الأقلام، قال: «ربُّكِ أعلم بما _________ (1) انظر: «الإنصاف» (27/ 171 - 172).

(2/223)


كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئتِ أسمعتُكِ تَضَاغِيَهم في النار» (1). ولكن هذا الحديث قد ضعَّفه جماعةٌ من الحفاظ (2). قال أبو عمر (3): أبو عقيل هذا لا يُحتَجُّ بمثله عند أهل النقل. وهذا الحديث لو صحَّ لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره. قال: وممَّا يدلُّ على أنَّه خصوصٌ لقومٍ من المشركين قوله: «لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار»، وهذا لا يكون إلا فيمَن قد مات، وصار في النار. قال: وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار. قلت: مراد أبي عمر أنَّ هذا خاصٌّ ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ودخلوا النار، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكمًا عامًّا لجميع الأطفال. وهذا جواب (4) صحيح يتعيَّن المصير إليه جمعًا بينه وبين حديث سَمُرَة الذي رواه البخاري في «صحيحه» (5)، وهو صريحٌ بأنَّهم في الجنَّة كما سيأتي. _________ (1) أخرجه أحمد (25743) مختصرًا، والطيالسي (1681) ــ ومن طريقه البيهقي في «القضاء والقدر» (616) ــ وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (2969) وابنُ عبد البر في «التمهيد» (18/ 122) وغيرهم، من طرق عن أبي عقيل به. وأبو عقيل ضعيف كما سيأتي في كلام المؤلف، وبهية مجهولة. (2) كابن عدي في «الكامل» في ترجمة بهية (2/ 530) وأبي عقيل (10/ 547)، وابنُ الجوزي في في «العلل المتناهية» (2/ 422). (3) في «التمهيد» (18/ 122). (4) «جواب» ساقط من المطبوع. (5) برقم (7047) في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رآى فيها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في روضة مُعْتَمَّة وحوله الولدان الذين ماتوا على الفطرة، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وأولاد المشركين».

(2/224)


واحتجُّوا بحديث عمر بن ذَرٍّ، عن يزيد بن أبي أُميَّة: أنَّ البَرَاء بن عَازِب (1) - رضي الله عنه - أرسل إلى عائشة - رضي الله عنها - يسألها عن الأطفال، فقالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ قال: «مِن آبائهم»، قلت: بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ قال: «هم من آبائهم»، قلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». هكذا قال مسلم بن قتيبة (2). وقد رواه غيره عن عمر بن ذر، عن يزيد، عن رجل، عن البراء (3). ورواه أحمد (4) من حديث عُتبَة بن ضَمْرة بن حَبِيب، حدثني عبد الله بن قَيس مولى غُطَيفٍ أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -. وعبد الله هذا ينظر في حاله، وليس بالمشهور (5). _________ (1) كذا في الأصل، وفي «طريق الهجرتين» (2/ 847) و «تهذيب السنن» (3/ 207). ولم أجد مَن رواه على هذا الوجه، وأخشى أن يكون خطأ، فقد رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 319) من طريق أبي نُعيم، وابنُ الجوزي في «العلل المتناهية» (1542) من طريق مسلم بن قتيبة، كلاهما عن عمر بن ذرٍّ عن يزيد بن أميَّة أن عازبًا أرسل إلى عائشة ... إلخ. وعازب هذا ليس والد البراء، بل والدُ غُطيفٍ مولى عبد الله بن أبي قيس مِن فوق. انظر: «الإصابة» (7/ 201). (2) أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» من هذا الطريق، كما في التعليق السابق. (3) أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 320) من طريق عبد الله بن داود الخُرَيبي، عن عمر بن ذر على هذا الوجه. قال البخاري: «والأول أصح»، يعني رواية من رواه عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية أن عازبًا أرسله إلى عائشة. (4) رقم (24545) بإسناد حسن، وله طرق أخرى كما سبق (ص 213) مفصَّلًا. (5) هو عبد الله بن أبي قيس ــ ويقال: عبد الله بن قيس، والأول أصح ــ الشامي الحمصي. تابعي مخضرم، وثقه العجلي والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. من رجال مسلم، أخرج له عن عائشة. انظر: «تهذيب التهذيب» (5/ 365).

(2/225)


وبالجملة، فلا حُجَّةَ في الحديث على أنَّهم في النار، لأنَّه إنَّما أخبر بأنَّهم مِن آبائهم في أحكام الدنيا، كما تقدم. واحتجُّوا بما رواه عبد الله بن أحمد في «مسند أبيه» (1): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن فُضَيل بن غَزْوَان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي قال: سألتْ خَدِيجةُ - رضي الله عنها - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدَين لها ماتا في الجاهلية، فقال: «هما في النار»، فلمَّا رأى الكراهية في وجهها قال: «لو رأيتِ مكانَهما لأبغضتِهما»، قالت: يا رسول الله، فولدي منك! قال: «إنَّ المؤمنين وأولادَهم في الجنة، وإنَّ المشركين وأولادَهم في النار» ثمَّ قرأ: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]. وهذا الحديث معلولٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ محمد بن عثمان هذا مجهولٌ، والثانية: أنَّ زاذان لم يُدرِك عليًّا. وقال الخلال (2): أخبرنا حفص بن عَمرو الرَّبالي (3)، ثنا أبو زِياد _________ (1) برقم (1131)، وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في «السنة» (220) عن عثمان بن أبي شيبة به. والحديث ضعيف كما قرره المؤلف. وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (3/ 642) عن محمد بن عثمان: لا يُدرى من هو، وله خبر منكر ... (فذكره). (2) في «الجامع» (1/ 80). وإسناده معلول من وجهين: سهل بن زياد متكلَّم فيه، كما في «لسان الميزان» (4/ 198). والثاني: فيه انقطاع، فإن عبد الله بن الحارث لم يُدرك خديجة. (3) غيَّره في المطبوع إلى: «حفص بن عمر الرازي»، وهو خطأ، لم يُدركه الخلال.

(2/226)


سَهْل بن زِياد، ثنا الأَزْرق بن قيس، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن خديجة بنت خُوَيلد - رضي الله عنها - أنَّها سألَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله، أين أطفالي من أزواجي من المشركين؟ قال: «في النار»، قالت: بغير عمل؟ قال: «قد علم الله ما كانوا عاملين». قال شيخنا (1): وهذا حديث موضوعٌ، لا يصِحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو الذي غرَّ القاضيَ أبا يعلى حتى حكى عن أحمد أنَّهم في النار، لأنَّ أحمد نصَّ في رواية بكر بن محمد (2) عن أبيه أنَّه سأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، فتوهَّم القاضي أنَّ أحمد أراد هذا الحديث، وأحمد أعلم بالسنة من أن يحتجَّ بمثل هذا الحديث، وإنَّما أراد أحمد حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. واحتجُّوا أيضًا بحديث داود بن أبي هِند، عن الشَّعبي، عن عَلقَمة بن قَيس، عن سَلَمة بن يزيد الأشجعي (3) قال: أتيتُ أنا وأخي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: إنَّ أُمَّنا ماتَت في الجاهلية، وكانت تَقرِي الضَّيفَ، وتَصِل الرَّحِمَ، فهل ينفعُها مِن عملها ذلك شيء؟ قال: «لا»، قلنا له: فإنَّ أُمَّنا وَأَدَتْ أختًا لنا في الجاهلية لم تبلُغ الحِنْثَ، فقال: «المَوءُودة والوائدة في النار، إلَّا أن تُدرِك _________ (1) في «درء التعارض» (8/ 398). وبنحوه في «منهاج السنة» (2/ 306). (2) أسندها الخلال في «الجامع» (1/ 78). (3) كذا في الأصل، وإنما هو الجعفي كما في الإسناد الآتي. ولعل «الأشجعي» تصحيف عن «المَشجعي» نسبةً إلى جدِّه «مشجعة». انظر: «الإصابة» (4/ 429).

(2/227)


الوائدة الإسلام فتسلم». رواه جماعة كثيرة عن داود (1). وقال محمد بن نصر (2): ثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام (3)، عن شَيْبان، عن جابر، عن عامر (4)، عن علقمة بن قيس، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلنا يا رسول الله، إنَّ أُمَّنا كانت تَصِل الرحم، وتَقرِي الضَّيف، وتُطعِم الطعام، وإنَّها كانت وَأَدَتْ في الجاهلية فماتَتْ قبلَ الإسلام، فهل ينفعها عملٌ إنْ عَمِلنا عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفع الإسلام إلا مَن أدرك، أُمُّكم وما وَأَدَتْ في النار». وروى أبو إسحاق، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أخرجه أحمد (15923) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2474) والنسائي في «الكبرى» (11585) وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (1415، 1416) والطبراني في «الكبير» (7/ 39) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 119) وغيرهم من طرق عن داود بن أبي هند به. قال ابن عبد البر: «هو حديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنَّه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة إليها، والله أعلم». (2) لعله في كتاب «الرد على ابن قتيبة». وأخرجه أيضًا الطحاوي في «مشكل الآثار» (4365) وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/ 274) والطبراني في «الكبير» (7/ 40) من طرق عن أبي كريب به. إسناده ضعيف، فيه جابر بن يزيد الجعفي، ولكنه توبع، تابعه داود بن أبي هند كما في الإسناد السابق. (3) في الأصل: «معاوية عن هشام»، تصحيف. (4) في الأصل: «جابر بن عامر»، تصحيف. جابر هو ابن يزيد الجعفي، وعامر هو ابن شراحيل الشعبي.

(2/228)


قال: «الوائدة والمَوءُودة في النار» (1). وهذا لا يدلُّ على أنَّهم كلَّهم في النار، بل يدلُّ على أنَّ بعض هذا الجنس في النار، وهذا حقٌّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقد ردَّ بعضهم على الحديث بأنَّه مخالفٌ لنص القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]، سواءٌ كان المعنى أنَّها تُسأَل سؤالَ توبيخٍ لمَن وَأَدَها، أو تُطلَب ممن (2) وَأَدَها كما تُطلَب الأمانة ممن اؤتمن عليها. وعلى التقديرين، فقد أخبر سبحانه أنَّه لا ذنبَ لها تُقتَل به في الدنيا قتلةً واحدةً، فكيف تُقتَل في النار قتلاتٍ دائمةً، ولا ذنبَ لها؟ فالله أعدل وأرحم _________ (1) أخرجه أبو داود (4717) والبزار (1596) وابن حبان (7480) والطبراني (10/ 114) من طرق عن يحيى بن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق به. هذا إسناد غريب كما قال الدارقطني في «الغرائب والأفراد» (الأطراف: 3763)، وذلك ــ والله أعلم ــ أن زكريا بن أبي زائدة تفرَّد به عن أبي إسحاق، وقد سمع منه بأخرةٍ بعد ما تغيَّر. وخالفه إسرائيل ــ وهو من أتقن أصحاب جدِّه أبي إسحاق ــ فرواه عنه، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1599). فالظاهر أن هذا هو المحفوظ في حديث ابن مسعود، ورواته ثقات. وأما رواية عامر الشعبي عن علقمة، فالمحفوظ أنها عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي كما سبق في الروايتين السابقتين، فمن جعلها عن ابن مسعود فالظاهر أنه وهم بسلوك الجادَّة المطروقة، فإن علقمة كثير الرواية عن ابن مسعود. وانظر: «العلل» للدارقطني (794). (2) في الأصل: «من»، ولعل المثبت الصواب.

(2/229)


من ذلك، لأنَّه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنبٍ، فكيف يعذِّبها تبارك وتعالى بلا ذنبٍ؟ وهذا المعنى حقٌّ لا يُعارِض نصَّ القرآن، فإنَّه لم يخبر أن المَوءُودة في النار بلا ذنب، فهذا لا يفعله الله قطعًا، وإنَّما يُدخِلها النار بحجته التي يقيمها يومَ القيامة إذا ركَّب في الأطفال العقل وامتحنهم، وأخرجت المحنةُ منهم ما يستحقون به النار. واحتجوا بما روى البخاري في «صحيحه» (1) في احتجاج الجنة والنار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وأمَّا النار فيُنشِئ الله لها خلقًا يُسكِنهم إيَّاها»، قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل، فلأن يدخلها من وُلد في الدنيا بين كافرَين أولى. قال شيخنا (2): وهذه حجةٌ باطلةٌ، فإنَّ هذه اللفظة وقعتْ غلَطًا من بعض الرواة، وبيَّنها البخاري رحمه الله تعالى في الحديث الآخر الذي هو الصواب، فقال في «صحيحه» (3): حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي _________ (1) برقم (7449) بلفظ: «إنه ينشئ للنار من يشاء فيُلقَون فيها»، وسيسوقه المؤلف بتمامه قريبًا. واللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حملًا على اللفظ المحفوظ من حديث أبي هريرة في الجنة وسيأتي قريبًا، وكذا حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند البخاري (7384) بنحوه. (2) انظر: «منهاج السنة» (5/ 101). (3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، برقم (4850). وأخرجه أيضًا مسلم (2846/ 36) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به.

(2/230)


- صلى الله عليه وسلم -: «تحاجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ (1) الناس وسَقَطُهم؟ قال الله عز وجل للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذِّب بك مَن أشاء من عبادي، ولكلِّ واحدة منكما ملؤها. فأمَّا النار فلا تمتلئ حتى يضع رِجلَه فتقول: قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضُها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا. وأمَّا الجنة فإنَّ الله يُنشِئ لها خلقًا». هذا هو الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا ريبٍ، وهو الذي ذكره في التفسير. وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل: {إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ اَلْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55] (2): حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اختصمت الجنة والنار إلى ربِّهما، فقالت الجنة: يا ربِّ ما لها لا يَدخُلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار ... (3)، فقال للجنة: أنت _________ (1) في الأصل: «الضعفاء»، خطأ. (2) كتاب التوحيد، برقم (7449). (3) كذا في الأصل بحذف مقول القول. وهو كذلك في نسخ «الصحيح» التي شرح عليها ابن بطَّال (10/ 472) والكرماني (25/ 159) وابن حجر (13/ 436)، وأيضًا في نسخة ابن سعادة المُرسيِّ (ت 566) الشهيرة (ق 254 - مكتبة مراد ملا)، ونسخة الصغاني التي طبع عنها الطبعة الهندية (2/ 1110). وجاء في نسخة اليونيني ــ كما في فروعها المتعددة و «إرشاد الساري» (10/ 413) والطبعة السلطانية (9/ 134) ــ: «وقالت النار ــ يعني: أُوثِرتُ بالمتكبرين ــ فقال الله تعالى للجنة». والظاهر أنه إدراج من بعض رواة النسخة أخذًا من الرواية السابقة عند البخاري.

(2/231)


رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك مَن أشاء، ولكلِّ واحدة منكما مِلؤها»، قال: «فأمَّا الجنة فإنَّ الله لا يظلم مِن خلقه أحدًا، وإنَّه ينشئ للنار من يشاء، فيُلقَون فيها فتقول: هل من مزيدٍ؟ ويُلقَون فيها وتقول: هل من مزيدٍ؟ ــ ثلاثًا ــ حتى يضعَ قدمه فيها فتمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعضٍ، وتقول: قَطْ قَطْ». فهذا غير محفوظٍ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعًا، كما انقلب على بعضهم: «إنَّ بلالًا يؤذِّن بليلٍ، فكُلُوا واشرَبُوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم» (1) فقال: «ابنُ أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال» (2)، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة في (3) المتن. وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا لم يُحفَظ كما ينبغي (4)، وسياقه يدلُّ على أنَّ راويَه لم يُقِم متنَه، بخلاف حديث همَّام عن أبي هريرة. _________ (1) أخرجه البخاري (617، 622) ومسلم (1092) من حديثَي ابن عمر وعائشة. ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري (621) ومسلم (1093). (2) أخرجه ابن خزيمة (406) ــ وعنه ابن حبان (3473) ــ من حديث عبد العزيز الدَّراوَرْدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -، والدراوردي فيه لين. وقد فصل القول فيه الحافظ ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 519 - 521؛ دار ابن الجوزي). (3) في الأصل: «من»، ولعل المثبت أشبه. (4) والظاهر أن الوهم ممن هو دون الأعرج، فإن مسلمًا أخرجه (2846) من طريقين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة دون قوله: «وإنه ينشئ للنار من يشاء».

(2/232)


واحتجُّوا بما في «الصحيح» (1) من حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة أنَّه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيُصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هم منهم». وفي لفظ (2): «هم من آبائهم»، قال الزهري: ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان. ولا حجةَ لهم في هذا، فإنَّه إنَّما سُئِل عن أحكام الدنيا وبذلك أجاب، والمعنى: أنَّهم إن أُصِيبوا في التَّبْيِيت والغَارة فلا قوَدَ ولا دِيَةَ على مَن أصابهم لكونهم أولادَ مَن لا قوَدَ ولا ديةَ لهم. وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالًا وجوابًا. واحتجَّوا أيضًا بقول الله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]. وهذا يدلُّ على أنَّ ذرية الكافرين تُلحَق بهم ولا يُلحَقون بالمؤمنين وذريَّاتهم، فإنَّ الله تعالى شرَطَ في الإلحاق إيمان الآباء. وهذا لا حجةَ فيه، لأنَّ الله تعالى إنَّما أخبر عن إلحاق ذريَّة المؤمنين بآبائهم، ولم يُخبِر عن ذريَّة الكفار بشيء. بل الآية حجةٌ على نقيض ما ادَّعوه من وجهين: أحدهما: إخباره أنَّه لم ينقص الآباءَ بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئًا، فكيف يعذِّب هذه الذرية بلا ذنب؟! _________ (1) للبخاري» (3012) ومسلم (1745/ 26). (2) عند البخاري (3013) ومسلم (1745/ 28) وأبي داود (2672)، وقول الزهري عند أبي داود فقط.

(2/233)


الثاني: أنَّه سبحانه نبَّه على أنَّ هذا الإلحاق مختصٌّ بأهل الإيمان. وأمَّا الكفار فلا يُؤَاخَذون إلا بكسبهم، فقال تعالى: {كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين} [الطور: 19]. واحتجَّوا أيضًا بقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنَّه قال: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 29]، والفاجر والكَفَّار من أهل النار. وهذا لا حجةَ فيه، لأنَّه إنَّما أراد به كُفَّار أهل زمانه قطعًا، وإلَّا فمَن بعدهم من الكفار قد وَلَد بعضُهم الأنبياءَ، كما وَلَد آزرُ إبراهيمَ الخليل. وأيضًا فقوله: {فَاجِرًا كَفَّارًا} حالٌ مقدرةٌ، أي مَن إذا عاش كان فاجرًا كفارًا، ولم يُرِد به أنَّ أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرةً كفرةً، كما تقدَّم بيانُه. فصل المذهب الثالث: أنَّهم في الجنة. وهذا قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين والصوفية. وهو اختيار أبي محمد بن حزم (1) وغيره. واحتجَّ هؤلاء بما رواه البخاري في «صحيحه» (2) عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يُكثِر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحدٌ منكم رؤيا»، قال: فيقصُّ عليه مَن شاء الله أن يقصَّ، وإنَّه قال لنا ذات غَدَاة: «إنَّه أتاني الليلة آتيان ... » وذكر الحديث، وفيه: «فأتينا على روضة مُعْتَمَّة، فيها _________ (1) انظر: «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 60). (2) برقم (7047).

(2/234)


مِن كلِّ لون الرَّبيع، وإذا بين ظهري الرَّوضةَ رجلٌ طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولًا، وإذا حول الرجل مِن أكثر ولدانٍ رأيتُهم قطُّ»، ثم قال: «وأمَّا الوِلدان حولَه فكلُّ مولودٍ مات على الفطرة»، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأولاد المشركين». قالوا: فهذا الحديث الصحيح الصريح هو فصل الخطاب. وفي «مستخرج البَرقاني» (1) من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رَجَاء العُطارِدي، عن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة»، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين». وقال أبو بكر بن حمدان القَطِيعي: حدثنا بِشْر بن موسى، حدثنا هَوْذَة بن خَليفة، حدثنا عَوف، عن خَنْسَاء بنت معاوية قالت: حدثتني عمَّتي: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والمَوءُودة في الجنة» (2). وكذلك رواه بُنْدار، عن غُنْدَر _________ (1) وإليه عزاه المؤلف أيضًا في «طريق الهجرتين» (ص 853). وأخرجه أيضًا أبو عوانة (10053) وابن حبان (655)، وهو عين حديث سمرة السابق، رواه بعضهم بالمعنى. وقد سبق تفصيل القول فيه (ص 156). (2) أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (867، 7124) وابن الفاخر (ت 564) في «موجبات الجنة» (382) من طريق أبي بكر القطيعي به. وأخرجه أحمد (20583، 20585) وأبو داود (2521) وابن أبي شيبة (19852) والبيهقي (9/ 163) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 116) وفي «الاستذكار» (8/ 401) من طرق عن عوف به. وفي عامَّة الطرق: «حسناء» بدل «خنساء»، وتروي عن عمِّها بدل عمَّتها. حسَّن الحافظ إسناده في «الفتح» (3/ 246). وخنساء (أو حسناء) وإن كانت مجهولة، ولكن للحديث شواهد تعضده، منها مرسل الحسن بإسناد صحيح في تفسير يحيى بن سلام (2/ 657) وابن أبي حاتم (10/ 3406) بمثله. وهناك شواهد مسندة عن أنس وابن عباس وغيرهما لكنها واهية. انظر: «أنيس الساري» (3925)، و «صحيح أبي داود- الأم» للألباني (7/ 280).

(2/235)


عن عوف (1). واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. واحتجُّوا بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]. واحتجُّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - حاكيًا عن ربِّه تعالى أنَّه قال: «إنِّي خلقتُ عبادي حُنَفاء كلَّهم، وإنَّهم أتتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بيْ ما لم أُنزِل به سُلطانًا» (2). واحتجَّوا أيضًا بقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظّى (14) لَا يَصْلَاهَا} الآية [الليل: 14 - 15]، وبقوله في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} [البقرة: 23]، وبقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية [الإسراء: 15]، وبقوله: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} الآية [النساء: 164]، وبقوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية [الأعراف: 17]. _________ (1) من طريق بُندار (محمد بن بشار) أخرجه ابن عبد البر. (2) أخرجه مسلم (2865/ 63)، وقد تقدَّم غير مرَّة.

(2/236)


قالوا: والقرآن مملوءٌ من الأخبار بأنَّ دخول النار إنَّما يكون بالأعمال، كقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 92]، وقوله: {وَاَتَّقُوا يَوْمًا تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ} الآية [البقرة: 280]، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ اُلظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِّئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78]، وقوله: {وَقَالَ اَلَّذِينَ فِي اِلنّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اَدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ اَلْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسْلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَاَدْعُوا وَمَا دُعَاءُ اُلْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49 - 50]، وقوله تعالى: {وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا اَلْكَفُورُ} [سبأ: 17]، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، ونظير ذلك في القرآن كثيرٌ. وأيضًا: فالنار (1) دارُ جزاءٍ فلا يَدخُلها مَن لا ذنبَ له، وما ثَمَّ إلا دارُ الثواب أو دارُ العقاب، فإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة. قالوا: وإذا كان اللهُ يُنشِئ للجنة خلقًا آخرين يُدخِلهم إيَّاها بلا عمل، فالأطفال الذين وُلِدوا في الدُّنيا أولى بها. قالوا: وإذا كان كلُّ مولود يُولَد على الفطرة إلى أن يغيِّر أبواه فطرتَه، فإذا مات قبل التغيير مات على الفطرة، فكان من أهل الجنة. قالوا: وقد أخبر تعالى أنَّه خلق عباده حُنَفاء مسلمين وأنَّ الشياطين اجتالَتْهم عن دينهم، فمَن مات قبل اجتيال الشياطين مات على الحنيفيَّة، _________ (1) في المطبوع: «فالدار»، تصحيف.

(2/237)


فيكون من أهل الجنة. ودليل ذلك ما روى مسلم في «صحيحه» (1) من حديث عِياض بن حِمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء .. » الحديث. وزاد فيه محمد بن إسحاق، عن ثَور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عِياض بن حِمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله خلق آدم وبَنِيه حُنَفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامًا» (2). قالوا: وأيضًا، فالنار دارُ عدله تعالى، لا يدخلها إلا مَن يستحِقُّها. وأمَّا الجنَّة فدارُ فضله فيُدخِلها مَن أراد، بعملٍ وغير عمل. وإذا كانت النار دار عدله فمَن لم يعصِ الله طرفةَ عينٍ كيف يُجازَى بالنار خالدًا مخلَّدًا أبدَ الآباد؟! قالوا: وأيضًا، فلو عذَّب الأطفال لكان تعذيبهم إمَّا مع تكليفهم بالإيمان، أو بدون التكليف. والقسمان ممتنعان. أمَّا الأول، فلاستحالة تكليفِ مَن لا تمييزَ له، ولا عقلَ أصلًا. وأمَّا الثاني، فممتنعٌ أيضًا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالِها مِن أنَّ الله تعالى لا يعذِّب أحدًا إلا بعدَ قيام الحجة عليه. قالوا: وأيضًا، فتعذيبهم إمَّا أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم، وإمَّا لوجود الكفر منهم، والقسمان باطلان. أمَّا الثاني فظاهرٌ، لأنَّ مَن لا عقلَ له ولا تمييزَ لا يَعرِف الكفر حتى يختاره. وأمَّا الأول، فلو عُذِّبوا لعدم وجود _________ (1) برقم (2865/ 63)، وقد تقدَّم آنفًا. (2) سبق تخريجه، والكلام على زيادة «مسلمين» فيه. انظر: (ص 117 - 119).

(2/238)


الإيمان الفعلي منهم لَاشتَركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك لِاشتِراكِهم في سببه. فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تَبَعُهم لآبائهم من العذاب، بخلاف أطفال المشركين فإنَّهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم وإهانةً لهم وغَيظًا. قيل: هذا خطأٌ، فإنَّ الله لا يعذِّب أحدًا بذنب غيره، كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 166]، وقال: {فَاَلْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الآية [يس: 53]. قالوا: وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن همَّ بسيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكتَب عليه حتى يَعمَلَها» (1)، فإذا لم يعاقب المكلَّف بما يهُمُّ به من السيئات، كيف يعاقب الطفل بما لم يعمله ولم يهُمَّ به ولم يَخطُر بباله؟! قالوا: ولا خلافَ بين الناس أنَّ الطفل الذي لم يميِّز إذا مات طفلًا وقد عَلِم الله منه أنَّه لو عاش لقتل النفوس وسفَكَ الدِّماء وغصَبَ الأموال، فإنَّ الله لا يعذِّبه على ذلك. قالوا: وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم - في أطفال المشركين: «هم من آبائهم»، فإنَّما أراد أنهم منهم في أحكام الدنيا. وأمَّا قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، فإنَّه لم يُرِد به أنَّه يَجزِيهم بعلمه فيهم، وإن لم يقع معلومه (2) في الخارج. _________ (1) أخرجه البخاري (7501) ومسلم (128، 130) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه. (2) في الأصل: «معلوم».

(2/239)


قالوا: وأيضًا فإنَّما قال هذا قبل أن يوحى إليه في أمرهم، فلمَّا أوحي إليه أنَّهم في الجنة أخبر به أصحابه. قلت: وهذا الجواب لا يصِحُّ، فإنَّه أخبر بهذا في حديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة، وهما ممَّن تأخر إسلامه إلى بعد خيبر. وإنَّما الجواب الصحيح أن يقال: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بأنَّ الله يعذِّبهم على علمه فيهم، وإنَّما أخبر بأنَّه أعلم بما هم عاملون ممَّا يستحقُّون به العقاب، فإذا امتُحِنوا في الآخرة وعملوا بمعصيته ظهر معلومُه فيهم، فعاقبهم بما هم عاملون، لا بمجرَّد علمه. قالوا: وأمَّا حديث خديجة - رضي الله عنها - أنَّهم في النار فلا يصِحُّ، وقد تقدَّم كلامُ الناس فيه (1). وأمَّا حديث: «الوائدة والموءودة في النار» (2)، فليس في الحديث أنَّ الموءودة لم تكن بالغةً، فلعلَّها وُئدت بعد بلوغها. فإن قلتم: فلفظ الحديث: «يا رسول الله، إنَّ أُمَّنا وَأَدَتْ أختًا لنا في الجاهلية لم تبلُغ الحِنثَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوائدة والموءودة في النار»، فقد قال أبو محمد بن حزم (3): هذه اللفظة وهي قوله: «لم تبلغ الحنث»، ليست من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شكٍّ، ولكنَّها من كلام سَلَمة بن يزيد الجُعفِي وأخيه اللَّذَين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الموءودة في _________ (1) (ص 226 - 227). (2) تقدَّم تخريجه (ص 227 - 229). (3) في «الفصل» (4/ 62 - 63).

(2/240)


النار كان ذلك إنكارًا وإبطالًا لقولهما: «لم تبلغ الحنث» وتصحيحًا، لأنَّها كانت قد بلغت الحنث بوحيٍ من الله إليه بخلاف ظنِّهما. لا يجوز إلَّا هذا القول، لأنَّ كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه، بل كلامه يصدِّق بعضه بعضًا، ويُوافِق ما أخبر به ربُّه عز وجل، ومعاذ الله من غير ذلك! وقد صحَّ إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ أطفال المشركين في الجنة. وقال تعالى: {وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 ــ 9]، فنصَّ تعالى على أنَّه لا ذنبَ للمَوءُودة. فكان هذا مبينًا لأنَّ إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ تلك الموءودة في النار إخبارٌ عن أنَّها كانت قد بلغت الحِنثَ بخلاف ظنِّ إخوتها. وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند: محمدُ بنُ أبي عَدِي، وليس هو دون المُعتَمِر، ولم يذكر فيه: «لم تبلغ الحنث». ورواه أيضًا عن داود: عُبيدة بن حميد، فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر (1) ــ ثم ساق الحديثين ــ (2). _________ (1) من طريق المعتمر (عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن يزيد الجعفي) أخرجه النسائي في «الكبرى» (11585) والطبراني في «الكبير» (7/ 39). وانظر ما سبق (ص 227 - 229). (2) أي حديثي محمد بن أبي عدي وعُبيدة بن حميد، كلاهما عن داود بن أبي هند. أما الأول فساقه من طريق أحمد بن حنبل ــ وهو في «المسند» (15923) ــ عن محمد بن أبي عدي به. وأما الثاني فأخرجه من طريق محمد بن وضَّاح القرطبي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عُبيدة بن حميد به. ومحمد بن وضَّاح قد خالفه ابنُ أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2474) فرواه عن أبي بكر بن أبي شيبة بإثبات هذه اللفظة: «لم تبلغ الحنث»، وابنُ أبي عاصم أحفظ وأعلم وأضبط من محمد بن وضاح، وقد حفظ الزيادة في الحديث، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

(2/241)


ثم روى من طريق أبي داود (1) عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الوائدة والموءودة في النار». ثم قال: هذا مختصر، وهو على ما ذكرنا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - إنَّما عَنى بذلك التي (2) بلَغَت، لا يجوز غير هذا. قال (3): وقد يُمكِن أن يَهِمَ فيه الشعبي، فإنَّه مرةً أرسله، ومرةً أسنده. ولا يخلو ضرورةً هذا الخبرُ من أنَّه وهمٌ أو أنَّ أصله مرسلٌ، كما رواه أبو داود (4): حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أو أنَّه إن صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنَّما أراد به التي بلغت، لا يجوز غير ذلك. قلت: وهذا الجواب في غاية الضعف، ولا يجوز أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِل عن موءودة لم تبلغ الحنث، فأجاب (5) عمَّن بلغت الحنث، بل إنَّما خرج جوابُه - صلى الله عليه وسلم - لنفس ما سئل عنه. فكيف ينسب إليه أنَّه ترك الجواب عمَّا سُئِل عنه، وأجاب عمَّا لم يُسأَل عنه مُوهِمًا أنَّه المسؤول عنه، ولم يُبيِّنه للسائل؟! هذا لا يُظَنُّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلًا. _________ (1) وهو في «سننه» (4717)، وقد تقدَّم تخريجه مفصَّلًا. (2) أٌقحمت هنا في الأصل: «لا» خطأً، أو أنها تحريف عن «قد»، وليست في مصدر المؤلف. (3) قول ابن حزمٍ هذا ليس في مطبوعة «الفصل»، ولا في نسخة مكتبة السليمانية الخطية المنسوخة سنة 722 هـ (ق 396)، فليُنظر. (4) برقم (4717) أيضًا. وانظر: «علل الدارقطني» (794). (5) في الأصل: «فيجب».

(2/242)


وأمَّا قوله: «إنَّ هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة»، فلا يضُرُّه ذلك، لأنَّ الذي زادها ثقةٌ ثبتٌ لا مطعنَ فيه، وهو المعتمر بن سليمان، كيف وقد صرَّح بالسماع من داود بن أبي هند. واختصار ابن أبي عدي وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحًا في رواية مَن زادها (1). وأيضًا: لو لم يُذكر في السؤال لكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - شاملًا لها بعمومه، كيف وإنَّما كانت عادتُهم وَأْدَ الصِّغار لا الكبار! ولا يضرُّه إرسالُ الشعبي له. وإنَّما الجواب الصحيح عن هذا الحديث أنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الوائدة والموءودة في النار» جوابٌ عن تلك (2) الوائدة والموءودة اللَّتَين سُئِل عنهما، لا إخبارٌ عن كل وائدةٍ وموءودةٍ، فبعض هذا الجنس في النار، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار. ويدلُّ عليه حديث بشر بن موسى، عن هوذة بن خليفة، عن عوفٍ، عن خنساء بنت معاوية قالت: حدثتني عمتي: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموءودة في الجنة» (3). رواه جماعة عن عوف. وأخباره - صلى الله عليه وسلم - لا تتعارض، فيكون كلامه دالًّا على أنَّ بعض هذا الجنس _________ (1) سبق في التخريج قريبًا أن عُبيدة بن حميد قد تابع المعتمر في إثبات هذه الزيادة كما عند ابن أبي عاصم في «الآحاد»، وأن الاختصار وقع في إسناد ابن حزمٍ من بعض الرواة ممن دون عُبيدة بن حميد. (2) كذا في الأصل. (3) تقدم تخريجه (ص 235).

(2/243)


في الجنة وبعضه في النار، وهذا هو الحقُّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأمَّا قوله تعالى: {وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}، فهذا السؤال إنَّما هو إقامةٌ لحُجَّته سبحانه على تعذيب مَن وَأَدَها، إذ قتل نفسًا بغير حقِّها. وأمَّا حكمه سبحانه فيها هي، فإنَّه يحكم فيها بغير حكمه في الأبوين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فصل واحتجوا أيضًا على أنَّهم في الجنة بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرَّقَاشِي، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سألتُ ربِّي اللَّاهين من ذرية البشر أن لا يُعذِّبَهم، فأعطانيهم، فهم خَدَمُ أهل الجنة» (1). وبحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألَتْ خديجةُ - رضي الله عنها - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: «هم مع آبائهم»، ثم سألَتْه بعد ذلك، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، ثم سألَتْه بعد ذلك، فنزلت: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 166]، فقال: «هم على الفطرة» أو قال: «هم في الجنة». ذكره أبو عمر في «الاستذكار» (2)، ولم يذكر له إسنادًا، فيُنظَر في إسناده. _________ (1) أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1544) بإسناده عن يعقوب بن عبد الرحمن به. وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي، وسيأتي تخريجه مفصلًا (ص 248). (2) (8/ 401)، وأسنده في «التمهيد» (18/ 117) من طريق أبي معاذ، عن الزهري، عن عروة، عنها. وهذا إسناد واهٍ بمرَّة، أبو معاذ هو سليمان بن أرقم، متروك منكر الحديث. وقد ضعَّف إسنادَه الحافظ في «الفتح» (3/ 247).

(2/244)


ثم قال (1): وآثار هذا الباب معارِضةٌ لحديث «الوائدة والموءودة في النار» وما كان مثلَه. وإذا تعارضت الآثار وجب سقوطُ الحكم بها، ورجعنا إلى الأصل: وهو أنَّه لا يعذِّب أحدًا إلا بذنبٍ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 131]، وآيُ القرآنِ كثيرٌ في هذا المعنى. على أنَّي أقول: إنَّ الله ليس بظلَّام للعبيد، ولو عذَّبهم لم يكن ظالمًا لهم، ولكن (2) جَلَّ مَن تسمَّى بالغفور الرحيم الرؤوف الحليم أن يكون من صفته إلا حقيقة «لا إله إلا هو، لا يُسأَل عما يفعل». قلت: وآثار هذا الباب الصحيحة ليس فيها بحمد الله تعارضٌ، وحديث «الوائدة والموءودة في النار» قد تقدَّم الجواب عنه. ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا تُوجِب سقوطَ الحكم بالصحيحة، والأحاديثُ الصحيحة يصدِّق بعضُها بعضًا. فصل المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين الجنة والنار. فإنَّهم ليس لهم إيمانٌ يدخلون به الجنة، ولا لآبائهم إيمانٌ يَتبَعُهم أطفالُهم فيه تكميلًا لثوابٍ وزيادةً في نعيم. وليس لهم من الأعمال ما يستحِقُّون به دخول النار، ولا من الإيمان ما يدخلون به الجنة، والجنة لا يدخلها إلا نفسٌ مؤمنةٌ، والنار لا يدخلها إلا نفسٌ كافرةٌ. _________ (1) (8/ 402 - 403). (2) في الأصل: «ولكنه»، والمثبت من المصدر.

(2/245)


وهذا قول طائفة من المفسرين. قالوا: وهم أهل الأعراف. قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة وأطفال المشركين (1). وأرباب هذا القول إن أرادوا أنَّ هذا المنزل مُستقَرُّهم أبدًا فباطل، فإنَّه لا مُستقَرَّ إلا الجنة أو النار. وإن أرادوا أنَّهم يكونون فيه مُدَّةً، ثم يصيرون إلى دار القرار، فهذا ليس بممتنع. والصحيح في أهل الأعراف أنَّهم قوم تساوت حسناتُهم وسيِّئاتُهم، فقصُرَت بهم حسناتُهم عن النار، وقصُرَت بهم سيِّئاتُهم عن الجنة، فبَقُوا بين الجنة والنار. كذا قال غير واحد من الصحابة منهم: حذيفة، وأبو هريرة، وغيرهما (2). فصل المذهب الخامس: أنَّهم مردودون إلى محض مشيئة الله فيهم بلا سبب ولا عمل، فيجوز أن يعُمَّهم جميعَهم بعذابه، وأن يعُمَّهم جميعَهم (3) _________ (1) كذا، والذي في «معالم التنزيل» للبغوي (3/ 233): «قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم. وقيل: هم أطفال المشركين». فقول «هم أطفال المشركين» ليس من كلام الكناني. ولعل نسخة المؤلف منه كان فيه سقط أدَّى إلى هذا الخلط. وفي «الكشف والبيان» للثعلبي (12/ 359): «وفي تفسير المَنْجُوفي أنهم أولاد المشركين». ولم يتبيَّن من المنجوفي هذا، والمشهور بهذه النسبة شيخ البخاري: أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف السدوسي المنجوفي (ت 252). (2) انظر: «تفسير الطبري» (10/ 212 وما بعدها) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1485). (3) «بعذابه، وأن يعُمَّهم جميعَهم» سقط من المطبوع لانتقال النظر.

(2/246)


برحمته، وأن يدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار. ولا سبيل لنا إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلَّا بخبر يَجِب المصير إليه، وكلُّها جائزةٌ بالنسبة إلى الله، وإنَّما يترجَّح بعضُها على بعض بمجرَّد المشيئة. وهذا قول الجَبْريَّة نُفاةِ الحكمة والتعليل. وقد ظنَّ كثيرٌ من هؤلاء أنَّ هذا جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سُئِل عنهم فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وهذا الفهم غلطٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجوابُه لا يدُلُّ على ذلك أصلًا، بل هو حجةٌ عليهم، فإنَّه لم يقُلْ: هم في مشيئة الله يفعل فيهم ما يشاء بلا سبب ولا عمل، بل أخبر أنَّ الله يعلم أعمالهم التي يستحقُّون بها الثواب أو العقاب لو عاشوا. وقد دلَّت الآثار التي سنذكرها على ظهور معلومه فيهم في الدار الآخرة، الذي يقع عليه الثواب والعقاب. وهذا المذهب مَبنِيٌّ على أصول الجبريَّة المنكرين للأسباب والحِكَم والتعليل. وهو مذهب مخالف للعقل والفطرة، والقرآن والسنة، وجميع ما جاءت به الرسل. فصل المذهب السادس: أنَّهم خدَمُ أهل الجنة ومماليكُهم. وهم معهم بمنزلة أرقائهم ومماليكهم في الدنيا. وهذا مذهب سلمان. واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرقاشي، عن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سألتُ ربي اللَّاهين من ذريَّة البشر أن لا يعذِّبَهم، فأعطانيهم، فهم خَدَمُ أهل

(2/247)


الجنة» (1) يعني الصبيان. قال الدارقطني (2): ورواه عبد العزيز الماجشون، عن ابن المنكدر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. فهذه طريقان، وله طريقٌ ثالث عن فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس (3). قال ابن قتيبة (4): اللَّاهون مِن: (لَهِيتُ عن الشيء)، إذا غَفَلتَ عنه، وليس هو مِن (لَهَوتُ). _________ (1) أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1544) بإسناده عن يعقوب بن عبد الرحمن به، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبان الرقاشي. (2) في «العلل» (2656). ومن هذا الطريق أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (4101، 4102) وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (2906) والبيهقي في «القضاء والقدر» (629) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 117). وهو كسابقه، فيه يزيد الرقاشي. وقد روي من طرق عن محمد بن المنكدر عن أنس مباشرة ــ وسيأتي بعضها ــ، ولكنها كلها ضعيفة ومعلولة، والصواب أن بينهما يزيد الرقاشي. انظر: «السلسلة الصحيحة» (1881) و «أنيس الساري» (2203). (3) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (3570) وابن عدي في «الكامل» (7/ 184، 8/ 584) والطبراني في «الأوسط» (5957)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن المتوكل عن فضيل بن سليمان به. وهذا الطريق ليس بثابت كما قال الدارقطني في «العلل» (2656)، وذلك أن عبد الرحمن بن المتوكل قد خُولف فيه، خالفه عمرو بن مالك البصري فرواه عن فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن المنكدر، عن أنس. وهو الصواب، على ما فيه من إسقاط يزيد الرقاشي. (4) كما في «العلل المتناهية» (2/ 444)، ولم أجده في «غريبه».

(2/248)


وهذا الحديث ضعيف، فإنَّ يزيد الرقاشي واهٍ، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف. وفضيل بن سليمان فيُنظَر فيه (1). وقال محمد بن نصر المروزي (2): حدثنا سعد بن مسعود، ثنا الحجَّاج بن نصير (3)، حدثنا مبارك بن فَضَالة، عن علي بن زيد، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولاد المشركين، قال: «خدم أهل الجنة». حدثنا عيسى بن مُساوِر، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسَّان الكِنَاني (4)، أخبرنا محمد بن المُنكَدِر، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سألتُ ربِّي اللَّاهين من ذرية البشر أن لا يعذِّبَهم، فأعطانيهم» (5). وهذه طريقٌ رابع لحديث أنسٍ، فيُنظَر في عبد الرحمن بن حسان هذا (6). _________ (1) قال المؤلف في «حادي الأرواح» (1/ 467) في الكلام على هذه الطرق: «وفضيل بن سليمان متكلم فيه»، والآخران كما هنا. وفُضيل قد تكلم فيه ابن معين والرازيان والنسائي وغيرهم. انظر: «تهذيب الكمال» (6/ 47) و «تهذيب التهذيب» (8/ 291). (2) لعله في كتاب «الرد على ابن قتيبة». وأخرجه أيضًا البزار (7466) وابن أبي الدنيا في «النفقة على العيال» (204) عن الفضل بن سهل، عن الحجاج بن نصير به. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (5355) من طريق آخر عن مبارك بن فَضالة به. وإسناده ضعيف، مبارك بن فَضالة فيه لين، وعلي بن زيد هو ابن جُدعان: ضعيف. (3) في الأصل: «نصر»، تصحيف. (4) في الأصل: «الكندي»، تصحيف. (5) وأخرجه أيضًا الضياء المقدسي في «المختارة» (7/ 201) من طريق آخر عن الوليد بن مسلم به. (6) عبد الرحمن بن حسَّان صدوق، ولكن الشأن في الوليد بن مسلم، فإنه يدلِّس تدليس التسوية، ولعله سوَّى الإسناد بإسقاط يزيد الرقاشي بين ابن المنكدر وأنس، فإن عبد العزيز الماجشون ــ وهو ثقة من رجال الشيخين ــ قد رواه عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس كما سبق. فمدار الحديث على يزيد، وغير ابن المنكدر من الثقات، كأبي حازم المديني (وقد سبق) والأعمش (أبو يعلى: 4090) والرَّبيع بن صَبيح (الطيالسي: 2225)، أيضًا يروونه عن يزيد الرقاشي عن أنس.

(2/249)


وقال محمد بن نصر: حدثنا أبو كامل، حدثنا أبو عَوَانة، عن قتادة (1)، عن أبي مُراية، عن سلمان قال: أطفال المشركين خدم أهل الجنة (2). حدثنا عمرو بن زُرارة، ثنا إسماعيل، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي مُراية العِجْلي قال: قال سلمان: ذراري المشركين خدم أهل الجنة (3). _________ (1) في الأصل: «أبي قتادة»، خطأ. وسيأتي على الصواب في الإسناد التالي. (2) أخرجه أيضًا لوين في «حديثه» (32) والبيهقي في «القضاء والقدر» (630)، كلاهما من طريق أبي عوانة به. قال البيهقي: الخبر موقوف، وأبو مُراية فيه نظر. وقال أبو داود كما في «سؤالات الآجري» (2/ 141): «أبو مُراية لم يَرَ سلمان قط»، وعليه ففي إسناده انقطاع. (3) تابع أبا عوانة وسعيدًا في روايتهما على هذا الوجه: همامُ بن يحيى والخليل بن مرَّة، كما في «تفسير يحيى بن سلَّام» (2/ 657). وخالف هؤلاء الأربعة معمرٌ ــ كما في «جامعه» (20079) ــ فرواه عن قتادة عن الحسن عن سلمان، وتمامه: «ثم قال الحسن: ما تعجبون؟ أكرمهم الله وأكرم بهم». والأشبه أن في الرواية اختصارًا موهمًا، وأن الحسن لم يروِ ذلك عن سلمان، وإنما ذكر له قتادةُ ما رواه أبو مُراية عن سلمان، فقال الحسن: «وما تُنكرون؟ قوم أكرمهم الله وأكرم بهم». هكذا في رواية الخليل بن مرَّة عن قتادة عند يحيى بن سلام. على أنه لو صحَّت رواية معمر، لكان فيها انقطاع أيضًا، فإن الحسن لم يُدرك سلمان.

(2/250)


فصل المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة. فلا يُفرَدون عنهم بحكم في الدارين؛ فكما أنَّهم منهم في الدنيا، فهم منهم في الآخرة. والفرق بين هذا المذهب وبين مذهب من يقول: هم في النار= أنَّ صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعًا لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار. وصاحب القول الآخر يقول: هم في النار، لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوا النار تبعًا. وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي تقدم ذكره أنهم في النار (1). وبما في «الصحيحين» (2) من حديث الصَّعب بن جَثَّامة: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيُصِيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: «هم منهم». ومثله حديث الأسود بن سريع، وقد تقدم (3). واحتجُّوا بحديث ابن مسعود: «الوائدة والموءودة في النار»، فدخلت الوائدة النار بكفرها، والمَوءُودة تبعًا لها. قالوا: وكما أنَّ إتباع ذرية المؤمنين بآبائهم كان إكرامًا لهم وزيادةً في _________ (1) انظر: (ص 223 - 224). (2) البخاري (3012) ومسلم (1745)، وقد تقدَّم. (3) (ص 114)، ولم يتبيَّن وجهُ كونِه مثل حديث الصعب بن جثَّامة، فليُنظر.

(2/251)


ثوابهم، وأنَّ الإتباع إنَّما استُحِقَّ بإيمان الآباء، فإذا انتفى إيمان الآباء انتفى الإتباع الذي تحصل به النجاة. ولا حجةَ لهم في شيء من ذلك. أمَّا حديث عائشة فالصحيح فيه ما تقدَّم ذكره وجوابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وأما حديثها الآخر وهو قوله: «هم في النار» فلا يصح، وقد تقدم الكلام عليه (1). وأما قوله: «هم من آبائهم» فليس فيه تعرُّضٌ للعذاب، وإنَّما فيه أنَّهم منهم في الحكم، وأنَّهم إذا أصيبوا في البَيَات لم يضمنوا، وهذا مصرَّحٌ به في حديث الصعب والأسود بن سريع أنه في الجهاد. وأيضًا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: «هم من آبائهم»، ولم يقل: هم مع آبائهم، وفرقٌ بين اللفظين. وكونهم «منهم» لا يقتضي أن يكونوا معهم في الآخرة، بخلاف كونهم «منهم»، فإنَّه يقتضي أن تثبت لهم أحكامُ الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والولاية وغير ذلك من أحكام الإيلاد، والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر. والحديث إنَّما دلَّ على أنَّهم «من آبائهم». وهذا لا شكَّ فيه أنَّهم يُولَدوا (2) منهم، ولم يُرِد النبي - صلى الله عليه وسلم - الإخبار بمجرَّد ذلك، وإنَّما أراد أنَّهم منهم في الحكم. وهو لم يقُلْ: على دين آبائهم. فإن قيل: لو لم يكونوا على دينهم، وكانوا على الحنيفيَّة كما ذكرتم _________ (1) (ص 224). (2) كذا في الأصل.

(2/252)


لوجب أن يُصلَّى عليهم إذا ماتوا، وأن يُدفَنوا في مقابر المسلمين، وأن يرثهم أقاربُهم المسلمون، وأن لا يمكَّن أبواهم من تهويدهم وتنصيرهم، إذ لا يجوز تمكين الكافر من تهويد المسلم وتنصيره. فدلَّ انتفاء هذا كلِّه على أنَّهم منهم في الدين وأنَّهم تبعٌ لهم فيه، كما أنَّ أطفال المسلمين منهم في الدين وأنَّهم تبعٌ لهم فيه. قيل: هكذا نقول سواءً إذا لم يكن الطفل مع أبويه أو كافله مِن أقاربه، عملًا بمقتضى الفطرة والحنيفية التي خُلِقوا عليها. وأمَّا إذا كان الطفل بين أبويه، فإنَّ الذي خلقه على الفطرة والحنيفية أقرَّ أبويه على تربيته وتهويده وتنصيره. وذلك لضرورة بقاء نوع الكفار في الأرض، إذ لو مُنِع من ذلك ــ فالآباء يموتون والأطفال يحكم لهم بحكم الإسلام ــ لانْقَطَع الكفرُ من الأرض، وكان الدين كلُّه دينَ الإسلام وبطل الجهاد. والحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في الأرض الكفار والمسلمون، والأبرار والفجار، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. وليس ترك الصلاة عليهم ما يوجب أن يكونوا كفارًا مخلَّدين، فالشهداء ــ وهم من أفاضل المسلمين ــ لا يصلى عليهم. وأمَّا انقطاع التَّوَارُث بينهم وبين أقاربهم المسلمين فلا يقتضي أيضًا أن يكونوا كفارًا في أحكام الآخرة، فالعبد المسلم لا يرث ولا يورث. وكثيرٌ من العلماء يُورِّث المسلمَ مالَ المرتد إذا مات على رِدَّته، وهذا القول هو الصحيح، وهو اختيار شيخنا (1). وهذا معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي _________ (1) انظر: «الاختيارات» للبعلي (ص 283) و «الفروع» (8/ 65).

(2/253)


سفيان، ومسروق بن الأجدع، وخلقٌ من الصحابة والتابعين، وإسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة يُورِثون المسلمين مِن أقاربهم الكفار إذا ماتوا. وأما حديث ابن مسعود: «الوائدة والموءودة في النار» (1)، فقد تقدم أنَّ هذا الحديث إنَّما يدلُّ على أنَّ بعض الأطفال في النار، ولا يدلُّ على أنَّ كلَّ موءودة في النار، وقد تقدَّم جوابُ أبي محمد بن حزم وما فيه. وأحسنُ من هذين الجوابَين أن يقال: هي في النار ما لم يوجَد سببٌ يمنع دخولها النار. ففرقٌ بين كون الوَأْد مانعًا من دخول النار وكونه غيرَ مانعٍ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ الموءودة في النار، أي كونها موءودةً غيرُ مانعٍ لها من دخول النار بسببٍ يقتضي الدخول. فصل المذهب الثامن: أنَّهم يكونون يوم القيامة ترابًا. حكاه أرباب المقالات عن ثُمَامة بن أَشْرَس (2). وهذا قولٌ لعلَّه اخترعه من تِلقاء نفسه، فلا يُعرَف عن أحدٍ من السلف. وكأنَّ قائله رأى أنَّهم لا ثواب لهم ولا عقاب، فألحقهم بالبهائم. والأحاديث الصحاح والحسان وآثار الصحابة تكذِّب هذا القول، وترُدُّ عليه قولَه. _________ (1) سبق تخريجه. (2) النُّمَيري البصري، من رؤوس المعتزلة، من شيوخ الجاحظ، (ت 213). انظر لقوله: «الفرق بين الفِرَق» للبغدادي (ص 172)، و «الفصل» لان حزم (4/ 148)، و «الملل والنحل» للشهرستاني (ص 71).

(2/254)


فصل المذهب التاسع: مذهب الإمساك. وهو ترك الكلام في المسألة نفيًا وإثباتًا بالكليَّة، وجعْلُها ممَّا استأثر الله بعلمه وطوى معرفتَه عن الخلق. قال إسحاق بن راهويه (1): حدثنا يحيى بن آدم، ثنا جرير بن حازم، عن أبي رَجَاء العُطارِدي: سمعتُ ابنَ عباس - رضي الله عنهما - يقول: لا يزال أمرُ هذه الأمة مُؤامًّا (2) ــ أو مُقارِبًا ــ حتى يتكلَّموا أو ينظروا في الوِلدان والقدر. وفي لفظ (3): في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك، فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت. وقال محمد بن نصر (4): ثنا عمرو بن زُرارة، أخبرنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن ابن عون (5) قال: كنتُ عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال: ما كان بين قتادة وبين حفص بن عمر (6) في أولاد المشركين؟ قال: وتكلَّم ربيعة _________ (1) من طريقه أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 131)، وعلَّقه في «الاستذكار» (8/ 404) عن إسحاق به. (2) في كتابي ابن عبد البر: «مواتيًا»، أي: مطاوعًا مُذلَّلًا. وانظر هامش (ص 219 - 220). (3) هذا لفظ رواية إسحاق بن راهويه التي أسندها ابن عبد البر. وأما «الولدان والقدر» فنقله من كتاب محمد بن نصر المروزي قال: حدثنا شيبان بن أبي شيبة الأيلي، حدثنا جرير بن حازم به. (4) كما في «التمهيد» (18/ 132) و «الاستذكار» (8/ 405). (5) في الأصل: «ابن عوف»، تصحيف. وهو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، إمام مشهور، يروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وغيره من التابعين. (6) في مطبوعة «التمهيد»: «حفص بن عمير»، وفي مطبوعة «الاستذكار»: حفص بن عدي. ولعل كليهما تصحيف. ولم أتبيَّن من «حفص بن عمر» هذا.

(2/255)


الرأي في ذلك، فقال القاسم: إذا (1) اللهُ انتهى عند شيءٍ فانتهوا وقِفُوا عندَه، قال: فكأنَّما كانت نارٌ فأُطفِئَت! فصل المذهب العاشر: أنَّهم يُمتحَنون في الآخرة، ويُرسِل إليهم اللهُ تبارك وتعالى رسولًا، وإلى كلِّ مَن لم تبلُغه الدعوة، فمَن أطاع الرسولَ دخل الجنة، ومَن عصاه دخل النار. وعلى هذا، فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. وهذا قول جميع أهل السنة والحديث، حكاه الأشعري عنهم في كتاب «الإبانة» الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه، وذكره ابن فُورَك، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تصانيفه، وذَكَر لفظه في حكايته قول أهل السنة والحديث وطعن بذلك على مَن بدَّع الأشعري وضلَّله (2). قال فيه (3): «وجملة قولنا أن نقر بالله تبارك وتعالى، وملائكته، وكتبه ورسله، وما جاء من عنده، وما روى لنا الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرُدُّ مِن ذلك شيئًا ... » إلى أن قال (4): «وقولنا في الأطفال ــ أطفال المشركين ــ: إنَّ _________ (1) في المطبوع: «إن»، خلاف الأصل ومصدر النقل. (2) انظر: «تبيين كذب المفتري» (ص 28، 152 - 163، 389). (3) «الإبانة عن أصول الديانة» (ص 9). (4) (ص 12).

(2/256)


الله عز وجل يؤجِّج لهم نارًا في الآخرة، ثم يقول: «اقْتحِموها» (1)، كما جاءت الرواية بذلك». هذا قوله في «الإبانة» وهي من آخر كتبه. وقال في كتاب «المقالات» (2): وإنَّ الأطفال أمرُهم إلى الله، إن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم كما يريد. وهذا المذهب حكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في «الرد على ابن قتيبة»، واحتج له فقال: «ذِكرُ الأخبار التي احتجَّ بها مَن أوجب امتحانهم واختبارهم في الآخرة». فقال: حدثنا إسحاق (3)، أخبرنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعةٌ يُمتحنون (4) يوم القيامة: رجلٌ أصمُّ لا يَسمع، ورجل أحمق، ورجل هَرِمٌ، ورجل مات في الفترة. أمَّا الأصم فيقول: يا ربِّ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا. وأمَّا الأحمق فيقول: يا ربِّ، قد جاء الإسلام والصِّبيان يرمونني بالبعر. _________ (1) سيأتي تخريجه قريبًا. (2) (ص 296). (3) وهو في «مسنده» (41)، ومن طريقه أخرجه ابن حبان (7354) والطبراني (1/ 287) والضياء في «المختارة» (4/ 256). وأخرجه أحمد (16301) ــ ومن طريقه الضياء (4/ 255) ــ والبيهقي في «القضاء والقدر» (644) عن علي بن المديني عن معاذ به. والظاهر أن فيه انقطاعًا بين قتادة والأحنف، فإن قتادة يروي عن الحسن عنه كما في غير ما حديث. وأيضًا فإن قتادة ولد سنة 60، والأحنف توفي سنة 67 أو 71 أو 72، مما يبعُد معه سماعُه منه. (4) كذا في الأصل والمطبوع، ولعله تصحيف عن «يحتجُّون» كما في مصادر التخريج.

(2/257)


وأمَّا الهَرِم فيقول: يا ربِّ، قد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا. وأمَّا الذي مات في الفترة فيقول: ما أتاني لك رسولٌ. فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه، فيُرسِل إليهم رسولًا: أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا». حدثنا إسحاق (1)، أخبرنا معاذ بن هشامٍ، أخبرني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل هذا الحديث، غير أنَّه قال في آخره: «فمَن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومَن لم يدخلها سُحِب إليها». حدثنا أبو بكر بن زَنجَويه، ثنا عبد الرحمن، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «ثلاثةٌ يُمتحَنون يوم القيامة: المَعتُوه، والذي هَلَك في الفترة، والأصمُّ ... » فذكر الحديث (2). حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو نصر التَّمَّار، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد (3)، عن أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعةٌ كلُّهم يومَ القيامة يُدلِي على الله بحجة وعذر: رجلٌ هَلَك في _________ (1) «مسند إسحاق» (42). وأخرجه أحمد (16302) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (4/ 255) ــ والبيهقي في «الاعتقاد» (ص 185) وفي «القضاء والقدر» (645) عن علي بن المديني عن معاذ به. رجاله ثقات، وقد صحح البيهقي إسناده في كتابيه. وله طريق آخر عن أبي رافع، وسيأتي قريبًا. (2) وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 374) عن معمر به، ولفظه: «إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم ... ». (3) في الأصل والمطبوع: «بن يزيد»، تصحيف. وهو علي بن زيد بن جُدعان.

(2/258)


الفترة، ورجلٌ أَدرَك الإسلام هَرِمًا، ورجل أصمُّ أبكمُ، ورجل مَعتُوهٌ، فيبعث الله إليهم رسولًا، فيقول: أَطِيعوه، فيأتيهم الرسول، فيُؤجِّج لهم نارًا، فيقول: اقتحِموها، فمَنِ اقتحمها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومَن لا حَقَّتْ عليه كلمة العذاب» (1). حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سعيد بن سليمان، عن فُضَيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود»، قال: «يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتابٌ ولا رسولٌ»، ثم تلا: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزى} [طه: 133]، «ويقول المَعتُوه: ربِّ لم تجعل لي عقلًا أَعقِل به خيرًا ولا شرًّا»، قال: «ويقول المولود: ربِّ لم أُدرِك العقل»، قال: «فتُرفَع لهم نارٌ، فيقال لهم: رِدُوها» أو: «ادخلوها»، قال: «فيَرِدها ــ أو: يدخلها ــ مَن كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويُمسِك عنها مَن كان في علم الله شقيًّا لو أدرك العمل، فيقول: إيَّاي عصيتم فكيف رُسُلي؟!» (2). _________ (1) وأخرجه أيضًا أسد بن موسى في «الزهد» (97) وإسحاق في «مسنده» (508) وابن أبي عاصم في «السنة» (413)، كلهم من طريق حماد بن سلمة به. وعلي بن زيد بن جُدعان ضعيف، ولكن تابعه الحسن كما سبق قريبًا. (2) وأخرجه أيضًا البزار (كشف الأستار: 2176) وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (2038) والطبري (16/ 219) وابن أبي حاتم (9/ 2984) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 127) من طرق عن فضيل بن مرزوق به. وفضيل صدوق فيه لين، وعطية ــ هو العوفي ــ ضعيف.

