×
كتاب إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقة بأقرب الطرق وأيسر الأسباب يحتوي على مهمات مسائل الأحكام بصورة السؤال والجواب.

 إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب

تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1307 - 1376 هـ

(/)


بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة المصنف

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُه ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِن سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرشِداً. وَصَلَّى الله عَلَى محمَّد وَعَلَى اله وَأَصحَابِه وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعدُ: فَهَذَا تَألِيفٌ بَدِيعُ المنْزَع، سَهْلُ الأَلفَاظِ وَالْمَعَانِي، حَسَنُ الترتيب، يَحْتَوِي عَلَى مُهمَّات مَسَائِل الأَحكَام. رتبته بصُورَةِ: السُّؤَال الْمُحَرَّر الْجَامِع، وَالجواب المفصَّل النَّافِع. يَحتَوِي عَلَى: أُصُولٍ، وَضَوَابِطَ، وَتَقسِيمَاتٍ. تُقُرِّبَ أشتات الْمَسَائِل، وتضم أَلنّظَائِرَ والفَوَارِقَ. وَكَثِيرٌ مِن هَذِه الأَجوِبَةِ يتناول أَبوَابًا مِنَ الفِقهِ عَدِيدَةً، وَأصُولاً تَنْبَني عَلَيهَا أَحكَامٌ مُفِيدَةٌ. وَتُعرِّفُ القَارِئَ مِن أَيِّ قَاعِدَةٍ أُخِذَتْ، وعلى أَيِّ أَساسٍ أُثْبِتَتْ. وتُوَضِّح التَّعْلِيلات والحِكَمَ. ولعل هذه الأُمُور أكثرُ فائدةً مِمَّا في الأَجوبةِ منَ التَّفْصِيلات الفقهية؛ لِعمُوم نَفعِهَا وحُسْنِ موقعها.

(1/9)


وعند ذِكْر الأحْكَام: أَذكُرُ الْمَشْهُور مِن مَذهَبِ الإِمَام أَحمَد عِند مُتَأَخرِي الأَصحَاب. فَإِنْ كَانَ فِيه قَولٌ آخر أَصَحُّ مِنه عِندِي ذكرته وَصَحَّحْتُهُ. وَأَشَرتُ إِشَارَة لطيفة إِلَى دَليلِ كُلّ مِنَ القولين وَمَأْخَذِهِمَا؛ إذ المقَامُ لا يقتضي البَسْطَ. وأَسْتَطْرِدُ في الجَوَابِ بِذِكْرِ الأَشبَاهِ وَالنظَائِرِ؛ لِتَحْصُلَ الفَائِدَةُ الكَثِيرَةُ والأُنسُ بكثرةِ ما يدخلُ في الأَصلِ والضَّابطِ. وأَذكر أيضا الفوارقَ بينَ المسائِلِ التي يَكْثُر اشْتباهُهَا؛ ليَحْصُلَ التَّمييزُ بينها. وَأَسألُ اللَّهَ تَعَالَى: أَن يَكُونَ أَلدَّاعِي لَهُ إِرَادةُ وَجْهِه وثَوَابِه، وَقَصدِ اُلْتُفِعَ لِعِبَادِه، وأَن يَكُونَ مُوَافِقًا لمحبته وَرِضَاه، وأَن يُسَهِّل تَتمِيمَ مَا أَنعَمَ في ابتدائِه، إِنه جَوَادٌ كَرِيمٌ. -

(1/10)


 أسئلة في الطهارة

(1/11)


حكم الماء المتغير 1- سؤال: ما حُكم الماء المتَغيِّر؟ الجواب: وباللَّه التَّوفيقُ، ومِنْهُ أَسْتَمِدَُّ الهدايةَ والإِصَابةَ. يدخلُ تَحتَ هذَا السؤَالِ أَنوَاعٌ كَثِيرَة، وأَفْرَادٌ متعدِّدةٌ، لكئها تَنْضَبِطُ بأُمورٍ: (1) أَمَّا الماءُ الَّذي تَغيَّر لونُه أَوْ طَعْمُه أَو رِيحُه بالنَّجاسَةِ: فهو '' نَجِسٌ '' بالإِجماعِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا. (2) وأَمَّا الماءُ الَّذي تغيَّرَ بِمُكْثِه وَطُولِ إِقَامَته في مَقَرِّهِ، أَو تغيَّر بِمُرورِهِ عَلَى الطَّاهِرَاتِ، أَو بما يَشُقّ صَونُه عَنه، وَبما هُوَ مِنَ الأَرضِ كطِيبهَا وتُرَابِهَا: فهذا '' طَهُورٌ '' لا كَرَاهة فِيهِ؛ قولاً واحدًا. (3) وأَمَّا الماءُ الَّذي تغيَّر بما لا يمازجُهُ كَدُهْنٍ ونَحوِه: فهو مَكْرُوهٌ على المذهب. غيرُ مَكْرُوهٍ عَلَى القَولِ الصَّحيحِ. لأَن الكراهَةَ حُكْمٌ شَرْعيٌّ يحتاجُ إِلى دليلٍ؛ ولا دَليلَ على الكرَاهَةِ وَالأَصْلُ المياهِ الطَّهُورِيَّة، وعدمُ المنعِ. فمن ادعى خِلافَ الأَصلِ فَعَلَيْهِ الدليلُ.

(1/13)


(4) وأمَّا الماءُ المتغيرُ لَوْنُه أَو رِيحُهُ أَو طعمه بالطاهِرَاتِ كَالزعفرانِ ونحوِه: إذَا كَانَ التغيرُ يَسِيرٌ ا: فهو طهورٌ قولاً واحدًا. وَكَذلكَ إِن كانَ التَّغيرُ في مَحلِّ التَّطهيرِ: فهذا أَو نحوه لا بأْسَ بِه. وإن كَانَ المتغيرُ بالطاهراتِ تغيرًا كثيرًا: فَهُو طَاهِرٌ غير مُطَهر عَلَى المشهور مِنَ الْمَذْهَب. وعلى الفول الصَّحيحِ: هو طهورٌ: لأَنَّه ماء؛ فيدخلُ في قولِه تَعَالى ? فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ? [المائدة:56] . ولعدم الدَّليلِ الدَّالّ على انتِقَالِه عَنِ الطهُورِية، فبقِيَ عَلَى الأَصلِ. وذلك أَنَّ العُلَمَاءَ رحمَهُمُ اللَّهُ: اتفقُوا عَلَى نوعين مِنْ أنوَاعِ الميَاهِ، واختَلَفُوا في النوعِ الثَّالِث. اتَّفقُوا عَلَى أنَّ: كل ماء تغيرَ بالنجاسَةِ فهو نجس. كما اتفَقُوا عَلَى أَن: الأصْلَ في المياهِ كُلِّها النازلةِ مِنَ السِّمَاء، والتَّابِعَةِ منَ الأَرضِ، والجارِيَةِ والرَّاكِدَةِ؛ أنها طاهرةٌ مطهِّرَةٌ.

(1/14)


واختلفوا في: بعضِ المياهِ الْمُتَغَيِّرةِ بالأَشياءِ الطاهرةِ أَو التي رُفِعَ فيها حَدثٌ ونَحوهَا هَل هِيَ باقيَةٌ على طهوريتهَا؟ وَإِنَّنَا تَسْتَصْحِبُ فِيهَا الأَصْلَ كما هُو الصَّحِيح؛ لأَدِلَّةٍ كَثِيرةٍ ليس هَذَا مَوضِعهَا، أَو أَنها صَارَتْ في مَرْتَبَة مُتَوَسِّطَةٍ بين الطهُورِ وَالنَّجَس فصَارَتْ طَاهِرَةً غيرَ مُطَهِّرةٍ. والاستدلالُ بهذَا القَولِ ضَعِيفٌ جدًّا!! فإِن إِثبات قِسْمٍ مِنَ المياهِ، لا طَهُورٌ وَلا نَجِسٌ؛ مما تعمُّ به البَلْوَى وتشتَدُّ الحاجَةُ والضرُورَةُ إِلى بيانه، فَلَو كَانَ ثابتًا؛ لبينهُ الشارع بَيانًا صَحِيحًا، قاطعًا للنِّزاعِ. فَعُلِمَ أَنَّ الصَّوابَ المقطُوع به: أَن الماءَ قِسمَانِ: طَهُورٌ، وَنَجِسٌ. المَاء الْمُسْتَعْمَل (2) مَا حُكمُ الماءِ المستَعمَلِ؟ الجواب: يَدخُلُ تحتَ هَذَا أَنوَاعٌ متعدِّدَةٌ: 1- مُسْتعملٌ في: إزَالةِ النَّجَاسَةِ.

(1/15)


2- ومُسْتعمَلٌ في: رفعِ الحدثِ. 3- ومُسْتَعملٌ في: طَهَارَةٍ مَشْروعةٍ. 4- ومُسْتَعملٌ في: نظافةٍ. 5- ومُسْتَعملٌ في: رفعِ حَدَثِ أُنْثى. 6- ومُستَعمَلٌ في: غَمْس يَدِ النَّائِم. (1) أمَّا المستعمَلُ في إِزالةِ النَّجَاسَة: فإِنْ كان مُتَغَيرَا: فهو نَجِسٌ. وإِن لم يتغير وهو كثيرٌ: فهو طهورٌ قولاً واحدًا. وإِن كان قليلاً والنجاسة لم تَزُلْ عنِ المحلِّ أو قبل السَّابِعَة: فهو نَجِسٌ على الْمَذْهَب. وعلى الصَّحيح: طَهُورٌ لعدم تَغيرِه بالنجاسَةِ. وإن كان آخرَ غسلةٍ زالَتْ بها النجاسَةُ: فهو طَاهِر على المذهب غَيرُ مُطَهِّرٍ. وهو طهورٌ على القول الصَّحِيح، مِن بَابِ أَولَى مما قَبلَهَا. (2) وأَمَّا المستَعمَلُ في رَفع الحدَثِ: فَإِنْ كَانَ يغترفُ خارجَ الإِناء: فالبَاقِي في الإِناءِ طَهُورٌ قليلاً كان أو كَثِيرًا؛ قولاً واحدًا.

(1/16)


وأن كَانَ يستَعمِلُه وهو في موضِعِه بأن كان يغتَسِل أو يَتَوَضَّأ في نفسِ الماءِ. فإِنْ كَانَ الماءُ كَثِيرًا: فالماءُ طهورٌ قولاً واحدًا. وإِن كَانَ يسيرَا: صَارَ طاهرًا غير مُطَهِّر عَلَى الْمَذْهَب. وهو طَهُور عَلَى القَولِ الصَّحِيح؛ لعدم الدليلِ الناقِلِ لَهُ عَنْ أَصلِهِ. (3) وَإِنْ كَانَ مُستَعْملاً في طَهَارَةٍ مَشرُوعة: كتَجدِيدِ وُضوء ونَحوِه: فهو طهُور، مَكْرُوه على المذهبِ. غير مَكْرُوه، عَلَى الْقَوْل الصَّحِيح؛ لِعَدَمِ الذليلِ. (4) وإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلاً في طَهَارَةٍ غَيرِ مَشْرُوعةٍ: فهو طَهُورٌ لا كراهةَ فيه قولاً واحدًا. (5) وإِن كان مُسْتَعْمَلا في حدثِ أُنثَى: وهو كَثِير؛ فهو طهورٌ لا منع فيه مطلقاً، قولاً وَاحِدًا. وإِن كان يَسِيرًا ولم تَخْلُ بِه: فَلا مَنعَ أَيضاً. وإن خَلَتْ بهِ فَلا مَنْعَ في طَهَارَةِ النجَاسَةِ، وَلا في طَهَارَةِ المرأةِ قَولاً وَاحِدًا. وَإِنما يُمْنَعُ مِنْهُ الرَّجُلُ في طَهَارَةِ الحدَثِ عَلَى المذهَب مع بَقَائِه عَلَى طُهُورِيَّته.

(1/17)


وعند عدم غيره: يُجمَعُ بين استعماله والتَّيمُّمِ احتِيَاطًا. وأما الصَّحيحُ: فلا مَنْعَ فِيهِ مُطْلقًا. لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إِن الْمَاء لا يَجنبُ» . ومَا استُدِل به عَلَى المنْعِ فضعِيفٌ لا يدلُّ على المنْعِ. (6) وأَمَّا المستَعْمَلُ في غمس يد النَّائِمِ: فإنْ كَانَ نهارًا أَو نَومًا لا ينقُضُ الوُضُوءَ: فَلا يَضُرْ مطلقًا. وإِن كَانَ نومًا كَثِيرًا بالليلِ وغمسها كُلَّها. فَإِنْ كَانَ الماء كَثِيرًا لم يضر قولاً واحدًا.

(1/18)


وإن كان دون القلتين صَارَ طَاهِرًا غَيرَ مُطَهِّرٍ، عَلَى الْمَذْهَب، ولكن عِنْد الاضطرارِ إِليه يُستَعْمَلُ مَعَ التَّيممِ. وعَلَى القَولِ الصَّحيحِ في المذهَبِ: يبقَى عَلَى طَهُوريته،؛ لعدم الدليلِ عَلَى زَوَالِ طهوريته. والحديثُ إِنما يَدُل عَلَى الأَمر بِغَسلِهِمَا قَبلَ إدخَالِهِمَا الإِناءَ؛ للعلَّةِ التي عَلَّل بها في الْحَدِيث: «… فإن أحدَكُم لا يَدْرِي أَينَ باتت يَدُهُ» .

(1/19)


الماءُ النَّجسُ مَتَى يَطهُر؟ 3-إِذَا كَانَ الماءُ نَجَسَا مَتَى يَطْهُرُ؟ الجواب: أما عَلَى القَولِ الصَّحيحِ: وَهُو رِوايَةٌ عَنْ أَحمدَ. فمتَى زَالَ تَغَيّرُ الماءِ عَلَى أيِّ وجه كَانَ؛ بِنَزْحٍ، أو إضافةِ مَاءٍ إِليه، أو بزوالِ تغيّرِه بِنَفسِه؛ أو بمعالجتِه: طَهُرَ بِذَلِكَ. وسواءَ كَانَ قليلاً أو كَثِيرًا؛ لأن الحكمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِه وُجُودًا وَعَدَمًا. وَلا عِلَّةَ للتنجِيسِ عَلَى التَّحقِيق إلا التَّغَيرُ بالنجَاسَةِ فما دَامَ التَّغَيرُ مَوْجُودًا، فَنَجَاسَتُه مَحْكُوم بِهَا، ومَتَى زَالَ التَّغَيرُ طَهُرَ. وأما عَلَى المذهبِ: فَلا يخلو الماءُ: إِما أن يَكُونَ أَقَلَّ من قلَّتَينِ، أو يَكُونَ قُلَّتين فَقَط أو يَكُونَ أكثرَ منهُما. فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ من قُلَّتينِ: لَم يَطْهُر إلا بِإِضَافَة طَهُورٍ كَثِيرٍ إِلَيهِ. وإِنْ كَانَ قُلَّتَينِ فقط: طَهُرَ بأَحدِ أَمرين: إِما بِإِضَافَة طَهُورٍ كثيرٍ إِليه مَعَ زَوَالِ التَّغَير. وإِما بِزَوَالِ تَغَيرِهِ بِنَفسِهِ. وإِن كَانَ أَكثرَ مِن قُلَّتَينِ: طَهُرَ بأَحدِ ثَلاثةِ أَشْيَاءَ: هذينِ الأَمرينِ.

(1/20)


أَو بنَزحٍ يبقى بَعدَهُ كَثير غيرُ مُتَغَيِّر. إلا إِذَا كان مُجْتَمَعًا مِن مُتَنَجّسٍ يسيرٍ: فَتَطهِيرُه بِإِضَافَة كَثِيرٍ إِلَيهِ مَعَ زَوَالِ التَّغَيرِ لابد مِنة في الأَحْوَال كُلِّهَا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ شيءٌ آخرُ مَعَه أم لا؟ قَد ذكرنَا تفصِيلَهُ الجَامِعَ. حُكم عَدَمُ العلم بالنَّجاسة للإناء أَوْ البدن أَوْ الثوب!! 4- إِذَا تطهَّر بالماءِ ثم وجَدَهُ بعد ذلك نجسًا أَو صلى ثم وَجَدَ عَلَى بَدَنِه أَوْ ثوبه نجاسة مَا حُكْمُ ذلك؟ الجواب: لا يَخْلُو الأَمرُ من حَالينِ أَو ثلاثة: 1- لأنه إما أَنْ يَعْلَمَ أن النجَاسَةَ قَبلَ طَهَارَتهِ وَصَلاتِه. 2- أَو يَعْلَمَ أنها بَعْدَهُما. 3- أَوْ يَجْهَلَ الأمر. (1) فإن عَلِمَ أنها قبل طَهَارَتِه بسبب من الأَسْبَاب الموجِبَةِ للعلم؛ ومنه خبر الثِّقَةِ المتيقن، حيث عين السببِ: أَعاد طَهَارَتَهُ، وغسل ما أَصَابَ النجَاسَةَ من بدنٍ أو ثَوْب. وكذلك يُعِيدُ الصَّلاة على المذهبِ. وعلى الْقَوْل الصَّحِيح: إِن من نَسِي وصَلَّى في ثوبٍ نَجِسٍ أَو على

(1/21)


بدنه نجاسةٌ نَسِيَها أَو جهل ذلك، ولم يعلم حتَّى فرغ: صحَّت صَلاتُه وَلا إِعادةَ عَلَيه. لأنه - صلى الله عليه وسلم - خَلَعَ نعليه وَهُوَ في الصَّلاة، حِينَ أَخبره جبريلُ أَن فِيهِمَا قَذَرًا، وَبَنَى على صَلاتِه، ولم يُعِدْهَا. فإِذا بنى عليها في أثنائها، فإِذا وجدَهَا بعد فَراغِ الصَّلاة فالحكْمُ كذلك. ولأَن مِنْ قاعِدَةِ الشرِيعَةِ: إِذا فَعَلَ العِبَادَةَ وقد فَعَلَ مَحظُورًا فيها هو معذورٌ فلا إِعادَةَ عَلَيهِ؟ بخلافِ مَن تَرَكَ المأمُورَ.

(1/22)


فتارِكُ المأمورِ به لا تَبرَأُ ذمتُه إلا بفعله. وفَاعِل المحظُور الذي هُوَ مَعذُورٌ: لا شَيءَ عَلَيهِ. (2) وإن عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ بعد الْفَرَاغ مِنْ طَهَارَتِه: فَهَذَا وَاضِحٌ لا شيءَ عَلَيه؛ لأنه توضأ بِمَاءٍ طَهُورٍ وَصَلَّى وَلَيسَ عَلَيهِ نجاسةٌ. وإنما ذكرنا هذا لأَجلِ التَّقْسِيم. (3) وأَمَّا إن جهل الحالَ فلم يَدرِ هل نجاسةُ الماءِ قَبلَ استِعمَالِه أَو بَعدَهُ أَو النجاسَةُ قد أصابته قبلَ الصَّلاةِ أَو بَعدَها: فطهارَتُه وصَلاتُه صَحِيحَتَانِ قولاً وَاحِدًا لِبِنَائه عَلَى الأصلِ؛ لأَن الأَصْلَ عَدَمُ النَّجَاسَةِ. اشتباه الماء الممنوع بغير الممنوع هـ- إِذا اشتبه ماءٌ ممنوعٌ مِنْهُ بما ليسَ بِمَمْنوعٍ مَا حُكمُه؟ الجواب: إِن كَانَ المشتبه ماءً نجسًا بِطَهُورٍ أَوْ ماءً مُبَاحًا بمحرَّمٍ: اجْتُنِبَ الجَمِيعُ وصارَ وُجُودُهُمَا واحدًا؛ لِعَدَمِ قُدرَته عَلَى الوُصُولِ إِلَى الماءِ الطهُورِ المبَاحِ، ويُعدَلُ إِلَى التَّيَمُّم. إلا إِنْ تمكن من تطهير الماءِ النَّجسِ بالطهُورِ، بأَنْ يَكُونَ الطهُورُ كَثِيرًا وعنده إناءٌ يَسَعُهُمَا، فيَخلطهُمَا ويَصِيرَانِ مطهرين. وعَلَى القَولِ الصَّحِيحِ: يَبعُد جِدًّا اشتباهُ النجس بالطهُورِ؛ لأنه لا ينجُسُ الماءُ إلا بالتَّغير. ولكن مَتَى وَقَعَ الاشتبَاهُ في الصورِ النَّادِرَةِ: كُف عَنِ الجَمِيعِ.

(1/23)


وإِن كَانَ الاشتِبَاهُ بين ماءٍ طَهُورٍ وَمَاءٍ طاهرٍ غَيرِ مُطَهِّرٍ: عَلَى المذهَبِ تَوضأَ مِنهُمَا وُضُوءًا واحدًا من كُلِّ واحِدٍ منهُمَا غَرفَة وصَحت طَهَارَتُه؛ لأَن الطهُورَ يطهره والطاهِرُ لا يَضرُّه. فَإِنِ احتاجَ أحدهُمَا للشُّربِ تَحَرَّى في هَذِهِ الحَالِ وتطهر بما غلب على ظَنِّه، ثم تَيَمَّمَ احتِيَاطًا. وعَلَى الْقَوْل الصَّحيح: لا تَتَصَوَّر المسأَلة؛ لأن الصحيح أَن الماء إِمَّا نَجِس أَو طَهُور، كما تَقدمَ. الشَّك في النَّجَاسَة 6- إِذا شككنا في نجاسة شيء أو تَحرِيمهِ فما الطَّرِيق إِلى السَّلامَة؟ الجواب: الطريق إِلَى السَّلامَة: الرُّجُوع إِلى الأُصُولِ الشرعيةِ، والبناءُ عَلَى الأمور اليقِينيةِ. فإن الأَصْلَ في الأشياء: الطهارةُ، والإِباحَةُ. فما لم يَأْتنا أَمْز شَرعي يَقِينٌ؛ يُنْقلُ عَن هَذَا الأَصْلِ، وإِلا استَمسَكنَا به. وأَدِلةُ هَذَا الأَصلِ مِن الكِتَابِ والسُّنة كثيرةٌ. فعَلَى هَذَا الأَصلِ: إِذَا شَكَكْنَا في نَجاسَةِ مَاءٍ، أَو ثَوْب، أَو بَدَنٍ، أَو إِناءٍ، أَو غيرِ ذلكَ، فالأَصلُ الطهارةُ. وكذلك: الأَصْل جوَازُ استعمَالِ الأَمْتِعَةِ، والأَواني، وَاللِّبَاس وَالالات، إلا مَا وَرَدَ تَحريمه عَن الشارِعِ.

(1/24)


وما أَنفَعَ هَذَا الأَصلَ وأكثرَ فائدته وأَجَلَّ عَائِدتَهُ على أَهلِ العِلمِ. وهو مِن نِعَمِ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ، وتيسِيرِهِ، وعَفْوِه، ونَفْيِهِ الْحَرِج عَنْ هذه الأمةِ، فلِلَّه الحمدُ وَالثِّنَاء. حُكم استعمال الذهب والفضة 7- مَا حُكمُ استِعمَالِ الذهَبِ والفِضةِ؟ الجواب: وباللَّهِ التَّوفِيقُ. يتَحرَّرُ جَوَابُه بِأَنْوَاع الاستِعمَالاتِ ودَرَجَاتِهَا. فبَابُ اللباسِ أَخَفُّ مِن بَابِ الآنِيَة، وأَثقَلُ مِن بَابِ لباسِ الحرَبِ. أما استعمال الذهب والفضة في الأواني ونَحوِهَا مِنَ الالاتِ: فَلا يَجُوزُ: لا للذكُورِ، ولا لِلإِنَاثِ. لا القليل مِنه، ولا الكَثِيرُ. للعُمُومياتِ الناهيَةِ عنه المتوعِّدَةِ عَلَيهِ، وعدم المخصص.

(1/25)


إلا أنه يُسْتَثْنَى الشيءُ القَلِيلُ مِنَ الفِضةِ إِذا اُحْتِيجَ إِلَيهِ. لأنه: لما انكَسَرَ قَدَحُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ اتخذ مكَانَ الشّعَبِ سِلْسِلةَ مِن فضة، والحديثُ صَحِيح. فهذَا وَمَا أَشبَهَهُ مِنَ الفضة: جائزٌ، لا مِنَ الذَّهْب. وأَمّا بابُ اللباس والعَتَادِ: فأُبِيحَ ذلك للنِّسَاءِ؛ لحاجتهن إِلَى التزين، ولتميّز النِّسَاءِ عن الرجَالِ. فجميعُ أَنواعِ الْحُلي المستَعْمَلِ للنِّسَاءِ جائزٌ قَلِيلُه وكَثِيرهُ. وأما الرَّجُل: فَلَم يبحْ لَهُ شَيءٌ مِن ذَلِكَ إلا: خاتم الفضة. وحلية المنطقةِ من الفضة. وكذلك من الذهَبِ والفضة مَا دعتْ إِليه حاجَتُه من أَنفٍ، أَو رباطِ أَسنانٍ، ونحوها. وأَما لباس الْحَرِب: فهو أَخفُّ من ذَلِكَ كُلِّه.

(1/26)


فإنه يباحُ تَحلِيَةُ السيفِ، وَالرَّمْح، والبَارُودِ، ونحوها، بأَنواع الذَّهْب والفضَّةِ. وكذلك الجوشنُ، والخوذَةُ، ونحْوُهَا. وهذا التَّفصِيلُ المذكورُ في غيرِ الضَّرُورَة. أَما الضَّرُورَة: فتُبِيحُ الذَّهْب والفِضةَ مطلقاً. ما دَامَت الضرُورَةُ مَوجُودَةً؛ فإِن الضرُورَاتِ تُبِيحُ المحظُورَاتِ، كَما أبَاحَ اللَّهُ لَلْمُضْطَرّ أَكلَ الْميتَة، وَنَحْوِهَا. حكم أجزاء الميتة 8- مَا حُكْمُ أَجْزَاءِ الْميتَة؟ الجواب: الْميتَة نَوعَانِ: مَيتَةٌ طَاهِرَةٌ: 1- كَالسَّمْكِ. 2- وَالْجِرَاد. 3- ومَالا نَفْسَ لَهُ سائلةٌ. 4 - والآدَمي. فهذِهِ أجزاؤها تَبَعٌ لها طَهَارَةً وحلاً. والنَّوعُ الثَّانِي: الميتَةُ النَّجِسَةُ: وهِيَ نوعانِ:

(1/27)


أحدُهُمَا: ما لا تفيد فِيهِ الذكاةُ كَالْكَلْبِ، والخنْزِيرِ، ونحوهما. فهذه أجزاؤها كلها نَجِسَةٌ؛ ذكِّيَت أَمْ لا. والثاني: ما تُفِيدُ فيه الذَّكَاةُ: كالإِبل والبقر والغَنَمِ والطيُورِ. فَهَذِهِ أَجزاؤهَا ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ. 1- قِسمٌ نَجِسٌ مُطْلقًا: كاللَّحم والشحمِ والمصرَان ونَحوِهَا. 2- وقِسْم طَاهِرٌ مُطلقًا: كالشعرِ والصُّوفِ والوَبَرِ والرَّيش. 3- وقسم فِيهِ خِلافٌ: وهو الجِلْدُ بَعدَ الدَّبْغ والعِظَام وَنَحْوهَا. وَالْمَشْهُور مِنَ المذهَبِِ: بَقَاؤُهَا عَلَى نَجَاسَتِهَا، إلا أن الجِلْدَ بَعدَ الدَّبْغ يخف أمرُه فيُستَعمَلُ في اليَابِسَاتِ دُونَ المائعات. والصَّحِيحُ: أَن الجلْدَ يَطْهُرُ بالدِّبَاغِ؛ للأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصرِيحَةِ التي لا مُعَارِضَ لَهَا. وكذَلِكَ الصَّحِيحُ: أن العِظَامَ طَاهِرَةٌ؛ لأَن العِلَّةَ في تَحرِيمِ الميتة - الذي هُوَ احتقان الفضولاتِ الخبيثَةِ فِيهَا - غَيرُ مَوجُودَة في العظَامِ واللَّهُ أعلم.

(1/28)


الأشيَاءُ الموجِبَةُ للطَّهَارَةِ وما يتطهَّرُ لَهُ؟ 9- مَا هي الأشياء الموجِبَة للطَّهَارَةِ الشرعية؟ وكيفية ذَلِكَ؟ وما يتطهَّر له؟ الجواب: الطهارَةُ نَوعَانِ: 1- كُبرى: تُوجِبُ غَسْلَ البَدَنِ كُلِّهِ. والَّذي يوجبها: 1- الجنَابَةُ: بوطء، أَو إِنزَالٍ، أَو بهما. 2-والحيض. 3- والنفاسُ. 4- وإسلام الكَافِرِ. 5- وموت غير الشهيدِ. فهذه الأشياء، كُلّ وَاحِد منها يوجب غسلَ البَدَنِ كُلِّه. 2- والنَّوع الثَّاني: الطَّهَارَةُ الصُّغرى: والَّذي يُوجِبُهَا شيئان: أَحدُهُمَا: يوجب الاستنجَاءَ والاستِجمَارَ مَعَ غَسلِ الأَعضاءِ الأَرْبَعةِ وهو: جَمِيعُ الخارجِ مِنَ السبيلين من بَولٍ، وغَائِطٍ، ونَحوهِمَا ممَّا له جرمٌ.

(1/29)


فَهَذَا إِذَا حَصَلَ أَوجَبَِ: إِمَّا الاستجمارَ بِثَلاثِ مَسْحَاتٍ منقِّيَةٍ بأَحجَارٍ وَنَحْوهَا، غير الرَّوَثِ والعظَامِ، وَالأَشْيَاء المحترَمَة. وإِمَّا الاستنْجاء بمَاءٍ يُزِيلُ الخارج حتَّى يعود المحلُّ كما كان قبل خروج الخارجِ. والجمع بين الأَمرين أكمَلُ، ويجوز الاقتصار عَلَى أَحَدِهِمَا. والشيء الثَّانِي: يُوجِب غَسْلَ الأَعْضَاءِ الأربعَةِ فَقَط، وذلك. ا-كالريحِ. 2- والنَّومِ الكَثِيرِ. 3- ومسِّ الفَرجِ بِالْيَدِ. 4- وَمسِّ المرأَةِ بشَهْوَةٍ. 5- وأكلِ لحومِ الإِبِلِ. وتجتمِع الأَحداثُ الكُبرَى بِالْمَنْعِ مِنَ: ا - الصَّلاةِ. 2- وَالطَّوَاف. 3- ومسِّ المصحَفِ. 4- وقراءَةِ القُرآنِ.

(1/30)


5- واللبثِ في المسجِدِ. وينفرد الحيضُ والنِّفاسُ منها بمَنْعِ: ا- الصَّومِ. 2- وَالطَّلاق. 3- والوطءِ في الفَرجِ. وتشاركُهَا الأحداثُ الصُّغْرَى في المنْعِ مِنَ الثلاثَةِ الاُوَُلِ. وَمَتَى تَمتِ الطَّهَارَةُ بِنَوعَيْهَا: أُبيحَتْ جَمِيعُ الأَشيَاءِ المَمْنُوعَةِ. وقد عُلِمَ بهذا التَّفصيلِ ما يُتَطَهَّرُ له وُجُوبًا. وَأَمَّا ما يُتَطَهَّرُ لَهُ استِحبَابًا: فتُسْتَحَبُّ الطِّهَارَتَانِ الكُبرَى والصّغرَى لـ: 1- الأَذَانِ. 2- وأَنواعِ الذَّكَر. 3- وَالْخُطَب. 4 - وللإِحرَامِ. 5- وَدُخُولِ مَكَّةَ. 6- والوقوفِ بعَرَفَةَ.

