×
محاضرة مفرغة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ألقاها في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية لعام 1384هـ.

 منهج التشريع الإسلامي وحِكمتُه

__________ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: قال المحقق في المقدمة: محاضرة ألقاها الشيخ في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية عام 1384.

(1/49)


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد؛ فاعلم أولًا أن "المنهج" في اللغة العربية هو الطريق الواضح، كالمنهاج، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. و"الإسلام" في اللغُة العربية: الانقياد والإذعان. تقول العرب: أسْلَمَ لله إذا انقاد وأذعن وأطاع. ومنه قول زيد بن عَمْرو بن نفيل العدوي مؤمن الجاهلية: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرًا ثقالا دحاها فلما استوت شدَّها ... سواء وأرْسَى عليها الجبالا وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبًا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالا فحالا والإسلام في الإصطلاح الشرعي هو: الانقياد والإذعان لله تعالى، بامتثال أمره واجتناب نهيه من جميع الجهات الثلاث، أعني: إذعان القلب وانقياده بالاعتقاد والقصد، وإذعان اللسان وانقياده بالإقرار، وإذعان الجوارح وانقيادها بالعمل. والإسلام في الاصطلاح الشرعي الحقيقي يطلق على ما يطلق عليه الإيمان في اصطلاح الشرع. وقد قال تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ

(1/51)


الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيرَ بَيتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36]. أما الفرق بينهما في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فلأن الإيمان المنفي في هذه الآية هو الإيمان الشرعي، والإسلام المثبت فيها في الحقيقة هو الإسلام اللغوي، وهو الانقياد بالجوارح للعمل مع أنه غير الإسلام الشرعي الحقيقي الصحيح؛ لأن مصدره القلب، والله يقول في هذه الآية: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. فعدم دخول الإيمان في قلوبهم يدل على أن الإسلام المثبت لهم لغوي فقط؛ لأنه شكلي صوري لا حقيقي؛ لأن القلوب لم تنطو عليه كما ترى. و"التشريع" هو وضع الشرع، والشرعُ هنا هو النظام الذي وضعه خالق السموات والأرض على لسان سيد ولد آدم -عليه الصلاة والسلام- ليسير عليه خلقه، فيحق لهم به سعادة الدارين على أكمل الوجوه وأحسنها. وقد فهمت من تفسير الإسلام أنه نوعان وهما: أنه الاعتقاد بالقلب والعمل بالجوارح، ومنها اللسان؛ لأن القول فعل اللسان؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]. فتراه أطلق الفعل على زخرف القول. أما الاعتقاد فقد دلَّ استقراء القرآن أنه في حق الله تعالى ثلاثة أنواع: 1 - الأول: اعتقاد أنه واحد في ربوبيته جل وعلا، فهو الخالق

(1/52)


الرازق، المحيي المميت، النافع الضار، المدبر لشئون أهل السموات والأرض، الذي لا يقع شيءٌ كائنًا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا. وهذا النوع جبلت عليه فطر البشر في الأغلب. قال تعالى في الكفار: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، ولم ينكر هذا النوع من التوحيد الذي هو توحيده جل وعلا في ربوبيته إلّا اثنان: 1 - رجلٌ بالغ من الجهل والغباوة ما يجعل درجته في الفهم والعقل أقل من درجة البهائم، كمن قال الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وقال فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. بل كثير من هؤلاء الذين فضل الله عليهم الأنعام يقرون بربوبيته جل وعلا، فظهر أن الذي ينكر ذلك منحطٌّ عن درجة الأنعام بمراتب. 2 - ورجل مكابر جاحد ما هو عالم بأنه حق كفرعون، فإن قوله فيما ذكر الله عنه: {قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالمِينَ (23)} [الشعراء: 23]. وقوله: {قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49)} [طه: 49]. تجاهلُ عارفٍ بأنه عبد مربوب لرب العالمين، كما دل عليه قوله تعالى: {قَال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ... } الآية [الإسراء: 102]، وقوله

(1/53)


تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. النوع الثاني: هو توحيده في عبادته، وهذا النوع هو الذي كانت فيه المعارك بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وبين أممهم كما هو مفصل في القرآن العظيم في سور كثيرة وقَصَصٍ كثيرة. وهذا النوع هو معنى لا إله إلا الله، وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى نفيها: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله وحده جل وعلا بجميع أنواع العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه. النوع الثالث: هو توحيده تعالى في أسمائه وصفاته. وضابط هذا النوع هو تنزيه الله جل وعلا عن مماثلة الخلق في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم. والإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على نحو: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11] كما بيناه بالآيات القرآنية في محاضرة قبل هذه. أما النوع الثاني من أنواع الإسلام: الذي هو ما سوى الاعتقاد، وهو العمل فهو شامل لأصناف كثيرة. أ- منها ما هو من أفعال القلوب، كالإخلاص بالقلب في جميع الأعمال وحسن النية. ب - ومنها ما هو باليد. ج - ومنها ما هو باللسان.

(1/54)


د- ومنها ما هو بالفرج .. إلخ. وكذلك انتهاك الأوامر الإسلامية وعدم امتثالها (أي شامل لأصناف كثيرة). أ- منها ما هو من أفعال القلب كالكِبْر والعُجْب والحسد والرياء ونحو ذلك. ب- ومنها ما هو من أفعال اللسان، ككلمة الكفر، وكالغيبة والنميمة ونحو ذلك. ج- ومنها ما هو من أفعال اليد، وهو جميع أنواع البطش باليد فيما لا يجيزه الشرع الكريم، كالقتل والسرقة ونحو ذلك. د- ومنها ما هو من أفعال الفروج، كالزنا واللواط .. إلخ، وهو واضح. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المتفق عليه أن الدعائم العظام والأركان الكبار التي بُني عليها التشريع السماوي خمس وهي: * شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. * وإقام الصلاة. * وإيتاء الزكاة. * والحج. * وصوم رمضان.