(2/259)


قال محمد بن نصر: ورواه أبو نُعيم المُلَائي، عن فُضيل، عن عطية، عن أبي سعيد موقوفًا (1). حدثنا أبو بكر بن زنجويه، ثنا محمد بن المبارك الصوري (2)، ثنا عَمْرو بن واقد، عن يونس بن حَلْبَس، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالممسوخ ــ أو: الممسوخ عقلًا ــ والهالك في الفترة، والهالك صغيرًا، فيقول الممسوخ عقلًا: يا ربِّ، لو آتيتَني عقلًا ما كان مَن آتيتَه عقلًا بأسعدَ منِّي بعقله، ويقول الهالك في الفترة: يا ربِّ لو أتاني منك عهدٌ ما كان مَن أتاه منك عهد بأسعدَ بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرًا: يا ربِّ لو (3) آتيتَني عُمُرًا ما كان مَن آتيته عُمُرًا بأسعدَ بعُمُره منِّي. فيقول الرب سبحانه: لئن آمركم بأمرٍ أفتطيعونني؟ فيقولون: نعم، وعِزَّتك يا رب. فيقول: اذهبوا فادخلوا النار». قال: «لو دخلوها ما ضرَّتْهم». قال: «فيخرج عليهم قَوانِصُ (4) يظُنُّون أنَّها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، _________ (1) ذكر ذلك ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 128) أيضًا، ولكن لم أجد من أخرجه من هذا الطريق. (2) في هامش الأصل: «المنصوري»، وعليه المطبوع، وهو خطأ. (3) «أتاني منك عهد ... يا رب لو» سقط من المطبوع لانتقال النظر. (4) اختلفت مصادر التخريج في ضبط هذه الكلمة، ففي بعضها كالمثبت، جمع القانصة، من القنص وهو الصيد، أي: تخرج عليهم شُعَل النار تَقْنِصُهم قَنْصَ الجارحةِ الصيدَ. وضُبط في بعضها: «قوابص»، جمع القابصة، وهي الجماعة، ومنه القِبْص وهو العدد الكثير، فيكون المعنى: تخرج لهم شُعَل وقِطَع كثيرة من النار. أو يكون من القَبْص بمعنى الإسراع والعَدْو، فيكون وصفًا للشُّعَل بأنها تخرج مُسرعةً إليهم. انظر: «النهاية» (4/ 5، 112) و «تاج العروس» (قبص، قنص).

(2/260)


فيرجعون سِراعًا فيقولون: خرجنا ــ وعِزَّتك ــ نريد دخولها، فخرجت علينا قوانصُ ظننَّا أنَّها قد أهلكَتْ ما خلق الله من شيء. ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم، فيقول الرب سبحانه: قبل أن أخلقَكم علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خَلقتُكم، وإلى علمي تصيرون؛ ضُمِّيهم (1)! فتأخذهم النار» (2). حدثنا أحمد بن عمرو، أخبرنا جرير، عن ليث، عن عبد الوارث، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤتَى بالمولود، والمَعتُوه، ومَن مات في الفترة، وبالمُعمَّر الفاني»، قال: «كلُّهم يتكلَّم بحُجَّته، فيقول الربُّ تعالى لعنقٍ من النار: ابْرُز، فيقول لهم: إنِّي كنتُ أبعث إلى عبادي رُسُلًا من أنفسهم، وإنِّي رسول نفسي إليكم، فيقول لهم: ادخلوا هذه، فيقول مَن كتب عليهم الشقاء: يا ربِّ، أنَّى ندخلها ومنها كنَّا نَفِرُّ!»، قال: «ومَن كتب عليه السعادة (3) يمضي فيقتحم فيها مُسرِعًا. فيقول الرَّبُّ تعالى: قد عاندتموني وقد عصيتموني، فأنتم لرسلي أشدُّ تكذيبًا ومعصيةً، فيدخل هؤلاء _________ (1) أمر للنار أن تضمَّهم إلى نفسها. غيَّره في المطبوع إلى: «جميعكم». (2) أخرجه أيضًا ابنُ عدي في «الكامل» في ترجمة عمرو بن واقد (7/ 550) والطبراني في «الكبير» (20/ 83) و «الأوسط» (7955) وأبو نُعيم في «حلية الأولياء» (5/ 127) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1540)، كلهم من طريق عمرو بن واقد به. قال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده عمرو بن واقد، قال ابن مُسهر: ليس بشيء، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك». (3) في المطبوع: «الشقاوة»، تحريف.

(2/261)


الجنة وهؤلاء النار» (1). حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن الصَّبَّاح، ثنا ريحان بن سعيد الناجي، عن عبَّاد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرَّحَبي، عن ثَوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يومُ القيامة جاء أهل الجاهلية يَحمِلون أوثانَهم على ظهورهم، فيسألهم ربُّهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: ربَّنا لم تُرسِلْ إلينا رسولًا، ولم يأتِنا لك أمرٌ، ولو أرسلتَ إلينا رسولًا لكُنَّا أطوَعَ عبادِك لك. فيقول لهم ربُّهم: أرأيتم إن أمرتُكم بأمرٍ تطيعونني؟ فيقولون: نعم، فيُؤمَرون (2) أن يَعمِدوا إلى جهنَّم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فإذا لها تغيُّظٌ وزفيرٌ، فيهابونها، فيرجعون إلى ربهم، فيقولون: يا ربَّنا، فَرِقْنا منها، فيقول ربُّهم تبارك وتعالى: تزعمون أنَّكم إن أمرتُكم بأمرٍ أطعتموني، فيأخذ مواثيقهم، فيقول: اعمِدوا إليها فادخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فَرِقوا ورجعوا إلى ربهم، فقالوا: ربَّنا، فَرِقْنا منها، فيقول: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني؟ اعمِدوا إليها فادخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فَزِعوا ورجعوا، فقالوا: فَرِقْنا يا ربِّ، ولا _________ (1) أخرجه البزار (7594) وأبو يعلى (4224) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 128) من طرق عن جرير به. وأخرجه البيهقي في «القضاء والقدر» (646) من طريق آخر عن ليث بن أبي سليم به. وإسناده ضعيف، ليث فيه لين، وعبد الوارث هو مولى أنس بن مالك الأنصاري، قال البخاري فيما نقل عنه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 125): مجهول، وقال أبو زرعة كما في «سؤالات البرذعي» (2/ 381): منكر الحديث. (2) في الأصل: «فيؤمروا».

(2/262)


نستطيع أن ندخلها، فيقول ادخلوها داخرين». قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دخلوها أوَّلَ مرَّة كانت عليهم بردًا وسلامًا» (1). فإن قيل: هذه الأحاديث مع ضعفها مخالفةٌ لكتاب الله، ولقواعد الشريعة، فإنَّ الآخرة ليست دار تكليف، وإنَّما هي دار جزاء، ودار التكليف هي دار الدنيا، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثَمَّ دارُ جزاء غيرها. قال أبو عمر في «الاستذكار» (2) وقد ذكر بعض هذه الأحاديث: وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية، ولا تقوم بها حجةٌ، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب؛ لأنَّ الآخرة دار جزاء، وليست دار عمل ولا ابتلاء. وكيف يُكلَّفون دخولَ النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها؟ ولا يخلو من مات في الفترة من أن [يموت] كافرًا أو غير كافرٍ، فإن مات كافرًا جاحدًا فإنَّ الله حرَّم الجنَّة على الكافرين فكيف يُمتحَنون؟ وإن كان معذورًا بأنَّه لم يأتهِ نذيرٌ ولا رسولٌ، فكيف يُؤمَر أن _________ (1) وأخرجه البزار (4169) من طريق آخر عن ريحان بن سعيد به. وإسناده ضعيف، ريحان صدوق ولكن أحاديثه عن عبَّاد بن منصور عن أيوب مناكير، وعبَّاد أيضًا فيه لين وقد روى أحاديث مناكير. وللحديث طريق آخر عن أبي قلابة به، أخرجه البزار (كشف الأستار: 3434) والحاكم (4/ 449 - 450)، وهو واهٍ أيضًا، فيه إسحاق بن إدريس الأسواري: متروك، كان يسرق الحديث، واتُّهم بالوضع. والصحيح في هذا الحديث أنه من رواية أبي قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زوائده على كتاب «الزهد» لابن المبارك (1323) عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عنه. وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين. (2) (8/ 404). وما بين الحاصرتين مستدرك منه.

(2/263)


يَقتحِم النَّار وهي أشدُّ العذاب؟ والطفل ومَن لا يعقل أحرى بأن لا يُمتحَن بذلك. فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ أحاديث هذا الباب قد تَضَافرَت، وكثُرَت بحيث يشدُّ بعضُها بعضًا، وقد صحَّح الحفَّاظ بعضَها كما صحَّح البيهقيُّ وعبدُ الحق (1) وغيرهما حديث الأسود بن سريع. وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصلٌ. ورواية معمر له عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفًا لا تضُرُّه، فإنَّا إن سلكنا طريق الفقهاء والأصوليين في الأخذ بالزيادة من الثقة فظاهرٌ، وإن سلكنا طريق الترجيح ــ وهي طريقة المحدثين ــ فليس مَن رَفَعه بدون من وَقَفه في الحفظ والإتقان. الوجه الثاني: أنَّ غاية ما يُقدَّر فيه أنَّه موقوف على الصحابي. ومثل هذا لا يُقدِم عليه الصحابيُّ بالرأي والاجتهاد، بل نجزم بأنَّ ذلك توقيفٌ لا عن رأي. الوجه الثالث: أنَّ هذه الأحاديث يشُدُّ بعضُها بعضًا، فإنَّها قد تعدَّدت طرقُها، واختلفتْ مخارجها، فيَبعُد كلَّ البعد أن تكون باطلةً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلَّم بها، وقد رواها أئمة الإسلام ودوَّنوها ولم يطعنوا فيها. _________ (1) لم أقف على توثيقهما له، وعبد الحق قد ذكره في «الأحكام الكبرى» (3/ 406) ولكن ليس فيه تصحيحه، والذي في كتابي البيهقي «القدر» و «الاعتقاد» أنه صحَّح إسناد حديث أبي هريرة كما سبق.

(2/264)


الوجه الرابع: أنَّها هي المُوافِقة للقرآن وقواعد الشرع، فهي تفصيلٌ لِما أخبَرَ به القرآنُ أنَّه لا يعذَّب أحدٌ إلَّا بعد قيام الحُجَّة عليه. وهؤلاء لم تقُمْ عليهم حُجَّةُ الله في الدُّنيا، فلا بُدَّ أن يقيم حجَّته عليهم. وأحَقُّ المواطن أن تُقامَ فيه الحُجَّة يومَ يقوم الأشهاد، وتُسمَع الدعاوى، وتقام البينات، ويختصم الناس بين يدي الرب، وينطق كلُّ أحد بحُجَّته ومعذرته، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم. الوجه الخامس: أنَّ القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في «المقالات» (1) وحكى اتفاقهم عليه، وإن كان قد اختار هو فيها أنَّهم مردودون إلى المشيئة، وهذا لا يُنافي القولَ بامتحانهم، فإنَّ ذلك هو مُوجَب المشيئة. الوجه السادس: أنَّه قد صحَّ بذلك القولُ بها (2) عن جماعة من الصحابة، ولم يصِحَّ عنهم إلا هذا القول. والقول بأنَّهم خَدَمُ أهل الجنة صحَّ عن سلمان، وفيه حديث مرفوعٌ قد تقدَّم، وأحاديث الامتحان أكثر وأصحُّ وأشهر. الوجه السابع: قوله: «وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب»، جوابه أنَّه وإن أنكرها بعضهم فقد قَبِلها الأكثرون، والذين قَبِلوها أكثر من الذين _________ (1) كذا، وهو وهم أو سبق قلم، فإنه إنما حكى ذلك في «الإبانة» (ص 12). وأما في «المقالات» (ص 296)، فحكى عنهم أن الأطفال مردودون إلى المشيئة. وقد سبق نقل المؤلف عنهما على الصواب قريبًا. (2) كذا في الأصل، ولعل العبارة أقوَم بحذف «بها».

(2/265)


أنكروها وأعلم بالسنة والحديث، وقد حكاه (1) الأشعريُّ اتفاقَ أهل السنة والحديث، وقد بيَّنَّا أنَّه مقتضى قواعد الشرع. الوجه الثامن: أنَّه قد نصَّ جماعةٌ من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار. ذكره البيهقي (2) عن غير واحد من السلف. الوجه التاسع: ما ثبت في «الصحيحين» (3) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إليها: أنَّ الله تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غيرَ الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيرَه، فيقول الله له: «ما أغدرك!». وهذا الغدر (4) منه لمخالفته العهد الذي عاهده ربَّه عليه، وهذه معصيةٌ منه. الوجه العاشر: قد ثبت أنَّه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المخالفين وبينه (5). وهذا تكليفٌ بما ليس في الوسع قطعًا، فكيف يُنكَر التكليف بدخول النار اختبارًا (6) وامتحانًا؟ _________ (1) غيَّره في المطبوع إلى: «حكى [فيه]»، مع أن ما في الأصل لا غبار عليه. (2) لم أجده. وانظر: «القضاء والقدر» له (ص 362). (3) «صحيح البخاري» (806) و «صحيح مسلم» (182). (4) في المطبوع: «أعذرك ... العذر»، تصحيف. (5) كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]. (6) في المطبوع: «اختيارًا»، تصحيف. وسقط: «وامتحانًا» بعده.

(2/266)


الوجه الحادي عشر: أنَّه قد ثبت امتحانهم في القبور، وسؤالُهم وتكليفُهم الجوابَ. وهذا تكليفٌ بعد الموت برَدِّ الجواب. الوجه الثاني عشر: أنَّ أمرهم بدخول النار ليس عقوبةً لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ وإنَّما هو امتحان واختبار لهم: هل يطيعونه أو يعصونه؟ فلو أطاعوه ودخلوها لم تضُرَّهم، وكانت عليهم بردًا وسلامًا، فلمَّا عصوه وامتنعوا من دخولها استَوجَبُوا عقوبته بمخالفة (1) أمره. والملوك قد تَمتحِن مَن يُظهِر طاعتَهم هل هو منطوٍ عليها بباطنه؟ فيأمرونه بأمرٍ شاقٍّ عليه في الظاهر هل يوطِّن نفسَه عليه أم لا؟ فإن أَقدَم عليه ووطَّن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشدُّ منه. وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده، ولم يكن مرادُه سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم وتقديم محبة الله على محبة الولد، فلمَّا فعل ذلك رَفَع عنه الأمر بالذبح. وقد ثبت أنَّ الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار، وهي نارٌ في رأي العين ولكنها لا تحرق، فمن دخلها لم تضره (2). فلو أنَّ هؤلاء يُوطِّنون أنفسهم على دخول النار التي أُمِروا بدخولها طاعةً لله ومحبةً له وإيثارًا لمرضاته وتقرُّبًا إليه بتحمُّل ما يُؤلِمهم= لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته _________ (1) في المطبوع: «عقوبة مخالفة»، خلاف الأصل. (2) كما في حديث أبي هريرة عند البخاري (3338) ومسلم (2936).

(2/267)


ومحابِّه يقلب تلك النار بردًا وسلامًا؛ كما قلب قصدُ الخليل التقرُّبَ إلى ربِّه، وإيثار محبته ومرضاته، وبذل نفسه، وإيثاره إياه على نفسه= تلك النار بأمر الله بردًا وسلامًا. فليس أمره سبحانه إيَّاهم بدخول النار عقوبةً ولا تكليفًا بالممتنع، وإنما هو امتحانٌ واختبارٌ لهم: هل يوطِّنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ومخالفته؟ وقد عَلِم سبحانه ما يقع منهم، ولكنَّه (1) لا يُجازِيهم على مجرَّد علمِه فيهم ما لم يحصل معلومُه الذي يترتَّب عليهم به الحجة. فلا أحسن من هذا يفعله بهم، وهو محض العدل والحكمة. الوجه الثالث عشر (2): أنَّ هذا مطابقٌ لتكليفه عبادَه في الدنيا، فإنَّه سبحانه لم يستفِدْ بتكليفهم منفعةً تعود إليه، ولا محتاجٌ إليه. وإنَّما امتحنهم وابتلاهم ليتبيَّن مَن يُؤثِر رضاه ومحبته ويشكره ممن يكفر به ويُؤثِر سخطه. قد علم منهم من يفعل هذا وهذا، ولكنَّه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتَّب عليه الثواب والعقاب، وتقوم عليهم به الحجة. وكثيرٌ من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظيرُ الأمر بدخول النار، فإنَّ الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم، وتعريضِهم لأَسْرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم= لعلَّه أعظم من الأمر بدخول النار. وقد كلَّف بني _________ (1) في الأصل: «ولكنهم»، والمثبت أشبه. (2) في الأصل: «الرابع عشر»، ثم يليه «الثالث عشر»، ثم «الرابع عشر» للمرة الثانية، إلى أن تبلغ ثمانية عشر وجهًا على اضطراب في أثنائها. فصححنا الترقيم من هنا إلى «الوجه التاسع عشر»، واكتفينا بهذا التنبيه عن إعادته مع كل رقم.

(2/268)


إسرائيل قتل أنفسهم وأولادهم وأزواجهم (1) وإخوانهم لمَّا عَبَدوا العِجل لِمَا لهم في ذلك من المصلحة، وهذا قريبٌ من التكليف بدخول النار. وكلَّف على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نارَ الدَّجَّال أن يقعوا فيها لِمَا لهم في ذلك من المصلحة، وليست في الحقيقة نارًا وإن كانت في رأي العين نارًا، وكذلك النار التي أُمِروا بدخولها في الآخرة إنَّما هي بردٌ وسلامٌ على مَن دخلها. فلو لم يَأتِ بذلك أثرٌ لكان هذا هو مقتضى حكمتِه وعدلِه، ومُوجَب أسمائه وصفاته. الوجه الرابع عشر: أنَّ القائل قائلان: قائل بأنَّه سبحانه يفعل بمحض المشيئة والإرادة من غير تعليلٍ ولا غاية مطلوبة بالفعل، وقائل بمراعاة الحِكَم والغايات المحمودة والمصالح. وعلى المذهبَين فلا يمتنع الامتحان في عرصات القيامة، بل على القول الأول هو ممكنٌ جائزٌ لا يتوقَّف العلمُ به على أمرٍ غير إخبار الصادق. وعلى المذهب الثاني هو الذي لا يليق بالرب سواه، ولا تقتضي أسماؤه وصفاته غيرَه، فهو متعيِّنٌ. الوجه الخامس عشر: قوله: «وليس ذلك في وسع المخلوقين» جوابه من وجهين: أحدهما: أنَّه في وسعهم، وإن كان يشقُّ عليهم، وهؤلاء عُبَّاد النار يتهافتون فيها، ويُلقُون أنفسَهم فيها طاعةً للشيطان، ولم يقولوا: ليس في وُسْعنا، مع تألُّمهم بها غاية الألم، فعِباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسُعهم وهو إنَّما يأمرهم بذلك _________ (1) في المطبوع: «وأرواحهم»!

(2/269)


لمصلحتهم ومنفعتهم؟ الثاني: أنَّهم لو وطَّنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم ولم تضرَّهم شيئًا. الوجه السادس عشر: أنَّ أمرَهم باقتحام النار المُفضِية بهم إلى النَّجاة منها بمنزلة الكيِّ الذي يَحسِمُ الدَّاء، وبمنزلة تناوُل الداء الكريه الذي يَعقُب العافية. وليس من باب العقوبة في شيء، فإنَّ الله سبحانه اقتضت حكمتُه وحمدُه وغناه ورحمتُه أن لا يعذِّب مَن لا ذنبَ له، بل يتعالى ويتقدَّس عن ذلك كما يتعالى عمَّا يُناقِض صفاتِ كماله. فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنَّهم بادروا إليها طوعًا واختيارًا ورضًا حيث علموا أنَّ مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عينَ صلاحهم وسببَ نجاتهم. فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقَّنوا وعَلِموا أنَّ فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمرُه وعزَّت عليهم أنفسُهم أن يَبذُلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمةً وإحسانًا لا عقوبةً. الوجه السابع عشر: أنَّ أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين برُكوب الصراط الذي هو أدقُّ من الشعرة وأحدُّ من السيف، ولا ريبَ أنَّ ركوبه من أشقِّ الأمور وأصعبِها حتى إنَّ الرسل لتُشفِق منه، وكلٌّ منهم يسأل الله السلامة، فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقَّة كاقتحام النار، وكلاهما طريقٌ إلى النجاة. الوجه الثامن عشر: قوله: «ولا يخلو مَن مات في الفترة من أن يكون

(2/270)


كافرًا أو غير كافر، فإن كان كافرًا فإنَّ الله حرم الجنة على الكافرين. وإن كان معذورًا بأنَّه لم يأتهِ رسولٌ فكيف يُؤمَر باقتحام النار؟» جوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: هؤلاء لا يُحكَم لهم بكفر ولا إيمان، فإنَّ الكفر هو جُحُود ما جاء به الرسول، فشرط تحقُّقه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر وطاعتُه فيما أمر، وهذا أيضًا مشروطٌ ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه. فلمَّا لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارًا ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين. فإن قيل: فأنتم تَحكُمون لهم بأحكام الكفار في الدُّنيا من التوارُث والولاية والمناكحة، قيل: إنَّما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب والعقاب، كما تقدَّم بيانه. الوجه الثاني: سلَّمنا أنَّهم كفارٌ، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه وهو قيام الحجة عليهم، فإنَّ الله تعالى لا يعذِّب إلا مَن قامت عليه حجته. الوجه الثالث: قوله: «وإن كان معذورًا كيف يُؤمَر أن يقتحم النار وهي أشدُّ العذاب؟» فالذي قال هذا يُوهِم أنَّ هذا الأمر عقوبة لهم، وهذا غلطٌ. وإنَّما هو تكليفٌ واختبارٌ، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضُرَّهم النار شيئًا. الوجه التاسع عشر: قوله: «كيف يمتحن الطفل ومَن لا يعقل؟» كلامٌ فاسدٌ، فإنَّ الله سبحانه يومَ القيامة يُنشِئهم عُقَلاء بالغين، ويمتحِنهم في هذه الحال. ولا يقع الامتحان بهم وهم على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا. فانتهُوا وقِفُوا، فالسنة وأقوال الصحابة ومُوجَب قواعد الشرع وأصولِه لا تُرَدُّ بمثل ذلك، والله أعلم.

(2/271)


ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجَباتها قال عبد الله بن الإمام أحمد (1): حدثني أبو شُرَحْبِيل الحِمصي عيسى بن خالد، قال: حدثني عمِّي (2) أبو اليَمَان وأبو المُغيرة جميعًا، قالا: أخبرنا إسماعيل بن عيَّاش، قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غَنْمٍ: «إنَّا حين قَدِمتَ بلادَنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل مِلَّتِنا على أنَّا شرطنا لك على أنفسنا: - أن لا نُحدِث في مدينتِنا كنيسةً، ولا فيما حولها دَيرًا ولا قَلَّايةً ولا صَوْمَعَةَ راهبٍ، ولا نجدِّد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين. - وأن لا نمنع كنائِسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسِّع أبوابها للمارَّة وابن السبيل. - ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا، وأن لا نكتم غِشًّا للمسلمين (3). _________ (1) أخرجه عنه الخلال في «الجامع» (2/ 431). ورواته المُسمَّون ثقات مشاهير، إلا عيسى بن خالد الحمصي، فهو مستور لم أجد من وثَّقه. ولكتاب الشروط طرق أخرى وشواهد تعضده، وسيأتي بعضها. وانظر: جزء «شروط النصارى» لابن زَبْر الربعي (ص 21 - 32) و «تاريخ دمشق» (2/ 120، 174 - 179) و «مسند الفاروق» (2/ 334 - 338). (2) في الأصل والمطبوع: «عمر»، تصحيف. أبو اليمان هو الحكم بن نافع البَهراني، وعيسى بن خالد هو ابن نافع، ابنُ أخي الحكم. (3) في مطبوعة «الجامع»: «لا نكتم أمرها عن المسلمين»، تحريف. والمثبت موافق لما عند ابن الأعرابي والبيهقي، وسيأتي تخريجه. وفي إحدى الروايات عند ابن عساكر في «التاريخ» (2/ 120): «ولا نكتم على من غشَّ المسلمين».

(2/272)


- وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا (1) في جوف كنائسنا، ولا نُظهِر عليها صليبًا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون. - وأن لا نُخرِج صليبًا ولا كتابًا في سوق المسلمين. - وأن لا نُخرِج باعوثًا ــ قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ــ ولا شعانينًا (2). ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهِر النِّيران معهم في أسواق المسلمين. - وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركًا، ولا نرغِّب في دينِنا ولا ندعو إليه أحدًا. ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جرَت عليه سِهام المسلمين. - وأن لا نمنع أحدًا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام. - وأن نلزم زِيَّنا حيثما كنُّا، وأن لا نتشبَّه بالمسلمين في لُبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرْق شعرٍ، ولا في مراكبهم، ولا نتكلَّم بكلامهم ولا نكتني بكُناهم. وأن نجُزَّ مقادِم رؤوسنا، ولا نَفرِق نواصينا، ونشدُّ _________ (1) في مطبوعة «الجامع»: «خفيفًا». والمثبت لفظ عامَّة مصادر التخريج. (2) كذا في الأصل و «الجامع» بالشين المعجمة، وفي عامَّة المصادر بالسين المهملة. وهما وجهان في تعريبه عن السريانية. وهو عيد يكون في الأحد السابق لعيد الفِصْح، ولذا يقال له: «أحد الشعانين»، ويُعرف أيضًا بـ «أحد السَّعَف» حيث يخرج فيه الناس في مسيرةٍ يحملون سعف النخل وأغصان الزيتون.

(2/273)


الزَّنانير على أوساطنا. ولا نَنقُش خواتمنا بالعربية، ولا نَركَب السُّروج، ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلَّد السيوف. - وأن نوقِّر المسلمين في مجالسهم، ونرشد (1) الطريق، ونقوم لهم عن المجالس [إذا] (2) أرادوا الجلوس، ولا نطَّلع عليهم في منازلهم. - ولا نعلِّم أولادنا القرآن. - ولا يشارك أحدٌ (3) منا مسلمًا في تجارةٍ إلا أن يكون إلى المسلم أمرُ التجارة. - وأن نُضِيف كلَّ مسلم عابر سبيل ثلاثةَ أيام ونُطعِمه من أوسط ما نجد. ضمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا (4). وإن نحن غيَّرنا أو خالفنا عمَّا شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه، فلا ذِمَّة لنا، وقد حلَّ لك منَّا ما يحِلُّ لأهل المُعانَدة والشِّقاق». فكتب بذلك عبد الرحمن بن غَنْم إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. فكتب إليه عمر: أن أمْضِ لهم ما سألوا، وأَلحِق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: أن لا يشتروا مِن سبايانا، ومن ضرب مسلمًا (5) فقد خلع _________ (1) غير محرَّر في الأصل، رسمه يشبه: «نرشل». (2) زيادة لازمة من «الجامع». (3) في الأصل: «أحدا»، تصحيف، وفي «الجامع»: «أحدنا». (4) في مطبوعة «الجامع»: «مساكننا»، ولعله تصحيف. والمثبت هو الذي سيأتي في شرح المؤلف له (ص 437). (5) في «الجامع» زيادة: «عمدًا».

(2/274)


عهده. فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك، وأقرَّ مَن أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط. قال الخلال في كتاب «أحكام أهل الملل» (1): أخبرنا عبد الله بن أحمد ... فذكره. وذكر سفيان الثوري، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبتُ لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالَحَ نصارى الشام وشرط عليهم فيه أن لا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولَها ديرًا ولا كنيسةً ولا قلَّايةً ولا صَومَعةَ راهبٍ، ولا يُجدَّد ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن يَنزِلها أحدٌ من المسلمين ثلاثَ ليالٍ يُطعِمونهم، ولا يُؤوُوا جاسوسًا، ولا يَكتُموا غِشًّا للمسلمين، ولا يعلِّموا أولادهم القرآن، ولا يُظهِروا شركًا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقِّروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبَّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنَّوا بكُناهم، ولا يركبوا سُرُجًا ولا يتقلَّدوا سَيفًا، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجُزُّوا مقادِم رؤوسهم، وأن يَلزَموا زِيَّهم حيثما كانوا، وأن يشُدُّوا الزنانير على أوساطهم، ولا يُظهِروا صليبًا ولا شيئًا من كُتُبهم في شيء من طُرق المسلمين، ولا يُجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربًا خفيًّا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم [أصواتهم] (2)، ولا _________ (1) من «الجامع» (2/ 431) كما سبق. (2) مستدرك من مصادر التخريج.

(2/275)


يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سِهام المسلمين. فإن خالفوا شيئًا ممَّا شرطوه فلا ذِمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحِلُّ من أهل المُعانَدة والشِّقاق (1). وقال الرَّبيع بن ثعلب: حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العَيزار، عن سفيان الثوري والوليد بن نوح والسَّرِي (2) بن مُصرِّف يذكرون عن طلحة بن مُصرِّف، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: كتبتُ لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالَحَ نصارى أهل الشام: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتابٌ لعبد الله عمرَ أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا: إنَّكم لمَّا قَدِمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل مِلَّتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نُحدِث في مدائننا ولا فيما حولها ديرًا ولا قلَّايةً ولا كنيسةً ولا صَوْمَعة راهبٍ ... » فذكر نحوه (3). _________ (1) أخرجه بهذا اللفظ ابنُ حزم في «المحلى» (7/ 346) بالإسناد الآتي ذكرُه ــ وهو ضعيف جدًّا ــ إلى سفيان الثوري به، إلا أنه قد سقط هنا «طلحة بن مصرف» بين سفيان ومسروق، وقد سقط أيضًا من «الأحكام الوسطى» لعبد الحق (3/ 115) حيث علَّقه عن سفيان به سواء، والظاهر أن المؤلف صادر عنه. (2) في المطبوع: «واليسرى»، تصحيف. (3) أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» (365) والبيهقي في «السنن الكبير» (9/ 202) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/ 177) وابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 334) من طرق عن الربيع بن ثعلب به. وإسناده واهٍ، فإن يحيى بن عقبة بن أبي العَيزار منكر الحديث، متَّهم بالكذب. ولكنه توبع، تابعه عبد الملك بن حميد بن أبى غنية ــ وهو ثقة ــ عن الشيوخ الثلاثة به، أخرجه ابن عساكر (2/ 178) بإسناد لا بأس به. ولعل الحديث حديث عبد الملك بن حميد، فسرقه منه يحيى بن عقبة. وللكتاب طريقان آخران ضعيفان إلى سفيان الثوري وإلى عبد الرحمن بن غنم. انظر: «مسند الفاروق» (2/ 337).

(2/276)


وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإنَّ الأئمة تلقَّوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجُّوا بها، ولم يزَل ذكرُ الشروط العُمَرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أَنفَذها بعدَه الخلفاءُ وعَمِلوا بموجَبها. فذكر أبو القاسم الطَّبري (1) من حديث أحمد بن يحيى الحُلْواني: حدثنا عبيد بن جناد: حدثنا عطاء بن مسلم الحَلَبي، عن صالح المُرادي، عن عبد خير قال: رأيتُ عليًّا صلَّى العصر فصفَّ له أهل نجران صفَّين، فناوله رجل منهم كتابًا، فلمَّا رآه دَمَعَت عينُه ثم رفع رأسَه إليهم قال: يا أهل نجران، هذا والله خطِّي بيدي وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا: يا أمير المؤمنين، أَعطِنا ما فيه. قال: ودنوت منه فقلت: إن كان رادًّا على عمر يومًا فاليوم يَرُدُّ عليه! فقال: لستُ برادٍّ على عمر شيئًا صنَعَه، إنَّ عمر كان رشيد الأمر، وإنَّ عمر أخذ منكم خيرًا ممَّا أعطاكم، ولم يَجُرَّ عمر ما أخذ منكم إلى نفسه، إنَّما جرَّ لجماعة المسلمين. وذكر ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن الشعبي: أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - قال لأهل نجران: إنَّ عمر كان رشيد الأمر، ولن أغيِّرَ شيئًا صنعه _________ (1) هو هبة الله اللالكائي صاحب «شرح السنة»، وليس الأثر فيه، ولعله في كتاب آخر له ذكر فيه أحكام أهل الذمة والشروط العمرية، الذي سيكثر المؤلف النقلَ منه لاحقًا. وقد أخرجه أيضًا الآجري في «الشريعة» (1233) عن أحمد بن يحيى الحلواني به. وأخرجه البيهقي (10/ 120) من طريق آخر عن عطاء بن مسلم به.

(2/277)


عمر (1). وقال الشعبي: قال عليٌّ حين قَدِم الكوفة: ما جئتُ لأحُلَّ عقدةً شدَّها عمر! (2). وقد تضمَّن كتاب عمر - رضي الله عنه - هذا جُمَلًا من العلم تدور على ستة فصول: الفصل الأول: في أحكام البِيَع والكنائس والصوامع وما يتعلَّق بذلك. الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلَّق بها. الفصل الثالث: فيما يتعلَّق بضرر المسلمين والإسلام. الفصل الرابع: فيما يتعلَّق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس وغيره. الفصل الخامس: فيما يتعلَّق بإظهار المُنكَر من أفعالهم وأقوالهم ممَّا نُهُوا عنه. الفصل السادس: في أمر معاملتهم للمسلمين بالشَّرِكة ونحوها. _________ (1) أخرجه يحيى بن آدم في «الخراج» (31) عن ابن المبارك به. وأخرج أبو عبيد في «الأموال» (296) وابن أبي شيبة (32667) وابن زنجويه في «الأموال» (418، 419) والآجري في «الشريعة» (1234) والبيهقي (10/ 120) وغيرهم من طرق عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن علي - رضي الله عنه - نحوه. (2) أخرجه يحيى بن آدم (32) وأبو عبيد في «الأموال» (298، 838) وابن أبي شيبة (32668) وابن المنذر في «الأوسط» (6/ 21) والآجري في «الشريعة» (1237) وغيرهم من طرق عن أبي معاوية عن حجاج عمَّن أخبره عن الشعبي به.

(2/278)


الفصل الأول في أحكام البيع والكنائس قال تعالى: {وَأَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اَسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَاَلْأصَالِ} [النور: 36]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اُللَّهِ اِلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَت صَّوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اَسْمُ اُللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]. قال الزجاج (1): تأويل هذا: لولا دفعُ الله الناسَ بعضَهم ببعضٍ لهُدِّم في كل شريعة نبيٍّ المكانُ الذي يُصلَّى فيه، فلولا الدفع لهُدِّم في زمن موسى الكنائسُ التي كان يُصلَّى فيها في شريعته، وفي زمن عيسى الصَّوامعُ والبِيَع، وفي زمن محمدٍ المساجد. وقال الأزهري (2): أخبر الله سبحانه أنَّه لولا دفعه بعضَ الناس عن الفساد ببعضهم لهُدِّمت متعبَّداتُ كلِّ فريق من أهل دينه وطاعته في كل زمان. فبدأ بذكر الصَّوامع والبيع لأنَّ صلوات مَن تقدَّم من أنبياء بني إسرائيل وأصحابهم كانت فيها قبل نزول القرآن، وأُخِّرت المساجد لأنَّها حدثَت بعدهم. _________ (1) في «معاني القرآن» (3/ 431)، والمؤلف صادر عن «البسيط» (15/ 432) هنا وفي الأقوال الآتية. (2) في «تهذيب اللغة» (3/ 239).

(2/279)


وقال ابن زيد: الصَّلَوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدو (1). قال الأخفش (2): وعلى هذا القول الصلوات لا تُهدَّم، ولكن يحلُّ (3) محلَّ فعلٍ آخر، كأنَّه قال: تركت صلواتٌ. وقال أبو عبيدة (4): إنما يعني مواضع الصلوات. وقال الحسن: يدفع عن مصلَّيات أهل الذمة بالمؤمنين (5). وعلى هذا القول لا يحتاج إلى التقدير الذي قدَّره أصحاب القول الأول. وهذا ظاهر اللفظ ولا إشكال فيه بوجه، فإنَّ الآية دلَّت على الواقع، لم تدلَّ على كون هذه الأمكنة ــ غير المساجد ــ محبوبةً مرضيَّةً له، لكنَّه أخبر أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعضٍ لهُدِّمَت هذه الأمكنة التي كانت محبوبةً له قبل الإسلام وأقرَّ منها ما أقرَّ بعده وإن كانت مسخوطةً له، كما أقرَّ أهلَ الذِّمة، وإن كان يُبغِضهم ويَمقُتهم ويدفع عنهم بالمسلمين مع بُغضِه لهم. وهكذا يدفع عن مواضع متعبَّداتهم بالمسلمين وإن كان يُبغِضها، وهو _________ (1) أخرجه الطبري (16/ 585). (2) في «معاني القرآن» (2/ 451). (3) كذا في الأصل، أي: يحلُّ فِعْلُ «هدمت» محلَّ «تُركت». وفي مطبوعة «البسيط»: «ولكن يُحمَل على فعلٍ آخر». وفي مطبوعة «المعاني»: «ولكن حمله ... ». (4) في «مجاز القرآن» (2/ 52) ولفظه: «مجازها مصلَّيات» (5) ذكره عن الحسن أيضًا الجصَّاص في «أحكام القرآن» (5/ 83) والثعلبي في «الكشف والبيان» (18/ 376).

(2/280)


سبحانه يدفع عن متعبداتهم التي أُقِرُّوا عليها شرعًا وقدرًا، فهو يُحِب الدَّفع عنها وإن كان يُبغِضها، كما يحب الدفع عن أربابها وإن كان يُبغِضهم. وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى. وهو مذهب ابن عباس في الآية. قال ابن أبي حاتمٍ في «تفسيره» (1): حدثنا أبو سعيد الأشجُّ: حدثنا عبيد الله هو ابن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عمَّن حدَّثه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {لَّهُدِّمَت صَّوَامِعُ وَبِيَع}، قال: الصوامع: التي يكون [فيها] (2) الرهبان، والبيع: مساجد اليهود، وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين. قال ابن أبي حاتم (3): وأخبرنا الأشج، ثنا حفص بن غياث، عن داود، عن أبي العالية قال: {لَّهُدِّمَت صَّوَامِعُ}، قال: صوامع وإن كان يُشرَك به! وفي لفظ: إنَّ الله يُحِب أن يُذكَر ولو من كافر. وفي تفسير شيبان عن قتادة: الصوامع للصابئين، والبِيَع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين (4). وقد تضمَّن الشرط ذِكر الدَّير والقَلَّاية والكنيسة والصومعة. _________ (1) ليس في القدر المطبوع على المخطوط. وهو في «الدر المنثور» (10/ 500)، وعزاه إلى عبد بن حميد أيضًا. (2) مستدرك من «الدر المنثور». (3) لم أجده مخرَّجًا عند غيره، ولا ذكره في «الدر المنثور». (4) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 39) والطبري (16/ 581 - 585) من طريق معمر عن قتادة. وعزاه في «الدر المنثور» (10/ 501 - 502) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(2/281)


فأمَّا الدَّير فللنصارى خاصَّةً يبنونه للرهبان خارج البلد، يجتمعون فيه للرهبانية والتفرَّد عن الناس. وأمَّا القَلَّاية فيَبْنيها رهبانُهم مرتفعةً كالمنارة. والفرق بينها وبين الدير أنَّ الدير يجتمعون فيه، والقلاية لا تكون إلا لواحد ينفرد بنفسه، ولا يكون لها بابٌ بل فيه (1) طاقةٌ يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه (2). وأمَّا الصومعة فهي كالقلَّاية تكون للراهب وحدَه. قال الأزهري (3): الصومعة من البناء سُمِّيت صومعةً لتلطُّف أعلاها. يقال: (صمَّع الثريدةَ) إذا رفع رأسها وحدَّده، وتُسمَّى الثريدة إذا كانت كذلك صومعةً. ومن هذا يقال: (رجل أصمع القلب) إذا كان حادَّ الفِطنة. ومنهم من فرَّق بين الصومعة والقلاية بأنَّ القلاية تكون منقطعةً في فلاةٍ من الأرض، والصومعة تكون على الطُّرق. وأمَّا البِيَع فجمع بِيعة، وأهل اللغة والتفسير على أنَّها مُتعبَّد النصارى، إلَّا ما حكيناه عن ابن عباس أنَّه قال: البيع مساجد اليهود. وأمَّا الكنائس فجمع كنيسة، وهي لأهل الكتابين، ولليهود خاصَّةً الفُهُر بضم الفاء والهاء (4)، واحدها فُهْر، وهو بيت المِدْرَاس الذي يتدارسون فيه _________ (1) كذا في الأصل. (2) وفي «تكملة المعاجم العربية» (8/ 374) ما يفيد أن القلاية إحدى الحجرات التي تبنى حول الدير لتكون مساكن للرهبان. والجمع: القلالي. (3) في «تهذيب اللغة» (2/ 60 - 61)، والمؤلف صادر عن «البسيط» (15/ 430). (4) كذا، والمعروف في جمعه: «الفُهُور». انظر: «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 2/75).

(2/282)


العلم. وفي الحديث: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَل على اليهود بيت مِدْراسهم (1). وفيه أيضًا قول أنس: كأنَّهم اليهود حين خرجوا من فهرهم (2). وحُكم هذه الأمكنة كلِّها حُكم الكنيسة، وينبغي التنبيه عليها. ذكر حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه الأماكن وما يجوز إبقاؤه وما يجب إزالتُه ومحوُ رسمه البلاد التي تفرَّقها (3) أهلُ الذِّمة والعهد ثلاثة أقسام: أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام. الثاني: بلاد أُنشِئَت قبلَ الإسلام فافتتحها المسلمون عَنْوَةً وملكوا أرضها وساكنيها. الثالث: بلاد أُنشِئت قبلَ الإسلام وفتحها المسلمون صُلحًا. فأمَّا القسم الأول، فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة. أمَّا البصرة والكوفة فأُنشِئَا في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال _________ (1) أخرجه البخاري (3167) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) إنما روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، قاله لمَّا رأى قومًا يصلُّون وقد سدلوا ثيابهم. أخرجه عبد الرزاق (1423) وابن أبي شيبة (6542) وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 39) والبيهقي (2/ 243) بإسناد صحيح. وأما قول أنس، فأخرج البخاري (4208) عنه أنه نظر إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة، فقال: كأنَّهم السَّاعة يهود خيبر. (3) كذا في الأصل على الحذف والإيصال، أي: تفرَّق فيها.

(2/283)


يزيد بن هارون: أخبرنا زِياد بن أبي زِياد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن نافع بن الحارث قال: كان أمير المؤمنين قد همَّ أن يتَّخذ للمسلمين مِصْرًا، وكان المسلمون قد غزوا من قِبَلِ البحر وفتحوا الأَهْواز وكابُل وطَبَرِستان، فلمَّا افتتحوها كتبوا إليه: إنَّا وجدنا بطبرستان مكانًا لا بأس به. فكتب إليهم: أنَّ بيني وبينكم دِجْلَة، ولا حاجة لي في شيءٍ بيني وبينكم [فيه] (1) دِجلة أن نتخذه مِصرًا. قال: فقَدِم عليه رجلٌ من بني سَدُوس يُقال (2) له ثابتٌ فقال له: يا أمير المؤمنين، إنِّي مررتُ بمكان دون دِجلة به باديةٌ يقال لها الخُرَيْبة، ويقال للأرضِ: البصرة، وبينها وبين دِجلة فرسخٌ فيه خليجٌ يجري فيه الماء وأَجَمة (3) قصبٍ. فأعجب ذلك عمر - رضي الله عنه - فدعا عُتبَة بن غَزْوان فبعثه في أربعين رجلًا فيهم نافع بن الحارث وزِيادٌ أخوه لأمِّه (4). قال سيف بن عمر (5): مُصِّرَت البصرة سنة ست عشرة، واختُطَّت قبلَ الكوفة بثمانية أشهر (6). _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: «قال»، تصحيف. (3) في الأصل: «واجهه»، تصحيف. والأَجَمة: الشجر الكثير. (4) لم أجد من أخرجه. وانظر: «طبقات ابن سعد» (9/ 5) و «أنساب الأشراف» (13/ 298) و «تاريخ الطبري» (3/ 590) و «تاريخ بغداد» (1/ 496). (5) في الأصل: «عمرو»، خطأ. وهو الأخباري المشهور صاحب «الفتوح» و «الردة». (6) وقال ابن معين: كُوِّفت الكوفة سنة ثمان عشرة، وبُصِّرت البصرة سنة أربع عشرة، قبل الكوفة بأربع سنين. أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» (1795). وقال الأصمعي كما في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 432): كان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة، قبل الكوفة بستة أشهر. وهذا هو المشهور أن البصرة بصِّرت سنة أربع عشرة، وهي السنة التي فتح فيها عتبةُ بن غزوان الأبلَّة، وهي قريبة من البصرة، بل هي اليوم محلَّة فيها. انظر: «أنساب الأشراف» (13/ 297، 298) و «تاريخ الطبري» (3/ 350) و «تاريخ دمشق» (44/ 393، 60/ 31).

(2/284)


وقال قتادة: أوَّل مَن مصَّر البصرة رجل من بني شَيبان يُسمَّى المُثنَّى بن حارثة، وأنَّه كتب إلى عمر - رضي الله عنه -: إنِّي نزلتُ أرضًا بصرةَ. فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فاثبُتْ حتى يأتيك أمري. فبعث عُتبَة بن غَزْوان مُعلِّمًا وأميرًا، فغزا الأُبُلَّة (1). وقال حماد بن سلمة، عن حُمَيد، عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مصَّر البصرة والكوفة (2). فصل وأمَّا وَاسِط فبناها الحجَّاج بن يوسف سنةَ ستٍّ وثمانين من الهجرة (3)، _________ (1) لم أجد من أسنده عن قتادة. (2) من طريق حماد بن سلمة أخرجه الطحاوي في «أحكام القرآن» (1/ 145)، ولفظه: «أن عمر - رضي الله عنه - مصَّر الأمصار سبعةً: المدينةُ مصر، والبحرين، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر». وبنحوه أخرجه ابن سعد (3/ 264) من طريق الأشعث عن الحسن. وواضح من سياق قول الحسن أن المراد بالتمصير فيه: التقسيم الإداري، لا أن الأمصار المذكورة لم تكن من قبل، لأن ما سوى البصرة والكوفة كانت تكون من قبلُ. (3) وقيل: ابتدأ في بنائها سنة ثلاث ــ أو أربع ــ وثمانين، وفرغ منها سنة ست وثمانين. انظر: «فتوح البلدان» للبلاذري (2/ 355) و «تاريخ الطبري» (6/ 383) و «تاريخ دمشق» (34/ 487) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 913) و «معجم البلدان» لياقوت (5/ 348).

(2/285)


في السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان. وأمَّا بغداد فقال سليمان بن مجالد وزير أبي جعفر: خرجتُ مع أبي جعفرٍ يومًا قبل أن نَبْتني مدينة بغداد، ونحن نرتاد موضعًا نبني فيه مدينةً يكون فيها عسكرُه، قال: فبصُرنا بِقَسٍّ شيخٍ كبيرٍ ومعه جماعةٌ من النصارى، فقال: اذهب بنا إلى هذا القَسِّ نسأله، فمضى إليه فوقف عليه أبو جعفر فسلَّم عليه ثم قال: يا شيخ، أبلغك أنَّه يُبنَى هاهنا مدينة؟ قال: نعم، ولستَ بصاحبها. قال: وما عِلمُك؟ قال القَسُّ: وما اسمك؟ قال اسمي عبد الله. قال: فلستَ بصاحبها. قال: فما اسمُ صاحبها؟ قال: مِقْلاص. قال: فتبسَّم أبو جعفرٍ وأصغى إليَّ فقال: أنا والله مِقْلاص، كان أبي يُسمِّيني وأنا صغيرٌ مِقْلاصًا، فاختطَّ موضعَ مدينةِ أبي جعفرٍ (1). وتحوَّل أبو جعفرٍ من الهاشمية إلى بغداد وأمر ببنائها، ثم رجع إلى الكوفة في سنة أربع وأربعين ومائة. وفرغ من بنائها ونَزَلها مع جنده وسمَّاها «مدينة السلام» سنة خمسٍ وأربعين. وفرغ من بناء الرُّصَافة (2) سنة أربع وخمسين ومائة (3). _________ (1) ذكره الطبري في «التاريخ» (7/ 615) عن سليمان بن مجالد بنحوه. وانظر أيضًا في خبر الراهب (7/ 617) و «تاريخ بغداد» (1/ 374). (2) وهي محلَّة ببغداد بالشرقية. (3) انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 376، 392).

(2/286)


وقال سليمان بن مجالد: الذي تولَّى الوقوف على خطِّ بغداد الحجَّاج بن أرطاة وجماعةٌ من أهل الكوفة (1). وكذلك سامَرَّا بناها المتوكِّل (2). وكذلك المَهْديَّة التي بالمغرب (3)، وغيرها من الأمصار التي مصَّرها المسلمون. فهذه البلاد صافيةٌ للإمام، إن أراد الإمام أن يُقِرَّ أهلَ الذمة فيها ببذل الجِزْيَة جاز. فلو أقرَّهم الإمام على أن يُحدِثوا فيها بِيعةً أو كنيسةً أو يُظهِروا (4) فيها خمرًا أو خنزيرًا أو ناقوسًا لم يجُزْ. وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدًا. وهو اتفاقٌ من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاعٌ. قال الإمام أحمد (5): حدثنا حماد بن خالد الخيَّاط، أخبرنا الليث بن _________ (1) ذكره الطبري في «التاريخ» (7/ 618). وانظر: «تاريخ بغداد» (9/ 133). (2) قال ياقوت (3/ 174) وغيره: إن الذي بناها المعتصم (والد المتوكل) سنة 221. وذكر الإصطخري في «مسالك الممالك» (ص 85 - 86) أنه «ابتدأها المعتصم وتمَّمها المتوكل». (3) أنشأها عبيد الله المهدي، أول خلفاء العبيدية الباطنية الذين ملكوا مصر والمغرب، وذلك سنة 303. انظر: «معجم ياقوت» (5/ 230 - 231). وهي اليوم مدينة ساحلية في الجمهورية التونسية. (4) في الأصل: «يظهر»، والسياق يقتضي المثبت. (5) كما في «جامع الخلال» (2/ 425) عن عبد الله بن أحمد عنه، وهو مرسل أو معضل. ولعل الراوي الذي أبهمه توبة هو عبد الرحمن بن جسَّاس المصري (من صغار التابعين)، فإن نافع بن يزيد المصري رواه عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، كما في «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 269). وأخرجه البيهقي (10/ 24) من طريق النضر بن عبد الجبَّار ــ وهو أبو الأسود المصري ــ عن ابن لَهِيعة عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده إلى النضر واهٍ، والصواب ما رواه عنه أبو عبيد كما سيأتي قريبًا.

(2/287)


سعدٍ، عن توبة بن النَّمِر الحضرمي ــ قاضي مصر ــ عمَّن أخبره قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا خِصَاء في الإسلام ولا كنيسة». وقال أبو عبيد (1): حدثنا عبد الله بن صالحٍ، عن الليث بن سعدٍ ــ فذكره بإسناده ومتنه. وقد روي موقوفًا على عمر بغير هذا الإسناد: قال علي بن عبد العزيز (2): حدثنا أبو [عُبَيد] القاسم، حدثني أبو الأسود، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله اليَزَني قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء. وقال الإمام أحمد (3): حدثنا معتمر بن سليمان التَّيمي، عن أبيه، عن _________ (1) في «الأموال» (282) وعنه ابن زنجويه (398). وفي الأصل: «أبو عبيدة»، تصحيف. (2) البغوي، راوي كتاب «الأموال» لأبي عُبيد. والأثر فيه برقم (283)، وعنه أخرجه ابن زنجويه (399). وابن لهيعة ضعيف، ولكن تابعه الليث بن سعد كما في جزء «شروط النصارى» لابن زَبر الرَّبْعي (ص 20)، فالأثر صحيح عن عمر - رضي الله عنه -. وروي من طريق آخر عن عمر مرفوعًا، ولكن إسناده واهٍ بمرَّة، وسيأتي (ص 319). (3) كما في «جامع الخلال» (2/ 421) عن عبد الله عنه. وما بين الحاصرتين مستدرك منه. وأخرجه أيضًا أبو يوسف في «الخراج» (311) وعبد الرزاق (10002) وابن أبي شيبة في «المصنف» (33653) والبيهقي (9/ 201، 202) من طرق عن سليمان بن المعتمر به. وحنش هو الحسين بن قيس أبو علي الرحبي: متروك الحديث، ولكن ذكر عبد الله بن أحمد في «العلل» (3198) أن لحنشٍ حديثًا واحدًا حسنًا استحسنه أحمد، وهو ما رواه التيمي عنه في قصة البِيَع.

(2/288)


حَنَشٍ، عن عِكرمة قال: سُئِل ابن عباس عن أمصار العرب ــ أو دار العرب ــ هل للعجم أن يُحدِثوا فيها شيئًا؟ فقال: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه [بيعةً]، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتَّخذوا فيه خنزيرًا. وأيُّما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله عزَّ وجل على العرب فنزلوا (1)، فإنَّ للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلِّفوهم فوق طاقتهم. قال عبد الله بن أحمد (2): وسمعت أبي يقول: ليس لليهود والنصارى أن يُحدثوا في مصرٍ مصَّره المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في ما كان لهم صُلْح (3)، وليس لهم أن يُظهِروا الخمر في أمصار المسلمين. وقال المرُّوذي (4): قال لي أبو عبد الله: سألوني عن الديارات في _________ (1) أي: فنزلوا المصر، أو: فنزل العجمُ «على حكمهم» كما في «الخراج» لأبي يوسف. (2) عقب الأثر السابق. (3) في الأصل: «في مكان لهم صالح»، تحريف. (4) كما في «جامع الخلال» (2/ 423)، وكذا الروايتان الآتيتان.

(2/289)


المسائل التي وردت مِن قبل الخليفة. فقلت: أي شيء تذهب أنت؟ فقال: ما كان من صلحٍ يُقَرُّ، وما كان أُحدِث بعدُ يُهدَم. وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن بيع النصارى: ما كان في السواد، وهل أقرَّها عمر؟ فقال: «السواد فتح بالسيف، فلا يكون فيه بِيعة، ولا يُضرَب فيه ناقوس، ولا يُتَّخذ فيه الخنازير، ولا يُشرَب الخمر، ولا يرفعوا أصواتهم في دُورِهم، إلا الحِيرة وبانِقْيا ودَيْر صَلُوبا، فهؤلاء صُلحٌ صُولِحوا ولم يُحرَّكوا (1)، فما كان منها لم يُخرَب. وما كان غير ذلك فكلُّه مُحدَث يُهدَم، وقد كان أَمَر بهَدْمها هارون. وكلُّ مصرٍ مصَّرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بِيعةً، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتخذوا فيه خنزيرًا. وما كان من صلح صولحوا عليه فهو على صلحهم وعهدهم. وكلُّ شيء فُتِح عَنْوَةً فلا يُحدثوا فيه شيئًا من هذا. وما كان من صلحٍ أُقِرُّوا على صلحهم». واحتجَّ فيه بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (2). وقال أبو الحارث: سئل أبو عبد الله عن البِيَع والكنائس التي بناها أهل الذِّمة، وما أحدثوا فيها ممَّا لم يكن. قال: تُهدَم، وليس لهم أن يُحدثوا شيئًا من ذلك فيما مصَّره المسلمون، يُمنعون من ذلك إلا ممَّا صُولِحوا عليه. قيل لأبي عبد الله: أَيشٍ الحجة في أن يمنع أهل الذِّمة أن يبنوا بيعةً أو كنيسةً إذا كانت الأرض ملكهم، وهم يؤدُّون الجزية، وقد مُنِعنا من ظُلمهم وأذاهم؟ _________ (1) غيَّره صبحي الصالح إلى: «ولم يُحاربوا»، وما في الأصل موافق لمصدر النقل. (2) أي أثره الذي تقدَّم آنفًا.

(2/290)


قال: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب (1). وقال أحمد (2): حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر (3) قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة ــ يعني ابن محمد (4) ــ أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين. قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء. قال عبد الرزاق (5): وأخبرنا مَعْمَر عمَّن سمع الحسن يقول: إنَّ من السُّنَّة أن تُهدَم الكنائسُ التي في الأمصار، القديمةُ والحديثةُ. ذكره أحمد عن عبد الرزاق. وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مُقتضَى أصول الشرع وقواعدِه، فإنَّ إحداث هذه الأمور إحداثُ شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟! _________ (1) سبق تخريجه قريبًا. (2) كما في «جامع الخلال» (2/ 426) عن عبد الله عنه. وهو في «مصنف عبد الرزاق» (9999). (3) «أخبرني معمر» سقط من مطبوعة «الجامع»، و «معمر» تصحيف، ولعله وقع مصحَّفًا في النسخة التي نقل منها المؤلف، والصواب «عمِّي» كما في «المصنف»، وقد سمَّاه عبد الرزاق فيه فقال: «أخبرني عمِّي وهبُ بن نافع». (4) هو عروة بن محمد بن عطية السعدي الجُشَمي، ولي إمرة اليمن لسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. (5) في «المصنف» (10001). وهو في «الجامع» عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عنه.

(2/291)


فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصَّرها المسلمون؟ قيل: هي على نوعين: أحدهما: أن تُحدثَ الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر، فهذه تُزَال اتفاقًا. الثاني: أن تكون موجودةً بفلاةٍ من الأرض، ثمُّ يمصِّر المسلمون حولَها المصر، فهذه لا تُزَال، والله أعلم. وورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورته (1): ما يقول السادة العلماء ــ وفقهم الله ــ في إقليمٍ تَوافَق أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أنَّ المسلمين فتحوه عَنوةً من غير صلح ولا أمان، فهل مَلَك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ وهل يكون الملك شاملًا لِما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدُّور والبِيَع والكنائس والقَلَّايات والدُّيُورة (2) ونحو ذلك؟ أو يختصُّ الملك بما عدا متعبَّدات أهل الشرك؟ فإنْ مَلَك جميع ما فيه، فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك مِن _________ (1) وقد نشره شيخنا محمد عزير شمس في «جامع المسائل» لشيخ الإسلام (3/ 361 - 370) اعتمادًا على كتابنا هذا بتحقيق صبحي الصالح - رحمه الله -. ولشيخ الإسلام مسألة أخرى في أمر الكنائس في «مجموع الفتاوى» (28/ 632 - 646)، وهي إجابة عن استفتاء ورد في الكنائس التي أغلقت في القاهرة بأمر ولاة الأمور. (2) جمع الدَّير، على غرار جمع بَعْل على بُعُولة، كما في «المصباح المنير» (ص 205). وسائر المعاجم لم تذكر جمعًا غير «أديار».

(2/292)


النصارى واليهود ــ بذلك الإقليم أو غيره ــ الذمةَ على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البِيَع والكنائس والدُّيُورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنةٍ في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟ فإن لم يَجُز لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه، فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكمَ الغنيمة يتصرَّف فيه الإمام تصرُّفَه في الغنائم أم لا؟ وإن جاز للإمام أن يعقد الذِّمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها، فهل يملك من عُقِدت له الذمةُ بهذا العقد رقابَ البِيَع والكنائس والدُّيُورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا؟ لأجل أنَّ الجزية لا تكون عن ثمنِ مبيعٍ؟ وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسببٍ يقتضي انتقاضَه إمَّا بموتِ مَن وقع عقد الذمة معه ولم يُعْقِبوا أو أعقبوا، فإن قلنا: لكن (1) أولادُهم يستأنف معهم عقد الذمة، كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصَّبَّاغ وصحَّحه العراقيون (2) واختاره ابن أبي عصرون في «المرشد»، فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخلوا (3) الكنائس والبِيَع والدُّيُورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِل _________ (1) كذا في الأصل. (2) كأبي حامد الإسفراييني. قال الماوردي: هذا وهم. والظاهر من مذهب الشافعي أنهم يلتزمون جزية آبائهم من غير استئناف عقد معهم. انظر: «الحاوي الكبير» (14/ 309). (3) نقطه في الأصل بالياء، ولعل المثبت أشبه.

(2/293)


مستحقوها وأُيِس من معرفتها؟ أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذِّمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختصُّ بالبيع والكنائس والديورة التي تحقَّق أنَّها كانت موجودةً عند فتح المسلمين؟ ولا يجب عليه ذلك عند التردُّد في أنَّ ذلك كان موجودًا عند الفتح أو حدث بعد الفتح؟ أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقَّق أنَّه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك، فهل يكون ما وقع الشك في أنَّه كان قبل الفتح وجُهِل الحال فيمَن أحدثه؛ لمَن هو؟ لبيت المال أم لا؟ وإذا قلنا: إنَّ مَن بلغ من أولاد مَن عُقدت معهم الذمة ــ وإن سَفَلُوا (1) ــ ومِن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمة، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقَّق أنَّه من أولادهم؛ يكون حكم كنائسهم وبِيَعهم حكم أنفسهم أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟ وإذا قلنا: إنَّهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ فهل تحتاج بِيَعهم إليه أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكعامَّة أرض الشام وبعض مُدُنها، وكسواد العراق إلَّا مواضع قليلةً فُتِحت صلحًا، وكأرض مصر؛ فإنَّ هذه الأقاليم فُتِحت عَنْوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. _________ (1) في المطبوع: «سلفوا»، تصحيف.

(2/294)


وقد روي في أرض مصر أنَّها فُتِحت صُلحًا، وروي أنَّها فتحت عَنوةً، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون (1) للروايات الصحيحة في هذا الباب، فإنَّها فتحت أولًا صُلحًا ثم نقَضَ أهلُها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - يستمِدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثيرٍ فيهم الزبير بن العوام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً (2). ولهذا روي من وجوهٍ كثيرةٍ أنَّ الزبير سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن يقسمها بين الجيش (3)، كما سأله بلالٌ قَسْم الشام (4)، فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يَحبِسها فيئًا للمسلمين ينتفعُ بفائدتها أوَّلُ المسلمين وآخرُهم (5)، ثم وافق عمرَ على ذلك بعضُ مَن كان خالفه، ومات بعضهم، فاستقرَّ الأمر على ذلك. فما فتحه المسلمون عَنوةً فقد ملَّكهم الله إياه (6)، كما ملَّكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعَقار. ويدخل في العقار معابدُ الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول _________ (1) في المطبوع: «المتأهلون»، تصحيف. (2) انظر: «الأموال» لأبي عبيد (1/ 244 - 246)، و «فتوح مصر» لابن عبد الحكم (ص 61)، و «فتوح البلدان» للبلاذري (1/ 249). (3) أخرجه أحمد (1424) وأبو عُبيد (151، 156) والبيهقي (6/ 318) وغيرهم. (4) أخرجه أبو عبيد (154) والبيهقي (6/ 318). (5) أخرجه أبو عُبيد (158) وابن زنجويه (158) والبيهقي (9/ 134) بذكر مشورة علي. ومشورة معاذ عند أبي عُبيد (159، 160) وعنه ابن زنجويه (231، 232). (6) هذا خبر «ما فتحه المسلمون» الذي في مطلع الإجابة، وأُعيد هنا لطول الفصل.