(1/31)


7- وَلِلإِفَاقَةِ مِن: إِغْمَاء أَوْ جُنُون. 8 - وَللأَكْلِ، 9 - وَالنَّوْم. الأَعضَاءُ المَمْسُوحَةُُُ في الطَّهَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ 10- مَا هِيَ الأَعضَاءُ الْمَمْسُوحَة فِي الطَّهَارَةِ؟ وَكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ؟ الجواب: أمَّا طَهَارَةُ التَّيمّمِ: فتشترك الطَََََََّهَارَتَانِ الكُبرَى والصُّغرَى: بِوُجُوب مسحِ المتيمِّمِ بِوَجْهِهِ جميعِه وَيَدْيه إِلَى الْكُوعَيْنِ. حيث تعذَّرَ استِعمَالُ الماءِ؛ لعَدَمِهِ، ولضَرَرٍ يُلحَقُ بِاسْتِعْمَالِهِ؟ عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَابه، وَلكِنَّهُ رَاجِع إِلَى هَذَا الضابِطِ. ومن الحِكمَةِ في أن الطَّهَارَتَيْنِ في التيمم تَسَاوَتَا في ذَلِكَ: أَنَّ البَدَلَ لا يَجِبُ أَن يُسَاوِيَ الْمُبْدَل مِنْهُ، بل يَحْصُلُ فِيهِ من التَّخفِيفِ بِحَسَبِ الحَالِ المناسِبَةِ وهَذَا مِنْهُ. ولأن القَصْدَ التَّعَبُّدُ لِلَّهُِ بتعفِيرِ الوَِجهُِ واليَدَينِ بالتُّرَابِ، وَلِيَسْ فِيَهُ نَظَافَة حِسِّيَّة فاشتَرَكَا. وَأَمَّا طَهَارَةُ الْمَاء: فالطَّهَارَةُ الكُبْرَى:

(1/32)


لا مَسْحَ فِيهَا لا عضو أَصْليّ، وَلا شَيء مِنَ الْحَوَائِل الْمَوْضُوعَة عَلَى الأعضَاءِ للحَاجَةِ إِليهَا. إلا الْجَبِيرَة الْمَوْضُوعَة عَلَى كَسْرٍ أو جرحٍ؛ فإِنَّها تُمسَحُ كُلُّهَا في الطَّهَارَتَيْنِ للضرُورَةِ. وَلِذَلِكَ لا تَوْقِيت لَهَا، بَل تُمسَحُ مَادَامَتْ عَلَى الْعُضْو المحتَاجِ إِلَيهَا. وَأَمَّا الطهَارَةُ الصُّغرَى: فَالْمَمْسُوح فيها نَوَعَان: أَصليٌّ وَحَوَائِل عَوَارِض. أمَّا الأَصليُّ: فَهُوَ مَسحُ الرأس وَالأُذُنِينَ. فَيَجِب مَسْحُ ذَلِكَ كُلِّهُ كلَّما وَجَبَتْ الطَّهَارَةُ. وَيَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَة ببَقَاءِ الطَّهَارَةِ حَتّى وَلَوْ زَالَ شَعْرُ الرَّأْسِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ لم تَنتَقِضِ الطَّهَارَةُ إلا بِنَوَاقِضِهَا المعرُوفَةِ. وَأَمَّا الْحَوَائِل العَوَارِضُِ: فالعمَامَةُ عَلَى الرَّأْسِ للرَّجُلِ. - وَكَذَلِكَ الخمارُ للمَرْأَةِ، حَيثُ حَصَلَ نَوْع مشَقةٍ بنَزع ذَلِكَ. - ومَا يُلْبَسُ في الرِّجلِ مِنْ خفّ وَنَحْوه للرَّجُلِ وَالْمَرْأَة، فَهَذِهِ للمَسْحِ عَلَيهَا شُرُوطٌ، وَهي تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ بأَن يلْبِسَهَا وَهُوَ طاهرٌ كامل الطَّهارَةِ قَوْلاً وَاحِدًا في هذا كُلِّهِ. وَيُشْتَرَطُ أَيضًا عَلَى المذْهَبِِ: أَنْ يَكُونَ الخفُّ سَاتِرًا سترًا تَامًّا، لا فَتْقَ

(1/33)


فَيهَ وَلا خَرقَ، لا صغير وَلا كَبِير. والصَّحِيحُ: عَدَمُ اعتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ؛ لعُمُوِمَاتِ النُّصُوص المبيحة للمَسْحِ عَلَيْها مِن دُون قَيدٍ، مَعَ أنه لوِ كَانَ شَرطًا لَبيّنَه الشَّارِع بيانًا وَاضحًا لشدَّة الْحَاجَة إِلَيْهِ. ولأَنهُ يعلم أَن خفافَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - لا تَخلُوِ مِنْ فَتقٍ أَو شَقّ، وَلِذَلِكَ عَفَا الأصحَابُ في العمَامَةِ عن بروز بَعضِ الرَّأْسِ الذي جَرَتْ بهُ العَادَةُ. فَدَلّ عَلَى: أَن العَادَةَ لها حُكمٌ وَاعْتِبَار في هَذَا الْوَضْع. وَأَمَّا كيفية مَسْحِ ذَلِكَ: فلا يجبِ استِيعَابُهُ بَل يَكفِي فِيهَ أَكثرُ ظَاهِرِ الخفينِ وأَكْثَرُ العِمَامَةِ والخمار؛ لأنه لما انتقل إِلَى المسْحِ وَسهل فِيهَ زَادَتِ السُّهُولَة بعدم وُجُوب الاستيعاب. وَهَذَا النَّوْع من المسْحِ مُخْتَصّ بالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى. وَلذَلِكَ وُقّتَ فِيهِ: لِلْمُقِيمِ يوم وَلَيْلَة، وَلَلْمَسَافِر ثَلاثةُ أَيامٍ بِلَيَالِيهَا.

(1/34)


وَالابْتِدَاء: مِنَ الحَدَثِ عَلَى الْمَشْهُور مِنَ الْمَذْهَب؛ لأَنَّهُ السَّببُ المُوجِبُ. وَعلى الصَّحِيحِ: الابتداءُ مِن أَوَّلِ المسْحِ. لأَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ هَذِهِ المدةَ كُلَّهَا تمسحُ. ثم ما كَانَ مَمْسُوحًا، لا يُشْرَعُ فِيهِ تكرارٌ، بل مرَّةٌ واحدةٌ كافيةٌ. وهَذَا النَّوْع الأَخِيرُ هَل إذا زَالَ الْمَمْسُوح وَالطَّهَارَة باقِيَة تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ بِزَوَالِهِ كما هُوَ المذهبُ، أو الطَّهَارَةُ بَاقِيَةٌ ما لم يُوجَد ناقِضٌ شَرعيٌّ؟ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ: ولا فرقَ في الحقيقة بينَ زَوَالِ الخُفِّ وَزوَال شَعرِ الرَّأسِ. وَكَذَلِكَ الخِلافُ إذا تمَّتِ المدةُ، هل تُنتقَضُ الطَّهَارَةُ أَوْ تَزُولُ مُدَّةُ المَسْحِ فَقَط، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيح: في الْمَسْأَلَتَيْنِ هَذَا هُوَ أَحد القَوْلَينِ في الْمَذْهَبِ اختَارَهُ جماعَةٌ مِنَ الأصحَابِ وَاللْهُ أَعلَمُ. إيصَالُ الطّهارَة إِلَى مَا تحَتَ الشَّعر كَاللِّحْيَةِ 11- هَل يَجِبُ إِيصَالُ الطَّهارَةِ إِلَى مَا تَحتَ الشّعرِ كَاللِّحْيَةِ وَنَحوِهَا أَم لا؟ الْجوَاب:

(1/35)


أمَّا التيمم: فيكفي مَسْحُ ظَاهِرِ الشَّعْرِ، خَفِيفًا كَانَ أو كَثِيفًا، في الحَدَثِ الأَكْبَرِ والأَصْغَرِ. وأما طَهَارَةُ الماء: - فإن كَانَ الحَدَثُ أَكبر: فلابد من إِيصَال الْمَاء إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ كَظَاهِرِهِ [خَفِيفًا كَانَ أو كثيفًا. - فإن] كَانَ الحَدَث أصغَرَ: فَيَجِب إِيصَاله إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ الخَفِيفِ، وَهَوّ الَّذِي تُرَى البَشرَةُ مِن وَرَائِهُ، ويَكْفِي ظَاهِرُ الشَّعرِ الكَثِيفِ. وَيُسَنُّ: إِيصَاله إِلى بَاطِنِه في شَعْرِ الْوَجْه دُونَ شَعْرِ الرَّأْسِ. كيفية تطير الأشياء المتنجسة 12- عَن كَيفِيَّةِ تَطهِيرِ الأشيَاءِ المتنجِّسَةِ وَهَل يَجِبُ للصَّلاةِ أَمْ لا؟ الْجوَاب: النَّجاسَاتُ ثلاثةُ أَنْوَاع: 1- خَفِيف 2 - وثَقِيلٌ 3- وَمُتَوَسَّط. (1) فأَمَّا الخَفِيفُ مِنَ النَّجَاسَات: فمثل: بَوْل الغُلامِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لم يأكل الطَّعَامَ لشهوة.

(1/36)


فهذا يكفِي فيه غَمْرُهُ بِالْمَاءِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ قَوْلاً وَاحِدًا في الْمَذْهَبِ. كمَا صَحت به الأحادِيثُ. و «قَيْؤُهُ» أَخَفُّ حُكمًا من «بَوْلِهِ» . وَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحيحِ «المذي» : فإنَّهُ يكفي فِيهِ النَّضحُ. كَما ثَبَتَ بِهِ الحَدِيث. وَهُوَ الْمُوَافَق لحكمةِ المشقةِ. - وَمِثْلُه: النَّجَاسَةُ عَلَى أَسفلِ الخُفِّ وَالحِذَاءِ وَنَحْوه فيكفي مَسْحُهَا بالأَرْضِ وَالتِّرَاب. كما صَحتْ بِهِ الأحَادِيث. وَهُوَ الْمُوَافَق للحكمَةِ الشرعية.

(1/37)


- ومِثلُ هَذَا: مسحُ السيفِ الصَّقيلِ وَسِكِّين الجزارِ ونَحوِهَا. ولكن الْمَشْهُور من المذهَبِ في هذه الصَّوْر: لابد مِن غَسلِهَا. وَقَد تَفْدِم مما هَوّ خفيف: النَّجَاسَةِ الخارِجَةِ من السبيلين عَلَيهِمَا أنهُ يَكفِي فِيهَا الاسْتِجْمَار بِالاتِّفَاقِ. فكُلَّما شَقّ وَاشْتُدَّتْ الحاجَةُ إِِلَيهُِ سَهَّل فِيهِ الشَّارِع. وكذَلِكَ النَّجاسَةُ إِذَا كانت على الأرض: فيكفِي فِيهَا غَسلَةٌ وَاحِدَةٌ تذهَب بُِعَينِ النَّجَاسَةِ. كما: أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في غَسلِ بَوْل الأعرابي، أَن يُصَبَّ عَلَيه ذَنُوبٌ مِن مَاءٍ. - ومثلهِ: ما انَّصَلَ بالأرْضِ مِن الأحوَِاضِ والأحجَارِ وَنحوها، يكفِي فِيهَا مرَّةٌ واحِدَةٌ؛ قولاً واحِدًا في هذْا كُله. وكذلك على الصَّحِيحِ: النَّجَاسًةُ الَّتي في ذيلِ المرأة. كما ثبت به الحديث.

(1/38)


وَالمذْهَبُ: لابد مِن غَسْله. وَكل هَذِهِ المسَائِلِ تُعَلَّلُ بِالْمَشَقَّةِ بل قَد تَكَون الْمَشَقَّة مُوجِبَةً لِعَدَمِ إِيجَاب غَسلِ المتنجِّسِ. كَقَوْل الأَصحابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَلا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِب بئرٍ نُزِحَتْ للمشَقةِ. وكذلك الإِنَاءُ الذي تَخمَّرَ فِيهِ العصيرُ ثم تخلَّل: لا يجبِ غَسْله. وَكَذَلِكَ الحفِيرَةُ الَّتي فيها مَاءٌ نجسٌ إِذا طهر. وكُلُّ هذا: قَوْل وَاحِد في الْمَذْهَب. وَكَذَلك عَلَى الصحيح: لا يَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَه فَم كَلْب الصَّيْد مِنَ الصَّيْد لعدم أَمرِ الشَّارعِ بِغَسْلِ مَحَلِّ ذَلِكَ. وَالمذَْْهَبُِ: لابد مِنْ غَسْله وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَذَلِكَ النَّجَاسَةُ وَالْجَنَابَة في دَاخِلِ العَينِ لا يَجِب غسلُهَا. وَكُلُّ هَذِهِ يُحْكَمُ لَهَا بِالطَّهَارَةِ مَعَ وُجُود سَبَب التَّنَجُّس للحكْمَةِ الَمَذْكُورَة. وأمَّا الاضطِرَارُ عَلَى بقَاءِ النَّجَاسَةِ في بدنٍ أو ثَوْب أوبُقْعَة، وصحة الصَّلاةِ مَعَ ذَلِكَ: فتِلكَ مسألة أُخرَى ترجع إِلى أصلِ صَحَّة العبادةِ مَعَ فَقْدِ شَرْطِهَا الْمَعْجُوزِ عنهُ كما يأتي.

(1/39)


(2) وأَمَّا الثقِيلُ من النَّجَاسَات: - فَنَجَاسَةُ الكلبِ. - وَمَا أُلحِقَ به من الخنْزِيرِ. فإنَّه لابِد فيهَا مِن: سَبعِ غَسلاتٍ، وأن يَكُون إِحْدَاهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوه. كما أمر به النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في نجاسَةِ الْكَلْب. وَأَلحَقَ العلماءُ فِيه: الخنْزِير؛ لأَنَّهُ شَرّ منْه. (3) وَالنَّوْع الثَّالِث: مَا سُوَى ذَلِكَ مِنَ النَّجَاسَاتِ عَلَى البَدَنِ، أو الثَّوْب، أو الأَوَانِي وَنَحْوهَا، فَلابدّ فِيهَا مِنْ زِوَال عينهَا قولاً واحدًا. وهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ هَذَا غَيرُه أَمْ لا؟ وَالصَّحِيح: أَن النَّجَاسَة مَتَى زَالَتْ عَلَى أَيِّ وَجَهَ كَانَ بأَيِّ مُزِيلٍ كَانَ فَإِن المحل ّ يطْهر، مِن غَيرِ اشتراطِ عددٍ وَلا مَاء. وَهُوَ ظَاهِرُ النُّصُوص؛ حَيثُ أَمَرَ الشَّارِعُ بِإِزَالَة النَّجَاسَةِ. - وأزَالَهَا تَارَةً بِالْمَاءِ. - وَتَارَة بِالْمَسْحِ.

(1/40)


- وَتَارَةً بِالاسْتِجْمَارِ. - وتَارةً بِغَيرِ ذلك. وَلْم يَأمُر بغَسْلِ النجاسات سَبعًا، سُوَى نَجَاسَةِ الكَلْب. وكما أَنه مُقتَضَى النُّصُوص الشرعية فإِنهُ مناسب غايةَ المناسَبَةِ؛ لأن إِزالةَ النَّجَاسةِ من بَاب إِزالَةِ الأَشيَاءِ المَحْسُوسَة. وَلِذَلِكَ قَالَ الفُقَهَاءُ: إِنَّهَا مِنْ بَاب التُّرُوكِ؛ الَّتي القَصْدُ إِزَالَة ذَاتِهَا بقَطْعِ النَّظر عَنِ المُزيل لَهَا. وَلِهَذَا لم يَشْتَرِطُوا فِيهَا نية ولا فِعْلَ آدميٌّ. فلوِ غسلَهَا مِن غَيرِ نية أو غَسَلَهَا غيرُ عَاقِلٍ أَو جاءَهَا الماءُ فانصبَّ عَلَيهَا: طَهُرَتْ. بِخِلافِ طَهَارَةِ الحَدَث التي هِيَ عِبَادَة لابد مِن نيتها، واشتَرَطَ لَهَا الشَّارِعُ مِنَ التَّرْتِيب، وَالْمُوَالاة، وَالكَيْفِياتِ، والنية مَا يُوجَب أَن تَكَون عِبَادةً مَقْصُودَة. وَلِهَذَا شُرِعَ في هَذَا النَّوْع: العَدَدُ، والتَّثليثُ في الوُضُوء. وَفي الغُسلِ كله؛ عَلَى الْمَذْهَب. وعَلَى الصَّحِيحِ: لا يُشْرَعُ إلا تثليثُ إِفَاضَة المَاء عَلَى الرَّأسِ. حَيثُ وَرد فِيهِ الحَدِيثُ.

(1/41)


وأمَّا الْمَشْهُور من الْمَذْهَب فِي هَذَا النَّوْع: فَلابدّ مِنْ غَسْله بِالْمَاءِ سَبْعِ مرات؛ قِيَاسًا عَلَى نجاسَةِ الْكَلْب. وَلكنَّهُ قَوْل في غايةِ الضَّعفِ وَالقِيَاسُ لابدّ فِيه منْ مُسَاوَاةِ الأَصْل للفرع وأَن يُحْكَمَ عَلَى الأمرَينِ بحكمٍ واحدٍ. فَالْمُسَاوَاة مُنْتَفِيَة، بعدَمَا خص الشَّارِعُ الْكَلْب بذلك. والحكم مختلف. فعِندَ القائلين بهذا الْقِيَاس: لا يُوجِبُونَ التّرَاب، وَحَيثُ تبين كَيْفِيَّة إِزالَةِ النَّجَاسَةِ باختلافِ أَحْوَالهَا. فكُلُّ نَجَاسَةٍ يَجِب إِزَالَتهَا، فإزَالَتُهَا من البَدَنِ والبُقْعَةِ وَالثَّوْب شَرط لَصَحَّة الصَّلاةِ لأمْر الشَّارِع بِتَطْهِير البَدَنِ وَالثِّيَاب. وذَلِكَ لا يَجِب لِغَيرِ الصَّلاة، فتَعينَ وَجُوبه لَلصَّلاة. وقولنَا: ''كُلُّ نَجَاسَة يجبُ إِزَالَتهَا احتراز مِن أَمرَينِ: أَحدهما: إِذَا اُضْطُرَّ الإِنسَانُ إِلَى بَقَائِهَا بأَنْ: - عَجَزَ عَنِ الْمَاء الذي يزيلها وغيره. - أو كَانَ تَضره إِزَالَتهَا.

(1/42)


- أَو لم يَجِدْ إلا ثَوْبًا نَجِسَا يُصَلِّي بِهِ. - أو حُبِسَ بِبُقعةٍ نَجِسَةٍ لا يَسْتَطِيعُ الخُرُوج مِنْهَا. فهذا مُضْطَرّ، وَالمضطر معذور اتِّفاقًا، وَعَلَيْهِ أن يصلِّي في هَذِهِ الحالِ وَلا يُعِيدُ فِيهَا كُلِّها عَلَى القَولِ الصَّحِيحِ الذي تدل عَلَيهِ الأُصُول الَشَرْعِيَّة. وأمَّا الْمَشْهُور مِنَ المذْهَب فيها: فإِنَّهُ أيضًا لا يُعِيدُ؛ إِذا حبِسَ ببقعَةٍ نَجِسَةٍ، وَلا إِذَا صَلَّى وَعَلَى بَدنه نَجَاسَةٌ يَعجَزُ أو يَتَضَرَّر بِإِزَالَتِهَا، لكن يتيمَّمُ عَنهَا إذا كَانَتْ عَلَى البَدَنِ، قِيَاسًا عَلَى التَّيمُّمِ للحَدَثِ. وأمَّا نَجَاسَةُ الثوب والبُقعَةِ: فَلا يتيمم لَهُما قولا وَاحِدًا. والصَّحِيحُ أيضًا: وَلا نَجَاسَةُ البَدَنِ؛ لأَن القِيَاسَ عَلَى الحَدَثِ غيرُ صَحِيحٍ. وَلَوِ كَانَ صَحِيحًا؛ لَوَجَبَ أَنَّ يعم الذِي عَلَى البَدَنِ وَالثَّوْب والبُقعَةِ. وَالشَّارِعُ إِنَّمَا شَرَعَ التَّيمُّمَ للأحدَاثِ فَقَط. وأَمَّا إذا صَلَّى في ثوب نَجِسٍ: فَعَليهِ الإِعَادَة عَلَى الْمَذْهَب. وَلَيسَ لِهَذَا الْقَوْل حَجَّة أَصْلاً. وَالصَّوَاب كَما تَقدم: أَنْهِ يُصَلِّي وَلا يُعِيدُ. فإِن اللَّهُ لم يُوجَب عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُصَلِّي الفَرْضَ مَرْتَيْنِ إِلا إِذَا أَخَلْ بمَا

(1/43)


يَقْدِرُ عَلَيْهِ منِ وَاجِبَاتهَا الشرعية. الأمر الثاني: احترازٌ مِنَ النَّجاسَاتِ التي يُعفَى عَنهَا، أو يُعفَى عَن يَسِيرِهَا. كالدَّمِ والقَيء ونَحْوِهما. فإِذَا صَلَّى مَعَ وَجُودهَا حَيثُ عُفِيَ عَنهَا: فَإن صَلاته صَحِيحَة اتِّفَاقًا وهَذَا مَعنَى الْعَفْوَ عَنهَا واللَّهُ أَعلم. الأشياء النجسة هل هِيَ محدودة أَوْ معدودة؟ وصفة ذلك؟ 13- هَلِ الأشياء النَّجِسَةُ مَحْدُودَة أَو معدودة؟ وصفةُ ذلِكَ؟ الجواب: أَوَّلاً: يجب أَن يعلمَ أَن الأَصْل في جَمِيعِ الأَشْيَاء الطَّهَارَةُ فلا تَنْجُس، وَلا ينجس مِنهَا إلا ما دل عَلَيْه الشَرْع. فَهَذَا أَصْلٌ مَحْدُود لا يَشِذَّ عَنْه شَيْء. وأَمَّا مَا وَرَدَ أَنه نجس: - فَمِنْهُ مَا هُوَ مَحدُودٌ، ومِنهُ صَوْر مَعدُودَة. ويجمعُهَا جميعًا: أَنَّها كُلَّها خَبِيثَة. ولكن محلّ الخبثِ قَد يَخفَى عَلِينَا، فَنَبّهنَا الشَّارِعُ عَلَى مَا يَدُلُّنَا وَيُرشِدُنَا إِلَى ذَلِكَ. فمِنَ المحدُودِ: أَن الخَارجَ من السبيلين الَّذِي له جرم نجس إلا المني.

(1/44)


فَإِنَّهُ: صَح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طَهَارَتُهُ. وأَنهُ: يَنبَغِي فَرْكُ يَابِسه وَغَسْل رَطْبه. وَمِنَ المحدُودَةِ: - أَن مَا حَرُمَ أَكْله، وَهُوَ أَكْبَرُ من الهِرَّ خِلْقَة: فإنَّهُ نَجَس؛ كَالْكَلْبِ، والخنْزِيرِ، وسباعِ البَهَائِمِ. فَهَذِهِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا، ومَا خَرَجَ مِنهَا: نَجِسٌ. وَلا يستثنى مِنهَا شَيءٌ؛ عَلَى الْمَشْهُور من الْمَذْهَب. والصَّحِيحُ: أَن الحِمَارَ والبَغْلَ ريقهُ وعرقُهُ وَشَعْره ومَا خَرَجَ من أَنْفِه

(1/45)


طَاهِر بِخِلافِ بوله وَرَوْثه وَأَجْزَائِهِ فإِنَّها خبيثةٌ نجسةٌ. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يركبهما وَالصَّحَابَة - رضي الله عنهم -، وَلم يأمرْ بِتَوَقِّي عَرَقِهَا وَرِيقِهَا وَشَعرِهَا. وهيَ أَوَلَى مِن طَهَارَةِ سُؤَرِ الهرّ الَّذِي ثَبتَتْ طَهَارَته. وَعَلَله - صلى الله عليه وسلم -: بـ «أنَّهُن من الطَّوَّافِينَ عَلَيكُم وَالطَّوَّافَات» . ومشقة ملامَسَةِ الحَمِيرِ وَالبغَالِ، أشقُّ مِنَ الهِرّ بكَثِيرٍ، وَأُولَى بِالإِبَاحَةِ وَالتَّطْهِير. - وَأَمَّا مُحَرَّمُ الأكلِ: مِمّا هُوَ مثل الهر أو أصغر مِنه: فإِن سُؤْره وَرِيقَهُ وَعَرَقه طَاهِر. وأَمّا بوله، وَرَوْثه، وَجَمِيع أَجْزَاء لحمِه: فَإِنَّهُ نَجَس.

(1/46)


سوَى مَا لَيْسَ لَهُ نَفْس سائِلَةٌ فإن جَمِيعَ أجزَائِهِ طَاهِرَة كـ: العَقرَبِ وَالذَّبَّاب ونحوِهمَا. - وَأَمَّا مَأْكُول اللحمِ: فَكُلّ مَا مِنْهُ طَاهِر سوَى الدمِ، وَمَا تولد مِنَ الدمِ من قَيحٍ وصَدِيدٍ. ومنَ المحدُودِ منَ النَّجَاسَات: جَمِيعُ الميتَاتِ سوَى مَيتَةِ الآدِمِي وَالسَّمك والجَرَادِ، وَمَا لا نَفسَ له سائِلَة: فَإنّهَا طَاهِرَةٌ. ومن المحدُودِ أَيْضًا: كُلُّ مُسكِرٍ، مَائِعٍ نَجِسٍ مِنْ أَيِّ نَوْع كَانَ. ومِنَ المحدُودِ أَيضًا: أَن جَمِيعَ الدِّمَاءِ نَجِسَةٌ إلا: - دم مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة. - ومَا يَبقَى بَعدَ الذبح في الْعُرُوق وَاللَّحْم فَهُوَ طَاهِرٌ وإلا: دم الشهيدِ عَلَيهِ خَاصَّة. وَلِهَذَا كَانَ الدمُ ثَلاثَةَ أَقسَامٍ: 1- طَاهِرٌ: كَهَذِهِ الْمَذْكُورَات. 2- ونَجِسٌ لا يُعفَى وَلا عَن يَسِيرِه: كَدَمِ الكَلْبِ وَالسِّبَاع. 3- ونَجِسٌ يُعفَى عَن يَسِيرِه: وَهُوَ مَا سُوَى هَذينِ. فَصَارَ الْدم أَصْلُهُ النَّجَاسَةُ كمَا بيّنا. وقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا ومما تقدم: أن الخَارِجَ مِنْ بَدَنِ الإنسَانِ ثَلاثَةُ أَقسَامٍ:

(1/47)


1- نجس يُعفَى عَنْ يَسِيرِهِ: كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِط. 2- وَنَجَس يُعفَى عَن يَسِيرِهِ: كَالدَّمِ، ومَا تَوَلّد منْه، والقَيء عَلَى المَذْهَب. وكذَا المذيُ عَلَى الصَّحِيحِ. 3- وَمَا سُوَى ذَلِكَ، فَطَاهِر: كَالرَّيقِ، والبُصَاقِ، وَالنّخَامَة، والمخاط وَالعَرَقِ، وَمَا سالَ مَنْ الفَمِ وَقْت النَّوْمِ، وَصَمْغِ الأُذُنِينَ، وَغَير ذلك والله أعلم. وَمِنَ النَّجِسِ غَيْر مَا تَقَدَّمَ: الحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَة. الفارق بين: دم الْحَيْض ودم الاستحاضة وَدَم النفاس 14- مَا هُوَ الفارق بَيْنَ دَمِ الحَيضِ وَدَم الاسْتِحَاضَة وَدَمِ النِّفَاس؟ الجواب: وَبِاللَّه التَّوْفِيق. هَذِه الدِّمَاء الْمَذْكُورَة تَخْرُجُ من محَلّ وَاحِد. ولكن تَختَلِفُ أَسْمَاؤُهَا، وَأَحْكَامهَا، بِاخْتِلاف أسبَابِهَا. فَأَمَّا دَمُ النِّفَاس: فسببه ظَاهِرٌ. وَهَوّ: الدم الخَارِجُ مِنَ الأُنثَى بِسَبَبِ الْوِلادَة. وَهُوَ: بقيَّة الدَّم المحتَبَسِ وَقْت الحَمْلِ في الرَّحِمِ.

(1/48)


فإذَا وُلِدَتْ خَرَجَ هَذَا الدم شَيئًا فَشَيئًا، وَمَا تولد بَعْدَ الْوِلادَة. وَتَطُولُ مَدَّته، وقد تَقصُر. أَمَّا أقلّهُ: فَلا حَدّ له قَوْلاً واحِدًا. وَأَمَّا أكثرهُ: فَعَلَى المذْهَبِ مَا جَاوَزَ الأَرْبَعِينَ، وَلْم يُوَافق عادَةَ حَيضٍ فَهُوَ استحاضَةٌ. وعَلَى الصَّحِيح: لا حد لأَكْثَرِه كَما يَأتي التَّنبِيهُ عَلَى دليله في مَسْأَلَةِ الْحَيْض. وأَما الدم الذي يَخرُجُ بِغَيرِ سَبَب الوِلادَةِ: فَقَد أَجرَى اللَّهُ سُنتهُ وعَادَتهُ: أن الأُنْثَى إِذَا صَلُحَتْ للحَمْلِ وَالْوِلادَة يأْتيهَا الحَيضُ غَالِبًا في أَوْقَات مَعْلُومَة بِحَسَبِ حَالِتهَا وَطَبِيعتِهَا. وَلِذَلِكَ مِن حِكمَةِ وُجُود الدم: مِنهَا: أنه أَحَدُ أَركَانِ مادة حَيَاةِ الإِنسَانِ، ففِي بطن الأُمِّ يَتَغَذَّى بالدم وَلِهَذَا ينحبسُ غَالِبَا فِي الحملِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلهُ وَهُوَ الْوَاقِع الْمَوْجُود؛ عرِفَ أَن أَصلَ الدم الخَارِجِ مِنَ الأُنْثَى حَيضٌ؛ لأَن وُجُوده في وَقْته يَدلُّ عَلَى الصَّحَّة وَالاعْتدَال وَعَدَمه يدل عَلَى ضِدّ ذلك. وَهَذَا المعنَى متَّفَقٌ عليه بَيْن أَهلِ العِلمِ بِالشَّرْعِ وَالعِلم بالطِّبِّ بَل مَعَارِفُ النَّاسِ وَعَوَائِدهمْ وتجارِبهم دلتهم عَلَى ذلِكَ.

(1/49)


وَلَذَلك قَالَ العُلَمَاءُ فِي حَدِّه: هو دَمُ طَبِيعَةٍ وَجِبِلَّةٍ يأتي الأُنثَى في أوَقَاتٍ معرُوفَةٍ. وَالتَّسمِيَةُ تَابِعةٌ لِذَلِكَ. والشَّارِعُ أَقرَّ النِّسَاءَ عَلَى هَذِه التَّسمِيَةِ لهَذَا الدمِ الخَارِجِ مِنْهُنَّ وعَلَّقَ عَلَيْهِ من الأَحكَامِ الشرعِيةِ مَا عَلَّقَ. فَفَهِمَ النَّاسُ عَنه هَذِهِ الأحكَامَ وَعَلَقُوهَا عَلَى وُجُودِ هَذَا الدَّمِ ومَتَى زَالَ زَالَتْ؛ لأَن الحكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِه وُجُودًا وَعَدمًا. فَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَاب الْمَقْطُوع بِهِ: - أَنْهِ لا حَدَّ لأَقلِّ الحَيْضِ سِنًّا وزَمَنًا وَلا لأَكثَرِه. وَلا لأَقلِّ الطُّهْر بين الحيضَتَينِ. - بَلِ الْحَيْض هَوّ وجودُ الدمِ، والطَّهرُ فَقدُهُ. - ولوِ زَادَ أَو نقصَ أَو تَأَخر أَو تقدَّم لِظَاهِر النُّصُوص الشَّرعِيَّة، وظاهِرِ عَمَل الْمُسْلِمِينَ، وَلأَنُهْ لا يَسَعُ النِّسَاءُ العَمَلَ بِغَيرِ هَذَا الْقَوْل. وأَمَّا المَشْهُور مِن المذهَبِِ: - فَإِن أَقَلَّ ما تَحيضُ فِيهِ الْمَرْأَة تِسعُ سنين. - وَأَكثرُهُ خَمْسُونَ سَنَةً. - وأَقلّ مدَة الحيَضِ يَومٌ وَلَيلة.

(1/50)


- وأكثَرُهُ خَمسَةَ عَشَرَ يَومًا. - ومَا خَرَجَ عن هَذَا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ لا تُترَكُ لَهُ العِبَادَة. - وإنْ زَادَ عَنِ العَادَةِ أو تقدم أو تأخرَ لَم تصر إِلَيْهِ حتَّى يتكرَّرَ تُلاثًا فيَصِيرُ عادَةً تنْتقِلُ إِلَيْهِ ثم تَقضِي مَا صَامته أو اعتكفَتهُ ونحوه. وَحَجَّتهمْ عَلَى هَذَا الْقَوْل - بعضه لا كلّه -: أن هَذَا الْمَوْجُود الْغَالِب وَما خَرَجَ عَنهُ نَادِر. وَالأَصْل: أن النَّادِرَ لا يثبت له حكم. وَهَذِهِ حَجَّة ضَعِيفَةٌ جِدَّا فَإِنَّ الْوُجُود يَتَفَاوَت تَفَاوُتَا كثيرًا. وبالإجماع: أن النِّسَاءَ يَتَفَاوَتْنَ فِي هَذِهِ الأُمُور تَفَاوُتَا ظَاهِرًا. والأسمَاءُ ثَلاثَة أقْسَامٍ: شرعية ولغَوِيَّة وُعُرفية. وَكُلُّهَا تتَطَابَقُ عَلَى أَن هَذَا الدَّمَ حَيضٌ، وَأن عَدَمَه طُهْر. فَلا أبلغَ من حُكمٍ اتفَقَّتْ عَلَيْهِ الْحَقَائِق الثَّلاثُ. فَعَلَى المذهَبِِ: الاستحاضَةُ: مَنْ تَجَاوُز دَمُهَا خَمسَةَ عَشَرَ يَوِمًا. أو كَانَ دمًا غَيرَ صَالِحٍ للحَيضِ؛ بأَن نَقصَ عَن يوِمٍ وَلَيلةٍ. أو كَانَ قبل تِسعِ سِنِينَ أَو بَعْدَ خَمسِينَ سَنَة. وأَمَّا عَلَى القَولِ الصَّحِيحِ: فالحيَضُ: هُوَ الأَصْلُ، والاستِحَاضَةُ:

(1/51)


عَارِض لمرضٍ أَو نحوِه. مِثلَ: أَن يطبقَ عَلَيهَا الدَّم، أو تَكون شَبِيهةً بالمطبقِ عَلَيهَا الدَّم بأَنْ لا تَطَهُّر إِلا أَوَقَاتًا لا تذْكر. وَعَلَى كُلّ: فَإِنَّهُ إذا ثبت استِحَاضَتُهَا. فإِنْ كَانَ لهَا عَادةٌ قَبلَ ذَلِكَ: رَجَعَتْ إِلَى عَادَتِهَا. فَصَارَتْ العَادَةُ: هِيَ حَيضُهَا. وَمَا زَاد فَهِيَ استِحَاضَةٌ تَغْتَسِلُ وتتعبد فِيه. وَإِن لَم يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ: وصَارَ دَمُهَا مُتَمَيِّزًا بعضه غَلِيظ وَبعضه رَقِيق أَو بَعْضُهُ أسود وبعضُهُ أَحمرُ أو بعضُهُ منتن وبعضُهُ غير منتن. فَالْغَلِيظ وَالأُسُود والمنتن: حيضٌ. والآخر: استِحَاضَة. ولكن على المذهَبِِ: يَشْتَرِطُونَ في المتميزِ: أَنْ يَكُونَ صَالِحًا للحيض، لا ينْقصُ عن يَوِمٍ وَلَيلةٍ، وَلا يزيد عَلَى خَمسةَ عَشَرَ يومًا وَنَحْو ذَلِكَ مما هَوّ عَلَى أَصلِ الْمَذْهَب. وَالصَّوَاب: عَدَمُ اعتبارِ ذَلِكَ كَما تقدَّم. فإنْ لَم يَكُن لَهَا عَادَةٌ وَلا تَمْيِيز: جَلَسَتْ مِن كل شَهْرٍ غَالِب الحيَضِ ستَّة أَيامٍ أَو سبعة.

