مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر
التصنيفات
- فقه >> أصول الفقه
الوصف المفصل
مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين} ، يهدي للتي هي أقوم، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط مستقيم. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وامام المتقين بلغ الرسالة وأدى الامانة وبين للناس ما نزل إليهم وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقد أرسي قواعدها وقعد أصولها، ورضي الله تعالى عن أصحابه الأطهار الذين اقتدوا به وسمعوا منه وبلغوا عنه، ورضي الله عن التابعين الذين سلكوا منهجهم واهتدوا بهديهم ونقلوا هذا الدين عمن قبلهم لمن بعدهم. وقد تلقت الامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علما وعملا وسار الناس في ظل هذين الأصلين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي عصر الصحابة والتابعين حتى توالت الفتوحات وتمصرت الأمصار ودخل في الإسلام أمم وجماعات واتسعت ميادين الحياة ووجدت أمور لم تكن من قبل دفعت العلماء للاجتهاد في ايجاد أحكام لها ومعرفة أحكامها.
(1/3)
ومعلوم أن النصوص لن تلاحق الأحداث فكان على المجتهدين أن يبحثوا عن عمومات وكليات تندرج فيها تلك الجزيئات، وكان ذلك مبني على الإجتهاد والإستنباط ومعتمد على ذلك على الملكة والفكر والتحصيل ومعرفة مدارك النصوص. ولما كانت النصوص فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك كان لا بد من قواعد ومنهج ينظم هذا الإجتهاد، ويصنف مباحثه في أبواب وفصول فكان من ذلك علم الأصول. وكان أول من سارع إليه وكتب فيه الإمام الشافعي رحمه الله، ثم توالت على هذا الفن أقلام، وتناولته عقول حتى تطور واكتمل واستقل، ولكن دخلته اصطلاحات المتكلمين ليثبتوا بعض ما تناولوه بطريق العقل على زعمهم أن العقل مقدم على غيره. كما خالطته طرق الفقهاء ليؤيدوا به فروع مذاهبهم إذا تعارضت مع غيرها. وهكذا أصبح لكل مذهب قواعد ومنهج، وتعددت كتب الأصول بتعدد المذاهب. وأصبح من اللازم لكل ناظر في مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف قواعده وأصوله، وعلى كل دارس للكتاب والسنة أن يقرأ أصول هذا الفن وقواعده وخاصة إذا أراد معرفة استنباط الأحكام السابقة، أو تقديم بعض النصوص المتعارضة أو نحو ذلك، مما لا يتأتي الا عن طريق قواعد وأصول هذا الفن.
(1/4)
فكان أصول الفقه تبعا لذلك في مقدمة الفنون التي عني به العلماء في كل زمان ومكان، ولقد كانت هذه البلاد حافلة بهذا الفن آهلة بعلمائه طيلة وجود النهضة العلمية بها، ومنذ زمن غير قليل إنصرفت عنه الهمم لصعوبته، وتقاصر الناس عنه وقل المشتغلون به، وتقلصت دراسته، حتى خيف ان داسه، فيما عدا الحرمين الشريفين على قلة إلى أن قيض الله لهذه البلاد من يقوم بهذه النهضة العلمية الدينية الحديثة وأرسيت قواعدها في مدينة الرياض في تأسيس المعاهد العلمية سنة 1371هـ برعاية سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، واختير لهذه المؤسسة الجليلة أجلة العلماء من داخل البلاد وخارجها، وشملت مناهجها أهم العلوم الدينية والعربية وفى طليعتها علم الأصول، وسارت الدراسة النظامية في تلك المؤسسة وبجانبها دراسة الحلق في المساجد على العهد الأول بخيره وبركته، ولمسيس الحاجة لعلم الأصول رأي سماحة المفتى نشر هذا العلم على طلاب الحلق فى المساجد فقرر كتاب قواعد الأصول ومعاقد الفصول في مسجد الشيخ (بدخنة) يدرسه فضيلة السيخ محمد الأمين حفظه الله فنفع الله به وكان بدء إحياء هذا العلم، وبدء عهد جديد له من سماحة المفتى رحمه الله على يد فضيلة المؤلف حفظه الله. ثم فتحت الكليات سبة 1374 هـ بدأت بكلية الشريعة وقرر فيها كتاب روضة الناظر للعلامة إبن قدامة من أشهر أئمة الحنابلة اختير لسعته وملاءمته وعنايته بقواعد مذهب الإمام أحمد رحمه الله مع بيانه لأصول بقية المذاهب فيما فيه الخلاف.
(1/5)
ولما كانت دراسة هذا الفن آنذاك جديدة كان الطلاب يجدونه غريبا وصعبا، ولا سيما والكتاب المقرر بأسلوبه المتقدم، وتفريعاته الواسعة، كان لا بد للطلاب من مذكرة علمية تحل أشكاله وتكشف غموضه وتجمع شتاته، وتفصل مجمله. وكان الذى تولى تدريسه هو فضيلة المؤلف حفظه الله، فأملى هذه المذكرة التي نقدم لها وذلك فى السنوات الأولى من تدريسه في الرياض وظل الطلاب يتناقلونها فيما بينهم دون أن تطبع لهم إلى أن تخرجت الدفعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة. وفي عام 1380 هـ افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رئاسة سماحة المفتى بنيابة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وانتقل فضيلة المؤلف إلى الجامعة منذ عامها الأول وتولى تدريس المادة في نفس الكتاب "روضة الناظر" وتناقل الطلبة هذه المذكرة. فكانت هذه المذكرة المباركة هي الأساس لجميع المتخرجين من كليات الإدارة العامة للمعاهد والكليات لآل الشيخ، وقد عم نفعها ولله الحمد حتى تصبح لطلابها المتخرجين عليها مؤلفات في هذا الفن ضمن مقررات المعاهد العلمية التي درسوا فيها ومعهد الجامعة الإسلامية ومعاهد اخرى ثانوية خارج هذه البلاد. وقد شملت هذه المذكرة روضة الناظر كلها ما عدا المقدمة المنطقية التي افتتح بها المؤلف كتابه وضمنها ما لا بد منه من إصطلاحات المتكلمين المداخلة لهذا الفن تسهيلا لفهمها، ومسايرة
(1/6)
لمنهج دراسة هذا الفن وقد شملت مباحث الحد والبرهان، وأنواع الدلالة، وأقسام القضايا ونحو ذلك، فلم تتعرض هذه المذكرة لها. وقد ألف فضيلة الشيخ حفظه الله رسالة مستقلة فى هذا الغرض أوسع وأشمل وأبسط وأسهل جعلها مقدمة لآداب البحث والمناظرة المقرر فى الجامعة الإسلامية. وقد كانت تلك المذكرة متناثرة الأطراف لدى الطلاب لا تكاد توجد مجتمعة عند أحدهم. وقد لمست فيها من مهام هذا الفن، وتوجيهات قضاياه ما حملنى على جمعها كلها والعناية بها. وقد رغبت الجامعة الإسلامية في طبعها مكتملة بعد تحقيقها، وتدقيقها وتصحيحها على فضيلة المؤلف حفظه الله لتكون أثرا من آثارها المجيدة. فكان ذلك نعمة متجددة لى بدراستها واتقانها. وها هى بين يدى الطلاب آمل أن يجدوا فيها أكثر ما تصبوا إليه نفوسهم وتتطلع إليه أفكارهم فى هذا الفن مما يمكن أن تغنيهم عن غيرها ولا يكاد يغنى غيرها عنها، ولا سيما في مواطن الترجيح والمباحث العقلية حيث يجدونها بعيدة عن تعقيد الفلسفة وخالصة من شوائب السفسطة، ناصعة بنور الحق على هدى الكتاب والسنة وعقيدة سلف الأمة يدرسونها مطمئنين ويتلقونها بيقين لما لفضيلة مؤلفها حفظه الله من يد طولى وأثر حميد في هذا الفن وما يتصل به من عقائد ونصوص وأحكام وعلوم اللسان والمنطق والبيان مما يجعل مباحثها وافية شاملة.
(1/7)
والجدير بالذكر أن الكتاب المقرر "روضة الناظر " متأثر كثيرا بكتاب المستصفى للغزالى فى أصول الشافعية وهذه المذكرة متاثرة ايضا بمراقى السعود فى أصول المالكية وبهذا التأثر المزدوج تكون المذكرة مفيدة أصالة فى المذاهب الثلاثة الحنبلى، والشافعى، والمالكى. وفى المذهب الحنفى فى مواطن الخلاف حينما تتعرض له. وأحب أن أوصي الطلاب الراغبين في هذا الفن أن يولوه عنايتهم وأن يكون إقدامهم عليه بقوة وعزيمة وأن يعيدوا فيه النظر ويعملوا فيه الفكرة وأن تكون دراستهم إياه بتدبر وتعقل. والله أسال أن يعم نفعها ويجزى بأحسن الجزاء مؤلفها ويفيد بوافر الثواب كل من سعى في طبعها ونشرها. وأن تاريخ العلم ليسجل للجامعة الإسلامية فضل هذا العمل على يد رئيسها العالم الفاضل محب العلم وأهله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله كما سيحتفظ للمؤلف بيد بيضاء في هذا الأثر الدائم نفعه المتواصل أجره. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبها تلميذ المؤلف: عطية محمد سالم 12-5-1391 هـ
(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الحكم وأقسامه
اعلم أنه رحمه الله - ترجم هذه الترجمة التي لفظها (حقيقة الحكم وأقسامه) ولم يبين حقيقة الحكم ولا أقسامه، وانما ذكر منها الأقسام الشرعية فقط، ونحن نبين كل ذلك إن شاء الله تعالى. اعلم أن الحكم في اللغة هو المنع ومنه قيل للقضاء حكم لأنه يمنع من غير المقضي تقول حكمه كنصره وأحكمه كاكرمه وحكمه بالتضعيف بمعنى منعه. ومنه قول جرير: أبنى حنيفة احكموا سفهاءكم ... انى أخاف عليكمو أن أغضبا أبنى حنيفة إننى إن أهجكم ... أدع اليمامة لا توارى أرنبا وقول حسان بن ثابت رضى الله عنه: لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء ومن الحكم بمعنى المنع حكمة اللجام وهى ما أحاط بحنكى الدابة سميت بذلك لأنها تمنعها من الجرى الشديد والحكمة أيضا حديدة فى اللجام تكون على أنف الفرس وحنكة تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القد وهو الأبق وهو القنب ومنه قول زهير: القائد الخيل منكوباً دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
(1/9)
والحكم فى الاصطلاح هو (اثبات أمر لأمر أو نفيه عنه) نحو زياد قائم وعمرو ليس بقائم وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام: حكم عقلى وهو ما يعرف فيه (العقل) النسبة ايجاباً أو سلباً نحو الكل أكبر من الجزء ايجاباً. الجزء ليس أكبر من الكل سلباً. حكم عادى: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة نحو السيقمونيا مسهل للصفراء والسكنجبين مسكن لها. حكم شرعى: وهو المقصود وحده جماعة من أهل الأصول بأنه (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث انه مكلف به) . فخرج بقوله (خطاب الله) خطاب غيره لأنه لا حكم شرعيا الا لله وحده جل وعلا فكل تشريع من غيره باطل، قال تعالى: ( ان الحكم الا لله) (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية. وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف ما تعلق بذات الله تعالى نحو "لا اله الا الله" وما تعلق بفعله نحو قوله تعالى: "خالق كل شيء " وما يتعلق بذوات المكلفين نحو "ولقد خلقناكم ثم صورناكم " الآية. وما تعلق بالجمادات نحو "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة". وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف) خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف لا من حيث انه مكلف به كقوله تعالى "يعلمون ما تفعلون" فأنه خطاب من الله متعلق بفعل المكلف من حيث ان
(1/10)
الحفظة يعلمونه لا من حيث انه مكلف به، واعلم أن عبارات الأصوليين اضطربت في تعريف الحكم الشرعى. وسبب اضطرابها أمران: أحدهما أنبعض المكلفين غير موجود وقت الخطاب والمعدوم ليس بشيء حتى يخاطب: ثانيهما زعمهم أن الخطاب هو نفس المعنى الازلى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وسنين ان شاء الله تعالى غلطهم الذى سبب لهم تلك الاشكالات فى مبحث الأمر. واعلم أن الحكم الشرعى قسمان: أولهما تكليفى وهو خمسة أقسام - (الواجب والمندوب والمباح والحرام) . والثانى خطاب الوضع وهو أربعة أقسام (العلل والأسباب والشروط والموانع) وأدخل بعضهم فيه الصحة والفساد والرخصة والعزيمة وبعضهم بجعل الصحة والفساد من خطاب التكليف اذا علمت ذلك فهذه تفاصيل لأحكام الشرعية. قال المؤلف - رحمه الله -: أقسام أحكام التكليف خمسة (واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور) . التكليف لغة هو الزام ما فيه كلفة أي مشقة. ومنه قول الخنساء: يكلفه القوم ما نابهم ... وان كان أصغرهم مولدا وقول علقمة بن عبدة التميمى: تكلفنى ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب وحده فى الاصطلاح قيل (الزام ما فيه مشقة) وقيل طلب ما فيه مشقة فعلى الاول لا يدخل فى حده الا الواجب والحرام اذ لا الزام بغيرهما وعلى
(1/11)
الثانى يدخل معهما المندوب والمكروه لان الاربعة مطلوبة، وأما الجائز فلا يدخل فى تعريف من تعاريف التكليف اذ لا طلب به أصلا، فعلا ولا تركان وانما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحة وتكميلا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع اما أن برد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخير بينهما فالذى سرد باقتضاء الفعل أمر فأن اقترن به اشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب والا فيكون ايجابا والذى يرد باقتتضاء الترك نهى فان أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة والا فحظر) كلامه واضح. ثم قال وحد الواجب (ما توعد بالعقاب على تركه) وقيل (ما يعاقب تاركه) وقيل ما (يلزم تاركه شرعا العقاب) اعلم أولا أن الوجوب فى اللغة هو سقوط الشيء لازما محله كسقوط الشخص ميتا فأنه يسقط لازما محله لانقطاع حركته بالموت، ومنه قوله تعالى: "فاذا وجبت جنوبها" أي سقطت ميتة لازمة محلها، وقوله فى الميت: (فاذا وجب فلا تبكين باكية) . وقول قيس بن الخطيب: أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب ويطلق الوجوب على اللزوم وفى الاصطلاح عرفه المؤلف بأنه (ما توعد بالعقاب على تركه) والوعيد بالعقاب على تركه لا ينافى المغفرة كما بينه تعالى بقوله:"ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وان شئت قلت فى حد الواجب (ما أمر به أمرا حازما) وضابطه أن فاعله موعود بالثواب وتاركه متوعد بالعقاب كالصلاة والزكاة والصوم.قال المؤلف رحمه الله (والفرض هو الواجب على احدى الروايتين) . فحاصل كلامه أن الفرض هو الواجب على احدى الروايتين وهو قول
(1/12)
الشافعى ومالك. وعلى الرواية الأخرى فالفرض آكد من الواجب فالفرض ما ثبت بدليل قطعى كالصلاة، والواجب ما ثبت بدليل ظنى كالعمرة عند من أوجبها، وهو قول أبى حنيفة وقيل: (الفرض ما لا يسامح بتركه عمداً ولا سهواً) كاركان الصلاة، والواجب ما يسامح فيه ان وقع من غير عمد كالصلاة بالنجاسة عند من يقول بالمسامحة في ذلك واصطلح كثير من العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة على اطلاق الواجب على السنة المؤكدة تأكيدا قويا. (فصل) قال المؤلف - رحمه الله -: (الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم فى أقسام محصورة..) . اعلم أن الواحب ينقسم ثلاثة تقسيمات: ينقسم باعتبار ذاته إلى واجب معين لا يقوم غيره مقامه كالصوم والصلاة، وإلى مبهم فى أقسام محصورة فهو واجب لا بعينه كواحدة من خصال الكفارة فى قوله تعالى: "فكفارته اطعام عشرة مساكين". الآية. فالواجب واحد منها لا بعينه فأي واحد فعله الحانث أجزأه وزعم المعتزلة أن التخيير مطلقا ينافى ذلك الوجوب باطل، لانه لم يخير بين الفعل والترك تخييرا مطلقا حتى ينافى ذلك الوجوب، بل لا يجوز ترك بعضها الا مشروطا بفعل بعض آخر منها، فلو ترك جميعها لكان آثما ولا خيار له فى ترك الجميع، ولا يجب عليه فعل جميعها اجماعا فتبين أن الواجب واحد منها لا بعينه لان كل واحد منها يفى بالمقصود الشرعى ولا يحصل
(1/13)
دون واحد منها وكذلك غير المحصورة كاعتاق رقبة فى الظهار أو اليمين فان تزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين وعقد الامامة لأحد الرجلين الصالحين فان كان ذلك يجب فيه واحد لا بعينه، ولا يمكن أن يقال فيه بايجاب الجميع ولا بسقوط ايجاب الجميع كما ترى. وينقسم الواجب أيضا باعتبار وقته إلى مضيق وموسع، فالواجب المضيق هو ما وقته مضيق وضابط ما وقاه مضيق واجبا كان أو غيره هو ما لا يسع وقته أكثر من فعله كصوم رمضان فى الواجب، وستة من شوال عند من يقول بأنها لا بد أن تكون متتابعة تلى يوم الفطر، وهو ظاهر حديث أبى أيوب، وحديث ثوبان، والأيام البيض فى غير الواجب، والواجب الموسع هو ما يسع وقته أكثر من فعله كالصلواة الخمس، ومثاله فى غير الواجب الوتر وركعتا الفجر والعيدان والضحى. والوقت في الاصطلاح هو الزمن الذى قدره الشارع للعبادة وما زعمه بعضهم من أن الواجب الموسع مستحيل زاعما أن التخيير فى فعل العبادة ذات الوقت الموسع فى أول الوقت ووسطه ينافى الوجوب اذ الواجب حتم لا تخيير فيه ولا يجوز تركه فهو باطل ـ أي الزعم بأن الواجب الموسع مستحيل ـ لان الواجب الموسع من قبيل الواجب المبهم فى واحد لا بعينه كالصلاة يجب أن تؤدى فى حصة من حصص الوقت من أوله أو وسطه أو آخره فعل فيها الصلاة أجزأته كما أن أي واحدة من خصال الكفارة فعلها أجزأته. وقد أجمع العلماء على أم من أدى الصلاة فى أول وقتها أنه يثاب ثواب الفرض وتلزمه نية الفرض ـ محل الاستدلال لزوم نية الفرض مع جواز
(1/14)
التأخير ـ فدل ذلك على بطلا قول من قال انها لو وجبت فى أول الوقت لما جاز ترك أدائها إلى وسط الوقت، لان التخيير فى ذلك الوقت إلى ما بعده ينافى الوجوب، ولا شك أن ذلك كله باطل كما بينا. وينقسم الواجب أيضا باعتبار فاعله إلى واجب عينى وواجب على الكفاية فالواجب العينى هو ما ينظر فيه الشارع إلى ذات الفاعل كالصلاة والزكاة والصوم، لان كل شخص تلزمه بعينه طاعة الله عز وجل لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) وأما الواجب على الكفاية فضابطه أنه ينظر فيه الشارع إلى نفس الفعل، بقطع النظر عن فاعله، كدفن الميت، وانقاذ الغريق ونحو ذلك، فان الشارع لم ينظر إلى عين الشخص الذى يدفن الميت أو ينقذ الغريق، اذ لا فرق عنده فى ذلك بين زيد وعمرو، وانما ينظر إلى نفس الفعل الذى هو الدفن والانقاذ مثلا وستأتى مسألة فرض الكفاية فى مباحث الامر ان شاء الله تعالى. (فصل) قال المؤلف: اذا أخر الواجب الموسع فمات فى أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيا.. الخ. خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا الفصل أن المكلف اذا مات فى أول الوقت أو وسطه والحال أنه لم يؤد الصلاة لم يمت عاصيا لان الوقت الموسع يجوز للانسان أن يأتى بالصلاة فى أية حصة شاءها
(1/15)
من حصصه سواء كانت من أوله أو وسطه، كالمحكوم عليه بالقتل مع تعيين وقت التنفيذ، لأن الوقت يضيق فى حقه بسبب ظن الموت، فلو تخلف الظن وسلم من الموت وأدى الصلاة فى آخر الوقت فهل تكون صلاته أداء وهو الظاهر لوقوعها فى الوقت، ضاق فى حقه بسبب ظن الموت، بدليل أنه لو مات فى الوقت مع ظن الموت ولم يبادر بالصلاة مات عاصيا. (فصل) قال المؤلف: ما لا يتم الواجب الا به ينقسم إلى ما ليس داخل تحت قدرة المكلف كالقدرة واليد فى الكتابة وحضور الامام والعدد فى الجمعة فلا يوصف بوجوب. وإلى ما هو داخل تحت قدرة العبد فيما يتعلق باختيار العبد كالطهارة للصلاة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس وامساك جزء من الليل مع النهار فى الصوم فهو واجب.. الخ.. حاصل معنى كلامه رحمه الله أن ما لا يتم الواجب الا به قسمان: قسم ليس تحت قدرة العبد كزوال الشمس لوجوب الظهر وككون من تعينت عليه الكتابة مقطوع اليدين، وكحضور الامام والعدد الذى لا تصح الجمعة بدونه، فلا قدرة للمكلف على قهر الامام على الحضور إلى المساجد، فهذا النوع لا يوصف بوجوب الا على قول من جوز التكليف بما لا يطاق وهو مذهب باطل مردود.
(1/16)
وقسم تحت قدرة العبد، كالطهارة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس، اذ لا يتحقق تعميم غسل الوجه الا بغسل جزء يسير من الرأس، وامساك جزء من الليل مع النهار اذ لا يتحقق الامساك فى جميع نهار رمضان الا بأمساك جزء يسير من الليل، بناء على أن الغاية فى قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الابيض) . الآية. خارجة وهو الصحيح، لأن من أخر الامساك عن جميع أجزاء الليل بتمامها فهو متناول للفطر قطعا فى نهار رمضان، اذ لا واسطة بين الليل والنهار. وما جاء من الأحاديث موهما جواز تناول المفطر بعد الصبح فهو محمول على أن المراد به أنه فى آخر جزء من الليل لشدة قربه من النهار. وهذا القسم الاخير أعنى ما هو تحت قدرة المكلف قال المؤلف انه واجب هذا حاصل معنى كلامه رحمه الله، قال مقيده عفا الله عنه وهذا التقسيم غير جيد وحاصل تحرير المقام أن يقال: ما لا يتم الواجب الا به ثلاثة أقسام: قسم ليس تحت قدرة العبد كما مثلنا له آنفا. وقسم تحت قدرة العبد عادة الا أنه لم يؤمر بتحصيله كالنصاب ـ لوجوب الزكاة والاستطاعة لوجوب الحج والاقامة لوجوب الصوم، وهذان القسمان لا يجبان اجماعا. القسم الثالث ما هو تحت قدرة العبد مع أنه مأمور به كالطهارة للصلاة والسعى للجمعة.. الخ.. وهذا واجب على التحقيق وان شئت قلت: (ما لا يتم الواجب المطلق الا به فهو واجب) كالطهارة للصلاة و (ما لا يتم الواجب المعلق ـ على شرط كالزكاة معلقة على ملك النصاب، والحج على الاستطاعة ـ الا به فليس
(1/17)
بواجب) كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج، وأوضح من هذا كله أن نقول: (ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب كالطهارة للصلاة) وما لا يتم الوجوب الا به فليس بواجب كالنصاب للزكاة. (تنبيه) اعلم أن الطهارة للصلاة واجبة اجماعا كما لا يخفى، وحينئذ فعلى أن ما لا يتم الواجب المطلق الا به واجب، فجميع النصوص الموجبة للصلاة توجب الطهارة لأنها لا تتم الا بها. وما لا يتم الواجب الا به واجب، وان كانت الطهارة واجبة بأدلة أخرى اذ لا مانع من تعدد الأدلة، وعلى العكس فالطهارة واجبة بالنصوص الأخرى فقط دون النصوص الموجبة للصلاة. (فصل) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (واذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه) . هذه المسألة يترجم لها علماء الأصول بقولهم: (ما لا يتم ترك الحرام الا بتركه فتركه واجب) فان اختلطت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبية فلا يتم ترك الحرام الذى هو أكل الميتة فى الاول ونكاح الأخت فى الثانى الا بترك الجميع، فترك الجميع واجب. وقول المؤلف رحمه الله حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه فيه نظر لأن الميتة غير معروفة بعينها، فالجميع محرم لأنه لا يتم ترك الحرام الا بترك الجميع، فكل واحدة أكل منها احتمل أن تكون هى الميتة، وقول من قال ان المذكاة حلال لكن يجب الكف عنها ظاهر التناقض كما بينه المؤلف.