(2/295)


سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجها عن ملك المسلمين، فإنَّ ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدَّلًا، أو مُحدَثًا لم يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه. وقد أوجب الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدِّين كلُّه لله، وتكون كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، و {يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. ولهذا لمَّا استولى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قَيْنُقَاع والنَّضِير وقُرَيظة كانت مَعابِدهم ممَّا استولى عليه المسلمون، ودخلت في قوله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] وفي قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6]، و {مَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اِلْقُرى} [الحشر: 7]، لكن وإنْ ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّعٌ (1)، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمِّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المُقاتِلين الذين يُؤسَرون وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمه (2) في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. _________ (1) في المطبوع: «متبوع»، خطأ. (2) وقع في الأصل هنا: «في المقاتلين»، وهو مقحَم خطأ، لانتقال النظر إلى السطر السابق.

(2/296)


وقد أجمع المسلمون على أنَّ الغنائم لها أحكامٌ مختصَّةٌ بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة. ولهذا لمَّا فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر أقرَّ أهلها ذِمَّةً للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع مِلكًا للمسلمين عَامَلهم عليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر (1) ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثمَّ أجلاهم عمر - رضي الله عنه - في خلافته (2)، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد. فصل وأمَّا أنَّه هل يجوز للإمام عقدُ الذِّمة مع إبقاء المَعابِد بأيديهم؟ فهذا فيه خلافٌ معروفٌ في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم لأنَّه إخراج مِلك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهدٍ قديم. ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم. فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار. منهم من يُوجِب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية. ومنهم من يخيِّر الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة. وهذا قول _________ (1) في المطبوع: «بشرط»، تصحيف. (2) كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند البخاري (2338، 3152) ومسلم (1551).

(2/297)


الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. وعليه دلَّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قَسَم نصفَ خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين (1). ومن قال: يجوز إقرارها بأيديهم، فقوله أوجه وأظهر، فإنَّهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنَّهم لا يملكون ما تُرك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، وكما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المساكن والمعابد. ومجرَّد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكًا كما لو أُقطِع المسلمُ بعضَ عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو يُسَلَّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به= لم يكن ذلك تمليكًا له. بل ما أُقرُّوا فيه من كنائس العَنْوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس (3) العَنْوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على _________ (1) كما في حديث بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة وعن نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (16417) وأبو داود (3010 - 3012) والبيهقي (6/ 317) وغيرهم. (2) انتهى هنا ما بدأ في (ص 209) من القدر الذي قابله الشيخ محمد عزير شمس على الأصل الخطي في الهند، ولم يتمكَّن من تصويره، فاعتمدت على مقابلته في تحقيق النص. أما ما بعده إلى آخر الكتاب فبين يدي صورة الأصل، ولله الحمد. (3) في الأصل: «الكنائس».

(2/298)


إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومَن معه في عصره من أهل العلم، فإنَّ المسلمين لمَّا أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه وكانت من كنائس الصُّلح، لم يكن لهم أخذها قهرًا فاصطلحوا على المُعاوَضة بإقرار كنائس العَنْوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عِوَضًا عن كنيسة الصُّلح التي لم يكن لهم أخذُها (1) عَنْوةً (2). فصل ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العَنْوة، كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان لقُرَيظَة والنَّضِير لمَّا نقضوا العهد، فإنَّ ناقض العهد أسوأُ حالًا من المحارب الأصلي، كما أنَّ ناقض الإيمان بالرِّدَّة أسوأُ حالًا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهل مصرٍ من الأمصار ولم يبقَ مَن دخل في عهدهم، فإنَّه يصير للمسلمين جميعُ عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا. فإذا عقدت الذِّمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لمَن يعقد لهم الذِّمةَ أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يُقرَّهم بمنزلة ما فتح ابتداءً، فإنَّه لو أراد الإمام عند فتحه هدْمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدْمه، وإنَّما اختلفوا في جواز بقائه. _________ (1) في الأصل: «أخذوها»، تصحيف. (2) انظر: «تاريخ دمشق» (2/ 249 - 256).

(2/299)


وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين. أمَّا على قول الجمهور الذين لا يُوجِبون قَسْمَ العَقار، فظاهر. وأمَّا على قول مَن يُوجِب قَسْمَه، فلأنَّ عين المستحقِّ غير معروف كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معيَّن. وأمَّا تقدير وجوب إبقائها، فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإنَّ إيجاب إعطائهم معابدَ العَنْوَة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلًا، فلا يفرَّع عليه. وإنَّما الخِلاف في الجواز. نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نقُلْ بدخولهم في عهد آبائهم، لأنَّ لهم شُبهةَ الأمان والعهد بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يَجِب إلا ما تحقَّق أنَّه كان له، فإنَّ صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عُرِف أنَّه حقُّه، وما وقع الشكُّ فيه على هذا التقدير فهو لبيت المال. وأمَّا الموجودون الآن إذا لم يَصدُر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذِّمَّة، فإنَّ الصبيَّ يتبع أباه في الذمَّة وأهلَ داره من أهل الذِّمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهلَ داره من المسلمين، لأنَّ الصبيَّ لمَّا لم يكن مستقلًّا بنفسه جُعِل تابعًا لغيره في الإيمان والأمان. وعلى هذا جرَتْ سنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيانَ أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين. أمَّا ما أُحِدث بعد ذلك فإنَّه يجب إزالته، ولا يمكَّنون من إحداث البِيَع والكنائس كما شَرَط عليهم عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - في الشروط المشهورة عنه أن لا يجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسةً ولا صومعةً ولا

(2/300)


دَيرًا لا قَلَّايةً (1)، امتثالًا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكون قِبلتان ببلدٍ واحدٍ»، رواه أحمد وأبو داود (2) بإسناد جيد، ولِما روي عن (3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لا كنيسة في الإسلام (4). وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال مَن يوفِّقه الله مِن وُلاة أمور المسلمين يُنفِّذ ذلك، ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنَّه إمام هدًى، فروى الإمام أحمد (5) عنه أنَّه كتب إلى نائبه على (6) اليمن أن يَهدِم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء وغيرها. وروى الإمام أحمد (7) عن الحسن البصري أنَّه قال: من السُّنَّة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة. وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد (8). _________ (1) سبق تخريج الشروط العمرية (ص 272). (2) أحمد (1949، 2576، 2577) وأبو داود (3032) واللفظ به أشبه. وقد سبق تخريجه مفصَّلًا (1/ 79). (3) في الأصل: «عنه»، خطأ. (4) سبق تخريجه (ص 288). (5) كما في «جامع الخلال» (2/ 426)، وقد سبق تخريجه. (6) في المطبوع: «عن»، خطأ. (7) «جامع الخلال» (2/ 426)، وقد سبق أيضًا. (8) كما ذكر ذلك أحمد. انظر ما سبق (ص 290) من رواية أبي طالب.

(2/301)


وكذلك المُتوَكِّل لمَّا ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى علماءَ وقته في هدْم الكنائس والبِيَع فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فممَّا ذكره ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب (يعني: المسلمين) فليس للعجم (يعني: أهل الذِّمَّة) أن يَبنُوا فيه كنيسةً، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا. وأيُّما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فإنَّ للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يُوفُوا بعهدهم ولا يكلِّفونهم (1) فوق طاقتهم (2). ومُلخَّص الجواب (3): أنَّ كلَّ كنيسةٍ في مصرَ والقاهرة والكوفة والبصرة وواسطَ وبغدادَ ونحوها من الأمصار التي مصَّرها المسلمون بأرض العَنْوة فإنَّه يجب إزالتها إمَّا بالهدم أو غيره، بحيث لا يبقى لهم معبدٌ في مصرٍ مصَّره المسلمون بأرض العنوة. وسواءٌ كانت تلك المعابد قديمةً قبل الفتح أو محدثةً، لأنَّ القديم منها يجوز أخذُه ويجب عند المفسدة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تجتمع قِبلتان بأرضٍ، فلا يجوز للمسلمين أن يُمكِّنوا أن يكون بمدائن الإسلام قِبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم، لا سِيَّما وهذه الكنائس التي بهذه _________ (1) كذا في الأصل مرفوعًا. (2) سبق تخريج أثر ابن عبَّاس (ص 288 - 289). وخبر كتاب المتوكل إلى أحمد ذكره الخلال (2/ 421) عن عبد الله بن أحمد، وسيأتي (ص 309). (3) أي ملخص الجواب على الاستفتاء في أمر الكنائس. وهل التلخيص من شيخ الإسلام نفسه، أو انتهى جوابه والتلخيص من ابن القيم؟ يُنظَر.

(2/302)


الأمصار مُحدَثةٌ يظهر حدوثُها بدلائل متعدِّدة، والمُحدَث يُهدَم باتفاق الأئمة. وأمَّا الكنائس التي بالصَّعيد وبرِّ الشام ونحوها من أرض العَنْوة، فما كان منها مُحدثًا وجب هدمُه، وإذا اشتبه المُحدَث بالقديم وجب هَدمُهما جميعًا، لأنَّ هدم المُحدَث واجبٌ وهدم القديم جائزٌ، وما لا يَتِمُّ الواجب إلا به فهو واجب. وما كان منها قديمًا فإنَّه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم، فينظر الإمامُ في المصلحة، فإن كانوا قد قَلُّوا والكنائس كثيرةٌ أخذ منهم أكثرها، وكذلك ما كان على المسلمين فيه مَضرَّةٌ فإنَّه يؤخذ أيضًا، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أُخِذ أيضًا. وأمَّا إذا كانوا كثيرين في قريةٍ ولهم كنيسةٌ قديمةٌ لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه، فالذي ينبغي: تركُها كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه، ثم أخذ منهم. وأمَّا ما كان لهم بصلحٍ قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها، فلا يجوز أخذُه ما داموا مُوفِين بالعهد إلا بمُعاوَضةٍ أو طيب أنفسهم، كما فعل المسلمون بجامع دمشق لمَّا بَنَوه. فإذا عُرِف أنَّ الكنائس ثلاثة أقسام: منها ما لا يجوز هدمه، ومنها ما يجب هدمه كالتي في القاهرة ومصر والمحدثات كلها، ومنها ما يفعل

(2/303)


المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام مما (1) كان قديمًا، على ما بيَّنَّاه. فالواجب على ولي الأمر فعلُ ما أمره الله به، وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم، ومنعِهم من الولايات في جميع أرض الإسلام. ولا يَلتفِت في ذلك إلى مُرجِفٍ أو مُخذِّلٍ يقول: إنَّ لنا عندهم مساجدَ وأسرى نخاف عليهم، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اَللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. وإذا كان نَورُوز (2) في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله، فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحقُّ، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّهم لا يزالوا (3) ظاهرين إلى يوم القيامة، ونحن نرجو أن يحقِّق الله وعدَ رسوله حيث قال: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدِّدُ لها دينها» (4)، ويكون مَن أجرى الله _________ (1) في الأصل: «فما»، تصحيف. (2) نائب السلطنة لغازان، كان مسلمًا ديِّنًا عالي الهمَّة، وهو الذي حرص بغازان حتى أسلم وملَّكه البلاد. ثم فسد ما بينهما حتى قُتل نوروز سنة 696. انظر: «تاريخ الإسلام» (15/ 847). (3) كذا في الأصل، وكأن النون قد كتبت أولًا ثم كشطت ومسحت. (4) أخرجه أبو داود (4291) والطبراني في «الأوسط» (6527) والحاكم (4/ 522) والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 208) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد رواته ثقات، وقد صحَّحه العراقي والحافظ والألباني. انظر: «الصحيحة» (599) و «أنيس الساري» (1216) ..

(2/304)


ذلك على يديه وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي، فإنَّ الله بهم يُقيم دينَه كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسْلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. فصل الضرب الثاني من البلاد: الأمصار التي أنشأها المشركون ومصَّروها، ثم فتحها المسلمون عَنوةً وقهرًا بالسيف، فهذه لا يجوز أن يُحدَث فيها شيء من البيع والكنائس. وأمَّا ما كان فيها من ذلك قبل الفتح، فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره: أحدهما: يجب إزالتُه وتَحْرُم تبقيتُه، لأنَّ البلاد قد صارت ملكًا للمسلمين، فلم يجُزْ أن يُقَرَّ فيها أمكنة شعار الكفر، كالبلاد التي مصَّرها المسلمون. ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلح قبلتان ببلدٍ» (1). وكما لا يجوز إبقاء الأمكنة التي هي شعار الفسوق كالخمارات والمواخير. _________ (1) تقدَّم قريبًا (ص 301).

(2/305)


ولأنَّ أمكنة البِيَع والكنائس قد صارت ملكًا للمسلمين، فتمكين الكفار من إقامة شعار الكفر فيها كبَيعهم وإجارتهم إيَّاها لذلك. ولأنَّ الله تعالى أمر بالجهاد حتى يكون الدِّين كلُّه له، وتمكينهم من إظهار شعار الكفر في تلك المواطن جعل الدين له ولغيره. وهذا القول هو الصحيح. والقول الثاني: يجوز إبقاؤها، لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: أيما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإنَّ للعجم ما في عهدهم (1). ولأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح خيبر عنوةً وأقرَّهم على معابدهم فيها ولم يهدمها. ولأنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - فتحوا كثيرًا من البلاد عَنْوةً فلم يَهدِموا شيئًا من الكنائس التي بها. ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فُتِحت عَنْوةً، ومعلومٌ قطعًا أنَّها ما أُحدِثت بل كانت موجودةً قبل الفتح. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عُمَّاله: أن لا تهدموا كنيسةً ولا بيعةً ولا بيت نارٍ (2). ولا يناقِض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنَّه أمر بهدم الكنائس (3)، فإنَّها _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (285) ــ وعنه ابن زنجويه (400) ــ وابن أبي شيبة (33654) قالا: حدثنا حفص بن غياث عن أُبي بن عبد الله قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز. (3) يدل عليه أن نهي عمر بن عبد العزيز جاء مقيَّدًا في رواية ابن أبي شيبة بما «صُولحوا عليه»، إذًا فلا يشمل المُحدَث منها.

(2/306)


التي أُحدِثت في بلاد الإسلام. ولأنَّ الإجماع قد حصل على ذلك، فإنَّها موجودةٌ في بلاد المسلمين من غير نكيرٍ. وفصل الخطاب أن يقال: إنَّ الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين. فإن كان أخذُها منهم أو إزالتُها هو المصلحةَ، لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقِلَّة أهل الذِّمة= فله أخذُها أو إزالتها بحسب المصلحة. وإن كان تركها أصلح، لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها= تَرَكها. وهذا الترك تمكينٌ لهم من الانتفاع بها، لا تمليكٌ لهم رِقابَها، فإنَّها قد صارت مِلكًا للمسلمين، فكيف يجوز أن يجعلها ملكًا للكفار؟ وإنَّما هو امتناعٌ بحسب المصلحة، فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك. ويدلُّ عليه أنَّ عمر بن الخطاب والصحابة معه أَجلَوا أهل خيبر من دُورهم ومعابدهم بعد أن أقرَّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، ولو كان ذلك الإقرار تمليكًا لم يَجُزْ إخراجهم عن ملكهم إلا برِضًا أو معاوضةٍ. ولهذا لمَّا أراد المسلمون أخذ كنائس العنوة التي خارج دمشق في زمن الوليد بن عبد الملك صالَحَهم النصارى على تركها وتعويضهم عنها بالكنيسة التي زِيدت في الجامع (1). ولو كانوا قد ملكوا تلك الكنائس بالإقرار لقالوا للمسلمين: كيف تأخذون أملاكنا قهرًا وظلمًا؟ بل أَذْعَنوا إلى _________ (1) قد سبق.

(2/307)


المعاوضة لمَّا علموا أنَّ للمسلمين أخذَ تلك الكنائس منهم، وأنَّها غير ملكهم كالأرض التي هي بها. فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة، وهو اختيار شيخنا (1)، وعليه يدلُّ فعل الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من أئمة الهدى، وعمر بن عبد العزيز هدَمَ منها ما رأى المصلحة في هدمه وأقرَّ ما رأى المصلحة في إقراره. وقد أفتى الإمام أحمدُ المُتوَكِّلَ بهدم كنائس السَّواد وهي أرض العنوة. فصل الضرب الثالث: ما فُتِح صلحًا، وهذا نوعان: أحدهما: أن يصالحهم على أنَّ الأرض لهم ولنا الخراج عليها، أو يصالحهم على مالٍ يبذلونه وهي الهُدْنة، فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها، لأنَّ الدار لهم كما صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل نَجْران ولم يشترط عليهم أن لا يُحدِثوا كنيسةً ولا ديرًا. النوع الثاني: أن يصالحهم على أنَّ الدار للمسلمين، ويُؤدُّون الجزية إلينا. فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقيةٍ وإحداثٍ وعمارةٍ، لأنَّه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أنَّ الكلَّ لهم جاز أن يصالَحوا على أن يكون بعض البلد (2) لهم. والواجب عند القدرة أن يُصالَحوا على ما صالحهم عليه عمر - رضي الله عنه -، _________ (1) كما سبق في جواب الاستفتاء. (2) في الأصل: «الولد»، تصحيف.

(2/308)


ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب عبد الرحمن بن غنم: أن لا يحدثوا بيعةً ولا صومعة راهبٍ ولا قلَّايةً. فلو وقع الصلح مطلقًا من غير شرطٍ حُمِل على ما وقع عليه صلحُ عمرَ وأخذوا بشروطه، لأنَّها صارت كالشرع، فيُحمَل مطلق صلح الأئمة بعده عليها. ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب قال الخلال في كتاب «أحكام أهل الملل» (1): باب الحكم فيما أحدثته النصارى مما لم يصالحوا عليه. أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: كان المتوكِّل لمَّا حدث من أمر النصارى ما حدث كتب إلى القضاة ببغداد يسألهم أبي حسَّان الزيادي (2) وغيرِه، فكتبوا إليه واختلفوا، فلما قُرِئ عليه قال: اكتب بما أجاب به هؤلاء إلى أحمد بن حنبل ليكتب إليَّ بما يرى في ذلك. قال عبد الله: ولم يكن في أولئك الذين كتبوا أحدٌ يحتجُّ بالحديث إلا أبا حسان الزيادي، واحتجَّ بأحاديث عن الواقدي. فلما قرئ على أبي عرفه وقال: هذا جواب أبي حسَّان، وقال: هذه أحاديث ضِعافٌ، فأجابه أبي واحتجَّ بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، فقال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، _________ (1) من «الجامع» (2/ 421). (2) الحسن بن عثمان بن حمَّاد، القاضي المؤرخ العلامة، ولي قضاء الشرقية في إمرة المتوكل، وكان من كبار أصحاب الواقدي (ت 242). انظر: «تاريخ بغداد» (8/ 338).

(2/309)


عن أبيه، عن حنشٍ، عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب ــ أو دار العرب ــ هل للعجم أن يُحدثوا فيها شيئًا؟ فقال: أيما مصرٍ مصَّرته العرب ... فذكر الحديث (1). قال: وسمعت أبي يقول: ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصرٍ مصَّره المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صُلْحًا، وليس لهم أن يُظهِروا الخمر في أمصار المسلمين، على حديث ابن عباس: أيُّما مصرٍ مصَّره المسلمون. (2) أخبرنا حمزة بن القاسم وعبد الله بن أحمد بن حنبلٍ وعصمة قالوا: حدثنا حنبلٌ قال: قال أبو عبد الله: وإذا كانت الكنائس صلحًا تُركوا على ما صولحوا عليه، فأمَّا العَنْوة فلا، وليس لهم أن يحدثوا بيعةً وكنيسةً لم تكن، ولا يضربوا ناقوسًا، ولا يرفعوا صليبًا، ولا يظهروا خنزيرًا، ولا يرفعوا نارًا ولا شيئًا ممَّا يجوز لهم فعله في دينهم، يمنعون من ذلك ولا يتركون. قلت: للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك؟ قال: نعم، على الإمام منعُهم من ذلك، السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوةً. وأمَّا الصلح فلهم ما صُولِحوا عليه يُوفى لهم به. وقال: الإسلام يعلو ولا يُعلَى، ولا يُظهرون خمرًا. _________ (1) وقد سبق تخريجه. (2) بعد هذه الرواية وقبل الآتية ثلاث روايات في «جامع الخلال» ــ وهي عن المروذي وأبي طالب وأبي الحارث ــ لم يذكرها المؤلف هنا، لأنه سبق أن ذكرها (ص 289 - 291).

(2/310)


قال الخلال (1): كتب إليَّ يوسف بن عبد الله الإسكافي (2): حدثنا الحسن بن علي بن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن البيعة والكنيسة تُحدَث، قال: يرفع أمرها إلى السلطان. وقال محمد بن الحسن (3): لا ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسةٌ ولا بِيعةٌ، ولا يباع فيها خمرٌ وخنزيرٌ، مِصرًا (4) كان أو قريةً. وقال الشافعي في «المختصر» (5): «ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسةً ولا مجتمعًا لصلواتهم. ولا يظهروا فيها حمل خمرٍ ولا إدخال خنزيرٍ. ولا يُحدِثون بناءً يطولون به على بناء المسلمين. وأن يُفرِّقوا بين هيئاتهم في المركب والملبس وبين هيئات المسلمين. وأن يعقدوا الزُّنَّار على أوساطهم. ولا يدخلوا مسجدًا. ولا يسقوا مسلمًا خمرًا، ولا يُطعمونه (6) خنزيرًا. وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم يُعرَض لهم في خمرهم وخنازيرهم ورفع بنيانهم. وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسةٌ أو بناءٌ طويلٌ كبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك، وتُرِك على ما وُجِد، ومُنعوا من إحداث مثله. _________ (1) «الجامع» (2/ 425). (2) في الأصل: «الإسكاف»، والمثبت من «الجامع»، وكذا ورد في «السنة» له (963). (3) في «السير الكبير» (4/ 267 - 268 مع شرح السرخسي). والمؤلف صادر عن «الاختيار في تعليل المختار» لأبي الفضل الموصلي (4/ 140). (4) في المطبوع: «ومصرًا»، خطأ. (5) أي برواية المزني (ص 385). وهو في «الأم» (5/ 493 - 495) بنحوه أطول منه. (6) كذا في الأصل مرفوعًا.

(2/311)


وهذا إذا كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوةً، وشُرِط هذا على أهل الذِّمة. وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلحٍ منهم على تركهم وإيَّاه خُلُّوا وإياه، ولا يجوز أن يصالَحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يُحدِثون فيها ذلك». قال صاحب «النهاية» (1) في شرحه: البلاد قسمان: بلدةٌ ابتناها المسلمون فلا يُمكَّن أهلُ الذمة من إحداث كنيسةٍ فيها ولا بيت نارٍ، فإن فعلوا نُقِض عليهم. فإن كان البلد للكفار وجرى فيه حكمٌ للمسلمين، فهذا قسمان: * فإن فتحه المسلمون عنوةً وملكوا رِقاب الأبنية والعِراص تعيَّن نَقْض ما فيها من البِيَع والكنائس. وإذا كنَّا ننقض ما نصادف من الكنائس والبِيَع فلا يخفى أنَّا نمنعهم من استحداث مثلها. ولو رأى الإمام أن يُبقي كنيسةً ويقرَّ في البلد طائفةً من أهل الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب: منعُ ذلك، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما: أنَّه يجوز للإمام أن يقرَّهم ويبقي الكنيسة عليهم. والثاني: لا يجوز ذلك، وهو الأصحُّ الذي قطع به المَراوِزة. * هذا إذا فتحنا البلد عنوةً، فإن فتحناها صُلحًا فهذا ينقسم قسمين: أحدهما: أن يقع الفتح على أنَّ رقاب الأراضي للمسلمين، ويُقَرُّون فيها بمالٍ يُؤدُّونه لسُكناها سوى الجزية. فإن استثنوا في الصلح البِيَع والكنائس لم _________ (1) أي الجويني في «نهاية المطلب في دراية المذهب» (18/ 49).

(2/312)


تُنقضَ عليهم. وإن أطلقوا وما استثنَوا بيعهم وكنائسهم ففي المسألة وجهان: أحدهما: أنها تنقض عليهم، لأنَّ المسلمين ملكوا رِقاب الأبنية والبِيَع والكنائس، تُغنَم كما تغنم الدُّور. والثاني: لا نملكها، لأنَّا شرطنا تقريرهم، وقد لا يتمكَّنون من المقام إلا بتبقية مجتمعٍ لهم فيما يرونه عبادةً. وحقيقة الخلاف ترجع إلى أنَّ اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البِيَع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها؟ القسم الثاني: أن يفتحها المسلمون على أن تكون رقاب الأرض لهم، فإذا وقع الصلح كذلك لم يُتعرَّض للبيع والكنائس، ولو أرادوا إحداث كنائس فالمذهب أنَّهم لا يُمنَعون فإنَّهم متصرفون في أملاكهم. وأبعَدَ بعضُ أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن، فإنه إحداث بيعةٍ في بلدٍ هي تحت حكم الإسلام. فصل وأمَّا أصحاب مالك، فقال في «الجواهر» (1): إن كانوا في بلدةٍ بناها المسلمون فلا يمكَّنون من بناء كنيسةٍ. وكذلك لو ملكنا رقبةَ بلدةٍ من بلادهم قهرًا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسةً بل يجب نقض كنائسهم بها. أما إذا فُتحت صلحًا على أن يسكنوها بخراج، ورقبةُ الأبنية للمسلمين، وشرطوا إبقاء كنيسةٍ= جاز. _________ (1) «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس المالكي (1/ 492 - 493).

(2/313)


وأمَّا إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم، وعليهم خراجٌ، ولا تنقض كنائسهم= فذلك لهم، ثم يُمنَعون من رَمِّها. قال ابن الماجشون (1): ويمنعون مِن رَمِّ كنائسهم القديمة إذا رَثَّتْ، إلا أن يكون ذلك شرطًا في عقدهم فيُوفى لهم. ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة. ونقل الشيخ أبو عمر (2) أنَّهم لا يُمنَعون من إصلاح ما وهى منها، وإنَّما منعوا من إصلاح (3) كنيسةٍ فيما بين المسلمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُرفَع فيكم يهوديةٌ ولا نصرانيةٌ» (4). فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاؤوا، فقال ابن الماجشون: لا يجوز هذا الشرط. ويمنعون منه (5)، إلا في بلدهم الذي لا يسكنه المسلمون معهم فلهم ذلك وإن لم يشترطوه. قال: وهذا في أهل الصلح، فأمَّا أهل العنوة فلا يترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسةٌ إلا هُدِمت، ثم لا _________ (1) كما في «النوادر والزيادات» (3/ 376)، وما زال النقل من «عقد الجواهر». (2) في «الكافي» (1/ 484)، وما زال النقل من «عقد الجواهر». (3) في «الجواهر»: «إحداث»، وهو مقتضى ما في «الكافي». (4) هذا الحديث لم يذكره أبو عمر في «الكافي». وقد ذكره ابن حبيب الأندلسي المالكي في كتابه ــ والظاهر أنه «الواضحة في السنن والفقه» ــ كما في «النوادر والزيادات» (3/ 376)، وابن حبيب ذُكر عنه كما في «السير» (12/ 102) وغيره أنه كان لا يميز صحيح الحديث من سقيمه ويحتجُّ بالمناكير، ولعل هذا منها. (5) في الأصل: «منهم»، خطأ.

(2/314)


يمكَّنون من إحداث كنيسةٍ بعدُ وإن كانوا معتزلين عن (1) بلاد الإسلام. فصل وقد روى أبو داود في «سننه» (2) عن أَسباط، عن السُّدِّي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل نجران على ألفي حلةٍ ... الحديث، وفيه: «ولا تُهدَم لهم بيعةٌ، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يُفتَنون عن دينهم ما لم يُحدِثوا حدثًا أو يأكلوا الربا». فأبقى كنائسهم عليهم لمَّا كانت البلد لهم، وجعل الأمان فيها تبعًا لأمانهم على أنفسهم. فإذا زال شرط الأمان على أنفسهم بإحداث الحدث وأكل الربا، زال عن رقاب كنائسهم كما زال عن رقابهم. فصل في ذكر بناء ما استَهْدَم (3) منها، ورمِّ شَعَثِه، وذكر الخلاف فيه قال صاحب «المغني» (4) فيه: «كل موضع قلنا: يجوز إقرارها، لم يجُزْ _________ (1) في الأصل: «على»، خطأ. (2) رقم (3041)، ومن طريقه البيهقي (9/ 202). إسناده لا بأس به، رجاله موثَّقون، على لينٍ في أسباط بن نصر. (3) المعروف في اللغة: انهدم وتهدَّم. وقد ورد «استَهْدَم» بمعناهما مطاوعًا لـ «هَدَم» في كتب الحنابلة والشافعية، وقد نصُّوا على أنه بفتح التاء مبنيًّا للفاعل، ومع ذلك كثُر ضبطُه مبنيًّا للمجهول في طبعاتِ كثيرٍ من كتب المذهبين، فليصحَّح. انظر: «تحرير ألفاظ التنبيه» للنووي (ص 203، 320)، و «المُطلع على أبواب المقنع» للبعلي (ص 225)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (11/ 8). (4) (13/ 241).

(2/315)


هدمُها». وهذا ليس على إطلاقه، فإنَّ كنائس العَنْوة يجوز للإمام إقرارُها للمصلحة، ويجوز للإمام هدمُها للمصلحة. وبه أفتى الإمام أحمد المتوكلَ في هدم كنائس العَنوة كما تقدَّم (1). وكما طلب المسلمون أخذ كنائس العنوة منهم في زمن الوليد حتى صالحوهم على الكنيسة التي زِيدَت في جامع دِمَشق (2)، وكانت مُقَرَّةً بأيديهم من زمن عمر - رضي الله عنه - إلى زمن الوليد، ولو وجب إبقاؤها وامتنع هدمها لمَّا أقرَّ المسلمون الوليد، ولغيَّره الخليفة الراشد ــ لمَّا وَلِي ــ عمرُ بن عبد العزيز، فلا تلازُمَ بين جواز الإبقاء وتحريم الهدم. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في بناء المُستهدِم ورمِّ الشَّعِث، فعنه المنع فيهما، ونصر هذه الرواية القاضي في «خلافه». وعنه الجواز فيهما، وعنه يجوز رمُّ شعثها دون بنائها. قال الخلال في «الجامع» (3): باب البيعة تَهدَّمُ بأسرها أو تَهدَّمَ بعضُها. أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي: هل ترى لأهل الذِّمة أن يُحدِثوا الكنائس بأرض العرب؟ وهل ترى لهم أن يزيدوا في كنائسهم التي صولحوا عليها؟ فقال: لا يحدثوا في مصرٍ مصَّرته العرب كنيسةً ولا بيعةً، ولا يضربوا فيها بناقوسٍ. ولهم ما صُولِحوا عليه، فإن كان في عهدهم أن يزيدوا في _________ (1) (ص 309) (2) تقدَّم (ص 298 - 299). (3) (2/ 427).

(2/316)


الكنائس فلهم، وإلَّا فلا. وما انهدم فليس لهم أن يبنوها. أخبرني أحمد بن أبي الهيثم (1) أنَّ موسى بن أحمد بن مُشَيشٍ (2) حدَّثهم في هذه المسألة أنه سأل أبا عبد الله فقال: ليس لهم أن يُحدثوا إلا ما صولحوا عليه، إلا أن يبنوا ما انهدم ممَّا كان لهم قديمًا. قال الخلال: وإنَّما معنى قول أبي عبد الله هاهنا: «إنَّهم يبنون ما انهدم» يعني: مَرمَّةً يَرُمُّون. وأمَّا إن انهدمت كلُّها بأسرها، فعنده أنَّه لا يجوز إعادتها. وقد بيَّن أيضًا ذلك حنبلٌ عنه: أخبرني عصمة بن عصامٍ قال: حدثنا حنبلٌ قال: سمعت أبا عبد الله قال: كلُّ ما كان ممَّا فتح المسلمون عَنْوةً فليس لأهل الذِّمة أن يُحدِثوا فيها كنيسةً ولا بِيعةً، فإن كان في المدينة لهم شيء فأرادوا أن يَرُمُّوه فلا يُحدِثوا فيه شيئًا إلا أن يكون قائمًا، فإن انهدمت الكنيسة أو البيعة بأسرها لم يبدلوا غيرها، وما كان من صُلحٍ كان لهم ما صولحوا عليه وشُرِط لهم، لا يغيَّر لهم شرطٌ شُرِط لهم. _________ (1) في الأصل: «الخيثم»، تصحيف. وفي مطبوعة «الجامع»: «أحمد بن الهيثم»، ولم أتبيَّن الصواب. (2) كذا في الأصل و «الجامع»، والظاهر أنه خطأ، فليس في أصحاب أحمد أحدٌ بهذا الاسم. وإنما هناك محمد بن موسى بن مُشَيش: مستملي أبي عبد الله، وجارُه، ومن كبار أصحابه، روى عنه مسائل. انظر: «تاريخ بغداد» (4/ 391) و «طبقات الحنابلة» (2/ 365).

(2/317)


قال الخلال: وهكذا هو في شرطهم أنَّه إن انهدم شيء رمُّوه، وإن انهدمت بأسرها لم يعيدوها. قال القاضي في «تعليقه»: مسألة في البِيَع والكنائس التي يجوز إقرارها على ما هي عليه. إذا انهدم منها شيء أو تشعَّثَ فأرادوا عِمارته فليس لهم ذلك في إحدى الروايات نقلها عبد الله. قال: ورأيت بخط أبي حفصٍ البَرْمَكي في رسالة أحمد إلى المتوكِّل في هدم البيع ــ روايةِ عبد الله بن أحمد عن أبيه ــ وذكر فيها كلامًا طويلًا إلى أن قال: وما انهدم فلهم أن يبنوها. قال: وهذا يقتضي اختلاف اللفظ عن عبد الله، ويغلب في ظنِّي أنَّ ما ذكره أبو بكر أضبط ــ يعني: الخلَّال (1) ــ فإنَّه قال: أخبرني عبد الله قال: قال أبي: وما انهدم فليس لهم أن يبنوها. ثم ذكر النصوص التي ذكرناها في رواية حنبلٍ وابن مُشَيشٍ واختيارَ (2) الخلال منعَ البناء وجوازَ رمِّ الشعث. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فقال أبو سعيد الإصطخري: يمنعون من ذلك. قال: حتى إن انهدم حائط البيعة مُنعوا من إعادته ورده، وإن انثلم منعوا من سَدِّه، وإن أرادوا أن يطيِّنوا وجه الحائط الذي يلينا منعوا منه، وإن طينوا وجه (3) الحائط الذي يلي البيعة كان لهم ذلك، وكذلك إن بنوا _________ (1) في «الجامع» (2/ 427). (2) في الأصل: «واختار»، ولعل المثبت أشبه، وقد سبق كلام الخلال من «جامعه» آنفًا. (3) «وجه» ساقط من المطبوع.

(2/318)


دون هذا الحائط الذي يلي البيعة حتى تهدَّم ذلك لم يجُزْ، لأنَّهم يُمنَعون من الإحداث وهذه الإعادةُ إحداثٌ. وأبى ذلك سائر أصحاب الشافعي وقالوا: نحن قد أقررناهم على البيع، فلو منعناهم من رَقْع ما استَرَمَّ منه (1) وإعادةِ ما انهدم كان بمنزلة القلع والإزالة، إذ لا فرق بين أن يزيلها وبين أن يُقِرَّها عليهم ثم يمنعهم من عمارتها (2). واختلفت المالكية على قولين أيضًا، فقال ابن الماجشون: يُمنعون من رمِّ كنائسهم القديمة إذا رثَّت، إلا أن يكون ذلك في شرط عقدهم. ونقل أبو عمر أنَّهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها (3). واحتجَّ القاضي على المنع بحديث رواه عن الخطيب عن ابن رِزقويه، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا بكر بن محمد القرشي، حدثنا سعيد بن عبد الجبار، عن سعيد بن سِنان، عن أبي (4) الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة قال: سمعتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُبنى كنيسةٌ في الإسلام، ولا يُجدَّد ما خرب منها» (5). _________ (1) أي: ما حان له أن يُرَمَّ. (2) انظر: «نهاية المطلب» (18/ 50)، وسيأتي كلامه. (3) سبق توثيق كلام ابن الماجشون وابن عبد البر قريبًا. (4) في الأصل: «ابن»، تصحيف. (5) أخرجه ابن عدي في «الكامل» في ترجمة سعيد بن سنان (5/ 452) وابن زَبْر الرَّبعي في «شروط النصارى» (1، 2) وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/ 38) ــ وعنه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 6) ــ من طرق عن سعيد بن عبد الجبار به. وإسناده واهٍ، سعيد بن سنان متروكٌ منكر الحديث. وقد صحَّ الشطر الأول منه موقوفًا على عمر من طريق آخر، وقد سبق (ص 288).

(2/319)


وهذا لو صحَّ لكان كالنصِّ في المسألة، ولكن لا يثبت هذا الإسناد، ولكن في شروط عمر عليهم: ولا نجدِّد ما خرب من كنائسنا. قالوا: ولأنَّ تجديدها بمنزلة إحداثها وإنشائها، فلا يمكَّنون منه. قالوا: ولأنَّه بناءٌ لا يَملك إحداثَه فلا يملك تجديدَه، كالبناء في أرض الغير بغير إذنه. فإن قيل: الباني في ملك الغير بغير إذنه لا يملك الاستدامة فلا يملك التجديد، وهؤلاء يملكون الاستدامة فملكوا التجديد. قيل: لا يلزم هذا، فإنَّه لو أعاره حائطًا لوضع خشبةٍ عليه جاز له استدامة ذلك، فلو انهدم الحائط فبناه صاحبه لم يملك المستعير تجديد المنفعة. وكذلك لو ملك الذمِّيُّ دارًا عالية البنيان جاز له أن يستديم ذلك، فلو انهدمت فأراد بناءها لم يكن له أن يبنيها على ما كانت عليه، بل يُساوِي بها بنيان جِيرانه من المسلمين أو يحُطُّها عنه. وأيضًا: فلو فتح الإمام بلدًا فيه (1) بيعةٌ خرابٌ لم يَجُز له بناؤها بعد الفتح، كذلك هاهنا. وأيضًا: فإنَّه إذا انهدم جميعها زال الاسم عنها، ولهذا لو حلف: لا _________ (1) في المطبوع: «في»، خطأ.

(2/320)


دخلتُ دارًا، فانهدمت جميعها ودخل بَراحَها لم يحنث لزوال الاسم. فلو قلنا: يجوز بناؤها إذا انهدمت، كان فيه إحداث بيعة في دار الإسلام، وهذا لا يجوز كما لو لم يكن هناك بيعةٌ أصلًا. قال المجوِّزون ــ وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثيرٌ من أصحاب مالك وبعض أصحاب أحمد ــ: لمَّا أقررناهم عليها تضمَّن إقرارُنا لهم جوازَ رمِّها وإصلاحها وتجديد ما خرب منها، وإلا بطَلت رأسًا، لأنَّ البناء لا يبقى أبدًا، فلو لم يجُزْ تمكينهم من ذلك لم يجُزْ إقرارها. قال المانعون: نحن نُقِرُّهم فيها مُدَّةَ بقائها كما نُقِرُّ المستأمَنَ مدَّةَ أمانه. وسِرُّ المسألة أنَّا أقررناهم إمتاعًا (1) لا تمليكًا، فإنَّا ملكنا رَقبتها بالفتح وليست ملكًا لهم. واختار صاحب «المغني» (2) جواز رمِّ الشعث ومنع بنائها إذا استَهْدَمت. قال: لأنَّ في كتاب أهل الجزيرة لعِياض بن غَنْم: ولا نُجدِّد ما خرب من كنائسنا، وروى كثير بن مُرَّة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُبنَى كنيسةٌ في الإسلام ولا يُجدَّد ما خرب منها» (3). قال: ولأنَّ هذا بناءُ كنيسة في الإسلام فلم يَجُز، كما لو ابتُدِئ بناؤها، وفارق رمَّ ما شَعَث منها فإنَّه إبقاءٌ واستدامةٌ، وهذا إحداثٌ. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «اتباعًا»، ولعل المثبت أشبه، وسيأتي قول المؤلف: «لم يملكوا رِقابها ... وإنَّما مُتِّعوها إمتاعًا». (2) (13/ 241). (3) سبق تخريجه.

(2/321)


قال: وقد حمل الخلَّال قولَ أحمد: «لهم أن يبنوا ما انهدم منها» أي: إذا انهدم بعضها، ومَنْعَه مِن بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلُّها، فجمع بين الروايتين. فصل وفي «النهاية» للجويني (1): قال الأصحاب: إذا استرمَّت لم يمنعوا من مرمَّتها. ثم اختلفوا بعد ذلك فقال قائلون: ينبغي أن يَعمُروها بحيث لا يظهر للمسلمين ما يفعلون، فإنَّ إظهار العمارة قريبٌ من الاستحداث. وقال آخرون: لهم إظهار العمارة، وهو الأصحُّ. ثمَّ مَن أوجب عليهم الكِتمان قال: لو تَزلزَل جدارُ الكنيسة أو انتقض مُنعوا من الإعادة، فإنَّ الإعادة ظاهرةٌ. وإذا لم يكن من هدمه بدٌّ فالوجه أن يبنوا جدارًا داخل البيعة، ثم قد يُفضي هذا إلى أن يبنوا جدارًا (2) ثالثًا إذا ارتجَّ الثاني، وهكذا إلى أن تَفنى (3) ساحة الكنيسة. قال: وهذا إفراطٌ لا حاصل له. فإن (4) فرَّعنا على الصحيح وجوَّزنا العمارة إعلانًا، فلو انهدمت الكنيسة، فهل يجوز إعادتها كما كانت؟ فيه وجهان مشهوران: _________ (1) (18/ 50 - 51). (2) «داخل البيعة ... جدارًا» سقط من المطبوع لانتقال النظر. (3) في المطبوع: «تُبنى»، تحريف أفسد السياق. (4) في المطبوع: «فإنَّا»، خلاف الأصل.

(2/322)


أحدهما: المنع، لأنَّه استحداث كنيسة. والثاني: الجواز، لأنَّها وإن انهدمت فالعرصة كنيسةٌ، والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم. فإن منعنا الإعادة فلا كلام، وإن جوَّزناها فهل لهم أن يزيدوا في خطها؟ على وجهين، أصحُّهما المنع، لأنَّ الزائد كنيسةٌ جديدةٌ، وإن كانت متصلةً بالأولى. وإن أبقيناهم على كنيستهم فالمذهب أنَّا نمنعهم من ضرب النواقيس فيها، فإنَّه بمثابة إظهار الخمور والخنازير. وأبعد بعض الأصحاب في تجويز تمكينهم من ضرب الناقوس، قال: لأنَّه من أحكام الكنيسة. قال: وهذا غلط لا يُعتَدُّ به. فصل هذا حكم إنشاء الكنائس وإعادتها. فلو أرادوا نقلها من مكان إلى مكان وإخلاء المكان الأول منها، فصرَّح أصحاب الشافعي بالمنع، قالوا: لأنَّه إنشاء لكنيسة في بلاد الإسلام. والذي يتوجَّه أن يقال: إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت منعنا نقلها بطريق الأولى، فإنَّها إذا لم تُعَد إلى مكانها الذي كانت عليه فكيف تُنشأ في غيره؟ وإن جوَّزنا إعادتها، وكان (1) نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين، _________ (1) في الأصل: «فكان»، والمثبت مقتضى السياق.

(2/323)


لكونهم ينقلونها إلى موضع خفيٍّ لا يُجاوِره مُسلِم، ونحو ذلك= جاز بلا ريبٍ، فإنَّ هذا مصلحةٌ ظاهرةٌ للإسلام والمسلمين، فلا معنى للتوقُّف فيه. وقد ناقلهم المسلمون من الكنيسة التي كانت جِوار جامع دمشق إلى بقاء الكنائس التي هي خارج البلد، لكونه أصلح للمسلمين (1). وأمَّا إن كان النقل لمجرَّد منفعتهم وليس للمسلمين فيه منفعة، فهذا لا يجوز لأنَّه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفر، فهو كما لو أرادوا جعلها خمَّارةً أو بيت فسقٍ، وأولى بالمنع، بخلاف ما إذا جعلنا (2) مكان الأولى مسجدًا يُذكر الله فيه وتقام فيه الصلوات، ومكَّنَّاهم من نقل الكنيسة إلى مكان لا يتأتَّى فيه ذلك، فهذا ظاهر المصلحة للإسلام وأهله، وبالله التوفيق. فلو انتقل الكفار عن محلَّتهم وأخلوها إلى محلَّة أخرى، فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلة وإعطاءَ القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم. فصل هذا حُكم بِيَعهم وكنائسهم. فأمَّا حكم أبنيتهم ودُورهم: فإن كانوا في محلَّة مفردة عن المسلمين لا يجاورهم فيها مسلم تُرِكوا وما يبنونه كيف أرادوا. وإن جاوروا المسلمين لم يمكَّنوا من مطاولتهم في البناء، سواءٌ كان الجار ملاصقًا أو غيرَ ملاصقٍ، بحيث يطلق عليه اسم الجار قَرُب أو بَعُد. _________ (1) انظر ما سبق (ص 299). (2) في الأصل: «جعلها»، والمثبت أشبه.

(2/324)


قال الشافعي رحمه الله تعالى (1): «ولا يُحدِثون بناءً يَطُولون به بناءَ المسلمين». وهذا المنع لِحقِّ الإسلام لا لِحقِّ الجار، حتى لو رضي الجار بذلك لم يكن لرضاه أثرٌ في الجواز. وليس هذا المنع معلَّلا بإشرافه على المسلم، بحيث لو لم يكن له سبيلٌ على الإشراف جاز، بل لأنَّ الإسلام يعلُو ولا يُعلَى. والذي تقتضيه أصول المذهب وقواعد الشرع أنَّهم يُمنَعون من سُكنى الدَّار العالية على المسلمين بإجارةٍ أو عاريةٍ أو بيعٍ أو تمليكٍ بغير عِوَضٍ، فإنَّ المانعين من تعلية البناء جعلوا ذلك من حقوق الإسلام، واحتجُّوا بالحديث وهو قوله: «الإسلام يَعلُو ولا يُعلَى» (2). واحتجُّوا بأنَّ في ذلك إعلاءَ رتبةٍ لهم على المسلمين، وأهل الذمَّة ممنوعون من ذلك. قالوا: ولهذا يُمنَعون من صدور المجالس ويُلجَؤون إلى أضيق الطرق، فإذا مُنِعوا من صدور المجالسِ ــ والجلوسُ فيه عارضٌ ــ فكيف يمكَّنون من السُّكنى اللازمة فوق رؤوس المسلمين؟ وإذا مُنِعوا من وسط الطريق _________ (1) في «الأم» (5/ 493) و «مختصر المزني»، وقد سبق (ص 311). (2) أخرجه الروياني في «مسنده» (783) والدارقطني (3620) والبيهقي (6/ 205) من حديث عائذ بن عمرو المُزني - رضي الله عنه - مرفوعًا. في إسناده ضعف لجهالة بعض رواته. وقد صحَّ عن ابن عباس موقوفًا عليه، أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (352) وابن زنجويه (506) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 257) من طريقين عن عكرمة عنه. وعلَّقه البخاري في الجنائز (باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟) عن ابن عباس مجزومًا به.

(2/325)


المشترك ــ والمرورُ فيه عارضٌ ــ فأُزِيلوا منه إلى أضيقه وأسفله، كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا لقيتموهم في طريقٍ اضطَرُّوهم إلى أضيقه» (1) = فكيف يمكَّنون أن يعلوا في السكنى الدائمة رقابَ المسلمين؟ هذا ممَّا تدفعه أصول الشرع وقواعده. وقول بعض أصحاب أحمد والشافعي: إنَّهم إذا ملكوا دارًا عاليةً من مسلم لم يجب نقضُها، إن أرادوا به أنَّه لا يمتنع ثبوت ملكهم عليها فصحيح. وإن أرادوا به أنَّهم لا يُمنَعون من سكناها فوق رقاب المسلمين ــ وقد صرَّح به الشيخ في «المغني» وصرَّح به أصحاب الشافعي (2)، ولكن الذي نصَّ عليه في «الإملاء» (3) أنَّه إذا ملكها بشِرًى أو هبةٍ أو غير ذلك أُقِرَّ عليها، ولم يصرِّح بجواز سكناها ــ فهو (4) في غاية الإشكال. وتعليلُهم واحتجاجهم بما حكيناه عنهم يدل على منع السكنى. وهذا هو الصواب، فإنَّ المفسدة في العلو ليست في نفس البناء، وإنَّما هي في السكنى. ومعلومٌ أنَّه إذا بناها المسلم وباعهم إيَّاها فقد أراحهم من كلفة البناء ومشقَّته وغرامته، ومكَّنهم من سكناها وعلوِّهم على رقاب المسلمين هنيئًا مريًّا. فيا لله العجب! أي مفسدةٍ _________ (1) أخرجه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) انظر: «المغني» (13/ 242) و «نهاية المطلب» (18/ 52 - 53). (3) كتاب «الإملاء» في حكم المفقود، وانظر نحوه في «البيان» للعمراني (12/ 279). (4) في الأصل: «وهو»، والمثبت مقتضى السياق، لكونه جواب «وإن أرادوا به أنَّهم لا يمنعون من سكناها».

(2/326)


زالت عن الإسلام وأهله بذلك؟! بحيث إنَّهم إذا تَعِبوا وقاسَوا الكُلفة والمشقَّة في التعلية مُنعوا من ذلك، فإذا تعب فيه المسلم وصَلِي بحرِّه جازت لهم السكنى وزالت مفسدة التعلية! ولا يخفى على العاقل المُنصِف فساد ذلك. ثمَّ كيف يستقيم القول به على أصول من يحرِّم الحِيَل، فيمنعه من تعلية البناء، فإذا باع الدار لمسلم ثمَّ اشتراها منه جاز له سُكناها وزالتْ بذلك مفسدة التعلية؟! ولأنَّهم إذا مُنِعوا من مُساواة المسلمين في لباسهم وزيِّهم ومراكبهم وشعورهم وكناهم، فكيف يمكَّنون من مساواتهم بل من العلو عليهم في دُورهم ومساكنهم؟! وطردُ قولِ من جوَّز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم: أن يجوِّز لباس الثياب التي مُنعوا منها إذا ملكوها من مسلم، وإنَّما يُمنَعون ممَّا نسجوه واستنسجوه؛ وهذا لا معنى له. والعجب أنَّهم احتجُّوا لأحد الوجهين في منع المساواة بأنَّهم ممنوعون من مساواة المسلمين في الزيِّ واللباس والركوب، ثم يجوِّزون علوَّهم فوق رؤوس المسلمين بشِرَى الدور العالية منهم، وقد صرَّح المانعون بأنَّ المنع من التعلية المذكورة من حقوق الدين لا من حقوق الجيران. وهذا فرعٌ تلقَّاه أصحاب الشافعي عن نصِّه في «الإملاء» بإقرارهم على ملك الدار العالية، وتلقَّاه أصحاب أحمد عنهم، ولم أجد لأحمد بعد طول التفتيش نصًّا بجواز تملك الدار العالية فضلًا عن سكناها، ونصوصه وأصول

(2/327)


مذهبه تأبى ذلك، والله أعلم. فروعٌ تتعلَّق بالمسألة أحدها: لو كان للذِّمِّي دار (1) فجاء مسلم إلى جانبه فبنى دارًا أنزَلَ منها لم يلزم الذمِّيَّ بحطِّ بنائه ولا مساواته، فإنَّ حقَّ الذمِّي أسبق. وثانيها: لو جاورهم المسلمون بأبنيةٍ أقصر من أبنيتهم، ثمَّ انهدمت دورهم فأرادوا أن يعلوها على بناء المسلمين، فهل لهم ذلك اعتبارًا بما كانت عليه قبل الانهدام، أم ليس لهم ذلك اعتبارًا بالحال؟ يحتمل وجهين، أظهرهما المنع، لأنَّ حقَّ الذمي في الدار ما دامت قائمةً. فإذا انهدمت، فإعادتها إنشاء جديدٌ يُمنَع فيه من التعلية على المسلمين. وثالثها: لو ملكوا دارًا عاليةً من مسلم، وأقررناهم على ملكها، فانهدمت لم يكن لهم إعادتها كما كانت، هذا هو الصواب. وحكى أبو عبد الله بن حمدان وجهًا أنَّ لهم إعادتَها عاليةً اعتبارًا بما كانت عليه. وهو شاذٌّ بعيدٌ لا يُعوَّل عليه، فإنَّ ذلك إنشاءٌ وبناءٌ مستأنفٌ فلا يملك فيه التعلية، كما لو اشترى دِمْنةً (2) من مسلم كان له فيها دارٌ (3) عاليةٌ. ورابعها: لو وجدنا دار ذمِّي عاليةً ودارَ مسلم أنزل منها، وشككنا في _________ (1) في الأصل: «دارًا» بالنصب. (2) أي: أرضًا فيها دمنةُ دارٍ، أي: آثارُها وأطلالها. (3) في الأصل: «دارًا» بالنصب.

(2/328)


السابق منهما، فقال بعض الأصحاب: لم يعرض له فيها. وعندي أنَّه لا يُقَرُّ، لأنَّ التعلية مفسدةٌ وقد شككنا في شرط الجواز. وهذا تفريعٌ على ما ذكره الأصحاب من جواز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم، وعلى ما نصرناه فالمنع ظاهرٌ. وخامسها: لو كان لأهل الذمة جارٌ من ضَعفة المسلمين، دارُه في غاية الانحطاط، فظاهر ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي أنَّهم كلَّهم يُكلَّفون حطَّ بنائهم عن داره أو مساواته. واستشكله الجويني في «النهاية» (1) ولا وجه لاستشكاله، والله أعلم. فصل في تملُّك الذمي بالإحياء في دار الإسلام وقد اختلف العلماء في الذمي، هل يملك بالإحياء كما يملك المسلم؟ فنصَّ أحمد في رواية حرب، وابن هانئ، ويعقوب بن بختان، ومحمد بن أبي حرب على أنَّه يملك به كالمسلم. قال حرب (2): قلت: إنْ أحيا رجلٌ من أهل الذمة مَواتًا ماذا عليه؟ قال: أمَّا أنا فأقول: ليس عليه شيء، وأهل المدينة يقولون فيه قولًا حسنًا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر، وأهل البصرة يقولون قولًا عجيبًا، يقولون: يُضاعَف عليه العشر! _________ (1) (18/ 54). (2) كما في «الجامع» (1/ 152).

(2/329)


قال (1): وسألته مرةً أخرى قلت: إنْ أحيا رجلٌ من أهل الذمة مواتًا؟ قال: هو عشر. وقال مرةً: ليس عليه شيء. وبهذا قالت الحنفية وأكثر المالكية (2). وذهب بعض أصحاب أحمد إلى المنع (3)، منهم أبو عبد الله بن حامدٍ أخذًا من امتناع شُفْعَته على المسلم بجامع التمليك لما يخصُّ المسلمين. وفرَّق الأصحاب بينهما بأنَّ الشفعة تتضمَّن انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، والإحياء لا يُنزَع به أحدٌ (4). والقول بالمنع مذهب الشافعية وأهل الظاهر وأبي الحسن بن القصَّار من المالكية (5). وهو مذهب عبد الله بن المبارك إلا أن يأذن له الإمام. واحتجَّ هؤلاء بأمور، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَوَتانُ الأرضِ لله ولرسوله ثمَّ هي لكم» (6)، فأضاف عموم الموات إلى المسلمين، فلم يَبْقَ فيه شيء للكفار. ومنها: أنَّ ذلك من حقوق الدار، والدار للمسلمين. _________ (1) ليس في مطبوعة «الجامع». وقد نقله عن حرب أيضًا شيخ الإسلام في «الاقتضاء» (2/ 35). (2) انظر: «الاختيار لتعليل المختار» (3/ 67) و «النوادر والزيادات» (10/ 504). (3) انظر: «المغني» (8/ 148) و «الإنصاف» (16/ 83). (4) أي: ملكُ أحدٍ. (5) انظر: «الأم» (5/ 23)، و «المحلى» (8/ 243)، و «التبصرة» للخمي (7/ 3290). (6) انظر: «نهاية المطلب» (8/ 281) و «المغني» (8/ 148)، وسيأتي أنه لا يوجد حديث بهذا اللفظ.

(2/330)


ومنها: أنَّ إضافة الأرض إلى المسلم، إمَّا إضافةُ ملك وإمَّا إضافةُ تخصيص، وعلى التقديرين فتملُّك الكافر بالإحياء ممتنعٌ. وبأنَّ المسلم إذا لم يملك بالإحياء في أرض (1) الكفار المُصالَح عليها، فأحرى أن لا يملك الذميُّ في أرض الإسلام. واحتجَّ الآخرون (2) بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا أرضًا ميتةً فهي له» (3). وبأنَّ الإحياء من أسباب الملك، فمَلَك به الذميُّ كسائر أسبابه. قالوا: وأمَّا الحديث الذي ذكرتموه: «موتان الأرض لله ورسوله»، فلا يُعرَف في شيء من كتب الحديث، وإنما لفظه: «عاديُّ الأرض لله ورسوله ثم هو لكم» (4)، مع أنَّه مرسلٌ. _________ (1) في الأصل: «الأرض»، خطأ. (2) كصاحب «المغني» (8/ 149)، والمؤلف صادر عنه في بعض أوجه الاحتجاج. (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2166، 2167) عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، وعن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفًا، والموقوف علَّقه البخاري في المزارعة (باب من أحيا أرضًا مواتًا) بصيغة الجزم. وروي مسندًا موصولًا من وجوه، أشبهها: هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن جابر - رضي الله عنه -. أخرجه أحمد (14271) والترمذي (1379) والنسائي في «الكبرى» (5725، 5726) وابن حبان (5205) وغيرهم مِن طُرُق عن هشام به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الدارقطني في «العلل» (3279): يُشبه أن يكون محفوظًا. وانظر: «العلل» أيضًا (665، 3460)، و «إرواء الغليل» (1520، 1550)، و «أنيس الساري» (5387). (4) أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 88) ويحيى بن آدم في «الخراج» (269) وأبو عبيد في «الأموال» (688) وابن زنجويه (1008) وعلي بن حرب الطائي في «حديث سفيان بن عيينة» ــ كما في «الإيماء إلى زوائد الأجزاء» (7012) ــ والبيهقي (6/ 143) من طرق عن طاوس مرسلًا. وتمامه: «فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض فهو أحقُّ به» لفظ يحيى بن آدم. وفي بعض الطرق عند البيهقي (7/ 143): عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، وفي بعضها: عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا متصلًا. والمرسل الصواب. وعاديُّ الأرض: ما تقادم ملكه، فلا يُعرف له مالك اليوم، نسبةً إلى قوم عادٍ لقِدَمهم.

(2/331)


قالوا: ولو ثبت هذا اللفظ لم يَمنع تملُّكَ الذمي بالإحياء، كما يتملَّك بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد ما هو للمسلمين، فإنَّ المسلمين إذا ملكوا الأرض ملكوها بما فيها من المعادن والمنافع، ولا يمتنع أن يتملَّك الذمي بعض ذلك. وإقرار الإمام معهم على ذلك جارٍ مَجرى إذنه لهم فيه. ولأنَّ فيه مصلحةً للمسلمين بعمارة الأرض وتَهْيِئَتها للانتفاع بها وكثرة مُغَلِّها (1)، ولا نقص على المسلمين في ذلك. وأمَّا كون المسلم لا يملكها بالإحياء في دار العهد، فهذا فيه وجهان. وأما كون الحربي والمستأمن لا يملكان بالإحياء فقد قال أبو الخطاب: إنَّهما كالذمي في ذلك. ولو سُلِّم أنَّهما ليسا كالذمي فالفرق بينهما ظاهرٌ، فإنَّا لا نُقِرُّ الحربيَّ المستأمَنَ (2) في دار الإسلام كما نُقِرُّ الذمي. _________ (1) أي: غلَّتها. ورسمه في الأصل يشبه: «فعلها»، وعليه جاء المطبوع، ولا معنى له. (2) كذا هنا صفةً للحربي، وسبق آنفًا معطوفًا عليه.

(2/332)


فصل قولهم: (ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسِّع أبوابها للمارَّة وابن السبيل). هذا صريحٌ في أنَّهم لم يملكوا رِقابها كما يملكون دُورهم، إذ لو ملكوا رقابها لم يكن للمسلمين أن ينزلوها إلا برضاهم كدورهم، وإنَّما مُتِّعوها إمتاعًا، وإذا شاء المسلمون نزعوها (1) منهم فإنَّها ملك المسلمين، فإنَّ المسلمين لمَّا ملكوا الأرض لم يستبقوا الكنائس والبِيَع على ملك الكفار، بل دخلت في ملكهم كسائر أجزاء الأرض، فإذا نزلها المارَّة بالليل أو النهار فقد نزلوا في نفس ملكهم. فإن قيل: فما فائدة الشرط إذا كان الأمر كذلك؟ قيل: فائدته أنَّهم لا يتوهَّمون بإقرارهم فيها أنَّها كسائر دُورِهم ومنازلهم التي لا يجوز دخولها إلَّا بإذنهم. وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّها لو كانت ملكًا لهم لم يجُزْ للمسلمين الصلاة فيها إلا بإذنهم، فإنَّ الصلاة في ملك الغير بغير إذنه ورضاه صلاةٌ في المكان المغصوب وهي حرام، وفي صحَّتها نزاعٌ معروفٌ، وقد صلَّى الصحابة في كنائسهم وبِيَعهم (2). _________ (1) في الأصل والمطبوع: «نزلوها»، تصحيف. (2) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (4896 - 4906) و «الأوسط» لابن المنذر (2/ 318 - 319).