(1/52)


للأَحاديثِ الثَّابِتَةِ في ذَلِكَ. ثم تغتَسِلُ إذا مَضَى المَحْكُوم بأنه حيض، وتسدُّ الخارِجَ حَسْب الإِمكَانِ وَتَتَوَضَّأ لوِقتِ كُلِّ صَلاةٍ، وَتَصَلِّي بِلا إِعَادَة. فظهر مما تقدم: أنَّ دَمَ النِّفَاسِ: سببه الْوِلادَة. وأَنَّ دَمَ الاسْتِحَاضَة: دم عارِضٌ لمرضٍ وَنحوِه. وأَنَّ دَمَ الحَيضِ: هُوَ الدم الأَصْلِيّ وَاللْهُ أَعْلَم. التيمم هَلْ ينُوبُ مَنَابَ طَهَارَةِ الماءِ في كل شيء أم لا؟ 15- إِذَا جَازَ التَّيَمّمُ للعَدَمِ أَو للضَّرَرِ. هَلْ يَنُوبُ مَنَابَ طَهَارَةِ الماءِ في كُل شيء أَمْ لا؟ الجواب: حَيْثُ جازَ التيمم لِعُذْرِه الشَّرْعِيّ، وَهُوَ عَدَمُهُ أو خَوْفه بِاسْتِعْمَالِهِ الضرر؛ فإنَّه ينوب مَنَابَ طَهَارَةِ الماءِ في كُلِّ شيءٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَهُوَِ ظَاهِرُ النُّصُوص. وَهُوَِ إِحدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإمامِ أَحمدَ.

(1/53)


فَعَلَى هَذَا: - لا يُشْتَرَطُ لَهُ دخول وَقتٍ. - ولا يبْطل بِخُرُوجِهِ بل بِمُبْطِلات الطَّهَارَةِ. - ولو تيمَّمَ للنَّفلِ اسْتَبَاحَ الفرضَ كما يَسْتَبِيحهُ في طهارةِ الماءِ وذَلِكَ أَن البَدَلَ يَقُوم مَقَامَ الْمُبْدَل. وَيَسُدُّ مَسَدّه إلا ما دل دَلِيلٌ على خُرُوجه عن هذا الأَصْل، ولم يرد. والمشْهُورُ مِنَ المذهَبِِ: أَنَّهُ مَثْله فِي أَكْثَرِ الأَشْيَاءِ. فَيُسْتَبَاحُ بِهِ مَا يُسْتَبَاح بِطَهَارَة الْمَاء من صَلاةٍ وَغَيْرِهَا. ولكن يُخَالِفُ طهارةَ الماءِ في أُمُور منها: - أنّهُ يُشْتَرَط لَهُ دخول الوَقْتِ. - وَأَنْهِ يبْطل بِخُرُوج الْوَقْت مُطْلقًا. - وَأنْهَ لَوْ تيمَّمَ للنَّفْلِ لم يُستَبَح الفَرضُ. - وأَنَّهُ لا يستبيح بِه إلا ما نَوَاهُ أَو كَانَ مَثْله أَو دَوْنه لا أعلَى مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى هَذَا: بأَنَّهَا طَهَارَةُ اضطرارٍ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الحَاجَةِ. وَهَذَا الاسْتِدْلالُ ضَعِيفٌ، وهو مَنْقُوض أَيْضًا: أمَّا ضَعْفُهُ: فلأَن هَذِه الطَّهَارةَ عِندَ وُجُود شَرْطهَا المبيحِ طهارة كاملةٌ كما سمَّاهَا اللَّه تَعَالَى، لما ذَكَرَ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ ثم بالتَّيمُّمِ قَالَ: ? مَا

(1/54)


يُرِيدُ اللَّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم من حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ? [المائدة: 6] ، فلَيْسَتْ بمنْزلةِ أَكْلِ المِيتَة للمضطرَّ، فإِن التَّحريمَ بَاقٍ ولكنْ لأجْل اضطرارِه وَخَوْفه التَّلف أبيح ذَلِكَ. وأَمَّا التيمم مَعَ تعذر الْمَاء: فإِنَّه عِبَادَة نَابَتْ مَنَابَ عِبَادَةٍ أُخرَى عِندَ العُذْرِ، فَيَقْتَضِي أَنَّها مِثلُهَا مِن كُلِّ وَجْه، نعم هي طهارةُ اضْطِرَارٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَرْطهَا الذي هُوَ تَعَذُّر استعمالِ الْمَاء. فما دَامَ هَذَا الشَّرْطُ مَوْجُودًا فَطَهَارَة التيمم صحيحة. وَمتَى زَالّ وَوُجِدَ الماءُ وَزَالَ الضرر: بطل التيمم. هَذَا الذي دل عَلَيْهِ الدلِيلُ، ثم قَوْلهمْ: أبيح بِقَدرِ الضرُورَةِ مَمْنُوع بالإِجْمَاعِ. فإنه لا يقول أَحَدٌ: إِنَّهُ يَجِب أَن يَتَيَمَّم عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ يُصَلِّيهَا فرضًا أو نفلاً، وَإِنَّهُ يُقْتَصَر عَلَى الفَرضِ بَل عَلَى الْوَاجِب منه. كَما قَالُوا فِيمَنْ تَعذرَ عَلَيهِ الطَّهَارَة بالماءِ وَالتِّرَاب مَعَ أنه ضَعِيفٌ أيضًا. فإِن من تعذر عَلَيهِ ذَلِكَ: فَلا يُكَلِّفُ اللَّه نَفسًا إلا وُسْعهَا. فإِن جَمِيعَ الْوَاجِبَات الشَّرْعِية: إنما تجب مع القدرةِ عَلَيْهَا، فإذا عجز عنها سَقَطَ وَجُوبُهَا على العبد. وَهَذَا مُطَّرِدٌ في جَمِيع أَرْكَانِ الصَّلاةِ، وَشُرُوطهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، والحمد لله رب العَالمينَ.

(1/55)


 أسئلة من كتاب الصلاة

وقد يتناول غيرها من بقية العبادات

(1/57)


الشروط الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا الصَّلاةُ والزَّكَاةُ والصِّيَامُ وَالْحج 16- مَا هي الشروط الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا الصَّلاةُ والزَّكَاةُ والصِّيَامُ وَالْحج أَو يشترك فِيهَا اثْنَانِ مِنْهَا فأكثر والتي يتفرَّد بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ منهَا؟ الجواب: وباللَّهِ التَّوفِيقُ والإِعانَةُ، ونسألهُ الهِدَايَةَ إِلَى الصَّوَاب. اعلم: أَن هذه العباداتِ الأَربَعَ هي مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ، أَرْكَانُ الإِسلامِ الَّتي ينبني عَلَيهَا، وَهْي أَعْظَم مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَأَكبَرُ مَا يُقَرَّبُ إِلَى رَبِّ العَالَميْنِ وَرِضَاهُ وَثَوَابه. وفيهَا: مِنَ الفَضَائِلِ الإِيمَانِيَّةِ والأَخْلاقِيَّةِ وَالأَعْمَال ومحاسنِ الدِّين ومصالِحِ جميعِ المسلِمينَ مَا لا يَدخُلُ تَحْتَ الحَصْرِ والحَدِّ. وفِيهَا: مِنْ تَكمِيلِ الإسْلامِ، وتحقِيقِ الأَيْمَان، وقِيَامِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَزِيَادَةِ الإيمَانِ، وتكفِيرِ السَّيْئَات، وَزَيَادَة الحسَنَاتِ، وعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ وَصِلاح الْقُلُوب والأرواحِ والأبدانِ والدَّنيا وَالأَخَرَة، وغيرِ ذلِكَ مما هُوَ مَعْرُوف. فَكَلّ هَذِه المصَالِحِ اشتَرَكَتْ فِيهَا، وإن اختَصَّتْ كُلُّ وَاحِدَة مِنهَا بمَا اختصَّتْ به، ثم إِنَّهَا اشْتَرَكَتْ كُلّهَا في: وُجُوبها عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَالإِسْلام: هُوَ الشَّرطُ المشتَرَكُ؛ لأَن الْمُسْلِمِينَ همُ الَّذِينَ الْتَزَمُوا مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع وهَذَا أَعْظَمه.

(1/59)


وأَمَّا غَيْرُ المسلمِينَ: فَيُؤْمَرُونَ بالإِسْلامِ، ولا يُخَاطَبُونَ بهَذِه العِبَادَاتِ الأَرْبَع ابتداء، وإِنْ كَانُوا يُعاقَبُونَ على تركها في الآخرة كما يُعَاقَبُونَ على تركِ الإِسلامِ. واشتَرَكَتْ كُلُّها أَيضًا: باشتِرَاطِ القُدْرَةِ عَلَيهَا. إِذْ القُدْرَةُ هي مناطُ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. فمن لا يَقْدِرُ عَلَى الشَّيء لا يُلزَمُهُ فِعْلهُ. وَمَنْ لا يَقْدِرُ عَلَى التَّركِ بَل هُوَ مُضْطَرّ: فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلا يُكَلّف اللَّه نفسًا إلاّ وُسعَهَا. ولكْنِ تختَلِفُ القُدرَةُ فِيهَا بحسَبهَا: فالقُدْرَةُ عَلَى الصَّلاةِ: ثُبُوتُ العَقْلِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الفُقَهَاءُ: وَلا تَسقُطُ الصَّلاةُ مَادَامَ العَقلُ ثَابتًا، فيصلي قائمًا، فإِن عَجَزَ فقَاعِدًا، فإِن عَجَزَ فَعَلَى جَنْبه، وَيُومِئ برأسه، فَإِن عَجَزَ فيُومِئُ بطرفه، فإِنْ عَجَزَ استحضَرَ ذلكَ بِقَلْبِهِ. هَذا الْمَذْهَب. وعند الشَّيخِ تَقِيٌّ الدِّين: الإِيماءُ بالرَّأْسِ آخِرُ الْمَرَاتِب؛ لأَن غيرَهُ لم يثبتْ بهِ الحَدِيث. وهذا أَصَحُّ، والأَوَّلُ: أَحْوَط.

(1/60)


وأَمَّا القُدْرَة في الزكَاةِ: فهوِ ملكُ نصابٍ زَكوِي. وأَمّا القدرَةُ عَلَى الصِّيَام: فهِيَ القدرَةُ عَلَيهِ مِنْ غيرِ ضَرَرٍ يلْحقهُ. ولهذَا يَسقُطُ عن: - الكَبِيرِ الَّذِي لا يَقْدرُ عَلَيْهِ. - والمريضِ الْمَأْيُوس من بُرئهِ، وَيُطْعِم عَنْ كلِّ يومٍ مِسْكِينًا. - وَأمَّا الَّذي يرجَى برؤه فيؤَخِّرُه إِلى البُرءِ. وأمَّا القدرَةُ عَلَى الْحجْ: فهِيَ مِلْكُ زادٍ ورَاحِلَةٍ فاضِلين عَن ضَرُورَاته وَحَوَائِجه الأَصْلِيَّةِ. فهَذَا الشرط اشتَرَكَتْ فيه كَمَا تَرَى، إلاّ أَنهُ فسّر بكُلِّ واحدةٍ بما يُنَاسِبهَا شِرْعًا. وأمَّا التَّكْلِيفُ: وَهُوَ الْبُلُوغ والعَقْل. فتشتركُ فيهُ: الصَّلاةُ، وَالصِّيامُ، وَالْحَحْ. لحديثِ: «رَفْع القَلَمُ عَن ثَلاثَةٍ: النَّائِمُ حَتَّيَ يسْتَيْقِظَ، وَالصَّغِيرِ حَتىَّ يبْلَغ، وَالْمَجْنُون حَتَّى يُفِيقَ» .

(1/61)


فمن لا عَقلَ لَهُ، أَوْ لَمْ يبْلُغ: فَلا صَلاةَ عَلَيْهِ، وَلا صِيَامَ، ولا حَجّ؛ لأَن هذِه أعمالٌ بدنية محضَة، أو مَعَهَا مال كَالْحَجِّ. وَهَذَا مِنْ حكمَةِ الشَّارِع: أن مَنْ لا عَقلَ لَهُ بِالْكُليةِ، أَو لَهُ عَقلٌ قَاصِرٌ كَالصَّغير: إِِنه لا يجب عَليهُِ شيءٌ يَفعَلُهُ. ولما كَانَ الصَّغِيرُ لَه عَقْل صَحت عِبَادَاتهُ إِذَا كان مميزًا؛ لَوُجُود العَقلِ الَّذِي يَنْوِي بهِ. - واختص الحج وَالْعَمْرَة بصحَّتِه ممن دُونَ التَّميِيزِ وَيَنْوِي عَنْه وَليُّهُ. وَأَمَّا الزكَاةُ فَلا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّكْلِيف عند جمهور العلماء: مالك والشافِعي أَحْمَدُ. وَهُوَ ظَاهِرُ النصوص الشرعيَّةِ. وظاهرُ الْمنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهِ عَنهُم. والسَّبَب: أَن الزكَاةَ عِبَادَةٌ ماليَّةٌ محضَة متعلِّقَة بالمالِ؛ فَوَجِبْت في مالِ الصّغِيرِ، ومَال الْمَجْنُون المسلِمِ. كما يجب في مَالِهِ: نَفَقَةُ مَنْ تَلزَمُهُ نفقته، وهَذِه حكمَةٌ مُنَاسِبَةٌ. وتشترك أيضًا الأرْبع في: لزومِ النِّيَّةِ. لحديث: «إنما الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ» .

(1/62)


فلا تَصِحُّ: صَلاة وَلا زَكَاة ولا صيام ولا حج إلاّ بنية تَقَعُ مِنَ الفَاعِلِ لها تَتَقَدَّم عَلَيهَا. إلاّ أَن الْمَجْنُون والصَّغِيرَ يَنْوِي الزكَاةَ عَنهُمَا وَلِيّهُمَا. وَكَذَلِكَ يَنْوِي الحج عن مَنْ لَم يميز وليه. وتشترك الصَّلاةُ والصِّيَامُ بِوُجُوبِهِمَا عَلَى الأَحرارِ والعَبِيدِ المكَلّفِيْنِ: بخلافِ الزكَاةِ وَالْحج؛ فَإِنَّهُمَا يختصَّانِ بالأَحرَارِ. وَالسَّبَب في ذَلِكَ: أَنَّهُ تَقَدّم أَن القُدرَةَ شَرط في الجميعِ، والزكَاةُ والحج عماد القُدرَةِ فيهمَا المالُ. والعَبدُ المملوكُ لا مَالَ له فهُو كالفَقِيرِ المعسِرِ. وكذَلِكَ العِبَادَاتُ الماليَّةُ: لا تجب على الأرقاء لِهَذَا السَّبَب. فَصَارَتِ الحريةُ شَرْطًَا في: الزكاةِ وَالَْحجْ فَقَطْ. ومِنَ الشُّرُوطِ المشتَرَكَةِ بَين الأَربعِ كُلِّها: الْوَقْت. وَإِنَّهَا كُلَّهَا لا تَلزَمُ إلاّ بِدُخُول وقتِهَا. وَالْوَقْت يختَلِفُ بِاخْتِلاف هَذه العِبَادَاتِ. فأوقَاتُ الصِّلْوَات الخمسُِ: الظُّهْر، والعَصرُ، وَالمغرِبُ، وَالعشَاءُ، والفَجرُ. لا تَلزَمُ إلاّ بِدُخُولِهَا، ولا تَصِحّ إلاّ بِدُخُولِهَا. فَالظَّهْر: مِنَ الزوَالِ إِلَى مصيرِ الفَيءِ مِثلهُ بَعدَ فَيْءِ الزوَالِ.

(1/63)


والعصرُ: مِن مَصِيرِه مثله إِلَى مثليه؛ عَلَى الْمَذْهَب. وعَلَى الصَّحيح: إِلَى اصفِرَارِ الشمس ِ. والمغرِبُ: مِنَ الغُرُوبِ إِلى مَغِيبِ الْحُمْرَة. وَالعشَاءُ: من مغيب الحمرَة إِلَى ثُلُثِ الليلِ؛ عَلَى الْمَذْهَب. أَو نَصْفه عَلَى الصَّحِيح. والفجرُ من طُلُوعه إِلَى طُلُوع الشَّمْس. والزَّكَاةُ: لا تَلزَمُ إلاّ بدخولِ وقتِهَا. وهُوَ: تمامُ الحولِ في جَمِيعِ الأَمْوَال الزَّكُويَة إلاّ العشراتِ فوقتهَا حَصَادُهَا وجُذَاذُهَا. كما قال تعالى: ? وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ? [الأنعام: 141] . ولكنَّهُ يَجوز تقديمها قَبلَ ذَلِكَ حَيثُ وُجِدَ السَّبَب. والصِّيَامُ: صِيَامُ رَمَضَانَ لا يلزَمُ. ولا يَصِحُّ إلاّ بمجيء رَمَضَان. والحجَّ: لا يُلزَمُ وَلا يَصِح إلاّ بُوقَته ? الْحج أشْهرٌ مَعْلُومَاتٍ?، بخلاف العُمرَةِ فإنَّها تَصِح كل وقت. وممَّا تختص به الصَّلاة مِنَ الشّرُوطِ: الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَث، وَالْخَبَث.

(1/64)


ويشاركها في هذين من جزئيَّاتِ الحَجِّ: 1 - الطَّوَافُ فقط. 2- وسَتْرُ العورَةِ. 3- واستقبَالُ القِبلَةِ. 4- واجتِنَابُ النَّجَاسَةِ في البَدَنِ، وَالثَّوْب، وَالْبِقْعَة. فالحاصِلُ أنّهَا اشتَرَكَتْ في أربعة أشياءَ: 1 - الإِسلامُ. 2 - وا لقُدرَةُ. 3 - وَالنِّيَّةُ. 4 - وَالْوَقْت. واشتَرَكَتْ مَا سُوَى الزكاة بـ: التَّكلِيفِ. واشْتَرَكَتِ الزَّكَاةُ والحجُّ: باشتِرَاطِ الحُرَّيةِ. واختَصتِ الصَّلاةُ: بالبَقِيَّةِ. لِشَرَفِهَا، وفَضْلِهَا، وَاعتِنَاءِ الشارع بِهَا، واللَّهُ أَعْلَم. بأي شيء تدرك الصَّلاةُ؟ 17- بَأْي شيءٍ تُدْرَك الصَّلاةُ؟ الجواب: الإِدرَاكَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ: 1- إدراك الْوَقْت للجمَاعَةِ وَالْجُمْعَة. 2- وإدراك الجماعَةِ.

(1/65)


3- وإدراك الجُمعةِ. 4- ومَنْ به مَانِعٌ فزَالَ وَأدْرَكَ الْوَقْت. وكُلَّهَا عَلَى الصَّحِيحِ: - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإمامِ أَحمد - لا تُدْرَكُ إلاّ بِرَكْعَة. فمن أَدرَكَ منَ الْوَقْت رَكعةً: فقَدْ أَدْركَهُ. وَمَن أَدرَكَ مِنَ الجمعَةِ أو الجماعَةِ ركعةً فقَد أَدَركَهُمَا. ومَن أَدرَكَ مِنَ الوَقتِ رَكْعَةً بَعْدَ زَوَالِ مَانِعهِ: لزمَتْه تِلْكَ الصَّلاةُ. ومن ِأَدرك أَقْلَّ مْنَ رَكعَةٍ: لم يدرِكْ فيها كُلِّها. للحديثِ الصَّحيح: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةَ مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا» متَّفَقٌ عَلَيهِ. وهَذَا يَعُم جَميعَ الإِدرَاكَاتِ الْمَذْكُورَة. ولم يُعَلِّق الشَّارعُ بأَقلّ من الرَّكْعَةِ إِدْرَاك ركعَةٍ وَلا غَيرهَا. وَالْمَشْهُور منَ المذهَبِ فِي هَذِهِ المسائِل: أَنَّها تُدرَك بإِدرَاكِ تكبِيرَةِ الإحرام في الوَقت أَو قَبلَ انقِضَاءِ الجماعَةِ. وأَما الجمعةُ - صلاتها لا وقتها -: فلا تدرك إلا بركعة.

(1/66)


قَوْلاً وَاحِدًا في الْمَذْهَب. وَالأَوْل أَصَحّ، كما تقدمَ. حُكمُ الصَّلاة بعد خُرُوج وقتِهَا وحُكمُهَا في وَقتِهَا 18- مَا حُكمُ الصَّلاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وقتِهَا ومَا حُكمُهَا في وَقتِهَا؟ الجواب: لا يخلُوِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلاةُ فَرْضًا أَو نفلاً. فإِن كَانَتْ فَرضًا، وكَانَ المؤَخِّرُ متعمِّدًا غيرَ مَعذورٍ، وَلَيَس للتَّأخِيرِ عُذرٌ؛ فحكمُهُِ: أَنَه آثَم. وإِن كان غيرَ متَعَمِّدٍ: فَلا إِثْم. وأَمَّا القضَاءُ في تفوِيتهَا أَو فَوَاتِهَا: فمنْها: مَالا يُقضَى كالجُمعَةِ؛ فإِنَّها إِذَا فَاتَتْ لم تُقضَ وَإنَّمَا يصلي بدلَهَا ظُهرًا. ومِنهَا: مَالا يُقضَى جَماعَة إلاّ في نَظِير وقتِه كَالْعِيدَيْنِ إِذَا فَاتتا فُعِلَتْ من الْغَدِ أَو بَعدَهُ قَضَاءً. ومِنهَا: مَا يَجِب قَضَاؤُه مُطْلقاً وهُوَ البَاقِي. ومِنْ أَحكَامِ هَذَا القَضَاءِ: وُجُوبُ الفورية فِيهِ. لأن الأَمرَ المطلََقَ يقتَضِي الْفَوْرِيَّة، وإِن كانت مُتَعَدِّدَاتٍ وجَبَ أَيضًا التَّرتيب.

(1/67)


فالفَورِيةُ لا تَسْقُطُ إلاّ مَعَ الضَّرَرِ. والترتيب، يسقط بالنِّسيان وبضيقِ الْوَقْت قَوْلاً واحِدًا في الْمَذْهَب. وبالجهل وخوفِ فوت الجماعة على الصَّحيح. ومن أحكَامِ هذا القَضَاءِ أيضًا: أنَّ مَن عَلَيه فرائضُ متعدِّدَةٌ وجَهِلَهَا أَبْرَأَ ذِمَّتَه واحتَاطَ بما يَعلَمُ خروجَهُ مِنَ التّبعَةِ. وإِنْ كَانتِ الفائتةُ صَلاةً نافلةً: اُسْتُحِبَّ قَضَّاؤُهَا. إلاّ الرَّوَاتِب إِذَا فَاتَتْ مَعَ فرائِضَ كثيرةٍ: فإنَّهُ يشتَغِلُ بأداءِ الفَرَائِضِ سوَى سُنَّةِ الفَجر فيقضيهَا مُطْلَقًا. وَإلاّ النَّوافِلَ المشرُوعَةَ لأسباب: فتفوت بِفَوَات تلك الأسبابِ. فلا تُقضَى الْكُسُوف وَلا الاستسقَاءُ ولا تحيَّةُ المسجدِ ولا نحوِها ممَّا له سَبَب شُرِعَ لأجلهِ ثم فَاتت مَعَ سببَهَا: فَلا يُشْرَعُ قَضَّاؤُهَا وَاللَّه أعلَمُ. وأَمَّا حُكمُ الصَّلاةِ في وقتِهَا: فالأَصْلُ: أَنَّهُ يجوز أَوَّلُهُ وَأَوْسَطه وآخِرُه بحيثُ لا يخرج جزءٌ مِنهَا عَن الْوَقْت هَذَا مُن جِهَة الْجَوَاز. وَأَّمَا مِنْ جِهَةِ الفَضِيلَةِ والكَمالِ: فَأَول الْوَقْت: هُوَ الأفضَلُ إلا في شِدةِ الحرَّ. فَيُسْنُ: تأخِيرُ الظُّهْر مُطْلَقًا أو مَعَ غَيْم لمنِ يصلِّي جماعةً؛ ليَكُون

(1/68)


َ الخروج لهما واحداً وكذلك يُستَحبُّ: تأخير العِشاء الآخِرة حيَثُ لا مشقَّة. وَيُستَحبُّ أيضاً: من يرجو وجُود الماء لعادمه، إذا رجاه في آخر الوقت. وَيُستَحبُّ التأخير للمغرب ليلة مزدلفة للحاجّ. وكذلكَ كُلّ جمع استحب تَأخِيره بِأن يكُون أرفق. وضابط ذلك: أن التقديم أوْلى، إلا إذا كانَ في التَّأخير مصْلحة شَرْعية. وقد يجب تقديم الصلاة أول وقتها، لمن يظنُّ وُجود مانع في آخر الوَقْت كالمرأة التي تظن الحيضَ ونحوه. وقد يجب التأخير كَمَنْ يشتغل بِتَحْصِيلِ شرط الصَّلاةِ أوْ ركْنها الَّذي لا يفرغ منه إلا في آخر الوقت، وكتحصيل الجماعة الواجِبة لَها. وكما قال الفقهاء: لوْ أمَرَهُ أبوهُ بالتَّأخير لِيُصَلِّي بأبيه وَجَبَ عَلَيْه التأخير؛ لكن هذه الصورة مبنية على منع النفل خلف الفرض، والله أعلم. هل تشترك صلاة الفرض وصلاة النفل في الأحكام؟ 19- هل تشترك صلاة الفرض وصلاة النفل في الأحكام أم بينهما فرقً؟ الجواب: الأصل اشتراك الفرض والنفل في جميع الأمور الواجبة

(1/69)


والمكمِّلَةِ، والمفسِدَةِ، والمنقِصَةِ. فما ثبتَ حكمُه في أحدِهِمَا؛ ثبتَ للآخَر، إلا مَا دَلّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخصِيصهِ. ولهذَا أَخَذ العُلَمَاءُ أَحْكَامَ صَلاةِ الفَرضِ والنَّفلِ مِن مُطَّلَق صَلاته - صلى الله عليه وسلم - وأَمرِه وَنَهِيهِ. ولكن مع هَذَا فَبَيْنهمَا فُروقٌ كَثِيرَةٌ تَرجِعُ إِلَى سُهُولَة الأَمْر في النَّفلِ والتَّرغِيب فِي فعله. فمنها: أن الْقِيَام عَلَى القَادِرِ رُكْنٌ في الفَرْضِ لا فِي النَّفلِ فَيَصِح النَّفلُ جَالسًا للقَاعِدِ وَلكن صلاةَ القَاعِدِ عَلَى النِّصفِ مِن صَلاةِ القَائِمِ. ومِنهَا: جَوَاز صَلاةِ النَّفلِ للمُسَافِرِ رَاكِبًا مُتَوَجَّهًا إِلَى جِهَةِ سَيْرِه وكذلك مَاشيًا وَسَوَاءً كَانَ السَّفَرُ طَوِيلاً أَو قَصِيرًا. وَأَمَّا الفرضُ: فلا يصحُّ عَلَى الرَّاحِلَة إلاّ عِنْدَ الاضْطِرَارِ إِلَيْهِ كَخَوْف عَلَى نَفْسه بِنُزُولِهِ أَوَ خوفِ فَوَات مَا يضرُّه فَوَاته، أَوْ إِذَا كَانَتِ الأَرْض ماشيةً ماءً والسَّماءُ تَهْطُلُ بِالْمَطرِ، ونحوِ ذَلِكَ مِن مَسَائِلِ الاضطرَارِ. وَمِنهَا: أَنَّهُم اشْتَرَطُوا في الفَرضِ سترَ الرَّجُلِ أَحَدَ عاتِقَيهِ دَوْن النَّفْلِ. مَعَ أَن الصَّحِيحَ اشتِرَاكُهُمَا في هَذَا الحكمِ وأَن الجميعَ مَشرُوعٌ فِيهِ سَترُ الْمنكب َلا وَاجِبٌ؛ لأَنَّهُ غَيْر عَورَةٍ، والحديثُ: «لا يُصَلِّيَن أَحَدكُمْ في ثَوْبٍ لَيْس عَلَى عَاتِقِهِ مُنْهُ شَيْءٌ» عامٌ في الفَرضِ والنَّفلِ.

(1/70)


ومِنهَا: جوَاز النَّفْلِ فِي جَوْف الكَعبَةِ بخِلافِ الفَرضِ عَلَى الْمَذْهَب. والصَّحِيحُ: عَدَمُ المنع أيضًا في الفَرضِ. لأنَّ الحَدِيثَ الَّذِي احْتَجُّوا به عَلَى المنعِ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَبقِيَ الأَمرُ عَلَى الأَصْل. ومِنهَا: أنَّ أوقَاتَ النَّهيِ خَاصةٌ بالنَّهيِ عَن النَّوَافِل دُوْن الفَرَائِضِ. ومِنهَا: مَا قَالُوا بِجوَاز يَسِيرِ الشُّربِ فِي النَّفلِ دُونَ الفَرضِ. ومِنهَا: أن مَن دَخَلَ في فَرضٍ وجب إِتمامُهُ، وَلَم يَجزْ قَطْعه إلاّ لعُذرٍ بخلافِ النَّفلِ إلاّ الْحَجْ والعُمرَة. وهذَا فَرقٌ عامٌّ بين الفُرُوضِ والنَّوافِلِ. وَاعْلَمْ أَن هَذِه الْفُرُوق، غيرُ الفُرُوقِ العَامَّةِ الْوَاقِعَة بين الفرائضِ وَالنَّوَافِل مِن: - تَعيُّنِ الفُرُوضِ والإِثمِ والعقوبةِ عَلَى تارِكِهَا لغير عُذرٍ. - وتقدّمِهَا عِندَ المزاحمَةِ. - وَعِظَم أَجْرِهَا أو رفعَةِ درجاتِهَا. فإن هَذَا مَعْلُوم، من حَدِّ الفَرضِ وحدُّ النَّفلِ، لا يُحْتَاجُ إلَى ذِكرِه في المسَائِلِ المعينةِ، وإنما يُذكَرُ عِندَ الكَلامِ عَلَى الأُمُورِ الكُلِّيَّةِ العَامَّةِ.

(1/71)


العورة التي يجب سترها 20- مَا هي العَوْرَةُ الَّتي يَجِبُ سَترُهَا؟ الجواب: لِلعَوِرَةِ إطلاقٌ في بَاب سُترَةِ الصَّلاةِ، وإطلاقٌ في بَابِ تحريمِ النَّطرِ. والحكمُ فيهمَا مُتَفَاوِتٌ: أَمَّا العَوِرَةُ في بَاب سَترَةِ الصَّلاةِ: فمنها: مخففَةٌ: وهِي عَوْرَة ابن سبعِ سنين إِلَى تمامِ العَشْرِ. فلا يَجب أَن يَسْتُرَ في الصَّلاةِ إلاّ الْفَرْجَيْنِ فقط. ومِنهَا: مغلَّظة: وهِيَ عَوْرَةُ الحرَّةِ البالِغَةِ. فَكُلُّهَا عَوْرَةٌ في الصَّلاةِ إلاّ وَجْههَا وَفي كَفيهَا وَقَدَمَيهَا عَن أَحمد روايتان، المشهورُ وُجُوب سَتْرِهِمَا. ومنها مُتَوَسَّطَة: وَهُوَ مَن عَدَا المذكُورَيْنِ. فيَدخُلُ فِيهُِ: - عَورَةُ الأَمَةِ، وإِنْ كَانَتْ بَالِغَة. - والحرَّةِ غَيرِ البَالغَةِ. - والرَّجُلِ البَالِغِ.

(1/72)


- وابنِ عَشْرٍ إِلَى البُلُوغِ من حُر وعَبدٍ. فَكُلُّ هَؤلاءِ عَوْرَتهمْ في الصَّلاةِ: من السُّرَّةِ إِلَى الركبَةِ. وأَقل مجزي في ذَلِكَ: مَا يَستُرُ بشرَةَ البَدَنِ. وَلابدَّ أَن يُكون السَّاتِرُ مُبَاحاً. وسيأتي إِنَّ شاءَ اللَّهُ: تفصيلُ الثِّيَابِ المبَاحَةِ مِنَ المحرَّمَةِ في غَيرِ هَذَا السُّؤَال وَالجواب. وثم قِسمٌ آخِر: وَهُوَ أَنَّهُ يَجِب سَترُ جَمِيعِ بَدنِ الميِّت بِثَوبٍ لا يَصِفُ البَشرَةَ صَغِيرًا كان الميتُ أَو كَبِيرًا أَو ذَكرًا أَو أُنثَى. الحالُ الثَّانَيْ: عورة في باب النَّظرِ: وَهُوَ النَّطرُ إِلَى ما ورَاءَ الثِّيابِ مِن بَدَنِ الإنسَانِ. فَهُوَ أيضًا ثلاثَةُ أَقسَامٍ: 1- شَدِيدٌ: وَهُوَ نَظَر الرَّجلِ البَالِغِ ذِي الشَّهوَةِ لِلْحُرَّةِ البَالِغَةِ الأَجنبيَّةِ غير الْقَوَاعِد فيحرُم إِلَى شيءٍ من بَدنِهَا لا وَجهِهَا وَلا يَدَيهَا وَلا قدمَيهَا وَلا شَعرِهَا المتَّصِل لِغَيرِ حَاجَةٍ. 2- وخَفِيفٌ: وهو نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى زَوجَتِهِ وَسَرِيَّته ونَظَرُهَا إِلَيْهِ. فَيجَوز لِكُلّ: نظرَ جَميعِ بَدنِ الآَخِر. وكذَلِكَ نَظر عَوْرَة مَن دَوْن سَبعِ سنين.