(1/18)
(فصل) قال المؤلف: الواجب الذى لا يتقيد بحد محدود كالطمأنينة فى الركوع والسجود، الخ، اعلم أولا أن الزيادة على الواجب لها حالتان: (الاولى) : أن تكون الزيادة على الواجب متميزة عنه كصلاة النافلة بالنسبة إلى الصلوات الخمس، وهذه الزيادة غير واجبة كما هو واضح. (الثانية) : أن تكون الزيادة غير متميزة عن الواجب كالزائد على قدر الفرض من الطمأنينة فى الركوع والسجود ونحو ذلك، فقال قوم الزيادة هنا واجبة لأن الجميع امتثال للأمر الواجب ولم يتميز فيه واجب عن غيره فالكل واجب لانه امتثال للواجب والحق أن الزائد غير واجب، والدليل على ذلك جواز تركه والاقتصار على ما يحصل به الفرض فقط من الطمأنينة من غير شرط ولا بدل. قال المؤلف الثانى (المندوب) خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا المبحث أن المندوب هو ما فعله الثواب وليس فى تركه عقاب وهذا أجود التعريفين اللذين ذكرهما المؤلف، وان شئت قلت: (ما أمر به أمراً غير جازم والتحقيق أن المندوب مأمور به لان الأمر قسمان) : أمر جازم أي فى تركه العقاب وهو الواجب. وأمر غير جازم، أي لا عقاب فى تركه وهو المندوب. والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: "وافعلوا الخير"
(1/19)
أي ومنه المندوب وامر بالمعروف، أي ومنه المندوب: "ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى "، أي ومن الاحسان وايتاء ذى القربى ما هو مندوب، واحتج من قال ان الندب غير مأمور به بقوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب إليهم " قالوا فى الآية التوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندب لا يستلزم تركه شيئا من ذلك، والحديث: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) مع أنه ندبهم إلى السواك قالوا فدل ذلك على أن الندب غبر مأمور به والجواب أن الأمر فى الآية والحديث المذكورين يراد به الأمر الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، وقد قدمنا أن الامر يطلق على هذا وهذا وزعم من قال ان الندب تخيير بدليل جواز تركه والامر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان، زعم غير صحيح، لان الندب ليس تخييرا مطلقا بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك للثواب فى فعله وعدم الثواب فى تركه، ولان المندوب أيضا مطلوب الا أن طلبه غير جازم والندب فى اللغة الدعاء إلى الفعل، ومنه قوله: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا والثواب فى اللغة الجزاء مطلقا ومنه قوله: لكل أخى مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلى ثواب أي جزاء، وزعم أن الثواب يختص بجزاء الخير بالخير غير صحيح، بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر فى اللغة، ومنه قوله تعالى: (قل هل انبؤكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) . الآية.
(1/20)
وقوله تعالى (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) ، والعقاب فى اللغة التنكيل على المعصية، ومنه قول النابغة الذبيانى: ومن عصاك فعاقبة معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد (المباح) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: القسم الثالث (المباح) وحده، ما أذن الله فى فعله وتركه غير مقترن بدم فاعله وتاركه ولا مدحه وهو من الشرع.. الخ.. كلامه. اعلم أن الاباحة عند أهل الأصول قسمان: الاولى: اباحة شرعية أي عرفت من قبل الشرع كانباحة الجماع فى ليإلى رمضان المنصوص عليها بقوله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ونسمى هذه الاباحة الاباحة الشرعية. الثانية: اباحة عقلية وهى تسمى فى الاصطلاح البراءة الأصلية والاباحة العقلية وهى بعينها (استصحاب العدم الأصلى حتى يرد دليل ناقل عنه) ومن فوائد الفرق بين الاباحتين المذكورتين أن رفع الاباحة الشرعية يسمى نسخا كرفع اباحة الفطر فى رمضان، وجعل الاطعام بدلا عن الصوم المنصوص فى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فانه منسوخ بقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". وأما الاباحة العقلية فليس رفعها نسخا لأنها ليست حكما شرعيا بل عقليا، ولذا لم يكن تحريم الربا ناسخا لاباحته فى أول الاسلام لأنها اباحة عقلية، وأمصال ذلك كثيره جدا.
(1/21)
والمباح فى اللغة: هو ما ليس دونه مانع يمنعه، ومنه قول عبيد بن الأبرص: ولقد أبحنا ما حميت ... ولا مبيح لما حمينا (تنبيه) قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الاصلي حجة على عدم المؤاخذة بالفعل حتى يرد دليل ناقل عن العدم الاصلى، من ذلك أنهم كانوا يتعاملون بالربا. فلما نزل تحريم الربا خافوا من أكل الاموال الحاصلة منه بأيديهم قبل تحريم الربا، فأنزل الله فى ذلك: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله من سلف وأمره إلى الله " فقوله تعالى: "فله ما سلف" يدل على أن ما تعاملوا به من الربا على حكم البراءة الاصلية قبل نزول التحريم لا مؤاخذة عليهم به، ونظير ذلك قوله: " وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف " فان قوله تعالى "الا ما قد سلف" فى الموضعين استثناء منقطع، أي لكن ما سلف قبل التحريم على حكم البراءة الاصلية فهو عفو. ونظائر هذا فى القرآن الكريم كثيرة ومن أصرح الآيات فى ذلك قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) . فانهم لما استغفروا لموتاهم المشركين فنزل قوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) .
(1/22)
ندموا على استغفارهم للمشركين، فأنزل الله الآية مبينة أن ما فعلوه من الاستغفار لهم على حكم البراءه الأصلية قبل نزول التحريم، لا مؤاخذة عليهم به حتى يحصل بيان ما ينهى عنه. (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: واختلف فى الأفعال وفى الاعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها.. الخ.. اعلم أن خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى فى هذا المبحث، أن حكم الأفعال والأعيان أي الذوات المنتفع بها قبل أن يرد فيهل حكم من الشرع فيها ثلاثة مذاهب: الاول: أنها على الاباحة وهو الذى يميل إليه المؤلف واستدل بقوله تعالى: " هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا" فانه تعالى امتن على خلقه بما فى الارض جميعا ولا يمتن الا بمباح، اذ لا منة فى محرم واستدل لاباحتها أيضا بصيغ الحصر فى الآيات كقوله: (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها ومابطن) وقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير..) الآية.
(1/23)
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..) الآية. واستدل لذلك أيضا بحديث (الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) . المذهب الثانى: أن ذلك على التحريم حتى يرد دليل الاباحة واستدل لهذا بأن الأصل منع التصرف فى ملك الغير بغير اذنه وجميع الاشياء ملك لله جل وعلا، فلا يجوز التصرف فيها الا بعد اذنه، ونوقش هذا الاستدلال بأن منع التصرف فى ملك الغير، انما يقبح عادة فى حق من يتضرر بالتصرف في ملكه، وأنه يقبح عادة المنع ممالا ضرر فيه كان لاستظلال بظل حائط انسان والانتفاع بضوء ناره والله جل وعلا لا يلحقه ضرر من انتفاع مخلوقاته بالتصرف فى ملكه. المذهب الثالث: التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للحكم فيه. واعلم أن لعلماء الأصول فى هذا المبحث تفصيلا لم يذكره المؤلف ولكنه أشار إليه اشاره خفية وهو أنهم يقولون: الأعيان مثلا، لها ثلاث حالات: 1_ اما أن يكون فيها ضرر محض ولا نفع فيها البتة كان كل الأعشاب السامة القاتلة. 2_ واما أن يكون فيها نفع محض ولا ضرر فيها أصلا. 3_ واما أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة، فان كان فيها الضرر وحده، ولانفع فيها أو مساويا له فهى حرام لقوله: (لا ضرر ولا ضرار) ، وان كان نفعها خالصا لا ضرر معه أو معه ضرر خفيف والنفع أرجح منه، فأظهر الأقوال الجواز، وقد أشار المؤلف إلى هذا التفصيل بقوله (المنتفع بها) فمفهومه أن ما لا نفع فيه لا يدخل فى كلامه.
(1/24)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (المباح غير مأمور به..الخ..) من المعلوم أن المباح لم يؤمر به لا تركان ولا فعلا وقد قدمنا أنه لا يدخل فى تعريف التكليف بوجه من الوجوه وانما عدوه من أقسام الحكم التكليفى مسامحة وتكميلا للقسمة كما تقدم. (المكروه) قال المؤلف _ رحمه الله ـ: القسم الرابع المكروه وهو (ما تركه خير من فعله وقد يطلق ذلك على المحظور، وعلى ما نهى تنزيه فلا يتعلق بفعله عقاب.. الخ..) كلامه واضح. والمكروه فى اللغة اسم مفعول كرهه اذا أبغضه ولم يحبه، فكل بغيض إلى النفوس فهو مكروه فى اللغة، ومنه قوله تعالى: "كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها" وقول عمرو بن الأطانبة: واقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيح واعلم أن المكروه قد يطلق على الحرام لانه بغيض إلى النفوس العارفة وذلك هو معنى قول المؤلف: وقد يطلق ذلك على المحظور والحرام، ومراده أن الكراهة قد تطلق على كراهة التنزيه كما هو معروف فى كلام العلماء. وعرف المكروه فى الاصطلاح بأنه هو ما تركه خير من فعله، وان شئت قلت هو ما نهى عنه نهياً غير جازم.
(1/25)
(فصل) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والأمر المطلق لا يتناول المكروه لان الامر استدعاء وطلب، والمكروه غير مستدعاً ولا مطلوب ولان الامر ضد النهى فيستحيل أن يكون الشيء مأموراً به ومنهياً عنه، واذا قلنا ان المباح ليس بمأمور فالنهى عنه أولى) . ايضاح معنى كلامه رحمه الله: أن المأمور به اذا كان بعض جزئياته منهياً عنه نهى تنزيه أو تحريم لا يدخل ذلك المنهى عنه منها فى المأمور به لأن النهى ضد الامر والشيء لا يدخل فى ضده خلافاً لبعض الحنفية القائلين بدخوله فيه، فتحية المسجد مثلا مأمور بها، فاذا دخل المسجد وقت نهى فتلك الصلاة المنهى عنها لوقت النهى لم تدخل فى الأمر للمضادة التي بين الأمر والنهى وهكذا. وقال الشافعى _ رحمه الله _ ان الصلوات ذوات الأسباب الخاصة لم يتناولها النهى فهى داخلة فى الامر لانها لم تدخل فى النهى. (الحرام) قال المؤلف _ رحمه الله _: القسم الخامس (الحرام ضد الواجب) اعلم أن الحرام صفة مشبهة باسم الفاعل لانه الوصف من حرم الشيء فهو حرام والحرام فى اللغة هو الممنوع ومنه قول امرئ القيس:
(1/26)
جالت لتضرعى فقلت لها اقصرى انى امرؤ صرعى عليك حرام وقول الآخر: حرام على عينى أن تطعما الكرى وأن ترقئا حتى ألاقيك يا هند وقوله تعالى: "وحرمنا عليه المراضع من قبل " وقوله تعالى: "فانها محرمة عليهم أربعين سنة" وقوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها ". الآيات. وقوله ضد الواجب يعنى أن الحرام فى الاصطلاح هم (ما فى تركه الثواب وفى فعله العقاب) وان شئت قلت ما نهى عنه نهياً جازما. وقول المؤلف رحمه الله (فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبا حراما طاعة ومعصية من وجه واحد الا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعين أي بالعدد.. الخ..) ايضاح معنى كلامه _ رحمه الله _ أن الوحدة ثلاثة أقسام: وحدة بالجنس. وحدة بالنوع. وحدة بالعين. أما الوحدة بالجنس أو النوع فلا مانع من كون بعض أفراد الواحد بهما حراما وبعضها حلالا بخلاف الوحدة بالعين فلا يمكن أن يكون فيها بعض الافراد حراما وبعضها حلالا. مثال الوحدة بالجنس: وحدة البعير والخنزير لأنهما يشملهما جنس واحد هو الحيوان فكلاهما حيوان فهما متحدان جنساً ولا اشكال فى حرمة
(1/27)
الخنزير واباحة البعيرة ومثال الوحدة بالنوع السجود فانه نوع واحد فالسجود لله والسجود للصنم يدخلان فى نوع واحد هو اسم السجود ولا اشكال فى أن السجود للصنم كفر ولله قربة، كما قال تعالى: ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون) . ومثال الوحدة بالعين عند المؤلف _ رحمه الله _: الصلاة فى الارض المغصوبة فلا يمكن عنده أن يكون بعض أفرادها حراما وبعضها مباحا. وايضاح مراده أن المصلى فى الدار المغصوبة اذا قام إلى الصلاة شغل بجسمه الفراغ الذى هو كانئن فيه وشغله الفراغ المملوك لغيره بجسمه تعدياً غصب فهو حرام، فهذا الركن الذى هو كائن فيه فى ركوعه، واذا سجد شغل الفراغ الذى هو كائن فيه فى سجوده وهكذا، وشغل الفراغ المملوك لغيره تعدياً غصب، فلا يمكن أن يكون قربة لامتناع كون الواحد بالعين واجبا حراما قربة معصية لاستحالة اجتماع الضدين فى سيء واحد من جهة واحده فيلزم بطلان الصلاة المذكورة ومنع هذا القائلون بصحة الصلاة فى الأرض المغصوبة وهم الجمهور، قالوا: الصلاة فى الارض المغصوبة فعل له جهتان، والواحد بالشخص يكون له جهتان هو طاعة من احداهما ومعصية من احداهما، فالصلاة فى الارض المغصوبة من حيث هي صلاة (قربة) ومن حيث هى غصب معصية، فله صلاته وعليه غصبه، فيقول من قال ببطلانها: الصلاة فى المكان المغصوب ليست من أمرنا فهى رد، للحديث الصحيح: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيقول خصمه الصلاة فى نفسها من أمرنا فلست برد وانما الغصب هو الذى ليس من أمرنا فهو رد.
(1/28)
واعلم أن حاصل أقوال العلماء فى الصلاة فى المكان المغصوب أربعة مذاهب. الأول: أنها باطلة يجب قضاؤها وهو أصح الروايتين عن الأمام أحمد _ رحمه الله _. الثانى: أنها باطلة ولا يجب قضاؤها لان النهى يقتضى البطلان ولان السلف لن بكونوا يأمرون بقضاء الصلاة فى المكان المغصوب وممن قال به الباقلانى والرازى ولا يخفى بعده. الثالث: أنها صحيحة وهى رواية أخرى عن أخرى عن أحمد وعليه الجمهور منهم مالك والشافعى وأكثر أهل العلم وأكثرهم على أنها صحيحة لا أجر فيها كالزكاة اذا أخذت منه قهراً. الرابع: أنها صحيحة وله أجر صلاته وعليه اثم غصبه وهذا أقيس. (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: مصححوا الصلاة فى الدار المغصوبة قسموا النهى ثلاثة أقسام إلى آخره، اعلم أن حاصل كلام أهل الاصول فى هذه المسألة أن المنهى عنه اما أن تكون جهة النهى فيه منفردة، أعنى أنه لم تكن له جهة أخرى مأمور به منها كالشرك بالله والزنا، فان النهى عنهما لم يخالطه أمر من جهة أخرى، وهذا النوع واضح لا اشكال فى أنه باطل على كل حال، واما أن يكون له جهتان: جهة مأمور به منها وجهة منهى عنه منها، وهم يقولون ى مثل هذا ان انفكت جهة الامر عن جهة النهى، فالفعل صحيح وان لم تنفك عنها الفعل باطل لكنهم عند التطبيق يختلفون.
(1/29)
فيقول الحنبلى: الصلاة فى الارض المغصوبة منهى عنها من جهة الغصب مأمور بها من جهة الصلاة الا أن الجهة هنا غير منفكة لان نفس الحركة فى أركان الصلاة عين شغل الفراغ المملوك لغيره تعدياً، وذلك عين الغصب، فأفعال الصلاة لا تنفك عن كونها غصباً. والصلاة يشترط فيها نية التقرب وتلك الأفعال التي هى شغل الفراغ المملوك لغيره غصب لا يمكن فية نية التقرب اذ لا يمكن أن يكون متقربا بما هو عاص به، أما اذا انفكت الجهة فالفعل صحيح كالصلاة بالحرير فان الجهة منفكة لا لبس الحرير منهى عنه مطلقا فى الصلاة وغيرها، فالمصلى بالحرير صلاته صحيحة وعليه اثم لبسه الحرير، فيقول المالكى والشافعى مثلا: لا فرق البتة بين الصلاة فى المكان المغصوب وبين الصلاة بالحرير، فالغصب أيضا حرام فى الصلاة وفى غيرها، فصلاته صحيحة وعليه اثم غصبه. ويقول المالكى مثلا: مثال الجهة غير المنفكة، صوم يوم العيد أو الفطر لأن الصائم فيهما معرض عن ضيافة الله، لأن الأعراض عنهما هو الامتناع عن الأكل والشرب فلا يمكن انفكاك الجهة، فيقول الحنفى: الجهة منفكة أيضا لأن الصوم من حيث أنه صوم قربة ومن حيث كونه فى يوم العيد منهى عنه فالجهة منفكة ولذا لو نذر أحد أن يصوم يوم العيد فنذره عنده صحيح منعقد ويلزمه صيام يوم آخر غير يوم العيد ينائ على انفكاك الجهة عنده. وقول المؤلف رحمه الله فى هذا المبحث: قسموا النهى إلى ثلاثة أقسام: ايضاح معناه أن المنهى عنه اما أن يكون النهى عنه لذاته أو لوصفه القائم به أو لخارج عنه، زاد بعض المحققين قسما رابعا وهو أن المنهى عنه لخارج عنه قد تكون فيه جهة النهى غير منفكة عن جهة الأمر وقد تكون منفكة عنها
(1/30)
فتكون الاقسام أربعة مثال المنهى عنه لذاته الشرك والزنا ومثال المنهى عنه لوصفه القائم به الخمر بالنسبة إلى الاسكار ومثل له المؤلف بالصلاة فى حالة السكر لانها منهى عنها لوصف السكر القائم بالمصلى، ومثال المنهى عنه لخارج غير لازم، الصلاة بالحرير، ومثال المنهى عنه لخارج لازم عند المؤلف، الصلاة فى المكان المغصوب والنهى يقتضى البطلان فى ثلاثة منها وهى ما نهى عنه لذاته أو لوصفه القائم به أو لخارج عنه لازم له لزوما غير منفك. أما الرابع فلا يقتضى البطلان وهو ما كان النهى عنه لخارج غير لازم وقد قدمنا اختلافهم فى انفكاك الجهة وقد بين صاحب مراقى السعود بعض المسائل التي اختلفوا فى انفكاك الجهة فيها وعدمه بقوله: مثل الصلاة بالحرير والذهب أو فى مكان الغصب والوضوء انقلب ومعطن ومنهج ومقبره كنيسة وذى حميم مجزره والمؤلف رحمه الله يرى أن الصلاة فى الأمكنة المنهى عنها باطلة والخلاف فيها مشهور. (فصل) قال المؤلف _رحمه الله _: الأمر بالشىء نهى عن ضده من حيث المعنى فأما الصيغة فلا، فان
(1/31)
قوله (قم) غير قوله لا تقعد وانما النظر فى المعنى وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب برك القعود إلى آخره. اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب: الأول أن الأمر بالشىء هو عين النهى عن ضده وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا أسكن مثلا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، قالوا وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذى انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالنسية إليه أمر، وإلى الحركة نهى، والذين قالوا بهذا القول اشترطوا فى الأمر كون المأمور به معيناً وكون وقته مضيقاً ولم يذكر ذلك المؤلف، أما اذا كان غير معين كالأمر بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهياً عن ضده، فلا يكون فى آية الكفارة نهى عن ضد الاعتاق، مثلا، لجواز ترك الاعتاق من أصله والتلبس بضده والتكفير بالاطعام مثلا، وذلك بالنظر إلى ما صدقه أي فرده المعين كما مثلنا لا بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بين تلك الاشياء. ذى حميم: أي الحمام لوجود الماء الحار. ومنه قوله تعالى: (وسقوا ماء حميماً) . فان الأمر حينئذ نهى عن ضد الأحد الدائر، وضده هو ما عدا تلك الأشياء المخير بينها وكذلك الوقت الموسع فلا يكون الامر بالصلاة فى أول الوقت نهياً على التلبس بضدها في أول الوقت وتأخيرها إلى وسطه أو آخره بحكم توسيع الوقت. قال مقيده عفا الله عنه: الذى يظهر والله أعلم أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الامر بالشىء هو عين النهى عن ضده، مبنى على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسى ولفظى، وأن الامر النفسى، هو المعنى القائم بالذات
(1/32)
المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا أن الامر هو عين النهى عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهى ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، النهى استدعاء ترك، فليس استدعاء شىء موجود، وبهذا يظهر أن الامر ليس عين النهى عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك الا على زعم أن الامر هو الخطاب النفسى القائم بالذات المجرد عن الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم فى كون الامر نهياً عن الضد أن يكون الامر نفسياً يعنون الخطاب النفسى المجرد عن الصيغة، وجزم ببناء هذه المسألة على الكلام النفسي صاحب الضياء اللامع وغيره، وقد أشار المؤلف إلى هذا بقوله من حيث المعنى، وأما الصيغة فلا ولم ينتبه لان هذا من المسائل التي فيها النار تحت الرماد، لان أصل هذا الكلام مبنى على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ، لان هذا القول الباطل يقتضى أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والارض، وبطلان ذلك واضح وسيأتى له ان شاء الله زيادة ايضاح فى مباحث القرآن ومباحث الأمر. المذهب الثانى: ان الأمر بالشىء ليس عين النهى عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال لان قولك أسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة لان المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب الا به واجب كما تقدم، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلانى فى آخر مصنفاته وكان يقول بالأول: المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والأبيارة من المالكية، وامام الحرمين والغزإلى من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده واذا كان ذاهلا عنه
(1/33)
فليس ناهياً عنه اذ لا يتصور النهى عن الشىء مع عدم خطوره بالبال أصلا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره مستلزم ضرورة للنهى عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين قالوا ولا تشترط ارادة الآمر كما أشار إليه المؤلف رحمه الله. قال مقيده عفا الله عنه: قولهم هنا ولا تشترط ارادة الآمر فى هذا المبحث غلط، لان المراد بعدم اشتراط الارادة فى الامر ارادة الآمر وقوع المأمور به أما ارادته لنفس اقتضاء الطلب المعبر عنه بالامر، فلا بد منها على كل حال وهى محل النزاع هنا ومن المسائل التي تنبنى على الاختلاف فى هذه المسألة قول الرجل لأمرأته ان خالفت نهيى فأنت طالق، ثم قال قومى فقعدت فعلى أن الامر بالشيء نهى عن ضده، فقوله قومى هو عين النهى عن القعود فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبر عنه بصيغة الامر فتطلق وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على الخلاف المشهور فى لازم القول هل هو قول أولا، وعلى أنه ليس عين النهى عن الضد ولا مستلزما له فانها لا تطلق، ومن المسائل المبينة عليها أيضاً ما لو سرق المصلى فى صلاته أو لبس حريراً أو نظر محرما، فعلى أن الامر بالشىء نهى عن ضده فيكون الامر بالصلاة هو عين النهى عن السرقة مثلا فتبطل الصلاة، بناء على أن النهى يستلزم الفساد، فعين السرقة منهى عنها فى الصلاة بنفس الامر بالصلاة، فعلى أن النهى يقتضى الفساد فالصلاة باطلة. وسيأتى لهذا زيادة ايضاح ان شاء الله تعالى وخلاف العلماء فى مثل هذه الفروع مشهور.