(2/333)


واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة الصلاة في البِيَع والكنائس، فعنه ثلاث روايات: الكراهة، وعدمها، والتفريق بين المصوَّرة فتُكرَه الصلاةُ فيها وغير المصوَّرة فلا تُكرَه، وهي ظاهر المذهب. وهذا منقول عن عمر وأبي موسى (1). ومن كره الصلاةَ فيها احتجَّ بأنَّها من مواطن الكفر والشرك، فهي أولى بالكراهة من الحمام والمَقبرة والمزبلة. وبأنَّها من أماكن الغضب. وبأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أرض بابل، وقال: «إنها ملعونةٌ» (2)، فعلَّل منعَ الصَّلاة فيها باللعنة. وهكذا كنائسهم هي مواضع اللعنة والسُّخْطَة والغضب ينزل عليهم فيها، كما قال بعض الصحابة: اجتَنِبُوا اليهودَ والنصارى في أعيادهم، فإنَّ السُّخْطة تنزل عليهم (3). وبأنَّها من بيوت أعداء الله، ولا يُتعبَّد الله في بيوت أعدائه. ومَن لم يكرهها قال: قد صلَّى فيها الصحابة، وهي طاهرةٌ، وهي ملكٌ من أملاك المسلمين. ولا يضُرُّ المصلِّيَ شركُ المشرك فيها، فذلك يُشرك (4) _________ (1) وابن عباس. انظر: «صحيح البخاري» (باب الصلاة في البيعة) والمصادر السابقة. (2) أخرجه أبو داود (490، 491) ــ ومن طريقه البيهقي (2/ 451) ــ من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف، فيه جهالة وإرسال. قال ابن عبد البر في «التمهيد» (5/ 223): إسناده ضعيف مجمع على ضعفه، وهو منقطع غير متصل بعليٍّ. وانظر: «أنيس الساري» (3912). (3) قاله عمر - رضي الله عنه -، وسيأتي تخريجه (ص 347). (4) في الأصل: «شرك»، ولعل المثبت أشبه.

(2/334)


فيها والمسلم يُوحِّد، فله غُنْمه وعلى المشرك غُرْمه. ومن فرَّق بين المصوَّرة وغيرها فذلك لأنَّ الصور تقابل المصلِّي وتُواجِهه، وهي كالأصنام إلا أنَّها غير مجسَّدةٍ، فهي شعار الكفر ومأوى الشيطان، وقد كَرِه الفقهاء الصلاة على البسط والحُصُر المصوَّرة كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهي تُمتَهَن وتُدَاس بالأرجل، فكيف إذا كانت في الحِيطان والسُّقوف؟! فصل قولهم: (ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا). الجاسوس: عين المشركين وأعداءِ المسلمين. وقد شرط على أهل الذمة أن لا يؤوه في كنائسهم ومنازلهم، فإن فعلوا انتقض عهدهم وحلَّت دماؤهم وأموالهم. وهل يحتاج ثبوت ذلك إلى اشتراط إمام العصر له على أهل الذمة؟ أو يكفي شرط عمر - رضي الله عنه -؟ على قولين معروفين للفقهاء: أحدهما: أنَّه لا بد من شرط الإمام له، لأن (1) شرط عمر - رضي الله عنه - كان على أهل الذمة في ذلك الوقت، ولم يكن شرطًا شاملًا للأئمة (2) إلى يوم القيامة. وكلام الشافعي يدلُّ على هذا، فإنَّه قال في رواية المُزَني والرَّبيع (3): _________ (1) في الأصل: «ان»، وسيتكرر مثله كثيرًا، وأكتفي بالتنبيه هنا عن إعادته في كل موضع. (2) في الأصل: «شرعًا عاملًا للامامة»، ولعل المثبت أشبه. (3) «مختصر المزني» (ص 385)، و «الأم» (5/ 472).

(2/335)


ويشترط عليهم ــ يعني الإمام ــ أنَّ مَن ذكر كتاب الله أو محمدًا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أو دينَ الله بما لا ينبغي، أو زنى بمسلمةٍ أو أصابها بنكاحٍ، أو فتن (1) مسلمًا عن دينه، أو قطع عليه الطريق، أو أعان أهل الحرب بدلالةٍ على المسلمين، أو آوى عينًا لهم= فقد نقض عهدَه وأَحَلَّ دمَه، وبَرِئَت منه ذمَّةُ الله وذمَّةُ رسوله. والقول الثاني: لا يشترط ذلك، بل يكفي شرط عمر - رضي الله عنه - وهو مستمِرٌّ عليهم أبدًا قرنًا بعد قرنٍ. وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل من أقوال أئمة الإسلام. ولو كان تجديد اشتراط الإمام شرطًا في ذلك لما جاز إقرار أهل الذمة اليوم ومناكحتهم، ولا أخذ الجزية منهم. وفي اتفاق الأمة دلالةٌ على ذلك قرنًا بعد قرنٍ وعصرًا بعد عصرٍ اكتفاءً بشرط عمر - رضي الله عنه -. فصل قولهم: (ولا نكتم غشًّا للمسلمين). هذا أعمُّ من إيواء الجاسوس، فمتى علموا أمرًا فيه غشٌّ للإسلام والمسلمين وكتموه انتقض عهدُهم. وبذلك أفتينا وليَ الأمر بانتقاض عهد النصارى لمَّا سَعَوا في إحراق الجامع والمَنَارة وسوق السلاح، ففعل بعضهم وعَلِم بعضُهم وكَتَم ذلك ولم يُطلِع عليه وليَّ الأمر (2). _________ (1) في الأصل: «قف»، تصحيف. (2) وكان ذلك في سنة 740 كما في «البداية والنهاية» (18/ 414). وقد ذكره المؤلف أيضًا في «زاد المعاد» (3/ 162).

(2/336)


وبهذا مضَت سُنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناقضي العهد، فإنَّ بني قَينُقاع وبني النَّضِير وقُرَيظَة لمَّا حاربوه ونقضوا عهده عمَّ الجميعَ بحكم الناقضين للعهد وإن كان النقض قد وقع من بعضهم، ورضي الباقون وكتموه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُطلِعوه عليه. وكذلك فعل بأهل مكة: لمَّا نقض بعضهم عهده، وكتم الباقون وسكتوا، ولم يُطلِعوه على ذلك= أجرى الجميع على حكم النقض وغزاهم في عُقْرِ دارهم. وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيرُه، وبالله التوفيق. وقد اتَّفق المسلمون على أنَّ حكم الرِّدْء والمُباشِر في الجهاد كذا (1). وكذلك اتفق الجمهور على أنَّ حكمَهم سواءٌ في قطع الطريق، وإنَّما خالَف فيه الشافعي وحدَه. وكذلك حُكم البُغاة، يستوي (2) رِدؤهم ومُباشِرهم (3). وهذا هو محض الفقه والقياس، فإنَّ المباشِرين إنَّما وصلوا إلى الفعل بقوَّة ردئهم (4)، فهم مشتركون في السبب: هذا (5) بالفعل، وهذا بالإعانة، وهذا بالحفظ والحراسة؛ ولا يجب الاتفاق والاشتراك في عين كلِّ سببٍ سببٍ، والله أعلم. _________ (1) كذا في الأصل، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «سواء». (2) في الأصل: «يستقرر»، غير محرر، وقد أعلم عليه الناسخ بالحمرة، وكتب في الهامش «ظ»، أي: يُنظر أو فيه نظر. ولعل المثبت الصواب. (3) في الأصل: «مباشرتهم»، ولعل المثبت أشبه. (4) في الأصل: «ردتهم»، خطأ. (5) في الأصل: «وهذا»، والظاهر أن الواو مقحمة خطأ.

(2/337)


فصل (1) قولهم: (ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا). لمَّا كان الضرب بالناقوس هو شعارَ الكفر وعَلَمَه الظاهر اشتُرِط عليهم تركُه. وقد تقدَّم (2) قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعةً، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا. ذكره أحمد. وتقدَّم (3) نصُّه في رواية ابنه عبد الله: ليس لليهود والنصارى أن يُحدِثوا في مصرٍ مصَّره المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوسٍ إلا فيما كان لهم صلحًا، وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين. وقال في رواية أبي طالب (4): السواد فتح بالسيف، فلا تكون فيه بيعةٌ، ولا يضرب فيه بناقوسٍ، ولا تتخذ فيه الخنازير، ولا يشرب فيه الخمر، ولا يرفعوا أصواتهم في دورهم. وقال في رواية حنبل (5): وليس لهم أن يحدثوا بيعةً ولا كنيسةً لم تكن، ولا يضربوا ناقوسًا، ولا يرفعوا صليبًا، ولا يظهروا خنزيرًا، ولا يرفعوا نارًا، _________ (1) هذا الفصل وما بعده من الفصول إلى (ص 362) عامَّتها تندرج تحت الفصل الخامس من الفصول التي تدور عليها الشروط العمرية على ما ذكره المؤلف في (ص 278)، وهو «فيما يتعلَّق بإظهار المُنكَر من أفعالهم وأقوالهم ممَّا نُهُوا عنه». (2) (ص 288 - 289). (3) (ص 289). (4) «الجامع» (2/ 423). (5) «الجامع» (2/ 424).

(2/338)


ولا شيئًا مما يجوز لهم. وعلى الإمام أن يمنعهم من ذلك، السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوةً. وأمَّا الصلح فلهم ما صُولِحوا عليه يُوفى لهم به. وقال: الإسلام يعلو ولا يعلى، ولا يظهرون خمرًا. وقال الخلال في «الجامع» (1): أخبرني محمد بن جعفر بن سفيان، حدثنا عبيد بن جَنَّادٍ، حدثنا إسماعيل بن عياشٍ، عن صفوان بن عمرٍو قال: كتب عمر - رضي الله عنه -: أنَّ أحقَّ الأصوات أن تُخفَض أصوات اليهود والنصارى في كنائسهم. وقال الفريابي (2): حدثنا أبو الأسود قال: كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أن لا يضرب بالناقوس خارجًا من الكنيسة. وقال أبو الشيخ في «كتاب شروط عمر» (3): حدثنا طاهر بن عبد الله بن محمد، حدثنا أبو زرعة قال: سمعت علي بن أبي طالب (4) الرازي يقول: _________ (1) (2/ 424)، وتصحَّف فيه «جناد» إلى «حمَّاد». (2) رسمه غير محرر في الأصل، والمثبت هو الصواب، فأبو الأسود هو مجاهد بن فرقد الشامي (لا النضر بن عبد الجبار)، والفريابي ممن يروي عنه. ولم أجد من أخرج الأثر. (3) في عداد المفقود. وأخرجه أيضًا أبو محمد الحسن الخلال (ت 439) في «فضائل سورة الإخلاص» (49) من طريق أبي بكر البرديجي: ثنا أبو زرعة وأبو حاتم، قالا: ثنا عيسى بن أبي فاطمة ــ رازي ثقة ــ قال: سمعت مالك بن أنس. ونقله القرطبي في «تفسيره» (20/ 249) عن بعض كتب الخطيب البغدادي، وعزاه في «الدر المنثور» (15/ 757) إلى الطبراني. (4) كذا في الأصل. وفي مصادر التخريج: «عيسى بن أبي فاطمة»، وهو الصواب، يروي عن مالك، وروى عنه أبو زرعة. انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 279).

(2/339)


سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نُقِس بالناقوس اشتدَّ غضب الرحمن عزَّ وجلَّ فتنزل الملائكة فتأخذ بأقطار الأرض، فلا تزال تقول: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} حتى يسكن غضب الرب عز وجل. وقال إسحاق بن منصور (1): قلت لأبي عبد الله: للنصارى أن يظهروا الصليب أو يضربوا بالناقوس؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شيئًا لم يكن في صلحهم. وقال في رواية إبراهيم بن هانئ (2): ولا يُترَكوا أن يجتمعوا في كل أحدٍ، ولا يظهروا خمرًا ولا ناقوسًا. وقال في رواية يعقوب بن بختان: ولا يتركوا أن يجتمعوا في كل أحدٍ، ولا يظهروا لهم (3) خمرًا ولا ناقوسًا في كل مدينة بناها المسلمون. قيل له: يضربون الخيام في الطريق يوم الأحد؟ قال: لا، إلا أن تكون مدينة صولحوا عليها فلهم ما صولحوا عليه. وقال في «النهاية» (4): وإذا أبقيناهم على كنيستهم فالمذهب أنَّا نمنعهم من صوت النواقيس، فإن هذا بمثابة إظهار الخمور والخنازير. وأبعدَ بعضُ الأصحاب في تجويز تمكينهم من صوت النواقيس، فإنَّها من أحكام الكنيسة. قال: وهذا غلطٌ لا يُعتَدُّ به. انتهى. _________ (1) «جامع الخلال» (2/ 424)، وهو في «مسائله» (2/ 548). (2) «الجامع» (2/ 425)، وكذا رواية يعقوب بن بختان الآتية. (3) «لهم» سقط من المطبوع. (4) «نهاية المطلب» للجويني (18/ 51)، وقد سبق النقل بأطول منه.

(2/340)


وأمَّا قولهم في كتاب الشروط: (ولا نضرب بالناقوس إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا)، فهذا وجوده كعدمه، لأن الناقوس يعلَّق في أعلى الكنيسة كالمنارة ويُضرَب به فيُسمَع صوته من بُعدٍ، فإذا اشترط عليهم أن يكون الضرب به خفيًّا في جوف الكنيسة لم يُسمَع له صوتٌ فلا يُعتَدُّ به. فلذلك عطَّلوه بالكليَّة إذ لم يحصل به مقصودهم، وكان هذا الاشتراط داعيًا لهم إلى تركه. وقد أبطل الله سبحانه بالأذان ناقوسَ النصارى وبُوقَ اليهود، فإنَّه دعوةٌ إلى الله سبحانه وتوحيده وعبوديته، ورفع الصوت به إعلاءً لكلمة الإسلام وإظهارًا لدعوة الحق وإخمادًا لدعوة الكفر. فعوَّض عِبادَه المؤمنين بالأذان عن الناقوس والطُّنبور، كما عوَّضهم دعاء الاستخارة عن الاستقسام بالأزلام. وعوَّضهم بالقرآن وسماعِه عن قرآن الشيطان وسماعه، وهو الغناء والمعازف. وعوَّضهم بالمغالبة بالخيل والإبل والبهائم عن الغِلابات الباطلة كالنرد والشطرنج وأنواع القمار. وعوَّضهم بيوم الجمعة عن السبت والأحد، وعوَّضهم الجهاد عن السِّياحة والرَّهبانية. وعوَّضهم بالنكاح عن السِّفاح، وعوَّضهم بأنواع المكاسب الحلال عن الربا. وعوَّضهم بإباحة الطيبات من المطاعم والمشارب عن الخبيث منها. وعوَّضهم بعيد الفطر والنحر عن أعياد المشركين. وعوَّضهم بالمساجد عن الكنائس والبِيَع والمشاهد.

(2/341)


وعوَّضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسَّهَر والخَلوة التي يُعطَّل فيها دينُ الله. وعوَّضهم بما سَنَّه لهم على لسان رسوله عن كلِّ بدعة وضلالة. فصل قولهم: (ولا نُظهِر عليها صليبًا). لمَّا كان الصليب من شعار الكفر الظاهرة كانوا ممنوعين من إظهاره. قال أحمد في رواية حنبل (1): ولا يرفعوا صليبًا، ولا يُظهروا خنزيرًا، ولا يرفعوا نارًا، ولا يُظهروا خمرًا، وعلى الإمام منعهم من ذلك. وقال عبد الرزاق (2): حدثنا معمرٌ، عن [عمرو بن] ميمون بن مهران قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يمنع النصارى في الشام أن يضربوا ناقوسًا، ولا يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم، فإن قُدِر على مَن فعل من ذلك شيئًا بعد التقدُّم (3) إليه فإنَّ سَلَبه (4) لمَن وجده. وإظهار الصليب بمنزلة إظهار الأصنام، فإنَّه معبود النصارى كما أنَّ الأصنام معبود أربابها، ولهذا (5) يُسمَّون عُبَّادَ الصَّليب. _________ (1) «الجامع» (2/ 424)، وقد سبق. (2) في «المصنف» (10004، 19235)، ومن طريقه أخرجه الخلال (2/ 426). وما بين الحاصرتين مستدرك منهما. (3) في الأصل: «المقدم»، تصحيف. ومعنى: «بعد التقدم إليه»، أي: بعد نهيه وتقديم الإنذار إليه. (4) تصحَّف في الأصل إلى: «فأرسلته»! (5) في الأصل: «وهذا».

(2/342)


ولا يمكَّنون من التصليب على أبواب كنائسهم وظواهر حيطانها، ولا يُتعرَّض لهم إذا نَقَشوا ذلك داخلها. فصل قولهم: (ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا ممَّا يحضره المسلمون). لمَّا كان ذلك من شعار الكفر مُنِعوا من إظهاره. قال أبو الشيخ: حدثنا عبد الله بن عبد الملك الطويل، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، عن ضمرة قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن امنعوا النصارى من رفع أصواتهم في كنائسهم، فإنَّها أبغض الأصوات إلى الله عزَّ وجلَّ، وأولاها أن تخفض (1). وقال أحمد في رواية أبي طالب (2): ولا يرفعوا أصواتهم في دورهم. وقال الشافعي (3): واشترط عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم ولا يُسمعونهم ضرب ناقوسٍ، فإن فعلوا ذلك عُزِّروا. انتهى. فرفع الأصوات التي مُنِعوا منها ما كان راجعًا إلى دينهم وإظهار شعاره كأصواتهم في بحوثهم (4) ومذاكرتهم ونحو ذلك. _________ (1) لم أجده. وفي إسناده من لم أعرفه. (2) «الجامع» (2/ 423). (3) كما في «مختصر المزني» (ص 385). وبنحوه في «الأم» (5/ 493). (4) كذا في الأصل، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «باعوثهم».

(2/343)


فصل قولهم: (ولا نخرج صليبًا ولا كتابًا في أسواق المسلمين). فيه زيادةٌ على عدم إظهارهم ذلك على كنائسهم وفي صلواتهم، فهم ممنوعون من إظهاره في أسواق المسلمين وإن لم يرفعوا أصواتهم به. ولا يُمنَعون من إخراجه في كنائسهم وفي منازلهم، بل الممنوع منه فيها رفع أصواتهم ووضع الصليب على أبواب الكنائس. فصل قولهم: (وأن لا نخرج باعوثًا ولا شعانينًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهر النِّيران معهم في أسواق المسلمين). فأمَّا الباعوث فقد فسَّره الإمام أحمد في رواية ابنه صالح (1) فقال: يخرجون كما نخرج في الفطر والأضحى. ومن هنا قال أحمد في رواية ابن هانئ (2): ولا يتركوا أن يجتمعوا في كلِّ أَحَدٍ، ولا يظهروا لهم خمرًا، ولا ناقوسًا. فإنَّ اجتماعهم المذكور هو غاية الباعوث ونهايته، فإنَّهم ينبعثون إليه من كلِّ ناحية. وليس مراد أبي عبد الله منعَ اجتماعهم في الكنيسة إذا تسلَّلوا إليها لِوَاذًا، _________ (1) كذا، وهو وهم، فإن الرواية في «الجامع» (2/ 424) هي عن «عمر بن صالح»، له ترجمة في «طبقات الحنابلة» (2/ 107). (2) «الجامع» (2/ 425).

(2/344)


وإنَّما مراده إظهار اجتماعهم كما يُظهِر المسلمون ذلك يومَ عيدهم. ولهذا قال في رواية يعقوب بن بختان (1) وقد سُئِل: هل يضربون الخيام في الطريق يوم الأحد؟ قال: «لا، إلا أن تكون مدينة صولحوا عليها فلهم ما صولحوا عليه». فإنَّ ضرب الخيام على الطريق يوم عيدهم هو من إخراج الباعوث وإظهار شعائر الكفر، فإذا اختفَوا في كنائسهم باجتماعهم لم يُعرَض لهم فيها ما لم يرفعوا أصواتهم بقراءتهم وصلواتهم. وأمَّا الشعانين فهي أعيادٌ لهم أيضًا، والفرق بينها وبين الباعوث أنَّه اليوم والوقت الذي ينبعثون فيه على الاجتماع والاحتشاد (2). وقولهم: (ولا نرفع أصواتنا مع موتانا) لما فيه من إظهار شعار الكفر، فهذا يعُمُّ رفعَ أصواتهم بقراءتهم وبالنوح وغيره. وكذلك (إظهار النيران معهم) إمَّا بالشَّمع أو السُّرُج أو المشاعل ونحوها. فأمَّا إذا أوقدوا النار في منازلهم وكنائسهم ولم يُظهروها لم يُتعرَّض لهم فيها. وقد سمَّى الله سبحانه أعيادهم زُورًا، والزور لا يجوز إظهاره، فقال تعالى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ} [الفرقان: 72]. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في «تفسيره» (3): حدثنا أبو سعيد الأشج، _________ (1) «الجامع» (2/ 425)، وقد سبق قريبًا. (2) انظر ما سبق من التعليق (ص 273). (3) (8/ 2737)، وعزاه في «الدر المنثور» (11/ 225) إلى عبد بن حميد وابن المنذر أيضًا.

(2/345)


حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد الخرَّاز (1)، حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ} [الفرقان: 72] عيد المشركين. وقال سعيد بن جبيرٍ: الشعانين (2). وكذلك قال ابن عباس: الزور عيد المشركين (3). فصل وكما أنَّهم لا يجوز لهم إظهاره فلا يجوز للمسلمين مُمَالأتُهم عليه، ولا مُساعَدتهم، ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله. وقد صرَّح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم، فقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن (4) بن منصور الطبري الفقيه الشافعي: ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم، لأنَّهم على منكرٍ وزُورٍ، وإذا خالط أهل المعروف أهلَ المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المُؤثِرين له، فيُخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعُمُّ الجميع، نعوذ بالله من سخطه. _________ (1) في مطبوعة «التفسير»: «عبد الرحمن بن سعيد»، ليس فيه «أحمد». و «الخرَّاز» كذا في المطبوعة، ويحتمل أن يكون «الخزَّاز». ولم أتبيَّن من هو. (2) لم أجده، وأسند ابن أبي حاتم في «التفسير» (8/ 2737) والخلال في «الجامع» (1/ 123) مثله عن ابن سيرين. (3) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/ 458)، وإسناده غريب. وروي ذلك عن مجاهد أيضًا كما في «الكشف والبيان» للثعلبي (19/ 503). (4) في الأصل: «الحسين»، خطأ. وهو اللالكائي (ت 418)، صاحب «شرح السنة». والمؤلف ناقل عن كتاب له مفقودٍ في شرح الشروط العمرية.

(2/346)


ثم ساق من طريق ابن أبي حاتم (1): حدثنا الأشجُّ، ثنا عبد الله بن أبي بكرٍ (2)، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مُرَّة: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ} [الفرقان: 72] قال: لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم. ونحوه عن الضحاك. ثم ذكر حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا على هؤلاء الملعونين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابهم». والحديث في «الصحيح» (3). وذكر البيهقي (4) بإسناد صحيح في «باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم، والتشبُّه بهم يوم نوروزهم ومهرجانهم» عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد، عن عطاء بن دينارٍ قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لا _________ (1) وهو في «تفسيره» (8/ 2737). (2) كذا في الأصل، وهو تصحيف في الكنية ووهم في صاحبها، صوابه: «عبد الله بن سعيد أبو بُكير»، فأبو بكير كنية عبد الله، لا أبيه سعيد. والتصحيف ــ دون الوهم ــ في مطبوعة «التفسير» أيضًا. (3) للبخاري (433) ومسلم (2980/ 38) من طريق عبد الله بن دينار به، ولفظه: «المعذبين» بدل «الملعونين». (4) «السنن الكبير» (9/ 234)، وقد أخرجه أيضًا عبد الرزاق (1609) وابن أبي شيبة (26806) والبيهقي في «الشعب» (8941)، كلهم من طريق عطاء بن دينار به. وفي إسناده انقطاع ظاهر، عطاء بن دينار ــ وهو الهذلي المصري ــ كل روايته عن التابعين، لم يثبت له سماع عن أحد من الصحابة، وإن كان أدرك بعضهم من حيث المعاصرة.

(2/347)


تَعلَّموا رَطانَةَ الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإنَّ السُّخْطة تنزل عليهم. وبالإسناد (1) عن الثوري، عن عوف، عن الوليد ــ أو أبي الوليد ــ عن عبد الله بن عمرو قال: من مرَّ (2) ببلاد الأعاجم فصنَعَ نيروزهم ومهرجانهم وتشبَّه بهم، حتى يموت وهو كذلك= حُشِر معهم يوم القيامة. وقال البخاري في غير «الصحيح» (3): قال لي ابن أبي مريم: حدثنا نافع بن يزيد، سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو (4) بن الحارث، سمع (5) سعيد بن سلمة، سمع أباه، سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. ذكره البيهقي. وذكر (6) بإسناد صحيح عن أبي أسامة: حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، _________ (1) أي: وبنفس الإسناد إلى الثوري، الذي روى به الأثر السابق. والراوي فيه عن الثوري: محمد بن يوسف الفريابي، وليس بأضبط أصحابه، ولعل الشكَّ في شيخ عوف الأعرابي منه، ثم قد خولف فيه، كما سيأتي. (2) كذا في الأصل، ولفظ «السنن»: «من بنى». (3) في «التاريخ الكبير» (4/ 14)، ومن طريقه البيهقي في «السنن» (9/ 234) ــ والمؤلف صادر عنه ــ و «شعب الإيمان» (8940). وسعيد بن سلمة المصري مجهول، كما قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 29). (4) في الأصل: «سلمان ... وعمر»، والتصحيح من مصدر النقل. (5) كذا في الأصل وفاقًا لمصادر التخريج، والسياق يقتضي: «سمعا». (6) البيهقي في «السنن الكبير» (9/ 234). وأخرجه أيضًا الدولابي في «الكنى» (1843) من طريق أبي أسامة به، وأخرجه الحكيم الترمذي في «النوادر» (156) من طريق النضر بن شُميل، عن عوف الأعرابي به. وإسناده لا بأس به، أبو المغيرة هو القوَّاس، متكلم فيه وقد وُثِّق.

(2/348)


عن عبد الله بن عمرو قال: مَن مرَّ (1) ببلاد الأعاجم فصنَعَ نيروزهم ومهرجانهم وتشبَّه بهم، حتى يموت وهو كذلك= حُشِر معهم يوم القيامة. وقال أبو الحسن الآمدي (2): لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نصَّ عليه أحمد في رواية مُهَنَّا، واحتجَّ (3) بقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ} [الفرقان: 72] قال: الشعانين وأعيادهم. وقال الخلال في «الجامع» (4): «بابٌ في كراهية خروج المسلمين في أعياد المشركين». وذكر عن مُهَنَّا قال: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل دير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون؛ يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الضحية والبقر والبر والدقيق وغير ذلك، يكونون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بِيَعَهم. قال: إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعهم وإنما _________ (1) كذا في الأصل، ولفظ «السنن»: «من بنى». (2) في كتابه: «عمدة الحاضر وكفاية المسافر»، كما في «الاقتضاء» لشيخ الإسلام (1/ 516). وهو في أربعة مجلدات، ويشتمل على فوائد كثيرة نفيسة، كما قال ابن رجب في «ذيل الطبقات» (1/ 14). (3) ظاهر كلام أبي الحسن الآمدي أن أحمد احتج بالآية وفسَّرها في رواية مهنَّا. ورواية مهنَّا أسندها الخلال ويأتي لفظها بتمامها، وليس فيها احتجاج أحمد بالآية، وإنما أسند الخلال بعد رواية مهنَّا أن ابن سيرين فسَّر الآية بذلك. (4) (1/ 121).

(2/349)


يشهدون السوق، فلا بأس. وقال عبد الملك بن حبيب: سُئِل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم، فكَرِه ذلك مَخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه. قال: وكَرِه ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأةً له، ورآه من تعظيم عيده وعونًا له على كفره، ألا ترى أنَّه لا يَحِلُّ للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئًا من مصلحة عيدهم، لا لحمًا ولا أدمًا ولا ثوبًا، ولا يعارون دابَّةً، ولا يُعانون على شيء من عيدهم، لأنَّ ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه. هذا لفظه في «الواضحة» (1). وفي كتب أصحاب أبي حنيفة: مَن أهدى لهم يوم عيدهم بطيخةً بقصد تعظيم العيد فقد كفر (2). فصل قولهم: (ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور). يجوز أن يكون بالراء المهملة من المجاورة، أي: بيع الخمور _________ (1) ونقله ابن أبي زيد في «النوادر والزيادات» (4/ 368) مختصرًا. (2) قال أبو حفص الكبير، شيخ الحنفية بما وراء النهر (ت 217): لو أن رجلًا عبدَ الله خمسين سنة، ثم أهدى لمشرك يوم النيروز بيضةً يريد تعظيم اليوم فقد كفر وحبط عمله. «تبيين الحقائق» (6/ 228)

(2/350)


بحضرتهم، ولا تكون الخنازير مجاورةً لهم. ويجوز أن يكون بالزاي المعجمة، أي: لا نتعدَّى بها عليهم جهرةً، بل إذا أتينا بها إلى بيوتنا أتينا بها خفيةً بحيث لا يَطَّلعون على ذلك. والمعنيان صحيحان، وذلك يتضمَّن إخفاء الخمر والخنزير فيما بينهم، وأن لا يُظهروا بهما بين المسلمين كما لا يظهرون بسائر المنكرات. فصل وكذلك قولهم: (ولا نجاوز المسلمين بموتانا). يجوز أن يكون بالزاي والراء، من المجاوزة والمجاورة، فإن كان بالمهملة فالمعنى اشتراط دفنهم في ناحية من الأرض، لا تجاور قبورُهم بيوتَ المسلمين ولا قبورَهم، بل تنفرد عنهم، لأنَّها محل العذاب والغضب، فلا تكون هي ومحل الرحمة في موضع واحد لِما يلحق المسلمين بذلك من الضرر. وإن كان بالمعجمة من المجاوزة، فعادة (1) النصارى في أمواتهم يُوقِدون الشموع ويَزُفُّون بها الميت، ويرفعون أصواتهم بقراءة كتبهم، وقد منع جماعةٌ من الصحابة أن تتبع جنائزهم بنارٍ خوفًا من التشبُّه بهم. وعلى رواية الزاي المعجمة فليس لهم أن يحملوا أمواتهم في أسواق المسلمين ولا في الطرق الواسعة التي يمُرُّ بها المسلمون. وإنَّما يقصدون المواضع الخالية التي لا يراهم فيها أحدٌ من المسلمين. _________ (1) في الأصل: «وعادة»، ولعل المثبت أشبه.

(2/351)


قال أبو القاسم الطبري: إن كانت الرواية بالزاي فهو صريحٌ في المنع من جواز جنائزهم على المسلمين. قال: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث يُشبِه معنى هذا فيما أخبرنا محمد بن عبد الرحمن: حدثنا أبو بكر بن أبي داود (1)، ثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فُدَيك، حدثنا ابن أبي ذِئْب، عن نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيّب أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رُبَّ جنازةٍ ملعونةٌ، ملعونٌ مَن شهدها» (2). قال: فهذه جنائز أهل الذمة (3). قال: وإن كان بالراء المهملة فهو أنَّهم يُمنَعون من الدفن في مقابر المسلمين. قال: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريءٌ مِّن كلِّ مسلم مع مشرك»، قيل: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لا تراءى ناراهما». قلت: الحديث رواه أبو داود في «السنن» (4). _________ (1) في الأصل: «بن أبي بكر داود»، خطأ. وهو أبو بكر عبد الله بن الإمام أبي داود صاحبِ السنن، روى عن أحمد بن صالح المصري، وروى عنه محمد بن عبد الرحمن بن العبَّاس «المخلِّص»: شيخُ أبي القاسم الطبري اللالكائي. (2) رواته ثقات، وهو مرسل. ولم أجده عند غيره. (3) يدلُّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير». رواه أبو داود (4176) وأبو يعلى (1635) وغيرهما بإسنادٍ لا بأس به. (4) برقم (2645)، وأخرجه أيضًا الترمذي (1604) والبيهقي (8/ 131) وغيرهما، وقد سبق تخريجه مفصلًا (1/ 301 - 302).

(2/352)


فصل قولهم: (ولا ببيع الخمور). أي: لا نبيعه ظاهرًا بحيث يراه المسلمون، إذ (1) بيعُه ظاهرًا من المنكر العظيم. وكذلك نقلُه من موضع إلى موضع في دار الإسلام في البلد وخارج البلد. قال أبو القاسم الطبري: وقد روي عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - في هذا تغليظٌ في حَرْق (2) متاعهم وكَسر أوانيهم. ثم ذكر من طريق أبي عبيد (3)، حدثنا هُشَيم ومروان بن معاوية، (4) عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشَّيبَاني قال: بلغ عمر أنَّ رجلًا من أهل السَّواد قد أثرى (5) في تجارة الخمر، فكتب: أن اكْسِرُوا كلَّ شيء قدرتم عليه، وشرِّدوا كلَّ ماشية له. قال أبو عبيد (6): وحدثنا مروان بن معاوية، حدثنا عمرو بن (7) _________ (1) في الأصل: «إن»، ولعل المثبت أشبه. (2) في الأصل والمطبوع: «خرق» بالخاء المعجمة، تصحيف. (3) وهو في «الأموال» له (289)، وإسناده صحيح. وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور (825 - التفسير) عن هشيم به، وابن أبي شيبة (22042) وابن زنجويه في «الأموال» (408) من طريقين آخرين عن إسماعيل بن أبي خالد به. (4) بعده في الأصل: «حدثني»، ولا وجه له. (5) في الأصل: «اشترى»، تصحيف. (6) «الأموال» (291) وعنه ابن زنجويه (411). (7) في الأصل: «عمرون»، ولعله تصحيف عن المثبت. وفي مطبوعة «الأموال»: «عُمَر المكتب». ولم أتبيَّن الصواب.

(2/353)


المُكَتِّب، حدثنا حَذْلَمٌ، عن ربيعة بن زكَّارٍ (1) قال: نظر عليٌّ إلى زرارة فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قريةٌ تدعى زرارة، يُلْحَم (2) فيها ويباع الخمر. فقال: أين الطريق إليها؟ قالوا: باب (3) الجسر. قال قائل: يا أمير المؤمنين، خُذْ لك سفينةً تجوز فيها. قال: تلك سخرةٌ ولا حاجة لنا في السخرة، وانطلقوا بنا إلى باب الجسر. فقام يمشي حتى أتاها، فقال: عليَّ بالنِّيران، أَضرِموا فيها، فإنَّ الخبيث يأكل بعضُه بعضًا. فأُضرِمَت في عرشها. قال: وقد قضى ابن عباس: أيما مصرٍ مصَّره المسلمون فلا يباع فيه خمرٌ (4). قال أبو عبيد (5): معنى هذه الأحاديث في أهل الذمة، لأنَّهم كانوا أهل السَّواد حينئذ. _________ (1) في الأصل: «بكَّار»، تصحيف. (2) في الأصل: «يلجم» بالجيم، ولا معنى له هنا. واستظهر صبحي الصالح أن صوابه: «يُلحَّم»، وليس بشيء، وقد نصَّ أبو عبيد عقبه على أن «يلحم» مخففة، وذكر أن تقديره: «يلحم مَن فيها». وضبطه مصطفى السقا في تحقيقه لـ «معجم ما استَعجم» (1/ 696) كالمثبت وعلَّق عليه: «لعله بمعنى: يتجمع فيها أهل الغي والفساد». قلتُ: ولعل المعنى: يُؤكَل أو يُطعَم فيها اللحم، ولا يخفى ما بين «الأحمرين» من المناسبة، كما في بعض الآثار: «لا يقطع هذا اللحم في بطوننا إلا النبيذ الشديد». (3) في الأصل: «فات»، تصحيف. (4) جزء من أثر سبق تخريجه. (5) «الأموال» (1/ 184).

(2/354)


وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن لا يحمل الخمر من رُسْتاقٍ إلى رُسْتاق (1). فصل قولهم: (ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا). هذا من أولى الأشياء أن ينتقض العهد به، فإنَّه حِراب الله ورسوله باللسان، وقد يكون أعظم من الحراب باليد، كما أنَّ الدعوة إلى الله ورسوله جهادٌ بالقلب وباللسان، وقد يكون أفضل من الجهاد باليد (2). ولما كانت الدعوة إلى الباطل مستلزمةً ــ ولا بد ــ للطعن في الحق، كان دعاؤهم إلى دينهم وترغيبُهم فيه طعنًا في دين الإسلام، وقد قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ} [التوبة: 12]. ولا ريبَ أنَّ الطعن في الدين أعظم من الطعن بالرمح والسيف، فأولى ما انتقض به العهدُ: الطعنُ في الدِّين ولو لم يكن مشروطًا عليهم، فالشرط ما زاده إلا تأكيدًا وقوةً. _________ (1) أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (303) ــ وعنه ابن زنجويه (426) ــ والخلال في «الجامع» (2/ 427). قوله: «من رستاق إلى رستاق» أي: من إقليم إلى إقليم، وفي رواية الخلال: «من قرية إلى قرية». (2) وفي هذا المعنى يقول المؤلف في «جلاء الأفهام» (ص 492): «وتبليغ سنَّته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، أما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء».

(2/355)


فصل قولهم: (ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جرت عليه أحكام (1) المسلمين) يتضمن أنَّهم لا يتملكون رقيقًا من سبي المسلمين. وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء، فمذهب الإمام أحمد أنَّه إذا استرق الإمام السبي لم يجُزْ بيعهم من كافر، ذميًّا كان أو حربيًّا، صِغارًا كانوا أو كِبارًا (2). وقال أبو حنيفة: يجوز بَيعُهم من أهل الذِّمة دون أهل الحرب (3). وقال الشافعي (4): يجوز بَيْعُهم من الفريقين. فأمَّا مذهب مالك فقال في «الجواهر» (5): إن اشترى الكافر بالغًا على دينه لم يمنع من شرائه إذا كان يسكن به في بلد المسلمين، ولا يباع لمَن يخرج به عن بلاد الإسلام، لِما يُخشَى من إطلاعه أهلَ الحرب على عَورة المسلمين. وإن كان العبد صغيرًا على دينه ففي (6) الكتاب وغيره: مَنْعُه من شرائه، _________ (1) كذا في الأصل، وقد سبق (ص 273) وسيأتي قريبًا بلفظ: «سهام المسلمين»، وهو أشبه. (2) سيأتي نصوص الإمام أحمد في ذلك قريبًا. (3) انظر: «السير» لمحمد بن الحسن (ص 133) و «الأصل» له (7/ 453). (4) في «الأم» (5/ 703). (5) (2/ 331). وما بين الحاصرتين مستدرك منه. (6) في الأصل والمطبوع: «يعي»، تصحيف. والمراد بالكتاب في كلام ابن شاس المالكي: «المدونة الكبرى» (10/ 271).

(2/356)


لِما يُرجى من إسلامه [و] سرعة إجابته إذا دعي إلى الإسلام لكونه لم يرسخ في نفسه الكفر بخلاف الكبير. فإنْ بِيع (1) منه فُسِخ البيع، ويتخرَّج (2) فيه: أن يباع عليه من مسلم. وقال محمد (3): لا يُمنَع من شرائه، لأنَّا لسنا على يقين من إسلامه إذا اشتراه مسلم. وإن كان العبد بالغًا على [غير] دين مشتريه، فلها صورتان: إحداهما: يهودي يباع من نصراني وعكسه، فقال ابن وهب وسحنون بالمنع، لِما بينهما من العداوة والبغضاء، فيكون إضرارًا بالمملوك واتخاذًا (4) للسبيل إلى أذيَّته (5). وقال محمد: لا يمنع، لأن المنع ليس لحق الله بل لحق (6) العبد، فلو رضي بذلك لجاز (7)، ويتدارك بعدُ (8) بالمنع من أذيَّته دون فسخ البيع. الثانية: أن يكون العبد من الصقالبة أو المجوس أو السودان، فهل له _________ (1) في الأصل: «منع»، تصحيف (2) في الأصل: «تخرَّج»، والمثبت من «الجواهر». (3) الظاهر أن المراد به: ابن المَوَّاز (ت 269)، فقيه المالكية في الديار المصرية. (4) كذا في الأصل. وفي مطبوعة «الجواهر»: «وإيجادًا». (5) في الأصل: «دينه»، تصحيف. وسيأتي على الصواب قريبًا. (6) في الأصل: «بحق ... بحق»، تصحيف. (7) في الأصل: «تجار»، تحريف. (8) في «الجواهر»: «ويمكن تدارك حقِّه».

(2/357)


شراؤه؟ حكى المازري فيه ثلاثة أقوال في المذهب: الجواز مطلقًا، وهو ظاهر الكتاب، وأطلق الجواز في الصغير منهم والكبير (1). والثاني: المنع مطلقًا في الصغير والكبير، قاله ابن عبد الحكم. والثالث: المنع في الصغير والجواز في الكبير، وهو مذهب العُتْبية (2). واحتجَّ المانعون (3) مطلقًا بأنَّ ذلك في الشروط المشروطة عليهم، وهو قولهم: (ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جَرَت عليه سهام [المسلمين] (4) قالوا: وهذا فعلٌ ظاهرٌ منتشرٌ عن عمر أقرَّه جميع الصحابة. ولأنَّه رقيقٌ جرى عليه ملك المسلمين، فلا يجوز بيعه من كافر، كالحربي. قال أبو الحسين: ولا يلزم على ذلك إذا اشترى مسلم عبدًا كافرًا أو ذميًّا (5)، _________ (1) أي: «المدونة» (10/ 271)، وقيَّد فيه الجواز بالكبير دون الصغير إذا كان الرقيق من أهل الكتاب. (2) في المطبوع: «العينية»، خطأ. وهنا انتهى النقل من «الجواهر». (3) كأبي المواهب العُكبري الحنبلي في «رؤوس المسائل الخلافية» (3/ 1632)، وكأن المؤلف صادر عنه بواسطة القاضي أبي الحسين بن أبي يعلى، أو غيره. (4) ما بين الحاصريتن سقط من الأصل. (5) كذا، وفيه قلق إذ كيف يكون الذميُّ قسيمًا للكافر؟ وفي مطبوعة «رؤوس المسائل»: «أو ذمي»، والذي يظهر ــ والله أعلم ــ أن كلَّ ذلك تصحيف أو تصرُّف من النسَّاخ، والصواب: «ولا يلزم على ذلك [أي: على منع أهل الذمة من شراء سبي المسلمين الذي جرت فيه سهامهم] إذا اشترى مسلم عبدًا كافرًا من ذميٍّ، فإنَّه يجوز بيعه من ذمِّيٍّ، على ظاهر كلام إمامنا أحمد رحمه الله تعالى». وسيأتي قول الإمام أحمد عن أهل الذمة: «لا يبتاعون من سَبْينا. قيل له: فيكون عبدًا لنصرانيٍّ فيُشترى منه فيُباع للنصراني؟ قال: نعم».

(2/358)


فإنَّه لا (1) يجوز بيعه من ذمِّيٍّ على ظاهر كلام إمامنا أحمد رحمه الله تعالى. ولأنَّه إذا كان في أيدي المسلمين رُجِي إسلامه، وإذا بِيع (2) منهم منعوه من الإسلام (3) إن رغب فيه، ولهذا منعنا الكافر من حضانة اللقيط. فصل فإن قيل: فكيف تجمعون بين المنع من بيعهم لكافر وبين جواز المفاداة بهم من الكفار بالمال والمسلم؟ قيل: أمَّا المفاداة بهم بمسلم فيجوز، لأنَّ مصلحة تخليص المسلم من أَسْرِ الكفار أرجح من بقاء العبد الكافر بين المسلمين ينتظرون إسلامه؛ بخلاف بيعه لهم فإنَّه لا مصلحة فيه للعبد، وهو يفوِّت عليه ما يرجى له بإقامته بين المسلمين من أعظم المصالح. وأمَّا مُفادَاته بمال، فهذا فيه روايتان عن الإمام أحمد، فإن منعنا ذلك فلأنَّ مفاداته بمالٍ بَيعٌ منه لهم (4). _________ (1) كذا في الأصل وفي «رؤوس المسائل»، وهي مقحمة على ما استظهرناه في التعليق السابق. (2) في الأصل: «منع»، تصحيف. (3) في الأصل دون لام التعريف، والتصحيح من «رؤوس المسائل». (4) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «بيع له منهم»، أي: بيع للعبد من الكفار، إلا إذا كان الضمير في «منه» للإمام ــ ولم يسبق له ذكر ــ أي: أن المفاداة بمثابة بيعٍ من الإمام للكفار.

(2/359)


قال (1): وإن جوزناها فالفرق بينها وبين بيع المسلم له من الكافر أنَّ مصلحة الفداء بالمال قد تكون عامةً للمسلمين لحاجتهم إلى المال يتقوَّون به على عدوِّهم، فتكون مصلحة المفاداة أرجح من بقاء العبد بين أظهر المسلمين، بخلاف بيع المسلم المالك له من كافر، فإنَّه لا مصلحة للمسلمين في ذلك. ذكر نصوص أحمد في هذا الباب (2) قال يعقوب بن بختان: سألت أبا عبد الله: أيباع السبي من أهل الذمة؟ قال: لا. يروى فيه عن الحسن (3). وقال بكر بن محمد: سئل أبو عبد الله عن الرجل يبيع العبد النصراني من النصراني؟ قال: لا يبتاعون من سَبْينا. قيل له: فيكون عبدًا لنصرانيٍّ (4) فيشترى منه فيباع للنصراني؟ قال: نعم، وكره أن يباع المملوك النصراني إذا كان من سبي المسلمين للنصارى. وقال المَرُّوذي: سئل أبو عبد الله: هل يشتري أهل الذمة من سبينا؟ قال: لا، إذا صاروا إليهم يئسوا من الإسلام، وإذا كانوا في أيدي المسلمين فهو _________ (1) لعل القائل أبو الحسين بن أبي يعلى. (2) من «جامع الخلال» (2/ 325 - 329)، باختصار وتصرف. (3) أسنده أحمد في رواية أبي طالب فقال: حدثنا معاذ، قال حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه كان يكره أن يبيع الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين من أهل الذمة، وإن كان الرقيق لم يسلموا بعد. «الجامع» (2/ 327). (4) يحتمل قراءته: «عند النصراني» ــ كما في مطبوعة «الجامع» ــ و «عبد النصراني».

(2/360)


أقرب إلى الإسلام. قال: وسألته تباع الجارية النصرانية من النصراني؟ قال: لا، إذا باعها فقد أيسنا من إسلامها. وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: ليس لأهل الذمة أن يشتروا شيئًا من سبينا، يمنعون من ذلك لأنَّهم إذا صاروا إليهم نشؤوا (1) على كفرهم، ويقال: إنَّ عمر كان في عهده لأهل الشام أن يمنعوا من شراء سبايانا. وقال عبد الله: سألت (2) أبي عن رجل كانت عنده أَمَةٌ نصرانيَّةٌ ولها ولدٌ، أيبيعها مع ولدها من نصراني؟ قال: لا. قلت فإن باعها وحدَها دون ولدها للنصراني؟ قال: لا يبيعها للنصراني، ليس لهم أن يشتروا ممَّا سبى المسلمون شيئًا. قلت لأبي: فمن أين يشترون؟ قال: بعضهم من بعض. ويروى عن عمر كتب ينهى أن تباع النصرانية من النصراني (3). ويروى عن الحسن أنه كره ذلك. وقال في رواية حنبل: ليس لنصراني ولا أحدٍ من أهل الأديان أن يشتري من سَبْيِنا شيئًا، ولا يُباع منهم وإن كان صغيرًا، لعلَّه يسلم، وهذا يُدخله في دينه. قلت: فإن كان كبيرًا وأبى الإسلام؟ قال: لا يُبَاع إلا من مسلم لعلَّه (4) يُسلِم. وأمَّا الصبي فلا يتركوه أن يُدخلوه في دينهم، ولا يُباع شيء من سبينا منهم، نحن أحق به، هم أقرب إلى الإسلام. _________ (1) في مطبوعة «الجامع»: «ثبتوا». (2) في الأصل: «سمعت»، تصحيف. (3) قال أحمد: «يروى عن إسماعيل بن عيَّاش بإسناد له أن عمر ... »، فاختصره المؤلف. (4) في الأصل: «إلا له»، تصحيف.

(2/361)


وكذلك قال في رواية أبي طالب. وقال في رواية ابنه صالح: لا يباع الرقيق من يهودي ولا نصراني ولا مجوسي من كان منهم، وذاك لأنَّه إذا باعه أقام على الشرك، وكتب فيه عمر ينهى عنه أمراء الأمصار. وكذلك قال في رواية إسحاق بن إبراهيم وأبي الحارث والميموني. قال الميموني: قلت: فإن باع رجلًا منهم مملوكَه يرُدُّه؟ قال: نعم يرُدُّه. فقال له رجلٌ: من أين يكون رقيقهم؟ قال: ممَّا في أيديهم ممَّا صولحوا عليه فتناسلوا، فأمَّا أن يشتروا منَّا فلا. وكذلك قال في رواية ابن منصور: لا يباعون من أهل الذمة ولا من أهل الحرب صِغارًا كانوا أو كِبارًا. فصل قولهم: (وأن لا نمنع أحدًا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام). فهذا أيضًا يقتضي انتقاض عهدهم به، فإنَّه مشروطٌ عليهم. وهو أيضًا محاربةٌ لله ورسوله بالمنع من الدخول في دينه، فالأول دعاءٌ إلى الدخول في الكفر وترغيبٌ فيه، وهذا منعٌ لمَن أراد الانتقال منه والعدول عنه. * * *

(2/362)


فصل (1) وقولهم: (وأن نَلْزم زِيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبَّه بالمسلمين في لبس قَلَنْسُوة ولا عمامة ولا فَرْق شعرٍ ولا في مراكبهم). هذا أصل الغيار، وهو سُنَّةٌ سَنَّها مَن أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - باتَّباع سُنَّته، وجرى عليها الأئمةُ بعده في كلِّ عصرٍ ومِصرٍ، وقد تقدَّمت بها سُنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو القاسم الطبري: سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّا يدلُّ على وجوب استعمال الغِيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته صَغارًا وذُلًّا وشُهرةً وعَلَمًا عليهم، ليُعرَفوا من المسلمين في زيِّهم ولباسهم ولا يتشبَّهوا بهم. وكتب عمر إلى الأمصار أن تُجَزَّ نواصيهم، وأن لا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا. وعن عمر بن عبد العزيز مثله (2). قال: وهذا مذهب التابعين وأصحاب المقالات من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين. ثم ساق من طريق الفريابي (3): حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن حسَّان بن عطية، عن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: _________ (1) هذا الفصل وما بعده من الفصول إلى (ص 416) تندرج تحت «الفصل الرابع: فيما يتعلَّق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس وغيره» حسب تقسيم المؤلف المذكور (ص 278). (2) سيأتي ذكر فِعل العُمَرين بإسناده، وثَمَّ تخريجه. (3) في الأصل والمطبوع: «العرياني»، تصحيف قد سبق مثلُه. ومن طريق الفريابي أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» (1137) ــ ثم من طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (1154) ــ وتمَّام في «فوائده» (770).

(2/363)


قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثت بالسَّيف بين يدَيِ الساعة حتى يُعبَد الله لا يشرك به، (1) وجُعِل الذلُّ والصَّغار على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم». رواه الإمام أحمد في «مسنده» (2). قال أبو القاسم: هذا أحسن حديث روي في الغيار، وأشبه بمعناه، وأوجه في استعماله، لِما ينطق لفظُه بمعناه ومفهومه، بما يقتضي فحواه (3) من قوله: «وجُعِل الذلُّ والصَّغار على مَن خالف أمري»، فأهل الذمة أعظم خلافًا لأمره وأعصاهم لقوله، فهم أهل أن يُذَلُّوا بالتغيير عن زيِّ المسلمين الذين أعزَّهم الله بطاعته وطاعة رسوله من (4) الذين عصوا الله ورسوله، فأذلَّهم وصغَّرهم وحقَّرهم حتى تكون سمة الهوان عليهم، فيُعرَفون بزيهم. ودلالةٌ ظاهرةٌ (5) في وجوب استعمال الغيار على أهل الذمة من قوله _________ (1) بعده في مصادر الحديث: «وجُعل رِزْقي تحت ظِلِّ رُمحي»، فلا أدري أسقط من الناسخ لانتقال النظر، أو هكذا رواه اللالكائي. (2) رقم (5114، 5115) من طريقين آخرين عن عبد الرحمن بن ثابت به. وأخرجه أبو داود مختصرًا (4031)، وعلَّق البخاري بعضه في الجهاد (باب ما قيل في الرماح) بصيعة التمريض. ورجاله ثقات، عدا عبد الرحمن بن ثابت ــ هو ابن ثوبان ــ فإنه مختلف فيه. وقد حسَّنه شيخ الإسلام في «الاقتضاء» (1/ 269) وذكر أن أحمد احتجَّ به، والذهبيُّ في «السير» (15/ 509)، والحافظ في «الفتح» (10/ 222). وله شواهد، ولكنها ما بين ضعيف ومرسل. انظر: «أنيس الساري» (3561). (3) في الأصل: «نحواه»، خطأ. (4) كذا، ولم يتبيَّن متعلَّق الجار والمجور. (5) معطوف على: «هذا أحسن حديث روي في الغيار ... ». وغيَّره في المطبوع إلى: «ودلالته ظاهرة».

(2/364)


- صلى الله عليه وسلم -: «مَن تشبَّه بقوم فهو منهم»، ومعناه إن شاء الله: أنَّ المسلم يتشبَّه بالمسلم في زيِّه فيعرف أنَّه مسلم، والكافر يتشبَّه بزيِّ الكافر فيعلم أنه كافرٌ، فيجب أن يُجبَر الكافر على التشبُّه بقومه ليعرفه المسلمون به. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» (1). وسأله رجلٌ: أي الإسلام خيرٌ؟ قال: «تُطعِم الطعام، وتَقرأ السلامَ على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف» (2). وقد نهى أن يُبدَأ اليهود والنصارى بالسلام (3)، وإذا سلَّم أحدهم علينا أن نقول له: وعليكم (4). وإذا كان هذا من سُنَّة الإسلام فلا بدَّ أن يكون لأهل الذمة زيٌّ يُعرَفون به حتى يُمْكِن استعمالُ السُّنَّة في السلام في حقِّهم، ويَعرِف منهم المسلمُ مَن سلَّم عليه: هل (5) هو مسلم يستحقُّ السلام أو ذمي لا يستحقُّه، وكيف يرد عليهم؟ وقد كتب عمر إلى الأمصار أن تُجَزَّ نواصيهم ــ يعني: أهل الكتاب ــ وأن لا يلبسوا لبسة المسلمين، حتى يُعرَفوا. قلت: ما ذكره من أمر السلام فائدةٌ من فوائد الغيار. وفوائده أكثر من ذلك، فمنها: أنَّه لا يقوم له، ولا يُصدَّر في المجلس، ولا يُقبِّل يدَه، ولا يقوم لدى (6) _________ (1) أخرجه البخاري (6232) ومسلم (2160) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (12) ومسلم (39) من حديث عبد الله بن عمرو. (3) كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (2167). (4) كما في حديث أنس عند البخاري (6258) ومسلم (2163) (5) في الأصل: «فلل» من غير نقط، مُعلمًا عليه بالحمرة، وفي الهامش: «ظ»، أي: فيه نظر. والظاهر أنه مصحَّف عن المثبت. (6) في الأصل: «لا»، تصحيف.

(2/365)


رأسه، ولا يخاطبه بأخي وسيدي ووليي ونحو ذلك، ولا يُدعَى له بما يُدعَى به للمسلم من النصر والعِزِّ ونحو ذلك، ولا يصرف إليه من أوقاف المسلمين ولا مِن زكواتهم، ولا يستشهده تحمُّلًا ولا أداءً، ولا يبيعه عبدًا مسلمًا، ولا يمكِّنه من المُصحَف، وغيرُ ذلك من الأحكام المختصة بالمسلمين؛ فلولا النهي لعامَلَه ببعض ما هو مختصٌّ بالمسلم. فهذا من حيث الإجمال، وأمَّا من حيث التفصيل ففي شروط عمر - رضي الله عنه -: (وأن لا نتشبَّه بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ... )، فيمنعون من لباسها لما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته يلبسونها، ولم يزل لُبسها عادة الأكابر من العلماء والفقهاء والقضاة والأشراف والخطباء على الناس، واستمر الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الصلاحية فرغب الناس عنها. وقد روى العوَّام بن حَوشب، عن إبراهيم التَّيمي، عن ابن عمر: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قَلَنْسُوةٌ بيضاء لاطئةٌ يلبسها (1). وكان لعلي - رضي الله عنه - قلنسوةٌ بيضاء يلبسها (2). _________ (1) أخرجه أبو يعلى كما في «المطالب العالية» (2246) ــ وعنه أبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (312) ــ والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 201) وابن عدي في «الكامل» (6/ 567) والطبراني (13/ 204) والبيهقي في «شعب الإيمان» (312)، كلهم من طريق عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب به. وقال البيهقي: «تفرد به ابن خراش، وهو ضعيف». بل هو منكر الحديث جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب. وله شاهد من حديث عائشة وعبد الله بن بسر - رضي الله عنهما -، ولكن إسناد كليهما واه. انظر: «السلسلة الضعيفة» (2538). (2) أخرج ابن سعد في «الطبقات» (3/ 28) والدولابي في «الكنى» (1328، 1329) أنه رئي على علي - رضي الله عنه - قلنسوة بيضاء مُضرَّبة (أي: مخيطة). وفي إسناده لين.

(2/366)


وذكر سفيان عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنَّه كان لا يمسح على العمامة ولا على القلنسوة (1). وقالت أُمُّ نَهار: كان أنسٌ يمُرُّ بنا في كلِّ جمعة على بِرذَون عليه قلنسوةٌ لاطئةٌ (2). فإنَّما نهى عمر - رضي الله عنه - أهل الذِّمة عن لبسها لأنهَّا زيُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده وغيرِهم من الخلفاء بعده، وللمسلمين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أسوةٌ وقدوةٌ، فالخلفاء يلبسونها اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشبُّهًا به وهُم أولى الناس باتِّباعه واقتفاء أثره. والعلماء يلبسونها إذا انتهوا في علمهم وعِزِّهم (3) وعَظُمت منزلتهم واقتدى الناس بهم، فيتميَّزون (4) بها للشرف على مَن دونهم لِما رفعهم الله بعلمهم على جَهَلة خلقه. والقضاة تلبسها هيبةً ورِفعةً، والخطباء تلبسها على _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (234) وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 124) من طريق سفيان ــ هو الثوري ــ به، دون قوله: «ولا على قلنسوة». وفي «سنن الدارقطني» (376) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا مسح رأسَه رفع القلنسوة ومسح مقدَّمَ رأسه. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في «العيال» (283) وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (119) والحافظ ابن حجر في «الأحاديث العشرة العشارية الاختيارية» (5) وقال: هذا إسناد حسن موقوف. (3) في الأصل: «وغيرهم»، والمثبت من نشرة صبحي الصالح. (4) في الأصل: «فيمهرون» مهملًا مع استشكاله بـ «ظ» في الهامش. ولعله تصحيف عن المثبت.

(2/367)


المنابر لعلوِّ مقامهم؛ فيُمنع أهل الذِّمة من لباس القلنسوة لعدم وجود هذه المعاني فيهم. فصل قولهم: (ولا عمامة). قال أبو القاسم (1): والعمامة يُمنَعون من لبسها والتعمُّم بها؛ إنَّ (2) العمائم هي تِيجان العرب وعِزُّها على سائر الأمم مِن سواها، ولَبِسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده، فهي لباس العرب قديمًا، ولباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، فهي لباس الإسلام. قال جابرٌ - رضي الله عنه -: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح وعليه عمامةٌ سوداء (3). قال: وروى عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن أبي حميد، عن [أبي] المَلِيح، عن أبيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «اعتمُّوا تزدادوا حِلمًا»، قال: «العمائم تيجان العرب» (4). _________ (1) هو الطبري اللالكائي. (2) كذا في الأصل ولا غبار عليه، وقد يكون «إن» تصحيفًا عن «إذ» التعليلية. (3) أخرجه مسلم (1358). (4) أخرجه الترمذي في «العلل الكبير» (546) والطبراني في «الكبير» (1/ 194) والبيهقي في «الشعب» (5849) كلهم من طريق عيسى بن يونس به. ورواية الترمذي والطبراني مقتصرة على الجملة الأولى فقط. وأبو المليح هو ابن الصحابي: أسامة بن عمير الهذلي - رضي الله عنه -، والحديث من مسنده في هذا الطريق. وروي من طرق أخرى عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا (مقتصرة على الجملة الأولى)، كما عند أبي يعلى في «المعجم» (165) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 31) والحاكم (4/ 193) والخطيب في «التاريخ» (13/ 332). وأيًّا كان فالحديث لا يصحُّ؛ عبيد الله بن أبي حميد «ضعيف ذاهب الحديث» كما قال البخاري فيما نقله الترمذي عنه عقب الحديث. وللجملة الأولى طريق آخر عن ابن عباس عند الطبراني في «الكبير» (12/ 221)، ولكنه واهٍ أيضًا. وللجملة الثانية شاهد من حديث عليٍّ عند القُضاعي في «مسند الشهاب» (68)، ولكن إسناده واهٍ بمرَّة، وتمامه: « ... والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه»، وإنما صحَّ ذلك من قول الزهري عند البيهقي في «الشعب» (5852). وانظر: «الضعيفة» (2819) و «أنيس الساري» (449).

(2/368)


وقال المغيرة بن شعبة: توضَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسَحَ بناصيته، وعلى العِمامة والخُفَّين (1). وقال أنس: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ وعليه عمامةٌ قِطْريةٌ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مُقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة (2). وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَرْق ما بيننا وبين المشركين: العمائمُ على القلانس» (3). وهذا وإن كان إخبارًا بالواقع، فإنَّه إرشادٌ إلى المشروع. _________ (1) أخرجه مسلم (274). (2) أخرجه أبو داود (147) وابن ماجه (281) والحاكم (1/ 169) والبيهقي (1/ 60)، والحديث ضعيف لجهالة أبي معقل الراوي عن أنس - رضي الله عنه -. انظر: «ضعيف أبي داود- الأم» (19). (3) أخرجه أبو داود (4078) والترمذي (1784) والحاكم (3/ 452) وغيرهم من طريق عن أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، عن جدِّه. قال الترمذي: «هذا حديث غريب وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة». وانظر: «إرواء الغليل» (1503) و «أنيس الساري» (2509).