(1/73)


وتسميةُ هَذَا النَّوْع عَورَةً تَجُوزُ لأجلِ التَّقْسِيم. 3- ونَوعٌ مُتَوَسَّط: وهو: - نَظَر الرَّجْل إِلَى الرَّجُلِ. - وَنَظْر المرأَةِ للرَّجُلِ وللمَرأَةِ. - ونظَره لَذَوَات محارِمهُ، نَسبًا، ورِضاعَا، وصِهرًا. - وَالنَّظْر لحاجَةِ خِطبة، ومُعَاملةٍ، وَنظَر الأَمَةِ. فيجوز من ذلك: ما جَرَتْ بهِ العادة وما احْتِيجَ إِلَيْهِ. وَشَرْط هَذَا: أن لا يكون مَعَه شَهْوَة. فإن كَانَ: لم يَجُزْ. ومِثلُهُ: النَّظر للاضْطِرَار: كَنَظر الطَّبِيب، وَالْمُنْقِذ مِن مَهلكَةٍ، وَنحوِ ذَلِكَ: فهَذَا يجوز؛ لما يحتَاجُ إِلَيْهِ، واللَّهُ أَعْلَم. الثيَابِ المحرَّمَةِ هل تصحُّ بها الصَّلاةُ؟ 21- مَا الفَارقُ بين الثِّيَابِ المبَاحَةِ من المحرَّمَةِ؟ وَاذَا كَانَ مُحرَّمًا فهل تصحّ به الصَّلاة أَمْ لا؟ الجواب: الأَصلُ في الثِّيابِ وَاللِّباسِ: الإِبَاحَة. * قال اللهُ تَعَالَى: ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ? [الأعراف: 32] .

(1/74)


فَأنْكَرَ عَلَى مَنِ حَرَّمَ اللِّبَاسَ وَالْمَطَاعِم وَالْمَشَارِب، الَّتي أخرَجَهَا لعبادِه نعمةً مِنهُ ورَحْمة، فدلّ عَلَى: أن أَصلَهَا الإِباحةُ، حتَّى يأتي مِنَ الشرعِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ. ودَخَلَ فِي هَذَا الأَصْلِ: جَمِيعُ ما تُتخَذ مِنْهُ الأَكْسِيَة من أَيِّ نَوْع كَانَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَم يُحرِّمِ الشَّارِعُ إلاّ أشياءَ مَخْصُوصَة ترجِعُ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ وَحِفْظِ العِبَادِ في دِينهِم ومَعَاشِهِم. وَالْمُحرَّم مِنَ اللبَاس: إِمَّا لَمَكْسَبه الخَبِيثِ، كَالْمَغْصُوبِ ونَحوِه، فهذا تَحرِيمُه عام للذُّكُورِ والإناثِ؛ لاشتراكِ الجَمِيعِ في المعنَى الَّذي حُرِّمَ لأَجْله. وإِمَّا مُحَرَّمٌ لَهَيئَته الْمُشْتَمِلَة على مَفْسَدَةٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا مُحَرَّمٌ عَلَى الصِّنفَينِ فيدخلُ فيهِ: - اللبَاسُ الَّذِي يَحصُلُ فيهِ التَّشَبُّه الخَاصُّ بِالْكَفَّارِ. - وتشبُّه الرِّجَال بِلِبَاس النِّسَاءِ الخَاصِّ بهن. - وكذَلِكَ تَشَبُّه النِّسَاء بِلِبَاسِ الرجَالِ الخَاصِّ بِهِم. فَهَذَا النَّوعُ الحكم فِيهِ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ. فمتى وُجِدَ الشَّبَه الْمَحْذُور؛ فالحكمُ بقَاءُ المحظُورِ، ومتَى زَالَ زَالَ. ومِنْ هَذَا النَّوْع:

(1/75)


- اللباسُ الَّذِي فَيِهِ صُور الْحَيَوَانَات. - ولباسُ الفَخرِ والخيلاءِ. فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرجَالِ وَالنِّسَاء. ومِنَ اللباسِ مَا يكون محرَّماً عَلَى الرجَالِ محلَّلاً لَلنِّسَاء، وذلك كـ: - الذَّهْب وَالْفِضَة. - وأكْسِيَةِ الحَرِيرِ الخَالِصَةِ. - أَوِ التي غَالِبُهَا حَرِيرٌ، أَوْ فِيهَا أَكثرُ مِنْ أَربعِ أَصَابعِ مِنَ الحرِيرِ. وَيُستَثنَى مِن هَذَا للرَّجُلِ: - مَا دَوْن أرْبَع أصَابع من الحَرِيرِ، أَوْ أَربع فَقَط. - وَاسْتِعْمَاله في الحربِ - أَوْ لمرضٍ مِنْ حكَّة وَنَحْوهَا. - وكذَلِكَ: كسوةُ الكعبَةِ والمصحَفِ بِالْحَرِيرِ، كُلُّ هَذا جَائِزٌ. وأَمَّا تحريم الأَكسيَةِ النَّجِسَةِ كَجُلُود السِّبَاعِ: فهذا من بَاب وُجُوبِ تَجَنُّبِ الْخَبَائِث كُلِّهَا في كُلِّ شيءٍ. وأَمَّا صحةُ الصَّلاة وَعَدَمُهَا في الثَّوبِ المحرَّمِ المتعلِّقُ بِسَترِ العَوْرَةِ: فَإِنَّها لا تَصِحُّ بِهِ الِْصْلاة فَرْضًا وَلا نَفْلاً إلاّ مَعْذُورًا بِجَهْلٍ أَوْ نِسْيَانٍ. وكذلك المضطر، فإِنَّ كلَّ مَعْذُورٍ إِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا في العبَادَةِ فعبَادَتُه غَيْر فَاسِدَةٍ، كما أنَّه غَيْرُ آثمٍ.

(1/76)


الصورُ الَّتي تصح الصَّلاةُ فِيهَا لِغَيرِ الكَعبَةِ 22- مَا هِيَ الصُّوَر الَّتي تَصِحّ الصَّلاةُ فِيهَا لِغيرِ الكَعبَةِ؟ الجواب: الأَصْلُ أنَّ: استِقبَالَ القِبلَةِ شَرْطٌ لِصحَّة الصَّلاةِ، وأن من تَرَكَ الاستِقبَالَ فصَلاتُه بَاطِلَة. لكن يُستَثنَى مِنْ هَذَا صُوَر، منها: - المربُوط والمصلُوبُ لغير القِبلَةِ. وفي شِدَّةِ القِتَالِ. وهذَا يَرجِعُ لِعَدَمِ القُدرَةِ على الاستِقبَالِ. وكُلُّ من عَجَزَ عن شرطٍ مِن شُرُوط الصَّلاةِ، أو رُكنٍ مِن أرْكَانِهَا سَقَطَ عَنْهُ. ومنها: المتنفِّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ في السَّفَرِ يَتَوَجَّه جِهَة سَيرِهِ، وَلا يُلزَمُهُ الاستِقبَالُ في شيءٍ مِن صَلاته عَلَى الصَّحِيحِ. وعَلَى المذهَبِِ: يلْزَمهُ افتِتَاحُ الصَّلاة إِلَى القِبلَةِ، إِذَا تمكَّنَ مِن ذَلِكَ وكذَلِكَ الماشِي، ويلزَمُهُ الرُّكُوع وَالسُّجُود إِليهَا عَلَى الْمَذْهَب. ومنهَا: مَنِ اشتَبهَتْ عَلَيهِ الْقَبْلَة في السَّفَرِ واجتَهَدَ، ثم تبينَ لَه بَعْد الفَرَاغِ أَنه لِغَيرِ القِبلَةِ فَلا إِعَادَة عَلَيْهِ. وعَلَى المسألتين قَوْله تعالى: ? وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ

(1/77)


وَجْهُ اللهِ ? [الْبَقَرَة: 115] . فُسِّرَ بَكْل منْهما. والصَّحيحُ: أن الآية تعم ذَلِكَ، ومَا هُوَ أعم مِنْهُ. وممَّا يُسقِطُ وُجُوب اسْتِقْبَال القِبلَةِ: إِذَا رَكب السَّفِينَةَ، وَهُوَ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الاستِقبَالِ: لم يُلْزَمهُ. وَإِنْ تمكَّن: لَزمه فِي الفَرْضِ دُونَ النَّفل، فَلا يلزَمه أَنْ يدور بِدَوَرَانِهَا، وَاللَّهَ أعلم. الِعُبُودِيِّة الخاصَّة للجوارح في الصَّلاةِ 23- قد اشتُهِرَ عند أَهْلِ العِلْمِ أَن لِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ أَعضَاءِ البَدَنِ عُبُودِيَّة خاصّةً في الصَّلاةِ، فما هَذِهِ الخَواص؟ الجواب: وَمَا تَوْفِيقِيّ إلاّ بِاللَّه عَلَيْهِ تَوَكَّلَتُ وَإِلَيْهِ أُنْيَب. الأصلُ فِي هَذَا: أنْ تَعلَمَ أن الصَّلاةَ الْمَقْصُود الأعظَم بِهَا إِقَامَة ذِكرِ اللَّهِ، والخشُوعُ لهُ، وَالْحُضُور بين يَدْيه، ومُنَاجَاتهُ بِعِبَادَتِهِ. وهَذَا الْمَقْصُود للقَلبِ أصلاً، وَالْجَوَارِح كُلُّهَا تَبَع لَهُ. ولِهَذَا يَتَنقَّل العَبْد في الصَّلاة مِن قِيَامٍ إِلَى رُكُوع، ومِنه إِلَى سُجُود وَمنْه إلى رَفعٍ. وَهُوَ في ذَلِكَ يَتَنَوَّع في الخشُوع لرَبّه، وَالقِيَامِ بِعُبُوديتهِ. ويَتَنقَّلُ مِن حَالٍ إِلى حَالٍ. وَلكُلِّ رُكنٍ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسْرَار مَا هُوَ مِن أَعَظْم مَصَالِحِ الْقَلْب وَالرُّوح وَالإِيمَان.

(1/78)


ولِهَذَا عَلَّقَ اللَّهُ الْفَلاح التَّام عَلَى هَذَا في قوِلهُ: ? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الذِينَ هُم في صَلاتِهِم خَاشِعُونَ ? [الْمُؤْمِنُونَ: 1، 2] . وَجماع هَذَا: أَنْ يَجْتَهِدَ العَبْدُ في تَدَبُّرِ ما يَقُولُهُ مِنَ القِرَاءَةِ وَالذَّكَر والدُّعَاءِ، ومَا يَفْعَلهُ مِن هَذِهِ التنقُّلاتِ. وَكَمَال هذا: أَنْ يَعْبُدَ اللَّه كأَنَّهُ يرَاهَ، فإِنْ لم يقْوَ عَلَى هَذَا استَحضَرَ رُؤيَةَ الله لَهُ. وَبحسَبِ حُصُول هَذَا الْمَقْصُود يَحصُلُ تأخِيرُهَا لِلعَبدِ لَهُ مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَاب والقَبُولِ والقُربِ مِن رَبّه مَا يَحصُلُ. وَلِهَذَا ورَدَ في الأَثَرِ: «لَيَس لَك مِنْ صَلاتِكَ إلاّ مَا عَقِلْتَ مِنْهَا» . مَعْنَاهُ حُصُول هَذهِ المقَاصِدِ الجليلَةِ، وَإلاّ إِبرَاءُ الذِّمَّةِ، وزَوَالُ التَّبِعَةِ تحصُلُ بأَدَاءِ جَمِيعِ لازِمَاتِ الصَّلاةِ، ولكن يَتَفَاوَت الْمُؤْمِنُونَ في صَلاتِهِم بحسَب تَفَاوُت إِيمانِهِم. فَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذكرتُهُ وأَشَرْتُ إِلَيْهِ تَشتَرِكُ فِيهِ جميعُ الْجَوَارِح الطَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ. ثُم بعدَ هذا الإجمَالِ: فَاللِّسَان بَعدَ القَلبِ أَعْظَمهَا وأكثَرُهَا عُبُودِيَّة؛ لأنَّه يتنقَّلُ في صَلاته

(1/79)


مِن قِرَاءةٍ إِلَى أذكَارٍ مُتَنَوِّعَة، إِلَى أَدعِيَةٍ بُغْضهَا أَركَانٌ وبَعضُهَا واجِبَاتٌ وبعضُها مُكَمِّلاتٌ. أمَّا الأَركَانُ المتعلِّقةُ باللسَانِ: 1- فتَكْبِيرةُ الإِحْرَام. 2- وقِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ في كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إلاّ المأْمُومُ إِذا جَهَر إِمَامه عَلى الْقَوْل الصَّحِيحِ، فيتحمَّلهَا عَنْهُ. وَعَلَى المذهَبِِ: حتَّى في السِّرِّ. 3- وَالتَّشَهُّد الأخِيرُ. 4- والصَّلاةُ عَلَى اَلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. 5- والتَّسليمَتَانِ. وأَمَّا واجِبَاتُ اللسَانِ: 1- فالتَّكبِيرَاتُ كُلّهَا غَيرَ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ وغَيرَ التَّكبيرةِ الثَّانِيَةِ لَلرُّكُوع في حَقِّ الْمَسْبُوق إِذَا أَدرَكَ الإمَامَ رَاكِعًا ثُم كَبَّر للإِحرَامِ فإِنَّها تُجزِئُه عَنْ تَكبِيرَةِ الرُّكُوع لاجتِماعِ عِبَادَتَيْنِ في وَقتٍ وَاحِدٍ من جَنْس وَاحِدٍ فَاكتُفِيَ فِيهِمَا بفِعلٍ وَاحِدٍ، فإِنْ كبَرّ لَلرُّكُوع فَهُوَ أكمَلُ. فَتَبَيَّنَ بهَذَا التَّفصِيلِ أن التَّكبِيرَاتِ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ: - رُكنٌ، وهو تكبيرةُ الإِحرَامِ. - وَمَسْنُونٌ، وهو هَذِهِ الأخِيرَةُ.

(1/80)


- وَوَاجِب، وهو باقِيهَا. ومن وَاجِبَاتِهُ: 2- قَولُ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) للإِمَام والمنفَرِدِ. 3- وقولُ: (رَينا وَلَكَ الحَمدُ) للإِمَام والمنفَرِدِ وَالْمَأْمُوم. 4- وقول: (سبحان ربي الْعَظِيم) مرَّة فِي الرُّكُوع. 5- و (سُبحَانَ رَبِّي الأعلَى) مرَّةً في السُّجُود. 6- و (رَبّ اغفِر لي) بين السَّجْدَتَيْنِ. ومَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فهوِ مَسْنُون مُكَمِّلٌ. 7- وَالتَّشَهُّد الأَوَّلُ. وَأَمًّا: باقي القِرَاءةِ بعد الفَاتِحَةِ. - وبَاقِي التَّسبِيحَاتِ. - والأدعِيَةِ. - وَتكمِيل التَّشهُّد. فإنَّهَا سَنّن مُكْمِلات. فَلا يُشرَعُ في الصلاة سُكُوت أَصْلا، إلاّ إِذا جَهَرَ الإِمَامُ فَيُشرَعُ للمأمُومِ الإنصَاتُ لَقِرَاءَته. وَكَذَلِكَ لَقُنُوته؛ كما قال تعالى: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأنْصِتُوا ? [الأعراف: 204] .

(1/81)


وكما أَن اللسَانَ يتنقَّلُ في هَذِهِ الأَنْوَاع التَّعبُّديةِ فلا يَحِلّ أن يُشْغَلَ بغيرِهَا؛ ولهذا كانَتْ حركَتُهُ بِغَيرِ ما يتعلَّقُ بِالصَّلاةِ مُبْطِلَة كالكَلامِ عمدًا فإِنَّه مُبْطِل إِجْمَاعًا، كمَا قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «إِن صَلاتنا هَذِهِ لا يَصْلُحُ وَلا يَحِلُّ فِيهَا شَيْء مِن كَلامِ النَّاسِ» . فإِنْ كَانَ الكَلامُ من جَاهِلِ الحكمِ أو جَاهِلِ الْحَال أو نَاسٍ: فَالْمَشْهُور من المذهَبِ إِبْطَال الصَّلاةِ به، إلاّ إِن نَامَ فتكلَّمَ أَو غَلْب الكَلامُ عَلَيْهِ حَالَ قِرَاءَته. وعَلَى الصَّحِيحِ: كَلامُ المَعْذُور غَيرُ مُبْطِل للصَّلاةِ. لأَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَأمُر المتكلَّمَ في صَلاتِه جَاهِلاً بالإِعَادَةِ بل أخبره بالحكم فَقَط. وَكَذَلِكَ لما تكلَّم الْمُسْلِمُونَ حين سَهَا فسلَّمَ قبل إِتْمَامهَا؛ لم يأمرهم بِالإِعَادَةِ بل تكلَّمَ هو وَهُم وبَنوا جميعًا عَلَى مَا مَضَى. وأَمَّا ما يتعلَّقُ باليَدينِ: فَرَفعُ اليَدَينِ إِلَى حَذوِ الْمنكَبين في أَمَاكِنِهَا. وَهِيَ عِندَ: 1- تَكبِيرَةِ الإِحْرَامِ.

(1/82)


2- وعِنْدَ تَكبِيرَةِ الرُّكُوع. 3- وَعِندَ الرَّفعِ منْهُ. 4- وَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ: عند الرَّفْعِ مِنَ التشَّهُّد الأَوَّل. كَما ثَبَتَ بِه الْحَدِيث. وَالْمَشْهُور: الاقْتِصَار عَلى الثَّلاثَةِ الأُوَلِ. 5- وكذلك تَكْبِيرَاتُ العِيدِ اللاتِي بَعدَ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ وَبَعْد تَكبِيرَةِ الانتِقَالِ للرَّكعَة الثَّانيَةِ. 6- وَتَكْبِيرَات الجنَازَةِ كُلّهَا. 7- وَالاسْتِسْقَاء كالعِيدِ. وَكَذَلِكَ على المذهَبِ: تكبيرةُ السُّجودِ للتِّلاوَةِ وَالشُّكرِ. وَالصَّحِيح: لا يُسْتَحَبّ رفعها بهما؛ لأَن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يرفعُهمَا في السّجود. ومِن عِبَادَةِ اليَدَينِ: أَنْ يكون في حَال قِيَامه قَابضًا يُسْرَاه بِيُمْنَاهُ، وَاضِعًا لَهُمَا عَلَى سُرَّته أَو تحتها أو فوقِهَا. وأَن يَجْعَلهُمَا عَلَى ركْبتيْهِ فِي الرُّكُوعِ مفرقتين.

(1/83)


وَلا يُستَحَب تَفرِيقُ أَصابِعِهِمَا في غَيرِ هَذَا الْموضِع. وَأَن يَجعلهُمَا في سُجُودِهِ حَذْوَ منكبِيهِ مُسْتَقْبلاً بِهمَا القِبلَةَ مجافِيًا لَهُما عَن جَنبيهِ، مَبْسُوطَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْ الأَصَابع. وأن يَجعَلَهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أو فَخْذَيْهِ فِي الْجُلُوس بين السَّجْدَتَيْنِ مَبْسُوطَتين مَضْمُومَتَيْ الأَصَابع، مُوجِّهَا أَصَابِعهُما لِلقِبْلَةِ. وَكَذَلِكَ في التَّشَهُّدَيْنِ إلاّ أَنه ينبغي في التَّشَهُّدَينِ أَن يقبضَ مِنَ اليُمْنَى الخنْصر وَالْبنصر، وَيُحَلِّق الإِبهام مَعَ الْوُسْطَى. وأَن يُشِيرَ بِالسَّبابةِ إِلَى تَوْحِيد اللَّه وذِكرِه. ومِن خَوَّاص اليَدَينِ: في حَقِّ الْمَرْأَة عنْدَ تنبيه الإِمَامِ إِلَى سَهْوٍ: أَن تصَفِّقَ بِهِمَا. وأَمَّا الرَّجُلُ: فالمشْرُوعُ في حقّهُ التَّسْبِيحُ. كما أمَرَ بذلِكَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -. وَالفَرقُ بين الرَّجُلِ وَالْمَرْأَة ظَاهِرٌ؛ لأَن المَطْلُوب مِنهَا الاسْتِتَار لِشَخصِهَا وَكِلامهَا. فَهَذَا مَا يتعلَّقُ باليَدَينِ.

(1/84)


وَمِنَ المشتَرَكِ بينَهُمَا وَيَبِنّ بَقِيهِ الأَعضَاءِ السَّبُعَة الرُّكْبتَينِ وَالْقُدْمِينَ والجبهة مَعَ الأَنفِ: أَن السُّجُود عَلَيهِمَا رُكنٌ لا تتم الصَّلاةُ إلاّ بِهِ. وَأَمَّا ما يتعلَّقُ بًالقَدَميْنِ: - فالقيامُ في الفرضِ رُكنٌ لا تَتِم إلاّ بِهِ عَلَى القَادِرِ. - وَيَنْبَغِي أَن يُفرِّقهَا وَلا يضم بَعْضَهَا إِلى بَعضٍ حَيثُ أمكَنَ بِلا مَشَقَّةٍ - وأَن يَكُونَا فِي السُّجُود مَنْصُوبَتَيْنِ وَبُطُون أصَابِعِهمَا عَلَى الأَرْضِ مُوَجِّهَة أَطْرَافهَا إِلَى القِبلَةِ. وأمَّا في الجلوسِ: فينصبِ الْيُمْنَى، وَيُوجه أَصَابِعَهَا إِلَى القِبلَةِ، ويفتَرش اليُسرَى ويجلسُ عَلَيها إلاّ في التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ فَيتَوَرَّك بأَن يخرجهَا من تَحتِهِ ويجلسُ عَلَى الأرضِ. وَكَذَلِكَ يَنبغِي مُوَازَنَةُ الرَّجلين فَلا يُقَدِّمُ أَحَدَهُمَا عَلَى الأُخرى. وإذا كانوا جماعة سَوَّوْا صُفُوفَهُم بمسَاوَاةِ المنَاكِبِ والأَكعُبِِ. وأمَّا ما يتعلَّقُ بالعينين: فَالْمَشْرُوع: أن يَكُون نَظَرُه إلَى مَوْضِع سُجُودِهِ؛ لأَنه أَعْوَن لَهُ عَلَى الخشُوعِ وعَدَمِ تَفَرُّق الْقَلْب. كَما شُرِعَ لأَجْلِ هَذَا المعنَى أَن يُصَلِّيَ الإِنسَانُ إِلَى سُترَةٍ. فإِن في السُّترَةِ فَوَائِدَ عَدِيدَةً: مِنهَا هَذَا الْمَقْصَد.

(1/85)


ويُستَثْنَى مِنْ هَذَا إِذَا كَانَ في التَّشَهُّدِ فإنَّه يَنْطُر إِلَى سَبَّابَته عِنْدَ الإِشَارَةِ إِلَى التَّوحِيدِ. وَاسْتَثْنَى الأَصْحَاب إذا كَانَ مُشَاهِدًا للكَعبَةِ فإِنَّهُم قَالُوا: يَنطُرُ إِلَيْهَا. والصَّحِيحُ: أنُهِ لا يستحب في الصَّلاةِ النَّظَرُ إِلَى الكَعبَةِ، وإِن كَانَ النَّطْر إِلَيْهَا خَارِجَ الصَّلاة عِبَادَةً؛ لأَنه في الصَّلاةِ يُفَوّت الخشُوعَ خُصُوصًا إذا كَانَ الْمَطَاف مَشغُولاً بِالطَّائِفِينَ. ويُستَثْنَى مِن ذَلِكَ أيْضًا: صَلاة الْخَوْف؛ فإِنَّهُ يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ نظَره إِلَى جِهَةِ عَدُوِّهِ الَّذِي في قِبْلَته لِكَمالِ الاحتِرَازِ، وليجمع بين الصَّلاةِ والجِهَادِ. وكَمَا أنه يُسْتَحَبّ نَظَرُه إِلَى مَوضِعِ سُجُوده؛ فيُكرَهُ نَظَرُه في صَلاته إِلى كُلِّ مَا يُلهِي قَلبَهُ وَيُشَوِّشهُ. وَلِهَذَا كَرِه العُلَمَاءُ: أَن يَكُون في قِبلَةِ المصلِّي مَا يُلهِي مِن زَخرَفَةٍ أو غَيرِهَا. ويُكْرَهُ: أَنْ يُغمِضَ عَينيهِ، أَو يَرفَعَ نَظَرَه إِلَى السَّمَاءِ. وَيُكْرَهُ: العَبَث بشَيءٍ مِنَ الأعضَاءِ. فإن كَثُرَ وَتَوَالَى لِغَيرِ ضَرُورَة: بَطلَتْ بِهِ الصَّلاةُ. وَيُكْرَهُ: افتِرَاشُ ذِرَاعَيهِ سَاجِدًا، وتخصُّرُه، وَتَمَطِّيه. وإِنْ تَثَاوَبَ كَظم، فإِنْ لم يَسْتَطِعْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيه.

(1/86)


ويُكرَهُ مِنَ الجلوسِ الإقعَاءُ، وَهُوَ أن ينصبَ قَدَمَيهِ ويَجلسَ عَلَيهِمَا. وقيل: هُوَ أن يَنصُبَ قَدَمَيهِ ويجلسَ بَينَهُمَا. ويُكرَهُ: فرقَعَةُ الأَصَابِع وَتَشْبِيكهَا. ومما يتعلَّقُ بالأَعضَاءِ كُلِّها: الصِّفَاتُ اَلْمَشْرُوعَة في هَيئَاتِ اَلرُّكُوع وَالسُّجُود والجلوسِ. فَهَذَا اَلْجِوَاب يَأتي عَلَى غَالِبِ أو كُلِّ صِفَةِ اَلصَّلاة والله أعْلَمُ. المَوَاضِعُ الَّتِي لا تَصحُّ الصَّلاةُ فِيهَا 24- مَا هِيَ اَلْمَوَاضِع التي لا تَصِحُّ اَلصَّلاة فِيهَا؟ الجواب: الأَصْلُ في هَذَا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِيَ اَلأَرْضُ كُلُّهَا مَسجِدًا وَطَهُورًا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. فالأصْلُ: أَن جَمِيعَ الموَاضِع مِنَ الأَرضِ تَصِحُّ فيها اَلصَّلاة كَما هُوَ صَرِيحُ الحَدِيثِ. فمتَى ادَّعَى أَحَدٌ عَدَمَ اَلصِّحَّة في مَوضِعٍ مِنهَا مِن غَيرِ دَلِيلٍ شَرعِي صَحِيحٍ فَقَولُه مَردُودٌ. والذِي يَصح النهي عَنهُ غَير:

(1/87)


1 - الأمَاكِنِ النَّجِسَةِ 2 - والمغصُوبَةِ. 3 - والحمامِ. 4 - وأعطانِ الإِبلِ. 5 - والمقبرَةِ - سِوَى صَلاةِ جِنَازَة فِيهَا فَلا تَضُرُّ. 6- والحَشّ مِن بَابِ أَوْلَى وأَحْرَى. وَأَما النَّهيُ عَنِ: المجزَرَةِ، والمزبَلَةِ، وقَارِعَةِ اَلطَّرِيق، وفَوقَ ظَهرِ بَيتِ اللَّهِ: فَهُو ضَعِيف لا تَقُوم بِه حُجةٌ. وَأَضْعَفُ مِن ذَلِكَ: قَولُهم أَسَطحَتُهَا مِثلهَا. فالصَّوَابُ: جَوَازُ الصَّلاةِ في هَذِه الأمَاكِنِ - المجزرَة وَمَا بَعدَهَا - وإنْ كان المذهب أنّهَا كُلَّهَا لا تصِح فِيهَا. النيَّةُ المشتَرَطَةُ للصَّلاةِ وغيرها 25- مَا هِيَ النِّيةُ المشتَرَطَةُ لَلصَّلاة وغيرها؟ الجواب: اعلَمْ أن النيةَ الَّتي يتكلَّمُ عَلَيهَا العُلَمَاءُ نَوعَانِ: ا- نِيَّةُ المعمُولِ له. 2- ونِيَّةُ نَفْسِ العَمَل.

(1/88)


أَمَّا نيَّةُ المعمُولِ لَهُ: فَهُوَ الإِخْلاصُ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلاً خَلا مِنْهُ. بأَنْ يَقْصِدَ العَبْدُ بِعَمَلِه رِضْوَانَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ. وضِدُّه: العَمَلُ لِغَيرِ اللَّهِ، أو الإشرَاكُ بِهِ في العَمَلِ بِالرِّيَاءِ. وهذا النَّوعُ لا يتوسَّعُ الفُقَهَاءُ بالكَلامِ عَلَيهِ، وإنما يتوسعُ به أهلُ الحقَائِقِ وأعمال القُلُوبِ. وإنما يتكلَّمُ الفُقَهَاءُ بـ: النَّوعِ الثَّاني وهوَ: نِيَّة العَمَلِ. فهذَا لَه مرتَبتَانِ: إحدَاهُمَا: تَميِيزُ العَادَةِ عَنِ العِبَادَةِ. لأنَّه مثلاً غَسَلَ الأَعضَاءَ والبدَنَ تارة يَقَعُ عِبَادَةً في الوُضُوءِ والغُسلِ وتَارة يَقَعُ عَادَةً لتَنظِيفٍ وتَبرِيدٍ ونحوها. وكذَلِكَ مثلاً اَلصِّيَام: تَارةً يُمسِكُ عَنِ المفطِرَاتِ يَومَه كُلَّه بِنيَّةِ الصَّومِ وتَارةً من دونِ نيَّةٍ. فلابد في هذه المرتَبَةِ مِن نِيَّةِ العِبَادَةِ؛ لأَجْلِ أَنْ تتميز عَنِ العَادَةِ. ثُمَّ المرتبة الثَّانِيَةُ: إِذا نوى العِبَادَةَ، فَلا يَخلُو: - إِمَّا أَنْ تَكُونَ مطلَقة كـ: الصَّلاةِ المطلَقَةِ، والصَّومِ المطلَقِ. فَهَذَا يَكفِي فِيهِ: نِيَّةُ مُطلَقِ تِلكَ العِبَادَة. - وإِمَّا أَن تَكُونَ مقيَّدَة كَـ: صَلاةِ القَرضِ، وَالرَّاتِبَة، والوترِ.

(1/89)


فَلابَدّ مَعَ ذَلِكَ مِن: نِيَّةِ ذَلِكَ العَين؛ لأجلِ تميِيز العِبَادَاتِ بعضها عَن بعضٍ. فَهَذِه ضَوَابِطُ في النِّيَّةِ، نَافِعَةٌ مغنِيَةٌ عَن تَطوِيلِ البَحثِ في النِّيَّةِ وتحصيلهَا. وكون هَذَا زمنها أو هذا أو نحو ذَلِكَ مِنَ اَلأُمُور الَّتي إِن صَحَّتْ فَهِيَ مِن بَابِ تَحصِيلِ الشَّيءِ الحَاصِلِ. وكذَلِكَ مُسَائِلِ الشُّكُوكِ في النِّيَّة الَّتي إِذَا اهتم بها الإِنسَانُ فَتَحَتْ عليهِ أبوَابَ الوَسواسِ. ومِنَ المعلُومِ: أنَّ مَن مَعَهُ عَقلُه لا يُمكِنهُ أن يباشر عِبَادَةً بِلا نِيَّةٍ، حتى قَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: «لو كَلِّفَنَّا اللَّهُ عملاً بِلا نِيَّةٍ لكَانَ مِن بَابِ تَكلِيفِ مَا لا يُطَاقُ» ، واللَّهُ اَلْمُوفِق للصَّوابِ. اَلانْتِقَال في الصلاة مِن حَالَة إِلى أُخرَى للإمام والمأموم 26- اَلْمُصِلُّونَ إِمامٌ أَو مأمومٌ أَوْ مُنفرِد فهل يسوغُ أن ينتقِلَ أثنَاءَ صِلاته مِن حَالَةٍ إِلى أخرَى؟ الجواب: أَما من دُونِ عُذرٍ: فَلا يَسُوغ أن يَنتقِلَ مِن إِمَامَةٍ إِلَى ائتمامٍ أَو انفرَادٍ، ومِن ائتمامٍ إِلَى إِمَامَةٍ أَو انفرَادٍ، ومِن انفِرَادٍ إِلَى إِمَامَةٍ أَو ائتمامٍ، ومِن إِمامٍ إِلَى آخَر. وأَمَّا عِندَ العُذرِ والحاجَةِ إِلى شيء مِنْ ذَلِكَ: فالصَّوَابُ: جَوَازُ ذلك كُلِّه؛ لِوُرُودِ النَّصِّ في أفرادٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ

(1/90)


ولم يرد ما يدلَّ عَلَى المنعِ في هَذِهِ الحَالِ. وأَمَّا المشهُورُ مِنَ المذهَبِ: فَجَوَّزُوهُ في صُوَرٍ مخصُوصَةٍ. مِنهَا: إذَا صَلَّى لغيبَةِ الإِمَامِ اَلرَّاتِب، ثم حَضَرَ اَلرَّاتِب في أثناءِ الصَّلاةِ جاز أنْ يَرجِعَ النَّائِبُ مِنَ الإمَامَةِ إِلَى الائتِمَامِ بِالرَّاتِبِ. ومنها: إِذَا سَبَقَ اِثْنَانِ فِي الصَّلاةِ فائتم أَحَدهمَا بالآخَرِ في قَضَاءِ ما فَاتَهُما بَعْدَ سَلامِ الإمَامِ اَلأَوَّل فَقَد انتَقَلَ مِن إمَامٍ إلَى إمَامٍ كَالأُولَى. ومِنهَا: إذَا أَحرَمَ مُنفَرِدًا ظَانًّا حُضُورَ مَأمُومٍ ثُمَّ حَضَرَ المأمُومُ فقد انتَقَلَ مِن انفِرَادِ إلَى إمَامَةٍ. وقد يُقَالُ: إنَّه في هَذِه الحالِ كَانَ قَد نَوَى إِمامَةَ مَن سَيَدخُلُ معه. ومِنهَا: إذَا عَرَضَ لِلإِمَامِ عَارِضٌ يسوغ لَهُ الخُروجُ مِنَ الصَّلاةِ أو الانفِرَادُ ثم استَنَابَ بَعضَ المأمُومِينَ: جَازَ. فقد انتَقَلَ مِنَ ائتمامٍ إلى إمامَةٍ عَكس الأُولَى. ومِنهَا: إذا عَرَضَ للإِمَام أو المأمُومِ عُذرٌ أو شُغلٌ يبيحُ تَركَ الجَمَاعَةِ: جَازَ أَن يَنفَرِدَ، ويُكمِلَ صَلاتَه وَحْدَهُ. فقد انتَقَلَ مِن إمَامَةٍ إلَى انْفِرَادٍ، ومِن ائتمامٍ إِلى انفِرَادٍ. ومنها: إذَا صَلَّى بِمَأْمُوم ثم فارَقَهُ المأمومُ لعُذرٍ أو لا، نَوَى الإِمَامُ الانفِرَادَ وكَمَّلَ صَلاتَهُ. فَقَدِ انتَفَلَ مِنْ إِمَامَةٍ إلَى انفِرَادٍ، واللَّهُ الموفِّقُ للصَّوَابِ.