(1/55)


أ- أما الشهادتان، فهما متضمنتان لكل ما يجب اعتقاده في الله جل وعلا وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يجب لله جل وعلا من الحقوق الخاصة به وما يجب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. كما هو مفصل في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ب- وأما الصلاة. فهي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين، وقد فرضها الله على نبيه فوق سبع سماوات ليلة الإسراء والمعراج، وقد جعلها دون غيرها من الأركان يتكرر رجوعها في كل يوم وليلة خمس مرات لعظم شأنها؛ لأن المصلي يقوم في اليوم والليلة خمس مرات يناجي خالق السموات والأرض، ومناجاته جل وعلا تستلزم أقوالًا وأفعالًا لائقة بذلك المقام. ولذلك علمه الله جل وعلا في أعظم سورة من كتابه وهي (الفاتحة) التي هي السبع المثاني والقرآن العظيم علمه فيها كيف يناجي خالق السموات والأرض بما هو لائق به وعلمه كيف يسأل ربه حاجته، فأوجب عليه أن يبتدئَ قراءته بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4]. فحمد ربه وأثنى عليه بجميل صفاته، ومجَّدَه ووحَّده في ربوبيته بقوله: {رَبِّ الْعَالمِينَ} [الفاتحة: 2] وفي أسمائه وصفاته بقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم علمه توحيده في عبادته بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأن معناه لا نعبد إلا إياك وحدك؛ لأن تقديم المعمول يدل على الحصر كما هو مقرر في الأصول والمعانى. وعلمه الاستعانة بربه وإظهار الضعف والعجز بين يديه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. ولما أثنى على ربه بما علمه أحسن ثناء، وخضع له به أكمل

(1/56)


خضوع، وأفرده بالعبادة والقصد وأخلص له في ذلك أكملِ إخلاص= علَّمَه كيف يسأله جل وعلا حاجته بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ}. وهذا الدعاء القرآني شامل لخير الدنيا والآخرة. وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما لفظه: "فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2)} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. قال: مجدني عبدِي. وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدِي ما سأل. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". فيكفي المصلي شرفًا وعلوًا ونبلًا لما يرجو من خير الدنيا والآخرة أن الله جل وعلا قسم هذا الركن الأعظم من أركان الإسلام بينه جل وعلا وبين المصلي. فما أعظم شأنها من قسمة! وقد وعَدَه أن له ما سأل، وهو جل وعلا لا يخلف وعده. ج - وأما الصوم، ففيه رياضة عظيمة للنفوس وإعانة عظيمة على تقوى الله تعالى، كما أشار جل وعلا إلى ذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

(1/57)


تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]. فقوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} بعد قوله: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ} دليل واضح على ذلك. وقد زاده النبي - صلى الله عليه وسلم - إيضاحًا بقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء". د- وأما الحج، فقد أشار الله لبعض فوائده بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ... } [الحج: 28] وضرب بعض العلماء له مثلًا فقال -ولله المثل الأعلى-: إن مَلِك الملوك وهو الله جل وعلا عيَّن بيتَه في مكة المكرمة -حرسها الله تعالى- وبقية مواضع النُّسُك كعرفات ومزدلفة ومنى للوفود، يَفِدُون إليه في تلك الأمكنة، فيرفعون إليه حوائجهم فيقضيها. فالحجيج كأنهم الوافدون إلى الملك الحق لِيُحْسِن وفادتهم ويعطيهم أسنى الجوائز وأعظمها، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة". وقال: "من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". ومن حكمة اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا كل سنة؛ ليتعارفوا ويستفيد بعضُهم من بعض، ويتبادلون الرأي في حل مشاكلهم، إلى غير ذلك. هـ - وأما الزكاة، فهي مواساة كريمة للفقراء والمحاويج، أشار الله تعالى إلى بعض فوائدها بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وإنما أشرنا إلى حكم هذه الأركان إشارة خاطفة؛ لأن المقام لا يتسع للبسط فيها، ولا يخفى أن الركن الأكبر الذي هو توحيد الله بأنواعه، المستلزم إفراده بالعبادة وحده= هو

(1/58)


منتهى التحرر من الرق والعبودية للمخلوقين. ومن جملتهم النفس والهوى والشيطان. كفانا الله وإخواننا المسلمين شر ذلك كله، وسنتكلم الآن إن شاء الله على منهج التشريع وحكمه. اعلم أن طريق تشريع الله دينه لخلقه فيها من الحِكَم والأسرار من جهات شتى ما لا يحيط بعلمه إلا الله جل وعلا وحده، وسنذكر إن شاء الله من ذلك أمثلة هنا ليستدل بها العاقل على غيرها. فمن تلك الحكم البالغة في كيفية التشريع أنه جل وعلا يشرع أحكام دينه تدريجيًّا لتسهيل ذلك على النفوس التي ألِفَت ما يضاد ذلك التشريع. والتدريج المذكور نوعان: 1 - تارة يكن في أحكام مختلفة. 2 - وتارة يكون في حكم واحد إذا كان التكليف به مما فيه مشقة على من اعتاد خلافه. أ- فمن أمثلة النوع الأول: التدريج في تشريع الدعائم الخمس التي بُني عليها الإسلام. فإن الله شرع منها أولًا شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ومكث - صلى الله عليه وسلم - زمنًا في مكة المكرمة -حرسها الله- لا يدعو إلا لعبادة الله وحده، ثم بعد ذلك شرع له الله الصلوات الخمس المكتوبة ليلة الإسراء والمعراج. والتحقيق أنهما في ليلة واحدة. وعن الزهري وعروة: أن الإسراء المذكور كان قبل هجرته بسنة، وعن