(2/369)


وقال معاوية، عن أبي إسحاق، عن صفوان بن عمرٍو، عن الفضيل (1) بن فَضالة، عن خالد بن معدان قال: «إنَّ الله أكرم (2) هذه الأمَّة بالعصائب والألوية» (3). يريد بالعصائب العمائم كما في الحديث (4): «فأمرهم أن يمسحوا على العصائب (5) والتساخين»، فالعصائب: العمائم، والتساخين: الخفاف. قالوا: والعمائم ليست من زيِّ (6) بني إسرائيل، وإنَّما هي من زيِّ العرب. وقال أبو القاسم: ولا يُمكَّن الذمي من التعمُّم بها، فإنَّه لا عِزَّ له في دار الإسلام ولا هي من زيِّه. _________ (1) في الأصل: «الفضل»، تصحيف. (2) في الأصل والمطبوع: «ألزم»، تصحيف. (3) لم أجد من أخرجه عن خالد بن معدان موقوفًا عليه من قوله. وقد أخرجه سعيد بن منصور (2528) عن إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو قال: سمعت خالد بن معدان وفضيل بن فضالة يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكرم الله هذه الأمة بالعمائم والألوية»، وهذا مرسل رجاله ثقات. وروي موصولًا من حديث أنس عند أبي يعلى (المطالب العالية: 1963) والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 223) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ 111) دون ذكر العمائم، وإسناده واهٍ، قال العُقيلي: لا أصل له. (4) أخرجه أحمد (22383) وأبو داود (146) والحاكم (1/ 169) من حديث ثوبان - رضي الله عنه - بإسناد جيِّد. انظر: «أنيس الساري» (5607). (5) في الأصل: «العمائم»، سبق قلم يُبطل الاستشهاد بالحديث وتفسيره الآتي. (6) في الأصل هنا وفي الموضع الآتي: «زمن»، تحريف.

(2/370)


قلت: فلو خالفت عمائمُهم عمائم المسلمين في لون أو غيره، فهل يُمكَّنون من ذلك؟ يحتمل أن يقال بتمكينهم منها لحصول التمييز المقصود، ويحتمل أن لا يُمكَّنوا، إذ المقصود أنَّهم لا يلبسون هذا الجنس كما لا يركبون الخيل ولو تميَّزت عن خيول المسلمين، لأنَّ ركوبها عِزٌّ وليسوا من أهله، كما يُمنَعون من إرخاء الذوائب. ولم أجد عن أحمد نصًّا في لبسهم العمائم، ولكن قال المتأخِّرون من أتباعه: إنَّهم يَشُدُّون في أطراف عمائمهم وقلانسهم ما يخالف لونَها كخِرَقٍ صُفْرٍ (1) ونحوها. وحكَوا في جواز تمكينهم من الطيالسة وجهين، وإجراء (2) الوجهين في العمائم أولى، [فهي أولى] (3) وأحقُّ بالمنع لِما تقدَّم. وقال أبو الشيخ (4): حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا الدَّورقي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا مَعمَر: أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب أن امْنَع مَن قِبَلكم، أن لا يَلبَس نصراني قَباءً ولا ثوبَ خزٍّ _________ (1) غير محرر في الأصل، يشبه: «لحر وصفر»، فأثبت صبحي الصالح - رحمه الله -: «بحمرةٍ أو صُفرةٍ ونحوهما». والمثبت هو الصواب. انظر: «المستوعب» (2/ 471)، و «الإنصاف» (10/ 448)، و «كشاف القناع» (7/ 251 - نشرة وزارة العدل). (2) في المطبوع: «وأحد»، تصحيف. (3) زيادة يستقيم بها السياق، ولعلها سقط نحوها لانتقال النظر. (4) في «كتاب شروط عمر»، وهو في عداد المفقود كما سبق. ورواته كلهم ثقات، شيخه هو أبو جعفر البغدادي الحذَّاء (ت 299)، وثَّقه الدارقطني؛ إلا أن معمرًا لم يُدرك عمر بن عبد العزيز. وأخرجه أيضًا أبو يوسف في «الخراج» (279) عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل له ... إلخ بنحوه.

(2/371)


ولا عصبٍ، وتَقَدَّمْ في ذلك أشدَّ التقدُّم حتى لا يخفى على أحدٍ نهيٌ عنه. وقد ذُكِر لي أن كثيرًا ممَّن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم واتَّخذوا الوَفْر (1) والجِمام (2)، ولعَمْري إن كان يُصنع ذلك فيما قِبَلك إنَّ ذلك بك ضعفٌ وعجز، فانظر كلَّ شيء نهيتُ عنه وتقدَّمتُ فيه فلا تُرخِّص فيه ولا تغيِّر منه شيئًا. حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد، حدثنا سعيد بن سليمان (3)، ثنا أبو مَعشَر، عن محمد بن قيس وسعيد بن عبد الرحمن بن حبَّان (4) قالا: دخل ناس من بني تَغلِب على عمر بن عبد العزيز عليهم العمائم كهيئة العرب، قالوا: يا أمير المؤمنين، أَلحِقنا بالعرب. قال: فمَن أنتم؟ قالوا: نحن بنو تغلب. قال: أَوَلستم من أوسط العرب؟ قالوا: نحن نصارى. قال: عليَّ بجَلَمٍ، فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم، وشقَّ من رداء (5) كل واحدٍ منهم شبرًا يُحزِم به. وقال: لا تركبوا السُّرُوج، واركبوا الأُكُف (6)، ودَلُّوا رِجلَيكم _________ (1) كذا في الأصل، والوَفْر من المال وغيره: الكثير. والمراد هنا الوفرة من الشعر، وهو ما بلغ الأذنين، ويُجمع على «الوِفار». (2) جمع الجُمَّة، وهي من الشعر ما بلغ المنكبين. ويُجمع أيضًا على «الجُمَم»، وهو ما أثبته صبحي الصالح وخطَّأ ما في الأصل. (3) في الأصل: «سلمان»، تصحيف. هو سعيد بن سليمان الضبِّي الواسطي، الملقَّب بـ «سعدويه»، روى عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي. (4) لم أعرفه، وفي بعض نسخ «الاقتضاء» (1/ 367): «سعد» بدل «سعيد». (5) في الأصل: «وراء»، تصحيف، والتصحيح من «الاقتضاء». (6) الظاهر أن المراد: اركبوا الحمير والبغال، ولا تركبوا الخيل، إذ الأُكُف (واحده: إكاف) تكون للحمير والسُّرُوج للخيل.

(2/372)


من شقٍّ واحدٍ (1). حدثنا خالي، حدثنا محمد بن عبد الوهاب بن موسى العَسقلاني، حدثنا يَسْرة (2) بن صفوان، حدثنا الحَكَم بن عمرو الرُّعَيني قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمصار الشام: لا يمشي نصراني إلا مفروق الناصية، ولا يلبس قَباءً، ولا يمشي إلا بزنَّار من جِلد، ولا يلبس طيلسانًا، ولا يلبس سراويل ذات خَدَمةٍ (3)، ولا يلبس نعلًا ذات عَذَبةٍ (4)، ولا يركب على سَرْجٍ، ولا يوجد في بيته سِلاحٌ إلا انتُهِب، ولا يدخل الحمام يوم الجمعة يهودي ولا نصراني حتى تُصلَّى الجمعة (5). حدثنا أبو يعلى، عن ابن مسهرٍ (6)، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عُرْفُطَة قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الأمصار أن تُجَزَّ نواصيهم ــ يعني _________ (1) لم أجد من أخرجه بهذا السياق. وروي بنحوه من وجوهٍ أُخر، وستأتي قريبًا. (2) في الأصل والمطبوع: «مبشر»، تصحيف. (3) في الأصل: «كذبة»، تحريف. والخَدَمة: مخرج الرجلين من السروايل، والمراد هنا: رباطٌ يُربط به أسفل رجِل السراويل، ويقال له أيضًا: المُخَدَّم. (4) عَذَبة النعل: المرسلة من شِراكه. (5) وأخرجه ابن زَبْر الربعي في «شروط النصارى» (23) ــ ومن طريقه ابنُ عساكر في «تاريخ دمشق» (2/ 185) ــ من طريق آخر عن يسرة بن صفوان به. والحكم بن عَمْرو ضعيف، إلا أنه توبع على كثير مما ذكره عن عمر بن عبد العزيز كما سبق وسيأتي. (6) في الأصل والمطبوع: «بهر»، تصحيف.

(2/373)


النصارى ــ ولا يلبسوا ألبسة المسلمين، حتى يُعرَفوا (1). حدثنا أحمد بن الحسين الحذَّاء، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّورقي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب: أمَّا بعد، فلا يَركبَنَّ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ على سَرْج، وليَرْكبَنَّ على إكافٍ، ولا يركبْنَ نساؤهم على راحلةٍ، وليَكُن (2) رُكُوبُهم على إكافٍ، وتقدَّم في ذلك تقدُّمًا بليغًا (3). وقال الخلال في «الجامع» (4): باب ما يؤخذ به النصارى من اتخاذ الزنانير، وعلى نسائهم من زيهم. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفرٍ قالا: حدثنا أبو الحارث قال: قال أحمد: ينبغي أن يؤخذ أهل الذمة بالزنانير (5) يُذَلُّون (6) بذلك. _________ (1) وأخرجه أيضًا البلاذري في «أنساب الأشراف» (10/ 13) عن عبد الله بن صالح ــ وهو ابن مسلم العجلي ــ عن عبد الله بن إدريس به. وإسناده واهٍ، عبد الرحمن بن إسحاق وخليفة بن قيس، كلاهما ضعيف. وقد روي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن خليفة بن قيس بلفظٍ آخر وسيأتي (ص 396 - 397). (2) في الأصل: «ولكن»، والمثبت أشبه. (3) جزء من كتاب عمر بن عبد العزيز الذي تقدَّم بنفس الإسناد قريبًا. (4) (2/ 429). (5) في الأصل مسبوق بواو العطف «وبالزنانير». وفي مطبوعة «الجامع»: «بالبواقي والزنانير»، وكذا في ترجمة الباب: «اتخاذ البواقي والزنانير». ولم أتبيَّن معنى «البواقي»، ولعل فيه تصحيفًا. (6) في الأصل: «مذلون».

(2/374)


حدثنا يحيى بن جعفر بن عبد الله (1) بن الزِّبرِقان، حدثنا يحيى بن السكن (2)، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (3) قال: [أمر] عمر - رضي الله عنه - بجَزِّ نواصي أهل الذمة، وأن يشُدُّوا المناطقَ، وأن يَركَبُوا الأُكُفَ بالعرض (4). حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق (5)، ثنا معمر، عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: كتب عمر بن عبد العزيز ــ رحمه الله تعالى ــ أن ينهوا النصارى أن يفرقوا رؤوسهم، ويجزُّوا (6) نواصيهم، وأن تُشَدَّ مناطقهم، ولا يركبوا على سَرْج، ولا يلبسوا عَصْبًا (7) _________ (1) في الأصل: «بن أبي عبد الله»، خطأ. وفي مطبوعة «الجامع»: «عبيد الله»، تصحيف. (2) في الأصل: «الكسر»، تصحيف. (3) كذا في الأصل، ولفظ «الجامع»: «عن نافع أن عمر - رضي الله عنه -»، ليس فيه: «عن ابن عمر»، وفي مصادر التخريج: «عن نافع عن أسلم أن عمر». وسيأتي من كلام هبة الله الطبري قريبًا أنه هو الصواب. (4) أخرجه عبد الرزاق (10090)؛ وأبو عبيد في «الأموال» (144) عن عبد الرحمن بن مهدي؛ كلاهما (عبد الرزاق وعبد الرحمن) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم أن عمر ... بنحوه. وفي رواية عبد الرزاق زاد عبد الله: «وفعل ذلك بهم عمر بن عبد العزيز حين ولي». وإسناده لا بأس به في الشواهد، عبد الله بن عمر هو العُمَري، صدوق على لين فيه. (5) هو عنده في «المصنف» (10004). (6) في الأصل: «ويحزنوا» بالنون وإهمال الباقي، تصحيف. (7) في الأصل: «عسا»، تصحيف. والعصب: نوع من البرود اليمنية يُعْصَب غَزلُه.

(2/375)


ولا خزًّا، وأن يُمنَع نساؤهم أن يركبوا (1) الرحائل، فإن قدر على أحد منهم فعل ذلك بعد التقدُّم إليه فإنَّ سَلَبَه (2) لمن وجده. فصل ويمنعون من التلحِّي، صرَّح بذلك أصحاب الشافعي في كتبهم. وقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري في شرح كتاب عمر بن الخطاب بعد أن ذكر المنع من لبس العمامة: وكذلك لا يتلحَّى لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط (3)، وإنَّما أمر به المسلمين ومَن آمن به واقتدى بأفعاله، فمَن فعله من أمَّته فإنَّما يفعله اتباعًا لأمره واستعمالًا لسنَّته. وهو زيُّ العرب من آباد الدهر وليس هو زيَّ بني إسرائيل، فلا يُمكَّن الذمي منه، لأنَّه ليس زيَّ قومه فيما مضى، فيجب أن لا يكون زيًّا له الآن. قال أبو عبيد في هذا الحديث: أصل التلحِّي في لبس العمائم، وذلك لأنَّ العمائم يقال لها المِقْعَطة (4)، فإذا لاثها المعتَمُّ على رأسه ولم يجعلها تحت حنكه (5) _________ (1) كذا في الأصل و «الجامع». وأصلحه صبحي الصالح إلى: «يركبن». (2) في الأصل والمطبوع: «سكنه»، تحريف. (3) في الأصل: «الاساط»، تصحيف. والحديث ذكره أبو عُبيد في «غريب الحديث» (2/ 537) ولم يُسنده. وهبة الله الطبري صادر عنه. (4) في الأصل: «المقتطعة»، تصحيف. (5) في الأصل: «منكبه»، تصحيف.

(2/376)


قيل: اقتعطها (1)، فهي المنهي عنها (2)، فإذا أدارها تحت الحنك قيل: تلحَّاها، وكان طاوس يقول: تلك عِمَّة الشيطان (3)، يعني التي لا يُتلحَّى بها. قال أبو القاسم: وعمَّة الشيطان أهل الذمة بها أولى! قال: وكذلك إذا تعمَّموا لا يرسلون أطراف العمامة خلف ظهورهم، لأنَّ هذا هو السنة في التعمُّم بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) [و] بفعل عبد الرحمن بن عوف فيما روى الهَيثَم بن حميدٍ، عن حفص (5) بن غيلان، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهَّز لسَرِيَّةٍ بعثه عليها، فأصبح قد اعتمَّ بعمامة سوداء (6). وقال أبو أسامة: [حدثنا] عبيد الله، عن نافع: كان ابن عمر يعتمُّ ويُرخِيها بين كتفيه. قال عبيد الله: وأخبرني أشياخنا أنَّهم رأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتمُّون ويُرخُونها بين أكتافهم (7). _________ (1) في الأصل: «اقتلعها»، تصحيف. (2) في الأصل: «عنه». (3) أخرجه معمرٌ في «الجامع» (19978 - مصنف عبد الرزاق) ومن طريقه أحمد في «العلل» (2/ 569) والبيهقي في «شعب الإيمان» (5854). (4) كما في حديث عمرو بن حريث - رضي الله عنه - أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفَيها بين كتفَيه. أخرجه مسلم (1359). (5) في الأصل: «بن صفوان»، تصحيف. (6) أخرجه البزار (12/ 315) والطبراني في «الأوسط» (4671) والحاكم (4/ 540) وغيرهم من طريق الهيثم بن حميد به. وإسناده لا بأس به. وأخرجه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 631) ــ عمَّن لا يتهم عن عطاء بن أبي ربا ح به. (7) أخرجه ابن أبي شيبة (25477) عن أبي أسامة به، وإسناده صحيح.

(2/377)


فإرخاء الذؤابة من زيِّ أهل العلم والفضل والشرف، فلا يجوز أن يمكَّن الكفار من التشبُّه بهم فيه. فصل قولهم: (ولا في نعلين، ولا فَرْق شعر). أي: لا نتشبَّه بهم في نعالهم، بل تكون نعالهم مخالفةً لنعال المسلمين ليحصل كمال التمييز وعدم المشابهة في الزيِّ الظاهر، ليكون ذلك أبعد من المشابهة في الزي الباطن، فإنَّ المشابهة في أحدهما تدعو إلى المشابهة في الآخر بحسبها. وهذا أمرٌ معلومٌ بالمشاهدة، فليس المقصود من الغيار والتمييز في اللباس وغيره مجرَّدَ تمييز الكافر عن المسلم، بل هو من جملة المقاصد، والمقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطنًا. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَّ لأمته ترك التشبُّه بهم بكلِّ طريقٍ وقال: «خَالَف هديُنا هديَ المشركين» (1). _________ (1) أخرجه الطبراني (20/ 24) والحاكم (2/ 277) ــ ومن طريقه البيهقي (5/ 125) ــ من طريق عبد الوارث بن سعيد، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس، عن المسور بن مخرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في خطبته بعرفة في شأن الدفع من عرفة بعد الغروب ومن مزدلفة قبل طلوع الشمس خلافًا لما كان عليه المشركون. رجاله ثقات إلا أنه اختُلف على ابن جريجٍ فيه، فأخرجه الشافعي ــ كما في «معرفة السنن» (7/ 301) ــ وأبو داود في «المراسيل» (151) وابن أبي شيبة (15416) من طرق عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وهو أشبه. ثم إن فيه انقطاعًا آخر، ففي رواية ابن أبي شيبة قال ابن جُريج: «أُخبِرت عن محمد بن قيس». وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف هدي المشركين في ذلك فقد ثبت من غير وجه، منها حديث عمر في «صحيح البخاري» (1684).

(2/378)


وعلى هذا الأصل أكثر من مائة دليل حتى شَرَع لها (1) في العبادات التي يحبها الله ورسوله تجنُّبَ مشابهتهم في مجرَّد الصورة، كالصلاة والتطوُّع عند طلوع الشمس وغروبها، فعوَّضَنا بالتنفُّل في وقتٍ لا تقع الشُّبهة بهم فيه. ولمَّا كان صوم يوم عاشوراء لا يمكن التعويضُ عنه بغيره لفوات غير ذلك اليوم أَمَرنا أن نضُمَّ إليه يومًا قبله ويومًا بعده لتزول صورة المشابهة. ثم لمَّا قهر المسلمون أهل الذمة وصاروا تحت قهرهم وحكمهم ألزمهم أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بترك التشبُّه (2) بالمسلمين، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك التشبُّه بهم، فتضمَّن هذان الأصلان العظيمان مجانبتهم في الهدي الظاهر والباطن حتى في النعال، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة بالصلاة في نعالهم مخالفةً لأهل الكتاب (3)، ونهاهم عمر - رضي الله عنه - أن يلبسوا نعال المسلمين. _________ (1) أي: للأمة. (2) في الأصل زيادة: «بهم»، والسياق يستقيم بدونها. (3) كما في حديث شدَّاد بن أوس، وسيأتي تخريجه (ص 389).

(2/379)


فصل وكذلك قولهم: (ولا بفرق شعر). الأصل في هذا الباب ما ثبت في «الصحيح» (1) من حديث الزهري (2)، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أهل الكتاب يَسدُلون أشعارهم، وكان المشركون يَفرِقون رؤوسهم. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمَر به، فسَدَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيتَه، ثم أُمِر بالفَرق، فكان الفرق آخر الأمرين. والسدل في اللغة الإرسال، ومعناه في الشعر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُرسِل شعره، وكان أولًا يعجبه موافقةُ أهل الكتاب فيما لم يُؤمَر فيه لمصلحة التأليف وغيرها، فكان يُحِب أن يفرق شعره، فأمسك عنه حتى يأتيه الأمر من الله فجاءه الأمر بالفرق فصار هو السُّنَّة. والفرق هو أن يقسم شعر الرأس نصفين بالسوية، ويجعل ذؤابتين على زيِّ الأشراف الذي لم يزل عليه العَلَويُّون والعبَّاسيُّون. وهذا آخر الأمرين من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي استقرَّت عليه السنَّة، فلا يمكَّن منه أهل الذمة، بل يُؤمَرون بأن يُرسلوا شعورهم ويسدلونها، ويجمعون شعورهم حتى تكون كالكبَّة (3) من _________ (1) للبخاري (3558، 5917) ومسلم (2336)، ولفظهما في آخره: «ثم فرق بعدُ». وأما المثبت هنا: «ثم أُمِر بالفرق، فكان الفرق آخر الأمرين»، فلفظ رواية معمر عن الزهري في «جامعه» (20518). (2) في الأصل: «النميري»، تصحيف. (3) رسمه في الأصل: «كاللبة». وأثبت في المطبوع: «كاللبنة» وقال في الهامش: «أي: كالرقعة في جيب القميص»! والكبة: ما جُمع أو لُفَّ من غزلٍ أو خيط. وفي حديث معاوية المتفق عليه في نهيه عن الوصل في الشعر: أَّنه - رضي الله عنه - خطب «فأخرَج كُبَّةً مِن شَعر».

(2/380)


خلفهم. وقد وَسَم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مَن على رأسه شعرٌ من أهل الذمة بوسم ينبغي اتباعه، وهو أن تُجَزَّ نواصيهم. والناصية مقدار ربع الرأس، فإذا كان ربعه محلوقًا كان علمًا ظاهرًا وأمرًا مشهورًا أنَّه ذمي. وهذا معنى ما في كتاب أمير المؤمنين في الشروط: (وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا). قال أبو القاسم: أخبرنا علي بن عمر، أخبرنا إسماعيل بن محمد، حدثنا عباس الدوري، ثنا خالد بن مخلدٍ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، وعن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يكتب إلى عماله يأمرهم بجزِّ نواصيهم، يعني: أهل الكتاب. قال أبو القاسم: كذا قال خالدٌ: عن نافعٍ، عن ابن عمر. وإنَّما هو عن أسلم، عن عمر؛ كذلك رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن عمر العمري، وهو الصواب (1). فصل في هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره لم يكن هديه - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في غير نسكٍ، بل لم يُحفَظ عنه أنَّه حلق رأسه إلا في حجٍّ أو عمرةٍ. _________ (1) وقد سبق تخريجه من هذا الوجه قريبًا.

(2/381)


وحلقُ الرأس أربعة أقسام: شرعي، وشركي، وبدعي، ورخصة (1). فالشرعي: الحلق في الحج والعمرة. والشركي: حلق الرأس للشيوخ، فإنَّهم يحلقون رؤوس المريدين للشيخ، ويقولون (2): احلق رأسك للشيخ فلان. وهذا من جنس السجود له، فإنَّ حلق الرأس عبوديةٌ وذلٌّ (3). وكثيرٌ منهم يعمل المشيخة الوثنية، فيرغم (4) المريد على السجود له ويسمِّيه وضْعَ رأسٍ وأدبًا. وعلى التوبة له، والتوبةُ لا ينبغي أن تكون لأحد إلا لله وحده. وعلى حلق الرأس له، وحلقُ الرأس عبوديةٌ لا تَصلُح إلا لله وحده، وكانت العرب إذا مَنُّوا (5) على الأسير جَزُّوا نواصيَه وأطلقوه عبوديةً وإذلالًا له، ولهذا كان من تمام النسك وضع النواصي لله عبوديةً وخضوعًا وذُلًّا. ويُربُّونه على الحلف باسم الشيخ والنذر له (6)، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه _________ (1) قسمه المؤلف في الطب النبوي من «زاد المعاد» (4/ 227) إلى ثلاثة أنواع: نسك وقربة. بدعة وشرك. حاجة ودواء. (2) في الأصل: «ويقول»، ولعل المثبت أشبه. (3) رسمه في الأصل يشبه: «تدلي» من غير نقط، فأصلحه في المطبوع إلى «مذلة»، والمثبت من «زاد المعاد» أشبه. (4) في الأصل: «فيري»، ولعل المثبت أشبه. (5) في المطبوع: «أمنوا»، خطأ. (6) في الأصل: «فابدر له»، تحريف، وقدَّره صبحي الصالح: «لإذلاله»، والصواب ما أثبتناه، ويدل عليه ما بعده.

(2/382)


قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (1). فكيف من نذر لغير الله؟! وأما الحلق البدعي فهو كحلق كثيرٍ من المُطوِّعة والفقراء يجعلونه شرطًا في الفقر وزيًّا يتميَّزون به عن أهل الشعور من الجند والفقهاء والقضاة (2) وغيرهم. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج أنَّه قال: «سِيمَاهم التحليق» (3). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لصَبِيغ بن عِسْل وقد سأله عن مسائل فأمر بكشف رأسه وقال: لو رأيتُك محلوقًا لأخذت الذي فيه عيناك (4)؛ خشي (5) أن يكون من الخوارج. _________ (1) أخرجه أحمد (5375، 5593) وأبو داود (3251) والترمذي وحسَّنه (1535) وابن حبان (4358) والحاكم (1/ 18) وغيرهم من حديث سعد بن عُبيدة، عن رجلٍ من كندة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. هذا إسناد أحمد، وعند غيره: «عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر» لم يُذكر الرجل من كندة، وذِكرُه محفوظ. وعليه، فالإسناد فيه لين لجهالة حال الكندي. والمحفوظ من حديث ابن عمر ما أخرجه البخاري (6108) ومسلم (1646) عنه بلفظ: «إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمُت». (2) في الأصل: «والمحاذ»، ولم أتبيَّن صوابه، والمثبت من طبعة صبحي الصالح - رحمه الله -. (3) أخرجه البخاري (7562) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (4) أخرجه الإمام أحمد ــ ومن طريقه الخطيب في «الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة» (ص 152 - 153) ــ والآجري في «الشريعة» (152) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (354، 355) بإسنادين صحيحين عن عمر - رضي الله عنه -. (5) في الأصل: «حتى»، ولعله تصحيف عن المثبت.

(2/383)


ومِن حلق البدعة الحلقُ عند المصائب بموت القريب ونحوه. فأمَّا المرأة فيحرم عليها ذلك، وقد برئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحالقة والصالقة والشاقَّة (1)؛ فالحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتها بالوَيل والثُّبور ونحوه، والشاقة: التي تشُقُّ ثيابها. وأمَّا الرجل فحلقه لذلك بدعةٌ قبيحةٌ يكرهها الله ورسوله. وأمَّا حلق الحاجة والرخصة فهو كالحلق لوَجَعٍ أو قمل أو أذًى في رأسه من بُثُورٍ ونحوها، فهذا لا بأس به. وأمَّا حلق بعضه وترك بعضه فهو مراتب: أشدُّها أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعل شمامسة النصارى. ويليه أن يحلق جوانبه ويدع وسطه كما يفعل كثيرٌ من السِّفْلة وأسقاط الناس. ويليه أن يحلق مقدم رأسه ويترك مؤخَّره. وهذه الصور الثلاثة داخلةٌ في القَزَع الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وبعضها أقبح من بعضٍ. فإن دعت الحاجة إلى ذلك لضررٍ برأسه أو لاستخراج أبخرةٍ (3) تؤذي عينيه جاز حلقُ بعضه. وهل (4) الأولى في هذه الحال: أن يقتصر على ما تندفع به الحاجة أو حَلْقُ جميعه؟ هذا فيه نظر. _________ (1) كما في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عند البخاري (1296) ومسلم (104). (2) كما في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري (5920) ومسلم (2120). (3) في الأصل: «الحرة»، والمثبت أشبه. وأصلحه في المطبوع إلى «ضفيرة»! (4) في الأصل: «وهذا»، ولعله تصحيف المثبت.

(2/384)


فصل وأمَّا إرخاؤه (1)، فإن طال فالأفضل أن يجعل ذؤابتين عن اليمين والشمال، ولا يرسل، ولا يضفر (2) ذؤابةً واحدةً، ولا يجمع كلَّه في مؤخر الرأس، ولا يرُدُّ بعضَه فوق بعض على الرأس، فكلُّ هذا مكروهٌ. وإن قصر إلى شحمة الأذن أو فوقها بحيث لا يتأتَّى فرقُه وجعلُه ذؤابتين جاز سدلُه من غير كراهةٍ. وهكذا كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعره: إن طال فَرَقه وإلا تركه. والمقصود أنَّ أهل الذمة يؤخذون بتميُّزهم عن المسلمين في شعورهم: إمَّا بجزِّ مقادم رؤوسهم، وإمَّا بسدلها. ولو حلقوا رؤوسهم لم يعرض لهم. فصل وأمَّا الأَرْدِية فهل يمكَّنون من لباسها لكون ترك لبسها غيرَ داخلٍ في الشروط، أو (3) لا يمكَّنون منه لأنَّها زيُّ العرب وعادتهم فهي كالعمائم؟ فقال أبو القاسم الطبري الفقيه الشافعي: ولا يلبسون الأَردية، فإنَّ الأَردية من لباس العرب قديمًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتدي والصحابة من بعده، وهو زيُّ المسلمين وفِعْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ثم ساق الأحاديث في لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرداء، ثم قال: فلا يُمكَّن ذمي _________ (1) في الأصل: «اعاده» غير محرَّر، ولعله تصحيف عن المثبت. (2) في الأصل بظاء، سهو. (3) في الأصل: «إذًا»، والمثبت مقتضى السياق.

(2/385)


من لبس (1) هذه الأردية. وعن أحمد بن حنبل وأبي حنيفة أنَّ أهل الذمة لا يُمكَّنون من الأردية. قال: وأمَّا الطيلسان فهو المُقوَّر (2) الطرفين، المكفوفُ الجانبين، الملفَّف بعضُه إلى بعض، فإنَّ العرب لم تكن تعرفه ولا تلبسه، وهو لباس اليهود والعجم، والعرب تسمِّيه ساجًا. ويقال: أوَّل مَن لبسه جُبَير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد منافٍ فيما ذكره الزبير بن بكَّارٍ (3): حدثني سعيد بن هاشم البكري، عن يحيى بن سعيد بن سالم القدَّاح قال: أوَّل قرشي لبس ساجًا جُبَير بن مُطعِم، اشتُري له بألفَي درهمٍ، وقال: لا أحسبه إلا قال: مِن حُلْوان أو جَلُولاء (4). وروي أنَّ عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أحرم في ساجةٍ (5). فهو لباسٌ _________ (1) «لبس» سقط من المطبوع. (2) في الأصل: «مفور»، وفي المطبوع: «المغوَّر»، كلاهما خطأ. جاء في «إسفار الفصيح» (ص 885): «الطيلسان هو الرداء المُقوَّر أحدُ جانبيه». و «المقوَّر» في الأصل: كل شيء قُطعِ مستديرًا من وسطه. والمراد هنا: أنه قُطع طرفاه باستدارةٍ، أو نُسج على تلك الهيئة. (3) أخرجه عنه الخطيب البغدادي في «المتفق والمفترق» (2/ 1082) في ترجمة سعيد بن هاشم البكري. (4) أي: مِن فَيء حُلوان أو جَلولاء، كما عند الخطيب. هما بلدتان متجاورتان فُتحتا في خلافة عمر - رضي الله عنه -، تقع آثار الأولى اليوم في غربيِّ إيران، والثانية مدينة قائمة في شرقيِّ العراق في محافظة ديالى. (5) لم أجده عن ابن عبَّاس. وإنما روي لبس الساجة عن جابر، فقد أخرج مسلم (1218/ 147) من حديث محمد بن علي بن الحسين أنه دخل على جابر يسأله عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجده «في ساجةٍ ملتحفًا بها». كذا في بعض النسخ، وفي بعضها و «سنن أبي داود» (1905): «نِساجةٍ». انظر: «مشارق الأنوار» (2/ 27، 229، 232)، و «شرح النووي» (8/ 171).

(2/386)


مُحدَث عند العرب، وهو من لباس بني إسرائيل. ثم ذكر أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ذكر الدجال فقال: «يَتْبَعه سبعون ألفًا مِن يهودِ أصبهان عليهم الطيالسة» (1). وقال أبو عمران الجَوني: نظر أنسٌ إلى الناس يوم الجمعة عليهم الطيالسة فقال: كأنَّهم الساعةَ يهودُ خيبر! (2). وكان ابن سيرين يكره الطيلسان وقال: هو من زيِّ العجم (3). قال: وقد عابَ أنس بن مالك في الصدر الأول على مَن لبس الطيلسان من المسلمين وشبَّههم بأهل الكتاب. وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن تشبَّه بقوم فهو منهم» (4). قال: ولا يترك أهل الذمة يلبسون طيالسهم فوق عمائمهم، لأنَّ هذا يفعله أشراف المسلمين وعلماؤهم للتمييز عمَّن (5) دونهم في العلم والشرف، وليس أهل الذمة أهلًا لذلك، فيُمنعون منه. _________ (1) أخرجه مسلم (2944). (2) أخرجه البخاري (4208). (3) لم أجده، بل صحَّ عنه أنه كان يلبسه، كما في «طبقات ابن سعد» (9/ 203). (4) سبق قريبًا. (5) في الأصل: «عن»، والمثبت أشبه.

(2/387)


قال: وفي كتاب عمر: (ولا يلبسون النعلين). قال: فيمنع أهل الذمة عن لبس جميع الأجناس من النِّعال. والنَّعلان هي (1) من زيِّ العرب من آباد الدهر إلى يومنا هذا. ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسها ويستعملها، وكذلك الصحابة من بعده. وقد روي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرتُ بالنَّعل والخاتَم» (2). ثم ساق من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها: «استكثِروا من النِّعال، فإنَّ أحدَكم لا يزال راكبًا ما كان منتعلًا» (3). وقال أنسٌ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في نعليه (4). وكان لنعليه _________ (1) في الأصل: «هم»، ولعله تصحيف عن المثبت بتقدير «النعال»، والضمائر الآتية تؤيده. وغيَّر صبحي الصالح الجميع إلى التثنية. (2) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3603) وفي «الصغير» (463) ــ ومن طريقه الخطيب في «تاريخه» (9/ 456) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1152) ــ بإسناد تالف، فيه عمر بن هارون، متروك متَّهم بالكذب. تنبيه: أخرجه الضياء في «المختارة» (7/ 185) من طريق آخر فيه متابعةٌ لعمر بن هارون، تابعه عبد الله بن المبارك، الإمام الجليل، وقد غرَّ ذلك محقق «المختارة» فقال: إسناده صحيح. وليس كذلك، ففي الإسناد إلى ابن المبارك: أحمد بن محمد بن الأزهر، وهو واهٍ، يروي المناكير ويأتي عن الأثبات بما لا يُتابَع عليه. فالحديث باطل، كما قال ابن عديٍّ في «الكامل» (1/ 463). (3) أخرجه أبو داود (4133) وأبو عوانة في «مستخرجه» (9113) من طريق موسى بن عقبه به. وأخرجه مسلم (2096) من طريق آخر عن أبي الزبير به. (4) أخرجه البخاري (386) ومسلم (555).

(2/388)


قِبالان (1). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: عليكم بالنِّعال فإنَّها خلاخيل الرجال (2). ولم تكن النعال من زيِّ العجم، وإنَّما كان لباسهم رأس الخُفِّ الذي يسمُّونه التَّمْشَك (3)، فيَجِب أن يُحمَلوا على عادة لباسهم. قال: ولأنَّها مِن زيِّ العلماء والأشراف والأكابر، فلا يمكَّنون من لباسها. انتهى. فإن قيل: فقد كان اليهود يلبسونها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وحولها ويرتدون ويَفرِقون رؤوسهم ويلبسون العمائم، ولم يمنعهم من شيء من ذلك، ولهذا قال: «إنَّ اليهود لا يُصلُّون في نِعالهم فخَالِفوهم» (4)، وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ ما اتُّبِع، ولم يُلزِمهم بالغيار ولا خليفتُه من بعده أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. _________ (1) أخرجه البخاري (5857، 5858) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (2) أخرجه وكيع في «الغرر» ــ كما في «كنز العمال» (15/ 484) ــ عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر بن الخطاب: استجيدوا النعال فإنها خلاخيل الرجال. (3) نوع من الحذاء يغطي القدم، ولا ساق له، كالصندلة، أصله في الفارسية «چَمْشَك» بالجيم المهموسة، فعرِّبت بالتاء (كما هنا) والجيم (جمشك) والشين (شمشك). انظر: «المغرب في ترتيب المعرب» (1/ 107) و «المعجم العربي لأسماء الملابس» (ص 274) و «سواء السبيل إلى ما في العربية من الدخيل» للدكتور ف. عبد الرحيم (ص 115). (4) أخرجه أبو داود (652) وابن حبان (2186) والطبراني (7/ 290) والحاكم (1/ 260) من حديث شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه - بإسناد حسن. انظر: «صحيح أبي داود- الأم» (659).

(2/389)


قيل: إنَّما اعتمد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومَن بعده في الغيار سُنَّتَه - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه أرشد إلى مخالفتهم والتميُّزِ (1) عنهم، حيث لم يكن إلزامهم بالغيار إذ ذاك مُمكِنًا، لأنَّ المسلمين لم يكونوا قد استولَوا على أهل الكتاب وقهروهم وأذلُّوهم وملكوا بلادهم، بل كانت أكثر بلادهم لهم، وهم فيها أهل صلح وهُدنة، فكان المقدور عليه إذ ذاك أمرَ المسلمين [بـ] مخالفتهم بحسب الإمكان. فلمَّا فتح الله على المسلمين أمصار الكفار وملَّكهم ديارَهم وأموالَهم، وصاروا تحت القهر والذل، وجرت عليهم أحكامُ الإسلام= ألزمهم الخليفةُ الراشدُ والإمامُ العدلُ الذي ضرب اللهُ الحقَّ على لسانه وقلبه وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سُنَّته عمرُ بن الخطاب بالغيار، ووافقه عليه جميع الصحابة واتبعه الأئمة والخلفاء بعده. وإنَّما قصَّر في هذا مِن الملوك من قَلَّت رغبتُه في نَصر الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الكفر وأهله. وقد اتفق علماء المسلمين على وجوب إلزامهم بالغيار، وأنَّهم يُمنَعون من التشبُّه بالمسلمين في زيِّهم. فصل قالوا: (ولا نتشبَّه بالمسلمين في مراكبهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلَّد السيوف، ولا نتَّخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا). فأهل الذمة ممنوعون من ركوبهم السروج، وإنَّما يركبون الأُكُف ــ وهي _________ (1) في الأصل والمطبوع: «والنهي عنهم»، لا معنى له! ولعله مصحَّف عن المثبت.

(2/390)


البَراذع ــ عرضًا، وتكون رِجلاهم (1) جميعًا إلى جانب واحد كما أمرهم (2) أمير المؤمنين عمر فيما رواه عبد الرحمن بن مهدي عن عُبيد الله (3)، عن نافع، عن أسلم أنَّ عمر أمر أهل الذمة أن يركبوا على الأكف عرضًا وأن يركبوا عرضًا ولا يركبوا كما يركب المسلمون. وذكر عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنَّه كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يركب أهل الذمة في شقٍّ شقٍّ (4). وقال زُهَير بن حرب: حدثنا وَهْب بن جرير قال: زعم أبي قال: نهى عمر بن عبد العزيز أن يَركب السروج من خالف الإسلام (5). وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن خالد بن [أبي] عثمان الأُمَوي قال: أمر عمر بن عبد العزيز في أهل الذمة أن يُحمَلوا على الأكف وأن تُجَزَّ نواصيهم (6). وإنَّ السروج من آلات الخيل، وأهل الذمة ممنوعون من ركوبها، فإنَّها عِزٌّ لأهلها وليسوا من أهل العِزِّ، وعلى هذا جميع الفقهاء. _________ (1) في الأصل: «رجليهم». (2) في الأصل: «ليأمر لهم»، تصحيف. (3) كذا في الأصل، وقد سبق قريبًا (ص 381) أن الصواب: «عبد الله» مكبَّرًا. وانظر ما سبق (ص 375). (4) لم أجد من أخرجه. وقوله: «شقٍّ شقٍّ»، الشق هو الجانب، فالمراد أن تكون رجلاهم إلى جانبٍ واحد، وليس إلى الجانبين من الحيوان، كما تقدم. (5) لم أجد من أخرجه من هذا الطريق، وقد سبق (ص 372 - 375) من طرق أُخَر. (6) سبق تخريجه.

(2/391)


قال الجويني في «النهاية» (1): اتفق الأصحاب على أنَّا نأمر الكفار بالتميُّز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الأمام. وقال الأصحاب: يُمنَعون من ركوب الجياد، ويكلَّفون ركوب الحمير والبِغال، إلا النفيسة (2) التي يُتزيَّن بركوبها فإنَّها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميَّز مراكبهم عن المراكب التي يتميَّز بها الأماثل والأعيان من أهل الإيمان. وقيل: ينبغي أن يكون رِكابهم: الغَرْز (3)، وهو ركاب الخشب، ثم يُضطَرُّون إلى أضيق الطريق، ولا يمكَّنون من ركوب وسط الجَوادِّ إذا كان يطرقها المسلمون. وإن خَلَت عن زحمة الطارقين من المسلمين فلا حرج. ثم تكليفهم التميُّزَ بالغيار واجبٌ حتى لا يختلطوا في زيِّهم وملابسهم بالمسلمين. قال: وما ذكرناه من تمييزهم في الدواب والمراكب مختلَفٌ فيه، فقال قائلون: التميُّز بها حتمٌ كما ذكرناه في الغيار. ومنهم مَن جعل ما عدا الغيار إذنًا (4)، ثم إذا رأى الإمام ومَن إليه الأمر ذلك فلا مُعترَض عليه، وليس _________ (1) (18/ 54 - 55). (2) في مطبوعة «النهاية»: «ويكلَّفون ركوبَ الحُمُرِ، والبغالُ النفيسة». (3) في الأصل والمطبوع: «العرور»، تصحيف. وما ذكره الجويني في تفسيره لعله اصطلاح لهم في زمانهم، فإن في «الصحاح» (3/ 888) وغيره: الغرز: «ركاب الرحل من جلد، فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب». وقال صاحب «العين» (4/ 382): كلُّ ما كان مِساكًا للرِّجْلَين في المركب يسمى غَرْزًا. (4) كذا رسمه في الأصل إلا أن الذال مهملة غير منقوطة، فقرأه صبحي الصالح: «أدنى»، والمثبت أشبه، أي: مأذونًا فيه، غير لازم. وفي مطبوعة «النهاية»: «أدبًا».

(2/392)


يسوغ إلا الاتباع.

  وهل يجب على المرأة منهم أن تتميَّز بالغيار إذا بَرَزت؟ على وجهين:

أحدهما: يجب كالرجل. والثاني: لا يجب، لأن بُرُوز النساء نادرٌ، وذلك لا يقتضي تمييزًا في الغيار. وإذا دخل الكافر حمَّامًا فيه مسلمون، وكان لا يتميَّز عمَّن فيه بغيارٍ وعلامةٍ، فالذي رأيتُه للأصحاب (1) منعُ ذلك، وإيجاب التمييز في هذا المقام أولى، لأن الكافر (2) ربما يفسد الماء على حكم دينه بحيث لا يشعر به. ودخول الكافرة الحمَّامَ الذي فيه المسلمات من غير (3) غِيارٍ يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه. وكان شيخي رحمه الله تعالى (4) يقول: لا يُمنع أهل الذمة من ركوب جنس (5) الخيل، فلو ركبوا البراذين التي (6) لا زينة فيها والبغال على هذه الصفة فلا منع. والحمار الذي تبلغ قيمته مبلغًا إذا ركبه واحدٌ منهم لم أرَ _________ (1) في الأصل: «والذي ... الأصحاب»، والتصحيح من مصدر النقل. (2) «الكافر» سقط من المطبوع. (3) بعده في الأصل: «خلاف»، إقحام لا وجه له. (4) يعني به: والدَه أبا محمدٍ عبدَ الله بن يوسف الجويني (ت 438)، كما أفاده المحقق عبد العظيم محمود الديب - رحمه الله - في مقدمة التحقيق (ص 179، 180). (5) كذا في الأصل، وفي مطبوعة «النهاية»: «خسيس»، وهو محتمِل. (6) في الأصل: «الذي».

(2/393)


للأصحاب فيه منعًا، ولعلَّهم نظروا إلى الجنس، ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُلٌّ وركوب الخيل عِزٌّ. انتهى. وقد قال الشافعي (1): ولا يركبوا أصلًا فرسًا، وإنما يركبون البغال والحمير. قال أصحابه: فيُمنع أهل الذمة من ركوب الفرس، لأن في ركوبها الفضيلة العظيمة والعِزَّ، وهي مراكب المجاهدين في سبيل الله الذين يَحمُون حَوزَة الإسلام ويَذُبُّون عن دين الله. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اَسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ اِلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 61]، فجعل رِبَاط الخيل لأجل إرهاب الكفار، فلا يجوز أن يمكَّنوا من ركوبها، لأن فيه إرهابَ المسلمين. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخَيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجرُ والمَغْنَم» (2). وأهل الجهاد هم أهل الخيل والخير لاستعمالهم الخيل في الجهاد، فهم أحقُّ بركوب ما عُقِد الخيرُ بنواصيها من المراكب. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ الخيل كانت وحشًا في البراري وأوَّلُ مَن أنَّسها وركبها إسماعيل بن إبراهيم (3)، فهي من مراكب بني إسماعيل، وبها أقاموا دين الحنيفية، وعليها قاتل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعداء الله، _________ (1) لم أجده. (2) أخرجه البخاري (2852) ومسلم (1873) من حديث عروة البارقي. (3) أخرجه أبو حاتم في «الزهد» (99).

(2/394)


وعليها فتح الصحابةُ الفتوح ونصروا الإسلام، فما لأعداء الله الذين ضُرِبَت عليهم الذِّلَّةُ ولِركوبها؟! وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا تُعِزُّوهم وقد أَذلَّهم الله، ولا تُقرِّبوهم وقد أقصاهم (1). فصل قالوا: (ولا نتقلد السيوف). يمنع أهل الذمة من تقلُّد السيوف لما بين كونهم أهلَ ذمةٍ وكونهم يتقلَّدون السيوف من التضادِّ، فإنَّ السُّيوف عِزٌّ لأهلها وسلطان، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبَد اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وجُعِل رِزقِي تحت ظِلِّ رُمحي، وجُعِل الذلُّ والصَّغارُ على مَن خَالَف أمري، ومَن تشبَّه بقوم فهو منهم» (2)، فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عَزُّ الإسلامُ وظهر في مشارق الأرض ومغاربها. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسْلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} [الحديد: 24]. وهو قضيب الأدب، وفي صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة: «بيده قضيب الأدب» (3)، فبعث الله رسوله ليَقهَرَ به أعداءه ومَن خالف أمره، فالسيف من أعظم ما يُعتمَد في الحرب عليه ويُرهَّب به العدو، وبه ينصر _________ (1) أخرجه البيهقي (10/ 127) بإسناد صحيح. انظر: «إرواء الغليل» (2630). (2) سبق تخريجه. (3) لم أقف عليه.

(2/395)


الدين ويُذِلُّ الله الكافرين، والذِّمِّي ليس من أهل حمله والعِزِّ به. وكذلك يمنع من اتخاذ أنواع السلاح وحملها على اختلاف أجناسها كالقوس والنشَّاب والرُّمح، وما يُتقَّى (1) بأسُه. ولو مُكِّنوا من هذا لأفضى إلى اجتماعهم على قتال المسلمين وحِرابهم. قال أبو القاسم الطبري: ومن جرَت عادته بالركوب منهم مِن دَهاقينهم (2) ونحوهم، فإنَّه يجوز له الركوب إذا أَذِن له الإمام فيركب البغلة والحمار على إكافٍ من غير لجامٍ ولا حَكَمةٍ ولا سُفْرٍ (3) ولا مركبٍ محلًّى بذهب [أو] فضةً (4)، كما سنَّ أمير المؤمنين - رضي الله عنه - لهم حيث قالوا: (ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم). فصل قال [علي بن] عبد العزيز (5): حدثنا القاسم، حدثنا النَّضْر بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس قال: قال عمر: _________ (1) في المطبوع: «يبقى»، خطأ. أخشى أن يكون الصواب: «ما يَقي بأسَه»، أي: يُمنع من اتخاذ السلاح ومِن اتخاذ ما يقي بأسَه، كالدرع، والمِجن، والمِغفَر، ونحوه. (2) جمع: دُِهقان (بالكسر والضم)، يُطلق على رئيس القرية، وزعيم الفلَّاحين، والتاجر. (3) في الأصل: «تفر»، تصحيف. و «السُّفْر» جمع سِفار: ما يكون من الحديدة في أنف البعير، بمنزلة الحكمة من الفرس. (4) في الأصل: «ذهب فضة»، وكُتب عليه «كذا» بالحمرة. (5) أبو القاسم البغوي، راوي كتاب «الأموال» للقاسم بن سلَّام، والأثر فيه برقم (145)، وعن علي البغوي رواه ابن المنذر في «الأوسط» (6/ 13). ولعل المؤلف صادر عن كتاب هبة الله الطبري، فقد سبق (ص 353) أن نقل منه أثرًا رواه من طريق أبي عُبيد.

(2/396)


اكتب يا يَرْفأُ (1) إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب أن تُجَزَّ نواصيهم، وأن يربطوا الكُسْتِيجات (2) في أوساطهم ليُعرفَ زيُّهم من زيِّ أهل الإسلام. وذكر يحيى بن سعيد، عن عُبيد الله، عن نافع، عن أسلم أنَّ عمر كتب إلى أمراء الأمصار أن يأمروا أهل الذمة أن يُختَم على أعناقهم (3). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الشام أن يشُدَّ النصارى مناطقهم ويجُزُّوا نواصيهم (4). قال أبو القاسم: ويجب على الإمام أن يأمر أهل الذمة بالغيار في دار الإسلام، ويلزمهم أن يُغيِّروا في الملبس والمركب. فأمَّا في الملبس فهو أنَّهم لا يلبسون الفاخر من اللباس الذي يلبسه أشراف الناس وكبارهم من الشُّروب المرتفعة (5) ولا الخزِّ. _________ (1) في المطبوع: «بأمرنا»، خطأ. ويرفأ اسم حاجب عمر ومولاه، أدرك الجاهلية وحجَّ مع عمر في خلافة أبي بكر. انظر: «الإصابة» (11/ 462). (2) في الأصل: «المستحات»، تصحيف. والتصحيح من نشرة صبحي الصالح. والكُستيج: خيط غليظ يشدُّه الذميُّ فوقَ ثيابه دون الزنَّار. فارسي معرَّب. (3) أخرجه ابن أبي شيبة (33304، 33308) والبيهقي (9/ 202) من طُرق عن عبيد الله بن عمر العمري به. وإسناده صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (10090) عن عبد الله بن عمر ــ أخي عبيد الله ــ عن نافع به. (4) أخرجه عبد الرزاق (10004)، وقد سبق (ص 373) بأطول منه. (5) الشروب: جمع الشَّرْب، وهو نوع من الثياب الفاخرة تدخله خيوط حريرية أو مذهَّبة. انظر: «المعجم العربي لأسماء الملابس» (ص 260). المرتفعة: أي مرتفعة القيمة، النفسية. جاء في «أحسن التقاسيم» (ص 442): «ومِن دَرابْجِرد: كلُّ شيء نفيس من الثياب المرتفعة والوَسَط والدُّون».

(2/397)


إنَّ (1) عمر بن عبد العزيز كتب إلى النصارى من أهل الشام أن لا يلبسوا عَصْبًا ولا خزًّا، فمن قدر على أحدٍ منهم فعل من ذلك شيئًا بعد التقدُّم إليه فإنَّ سلبه لمَن وجده (2). قال: العصب هو البُرد الذي يُصبَغ غَزلُه، وهو اليماني. وقد كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - بردٌ نجراني (3). وقد كان خلع على كعب بن زهير بُردَه عند إسلامه، فباعه من معاوية (4)، وهو الذي لم يزل الخلفاء يتوارثونه ويُتبرَّك (5) به. وأمَّا الخزُّ، فإنَّه لباس الأشراف ومَن له عِزٌّ، فمَن لا عِزَّ له في الإسلام يُمنَع (6) من الثياب المرتفعة اقتداءً بالخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز. فصل وأمَّا لون ما يلبسون من الغيار، فإنَّهم يلبسون الرَّمادي الأَدْكن (7). وهذا _________ (1) كذا في الأصل، وأخشى أن يكون صوابه «لأن» متصلًا بما قبله. (2) جزء من الأثر السابق. (3) أخرجه البخاري (3149) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (4) انظر: «معجم الصحابة» لابن قانع (2/ 381) و «أنساب الأشراف» للبلاذري (11/ 328). وقصة إسلام كعب مروية في «مستدرك الحاكم» (3/ 579 - 584) من طرق عامَّتها مراسيل وروايات أصحاب المغازي، ولكن ليس فيها ذكر البُرد. (5) كذا في الأصل، واستظهر صبحي الصالح أن صوابه: «ويتبركون». (6) في الأصل: «يمتنع»، والمثبت أشبه. (7) في الأصل والمطبوع: «أذكر»، خطأ. والأدكن من الدُّكنة: لون يضرب إلى الغبرة بين الحمرة والسواد.

(2/398)


غيار الطوائف كلِّها. والنصارى يختصُّون بالزنانير (1) لقولهم في الكتاب: (ونَشُدُّ الزنانير على أوساطنا)، وهو المِنطقة المذكورة في اللفظ الآخر، فإنَّ الزنانير مناطق النصارى. ولا يكفي شدُّها تحت ثيابهم بل لا تكون إلا ظاهرةً باديةً فوق الثياب. قال الشافعي (2): ويكفيهم أن يغيروا ثوبًا واحدًا من جملة ما يلبسون. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي (3): إذا دخلوا الحمَّام علَّقوا في رقابهم الأجراس ليُعرَف أنَّهم من أهل الذمة. قال أبو القاسم: فأمَّا الأصفر من اللون فإنَّهم يُمنَعون من لباسه، لأن (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسه (5) وكذلك الخلفاء بعدَه عثمانُ وغيره (6). وكان زيَّ الأنصار، وبه كانوا يشهدون المجالس والمحافل، وهو زيُّهم إلى اليوم إذا دخلوا على الخلفاء. فلا يتشبَّهوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وصحابته، _________ (1) في الأصل والمطبوع: «الرمادي»، وهو تصحيفٌ يدل عليه السِّياق والسِّباق. (2) لم أجده، وانظر: «الحاوي الكبير» (14/ 326). (3) في «التنبيه» (ص 238). (4) في الأصل هنا وفي مواضع آتية كثيرة: «ان»، وقد تقدَّم التنبيه عليه. (5) كما في حديث ابن عمر عند أبي داود (4064) وأبي يعلى (5645) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبغ بالصُّفرة «ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها، وقد كان يصبغ ثيابه كلها حتى عمامته». إسناده حسن، وأصله في البخاري (166) ومسلم (5851) من وجهٍ آخر. وانظر: «الفتح» (10/ 305). (6) لم أجده، وكذا ما ذكره عن الأنصار.

(2/399)


فيُمنعون من لبسه ولا يمكَّنون. قلت: هذا موضع يحتاج إلى بيان وتفصيل، وهو أنَّ لباس أهل الذمة الذي يتميَّزون به عن المسلمين نوعان: نوع مُنعوا منه لشرفه وعلوه، فهذا لا يختلف باختلاف العوائد. ونوع منعوا منه ليتميزوا به عن المسلمين، فإذا هجره المسلمون وصار من شعار الكفار لم يُمنَعوا منه. فمن ذلك لباس الأصفر والأزرق لمَّا صار من شعارهم فوق الرؤوس والمسلمون لا يلبسونه= لم يمنع منه أهل الذمة. فإنَّ المقصود بالغيار ما يميِّزهم به عن المسلمين بحيث يُعرَفون أنَّهم من أهل الذِّمَّة والذِّلَّة. وقد تقدَّم (1) حديث خالد بن عُرفُطة قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الأمصار أن تُجَزَّ نواصيهم ــ يعني النصارى ــ ولا يَلبَسوا لبسة المسلمين حتى يُعرَفوا. فصل قال أبو القاسم الطبري: وأمَّا المرأة إذا خرجت فيكون أحد خُفَّيْها أحمر حتى يُعرَف بأنَّها ذِمِّيَّةٌ. وقد روى هشام بن الغاز عن مكحول وسليمان بن موسى أنَّ عمر كتب إلى أهل الشام: امنعوا نساءهم أن يدخلن مع نسائكم الحمَّامات (2). _________ (1) (ص 373). (2) لم أجده من هذا الوجه. وقد أخرج عبد الرزاق (1134) وسعيد بن منصور (1580 - تفسير) والطبري في «تفسيره» (17/ 265) عن هشام بن الغاز عن عُبادة بن نُسيٍّ قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد، فقد بلغني أن نساء المسلمين يدخلن الحمامات ومعهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك، وحُلْ دُونَه.

(2/400)


وقال أحمد بن حنبل: أكره أن يطَّلع أهلُ الذمة على عورات المسلمين (1). قال أبو القاسم: وهذا صحيح، إنَّ نساء أهل الذمة لَسْنَ بثقاتٍ على شيء من أمور المسلمين، فلا يُؤمَن الفساد. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباشر [المرأة] المرأة فتَنعَتَها لزوجها حتى كأنه ينظر إليها (2). يعني: فيفضي ذلك إلى وصف الذمِّيَّة المسلمةَ لزوجها الذميِّ حتى كأنَّه يشاهدها، فكره أحمد لهذا المعنى. قال: وقد رُوِي كراهتُه عن عبد الله بن بُسْر (3)، وهو من أعلى (4) _________ (1) انظر: «الجامع» (2/ 458). (2) أخرجه البخاري (5240) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (3) في الأصل: «بشر»، وليس في التابعين من أهل الشام أحد بهذا الاسم، وقد جاء بالسين المهملة في الموضع الآتي. والكراهة إنما رويت بالإسناد الآتي عن عُبادة بن نُسيٍّ الكندي الأردني، أحد سادات التابعين في الشام. أما «عبد الله بن بُسر» فهناك اثنان في الشام بهذا الاسم في عصر التابعين، أحدهما تابعي صغير، وهو ضعيف ولا يصدق عليه وصف أبي القاسم بأنه من «أعلى [لعله: أعلم] التابعين من أهل الشام». والثاني هو عبد الله بن بُسر المازني الحِمْصي، وهو يصدق عليه ذلك لولا أن له صحبةً يسيرةً وهو صغير. وأيًّا كان، فثَمَّ خلط أو تصحيف ــ أو هما معًا ــ في الاسم الواقع في كلام أبي القاسم وفي إسناده الآتي. (4) كذا، ولعله تصحيف عن «أعلم».

(2/401)


التابعين من أهل الشام. ثم ساق من طريق عيسى بن يونس، عن أبي إسحاق، عن هشام بن الغاز: أن عبد الله بن بُسْر كَرِه أن تَقْبَل النصرانيةُ وأن تَرى عورتها (1). قلت: أحمد احتجَّ بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى أن قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]، فخصَّ نساء المسلمات بجواز إبداء الزينة لهن دون الكوافر (2). ثم ذكر أحمد هذا الأثر، فعنده في إحدى الروايتين أنَّ المسلمة مع الكافرة كالأجنبي (3) الذي ينظر إلى [ما] تدعو إليه الحاجة، والله أعلم. فصل قالوا: (ولا نتكلم بكلامهم). هذا الشرط في أهل الكتاب الذين لغتهم غير لغة [العرب]، كنصارى الشام والجزيرة إذ ذاك وغيرهما من البلاد، دون نصارى العرب الذين لم تكن لغتهم غير العربية. _________ (1) وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور (1577 - تفسير) والطبري (17/ 265)، كلاهما من طريق عيسى بن يونس، عن هشام بن الغاز، عن عبادة بن نُسيٍّ أنه كره أن تقبل النصرانيةُ المسلمةَ أو ترى عورتها، ويتأول: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]. ومعنى «تَقْبَل النصرانية»: أن تكون قابلةً، وهي التي تتلقَّى الولد عند الولادة. (2) انظر: «الجامع» (2/ 456 - 458)، «ومسائل ابن هانئ» (2/ 149). (3) في الأصل والمطبوع: «كالأختين»! وواضح أنه تصحيف عن المثبت، وما بعده يؤيده، وغيَّر في المطبوع ما بعده إلى: «اللَّتين تنظران» ليقيم السياق!

(2/402)


فمنَعهم عمرُ من التكلُّم بكلام العرب لئلَّا يتشبَّهوا بهم في كلامهم كما مُنِعوا من التشبُّه بهم في زيِّهم ولباسهم ومراكبهم وهيئات شعورهم، فألزمهم التكلُّم بلسانهم ليُعرَفوا حين التكلُّم أنَّهم كفارٌ. فيكون هذا من كمال التميُّز، مع ما في ذلك من تعظيم كلام العرب ولغتهم، حيث لم يسلَّط عليها الأنجاس والأخابث يبتذلونها ويتكلَّمون بها، كيف وقد أنزل الله بها أشرف كتبه، ومدحه بلسان عربي؟! وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ لسان أهل الجنة عربي (1). فصان أمير المؤمنين هذا اللسانَ عن أهل الجحيم وغار عليه أن يتكلَّموا به. وهذا من كمال تعظيمه للإسلام والقرآن والعرب الذين (2) نزل القرآن بلغتهم، وبعث الله رسوله من أنفسهم. _________ (1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5583) وفي «الكبير» (11/ 185) والعقيلي في «الضعفاء» (4559) والحاكم (4/ 87) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1364، 1496) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وفيه العلاء بن عمرو الحنفي: متروك لا يحل الاحتجاج به. قال أبو حاتم ــ كما في «العلل» لابنه (2641) ــ: هذا حديث كذب. وقال العقيلي: منكر لا أصل له. وله طريق آخر عند الحاكم (4/ 87) وأبي نعيم في «صفة الجنة» (268) والبيهقي في «الشعب» (1364)، وفيه محمد بن الفضل بن عطية العبسي: كذَّاب. ورُوي من حديث أبي هريرة عند الطبراني في «الأوسط» (9147) وأبي نعيم في «صفة الجنة» (269) بإسنادين واهيين، فيهما راوٍ فأكثر من المتروكين. وانظر: «الضعيفة» (160، 161). (2) في الأصل: «الذي».

(2/403)


مع ما في تمكينهم من التكلُّم بها من المفاسد التي منها جَدَلُهم (1) فيها واستطالتهم على المسلمين، كما سبق [أنْ] وقع لابن المقفَّع (2) لمَّا حذق في العربية وكان مجوسيًّا، فطفق يَغْمِص الإسلامَ وأهله، ثم لما خاف المسلمين (3) أظهر الإسلام. [و] كالصابئ الكاتب (4) الذي علا المسلمين في كتابته وترسُّله، ثم هجا العرب في قصيدة له مشهورة ومَدَح عبَّاد الكواكب من الصابئة والمجوس. ونظائرهما كثيرٌ، فلو لم يكن في تعلُّم الكفار العربيةَ إلا هذه المفسدة وحدَها لكان ينبغي أن يُمنَعوا منها لأجلها. فصل قالوا: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية). وهذا يحتمل أمورًا: أحدها: أن يريد منعهم السبيل إلى الكتابة بالعربية بحالٍ حتى في نقش الخواتيم، فلا يستعلون (5) على المسلمين. _________ (1) في الأصل: «جدفهم»، ولعله تصحيف عن المثبت. (2) في الأصل والمطبوع: «لابن البيِّع»! والظاهر أنه تصحيف عن المثبت. ومعروف أن ابن المقفَّع كان مجوسيًّا ثم أسلم، وقد اتُّهِم بالزندقة. انظر: «السير» (6/ 208) و «لسان الميزان» (5/ 21). (3) في الأصل: «المسلمون»، خطأ. (4) الظاهر أن المراد: أبو إسحاق، إبراهيم بن هلال الحرَّاني، الصابئ المشرك، صاحب الترسُّل البديع، والإنشاء البليغ. مات 384، وقيل: قتله عضُد الدولة لما في تاريخه الذي ألَّفه من الأكاذيب والأباطيل. انظر: «السير» (16/ 523). (5) في الأصل: «فيعلمون»، والمثبت من نشرة صبحي الصالح - رحمه الله -.