(1/34)
(تنبيه) تكلم المؤلف رحمه الله على الأمر بالشيء الذى له أضداد متعددة وحكمها واحد فالأمر بالشيء نهى عن الضد الواحد أو مستلزم له إلى آخره، ونهى عن جميع الأضداد المتعددة أو مستلزم لها إلى آخره مثال الواحد ضد السكون، وهو الحركة ومثال المتعددة النهى عن القيام فضده القعود والإضطجاع. (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: التكليف فى اللغة الزام ما فيه كلفه أي مشقة قالت الخنساء: يكلفه القوم ما نابهم وان كان أصغرهم مولدا فقد عرفنا التكليف لغة واصطلاحاً فيما تقدم، وقوله وهو فى الشريعة الخطاب بأمر أو نهى قد بينا فيما تقدم وجه ادخال الجائز فى أقسام التكليف مع أنه ليس مكلفاً فعلا ولا تركان. قال المؤلف _ رحمه الله _: وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى نفس الفعل المكلف به إلى آخره، أما شروط التكليف الراجعة إلى المكلف فذكر منها العقل والبلوغ وعدم النسيان وعدم النوم فجعل السكران الذى لا يعقل غير مكلف ولم يجعل عدم الاكراه شرطا فالمكره عنده مكلف، وذكر الخلاف فى اشتراط عدم الكفر بالنسبة إلى فروع الاسلام، ولذا ذكر أن
(1/35)
الكفار اختلف فى خطابهم بفروع الاسلام، وذكر ثلاثة شروط راجعة إلى نفس الفعل المكلف به، وهى علم المكلف المأمور به، فلا يصح تكليفه بما لا يعلمه. الثانى: كون الفعل المأمور به معدوماً لان التكليف بتحصيل الموجود تحصيل حاصل وهو محال. الثالث: كونه ممكناً فلا يصح التكليف بالمجال. هذا حاصل ما ذكره من شروط التكليف ودونك تحقيق المقام فى الشروط المذكورة أما اشتراط العقل فى التكليف فلا خلاف فيه بين العلماء اذ لا معنى لتكليف من لا يفهم الخطاب، وأما لزوم قيم المتلفات وأروش الجنايات لمن لا عقل له، كالصبى الصغير والمجنون فهو من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف، وأما الصبى المميز فجمهور العلماء على أنه غير مكلف بشيء مطلقاً لأن القلم مرفوع عنه حتى يبلغ، وعن أحمد رواية مرجوحة بتكليف الصبى المميز، ومذهب مالك وأصحابه تكليف الصبى بالمكروه والمندوب فقط دون الواجب والحرام، قالوا للاجماع على أنه لا اثم عليه بترك واجب ولا بارتكاب حرام لرفع القلم عنه، وأما المكروه والمندوب، فاستدلوا لتكليفه بهما بحديث الخثعمية التي أخذت بضبعى صبى، وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر. وأما النائم والناسى فاختلف فى تكليفهما، فقيل غير مكلفين كما درج عليه المؤلف، للاجماع على سقوط الاثم عنهما، ولو كانا مكلفين كانا آثمين بترك العبادة حتى فات وقتها لأجل النوم والنسيان، وقيل هما مكلفان بدليل الاجماع فلى وجوب القضاء عليهما، اذ لو كانت الصلاة غير واجبة عليهما فى وقت النوم أو النسيان لما وجب قضاءها عند اليقظة والذكر، لأن ما لم يجب لا يجب قضاءه، وجمع بعض محققى الأصوليين من المالكية بين
(1/36)
القولين بأن قال ان عدم النوم والنسيان شرط فى الأداء لا فى الوجوب، فالصلاة واجبة عليهما مع أنهما غير مكلفين بنفس أدائها فالتمكن من الأداء بعد النوم، والنسيان شرط فى الأداء فقط لا فى الوجوب ومرادهم بشرط الايجاب أنه شرط في الايجاب الأعلامى الذى المقصود منه اعتقاد وجوب ايجاد الفعل ومرادهم بشرط الأداء الايجاب الالزامى الذى المقصود منه الامتثال الذى لا بحصل الا بالاعتقاد والايجاد معاً، واعلم أن ما جزم به المؤلف رحمه الله من كون الناسى والنائم غير مكلفين، يشكل عليه وجوب قضاء الصلاة والأجماع على أنها قضاء، وقد يجاب عنه بأن القضاء وجب بانعقاد سبب الوجوب، وان منع من تمامه مانع النوم أو النسيان والله تعالى أعلم. وأما السكران الذى لا يعقل فجزم المؤلف بأنه غير مكلف وبين أن لزوم الطلاق للسكران، ولزوم قيم المتلفات للنائم والناسى أن ذلك من خطاب الوضع وذلك هو مراده بقوله من قبيل ربط الأحكام بالأسباب لأن ذلك بعينه من خطاب الوضع، واعلم أن العلماء اختلفوا فيما يلزم السكران، ومما قيل فى ذلك التفصيل لأن السكر قد يذهب جميع عقله حتى يكون لا يعقل شيئاً، وهو المعروف بالسكران الطافح، وقد يذهب بعض عقله ويبقى معه بعضه، فالأظهر فى الطافح أنه لا يلزمه شيء من العقود ولا العتق ولا الطلاق ولا الجنايات الا ما كان من خطاب الوضع كغرم قيمة المتلف، وأما الذى لم يفقد جميع عقله فهو الذى فيه قول من قال: لا يلزم السكران اقرار عقود بل ما جنى عتق طلاق وحدود (1)
(1/37)
فان قيل قد دل القرآن على تكليف السكران فى قوله تعالى: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" لأن قوله وأنتم سكارى جملة حالية العامل فيها لا تقربوا وصاحبها الضمير الذى هو الواو والمعروف فى علم العربية أن الحال ان كانت غير مقدرة، فوقتها هو بعينه وقت عاملها فيلزم من ذلك أن وقت النهى عن قربان الصلاة هو وقت السكر بعينه ونهى السكران في وقت سكره يدل على أنه مكلف، فالجواب عن هذا الاشكال من الجهتين اللتين ذكرهما المؤلف. الاولى: أن المراد بالنهى، النهى عن شرب الخمر فى أول الأسلام قبل تحريمها قرب أوقات الصلاة بحيث يغلب على الظن أنها يدخل وقتها وهو سكران، لأن من شرب المسكر فى وقت يظن فيه أنه يأتى وقت الصلاة وهو سكران فكانه عالم بأن صلاته تكون فى وقت سكره، ودليل هذا الوجه أن الآية لما نزلت كانوا لا يشربونها الا فى وقتين بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، وفيما بين الصبح والظهر، وأما فى غير ذينك الوقتين فلا يشربونها لأن وقت الصلاة فى غيرهما يدخل قبل صحو السكران وهو واضح.
(1/38)
(تنبيه) قد أشار تعالى إلى ما يعرف به زوال السكر، وهو أن يكون فاهماً لما يتكلم به غير طائش عنه، وذلك فى قوله " حتى تعلموا ما تقولون..) الآية. وأما المكره فجزم المؤلف رحمه الله بأنه مكلف واطلاقه تكليفه من غير تفصيل لا يخلو من نظر، اذ الاكراه قسمان: قسم لا يكون فيه المكره مكلفاً بالاجماع كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلا، فقهره من هو أقوى منه، وكبله بالحديد، وحمله قهراً حتى أدخله فيها فهذا النوع من الاكراه صاحبه غير مكلف كما لا يخفى، اذ لا قدرة له على خلاف ما أكره عليه. وقسم هو محل الخلاف الذى ذكره المؤلف، وهو ما اذا قيل له افعل كذا مثلا والا قتلتك، جزم المؤلف بأن المكره هذا النوع من الاكراه مكلف، وظاهر كلامه أنه لو فعل المحرم الذى أكره عليه هذا النوع من الاكراه لكان آثماً والظاهر أن فى ذلك تفصيلا. فالمكره على القتل بان قبل أقتله والا قتلتك أنت، لا يجوز له قتل غيره، وان أدى ذلك إلى قتله هو، وأما فى غير حق الغير الظاهر أن الاكراه عذر يسقط التكليف، بدليل قوله تعالى: "الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ". وفى الحديث: (ان الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والحديث وان أعله أحمد وابن أبى حاتم فقد تلقاه العلماء بالقبول وله شواهد ثابتة فى الكتاب والسنة، وأما خطاب الكفار بفروع الاسلام
(1/39)
فاختلف فيه، فقيل غير مخاطبين بها، واحتج من قال بأنهم لو فعلوها فى حال كفرهم لم تقبل منهم ولا يجب قضاؤها عليهم بعد الاسلام وما لم يقيل منهم فلا يخاطبون به، وهذا الاحتجاج مردود لأنهم مخاطبون بها وبما لا تصح الا به وهو الاسلام، كالمحدث يخاطب بالصلاة وبما لا تصح الصلاة الا به كالطهاره كما قدمنا من أن ما لا يتم الواجب الا به واجب. والحق أنهم مكلفون بها لدلالة النصوص على ذلك فمن الأدلة عليه قوله تعالى: (ما سلككم سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) . الآية. ففى الآية التصريح بأن من الاسباب النى سلكتم فى سقر عدم اطعام المسكين، وهو فرع من الفروع ونظيره قوله تعالى: (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم فى سلسة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) . ثم بين السبب بقوله تعالى: (انه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) . الآية. ومن الادلة على ذلك قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله الهآ آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق) إلى قوله تعالى: (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا) . الآية. لان الآية نص فى مضاعفة العذاب
(1/40)
فى حق من جمع بين المحظورات. واعلم أن المسألة فيها ثلاثة أقوال: الأول: أنهم مخاطبون بها وهو الحق. الثانى: أنهم غير مخاطبين بها مطلقاً. الثالث: أنهم مخاطبون بالنواهى لصحة الكف عن الذنب منهم دون الأوامر وحجة من قال بالاطلاق أن الكف عن المنهى عنه وان صدر منهم فلا أجر لهم فيه، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة. وأما الجواب عن كونها لا تقضى بعد الاسلام، فهو أن الاسلام يجب ما قبله. قال المؤلف رحمه الله فأما الشروط المعتبرة لفعل المكلف به فثلاثة، أحدهما أن يكون معلوماً للمأمور به حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوماً كونه مأموراً به من جهة الله تعالى، حتى يتصور فيه قصد الطاعة والامتثال، وهذا يختص بما يجب ته قصد الطاعة والتقرب. ايضاح معنى هذا الشرط الاول أن الفعل المكلف به يشترط فى صحة التكليف به شرعاً أن يكون المكلف يعلمه فيشترط لتكليفه بالصلاة علمه بحقيقة كيفية الصلاة لان التكليف بالمجهول من تكليف ما لا يطاق، اذ لو قيل للمكلف أفعل ما أضمره فى نفسى أنك تفعله والا عاقبتك، فقد كلف بفعل ما لا طاقة له به لأن اهتداءه إلى الفعل المطلوب من غير علم ليس فى طاقته كما هو واضح. واعلم أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم منها تعبدى محض، وقسم معقول المعنى. فالتعبد كالصلاة والزكاة والصوم، فيشترط فى التكليف به العلم بحقيقة الفعل المكلف به كما بينا، ويزاد على ذلك العلم بأنه مأمور
(1/41)
به من الله تعالى، اذ لا بد من نية التقرب به إلى الله تعالى ونية التقرب إليه عز وجل لا تمكن الا بعد معرفة أن الأمر المتقرب به إليه أمر منه جل وعلا، وأما معقول المعنى فلا يشترط فى صحة فعله نية التقرب ولكن لا أجر له فيه البته الا بنية التقرب إلى الله تعالى. ومثال ذلك رد الأمانة، والمغصوب وقضاء الدين، والانفاق على الزوجة. فمن قضى دينه وأدى الأمانة ورد المغصوب مثلا لا يقصد بشيء من ذلك وجه الله بل لخوفه من عقوبة السلطان مثلا ففعله صحيح دون النية وتسقط به المطالبة فلا يلزمه الحق فى الآخرة بدعوى أن قضاءه فى الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب بل القضاء صحيح والمطالبة ساقطة على كل حال ولكن لا أجر له الا بنية التقرب، وهذا هو مراد المؤلف بقوله وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب. قال المؤلف: (الثانى) أن يكون معدوماً أما الموجود فلا يمكن ايجاده فيستحيل الأمر به. ايضاح معنى هذا الشرط أنه يشترط فى المطلوب المكلف به أن يكون الفعل المطلوب معدوماً، فالصلاة والصوم المأمور بهما وقت الطلب لا بد أن يكونا غير موجودين، والمكلف ملزم بايجادهما على الوجه المطلوب، أما الموجود الحاصل فلا يصح التكليف به كما لو كان صلى ظهر هذا اليوم بعينه صلاة تامة من كل جهاتها، فلا يمكن أمره بايجاد تلك الصلاة بعينها التي أداها على أكمل وجه لأن الأمر بتحصيلها معناه أنها غير حاصلة والفرض أنها حاصلة فيكون تناقضاً، ومن هنا قالوا تحصيل الحاصل محال لأن السعى فى تحصيله معناه أنه غير حاصل بالفعل وكونه حاصلا بالفعل ينافى ذلك فصار المعنى هو غير حاصل هو حاصل. وهذا تناقض واجتماع القيضين مستحيل.
(1/42)
(تنبيه) مثل قوله تعالى: "يا أيها النبى اتق الله ". الآية. صريح فى الأمر بما هو حاصل وقت الطلب لأنه متق وقت أمره بالتقى. والجواب أن أمره بالتقوى يراد به الدوام على ذلك أو أمر أمته بأمره لأنه قدوة لهم. قال المؤلف _ رحمه الله _: (الثالث) أن يكون ممكنا فان كان محالا كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به، وقال قوم يجوز ذلك بدليل قوله تعالى: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به "، والمحال لا يسأل دفعه، لأن الله تعالى، علم أن أبا جهل لا يؤمن وقد أمره بالايمان وكلفه اياه إلى آخر. اعلم أن هذه المسألة هى المعروفة عند أهل الأصول بمسألة التكليف بما لا يطاق، وبعضهم يقول التكليف بالمحال وفيها تفصيل لا بد منه ولم ذكره المؤلف رحمه الله تعالى، ولكنه أشار إليه اشارة خفيفة فى آخر كلامه. اعلم أن حاصل تحقيق المقام فى هذه المسألة عند أهل الأصول أن البحث فيهل من جهتين: الأولى: من جهة الجواز العقلى، أي هل يجوز عقلا أن يكلف الله عبده بما لا يطيقه أو يمتنع ذلك عقلا. الثانية: هل يمكن ذلك شرعاً أو لا، اعلم أن أكثر الأصوليين على جواز التكليف عقلا بما لا يطاق، قالوا وحكمته ابتلاء الانسان، هل يتوجه إلى
(1/43)
الامتثال ويتأسف على عدم القدرة ويضمر أنه لو قدر لفعل، فيكون مطيعاً لله بقدر طاقته، أو لا يفعل ذلك فيكون حكم العاصى. ومنهم من يقول لا يلزم ظهور الحكمة فى أفعال الله لأنهم يزعمون أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والحكم وسيأتى ان شاء الله تعالى ايضاح ابطال ذلك فى الكلام على علة القياس، وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق لا فائدة فية فهو محال عقلا، قالوا لأن الله يشرع الأحكام لحكم ومصالح، والتكليف بما لا يطاق لا فائدة فيه فهو محال عقلا. أما بالنسبة إلى الامكان الشرعى ففى المسألة التفصيل المشار إليه آنفاً وهو أن المستحيل أقسام. فالمستحيل عقلا قسمان: قسم مستحيل لذاته كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكاجتماع النقيضين والضدين فى شيء واحد من جهة واحدة. ويسمى هذا القسم المستحيل الذاتى، وايضاحه أن العقل اما أن يقبل وجود الشيء فقط، أي ولا يقبل عدمه أو يقبل عدمه فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معاً فان قبل وجوده فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معاً، فان قبل وجوده فقط ولم يقبل عدمه بحال فهو الواجب الذاتى المعروف بواجب الوجود كذات الله جل وعلا، متصفاً بصفات الكمال والجلال، وان قبل عدمه فقط دون وجوده فهو المستحيل المعروف بالمستحيل عقلا كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. وان قبل العقل وجودوه وعدمه، فهو المعروف بالجائز عقلا وهو الجائز الذاتى كقدوم زيد يوم الجمعة وعدمه. فالمستحيل الذاتى أجمع العلماء على أن التكليف به لا يصح شرعاً لقوله تعالى: " لا يكلف الله نفساً الا وسعها "، وقوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم " ونحو ذلك من أدلة الكتاب والسنة. القسم الثانى من قسمى المستحيل عقلا هو ما كان مستحيلا لا لذاته
(1/44)
بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، لأن ماسبق فى علم الله أنه لا يوجد مستحيل عقلا أن يوجد لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلى وهذا النوع يسمونه المستحيل العرضى، ونحن نرى أن هذه العبارة لا تنبغى لأن وصف استحالتة بالعرض من أجل كونها بسبب تعلق العلم الأزلى لا يليق بصفة الله، فالذى ينبغى أن يقال أنه مستحيل لأجل ما سبق فى علم الله من أنه لا يوجد ومثال هذا النوع ايمان أبى لهب فان ايمانه بالنظر إلى مجرد ذاته جائز عقلا الجواز الذاتى لأن العقل يقبل وجوده وعدمه، ولو كان ايمانه مستحيلا عقلا لذاته لاستحال شرعاً تكليفه بالايمان مع أنه مكلف به قطعاً اجماعاً، ولكن هذا الجائز عقلا الذاتى، مستحيل من جهة أخرى، وهى من حيث تعلق الله فيما سبق أنه لا يؤمن لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلى، والتكليف بهذا النوع من المستحيل واقع شرعاً باجماع المسلمين لأنه جائز ذاتى لا مستحيل ذاتى، والأقسام بالنظر إلى تعلق العلم قسمان واجب ومستحيل فقط، لان العلم اما أن يتعلق بالوجود فهو واجب أو بالعدم فهو مستحيل ولا واسطة، والمستحيل العادى كتكليف الانسان بالطيران إلى السماء بالنسبة إلى الحكم الشرعى كالمستحيل العقلى هذا هو حاصل كلام أهل الأصول فى هذه المسألة، والآية لا دليل فيها على جواز التكليف شرعاً بما لا يطاق لأن المراد بما لا طاقة به هى الآصار والأثقال التي كانت على من قبلنا، لان شدة مشقتها وثقلها تنزلها منزلة ما لا طاقة به. (فصل) قال المؤلف: والمقتضى بالتكليف فعل وكف، فالفعل، فالفعل كالصلاة والكف كالصوم
(1/45)
وترك الزنا وشرب الخمر إلى آخره. اعلم أن لله جل وعلا انما يكلف بالأفعال الأختيارية وهى باستقراء الشرع أربعة أقسام: الاول: الفعل الصريح كالصلاة. الثانى: فعل اللسان وهو القول والدليل على أن القول فعل قوله تعالى: (زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه) .الآية. الثالث: الترك والتحقيق أنه فعل وهو كف النفس وصرفها عن المنهى عنه، خلافاً لمن زعم أن الترك أمر عدمى لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء والدليل على أن الترك فعل الكتاب والسنة واللغة. وأما دلالة الكتاب على أن الترك فعل ففى آيات من القرآن العظيم كقوله تعالى: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون "، فسمى الله جل وعلا عدم نهى الربانيين والأحبار لهم صنعاً والصنع أرخص مطلقاً من الفعل فدل على أن ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فعل بدليل تسمية الله له صنعاً. وكقوله تعالى:" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وهو واضح ولم أر من الأصوليين من انتبه لدلالة هذه الآيات على أن الترك فعل، وقال السبكى فى طبقاته ان قوله تعالى :" وقال الرسول يا رب ان قومى اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ". يدل على أن الترك فعل، قال لان الأخذ التناول والمهجور المتروك فصار المعنى تناولوه متروكان أي فعلوا تركة هكذا قال. وأما دلالة السنة ففى
(1/46)
أحاديث كقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فسمى ترك الأذى اسلاماً وهو يدل على أن الترك فعل أما اللغة فكقول الراجز. لان قهدنا والنبى يعمل لذاك منا العمل المضلل فمعنى قعدنا تركنا الاشتغال ببناء المسجد، وقد سمى هذا الترك عملا فى قوله لذاك منا العمل المضلل وبنبنى على الخلاف فى الترك هل هو فعل أو لا. فروع كثيرة فى المذاهب كمن منع مضطراً فضل طعام أو شراب حتى مات، فعلى أن الترك فعل فانه يضمن ديته، وعلى أنه ليس بفعل فلا ضمان عليه، وكمن منع صاحب جدار خاف سقوطه عمدا عنه حتى سقط، ومن أمسك وثيقة حق حتى تلف الحق. وأمثال هذا كثيرة جداً فى الفروع فعلى أن الترك فعل فانه يضمن فى الجميع، وعلى أنه ليس بفعل فلا ضمان عليه، وأشار إلى هذا صاحب مراقى السعود بقوله: ولا يكلف بغير الفعل باعث ... الأنبيا ورب الفضل فكفنا بالنهى مطلوب النبى ... والكف فعل فى صحيح المذهب له فروع ذكرت فى المنهج ... وسردها من بعد ذا البيت يجى من شرب أو خيط ذكانة فضل ما ... وعمد رسم وشهادة وما عطل ناظر وذو الرهن كذا ... مفرط فى العلف فادر المأخذا الرابع: العزم المصمم على الفعل والدليل على أنه فعل قوله فى حديث أبى بكرة الثابت فى الصحيح اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار، قالوا يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول، قال انه كان حريصاً على قتل صاحبه،
(1/47)
فالحديث يدل دلالة لا لبس فيها على أ، عزم هذا المقتول المصمم على قتل صاحبه فعل، دخل بسببه النار لأنهم قالوا له: قد عرفنا القاتل أي عرفنا الموجب الذى دخل بسببه النار، وهو قتل المسلم فما بال المقتول، أي ما تشخيص الذنب الذى دخل بسببه النار لانه لم يحصل منه قتل بالفعل، فأجابهم: بأن سبب دخوله النار هو حرصه على قتل صاحبه فدل ذلك بدلالة الايماء والتنبيه على أن حرصه على قتل صاحبه هو الفعل الذى دخل بسببه النار كما هو واضح، وقول المؤلف رحمه الله فى هذه المسألة، والمقتضى بالتكليف هو بفتح الضاد بصيغة اسم المفعول أي الشيء المقتضى بالتكليف فعل وكف كما أوضحناه. قال المؤلف _ رحمه الله _: الضرب الثاني من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والأخبار وهو أقسام أيضاً: اعلم أن ما ذكر من أقسام خطاب الوضع ستة أقسام: القسم الأول: ما يظهر به الحكم هو نوعان: العلل والأسباب. الثالث: الشرط. الرابع: الموانع الخامس: الصحة، السادس: الفساد وأنجر الكلام إلى الرخصة والعزيمة والقضاء والأداء والعادة، وهذه تفاصيل ذلك كله. اعلم أولاً أن خطاب الوضع انما سمي خطاب الوضع لان الشرع وضع الخطاب بالاسباب والشروط والموانع مثلاً بمعنى أنه يقول اذا زالت الشمس مثلاً فقد وضعت وجوب الصلاة وإذا تم النصاب والحول فقد وضعت وجوب الزكاة، واذا حصل الحيض فقد وضعت سقوط الصلاة والصوم وقس على هذا.