(1/91)


سجود السهو أسبابه وكيفيته 27- أسباب سُجُودِ اَلسَّهْو، وكيفيَّةِ حُكمِ تِلكَ الأسبَابِ؟ الجواب: وباللَّهِ التَّوفِيقُ. هذا سُؤَالٌ جَامِعٌ يحتَاجُ إلَى جَوَابٍ جامعٍ لجميع تَفَاصِيلِ سُجُودِ السهو، وما يُنَاسِبُها ويرتَبِطُ بِهَا. وهذَا البَابُ مِن أصعَبِ أبوَابِ العِبَادَاتِ؛ لانتِشَارِ مَسَائِلِه، وَاشْتِبَاههَا وبحَولِ اللَّهِ سَيَأتي الجوابُ جَامِعًا لَمُتَفَرِّقَاته، مُقْرِّباً لِبَعِيدِه مُسَهِّلاً لِشَدِيدِه. اعْلَم - رَحِمَكَ اللَّه بالعِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ - أن أَسْبَاب سُجُودِ اَلسَّهْو ثَلاثَةٌ لا غَير: 1- زِيَادَةٌ 2- ونقصَانٌ. 3- وشَك في الصَّلاةِ. 1) أمَّا الزِّيادةُ في الصَّلاةِ: فَلا تَخلُو مِن حَالَينِ: 1- إِمَّا أَنَّ تَكُونَ من جنسِ الصَّلاةِ: كَزِيَادَةِ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوْ رُكُوعٍ. فهذِهِ زِيَادَةٌ فعليَّةٌ. إِن تَعَمَّدَهَا: اَلْمُصْلِي بَطَلَتْ صلاتُه. وإِنْ فعلَهَا ناسيَا أو جَاهِلاً: صَحَّتْ صَلاتُهُ، وعَلَيهِ سُجُودُ اَلسَّهْو. فهذِه زيادةُ أَفعَالٍ من جنسِ الصَّلاةِ.

(1/92)


وَإِنْ كانَتِ الزِّيَادَةُ الَّتي مِن جِنسِ الصَّلاةِ زِيَادَةَ أقوالٍ، كَأَنْ يأْتيَ بِقَولٍ مَشْرُوعٍ في غَيرِ محلِّه. - فإِن كَانَ سَهوًا: استُحِبَّ السُّجُودُ لَهُ، ولم يَجِبْ. - وإِنْ كَانَ عَمدًا: فَهُو مَكرُوهٌ؛ إِن كَانَ قِرَاءَةً في رُكُوع أَو سُجُودٍ أو تَشَهُّدٍ في قِيَامٍ. - وإن كَانَ غَيرَ ذَلِكَ: فَهُوَ تَركٌ للأَوْلَى. وإِن كَانَتِ الزِّيَادَةُ الفعليَّةُ أَو القَوليَّةُ من غير جِنسِ الصَّلاةِ: مثَالُ الفعليَّةِ: اَلْحَرَكَة والأَكْلُ والشَّربُ. فَهَذِه لا سُجُود فِيهَا، ولَكن يُبحَثُ عن حُكمِهَا مِن جِهَةِ إِبطَالِ الصَّلاةِ وعَدَمِه. أَمَّا (الحَرَكَةُ) فَهِيَ ثَلاثَةُ أَقسَامٍ: 1- حَرَكَةٌ مبطِلَةٌ: وهِيَ الكَثِيرَةُ عُرفًا، المتوالِيَةُ لغَيرِ ضَرُورَةٍ. 2- وحَرَكَةٌ مكْرُوهَةٌ: وهِيَ اليَسِيرَةُ لِغَيرِ حَاجَةٍ. 3- وحَرَكَةٌ جَائِزةٌ: وهِيَ اليَسِيرَةُ لحاجَةٍ أو الكَثِيرَةُ لَلضَّرُورَة، وقد تَكُونُ مأمورًا بهَا كالتَّقدُّم والتَّأخُّر فِي صَلاةِ الجوفِ. ومثلُه: التَّقدُّم إِلَى مَكَانٍ فَاضِلٍ. وأمَّا (الأكْلُ والشُّربُ) :

(1/93)


- فإن كَانَ عَمدًا أبطلها إلا يَسِيرَ اَلشُّرْب في النَّفلِ. - وَإِنْ كَانَ سَهْوًا أبطَلَها الكَثِيرُ. ومِثَالُ القَولِيَّةِ الَّتي مِن غَيرِ جِنْسِ الصَّلاةِ (الكلام) . - فإِن كَانّ عَمدًا غَير جَاهِل أبطَلَها. - وإنْ كَانَ سَهوًا أو جَهلاً: فالصَّحِيحُ أنه لا يُبْطِلهَا والمذهَبُ: الإِبطالُ كما تقدَّمَ. 2) وأَمًّا اَلنُّقْصَان: فَلا يَخلُو: - إِمَّا أن يَكُونَ نقصَ رُكْنٍ. - أو نقصَ واجِبٍ. أو نقصَ مَسْنُونٍ. فإِن كَانَ نَقصَ رُكنٍ: وذَكرَة قبلَ اَلسّلام، وقَبلَ شُرُوعِه في قِرَاءَةِ اَلرَّكْعَة الَّتي بَعدَ المترُوكِ مِنهَا: لَزِمَهُ أَنْ يأْتيَ بِه وبما بَعدَهُ. وإِن كَانَ بعد شُرُوعِه فِي قِرَاءةِ الَّتي بَعدَها: فكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. لأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ بعد المترُوكِ وَقَعَ لاغِيًا عَفْوًا، فيرجع فَيَأْتِي بِالْمَتْرُوكِ وبما بَعْدَهُ إِنْ لم يَصِلْ إِلَى محلّه فَلا حَاجَةَ إِلَى الرُّجُوعِ؛ لأنهُ قَد حَصَلَ الوُصُولُ إِلَيهِ.

(1/94)


وعَلَى المذهَبِ: لا يَرجعُ بَعدَ الشُّروعِ في القِرَاءَة بل تَقُومُ هَذِه اَلرَّكْعَة مَقَامَ اَلرَّكْعَة المترُوكَةِ مِنهَا الرُّكنُ، وتَنُوبُ مَنَابَهَا، وتَلغُو تِلكَ اَلرَّكْعَة وعَلَيه السُّجود للسَّهوِ في هَذِه اَلصَّوْر. وإِنْ ذَكَرَ المترُوكَ بَعدَ اَلسِّلام: فكتَركِه قَبلَه، عَلَى الصَّحِيحِ. وعَلَى المذهَبِ: كَتَركِ رَكعَةٍ كَامِلَةٍ، فيأتِي بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ إِلا أن يَكُونَ المترُوكُ تَشَهُّدًا أَخِيرًا أَو جُلُوسًا له فيأتي بِهِ. وعَلَيْهِ السُّجُود في هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا. فهَذَا تَفصِيلُ القَولِ في تَركِ الأَرْكَانِ. ويُستَثنَى مِنهَا: إِذَا كَانَ المترُوكُ تَكبِيرَةَ الإِحْرَامِ: فَإِنّ اَلصَّلاة وَقَعَتْ غَيرَ مُجْزِيَةٍ، فَتُعَادُ مِنْ أَصْلِهَا. وأَمَّا نَقْصُ الوَاجِبِ: فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبلَ الوصُولِ إِلى الرُّكْنِ الَّذِي يَليهِ وَجَبَ عَلَيهِ الرُّجُوعُ. وإِن وَصَلَ إِلَى الرُّكْنِ الَّذِي يَليهِ لَمْ يَرْجِع مطلقًا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى المذهَبِ: يُسْتَثْنَى التَّشَهُّدُ اَلأَوَّلُ إِذَا وَصَلَ إِلَى القِيَامِ قَبْلَ أَن يَشْرَعَ في القِرَاءَة يجوزُ له الرُّجُوعُ، والأَوْلَى عَدَمُ الرُّجُوعِ، وعَلَيهِ سُجُودُ اَلسَّهْو في كُلِّ هَذِه الصُّوَرِ. وإِن كَانَ تَركَ الرُّكْنَ والواجب عمدًا: بَطَلَت الصَّلاةُ. وأمَّا نُقصَانُ المسنُونِ: فإِذَا تَركَ مَسنُونًا: لم تَبطُل صَلاتُه وَلَم يُشرَع السُّجُودِ لِتَركِه سَهوًا.

(1/95)


فإِنْ سَجَدَ فَلا بَأسَ، ولكنَّه يُقَيَّد بِمَسنُونٍ كَانَ مِن عَزمِه أَن يأَْتيَ به فتركه سَهْوًا. أَمَّا اَلْمَسْنُون الَّذِي لم يخْطُر لَهُ عَلَى بَالٍ أَو كَانَ مِن عَادَتِه تَرْكه: فَلا يحل اَلسُّجُود لِتَركِه؛ لأنه لا مُوجِبَ لِهَذِه الزِّيَادَةِ. 3) وأَمَّا الشك: فَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّلامِ: لم يُلتَفَتْ إِلَيهِ. وكذَلِكَ إذا كَثُرَتِ اَلشُّكُوك: لا يُلتَفَتُ إلَيهَا. وإن لَم يَكُن: كَذَلِكَ. فالشك إمَّا في زِيَادَةٍ أو نقصَانٍ. فالشَّكُّ في زِيَادَةِ رُكنٍ أو وَاجِبٍ في غَيرِ المحلّ اَلَّذِي هُو فِيهِ: لا يَسْجُد له. وأمَّا اَلشَّكّ في الزيَادَةِ وَقتَ فِعلِهَا: فيُسجَدُ لَهُ. وأمَّا الشَّك في نَقصِ اَلأَرْكَان: فَكَتَرْكِهَا. وَالشَّكّ في تَركِ الوَاجِبِ: لا يُوجِبُ السُّجُودَ. وإِذَا حَصَلَ له الشَّكُّ: بَنَى عَلَى اليَقِينِ وَهُوَ الأَقَل تَسَاوَى عِندَهُ الأَمرَانِ أو غَلَبَ أحَدُهُما أَمَّا مَا كَانَ أَو غَيرُه هَذَا المذهَبِ. وعن أحمد: يَبني عَلَى اليَقِينِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عندَهُ غَلبَة ظَنّ فيأخُذُ بغَلَبَةِ

(1/96)


ظَنِّهِ، وهَذَا القَولُ هُوَ الَّذِي تدلّ عَلَيْهِ اَلنُّصُوص الشَّرعِيَّةُ. فَهَذِهِ أسبَابُ سُجُودِ اَلسَّهْو وتَفَاصِيلُهَا لا يَشِذ عَنهَا شَي. وحَيثُ وَجَبَ عَلَيهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَو شُرِعَ لَهُ: فَهُوَ مُخَيَّرَ إنْ شَاءَ جَعَلَهُ قَبل اَلسّلام، وإِنْ شَاءَ بَعدَهُ، واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم. حكم اَلسُّجُود عَلَى حائِل 28- مَا حُكمُ السُّجُودِ عَلَى حَائِلٍ؟ الجواب: السُّجودُ عَلَى حَايل ثَلاثةُ أنواعٍ: مَمنُوعٌ، وجَائِزٌ، ومَكرُوة. فالممْنُوعُ: إِذَا جَعَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ سُجودِهِ عَلَى بَعْضٍ كَأَنْ يَجْعَلَ يديه أَوْ إحْدَاهُمَا على رُكْبتَيْهِ أَوْ يسجُدَ بجبهتِه عَلَى يَدَيهِ أو يَضَع إِحدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى. فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ مبطل للصَّلاةِ؛ لأَنّ اَلسُّجُود عَلَى اَلأَعْضَاء السَّبْعَةِ رُكْن. وَفِي هَذِه الحَالِ تَرَكَ منها ذَلِكَ العُضو وصَارَ الحكم للعضوِ السَّاجِد. وأَمَّا الحائِلُ المكرُوهُ: فأَنْ يَسْجُدَ عَلَى ثَوبه المتَّصِلِ بِهِ أَو عمَامَتِه مِن غَيرِ عُذرٍ. وأَمَّا اَلْجَائِز: فإِذَا كَانَ الحَائِلُ غير مُتَّصِلٍ بالإِنسَانِ فَدخَلَ في ذلك الصَّلاة على جَميعِ مَا يُفرَشُ مِنَ الفُرُشِ المباحَةِ.

(1/97)


سترة المصلي 29- ما حُكْم ستْرَةِ المصلي؟ الجواب: لها حُكمانِ: 1 - حُكم فِي حَقِّ اَلْمُصلِّي. 2 - وَحُكْمٌ في حق المار. أَمّا اَلْمُصْلِي: فَيُسَنّ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى سترَةٍ شَاخِصَة، وَيَدْنُوَ مِنْهَا، وَيَجْعَلَهَا يمينَه أَو يَسَارَهُ، فإِن لم يَجِد شَاخِصًا خَط خَطًّا. وفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ: مِنهَا: اتبَاعُ السُّنَّةِ وطاعَةُ اللَّهِ ورَسُولِه. ومِنهَا: أَنهُ يردُّ البَصَرَ عن مُجَاوَزَتِه فيمنعُ القَلبَ من الالتِفَاتِ، ولها فِي هَذَا المعنَى خَاصِّيَّة عَجِيبَةٌ. ومنها: اُنْهُ يُفِيدُهُ أَنَّه لا يَقْطَعُ صَلاتَه، ولا ينقصُهَا مَن مَرَّ ورَاءَها؛ فإِن مَرّ أَحَدٌ دونَهَا نقص صَلاته إِلا أَنْ يَكُونَ المارّ امْرأَةَ أَو حِمَارًا أَو كَليًا أسودَ بهيمًا فإنَّه يبطِلُهَا، كما صَح به الحدِيثُ.

(1/98)


والمشهُورَ: أَنَّ المرأَةَ والحِمَارَ لا يُبطِلانِهَا، لكن الأَوَّلَ أَوْلَى. وأمَّا في حُكمِ المارِّ: فيحرُمُ اَلْمُرُور بين المصَلِّي وسترَتِه. فإِنْ لم يَكُن سُترَة، فإذَا مرُّ وبين يَدَيهِ نَحوَ ثَلاثَةِ أذرُعٍ، فَإِنهُ يَأثَمُ المار إِثمًا عَظِيمًا إِلاَّ أَنْ يُصَلِّيَ في مَوضِعٍ يحتَاجُ النَّاسُ إِلَى المرُورِ فِيهِ أو في المسجِدِ الحرَام خُصُوصًا فيما قَرُبَ مِنَ البَيتِ. والصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُقَيدُ ذلك بالحَاجَةِ، والحاجَةُ تختَلِفُ بحسَبِ كَثرَةِ النَّاسِ في البَيتِ اَلْحِرَام وقِلَّتِهِم. وإِذَا مَرّ بَينَ يَدَيهِ في الحَالَةِ الَّتِي لا يَجُوزُ لَه المرُورُ، دَفعَهُ عَنه بالأَسهَلِ فالأسْهَلُ. الحالَةُ الّتِي يسْقط فِيهَا شَيء مِنَ الأركَانِ في الصَّلاةِ مَعَ اَلْقُدْرَة 30 - مَا هِيَ الحالَةُ الَّتِي يَسْقُط فِيهَا شَيء مِنَ الأركَانِ في الصَّلاةِ مَعَ القُدرَةِ؟ الجواب: يَسقُط القِيَامُ عَنِ المأمُومين: - إذا صَلَّى بِهِمُ الإِمَامُ اَلرَّاتِب جَالِسًا لعجزه عَنِ القِيَامِ فَيُشْرَعُ لَهُمُ الجلوس وهُوَ أولَى مِنَ القِيَامِ إِلاَّ إِذَا ابتَدأَ بِهِم الصَّلاةَ قَائمًا. - ويسقط بالمداواة إذا كان القيام يمنع الحصول المقصود. - ويسقط أيضًا إذا خاف عدوا ينظر إليه إذا قام.

(1/99)


- وتَسقُطُ الفَاتِحة عَنِ المأمُومُ إِذَا جَهَرَ إِمَامُهُ فيتحمَّلُهَا الإِمَامُ عَنهُ. - ويَسقُطُ القِيَامُ أيْضًا للعريان على المذْهَبِ. والصَّحِيحُ: عَدَمُ السُّقُوط لِعَدَمِ الدَّلِيلِ على سُقُوطِه. - وكَذَلِكَ على المذهَبِ إِذَا قَدَر أَنْ يُصَلِّي في غَيرِ الجمَاعَةِ قَائمًا وإِذَا حَضَرَ الجَماعَةَ لم يقدر على القِيَامِ. فالمذهب: أنه يُخَيَّرُ. وقِيلَ: يُقَدّمُ القِيَامَ. وقِيلَ: يُقَدِّمُ صَلاةَ الجَماعَةِ وَهوَ أولَى؛ لأنَّ القِيَامَ فِي حقِّه يَصِيرُ غَيْرَ رُكْنٍ لعَجزِهِ عَنهُ، ويُدرِكُ الجماعَةَ الَّتي لا تُعَدُّ مَصَالحِهَا. السُّوَرُ والآياتُ المخصوصةُ المشروعة قراءتها في الصَّلاة 31- مَا هِي السُّوَرُ وَالآيَات المخصوصة المشْرُوعَةُ قراءتها في الصَّلاة؟ الجواب: يُشْرَعُ قِرَاءَةُ ? قُلْ يا أيهَا الكَافِرُونَ ? بَعدَ الفَاتِحَةِ في اَلرَّكْعَة اَلأُولَى، وفي الثَّانِيَةِ: ? قُل هُو اللَّه أَحَد? في سُنَّةِ الفَجرِ، وكَذَا المغْرِب وآخر اَلْوتْر، وسُنَّة الطَّوَافِ.

(1/100)


ويُشرَع أيْضًا في: ركعَتَي الفَجرِ في اَلرَّكْعَة اَلأُولَى بَعْدَ الفَاتِحَةِ ? قُولُوا آمَنَّا بِأَلَلِهِ) [البقرة: 136] إِلَى آخِرِ اَلآيَة، وفي الثَّانِيَةِ ? قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبينكم ? الآية [آل عمران: 64] . وَيُسَن: أن يَقرأَ في فَجرِ الجمعَةِ ? الم تنْزِيلُ) السَّجْدَةُ، وفي الثَّانِيَة ? هل أتى على الإِنْسَانِ ?. وفي صَلاةِ الجمعَةِ: سبَّح والغَاشِيَة، أَوْ سُورةَ الجمعَةِ والمنَافِقين. وفي العيدين: بـ ? ق وَالْقُرْآن المجيدِ ?، وَ? اقْتَرَبَتْ الساعة ? أو بـ (سبح والغَاشِيَةْ) . فهذه الصَّلَواتُ الَّتي خُصِّصَتْ فِيهَا هَذِه اَلسُّوَر والآيَاتُ لِحِكَمٍ لا تخفَى على مَنْ تَدَبَّرهَا مَعَ جَوَازِ قراءَةِ غيرِهَا. الَّذِي يَجُوزُ مِنَ الصلوات أَوْقَات اَلنَّهَى 32- مَا الَّذِي يَجُوزُ مِنَ الصَّلَوَاتِ أَوقَاتَ النَّهيِ. الجوَابُ: يَجوزُ فِيهِ:

(1/101)


1- الفَرَائضُ. 2 - والمنذورَات. 3- وسُنَّةُ الظهْر إِذَا جَمَع بينهَا وبين العَصْرِ. 4- وإِعادة جَمَاعَةٍ أُقِيمَتْ وَهُوَ في المسجِدِ على المذهَبِ. وعَلَى الصَّحِيحِ: وَلَو أقِيمَتْ وَهُوَ خَارِجُ اَلْمَسْجَد. 5- وسُنَّة الطَّوَافِ. 6- وإِذَا دَخَلَ والإِمَامُ يَخْطُبُ. 7- وكَذَلِكَ على الصَّحِيحِ ذَوَات اَلأَسْبَاب. الذي تَجِب عليه الجماعَةُ والجمعة. 33- مَنِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيهِ الجماعَةُ والجمعةُ؟ الجواب: تجبُ الجماعَةُ على: الذكُورِ، المكلَّفين، القَادِرِينَ. ويُشْتَرَطُ أيضًا في وجوبِ الجمعَةِ: أَنْ يَكُونَ مُستَوطنًا بقرية. وهَلِ اَلْحُرِّيَّة شَرطٌ لِوُجُوبِ الجُمْعَةِ والجَمَاعَةِ؟ عَلَى فَولَين: المذهَبُ مِنهُما اشتِرَاطُهَا، فَلا تَجِبَانِ عَلَى عَبد مَمْلُوك لاشْتِغَاله بخدمَةِ سَيِّدِه. والصَّحِيحُ: وُجُوبُ جميعِ التَّكالِيفِ البَدَنِيَّة على المكَلَّفين مِنَ الأَرِقاءِ جَماعَةً أو جُمعةَ أو غَيرهما؛ لأَنَّ النُّصُوصَ الموجِبَةَ لِذَلِكَ تتنَاوَلُ الأَرِقاء

(1/102)


كما تَتنَاوَلُ الأحرَارَ؛ ولأَنّ وُجُوب الصَّلاةِ والصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَخْتَلِف النَّاسُ أَنَّهَا شَامِلَة للصِّنفَيْنِ، فكَذَلِكَ يجب أَنْ تَكُونَ الجُمعَةُ والجمَاعَةُ. وقَولهم: (العَبدُ مَشغُولٌ بخدمةِ سَيِّده) . يُجَابُ عَنْه: بأنه لا طَاعَةَ لمخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخالِقِ، والخِدمةُ الوَاجِبَةُ لَلسِّيد مؤخرةٌ عَن حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فالعَبدُ وَسَيِّدُه دَاخِلانِ في رِقِّ التَّكلِيفِ. أمَّا العِبَادَاتُ الماليَّةُ كالزَّكَاةِ وَالحجِّ حَيْثُ احتَاجَ للمَالِ والكفارَاتِ والنُّذُورِ اَلْمَالِيَة، فالعَبدُ فِيهَا في حُكم المعسِر؛ لأنهُ لا يَملِك ولو ملَّكَهُ اَلسِّيد، فالمالُ الَّذِي بِيَدِه لَلسِّيد يتعلَّقُ بِالسِّيدِ أحكامه، واللَّهُ أعلمُ. ما يقضيه المسبوقُ هَل هوَ أول صَلاتِه أو آخرها؟ 34- الَّذِي يقضيه المسبُوقُ هَلْ هُوَ أوَّلُ صَلاتِه أوْ آخرها؟ الجواب: لَيسَ بأوَّلِهَا في ابتِدَاءِ النِّيَّةِ وتَكبِيرَةُ الإِحرَامِ قَولاً وَاحِدَا. وكَذَلِكَ: إِذَا أَدرَكَ المسبوقُ مِنَ الثُّلاثيَّةِ أَو الرُّبَاعِيَّةِ رَكعَةً فإِنَّه إذَا قَامَ يَقضِي مَا عَلَيهِ، لا يسردُ رَكْعَتين بَل يُصَلِّي ركعَة، ثم يَجلسُ للتشَهُّدِ ثمَّ يتمّ مَا عَلَيهِ. ومَا سوَى هَذِه الصَّوَرِ الثَّلاثِ: فِيهَا قَولانِ في المذهَبِ، هما رِوَايتَانِ عَنِ الإِمامِ أَحمد، المشهورُ عِندَ المتَأَخِّرينَ أنَّ مَا يَقضِيهِ أَوَّلُ صَلاتهِ فيَستَفتِحُ له، ويَستَعِيذُ، ويَقرَأُ مَعَ الفَاتِحَةِ غَيرَهَا، وهَذَا لأَنّ آلْقَضَاء

(1/103)


يَحكِي الأدَاءَ، فيقتَضِي أَنَّ الَّذِي يَقضِيهِ يَكُونُ بصفَةِ مَا فَاتَهُ سِوَى الصُّورِ المتقدِّمَةِ. هَذَا حُجة هَذَا القَولِ. وأَمَّا استِدلالُ بَعْضِهِم بأنّ فِي بَعضِ أَلفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرةَ: «فَمَا أَدْرَكْتُم فَصَلَّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» . فليسَ الاستِدلالُ صحيحًا؛ لأنَ القَضَاء بمعنى الإِتمامِ كَما هُوَ طَرِيقَةُ الكِتَابِ والسُّنَّةِ. والقَولُ الآخر: أن اَلَّذِي يَقضِيه هُو آخِرُ صَلاتِه. وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدل عَلَيهِ الأَدِلَّةُ والأُصُولُ والوَاقِعُ، فإِنّ اَلْحَدِيث صَح بِلا شَكّ قوله: «وَمَا فَاتَكُمْ فأتموا» ، والإتمامُ بِنَاءُ الآخرِ على الأوَّلِ وتَتمِيمُه لَهُ، ولفظَةُ: «فاقضُوا» بمعنَاهَا. ويَدلّ عَلَى ذَلِكَ: الصُّوَر السَّابِقَةُ فَلَوْ كَانَ مَا يَقْضِيهِ أَوْل صَلاته لَوَجَبَ عَلَيهِ ابتدَاءُ النيةِ وتَكبِيرَةُ الإِحْرامِ في قَضَائه. وأَيضًا: هَذَا خِلافُ الوَاقِع فَليسَ آخر الشَّيءِ هُوَ أوله، لكن قَالَ بَعْضُ القَائِلينَ بِهَذَا القَولِ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ أُولَتِي الرُّبَاعِيَّةِ أَو الثُّلاثِيَّةِ فَرَأ مَعَ الفَاتِحَةِ اسْتِدْراكًا للقِرَاءَة الفَائِتَةِ، وهَذَا قَول حَسَنٌ.

(1/104)


إذَا سَبَقَ اَلْمَأْمُوم إِمَامَهُ فما حُكمُ ذَلِكَ 35- إذَا سَبَقَ اَلْمَأْمُوم إِمَامَهُ فما حُكمُ ذَلِكَ؟ الجواب: المشرُوعُ أنَّ المأمُومَ لا يَشْرَعُ فِي رُكْنٍ حَتَّى يَصِلَ إِمَامُهُ إِلَى الرُّكنِ الَّذِي يليه كَمَا دَلَّتْ عَلَيهِ الأحَادِيثُ، وعَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّه عَنهُم. وأمَّا سبقُ المأْمومِ لاٍمَامِهِ: فهذَا مُحَرَّم، منهِي عَنهُ، مُتَوَعِّد عَلَيهِ بالعقُوبَةِ، كما قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَع رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أن يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رأس حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ» . وقال: «إنما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَم بِهِ» . والحديثَانِ في الصَّحِيحين. وأمًّا حُكْمُ سَبْقِهِ لَهُ، فلا يَخلُو الحالُ: - إِمَّا أَن يَكُونَ السَّبْقُ عَمدًا. - وإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَهلاً أَو نسيانًا. فالعَمدُ: يبحَثُ فيه عَنِ الإثمِ، وعَن بُطلانِ اَلرَّكْعَة، وبُطلان الصَّلاةِ. والجهلِ والنِّسيَانِ: إنما يُبحَثُ فِيهِما عَن بُطْلان الركعَةِ فَقَط.

(1/105)


وبيان ذَلِكَ: أَنَّه إِن سَبَقَهُ عَمْدًا ذَاكِرًا بِرُكْنِ الرُّكوعِ أَو بِرُكنَينِ غَير الركُوعَ؛ فإن صِلاته تَبْطُلُ بمجرّدِ هَذَا السَّبقِ. مِثَالُ سَبقِهِ بِرُكنِ: الرُّكُوع أَن يَركَعَ المأمومُ، ويَرفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ قَبلَ أَن يَصِلَ الإِمَامُ للرُّكُوعِ. ومثَالُ السَّبقِ بِرُكْنين: أَن يَسجُدَ المأمُومُ قَبْلَ سُجُودِ إِمامِه ثُم يرفع ثم يسجُدُ السَّجدَةَ الثَّانِيَةَ قبل أن يَصِلَهُ الإِمَامُ: فهذَا تَبطُلُ صَلاتُه ويُعِيدُهَا مِن أوَّلِهَا. وإنْ سَبَقَه بِركنٍ غَيرِ ركُوعٍ أَو إِلَى رَكْن الرُّكُوعِ بأَنْ رَكَعَ مثلاً قبل رُكُوعِ إِمَامه: فَهَذا عَلَيه أَنْ يَرجِعَ ليَأتيَ بالرُّكُوعِ بَعدَ إِمَامِه. فَإنْ لَم يَفعَلْ حتَّى أَدرَكَهُ الإِمَامُ فيه: بَطُلَتْ صَلاتُه. وَلا تَبطُلُ صَلاتَهُ بِمُجَرَّد هَذَا السَّبقِ إِلى رُكْن الرُّكُوعِ أَو برُكنٍ وَاحِدٍ غيرِ الرُّكُوعِ عَلَى المذهَب. وعَن أحمَد مَا يَدُلُّ على بُطلانِ صَلاتِه بِمُجَرَّد السَّبقِ وَهُوَ ظَاهِرُ الأَدِلَّةِ. فَهَذَا حُكمُ المتعمِّد. وأَمَّا إِذَا وَقَعَ السَّبقُ نِسيَانًا أو جَهلاً: فَلا يَخلُو: إِمَّا أَنْ يَرجِعَ فِيَأتِي بما سُبِقَ بِهِ مَعَ الإِمَامِ، أَوْ لا. فإِنْ رجعَ: صَحَّتْ رَكْعَته مطلقًا سَوَاءً كان السَّبقُ إِلى رُكْنٍ أَو بِرُكْنٍ أَوْ بركنين أَوْ أَكثر.

(1/106)


فإنْ لم يرجِعْ حَتَّى لحَقَهُ الإِمَامُ: فإِنْ كَانَ سَبقُه إِلَى رُكنِ الركُوع، بأن رَكَعَ سَاهِيًا أو جَاهِلاً فبل إمَامِه ثُمَّ رَكَعَ الإمَامُ والسَّابِقُ في رُكُوعِه: صَحَّت رَكْعَته واعتَدّ بِهَا ومِثلُه: السَّبق بِرُكنٍ وَاحِدٍ غَيرِ الرُّكُوعِ. وإِن كَانَ السَّبق بِرُكنِ الرُّكوعِ أو بِرُكنَينِ غَيرِ الرُّكوع: - فَإن رَجَعَ قَبْلَ وُصُولِ الإِمَامِ له: صَحتْ أيضًا رَكْعتُه. - وإِنْ لحَقَه الإِمَامُ: لغت الركعَة الَّتِي وَقَعَ فيها السَّبقُ. هَذَا تَفصِيلٌ جَامِعٌ لأَحْوَالِ اَلْمُسَابَقَة، وَقَدْ تبَيَّنَ: أنَّ الجَاهِل لا تَبطُلُ صَلاتُهُ على كُلِّ حَالٍ، وكَذَلِكَ النَّاسِي، وإنما التَّفصِيلُ المذكُورُ في رَكعَتِهِ هَل يُعْتَدَّ بِهَا أَمْ لا؟ اَلصِّفَات المعتَبرَةُ فِي الإمَام فِي اَلصَّلاة اِشْتِرَاطًا وأَوْلَويَّة 36- مَا هِيَ الصِّفَاتُ المعتَبرَةُ فِي الإِمَامِ فِي الصَّلاةِ اشْتِرَاطًا وأَوْلَوِيَّةً؟ الجواب: إِذَا جَمَعَ الإِمَامُ خَمْسَةَ أُمُورٍ: 1- اَلذُّكُورِيَّة. 2- والتَّكلِيفُ. 3- والإِسْلامُ. 4 -والعَدَالَةُ. 5- والقُدرَةُ عَلَى جَمِيعِ شُرُوط الصَّلاةِ وأَرْكَانِهَا: صَحَّتْ إِمَامَته في كُلِّ الأَحْوَالِ إِلا الجمعة فيُشتَرَطُ مَعَ الخمسَةِ: 1- اَلْحُرِّيَّة. 2- والاستِيطَانُ في القَريَةِ. فَإِنِ اخْتل مِن هَذِهِ الأُمُورِ شيْء:

(1/107)


- فَإِمَّا أن لا تَصِح صَلاتُهُ وإمَامَتُه كالكَافِرِ. - وإِمَّا أَنْ تَصِح صَلاته دُونَ إِمَامَتِه كالفَاسِقِ. - وإمَّا أَنْ تَصِح إمَامَتُهُ في النَّفلِ مُطلقًا، وفي الفَرضِ بمثلِهِ كالصَّبيِّ المميَّزِ. - وإِمَّا أَنْ تَصِح إِمَامَتُه بمثْلِهِ فَقَطْ، كَالْمَرْأَةِ والعَاجِزِ عَن شَيْء مِنَ اَلأَرْكَان وَالشُّرُوط. ويُستَثنَى: الإمَامُ اَلرَّاتِب، إِذَا عَجَزَ عَنِ القِيَامِ فَتَصِح إِمَامَتُه بالقَادِرِينَ عَلَيهِ. وكَذَلِكَ: اَلرَّقِيق، والمسَافِرُ، وغَيرُ المتَوَطِّنِ: لا تَصِحُّ إمَامَتهُم في الجُمعَةِ. هَذَا اَلتَّفْصِيل المذكُورُ هُوَ المشهُور في المذهَبِ. وفِيهِ قَولٌ آخرُ: وَهُوَ الأَصَحُّ دَلِيلاً: أنَّ كُل مَن صَحَّتْ صَلاتُهُ لِنَفسِهِ صَحَّتْ إمَامَتُه، بَلْ مَن لم تَصِح صَلاتُهُ لنفسِه إذا لم يَعلم به اَلْمَأْمُوم حتَّى فَرغَ فَلا إِعَادَةَ. وَلَيسَ ثَمّ دَلِيل يَجِبُ المصِيرُ إِلَيهِ في إبطَالِ إِمَامَةِ الفَاسِقِ والعَاجِزِ عَنِ اَلشُّرُوط والأَرْكَانِ والصَّبيُّ البَالِغُ بل عُمُومُ اَلأَدْلَة تدلُّ على جَوَازِ ذَلِكَ: وَالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في أَئمَّةِ الجورِ: «يُصَلُّونَ لَكمْ فإِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ وَلَكمْ وَإِنْ أَخْطئوا فَعَلَيْهِمْ وَلَكمْ» .