(2/404)


وثالثها (1): أنَّهم ربما توسلوا بذلك إلى مفاسدَ يعود ضررُها على المسلمين. ورابعها: أنَّ في ذلك تشبُّهًا بالمسلمين في نقش خواتيمهم. وقد روى أبو داود (2) وغيره أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينقش الرجل على خاتمه عربيًّا. وحُمل هذا النهي على نقش [مثل نقشه] (3)، يعني: وهو الذي نُقش على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو: «محمد رسول الله»؛ نهى أن ينقش أحدٌ مثل ذلك على خاتمه لما في الاشتراك في ذلك النقش من المفسدة. ويدلُّ عليه الحديث الآخر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من فضةٍ ونقش عليه «محمد رسول الله»، ونهى أن ينقش أحدٌ مثل نقشه (4)، فلعلَّ الراوي _________ (1) كذا في الأصل، وكتب عليه «كذا» بالحمرة. (2) ليس عند أبي داود، وإنما أخرجه أحمد (11954) ومسدَّد ــ ومن طريقه البيهقي (10/ 127) ــ والنسائي (5209) وغيرهم من حديث أزهر بن راشد عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا. إسناده ضعيف لجهالة أزهر بن راشد. وله طريق آخر عن أنس عند البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 16)، وهو ضعيف لجهالة بعض رواته أيضًا. وقد صحَّ عن أنس: أن عمر نهى عن ذلك، فقد أخرج ابن أبي شيبة (25625) والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 455) بإسناديهما عن قتادة عن أنس أن عمر قال: لا تنقشوا ولا تكتبوا في خواتمكم بالعربية. لفظ ابن أبي شيبة. (3) زيادة لازمة لإقامة السياق. (4) أخرجه مسلم (2091، 2092) من حديث عبد الله بن عمر وحديث أنس - رضي الله عنهم -.

(2/405)


وَهِم في الحديث وقال: نهى أن ينقش عربيًّا (1). وقد يقال: إنَّ ذلك من باب سدِّ الذَّرِيعة، حتى يُصَان ذلك النقش عن المُحاكاة، فنهى عن النقش بالعربية مطلقًا، ولهذا نظائر في الشريعة لمَن تأمَّلها. فصل قالوا: (ولا نتكنَّى بكناهم). وهذا لأنَّ الكُنْيَة وُضِعت تعظيمًا وتكريمًا للمَكْنِيِّ بها كما قال (2): أَكْنيه حين أُناديه لأكرمه ... ولا ألقِّبُه والسَّوأةَ اللَّقَبا وأيضًا ففي تكنِّيهم بكُنى المسلمين اشتباهٌ بالكنية، والمقصود التمييز حتى في الهيئة والمركب واللباس. فإن قيل: فما تقولون في جواز تسمِّيهم بأسماء المسلمين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله وعبد الرحمن وما أشبهها؟ قيل: هذا موضع فيه تفصيلٌ، فنقول: الأسماء ثلاثة أقسام: قسمٌ يختص المسلمين، قسمٌ يختص الكفار، قسمٌ مشتركٌ. فالأول: كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة _________ (1) ولعل الراوي التبس عليه ما رواه أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما رواه أنس عن عمر. (2) قاله بعض الفزاريين مع بيت آخر بعده، كما في «حماسة أبي تمام» (3/ 1146 - شرح المرزوقي).

(2/406)


والزبير، فهذا النوع لا يمكَّنون من التسمِّي به، والمنع منه أولى من المنع من التكنِّي بكُنى (1) المسلمين، فصيانة هذه الأسماء عن أخابث خلق الله أمرٌ جسيمٌ. والثاني: كجِرجِس وبُطرُس ويُوحَنَّا ومَتَّى ونحوها، فلا يُمنَعون منه ولا يجوز للمسلمين أن يتسمَّوا بذلك، لِما فيه من المشابهة فيما يختصون به. والنوع الثالث: كيحيى وعيسى وأيوب وداود وسليمان وزيد وعمرو (2) وعبد الله وعطية وموهوب وسلام ونحوها، فهذا لا يمنع منه أهل الذمة ولا المسلمون. فإن قيل: فكيف تمنعونهم من التسمِّي بأسماء المسلمين وتمكِّنونهم من التسمية بأسماء الأنبياء كيحيى وعيسى وداود وسليمان وإبراهيم ويوسف ويعقوب؟ قيل: لأنَّ هذه الأسماء قد كثر اشتراكها بين المسلمين والكفار بخلاف أسماء الصحابة واسم نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - فإنَّها مختصَّة، فلا يمكَّن أهل الذمة من التسمِّي بها. وقد قال الخلال في «الجامع» (3): بابٌ في أهل الذمة يكنون. أخبرني حربٌ قال: قلت لأحمد: أهل الذمة يكنون؟ قال: نعم لا بأس، وذكر أنَّ عمر بن الخطاب قد كنى. _________ (1) في الأصل: «بكناية»، ولعل: «ية» مقحم فيه خطأً. (2) في الأصل والمطبوع: «وعمر»، خطأ. وقد سبق «عمر» في قسم يختص المسلمين. (3) (2/ 464 - 465).

(2/407)


أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدَّثهم قال: رأيت أبا عبد الله كنى نصرانيًّا طبيبًا، قال: يا أبا إسحاق. ثم أخرج إليَّ فيه بابًا. أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، حدثنا إسحاق (1) بن منصور (2) أنَّه قال لأبي عبد الله: يُكرَه أن يُكْنى المشرك (3)؟ فقال: أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دخل على (4) سعد بن عبادة قال: «ما ترى ما يقول أبو الحُبَاب (5)؟» (6). أخبرني محمد بن أبي هارون أنَّ أبا الحارث حدَّثهم قال: سألت أبا عبد الله: أيكنى الذمي؟ قال: نعم، قد روي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأُسقُف نجران: «أَسلِم يا أبا الحارث» (7). أخبرني أحمد بن محمد بن مطر، وزكريا بن يحيى، قالا: حدثنا أبو طالب أنَّه سأل أبا عبد الله: يَكْني الرجلُ أهل الذمة؟ قال: قد كَنَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقف نجران، وعمر - رضي الله عنه - قال: يا أبا حسان؛ إن كنى أرجو أنه لا بأس به. _________ (1) بعده في الأصل: «ثم أخرج»، أُقحم سهوًا لانتقال النظر إلى السطر السابق. (2) وهو في «مسائله» (2/ 597). (3) في الأصل: «المسلم»، خطأ. (4) في الأصل: «عليه»، تصحيف. (5) كذا، وفي «الجامع» ومصادر التخريج: «أبو حُباب». وهو عبد الله بن أبيٍّ ابنُ سلول، وكان مشركًا آنذاك، لم يُسلم بعدُ. (6) أخرجه أيضًا في «مسنده» (21767) والبخاري (4566) ومسلم (1798) من حديث أسامة بن زيد. (7) أخرجه عبد الرزاق (19220) وابن أبي شيبة (38175) من حديث قتادة مرسلًا.

(2/408)


أخبرني محمد (1) بن علي، حدثنا مُهَنَّا قال: سألت أحمد: هل يصلح تكنِّي (2) اليهودي والنصراني؟ فحدثني أحمد، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لنصراني: أسلم يا أبا حسان، أَسلِم تَسْلَم (3). قلت: ومدار هذا الباب وغيره ممَّا تقدَّم على المصلحة الراجحة، فإن كان في كنيته، [و] تمكينه من اللباس وترك الغيار، والسلام عليه أيضًا، ونحوِ ذلك تأليفًا (4) له، ورجاءَ إسلامه وإسلام غيره= كان فعله أولى، كما يُعطِيه من مال الله لتألُّفه على الإسلام، فتألُّفه بذلك أولى. وقد ذكر وكيعٌ عن ابن عباس أنَّه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: سلامٌ عليك (5). ومَن تأمَّل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في تأليفهم الناسَ على الإسلام بكلِّ _________ (1) في الأصل: «علي»، تصحيف. (2) هذا مقتضى النقط في الأصل، ويصح: «نكني» كما في مطبوعة «الجامع». (3) لم أجده عند غيره. وهو مرسل، يحيى بن أبي كثير لم يُدرك عمر. (4) كذا في الأصل على توهُّم كونه خبر «كان». (5) أخرجه ابن أبي شيبة (26262) والخلال في «الجامع» (2/ 467) عن ابن عباس بإسنادٍ فيه رجل مبهم. وأخرجه ابن حبَّان (6556) من طريق آخر ــ رواته كلُّهم ثقات ــ عن ابن عباس مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى حبر تَيماء فسلَّم عليه. وهذا الرفع وهم من بعض الرواة، فإن الذي كتب إلى الحَبْرِ ابنُ عباس، كتب إليه يسأله عن بعض الآيات كيف تفسيرها في أسفارهم، كما جاء مطوَّلًا عند سعيد بن منصور (898 - تفسير) والطبري (9/ 438) وابن أبي حاتم (3/ 761).

(2/409)


طريقٍ تبيَّن له حقيقة الأمر، وعلم أنَّ كثيرًا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة. ولهذا لم يغيِّرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر - رضي الله عنه -، وغيَّرهم عمر - رضي الله عنه -. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسقف نجران: «أَسلِم يا أبا الحارث» تأليفًا له واستدعاءً لإسلامه، لا تعظيمًا له وتوقيرًا. فصل وأمَّا أن يخاطب بسيدنا ومولانا ونحوِ ذلك فحرامٌ قطعًا. وفي الحديث المرفوع: «لا تقولوا للمنافق سيِّدنا، فإن يكنْ سيِّدَكم فقد أَغضَبتُم ربَّكم» (1). وأمَّا تلقيبهم بمُعِزِّ الدَّولة وعَضُد الدَّولة ونحو ذلك فلا يجوز، [كما أنَّه لا يجوز] (2) أن يُسمَّى سديدًا ولا رشيدًا ولا مؤيَّدًا ولا صالحًا ونحو ذلك. ومن تَسمَّى بشيء من هذه الأسماء لم يَجُز للمسلم أن يدعوه به، بل إن _________ (1) أخرجه أحمد (22939) والبخاري في «الأدب المفرد» (760) وأبو داود (4977) والنسائي في «الكبرى» (10002) وغيرهم من حديث قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. رواته ثقات إلا أن قتادة لا يُعرَف له سماعًا من عبد الله بن بريدة، كما قال البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 12) وغيرُه. وتابع قتادةَ عقبةُ بن عبد الله الأصم عند الحاكم (4/ 311)، ولكن عقبة هذا ليس بثقة، ولعله أخذه عن قتادة فدلَّسه، فهو ممن يروي عن قتادة. (2) ما بين الحاصرتين زاده صبحي الصالح لإقامة السياق، والظاهر أنه سقط من الأصل نحوُها لانتقال النظر.

(2/410)


كان نصرانيًا قال: يا مسيحي (1) يا صليبي، ويقال لليهودي: يا إسرائيلي يا يهودي. وأمَّا اليوم فقد دُفِعنا (2) إلى زمان يُصدَّرون في المجالس، ويقام لهم، وتُقبَّل أيديهم، ويتحكَّمون في أرزاق الجند والأموال السلطانية، ويُكْنَون بأبي العلاء وأبي الفضل وأبي الطيب، ويُسمَّون حَسَنًا وحُسينًا وعثمان وعليًّا. وقد كانت أسماؤهم من قبل يُوحَنَّا ومَتَّى وحنانيا (3) وجرجس وبطرس ومارجرجس ومارقس ونحو ذلك، وأسماء اليهود: عزرا وأشعيا ويوشع وحزقيل وإسرائيل وسَعْية وحُيَيٌّ ومِشكمٌ ووَقْش (4) وسموأل ونحو ذلك؛ ولكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجالٌ. فصل وممَّا يتعلَّق بهذا الفصل: كيف يُكتَب إليهم. قال الخلال (5): بابٌ كيف عنوان الكتاب وصدره (6) إليهم. أخبرنا _________ (1) في الأصل: «شيخي»، تحريف! (2) رسمه غير محرَّر في الأصل، فأثبت صبحي الصالح: «وُفِّقنا». ولعل المثبت أشبه. (3) رسمه في الأصل: «»، غير محررٍ. في المطبوع: «حنينًا»، وهو مُحتمل. والمثبت من أسماء النصارى ــ وما زال ــ في الشام ومصر. (4) كذا في الأصل، وغيّره صبحي الصالح إلى «مرقس» مع أنه سبق آنفًا في أسماء النصارى. (5) في «الجامع» (2/ 467). (6) في الأصل: «ويصدر»، والتصحيح من «الجامع».

(2/411)


أحمد بن محمد بن حازم أنَّ إسحاق بن منصور (1) حدَّثهم أنَّه قال لأبي عبد الله: كيف يكتب الرجل إلى أهل الكتاب؟ فقال: لا أدري كيف أقول الساعة، ثم عاوَدتُّه فسكت، فقلت: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كتب إلى قيصر؟ قال: عمَّن هو؟ قلت: حديث الزهري (2). قال: نعم، يكتب: السلام على من اتبع الهدى. وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: كيف أكتب إلى اليهودي والنصراني، سلامٌ عليك أو سلامٌ على من اتبع الهدى؟ قال: سلامٌ على من اتبع الهدى، يُذِلُّه. وقال الأثرم: إنَّ أبا عبد الله قيل له يُكتَب إلى النصراني: أبقاك الله وحفظك ووفَّقك؟ قال: لا. وقال حربٌ (3): قلت لإسحاق: الرجل يقول للمشرك: إنَّه رجل عاقلٌ، قال: لا ينبغي أن يقال لهم، لأنَّهم ليست لهم عقول. وذكر وكيعٌ، عن سفيان، عن منصور قال: سألت [إبراهيم و] مُجاهدًا: كيف يكتب إلى أهل الذمة؟ فقال مجاهدٌ: سلام على من اتبع الهدى. وقال إبراهيم: سلامٌ عليك (4). _________ (1) وهو في «مسائله» (2/ 538). (2) أخرجه البخاري (6260) ومسلم (1773) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس. (3) وهو في «مسائله» (2/ 881) تحقيق: فائز حابس (رسالة جامعية). (4) أسنده الخلال عن محمد بن إسماعيل الأحمسي عن وكيع به. وأخرجه ابن أبي شيبة (34230) عن وكيع به، وأخرجه أيضًا (26263) عن جرير عن منصور به مقتصرًا على قول مجاهد. وأخرجه عبد الرزاق (9847) عن الثوري به.

(2/412)


وقال وكيعٌ، عن سفيان، عن عمَّارٍ الدُّهني، عن رجل، عن كُرَيب، عن ابن عباس أنَّه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: سلامٌ عليك (1). قلت: إن ثبت هذا عن ابن عباس، وهو راوي حديث أبي سفيان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر: «سلامٌ على من اتبع الهدى» = فلعلَّه ظنَّ أنَّ ذلك مكاتبةُ أهل الحرب ومَن ليس له ذِمَّةٌ. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبدؤوهم بالسلام»، فهو في واقعةٍ معينة؛ قال: «إني ذاهب إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام» (2)، وهذا لمَّا ذهب إليهم ليُحارِبهم وهم يهود قريظة، فأمر أن لا يبدؤوا بالسلام لأنَّه أمانٌ وهو قد ذهب لحربهم، سمعت شيخنا يقول ذلك. ولكن في الحديث الصحيح: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسَّلام، وإذا سلَّم عليكم أحدُهم فقولوا: وعليكم» (3). وقد تقدَّمت هذه المسألة (4). _________ (1) تقدم تخريجه (ص 409). (2) «فهو في واقعة ... بالسلام» سقط من المطبوع. والحديث أخرجه أحمد (27236) والبخاري في «الأدب المفرد» (1102) وابن أبي شيبة (26278) والطبراني في «الكبير» (2/ 277، 278) من حديث أبي بَصرة الغِفاري - رضي الله عنه - بإسناد صحيح. (3) لم أجده بهذا السياق. وموضع الشاهد منه ــ وهو أوَّله ــ قد أخرجه أحمد (7617) مسلم (2167) وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطرُّوه إلى أضيقه». (4) (1/ 269 - 281).

(2/413)


وإذا كتب إلى الذمي بدأ بنفسه قبله، فيقول: من فلانٍ إلى فلانٍ. وله أن يعظِّمه بالنسبة إلى قومه فيقول: كبير قومه ورئيسهم، وله أن يدعو له بالهداية فقد كانت اليهود تتعاطس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقول لأحدهم: «يرحمك الله»، فكان يقول: «يهديكم الله» (1). فصل قالوا: (ونُوقِّر المسلمين في مجالسهم، ونقوم لهم عن المجالس، ولا نطَّلع عليهم في منازلهم، ونُرشِد الطريق). هذه أربعة أمور: أحدها: توقير المسلمين في مجالسهم، والتوقير: التعظيم والاحتشام لهم، ولا يمكرون عليهم بمكر، ولا يدخلون عليهم بغير استئذان، ولا يفعلون بين أيديهم ما يُخِلُّ بالوقار والأدب، ويُحيُّونهم بتحيَّة أمثالهم، ولا يمُدُّون أرجلَهم بحضرتهم، ولا يرفعون أصواتهم بين أيديهم، ونحو ذلك. الثاني: قولهم: (ونقوم لهم عن المجالس)، أي إذا دخلوا ونحن في مجلس قُمنا لهم عنه وأجلسناهم فيه، فيكون لهم صدره ولنا أدناه. وهذا يعُمُّ المجالس المشتركة والمختصة بهم، فإذا دخلوا عليهم دُورهم وكنائسهم قاموا لهم عن مجالسهم وأجلسوهم فيها. _________ (1) أخرجه أحمد (19586) والبخاري في «الأدب المفرد» (940، 1114) وأبو داود (5038) والترمذي (2739) والنسائي في «الكبرى» (9990) والحاكم (4/ 268) وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر: «أنيس الساري» (2701).

(2/414)


الثالث: قولهم: (ولا نطلع عليهم في منازلهم)، هذا صريحٌ في أنَّهم لا يَعلُون عليهم في المسكن سواءٌ كان مِن بنيانهم أو بنيان غيرهم، فلا يمكَّنون من سُكنى دارٍ عاليةٍ على المسلمين، لأنَّ ذلك ذريعةٌ إلى اطِّلاعهم عليهم. وهذا الذي ندين الله به ولا نعتقد غيره: أنَّهم لا يمكَّنون من السكنى على رؤوس المسلمين بحال. وقد تقدَّمت المسألة مستوفاةً (1)، وبيَّنَّا أنَّ المفسدة في نفس السكنى فوق رؤوسهم (2) لا في نفس البناء. الرابع: قولهم: (ونرشدهم الطريق)، أي إذا استدلَّ مسلم على الطريق أرشدناه إلى النحو الذي يقصده ويريده. وهذا يتناول الإرشاد بنصب الأعلام وبالدلالة وبإرسال من يدلُّ المسلم على الطريق (3) بحسب الحاجة إلى الإرشاد. فصل قالوا: (ولا نعلم أولادنا القرآن) صيانةً للقرآن أن يحفظه مَن ليس مِن أهله ولا يؤمن به، بل هو كافرٌ به، فهذا ليس أهلًا أن يحفظه ولا يمكَّن منه. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله _________ (1) (ص 324 - 329). (2) «السكنى فوق رؤوسهم» تحرَّف في الأصل إلى: «المسلمين فيهم» وعليه علامة الاستشكال بالحمرة. وأثبت صبحي الصالح: «المسلمين لقصورٍ فيهم»، ولا معنى له. (3) في الأصل: «من يدل على الطريق على المسلم»، مع استشكاله بـ «ظ» في الهامش. والتصحيح من نشرة صبحي الصالح.

(2/415)


أيديهم (1)، فلهذا ينبغي أن يُصان عن تلقينهم إيَّاه. فإن طلب أحدٌ منهم أن يَسمعه منهم (2)، فإنَّ له أن يُسمِعه إيَّاه إقامةً للحجة عليهم، ولعلَّه أن يُسلِم. * * * _________ (1) أخرجه البخاري (2990) ومسلم (1869) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (2) كتب عليه «كذا» بالحمرة.

(2/416)


فصل (1) قالوا: (ولا يشارك أحدٌ منَّا مسلمًا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمرُ التجارة). وهذا لأنَّ الذمي لا يتوقَّى ممَّا يتوقَّى منه المسلم من العقود المحرَّمة (2) والباطلة، ولا يتوقى من (3) بيع الخمر والخنزير. وقد قال إسحاق بن إبراهيم (4): سمعت أبا عبد الله، وسُئل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني، قال: يشاركهم، ولكن هو يلي البيع والشراء، وذلك أنَّهم يأكلون الرِّبا ويستحلُّون الأموال. ثم قال أبو عبد الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي اِلْأُمِّيِّينَ سَبِيل} [آل عمران: 74]. وقال إبراهيم بن هانئ: سمعت أبا عبد الله قال في شركة اليهودي والنصراني: أكرهه، لا يعجبني إلا أن يكون المسلم الذي يلي البيع والشراء. وقال أبو طالب والأثرم ــ واللفظ له ــ: سألت أبا عبد الله عن شركة اليهودي والنصراني؟ فقال: شاركهم، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه، ويكون هو يليه؛ لأنَّهم يعملون بالربا. _________ (1) هذا الفصل هو «الفصل السادس: في أمر معاملتهم للمسلمين بالشَّرِكة ونحوها»، حسب تقسيم المؤلف المذكور (ص 278). (2) في الأصل: «المخزية»! (3) في الأصل: «ولا يرون» وعليه علامة استشكال بالحمرة. ولعله تصحيف عن المثبت. (4) كما في «الجامع» (1/ 185). والنقول الآتية منه على التوالي.

(2/417)


وقال إسحاق بن منصور (1): قلت لأبي عبد الله: قيل لسفيان: ما ترى (2) في مشاركة اليهودي والنصراني؟ قال: أمَّا ما يغيب عنك فما يعجبني. قال أحمد: حسن. وذكر عبد الله بن أحمد حديثَ [عبد] الأعلى، حدثنا حماد بن سلمة قال: قال إياس بن معاوية: إذا شارك المسلم اليهودي أو النصراني فكانت الدراهم مع المسلم فهو الذي يتصرف فيها في الشراء والبيع فلا بأس، ولا يدفعها إلى اليهودي والنصراني يعملان فيها، لأنَّهما يُربيان (3). قال: فسألت أبي عن ذلك فقال مثل قول إياس. وقال في رواية العباس بن محمد بن موسى الخلال في المسلم يدفع إلى الذمي مالًا يشاركه، قال: أمَّا إذا كان هو يلي ذلك فلا، إلا أن يكون المسلم يليه. وقال في رواية حنبل: ما أحب مخالطته بسبب من الأسباب في الشراء والبيع. يعني: المجوسي. وقال عبد الله قلت لأبي: ترى للرجل أن يشارك اليهودي والنصراني؟ قال: لا بأس، إلا أنه لا يجعل المعاملة في البيع والشراء [إليه]، يشرف علاه ولا يدعه، حتى [يعلم] معاملته وبيعه. فأمَّا المجوسي فلا أحب مخالطته ولا معاملته؛ لأنه يستحِلُّ ما لا يستحلُّ هذا. _________ (1) وهو في «مسائله» (2/ 43). (2) في الأصل: «يروى»، تصحيف. (3) وأخرجه ابن أبي شيبة (20353) عن زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة به بنحو.

(2/418)


وكذلك قال في رواية حرب: لا يشاركه إلا أن يكون المسلم هو الذي يلي البيع والشراء. وروى حرب (1) عن عطاء مرسلًا قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم. وقد تقدَّمت هذه المسألة مستوفاةً (2)، وإنَّما ذكرناها ليتمَّ الكلام على شرح كتاب عمر - رضي الله عنه -، لمَن أراد أن يُفرِده من جملة الكتاب. وبالله التوفيق. * * * _________ (1) وأخرجه ابن أبي شيبة (20348، 20351) عن عطاء موقوفًا، وهو الصواب. (2) (1/ 377 - 383).

(2/419)


فصل (1) قالوا: (وأن نضيف كلَّ مسلم عابر سبيل ثلاثةَ أيام، ونُطعِمه من أوسط ما نجد). هكذا في كتاب الشروط: (ثلاثة أيام). وقال يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن أسلم: كتب [عمر] إلى أمراء الجزيرة أن لا تضربوا جزيةً على النساء والصبيان، وجزية أهل الشام وأهل الجزيرة أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورق، وأن يضيفوا من نزل بهم من المسلمين ثلاثًا (2). والأصل في ذلك من السُّنَّة ما رواه أبو عبيد في «كتاب الأموال» (3): _________ (1) هذا الفصل والذي يليه يندرجان تحت «الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلَّق بها»، حسب تقسيم المؤلف المذكور (ص 278). (2) أخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (154) والبيهقي (9/ 195) من طريقين آخرين عن عبيد الله عن نافع به. وأخرجه مالك (757)؛ وعبد الرزاق (10090) عن عبد الله العمري؛ كلاهما عن نافع به بنحوه. (3) برقم (517)، وأخرجه ابن زنجويه (732) وابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/ 584). وهو مرسل، وعبيد الله بن أبي حميد: ضعيف، متروك الحديث. وله شاهد عند البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 385 - 389) من حديث يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يَشُوع ــ وكان نصرانيًّا فأسلم ــ عن أبيه، عن جدّه، وفيه: «وعلى نجران مؤنة رسلي ومُتْعتهم ما بين عشرين يومًا فدونه». وشاهد آخر من مرسل الزهري عند البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 85)، ولفظه: «على أن يضيفوا رُسُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا فما دونه».

(2/420)


حدثني أبو أيوب الدمشقي قال: حدثني سعدان بن يحيى (1)، عن عبيد الله بن أبي حميد (2)، عن أبي المَلِيح الهُذَلي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَالَح أهل نجران فكتب لهم كتابًا نسختُه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد رسول الله لأهل (3) نجران؛ أن (4) كان له حكمُه عليهم: أنَّ في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء وثمرة (5) ورقيقٍ، وأفضَلَ عليهم وترك ذلك لهم: ألفَي حُلَّةٍ: في كل صفرٍ ألف حلةٍ، وفي كل رجبٍ ألف حلة؛ كلُّ حلة أوقيةٌ، ما زاد الخراجُ أو نقص فعلى الأواقي فلتُحسَبْ (6)، وعلى أهل نجران مَقْرى (7) رُسُلي عشرين ليلةً». قال أبو عبيد (8): قوله: «كلُّ حلَّة أوقيةٌ» يقول: ثمنها أوقيةٌ. «فما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي»، يقول: إن نقص من الألفين أو زادت في _________ (1) في مطبوعة «الأموال»: «حدثني أيوب الدمشقي قال: حدثني سعدان بن أبي يحيى»، بسقطِ «أبو» وإقحامِ «أبي»، فليصحَّح. أبو أيوب هو: سليمان ابن بنت شُرحبيل (ت 233)، وسعدان بن يحيى: هو سعيد بن يحيى اللخمي الكوفي. (2) في الأصل: «خيثمة»، تصحيف. (3) في الأصل: «رسول الله صالح أهل». والظاهر أنه خطأ نشأ عن انتقال النظر إلى السطر السابق. (4) في «الأمول» وغيره: «إذ». (5) في الأصل: «بره»، تصحيف. (6) بعده في «الأموال»: «وما قضوا من ركابٍ أو خيلٍ أو دروعٍ أُخِذ منهم بحسابٍ»، وأخشى أن يكون سقط لانتقال النظر. (7) في الأصل: «تقري»، تصحيف. (8) «الأموال» (1/ 298).

(2/421)


العدد أُخِذ بقيمة الألفي أوقيةٍ، فكأن الخراج وقع على الأواقي، وجعَلَها حُلَلًا لأنَّه أسهل عليهم. فهذا هو الأصل في وجوب الضِّيافة على أهل الذمة: سنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنَّة الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه -. وفي ذلك مصلحةٌ لأغنياء المسلمين وفقرائهم. أمَّا الأغنياء، فإنَّه إذا لم يكن على أهل الذمة ضيافتهم فربَّما إذا دخلوا بلادهم لا يبيعونهم الطعام، ويقصدون الإضرار (1) بهم، فإذا كانت عليهم ضيافتهم تسارعوا إلى منافعهم خوفًا من أن ينزلوا عليهم للضيافة فيأكلون بلا عوض. وأمَّا مصلحة الفقراء فهو ما يحصل لهم من الارتفاق. فلمَّا كان في ذلك مصلحةٌ لعموم المسلمين جاز اشتراطه على أهل الذمة. قال الخلال في «الجامع» (2): بابٌ في الضيافة التي شرطت عليهم. أخبرني محمد بن علي، حدثنا مهنَّا أنه سأل أبا عبد الله عن حديث ابن أبي ليلى: جعل عمر - رضي الله عنه - على أهل السواد وعلى أهل الجزية يومًا وليلةً (3)، قال: قلت لأحمد: ما يومٌ وليلةٌ؟ قال: يضيفونهم. وقال حمدان (4) بن علي: قلت لأحمد: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - _________ (1) في الأصل: «الإضار»، تصحيف. (2) (2/ 435). (3) أخرجه ابن أبي شيبة (34154) وابن زنجويه (595)، كلاهما من طريق شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. وابن أبي ليلى لم يدرك عمر، ولكن سيأتي من طريقين آخرين متصلين. (4) في «الجامع»: «محمد»، وهو اسمه، و «حمدان» لقب. هو أبو جعفر الورَّاق البغدادي الحافظ، من فضلاء أصحاب الإمام أحمد (ت 272).

(2/422)


جعل على أهل السواد وأهل الجزية يومًا وليلةً، فكنَّا إذا نزلنا (1) عليهم قالوا: شَبا شَبا. قلت لأحمد: ما يومٌ وليلةٌ؟ قال: يضيفونهم، قلت: ما قولهم: شَبا شَبا؟ قال: هو بالفارسية: ليلةً ليلةً. وقال عبد الله بن أحمد (2): حدثني أبي قال: حدثني وكيعٌ، حدثنا هشامٌ، عن قتادة، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس أنَّ عمر - رضي الله عنه - شرط على أهل الذمة ضيافة يومٍ وليلةٍ، وأن يصلحوا القناطر (3)، وإن قُتِل رجلٌ من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته. قال (4): وحدثنا أبي، حدثنا وكيعٌ، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرِّب أنَّ عمر - رضي الله عنه - اشترط على أهل الذمة ضيافة يومٍ وليلةٍ، فإن حبسهم مطرٌ أو مرضٌ فيومين، فإن مكثوا أكثر من ذلك أنفقوا من أموالهم، ويكلَّفون ما يطيقون. قال القاضي في «الأحكام السلطانية» (5): وإذا صولحوا على ضيافة _________ (1) في الأصل: «تولينا»، تصحيف. (2) وعنه الخلال في «الجامع» (1/ 436). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (34155) عن وكيع به. وأخرجه مسدد (المطالب العالية: 2060) وأبو عبيد في «الأموال» (418) وابن زنجويه (594) والبيهقي (9/ 196) من طُرُق عن هشام به. (3) في الأصل: «القواطن»، وفي مطبوعة «الجامع»: «قناط»، كلاهما تصحيف. (4) وأخرجه ابن أبي شيبة (34156) وأبو عبيد في «الأموال» (416، 417) وابن زنجويه (596) والبيهقي (9/ 196) من طرق عن أبي إسحاق به. (5) (ص 156 - 158).

(2/423)


ثلاثةٍ (1) مَن يمُرُّ بهم من المسلمين، قدِّرت عليهم وأخذوا بها، ثلاثة أيام لا يُزادون عليها، كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة مَن يمُرُّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام (2) ممَّا يأكلون ــ لا يكلّفونهم ذبحَ شاةٍ ولا دجاجة ــ وتبن دوابِّهم من غير شعير، وجعل ذلك على أهل السَّوَاد دون المُدُن. قال: وقد روي عن أحمد كلامٌ يدلُّ على أنَّ الذي شرط عليهم يومٌ وليلةٌ. ثم ذكر قول حمدان بن علي لأحمد، وقد تقدَّم آنفًا، ثم ذكر حديث الأحنف بن قيس عن عمر، وقد ذكرناه. قال القاضي: وكذلك الضيافة في حقِّ المسلمين، الواجب يومٌ وليلةٌ. قال في رواية حنبل: قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهو دَينٌ له. قلت له: كم مقدار ما يُقدَّر له؟ قال: ما يمونه في الثلاثة أيام التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واليوم والليلة هو حقٌّ واجبٌ. فقد بيَّن (3) أنَّ المستحب ثلاثة أيام، والواجب يومٌ وليلةٌ. وقال في رواية حنبلٍ وصالحٍ: الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته (4) يومٌ وليلةٌ (5) فكانت جائزته أوكد من الثلاثة. _________ (1) «ثلاثة» كذا في الأصل، وليست في «الأحكام السلطانية». (2) سبق تخريجه قريبًا. (3) أي: الإمام أحمد. والكلام ما زال للقاضي. (4) في الأصل: «وجائز»، تصحيف. (5) وهذا نصُّ حديث أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - وسيأتي.

(2/424)


قال: وقد روى الخلال ما دلَّ على الاستحباب والإيجاب، فروى بإسناده عن المِقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة الضيف حقٌّ واجبٌ، فإذا أصبح في [فنائه فهو] دَينٌ عليه، إن شاء اقتضى الدَّين وإن شاء ترك» (1). يعني: إذا لم يضف. وبإسناده عن أبي شريح الخُزَاعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الضيافة ثلاثة أيامٍ، وجائزته يومٌ وليلةٌ، ولا يَحِلُّ لمسلم أن [يُقِيم] عند أخيه حتى يؤثمه». قال: يا رسول الله، كيف يؤثمه؟ قال: «يُقيم عنده وليس عنده ما يَقرِيه» (2). فحديث أبي كريمة يدل على وجوب اليوم والليلة، وحديث أبي شريح يدل على استحباب الثلاث. فالضيافة في حقِّ الكفار والمسلمين؛ [يتفقان] (3) في قدر الوجوب والاستحباب، ويختلفان في حكمين آخرين: أحدهما: أنَّها في حق المسلمين تجب ابتداءً بالشرع، وفي حقَّ الكفار تجب بالشرط. _________ (1) أخرجه أيضًا أحمد (17172) وأبو داود (3750) وابن ماجه (3677) والبخاري في «الأدب المفرد» (744) وغيرهم من حديث أبي كريمة المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - بإسناد صحيح. (2) وأخرجه أيضًا البخاري (6135) ومسلم (48/ 15 ــ ج 3 ص 1353) واللفظ به أشبه. (3) في الأصل بياض قدر نصف السطر، وما بين الحاصرتين من «الأحكام السلطانية».

(2/425)


والثاني: في حقَّ المسلمين تعُمُّ أهل القرى والأمصار، وفي حقَّ الكفار تختصُّ بأهل القرى. قال في رواية أبي الحارث: الضيافة تجب على كل مسلم، من كان من أهل الأمصار وغيرهم من المسلمين. وقال في موضع آخر: تجب الضيافة على المسلمين كلهم، من نزل به ضيفٌ عليه أن يضيفه. والفرق بينهما أنَّ عمر - رضي الله عنه - شرط ذلك على أهل القرى، والأخبار الواردة في حقِّ المسلمين عامَّةٌ لقوله: «ليلة الضيف حقٌ واجبٌ»، وفي لفظ آخر: «الضيافة ثلاثة أيام» (1). وتجب الضيافة على المسلم للمسلمين والكفار لعموم الخبر، وقد نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل وقد سأل: إن أضاف الرجل ضيفٌ من أهل الكفر يضيفه؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة الضيف حقٌ واجبٌ على كل مسلم»، دلَّ على أنَّ المسلم والمشرك يُضاف، والضيافة معناها معنى الصدقة: التطوُّع على المسلم والكافر. وهذا لفظ أحمد، فقد احتجَّ بعموم الخبر، وأنَّه يعُمُّ المسلم والكافر. وإذا نزل به الضيف ولم يضفه كان دينًا على المضاف، نصَّ عليه في رواية حنبلٍ فقال: إذا نزل القوم فلم يضافوا، فإن شاء طلبه وإن شاء ترك. قال له: فكم مقدار ما يُقدَّر له؟ قال: ما يمونه في الثلاثة الأيام، واليوم والليلة حقٌّ واجبٌ. قال له: فإن لم يضيفوه ترى له أن يأخذ من أموالهم بمقدار ما _________ (1) سبق تخريجهما آنفًا.

(2/426)


يضيفه؟ قال: لا يأخذ إلا بعلم أهله، وله أن يطالبهم بحقه. فقد نصَّ على أنَّ له المطالبة بذلك. وهذا يدلُّ على ثبوته في ذمَّته لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي كريمة: «فإن أصبح بفنائه فهو دَينٌ عليه إن شاء اقتضى وإن شاء يترك» (1). ومَنَع من أن يأخذ من مال مَن تجب عليه الضيافة بغير إذنه بناء على أصله (2)، لأن مَن كان له على رجل حقٌّ وامتنع من أدائه، وقَدَر له على حقٍّ= لم يجُزْ له أن يأخذ بغير إذنه. انتهى (3). فأمَّا قوله: «إن اليوم والليلة حقٌ واجبٌ، والثلاثة مستحبةٌ»، فهذا صحيح في حقِّ المسلمين. وأمَّا في حقِّ أهل الذمَّة فلا يمكن أن يقال ذلك، فإنَّ الثلاثة إن كانت مشروطةً عليهم فهي حقٌّ لازمٌ عليهم القيامُ به للمسلمين، وإن لم تكن مشروطةً عليهم لم يجُزْ للمسلمين تناوُلُ ما زاد على اليوم والليلة إلا برضاهم. وحينئذ لا فرقَ بين الثلاثة وما زاد عليها. وعمر - رضي الله عنه - لم يشرط على طائفة معيَّنة (4)، بل شرط على نصارى الشام والجزيرة وغيرها. ففي شرطه على نصارى الشام والجزيرة: ضيافةُ ثلاثة أيام ليسارهم وإطاقتهم ذلك. وأمَّا نصارى السَّوَاد فشرط عليهم يومًا وليلةً، _________ (1) سبق. (2) في الأصل والمطبوع: «أهله»! فرام صبحي الصالح إصلاح العبارة فجعلها: «إلا بعلم أهله». (3) أي: كلام القاضي من «الأحكام السلطانية». (4) أي لم يشرطه على أهل القرى دون الأمصار، أو أهل السواد دون المدن، كما ادَّعاه القاضي.

(2/427)


لأنَّ حالهم كان دون حال نصارى الشام والجزيرة. فكان عمر - رضي الله عنه - يراعي في ذلك حال أهل الكتاب، كما كان يراعي حالهم في الجزية وفي الخراج، فبعضهم شرطها عليهم يومًا وليلةً وبعضهم شرطها عليهم ثلاثًا. وأمَّا قوله: «إنهم إذا لم يقوموا بما عليهم وقَدَر لهم على مال لم يأخذه بناءً على مسألة الظفر»، فليس كذلك. والسُّنَّة قد فرَّقت بين هذا وبين مسألة الظفر التي (1) لا يجوز الأخذ بها، لأنَّ (2) سبب الحقِّ هاهنا ظاهرٌ فلا ينسب الآخذ إلى خيانةٍ (3) لظهور حقِّه بخلاف ما إذا لم يكن ظاهرًا (4). ولهذا أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - هِندًا بأن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها بالمعروف (5)، كما جوَّز للضيف أن يأخذ مثل قِرَاه إذا لم يُضيَّف (6). فجاءت السنة بالأخذ في هذين الموضعين، وجاءت بالمنع لمَن سأله: أنَّ لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذَّةً ولا فاذَّةً (7) إلا أخذوها، أفنأخذ من أموالهم؟ الحديث (8). _________ (1) في الأصل: «الذي». (2) في الأصل: «ان»، وقد سبق مثله غير مرَّة. (3) في الأصل والمطبوع: «جناية»، والمثبت هو الصواب. (4) وقد بحث المؤلف هذه المسألة أيضًا في «إغاثة اللهفان» (2/ 769 - 778). (5) أخرجه البخاري (2211) ومسلم (1714) من حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. (6) كما في حديث عقبة بن عامر عند البخاري (2461) ومسلم (1727) بلفظ: «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم». (7) في الأصل والمطبوع: «سادة ولا قادة»، تحريف. (8) أخرجه عبد الرزاق (6818) من حديث دَيسَم السَّدُوسي عن بشير ابن الخصاصية أنهم سألوا نبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لنا جيرة من بني تميم لا تَشِذُّ لنا شاةٌ إلا ذهبوا بها، وإنها تخفى لنا من أموالهم أشياء، أفنأخذها؟ قال: لا». في إسناده لين لجهالة دَيسم، ثم قد اختلف في رفعه ووقفه، فقد أخرجه أحمد (20785) وأبو داود (1586 مختصرًا دون موضع الشاهد) عن دَيسم أنهم سألوا بشيرًا ذلك فأجابهم.

(2/428)


وقال (1): «أدِّ الأمانة إلى مَن ائْتَمَنك ولا تخُنْ مَن خَانَك» (2). فمنع هاهنا وأطلق هناك، وكان الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: ما ذكرناه من ظهور سبب الحق فيُعذَر الآخِذ (3)، وخفائه فيُنسَب إلى الخيانة (4). الثاني: أنَّ سبب الحقِّ يتجدَّد في مسألة النفقة والضيافة، فيشقُّ (5) أو _________ (1) في الأصل والمطبوع: «فقال»، والمثبت الصواب لأن هذا حديث آخر غير السابق. (2) أخرجه أحمد (15424) وأبو داود (3534) وغيرهما من حديث رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده لين لإبهام ابن الصحابي الراوي عنه. وأخرجه أبو داود (3535) والترمذي (1264) والحاكم (2/ 46) وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقد استنكر أبو حاتم في «العلل» (1114) روايته من هذا الطريق من حديث أبي هريرة. وروي من أوجهٍ أُخر لا تخلو من مقال. وقد أفاض المؤلف في ذكرها في «إغاثة اللهفان» (2/ 772 - 775)، وقوَّى الحديث بمجموعها. وانظر: «سنن البيهقي» (10/ 271) و «العلل المتناهية» (973 - 975) و «التلخيص الحبير» (1381) و «المقاصد الحسنة» (48) و «الصحيحة» (423). (3) في المطبوع: «لتعذُّر الأخذ»، تحريف أفسد السياق. (4) في الأصل والمطبوع: «الجناية»، تصحيف. (5) غير محرَّر في الأصل، يشبه: «» مُعلمًا عليه بالحمرة استشكالًا. وأثبت صبحي الصالح: «قياسًا»، ولعله بناءً على تصحيف «يتجدَّد» إلى «يتحدَّد» عنده. والمثبت يستقيم به السياق.

(2/429)


يمتنع الدعوى فيه كلَّ وقتٍ، والرفعُ إلى الحاكم، وإقامةُ البينة؛ بخلاف ما لا يتكرَّر (1) سببه. إذا عُرف هذا، فعمر - رضي الله عنه - لم يشترط قدر الطعام والإدام والعلف، فلا يُشتَرط ذلك، وإنَّما يُرجَع فيه إلى عادة كلِّ قوم وعرفهم وما لا يشقُّ عليهم، فلا يجوز للضيف أن يكلِّفهم اللحم والدجاج وليس ذلك غالبَ قوتهم، بل يجب عليه أن يقبل ما يبذلونه من طعامهم المعتاد كما أوجب الله سبحانه الإطعام في الكفارة من أوسط ما يُطعِم المكفِّر أهلَه من غير تقدير، وكما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - النفقة على الزوجة والمملوك بالعرف من غير تقدير. فهذه سنته وسنة خلفائه في هذا الباب، وبالله التوفيق. وهذه الضيافة قدرٌ زائدٌ على الجزية، ولا تلزمهم إلا بالشرط، ويكفي شرط عمر - رضي الله عنه - على مَمَرِّ الأزمان سواءٌ شرطه عليهم مَن بعده من الأئمة أو لم يشرطه، لأنَّ شرطه سنَّةٌ مستمِرَّةٌ. ولهذا عمل به الأئمة بعده، واحتج الفقهاء بالشروط العمرية وأوجبوا اتباعها. هذا هو الصحيح، كما أنَّ شرطه عليهم في الجزية مستَمِرٌّ وإن لم يجدِّده عليهم إمامُ الوقت، وكذلك عقد الذمة لمَن (2) بلغ من أولادهم وإن لم يعقد لهم الإمام الذمة. قال الشافعي (3): ويقسم الضيافةَ على عدد أهل الذمة، وعلى حسب _________ (1) في الأصل والمطبوع: «ينكر»، تحريف. (2) في الأصل: «أن»، تصحيف. (3) انظر: «الأم» (5/ 475، 695) و «مختصر المزني» (ص 384 - 385).

(2/430)


الجزية التي شرطها، فيقسم ذلك بينهم على السواء. وإن كان فيهم المُوسِر والمتوسط والمُقِلُّ قسط الضيافة على ذلك. قال الشافعي: ويَذكر ما يعلف به الدواب من التِّبن والشعير وغير ذلك. قال: ويشترط عليهم أن ينزلوا في فضول منازلهم وكنائسهم ما يكنون فيه من الحَرِّ والبرد (1) منها، لأن الضيف محتاجٌ إلى موضع يسكن فيه ويأوي إليه كما يحتاج إلى طعام يأكله. فصل ومن نزل بهم لم يخلُ من ثلاثة أحوال: إما أن ينزل بهم وهو مريضٌ، أو ينزل بهم وهو صحيح، أو ينزل بهم وهو صحيح فيمرض. فإن نزل بهم وهو مريضٌ فبرئ فيما دون الثلاث، فهذا يجري مجرى الضيف. وكما يجب عليهم إطعام الضيف وخدمتُه، يجب عليهم القيام على المريض ومصالحه، فإنَّه أحوج إلى الخدمة والتعاهد من الصحيح. فإن زاد مرضه على ثلاثة أيام، وله ما ينفق على نفسه، لم يلزمهم القيام بنفقته، ولكن تلزمهم معونته وخدمته وشِرى ما يحتاج إليه من ماله. وإن لم يكن له ما ينفق على نفسه لزمهم القيامُ عليه إلى أن يبرأ أو يموت. فإن أهملوه وضيَّعوه حتى مات ضمنوه. هذا مذهب عمر وإليه ذهب الإمام أحمد، فإنه رُوي عن عمر أنَّ رجلًا مرَّ بقومٍ فاستسقاهم فلم يسقوه حتى _________ (1) في الأصل: «والبر»، تصحيف.

(2/431)


مات، فغرَّمهم عمر دِيَتَه (1). قال إسحاق بن منصور (2): قلت لأحمد: أتذهب إليه؟ فقال: إي والله! وإن نزل بهم صحيحًا ورحل كذلك فضيافته يومٌ، حقٌّ واجبٌ، وما زاد على الثلاث لا يلزمهم القيام به. وما بين اليوم والليلة والثلاثة فهو الذي اختلفت فيه الشروط العمرية، كما تقدَّم. والصحيح أنَّه بحسب حال القوم في اليسار وعدمه وكثرة المارَّة وقلَّتهم، والله أعلم. وحكم المحظور والمقطوعِ عليه الطريقُ حكم المريض فيما ذكرناه. * * * _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (18318) ويحيى بن آدم في «الخراج» (352) ــ ومن طريقه البيهقي (6/ 153) ــ وابن أبي شيبة (28478) من طرق عن الحسن عن عمر. (2) في «مسائله» (2/ 286).

(2/432)


فصل (1) قولهم: (وأن من ضرب مسلمًا فقد خلع عهدَه). وهذا لأنَّ عقد الذمة اقتضى أن يكونوا تحت الذِّلَّة والقهر، وأن يكون المسلمون هم الغالبين (2) عليهم، فإذا ضربوا المسلمين كان هذا الفعل مناقضًا لعهد الذمة الذي عاهدناهم عليه. وهذا أحد الشرطين اللَّذَين زادهما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وألحقهما بالشروط، فإنَّ عبد الرحمن بن غَنْم لمَّا كتب إلى عمر بن الخطاب بكتاب الشروط قال: أَمضِ لهم ما سألوه، وأَلحِق فيه حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: أن لا يشتروا من سبايانا شيئًا، ومَن ضرب مسلمًا عَمدًا فقد خلع عهده. فأقرَّ بذلك من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط. فصل وإذا شرط عليهم أمير المؤمنين أنَّه مَن ضرب مسلمًا فقد خلع عهده، فمَن زنى بمسلمة فهو أولى بنقض العهد. وقد نصَّ عليه الإمام أحمد. قال الخلال (3): باب ذمي فجر بمسلمة. أخبرني حرب قال: سمعت _________ (1) هذا الفصل وما بعده إلى آخر الكتاب يندرج تحت ما يتعلق بإدخال الضرر على المسلمين والطعن في دينهم، وهو «الفصل الثالث» حسب ترتيب المؤلف (ص 278). (2) في الأصل: «الغالبون». (3) في «الجامع» (2/ 347 - 350).

(2/433)


أحمد يقول: إذا زنى الذِّمِّي بمسلمة قُتِل الذِّمِّي، ويُقام عليها الحدُّ. قال حرب: هكذا وجدته في كتابي. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا أبو الحارث أنه سأل أبا عبد الله: قلت: نصراني استكره مسلمة على نفسها؟ قال: ليس على هذا صولحوا، يُقتَل. قلت: فإن طاوَعَتْه على الفجور؟ قال: يُقتَل ويُقام عليها الحدُّ، وإذا استكرهها فليس عليها شيء. أخبرنا عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: سمعتُ أبا عبد الله قال في ذمِّيٍّ فَجَر بامرأة مسلمة؟ قال: يُقتَل، ليس على هذا صُولِحوا. قيل له: فالمرأة؟ قال: إن كانت طاوَعَتْه أُقِيم عليها الحدُّ، وإن كان استكرهها فلا شيء عليها. وكذلك قال في رواية الفضل بن زياد ويعقوب بن بختان سواءً. قال الخلال: وأخبرني أحمد بن محمد بن مطر، حدثنا أبو طالب أنَّ أبا عبد الله (1) قيل له: فإن زنى اليهودي بمسلمة؟ قال: يُقتل. عمر - رضي الله عنه - أُتي بيهودي نخس (2) بمسلمةٍ ثم غشيها فقتله (3). فالزنا أشدُّ من نقض العهد. وسألته عن عبدٍ نصراني زنى بمسلمة؟ قال: يُقتَل أيضًا. قلت: وإن كان عبدًا؟ قال: نعم. _________ (1) في مطبوعة «الجامع»: «أبا الحارث»، خطأ أو ثَمَّ سقط تداخلت به روايتان. (2) في الأصل ومطبوعة «الجامع»: «فحش»، والظاهر أنه تصحيف، فإنه سيأتي أن المرأة كانت على حمار فنخسها، فوقعت فغشيها. والمثبت موافق لعامَّة مصادر التخريج. (3) سيأتي تخريجه.

(2/434)


أخبرني محمد بن الحسن أنَّ الفضل بن عبد الصمد حدَّثهم قال: سمعت أبا عبد الله، وسئل عن مجوسي (1) فَجَر بمسلمة، قال: يُقتَل، هذا قد نقض العهد. قلت: فإن كان من أهل الكتاب؟ قال: يُقتَل أيضًا، قد صَلَب عمر رجلًا من اليهود فَجَر بمسلمة. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله قال: قد صلب عمر رجلًا من اليهود فجر بمسلمة، هذا نقض العهد. قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: إن ذهب رجل إلى حديث عمر ــ كأنَّه لم يَعِب عليه. أخبرنا محمد بن علي، حدثنا مُهنَّا قال: سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة ما يصنع به؟ قال: يُقتَل. فأَعَدتُّ عليه قال: يُقتَل. قلت: إنَّ الناس يقولون غير هذا. قال: كيف يقولون؟ قلت: يقولون: عليه الحدُّ. قال: لا، ولكن يُقتَل. قلت له: في هذا شيء؟ قال: نعم، عن عمر أنَّه أمر بقتله. قلت: مَن يرويه؟ قال: خالدٌ الحذاء، عن ابن أشوع، عن الشعبي، عن عوف بن مالك أنَّ رجلًا نخس (2) بامرأةٍ فتجلَّلها (3)، فأمر به عمر فقُتِل وصلب. قلت: من ذكره؟ قال: إسماعيل بن علية (4). _________ (1) في الأصل: «يهودي»، خطأ. (2) في الأصل والمطبوع: «فحش»، وقد تقدَّم أنه تصحيف. (3) أي: علاها. في الأصل والمطبوع ومطبوعة «الجامع» بالحاء المهملة، ولعل المثبت أشبه. (4) وممن رواه عن ابن عليَّة: الشافعيُّ في بعض كتبه كما في «معرفة السنن» (13/ 381). وأخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 37) من طريق خالد بن عبد الله الطحَّانُ عن خالد الحذَّاء به. وظاهر هذه الرواية أن الشعبي رواه عن عوف بن مالك، وسيأتي في الرواية الآتية أن بينهما سويد بن غفلة.

(2/435)


حدثنا أبو بكر المرُّوذي، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا حمَّاد بن زيد، حدثنا مجالدٌ، عن الشعبي، عن سُوَيد بن غَفَلة أنَّ رجلًا من أهل الذمة نخس (1) بامرأة من المسلمين من الشام وهي على حمار [فصرعها]، فألقى نفسه عليها، فرآه عوف بن مالك فضربه فشجَّه، فانطلق إلى عمر يشكو عوفًا، فأتى عوفٌ عمر فحدَّثه، فأرسل إلى المرأة فسألها فصدَّقَت عوفًا، فقال إخوتها: قد شهدت أختُنا، فأمر به عمر - رضي الله عنه - فصُلِب. قال: وكان أوَّل مصلوب في الإسلام (2). ثمَّ قال عمر - رضي الله عنه -: أيها الناس اتقوا الله في ذمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تظلموهم، فمَن فعل فلا ذمة له (3). فصل إذا ثبت هذا فإنَّه يُقتَل وإن أسلم، نصَّ عليه أحمد في رواية جماعة. قال الخلال (4): أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، وأخبرني _________ (1) في الأصل والمطبوع: «فحش»، تصحيف. (2) أي: الذي رآه، لا مُطلقًا، ففي بعض الروايات: «إنه لأوَّل مصلوب رأيتُه». (3) أخرجه أبو عُبيد في «الأموال» (500، 501) وابن زنجويه (708) والحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث: 520) والبيهقي (9/ 201) من طرق عن مُجالدٍ به. ومجالد ضعيف، ولكن قد تابعه ابن أشوَع ــ وهو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني: ثقة ــ عن الشعبي به، كما في الرواية السابقة. وتابعهما أيضًا جابر الجعفي ــ على ضعفه ــ عن الشعبي بنحوه، كما عند عبد الرزاق (10167) عن الثوري عنه. (4) في «الجامع» (2/ 351).

(2/436)


جعفر بن محمد أنَّ يعقوب بن بختان حدَّثهم؛ وأخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أنَّ أبا الحارث حدَّثهم؛ وأخبرني الحسن بن عبد الوهاب، حدثنا إبراهيم بن هانئ؛ كلُّ هؤلاء سمع أحمد بن حنبل، وسُئِل عن ذمِّي فَجَر بمسلمة، قال: يُقتَل. قيل: فإن أسلم؟ قال: يُقتَل، هذا قد وجب عليه. والمعنى واحدٌ في كلامهم كلِّه. انتهى. وهذا هو القياس، لأنَّ قتله حدٌّ، وهو قد وجب عليه وتعيَّن (1) إقامته، فلا يسقط بالإسلام، لا سيما إذا أسلم بعد أخذه والقدرة عليه. وسنعود إلى هذه المسألة عن قرب إن شاء الله تعالى. فصل قالوا: (ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا. وإن نحن غيَّرنا أو خالفنا عمَّا شرطنا على أنفسنا وقَبِلنا الأمان عليه، فلا ذمَّة لنا، وقد حلَّ لك منَّا ما يحِلُّ لأهل المُعانَدة والشِّقاق). هذا اللفظ صريحٌ في أنَّهم متى خالفوا شيئًا ممَّا عُوهِدوا عليه انتقض عهدهم، كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء. قال شيخنا (2): وهذا هو القياس الجلي، فإنَّ الدم مباحٌ بدون العهد، والعهد عقد من العقود، فإذا لم يَفِ أحد المتعاقدين بما عاقد عليه، فإمَّا أن ينفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه. هذا أصلٌ مقرَّرٌ في عقد البيع والنكاح وغيرهما من العقود. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «معنى»، ولعله تصحيف عن المثبت. (2) في «الصارم المسلول» (2/ 399 - 400).

(2/437)


والحكمة فيه ظاهرةٌ، فإنَّه إنَّما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه، فإذا لم يلتزمه له الآخرُ صار (1) هذا غير ملتزمٍ، فإنَّ الحكم المعلَّق بالشرط لا يَثبُت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء، وإنَّما اختلفوا في ثبوت مثله. إذا تبيَّن هذا، فإن كان المعقود عليه حقًّا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط، بل له أن يفسخه، كما إذا شرط رهنًا أو كفيلًا أو (2) صفةً في البيع. وإن كان حقًّا لله (3) أو لغيره ممَّن يتصرَّف له بالولاية ونحوها= لم يَجُز له إمضاء (4) العقد، بل ينفسخ العقد بفوات الشرط، أو يجب عليه فسخه، كما إذا شرط أن تكون الزوجة حُرَّةً فظهرت أَمَةً وهو ممَّن لا يحلُّ له نكاح الإماء، أو شرطت أن يكون الزوج مسلمًا فبان كافرًا، أو شرط أن تكون الزوجة مسلمةً فبانت وثنيَّةً. وعقد الذمة ليس هو حقًّا للإمام، بل هو حقٌّ لله ولعامَّة المسلمين، فإذا _________ (1) في الأصل: «حاز»، وعليه «كذا» بالحمرة استشكالًا. (2) في الأصل: «وصفة»، والمثبت من «الصارم». (3) غيَّره صبحي الصالح إلى «له» لأنه وجده هكذا في مطبوعة «الصارم» (أي: طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد ص 212، وهو على الصواب في الطبعة الهندية ص 206). ثم جاء محققا طبعة دار رمادي فتابعاه في إثبات «له»، وعلَّقا عليه: «في الصارم: لله، وهو خطأ، وما في مطبوعتنا الصواب وهو الجادَّة»! كل ذلك خلط وخبط ناشئ عن عدم تأمل السياق وتفهُّم المعنى، مع أنه يأتي بعد بضعة أسطر: «وعقد الذمة ليس هو حقًّا للإمام، بل هو حقٌّ لله ... »، وبعده أيضًا: «الشروط إذا كانت حقًّا لله لا للعاقد انفسخ العقد»، وبعده ثالثًا: «وهنا المشروط على أهل الذمة حقٌّ لله». (4) في الأصل: «أيضًا»، تصحيف.

(2/438)


خالفوا شيئًا ممَّا شرط عليهم، فقد قيل: يجب على الإمام أن يفسخ العقد، وفسخه أن يُلحِقه بمَأمَنه ويُخرِجه من دار الإسلام؛ ظنًّا أنَّ العقد لا ينفسخ بمجرَّد المخالفة بل يجب فسخه. قال: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ الشروط إذا كانت حقًّا لله ــ لا للعاقد ــ انفسخ العقدُ بفواته من غير فسخ. وهنا المشروط على أهل الذمة حقٌّ لله، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويمكِّنهم من المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها، وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن. قلت: واختلف العلماء فيما ينتقض به العهد وما لا ينتقض، وفي هذه الشروط هل يجري حكمها عليهم وإن لم يشترطها إمام الوقت اكتفاءً بشرط عمر - رضي الله عنه -، أو لا بد من اشتراط الإمام لها في حكمهم إذا انتقض عهدهم (1)؟ فهذه ثلاث مسائل: المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما لا ينقضه ونحن نذكر مذاهب الأئمة وما قاله أتباعهم في ذلك. ذكر قول الإمام أحمد وأصحابه: قد ذكرنا نصوصه في انتقاض العهد بالزنا بالمسلمة. * ذكر قوله في انتقاض العهد بسب النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الخلال (2): بابٌ فيمن شَتَم النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخبرني عصمة بن عصام _________ (1) وقد سبق طرف من الكلام على هذه المسألة (ص 335، 430). (2) في «الجامع» (2/ 339 - 342).

(2/439)


قال: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: كلُّ مَن شتَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو انتقصه ــ مسلمًا كان أو كافرًا ــ فعليه القتل. أخبرني زكريا بن يحيى، حدثنا أبو طالب: أنَّ أبا عبد الله سُئِل عن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يُقتَل، قد نقض العهد. ثم ذكر من طريق حنبل وعبد الله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا هُشَيم، أخبرنا حصين عمَّن حدَّثه عن ابن عمر أنَّه مرَّ به راهبٌ فقيل له: هذا يسُبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر: لو سمعتُه لقتلتُه أنا، لم نُعطِهم الذِّمة على أن يسُبُّوا نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - (1). قال حنبل: وسمعت أبا (2) عبد الله يقول: كلُّ مَن نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثًا مثل هذا رأيتُ (3) عليه القتل، ليس على هذا أعطوا العهد والذمة. ثم ذكر الخلال الآثار عن الصحابة في قتله. ثم قال: أخبرني محمد بن علي (4) أنَّ أبا الصقر حدَّثهم قال: سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا عليه؟ قال: إذا قامت البينة عليه يُقتَل من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسلمًا كان أو كافرًا. _________ (1) وأخرجه أيضًا إسحاق بن راهويه والحارث بن أبي أسامة في «مسانيدهما» (المطالب: 2031) من طريق هشيم به. (2) بعده في الأصل: «طالب»، إقحام. (3) في الأصل: «ليس»، وعليه «كذا» بالحمرة. وهو تصحيف يقلب المعنى. (4) في مطبوعة «الجامع»: «محمد بن عيسى»، ولم أتبيَّن الصواب.

(2/440)


أخبرني حرب قال: سألت أحمد عن رجل من أهل الذِّمَّة شَتَم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يُقتَل.