(1/48)
واعلم أنه يفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع بفارقين ظاهرين وهما أن خطاب الوضع علامته أنه اما ألا يكون في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس والنقاء من الحيض أو يكون في قدرته، ولا يؤمر به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج وعدم السفر للصوم، وبهذا تعرف أن خطاب التكليف علامته أمران أن يكون في قدرة المكلف، ويؤمر به فعلاً كالوضوء للصلاة أو تركان كسائر المنهيات، وخطاب الوضع أعم من خطاب التكليف لأن كل تكليف معه خطاب وضع اذ لا يخلو من شرط أو مانع مثلاً، وقد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم غرم المتلفات وآروش الجنايات لغير المكلف كالصبي، وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه واعتمده القرافي في الفروق. أما العلة فهي في اللغة: عبارة عما اقتضى تغييراً ومنه سميت علة المريض لأنها اقتضت تغير الحال، ومنه قول زهير: ان تلق يوماً على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا أي ان تلقه على علاته أي حالاته المقتضية تغيير الوجود كالفقر والجدب تلقه متصفاً بالجود والسماحة على كل حال، والعلة العقلية عبارة عما يوجب الحكم لا محالة كتأثير حركة الاصبع في حركة الخاتم وتأثير الكسر في الانكسار والتسويد في السواد والفقهاء يستعملون العلة في ثلاثة أشياء: الأول: ما يوجب الحكم لا محالة أي اذا وجد قطعاً وهو المجموع المركب من مقتضى الحكم، وشرطه ومحله وأهله كوجوب الصلاة فانه حكم شرعي ومقتضيه أمر الشارع بالصلاة وشرطه أهنية المصلي لتوجه الخطاب عليه بأن يكون بالغاً عاقلاً ومحله الصلاة وأهله المصلى، فاذا وجد هذا المجموع وجدت الصلاة ويطلق على هذا المجموع اسم العلة تشبيهاً بالعلة العقلية، وقول المؤلف في هذا البحث: والاهل والمحل: وصفان من
(1/49)
أوصافها إلى آخره صوابه أن يقول: ركنان من أركانها لان الأهل والمحل ركنان من أركانها على هذا التفسير لها. الثاني: من الأشياء التي يطلقون عليها العلة هو العلة التي تخلف شرطها أو وجد مانعها كاليمين مع عدم الحنث بالنسبة لوجوب الكفارة، فاليمين علة الكفارة وشرط وجوبها بها الحنث فتسمى اليمين دون الحنث علة وهي علة تخلف شرطها، وهكذا في نحوه وهذا أولى عند المؤلف. الثالث: من الأشياء التي يطلقون عليها اسم العلة هو: الحكمة وضابط الحكمة أنها هي المعنى الذي من أجله صار الوصف علة فعلة تحريم الخمر مثلاً الاسكار، وحكمته حفظ العقل لان حفظ العقل هو الذي صار من أجله الاسكار علة للتحريم في الخمر، قال صاحب مراقي السعود في تعريف الحكمة: وهي التي من أجلها الوصف جرى ... علة حكم عند كل من درى وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة لان علة الرخصة بالقصر وعدم الصوم هي السفر والحكمة رفع المشقة لأنها هي التي من أجلها صار السفر علة للرخصة. واما السبب فهو كل ما توصلت به إلى شيء. ومنه قوله زهير: ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلم ويروي أسباب المنايا ينلنه أي طرقها الموصلة إليها. والسبب يطلق عند الفقهاء على أربعة أشياء:
(1/50)
الأول: ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية فالحافر يسمى صاحب سبب والمردي الذي هو المباشر صاحب علة، وكمن قدم طعام شخص إلى آخر فأكله فالمقدم متسبب والآكل مباشر والقاعدة عند الفقهاء تقديم المباشر في الضمان فان تعذر تضمينه لموت أو فلس ضمن المتسبب ولا يخلو تضمينه من خلاف. الثاني: علة العلة يسمونها علة كالرمي فانه علة لاصابة السهم بدن الشخص المرمي واصابته اياه علة لقتله، فالرمي علة لعلة القتل تسمى سببا. الثالث: العلة التي تخلف شرطها كنصاب الزكاة بدون الحول. الرابع: العلة الشرعية نفسها وعليه أكثر أهل الأصول قال في مراقي السعود: ومع علة ترادف السبب ... والفرق بعضهم إليه قد ذهب وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة ايضاح معنى العلة الشرعية في مبحث العلة من كتاب القياس. وأما الشرط في اللغة فهو العلامة، ومنه قوله تعالى: " فقد جاء اشراطها " الآية. وقول أبي الاسود الدؤلي: لان كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو والشرط الشرعي في الاصطلاح عند أهل الاصول هو ما لا يلزم من وجوده لذاته وجود ولا عدم، ولكنه يلزم من عدمه عدم المشروط كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فان وجود الطهارة لا يلزم منه وجود الصلاة ولا عدمها لأن المتطهر قد يصلي وقد لا يصلي بخلاف عدم الطهارة فانه يلزم منه عدم الصلاة الشرعية، واعلم أن الشرط قسمان:
(1/51)
شرط وجوب، وشرط صحة: فشرط الوجوب كالزوال لصلاة الظهر، وشرط الصحة كالوضوء للصلاة، وضابط الفرق بين شرط الوجوب وشرط الصحة هو عين الفرق المتقدم بين خطاب التكليف وخطاب الوضع لان شرط الوجوب من خطاب الوضع وشرط الصحة من خطاب التكليف الا أن صحة الواجب قد تشترط لها شروط الوجوب من حيث هي شروط في الوجوب وزاد بعض العلماء شرطاً ثالثاً وهو شرط الأداء، وقد قدمنا الاشارة إليه في أقسام التكليف واعلم أن الشرط من حيث هو شرط ثلاثة أقسام: الأول: الشرط الشرعي وهو المذكور آنفاً وهو المقصود في الأصل. الثاني: الشرط اللغوي كان دخلت الدار فأنت طالق وهو واضح. الثالث: الشرط العقلي وهو مالا يمكن المشروط في العقل دونه ومثل له المؤلف بالحياة للعلم والعلم للإرادة. المانع وأما المانع فهو في اللغة اسم فاعل منعه وفي اصطلاح أهل الأصول هو ما لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم ولكنه يلزم من وجوده عدم الحكم كالحيض بالنسبة للصلاة والصوم مثلاً فان عدم الحيض لا يلزم منه وجودهما ولا عدمهما لان المرأة الطاهرة قد تصلي وتصوم وقد لا تفعل ذلك بخلاف وجود الحيض فانه مانع من الصلاة والصوم. تنبيه المانع ثلاثة أقسام:
(1/52)
1 ـ مانع للدوام والابتداء معاً كالرضاع بالنسبة إلى النكاح فانه مانع منه ابتداء ودواماً ومعنى منعه ابتداء أنه يمنع من ابتداء عقد النكاح اذ لا يجوز عقد النكاح ابتداء على امرأة هي أخته من الرضاعة ومعنى منعه الدوام أنه لو تزوج رضيعة ليست له بمحرم ثم بعد عقد النكاح أرضعتها أمه أو أخته مثلاً فان هذا الرضاع الطارئ على العقد يمنع من الدوام على العقد بل يجب فسخه حالاً. 2 ـ مانع للابتداء فقط دون الدوام كالاحرام بالنسبة إلى النكاح فان الاحرام يمنع ابتداء عقد النكاح مادام محرماً ولا يمنع من الدوام على نكاح قبله. 3 ـ مانع للدوام دون الابتداء كالطلاق فانه مانع من الدوام على النكاح الاول ولا يمنع ابتداء نكاح ثاني. وأما الصحة فهي في اللغة السلامة وعدم الاختلال ومنه قوله: وليل يقول المرء من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها والصحة في اصطلاح الفقهاء تطلق في العبادات وفي المعاملات فالصحة عندهم في العبادات هي الأجزاء واسقاط القضاء فكل عبادة فعلت على وجه يجزئ ويسقط القضاء فهي صحيحة. والصحة عندهم في المعاملات هي ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد. فكل نكاح أباح التلذذ بالمنكوحة فهو صحيح وكل بيع أباح التصرف في المبيع فهو صحيح وهكذا. وأما عند المتكلمين فضابط الصحة مطلقاً في العبادات وغيرها هي موافقة ذي الوجهين الشرعي منهما، وايضاحه أن كل فعل، عبادة كان
(1/53)
أو معاملة، لا يخلو من أحد أمرين، اما أن يكون موافقاً للوجه الشرعي أو مخالفاً له فان وقع موافقاً له فهو الصحيح والقائلون بهذا القول منهم من قال ان الموافقة للوجه الشرعي لابد أن تكون واقعة في نفس الأمر ولا يكفي فيها ظن المكلف الموافقة، ان كانت غير حاصلة في نفس الأمر، ومنهم من قال تكفي الموافقة في اعتقاد المكلف وان لم تحصل في نفس الأمر كمن صلى يظن أنه متطهر وهو محدث، فالموافقة للوجه الشرعي حاصلة في ظنه لا في نفس الأمر فمن قال يكفي في ذلك اعتقاده قال صلاته صحيحة وهو قول بعض المتكلمين وبعضهم يقول هي صحيحة ولكن يجب قضاؤها وبعضهم يقول هي صحيحة لا يجب قضاؤها وعامة الفقهاء على أنها باطلة لاختلال شرط الصحة وهو الطهارة وقول المؤلف في هذا المبحث وهذا يبطل بالحج الفاسد فانه يؤمر باتمامه وهو فاسد، ايضاح مراده أن قول المتكلمين أن الصحة موافقة ذي الوجهين الشرعي منهما يقدح فيه بأن اتمام الحج الفاسد بعد فساده مأمور به فتتميمه موافق للوجه الشرعي ولو كانت الصحة موافقته لكان صحيحاً مع أنه فاسد ويجاب عن هذا بأن الحج انما فسد لانه وقع مخالفاً للوجه الشرعي بارتكاب ما يفسده أولاً وهو واضح. وأما الفساد فهو في اللغة ضد الصلاح وهو في اصطلاح الفقهاء يعرف من تعريف الصحة المتقدم فالفساد في اصطلاح الفقهاء في العبادات هو عدم الأجزاء وعدم اسقاط القضاء وكل عبادة فعلت على وجه لم يجزئ ولم يسقط القضاء فهي فاسدة. وفي المعاملات عدم ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد فكل نكاح لم يفد اباحة التلذذ بالمنكوحة فهو فاسد وكل شراء لم يفد اباحة التصرف في المشترى فهو فاسد، وعند المتكلمين فالفساد هو مخالفة
(1/54)
ذي الوجهين الشرعي منهما (والفاسد والباطل مترادفان) فمعناهما واحد عند الجمهور وخالف في ذلك الامام أبو حنيفة النعمان بن ثابت فجعل الباطل هو ما منع بوصفه وأصله كبيع الخنزير بالدم وجعل الفاسد هو ما شرع بأصله ومنع بوصفه كبيع الدرهم بالدرهمين فهو مشروع بأصله وهو بيع درهم بدرهم ممنوع بوصفه الذي هو الزيادة التي سببت الربا ولذا لو حذف الدرهم الزائد عنده صح البيع في الدرهم الباقي بالدرهم على أصل بيع الدرهم بالدرهم يداً بيد قال في مراقي السعود: وقابل الصحة بالبطلان ... وهو الفساد عند أهل الشان وخالف النعمان فالفساد ... ما نهيه بالوصف يستفاد وأما الاعادة فهي في اللغة تكرير الفعل مرة أخرى ومنه قول توبة بن لحمير: من الخفرات البيض وجليسها ... اذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها وهي في اصطلاحهم فعل العبادة مرة أخرى اما لبطلانها مثلاً فتعاد في الوقت وبعده واما لغير ذلك كاعادتها لفضل الجماعة في الوقت. واما القضاء في اللغة فيأتي لمعاني كثيرة، ومنها فعل العبادة كيف ما كان في وقتها أم لا. لقوله تعالى: " فاذا قضيتم الصلاة.. الآية ": " فاذا قضيتم مناسككم.. الآية ": " فاذا قضيت الصلاة.. الآية "، وهو في اصطلاح أهل الأصول فعل جميع العبادة المؤقتة خارج الوقت المقدر لها وقولنا جميع العبادة لأنها ان فعل بعضها في الوقت كانت أداء على الأصح.
(1/55)
وأما الأداء في اللغة فهو اعطاء الحق لصاحب الحق ومنه قوله تعالى: " ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقوله تعالى: " ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده إليك ". والأداء في الاصطلاح هو ايقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعاً لمصلحة تشتمل عليها في الوقت وعرفه صاحب مراقي السعود بقوله: فعل العبادة بوقت عينا ... شرعا لها باسم الأداء قرنا وكونه بفعل بعض يحصل ... لعاضد النص هو المعول وقيل ما في وقته أداء ... وما يكون خارجا قضاء وعرف القضاء بقوله: وضده القضا تداركان لما ... سبق الذي أوجبه قد علما وعرف الوقت بقوله: والوقت ما قدره من شرعا ... من زمن مضيقا موسعا وعرف الاعادة بقوله: وانتفيا في النفل والعبادة ... تكريرها لو خارجا اعادة (تنبيه) قد يجتمع الأداء والقضاء في العبادة كالصلوات الخمس فانها تؤدي في وقتها وتقضي بعد خروجه وقد ينفرد الأداء دون القضاء كصلاة الجمعة فانها تؤدى في وقتها ولا تقضى بعد خروج الوقت بل يجب قضاؤها ظهراً.
(1/56)
وقد ينفرد القضاء دون الأداء كما في صوم الحائض فان أداءه حرام وقضاأه واجب، وقد ينتفيان معاً في النوافل التي ليس لها أوقات معينة ولا يخفى أن القضاء في الاصطلاح انما هو فيما فات وقته المعين له وقد سبق له وجوب في وقته فما لم يعين له وقت لا يسمى قضاء كالزكاة اذا أخرها عن وقتها وكمن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخرها فلا يقال ان صلاته بعد التأخير قضاء القضاء. وهنا سؤال معروف وهو أن يقال الحائض في بعض أيام رمضان يجب عليها القضاء اجماعاً مع أن الوقت فات والصوم عليها حرام فكيف يجب قضاء ما فات وقته وهو حرام. وكذلك يقال في الناسي والنائم لأنهما فات عليهما وقت الصلاة وهي غير واجبه عليهما، بدليل الاجماع على سقوط الاثم عنهما، وقد تكلمنا فيما سبق على مسألة الناسي والنائم بما يغني عن اعادة الكلام هنا، وأما الحائض فقد اختلف في اطلاق وجوب الصوم عليها زمن الحيبض وعدمه فأكثر العلماء على أن انعقاد السبب مع وجود المانع يكفي في اطلاق الوجوب على العبادة المنعقد سببها المانع منها مانع. وقال بعضهم انعقاد سبب الوجوب مع وجوب المانع لا اثر له فلا يوصف بوجوب الا ما توفرت شروطه وانتفت موانعه وعلى قول الجمهور أنه يكفي في اطلاق اسم الوجوب عليه انعقاد سببه وان منع منه مانع فالفعل الثاني قضاء للاول وعلى قول من قال انه لا يطلق عليه اسم الوجوب فالفعل الثاني أداء بأمر جديد وليس قضاء للأول. وفرق بعض العلماء بين النائم والناسي والمسافر وبين الحائض فقال الفعل في غير زمن الحيض كزمن النوم والنسيان والسفر يوصف بالوجوب ففعله الثاني قضاء لذلك الواجب.
(1/57)
وأما الحيض فالصوم فيه حرام فلا يمكن وصفه بالوجوب فصوم الحائض عدة من أيام أخر على هذا أداء بأمر جديد لا قضاء. وذكر ابن رشد في المقدمات ان هذا التفصيل هو الراجح عند المالكية وعليه درج في المراقي بقوله: هل يجب الصوم على ذي العذر ... كحائض وممرض وسفر وجوبه في غير الأول رجح ... وضعفه فيه لديهمو وضح وهذا القول بأن صوم الحائض ما فاتها من رمضان اذا طهرت أداءاً لا قضاءاً هو الذي رد المؤلف بقوله: وهذا فاسد لوجوه ثلاثة: 1 ـ ما روى عن عائشة رضي الله عنها (كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة) . 2 ـ أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنهم ينوون القضاء. 3 ـ ان العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه لا يجب بعده.. إلخ. هذه الأوجه الثلاثة التي رد بها المؤلف ذلك: القول الأول منها لا دليل فيه لأن اطلاق عائشة رضي الله عنها اسم القضاء على صوم الحائض ما فاتها من رمضان لا دليل فيه لأن القضاء يطلق في اللغة على فعل العبادة مطلقاً في وقتها أم لا. وتخصيصه بفعلها بعد خروج الوقت اصطلاح خاص للأصوليين والفقهاء فلا دليل قطعاً في لفظ عائشة المذكور لأن الاصطلاح المذكور حادث بعدها.
(1/58)
وأما الوجه الثاني وهو الاجماع على أنهم ينوون القضاء فهو الدليل الجيد المعتمد في محل النزاع مع أن بعض أهل العلم ناقش هذا الدليل قائلاً انه لم ينعقد فيه اجما عوانه لا مانع من قصد الحائض الأداء بأمر جديد. وعليه أي الخلاق في ذلك درج في المراقي بقوله: وهو في وجوب قصد للأداء ... أو ضده لقائل به بدا والاكتفاء بانعقاد سبب الصوم مثلاً في وجوب القضاء وان منع من تمام الوجوب مانع كالحيض هو مارد المؤلف بقوله: ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة بناء على وجود السبب مع تعذر فعلها كما في النائم والناسي وكما في المحدث تجب عليه الصلاة مع تعذر فعلها منه في الحال وديون الآدميين تجب على المعسر مع عجزه عن أدائها وهذا واضح كما ترى. وأما العزيمة فقد عرفها المؤلف رحمه الله في اللغة بقوله: العزيمة في اللسان القصد المؤكد ومنه قوله تعالى: "ولم نجد له عزما". "فاذا عزمت فتوكل على الله" وعرفها أيضاً ي عرف حملة الشرع بقوله: فالعزيمة الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي وقيل ما لزم بايجاب الله تعالى والتعريف الأول أكمل. لأن العزيمة تشمل الواجب والمندوب والحرام والمكروه وكثير من أهل الأصول يطلق اسم العزيمة على كل ما ليس برخصة كما سيأتي: وأما الرخصة، فهي، في اللغة النعومة واللين، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(1/59)
ونديا مثل حق العاج رخصاً ... ... حصاناً من أكف اللامسين وعرفها المؤلف لغة بأنها السهولة واليسر، قال ومنه رخص السعر اذا تراجع وسهل الشراء، وعرفها في اصطلاح أهل الأصول بأنها استبحاة المحظور مع قيام الحاظر. وقيل ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وهذا التعريف الأخير الذي حكاه بقيل أجود من الأول. ومثاله اباحة الميتة للمضطر، ففيها استباحة المحظور الذي هو أكل الميتة مع قيام الحاظر أي المانع الذي هو خبث الميتة الذي حرمت من أجله، وهو أيضاً ثابت على خلاف دليل شرعي هو " حرمت عليكم الميتة" لمعارض راجح كقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم " الآية. ونحوها من الآيات ومن أجود تعاريف الرخصة، ما عرفها به بعض أهل الأصول من أنها هي الحكم الشرعي الذي غير من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك مع قياس سبب الحكم الأصلي، فخرج بالتغيير ما كان باقياً على حكمه الأصلي كالصلوات الخمس وخرج بالسهولة نحو حرمة الاصطياد بالاحرام بعد اباحته قبله لأنه تغيير من سهولة إلى صعوبة، وكذلك الحدود والتعازير، مع تكريم (1) الآدمي المقتضي للمنع من ذلك قبل وروده وخرج بالعذر، ما تغير من صعوبة إلى سهولة، لا لعذر كترك تجديد الوضوء لكل صلاة، فان التجديد لكل صلاة كان لازماً ثم غير إلى سهولة، هي أنه يصلي بوضوء واحد كل الصلوات مالم يحدث إلا أن هذا التغيير لا يسمى رخصة اصطلاحاً لأنه لم يكن لعذر جديد، وخرج بقيام سبب الحكم الأصلي النسخ، كتغير ايجاب مصابرة المسلم الواحد العشرة من الكفار بمصابرة إثنين منهم فقط المنصوص في أخريات الأنفال، لأن الحكم الأصلي الذي _________ (1) أي ان اكرام الآدمي حق له فتقير هذا الحق بصعوبة وهو التعزيز فليس ذلك رخصة..