(1/59)


السدي أنه كان قبلها بستة عشر شهرًا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تاريخه": وعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة. وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول. وذكر رحمه الله عن جابر وابن عباس أن الإسراء كان في ربيع الأول، وأن الحافظ عبد الغني المقدسي اختار أنه في ربيع الأول. وبذلك تعلم أن ما يفعله العوام في رجب بناءً على أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين منه بدعة مبنية على باطل. وإنما قلنا: إنها بدعة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها، ولم يأمر بها هو ولا خلفاؤه الراشدون والخير كله والهدى في اتباعه هو وخلفائه الراشدين، مع أنه لم يثبت من طريق صحيح ولا حسن أن الإسراء كان في رجب. والوارد في ذلك لا أصل له. ثم بعد ذلك فرضت الزكاة والصوم في سنة واحدة وهي سنة اثنتين من هجرته - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعض أهل العلم: إن الصوم فرض في شعبان منها قبل وقعة بدر. وقال بعض أهل العلم: إن الزكاة فرضت في مكة قبل الهجرة لذكر الزكاة في سورة مكية معروفة. ثم فرض الحج، واختلف في وقت فرضه، فجزم الشافعي -رحمه الله- بأنه فرض في عام ست، واستدل لذلك بأن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] نزل

(1/60)


في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وذلك في ذي القعدة من سنة ست بلا خلاف. ومن هنا أخذ الشافعي -رحمه الله- أن وجوب الحجِّ على التراخي. قال: إنه فُرِض سنة ست والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فرض الحج إلا سنة عشر بإجماع المسلمين. وخالفة جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة فقالوا: بل يجب فورًا ولم يفرض الحج إلَّا في عام تسع، واستدلوا بأن الحجَّ إنما فُرِض بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِينَ (97)} [آل عمران: 97]. وهو من صدر سورة آل عمران وهو نازل في وفد نجران وهم من القادمين عام الوفود. قالوا: ومما يوضح ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على أداء الجزية. والجزية إنما نزلت في سورة براءة عام تسع. فإن قيل: لم تزل حجة الشافعي قائمة في أن وجوب الحج على التراخي؛ لأنكم وافقتم على أنه فُرِض عام تسع وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يحج عام تسع بل أرسل أبا بكر - رضي الله عنه - حاجًّا بالناس وأتبعه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ينادي في موسم الحج بسورة براءة. "وألا يحج بعد العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان". فالجواب من قبل الجمهور أنهم يقولون: وجوبُ الحجِّ على الفور. وهو عام تسع مفروض إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منعه من المبادرة إلى الحج عام تسع عُذر شرعي صحيح، وهو أنه في عام تسع لم يمكن منع المشركين من الحج ولا منع الطائفين عُراة فَكَرِه - صلى الله عليه وسلم - مخالطتهم على ذلك الحال، ولذلك صرَّح الله بمنعهم بعد ذلك العام الذي هو عام

(1/61)


تسع، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. وأشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}. لم تنقض إلا بعد الحجِّ من تلك السنة، فلهم المُهْلة في ذلك الموسم من تلك السنة التي هي سنة تسع. وأظهر الأقوال أن مبدأ تلك الأشهر من وقت النداء بالبراءة من المشركين، وذلك يوم الحج الأكبر، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]. فأول عامٍ أمكنه فيه الحج صافيًا لا توجد فيه مناكر من طواف المشركين عراة، هو عام عشر، فبادر فيه إلى الحج. قالوا: وأما آية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} النازلة سنة ست فهي إنما تدل على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه، ولا تدل على وجوبه ابتداء؛ إذ لو كانت دليلًا صريحًا على وجوبه ابتداء، لما أمكن خلاف أهل العلم في وجوب العمرة؛ لأنها قرينة الحج في آية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] المذكورة. ومثال النوع الثاني: وهو ما كان التدريج فيه في حكم واحد إذا كان التكليف به فيه مشقة بتشريع القتال والصوم وتحريم الخمر، فإن القتال فيه مشقة على النفوس لما يستلزمه من إنفاق الأموال وتعريض المُهَج للتلف. فالمجاهد عند التقاء الصفوف والتحام القتال لا يخفى أن حياته في أعظم الخطر. ولذا كان الحاضر صف القتال عند المالكية ومن وافقهم محجورًا

(1/62)


عليه، كالحَجْر على المريض مرضًا مَخُوْفًا، ولأجل هذا لم يُفرض الجهاد مرةً واحدة، بل إنما فُرِضَ تدريجًا على ثلاث مراحل. فأذن فيه أولًا من غير إيجاب بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39] ثم لما استأنست النفوس به بعد الإذن فيه أُمِروا بقتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190] فلما استأنست النفوس بالقتال ومارسته وهان عليها فرض فرضًا جازمًا باتًا بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. ومعلوم أن بعض أهل العلم يقول في آية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} غير ما ذكرنا، ولكن ما ذكرنا اختاره غير واحد من العلماء. وأما الصوم، فلا يخفى أنَّ كفَّ النفس عن شهوة البطن والفرج فيه مشقة على من لم يَعْتَدْه ولذلك شرع الصوم أيضًا تدريجًا. فكانوا في أول الأمر مخيرين بين الصوم وبين الفطر والإطعام، كما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] على أظهر التفسيرات وأظهر الأقوال في ذلك. ثم لما استأنستِ النفوسُ بالصوم وأَلفَتْه أوجب إيجابًا جازمًا باتًّا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