(1/108)


والعَاجِزُ عَن وَاجِبَاتِ الصَّلاةِ لا يَصِيرُ مُخِلاًّ بِوَاجِبٍ عَلَيهِ، فَكَما أنهُ مَعْذُور؛ فالمصلِّي خَلفَهُ كَذَلِكَ. وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤم القَوْمَ أَقْرَؤهُم لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِن كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُم بِالسَّنَّةِ فَإِن كَانُوا بِالسُّنَّةِ سَوَاءً فَأقْدَمُهُمْ هِجْرَة» - وَهُوَ في الصَّحِيحِ - يتناول العَدلَ، والفَاسِقَ، والحرُّ، والعَبْدَ، والكَبِير وَالصَّغِير، والمسَافِرَ، والمقِيمَ، والجُمعَةَ، والجَماعَةَ، والقَادِرَ، عَلَى جَمِيعِ اَلأَرْكَان والشُّروطِ والعَاجِزُ عَن بَعضِهَا. وَقَد أَمَّ عَمرو بن سَلمَةَ قَومَهُ وَهُوَ ابنُ سَبعِ سِنين في زَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. هَذَا في صِحَّةِ الإِمَامَةِ بَل فَقَط بِقَطعِ النَّظَرِ عَن اَلأَوْلَوِيَّة. وأَمّا مَن هُوَ أَولَى بالإِمَامَةِ: فاعلم أَنَّ جَمِيعَ الوِلايَاتِ والتَّقدِيمَاتِ الشَّرعِيَّةِ يُنظَرُ فِيهَا إِلَى مَن هُوَ أقوَمُ بمقاصِدِ تِلكَ الوِلايَةِ، وأعظَمُهُم كَفاءَةً وقُدرَةً عَليهَا وَمِنهَا الإِمَامَةُ. وقَد فَصَّلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا الأَمرَ فِي الحَدِيثِ السَّابِقِ، وجَعَلَ العِلمَ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والدِّين هي أولَى مَا يُقَدَّمُ بِهِ الإِمَامُ. فمن جَمَعَ القِرَاءَةَ والعِلمَ والدِّينَ فَهُوَ أَحقُّ بالإِمَامَةِ. فَإِن اِشْتَرَكَ اثنَانِ فأكْثَر فِي هَذِه الصِّفَاتِ، فَالْمُتَمَيِّز مِنهُما وَالرَّاجِح

(1/109)


يُرجّحُ، والتَّرجِيحَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ فد ذَكَرَهَا الفُقَهَاءُ. ومَعَ الاستوَاءِ في وُجُودِهَا أو عَدَمِهَا الأَسَن، وهَذَا في ابتِدَاءِ الأَمرِ، وَإِلاّ مَنْ كَانَ مُتَرَتِّبًا في مَسجِدٍ أو في بَيتِه فَهُوَ أحق بالإِمَامَةِ مِن غَيرِهِ، وإنْ كَانَ الغَيرُ أَفضَلَ مِنهُ بِتِلكَ الصِّفَاتِ. وَهَذَا مُطَّرِدٌ في جَمِيعِ الوِلايَاتِ والوَظَائِفِ الدِّينيَّةِ إذَا كَانَ المتولَّي لها غَيرَ مُخِلِّ بمقصُودِهَا، فَلا يُفتَاتُ عَلَيهِ ويُقَدَّمُ غَيرُه وَلَو أَفضَل مِنهُ. وأمَّا الَّذِي يُعتَبرُ التقدِيمَ بهِ في الفَضلِ في الصِّفَات المقصُودَة ففي ابتِدَاءِ الأَمرِ لا في استِمرَارِهِ ودَوَامِه، فَلا تُؤْخَذُ أَحكَامُ الابتِدَاءِ مِن أَحْكَامِ الدوامِ وَلا بِالعَكسِ، واللَّهُ أعلَمُ. مَا الَّذي يُعْتَبَرُ في اقتداء اَلْمَأْمُوم بإمَامِهِ؟ 37- مَا الَّذي يُعْتَبَرُ في اقتِدَاءِ اَلْمَأْمُوم بإمَامِهِ؟ الجواب: الشَّرْط الَّذِي لا يختَلِفُ العُلَمَاءُ فِيهِ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اَلْمَأْمُوم مُتَابَعَةَ إِمَامِهِ، فَلابِد مِن هَذَا الشَّرطِ وإِمْكَانُ مُتَابَعتِهِ بِرُؤيَةٍ للإِمَامِ أَو لمن خَلفَهُ أَو سَمَاعِ صَوتِهِ أَو صَوتِ المبلِّغِ عَنهُ. فمتَى فُقِدَ هَذَا الشَّرط: لم يَصِحّ الافتِدَاءُ. ومتَى وُجِدَ والإِمَامُ والمأْمومُ في المسجِدِ: لم يُشتَرَطُ غَيرُه. فإِن كَانَ أَحدُهُما خَارِجَ المسجِدِ: فَلابِد مِن رُؤيَةِ المأمُومِ لِلإِمَامِ أو لمن خَلفَهُ وَلَو في بَعضِ الصَّلاةِ.

(1/110)


وَلا بُدَّ أَيضًا: أَن لا يَكُونَ بينهُمَا طَرِيقٌ مَسلُوك، أو نَهرٌ تَجرِي فيهِ السُّفُنُ عَلَى المذهَبِ. والصّحِيحُ: عَدَمُ اعتِبَارِ اَلأَمِرِينَ. وَهُوَ أَحَدُ القَولَينِ فِي المذهَبِ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ على إِيجَابِ ذَلكَ مَعَ إِمكانِ الاقتِدَاءِ، ولعَدَمِ المانِع في مَوضِعِ صَلاتِهِمَا، فَلا يَضُرُّ الحائِلُ المانِعُ هَذَا مَعَ قَولِنَا: إِنَّ اَلصَّلاة لا تَصِحُّ في الطَّريقِ. وإِن قُلنَا بصحَّتِها، وهُوَ الصَّحِيحُ. فالأمرُ وَاضِحٌ. مَوقِفِ المأمُوم مَعَ إمَامِهِ في الصَّلاةِ؟ 38- في مَوقِفِ المأمُومِ مَعَ إمَامِهِ في الصَّلاةِ؟ الجوابُ: الموقِفُ أربعة: وَاجِبٌ، ومندُوبٌ، وجَائزٌ، وممنُوعٌ. أَمَّا المندُوبُ: - فَهُو وقُوفُ المأمُومِينَ إذا كَانُوا اثنين فأكثَرَ خَلفَ الإمَامِ. - ووُقُوفُ المرأَةِ الوَاحِدَةِ خَلفَ اَلرَّجْلِ. والجَائِزُ: - وُقُوفُ اَلْمَأْمُومِينَ جَانِبِيّ الإِمَامِ أو عَن يَمينه. - ووقُوف المرأةِ عَن يَمينِ الرجُلِ. واختُلِفَ فِي: الوُقُوفِ عَن يَسَارِ الإمَامِ مَع خُلُوِّ يمينِه.

(1/111)


والمذهَبُ: أنَّه مَمْنُوع. والصَّحِيحُ: أنَّه مِنَ الجَائِزِ. وإِدَارَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ابن عَباسٍ لما وَقَفَ عَن يَسَارِه إلَى يَمينِه يَدُلُّ على استِحبَابِ ذَلِكَ، واستِحبَابِ اَلْإِدَارَة لا وُجُوبهَا؛ لأنَّ فعله - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على النَّدبِ. والموقِفُ الوَاجِبُ: - وُقُوفُ الرجُلِ الوَاحِدِ عَن يَمينِ إمَامِه. والموقِفُ اَلْمَمْتُوعُ: - وُقُوفُ الرجُلِ وَحدَهُ خَلفَ الإمَامِ أو خَلفَ الصَّفِّ مُطلَقًا، عَلَى المذهَبِ. وعلى اَلقَوْلِ اَلثَّانِي: في حَالِ إِمكَانِ اصطِفَافه. فَإن لم يمكنه بأن لم يجدْ في الصَّفِّ مَكَاناً: سقَطَ عَنهُ وجُوبُ الاصطِفَافِ، ووقَفَ وَحدَهُ. وإمَامُ العُرَاةِ: يَقِفُ بينهُم وجُوبًا. والمرأَةُ إذا أَمّتِ النِّساءَ: تَقِفَ وَسطهن اِسْتِحْبَابًا.

(1/112)


فَإِن وقَفَ مَعَهُ من يَعلَمُ عَدَم صحَّةِ صَلاتِه: فَهُوَ منفَرِدٌ. وإنْ وَقفَ مَعَهُ محدثٌ أو نَجِسٌ لا يَعلَمُ مِنهُ ذَلك: فالاصطِفَافُ صحيحٌ. وإن وَقَفَ مَعَهُ صبي وَهُوَ رَجلٌ: لم يَصِحّ عَلَى المذهَبِ. وعَلَى القَولَ الصحِيحِ: يَصِحُّ. والله أعلم. رخص السفر 39- عن رُخَصِ السفر مَا هِيَ؟ الجوابُ: من قَوَاعِدِ الشَّريعةِ: (المشقة تَجلِبُ اليُسرَ) . ولما كَانَ السَّفَرُ قِطْعَة مِنَ العَذَابِ - يمنع العَبدَ نَومَهُ ورَاحتَهُ وقَرَارَهُ - رتب الشَّارِعُ عَلَيهِ مَا رتبَ مِنَ الرُّخَصِ حتَّى وَلَو فُرِضَ خُلوُّهُ عن المشقاتِ؛ لأَنَّ الأَحْكَامَ تُعلَّقُ بعللها العَامةِ، وإِن تخلَّفت في بَعضِ الصُّورِ والأَفرَادِ. فالحكمُ الفَردُ يُلحَقُ بالأَعَمِّ، ولا يُفْرَدُ بالحكمِ، وهَذَا معنى قَولِ الفُقَهَاءِ: (النَّادِرِ لا حُكمَ لَهُ) .

(1/113)


يعني: لا يُنقِصُ القَاعِدَةَ، ولا يُخَالِفُ حُكمُهُ حُكمَهَا. فهذَا أَصلٌ يَجِبُ اعتِبَارُه. فأعظَمُ رُخَصِ السفر وأَكْثرُهَا حَاجَةً: القَصرُ، وَلذَلِكَ لَيسَ لِلقَصرِ مِنَ الأَسبَابِ غَيرُ السَّفَرِ، وَلِهَذَا أضِيفَ السَّفَرُ إِلَى القَصرِ لاختِصَاصِه به، فتُقْصَرُ الرُّباعِيَّةُ مِن أَربِع إِلَى رَكعَتين. وَمِن مَعَانِي القَصرِ: قَصرُ أَرْكَانِ الصَّلاةِ وهَيئَاتِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ الفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ قصارِ اَلْمُفَصَّل (الفجر) : لا ينبَغِي إلا في السَّقَرِ. وَمِنْ رُخَصِه: الجَمْعُ بين الظُّهرِ والعَصرِ، والمغرِبِ والعِشَاءِ في وقتِ إحدَاهُمَا. والجمعُ أَوسَعُ مِنَ القَصْرِ، وَلِهَذَا له أَسبَابٌ أُخرُ غَيرُ السَّفَرِ كَالْمَرَضِ والاستِحَاضَةِ، ونَحوهَا مِنَ الحاجَاتِ، والقصر أَفضل من الإِتمام بل يُكْرَه الإتمام لغير سَبَب. وأَمَّا الجمعُ في السَّفَرِ: فالأَفضَلُ تَركُه إِلا عِندَ الحاجَةِ إلَيهِ أَو إِدرَاكِ الجَماعَةِ به، فإِذَا اقترنَ بِه مَصلَحَةٌ جَازَ. ومَن رُخَصِ السّفَرِ: الفِطرُ في رَمَضَانَ.

(1/114)


وَالصَّلاةُ النَّافِلَةُ عَلَى الرّاحِلَةِ إِلَى جِهَةِ مَميرِهِ. وَكَذَلِكَ المتنفِّل الماشِي. ومِنهَا: المسْحُ عَلَى الخفين، والعِمَامَةِ، والخمارِ، ونَحوِهَا، ثَلاثَةُ أيَّامٍ بِلَيَالِيهَا. وأَمَّا اَلتَّيَمُّم فَلَيسَ سَببه السَّفَر، وإنْ كَانَ الغَالِبُ أَنَّ الحاجَةَ إِلَيهِ في السَّفَرِ أكثر مِنهُ في الحَضَر. وَلَعَلِّ هَذَا السَّببَ في ذكر السَّفر في آية التَّيمُّم: ? وَإِن كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ على سَفَرٍ ? [المائدة: 6] الآية. وإنما سَبَبُ التَّيَمُّم: العَدَم للمَاءِ أو الضرر باستِعمَالِه. قَالَ تَعَالَى ? فَلَم تجدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ? [المائدة: 6] . وكَذَلِكَ أَكلُ الميتَةِ للمضطَرّ عَامّ في السَّفَرِ والحَضَرِ، ولَكن الغَالِب وُجُود الضرُورَة في السَّفَر. ومِن رُخَصِ السَّفَرِ أَيْضًا: أنه موسع لِلإِنسَانِ أن يَترُكَ اَلرَّوَاتِب في سَفَرِهِ، وَلا يُكرَهُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّه يُكرَهُ تركُهَا في الحَضَرِ. ومِن رُخَصِ السَّفَرِ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ اَلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ

(1/115)


مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحاً مُقِيمًا» . فالأعمَالُ الَّتِي يعمَلُهَا في حَضَرِهِ مِنَ الأَعمَالِ القَاصِرَةِ والمتعدِّيةِ يجري لَهُ أجرُهَا إِذَا سَافَرَ، وكذَلِكَ إذَا مَرِضَ. فيَالَهَا نعمَةٌ ما أجلَّهَا؟ وأَعظَمَهَا؟. وأَمَّا صلاة الخوف: فليس سببه اَلسّفَر، ولكنَّه فيه أَكْثَر. الأمور التي اشتركت فيهَا الجمعَةُ مع العيدين والتي افترقت 40- مَا هِيَ الأُمورُ الَّتي اشتَركَتْ فِيهَا الجمعَةُ مَعَ العِيدَينِ والَّتي افترقَتْ؟ الجواب: وباللَّهِ الإِعانَةُ والوصُولُ إِلَى ما يحبه وَبَرْضَاهُ. اعلَمْ أنَّ الشَّارِعَ مِن حِكمَتِه، ومحَاسِنِ شَرعِهِ، شَرَعَ للمسلِمِينَ الاجتماعَ للصَّلَواتِ وأنوَاعِ اَلتَّعَبُّدَات. وَهُوَ: إما اجتماعٌ خَاص كاجتمَاعِ أَهْلِ المحالِّ المتقَارِبَةِ لجماعةِ الصَّلَواتِ الخَمسِ. وإِمَّا اجتمَاعٌ عَام يجتَمِعُ فيه أهلُ البَلَدِ في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ للجمعَةِ. وإِمَّا اجْتمَاعٌ أَعَم مِن ذَلِكَ كاجتماعِ أَهْلِ البَلَدِ رجَالهم ونِسَائهم أحرارِهِم وأَرِقَّائِهم في الأَعيَادِ.

(1/116)


وإِمَّا اجتماعٌ أَعمَّ مِن ذَلِكَ كُلِّه كاجتماعِ المسلِمين مِن جَمِيعِ أَقْطَارِ الأَرضِ فِي عَرَفَةَ ومَنَاسِكِ الحجِّ. وفي هَذِه الاجتِمَاعَاتِ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسْرَار ومَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ ومَصْلَحَةِ الأُمَّة مَالا يُعدُّ وَلا يُحصَرُ. فمنهَا: إِظْهَار شَعَائِرِ الدِّين وبُرُوزِهَا مُشَاهَدًا جمالها عِندَ الموافِقين والمخالِفين، فإِن الدِّين نفسَه وَشَعَائِره مِن أكبرِ اَلأَدلَّة على أَنَّه الحَقُّ، وأَنَّهُ شرعَ لِوُصُولِ الخلقِ إِلَى صَلاح دينهِم ودُنيَاهُم وَصِلاح أخلاقِهِم وأعمَالِهم وسَعَادَتهِم اَلدُّنْيَوِيَّة وَالأُخْرَوِيَّة، فوقُوف الخلقِ عَلَى حَقِيقَةِ دِينِ الإسْلامِ وشرحِه لإِفهام النَّاسِ كافٍ وَحْدَهُ لِكُلِّ مُنصِفٍ قصده الحقيقةُ لمحبته وبَيَانُ أنَّه لا دِينَ إلاَّ هوَ، وأَنَّ ما خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وإِيصَالُ هَذَا المعنَى لأَفهَامِ الخَلقِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِن أَبْلَغهَا وأَجلِّهَا إِظْهَارُ هَذِهِ الشَّعَائرِ، ومَا احتَوَتْ عَلَيهِ مِنَ التَّقَرُّبَاتِ، وأصنَافِ العِبَادَاتِ، ولِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الشَّعَائر عَلمًا على بَلَدِ الإِسْلامِ وظُهُورِ الدِّينِ وعُلُوِّه عَلَى سَائِر الأَديَانِ. ومِنهَا: أَنُّ حَقَائقَ هَذِهِ العِبَادَاتِ لا تَحصُلُ بِدُونِ الاجتِمَاعَاتِ المذكُورَةِ، فالحكَمُ الَّتِي شُرِعَتْ لأَجْلهَا مُتَوَقِّفَةٌ على هَذَا الاجتِمَاعِ. ومِنهَا: أَنَّ اجتِمَاعَ الخَلقِ لهَذِه العِبَادَاتِ مِن أَعظَمِ مَحبُوبَاتِ الربِّ، لما فِيهَا مِن تَنشِيطِ العِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهم، وزِيَادَةِ رَغْبَتهمْ، وتنافُسِهِم في قُربهِ، وحُصُولِ ثَوَابِه، وسُهُولَةِ العِبَادَةِ عَلَيهم وخفتِهَا، وكثرَةِ ما

(1/117)


تَشتَمِلُ عَلَيهِ مِن الانكِسَارِ لعظَمَةِ الرّبِّ، وَالتَّذَلُّل لَهُ والتَّضَرُّعِ وخُشُوعِ القُلُوبِ، وحُضورِهَا بين يَدَي اللَّهِ، واجتمَاعِهِم عَلَى طَلَبِهِم مِن رَبِّهِم مَصَالحهم العَامَّة المشتَرَكَة والخاصة. ومنهَا: مَا في اجتِمَاعِ المسلِمين مِن قِيَامِ اَلأُلْفَة والمودَّة؛ لأَنَّ الاجتِمَاعَ الظَّاهِرَ عِنوَانُ الاجتِمَاعِ البَاطِنِ، وتفكِيرُهُم في مَصَالحِهم، والسَّعيُ للعَمَلِ لها، وتَعلِيمُ بعضِهِم بَعضًا، وتَعَلُّمُ بعضِهِم مِن بَعضٍ. فالعِلمُ الَّذِي لابِد مِنهُ للصَّغِيرِ والكَبِيرِ والذكَرِ والأُنثَى فَد تَكَفلتْ هَذِه الاجتماعَاتُ بحصُولِه. وَلَولا هذه الاجتِمَاعَاتِ لم يَعرِفِ النَّاسُ مِن مَبَادِئِ دِينهِم وأصُولِه شَيئًا إِلا أَفذاذًا مِنهُم. وَلِهَذَا كَانَ الوَافِدُ يَفِدُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويسألُه عَنِ الصَّلَوَاتِ الخَمسِ فَيأمُرُه بحضورِ الصَّلاةِ مَعَه يَومًا أو يَومَينِ ثم ينصَرفُ مِن عِندِهِ فَاهِمًا لِصَلاةِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ: «صَلَوَا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلي» . وَقَد حَج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعدَ فَرضِ الحجِّ مَرَّة وَاحِدَة وَحَجّ مَعَهُ المسلِمُونَ وَقَالَ: «خُذُوا عَنّي مَنَاسِكَكُمْ» . فانصرَفَ النَّاسُ آخِذِينَ عن نَبِيّهمْ - صلى الله عليه وسلم - أحكَامَ اَلْحَجّ الكُلِّيَّة والتَّفصِيلِيَّةِ والتَّعليمُ العَمَليُّ أبلَغُ مِنَ التَّعلِيمِ القَوليِّ، والجمعُ بينهُمَا أكمَلُ.

(1/118)


ومِنهَا: أَن فِي هَذِه الاجتمَاعَاتِ مِن مَعرِفَةِ مَرَاتِبِ المسلِمين، ومَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ العِلمِ والدِّينِ والأخلاقِ، والمحافَظَةِ على الشَّرائِعِ أَو غَيرِ ذَلِكَ مِن أَعظَمِ الفَوَائِدِ المميِّزةِ؛ لتحصُلَ مُعَامَلَتُهُم بحسَبِ ذَلِكَ. وَلَولا هَذَا الاجتمَاعُ لَكانَ نَاقِصُ الدِّينِ قَلِيلُ الاهتِمَامِ به يَتَمَكَّنُ مِن تَركِ شَرَائِعه، وَلا يُمكِنُ إِلزَامُه بهَا، وفي ذَلِكَ مِنْ مَضَرَّته، وَمَضَرَّة العُمُومِ مَا فِيهِ. وفي الجملةِ: فِيهَا مِن صَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا هُوَ مِنَ الضرُورَاتِ الَّتي لا بُدَّ مِنهَا. فَهَذِه الفَوَائِدُ وغَيرُهَا قد اشتَرَكَتْ فِيهَا. وبأنها مِن شُرُوطِ الدِّين وَوَاجِبَاتِه. وبأنها رَكعتَانِ يجهر فِيهِمَا في القِرَاءةِ. وبمشروعيَّة الخُطبَتين فيهمَا. فالَّذِي اشْتَرَكَتْ فيه أَكثَرُ ممَّا افترقت. واستِحبَابُ اَلتَّجَمُّل والتَّطَيُّب وتَبْكِيرُ المأمُومِ إليهِما وتأخر الإِمَامِ إِلَى وَقتِ الصَّلاةِ والاستِيطَانِ والعَدَدِ عَلَى القَولِ بِه. وافتَرقَتْ بِأَشْيَاء بحسَبِ أحوَالِها، وَمُنَاسَبَة الحَالِ الوَاقِعَةِ: فمنها: الوَقتُ: الجمعةُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى وَقتِ العَصرِ عندَ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ وعِندَ الإِمَامِ أَحمد مِن أَوَّلِ صَلاةِ العِيدِ إِلَى وَقتِ العَصرِ، وَوَقتُ العِيد

(1/119)


ِ مِن ارتفَاعِ الشَّمسِ قَيدَ رُمحٍ إِلى قُبَيلَ الزَّوَالِ. ومِنهَا: أَنَّ صَلاةَ الجمعَةِ إِذَا فَاتَتْ لا تُقضَى بَل يُصَلُّونَ ظُهرًا، وأَمَّا العِيدُ فتُقضَى مِنَ الغَد بِنَظِيرِ وَقتِهَا. والفَرقُ: أَن العِيدَ لما كَانَ لا يَتَكَرَّرُ إلاَّ بتَكَرُّرِ العَامِ وَلا يُمكِنُ تَفوِيتُ مَا في ذَلِكَ الاجتِمَاعِ مِنَ المصَالِحِ شُرِعَ قَضَاؤُه، وأَمَّا الجُمعَةُ فتتكرَّرُ بالأُسبُوعِ، فإذَا فَاتَ أسبوعٌ حَصَلَ المقصُودُ بِالآخَرِ، مَعَ حِكمَةٍ أُخرَى وَهِيَ أَنَّ العِيدَ كَثِيرًا مَا يُعذَرُ النَّاسُ بفَوَاتِه؛ لتعلُّقِه بالأَهِلَّة بِخِلافِ الجمعَةِ. ومِنهَا: أَنَّ الجمعَة الخُطبَتانِ قَبَلَهَا والعِيدَينِ بعدَهُما، وفد ذكر الحِكمَة في ذَلِكَ أَنَّهمَا في العِيدِ سُنَّةٌ، وفي الجمعَةِ شَرط لازِمٌ، فاهتَمّ بتَقدِيمه وهَذَا أَيضًا فَرق آخَرُ. ومِنهَا: أَنَّه يُشرَعُ في صَلاةِ العِيدِ تَكبِيرَاتٌ زَوَائِد في أَوَّلِ كُلِّ ركعَةٍ في الأُولَى سِتًّا بَعدَ تَكبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وفي الثَّانِيَةِ خَمسًا بَعدَ تَكبِيرَةِ الانتِقَالِ. ومِنهَا: أَنَّ المشْرُوعَ أَن تَكُونَ صَلاة العِيدَين في الصَّحرَاءِ إِلا لِعُذرٍ، والجُمعَةُ المشرُوعُ أن تَكُونَ في قصَبَةِ البَلَدِ إلاَّ لِعذرٍ. ومِنَ الحِكمَةِ في ذَلِكَ لاشتِهَارِ العِيدِ، وزِيَادَةِ إِظهَارِه، ولاشتِرَاكِ اَلرِّجَال والنِّسَاءِ فِيهِ، وهَذَا أيضًا مِنَ اَلْفُرُوق بينَهُمَا.

(1/120)


ولِذَلِكَ كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُ النِّسَاءَ بالخُرُوجِ للعِيدِ حَتَّى يَأمُرُ ذَوَات اَلْخُدُورِ، وحتَّى يَأْمُرُ الحُيَّضَ لِيُحْضَرْنَ دَعْوةَ المسلِمين، فَإنَّ دعوتَهُم مجتمعةً أقرَبُ للإِجَابَة. كَما أنَّ العِبَادَةَ المشتَرَكَة أفضَلُ مِنَ اَلْمُنْفرِدَة حتَّى فُضِّلَتْ صَلاةُ الجماعَةِ عَلَى صَلاةِ الفَذِّ بِسَبعٍ وعِشرِينَ ضِعفًا. وهَذَا مِنَ المعَاتي المشتَرَكَةِ. ومِنهَا: وُجُوبُ فِطْرِ يَومِ العِيدِ دُونَ الجمعَةِ، فإنَّ إِفرَادَ صَومِه مَكرُوهٌ لِكَونِ العِبَادِ أَضيافَ كَرَمِ الكَرِيمِ فِيهمَا. وَمِنها: أنه في العِيدِ ينبغِي أن يَخرُجَ مِن طَرِيقٍ ويَرجِعَ فِي آخَر بِخِلافِ الجمعَةِ. ومِنهَا: كَرَاهَةُ التنفُّلِ في مُصَلَّى العِيدِ قَبلَ الصَّلاةِ وبَعدَهَا بخِلافِ الجمعَةِ.. ومِنهَا: أن الجمعَةَ فَرضُ عَينٍ بالإِجمَاعِ، وأمَّا العِيدَانِ ففيهمَا خِلافٌ مَعرُوفٌ، المشهُورُ مِنَ المذهَبِ أَنَّهُمَا فَرضَا كِفَايَة.

(1/121)


والصَّحِيحُ: أَنَّهُمَا فَرضَا عَينٍ، وَهُوَ إِحدَى اَلرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحمد، اختَارَهَا الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ. ومِنها: ما يتعلَّقُ بالعِيدَينِ مِن زَكَاةِ الفِطرِ والتَّكبِيرِ المطلَقِ والمقَيَّدِ ومِنَ اَلأَضَاحِيّ والهَدْي فَلا تُشَارِكُهَا الجمعَةُ فِيهَا. ومِنهَا: أنَّ في الجمعَةِ سَاعَة، لا يُوافِقُهَا مُسلِمٌ يَدعُو اللَّه إِلا استُجِيبَ لَهُ، ولم يَرِد مِثلُ هَذَا في العِيدَينِ. وكذَلِكَ: استَحبَّ العُلَمَاءُ زِيَارَةَ القُبُورِ يَومَ الجُمعَةِ دونَ العِيدَينِ؛ فالجُمعَةُ تتأكدُ فِيهَا الزِّيارَةُ والعِيدُ استحبَابٌ مطلَقٌ كسائِرِ اَلأَيَّام. ومِنَ الفُرُوقِ: ما قَالَهُ الأَصحَابُ: أَنَّ خطْبتِي العِيدَينِ تُستَفتَحُ الأُولَى بتِسعِ تَكبِيرَاتٍ، والثَّانِيَةُ بِسَبعٍ، بخِلافِ الجمعَةِ فإِنَّهَا تُستَفتَحُ بالحَمْدِ. والصَّحِيحُ: استِوَاؤهُمَا بالاستِفتَاحِ بالحمدِ كَما كَانَ النَّبيُّ ص يستَفتِحُ جَمِيعَ خُطَبِه بالحمدِ.

(1/122)


وتَشتَرِكُ صَلاةُ عِيدِ الفِطرِ وصَلاةُ عِيدِ النَّحرِ في جَمِيعِ هَذِهِ الأحكَامِ، ويفتَرِقَانِ في أَمُورٍ يَسِيرَةٍ بحَسَبِ وَقتِهِمَا: فَفِي الفِطرِ: يَنْبَغِي أَن لا يَخرُجَ مِن بيته حتَّى يأكل تَمرَاتٍ وَتْرًا تحقِيقًا للفَرقِ بينهُ وبين اَلأَيَّام الَّتي قَبلَهُ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الفِطرِ. كَما يُكْرَهُ أَن يتقدَّمَ شَهر رَمَضَانَ بِصِيامِ يَومٍ أَو يَومَينِ، وكَما يُكرَهُ قَرنُ الفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا، وَكُرِهَ للإِمَامِ أَن يَتَطَوَّع مَوضِعَ المكتُوبَةِ. والحِكْمَةُ في ذَلِكَ لأَجلِ أن يَتمَيزَ الفَرضُ مِن غَيرِه. وأمَّا النَّحرُ: فَلا ينبَغِي أَن يأكل إِلا مِنْ أُضحِيته بَعدَ الصَّلاةِ. وعِيدُ الفِطرِ تتعلَّقُ به أَحكَامُ صَدَقَةِ القِطرِ، وعِيدُ النَّحرِ تَتَعَلَّق بِه أَحْكَامُ الأَضَاحِي. ولِهَذَا يَنبَغِي فِي خُطبة عِيدِ الفِطرِ أَن يَذكُرَ أَحْكَامَ صَدَقَةِ الفِطرِ، وفي النَّحرِ أَنْ يَذكُرَ أحكَامَ اَلأَضَاحِيّ. وهَذَا مِنَ الفُرُوقِ. بَل يَنبَغِي لِكُلِّ خَاطِبٍ وَمُذَكِّرٍ أَن يَعْتَنِي بِهَذَا المقصُودِ، فيُذكِّر النَّاسَ مَا يحتَاجُونَ إِلَيهِ بحسَبِ الزَّمَانِ والمكَانِ والأَحْوَالِ وَالأَسْبَاب كما كَانَتْ خُطْبُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - على هَذَا النَّمَطِ؛ لأنَّ المقصُودَ بالخُطَبِ أَمرَانِ تَعلِيمُ النَّاسِ ما يَنْفَعُهُم مِن مُهِمَّاتِ دِينهِم وتَرغِيبُهُم وتَرهِيبُهُم بالوَعْظِ عَنِ التَّقصِيرِ بِالْمَأْمُورِ، والوُقُوع في المحظُورِ.