(1/60)
هو مصابرة العشرة كان في أول الإسلام لقلة المسلمين وكثرة الكافرين وفي وقت النسخ زال هذا السبب بكثرة المسلمين، وكذلك ما لو قطع من انسان، بعض أعضاء الوضوء فان غسله يسقط عنه وجوبه ولا يسمى رخصة، لأن سبب الحكم الأصلي وجود محله وقد زال هنا بقطعه، وعرف صاحب المراقي الرخصة والعزيمة بقوله: للعذر والرخصة حكم غيرا ... الى سهولة لعذر قررا مع بقاء علة الأصلي ... وغيرها عزيمة النبي وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المبحث، أن اباحة التيمم ان كانت مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو لزيادة ثمن سميت رخصة، وان كانت مع العجز عنه، كعدم الماء فلا يسمى رخصة لأن سبب الحكم الاصلي وهو وجود الماء زائل هنا، فلا تكليف بمعجوز عنه، وهو ظاهر والأكثرون على أن اباحة الميتة للمضطر رخصة وان وجب عليه الأكل لاحياء نفسه، لأن الرخصة قد تجب كما هنا وسميت رخصة لما فيها من التسهيل عليه بالاذن في أكل الميتة، ولم يضيق عليه بالزامه ترك الأكلمنها حتى يموت، وقيل من جهة التوسيع رخصة ومن جهة وجوب الأكل عزيمة، والواحد بالشخص له جهتان كما تقدم وذكر المؤلف في هذا المبحث أيضاً ما خلاصته أن الصورة المخرجة من العموم بمخصص ان كانت توجد فيها علة الحكم العام تسمى رخصة، مثال ما وجدت فيها علة الحكم العام تسمى رخصة، وان كانت لا توجد فيها لا تسمى رخصة، مثال ما وجدت فيه علة العام من صور التخصيص. مسألة بيع العرايا، لأن بيع الرطب بالتمر اليابس فيها داخل في عموم أدلة النهي عن المزابنة، وعلة تحريم المزابنة التي هي عدم تحقق المماثلة الواجب تحققها في التمر بالتمر اجماعاً، موجودة في الصورة المخرجة من
(1/61)
حكم العام بدليل خاص وهي اباحة بيع العرايا المذكور، ومثال مالم توجد فيه علة العام، اباحة رجوع الأب فيما وهب لابنه فانه داخل في عموم المنع في حديث الواهب، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه. ولكنه خرج بدليل خاص، وعلة المنع غير موجودة في الأب لأن الأبوة تجعل له من التسلط على ما تحت يد الولد، مالم يكن لغيره وناقش بعض العلماء في الفرق بينهما، وقال لا فرق بين المسألتين. باب أدلة الأحكام قال المؤلف: الأدلة جمع دليل وهو فعل بمعنى فاعل، من الدلالة وهي فهم أمر من أمر أو كون أمر بحيث يفهم منه أمر فهم أو لم يفهم وهي مثلثة الدال والفتح أفصح. والدليل في اصطلاح أهل الأصول هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. وعرفه في المراقي بقوله: وما به للخبر الوصول ... بنظر صح هو الدليل والنظر في الاصطلاح، الفكر ال موصل إلى علم أو غلبة ظن وعرفه في المراقي بقوله: والنظر الموصل من فكر الى ... ظن بحكم أو لعلم مسجلا والفكر في الاصطلاح، حركة النفس في المعقولات أما حركتها في المحسوسات فتخييل. قال المؤلف رحمه الله تعالى الأصول أربعة كتاب الله
(1/62)
وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاجماع ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي ن واختلف في قول الصحابي (وشرع من قبلنا) وسنذكر ذلك ان شاء الله، كلامه واضح. واعلم أن المؤلف ترك مسائل كثيرة يذكرها الأصوليون في كتاب الاستدلال كتحكيم العرف والقضاء بسد الذرائع إلى المحرمات وفتحها إلى الواجبات وغير ذلك. قال المؤلف رحمه الله وأصل الأحكام كلها من الله سبحانه، اذ قول الرسول اخبار عن الله بكذا معنى كلامه ظاهر وهو الحق، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله فالحكم له وحده جل وعلا، كما قال "فالحكم لله العلي الكبير" وقال " ان الحكم الا الله" الآية، وقال "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" الآية، وقال "فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله" الآية، ونحو ذلك من الآيات، فكل من يتبع تشريع غير الله، معتقداً أن جعله عوضاً من تشريع الله جائز، أو أفضل منه، فهو كافر باجماع المسلمين وقد دلت على ذلك آيات كثيرة كقوله " وان أطعتموهم انكم لمشركون" وقوله " ألم أعهد اليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين"ونحو ذلك من الآيات. وقد دل القرآن على أن من يحكم غير شرع الله، يتعجب من دعواه الايمان، واذا كان زعمه أنه مؤمن، مع تحكيم غير الشرع أمراً يتعجب منه، دل ذلك على أن دعواه الايمان، دعوى كاذبة وبعيدة وعجيبة، وذلك قوله تعالى:
(1/63)
{ألم تر على الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيداً) . وقول المؤلف الاجماع يدل على السنة إلى آخره. يأتي اضاحه في الاجماع. (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: وكتاب الله سبحانه هو كلامه وهو القرآن الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخره، اعلم أن هذا القرآن المكتوب في المصاحف الذي أوله سورة الفاتحة وآخره سورة الناس هو كلام الله تعال بألفاظه ومعانيه كما صرح تعالى بأن هذا المسموع هو كلام الله في قوله: " وان أحد المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" فصرح بأن هذا الذي يسمعه هذا المشرك المستجير، هو كلام الله، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القاري، وما يزعمه بعضهم من تجريد كلامه جل وعلا عن الحروف والألفاظ وأن التوراة هي القرآن والانجيل وأن القرآن هو التوراة والانجيل، وأن الاختلاف انما هو يحسب التعلق فقط، كل ذلك باطل ومخالف لما عليه أهل الحق، فالقرآن هو بألفاظه ومعانيه كلام الله، ومن ادعى أن تأليف لفظه من فعل مخلوق عبر عن تلك المعاني القائمة بالذات بعبارة من نفسه وأن الله خلق له علما بذلك، فعبر عنه من تلقاء نفسه، فهذا من أبطل الباطل ولو كان اللفظ لمخلوق لما جاز التعبد به، والتقرب إلى الله بالصلاة به، ولجاز حمل
(1/64)
المحدث له كسائر كلام المخلوقين إلى غير ذلك. فالحاصل أن هذا القرآن المحفوظ في الصدور، المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف هو كلام الله تعالى بألفاظه ومعانيه تكلم به الله تعالى فسمعه جبريل منه وتكلم به جبريل فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته منه أمته وحفظته عنه، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ. قال الله تعالى: " فأجره حتى يسمع كلام الله " الآية. وعرف القرآن في المراقي بقوله: لفظ منزل على محمد ... لأجل الاعجاز وللتعبد فصرح بأن القرآن لفظ، أي مشتمل على تلك المعاني العظيمة لا مجرد المعنى القائم بالذات، المجرد عن الألفاظ والحروف، والكتاب هو القرآن بلا شك، ومن ادعى أنه غيره كما نسبه المؤلف لقوم، فان مقصودهم بالتغاير تغاير المفهوم لا تغاير المصدوق، فإن ما يصدق عليه القرآن، هو ما يصدق عليه الكتاب، وهو هذا القرآن العظيم وان كان التغاير حاصلا في مفهومهما، فان مفهوم الكتابة هو اتصاف هذا القرآن بأنه مكتوب ومفهوم القرآن هو اتصافه بأنه مقروء، والكتابة غير القراءة بلا شك، ولكن ذلك الموصوف بأنه مكتوب هو بعينه الموصوف بأنه مقروء، فهو شيء واحد موصوف بصفتين مختلفتين ومن هنا ظهر لك أن القرآن والكتاب واحد، باعتبار المصدوق وان تغاير باعتبار المفهوم. وكتاب الله هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً ولا خلاف بين العلماء في قراءة السبعة، نافع المدني وابن كثير المكي وابن عامر الشامي وابي عمرو البصري وعاصم وحمزة والكسائي والكوفيين وكذلك على الصحيح قراءة الثلاثة: أبي جعفر وخلف ويعقوب. قال في المراقي:
(1/65)
مثل الثلاثة ورجح النظر ... تواتراً لها لدى من قد غبر تواتر السبع عليه أجمعوا ... ولم يكن في الوحي حشو يقع (تنبيه) اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من أول كل سورة، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقاً. أما قوله في سورة النمل " انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم" فهي آية من القرآن اجماعاً. وأما سورة براءة فليست البسملة آية منها اجماعاً، واختلف فيما سوى هذا، فذكر بعض أهلا الاصول أن البسملة ليست من القرآن وقال قوم هي منه في الفاتحة فقط، وقيل هي آية من أول كل سورة وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. قال مقيده عفا الله عنه: ومن أحسن ما قيل في ذلك، الجمع بين الأقوال، بأن البسملة في بعض القراءات كقراءة ابن كثير آية من القرآن وفي بعض القرآن ليست آية، ولا غرابة في هذا. فقوله في سورة الحديد " فان الله هو الغني الحميد" لفظة (هو) من القرآن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وليست من القرآن، في قراءة نافع وابن عامر لأنهما قرءا " فان الله الغني الحميد" وبعض المصاحف فيه لفظة (هو) وبعضها ليست فيه وقوله " فأينما تولوا فثم وجه الله فان الله واسع عليم". " وقالوا اتخذ الله ولداً" الآية.
(1/66)
فالواو من قوله (وقالوا) في هذه الآية من القرآن، على قراءة السبعة غير ابن عامر، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن لأنه قرأ " قالوا اتخذ الله ولداً" بغير واو وهي محذوفة في مصحف أهل الشام، وقس على هذا وبه تعرف أنه لا اشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض، وبذلك تتفق أقوال العلماء. وأشار إلى هذا الجمع في المراقي بقوله: وليس للقرآن تعزى البسملة ... وكونها منه الخلاف (1) نقله وبعضهم الى القرآن نظر ... وذاك للوفاق رأي معتبر (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: فأما ما نقل نقلاً غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فقد قال قوم ليس بحجة، لأنه خطأ قطعاً إلى آخره. خلاصة ما ذكره في هذا الفصل، أن ما نقل أحاداً كقراءة (متتابعات) المذكورة لا يكون قرآناً وهذا لا خلاف فيه وهل يجوز الاحتجاج به مع الجزم بأنه ليس قرآناً. قال جمع من أهل الأصول: لا يجوز الاحتجاج به لأنه رواه على أنه قرآن، فلما بطل كونه قرآناً بطل الاحتجاج به من أصله. وقال قوم: يجوز الاحتجاج به كأخبار الآحاد، لأنه لا يخرج عن _________ (1) الخلاف: أي المخالف، أي أن المخالف نقل كون البسملة من القرآن الكريم.
(1/67)
كونه مسموعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومروياً عنه، وهذا هو اختيار المؤلف، وعليه فلا مانع من أخذ لزوم التتابع في صوم كفارة اليمين من قراءة ابن مسعود متتابعات وان جزمنا أنها ليست من القرآن. (تنبيه) الأشياء التي لابدَ منها في ثبوت القرآن ثلاثة عند بعضهم. ومظمها ابن الجزري بقوله: وكل ما وافق وجها نحوى ... وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح اسناداً هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان (فصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضعه الأصلي، على وجه يصح كقوله: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) ، (واسأل القرية) (جداراً يريد ان ينقض) ، (أو جاء أحد منكم من الغائط) ، (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ، (ان الذين
(1/68)
يؤذون الله) أي أولياء الله، وذلك كله مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضعه ومن منع فقد كابر ومن سلم وقال لا أسميه مجازاً فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه، معنى كلامه واضح ظاهر. واعلم أن ممن منع القول بالمجاز في القرآن ابن خويز منداد من المالكية وأبا الحسن الخرزي البغدادي الحنبلي وأبا عبد الله بن حامد وأبا الفضل التميمي وداوود بن علي وابنه أبا بكر ومنذر بن سعيد البلوطي وألف فيه مصنفاً، وقد بينا أدلة منعه في القرآن في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والاعجاز ومن أوضح الادلة في ذلك أن جميع القائلين بالمجاز متفقون على أن من الفوارق بينه وبين الحقيقة أن المجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها، فتقول لمن قال رأيت أسداً على فرسه، هو ليس بأسد وانما هو رجل شجاع، والقول في القرآن بالمجاز يلزم منه أن في القرآن ما يجوز نفيه، وهو باطل قطعاً، وبهذا الباطل توصل المعطلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، بدعوى أنها مجاز كقولهم في استوى استولى. وقس على ذلك غيره، من نفيهم للصفات عن طريق المجاز. أما الآيات التي ذكرها المؤلف فلا يتعين في شيء منها أنه مجاز. أما قوله: " واخفض لهما جناح الذل " فليس المراد به أن للذل جناحاً وان كان كلام العلامة ابن القيم رحمه الله يقتضيه، وظن أبو تمام أنه معنى الآية لما قيل له صب في هذا الاناء من ماء الملام يعني قوله: لا تسقني ماء الملام فانني ... صب قد استعذبت مات بكائي فقال هات ريشة من جناح الذل، حتى أصب لك من ماء الملام، بل المراد بالآية الكريمة كما يدل عليه كلام جماعة أهل التفسير أنها من اضافة
(1/69)
الموصوف إلى صفته، أي واخفض لهما جناحك الذليل لهما من الرحمة، ونظيره من كلام العرب قولهم حاتم الجود، أي الموصوف بالجود ووصف الجناح بالذل مع أنه صفة الانسان لأن البطش يظهر برفع الجناح، والتواضع واللين يظهر بخفضه، فخفضه كناية عن لين الجانب كما قال: وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك برفعه أجدلا وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك برفعه أجدلا ونظيره في القرآن " مطر السوء" وعذاب الهون" أي المطر الموصوف بأنه يسوء من وقع عليه، والعذاب الموصوف بوقوع الهون على من نزل به، واضافة صفة الانسان لبعض أجزائه أسلوب من أساليب اللغة العربية كما قال هنا جناح الذل، مع أن الذليل صاحب الجناح، ونظيره قوله تعالى: " ناصية كاذبة خاطئة " والمراد صاحب الناصية التي هي مقدم شعر الرأس، وقوله تعالى " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " مع أن تلك الصفات لأصحاب الوجوه وقوله تعالى " واسأل القرية" فيه حذف مضاف، وحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه، أسلوب من أساليب اللغة معروف، عقده في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفا ... عنه في الاعراب إذا ما حذفا والمضاف المحذوف مدلول عليه بدلالة الاقتضاء، وهي عند جماهير الأصوليين، دلالة الالتزام وليست من المجاز عندهم، كما هو معروف في محله، وقوله "جداراً يريد أن ينقض " لا مجاز فيه، اذ لا مانع من حمل الارادة في الآية على حقيقتها لان للجمادات ارادات حقيقية يعلمها الله جل وعلا، ونحن لا نعلمها ويوضح ذلك حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - لما تحول عنه إلى المنبر، وذلك الحنين ناشئ عن ارادة يعلمها الله تعالى وقد ثبت في صحيح
(1/70)
مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اني لأعرف حجراً كان يسلم علي في مكة وسلامه عليه، عن ارادة يعلمها الله ونحن لا نعلمها كما صرح تعالى بذلك في قوله جل وعلا " وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فصرح بأننا لا نفقهه، وأمثال ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، وكذلك لا مانع من كون الارادة تطلق في اللغة على معناها المعروف والسنة، وكذلك لا مانع من كون الارادة تطلق في اللغة على معناها المعروف، وعلى مقاربة الشيء والميل اليه فبكون معنى ارادة الجدار، ميله إلى السقوط وقربه منه، وهذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول الراعي: في مهمه قلت به هاماتها ... قلق الفؤس اذا أردن نصولا وقول الآخر: يريد الرمح صدر أبي براء ... ويعدل عن دماء بني عقيل وكذلك قوله " أو جاء أحد منكم من الغائط" لامجاز فيه، بل اطلاق اسم المحل على الحال فيه وعكسه، كلاهما أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية، وكلاهما حقيقة في محله، كما أقروا بنظيره في أن نسخ العرف للحقيقة اللغوية لا يمنع من اطلاق اسم الحقيقة عليه فيسمونه حقيقة عرفية، وكذلك قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقوله " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " الآية. لا مجاز فيه، وبذلك اعترف أكثر علماء البلاغة، حيث عدوا هذا النوع من البديع وسموه باسم المشاكلة، ومعلوم أن المجاز من فن البيان، لا من فن البديع، فأكثرهم قالوا ان المشاكلة من البديع كقوله: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
(1/71)
والحق أن هذا أسلوب من أساليب اللغة، ومنه الآيتان، نعم زعم قوم من علماء البلاغة أن المشاكلة من علاقات المجاز المرسل، فسموا ما استعمل في غير معناه عندهم للمشاكلة مجازاً، وأما تفسيره " يؤذون الله" بقوله يؤذون أولياءه فليس بصحيح، بل معنى ايذاءهم الله كفرهم به وجعلهم له الأولاد والشركاء، وتكذيبهم رسله. ويوضح ذلك حديث (ليس أحد اصبر على أذى يسمعه " من الله انهم يدعون له ولداً وأنه ليعافيهم ويرزقهم) ، وأكثر المتأخرين على أن في الآيات التي ذكرها المؤلف مجازاً، كما هو معروف، وقد بينا منع القول بالمجاز في القرآن في رسالتنا التي ألفناها في ذلك، وقول المؤلف في تعريف المجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضعه الاصلي على وجه يصح، يعني بقوله على وجه يصح أن تكون هناك علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، وأن تكون ثم أيضاً قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي، وتعريفه للمجاز لا يدخل فيه الا اثنان من أنواع المجاز الأربعة، وهما المجاز المفرد وهو عندهم الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي، والعلاقة ان كانت المشابهة كقولك رأيت أسداً يرمي سمي هذا النوع من المجاز استعارة، وحد الاستعارة مجاز علاقته المشابهة، وان كانت علاقته غير المشابهة كالسببية والمسببية ونحو ذلك سمي مجازاً مفرداً مرسلاً كقول الشاعر: أكلت دماً ان لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر أطلق الدم وأراد الدية مجازاً مرسلاً علاقته السببية لأن الدية المعبر عنها بالدم سببها الدم وهي مسبب له. الثاني من النوعين الذين دخلا في كلامه، المجاز المركب وضابطه أن يستعمل كلام مفيد في معنى كلام مفيد آخر، لعلاقة بينهما ولا نظر فيه إلى المفردات، فقد تكون حقائق لغوية، وقد تكون مجازات مفردة، وقد
(1/72)
يكون بعضها مجازاً وبعضها حقيقة، وعلاقته ان كانت المشابهة فهو استعارة تمثيلية، ومنها جميع الأمثال ال سائرة والمثل يحكي بلفظه الأول، ومثاله قولك لمن فرط في أمر وقت امكان فرصته، ثم بعد ان فات امكان فرصته جاء يطلبه (الصيف ضيعت اللبن) وأصل المثل أن إمرأة من تميم خطبها رجلان أحدهما كبير في السن وله مواشي كثيرة، والثاني شاب وماشيته قليلة، فاختارت الشاب، وكانت الخطبة زمن الصيف، ثم طلبت بعد ذلك من الكبير الذي ردت خطبته لبناً فقال لها: (الصيف ضيعت اللبن) وهذا الاستعمال لعلاقة المشابهة، بين مجموع الصورتين وان كانت علاقته غير المشابهة، سمي مجازاً مركباً مرسلاً كقوله: ... هواي مع الركب اليمانيين مصعد ... ... ... ... جنيب وجثماني بمكة موثق فالبيت كلام خبري أريد به انشاء التحسر والتأسف لان ما أخبر به عن نفسه هو سبب التحصر والتأسف، وهو مجاز مركب مرسل، علاقته السببية لانه لم يقصد بهذا الخبر فائدة الخبر، ولا لازم فائدته، والنوعان اللذان لم يدخلا في كلامه هما المجاز العقلي ومجاز النقص والزيادة. أما المجاز العقلي عندهم فالتجوز فيه في الاسناد خاصة لا في لفظ المسند إليه ولا المسند وسواء فيه كانا حقيقتين لغويتين أو مجازين مفردين أو أحدهما حقيقة والثاني مجازاً لأن التجوز فيه في خصوص الاسناد كقول المؤمن (أنبت الربيع البقل) فالربيع وانبات البقل كلاهما مستعمل في حقيقته، والتجوز انما هو في اسناد الانبات إلى الربيع وهو لله جل وعلا عند المتكلم وكذلك هو في الواقع وأنكر المجاز العقلي السكاكي ورده إلى الاستعارة المكنية، وأما مجاز النقص عندهم (واسأل القرية)
(1/73)
وهذا المثال ذكره المؤلف مع أنه لم يدخل في تعريفه للمجاز، لأن جميع ألفاظه مستعملة فيما وضعت له، والتجوز من جهة الحذف المغير للاعراب، ومثال مجاز الزيادة عندهم ليس كمثله شيء وقد بينا أنه لا ينبغي للمسلم أن يقول ان في كتاب الله مجازاً والتحقيق أن اللغة العربية لا مجاز فيها وانما هي أساليب عربية تكلمت بجميعها العرب، ولو كلفنا من قال بالوضع للمعنى الحقيقي أولاً ثم للمعنى المجازي ثانياً بالدليل على ذلك لعجز عن اثبات ذلك عجزاً لاشك فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: قال القاضي ليس في القرآن لفظ بغير العربية إلى آخره، خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن العلماء اختلفوا هل في القرآن ألفاظ أصلها أعجمية ولكن عربت أو كله عربي، فحجة من قال كله عربي الآيات الدالة على ذلك كقوله: "انا جعلناه قرآناً عربياً" الآية. وقوله " وهذا لسان عربي مبين" وقوله " ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي، ونحو ذلك من الآيات وحجة من قال فيه عجمي معرب ادعاءه الوقوع قال: كناشئة الليل أصلها حبشية و (مشكاة) أصلها هندية (واستبرق) أصلها فارسية وقال هذا الوقوع لا يعارض الآيات المذكورة لأن اشتمال القرآن الكريم على كلمات قليلة عجمية لا يخرجه عن كونه عربياً أو لأن العرب لما نطقت به وعربته صار عربياً. قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي ما اختار بعض أهل العلم، كابن جرير من أن القرآن ليس فيه لفظ من غير العربية وأن بعض كلماته في النادر لا مانع منه. والدليل على هذا القول أن دعوى أن أصله عجمي ثم عرب معارضة
(1/74)
بمثلها وهو امكان كونه أصله عربياً ثم عجم في اللغات الأخرى. (تنبيه) أما الأعلام الأعجمية فهي في القرآن بلا خلاف لأن العلم يحكي بلفظه في جميع اللغات. المحكم والمتشابه قال المؤلف ـ رحمه الله: ـ وفي كتاب الله محكم ومتشابه إلى آخره اعلم أن بعض الآيات دل على كون القرآن كله محكماً كقوله تعالى " كتاب أحكمت آياته " الآية وغيرها من الآيات وبعضها دل على كونه كله متشابهاً وهو قوله "كتاباً متشابهاً " الآية. ولا معارضة بين الآيات، لأن معنى كونه كله محكماً هو اتصاف جميعه بالاحكام الذي هو الاتقان لأن جميعه في غاية الاتقان في ألفاظه ومعانيه، أحكامه عدل وأخباره صدق، وهو في غاية الفصاحة والاعجاز والسلامة من جميع العيوب، ومعنى كونه كله متشابهاً ان آياته يشبه بعضها بعضاً في الاعجاز والصدق والعدل والسلامة من جميع العيوب، ومعنى أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات، اختلف يه اختلافاً مبنياً على الاختلاف في معنى الواو في قوله: " والراسخون في
(1/75)
العلم " فمن قال ان الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة " يقولون آمنا به " والوقف تام على قوله الا الله، فانه يفسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه، وعلى هذا القول أكثر أهل العلم وعليه درجة صاحب المراقي بقوله: وما به استأثر علم الخالق ... فذا تشابه عليه أطلق وهو على هذا القول واضح لأن الضمير في قوله "ومايعلم تأويله إلا الله" راجع إلى ما تشابه منه، وهو بعينه المتشابه ومن قال بأن الواو عاطفة فانه فسر المتشابه بما يعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم كالآيات التي ظاهرها التعارض وهي غير متعارضة في نفس الأمر كقوله: " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقوله " فيومئذ لا يسألا عن ذنبه انس ولا جان" مع قوله "فوربك لنسألنهن أجمعين " الآية. وقوله " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " ونحو ذلك من الآيات. وقول من قال ان المتشابه القصص والأمثال، فسر المتشابه بما يشبه بعضه بعضاً لان قصص الامم الماضية يشبه بعضه بعضاً وكذلك الأمثال ورجح المؤلف رحمه الله ان المتشابه ما استأثر الله بعلمه، وان الوقف تام على قول الا الله، أي وما يعلم تأويله الا الله وحده، بقرائن في الآية، فمن القرائن المعنوية اللفظية أنه لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون بالواو، ومن القرائن المعنوية أنه ذم مبتغى التأويل ولو كان ذلك معلوماً للراسخين لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه لا سيما اذا اتبعوه بقولهم كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه من عنده كالمحكم ولأن لفظة
(1/76)
(أما) في قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" لتفصيل الجمل، فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه اياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله، يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون، ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول بابتغاء التأويل. قال مقيده عفا الله عنه: مراده أن قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" الآية يفهم منه ما مضمونه وأما الراسخون في العلم فلا يتبعون ما تشابه منه ولا يبتغون تأويله. وقول المؤلف رحمه الله في هذا المبحث والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه وتعالى مما يجب الايمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " إلى آخره لا يخلو من نظر، لأن آيات الصفات لا يطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى من غير تفصيل، لأن معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهاً، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بها ليست معلومة للخلق، وإذا فسرنا المتشابه بأنه هو ما استأثر الله بعلمه دون خلقه كانت كيفية لاتصاف داخلة فيه لا نفس الصفة، وايضاحه أن الاستوى إذا عدى بعلى معناه في لغة العرب الارتفاع والاعتدال ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بهذا المعنى المعروف عند العرب لا يعلمها إلا الله جل وعلا، كما أوضح هذا التفصيل أمام دار الهجرة مالك ابن أنس تغمده الله برحمته، بقوله الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول فقوله رحمه الله الاستواء غير مجهول يوضح أن أصل صفة الاستواء ليست من المتشابه وقوله والكيف غير معقول، يبين أن كيفية الاتصاف تدخل في المتشابه بناء على تفسيره بما استأثر الله تعالى بعلمه كما تقدم، وهذا التفصيل لابد منه خلافاً لظاهر كلام المؤلف رحمه الله، وقد بسطنا الكلام بايضاح
(1/77)
هذه المسألة في كتابنا أضواء البيان في أول سورة آل عمران والعلم عند الله تعالى، فان قيل ان فسرنا المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فما الحكمة في خطاب الخلق بما لا يفهمونه، فالجواب ان الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء فلا مانع من أن يكلفهم الايمان بما لا يعلمون معناه امتحاناً وابتلاء لهم، ويدل لهذا الوجه ما ذكره تعالى عن الراسخين في العلم من قولهم " آمنا به كل من عند ربنا " فانهم آمنوا به لأنهم علموا أنه من عند ربهم كالمحكم والله تعالى أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (باب النسخ) النسخ في اللغة الرفع والازالة ومنه نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الاثر وقد يطلق لارادة ما يشبه النقل كقولهم نسخت الكتاب، معنى كلامه ظاهر، وقوله ما يشبه النقل عبر بأنه يشبهه لأنه ليس نقلاً حقيقياً لأن ما في الكتاب المنقول منه لم ينقل بالكلية وانما نقلت صورته منه في الكتاب الثاني واعلم أن النسخ جاء في القرآن العظيم لثلاثة معاني وجاء بمعناه اللغوي وهو الرفع والابطال من غير تعويض شيء عن المنسوخ وهذا في قوله تعالى " فينسخ الله ما يلقي الشيطان". وجاء بمعناه الشرعي وهو رفع حكم شرعي بخطاب جديد، وذلك في قوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها " الآية. وجاء بمعنى نسخ الكتاب أي كتابته كقوله تعالى " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون " وقوله " وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ".