 * ذكرُ قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة:

قال الخلال (1): بابٌ فيمن تكلَّم في شيء من ذكر الرب تبارك وتعالى يريد تكذيبًا أو غيره. أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: كلُّ مَن ذكر شيئًا يُعرِّض به الربَّ تبارك وتعالى فعليه القتلُ مسلمًا كان أو كافرًا. قال: وهذا مذهب أهل المدينة. أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدَّثهم قال: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن يهودي مرَّ بمؤذِّن وهو يُؤذِّن فقال له: كذبتَ، فقال: يُقتَل لأنَّه شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا (2): وأقوال أحمد كلها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنَّه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلاف. وكذلك ذكر عامَّة أصحابه متقدمُهم ومتأخرُهم، لم يختلفوا في ذلك، إلا أنَّ القاضي في «المجرد» ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركُها وفيها ضررٌ على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال، وهي: الإعانة على قتال المسلمين، وقتل المسلم والمسلمة، وقطع الطريق عليهم، وأن يؤوي للمشركين (3) جاسوسًا، وأن يعين عليهم بدلالةٍ مثل أن يكاتب المشركين _________ (1) في «الجامع» (2/ 339). (2) في «الصارم المسلول» (2/ 19 وما بعدها). (3) في الأصل: «المسلمين»، مستشكلًا إياه بـ «ظ» في الهامش. والمثبت من «الصارم».

(2/441)


بأخبار المسلمين، وأن يزني بمسلمة أو يُصيبها باسم نكاح، وأن يفتن مسلمًا عن دينه. قال: فعليه الكفُّ عن هذا، شُرط أو لم يُشرَط، فإن خالف انتقض عهده. وذكر نصوص أحمد في نقضها مثل نصِّه في الزنا بمسلمةٍ، وفي التجسس للمشركين، وقتل المسلم وإن كان عبدًا (1) كما ذكر الخرقي (2). ثم ذكر نصَّه في قذف المسلم: على أنَّه لا ينتقض عهده بل يُحَدُّ حدَّ القذف. قال: فتُخرَّج المسألة على روايتين. ثمَّ قال: وفي معنى هذه الأشياء ذكره اللهَ وكتابَه ودينَه ورسولَه بما لا ينبغي. قال: فهذه أربعة أشياء، الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها، ليس ذكرها شرطًا في صحة العقد فإن [أتوا] واحدةً منها نقضوا الأمان، سواءٌ كان مشروطًا في العهد أو لم يكن. وكذلك قال في «التعليق» (3) بعد أن ذكر أنَّ المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال. قال: وفيه رواية أخرى: لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية وجَرْيِ أحكامنا عليهم. ثم ذكر نصَّ أحمد على أنَّ الذمي إذا قذف المسلم يُضرَب، قال: فلم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهَتْكِ عِرضه. _________ (1) في الأصل: «عبد» ثم علامة لحق بعده، وفي الهامش: «الجهاد»، كأنه قرأ «عبد»: «عند» فألحق به «الجهاد» في الهامش ليستقيم السياق، وكله وهم وخطأ. (2) في «المختصر» (11/ 479 مع المغني). (3) سمَّاه شيخ الإسلام في «الصارم»: «الخلاف»، ويُعرَف بـ «التعليق الكبير في المسائل الخلافية»، و «التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف»، و «الخلاف الكبير». وقد طُبعت منه بعض الأجزاء، ليس منها كتاب الجهاد. وانظر: «الأحكام السلطانية» للقاضي (ص 159) فقد ذكر فيه قريبًا من ذلك.

(2/442)


وتبع القاضي جماعةٌ من أصحابه ومن بعدهم (1) كالشريف وأبي الخطاب وابن عقيل والحلواني، فذكروا أنَّه لا خلافَ أنَّهم إذا امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام الملة انتقض عهدهم. وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها الضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال، أو فيها غضاضةٌ على المسلمين في دينهم مثل سبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه= روايتين: إحداهما: ينتقض العهد، والأخرى: لا ينتقض عهده ويقام فيه الحدُّ، مع أنَّهم كلُّهم متفقون على أنَّ المذهب انتقاض العهد بذلك (2). ثم إنَّ القاضي والأكثرين لم يعُدُّوا (3) قذف المسلم من الأمور المُضِرَّة الناقضة، مع أنَّ الرواية المُخرَّجة إنَّما خُرِّجَت (4) مِن نصِّه في القذف (5). وأمَّا أبو الخطاب ومَن تبعه فإنَّهم نقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف، كما نقلوا حكم القذف إليها، حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين (6). _________ (1) في الأصل: «تقدم»، تصحيف. والتصحيح من «الصارم». (2) انظر: «الهداية» لأبي الخطاب (ص 227) و «التذكرة» لابن عقيل (ص 325). (3) في الأصل: «لم يعدَّ»، والمثبت من «الصارم». (4) في الأصل: «خرجه»، تصحيف. (5) ظاهر هذه العبارة يوحي أن القاضي ومن معه خالفوا نصَّ الإمام في القذف. ونصُّ الإمام في القذف أنه غير ناقض للعهد كما سبق وسيأتي، فإذا لم يعدَّه القاضي والأكثرون من الأمور الناقضة لكانوا موافقين لنصِّ أحمد، فأخشى أن يكون: «لم يعدُّوه» سبق قلم وأن يكون قصد شيخ الإسلام: «عَدُّوا»، فليُنظر. (6) انظر: «الهداية» لأبي الخطاب (ص 227) و «المقنع» (ص 150).

(2/443)


ثم إنَّ هؤلاء كلَّهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر، وذكروا أنَّ سابَّه يُقتَل وإن كان ذِمِّيًّا (1)، وأنَّ عهده ينتقض، وذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب، إلا أنَّ الحلواني قال: ويحتمل أن لا يُقتَل مَن سبَّ الله ورسوله إذا كان ذميًّا. فصل وسلك القاضي أبو الحسين طريقةً ثانيةً (2) في نواقض العهد فقال: أمَّا الثمانية التي فيها ضررٌ على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس، فإنَّها تنقض العهد في أصحِّ الروايتين. وأمَّا ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام ــ وهو ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي ــ فإنَّه ينقض العهد، نصَّ عليه. ولم يُخرِّج في هذا رواية أخرى كما ذكر أولئك. وهذا أقرب من تلك الطريقة. وعلى الرواية التي تقول: لا ينتقض العهد بذلك، فإنَّما ذلك إذا لم يكن مشروطًا عليهم في العهد. فأمَّا إن كان مشروطًا ففيه وجهان: _________ (1) ومن ذلك ما ذكروا فيمن قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يُقتل مسلمًا كان أو كافرًا. انظر: «مختصر الخرقي» (12/ 404 مع المغني)، و «رؤوس المسائل الخلافية» للشريف أبي جعفر (2/ 874)، و «المقنع» (ص 438). وفي «المستوعب» في باب المرتد (2/ 484): «من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة قُتل أسلم أو لم يسلم». مع أنه تابع القاضي في أبواب عقد الذمة (2/ 469، 478) فجعل مَن ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بالسوء على روايتين. (2) في الأصل: «طريق ثالثة»، والتصحيح من «الصارم».

(2/444)


أحدهما: ينتقض، قاله الخرقي (1). قال أبو الحسن الآمدي: وهو الصحيح في كل ما شُرِط عليهم تركه، فصحَّح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئًا ممَّا شرط عليهم. والثاني: لا ينتقض، قاله القاضي وغيره. قال شيخنا (2): وهاتان الطريقتان ضعيفتان، والذي عليه عامَّة المتقدمين ومَن تبعهم من المتأخرين إقرارُ نصوص أحمد على حالها، وهو قد نصَّ في مسائل سبِّ الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى أنَّه يُقتَل، وكذلك فيمن جسَّ على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع. وكذلك نقله الخرقي فيمَن قتل مسلمًا أو قطع الطريق (3). وقد نصَّ أحمد على أنَّ قذف المسلم وسِحره لا يكون نقضًا للعهد في غير موضع، وهذا هو الواجب، وهو تقرير المذهب (4)؛ لا يُخرَّج حكمُ إحدى المسألتين (5) إلى الأخرى بجَعْل (6) الروايتين في الموضعين، لوجود _________ (1) في «المختصر» (13/ 236 مع المغني)، ولفظه: «من نقض العهد بمخالفة شيءٍ مما صولحوا عليه حلَّ دمُه وماله». (2) «الصارم» (2/ 25). (3) لم أجده في «المختصر» فليُنظر. (4) في الأصل: «النصب»، وعليه علامة استشكال بالحمرة. وليست هذه الجملة في «الصارم»، ولعل المثبت هو الصواب. (5) تحرَّف «إحدى المسألتين» إلى «أحد من المسلمين» في الأصل! (6) في الأصل: «وجعل»، تصحيف، ويحتمل أن يكون صوابه: «وتُجعَل» أو «فتُجعَل».

(2/445)


الفرق بينهما نصًّا واستدلالًا. وإذا وُجد معنًى يجوز أن يكون مستندًا للفرق لم يَجُز (1) التخريج. قلت: لفظ القاضي في «التعليق»: مسألة: إذا امتنع الذميُّ من بذل الجزية ومِن جريان أحكامنا عليهم (2) صار ناقضًا للعهد. وكذلك إذا فعل ما يجب عليه تركُه والكفُّ عنه ممَّا فيه ضررٌ على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس، وهي ثمانية أشياء: الاجتماع على قتال المسلمين، وأن لا يزني بمسلمةٍ، ولا يصيبها باسم نكاحٍ، ولا يفتن مسلمًا عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عينًا، ولا يعاون على المسلمين بدلالةٍ ــ أعني لا يكاتب المشركين بأخبار المسلمين ــ، ولا يقتل مسلمًا. وكذلك إذا [فعل] ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام، وهي أربعة أشياء: ذكر اللهِ، وكتابِه، ودينِه، ورسولِه، بما لا ينبغي؛ سواءٌ شَرَط عليهم الإمام أنَّهم متى فعلوا ذلك كان نقضًا لعهدهم أو لم يشرط في أصحِّ الروايتين. نصَّ عليها في مواضع، فقال في رواية أحمد بن سعيد في الذمي يمنع الجزية: إن كان واجدًا أُكرِه عليها وأخذت منه، وإن لم يُعطِها ضُرِبت عنقه. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «ولم يخرج»، خطأ. وقارن بما في «الصارم» (2/ 25) فقد تصرَّف المؤلف في نقل الكلام على عادته. وتمحَّل صبحي الصالح - رحمه الله - في جعل سياق الكلام موافقًا لما في «الصارم» فغيَّر وبدَّل، وزاد وأقحم، ليخرج الكلام بعد ذلك ركيكًا متنافر الأجزاء، لا هو كما في «الصارم» ولا هو كما كتبه المؤلف. (2) بعده في الأصل: «حاكمًا»، إقحام.

(2/446)


وفي رواية أبي الحارث في نصراني استكره مسلمةً على نفسها: يقتل، ليس على هذا صولحوا، فإن طاوعَتْه قُتِل وعليها الحدُّ (1). وفي رواية حنبل: كلُّ مَن ذكر شيئًا يُعرِّض به للربِّ عزَّ وجلَّ فعليه القتل مسلمًا كان أو كافرًا. وكذلك نقل عنه جعفر بن محمد في يهودي سمع المؤذِّن يؤذِّن فقال: كذبتَ؛ يُقتَل لأنَّه شتم. وفي رواية أبي طالب في يهودي شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -: يُقتَل، قد نقض العهد. وإن زنى بمسلمةٍ يُقتَل، أُتي عمر بيهودي نخس (2) بمسلمة ثمَّ غشيها فقتله. وقال الخرقي (3) في الذمي إذا قتل عبدًا مسلمًا: [يُقتَل لِنقضه العهد]. قال القاضي: وفيه رواية أخرى لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من بذل الجزية وجَرْيِ أحكامنا عليهم. وقال في رواية موسى بن عيسى (4) المَوصِلي في المشرك إذا قذف مسلمًا: يُضرَب. _________ (1) سبق عزو هذه الرواية وكذا الروايات الآتية. (2) غير محرَّر في الأصل، يشبه: «فحش»، والمثبت هو الصواب كما سبق. (3) في «المختصر» (11/ 479 مع المغني)، وما بين الحاصرتين مستدرك من نصِّه، ولم يرد في الأصل. (4) في الأصل: «عيسى بن موسى»، مقلوب. والتصحيح من «الأحكام السلطانية» (ص 159) و «طبقات الحنابلة» (2/ 403).

(2/447)


وكذلك نقل الميموني (1) في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم: ينكَّل به، يُضرَب ما يرى الحاكم. وكذلك نقل عنه عبدُ الله (2) في نصراني قذف مسلمًا: عليه الحد. قال: وظاهر هذا أنَّه لم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلمين مع ما فيه من إدخال الضرر عليه بهَتْكِ عِرضه. انتهى. فتأملَّ هذه النصوص، وتأمَّل تخريجه (3)، فأحمد لم يختلف قوله في انتقاض العهد بسبِّ الله ورسوله والزنا بمسلمة، ولم يختلف نصُّه في عدم الانتقاض بقذف المسلم، فإلحاق مسبَّة الله ورسوله بمسبَّة آحاد المسلمين من أفسد الإلحاق، وتخريجُ عدم النقض به مِن نصِّه على عدم النقض بسبِّ آحاد المسلمين من أفسد التخريج. وأين الضرر والمفسدة من هذا النوع إلى المفسدة من النوع الآخر؟ وإذا كان المسلم يُقتَل بسبِّ الله ورسوله، والزنا مع الإحصان، ولا يُقتَل بالقذف، فكذلك الذِّمِّي. فالذي نصَّ عليه الإمام أحمد في الموضعين هو محض الفقه، والتخريج باطلٌ نصًّا وقياسًا واعتبارًا. واشتراك الصور كلِّها في إدخال الضرر على المسلم لا يوجب تساويها في مقدار الضرر (4) وكيفيته، فالمسلم إذا فعل ذلك فقد أدخل الضرر أيضًا مع التفاوت في الأحكام. _________ (1) كما في «الجامع» (2/ 343). (2) في «مسائله» (ص 425) وعنه في «الجامع» (2/ 342). (3) في الأصل: «تحريمه»، تحريف. (4) في المطبوع: «الضرب»!

(2/448)


ثم يقال: يا لله العجب! أين ضرر المجاهرة بسبِّ الله ورسوله وكلامه ودينه على رؤوس الملأ، وقهر المسلمات وإن كنَّ شريفات على الزنا، إلى ضرر منع دينارٍ يجب عليه من الجزية؟! وكذلك أين ضرر تحريقه لمساجد المسلمين والمنابر، إلى ضرر منعه لدينار وجب عليه!! فكيف يقتضي الفقهُ أن يقال: ينتقض عهده بمنع الدينار دون هذه الأمور؟ وأين ضرر امتناعه من قبول حكم الحاكم إلى ضرر مجاهرته بسبِّ الله ورسوله وما معه؟ وطريقة أبي البركات في «المحرر» (1) في تحصيل المذهب في ذلك أصحُّ طرق الأصحاب على الإطلاق. قال: وإذا لَحِق الذمِّي بدار الحرب مستوطنًا (2)، أو امتنع من إعطاء ما عليه، أو التزام أحكام الملة، أو قاتل المسلمين= انتقض عهده. وإن قذف مسلمًا أو آذاه بسحر في تصرُّفاته لم ينتقض عهده، نصَّ عليه في رواية جماعة، وقيل: ينتقض. وإن فتنه عن دينه، أو قتله، أو قطع عليه الطريق، أو زنى بمسلمة، أو تجسَّس للكفَّار أو آوى لهم جاسوسًا، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء= انتقض عهده، نصَّ عليه. وقيل: فيه روايتان بناءً على نصِّه في القذف، والأصحُّ التفرقة. وإذا أظهر منكرًا، أو رفع صوته بكتابه، أو ركب الخيل ونحوه= عُزِّر ولم ينتقض عهده. وقيل: ينتقض إن شُرط عليه تركُه، وإلا فلا. _________ (1) (2/ 187 - 188). (2) في الأصل والمطبوع: «متوطنًا»، خطأ.

(2/449)


فصل وأمَّا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى: قال في «الأم» (1): وإذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب ... وذكر الشروط إلى أن قال: وعلى أن أحدًا منكم إن ذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكر به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونقض ما أُعطي من الأمان، وحلَّ لأمير المؤمنين مالُه ودمُه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم. وعلى أنَّ أحدًا من رجالهم إن أصاب مسلمةً بزناءٍ (2) أو اسم نكاح، أو قطع الطريق على مسلم، أو فتن مسلمًا عن دينه، أو أعان المحاربين على المسلمين بقتالٍ أو دلالةٍ على عورات المسلمين أو إيواءٍ لعيونهم= فقد نَقَض عهدَه وأحلَّ دمَه ومالَه. وإن نال مسلمًا بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه (3) الحكم. ثم قال (4): فهذه الشروط اللازمة إن رضيها، فإن لم يَرضها فلا عقد له ولا جزية (5). _________ (1) (5/ 471 - 472)، والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 26 - 29). (2) كذا في الأصل ممدودًا، وهي لغة. (3) في الأصل: «وفيه»، خطأ. (4) «الأم» (5/ 474). (5) ظاهر هذا النقل أن قوله: «ولا جزية» معطوف على «فلا عقد له». وليس كذلك في «الأم»، بل هو كلام مستأنف، فسياقه: « ... فلا عقد له. ولا جزية على أبنائكم الصغار، ولا صبي غير بالغ، ولا مغلوب على عقله، ولا مملوك».

(2/450)


ثم قال (1): وأيُّهم قال أو فعل شيئًا مما (2) وصفته نقضًا للعهد وأسلم لم يُقتَل إذا كان ذلك قولًا. وكذلك إذا كان فعلًا لم يُقتَل إلا أن يكون في دين المسلمين أنَّ مَن فعله قُتِل حَدًّا أو قَصاصًا، فيقتل بحدٍّ أو قصاصٍ لا بنقض عهد. وإن فعل ما وصفنا وشُرِط أنَّه نقضٌ لعهد الذِّمَّة، فلم يسلم، لكنَّه قال: أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها، أو صلح أجدِّده= عُوقِب ولم يقتل، إلا أن يكون فعل فعلًا يوجب القصاص والحدَّ. فأمَّا ما دون هذا من الفعل والقول، فكلُّ قولٍ فيُعاقَب عليه ولا يُقتَل. قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشُرِط أن يُحِلَّ دمَه، فظُفِرَ به فامتنع من أن يقول: أُسلِم أو أُعطِي الجزية= قُتِل وأخذ ماله فيئًا. ونصَّ في «الأم» (3) أيضًا أنَّ العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنا بالمسلمة ولا بالجَسِّ (4)، بل يُحَدُّ فيما فيه الحَدُّ، ويعاقب عقوبةً مُنكِّلةً فيما فيه العقوبة، ولا يُقتَل إلا بأن يجب عليه القتل. قال: ولا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكمِ، بعد الإقرار والامتناع بذلك. ولو قال: أؤدِّي الجزية ولا أُقِرُّ بالحكم، نُبِذ إليه ولم يُقاتَل _________ (1) «الأم» (5/ 476). (2) في الأصل: «قال أم نقل شيئًا كما»، تصحيف. (3) (5/ 449). (4) غير محرَّر في الأصل، يحتمل أن يقرأ: «بالتجسُّس».

(2/451)


على ذلك مكانَه، وقيل له: قد تقدَّم لك أمانٌ، فأمانُك كان للجزية (1) وإقرارك بها، وقد أجَّلناك في أن تُخرَج من بلاد الإسلام. ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قُتل إن قُدر عليه. هذا لفظه. وحكى ابن المنذر والخطابي (2) عن الشافعي أيضًا: أن عهده ينتقض بسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتل. وأمَّا أصحابه فذكروا فيما إذا ذكر الله أو رسوله بسوء وجهين (3): أحدهما: ينتقض عهدُه بذلك سواءٌ شُرِط عليه تركه أو لم يشترط، كما إذا قاتلوا المسلمين أو امتنعوا من التزام الحكم؛ كطريقة أبي الحسين من أصحابنا، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي. ومنهم مَن خصَّ سبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَه بأن يوجب القتل. والثاني: أنَّ السبَّ كالأفعال التي على المسلمين فيها ضررٌ من قتل المسلم والزنا بالمسلمة والجسِّ وما ذكر معه. وذكروا في تلك الأمور وجهين: أحدهما: أنَّه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها لم ينتقض العهد بفعلها، وإن شرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بذلك وجهان. والثاني: لا ينتقض العهد بفعلها مطلقًا. ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالًا، وهي أقوالٌ مشارٌ إليها، فيجوز أن _________ (1) كذا في «الصارم»، وفي مطبوعة «الأم»: «تقدَّم لك أمانٌ بأدائك للجزية». (2) انظر: «الأوسط» (13/ 483) و «معالم السنن» (3/ 296). (3) كما في «الصارم» (2/ 29 - 31).

(2/452)


تُسمَّى أقوالًا ووجوهًا. هذه طريقة العراقيين، وقد صرَّحوا بأنَّ المراد شرطُ تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها، كما ذكره أصحاب أحمد. وأمَّا الخراسانيون فقالوا: المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها. قالوا: لأنَّ الترك (1) موجَب نفسِ العقد. وذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجهٍ: أحدها: ينتقض العهدُ بفعلها. والثاني: لا ينتقض. والثالث: إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض وإلا فلا. ومنهم مَن قال: إن شُرِط نُقِض وجهًا واحدًا، وإن لم يشرط فوجهان. وحسبوا أنَّ مراد العراقيين بالاشتراط هذا، فقالوا حكايةً عنهم: وإن لم يَجرِ شرطٌ لم ينتقض العهد، وإن جرى فوجهان. ويلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنَّه [إن] لم يَجرِ شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها قولًا واحدًا وإن صُرِّح بشَرْطِ تركها. وهذا غلطٌ عليهم، والذي نصروه في كتب الخلاف: أنَّ سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقض العهد ويوجب القتل، كما ذكرناه عن الشافعي نفسه. فصل وأمَّا مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا (2): ينتقض العهد بالقتال، _________ (1) في الأصل: «الشرط»، والتصحيح من «الصارم». (2) كما في «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 495 - 496)، ولعل المؤلف صادر عنه.

(2/453)


أو منع الجزية، أو التمرُّد على الأحكام، أو إكراه المسلمة على الزنا، أو التطلُّع على عورات المسلمين. قالوا: ومَن نقض عهده وجب قتله ولم يسقط بإسلامه (1). قالوا: ومَن سبَّ منهم أحدًا من الأنبياء وَجَب قتلُه إلا أن يُسلِم. وأمَّا قطع الطريق والسرقة ونحوهما فحكمه فيها حكم المسلمين، يقام عليه فيه الحَدُّ كما يُقَام على المسلمين، وليس ذلك من باب نقض العهد. قالوا: وأمَّا رفع أصواتهم بكتابهم وركوب السروج وترك الغيار وإظهار معتقدهم في عيسى ونحو ذلك ممَّا لا ضررَ فيه على المسلمين، فإنَّما يُوجِب التأديب لا القتل. قالوا (2): وإذا ظهر نقض العهد من بعضهم، فإن أنكر عليه الباقون وظهر منهم كراهية ذلك اختصَّ النقض به، وإن ظهر رضاهم بذلك كان نقضًا من جميعهم، فعلامة بقائهم على العهد إنكارهم على من نقض عهده. فصل وأمَّا أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا: لا ينتقض العهد إلا بأن يكون لهم مَنَعةٌ، فيمتنعون من الإمام، ويمنعون الجزية، ولا يمكنه إجراء الأحكام عليهم. فأمَّا إذا امتنع الواحد منهم عن أداء الجزية أو فعل شيئًا من _________ (1) كذا، والظاهر أنه وهم، فنصُّ ابن شاس في «الجواهر»: «فإن أسلم لم يُقتَل، إذ قتله لنقض العهد لا للحد». ومثله في «الذخيرة» للقرافي (1/ 459). (2) انظر: «الكافي» لابن عبد البر (1/ 484). ولم أجده في «الجواهر» لابن شاس.

(2/454)


هذه الأشياء التي فيها ضررٌ على المسلمين أو غضاضةٌ على الإسلام لم يَصِر ناقضًا للعهد (1). لكن من أصولهم أنَّ ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمُثقَّل والتلوُّط وسبِّ الذمي لله ورسوله وكتابه ونحو ذلك، إذا تكرَّر فعلى الإمام (2) أن يقتل فاعله تعزيرًا. وله أن يزيد على الحد المقدَّر فيه إذا رأى [المصلحة] في ذلك، ويحملون ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القتل في مثل هذه الجرائم على أنَّه رأى المصلحة في ذلك ويسمُّونه القتل سِياسةً. وكان حاصله أنَّ للإمام أن يعزِّر بالقتل في الجرائم التي تغلَّظَت (3) بالتكرار، وشُرِع القتل في جنسها. ولهذا أفتى أكثر أصحابهم بقتل مَن أكثر من سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه، وقالوا: يُقتَل سِياسةً. وهذا متوجِّهٌ على أصولهم (4). قال القاضي في «التعليق»: والدلالة على أنَّ نقض العهد يحصل بهذه الأشياء وإن لم يشترطه في عقد الذمة: أنَّ الأمان (5) يقتضي الكفَّ عن الإضرار، وفي هذه الأشياء إضرارٌ، فيجب أن ينتقض العهد بفعلها كما لو شرط ذلك في عقد الأمان. _________ (1) انظر: «بدائع الصنائع» (7/ 113) و «الاختيار لتعليل المختار» (4/ 139). (2) كذا في الأصل، وفي «الصارم»: «فللإمام»، وهو الصحيح. (3) رسمه في الأصل: «». (4) هذه الفقرة من «الصارم» (2/ 31 - 32)، وقد نقلها منه ابنُ عابدين في «حاشيته» على «الدر المختار» (4/ 214 - 215) وقال: «لم أَرَ من صرَّح به عندنا، لكنه نقله عن مذهبنا وهو ثَبْت، فيقبل». (5) في الأصل والمطبوع: «الإمام»، تصحيف.

(2/455)


قال: ولأنَّ عقد الذمة عقد أمان فانتقض بالمخالفة من غير شرط كالهُدنة. قلتُ: واحتجَّ غيرُه من الأصحاب بوجوه أُخَر سوى ما ذكره (1). منها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فلا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطاء الجزية. والمراد بإعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها (2) إلى حين تسليمها وإقباضها. فإنَّهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكفُّ عنهم إلى أن نقبضها منهم، فمتى لم يلتزموها أو التزموها وامتنعوا من تسليمها لم يكونوا معطين لها. فليس المراد: يكونوا صاغرين حال تناوُل الجزية منهم فقط، ويفارقهم الصَّغار فيما عدا هذا الوقت، هذا باطلٌ قطعًا. وإذا عُلم هذا فمَن جاهَرَنا بسبِّ الله ورسوله، وإكراه حريمنا على الزنا، وتحريق جوامعنا ودُورنا، ورفع الصليب فوق رؤوسنا= فليس معه من الصَّغار شيء، فيجب قتاله قطعًا (3) بنصِّ الآية حتى يصير صاغرًا. _________ (1) المؤلف صادر عن «الصارم» (1/ 32 وما بعدها) في كثير من وجوه الاحتجاج الآتية، مع تحرير وزيادة وترتيب. (2) في الأصل: «أو التزامها»، والمثبت من «الصارم» أشبه. (3) سقط من المطبوع.

(2/456)


فإن قيل: فالمأمور به القتال إلى هذه الغاية (1)، فمن أين لكم القتل للمقدور (2) عليه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ كل مَن أُمِرنا بقتاله من الكفار فإنَّه يُقتَل إذا قدرنا عليه. الثاني: أنَّا (3) إذا كنَّا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يَجُز أن نعقد لهم عهد الذِّمَّة بدونها، ولو عُقد لهم [كان] عقدًا فاسدًا. الثالث: أنَّ الأصل إباحة دمائهم، يُمسِك عصمتها الحَبْلان: حبلٌ من الله بالأمر بالكفِّ عنهم، وحبلٌ من الناس بالعهد والعقد، ولم يوجد واحدٌ من الحبلين. أمَّا حبل الله سبحانه فإنَّه إنَّما اقتضى الأمر (4) بالكفِّ عنهم إذا كانوا صاغرين، فمتى لم يوجد وصف الصَّغار المقتضي للكفِّ منهم وعنهم، فالقتلُ للمقدور (5) عليه منهم والقتالُ للطائفة الممتنعة واجبٌ. وأمَّا حبل الناس فلم يعاهدهم الإمامُ والمسلمون إلا على الكفِّ عمَّا فيه إدخال ضرر على المسلمين وغضاضة في الإسلام، فإذا لم يوجد فلا عهد لهم من الإمام ولا من الله، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به. _________ (1) في الأصل: «فالمأثور ... العناية». (2) في الأصل والمطبوع: «المقدور»، والمثبت هو الصواب. (3) في الأصل: «أما»، تصحيف. (4) في الأصل: «الا»، نصف الكلمة. (5) في الأصل والمطبوع: «المقدور»، والمثبت هو الصواب.

(2/457)


فصل الدليل الثالث: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 7 - 12]، فنفى سبحانه أن يكون لمشرك عهدٌ ممَّن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عاهدهم إلا قومًا ذكرهم فجعل لهم عهدًا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلم أنَّ العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا. ومعلومٌ أنَّ مُجاهَرتنا بتلك الأمور العِظام تقدح في الاستقامة، كما تقدح مُجاهرتنا بالمحاربة (1) فيها، بل مجاهرتنا بسبِّ ربِّنا ونبيِّنا وكتابِه وإحراق مساجدنا ودُورنا أشدُّ علينا من مجاهرتنا بالمحاربة إن كنَّا مؤمنين، فإنَّه يجب علينا أن نبذُلَ دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولا يُجهَر بين أظهرنا بشيء من أذى الله ورسوله. فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا مع القدح في أهون الأمرين، فكيف يستقيمون لنا مع القدح في أعظمهما؟! يوضِّح ذلك قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يَرقُبوا الرَّحِم التي بينكم وبينهم ولا العهد، فعُلِم أنَّ مَن كانت حالته أنَّه إذا ظهر لم يَرقُب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهدٌ. ومَن جاهرنا بالطعن في ديننا وسبِّ ربِّنا ونبيِّنا كان ذلك من أعظم الأدلة _________ (1) في الأصل والمطبوع: «بالاستقامة»، سهو أو سبق فلم. والسياق يقتضي المثبت، وقوله بعده: «فيها» أي: في الاستقامة.

(2/458)


على أنَّه لو ظهر علينا لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه، فإنَّه إذا كان هذا فِعله مع وجود العهد والذلة، فكيف يكون مع القدرة والدولة؟ وهذا بخلاف مَن لم يُظهِر لنا شيئًا من ذلك، فإنَّه يجوز أن يفي لنا بالعهد ولو ظهر. فإن قيل: فالآية إنَّما هي في أهل الهُدنَة المقيمين في دارهم. قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ لفظها أعمُّ. الثاني: أنَّها إذا كان معناها في أهل الذمة المقيمين بدارهم فثبوته في أهل الذمة المقيمين بدارنا أولى وأحرى. فصل الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ} [التوبة: 12]، فأمر سبحانه بقتال مَن نكث يمينه، أي: عهده الذي عاهدَنا عليه من الكفِّ عن أذانا والطعن في ديننا، وجَعَل علَّة قتاله ذلك، وعطف الطعن في الدين على نكث العهد وخصَّه بالذكر بيانًا أنَّه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال، ولهذا تغلَّظ على صاحبه العقوبة. وهذه كانت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه كان يَهدِر دماء مَن آذى الله ورسوله وطعن في الدِّين ويُمسِك عن غيره. فإن قيل: فالآية تدلُّ على أنَّ مَن نقض عهدَه وطعن في الدِّين فإنَّه يُقاتَل، فمن أين لكم أن من طعن في الدين ولم ينقض العهد (1) يُقاتَل؟ ومعلومٌ أنَّ _________ (1) في الأصل لحق في الهامش غير محرر يشبه: «له» ولم يتبيَّن وجهه، وأثبت في المطبوع: «لم» ففسد السياق وانقلب المعنى.

(2/459)


الحكم المعلَّق بوصفين لا يَثبُت إلا بوجود أحدهما. فالجواب من وجوهٍ: أحدها: أنَّ هذا من باب تعليق الحكم بالوصفين المتلازمين اللَّذَين لا ينفَكُّ أحدهما عن الآخر، فمتى تحقَّق أحدُهما تحقَّق الآخر. وهذا كقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ اِلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُلْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهْ مَا تَوَلَّى} [النساء: 114]، وكقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ} [البقرة: 41]، وقوله: {وَمَن يَعْصِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]، ونظائره كثيرةٌ جدًّا. فلا يُتصوَّر بقاؤه على العهد مع الطعن في ديننا، بل إمكان بقائه على العهد [مع منعه] دينارًا (1) أقربُ من بقائه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين، بل إن أمكن بقاؤه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين وسبِّه اللهَ ورسولَه أمكن بقاؤه عليه مع المحاربة باليد ومنع إعطاء الجزية، وهذا واضحٌ (2) لا خفاء به. الجواب الثاني: أنَّه لا بدَّ أن يكون لكلِّ صفةٍ من هاتين الصفتين تأثير (3) في الحكم، وإلا فالوصف العديم التأثير لا يتعلَّق به الحكم، فلا يَصِحُّ أن _________ (1) أي: من الجزية. وقد استشكل الناسخ «دينارًا» وكتب عليه «كذا» بالحمرة. وأما في المطبوع فصار «دينًا»! وبالتقدير الذي بين الحاصرتين يستقيم السياق، ولعله سقط هو أو نحوه لانتقال النظر. (2) في الأصل: «أوضح»، ولعل المثبت أشبه. (3) في الأصل والمطبوع: «ما يبين»، تصحيف. والتصحيح من «الصارم».

(2/460)


يقال: مَن أكل وزنى حُدَّ. ثم قد تكون كلُّ صفةٍ مستقِلَّةً بالتأثير لو انفردت، كما يقال: يُقتَل هذا لأنَّه زانٍ مرتدٌّ. وقد يكون مجموع الجزاء مرتبًا على المجموع، ولكلِّ وصفٍ تأثيرٌ في البعض، كما قال تعالى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]. وقد تكون تلك الصفات متلازمةً، كلٌّ منها لو فرض تجرُّده لكان مؤثِّرًا على سبيل الاستقلال، فيُذكَر إيضاحًا وبيانًا للموجِب (1). وقد يكون بعضها مستلزمًا للبعض من غير عكسٍ، كما قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَيَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21]. وهذه الآية من أي الأقسام فُرِضت كانت دليلًا، لأنَّ أقصى ما يقال: إن نقضَ العهد هو المبيح للقتال، والطعنَ في الدِّين مؤكِّدٌ له مُوجِبٌ له. فنقول: إذا كان الطعن يغلِّظ قتال من ليس بيننا وبينه عهدٌ ويوجبه، فلأن يُوجِب قتلَ مَن بيننا وبينه ذِمَّةٌ ــ وهو ملتزمٌ للصَّغار ــ أولى، فإنَّ المعاهد له أن يُظهر في داره ما شاء من أمر دينه، والذِّمِّي ليس له أن يُظهر في دار الإسلام شيئًا من دينه الباطل. الجواب الثالث: أنَّ مجرَّد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة ولو تجرَّد عن الطعن في الدِّين، وضررُه أيسر (2) من ضرر الطعن في الدين علينا، فإذا كان أيسر الأمرين مقتضِيًا للمقاتلة فكيف بأشدِّهما؟ _________ (1) رسمه في الأصل: «بالموجب». والمثبت من «الصارم». (2) في الأصل والمطبوع: «أشد»، تصحيف.

(2/461)


الجواب الرابع: أنَّ الذمِّي إذا سبَّ الله والرسول أو عاب الإسلام علانيةً فقد نكث يمينَه وطعن في ديننا، ولا خلافَ بين المسلمين أنَّه يعاقب على ذلك بما يَردَعه ويُنكَّل به؛ فعُلِم أنَّه لم يعاهدنا عليه، إذ لو كان معاهدًا عليه لم تجُزْ عقوبتُه عليه كما لا يُعاقَب على شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك. وإذا كنا عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن فقد نكث يمينه من بعد عهده، فيجب قتلُه بنصِّ الآية. قال شيخنا (1): وهذه دلالةٌ ظاهرةٌ جدًّا، لأنَّ المُنازِع سلَّم لنا أنَّه (2) ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه، لكنَّه يقول: ليس كلُّ ما مُنع منه نقض عهدَه كإظهار الخمر والخنزير. ولكن الفرق بين مَن وُجد منه فِعْلُ ما مَنَع [منه] العهدُ ممَّا لا يضُرُّ بنا ضررًا بيِّنًا، كترك الغيار مثلًا وشرب الخمر وإظهار الخنزير، وبين مَن وُجِد منه فِعلُ ما منع منه العهدُ ممَّا (3) فيه غاية الضرر بالمسلمين وبالدين، فإلحاق أحدهما بالآخر باطلٌ. يوضِّح ذلك الجواب الخامس: أنَّ النكث هو مخالفة العهد، فمتى خالفوا شيئًا ممَّا صُولِحوا عليه فهو نكثٌ؛ مأخوذٌ من نَكْث الحبلِ، وهو نقض قواه، ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة، كما يحصل بنقض جميع القُوى، لكن قد [يبقى من قواه ما] (4) يتمسَّك به الحبل، وقد يَهِن بالكلية. _________ (1) «الصارم المسلول» (2/ 38 - 40). (2) في الأصل: «سلَّم أن لنا به»، والمثبت من «الصارم» (3) في الأصل: «ما». (4) ما بين الحاصرتين من «الصارم». وكذا في الموضع الآتي.

(2/462)


وهذه المخالفة من المعاهد قد تُبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيًّا، وقد تُشعِّث العهد حتى تبيح عقوبتهم، كما أنَّ فَقْدَ بعض الشروط في البيع والنكاح وغيرهما قد يُبطِله بالكلية، وقد يبيح الفسخ والإمساك. وأمَّا مَن قال: ينتقض العهد بجميع المخالفات، فظاهرٌ على قوله (1). قال القاضي في «التعليق»: واحتَجَّ المخالف (2) بأنَّهم لو أظهروا مُنكرًا في دار الإسلام، مثل إحداث البيع والكنائس في دار الإسلام، ورفعِ الأصوات بكتبهم، والضربِ بالنواقيس، وإطالةِ البناء على أبنية المسلمين، وإظهارِ الخمر والخنزير، وكذلك ما أُخِذ عليهم تركُه من التشبُّه بالمسلمين في ملبوسهم ومركوبهم وشعورهم وكُنَاهم [= لم ينتقض عهدهم] (3). قال: والجواب أنَّ مِن أصحابنا مَن جعله ناقضًا للعهد بهذه الأشياء، وهو ظاهر كلام الخِرَقي، فإنَّه قال (4): ومن نقض العهد بمخالفة شيء ممَّا صولحوا عليه عاد حربيًّا؛ فعلى هذا لا نسِّلم. وإنَّ سلَّمناه فالمعنى (5) فيها أنَّه لا ضرر على المسلمين فيها، وإنَّما نُهُوا عن فعلِها لِما في إظهارها من المنكر، _________ (1) انتهى كلام شيخ الإسلام، وسيرجع إليه المؤلف بعد النقل عن القاضي أبي يعلى. (2) في الأصل والمطبوع: «القاضي»، سهو أو سبق قلم. والمثبت هو عادة القاضي في «التعليق» كما في القدر المطبوع منه. (3) زيادة لازمة لإقامة السياق. (4) في «المختصر» (13/ 236 مع المغني). (5) في الأصل: «فالعين»، تصحيف. والمثبت جارٍ على سَنن القاضي في كتابه.

(2/463)


وليس كذلك في مسألتنا (1)، لأنَّ في فعلها ضررًا بالمسلمين، فبان الفرق. انتهى كلامه. قال شيخنا (2): فعلى التقديرين فقد اقتضى العقدُ أن لا يُظهروا شيئًا من عيب ديننا، وأنَّهم متى أظهروه فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظًا ومعنى، ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص. فصل وفي الآية دليل من وجه آخر، وهو قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ}، وهم الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في ديننا، ولكن أقام الظاهرَ مقام المُضمَر تنبيهًا (3) على الوصف الذي استحقُّوا به المُقاتَلة، كقوله: {وَاَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا اُلصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] ونظائره، فدلَّ على أنَّ مَن نكث يمينه وطعن في ديننا فهو من أئمة الكفر، وإمام الكفر هو الداعي إليه المتَّبَع (4) فيه. وإنما صار إمامًا في الكفر لأجل الطعن، وإلا فمجرَّد النكث لا يوجب ذلك. وهذا ظاهرٌ، فإنَّ الطاعن في الدين يعيبه ويذمُّه ويدعو إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فإذا طعن الذميُّ في الدين كان إمامًا في الكفر فيجب قتاله. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «ملَّتنا»! (2) «الصارم» (2/ 40). (3) في الأصل والمطبوع: «بينهما»، تصحيف عن المثبت. (4) في الأصل: «الممتنع»، تصحيف. والتصحيح من «الصارم».

(2/464)


وقوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} علَّةٌ أخرى لقتاله. فأمَّا على قراءة الكسر (1) فتكون الآية (2) قد تضمَّنَت ذكر المقتضي للقتال ــ وهو نكث العهد والطعن في الدين ــ وبيانَ عدمِ المانع من القتال وهو الإيمان العاصِم (3). وأمَّا على قراءة فتح الألف فالأيمان جمع يمينٍ (4). وهي أحسن القراءتين، لأنه قد تقدَّم في أول الآية قوله: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم}، فأخبر سبحانه عن سبب القتال ــ وهو نكث الأيمان والطعن في الدين ــ ثم أخبر أنه لا أيمان لهم تعصمهم من القتل، لأنهم قد نكثوها. والمراد بالأيمان هنا العهود لا القسم بالله، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقاسمهم بالله عام الحديبية، وإنما عاهدهم، ونسخة الكتاب محفوظةٌ (5) ليس فيها قسمٌ، وهذا لأن كلًّا من المتعاهدين يمدُّ يمينه إلى الآخر، ثم صار مجرد الكلام بالعهد يُسمَّى يمينًا، وإن لم يحصل فيه مدُّ اليمين. وقد قيل: سمِّي العهد يمينًا [لأنَّ اليمين] (6) هي القوة والشدة، كما قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ _________ (1) أي: كسر همزة {أَيْمَانَ}، وهي قراءة ابن عامر وحدَه. انظر: «النشر» (2/ 278). (2) في الأصل: «الاسر»، تحريف. (3) هذا إذا كان الإيمان بمعنى الإيمان بالله ورسوله. ويحتمل أن يكون الإِيمان مصدر «آمَنَه» إذا أمَّنه، أي: أعطاه الأمان. فيكون المعنى: لا يُؤمَنون، أي: لا يجوز إعطاؤهم الأمانَ بعد نكثهم وطعنهم. (4) في الأصل: «بهن»! (5) في الأصل: «»، ولعله تصحيف عن المثبت. وفي «الصارم»: «معروفة». (6) ما بين الحاصرتين من «الصارم».

(2/465)


بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]، ولما كان الحلف معقودًا مشدودًا سمِّي يمينًا. فاسم اليمين جامعٌ للعهد الذي بين العبد وبين ربِّه ــ وإن كان نذرًا، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النذر حلفةٌ» (1) ــ وللعهد الذي بين المخلوقين. ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنقُضُوا اُلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، فالنهي عن نقض (2) العهود وإن لم يكن فيها قسمٌ. وقال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اِللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، ولم (3) يكن هناك قسمٌ. ومنه قوله تعالى: {وَاَتَّقُوا اُللَّهَ اَلَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَاَلْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، معناه: تتعاهدون وتتعاقدون به. والمقصود: أن كل (4) من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدًا يقتضي أن _________ (1) أخرجه أحمد (17340) وأبو يعلى (1744) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «النذر يمين»، وإسناده ضعيف. والمحفوظ في حديث عقبة لفظُ مسلمٍ (1645) وغيره: «كفارة النذر كفارة اليمين». ولفظ «النذر حلفة» ذكره الإمام أحمد في «مسائله» برواية صالح (1/ 396) موقوفًا على عقبة من قوله. وذكره شيخ الإسلام في مواضع من تصانيفه، تارةً مرفوعًا كما هنا (أي: في الصارم 2/ 42)، وتارةً موقوفًا كما في «الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» (ص 118، 364، 531). (2) في الأصل والمطبوع: «بعض»، والتصحيح من «الصارم». (3) في الأصل: «وإن لم»، ولعله سهو. والمراد أن بيعة الرضوان لم يكن فيها قسم. (4) في الأصل: «كان»، تصحيف.

(2/466)


لا يفعل ذلك، فهو إمامٌ في الكفر لا يمين له، فيجب قتله بنص الآية. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمامٍ في الكفر، وهو من خالف بفعل (1) شيء مما صولح عليه. فصل الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ اِلرَّسُولِ} [التوبة: 13]، فجعل همهم بإخراج الرسول موجِبًا لقتالهم لما فيه من الأذى له. ومعلومٌ قطعًا أن سبَّه أعظم أذًى له من مجرد إخراجه من بلده، ولهذا عفا - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه ولم يعفُ عمَّن سبه. فالذمي إذا أظهر سبه - صلى الله عليه وسلم - فقد نكث عهده، وفعل ما هو أعظم من الهمِّ بإخراج الرسول، وبدأ بالأذى (2) فيجب قتاله. فصل الدليل السادس: قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اُللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15]، فأمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين، ورتَّب على ذلك ستة أشياء: تعذيبهم بأيدي (3) المؤمنين، وخزيهم، والنصرة _________ (1) رسمه في الأصل: «». (2) إشارة إلى قوله تعالى في تمام الآية المذكورة: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. (3) في المطبوع: «بأذى»، تصحيف.

(2/467)


عليهم، وشفاء صدور المؤمنين، وذهاب غيظ قلوبهم، وتوبته على غيرهم. والتقدير: إن تقاتلوهم يحصُلْ هذا. وإذا كانت هذه الأمور مرتبةً على قتال الناكث والطاعن في الدين، وهي أمور مطلوبة= كان سببها المقتضي لها مطلوبًا للشارع، وهو القتال. وإذا كانت هذه الأمور مطلوبةً حاصلةً بالقتال لم يَجُزْ تعطيل القتال الذي هو سببها مع قيام المقتضي له من جهة من يقاتله، وهو النكث والطعن في الدين. فشفاء الصدور الحاصل من ألم النكث والطعن، وذهابُ الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك= مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول. ولا ريب أن من أظهر سبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة، فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر من سفك دماء بعضهم وأخذِ أموالهم، فإن هذا يثير (1) الغضب لله والحميةَ له ولرسوله، وهذا القدر لا يهيِّج في قلب المؤمن غيظًا (2) أكثر منه، بل المؤمن المسدَّد لا يغضب هذا الغضب إلا لله ورسوله. والله سبحانه يحب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل السبَّاب لأوجهٍ: أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدًا من المسلمين، فلو أذهب التعزير والتأديب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من سبِّ نبيهم مثلَ غيظهم من سبِّ واحدٍ منهم، وهذا باطلٌ قطعًا. _________ (1) في الأصل: «يبين»، تصحيف. (2) في الأصل: «غيظ»، والتصحيح من «الصارم».

(2/468)


الثاني: أن شتمه أعظمُ عندهم من أن يسفك دماءَ بعضهم (1)؛ [فـ] ـلو قَتَل واحدًا (2) منهم لم يشفِ صدورَهم إلا قتلُه، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل السابِّ أولى وأحرى. الثالث: أن الله جعل قتالهم هو السببَ في حصول الشفاء، والأصل عدم سببٍ آخرَ يُحصِّله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا. الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خُزاعة ــ وهم القوم المؤمنون ــ من بني بكر الذين قاتلوهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس (3). فلو كان شفاءُ صدورهم وذهابُ غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين (4) نكثوا أو طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه الناس. _________ (1) بعده في الأصل: «بعضًا دمائهم»، ثم ضرب الناسخ على الكلمة الثانية، وحقُّ الأولى أن يُضرب عليها أيضًا، إذ المراد: أن شتم الكافر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم عندهم من أن يسفك ذلك الكافر دماءَ بعضهم. وقارن بـ «الصارم» (2/ 47). (2) في الأصل: «واحد»، والمثبت أشبه. (3) كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: «كُفُّوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر»، فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم قال لهم: «كُفُّوا السلاح». أخرجه أحمد (6681) وابن أبي شيبة (38059) بإسناد حسن. وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن حبان (5996)، ومن مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة (38057) بنحوه. (4) في الأصل: «الذين».

(2/469)


فصل الدليل السابع: قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ اَلْخِزْيُ اُلْعَظِيمُ} [التوبة: 63]، ذكر سبحانه هذه الآية عقيب قوله: {وَمِنْهُمُ اُلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُن} [التوبة: 61]، فجعلهم مؤذين له بقولهم: {هُوَ أُذُن}، ثم قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فجعلهم بهذا محادِّين. ومعلومٌ قطعًا أن من أظهر مسبة الله ورسوله والطعن في دينه أعظم محادةً له ولرسوله (1). وإذا ثبت أنه محادٌّ فقد قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي اِلْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20]، والأذل أبلغ من الذليل. ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله، لأن من كان دمُه ومالُه معصومًا لا يُستباح فليس بأذلَّ، يدل عليه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ اِلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اَللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ اَلنَّاسِ} [آل عمران: 112]، فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد، فعُلِم أنَّ من له عهدٌ وحبلٌ يأمن به على نفسه وماله لا ذلَّة عليه وإن كانت عليه المسكنة، فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة. وقد جعل سبحانه المحادِّين في الأذلِّين، فلا يكون لهم عهد، إذ العهد ينافي الذلةَ كما دلت عليه الآية. وهذا ظاهر، فإن الأذل ليس له قوةٌ يمتنع بها ممن أراده بسوءٍ، فإذا كان [له] من المسلمين عهدٌ يجب عليهم به نصرُه ومنعُه فليس بأذلَّ. فثبت أن المحادَّ لله ورسوله لا يكون له عهدٌ يعصمه. _________ (1) في الأصل: «ورسوله».

(2/470)


فصل الدليل الثامن: قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والكبت: الإذلال والخزي والصرع (1) على الوجه. قال النضر وابن قتيبة (2): هو الغيظ والحزن. وقال أهل التفسير (3): {كُبِتُوا} أُهلكوا (4) وأُخزوا وحُزِنوا. وإذا كان المُحادُّ مكبوتًا، فلو كان آمنًا على نفسه وماله لم يكن مكبوتًا بل مسرورًا جذلًا يشفي صدره من الله ورسوله آمنًا على دمه وماله، فأين الكبت إذًا؟ ويدل عليه قوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، فخوَّفهم بكبتٍ نظير كبت من قبلهم، وهو الإهلاك من عنده أو بأيدي عباده وأوليائه. وقوله: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] عقيب قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ} دليل على أن المحادَّةَ مغالَبةٌ ومعاداةٌ حتى يكون أحدُ المحادِّين غالبًا. وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم، فعُلم أن المحادَّ ليس بمسالمٍ، فلا يكون له أمانٌ مع المحادَّة. وقد جرت سنة الله سبحانه أن الغلبة لرسله بالحجة والقهر، فمن أُمِر منهم بالحرب نُصِر _________ (1) في الأصل: «والتصرع»، تصحيف. (2) انظر: «غريب القرآن» له (ص 110، 457). (3) انظر: «مجاز القرآن» لأبي عُبيدة (2/ 255)، «تفسيرالطبري» (22/ 466)، و «معالم التنزيل» (8/ 54). (4) في الأصل: «هلكوا»، والمثبت من «الصارم».

(2/471)


على عدوِّه، ومن لم يُؤمر بالحرب أُهلِك عدوُّه. يوضِّحه أنَّ المحادَّة مشاقةٌ، لأنَّها من الحدِّ والفصل والبينونة، وكذلك المشاقة من الشِّقِّ، وكذلك المعاداة من العُدوة وهي الجانب، يكون أحد العدوَّين في شقٍ وجانبٍ وحدٍّ، وعدوُّه الآخر في غيرها. والمعنى في ذلك كله معنى المقاطعة والمفاصلة، وذلك لا يكون إلا مع انقطاع الحبل الذي بيننا وبين أهل العهد، لا يكون مع اتصال الحبل أبدًا. يوضحه: أنَّ الحبل وُصلةٌ وسببٌ، فلا يجامع المفاصلة والمباينة. وأيضًا: فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فقد قال تعالى: {فَاَضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَاَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اُللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اُلْعِقَابِ} [الأنفال: 12 - 13]، فأمر بضرب أعناقهم، وعلَّل ذلك بمشاقَّتهم ومُحاددتهم (1)، وكل من فعل ذلك وجب أن يضرب عنقه. وهذا دليل تاسعٌ في المسألة. وتركيبه (2) هكذا: هذا مشاقٌّ لله ورسوله، والمشاق لله ورسوله مستحقٌّ ضربَ العنق، وقد تبيَّنت صحة المقدمتين. ونظير هذا الاستدلال: قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمِ اِلْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي اِلدُّنْيا وَلَهُمْ فِي اِلْآخِرَةِ عَذَابُ اُلنّارِ} [الحشر: 3]، والتعذيب في الدنيا هو القتل والإهلاك، ثم علَّل ذلك بالمشاقَّة، وأخَّر عنهم ذلك التعذيب _________ (1) كذا في الأصل بفكِّ الإدغام. (2) في الأصل: «تركته»، فأثبت صبحي الصالح: «ترتيبه»، والمثبت أقرب إلى الرسم.

(2/472)


لما سبق من كتابة الجلاء عليهم. فمن (1) وجدت منه المشاقَّة [من] غيرهم ممن لم يَكتب عليه الجلاء استحقَّ عذاب الدنيا الذي أخَّره عن أولئك. وهذا دليل عاشرٌ في المسألة. فصل الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه الأفعال أذًى لله ورسوله قطعًا، بل أذى الله ورسوله يحصل بدونها. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]، فيجب أن يكون هذا الملعون في الدنيا والآخرة عادم النصير بالكلية، فلو كان مالُه ودمُه معصومَين لوجب على المسلمين نصرته وكانوا كلُّهم أنصارَه. وهذا مخالفةٌ صريحةٌ لقوله: {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}. يوضحه الدليل الثاني عشر: وهو أن هذا مؤذٍ لله ورسوله، فتزول العصمة عن نفسه وماله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله» (2)، فندب إلى قتله بعد العهد، وعلَّل ذلك بكونه آذى الله ورسوله، وستأتي قصته إن شاء الله تعالى. فصل الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ _________ (1) في الأصل: «فمتى»، تصحيف. (2) أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.

(2/473)


وَيَكُونَ اَلدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، فمدَّ قتالهم إلى أن ينتهوا عن أسباب الفتنة وهي الشرك، وأخبر أنه لا عدوان إلا على الظالمين، والمجاهِرُ بالسبِّ والعدوان على الإسلام غيرُ منتهٍ، فقِتاله واجبٌ إذا كان غير مقدورٍ عليه، وقتلُه مع القدرة حتم، وهو ظالم فعليه العدوان الذي نفاه عمن انتهى، وهو القتل والقتال. وهذا بحمد الله في غاية الوضوح. فصل الدليل الرابع عشر: قوله: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 1 - 4]، فأمر سبحانه أن يوفى لهم ما لم ينقصونا شيئًا مما عاهدناهم عليه. ومعلومٌ أن من فعل تلك الأفعال فقد نقصَنا جلَّ ما عاهدناه عليه ما خلا الدينار الذي هو أهون شيءٍ عُوهِد عليه، فهو أولى بفسخ العهد من نقص الدينار، ولا كان باذِلَه وقد جاهر بأعظم العداوة. يوضِّحه: أنَّ الدينار لم يأخذه منه المسلمون لحاجتهم إليه، وقد فتح الله عليهم الدنيا، وإنما أُخِذ منه إذلالًا له وقهرًا حتى يكون صاغرًا، فإذا امتنع من بذله لم يكن صاغرًا فاستحقَّ القتل، فإذا أتى ما هو أعظم من منع الدينار مما ينافي الصغار، فاستحقاقه للقتل أولى وأحرى. وهذا يقرُب من القطع (1). * * * * _________ (1) في الأصل: «المقاطع»، ولعله تصحيف عن المثبت. وقد سبق مثله (ص 102).

(2/474)


 ذكر الأدلة من السنة على وجوب قتل السابِّ وانتقاض عهده

الدليل الأول: ما رواه الشعبي عن عليٍّ أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها. وهكذا رواه أبو داود في «السنن» (1). واحتج به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله (2) فقال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كان رجل من المسلمين أعمى يأوي إلى امرأةٍ يهوديةٍ، فكانت تُطعمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتؤذيه، فلما كان ليلةٌ من الليالي خنقها فماتت، فلما أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر له أمرها، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها. قال شيخنا (3): وهذا الحديث جيِّدٌ، فإنَّ الشعبي رأى عليًّا وروى عنه حديث شُراحة الهَمْدانية (4)، وكان في حياة عليٍّ قد ناهز العشرين سنةً وهو معه في الكوفة، وقد ثبت لقاؤه لعلي - رضي الله عنه -، فيكون الحديث متصلًا. _________ (1) رقم (4362) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 60) والضياء في «المختارة» (2/ 169) ــ من طريق جرير عن مغيرة عن الشعبي به. (2) وعنه الخلال في «الجامع» (2/ 341). (3) «الصارم المسلول» (2/ 126). (4) وهو أنها زنت فاعترفت، فجلدها عليٌّ يومَ الخميس مائة، ورجمها يوم الجمعة. قال الشعبي «وأنا شاهد». أخرجه أحمد (978، 1210). وهو في البخاري (6812) مختصرًا وليس فيه التصريح بشهوده الواقعةَ.

(2/475)


وإن يبعُد سماع الشعبي من عليٍّ فيكون الحديث مرسلًا. والشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له إلا مرسلًا صحيحًا (1)، وهو من أعلم الناس بحديث عليٍّ وأعلمهم بثقات أصحابه. وله شاهدٌ من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو: الدليل الثاني: قال الإمام أحمد (2): حدثنا رَوحٌ، حدثنا عثمان الشحَّام، حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلًا كانت له أم ولدٍ تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلها، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّها كانت تشتمك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إنَّ دم فلانة هدرٌ». رواه أبو داود والنسائي (3) من حديث إسماعيل بن جعفرٍ، عن إسرائيل، عن عثمان الشحَّام، عن عكرمة، عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولدٍ تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلةٍ جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه، فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها واتَّكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذُكِر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجمع الناس فقال: _________ (1) أسند العقيلي (2/ 278) عن علي ابن المديني أنه قال: «مرسل الشعبي وابن المسيِّب أحبُّ إليَّ من داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس». وقال العجلي في «الثقات» (2/ 12): «مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحًا». (2) كما في «جامع الخلال» (2/ 341) عن عبد الله عنه. وإسناده حسن في المتابعات. (3) «سنن أبي داود» (4361)، «سنن النسائي الكبرى» (3519) و «المجتبى» (4070). وأخرجه أيضًا الطبراني في «الكبير» (11/ 351) والدارقطني في «السنن» (3194، 3195، 4503 - 4505) والحاكم (4/ 354) والضياء (12/ 158) والبيهقي (7/ 60) من طرق عن إسرائيل به.

(2/476)


«أنشد الله رجلًا فعل [ما فعل]، لي عليه حقٌّ إلا قام»، فقام الأعمى يتخطَّى الناس وهو يتدَلْدَل حتى قعد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقةً، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأتُ عليها حتى قتلتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا اشهدوا أنَّ دمها هدرٌ». و «المغول» بالغين المعجمة، قال الخطابي (1): هو شبيه المِشْمَل ونصله دقيقٌ ماضٍ. وكذلك قال غيره (2): هو سيفٌ دقيقٌ يكون غِمْده كالسوط. والمِشْمَل: السيف القصير، سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل، أي: يغطيه بثوبه. واشتقاق المغول مِن: غاله الشيءُ واغتاله، إذا أخذه من حيث لا يدري. قال شيخنا (3): فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى، وعليه يدل كلام الإمام أحمد؛ لأنه قيل له في رواية ابنه عبد الله (4): في قتل الذمي إذا سبَّ أحاديث؟ قال: نعم، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال: سمعتها تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين. وعلى هذا فيكون قد خنقها وبعج بطنها، أو تكون كيفية القتل غير محفوظة في إحدى الروايتين. _________ (1) في «معالم السنن» (6/ 199). والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 142). (2) كالجوهري في «الصحاح» (5/ 1786). (3) «الصارم السلول» (2/ 143). (4) ليس في المطبوع منها، ولا نقلها الخلال بهذا التمام.

(2/477)


ويؤيِّد ذلك: أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين، كلٌّ منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم، وكلاهما قتلها وحده، وكلاهما نشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الناس= بعيدٌ في العادة. وعلى هذا التقدير فالمقتولة (1) يهوديةٌ كما جاء مفسرًا في تلك الرواية. ويمكن أن تكونا قصتين كما يدل عليه ظاهر الحديثين. فإن قيل: يجوز أن تكون هذه المرأة من أهل الحرب ليست من أهل الذمة، وحينئذ لا يدل على قتل الذمي المعاهَد وانتقاض عهده بالسب. قيل: هذا ظنَّه بعضُ الناس الذين ليس لهم بالسنة كثير علمٍ. وهو غلطٌ لأن هذه المرأة كانت من اليهود، وكانت (2) موادِعةً مهادِنةً، لأن (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعةً مطلقةً، ولم يضرب عليهم جزيةً، وهذا مشهورٌ عند [أهل] العلم بمنزلة التواتر بينهم. قال الشافعي رحمه الله تعالى (4): لم أعلم مخالفًا من أهل العلم بالسير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نزل المدينة وادع يهود كافةً على غير جزيةٍ. وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصنافٍ من اليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وكان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وكانت قريظة حلفاء الأوس. فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) في الأصل: «المقتول»، والمثبت من «الصارم». (2) «من اليهود، وكانت» سقط من المطبوع لانتقال النظر. (3) في الأصل: «ان»، وقد سبق مثله في الأصل مرارًا. (4) في «الأم» (5/ 503)، والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 128).