(1/63)


وبعض أهل العلم يقول: إن

 مراتب تدريج الصوم ثلاث:

1 - كان أولًا يجب صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أوجب صوم رمضان سنة اثنين ثم وقع فيه التدرج الذي ذكرنا. وأما الخمر، فإن من اعتادها يصعب عليه تركها -قبحها الله- ولذلك لما أراد الله أن يشرع تحريمها شرعه تدريجًا على ثلاث مراحل؛ أنزل فيها أولًا آية البقرة المنبهة على بعض معايبها وما فيها من الإثم وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم استأنست النفوس بأن فيها إثمًا كبرًا وأن إثمها أكبر من نفعها= شرع الله تحريمها في بعض الأوقات دون بعض، فحُرِّمت عليهم في أوقات الصلاة، ومعنى ذلك أنهم حُرِّم عليهم شربها في وقت يَقْرُب من وقت الصلاة بحيث يدخل وقت الصلاة والشارب لم يصحُ. فصاروا لا يشربونها إلا في وقتين، لأن الشارب فيهما يصحو قبل وقت الصلاة وهما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العشاء. وذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. فلما استأنست النفوس بتحريمها حُرِّمت تحريمًا جازمًا باتًّا في غزوة بني النضير بقوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91]

(1/64)


وفي هذه الآية الكريمة تحريم الخمر على أكمل الوجوه وأبلغها كما أوضحناه في غير هذه المحاضرة، فهذه أمثلة من حكم الله البالغة في كيفية التشريع. ثم إنَّا نريد الآن أن نذكر الحكم التي يشتمل عليها تشريع خالق السموات والأرض. اعلم أولًا أن الحكمة "فِعْلة" من الحكم، وهو في اللغة المنع. وأظهر معاني الحكمة لغة أنها العلم النافع الصحيح؛ لأن العلم الصحيح النافع يمنع الأقوال والأفعال أن يعتريها الخلل والنقص فكل نقص أو خلل منشأه في الحقيقة من الجهل الذي هو عدم العلم بما يقصد. والحكمة في الاصطلاح: هي وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها. وهي في الاصطلاح الخاص بأهل الأصول: المصلحة التي من أجلها صار الوصف علة للحكم. فالحكم -مثلًا- تحريم شرب الخمر، وعلة هذا الحكم هي الإسكار، والحكمة هي حفظ العقل. فمصلحة حفظ العقل هي التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم شرب الخمر وهي حكمة التشريع. والحكم -مثلًا أيضًا- القطع، وعلة هذا الحكم هي السرقة، والحكمة هي حفظ المال. فمصلحة حفظ المال من السرقة هي التي من أجلها صارت السرقة علة لقطع يد السارق. وهكذا. وبعض أهل الأصول يقول: الحكمة عبارة عن دفع مفسدة أو

(1/65)


تقليلها. أو جلب مصلحة أو تكميلها وهو راجع إلى ما ذكرنا. فإذا علمت ذلك فاعلم أن الحِكَم التي يدور حولها التشريع السماوي ثلاث. 1 - الأولى: درأ المفسدة وهو المعبر عنه في الأصول بالضروريات. 2 - الثانية: جلب المصلحة وهو المعبر عنه عند الأصوليين بالحاجيات. 3 - الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج في العادات والمعاملات وهي المعبر عنه في الأصول بالتحسينات والتتميميات. أما الضروريات وهي أصول المصالح العالمية في الدنيا فهي درء المفسدة عن ستة أشياء عليها مدار المصالح الكبرى في الدين والدنيا وهي: 1 - الدين. 2 - النفس. 3 - العقل. 4 - النسب. 5 - العرض. 6 - المال. أ- أما الدين: فقد اقتضى التشريع الإسلامي بما اشتمل عليه من الحكم البالغة صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأقومها وأعدلها كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. وفي آية الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فهذا دفاع عن حمى الدين بالنفس والنفيس تحت ظلال السيوف حتى لا تبقى فيم الأرض فتنة (أي شرك) كما يدل عليه قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا

(1/66)


أن لا إله إلا الله". الحديث. وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يقاتلون حتى يدعوا إلى الإسلام فيمتنعوا وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. لأن قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} بعد قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} يدل على أنه إن لم تنفع فيهم البينات والكتب جرد عليهم السيف كما قال القائل: يهدي الكتاب هدى فمن لم يرتدع ... بهدى الكتاب فبالكتائب يردع ب- وأما النفس: فقد اقتضى التشريع الإسلامي -أيضًا بما اشتمل عليه من الحكم البالغة والمحافظة على المصالح العامة- صيانتها ودرأ المفسدة عنها بأحكم الطرق وأقومها. ولذا جاء فيه تشريع القصاص، وهو أعظم وسيلة لسلامة الأنفس من القتل، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]. فصرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لهم في تشريع القصاص حياة؛ لأن من همَّ بالقتل تذكَّر أنه إن قَتَل قُتِل، فلاحظ تقديمه للقتل قصاصًا، فأشفق على نفسه من الموت، فتَرَكَ القتلَ، فسَلِمَ صاحبُه من القتل، وسَلِمَ هو من القَوَد، وهذه حياة نفسين كانت بسبب هذا التشريع السماوي الذي وضعه الله الحكيم الخبير. ولكن هذه الحِكَم إنما يفهمها أهل العقول السليمة من شوائب الاختلال؛ ولذا قال تعالى بعد ذكره القصاص المذكور والتنبيه على ما