(1/78)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والازالة لاغير، وحده رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه، ومعنى الرفع إزالة الحكم علىوجه، لولاه لبقي ثابتاً وقوله بخطاب متقدم متعلق بالثابت يعني أنه ثابت بخطاب شرعي متقدم لا بالبراءة الأصلية، وقوله بخطاب متراخ عنه متعلق برفع الحكم يعني أنه مرفوع بخطاب متراخ عنه لا متصل به، وايضاح تقريره أن النسخ هو أن يرفع بخطاب متراخ، حكم ثابت بخطاب متراخ، حكم ثابت بخطاب متقدم، واحترز بقوله رفع الحكم عما لم يرفع أصلاً كالأحكام التي لم يدخلها نسخ واحترز بقوله بخطاب متقدم عما كان ثابتاً بالبراءة الأصلية كعدم حرمة الربا وعدم وجوب الصيام والصلاة فان رفعه ليس بنسخ لأنه كان ثابتاً بالبراءة الأصلية لا بخطاب شرعي واحترز بخطاب ثان عن زوال الحكم بالجنونونحوه، فليس بنسخ، لأنه لم يرفع بخطاب ثان، واحترز بتراخيه عن المتصل بالخطاب الأول فانه تخصيص له، وبيان لا نسخ له كقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" فان بدل البعض من الكل فيه رفع حكم وجوب الحج عن غير المستطيع ولكنه متصل به فليس نسخاً لانه لم يتراخ عنه، وكقوله تعالى " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيراً " فرفع حكم الامر بالكتابة في حق من لم يعلم فيه خيراً، المفهوم من الشرط ليس نسخاً لأنه متصل به، وستأتي ان شاء الله أمثلة كثيرة لهذا في مبحث المخصصات المتصلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقال قوم ان النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان إلى آخره، حاصل
(1/79)
هذا القول الأخير ان النسخ بيان لانقضاء زمن الحكم الأول لأن ظاهر الخطاب الأول أن الحكم مؤبد والناسخ قد دل على انتهاء زمنه، وأشار إلى القولين في المراقي بقوله في تعريف النسخ: رفع لحكم أو بيان الزمن ... بمحكم القرآن أو بالسنن وعلى هذا القول الثاني فالنسخ يرجع إلى التخصيص في الأزمان وهو معترض، لأنه لا يشمل النسخ قبل التمكن من الفعل، واعلم أن حد المعتزلة للنسخ الذي ذكره المؤلف باطل، فلا حاجة له، وما أورد من الاعتراضات على حد النسخ الذي ذكرنا بأنه رفع الحكم كله ساقط، والحد صحيح. واعلم أن النسخ لا يلزمه البدل الذي هو الرأي المتجدد، لأن الله يشرع الحكم الأول وهو يعلم أنه سينسخه في الوقت الذي تزول مصلحته فيه وتصير المصلحة في الناسخ. فاذا جاء ذل الوقت نسخ الحكم الأول وعوض منه الحكم الناسخ على وفق ما سبق في علمه أنه سيفعله، كما أن المرض بعد الصحة وعكسه والموت بعد الحياة وعكسه والفقر بعد الغنى وعكسه ونحو ذلك ليس فيه بدءاً لسبق علمه تعالى بأنه سيفعل ذلك في وقته كما هو ظاهر. قال المؤلف: فان قيل فما الفرق بين النسخ والتخصيص إلى آخره. أعلم أن السلف يطلقون اسم النسخ على ما يطلقه عليه الأصوليون وعلى التخصيص والتقييد، فالجميع يسمونه نسخاً كما نبه عليه غير واحد. وأما الأصوليون فلا يطلقون النسخ على التخصيص ولا التخصيص على النسخ.
(1/80)
وحد النسخ عندهم هو ما تقدم. وحد التخصيص في اصطلاحهم هو قصر العام على بعض أفراده بدليل يقتضي ذلك كما سيأتي إن شاء الله. وبتعريف كل منها يظهر الفرق وذكر المؤلف الفرق بينهما من سبعة أوجه: الأول: أن التخصيص بيان أن المخصوص غير مراد باللفظ والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه وايضاحه أن مثل قوله تعالى " فلبث فيهم ألف سنة " الآية ظاهرة أنها ألف كاملة لكن قوله " إلا خمسين عاماً " بين أن هذه الخمسين غير مراد دخولها في الألف وأن المراد بالألف تسعمائة وخمسون بدليل قوله إلا خمسين عاما، وهذا المثال بناء على أن الاستثناء بالا ونحوها من العدد تخصيص وهو قول الأكثر كما أشار إليه في المراقي بقوله: وعدد مع كالا قد وجب ... له الخصوص عند جل من ذهب بخلاف النسخ فالذي يرفعه الناسخ كان قبل النسخ مقصوداً دخوله في معنى اللفظ وفي الحكم كما هو واضح. الثاني: أن النسخ يشترط تراخيه كما تقدم بخلاف التخصيص فانه يجوز اقترانه، وربما لزم كالتخصيص بالشرط والصفة والغاية والاستثناء وبدل البعض من الكل كما يأتي إيضاحه إن شاء الله في مبحث المخصصات. الثالث: أن النسخ يدخل في الشيء الواحد كنسخ استقبال بيت المقدس بيت الله الحرام، فالمنسوخ شيء واحد بخلاف التخصيص فلا يدخل إلا في عام له أفراد متعددة يخرج بعضها بالمخصص، ويبقى بعضها الآخر.
(1/81)
الرابع: أن النسخ لا يكون إلا بخطاب جديد، والتخصيص قد يقع بغير خطاب كالتخصيص بالقياس والعقل وبالعرف المقارن للخطاب وغير ذلك كما سيأتي إيضاحه في مبحث المخصصات المنفصلة. الخامس: أن النسخ لا يدخل الأخبار، وإنما هو في الإنشاء فقط بخلاف التخصيص فإنه يكون في الإنشاء وفي الخبر. السادس: أن النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته والتخصيص لا ينتفي معه ذلك، إيضاحه أن مثل قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج " لما نسخ بقوله تعالى: " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " لم تبق دلالة الآية. الأولى على الحول من العدة، مقصودة في المستقبل بعد ورود الناسخ، بخلاف التخصيص وسيأتي أن التحقيق عند متأخري الأصوليين، أن العام المخصوص يراد فيه شمول جميع الأفراد، من حيث تناول اللفظ لها دون الحكم لها لوجود المخصص، أما العام المراد به الخصوص فالأفراد الخارجة بالمخصص لم ترد فيه تناولا ولا حكماً كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى: السابع: أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد بخلاف التخصيص، فان المتواتر يخصص بالآحاد لأن النسخ رفع والتخصيص بيان، فقوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " متواتر خصص عمومه بحديث (لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها) وهو آحاد، وقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم.. " الآية. خصص بقوله: " أنا معاشر الأنبياء لا نورث " الحديث. وهو آحاد وأمثلته كثيرة وسيأتي في مبحث التخصيص كثير منها إن شاء الله تعالى. وأشار في المراقي إلى جواز بيان التواتر بالآحاد وبيان المنطوق بالمفهوم
(1/82)
بقوله: وبين القاصر من حيث السند ... أو الدلالة على ما يعتمد تنبيه أعلم أن التخصيص إن لم يرد فيه المخصص بالكسر إلا بعد العمل بالعام، والتقييد إن لم يرد فيه المقيد بالكسر إلا بعد العمل بالمطلق، فكلاهما حينئذ نسخ، ولا يجوز أن يكونا تخصيصاً وتقيداً لأن التخصيص والتقيد بيان، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل، فلما تأخر عن وقته تعين كونه نسخاً، وأشار إلى ذلك في المراقي في الأول بقوله: وأن أتى ما خص بعد العمل ... نسخ والغير مخصصاً جلي وفي الثاني بقوله: وأن يكن تأخر المقيد ... عن عمل فالنسخ فيه يعهد قال المؤلف - رحمه الله -: (فصل) وقد أنكر قوم النسخ وهو فاسد، إلى آخره لا شك أن إنكار النسخ فاسد وأن النسخ جائز عقلا كما قدمنا أنه لا يلزمه البداء وواقع شرعاً، والدليل قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " الآية. وقوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية " الآية. وإنكار أبي
(1/83)
مسلم الأصفهاني له معناه أنه يميل إلى أنه تخصيص في الزمن، لا رافع للحكم كما تقدمت الإشارة إليه. قال المؤلف: (فصل) يجوز نسخ تلاوة الآية دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخها معاً. معنى طلامه ظاهر، ومثال نسخ التلاوة دون الحكم نسخ تلاوة آية الرجم وبقاء حكمها وهي قوله تعالى: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " قيل كانت هذه الآية من برائه، وقبل من الأحزاب، ومنه نسخ تلاوة آية خمس رضعات عند الشافعي ومن وافقه، ومثال نسخ الحكم دون التلاوة آية العدة المذكورة آنفاً، وهو أغلب ما في القرآن من النسخ ومثال نسخها معاً، نسخ آية عشر رضعات، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن. (تنبيه) يتوجه على هذا الذي ذكر في هذا البحث ثلاثة أسئلة: 1 ـ الأول: أن يقال كيف ساغ نسخ الحكم دون التلاوة مع أن التلاوة دليل الحكم، فكيف يرفع المدلول مع بقاء دليله، لأن هذا يلزمه الدليل
(1/84)
بلا مدلول، وهو محال، إذ لا تعقل الدلالة بدون مدلول. 2 ـ الثاني: أن يقال تقدم في حد النسخ أنه رفع الحكم إلى آخره فكيف يدخل نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم فيه لم يرفع. 3 ـ الثالث: أن يقال ما حكمة نسخ اللفظ مع أنه انما نزل ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع، اذ رفعه يقتضي انتقاء حكمته. 1 ـ ج ـ الجواب عن السؤال الأول هو أنا لا نسلم كون اللفظ دليلاً على الحكم بعد نسخ الحكم، بل هو انما يكون دليلاً علىه عند انفكاكه عما يرفع حكمه، فاذا جاء الخطاب الناسخ لحكمه زالت دلالته على الحكم بالكلية، كما قدمنا في الفوارق بين النسخ والتخصيص. وايضاحه أن الحكم الشرعي المنسوخ مع بقاء اللفظ الدال عليه سابقاً، وتلاوة ذلك اللفظ وكتابته في القرآن وانعقاد الصلاة به كلها أحكام شرعية من أحكام ذلك اللفظ، وكل حكم شرعي فهو قابل للنسخ. قال في المراقي: وكل حكم قابل له وفى ... نفي الوقوع لاتفاق قد قفى واذا عرفت ذلك عرفت أنه لا مانع من نسخ بعض أحكام اللفظ كالتحريم، والوجوب المفهوم منه، مع بقاء أحكام أخر من أحكامه لم تنسخ، كالتعبد به واجزائه في الصلاة ونحو ذلك. فآية الاعتداد بحول مثلاً، نسخ ما دلت عليه من ايجاب تربص الحول على المتوفى عنها، وبقيت أحكام أخر من أحكامها لم تنسخ، وهي قراءتها في الصلاة، وكتابتها مع القرآن في المصحف، وهو واضح كما ترى.
(1/85)
2 ـ جـ ـ والجواب عن السؤال الثاني: هو أن نسخ التلاوة فقط معناه نسخ التعبد بلفظه والصلاة به وكتبه مع القرآن في المصحف وهذه أحكام من أحكامه، فلا مانع من نسخها مع بقاء حكم آخر لم ينسخ، وهو ما دل عليه اللفظ، فآية الرجم مثلاً لا مانع من نسخ التعبد بها والصلاة بها، وكتبها في المصحف مع بقاء حكم آخر من أحكامها لم ينسخ، وهو رجم الزانيين المحصنين كما تقدم مثله فان قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قولهم هذا منسوخ تلاوة لا حكماً لأنه يفهم منه أن نسخ التلاوة مناف لنسخ الحكم. فالجواب أن الحكم المنفى عنه النسخ في قولهم لا حكماً غير الحكم المثبت له النسخ بنسخ التلاوة لأنها أحكام قد نسخ بعضها دون بعض كما تقدم قريباً. 3 ـ جـ ـ الجواب عن السؤال الثالث: هو انه لا مانع من أن يكون أصل المقصود من المنسوخ تلاوة لا حكماً انما هو الحكم دون التلاوة، لكنه أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ معين ليثبت به الحكم ويستقر الحال، والحال أنه هـ والمقصود فلا مانع من نسخ اللفظ، لأن المقصود هو مجرد الحكم فانه قيل: فان جاز نسخ التلاوة فلينسخ الحكم معها لأن الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل. فالجواب: أن التلاوة حكم، وانعقاد الصلاة بها حكم آخر ودلالتها على ما دلت عليه حكم آخر، فلا يلزم من نسخ التعبد بها وعدم الصلاة بها نسخ حكمها الذي دلت عليه، فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة، والآية المنسوخة تلاوتها مع بقاء حكمها دليل لنزولها وورودها، لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها، ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى.
(1/86)
قال المؤلف: (فصل) يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال إلى آخره. حاصل ايضاح هذا البحث باختصار أن التحقيق هو جواز وقوع نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال، فان قيل فما حكمة الأمر الأول اذا كان ينسخ قبل التمكن من الفعل. فالجواب: أن الحكمة في الأمر الأول هي الابتلاء، هل يتهيأ للامتثال ويظهر الطاعة فيما أمر به أولاً، ودليل هذين الأمرين قصة أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فانه نسخ عنه ذبحه قبل التمكن من فعله وبين الله تعالى أن الحكمة في ذلك هي ابتلاؤه هل يتهيأ لذبح ولده فتهيأ لذلك وتله للجبين، ولذا قال تعالى: " إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم" وهذا واضح كما ترى، وأقوال من منع هذا وحججهم ظاهرة البطلان فلا نطيل الكلام بها. (تنبيه) منشأ الخلاف في هذه المسألة هو هل حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء، وهو الحق أو هي الامتثال فقط، وهو قول القدرية، فعلى أن الحكمة مترددة بينهما فالمنسوخ بعد الفعل حكمته الامتثال، وقد امتثل بالفعل قبل النسخ. والمنسوخ قبل التمكن من الفعل حكمته الابتلاء، وقد حصل قبل
(1/87)
النسخ، والى هذا أشار في المراقي بقوله: للامتثال كلف الرقيب ... فموجب تمكنا مصيب أو بينه ولابتلاء ترددا ... شرط تمكن عليه انفقدا وأشار إلى المسألة التي نحن بصددها بقوله: ... والنسخ من قبل وقوع الفعل ... ... جاء وقوعا في صحيح النقل (تنبيه آخر) ذكر بعض أهل الأصول، أن هذه القاعدة المذكورة آنفاً التي هي هل حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء أو هي الامتثال فقط التي هي مبنى الخلاف في جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال، ينبني عليها بعض الفروع الفقهية. من ذلك مثلاً من علمت بالعادة المطردة أنها تحيض في أثناء النهار غداً فبيتت الافطار ثم حاضت في أثناء النهار بالفعل كما كانت تعتقده، ومن تعتاده حمى الربع وعادته أن تأتيه غداً في أثناء النهار فبيت الأفطار لذلك ثم أصابته الحمى بالفعل في أثناء النهار كما كان يعتقد، فعلى أن الحكمة في التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء فتبيت الفطر ممنوع على كل منهما، وقيل فيه بالكفارة أن فعل موجبها قبل حصول الحيض أو الحما وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه. وعلى أن الحكمة الامتثال فقط فلا كفارة ولا مانع من تبييت الافطار، لأنه غلب على ظنه انتفاء الحكمة المقصودة بوجود العذر والله تعالى أعلم.
(1/88)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) والزيادة على النص ليست بنسخ، وهي على ثلاثة مراتب أحدها ألا تتعلق الزيادة بالمزيد عليه، كما اذا أوجب الصلاة ثم أوجب الصوم فلا نعلم خلافاً لأن النسخ رفع الحكم وتبديله ولم يتغير حكم المزيد عليه بل بقي وجوبه واجزاؤه إلى آخره. لا يخفى ان زيادة وجوب الصوم على وجوب الصلاة ليس نسخاً للصلاة كما ترى، وايضاح هذا المبحث أن فيه تفصيلاً لابد منه لم يذكره المؤلف، وهو أن الزيادة على النص لها حالتان: الأولى: أن تنفي ما أثبته النص الأول أو تثبت ما نفاه وهذه لا شك أنها نسخ، ولم يتعرض لها المؤلف رحمه الله ومثالها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك، فان تحريم هذه المحرمات ونحوها زادته السنة، على آية " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة " الآية، مع أن هذه الآية الكريمة تدل على اباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها، بدليل حصر المحرمات في الأربع المذكورة في الآية بأقوى أدوات الحصر، وهي النفي والاثبات ونظير الآية حصر المحرمات في الأربع المذكورة في النحل والبقرة بقوله تعالى في النحل "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " وقوله تعالى في البقرة " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله".
(1/89)
وقد تقرر في الأصول في مبحث دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر، إن (انما) من أدوات الحصر وهو الحق، فأحاديث تحريم الحمر الأهلية وذي الناب من السباع مثلاً، زادت تحريم شيء قد دل القرآن قبل ورود تحريمه على أنه مباح، فكونها نسخاً لا شك فيه، وان خالف فيه كثر من أهل العلم لوضوح النسخ فيه كما ترى، لأنه رفع حكم سابق دل عليه القرآن بخطاب جديد. الحالة الثانية هي التي ذكرها المؤلف رحمه الله وقسمها إلى مرتبتين: المرتبة الأولى: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه، على وجه لا يكون شرطاً فيه كزيادة تغريب الزاني البكر على جلده مائة. والمرتبة الثانية: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه، تعلق الشرط بالمشروط والتحقيق أن هاتين المرتبتين حكمهما واحد كما نصره المؤلف، وكما هو الحق وايضاحه أن الأولى منها زيادة جزء، والثانية زيادة شرط، وحكم زيادتهما واحد لأن التغريب جزء من الحد فزيادته على الجلد، زيادة جزء من الحد كما هو واضح، ومثله زيادة ركعتين في الرباعية بناء على أن الصلاة فرضت اثنتين، ثم زيد في صلاة الحضر وبقيت صلاة السفر على ما كانت عليه كما جاء به الحديث. ومثال زيادة الشرط زيادة وصف الايمان في صفة رقبة كفارة اليمين والظهار فمذهب الجمهور وهو الظاهر أن هذا النوع من الزيادات لا يكون نسخاً لأنه لم يرفع حكماً شرعياً، وانما رفع البراءة الأصلية التي هي الاباحة العقلية وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل صارف عنه والزيادة في مثل هذا زيادة شيء سكت عنه النص الأول فلم يتعرض له بصريح اثبات ولا نفي وخالف في هذا الامام أبو حنيفة رحمه الله فمنع كون التغريب جزءاً من الحد، وان جاء بذلك الحديث الصحيح قائلاً، ان الجلد كان مجزءاً
(1/90)
وحده وزيادة التغريب دلت على أنه لا يكفي وحده بل لابد معه من زيادة التغريب، وهذا نسخ لاستقلال الجلد بتمام الحد وهذا بناء على أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد لأن آية الجلد متواترة وأحاديث زيادة التغريب آحاد، والغرض عنده أن الزيادة نسخ والمتواتر لا ينسخ بالآحاد، فلم يقبل ثبوت التغريب بالآحاد بناء على ذلك ولأجل هذا بعينه لم يقل بالحكم بالشاهد واليمين في الأموال، الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على أنه آحاد وأنه زيادة على آية " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء" وأن الزيادة على النص نسخ وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد، وكذلك قال الجمهور ان شرط وصف الايمان في رقبة كفارة اليمين والظهار ليس نسخاً فيلزم القول به حملاً للمطلق وهو رقبة كفارة اليمين والظهار على المقيد بالإيمان وهو كفارة القتل خطأ. ومنع ذلك أبو حنيفة بأن الزيادة على النص نسخ وحمل المطلق على المقيد لا يصلح دليلاً على النسخ وايضاح هذا. ان الجمهور قالوا هذا النوع من الزيادة لا تعارض بينه وبين النص الأول، والناسخ والمنسوخ يشترط فيهما المنافاة بحيث يكون ثبوت أحدهما يقتضي نفي الآخر ولا يمكن الجمع بينهما فالمزيد في مثل هذا مسكوت عنه، فان قيل هو مدلول عليه بمفهوم المخالفة فالجواب أن الحنفية المخالفين في هذا لا يقولون بمفهوم المخالفة أصلاً ونحن لا نقول به هنا، مع أنا لا نسلم دلالة المفهوم عليه فقوله تعالى "فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " لا يدل على عدم وجوب شيء آخر بدليل آخر، اذ ليس فيه ما يدل على الحصر، فالمزيد مسكوت عنه في النص المتقدم والزيادة رافعة للبراءة الأصلية لا لحكم شرعي منصوص بدليل شرعي،
(1/91)
ثم تلك الدعوى انما تستقيم لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر ثم وردت الزيادة بعده وهذا لا سبيل إلىمعرفته بل لعله ورد بياناً لاسقاط المفهوم متصلاً به أو قريباً منه كما أشار له المؤلف. وايضاحه أنا لا نسلم أن قوله تعالى " فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" دل بمفهومه على عدم التغريب، ثم استقر حكم هذا المفهوم بعدم التغريب ثم وردت الزيادة بالتغريب بعد ذلك حتى يقال أنها نسخ ن بل يمكن أن تكون زيادة التغريب ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - متصلة بنزول آية الجلد بياناً لأنه لا مفهوم يراد به الاقتصار على الجلد دون التغريب ويدل لعدم الانفصال بينهما حديث " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " لاحديث فالسبيل آية الحد، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - التغريب مقترناً بذكره لها كما ترى، والعلم عند الله تعالى والى التفصيل المذكور آنفاً أشار في المراقي بقوله: وليس نسخاً كل ما أفادا ... فيما رسا بالنص لازديادا قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) ونسخ جزء العبادة المتصل بها أو شرطها ليس نسخاً لجملتها على آخره. حاصل هذا المبحث، أن نسخ الجزء أو الشرط نسخ لنفس ذلك الجزء وذلك الشرط فقط، لا نسخ لجميع الحكم وهو واضح لأن هذا نسخ وهذا أبقى على ما كان عليه، فمثال نسخ الشرط أن استقبال بيت المقدس كان شرطاً في صحة الصلاة فنسخ هذا الشرط ولم يكن نسخه نسخاً لحكم
(1/92)
الصلاة من أصلها كما ترى، ومثال نسخ الجزء نسخ عشر رضعات بخمس ولا سيما عند من يقول ببقاء خمس رضعات إلى الآن كالشافعي وحجة من قال بأن نسخ الجزء أو الشرط نسخ لجملة الحكم هو أن الاقتصار على الحكم بدون ذلك الجزء أو ذلك الشرط كان ممنوعاً لا يعتد معه بذلك الحكم، وبعده كان الحكم تاماً، وهذا نسخ، وأجيب من جهة الجمهور، أن ذلك الشرط أو ذلك الجزء انما كان وقت تشريعه رافعاً للبراءة الأصلية، فلما نسخ رجع سقوطه إلى حكم البراءة الأصلية، والباقي كان مشروعاً ولم يزل كذلك وأشار إلى هذا في المراقي بقوله: ... والنسخ للجزء أو الشرط انتقى ... ... نسخه للساقط لا للذبقى قال المؤلف رحمه الله تعالى. (فصل) يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل، وقيل لا يجوز لقوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " الآية. قال مقيده عفا الله عنه: هذا الذي حكاه رحمه الله بصيغة التضعيف التي هي قيل، يجب المصير غليه، ولا يجوز القول بسواه البتة لأن الله جل وعلا صرح به في كتابه، والله يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً "، "ومن
(1/93)
أصدق من الله قيلا"، " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، الآيات، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فالعجب كل العجب من كثرة هؤلاء العلماء وجلالتهم من مالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم، القائلين بجواز النسخ لا إلى بدل ووقوعه مع أن الله يصرح بخلاف ذلك في قوله تعالى "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فقد ربط بين نسخها وبين الاتيان بخير منها أو مثلها، بأداة الشرط ربط الجزاء بشرطه ومعلوم عند المحققين أن الشرطية انما يتوارد فيها الصدق والكذب على نفس الربط، ولا شك أن هذا الربط الذي صرح الله به بين هذا الشرط والجزاء في هذه الآية صحيح لا يمكن تخلفه بحال فمن ادعى انفكاكه وأنه يمكن النسخ بدون الاتيان بخير أو مثل فهو مناقض للقرآن مناقضة صريحة لا خفاء بها، ومناقض القاطع كاذب يقيناً لاستحالة اجتماع النقيضين، صدق الله العظيم، وأخطأ كل من خالف شيئاً من كلامه جل وعلا، وقول المؤلف رحمه الله: ولنا أنه متصور عقلاً ظاهر السقوط لأن صريح القرآن لا يناقض بالتجويز العقلي، وقوله قام دليله شرعاً ليس بصحيح، اذ لا يمكن قيام دليل شرعي على ما يخالف صريح القرآن، وقوله أن نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وتقديم الصدقة أمام المناجاة كلاهما نسخ إلى غير بدل، وأن ذلك دليل على النسخ لا إلى بدل، غير صحيح لأن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي نسخ ببدل خير منه وهو التخيير في الادخار والانفاق المذكور في الأحاديث وتقديم الصدقة أمام المناجاة منسوخ ببدل خير منه وهو التخيير بين الصدقة تطوعاً ابتغاء لما عند الله وبين الامساك عن ذلك كما يدل عليه قوله: " فاذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم " الآية. وقول المؤلف رحمه الله فأما الآية فانها وردت في التلاوة، وليس للحكم
(1/94)
فيها ذكر، ظاهر السقوط كما ترى، لأن الآية الكريمة صريحة في أنه مهما نسخ آية أو أنساها أتى بخير منها أو مثلها كما هو واضح، وقول المؤلف على أنه يجوز أن يكون رفعها خيراً منها في الوقت الثاني لكونها لو وجدت فيه لكانت مفسدة. يقال فيه ذلك الرفع الذي هو خير منها، هو عين البدل الذي هو خير منها، الذي هو محل النزاع، وما أجاب به صاحب نشر البنود شرح مراقي السعود تبعاً للقرافي من أن الجواب لا يجب أن يكون ممكناً فضلاً عن أن يكون واقعاً، نحو إن كان الواحد نصف العشرة، فالعشرة اثنان، ظاهر السقوط أيضاً، لأن مورد الصدق والكذب في الشرطية، إنما هو الربط فتكون صادقة لصدق ربطها ولو كانت كاذبة الطرفين لو حل ربطها ألا ترى أن قوله تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " قضية شرطية في غاية الصدق مع أنها لو أزيل منها الربط لكذب طرفاها، إذ يصير الطرف الأول كان فيهما آلهة إلا الله وهذا باطل قطعاً، ويصير الطرف الثاني فسدتا أي السماوات والأرض وهو باطل أيضاً والربط لا شك في صحته وبصحته تصدق الشرطية، فلو كان فيهما آلهة غير الله لفسد كل شيء بلا شك، وكذلك لو صح أن الواحد نصف العشرة لصح أن العشرة اثنان، لكنه لم يصح فيهما آلهة غير الله، ولا أن الواحد نصف العشرة، كما هو معروف بخلاف الشرط في الآية فقد صح وبصحته يلزم وجود المشروط، واعلم أن قول من قال أن أهل العربية يجعلون الصدق والكذب في الشرطية، إنما يتواردان على الجزاء والشرط إنما هو شرط ذلك غير صحيح، بل التحقيق أن الصدق والكذب عندهم يتواردان على الربط بينهما كما ذكرنا كما حققه السيد في حوشيه على المطول، وكما حققه البناني في شرح السلم، وهو الحق الذي لا شك فيه لصدق الشرطية مع كذب الطرفين كما بينا.