(1/123)


الأَحْكامُ المتعلِّقَةُ بالميت عَلَى وَجهِ الإجمَال 41- مَاهِيَ الأَحْكَامُ المتعلِّقَةُ بالميِّتِ على وَجهِ الإِجمَالِ؟ الجواب: أحكَامُه نَوعَانِ: 1- نَوعٌ يتعلَّقُ بذَاتِهِ. 2- ونَوعٌ يتعلَّقُ بمخَلَّفاتِه. أَمَّا النَّوعُ الأَوَّلُ: فَهُو تجهِيزُه بِالتَّغْسِيلِ والتَّكفين والصَّلاةِ عَلَيهِ ودفنُه وحملُه. وَهِيَ فَرضُ كِفَايَةٍ لشِدَّةِ حَاجَتِه، وضَرُورَتهِ إِلَى هَذِه الأُمُورِ، وتجهِيزِه إِلَى رَبّه بأَحسَنِ الأَحْوَالِ مِن تَمامِ النَّظَافَةِ، وشَفَاعَةِ إِخْوَانه المسلِمين ودُعَائهم لَه، وإِكرَامِهِ، واحتِرَامِه الشَّرعيَّاتِ. وأَمَّا المتعلِّقُ بمخلَّفاتِهِ: فيتعلَّقُ بِتَرِكتِهِ أربَعَةُ حُقُوقٍ مرتبة: 1- مُؤَنُ اَلتَّجْهِيز تُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ. 2- ثُمّ اَلدُّيُونُ الَّتِي عَلَيهِ. 3- ثم تنفذ وَصَايَاهُ مِن ثُلُثِه. 4- ثم يُقَسَّمُ اَلْبَاقِي على وَرَثَتِهِ. والحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالمينَ -

(1/124)


 أسئلة من كتاب الزكاة

(1/125)


الأَموَالُ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ ومِقدَارُ مَا تجِبُ فيهِ ومِقدَارُ الوَاجِب والحِكمَةُ فِي ذَلك كُلِّه 42- مَا هِيَ الأَموَالُ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ؟ ومِقدَارُ مَا تَجِبُ فِيهِ؟ ومِقدَارُ الوَاجِبِ؟ والحِكمَةُ في ذَلِكَ كُلِّه؟ الجوابُ: وباللَّه أَستَعِينُ في جَمِيعِ أُمُورِي. اعْلَمْ أَنَّ الزَّكَاةَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ وَمبَانِيهِ العِظَامِ، شَرعَهَا رَحمةً بِعبَادِهِ لِكَثرَةِ مَنَافِعِهَا الكُلِّيَّةِ والجزئيَّةِ. ولهَذَا سُمِّيت زَكَاة؛ لأَنَّهَا تُزَكِّي صَاحِبَهَا، فيزدَادُ إِيمانُهُ، ويَتمَّ إسْلامُهُ، ويتخلَّقُ بأَخلاقِ الكُرَمَاءِ، ويَتخلَّى مِن أَخلاقِ اللؤمَاءِ، وتطهِّرُه مِنَ اَلذُّنُوب، ويكثر أجرُه وثوابُه وقربُه مِنَ اللَّهِ، ويُبارِكِ اللَّه في أَعمَالِه، وتَزكُو حَسنَاتُه، وتُقبَلُ طَاعَاتُه، ويَدخُلُ فِي غِمَارِ المحسنين. فالزَّكَاةُ أَصلُ الإِحسَانِ إِلَى الخلقِ، وكَذَلِكَ تُزكِّي المالَ المخرَج مِنهُ بحِفْظِهِ مِنَ الآفاتِ، واستِخلاصِه مِن مخَالَطَةِ السُّحْتِ الَّذِي يَنسَحِتُ ويُسحتُ مَا خَالَطه، ويُبارَك فِيهِ، فإِنَّه وإِنْ نقصَتْهُ الزَّكَاةُ حِسُّا فإِنَّها زادَتهُ مَعنًى؛ لأَنَّه ذَهَبَ خَبثُه وَكَدَرُه، وبَقِي صَافِيًا صَالحًا للنمُوِّ واستَمَرَّ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا ذَكَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا المعنَى بِقَولِهِ: «مَا نَقصَتْ صَدَقَةٌ مِنَ مَالِ» بَلْ تَزِيدُهُ، فال تعالى ? وَمَا أَنفَقْتُم مِنْ شَيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ? [سبأ: 39] ، وتُزَكِّي المخرَجَ إِلَيهِ المدفُوعَ لَهُ.

(1/127)


فإِنَّ المدْفُوعَ لَهُ نوعَانِ: نَوْعٌ يُعطَى لحاجَتِهِ كـ: الفَقِير وَالْمِسْكِين وابنِ السَّبِيلِ والغَارِمِ لِنَفسِهِ. وَنَوْعٌ يُعطَى لحاجَةِ المسلِمين إِلَيْهِ وعُمُومِ نَفعِهِ كَـ: العَامِلِ عَلَيهَا والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهم، والغَارِمِ لإِصلاحِ ذَاتِ البَينِ، والإِخرَاجِ في سَبيلِ اللَّه. فَهذِه المصَالِحُ الكليَّةُ العامَّةُ، وتِلكَ المصَالِحُ اَلْفَرْدِيَّة الجزئيَّةُ بِهَا قِوَامُ الخلقِ، ودَفع حاجاتهم وحُصُولِ مَنَافِعِهم، وإِعطَاؤُهَا عَلَى هَذَا الوَجهِ مِن أَعظَمِ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ، وأَنَّه الدِّين الَّذي يُقَوِّم للنَّاسِ أَمرَ دِينهِم ودُنيَاهُم، ويَدفَعُ مِنَ الشُّرُورِ والفَوضَى مَالا يَندَفِعُ إلاَّ بِحُصُولِ هَذِه الأَحكَامِ الجَليلةِ الجميلَةِ. ثم إِنَّ الشَّارِعَ سَهلَهَا على الخَلقِ جِدًّا في الأَموَالِ الَّتي أَوجَبَهَا، وفي مقدَارِ الوَاجِبِ. فَلَم يُوجِبهَا في الأَمْوَالِ الَّتي تَرتَبِطُ بهَا ضَرُورَاتُ الإِنسَانِ وحَاجَاتُه كـ: المنْزِلِ الَّذِي يَسْكُنُه. والعَقَارِ الَّذِي يَحتَاجُ إِلَيْهِ. والأَوَاني، والفُرُشِ. والأَثاثِ الَّتي يَستَعمِلُهَا. وعَبِيدِ الخِدمَةِ.

(1/128)


وحَيَوَانَاتِ العَمَلِ في حَوَائِج اَلإنسَانِ وضَرُورَاتِه فِي غَيرِ التِّجارَةِ. بَل وَلَم يُوجِبهَا في الخيَلِ، والبِغَالِ، والحَمِيرِ، وأَنوَاعِ اَلْحَيَوَانَات غَيرِ الأَصنَافِ الثَّلاثَةِ إلاَّ إِذَا كَانَتْ للتجَارَة. وهَذَا برهَان أَنهَا مَا أُوجِبَتْ إِلا في الأَمْوَالِ اَلْفَضْلِيَّة لا أَموَال القنية للحَاجَةِ. وشرَعَهَا في أَربَعةِ أصناف مِنَ المالِ: 1 - فِي بهيمَةِ الأَنعَامِ، مِنَ الإِبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ. 2 - وفي الخَارِجِ مِنَ الأَرْضِ مِنَ الحبوب والثِّمارِ ونَحوهَا. 3 - وَفي أَلاثِمَانِ. 4 - وفي عُرُوضِ التِّجارَةِ. ثُمَّ من تَيسِيرِه على عِبَادِهِ: أَنَّهَا لا تَجِبُ في هذِهِ اَلأَشْيَاء حَتَّى تَبْلُغَ نصابًا قَدَّرَهُ اَلشَّارِعُ الحكِيمُ. فَجَعَل أَوَّلَ نِصَابِ الإِبلِ: (خَمسًا) ، وَلَم يُوجِبُ فِيهَا مِن جِنسِهَا؛ لأَنه يجتَاحُ رب المالِ بَل أَوجَبَ فِيهَا شَاةً. وهَكَذَا كُلُّ خَمسٍ شاةٌ حتَّى تَبلُغَ مَا يُنَاسِبُ أَن يُخرِجَ مِن نَوعِهَا أَقلِّ سِنّ وَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ في خَمْسٍ وَعِشرِينَ، ثُمَّ بِنْتُ لَبُونٍ في سِتٍّ وَتُلاثِينَ، ثُم حِقة في ست وأَربَعِينَ لها ثَلاثُ سِنين، ثُمَّ جَذَعَة لَهَا أَربِع سِنين في إِحْدَى وسِتين، ثُمّ في ست وسبعين ابنتَا لَبُونٍ، وفي إِحدَى

(1/129)


وتِسعِينَ حِقتَانِ، وفي إِحدَى وعِشرِينَ ومائة ثَلاثُ بنَاتِ لَبُونٍ، ثُمَّ يَستَقِرُّ السَّنُّ الأَوسَطُ في كُلِّ أَربعِين بنتُ لَبُونٍ، وفي كُلِّ خَمسِينَ حقةٌ. ولم يُوجِب في الغَنَمِ حتَّى تَبلُغَ (أَربَعِينَ) ، وفيها شَاةٌ، وفي مِائَة وإِحدى وعِشرِينَ شَاتَانِ، وفي مائتَينِ ووَاحِدَةٍ ثَلاثُ شِيَاهٍ ثُمَّ تَستَقِرُّ الفَرِيضَةُ في كُلِّ مائةٍ شَاةٌ. وأَمَّا البَقَرُ: فَلا يَجِبُ فِيهَا بُلوغ ثَلاثِينَ، فإِذَا بَلغَتهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ له ستَّةٌ، وفي أَربعينَ مُسِنَّةٌ لهَا سَنَتانِ، ثُمَّ في كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ، وفي كُلِّ أَربعِينَ مُسِنَّةٌ. ولم يُوجِب في الوَقصِ الَّذي بين الفَرضَينِ شَيءٌ عَفوًا وتَرغِيبًا للملاك وشُكرًا لَهُم على أَداءِ الحقِّ. والفَرقُ بين بهيمَةِ الأَنعَام وغَيرِهَا: أنَّ غيرَهَا مَتَى زَاد ولَو قَليلاً على النِّصَابِ ففيه بحِسَابه، وأَنَّ بَهِيمَةَ الأَنعَامِ فَدَّرَ الشَّارِعُ فيهَا أَوَّل النِّصَابِ وأَوسَطَهُ وآخِرَهُ وغيرهَا مِنَ الأَمْوَالِ فَدْرَ أَوَّلِ النِّصَابِ فَقَط. فَدَلُّ على أَنَّه كلَّما زَادَ عَنه زَادَ الوَاجِبُ، واللَّهُ أعلَمُ. ثُمَّ مِنْ تسهيلِهِ لم يُوجِب في هَذَا النَّوعِ حَتَّى تتغذى بالمبَاحِ وتَسُومَ الحَولَ أو أَكثَرُه. فإِذَا كَانَ صَاحِبُهَا يَعلِفُهَا، فَلا يُجمَعُ عَلَيهِ بين مؤنَةِ العَلَفِ وإِيجَابِ الزَّكاةِ عَلَيهِ.

(1/130)


وأَمَّا الخَارِج مِنَ الأَرْضِ من حُبُوبٍ وثمارٍ: فَلَم يُوجِب فِيهَا شَيئًا قَبُلَ تَمامِ ثَلاثمِائَة صَاعٍ ستَّة أَوسُقٍ. وفَرَّقَ بين الشَّارِبِ بمُؤنَةٍ فَلَم يُوجِب فِيهِ إلاَّ نِصْفَ العُشرِ وبين مَا لَم يَكُن بمؤنَةٍ فجَعَلَ فيه العشرَ تَامًّا. وجَعَلَ وُجُوبَ هَذَا النَّوعِ عِندَ حَصَادِهِ وجُذَاذِهِ؛ ليُسْرِ إِخرَاجِه على الملاكِ، وتَعَلُّقِ الأَطبَاعِ بِهِ في تِلكَ الحَالِ. وأَمَّا النقدَانِ ومَا تَبِعَهُمَا مِنَ الذهَبِ والفِضَّةِ: فجعَلَ نِصَابَ الذهبِ عِشرِينَ مِثقالا، ونِصَابَ الفِضَّةِ مائتَي دِرهَمٍ، وجَعَلَ فِيهَا رُبِع العشْرِ و. كَذَلِكَ النَّوعُ اَلرَّابِع: وَهُوَ عُروضُ التِّجَارَةِ، فهِيَ تَابِعَةٌ للنَّقدَينِ. وبهَذَا عُرِفَ مِقْدَارُ ألوَاجِبِ في جَمِيعِ الأَمْوَالِ الزَّكوِيَّةِ والحِكمَةُ الشَّرعيَّةُ فيه. وهَذِه المذكُورَةُ هِيَ الأَموَالُ النَّاميةُ بالفِعلِ أَو المستعدَّةُ للإِنمَاءِ بخِلافِ أَموَالِ القَنِيًّةِ، ومَا لا تَجِبُ فيه، فَلَيسَ فِيهَا هَذَا المعَينُ. وطرد هَذَا وجُوبُ الزَّكَاةِ فِي أَنْوَاع الإجَارَاتِ كما هُوَ قولٌ فِي

(1/131)


المذهَبِ، واختيارُ شَيخِ الإِسْلامِ؛ لأَنَّ هَذَا أحَدُ أَنوَاعِ التِّجَارَة. وطرد هَذَا المعنَى: عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكاةِ في الديونِ الَّتي لا قُدرَةَ لصَاحِبهَا عَلَى تَحصِيلهَا كَالَّتِي على اَلْمُعسرِينَ والممَاطِلِينَ، وَالأَمْوَال الضائعةُ وَنَحوهَا ممَّا هُوَ أَولَى بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِن أَثَاثِ القَنيَّةِ، فَإِنَّ أَموَالَ القَنِيَّةِ بِإِمْكَان صَاحِبهَا أَن يَبِيعَهَا وينميهَا وينتَفِعَ بِهَا، وأَمَّا هَذِهِ فَلا قُدرَةَ لَهُ على الانتفَاعِ بِهَا أَصلاً فَضلاً عَن تَنمِيَتِهَا. وهَذَا القَولُ إِحدَى اَلرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِمَامِ أَحمَد، وإِن كَانَ المشهُورُ عِندَ المتَأخِّرِينَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في هَذَا المالِ إِذَا قَبَضَهُ لَلسَّنِين الماضِيَةِ وَلَو استغرقَتْهُ. والصَّحِيحُ الَّذِي لا شَك فِيهِ: الأَول؛ لأَنَّ الزَّكَاةَ شَرَعهَا الشَّارِعُ الحكِيمُ مُوَاسَاةَ فِي اَلأَمْوَال الَّتِي يُنتَفَعُ بِهَا، وهِيَ مُرْصدَة للنَّمَاءِ، وهَذَا بخِلافِ ذَلِكَ؛ ولأَنَّ في القَولِ في إِيجَابِهَا بِهَا في الغَالِبِ مَنْعًا للإِنْظَارِ الوَاجِبِ وتَسببا، إِمَّا لِقَلبِ الدينِ الَّذِي هُوَ أَعظَمُ أَنوَاعِ الرّبا، وإِمَّا أَذِيّةُ المعسِرِ المحرَّمَةُ. ومِن رِفقِ الشَّارِعِ بَاهِل الأَموَالِ: أنَّه لَم يُوجِب الزَّكَاةَ إِلا بَعْدَ تَمامِ الحولِ ليتَكَامَلَ النَّمَاءُ، وَلا يُضَارّ غني ولا فَقِيرٌ إِلا ربح التِّجَارَة ونتَاج السَّائمةِ فَإنَّها تَابِعَةٌ لأَصلِهَا.

(1/132)


هَل يَمْنَعُ الدّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاة أَمْ لا؟ 43- هَل يَمنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزكَاةِ أَمْ لا؟ الجواب: في هَذَا تَفْصِيل: فإنْ كَانَ الدَّيْنُ بعدَ وجُوبِ الزكاةِ: لم يمنعهَا مُطلقًا؛ لأَنَّ الزَّكاةَ وَجَتْ وصَارَ أَهْلُ الزَّكَاةِ كالشُّرَكَاءِ لَصَاحِب المالِ فَكَما أَن شُرَكَاءَ الإِنسَانِ في اَلْمَال لا يَأخُذُ أَهْل الدُّيونِ مِن حَقِّهِم شَيئًا فكَذَلِكَ أَهْلُ الزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ. وإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بسَبَبِ مُؤْنَة الزَّرع والثَّمَرِ كمؤنَةِ الدياسِ والحصَادِ ونَحوِهَا. وكَذَلِكَ لو كَانَ بِسَببِ ضَمَانٍ: لم يُسقِطِ الزَّكَاةَ لوجُوبهَا في الصَّوَرِ الأُولى ولِكَونِ الدَّينِ في الضَّمَانِ لَهُ مُقَابلٌ. وإنْ كَانَ الدَّينُ مَوجُودًا قَبلَ وُجُوب الزكَاةِ: مَنعَ الزَّكَاةَ بِقَدْرِه في الأَموَالِ البَاطِنَةِ كالنَّقدَينِ والعُرُوضِ؛ لأنه في الحَقِيقَةِ كأنه غَيرُ مَالِكٍ لما تعلَّقَ به الدَّين، وإِنْ كَانَ المالُ ظَاهِرًا كالمواشِي وَالْحُبُوب والثَّمارِ فَهُوَ عَلَى قَولَينِ وَهُمَا روَايَتانِ عن أحمد المشهُورُ مِنهُما أَيضًا اَلْمَنْع. والصَّحِيحُ: عَدَمُ المنْع؛ لأَنّ أَخْذ الزَّكَاةِ مِنَ الأَموَالِ الظاهِرَةِ جَاريَة مجرَى الشَّعائِرِ للدّين.

(1/133)


فإِذَا كَانَ سَبَبُ الزَّكَاةِ وَهُوَ النِّصَابُ مَوجُودًا فيها، فالقَولُ بأَنَّ الدَّينَ يُسقِطُهَا يمنعُ هَذَا المقصُودَ؛ ولأَنَّ المنقُولَ عن اَلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفائِه إِرسَالُ السُّعَاةِ لقبضِ زَكَاةِ الأموَالِ الظَّاهِرَةِ، ولا يَسْتَفصِلُونَ أَهلَهَا هَل عَلَيهِم دَينٌ أَم لا؟ الحِكمَةُ في زكَاةِ الفطر وَمَا نصابُهَا وَمَنِ الَّذِي تجِبُ عَلَيهِ؟ 44- ما الحِكمَةُ في زَكَاةِ الفِطرِ وَمَا نِصَابُهَا وَمَنِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيهِ؟ الجوابُ: زَكَاةُ الفِطرِ وَاجِبَةٌ على كُلِّ مُسْلمٍ، ذَكَرٍ أَو أُنثَى، صَغِيرٍ أَو كَبِيرٍ، حُرُّ أو عَبدٍ، إذَا فَضَلَ عَن قُوتِه وقُوتِ عَائِلتِه يَومَ العِيدِ وليلته صَاعٌ فأكَثر. وتَلزَمُه عَن نَفسِه، وعَن مُسلِمٍ تَجِبُ عَلَيهِ مؤنته، عَن كُلِّ شَخصٍ صاعُ تمرٍ أَو شَعِيرٍ أَو زَبِيبٍ أَو بُرّ أَو أقطٍ. ولها عِدَّةُ حكمٍ: مِنهَا: أَنَّها زَكَاةٌ للبَدَنِ، حَيثُ أَبقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَامًا مِنَ الأَعوَامِ وأَنْعَمَ عَلَيهِ بالبَقَاءِ. وهَذَا مضى عام؛ لأجلِهِ وَجَبَتْ للصَّغِيرِ الَّذِي لا صَومَ عَلَيهِ، والمجنُونُ ومَن عَلَيهِ قَضَاءٌ فَبَلْ قَضَائِه. ولأجلِه وَجَبَ في عَبدِ التِّجَارَةِ زَكَاتَانِ: 1- زَكَاةُ عُرُوضٍ لقيمَتِه. 2- وزَكَاةُ بَدَنٍ لنفسِهِ.

(1/134)


ولأَجلِه استَوَى الكَبِيرُ والصَّغِيرُ، والذَّكَرُ وَالأُنْثَى، والغَنيّ وَالْفَقِير والكَامِلُ والنَّافِصُ، في مِقدَارِ الواجِبِ، وَهُوَ اَلصَّاع. ومِن حكمهَا: أَنَّها فِيهَا مُوَاسَاةٌ للمسلِمِينَ أَغنيائهم وفُقَرَائِهِم ذَلِكَ اليَومُ فَيَتَفَرَّغ الجمِيعُ لِعبَادَةِ اللَّه تَعَالَى والسُّرُورِ بنِعَمِه. ولهَذَا قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أغنُوهُم عَنِ المسألةِ فِي هَذَا اليَوْمِ» . ولهذا انحصر وَقتُهَا بيَومِ العِيدِ وقبله ليَومٍ أَو يَومَين ولم يَجُزْ تقدِيمُهَا وَلا تَأْخِيرهَا. وَمِنْ أَعْظَم حِكَمِهَا: أَنهَا مِنْ شُكرِ نِعَم اللَّهِ على الصَّائمين بالصِّيَامِ كَما أَنَّ مِن حِكَمِ الهَدَايَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ بالتَّوفِيقِ لِحَجّ بيته اَلْحَرَامِ، فَصَدَقَةُ الفِطرِ كَذَلِكَ. وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ إِلَى الفِطرِ إِضَافَةَ الأَشيَاءِ إِلَى أَسبَابِهَا. وَمِنْ فَوَائِدِها: أَنَّ بِهَا تَمامُ السُّرُورِ للمسلِمين يَومَ العِيدِ وتَرفَع خَلَلَ الصَّومِ ولِلَّهِ في شَرعِه أَحكَامٌ وأَسرَارٌ لا تَصِلُ إِليها عُقُولُ العَالمينَ. -

(1/135)


 أسئلة من كتاب الصيام

(1/137)


حكم الصِّيَام وَحكمته 45- مَا حُكمُ اَلصِّيَام وَمَا حِكمَتُه؟ الجوابُ: وباللَّهِ التَّوفِيقُ. أمَّا حِكمَة الصِّيَامِ: فَقَد ذَكَرَ اللَّه في ذَلِكَ معنى جامعًا فَقَالَ: يَا أيهَا الذِينَ آمْنُوَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الذِينَ مِن قَبْلِكُم ْ لَعَلَّكُمْ تَتَّفُّونَ ? [البقرة: 183] يَجمَعُ جَميعَ مَا قَالَهُ النَّاسُ في حِكمَةِ اَلصِّيَام، فإنَّ التَّقوى اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ ما يَحِبهِ اللَّهُ وَيُرِضَّاهُ مِنَ المحبُوبَاتِ وتَركِ المنهِيَّاتِ. فالصِّيَامُ الطَّرِيقُ الأَعظَمُ للوصُولِ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ سَعَادَةِ العَبدِ في دينه ودُنيَاهُ وآخِرَتِهِ. فَالصَّائمُ يَتقرَّبُ إِلَى اللَّه بتَركِ المشتَهيَاتِ؛ تقديمًا لمحبتهِ على محبَّةِ النَّفسِ، وَلِهَذَا اختصَّهُ اللَّه مِن بين الأَعمَالِ حَيْثُ أَضَافَهُ إِلى نَفسه في اَلْحَدِيث الصَّحيحِ. وَهُوَ مِن أُصُولِ التَّقوَى، إِذِ الإسْلامُ لا يتمُّ بِدُونِه. وفِيهِ مِن زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَحُصُول الصَّبرِ والتَّمرُّنِ على المشَقاتِ اَلْمُقَرّبَة إلَى رَبِّ السَّمواتِ.

(1/139)


وأَنَّه سَبَب لكثرَةِ الحسَنَاتِ مِن صَلاةٍ وقرَاءَة وذِكرٍ وصَدَقَةٍ ما يحقِّقُ التَّقوَى. وفِيهِ مِن رَدعِ النَّفسِ عَنِ الأُمُورِ المحرَّمَةِ مِنَ اَلأَفْعَال المحرّمَةِ والكَلامِ المحرَّمِ مَا هُوَ عِمَادُ التَّقوَى. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ? مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِه؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ?. فيتقرَّبُ العَبدُ إِلَى اللَّهِ بِتَركِ المحرَّمَاتِ مُطلقًا، وهِيَ: قَولُ الزُّورِ، وَهُوَ كُلُّ كَلامٍ محرَّمٍ. والعَمَل بالزَّورِ، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ محرَّمٍ. وبتَركِ المحرَّمَاتِ لِعَارضِ الصَّوم وَهِيَ المفطِرَاتُ ولما كَانَ فِيهِ مِنَ المصَالِحِ والفَوَائِدِ وتَحصِيلِ الخيرَاتِ والأُجُورِ مَا يقتَضِي شَرعُهُ في جَميعِ الأوقَاتِ؛ أخبرَ تَعَالى أنه كَتَبَه عَلَينَا كما كَتَبَهُ على الَّذِين مِن قَبلِنَا، وهَذَا شَأنه تَعَالَى في شَرَائِعهِ العَامَّةِ للمصَالح. وأَمَّا أَحْكَامهُ فتجرِي فِيهِ جَميعُ الأَحْكَامِ التكليفيَّةِ بحسَبِ اَلأَسْبَاب. أَمَّا الوَاجِبُ والفَرْضُ: فَهُو صِيَامُ شَهر رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ مسلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ، وَكَذَلِكَ: صَومُ النَّذْرِ والكَفارَةِ.

(1/140)


وأَمَّا المحرمُ: فَصَومُ أيام العِيدِ، وأَيامِ التَّشْرِيقِ إِلا لمتمتِّعٍ وقَارِنٍ عدم الهدي وَلَم يَصُمْ قَبْلَ يَومِ النَّحرِ. ومِنَ الصَّومِ المحرَّمِ: صَومُ الحَائضِ وَالنُّفَسَاء، والمرِيضِ الَّذِي يخافُ التَّلَفَ. وكذَلِكَ يَجِبُ الفِطرُ عَلَى من يَحتَاجُه لإِنقَاذِ مَعصُومٍ مِن هَلكَةٍ. وأَمَّا الصَّومُ المسنُونُ: فَهُوَ صَومُ اَلتَّطَوُّع المقيَّدِ وَالْمُطْلَق. وأَمَّا المكرُوهُ: فَهُوَ صَومُ اَلْمَرِيض الَّذِي عَلَيهِ مشقَّة. وأَمَّا الجَائزُ: فَهُوَ صَومُ المسَافِرِ يجوزُ أَن يَصُومَ، وأن يُفطِرَ خُصُوصًا إِذَا سَافَرَ في يومِ ابتداء صَومه في الحَضَرِ. مفسدات الصَّوم 46- مَا هِي مفسِدَاتُ الصَّومِ؟ الجواب: هِيَ: الأَكْلُ بجمِيعِ أنواعِهِ. والشَّربُ كَذَلِكَ. والجماعُ. فَهَذِهِ مُفطِرَاتٌ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجمَاعِ. وهَذَا المفصُودُ اَلأَعْظَم في الإِمسَاكِ عَنهَا.

(1/141)


وكَذَلِكَ مِنَ المفطِرَاتِ: أَنْ يُبَاشِرَ بِلذةٍ فَيُمني أَو يمذي عَلَى المذهَبِ والقَولُ اَلأَخر: أَنَّه لا فِطرَ إِلا بالإِمنَاءِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لكن تَحرُمُ المباشَرَةُ بلذةٍ للصَّائِمِ والمصَلِّي والمعتَكِفِ والمحرِمِ بِحَجّ أَو غمرَةٍ وتَنقضُ الوضُوءَ. وكَذَلِكَ: القَيءُ عَمدًا لا يُفطِرُ إِن ذَرَعَهُ القَيءُ. وكذَلِكَ الحجَامَةُ حَاجمًا كَانَ أَو محجومًا. وأمَّا الاكتِحالُ والتَّداوِي والاحتِقَانُ ومداوَاةُ الجروحِ إِذا وصَلَ ذَلِكَ إِلى حَلقِهِ أَو جَوفِهِ، فالمذهَبُ فِطرُه بِذَلِكَ. واختار الشَّيخُ تقي الدِّينِ لا فِطرَ بذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَنَّه لم يَرِد فِيهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَلا هُوَ في حُكمِ ألأَكْلِ والشَّربِ. أَمَّا إيصَالُ الأَغذِيَة بالإِبرَةِ إِلَى جَوفِهِ مِن طَعَامٍ أو شَرَابٍ فَلا يُشَكُّ في فطرِهِ بِه؛ لأَنَّه فِي مَعنَى الأَكلِ والشُّربِ مِن غيرِ فَرقٍ. فإِنْ فَعلَ شيئًا من المفطِرَاتِ ناسيًا لم يفطر إِلا في الجماعِ عَلَى المذهَبِ. وعَلَى الصَّحِيحِ: حُكمُه كالأَكْلِ والشُّربِ. وكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ: الجَاهِلِ كالنَّاسِي، واللَّهُ أعلَمُ.

(1/142)


حكم من مَات قَبلَ أن يَصُومَ الوَاجِبَ عَليهِ 47- مَن مَاتَ قَبلَ أَن يَصُومَ الوَاجِبَ عَلَيهِ مَا حُكمهُ؟ الجواب: إِذا مَاتَ فَبَلْ أَن يَصُومَ الوَاجِبَ عَلَيهِ مِن رمضَانَ أَو غيرِه فَلا يَخلُو: إِمَّا أَن يَكُونَ قد تمكَّنَ مِن أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيهِ مِن غَيرِ عُذرِ مَرضٍ وَلا سَفَرٍ وَلا عَجزٍ، أَو لا يَكُون قد تَمكَّنَ. فإن كَانَ قَد تَمكَّنَ مِن صِيَامِهِ، وَلَم يَكُن عُذرٌ يمنَعُه مِن أدائه: فَهَذَا لا يَخلُو إما أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ نَذرًا مُوجبًا له على نفسه، أو كَانَ وَاجِبًا عَلَيهِ بأَصلِ الشَّرعِ كَالقَضَاءِ لرمضَان والكفارَةِ. فإِن كَانَ نَذرًا: صَامَ عَنهُ وَلِيُّه استِحبَابًا. وإن كَانَ قَد خَلَّفَ تَرِكَةً: وَجَبَ أنْ يُصَامَ عَنْهُ. وكذَلِكَ جَميعُ الوَاجِبَاتِ بِالنَّذْرِ كُلُّها تُفعَلُ عَنِ الميِّتِ؛ لأَنّ اَلنِّيَابَة دَخَلَتْ فِيهَا لخفتِهَا؛ لِكَونِهَا أقل مَرْتَبَة مِنَ الواجِبَةِ بأَصْلِ الشَّرعِ. وإِنْ كَانَ وَاجِبًا بأَصْلِ الشَّرعِ، كَمن مَاتَ وَعَلَيهِ قَضَاءُ رَمَضَان، وقد عُوفِيَ وَلَم يَصُمه: فإِنه يَجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنهُ كُلِّ يَومٍ مِسْكِينٌ، بعَدَدِ مَاعِلِيهِ. وعِندَ الشَّيخ تَقِيُ الدِّين: إنْ صِيمَ عَنْهُ أيضًا أَجزَأَ، أَوْ هُوَ قوي المأخَذِ. الحالُ الثَّالي: أنْ يَمُوتَ قَبلَ أَنْ يتمكَّنَ مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيهِ: مثل أَن يَمرَضَ في رَمَضَانَ وَيموتَ في أَثنَائِه، وقد أفطَرَ لِذَلِكَ المرضِ أو

(1/143)


يَستَمِرّ به المرَضُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَو بَعدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ: فَهَذَا لا يُكَفرُ عَنهُ لعَدَمِ تفريطِه؛ وَلأَنه لم يَترُك ذَلِكَ إلا لعُذرٍ. وإن كَانَ كفارة فكَذَلِكَ. وإن كَانَ نَذْرًا: فإن عَيَّن لَهُ وقتًا، ومَاتَ قَبلَ ذَلِكَ الوَقتِ كَأَنْ عَينَ مثلاً عَشر ذي الحجَّةِ، ومَاتَ في ذِي القعدَةِ: لم يَكُن عَلَيهِ شَيء فَلا يَقضِي؛ لِعَدَمِ إِدرَاكِ ما يتعلَّقُ به الوُجُوبُ. وإِن لم يعيِّن وَقتًا أو عَيّنَ وقتًا وفَرَّط وَلَم يَصُمْه: وَجَبَ أن يُقضَى عَنهُ وإن لم يُفَرّطْ بل صَادَفَهُ الوَقتُ مَرِيضًا ونحوه فيُقضَى أيضًا عَلَى المذهَبِ؛ لأَنَّه أَدرَكَهُ وَقتَ الوُجُوبِ. والصَّحِيحُ: أَنَّ حُكمَهُ حُكمُ الوَاجِبِ بأَصْلِ الشَّرعِ وَهُوَ أَحَدُ اَلْقولَيْنِ في المذهَبِ وَهُوَ الموافِقُ لقاعِدَةِ المذهَبِ. فإِنَّ القَاعِدَةَ: أَنَّ الوَاجِبَ بالنَّذرِ أَنَّه يُحذَى به حَذوَ الوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرعِ. فنِهَايَةُ اَلأَمْر يُلحَقُ به إِلحاقًا. وأَمَّا كَونُه يَكُونُ أَقوَى مِنهُ فبَعِيدٌ جدًّا، واللَّهُ أعلَمُ. -

(1/144)


 أسئلة في الحج والعمرة وتوابعها

(1/145)


الَّذي يَجِبُ عَلَيه الْحَج؟ ومَا الحِكمةُ فِيهِ؟ 48- مَن الَّذي يَجِبُ عَلَيهِ الحجُّ؟ ومَا الحِكمَةُ فِيهِ؟ الجواب: وباللَّهِ التَّوفِيقُ. اتفق المسلِمُونَ عَلَى ما ثَبَتَ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ مِن: وُجُوبِ الحج، وأَنَّه أحد أَركَانِ الإِسلامِ ومَبَانيه الَّتِي لا يتمّ إلا بهَا. وعلى مَا وَرَدَ في فَضْلِه وشَرَفِه وكثرَةِ ثوابِه عِندَ اللَّهِ. وهَذَا مَعلُومٌ بالضَّرُورَةِ من دين الإِسلامِ. وقد فَرَضَهُ العَلِيمُ الحكِيمُ الحميدُ في جَمِيعِ مَا شَرَعَهُ وخَلقَهُ. واختص هَذَا البَيتَ الحرامَ، وأَضافه إِلى نَفسِهِ، وجَعلَ فِيهِ وفي عرصَاتِه والمشَاعِرِ التَّابِعَةِ لَهُ مِنَ الحِكَمِ والأَسْرَارِ ولطائِفِ المعارِفِ ما يَضِيقُ عِلمُ العَبدِ عن مَعرِفَتِه. وحَسْبُكَ أنه جَعَلَهُ قِيَاما للنَّاسِ، به تَقُومُ أَحوالُهُم، ويَقُومُ دِينُهُم ودُنياهُم، فَلولا وجُودُ بيته في اَلأَرْض وعِمَارَتُه بِالْحَجِّ والعُمرَةِ وأَنواعِ اَلتَّعَبُّدَات لآذن هَذَا العَالَم بالخرَابِ. ولِهَذَا مِن أَمَارَاتِ السَّاعَةِ واقتِرَابِهَا هَدْمُه بعدَ عمارَته، وتَركُه بَعدَ زيَارَتِه؛ لأَنَّ الحج مَبني عَلَى المحبَّةِ والتَّوحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصلُ الأُصُولِ كُلِّها. فمن حِين يَدخلُ فيه الإِنسَانُ يَقُولُ: (لبيكَ اَللَّهُمَّ لبيك، لبيك لا

(1/147)


شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ إِن اَلْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالملك لا شَرِيكَ لَك) . ولا يزَالُ هَذَا الذِّكرُ وتوابعُه حتَّى يَفْرُغ، ولهذَا قال جابرٌ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «فَأَهَل رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّوحِيدِ» ؛ لأن قول الملبي: (لَبَّيكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيكَ) الْتزامٌ لِعبُودية ربِّهِ وتكرير لهَذَا الالتِزَام بطمأنِينَةِ نَفْسٍ وانْشِرَاحِ صَدْرٍ. ثمَّ إِثبات جميع المحامِدِ وأَنواعِ الثُّناءِ، والملَّكِ العظيمِ للَّه تَعَالى، ونَفْي الشَّريكِ عَنهُ في أُلوهيته ورُبوبيته وحمده وملكه هذا حقيقةُ التَّوحِيدِ، وهو حَقِيقَةُ المحبَّةِ؛ لأَنه اسْتِزَارَةُ المحبِّ لأحبَابِه وَإِيفَادهمْ إِلَيهِ ليَحْظَوا بالوُصُولِ إِلَى بيتِه ويتمتَّعُوا بِالتَّنَوُّعِ في عُبُوديتهِ وَالذُّلّ له والانكِسَارِ بين يَدَيهِ، وسُؤَالهم جَمِيعَ مَطَالِبِهم وحَاجَاتِهِم الدِّينيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّة في تِلكَ اَلْمَشَاعِر العِظَام والمواقِفِ الكرَامِ؛ لِيُجزِلَ لهم من قِرَاهُ وكَرَمِه مالا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ. وَلِيَحُط عنهم خَطَايَاهُم ويرجعهم كَما وَلَدَتْهُم أُمَّهَاتهمْ، وَالْحَجّ المبرورُ لَيسَ لَهُ جَزَاء إِلا الجنَّة. ولتحققِ مَحَبَّتهمْ لربِّهم بِإنْفَاق نَفَائِسِ أَمْوَالِهِم، وبَذلِ مُهَجِهِم بالوُصُولِ إلَى بَلَدٍ لم يَكُونُوا بالِغِيه إلا بِشِقِّ الأَنفُسِ. فأفضَلُ مَا أُنفِقَتْ فِيهِ الأَمْوَالُ، وأعظَمُه عَائِدةً، وأكثره فَوَائِد إِنفَاقهَا في الوُصُولِ إِلَى المحبُوبِ وإلَى مَا يحبُّه المحبُوبُ، ومَعَ هذا فَقْد وَعَدَهُم

(1/148)


بإخلاف اَلنَّفَقَة، والبَرَكَةِ في اَلرَّزْق، قال تعالى: ? وَمَا أَنفَقْتُم من شَيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ? [سبأ: 39] . وأعظمُ مَا دَخَلَ في هَذَا الوَعدِ مِنَ الكَرِيمِ الصَّادِقِ إنفاقها في هَذَا الطرِيقِ، وأفضَلُ ما ابتَذَلَ به العَبدُ قوَّتَهُ واستَفرَغَ له عَمل بَدَنِه هَذِه اَلأَعْمَال الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الأَعمَارِ. فحَقِيقَةُ عُمرِ العَبدِ مَا قَضَاهُ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ، وَكُل عَمَلٍ وتَعَبٍ ومشقة لَيست بِهَذَا السَّبِيلِ فَهِيَ عَلَى العَبدِ لا لِلعَبدِ. ثُمّ َ مَا في ذَلِكَ مِن تَذَكُّرِ حَالِ العَابِدِينَ، وأَصفِيَائِه مِنَ الأنبيَاءِ والمرسَلين. قال تعالى: ?واتخِذُوا مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيم مُصَلًّى ? [البقرة: 125] . والصَّحِيحُ: أنَّهُ مُفرَدٌ مضَاف يشمَلُ جَمِيعَ مَقَامَاتِه في الحجِّ مِنَ الطَّوَافِ والسَّعي والوُقُوفِ بالمشَاعِرِ والهَدي، وأصنَافِ مُتَعَبِّدَات الحج. وقَالَ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ مَوطِنٍ مِن مَوَاطِنِ الحج ومشَاعِرِه: «لتَأخُذُوا عَتِّي مَنَاسِكَكُم» . فَهُوَ تَذكِيرٌ لحالِ الخَلِيلِ إِبرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - وأهلِ بيتِه، وتَذكِير لحَالِ سِيد المرسَلِينَ وإمَامِهم. وهَذَا أفضَلُ وأكمَلُ أَنْوَاع التَّذكِيرَاتِ للعظماء، تَذكِيرًا بِأَحْوَالِهِمْ الجَلِيلَةِ ومَآثرِهِم الجميلَةِ، والمتَذَكّرُ لِذَلِكَ ذَاكِر للَّه تَعَالَى.