(1/67)


في تشريعه من الحياة {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. فنادى المخاطبين نداء يختص بأصحاب العقول السليمة لأنهم هم الذين يفهمون ذلك وينتفعون به. ج- وأما العقل: فقد اقتضى تشريع الحكيم الخبير المحافظة عليه بأحكم الطرق وأقومها، فمنع من شرب الخمر؛ لأنها تذهب العقل صيانة للعقل ومحافظة عليه، وأوجب الحد في شرب الخمر محافظةً عليه وصيانةً له قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90 - 91]. وفي الحديث: "كل مُسْكِر حرام" وفيه: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وقد أوجب - صلى الله عليه وسلم - حد الشارب درأ للمفسدة عن العقل كما هو معلوم. د- وأما النسب: فقد اقتضى التشريع الإسلامي -الذي هو تشريع خالق السموات والأرض على لسان سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه- صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأعْدَلها، فحرَّم الزنا، ومن حكمة تحريمه أنه حُرِّم لئلا يبقى الولد من الزنا ضائعًا بلا نسب، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ونحوها في الآيات. ولأجل المحافظة على النسب أوجب الحد على من زنا -أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك- فصرح تعالى بوجوب جلده مائة جلدة في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ} [النور: 2] وصرح في الآية الأخرى التي هي منسوخة التلاوة باقية الحكم وهي قوله تعالى: "الشيخ والشيخة .. إلى قوله

(1/68)


عزيز حكيم"، وهذه الآية باقية الحكم إجماعًا وإن نُسِخ لفظها. وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجَمَ الخلفاء الراشدون بعده، واستقر على ذلك إجماع المسلمين كما هو معلوم لا نزاع فيه. ومن حِكَم ذلك الردع البالغ عن الزنا بالجلد والرجم حِفْظ الأنساب وعدم ضياعها واختلاطها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجم المذكور دلت عليه آية محكمة التلاوة والحُكْم وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [آل عمران: 23] قال: لأنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وهما محصنان، وحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمهما، وأعرض اليهود عن قبول ذلك الحكم بالرجم. فذمهم الله بسبب ذلك الإعراض في قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. وذمه المعرض عن حكم الرجم في هذه الآية يدل على أنه مشروع في شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو كان غير مشروع فيها ما ذم الله المعرض عنه كما ترى. ولأجل صيانة النسب والمحافظة عليه أوجب الله العِدَّة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت لئلا يختلط ماء رجل برحم امرأة بماء رجل آخر قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. ولا يخفى أن عدة الوفاة لا تخلو من شبه تعبد لوجوبها مع عدم الدخول بالمتوفى عنها.

(1/69)


ولأجل صيانة النسب المحافظة عليه منع الشرع الكريم سقي زرع الرجل بماء غيره، فمنع نكاح الحوامل حتى يضعن حملهن، قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. هـ - وأما العرض أيضًا: فقد اقتضى التشريع السماوي -بما اشتمل عليه من الحكم البالغة- صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأحسنها وأعدلها، فحرَّم على الإنسان تحريمًا باتًّا أن يتكلم في عرض أخيه بما يؤذيه، قال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]. ثم شنع الوقوع في عرض المسلم وقَبَّحه أعظم تشنيع وتقبيح، حيث مثَّله بأكل لحمه بعد أن مات وأنتن، وذلك في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 12]. ولأجل المحافظة على العرض وصيانته قال تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. ولأجل صيانته والمحافظة عليه أوجب الله جل وعلا في محكم كتابه على من قذف مسلمًا حد القذف ثمانين جلدة، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]. ولا يرجع هذا الاستثناء عند جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم وعامة فقهاء الأمصار إلى الجلد بل يجلد ولو تاب. وهدد جل وعلا الذين يقعون في أعراض إخوانهم المسلمين باللعن والعذاب يوم القيامة، وكلُّ ذلك لصيانة العرض وحفظه. قال تعالى:

(1/70)


{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 23 - 25]. ولا شك أنه لا فرق بين الذين يرمون المحصنات والذين يرمون المحصنين، كما أجمع عليه جميع المسلمين، ودعوى الخصوص في هذه الآية غير صحيح ولا مستند له. و- وأما المال: فقد اقتضى التشريع الإسلامي -بما اشتمل عليه من الحكم الباهرة وحفظه المصالح العامة- صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأحسنها وأقومها؛ ولذا حَرَّم على المسلم أن يأخذ شيئًا من مال أخيه إلا عن طِيب نفس منه، وحرَّم استلاب الأموال وابتزاز ثروات الأغنياء. قال تعالى: {ولَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة: 188]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقد نهى الله جل وعلا خلقه في كتابه أن يجعلوا كون هذا غنيًّا وهذا فقيرًا ذريعة للجور وعدم العدل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135]. فترى الله جل وعلا ينهاك في هذه الآية عن الجور في الشهادة، ونهاك أن تشهد للفقير على الغني لضعف الفقير وقوة الغني. وصرَّح بأنه هو أولى بهما منك.