(1/95)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) ويجوز النسخ بالأخف والأثقل إلى آخره، حاصل هذا المبحث أنه يجوز نسخ الحكم الأثقل بالأخف منه، كما يجوز نسخ الأخف بالأثقل منه، ومثال نسخ الأثقل بالأخف، نسخ الاعتداد بالحول في قوله تعالى: " متاعاً إلى الحول غير اخراج " الآية. بأربعة أشهر وعشر في قوله تعالى: " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " الآية. ومعلوم أن الأربعة أشهر وعشر ليال أخف من السنة وكنسخ مصابرة الواحد عشرة من الكفار، المنصوص في قوله تعالى: " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين " الآية. بمصابرة أثنين المنصوص في قوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين " الآية. فان مصابرة أثنين أخف من مصابرة عشرة: وكنسخ قوله تعالى: " وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " الآية. بقوله " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " الآية. ومثال نسخ الأخف بالأثقل نسخ التخيير بين الصوم والاطعام، المنصوص في قوله تعالى: " وعلى الذين يطيقون فدية طعام مسكين " الآية. بقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " الآية لأن ايجاب الصوم أثقل من التخيير بينه وبين الاطعام، ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله تعالى: " فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن
(1/96)
الموت " الآية. والرجم أثقل من الحبس في البيوت، ولو قبل أن آية الحبس في البيوت غير منسوخة لأنها كانت لها غاية، هي قوله تعالى: " حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " الآية. وقد حصلت الغاية بجعل السبيل كما قال صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث، فذلك السبيل هو الجلد والرجم لكان حسنا متجهاً. ومن أمثلته نسخ إباحة الخمر المنصوص في قوله تعالى: " تتخذون منه سكراً ورزقاً حسنا " الآية. بقوله تعالى: " إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون "، خلافاً لمن زعم أن تحريم الخمر رافع للبراءة الأصلية لا حكم شرعي، فليس عنده بنسخ، لأنه فسر قوله تعالى: " تتخذون منه سكراً " بأن المراد بالسكر الطعم أو الخل لا الخمر، وهو خلاف الصحيح، فان قيل كيف جاز نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف مع أن الله يقول: " نأت بخير منها أو مثلها " فان كان الأثقل خيراً لكثرة الأجر فلم جاز نسخه بالأخف، وإن كان الأخف خيراً لسهولته فلم جاز نسخه بالأثقل. فالجواب أن الخيرية دائرة بين الأخف والأثقل فتارة تكون في الأخف فينسخ به الأثقل لسهولة الأخف، وتارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر فيه فينسخ به الأخف، وانكار الظاهرية لنسخ الأخف بالأثقل محتجين بقوله تعالى: "يريد الله بكم اليسر" وقوله: "يريد الله أن يخفف عنكم "، ونحو ذلك من الآيات لا وجه له، لأن
(1/97)
المراد بالآيات التخفيف بالجملة، فلا ينافي أنه ربما شرع حكماً أثقل مما قبله كما أوجب الصوم بعد التخيير، ونحو ذلك والى هذه المسألة أشار في المراقي بقوله: وينسخ الخف بما له له ثقل ... وقد يجيء عارياً من البدل قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) اذا نزل الناسخ فهل يكون نسخاً في حق من لم يبلغه الخ ... حاصل هذا المبحث أن الحكم اختلف فيه، هل يثبت بمجرد وروده، وان لم يبلغ المكلف أو لا يثبت بحق المكلف الا بعد بلوغه له، وقال القاضي أنه لا يكون نسخاً حتى يبلغ المكلف، لأن أهل قباء بلغهم نسخ استقبال بيت المقدس وهم في الصلاة فاعتدوا بما مضى من صلاتهم، ولو كان الحكم يستقر بمجرد وروده وان لم يعلم به المكلف لما اعتدوا بما مضى من الصلاة قبل العلم بالناسخ، قال أبو الخطاب يتخرج أن يكون نسخاً، بناء على قول الامام أحمد رحمه الله تعالى في الوكيل أنه ينعزل بعزل الموكل، وان لم يعلم الوكيل بالعزل ويتفرع على هذا الخلاف نسخ خمسة وأربعين صلاة ليلة الاسراء فعلى أن الحكم يثبت بمجرد الورود فهي منسوخة في حق الأمة، وعلى عكسه فلا، ومن الفروع المبنية عليه عزل الوكيل بموت موكله أو عزله له قبل العلم، وهل تصرفه بعد موت موكله، أو بعد عزله له، قبل علمه بذلك ماضي أو لا. الخلاف في ذلك مبني على الخلاف في هذه المسألة وينبني على الخلاف
(1/98)
في هذه المسألة أيضاً من أسلم في دار الكفر ولم يجد من يعلمه أمر دينه كالصلاة والصوم، ومن نشأ على شاهق جبل وهو على الفطرة ولم يجد من يعلمه، ثم بعد ذلك حصل العلم بأمور الدين لكل منهما فعلى أن الحكم يثبت بالورود فعليهما قضاء ما فاتهما من الصلاة والصوم، وعلى أنه لا يستقل الا ببلوغه للمكلف فلا قضاء عليهما، واحتج من قال لا يستقل الا ببلوغه للمكلف بأن الناسخ خطاب والخطاب يشترط فيه علم المخاطب به فلا يكون خطاباً في حق من لم يبلغه، ورد القائلون بثبوته بالورود وان لم يبلغ المكلف، الاحتجاج بقصة أهل قباء بأن الخطأ في القبلة يعذر فيه كمن صلى إلى غير القبلة يظن أنها القبلة، وكما يدل له قوله تعالى: " فأينما تولوا فثم وجه الله " على أحد التفسيرات وعليه أكثر أهل العلم والى هذه المسألة أشار في المراقي بقوله: هل يستقل الحكم بالورود ... أو ببلوغه الى الموجود فالعزل بالموت أو العزل عرض ... كذا قضاء جاهل للمفترض قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) يجوز نسخ القرآن بالقرآن والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بالآحاد، الخ. أعلم أن هذه الصور الثلاث لا خلاف فيها بين العلماء يعتد به كما حكى غير واحد عليها الاجماع، وخلاف من خالف في ذلك لا يعتد به ولا وجه له، فنسخ القرآن بالقرآن كنسخ الاعتداد بالحول بالاعتداد
(1/99)
بأربعة أشهر وعشر، ونسخ السنة بالسنة مساوية لها سنداً كقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) الحديث، ويفهم مما ذكرنا أن نسخ الآحاد بالمتواتر جائز من باب أولي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ والسنة بالقرآن، يعني أن السنة تنسخ بالقرآن سواء كانت متواترة أو آحاد، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه لوقوعه، وروي عن الشافعي منع نسخ السنة بالقرآن قائلاً أن النسخ للسنة انما هو بسنة موافقة للقرآن. ومثال نسخ السنة المتواترة بالقرآن نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة المتواترة بقوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ". ومثال نسخ السنة الثابتة بالآحاد بالقرآن نسخ رد المسلمات الى الكفار الذي وقع عليه الصلح في صلح الحديبيية، في قوله تعالى: " فلا ترجعوهن إلى الكفار" ومن أمثلته تحريم المباشرة في ليالي رمضان الذي كان ثابتاً بالسنة فانه منسوخ بقوله تعالى: " فالآن باشروهن " وقوله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " الآية. هكذا ذكر المؤلف هذا المثال لنسخ السنة بالقرآن تبعاً للغزالي في المستصفى مع أن بعض العلماء جعل هذا المثال من نسخ القرآن قائلاً أنه هـ ومقتضى التشبيه في قوله: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" أي وكان من قبلنا لا تحل لهم المباشرة في ليالي رمضان بعد النوم أو صلاة العشاء فعلى هذا فالآية ناسخة لما دل عليه التشبيه لنا بمن قبلنا والله أعلم ومن أمثلته
(1/100)
نسخ جوازتا خير الصلاة حالة الخوف الثابت بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب بقوله تعالى: " واذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك" الآية. قال المؤلف: فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقال أحمد رحمه الله لا ينسخ القرآن الا قرآن يجيء بعده الخ، حاصل هذا القول منع نسخ القرآن بالسنة المتواترة وأحرى الآحاد لأن الله يقول: " نأتي بخير منها أو مثلها " والسنة لا تكون خيراً من القرآن ولا مثله وقد تمدح تعالى بأن ذلك لا يقدر عليه غيره بقوله بعده: "ألمتعلم أن الله على كل شيء قدير". قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة ووقوعه، ومثاله نسخ آية خمس رضعات بالسنة المتواترة ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد بالسنة المتواترة. وأمثال ذلك كثيرة والجواب عن الاستدلال بالآية الكريمة هو أن كلا من الناسخ والمنسوخ من عند الله تعالى، فهو الناسخ للحقيقة ولا يقدر على ذلك غيره كما بينه بقوله تعالى: "قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أن أتبع الا ما يوحى إلي إني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم " ولكنه يظهر النسخ على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتى بآية أخرى مثلها كان حقق وعده فلم يشترط فى اآية المذكورة أن تكون الآية هى الناسخة بعينها بل يجوز أن ينسخ الاولى على
(1/101)
لسان نبيه بوحي غير القرآن ثم بعد نسخها يأتي بآية أخرى مثلها ولا تنافي بين هذا وبين ظاهر الآية الكريمة كما ترى، وقد قال بعض العلماء ليس المراد الاتيان بنفس آية أخرى خير منها بل المراد نأتي بعمل خير من العمل الذي دلت عليه الاولى أو مثله والله تعالى أعلم. والحديث الذي أورد عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً (القرآن ينسخ حديثي وحديثي لا ينسخ القرآن) الظاهر أنه غير صحيح وثبوت نقيضه بالسنة الثابتة مما يدل على عدم صحته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) فأما نسخ القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد فهو جائز عقلاً اذا لا يمتنع أن يقول الشارع تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد وغير جائز شرعاً إلى آخره حاصل ما ذكره في هذا المبحث أن نسخ المتواتر بالآحاد جائز عقلاً وأما شرعاً ففيه ثلاثة أقوال: الأول: ان المتواتر من كتاب أو سنة لا ينسخ بخبر الآحاد مطلقاً وهذا هو الذي نصره المؤلف، وعلى هذا القول جمهور أهل الأصول وعليه درج في المراقي بقوله: ... والنسخ بالآحاد للكتاب ... ... ليس بواقع على الصواب وحجة هذا القول أن المتواتر قطعي المتن وخبر الآحاد دونه رتبة والأقوى لا يرفع بما هو دونه في الرتبة واستدل له المؤلف بقول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت.
(1/102)
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه والدليل الوقوع. أما قولهم أن المتواتر أقوى من الآحاد والأقوى لا يرفع بما هو دونه فانهم قد غلطوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم وايضاح ذلك أنه لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ لا مكان صدق كل منهما في وقته وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين الا اذا اتحد زمنهما أما ان اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتها، فلو قلت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس وقلت أيضاً لم يصلي إلى بيت المقدس وعنيت بالأولى ما قبل النسخ وبالثانية ما بعده لكانت كل منهما صادقة في وقتها ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ اباحة الحمر الأهلية مثلاً المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة " الآية. بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه لأن الآية من سورة الأنعام وهي مكية أي نازلة قبل الهجرة بلا خلاف وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر ولا منافاة البتة بين آية الأنعام المذكورة وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما، فالآية وقت نزولها لم يكن محرماً إلا الأربعة المنصوصة فيها وتحريم الحمر الأهلية طارئ بعد ذلك والطروء ليس منافاة لما قبله وانما تحصل المنافاة بينهما لو كان في الآية ما يدل على نفي تحريم شيء في المستقبل غير الأربعة المذكورة في الآية وهذا لم تتعرض له الآية بل الصيغة فيها مختصة بالماضي لقوله: " قل لا أجد فيما أوحي إلي" بصيغة الماضي ولم يقل فيما سيوحى إلي في المستقبل وهو واضح كما ترى والله أعلم. وأما آية الوصية
(1/103)
للوالدين والأقربين فالتحقيق أنها منسوخة بآية المواريث والحديث بيان للناسخ وبيان المتواتر لا يشترط فيه التواتر كما تقدم والحديث يشير إلى أن الناسخ لها آيات المواريث لأن ترتيبه - صلى الله عليه وسلم - نفى الوصية للوارث بالفاء على اعطاء كل ذي حق حقه يعني الميراث في قوله - صلى الله عليه وسلم - (ان الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) يدل على ذلك. وأما قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا الخ، فالحق في ذلك ليس معه رضي الله عنه بل مع المرأة المذكورة وهي فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت ان زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفقة ولا سكنة وعندما سمعت قول عمر لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة الخ.. قالت بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن" حتى قال: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً " فأي أمر يحدث بعد الثلاث وصرح أئمة الحديث بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديثها، فالسنة معها وكتاب الله معها فلا وجه للاستدلال بمخالفة عمر لما سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن من حفظ حجة علي من لم يحفظ (والذي يظهر والله تعالى أعلم أن عمر لم يخالفها ولكنه لم يثق في روايتها وعلى هذا فلا منافاة اذاً) . قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) فأما الاجماع فلا ينسخ ولا ينسخ به الخ، حاصل هذا المبحث أن
(1/104)
الاجماع لا يكونن اسخاً ولا منسوخاً، لأن الاجماع لا ينعقد إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة معه لأحد ولا يعتبر للأئمة اجماع معه واذا كان لا ينعقد الا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - علمت أن بوفاته ينقطع التشريع والنسخ تشريع فلا يحصل بعدها نسخ أصلاً واذا وجد في كلام بعض العلماء ما يوهم النسخ بالاجماع فمرادهم النسخ بالدليل الذي هو مستند الاجماع كما أشار له المؤلف في هذا المبحث وأشار له في المراقي بقوله في النسخ: بالنسخ فلم يكن بالعقل أو مجرد ... الاجماع بل ينمي إلى المستند قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) ما ثبت بالقياس ان كان منصوصاً على علته فهو كالنص ينسخ وينسخ به ومالم يكن منصوصاً على علته فلا ينسخ به الخ.. كلامه ظاهر وهو قول بعض الحنابلة وجمهور العلماء على أن القياس لا ينسخ به ولا ينسخ لأنه انما يعتبر فيما لا نص فيه والقياس مع وجود النص المخالف له فاسد الاعتبار لا يعتد به كما سيأي في القوادح والى عدم النسخ بالقياس أشار في المراقي بقوله: ومنع نسخ النص بالقياس ... هو الذي ارتضاه جل الناس ومثال ما ذكره المؤلف من نسخ النص بالقياس ما لو قال الشارع مثلا: أبحث لكم النبيذ المسكر المتخذ من الذرة ثم بعد ذلك قال:
(1/105)
حرمت عليكم النبيذ المتخذ من العنب لعلة الاسكار، فنص على العلة التي هي الاسكار، فقياس النبيذ المسكر المتخذ من التمر على نبيذ العنب بجامع العلة المنصوصة التي هي الاسكار فينسخ هذا القياس اباحة نبيذ الذرة المسكر لأن تحريم نبيذ التمر واباحة نبيذ الذرة حكمان متضادان مع اتحاد علتهما وهي الاسكار فكان المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، كما لو قال الشارع: أبحت المسكر ثم قال حرمته. واعلم أن القاعدة المقررة في الأصول أن المثال لا يعترض لأن المراد منه ايضاح معنى القاعدة ولذا جاز المثال بالمفروض المقدر والمحتمل كما أشار له في المراقي بقوله: والشان لا يعترض المثال ... اذ قد كفى الفرض والحتمال واعلم أن قياس النسخ على التخصيص في قول من قال: يجوز النسخ بما يجوز به التخصيص ظاهر البطلان، لأن التخصيص بيان وارشاد النسخ رفع للحكم كما قدمنا في الفوارق بين النسخ والتخصيص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) والتنبيه ينسخ وينسخ به الخ. اعلم أن مراده بكلمة التنبيه هنا وفي مبحث المفهوم والمنطوق هو مفهوم الموافقة، وضابط مفهوم الموافقة هو ما دل اللفظ لا في محل النطق على أن حكمه وحكم المنطوق به سواء وكان ذلك المدلول المسكوت عنه أولى من المنطوق به بالحكم أو مساوياً له، مثال ما هو أولى دلالة النهي عن التأفيف المنطوق به في قوله تعالى: " فلا تقل لهما أف" على النهي عن الضرب المسكوت عنه لأن الضرب أولى بالنهي من التأفيف لأنه
(1/106)
أبلغ في الايذاء منه، ومثال المساوي دلالة قوله تعالى "ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " الآية. المنطوق به على تحريم احراق أموال اليتامى واغراقها المسكوت عنه مع أنه مساوي للمنطوق في الحكم لان الجميع اتلاف لمال اليتيم. وسيأتي ان شاء الله ايضاح أقسام المفاهيم في محله مع أمثلة كثيرة لكل قسم منها، واذا عرفت مراد المؤلف رحمه الله بالتنبيه فاعلم أن معنى كلامه في هذا الفصل أن مفهوم الموافقة كالنهي عن الضرب المفهوم من النهي عن التأفيف، والنهي عن الاحراق والاغراق المفهوم من النهي عن الأكل في الأمثلة المذكورة يجوز أن ينسخ وينسخ به لأن اللفظ دل في محل السكوت على أنه كالمنطوق به في الحكم أو أولى منه وجمهور علماء الأصول على أنه مفهوم من نفس اللفظ وليس بقياس خلافاً للشافعي الذي يسميه القياس الجلي، والقياس في معنى الأصل كما يأتي ايضاحه وايضاح بقية الأقوال فيه في محله ان شاء الله تعالى، واذا كان مدلولاً عليه باللفظ فلا مانع من نسخه دون أصله والنسخ به وهذا قول الجماعة من أهل الأصول، قالوا: يجوز عقلاً أن ينسخ الضرب ويبقى التأفيف كعكسه مثلاً قالوا: ولا مانع علقاً من ذلك وقد يأمر بعض الملوك بقتل انسان محترم عنده جداً فينهي عن التأفيف في وجهه وغير ذلك من الازدراء به مع أنه أمر بقتله مع أن القتل أشد ايذاءاً من التأفيف وغيره من الازدراء، وأكثر علماء الأصول على تلازمهما أعني المنطوق والمفهوم فلا ينسخان الا معاً ولا يمكن نسخ أحدهما دون الآخر، لأن المفهوم تابع للمنطوق ولازم له ورفع اللازم يقتضي رفع الملزوم، ورفع المتبوع يقتضي رفع التابع ومثال نسخ الفحوي والنسخ بها يذكرونه عادة على سبيل الفرض والتقدير، ويمكن عندي أن يمثل للنسخ بمفهوم الموافقة بما لو فرضنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (لي الواجد ظلم يحل عرضه
(1/107)
وعقوبته) ورد قبل نزول آية " فلا تقل لهما أف" وعمل به قبل نزولها، لأن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ كما قدمنا وايضاحه أن قوله في الحديث يحل عرضه، أي بقوله مطلني وعقوبته أي بالحبس، وعموم الحديث يشمل الوالد اذا مطل دين ولده وهو غني، وفحوى قوله " فلا تقل لهما أف" تدل على أنه لا يحبس الوالد في دين عليه لولده لأن الحبس أشد ايذاءاً من التأفيف، فإن ورد هذا المخصص قبل العمل بالعام فهو تخصيص، والا فهو نسخ وهو المقصود بالتقدير في المثال المذكور. وقال المؤلف رحمه الله تعالى في هذا المبحث: واذا نسخ الحكم في المنطوق بطل الحكم في المفهوم، وفيما يثبت بعلته أو بدليل خطابه وأنكر ذلك بعض الحنفية لأنه نسخ بالقياس وليس بصحيح، لأن هذه فروع تابعة لأصل فاذا سقط حكم الأصل سقط حكم الفرع، وعلى هذا الذي ذكره المؤلف درج في المراقي بقوله: ... ويجب الرفع لحكم الفرع ... ... أن حكم أصله يرى ذا رفع وايضاح معنى كلام المؤلف رحمه الله تعالى أن منطوق اللفظ اذا نسخ بطل حكم ما تفرع عليه من مفهوم وما ألحق به بعلته، ومراده بدليل خطابه مفهوم مخالفته، فلو فرضنا نسخ قوله " كل مسكر حرام" لبطل قياس النبيذ على الخمر بجامع الاسكار، ولو فرضنا نسخ ايجاب الزكاة في السائمة لبطل مفهومه الذي هو عدم وجوبها في المعلوفة لبطلان أصله وهكذا، وخالف في هذا بعض الحنفية قائلين: ان الأصل حكم والفرع حكم آخر فيجوز نسخ هذا وبقاء هذا، ومثاله ما حكاه الباجي عن بعضهم من شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، قياساً على شهادتهم على المسلمين في الوصية في السفر المنصوص في قوله: أو آخران من غيركم بجامع العلة التي
(1/108)
هي تعذر وجود الشهود من المسلمين ثم نسخت شهادتهم على المسلمين في السفر على القول بذلك بقوله: " واشهدوا ذوي عدل منكم"، وقوله " ممن ترضون من الشهداء" والكفار غير مرضيين، وقوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون" أي وأحرى الكافرون برد الشهادة من الفاسقين، وبقي حكم شهادة بعضهم على بعض غير منسوخ مع نسخ الأصل المقيس عليه بناء على القول بذلك. تنبيهان الاول: قد قدمنا أن جماعة من الأصوليين قالوا ان مفهوم الموافقة بجواز نسخه دون أصله كالعكس، وصححه السبكي في جمع الجوامع وعليه فهذا الخلاف لم يعرج عليه المؤلف. الثاني: لم يتعرض المؤلف أيضاً لمفهوم المخالفة هل يمكن نسخه مع بقاء أصله أولا، والتحقيق جواز ذلك ووقوعه، ومثاله حديث (انما الماء من الماء) منطوق هذا الحديث ان من نزل منه الماء الذي هو المني وجب عليه استعمال الماء، أي غسل الجنابة، من نزول ذلك المني ومفهوم الحصر بانما أن من جامع وحصل من جماعه التقاء الختانين ولم ينزل منه مني أنه لا غسل عليه، فنسخ هذا المفهوم يوجب الغسل عند التقاء الختانين وان لم يحصل انزال الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - وبقي المنطوق الذي هو وجوب الغسل من الانزال محكماً غير منسوخ، واعلم أنه لا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة لضعفه ولاختلاف في اعتباره، واشار الى حكم مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة في النسخ صاحب المراقي بقوله:
(1/109)
وجاز بالفحوى ونسخه بلا ... أصل وعكسه جوازه انجلا ورأى لأكثرين لاستلزام ... وبالمخالفة لا يرام وهي عن الأصل لها تجرد ... في النسخ وانعكاسه مستبعد قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) فيما يعرف به النسخ اعلم أن ذلك لا يعلم بدليل عقلي ولا بقياس، بل بمجرد النقل إلى آخره. حاصل هذا المبحث أن العقل والقياس لا يعرف بهما الناسخ من المنسوخ، وأن ذلك انما يعرف بمجرد النقل الدال على ذلك ولذلك طرق، منهما أن يكون في اللفظ ما يدل على النسخ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) الحديث. الثاني: أن يذكر الراوي تاريخ سماعه نحو سمعت عام الفتح كذا وسمعت في حجة الوداع كذا، أي شيئاً يناقضه فيعرف الناسخ بتأخره، فما في حجة الوداع يكون ناسخاً لما في عام الفتح لتأخره عنه اذا لم يمكن الجمع بينهما. الثالث: اجماع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ وأن ناسخه متأخر، ومثل له ابن السمعاني بنسخ وجوب الزكاة لغيرها من الحقوق المالية. ومنها أن ينقل الراوي الناسخ والمنسوخ فيقول رخص لنا في المتعة ومكثنا ثلاثة ثم نهانا عنها. ومنها أن يكون راوي أحد الخبرين أسلم في آخر حياة النبي - صلى الله
(1/110)
عليه وسلم - والآخر لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - الا في أول الإسلام كرواية طلق بن علي وأبي هريرة في الوضوء من مس الفرج والله تعالى أعلم. هكذا ذكر المؤلف رحمه الله. قال مقيده عفا الله عنه: ـ اعلم أن محل التقديم لخبر متأخر الاسلام عمن أسلم قبله فيما اذا مات الأول قبل صحبة الثاني النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما ان عاش الأول حتى صحب الآخر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون حديث المتأخر ناسخاً لحديث متقدم الاسلام لاحتمال أن يكون متقدم الاسلام روى الحديث بعد متأخر الاسلام، اذ لا مانع من ذلك عقلاً ولا عادة ولا شرعاً، ولأجل هذا قال بعض العلماء: لا يقدم حديث أبي هريرة المذكور على حديث طلق من هذا الوجه بناء على أنه لم يثبت وفاة طلق قبل صحبة أبي هريرة، واعتمد هذا صاحب نشر البنود في شرح قوله في مراقي السعود عاطفاً على مالا يقبل النسخ به: ... وكون راويه الصحابي يقتفي ... ... ومثله تأخر في المصحف والله جل وعلا أعلم. وقوله يقتفي، أي يتبع الآخر في الاسلام، يعني أنه أسلم بعده فكان اسلامه يقتفي اسلامه وحديث أبي هريرة هو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أفضى بيده الى ذكره وليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء) وحديث طلق هو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه سئل عن مس الذكر فقال: (وهل هو الا بضعة منك) مع أن حديث طلق مضعف، قال النووي في شرح المهذب أنه ضعيف باتفاق الحفاظ وقد بين البيهقي وجوهاً من وجوه تضعيفه
(1/111)
هذا هو مضمون الحديثين والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد
(1/112)
وآله وصحبه وسلم. (مقرر السنة الثانية) السنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، اعلم أن السنة في اللغة الطريقة والسيرة ومنه قول لبيد في معلقته: ... من معشر سنت لهم آباؤهم ... ... ولكل قوم سنة وامامها أي طريقة يسيرون عليها وفي اصطلاح الشرع هي ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله أو قرر عليه وقول المؤلف رحمه الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي وكذلك فعله وتقريره لأنه لا يقرر على باطل وقوله لدلالة المعجزة على صدقة أي ان معجزات الأنبياء تتضمن شهادة من الله لهم أن ما جاءوا به حق وقوله وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاهاً، أي وكذلك من شاهد فعله أو تقريره - صلى الله عليه وسلم - وقوله فأما من بلغه بالأخبار فينقسم في حقه قسمين تواتراً وآحاداً كما سيأتي ان شاء الله ايضاحه وقوله وألفاظ الرواية في نقل الأخبار خمسة يعني أن كيفية رواية الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مراتب أقواها المرتبة الأولى وهي ما كان اللفظ فيه صريحاً في السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول أو حدثني أو أخبرني أو شافهني وهذا هو الأصل في الرواية.