(1/149)


كَما قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا وَالمزوَةِ وَرَمْيُ الجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ» . ففي هَذَا مِنَ الإِيمانِ باللَّه وَرُسُله الكِرَامِ، وذكر مَنَاقِبِهم وفَضَائِلِهم مَا يزدَادُ به المؤمِنُ إِيمانًا والعَارِفُ إِيقانًا، ويحثُّه على الاقتِدَاءِ بِسِيَرِهِم الفَاضِلَةِ، وصِفَاتِهِم الكَامِلَةِ. ثُمَّ مَا في اجتمَاعِ المسلِمين في تِلْكَ المشَاعِرِ واتفَاقِهِم عَلَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ ومَقصُودٍ وَاحِدٍ، ووقوفُ بعضِهِم من بَعضٍ واتِّصَالُ أهل المشَارِقِ بالمغَارِبِ في بقعَةٍ وَاحِدَةٍ لعبَادَةٍ واحِدَةٍ ما يحقِّقُ الوَحدَةَ الإِسلاميَّةَ وَالأُخُوَّة الإِيمانيَّةَ، ويربط أقصَاهُم بأدنَاهُم ويَعلمونَ أن الدِّينَ شَامِلُهُم، وأَنَّ مَصَالحهُم مَصَالحهُم، وإِنْ تناءت بِهِم الدِّيَارُ وتَبَاعَدَتْ مِنهُم الأَقطَارُ. فَهَذَا إِشَارَةٌ يَسِيرَةٌ إِلى بَعضِ الحِكَمِ والأَسرَارِ المتعلِّقَةِ بهَذِهِ العِبَادَةِ العَظِيمَةِ فللَّهِ الحمدُ والثَّناء حَيثُ أَنعَمَ بهَا عَلَيهِم، وأَكْمَلَ لَهُم دِينَهُم، وأَتم عَلَيهم نعمَتَهُ، ورَضِيَ لَهُم الإِسْلامَ دِينًا. وهَذِهِ الحكَمُ مِن أَقوَى البَرَاهِينِ والأَدِلَّةِ على سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وعُمُومِ بِرَّه وأَنّ اَلدَّيْن الحق الَّذِي لا دِينَ سِوَاهُ هُوَ الدِّينُ المشتَمِلُ على مثل هَذِه الأمُورِ، واللَّهُ تَعَالَى أعْلَمُ.

(1/150)


وأَمَّا مَن يَجِبُ عَلَيهِ: فَهُو المكلَّفُ المستَطِيعُ السَّبيل القَادِرُ ببدَنِه وَمَالِه. هَذَا هُوَ الشَّرطُ الخَاصُّ في الحج، ولهَذَا اقتَصَرَ اللَّه على ذِكرِه في قوله: ?ولله على النَّاسِ حج البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ? [آل عمران: 97] . ويَدخُلُ في الاستِطَاعَةِ: أَمنُ الطَّرِيقِ والبَلَدِ، وسِعَةُ الوَقتِ، وَوُجُودُ محرَمٍ للمَرأةِ؛ لأنه من بَابِ الاستِطَاعَةِ الشَّرعيَّةِ. فمن عَجَزَ عَنهُ بِبَدَنِه وَمَالِه: لم يَكُن عَلَيهِ شَيءٌ. ومن عَجَزَ عَنهُ بِبَدَنِه، وقَدرَ عَلَيهِ بمالِه كالكَبِيرِ الَّذي لا يَسْتَطِيع الثُّبوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ والمريضِ اَلْمَيْئُوس مِن عَافِيَتِه: أَنَابَ عَنهُ من يَحُجّ عَنهُ. وإِن كَانَ قَادِرًا بِبَدَنِه، وَلَيس له مَالٌ، والمسَافَةُ قَرِيبَة: وجَبَ عَلَيهِ؛ لأَنهُ متحقّق استِطَاعَتهُ. وإِن كَانَتِ المسافَةُ بَعِيدَةً: ففي وُجُوبه عَلَيهِ قَولانِ: المذهب مِنهُمَا عَدَمُ وُجُوبه، واللَّه أعلمُ. مَحْظُورَات الإِحرَام وحكمها 49- عن محظُورَاتِ الإِحرَامِ وحُكمِهَا؟ الجوَابُ: مِن فَضْلِ هَذَا البَيتِ الحرام وشَرَفه عندَ اللَّه وَعِظَم قَدْرِهِ أَنَّه لا يَأتِيهِ زَائِرٌ بحج أو عُمرَةٍ إلا خاضعًا خَاشِعًا متذلِّلاً في ظَاهِرِه وبَاطِنِهِ معظمًا لحرمَتِه مُجِلاًّ لَهُ وَلِقَدَرِهِ، فَشُرِعَ له تَركُ التَّرفهِ والعَوَائِد النَّفسِية

(1/151)


ِ الَّتي اَلاشْتِغَال بها مُفَوِّت لمقصُودِ العبَادَةِ. فيترك: الثِّياب المعتادة، ولبس المخيطِ، ويَلبَسُ إِزارًا ورِدَاءً، أبيضين نَظِيفين، ويكشِفُ رأسَهُ. ويَدَعُ: الجماعَ، ومباشَرَةَ النّسَاءِ للذَّةٍ، ومَا يتبَعُ هَذَا مِنَ الطيب وإِزَالَةِ الشُّعُورِ، وَالأَظْفَار. ويحترمُ فِيهِ الصَّيدَ صيد البَرُّ مَا دَامَ مُحرِمًا. فإذا قَرُبَ مِنَ البَيتِ ودَخَلَ الحَرَمَ، حَرُمَ عَلَيهِ مَعَ ذَلِكَ: قَطع الشجر الرطبِ، وأخذُ حشيشه، وحققَ هَذا التَّحرِيم أَنَّ المحلِّ والمحرم فِي هَذَا سَوَاءٌ، محرمُ عَلَيهمَا صَيدُ الحرم وشَجَرُه وحشيشُه. فإذا كانت هَذِهِ الوسَائِلُ لهَذَا البَيتِ الحَرَامِ بهذه المثابَةِ مِنَ الاحتِرَامِ فما ظَنكَ بنفسِ البَيتِ والمشَاعِرِ التَّابِعَةِ له، فَصَارَ مِن أَعظَمِ المقَاصِدِ في مَحظُورَاتِ اَلإِحْرَام تَعظِيمُ البَيتِ، وتَعظِيمُ رَبِّ البَيتِ وإِجلالُه وإعظَامُه والذلُّ والخشُوعُ لَهُ. وهَذِهِ المذكُورَات كُلُّهَا محظُورَات يَأْثَم مَن أخل بهَا عَالِمًا متعمّدًا. فإن لم يَكُن كَذَلِكَ فَالإثَم موضوعٌ. وأمَّا الفِديَةُ فإن كَانَ الإِخلالُ بلبسِ مَخِيطٍ أو تَغْطِيَة رأس أو تَطَيُّبٍ فَلا فِديَةَ. وإِن كَانَ غَيرهَا فَفِيهَا الفِديَةُ عَلَى المذهَبِ بِحَسْبِ أحوَالِهَا:

(1/152)


فدية الوَطءِ: بدنة، ويفسُدُ حجُّه إذا كَانَ قَبلَ اَلتَّحَلُّل الأوّلِ. وفدية الصَّيدِ: مثله مِنَ النّعم إن كَانَ أو عَدلُه صِيامًا أو إطعامًا. وفدية الأَذَى: فِديَة تخييرٍ بين صِيَامِ ثَلاثَةِ أيام أو إطعَام سِتَّةِ مَسَاكِين أو ذَبْحِ شَاةِ، وهي إِزَالَةُ الشَّعر وَالأَظْفَار، ولبسِ الخيطِ، والتَّغطِيَةُ لرَأسِ اَلرَّجْل ووجهُ الأُنثى عَمْدًا. والحِكمَةُ في الفِدية: أن النُّسُكَ نَقَصَ وَانْجَرَحَ بفِعلِ المحظُورِ فيجبر بالدَّم، وعن أحمد رِواية أُخْرَى في الجميعِ: أَنَّ المعذُورَ لِنسيَانٍ أو جَهلٍ كَمَا لا إِثمَ عَلَيهِ لا فديَةَ عَلَيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، ومُقتَضَى الحِكمَةِ ولَيسَ فِيه إِتلاف مَالِ آدمِيِّ حَتَّى يستَوِي عَمدُه وسَهوه، وإنما الحَقُّ كُلُّه للَّهِ، وحَقه تَعَالَى بُنِيَ عَلَى المسَامَحَةِ والمسَاهَلَةِ، وَقد قيد ذَلِكَ بالعَمدِ في الصَّيدِ مَعَ أَنَّ الصَّيْدَ مِن أَشَدِّهَا. الدِّماءُ الَّتي يُؤكَلُ مِنهَا والَّتي لا يُؤكَلُ مِنهَا 50- مَا هِيَ الدِّماءُ الَّتي يُؤكَلُ مِنهَا والَّتِي لا يُؤكَلُ مِنهَا؟ الجواب: أمَّا الفديَةُ الَّتِي سَببهَا فِعْلُ مَحظُورٍ أوتَركُ مَأْمُورٍ كالمحظُورَاتِ السَّابِقَةِ وكَفِديَةِ تَركِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ اَلْحَجّ والعُمرَةِ: لا يؤكَلُ مِنهَا شَيء؛ لأنها جَارِيَةٌ مجرَى الكَفارَاتِ وَهِيَ جُبرَانَاتٌ لا دِمَاءَ نُسُكٍ. وكَذَلِكَ على المذهَبِ: الدِّمَاءُ الواجِبَةُ بالنَّذرِ والتَّعيينِ فَلا يؤكَلُ مِنهَا. وَمَا سِوَى هَذَا مِنَ الدِّمَاءِ فيجوزُ اَلأَكْل منه.

(1/153)


فدخَلَ فِيهِ: هَدْيُ التَّطوُّع وَهَدْي المتعَةِ والقِرَانِ وَالأُضْحِيَّة والعَقِيقَةِ. وكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيح: هَدْي النَّذرِ والمعين؛ لأَنَّ المعيَّن بالنَّذر يُحذَى به حَذوَ الوَاجِبِ بالشَّرعِ، والمعين بالقَولِ كالمعيّنِ بالذَّبحِ؛ لأن كُلِ نَسِيكَةٍ مَتَى ذُبِحَتْ تَعيَّنَتْ بِذَبحِهَا. الحِكمةُ في إِيجَاب الهَدْي عَلَى المتمتِّع والقَارِنِ دُونَ المفرِدِ بِالْحَجِّ وما تجتَمِعُ فِيهِ اَلأَنْسَاك وتُفتَرقُ؟ 51- مَا الحِكمَةُ في إِيجَابِ الهَدْي عَلَى المتمتِّع والقَارِنِ دُونَ المفرِدِ بِالْحِجِّ ومَا تَجتَمِعُ فِيهِ الأَنسَاكُ وَتَفْتَرِق؟ الجواب: اعلَمْ أَنَّ الدِّمَاءَ الوَاجِبَةَ لأَجْلِ النُّسُكِ وَمُتَعَلِّقَاته نَوعَانِ: أَحَدُهُمَا: دَمٌ يُجْبَر بِه النَّقصُ والخلَلُ، ويُسَمى دَمُ جبران. وهَذَا النَّوعُ سَببه الإِخلالُ بِتَركِ وَاجِبٍ أو فِعلِ مُحرَّمٍ كما تَقَدمَ. والثَّانِي: دَم نُسُكٍ. وَهُوَ عِبَادَة مستقلَّةٌ بنفسِهِ من جُملَةِ عِبَادَاتِ اَلنُّسُك. فَدَمُ المتعَةِ والقرَانِ مِن هَذَا النَّوع، ولَيسَ مِنَ النَّوعِ الأَوَّلِ فيزُولُ الإِيرَادُ؛ لأنه مَعلُومٌ أَنه المتعَةَ والقرانَ لا نَقصَ فِيهما. بَل إمّا أَنْ يَكُونَ أكمل مِنَ الإفرَادِ كَما تَدلُّ عَلَيهِ الأَدلَّةُ الشَّرعيَّةُ وَهُوَ قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ. وإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ أَفضَلَ مِنَ الإفرَادِ فَعَلَى كُلِّ الأُمُورِ لا نَقصَ فِيهمَا يُجبَرُ بالدمِ، فتعيَّن أَنَّه دَمُ نُسُكٍ.

(1/154)


فإِذا قيل: لِمَ لَمْ يُوجَبْ هَذَا اَلدَّم فِي اَلإِفْرَاد كما وَجَبَت بَقِيَّةُ الأفعَالِ المشترَكَةِ بين النّسكَيْنِ؟ قِيلَ: الحكمَةُ في شَرعِ هَذَا الدَّمِ في حَقِّهمَا أنَّهُ شُكرٌ لِنعمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيثُ حَصَلَ لِلعَبدِ نُسكانِ في سَفَرٍ واحدٍ وَزَمنٍ وَاحِد، ولهَذَا حَققَ هَذَا المقصُودَ، فاشتَرَطَ لوجُوبِ الدمِ: أن يحرم بالعُمرَةِ في شَهرِ اَلْحَجّ ليَكُونَ كزَمَنٍ وَاحِدٍ، وأن يَكُونَ مِن غَيرِ حَاضِرِي المسجِدِ اَلْحِرَام؛ لأن حَاضِرِيهِ لم يَحصُلْ لَهُم سَفَرٌ من بَلَدٍ بعيدٍ يُوجِبُ عَلَيهِم هَذَا اَلْهَدْي؛ ولأَنه لَيسَ مِنَ اللائِقِ بالعَبدِ أن يقدم بيت للَّهِ بنسكين كَامِلَينِ ثُمَّ لا يُهدِي لأَهلِ هَذَا البَيتِ مَا يَكُونُ بعض شُكرِ هَذِهِ المهنَةِ، فَهَذَا مِن أسْرَارِ الفَرقِ بين المذكُورَاتِ. وأمَّا مَا تَجتَمِعُ فيه الأَنسَاكُ الثَّلاثَةُ ومَا تَفتَرِقُ، فإِذَا عُرِفَ مَا بِه تَفْتَرِق وَاسْتُثْنِيَ بالقَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ عُلِمَ أنَّ اَلْبَاقِي مُشتَرَكٌ بينهَا. فأوَّلُ مما تَفتَرِقُ به: وجُوبُ الدَّمِ عَلَى المتمتِّعِ والقَارِنِ دُونَ المفردِ كمَا تَقدَّمَ. والثَّاني: أَنّ المفردَ لم يَحصُلْ لَهُ إِلا نُسُكٌ وَاحِدٌ، والعُمرَةُ إلَى الآن لَم يَأْتِ بهَا بخِلافِ المتمتِّعِ والقَارِنِ. والثَّالِث: أنَّ المتمتِّعَ عَلَيهِ طَوَافَانِ: طَوَافٌ لعُمرَتِه.

(1/155)


وآخرُ لحجَّتِهِ. والمفردُ والقَارِنُ إنما عَلَيهما طَوافٌ وَاحدٌ، طوافٌ لِلْحَجِّ فقط في المفرِدِ ظَاهِر والقَارِنُ تَدخُلُ عمرَتُه بحجَّتِه، وتَكُونُ اَلأَفْعَال وَاحِدةً، ولِهَذَا يَتَرَتَّب عَلَيهِ. الرَّابعُ: أنَّ المتمتِّعُ يُحِلُّ مِن عُمرَتِه حِلاًّ تَامَّا لا يمنَعُه مِنَ الحلِّ إلا سوق الهَدي، والمفرِدُ والقَارِنُ يبقَيَانِ على إحرَامِهِمَا. الخامِسُ: أَنَّ الحَائِضَ وَالنُّفَسَاء إِذَا قَدِمَتَا لِلْحَجِّ ولا يُمكِنُهُما الطُّهرُ إلا بعدَ فَوَاتِ الوُقُوف تَعيَّن عَلَيهِمَا الإِحْرَامُ بالإِفْرَادِ أَوِ القِرَانِ أو قَلبِ نِيَّةِ العُمرةِ قِرَانًا، وتمتَنِعُ عَلَيهِمَا العُمرَةُ المفردَةُ لَتَعَذُّرهَا في هَذِهِ الحَالِ. وكَذَلِكَ مَن لا يُمكِنُه أن يَأتيَ بالعُمرَةِ قَبْلَ فَوَاتِ ألوُقُوفِ. وهَذَا الفرقُ الأَخِيرُ رَاجِعٌ لِعَدَمِ القُدرَةِ عَلَى هَذَا اَلنسك. اَلسَّادِس: أَنَّ المفرِدَ بِالْحَجِّ يُشرَعُ لَهُ أن يَفسَخَ نيته ويَجعَلَهَا عُمرَةً، والمتَمَتِّعُ والقَارِنُ لا يُشرَعُ لَهُمَا جَعلهَا إِفرَادًا إلاَّ في حَالِ التَّعذُّرِ للعُمرَةِ كَما تَقَدَّم. السَّابعُ: أنَّ المفرِدَ والقَارِنَ يُشرَعُ لَهُمَا أَوَّل مَا يقدُمَانِ البَيتَ طَوَافُ قُدُومٍ، والمتمتِّعُ يكفِيهِ طَوَافُ العُمرَةِ عَن طَوَاف القُدُومِ لاجتِمَاعِ عِبَادَتَينِ مِن جِنْسٍ وَاحِدٍ فتَدَاخَلَتَا. كَما أنَّ أفعَالَ القَارِنِ كُلَّهَا وَاحِدَةٌ لا يَحتَاج أَن يُفرِدَ حجَّتَهُ بِأَفْعَال وعُمْرَتَهُ بِأُخْرَى، فالأَفعَالُ صَارَتْ لِلْحَجِّ، واندَرَجَتِ العُمرَة فِيهِ، واللَّه أَعْلَمُ.

(1/156)


الحِكمةُ في اِنْقِطَاع اَلتَّلْبِيَة برَمي جَمرةِ اَلْعُقْبَة 52- مَا الحِكمَةُ في انقِطَاعِ التَّلبِيَةِ برَمي جَمرةِ العَقَبَةِ وبالحِلِّ مِنَ المحظورَاتِ كُلّها بفِعلِ الرَّمْيِ والحَلقِ وَالطَّوَاف وبالحِلِّ النَّاقِصِ بفِعلِ اثنَينِ مِنهَا مَعَ أنَّهُ قَد بَقي مِن مَنَاسِكِ اَلْحَجّ الرَّمي والمبِيتُ بِمِنَى؟ الجَوَابُ: مِنَ الحِكمَةِ في ذَلِكَ: أَنَّه إذَا شُرِعَ في اَلرَّمْي فَقَد شُرِعَ في أَولِ الإِحلالِ مِن إحرَامِه، والتَّلبِيَةُ شِعَارُ الدُّخُولِ في النُّسُكِ، واستَمَرَّتْ في تَضَاعِيفِهِ، فَلَما رَمَى الجمرَةَ وآن حِلَّه مِنْ نُسُكِه زَالَ حُكمُهَا؛ لأنّ مَا كَانَتْ شِعَارًا له قَد شَرَعَ في الخُرُوجِ مِنهُ واشتَغَلَ بمكمِّلاتِ نُسُكِهِ عن التَّلبِيَةِ. وأَمَّا إِبَاحَةُ المحظُورَاتِ كُلِّهَا بِفِعلِ الطَّوَافِ والحلقِ ورَمي جَمرَةِ العَقَبَةِ وأنه يَحِلُّ له كُلِّ شَيءٍ كَانَ مَحْظُورًا حتَّى النِّساء؛ لأنَّهُ كَما تَقَدَّمَ قَد شَرَعَ في الخُرُوجِ مِنَ النُّسُكِ، والمحظُورَاتُ المذكُورَةُ عَلامَة على وُجُودِهِ وشِعَارٌ لَهُ، وَقَد مَضَتْ جَمِيعُ أجنَاسِ أفعَالِ النُّسُكِ ومُتَعَبداته إلا أَفعَال قَد فعل بَعضَهَا كالرمي والإِقَامَةِ في مِنَى فَجَرَى فِعْلُ بَعضِهَا مَجرَى فِعلِ جَميعِهَا بالنِّسبَةِ إِلَى حِلِّ المحطُورَاتِ. وأَيضًا: فَفِي إِبَاحَتِهَا مِنَ السُّهُولَةِ عَلَى الخَلقِ، واليُسرِ عَلَيهِم والتَّخفِيف الَّذِي أحق النَّاسِ بِه وُفُودُ بَيتِ اللَّهِ الحرام وأَضْيَافُ اللهِ والدَّليلُ على أنَّ الإِنسَانَ قَد أَخَذَ في اَلْخُرُوج مِن هَذِهِ العِبَادَةِ أو قَد خَرَجَ وبَقي لَهُ تكمِلَة.

(1/157)


أَنَّ الوَطءَ قَبلَ ذَلِكَ مفسد للنُّسُكِ موجب للفِديَةِ الغَليظَةِ؛ لأنه في نَفسِ اَلنُّسُك، والوَطءُ يُنَافِيهِ أَشَدَّ المنَافَاةِ، وبَعدَ الحِلِّ كُلِّه زَالَ هَذَا المعنَى. بقي أَنْ يُقَالَ لِمَ انحَلَّتِ اَلْمَحْظُورَات كُلِّها بِفِعلِ اثنَينِ مِنَ الثَّلاثَةِ المذكُورَةِ دُونَ الوَطءِ فَلابِد في حِلِّه من فِعلِ اَلثَّالِث؟ قِيلَ: لِشِدَّتِه وغِلظِه ومنَافَاتِه التَّامَّةِ للنُّسُكِ وَجَبَ الإِمسَاكُ عَنهُ حتَّى يَحْصُل الحِلُّ كُلُّه واللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ. الحِكمَةِ في الهَديِ وَالأَضَاحِيّ وَالْعَقِيقَة وتَخْصِيصِهَا بِالأَنْعَامِ الثَّمانِيَة 53- عَنِ الحِكمَةِ في الهَدْيِ والأضَاحِي والعَقِيقَةِ وتَخْصِيصِهَا بالأنعَامِ الثَّمانِيَةِ؟ الجواب: وباللَّهِ التَّوفِيقُ. الدِّمَاء نَوعَانِ: 1- دِمَاءٌ يُقصَدُ بِهَا الأَكْلُ والتَّمتُّع فَقَط. 2- ودِمَاءٌ يُقْصَد بِهَا التَّقرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهِيَ هَذِهِ الثَّلاثَةُ. وَلا شَك أَنَّ النَّحرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وأَشرَفِهَا وَلِذَلِكَ قَرَنَهَا تَعَالَى بالصَّلاةِ فِي قَولِهِ: ? فَصَلِّ لَرَبّكَ وَانْحَر? [الكوثر: 2] ، ? قُلّ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ? [اَلأَنْعَام: 162] . وهَذِه عِبَادَةٌ شُرِعَتْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ لمحبة اللَّهِ لَهَا، ولِكَثرَةِ نَفعِهَا

(1/158)


ولِكَونِه مِن شَعَائِر دينه، ولِذَلِكَ اقتَرَنَ الهَديُ والأَضَاحِي بِعِيدِ النَّحرِ لِيَحصُلَ الجَمعُ بين الصَّلاةِ والنَّحرِ والإِخلاصِ للمعبُودِ والإِحسَانِ إلى الخلْقِ. وشرع الهَدي أن يُهدَى لخِيَرِ البِقَاعِ في أَشرَفِ الأزِمَانِ في أجَلِّ العِبَادَاتِ، فَصَارَ الذبحُ أَحَدَ أَنسَاكِهَا الوَاجِبَةِ أو المكَمِّلَةِ، وصَارَ تمامُ ذَلِكَ أَنْ تُسَاقَ مِنَ الحِلِّ. وَأَكْمَل مِن ذَلِكَ أَنْ تُسَاقَ قَبْلَ ذَلِكَ ويجعل لَهَا شِعَارًا تُعرَفُ بِهِ مِنَ التَّقلِيدِ، والإِشْعَار تعظيمًا لحرُمَاتِ اللَّهِ وشَرَائِعِه وشَعَائِر دِينهِ. وفِيهِ مِنَ الحِكمَةِ: الاقتِدَاءُ بالخلِيلِ - صلى الله عليه وسلم - حَيثُ فُدِيَ ابنه بِذِبحٍ عَظِيمٍ وأَمَرَ اللَّهُ هَذِه الأُمةَ بالاقتِدَاءِ بِهِ خُصُوصًا في أَحْوَالِ البَيتِ الحرام إذا هُوَ بَانِيهِ ومؤسسه. وفِيهِ: تَوسِيعٌ عَلَى سُكَّانِ بينه الحَرَامِ، حَيْثُ شَرَعَ لَهُم مِنَ الأرزَاقِ وسَاقَ لَهُم مِن قَدَرِهِ وشَرعِه مَا بِه يرتَزِقُونَ وبهِ يتمتَّعُونَ، إِذ قَد تَكَفلَ بأرزَاقِهِم بَرهم وفاجرهم كَما تكفلَ بأرزَاق جَميعِ خَلقِه كما في دَعوَةِ الخَلِيلِ - صلى الله عليه وسلم -. ومِنَ الحكمَةِ فِيهَا: أَنَّها شُكرٌ لنِعمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بالتَّوفِيقِ لَحْج بيته الحَرَامِ ولهَذَا وَجيتَ في المتعَةِ والقِرَانِ، وشَمِلَتْ تَوسِعَتَهُ. فهي لِلأَغْنِيَاءِ والفُقَرَاءِ لمن ذَبَحَهَا وغَيرِهِم.

(1/159)


قال تَعَالَى: ? فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ? [الحح: 28] . ثمَّ إِنَّ هَذِهِ العِبَادَةَ لم تَختَصّ بحجَّاجِ بيتِهِ الحَرَامِ بَل شَمِلَتْ مشرُوعيتُهَا جَمِيعَ المسلمين في هَذِهِ الأيّامِ، فَشَرَعَ لَهُم الأَضَاحِي تَحصِيلاً لِفَوَائِدِ هَذِهِ العِبَادَةِ الفَاضِلَةِ. وأمَّا العَقِيقَةُ عَنِ المولُودِ: فَشُرِعَتْ شُكرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعمَتِه على العَبدِ بِحُصُولِ الوَلَدِ. وضُوعِفَ اَلذَّكَر عَلَى الأُنثَى إِظهارًا لمزيتهِ؛ ولأنَّ النِّعمَةَ به أتم والسُّرُورَ بِهِ أَوْفَرُ. وتَفَاؤُلا بأنَّ هَذِهِ اَلْعَقِيقَة فَادِيَةٌ للمَولُودِ مِنْ أَنوَاعِ اَلشُّرُور، وإِدلال عَلَى الكَرِيم بِرَجَاء هَذَا المقصِدِ وَتَتْمِيمًا لأَخلاقِ المولُودِ، كَما في الحَديثِ: «كُلِّ مَولُودٍ مُرتَهَنٌ بعَقِيقَتِهِ» . قِيلَ: مُرتَهَنٌ عَنِ الشَّفَاعَةِ لِوَالِدَيهِ. وقِيلَ: مُرتَهَن مَحبُوس عَن كَمَالِه حتَّى يُعَقّ لَهُ.

(1/160)


وحَسبكَ مِن ذَبِيحَةٍ هَذِهِ ثمَرَتُهَا. فَالْعَبْد يَسعَى في تَكمِيلِ وَلَدِهِ وتَعلِيمِهِ وتأدِيبِه، ويبذُلُ الأَموَالَ الطائِلَةَ في ذَلِكَ، وهَذَا مِن أبلَغِ الطُّرُقِ إِلَى هَذَا التَّكمِيلِ، واللَّهُ الموفِّقُ. وأمَّا تَخْصِيصُهَا بالأنعَامِ الثلاثَةِ الإِبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ: فَلأَنَّ هَذِهِ الذبائِحَ أَشْرَفُ الذَّبَائِحِ عَلَى الإِطلاقِ وأَكْمَلُهَا، فشرع لها أنْ يَكُونَ المذبُوحُ فِيهَا أَشْرَفَ أَنوَاعِ اَلْحَيَوَانَات، واللَّه أَعْلَمُ بما أرَادَ. وحَققَ هَذَا المعنَى بأنْ شَرَطَ فِيهَا تمامَ السِّنِّ الَّذي تَصْلُح فِيهِ لِكَمَالِ لحمهَا ولذَّتِه، وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنَ الإِبِلِ والبَقَرِ والمعزِ والجذعِ مِنَ الضَّأنِ لنَقصِ مَا دُونَ ذَلِكَ ذاتًا ولحمًا. واشتَرَطَ فِيهَا سَلامَتَهَا مِنَ العُيُوبِ الظاهِرَةِ، فَلَم يُجِز: المرِيضَةَ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَورَاءَ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والعَرجَاءَ الَّتِي لا تطيق اَلْمَشْي مَعَ الصَّحِيحَةِ، والهَزِيلَةِ الَّتِي لا مُخَّ فِيهَا لِيَكُونَ مَا يخرِجُهُ الإِنسَانُ كَامِلاً مُكَملاً. وَلِهَذَا شُرِعَ استِحسَانُهَا واستِسمَانُهَا، وأن تَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ، واللَّهُ أعلَمُ.

(1/161)