(1/71)


وبهذا تعلم أن الذي يأخذ مال الغني غصبًا، بدعوى أنه يعطيه للفقير ليساوي بينهما= أنه متمرد على النظام السماوي، معترض قسمة خالق السموات والأرض التي تولاها بنفسه لحكمته البالغة كما بين ذلك في قوله جل وعلا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32] والآيات الكريمة والأحاديث النبوية الدالة على حُرْمة مال المسلم ودمه وعرضه أظهر وأكثر من أن نحتاج للتعرض لها. ولأجل صيانة المال والمحافظة عليه أوجب الله جل وعلا قطع يد السارق قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] فالله جل وعلا خلق له تلك اليد لتكون أعظم عونٍ له على عمل الخير والمعاونة على البر والتقوى. فلما مدها إلى تلك الرذيلة، التي هي السرقة، التي هي في غاية السقوط والانحطاط والتدنس والتقذر= صارت تلك اليد في نظر الشرع الكريم كالعضو الفاسد الذي يُخْشى من بقائه فساد البدن كله، فقَطْعه وإزالته كعملية تطهيرية تصح بها بقية البدن وتطهره. ومما يوضح هذا السر السماوي ما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - المتفق عليه، ولفظه في البخاري: عن عبادة - رضي الله عنه - قال كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ هذه الآية كلها، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا

(1/72)


فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه". اهـ منه. ولفظ مسلم قريب منه بمعناه، ولفظهما متفق في محل الشاهد من الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته". وهو تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ متفقٍ عليه بأن المعاقبة -يعني المعاقبة بالحد- كفارة للذنب، فهو عملية تطهير سماوية بالغة غاية الإحكام واتضاح الحكمة من الردع البالغ عن أخذ أموال الناس على ذلك الوجه الخسيس الذي يظنَّ معه الفوت غالبًا لتحرِّي السارق أوقات الغفلة، ولكن عُمْي البصائر لا يعقلون عن الله حِكَمَه البالغة. ولا شك أن مما يخطر في ذهن طالب العلم أن يقول: ما سر الفرق في نظر الشرع الكريم بين السرقة وبين غيرها من أنواع الجناية على المال، كالغصب والانتهاب ونحو ذلك، حيث أوجب القطع في السرقة دون غيرها مما ذكر؟ والجواب أن الفرق بينهما بأمرين: الأول: أن غير السرقة من الجنايات على الأموال يكون ظاهرًا غالبًا وتوجد عليه البينة غالبًا، فولي الأمر يرد لصاحب المال ماله ويؤدِّب الجاني أدبًا بليغًا يردعه وأمثاله، وذلك بخلاف السرقة، فإن السارق لا يسرق غالبًا إلا في غاية الخفاء. بحيث لا يطلع عليه أحد. فيتعسَّر الإنصاف منه، فغُلِّظ عليه الجزاء ليكون ذلك أبلغ في الردع. الثاني: قلة ما عدا السرقة بالنسبة إليها.

(1/73)


ومما يوضح ما ذكرناه من محافظة التشريع الإسلامي على المصالح العامة والخاصة والحقوق الفردية والعامة أنك تجد البلاد التي يحكم فيها بالتشريع السماوي في عافية وأمن وطمأنينة ورخاء ورفاهية، في الحين الذي تكون فيه البلاد الأخرى التي لا تحكم بالشرع في قلق وعدم طمأنينة، إما بأخذ أموالها وإما بضياع أخلاقها وحقوقها وجميع قيمها الإنسانية إلى غير ذلك من المفاسد الظاهرة؛ ولأجل ذلك ترى -ولله الحمد- أن هذه البلاد -حفظها الله وحرسها- التي لم يبق على ظهر البسيطة من يُعْلن على رؤوس الأشهاد التحاكم إلى النظام الذي وضعه خالق السموات والأرض سواها -على ما كان منها- لا تساويها بلاد أخرى في انتشار الأمن وعمومه. فالفرد الضعيف فيها آمن على ماله من النهب ومن السرقة غالبًا، وعلى دمه وعرضه ودينه، ولا تجد بلادًا أقل فيها وقائع القتل والسرقة والنهب والزنا ونحو ذلك. وكلُّ ذلك من نتائج تحكيم النظام الذي وضعه الحكيم الخبير {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. وأما المصلحة الثانية: التي هي جلب المصالح، فقد اقتضى التشريع الإسلامي تحصيلها وتسهيلها، ولأجل هذا جاء بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع ليحَصّل كلٌّ مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة وغير ذلك. وأمر بتحصيل المصالح في الأنفس والأموال وغير ذلك كما هو معلوم.

(1/74)


وأما المصلحة الثالثة: التي هي الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج في العادات والمعاملات، فقد اقتضى التشريع الإسلامي الحث عليها والأمر بها. ومن عمل بالتشريع الإسلامي كان أجرى الناس على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج. ومما يوضح ذلك أن الله قال في نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه الذي وصفه الله بالعظيم قالت: كان خلقه القرآن، فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق يكون على خلق عظيم، والآيات الدالة على الأمر بأكرم الأخلاق وأحسنها كثيرة جدًّا، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} [النحل: 90]. وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ} [البقرة: 237]. وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا .. } [النور: 22] إلى غير ذلك من الآيات. ومن فروع هذا الأصل الذي هو الجَرْي على مكارم الأخلاق: تحريمُ النجاسات حثًّا على مكارم الأخلاق. لأن ملابسة الأقذار والنجاسات منافية لمكارم الأخلاق. ومن فروعه: وجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء كالآباء والأبناء.