(2/478)


هادنهم ووادعهم، مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه، حتى إنه عاهد اليهود أن يعينوه إذا حارب. ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة. قال محمد بن إسحاق (1): وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ يعني في أول ما قدم المدينة ــ كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم. قال ابن إسحاق (2): حدثني عثمان بن محمد بن الأخنس بن شريقٍ قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب، كان مقرونًا (3) بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال، كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمَّدٍ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين والمؤمنين مِن قريشٍ ويثربَ ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمةٌ واحدةٌ دون الناس، المهاجرون من قريشٍ على رِبْعَتهم (4) يتعاقلون بينهم مَعاقِلَهم (5) الأولى، يفدون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوفٍ على رِبْعَتهم يتعاقلون معاقلهم (6) الأولى، _________ (1) كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 501). (2) أخرجه البيهقي في «السنن» (8/ 106) من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق به. والكتاب في «سيرة ابن هشام» عن ابن إسحاق معلَّقًا. (3) في الأصل: «معروفًا»، تصحيف. (4) أي: حالهم، وأمرهم الذي كانوا عليه. (5) في الأصل: «بعاقلتهم»، تصحيف. ومعنى «يتعاقلون بينهم معاقلَهم الأولى» أَي: يكونون على ما كانوا عليه من أخذِ المَعاقِل ــ وهي العُقُول، أي: الدِّيات ــ وإعطائها. (6) في الأصل: «معاقلتهم»، تصحيف أو وهم، نحا به منحى المصدر.

(2/479)


وكل طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، ثم ذكر لبطون الأنصار: بني حارثٍ، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوفٍ، وبني النَّبِيت (1) مثل هذا الشرط. ثم قال: «وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا (2) منهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقلٍ، ولا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونه ... » إلى أن قال: «وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، فإن المؤمنين بعضهم مولى بعضٍ دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا متناصرٍ عليهم، وإن سِلْم المؤمنين واحدةٌ ... » إلى أن قال: «وإن اليهود متفقون مع المؤمنين ما داموا محارَبين، وإن ليهود بني عوفٍ ذمةً من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقِعُ (3) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا _________ (1) في المطبوع: «الأوس»، خلافًا للأصل. (2) المُفرَح: المُثْقَل بالدين والمحتاج المغلوب. وهو من الأضداد. (3) كذا في الأصل هنا وفي الموضع الآتي، وكذا في جميع نسخ «الصارم» الخطية، كما نبَّه عليه محققه، والمؤلف صادر عنه. وفي «السيرة» و «سنن البيهقي»: «لا يوتِغُ»، أي: لا يضرُّ ولا يُهلك إلا نفسه.

(2/480)


يوقع إلا نفسه وأهل بيته. وإن لِجَفْنَةَ (1) ــ بطنٌ من بني ثعلبة ــ مثله، وإن لبني الشَّطْبة (2) مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم». ثم يقول فيها: «وإن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثمٍ، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَثٍ واشتجارٍ (3) يخشى فساده، فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة». [وفيها أشياء أُخر. هذه الصحيفة] (4) معروفةٌ عند أهل العلم. روى مسلم في «صحيحه» (5) عن جابر - رضي الله عنه - قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كل بطنٍ عُقُوله، ثم كتب: «أنه لا يحلُّ أن يُتَولَّى مولى رجلٍ مسلمٍ بغير إذنه». فقد بيَّن فيها أن كلَّ من تبع المسلمين من اليهود (6) فإن له النصر. ومعنى الاتِّباع مسالمته وترك محاربته، لا الاتِّباع في الدين كما بيَّنه في أثناء _________ (1) في الأصل: «الجفنة»، خطأ. فأثبت في المطبوع: «لحقه»! وفي مطبوعة «الصارم»: «لحقته»! (2) في الأصل: «الطية»، تصحيف. (3) في المطبوع: «حرث وأشجار»! (4) ما بين الحاصرتين من «الصارم»، وقد سقط من الأصل لانتقال النظر. (5) برقم (1507)، وكذا أحمد (14445) واللفظ به أشبه. (6) في الأصل: «تبع اليهود من المسلمين»، مقلوب سهوًا. والتصحيح من «الصارم».

(2/481)


الصحيفة، فكل من أقام بالمدينة ومَخاليفِها (1) غيرَ محاربٍ من يهود دخل في هذا. ثم بيَّن أن ليهود كل بطنٍ من الأنصار ذمةً من المؤمنين، ولم يكن بالمدينة أحدٌ من اليهود إلا وله حلفٌ، إما مع الأوس أو مع بعض بطون الخزرج، وكان بنو قينقاع ــ وهم المجاورون للمدينة، وهم رهط عبد الله بن سلامٍ ــ حلفاءَ بني عوف بن الخزرج رهطِ ابنِ أُبيٍّ، وهم (2) البطن الذي بدئ بهم في هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق (3): حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخانوا (4) فيما بين بدرٍ وأحدٍ، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه، فقام عبدُ الله بن أُبَيٍّ [ابنُ] سَلولَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ حين أمكنه الله منهم ــ فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأعرَضَ عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلني»، وغضب حتى إنَّ لوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظِلالًا (5) _________ (1) في مطبوعة «الصارم»: «مخالفيها»، خطأ. (2) في المطبوع: «رهط ابن أبي رُهْمٍ» تحريف، تابع فيه نشرة محمد محيي الدين من «الصارم» (ص 64)، وكذا في الطبعة الهندية (ص 63)؛ مع أن ابن أبي رُهْم - رضي الله عنه - قرشيٌّ من السابقين الأولين! (3) كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 47) «دلائل النبوة» للبيهقي (3/ 174). (4) كذا في الأصل. وفي «الصارم» و «السيرة»: «حاربوا». (5) في الأصل: «ضالا»، تصحيف. والمثبت من «الصارم» موافق لـ «الدلائل». وفي «سيرة ابن هشام»: «ظُلَلًا».

(2/482)


وقال: «ويحك أرسلني»، فقال: واللهِ لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسرٍ وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأسود والأحمر؛ تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله أخشى الدوائر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هم لك». وأما النضير وقريظة فكانوا خارجًا من المدينة، وعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشهر من أن يخفى على عالمٍ. وهذه المرأة المقتولة ــ والله [أعلم] ــ كانت من بني قينقاع، لأن ظاهر القصة أنها كانت بالمدينة. وسواءٌ كانت منهم أو من غيرهم، فإنها كانت ذميةً لأنه لم يكن بالمدينة من اليهود إلا ذِميٌّ، فإن اليهود كانوا ثلاثة أصنافٍ وكلهم معاهدٌ. وقال الواقدي (1): حدثني عبد الله بن جعفر، عن الحارث بن الفُضَيل، عن محمد بن كعب القرظي: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وادعَتْه يهود كلها، فكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانًا، وشرط عليهم شروطًا، فكان فيما شرط: أن لا يظاهروا عليه عدوًّا. فلمَّا أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَ بدر وقدم المدينة بغَتْ يهود، وقطعَت ما كان بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العهد، فأرسل إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعهم ثم قال: «يا معشر يهود، أَسلِموا، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله، قبلَ أن يُوقِع الله بكم مثلَ وقعة قريش»، فقالوا: يا محمد، لا يغُرَّنَّك مَن لقيتَ، إنَّك لقيت أقوامًا أغمارًا، وإنَّا واللهِ أصحاب الحرب، وإن قاتلتنا لتعلمَنَّ أنَّك لم تُقاتِل مِثلَنا. ثم ذكر حِصارهم وإجلاءهم _________ (1) «مغازي الواقدي» (1/ 176).

(2/483)


إلى أذرعاتٍ، وهم بنو قينقاع الذين كانوا بالمدينة. فقد ذكر ابن كعب مثل ما في هذه الصحيفة، وبيَّن أنَّه عاهد جميع اليهود. وهذا ممَّا لا يُعلَم فيه نزاعٌ بين أهل العلم بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن تأمل الأحاديث المأثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورةً. ومما يوضح ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذُكر له (1) أنها قُتلت نشد الناس في أمرها، فلمَّا ذكر له ذنبها أبطل دمها. وهو - صلى الله عليه وسلم - إذا حكم بأمرٍ عقيب حكاية حالٍ حُكيت له دلَّ ذلك على أن ذلك المحكيَّ هو الموجِب لذلك الحكم، لأنه حكمٌ حادثٌ فلا بد له من سبب حادثٍ، ولا سبب إلا ما حُكي وهو مناسبٌ فيجب الإضافة إليه. وأيضًا: فلما نشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في أمرها ثم أبطل دمها دلَّ على أنها كانت معصومةً، وأنَّ دمها كان قد انعقد سببُ ضمانه، وكان مضمونًا لو لم يبطله النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها [لو] (2) كانت حربيةً لم ينشد الناس فيها ولم يحتَجْ أن يُبطِل دمَها ويُهدره، لأن الإبطال والإهدار لا يكون إلا لدمٍ قد انعقد له سبب الضمان. ولهذا لما رأى امرأةً مقتولةً في بعض مغازيه أنكر قتلها ونهى عن قتل النساء (3)، ولم يبطله ولم يهدره، فإنه إذا كان في نفسه باطلًا هدرًا، والمسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمونٍ، بل هو هدرٌ= لم يكن لإبطاله وإهداره وجهٌ. وهذا ــ ولله الحمد ــ ظاهرٌ. _________ (1) في الأصل: «لها» مستشكلًا له بـ «ظ» في الهامش. (2) زيادة لازمة من «الصارم». (3) كما في حديث ابن عمر عند البخاري (3014، 3015) ومسلم (1744).

(2/484)


فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد عاهد اليهود عهدًا بغير ضرب جزيةٍ عليهم، ثم إنه أهدر دم يهوديةٍ منهم لأجل سبِّه، فأن يُهدَر دمُ يهوديةٍ من اليهود الذين ضُربت عليهم الجزية والتزموا أحكام الملة، لأجل السب= أولى وأحرى. ولو لم يكن قتلُها جائزًا لبيَّن لقاتلها قبح ما فعل، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقرُّ على باطلٍ، كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن من قتل نفسًا معاهدةً بغير حقِّها لم يَرَحْ رائحة الجنة» (1)، ولأوجب ضمانها وكفارة قتل المعصوم؛ فلما أهدر دمها عُلم أنه كان مباحًا. وقد وهم الخطابي (2) في أمر هذه المقتولة فقال: «فيه بيانُ أن ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل، وذلك أن السب منها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدادٌ عن الدين»، فاعتقد أنها مسلمةٌ، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرةً كما صرح به في الحديث. ولو كانت مرتدةً منتقلةً إلى غير دين الإسلام لم يُقِرَّ [ها] سيدُها على ذلك أيامًا طويلةً، ولم يكتفِ بمجرد نهيها عن السب، بل كان [يطلب] (3) منها العودَ إلى الإسلام، والرجل لم يقل: كفرَتْ ولا ارتدَّتْ، وإنما ذكر مجرَّد السب والشتم، فدلَّ على أنها لم يصدر منها زائدٌ عليه. _________ (1) أخرجه أحمد (20506، 20523) والنسائي في «الكبرى» (8690) وابن حبان (4882، 7382) وغيرهم من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - دون لفظة: «بغير حقها». (2) في «معالم السنن» (6/ 199). (3) بياض في الأصل قدر كلمة، والمثبت من «الصارم».

(2/485)


فصل الدليل الثالث: ما احتجَّ به الشافعي على أن الذميَّ إذا سبَّ قُتِل وبرئت منه الذمة، وهو قصة كعب بن الأشرف. قال الخطابي (1): قال الشافعي: يقتل الذمي إذا سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منه الذمة. واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف. قال الشافعي في «الأم» (2): «لم يكن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قربه رجل من أهل الكتاب إلا يهود المدينة، وكانوا حلفاء الأنصار، ولم يكن الأنصار أجمعت أوَّلَ ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسلامًا، فوادعت اليهودُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر ولا فعلٍ، حتى كانت وقعة بدرٍ، فتكلَّم بعضُهم بعداوته والتحريض عليه، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم». ومعلومٌ أنه إنما أراد بهذا الكلام كعبَ بن الأشرف، وقصته مشهورةٌ مستفيضةٌ. وقد رواها عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟»، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم». قال: فائذن لي أن أقول شيئًا، قال: «قل»، فأتاه وذكَّره ما بينهم، قال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وعنَّانا، فلما سمعه قال: وأيضًا والله لتملُّنَّه، قال: إنَّا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمرُه. قال: وقد أردت أن _________ (1) في «معالم السنن» (6/ 200). (2) (5/ 401 - 402).

(2/486)


تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ نساءكم (1)؟ قال: أنت أجمل العرب، نرهنك نساءنا؟! قال: ترهنوني (2) أولادكم؟ قال: يُسَبُّ ابنُ أحدنا فيقال: رُهِنتَ في وَسقَين من تمرٍ! ولكن نرهنك اللَّأمة ــ يعني السلاح ــ، قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عَبْس بن جَبْرٍ (3) وعبَّاد بن بِشرٍ، فجاؤوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم ــ قال سفيان: قال غير عمرو (4): قالت له امرأته: إني لأسمع صوتًا كأنَّه صوتُ دمٍ، قال: إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِي إلى طعنةٍ ليلًا لأجاب ــ فقال محمد: إني إذا جاء سوف أمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنتُ [منه] فدونكم، فنزل وهو متوشِّحٌ، فقالوا (5): نجد منك ريح الطيب؟ قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب. قال: أفتأذن لي أن أَشَمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه ثم قال: دونكم، فقتلوه. متفق عليه (6). وروى ابن أبي أويسٍ، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أنَّ كعب بن الأشرف عاهد رسول الله _________ (1) كذا في الأصل تبعًا «للصارم»، والظاهر أن في «الصارم» سقطًا لانتقال النظر، فلفظ مسلم: «فما ترهنني؟ [قال: ما تريد؟ قال: ترهنني] نساءكم». (2) في الأصل: «ترهنوا لي»، والتصحيح من «صحيح مسلم» و «الصارم». (3) في الأصل: «جبير»، تصحيف. وسيأتي على الصواب لاحقًا. (4) في الأصل: «قال غيري عمر»، تصحيف. (5) في الأصل: «فقال ا»، تصحيف. (6) البخاري (4037) ومسلم (1801) ــ واللفظ له ــ من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به.

(2/487)


- صلى الله عليه وسلم - أن لا يعين عليه ولا يقاتله، ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنًا بمعاداة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أولُ ما خَزَع عنه قولَه: أذاهبٌ أنت لم تَحْلُلْ (1) بمرقبةٍ ... وتاركٌ أنت أم الفضل بالحرم في أبياتٍ يهجوه فيها، فعند ذلك ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قتله. وهذا محفوظٌ عن ابن أبي أويسٍ، رواه الخطابي (2) وغيره. وقال: قوله: «خزع» معناه قطع عهده. وفي رواية غيره (3): فخزع منه هجاؤه له فأمر بقتله. والخَزْع: القطع، يقال: خَزَع فلانٌ عن أصحابه يخزَع خزعًا؛ أي: انقطع وتخلَّف، ومنه سميت «خُزاعة»، لأنهم انخزعوا عن أصحابهم وأقاموا بمكة. فعلى اللفظ الأول التقدير: وهذا أولُ خَزْعِه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أول انقطاعه عنه بنقض العهد. وعلى الثاني قيل (4): المعنى: قطع هجاؤُه للنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ــ أي: نقض ــ عهدَه وذمَّته. وقيل (5): معناه: خَزَع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هجاؤه: أي: نال منه وشعَّث منه. _________ (1) في الأصل: «تملك»، تصحيف. (2) في «معالم السنن» (4/ 83). وأخرجه أيضًا في «غريب الحديث» (1/ 576)، وأخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 194). (3) هي رواية الخطابي في «غريب الحديث». (4) هذا تفسير الخطابي في «غريب الحديث». وانظر: «الفائق» (1/ 367). (5) هذا تفسير الزمخشري في «الفائق» (1/ 367).

(2/488)


وقد ذكر أهل المغازي والتفسير مثلُ محمد بن إسحاق (1): أن كعب بن الأشرف كان موادعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في جملة من وادعه من يهود المدينة، وكان عربيًّا من بني طيِّئ، وكانت أمه من بني النضير. قالوا: فلمَّا قتل أهل بدر شقَّ ذلك عليه، وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش، وفضَّل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (50) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 50 - 51]. ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار [يهجو بها النبي - صلى الله عليه وسلم -] (2) ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله»، وذكروا قصة قتله مبسوطةً. وقال الواقدي (3): حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان ومعمر، عن الزهري، عن [ابن] كعب بن مالك؛ وإبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن جابرٍ ... وذكر القصة، قال: ففزعت يهود ومن معها من المشركين، فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أصبحوا فقالوا: قد طُرِق صاحبُنا الليلة وهو سيِّدٌ من ساداتنا، [قُتِل غِيلةً] بلا جرم ولا حدث علمناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّه _________ (1) انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 51) وما بعدها. (2) ما بين الحاصرتين من «الصارم». (3) «مغازي الواقدي» (1/ 184 - 192).

(2/489)


لو قرَّ كما قرَّ غيرُه ممَّن هو على مثل رأيه ما اغْتِيل، ولكنَّه نال (1) منَّا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيفُ». ودعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينه وبينهم كتابًا تحت العذق (2) في دار رَمْلة بنت الحارث، فحَذِرَتْ يهود وخافت وذلَّت من يوم قُتِل ابن الأشرف. فإن قيل: لا نُسلِّم أنَّ كعبًا كان من أهل العهد بل كان حربيًّا، وعلى تقدير كونه من أهل العهد فإنه لم يبح دمه بالسبِّ بل بلحوقه بدار الحرب، فإنه لحق بمكة وهي دار حربٍ إذ ذاك، فهذا الذي أباح دمه. وقد قال الإمام أحمد (3): حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريشٌ: ألا ترى إلى هذا الصُّنْبُر (4) المُنْبَتِر من (5) قومه، يزعم أنه خيرٌ منا ونحن أهل _________ (1) في الأصل: «قال»، تصحيف. (2) في الأصل: «»، تصحيف. (3) ليس في «المسند»، وكذا الآتي بعده. وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (11643) وابن حبان (6572) والطبري في «تفسيره» (7/ 142، 24/ 700) وكذا ابن المنذر (2/ 748) وابن أبي حاتم (3/ 973) من طرق عن ابن أبي عدي به. إسناده صحيح، وقد اختاره الضياء (11/ 343). (4) كذا رسمه في الأصل تبعًا لـ «الصارم» (2/ 157). والذي في مصادر التخريج: «الصُّنْبُور» ــ أو تصغيره: «الصُّنَيبِير» ــ فكأن ما في «الصارم» تخفيف بحذف الواو. وسيأتي على وجهه قريبًا. والصنبور هو: الرجل الفَرْد الضَّعيف الذَّليل بلا أهل ولا عقبٍ ولا ناصر. (5) في الأصل: «عن»، والمثبت من «الصارم» ومصادر التخريج.

(2/490)


الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خيرٌ. قال: فنزل فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ}، قال: وأنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} إلى قوله: {نَصِيرًا} [النساء: 51]. وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق (1) قال: قال معمرٌ: أخبرني أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريشٍ فاستجاشهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم أن يغزوه، وقال لهم: أنا معكم، فقالوا: إنكم أهل كتابٍ وهو صاحب كتابٍ، ولا نأمن أن يكون مكرًا منكم، فإن أردتَ أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمِن بهما، ففعل. ثم قالوا له: نحن أهدى أم محمد؟ نحن نصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بالبيت، وننحر الكُوم، ونسقي اللبن على الماء؛ ومحمدٌ قطع رحمه وخرج من بلده. فقال: بل أنتم خيرٌ وأهدى، قال: فنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]. وقال: حدثنا عبد العزيز (2)، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم: ديننا خيرٌ أم دين محمد؟ قالوا: اعرضوا عليَّ دينكم، قالوا: نَعْمُر بيت ربنا، وننحر الكَوماء، _________ (1) وهو في «تفسيره» (1/ 164)، ومن طريقه أخرجه أيضًا الطبري (7/ 143) (2) كذا في الأصل. وفي مطبوعة «الصارم»: «عبد الرزاق» بناءً على ما في بعض أصوله الخطية. ولم أجده في «تفسير عبد الرزاق».

(2/491)


ونسقي الحاج الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف. قال: دينكم خيرٌ من دين محمد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية (1). قال موسى بن عقبة عن الزهري (2): كان كعب بن الأشرف اليهودي ــ وهو أحد بني النضير أو هو فيهم ــ قد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء، وركب إلى قريشٍ فقدم عليهم، فاستعان بهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحبُّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأيُّنا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فإنَّا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبَّت الشَّمأل. قال ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلًا، ثم خرج مقبلًا حين أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معلنًا (3) بعداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجائه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لنا من ابن الأشرف؟ قد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريشٍ فجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك، ثم قدم على أخبثِ ما كان، ينظر قريشًا أن تَقْدَم فيقاتلنا معهم»، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ما أُنزل فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} إلى قوله: {سَبِيلًا} [النساء: 51] وآياتٍ معها فيه وفي قريشٍ. _________ (1) وأخرجه ابن أبي حاتم (3/ 976) عن أبي سعيد الأشج عن عبيد الله عن إسرائيل به. (2) أخرج بنحوه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/ 454) من طريق موسى بن عقبة به. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 190) عن موسى بن عقبة دون ذكر الزهري. (3) في الأصل: «تغلبًا»، تصحيف.

(2/492)


وذُكِر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم اكفني (1) ابن الأشرف بما شئت»، فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أقتله ــ وذكر القصة في قتله. قال: فقتل اللهُ ابنَ الأشرف بعداوته لله ورسوله، وهجائه إياه، وتأليبه عليه قريشًا، وإعلانه بذلك. قال ابن إسحاق (2): كان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لمَّا أصيب أصحاب بدر، وقَدِم زيدُ بن حارثة إلى أهل السافلة (3)، وعبدُ الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرَين، بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقَتْلِ مَن قُتِل من المشركين، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظَّفَري، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كلُّ واحدٍ قد حدثني بعض حديثه؛ قالوا: كان كعب بن الأشرف من طيِّئ ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير. = فقال (4) حين بلغه الخبر: أحقٌّ هذا؟ ترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين سمَّى هذان الرجلان ــ يعني زيدًا وعبد الله بن رواحة ــ؟ هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، واللهِ إن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لَبطنُ الأرض خيرٌ من ظهرها! فلما تيقَّن عدوُّ الله الخبرَ خرج حتى قدم مكة، نزل (5) على المطلب بن _________ (1) في الأصل: «العن»، تصحيف. (2) كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 51). (3) في الأصل: «السالفة»، تصحيف. (4) جواب «لمَّا أصيب أصحاب بدر ... » من حيث المعنى. (5) كذا في الأصل دون واو العطف قبله. وأضيفت في مطبوعة «الصارم» وليست في أصوله الخطية. وفي «السيرة»: «فنزل».

(2/493)


أبي وداعة السَّهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية، فأنزلَتْه وأكرمَتْه، وجعل يحرِّض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُنشد الأشعار، ويبكي (1) أصحاب القليب من قريشٍ الذين أصيبوا ببدرٍ ــ وذكر شعرَه وما رد عليه حسَّان وغيره. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبِّب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث (2) ــ: «من لي مِن (3) ابن الأشرف؟»، فقال محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله ــ وذكر القصة. وقال الواقدي (4): حدثني عبدُ الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان؛ ومعمرٌ، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالكٍ؛ وإبراهيمُ بن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -؛ فكلٌّ قد حدثني منه بطائفةٍ، وكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا: كان كعب بن الأشرف شاعرًا، وكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويحرض عليهم كفارَ قريش في شعره، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وأهلُها أخلاطٌ، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم _________ (1) في الأصل: «وجعلت تحرِّض ... وتنشد ... وتبكي»، تصحيف. (2) في الأصل: «الغيث»، تصحيف من الناسخ. وزيادة «أبي» قبله خطأ، وهو في مصدر المؤلف ــ «الصارم» (2/ 164) ــ كذلك. والصواب: «عبد الله بن المغيث بن أبي بردة»، كما سبق قريبًا. (3) كذا في الأصل و «الصارم»، ومثله في «عيون الأثر» (1/ 299) نقلًا عن ابن إسحاق. وفي مطبوعة «سيرة ابن هشام»: «بِابن الأشرف». (4) «المغازي» (1/ 184).

(2/494)


أهل الحلقة والحصون، ومنهم (1) حلفاء للحيَّين جميعًا الأوسِ والخزرج، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشركًا، فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أذًى شديدًا، فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزل الله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اِلْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وفيهم أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ اِلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} الآية [البقرة: 108]. فلما أبى ابنُ الأشرف أن ينزع (2) عن أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذى المسلمين، وقد بلغ منهم، فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدرٍ بقتل المشركين وأَسْرِ من أُسِر منهم، فرأى الأسارى مقرَّنين كُبِت وذلَّ، ثم قال لقومه: ويلكم! واللهِ لَبطن الأرض خيرٌ لكم من ظهرها اليوم، هؤلاء سَراة الناس قد قُتِلوا وأُسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. فقال: وما أنتم وقد وطئ قومَه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريشٍ فأحضها وأبكي قتلاها، لعلهم ينتدبون فأخرج معهم، [فخرج] حتى قدم مكة ووضع رحله عند أبي وداعة بن صُبَيرة السهمي (3) وتحته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فجعل يرثي قريشًا ــ وذكر ما رثاهم به من الشعر، وما أجابه حسانٌ. [قال: ودعا _________ (1) في الأصل: «ومن»، تصحيف. (2) في الأصل: «يدع»، تصحيف. (3) كذا في رواية الواقدي. وسبق عند ابن إسحاق أنه نزل على ابنه «المطلب بن أبي وداعة السَّهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية».

(2/495)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسَّانَ] (1) فأخبره بنزول كعبٍ على من نزل، فقال حسان ــ فذكر شعرًا هجا به أهلَ البيت الذين نزل فيهم. قال: فلما بلغها شعرُه نبذَتْ رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟! ألا ترى ما يصنع بنا حسَّان؟ فتحوَّل، فكلَّما تحوَّل عند قوم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسَّانًا، فقال: «ابن الأشرف نزل على فلانٍ»، فلا يزال يهجوهم حتى ينبذوا رحله، فلمَّا لم يجد مأوًى قدم المدينة. فـ [لمَّا] بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدومُه، قال: «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشرَّ وقوله الأشعار»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لي مِن (2) ابن الأشرف؟ فقد آذاني»، فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل» ــ وذكر الحديث. فقد اجتمع لابن الأشرف ذنوبٌ منها: أنه رثى قتلى قريش، وحضَّهم على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وواطأهم على ذلك، وأعانهم على محاربته بإخباره أنَّ دينهم خيرٌ من دينه، وهجا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين (3). _________ (1) ما بين الحاصرتين زيادة لازمة من «مغازي الواقدي» (1/ 186) ونسخة الظاهرية من «الصارم» (ق 37)، وسقطت من مطبوعة «الصارم» (2/ 166) لسقوطها من بعض النسخ الخطية منه، كنسخة المحمودية (ق 28). و «حسَّان» كذا في «المغازي» ونسخة الظاهرية من «الصارم»، ولذا حصل انتقال النظر من مثله إليه فسقط ما بينهما، وإلا فحقُّه أن يكون منصرفًا ــ أي: «حسَّانًا» ــ كما سيأتي قريبًا. (2) كذا في الأصل و «الصارم». ولفظ مطبوعة «المغازي»: «بابن الأشرف». (3) في الأصل: «والمسلمون». وهنا انتهى الاعتراض ــ مقرونًا بأدلَّته ــ الذي بدأ من (ص 490)، و مفاده أن قتل ابن الأشرف لم يكن بمجرَّد سبِّه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل بلحوقه بدار الحرب وتحريض الكفار على محاربته - صلى الله عليه وسلم -.

(2/496)


قلنا: الجواب من وجوهٍ: أحدها: أن كعبًا كان له عهدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمان، وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله ناقضًا للعهد بهجائه وأذاه بلسانه. الثاني: أنَّا قد قدمنا في حديث جابرٍ أن أول ما نقض به العهدَ قصيدتُه التي أنشأها يهجو بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود لما جاؤوا إليه في شأن قتله: «إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيفُ» (2). وهذا نصٌّ في أن من فعل هذا فقد استحق السيف. الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وفعل ما فعل هناك، وإنما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه، كما جاء ذلك مفسَّرًا في حديث جابرٍ المتقدم في قوله: «ثم قدم المدينة معلنًا بعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -». ثم بين أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ندب إلى قتله. وكذلك في حديث موسى بن عقبة: «من لنا من ابن الأشرف؟ فقد _________ (1) «وأمان ... للنبي - صلى الله عليه وسلم -» سقط من المطبوع. (2) «مغازي الواقدي» (1/ 192)، وقد سبق.

(2/497)


استعلن بعداوتنا وهجائنا». ويؤيد ذلك شيئان (1): أحدهما: أن سفيان بن عُيَينة روى عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة قال: جاء حُيَي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنَّا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفكُّ العُناة، ونسقي الحجيج؛ ومحمد صُنْبُورٌ، قطع أرحامنا، واتَّبعه سُرَّاق الحجيج بنو غفارٍ؛ فنحن خيرٌ أم هو؟ فقالوا: بل أنتم خيرٌ وأهدى سبيلًا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:50 - 51] (2). وكذلك قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف وحُيَي بن أخطب، رجلين من اليهود من بني النضير أتيا (3) قريشًا في الموسم، فقال لهما المشركون: نحن أهدى من محمد وأصحابه، فإنَّا أهل _________ (1) سقطت النون من الأصل. (2) أخرجه ابن شَبَّة في «تاريخ المدينة» (2/ 452) وسعيد بن منصور (648 - التفسير) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «تفسيره» (2/ 749) ــ وابن أبي حاتم (3/ 974)، من طرق عن ابن عيينة به. وهو مرسل صحيح الإسناد. وأخرجه الطبراني (11/ 251) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (12/ 175) ــ والبيهقي في «الدلائل» (3/ 193) من بعض الطرق الضعيفة عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس مسندًا. (3) كذا في الأصل. وفي «الصارم» ومصادر التخريج: «لقيا».

(2/498)


السدانة والسقاية وأهل الحرم، فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان. إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه، فأنزل الله فيهم: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51]، فلما رجعا إلى قومهما قال قومهما (1): إن محمدًا يزعم أنه قد نزل فيكما (2) كذا وكذا، قالا: صدق واللهِ، ما حملَنا على ذلك إلا حسدُه وبغضُه (3). وهذان مرسلان من وجهين مختلفين، فيهما أن كلا الرجلين ذهب إلى مكة وقال ما قال، ثم إنهما قدما فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قتل ابن الأشرف وأمسك عن ابن أخطب، حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحق بخيبر، ثم جمع عليه الأحزاب، فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم. فعُلِم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجِب للندب إلى قتل ابن الأشرف. وإنما هو ما اختصَّ به ابنُ الأشرف من الهجاء ونحوه، وإن كان ما فعله بمكة مقويًّا لذلك (4)، لكن مجرد الأذى لله ورسوله يوجب الندب إلى قتله كما نصَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإنه قد آذى الله ورسوله»، وكما بينه جابرٌ في حديثه. _________ (1) في الأصل: «قومهم»، والتصحيح من «الصارم». (2) في الأصل: «فيكم»، والمثبت من «الصارم». (3) أخرجه الطبري (7/ 146) وابن المنذر (2/ 750) وابن أبي حاتم (3/ 977) والواحدي في «الأسباب» (ص 294) من طرق عن يزيد بن زُريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وهذا مرسل صحيح الإسناد. (4) في الأصل: «بذلك»، والمثبت أشبه.

(2/499)


الوجه الخامس: أن ابن أبي أويسٍ قال: حدثني إبراهيم بن جعفرٍ الحارثي (1)، عن أبيه، عن جابرٍ قال: لمَّا (2) كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبني قريظة ــ كذا فيه، قال شيخنا (3): وأحسبه (4): وبني قينقاع ــ ما كان، اعتزل (5) ابن الأشرف ولحق بمكة، وكان فيها، وقال: لا أُعِين عليه ولا أقاتله، فقيل له بمكة: ديننا خيرٌ أم دين محمد وأصحابه؟ قال: دينكم خيرٌ وأقدمُ من دين محمد، ودين محمد حديث (6). فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربة. الوجه السادس: أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذًى باللسان، فإنَّ رثاءه لقتلى المشركين، وتحضيضه على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسبَّه وطعنَه في دين الإسلام، وتفضيلَه دين الكفار عليه= كلُّه قولٌ (7) باللسان ولم يعمل عملًا فيه محاربةٌ. ومن نازعنا في سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحوه فهو فيما فعل كعب بن الأشرف _________ (1) في الأصل: «الحارث»، وعليه علامة استشكال بالحمرة. (2) في الأصل تقدَّمت «لمَّا» على «قال»، والتصحيح من «الصارم». (3) في «الصارم المسلول» (1/ 169). (4) تصحَّف في الأصل إلى: «». (5) في الأصل: «اعدل»، تصحيف. (6) أخرجه الخطابي في «معالم السنن» (4/ 83) مختصرًا، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 194)، وقد سبق تمام حديث جابر هذا (ص ... ). (7) في الأصل: «قولا»، تصحيف.

(2/500)


من تفضيل دين الكفار وحضِّهم باللسان على قتل المسلمين أشدُّ منازعةً، فإن الذمي إذا تجسَّس (1) لأهل الحرب، وأخبرهم بعورات المسلمين، ودعا الكفار إلى قتالهم= انتقض عهده أيضًا كما ينتقض عهد الساب. ومن قال: إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول: لا ينتقض العهد بشيء من ذلك. وهذا ابن الأشرف لم يوجد منه إلا أذًى باللسان فقط، فهو حجةٌ على من نازع في هذه المسائل، ونحن نقول: إن ذلك كلَّه نقضٌ للعهد. الوجه السابع: أن تفضيل دين الكفار على دين المؤمنين هو دون سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا ريبٍ، فإن كون الشيء مفضولًا أحسنُ حالًا من كونه مسبوبًا مشتومًا؛ فإن كان ذلك ناقضًا للعهد فالسب بطريق الأولى. وأما مرثيته للقتلى وحضُّهم على أخذ ثأرهم، فأكثر ما فيه تهييج قريشٍ على المحاربة، وقريشٌ كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - عقيب بدرٍ، وأرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه، فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف. نعم، مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظًا (2) ومحاربةً، لكن (3) سبُّه للنبي وهجاؤه له ولدينه أيضًا مما يهيجهم على المحاربة ويُغريهم به (4)، فعُلِم (5) _________ (1) تصحَّف في الأصل إلى: «». (2) رُسم في الأصل بالضاد. (3) في الأصل: «إلى»، والتصحيح من «الصارم». (4) في الأصل: «فيه»، ولعله تصحيف المثبت من «الصارم». (5) في الأصل: «تعلم»، تصحيف.

(2/501)


أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام (1) وأبلغ، فإذا كان غيره من الكلام نقضًا فهو أن يكون نقضًا أولى. ولهذا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من النسوة اللاتي كنَّ يشتمنه ويَهْجونه (2)، مع عفوه عمَّن كانت تعين عليه وتحض على قتاله. الوجه الثامن: أن كعب بن الأشرف لم يلحق بدار الحرب مستوطنًا، ولهذا قدم المدينة وهي وطنه. والذمي إذا سافر إلى دار الحرب ثم رجع إلى وطنه لم ينتقض عهده. ولهذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل حُيَي بن أخطب وكان قد سافر معه إلى مكة. الوجه التاسع: أن ما ذكروه حجةٌ لنا، وذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوهٍ كثيرةٍ: أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} نزلت في كعب بن الأشرف لِما قاله لقريشٍ. وقد أخبر الله سبحانه أنه لعنه ومن لعنه فلن تجد له نصيرًا. وذلك دليل على أنه لا عهد له، فلو كان له عهدٌ لكان يجب نصره على المسلمين، فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره، فكيف بما هو أغلظ منه من شتمٍ وسبٍّ؟ وإنما لم يجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ والله أعلم ــ بمجرد ذلك ناقضًا للعهد لأنه لم _________ (1) في الأصل: «كلام»، والمثبت من «الصارم» (2) في الأصل: «يَهْجِينه» على لحن العامَّة، يقولون: «يدعون» للذكور، و «يدعين» للإناث! وهو على الصواب في «الصارم». وجماعة النسوة اللاتي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن: قَينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب. انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 410) و «زاد المعاد» (3/ 501 - 502) بتخريجي.

(2/502)


يعلن بهذا الكلام ولم يجهر به، وإنما أعلم اللهُ به رسوله وَحْيًا كما تقدم في الأحاديث، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ أحدًا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنبٍ ظاهرٍ. فلما رجع إلى المدينة وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يُقتَل لظهور أذاه وشهرته عند الناس. نعم، من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد، أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه. الوجه العاشر: أن النفر الخمسة الذين قتلوه ــ وهم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وعباد بن بشرٍ، والحارث بن أوسٍ، وأبو عبس بن جبرٍ ــ قد أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخدعوه بكلامٍ يُظهرون به أنهم قد آمنوه ووافقوه، ثم يقتلونه. ومن المعلوم أن من أظهر لكافرٍ أمانًا لم يجُزْ قتله بعد ذلك لأجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه صار مستأمَنًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من آمن رجلًا على دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريءٌ، وإن كان المقتول كافرًا». رواه أحمد (1). _________ (1) برقم (21947) ــ دون قوله: «وإن كان المقتول كافرًا» ــ وابن حبان (5982) والطبراني في «الأوسط» (4252، 6640، 7090) والبيهقي (9/ 142) وغيرهم من طرق عن السُّدِّي، عن رفاعة بن شدَّاد البَجَلي، عن عمرو بن الحَمِق الخزاعي - رضي الله عنه -. وإسناده حسن. وأخرجه الطيالسي (1382) وأحمد (21946) والبيهقي (9/ 142) وغيرهم من طريق عبد الملك بن عُمير، عن رفاعة بن شدَّاد البجلي، عن عمرو بن الحَمِق بلفظ: «من آمن رجلًا على نفسه فقتله أُعطي لواء الغدر يوم القيامة». وإسناده أقوى، والله أعلم.

(2/503)


وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أَمِنَك الرجل على دمه فلا تقتُلْه». رواه ابن ماجه (1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك (2) مؤمنٌ». رواه أهل «السنن» (3). وقد زعم الخطابي (4) أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا. وزعم أن مثل هذا جائزٌ من الكافر الذي لا عهدَ له، كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغِرَّة. لكن يقال: فهذا الكلام الذي كلَّموه به صار مستأمنًا، وأدنى أحواله (5) _________ (1) رقم (2689) من حديث سليمان بن صُرَد. وأخرجه أيضًا أحمد (27207) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3365). وفي إسناده أبو ليلى الحارثي وهو واه، وشيخه أبو عكاشة الكوفي وهو مجهول. وانظر: «الضعيفة» (2201). (2) في الأصل والمطبوع: «يقتل»! (3) أخرجه أبو داود (2769) وابن أبي شيبة (38590) والحاكم (4/ 352) من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي عن أبيه عن أبي هريرة. في إسناده لين لجهالة حال عبد الرحمن السدي، ولكن له شاهدان يعتضد ويتقوَّى بهما. الأول من حديث الحسن عن الزبير بن العوَّام عند أحمد (1426، 1433) وابن أبي شيبة (38591) وابن أبي عمر في «مسنده» (إتحاف الخيرة: 108) وغيرهم، رجاله ثقات إلا أن رواية الحسن عن الزبير مرسلة. والثاني من حديث معاوية بن أبي سفيان عند أحمد (16832) والطبراني في الكبير (19/ 319) والحاكم (4/ 353) بإسناد فيه علي بن زيد بن جُدعان، وحديثه حسن في الشواهد. (4) في «معالم السنن» (4/ 81 - 83) في الكلام على قصة قتل كعب وحديث «الإيمان قيد الفتك». والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 181). (5) في الأصل: «أقواله»، تصحيف.

(2/504)


أن تكون له شبهةُ أمانٍ. ومثل ذلك لا يجوز قتله لمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي، ويصير مستأمنًا بأقل من هذا كما هو معروفٌ في مواضعه. وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذى الله ورسوله. ومن حلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمانٍ ولا بعهدٍ، كما لو آمن (1) المسلمُ من وجب قتلُه لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد المُوجِبِ للقتل، أو من وجب قتله لأجل زناه، أو آمن من وجب قتله لأجل الردة، أو لأجل ترك أركان الإسلام، ونحو ذلك. ولا يجوز أن يعقد [له] عهدٌ، سواءٌ كان عقدَ أمانٍ أو عقد هدنةٍ أو عقد ذمةٍ، لأن قتله حدٌّ من الحدود، ليس قتله لمجرد كونه كافرًا حربيًّا كما سنذكره. أما الإغارة والبيات فليس هناك قول ولا فعلٌ (2) صاروا به آمنين، ولا اعتقدوا أنهم قد أُومِنوا، بخلاف قصة كعب بن الأشرف، فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يُحقَن معه الدم بالأمان، فلأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة الموقتة بطريق الأولى، فإن الأمان يجوز عقده لكل كافرٍ ويعقده كلُّ مسلم، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط، والذمةُ لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه، ولا يعقد إلا بشروطٍ كثيرةٍ تُشترط على أهل الذمة من التزام الصغار ونحوه. فإن قيل: كعب بن الأشرف سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء والشعر، وهو كلامٌ موزونٌ يُحفَظ ويروى، ويُنشد بالأصوات والألحان، ويشتهر بين الناس، _________ (1) في الأصل: «من»، تصحيف. (2) في الأصل: «قولا».

(2/505)


وذلك له من التأثير والأذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور. ولذلك (1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر حسَّانَ (2) أن يهجوهم ويقول: «إنه أنكى فيهم من النبل» (3)، فيؤثر هجاؤه فيهم أثرًا عظيمًا يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سُبُّوا بكلامٍ منثورٍ أضعاف الشعر. وأيضًا: فإن كعب بن الأشرف وأم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأذاه، والشيء إذا كثُر واستمرَّ صار له حالٌ أخرى ليست له إذا انفرد. وقد ذكرتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثلُ هذه الجريمة، وإن لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه. فإذًا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به. فالجواب من وجوهٍ (4): أحدها: أن هذا يفيدنا (5) أن السب في الجملة من الذمي يقتضي إهدار دمه وانتقاض عهده. ويبقى الكلام في الناقض للعهد: هل هو نوع خاصٌّ من السب وهو ما كثُر وغلظ، أو هو مطلق السب؟ هذا نظر آخر، فما كان مثل هذا السبِّ وجب أن يقال: إنه مُهدِرٌ لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحدٍ أن يخالف نصَّ السنة، فلو زعم زاعمٌ أن شيئًا من سب الذمي وأذاه لا يبيح دمه _________ (1) في الأصل: «وكذلك»، تصحيف. (2) كذا في الأصل تبعًا «للصارم» (2/ 172). (3) أخرجه مسلم (2490) من حديث عائشة، ولفظه: «إنه أشدُّ عليها من رشقٍ بالنَّبل». (4) وهي في «الصارم» (2/ 173 وما بعده). (5) تحرَّف في الأصل إلى: «يقتل نا»، فصار في المطبوع: «يُقتَل، لأن».

(2/506)


كان مخالفًا للسنة الصحيحة الصريحة خلافًا لا عذر فيه لأحدٍ. الوجه الثاني: لا ريب أن الجنس الموجِب للعقوبة قد يتغلَّظ بعضُ أنواعه صفةً أو قدرًا، أو صفةً وقدرًا، فإنه ليس قتلُ واحدٍ من الناس مثلَ قتل والدٍ وعالمٍ وصالحٍ، ولا ظلمُ بعض الناس مثلَ ظلم يتيمٍ فقيرٍ بين أبوين صالحين، وليست الجناية في الأوقات والأماكن والأحوال المُشرَّفة كالحرم والإحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك. وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الدية إذا تغلَّظ القتل بأحد هذه الأسباب (1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك». قيل له: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك». قيل له: ثم أي؟ قال: «أن تُزاني حليلة جارك» (2). ولا شك أن من قطع الطريق مراتٍ متعددةً، وسفك دم خلقٍ من المسلمين، وكثُر منه أخذ الأموال= كان جرمه أعظم من جرم من لم يتكرر منه ذلك. ولا ريب أن مَن أكثر مِن سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نظم القصائد في سبِّه، فإن جرمه أعظمُ من جرم من سبَّه بالكلمة الواحدة المنثورة، بحيث يجب أن _________ (1) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (كتاب العقول/ باب التغليظ)، و «الأوسط» لابن المنذر (كتاب الديات/باب ذكر تغليظ الدية على من قتل في الحرم أو في الشهر الحرام أو قتل مُحرِمًا)، و «سنن البيهقي» (كتاب الديات/باب ما جاء في تغليظ الدية في قتل الخطإ في الشهر الحرام والبلد الحرام وقتل ذي الرحم). (2) أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

(2/507)


تكون إقامة الحد عليه أوكد، والانتصار منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوجب، ولو كان المُقِلُّ أهلًا أن يُعفى عنه لم يكن هذا أهلًا لذلك. لكن هذه الأدلة تدل على أن جنسَ الأذى لله ورسوله ومطلقَ السب الظاهرِ مُهدِرٌ لدم الذميِّ ناقضٌ لعهده من وجوهٍ: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله» (1). وذلك (2) اسمٌ مطلقٌ ليس مقيدًا بنوع ولا قدرٍ ولا تكرارٍ، ومعلومٌ أن قليلَ السبِّ وكثيرَه ومنظومَه ومنثورَه أذًى لله بلا ريبٍ. الوجه الثاني: أنه لو أراد التكرار والمبالغة لأتى بالاسم المفهم لذلك فقال: فإنه قد بالغ في أذى الله ورسوله، أو تكرَّر منه، ونحو ذلك، وقد أوتي جوامع الكلم، وهو المعصوم في غضبه ورضاه. الوجه الثالث: قوله في الحديث الآخر: «إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولا يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف» (3)، ولم يقيد ذلك بتكرارٍ بل علَّقه بمجرد الفعل. الوجه الرابع: أن كعبًا آذاه بكلامه المنظوم، واليهودية بكلامها المنثور، وكلاهما أهدر دمه، فعلم أن النظم ليس له تأثيرٌ في هذا الحكم، والحكم إذا ثبت بدون الوصف كان عديم التأثير، فلا يجوز أن يجعل جزءًا (4) من العلة. _________ (1) تقدم تخريجه قريبًا. (2) أي: الأذى لله ورسوله. (3) تقدم تخريجه قريبًا. (4) في الأصل: «»، تصحيف.

(2/508)


الوجه الخامس: أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره، وغليظه وخفيفه في كونه مبيحًا، سواءٌ كان قولًا (1) كالردَّة أو فعلًا كالزنا والمحاربة، وهذا قياس (2) الأصول. فمن زعم أن من الأقوال والأفعال ما يبيح الدم إذا كثُر ولا يبيحه مع القلة، فقوله مخالفٌ لأصول الشرع. وأما ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه [القتل] بالمثقل (3) والفاحشة في الدبر (4) دون من قلَّ منه ذلك، فالكلام معه فيه، والباب واحدٌ في الشريعة. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه رضخ رأس يهوديٍّ رضخ رأس جارية (5)، لم يتكرَّر (6) منه ذلك الفعل. وصحَّ عنه في اللوطي: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (7)، ولم يعلِّق ذلك _________ (1) في الأصل: «حولًا»! (2) في الأصل: «قيام»! (3) في الأصل: «المقتل»، تصحيف. (4) في الأصل: «الدين»! (5) أخرجه البخاري (5295، 6877) ومسلم (1672) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (6) في المطبوع: «ينكر»! (7) أخرجه أحمد (2727، 2732) وأبو داود (4462) والترمذي (1456) وابن ماجه (2561) والطبراني في «الكبير» (11/ 212، 226) والحاكم (4/ 355) من طرقٍ كلُّها واهية أو مُعَلَّة عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا. انظر: «العلل الكبير» للترمذي (427) و «أنيس الساري» (3480). وله شواهد من حديث أبي هريرة وعلي وجابر - رضي الله عنهم -، ولكنها ضعيفة أيضًا. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1352) و «نصب الراية» (3/ 339) و «إرواء الغليل» (2348، 2350).

(2/509)


بتكرارٍ. وأصحابه من بعده أجمعوا [على] قتله ولم يعتبروا تكرارًا (1). وإذا كانت الأصول المنصوصة والمُجمَع عليها قد سوَّت في إباحة الدم بين قليل الموجب وكثيره، كان الفرق تحكُّمًا بلا أصلٍ ولا نظيرٍ. يوضحه: الوجه السادس: أن ما ينقض [الإيمان] (2) من الأقوال والأعمال يستوي فيه الواحد والكثير، فكذلك ما ينقض العهد. الوجه السابع: أنه إذا أكثر من هذه الأقوال والأفعال، فإما أن يُقتَل لأنَّ جنسها مبيحٌ للدم أو أن المبيح قدرٌ مخصوصٌ. فإن كان الأول فهو المطلوب. وإن كان الثاني فما حدُّ ذلك المقدار المبيح للدم؟ وليس لأحدٍ أن يحدَّ في ذلك حدًّا إلا بنصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ عند من يرى القياس في المقدرات. والكل منتفٍ في ذلك، فإنه ليس في الأصول قول أو فعلٌ يبيح الدم منه عددٌ مخصوصٌ ولا يبيحه أقلُّ منه. ولا ينتقض هذا بالقتل بالزنا وأنه لا يثبت إلا بإقرار أربع مراتٍ عند من يقول به، ولا بالقتل بالقسامة حيث لا يثبت إلا بعد خمسين يمينًا عند من يرى القَوَد (3) بها، ولا رجمِ الملاعنة حيث لا يثبت إلا بعد شهادة الزوج أربع _________ (1) انظر: «السياسة الشرعية» لشيخ الإسلام (ص 136 - 137). (2) زيادة لازمة من «الصارم». (3) في الأصل: «القول»، تصحيف.

(2/510)


مراتٍ عند من يرى أنها تُرجَم بلعان الزوج ونكولها؛ فإن المبيح للدم ليس هو الإقرارَ ولا الأيمان، وإنما المبيح فعل الزنا وفعل القتل، وإنما الإقرار والأيمان حجةٌ [وَ] دليلٌ على ثبوت ذلك. ونحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نُصُبٌ محدودةٌ، وإنما قلنا: إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع، وإنما الحكم معلَّقٌ بجنسه (1). الوجه الثامن: أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدًّا يجب فعلُه، أو تعزيرًا يرجع إلى رأي الإمام، فإن كان الأول فلا بدَّ من تحديد موجِبه، ولا حدَّ له إلا تعليقه بالجنس، والقول بما سوى ذلك تحكُّمٌ. وإن كان الثاني، فليس في الأصول تعزيرٌ بالقتل، فلا يجوز إثباته إلا بدليل يختصُّه (2). والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ» تدل على ذلك أيضًا. فصل قال شيخنا (3): وقد عرض لبعض السفهاء شبهةٌ في قتل ابن الأشرف _________ (1) في الأصل: «تحته»! (2) قد يقال: بلى، إن في أصول الشرع تعزيرًا بالقتل إذا أكثرَ الفاعلُ مِن بعض الأفعال المحرَّمة، وهو ما قرَّره المؤلف في توجيه ما رُوي من الأمر بالقتل لمن سرق مرارًا أو سكر مرارًا. انظر: «تهذيب السنن» (3/ 100 - 104) و «الطرق الحكمية» (1/ 35). (3) «الصارم» (1/ 182).

(2/511)


فظنَّ أن دم مثل هذا معصومٌ بذمةٍ متقدمةٍ (1) أو بظاهر الأمان، وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حين ظنَّ أن العهد لا ينتقض بذاك. فروى ابن وهبٍ: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري، عن أبيه، عن عباية قال: ذُكِر قتل ابن الأشرف عند معاوية، فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا، فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أيُغدَّرُ عندك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تنكر؟! والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدًا! ولا يخلو لي دمُ هذا إلا قتلتُه! (2) قال الواقدي (3): حدثني إبراهيم بن جعفرٍ، عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم ــ وهو على المدينة ــ وعنده ابن يامين النَّضَري (4): كيف كان قتل ابن الأشرف؟ فقال ابن يامين: كان غدرًا، ومحمد بن مسلمة جالسٌ وهو شيخٌ كبيرٌ، فقال يا مروان: أيُغَدَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندك؟! والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد. وأما أنت يا ابنَ يامين فللّهِ عليَّ إن أفلتَّ ولا قدرتُ (5) عليك، وفي يدي سيفٌ إلا ضربتُ _________ (1) «متقدمة» سقطت من المطبوع. (2) أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» عقب (200) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 193) من طريق ابن وهب به. وأخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (7) ــ ومن طريقه ابن عساكر في «التاريخ» (55/ 275) ــ من طريقين آخرين عن ابن عيينة به. (3) في «مغازيه» (1/ 192) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (55/ 275). (4) في الأصل: «النظري»، تصحيف. النَّضَري ــ ويقال: النضيري ــ نسبة إلى بني النضير. (5) كذا في الأصل، وكذا في عامَّة نسخ «الصارم» الخطية وبعض نسخ «مغازي الواقدي» (كما نبَّه عليه محققو الكتابين)، ولكن في مطبوعات الكتب الثلاثة حُذِفت «لا» ظنًّا أنه خطأ وتحريف. وليس كذلك فالمراد: لله عليَّ إن أفلتَّ مني الآن ولم أقدر عليك، ثم صادفتك فيما بعدُ وفي يدي سيف إلا ضربتُ به رأسك.

(2/512)


به رأسك. فكان ابن يامين لا ينزل من (1) بني قريظة حتى يبعث رسولًا ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته، وإلا لم ينزل، فبينما محمد في جنازةٍ وابنُ يامين بالبقيع فرأى محمدٌّ نعشًا عليه جرائدُ رطبةٌ لامرأةٍ، جاء فحلَّه (2)، فقام إليه الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك! فقام إليه فجعل يضربه بها جريدةً جريدةً حتى كسَّر ذلك الجريد على وجهه ورأسه، حتى لم يترك به مَصَحًّا (3)، ثم أرسله ولا طَباخَ به (4)، ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتُك به. قلت: ونظير هذا ما حصل لبعض الجهال بالسُّنَّة من بنائه - صلى الله عليه وسلم - بصفية عقيب سبائه لها، فقال: بنى بها قبل استبرائها. وهذا من جهله وكفره، أو من أحدهما، فإن في «الصحيح» (5): فلما انقضت عدَّتُها بنى بها. _________ (1) كذا في الأصل و «الصارم»، وهو الصواب. وفي مطبوعة «المغازي»: «في» خطأ يغيِّر المعنى ويفسده. (2) ظنَّ صبحي الصالح أن بالعبارة تصحيفًا فغيَّرها إلى: «فرأى محمدًا يغشى عليه جرائد، يظنُّه لا يراه، فعاجله»! (3) أي مكانًا صحيحًا في جسمه .. (4) أي: لا قوَّة به. انظر: «الصحاح» (1/ 427). (5) «صحيح مسلم» (1365/ 87).

(2/513)


فإن قيل: فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق (1)، قال: حدثني مولًى لزيد بن ثابتٍ قال: حدثتني ابنةُ محيِّصةَ عن أبيها مُحَيِّصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عقيب ذلك: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه»، فوثب محيصةُ بن مسعودٍ على ابن سُنينة (2) ــ رجل من تجار اليهود كان يلابسهم يبايعهم (3) ــ فقتله، وكان حُوَيِّصة بن مسعودٍ إذ ذاك لم يسلم، وكان أسنَّ مِن مُحيِّصة، فلما قتله جعل حُويِّصة يضربه، ويقول: أي عدو الله! قتلتَه؟! أما والله لرُبَّ شحمٍ في بطنك مِن ماله! فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتُك! فقال حُويِّصة: واللهِ إن دِينًا بلغ منك هذا لعجبٌ؛ فكان هذا أول إسلام حُوَيِّصة. وقال الواقدي (4) بالأسانيد المتقدمة: قالوا: فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي قُتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه»، فخافت يهود فلم يَطلُع عظيم (5) من عظمائهم، وخافوا أن يُبيَّتوا كما بُيِّت ابنُ الأشرف. وذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال: وفزعت _________ (1) كما في «الدلائل» للبيهقي (3/ 200). وهو في «سيرة ابن هشام» (2/ 58) عن ابن إسحاق معلَّقًا. (2) في الأصل: «شيبة»، تصحيف. (3) في المطبوع: «ويبايعهم» بزيادة واو العطف، وكذا في مطبوعة «الصارم» و «سيرة ابن هشام». والمثبت من الأصل موافق لما في نسختي الظاهرية (ق 42) والمحمودية (ق 31) من «الصارم»، وكذا في «دلائل النبوة». (4) في «مغازيه» (1/ 191). (5) في الأصل: «تطلع عظيمًا».

(2/514)


يهود ومن معها من المشركين ــ وساق القصة كما تقدم. فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين، وإلا لما أمر بقتل من وُجد منهم، ويدل على أن العهد الذي كتبه - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف، وحينئذ فلا يكون ابن الأشرف معاهدًا. فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بقتل من ظُفر به من اليهود لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم، وقد تقدم أنه قال: ما عندكم في أمر محمد؟ قالوا: عداوته ما حَيِينا، وكانوا مقيمين خارج المدينة، فعَظُم عليهم قتلُه، وكان مما هيَّجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد (1)، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل من جاء منهم لأن مجيئه دليلٌ على نقض العهد وانتصاره للمقتول. وأما مَن قرَّ فهو مقيمٌ على عهده المتقدم، لأنه لم (2) يظهر العداوة. ولهذا لم يحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك. وأما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحدَه. وقد ذكر هو أيضًا (3) أن قتل ابن الأشرف كان في شهر ربيعٍ الأول سنة ثلاثٍ، وأن غزوة بني قينقاع كانت قبل ذلك في سنة اثنتين بعد بدرٍ بنحو شهرٍ. وذكر أن الكتاب الذي _________ (1) زاد صبحي الصالح هنا: [انتصارُهم للمقتول وذبُّهم عنه] بين الحاصرتين أخذًا من طبعة محمد محيي الدين لـ «الصارم» (ص 91)، وكذا هو في الطبعة الهندية (ص 91)، ولا يوجد في الطبعة المحققة (2/ 187) ولا في نسخة الظاهرية (ق 42)، وسقط موضعُه من نسخة المحمودية لانتقال النظر (ق 32)، فليُنظر في سائر النسخ. والعبارة تستقيم بدونه، أي: وكان قتلُ ابنِ الأشرف مما هيَّجهم ... إلخ. (2) في الأصل: «لا»، والمثبت من «الصارم». (3) «المغازي» (1/ 184، 176).

(2/515)


وادع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - [اليهود] كلَّها كان لمَّا قدم المدينة قبل (1) بدرٍ. وعلى هذا فيكون هذا كتابًا ثانيا خاصًّا لبني النضير يجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم، غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود؛ لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة. وقد تقدَّم أن ابن الأشرف كان معاهدًا. وتقدم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الكتاب لما قدم المدينة في أول الأمر، والقصة تدل على ذلك، وإلا لما جاء اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وشكوا إليه قتلَ صاحبهم، وإلا فلو كانوا محاربين له لم يستنكروا قتله. وكلُّهم ذكروا أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدرٍ، فإن معاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت قبل بدرٍ كما ذكره الواقدي. قال ابن إسحاق (2): «وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرُ بني قينقاع»، يعني: فيما بين بدرٍ وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى. وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد. قلت: اليهود الذين حاربهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة، ويهود خيبر. وكانت غزوة كل طائفةٍ [منها] (3) عقيب غزوةٍ من غزواته للمشركين، فكانت بنو قينقاع بعد بدرٍ، وبنو النضير بعد أحدٍ، وبنو قريظة بعد الخندق، وأهل خيبر بعد الحديبية، فكان الظفر بكل واحدةٍ من هؤلاء الطوائف كالشكران للغَزاة التي قبلها، والله أعلم. _________ (1) في الأصل والمطبوع: «بعد»، والتصحيح من «الصارم»، وسيأتي على الصواب قريبًا. (2) كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 47) و «الدلائل» (3/ 172). (3) طمس في الأصل مقدار كلمة.

(2/516)


فصل الدليل الرابع: ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سبَّ نبيًّا قُتِل، ومَن سبَّ أصحابه جُلِد». رواه أبو محمد الخلال وأبو القاسم الأزجي (1). ورواه أبو ذر الهروي (2)، ولفظه: «مَن سبَّ نبيًّا فاقتلوه، ومَن سبَّ أصحابي فاجْلِدوه». وهذا الحديث رواه عبد العزيز بن الحسن بن زَبالة: حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفرٍ، عن علي بن موسى، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه (3). _________ (1) وأخرجه أيضًا الطبراني في «الأوسط» (4602) وفي «الصغير» (659) عن عبيد الله بن محمد العمري القاضي، حدثنا اسماعيل بن أبي أويس، حدثنا موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه جعفر، عن أبيه، عن جده (علي بن الحسين)، عن (أبيه) الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب مرفوعًا. وهذا إسناد واهٍ، شيخ الطبراني عبيد الله بن محمد العمري ضعيف متهم بالكذب، وقد حكم عليه الألباني بالوضع في «الضعيفة» (206). (2) وأخرجه تمام في «فوائده» (740) من طريق عبد السلام بن صالح الهروي، حدثني علي بن موسى الرضا، حدثني أبي: موسى بن جعفر ... إلخ الإسناد السابق. وإسناده تالف كسابقه، عبد السلام بن صالح الهروي: رافضي خبيث، متَّهم بالوضع. (3) وهذا أيضًا كسابقيه، ابن زبالة قال عنه ابن حبَّان في «المجروحين» (2/ 121): يروي عن الثقات الأشياءَ الموضوعاتِ المعضلاتِ.

(2/517)


وفي القلب منه شيء، فإن هذا الإسناد قد ركب عليه متونٌ كثيرةٌ (1)، والمُحدِّث به عن (2) أهل البيت ضعيفٌ. فإن كان محفوظًا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيًّا من الأنبياء، فظاهره يدل على أنه يقتل من غير استتابةٍ، وأن القتل حدٌّ له (3). * * * _________ (1) انظر: «الضعيفة» (1593، 1795، 2323، 2506، 2567، 2997، 3121، 3273، 4136، 4418، 5454، 6249)؛ كلها متون منكرة وموضوعة، رُكبِّت على هذا الإسناد المسلسل بأئمة أهل البيت. (2) في الأصل: «من»، خطأ. والمراد: عبد العزيز بن الحسن بن زبالة. (3) في نهاية النسخة: «آخر المجلد الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى في الثاني: «فصل: الدليل الخامس». والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وكان الفراغ من كتابته ومقابلته في يوم الأحد حادي عشري جمادى الثاني من شهور سنة تسعٍ وستين وثمانمائةٍ. اللهم أحسن عاقبتها، وأصلح أحوال المسلمين. آمين، آمين، آمين يا رب العالمين».

(2/518)