(1/75)


ومن فروع هذا الأصل: إعفاء اللحية التي هي من أكبر الفوارق الظاهرة بين نوع الذكر ونوع الأنثى، فالفرار بحلقها من العلامة الواضحة الدالة على شرف الرجولة وكمالها إلى خنوثة الأنوثة ليس من مكارم الأخلاق؛ ولذا كان أكرم الخلق أخلاقًا صلوات الله وسلامه عليه الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} معفيًا لحيته الكريمة الكثَّة. ومن فروع هذا الأصل: قص الشارب، وحلق العانة، ونتف الإبط، ونحو ذلك. فإذا عرفت مما ذكرنا أن المصالح والحكم التي يدور حولها التشريع السماوي ثلاث، وعرفت شدة محافظة التشريع الإسلامي عليها، فسنذكر هنا جملًا من الأدلة الدالة على الأحكام المتضمنة للحكم والمصالح المذكورة. اعلم

 أولًا أن الأدلة عند أهل الأصول أنواع:

1 - كتاب الله. 2 - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - وإجماع علماء الأمة. 4 - والقياس؛ لأنه إلحاق للمسكوت عنه بالمنطوق به بجامعٍ بينهما، كما هو معروف في محله. 5 - والاستصحاب، كاستصحاب العدم الأصلي حتى يثبت ما

(1/76)


ينقل عنه، وهو عند جماعة من أهل الأصول دليل عقلي؛ لأن العقل يدل على براءة الذمة حتى يثبت شغلها بموجب يقتضي ذلك. ولا شك أن القرآن العظيم دل في آيات متعددة على أن استصحاب العدم الأصلي المعروف في الأصول بالإباحة العقلية والبراءة الأصلية دليلٌ على البراءة حتى يثبت ناقل عنه. ومن أمثلة ذلك في القرآن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر لعمه الذي مات مشركًا وهو أبو طالب واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين، وكان مستندهم في ذلك الاستغفار استصحابُ العدم الأصلي، أي عدم النهي عن الاستغفار لهم حتى يَرِدَ دليلُ المنع، كما يدل قوله: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ"، فهو يدل على أنه معتمد في ذلك على عدم النهي، ونزل النهي عن ذلك في قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]. بيَّنَ أن استغفارهم لهم السابق قبل نزول النهي اعتمادًا على استصحاب العدم الأصلي لا حرج عليهم فيه، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. ونظير ذلك: أنه تعالى قال في الأموال التي جمعوها من معاملات الربا قبل نزول تحريمه اعتمادًا على استصحاب العدم الأصلي: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ونظائر ذلك في القرآن العظيم متعددة، وهي تدل على أن استصحاب العدم دليل على براءة الذمة حتى يثبت ناقل عنه.

(1/77)


ومن أنواع الاستصحاب المجمع عليها: استصحاب ثبوت ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه، كاستصحاب حكم البيع والشراء والنكاح حتى يثبت ناقل عن ذلك من زوال الملك أو العِصْمة. وكاستصحاب حكم النص حتى يرد الناسخ. وباستصحاب العموم والإطلاق حتى يرد المخصص والمقيد. ومن أنواع الاستصحاب المختلف فيها: استصحاب حكم الإجماع، والاستصحاب المقلوب، كما هو معروف في محله. واعلم أن عند الأصوليين أدلة يعقدون لها كتابًا يسمى "كتاب الاستدلال" وضابط الاستدلال المذكور عندهم هو ما ليس بنص من كتاب أو سنة ولا إجماع ولا قياس تمثيلي، أعني القياس الأصولي المعروف. وهذا النوع المذكور تدخل فيه أصناف كثيرة غالبها مختلف في الاحتجاج به، ومنها ما هو حجة بلا خلاف. ومن أمثلة الاستدلال المذكور: سد الذرائع، والاستحسان، والعوائد، والقياس المنطقي بنوعيه: الاقتراني والاستثنائي، والاستقراء، وأقوال الصحابة، وإجماع أهل المدينة -عند من يقول بأنه حجة- وكذلك إجماع أهل الكوفة، وإجماع العَشَرة، وإجماع الخلفاء الأربعة، والمصالح المرسلة، وغير ذلك. والجمهور على أن الاستصحاب بأنواعه من هذا النوع الذي هو الاستدلال، خلافًا لبعض الحنابلة والشافعية القائلين: إن الاستصحاب دليل عقلي مستقل.

(1/78)


إلى غير ذلك من أنواع الاستدلال. ومعلوم أن كثيرًا من أنواعه لا تنهض الحجة به، ومنه ما هو حق كسد الذرائع. وقد تقرر في الأصول أن الذرائع ثلاثة أقسام: واسطة وطرفان. 1 - طرف يجب سده إجماعًا، كسب الأصنام إذا كان عابدوها يسبون الله مجازاة على سب أصنامهم. فسبُّ الأصنام في حدِّ ذاته مباح، فإذا كان ذريعةً لسبِّ الله مُنِعَ. بنص قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وكحفر الآبار في طريق المسلمين، فإنه ذريعة لتردِّيهم فيها. وسد هذه الذريعة واجب إجماعًا يمنع ذلك. 2 - وطرف لا يجب سدُّه إجماعًا، وهو ما كانت المفسدة فيه تعارضها مصلحة عظمى أرجح منها، كغرس شجر العنب، فإنه ذريعة إلى عصر الخمر منه وعصرها ذريعة لشربها. إلا أن مصلحة انتفاع الأمة بالعنب والزبيب في أقطار الدنيا أرجح من مفسدة عصر بعض الأفراد للخمر منها. فقد أجمعَ المسلمون على جواز غَرْس شجر العنب إلغاءً للمفسدة المرجوحة بالمصلحة الراجحة. وكمواطنة الرجال والنساء في بلد واحد، فإنه ذريعة لحصول الزنا من بعض الأفراد، ولكن تعاون النوعين الذكر والأنثى في ميادين الحياة مصلحة راجحة على تلك المفسدة المرجوحة، فلم يقل أحد من أهل العلم: إنه يجب أن يعزل الإناث في محل لا يسكن فيه ذكر، وأن يجعل دونهن حصن عظيم أبوابه من حديد، وتكون المفاتيح عند أمين ذي شيبة لا

(1/79)


أرب له في النساء= إلغاءً للمفسدةِ المرجوحة بالمصلحة الراجحة. 3 - وواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، كالبيوع التي يسميها المالكية: بيوع الآجال، ويسميها الحنابلة والشافعية: بيع العينة، كأن يبيع سلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها بعينها بثمن أكثر من الأول لأجلٍ أبعد من الأول. فكلتا البيعتين في حد ذاتها يظهر أنها جائزة؛ لأنها بيع سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ومن هنا قال الشافعي وزيد بن أرقم بجواز ذلك. ولكنه يحتمل أن يكون ذلك ذريعة للربا؛ لأن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فيؤول الأمر إلى أنه عند الأجل الأول دفع نقدًا وأخذ عند الأجل الثاني أكثر منه، وهذا عين الربا. كما أنكرته عائشة -رضي الله عنها- على زيد بن أرقم. وبالمنع قال مالك وأصحابه وأحمد وأكثر أصحابه. ولا يتسع المقام إلى أن نتكلم على جميع أنواع الاستدلال، ولكنا سنتكلم على القواعد التي يبنى عليها الفقه الإسلامي ويرجع إليها غالب فروعه. وإن كان بعض الفروع لا يرجع إليها إلا بنوع تكلُّف، والقواعد المشار إليها خمس: الأولى منها: الضررُ يزال في حديث "لا ضرر ولا ضرار". ومن فروع هذه القاعدة: شرع الزواجر من الحدود، والضمان، ورد المغصوب مع قيام عينه وضمانه بالتلف، وارتكاب أخف الضررين، والتطليق بالإضرار والإعسار، ومنع الجار من إحداث ما

(1/80)


يضر بجاره ونحو ذلك. القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. ونحو ذلك من الأدلة. ومن فروع هذه القاعدة: الأخذ بالرخص كالقصر والجمع، والإفطار في رمضان في السفر، والتيمم إن كان استعمال الماء يضره ضررًا بينًا. ولا يخفى أن بعض المشاق في بعض أنواع التكليف لا يكون موجبًا للتخفيف، كالوضوء في شدة البرد، والصوم في شدة الحر، وكإدخال النفس الغرر في الجهاد في الصف تحت ظلال السيوف. وبذلك تعلم أن هذه القاعدة التي هي "المشقة تجلب التيسير" أغلبية. القاعدة الثالثة: لا يرفع اليقين بالشك. ومن فروع هذه القاعدة: ما إذا شك أصلى ثلاثًا أم أربعًا فإنه يبني على اليقين. ومن فروعها: تكليف المدعي بالبينة لأن براءة الذمة مقطوع بها في الأصل فلا يرتفع حكمها بشك. ومن فروع هذه القاعدة عند الجمهور: من تيقن الطهارة وشك في الحدث فلا ترتفع طهارته المتيقنة بالحدث المشكوك فيه. وخلافُ مالكٍ -رحمه الله- للجمهور في أحد قوليه في هذه المسألة ليس خروجًا منه عن هذه القاعدة، بل عَمِل بها من جهة أخرى، وهو أنه يرى أن الشك في الحدث شك في الشرط الذي هو الطهارة، والأصلُ عدم الشرط، فلا يرتفع اليقين الأول بعدم الطهارة إلا بتيقن الطهارة ابتداءً ودوامًا. وهذا القول له

(1/81)


وجه من النظر في الجملة لو كان سالمًا من معارضته للحديث الصحيح الوارد بما يقتضي خلافه، الدال على أن من شك في خروج الريح منه لا ينتقض وضوءه المتيقن حتى يتيقن خروج الريح بسماع صوت أو شم ريح، والحديث المشار إليه من أدلة هذه القاعدة العظيمة التي هي "لا يرفع يقين بشك". القاعدة الرابعة: العادة مُحَكَّمة. ويستدل لهذه القاعدة بعموم قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ .. } [الأعراف: 199]. واعلم أن بعض أهل الأصول يقول: إن العوائد منها ما يختلف الحكم فيه بحسب اختلاف العوائد، كالعادة في أقل الحيض والنفاس وأكثرهما، وأقل الطهر، وقدر نفقات الزوجات والأقارب ونحو ذلك. ومنها ما لا يختلف فيه الحكم باختلاف العوائد، كالخسة والكفاءة في النكاح. ومن فروع هذه القاعدة تخصيص عمومات ألفاظ الناس في الأيمان والمعاملات، وتقييد مطلقها بالعرف، فلا يجوز لحاكمٍ ولا مفتٍ أن يحكم أو يفتي في لفظة حتى يعلم المراد بها في عرف ذلك البلد. القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها، ويستدل لهذه القاعدة بحديث "إنما الأعمال بالنيات". ومن فروع هذه القاعدة تمييز أنواع العبادات بعضها من بعض، كالفرض من الندب وعكسه، وكتمييز الظهر من العصر وعكسه.

(1/82)


والمالكية والشافعية يقولون: من فروعها وجوب النية في طهارة الحدث لأن الوسائل لها حكم المقصود بها خلافًا للحنفية. والسجدة ينقلها القصد من القربة إلى الكفر لأنها قربة لله. فإن نوى بها التقرب لغيره قلبتها النية كفرًا. وصلى الله وسلم وبارك على عبده وسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم. * * *

(1/83)