(1/113)
المرتبة الثانية التي تلي الأولى في القوة هي ما كان اللفظ فيه ظاهراً في السماع منه - صلى الله عليه وسلم - مع أنه محتمل لأنه لم يسمع منه مباشرة بل بواسطة نحو قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك وانما كانت هذه المرتبة دون التي قبلها لأنها ليست صريحة في السماع لامكان أن يكون سمعه من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الصورة ان وقعت من الصحابي فالرواية بها مقبولة اذ لو فرضنا أن هناك واسطة وأنه مرسل فمراسيل الصحابة مقبولة لأن لها حكم الوصل أما ان صدرت هذه الصورة التي هي قال وعن ونحوهما من غير الصحابي فان كان غير مدلس فهي صحيحة كالتصريح بالسماع وان كان مدلساً لم تقبل مالم يثبت السماع من طريق أخرى كما هو مقرر في علم الحديث ومن يحتج من العلماء بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس وقوله قال ونحو ذلك من باب أولى ومثل المؤلف رحمه الله تعالى لقول الصحابي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه لم يسمع منه مباشرة بما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه لم يسمع منه مباشرة بما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصبح جنباً فلا صوم له فلما استكشف قال: حدثني الفضل بن عباس وما روي عن ابن عباس أنه قال: انما الربا في النسيئة فلما روجع أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد وقد بينا أن مثل ذلك لا يضر لأن مرسل الصحابي له حكم الوصل. المرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا أو نهى عن كذا وانما كانت هذه دون التي قبلها لأن فيها من احتمال عدم السماع مباشرة مثل ما في الأولى وتزيد عليها بأنه قد يظن ما ليس بأمر أمراً هكذا قيل ولا يخفى بعده إذ عدالة الصحابي تمنعه من أن ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر فيما ليس بأمر ولذا جعلت جماعة من أهل الأصول هذه المرتبة في منزلة التي قبلها لضعف
(1/114)
الاحتمال المذكور. المرتبة الرابعة: أن يقول أمرنا أو نهانا ولا يذكر الفاعل وانما كانت دون التي قبلها لأن فيها من الاحتمال ما في التي قبلها وتزيد باحتمال أن يكون الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة والعلماء وأكثر أهل الأصول على أنه لا يحمل الا على أمر الله ورسوله خلافاً لمن أبطل هذه المرتبة لذلك الاحتمال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ وفي معنى هذه المرتبة قوله من السنة كذا والسنة جائزة بكذا فالظاهر أنه لا يريد الا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فرق في قول الصحابي ذلك وبين أن يقوله في حياته أو بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء الا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر. المرتبة الخامسة أن يقول: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كانوا يفعلون كذا على عهده - صلى الله عليه وسلم - كقول جابر كنا نعزل والوحي ينزل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ ممثلاً لهذا مثل قول ابن عمر: كنا نفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله
(1/115)
- صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره. وقال: كنا نخابر أربعين سنة، الخ. ز أما اذا لم يذكر زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قال كانوا يفعلون كذا مثلاً فقال أبو الخطاب يكون نقلاً للاجماع ومنعه بعض أصحاب الشافعي مالم يصرح بنقله عن أهل الاجماع، قال أبو الخطاب واذا قال الصحابي هذا الخبر منسوخ وجب قبول قوله ولو فسره بتفسير وجب الرجوع إلى تفسيره. هكذا نقل عنه المؤلف ومنع الأمرين كثير من علماء الأصول والله أعلم. ولم يذكر المؤلف هنا جميع صور أداء الحديث لأن رواية ال ... عن شيخه قد تكون بالسماع كما ذكرنا وقد تكون بالعرض وهو قراءته على الشيخ وقد تكون بالمناولة وغيرها من أقسام الاجازة كما سيذكره المؤلف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ (فصل) وحد الخبر هو الذي يتطرق اليه التصديق أو التكذيب وايضاحه أن ضابط الخبر هو ما يمكن أن يقال لقائله صدقت أو كذبت ومالا يمكن فيه ذلك فهو الانشاء كالأمر والنهي وغيرهما من أنواع الطلب وكصيغ العقود لأنها لانشاء العقد لا للاخيار به. قال المؤلف: وهو قسمان متواتر وآحاد، فالمتواتر يفيد العلم، الخ.. خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن الخبر قسمان متواتر وآحاد وان المتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا يتطرق اليه الشك من غير حاجة إلى شيء زائد على نفس
(1/116)
الخبر المتواتر وأن السمنية خالفوا في افادته العلم زاعمين حصر العلم في الحواس فلا يقين عندهم الا بمحسوس فقط، والسمنية بضم السين وفتح الميم فرقة هندية من عبدة الأصنام دهريون قائلون بالتناسخ ينكرون وقوع العلم بغير المحسوس منسوبون إلى صنم يسمى سمن أو بلد يسمى سمونات وهذا المذهب لا شك في بطلانه يشك عاقل في اليقين بأن الواحد نصف الإثنين وان الكل أكبر من الجزء ونحو ذلك من الأحكام العقلية. قال المؤلف: (فصل) قال القاضي: العلم الحاصل بالتواتر ضروري الخ.. خلاصة ما ذكره في هذا الفصل ان العلم الحاصل بالخبر المتواتر فيه قولان أحدهما أنه ضروري وهو قول القاضي والثاني أنه نظري وهو قول أبي الخطاب والضروري هو مالا يحتاج إلى تأمل والنظري هو ما يحتاج إلى تأمل وحجة من قال هو ضروري أن السامع يجد نفسه مضطراً للعلم يقيناً به كوجود الائمة الأربعة ووجود مكة وبغداد بالنسبة لمن لم يرهما فلو أراد التخلص من العلم بذلك لم يقدر وحجة من قال انه نظري هي أن العلم لابد له من العلم بمقدمتين قبله الأولى أن يعلم أن هذا الأمر أخبر به عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة. الثانية أنن يعلم أن ما أخبر به عدد على تلك الصفة فهو حق يقيناً فينتج من ذلك أن هذا الخبر يقين وأكثر أهل الأصول على الأول.
(1/117)
قال المؤلف: (فصل) ذهب قوم الى أن ما حصل العلم في واقعة يفيده في كل واقعة وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع الخ ... خلاصة ما ذكر في هذا الفصل أن القدر الموجب للعلم اليقيني لا يتفاوت بحب الوقائع والأشخاص بل ما حصل به العلم في واقعة يحصل به في.. حصل به لشخص يحصل به لغيره من غير تفاوت. وقيل لا مانع من تفاوته باعتبار الأشخاص والوقائع ومحل هذا في الخبر المتجرد عن القرائن أما ان احتفت به قرائن فلا شك ان حصول اليقين به يتفاوت لأن القرائن الخفية يفهمها الذكي وتخفى على الغبي فتقوم القرائن للذكي مقام عدد من المخبرين وكذلك القرائن الظاهرة ان علم بها بعض المخبرين دون بعض كما لو تواتر الخبر لجماعة أن فلاناً مات وفلاناً تزوج وأحدهم قد رأى قبل ذلك الذي أخبروا بموته في النزع والذي أخبروا بتزويجه في السوق يشتري ما يحتاج إليه المتزوج فان العالم بمثل هذه القرائن يحصل له اليقين قبل حصوله لغير العالم بها لأن القرائن قد تفيد العلم منفردة عن أخبار فانا نعلم محبة شخص لآخر خوف شخص من آخر بما نرى من القرائن الدالة على ذلك ونحو ذلك كثير فاذا انضمت القرائن إلى الأخبار قامت مقام بعض المخبرين في افادة العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ـ وللتواتر ثلاثة شروط الخ.. اعلم أن التواتر في اللغة هو مجئ الواحد بعد الواحد بفترة بينهما ومن ذلك قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى " لأن التاء الأولى مبدلة من واو كتاء تقوى وقيل التواتر
(1/118)
التتابع مطلقاً ومنه قول لبيد في معلقته: يعلو طريقة متنها متواتر ... في ليلة كفر النجوم غمامها والتواتر في الاصطلاح هو اخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة عن أمر محسوس وخلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أن التواتر المفيد للعلم اليقيني تشترط فيه ثلاثة شروط: الأول: أن يكون اخبارهم عن أمر محسوس أي مدرك باحدى الحواس كقولهم: رأينا وسمعنا لأن تواطؤ الجم الغفير على الخطأ في المعقولات لا يستحيل عادة فترى الآلاف من العقلاء يتواطؤون على قدم العالم وعلى كذب الأنبياء مع أن تواطؤهم باطل لأنه ليس في اخبار عن محسوس أما تواطؤهم على الكذب في الاخبار عن محسوس فهو مستحيل عادة مع كثرتهم وعدم الدواعي الى التواطؤ. الشرط الثاني: أن يكون العدد بالغاً حداً يستحيل معه التواطؤ على الكذب عادة. الثالث: أن يكون العدد المذكور في كل طبقة من طبقات السند من أوله إلى آخره واختلف أهل الأصول في تحديد العدد الذي يحصل بخبرهم اليقين والمذهب الصحيح المعتمد أنه ليس له حد معين بل ما حصل به العلم اليقيني فهو العدد الكافي كالخبز نقطع بأنه يشبع والماء نقطع بأنه يروي مع عدم تحديد الحد الذي يقع به الشبع والري منهما وقيل أقله اثنان وقيل أقله أربعة وقيل خمسةوقيل عشرون وقيل ثلاثون وقيل سبعون والصحيح الأول وبطلان القول بالأربعة فما دونها واضح لوجوب تزكية الأربعة في شهادتهم على الزنا ومعلوم أن عدد التواتر لا تشترط فيه العدالة بل ولا الاسلام ومثال المتواتر حديث من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وأشار
(1/119)
في مراقي السعود الى هذه المسألة بقوله: واقطع بصدق خير التواتر ... وسو بين مسلم وكافر واللفظ والمعنى وذاك خبر ... من عادة كذبهم منحظر عن غير معقول وأوجب العدد ... من غير تحديد على ما يعتمد وقيل بالعشرين أو بأكثرا ... أو بثلاثين أو اثنى عشرا إلغاء الأربعة فيه راجح ... وما عليها زاد فهو صالح وأوجبن فى طبقات السند ... تواتراً وفقاً لدى التعدد قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ليس من شروط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا , الخ.. خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن التواتر لا يشترط في المخبرين به إسلام ولا عدالة لأن القطع بصدق خبرهم من حيث ان اجتماعهم وتواطأهم على الكذب مستحيل عادة لكثرتهم والعادة تحيل ذلك في الكفار والمسلمين وليس صدق خبرهم من حيث أن المخبرين به عدول مسلمون وانهم لا يشترط فيهم ألا يحصرهم بلد بل يحصل القطع بخبرهم وان حصرهم بلد أو مسجد كالحجيج اذا أخبروا بواقعة صدتهم عن الحج وأهل الجمعة اذا أخبروا عن حادثة منعتهم من صلاة الجمعة علم صدقهم في الأمرين مع حصرهم في محل أو مسجد.
(1/120)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ولا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته وأنكر ذلك الامامية , الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن أهل التواتر لا يجوز عليهم كتمان ما يحتاج إلى نقله لأن كتمانه يجري في القبح مجرى الأخبار عنه بخلاف ما هو عليه فلم يجز وقوع ذلك منهم وتواطؤهم عليه فان قال رجل من أهل الجمعة أن الخطيب ضربه رجل بالسيف فقتله وهو يخطب على المنبر ولم يذكر هذا باقي الجمعة جزمنا بأن ذلك الرجل كاذب لأن تواطأهم على كتمان مثل هذا الأمر مستحيل عادة ومن هنا قالوا ما نقل آحاداً مع توفر الدواعي إلى نقله تواتراً حكم ببطلانه فان قيل لم ينقل النصارى كلام عيسى في المهد نقلا متواتراً مع أنه حق واقع , فالجواب ان كلامه في المهد وقع قبل ظهوره واتباعهم له وخالف في هذه المسألة الامامية قائلين ان أهل التواتر قد يكتمون ورتبوا على لك أن جميع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع كثرتهم كتموا كلهم النصوص المصرحة بامامة على رضي الله عنه , وقالوا والوقوع (1) دليل على الجواز حاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يفتريه عليهم الامامية من المختلقات. _________ (1) قولهم والوقوع دليل على الجواز: يعنون به ما زعموه من كتمان الصحابة رضي الله عنهم نصوص امامة على رضي الله عنه وليس هناك وقوع كتمان آخر. وهذا الاستدلال باطل لأنه استدلال بصورة الخلاف , والممانع يقول لهم توجد النصوص التي زعمتم ولو وجدت لنقلت لأن أهل التواتر لا يتواطؤون على الكتمان.
(1/121)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - القسم الثاني: أخبار الآحاد وهي ما عدا المتواتر. اعلم أولا ان الآحاد جمع أحد وهمزة أحد مبدلة من واو فأصلها وحد وربما نطقت العرب فيه بالواو على الأصل ومنه قول نابغة ذبيان: وضابط خبر الآحاد أنه هو ما لم يدخل في حد المتواتر الذي قدمنا تعريفه لأن القسمة ثنائية عند الجمهور وعليه فالمستفيض الذي لم يبلغ حد التواتر من الآحاد خلافاً لمن جعل القسمة ثلاثية فجعل المستفيض واسطة بين المتواتر والآحاد وأقل المستفيض أربعة وقيل اثنان وقيل ثلاثة وأشار في المراقي إلى هذا بقوله: وخبر الواحد مظنون عرا ... عن القيود فى الذى تواترا والمستفيض منه وهو أربعة ... أقله وبعضه قد رفعه عن واحد وبعضهم عما يلى ... وجعله واسطة قول جلى قال المؤلف رحمه الله تعالى: - اختلف الرواية عن إمامنا رحمه الله في حصول العلم بخبر الواحد الخ ... حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة التي هي يفيد خبر الآحاد اليقين أو لا يفد الا الظن أن فيها للعلماء ثلاثة مذاهب: الأول: هو مذهب جماهير الأصوليين أن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن فقط ولا تفيد اليقين وهو مراد المؤلف بالعلم فالعلم هو اليقين في الاصطلاح وحجة هذا القول انك لو سئلت عن أعدل رواة خبر الآحاد أيجوز في حقه الكذب والغلط لاضطررت ان تقول نعم فيقال قطعك اذن بصدقة مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له.
(1/122)
المذهب الثاني: انه يفد اليقين ان كان الرواة عدولا ضابطين واحتج القائلون بهذا بأن العمل بخبر الآحاد واجب والظن ليس من العلم حتى يجب العمل به لأن الله تعالى يقول: ((ان الظن لا يغني من الحق شيئاً)) . والنبي صلى الله عليه وسلم يول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب. الحديث.) وهذا القول بافادته العلم رواية عن أحمد وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد من المالكية وهو مذهب الظاهرية. المذهب الثالث: هو التفصيل بأنه احتفت به قرائن دالة على صدقة أفاد اليقين والا أفاد الظن ومثال ما احتفت به القرائن اخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء واحضار الكفن والنعش. ومن أمثلته أيضاً أحاديث الشيخين لأن القرائن دالة على صدقها لجلالتها في هذا الشأن وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابهما بالقول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق كما قاله غير واحد واختار هذا القول ابن الحاجب وإمام الحرمين والامدي والبيضاوي قاله صاحب الضياء اللامع وممن اختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صدقة خاصة دون غيره. قال مقيده عفا الله عنه: - الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم ان خبر الآحاد أي الذي لم يبلغ حد التواتر ينظر اليه من جهتين هو احداهما قطعي ومن الأخرى ظني ينظر اليه من حيث أن العمل به واجب وهو من هذه الناحية قطعي لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار آحاد. وينظر إليه من
(1/123)
ناحية أخرى وهي هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر فلو قتلنا رجلا قصاصاً بشهادة رجلين فقتلنا له هذا قطعي شرعاً لا شك فيه وصدق الشاهدين فيما أخبرا به مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة. ويوضع هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (انما أنا بش وأنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون الحن , بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليأخذها أو ليتركها) . فعمل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعي الصواب شرعاً مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس الأمر كما ترى , وأشار في المراقي إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله في خبر الآحاد: ويوضحه أيضاً قول علماء الحديث في تعريف الصحيح أن المراد صحته في ظاهر الأمر. تنبيه: - اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الأصول. فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب اثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو ليس كمثله شئ وهو السميع البصير. وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم ن أن أخبار الآحاد
(1/124)
لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شئ من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل. والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله , وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي وهو القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعي هو جهل وتخبط في الظلمات. ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلا: ان العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها وينفون نصوص الوحي بناء على ذلك فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبهم فيه بل العقل يوجبه. وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه كذبتم فيه بل هو يمنعه وهاذ معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة , كاختلافهم ي أفعال العبد وجواز رؤية الله بالأبصار وهل العرض يبقى زمانيين إلى غير ذلك. فيجب على المسلم أن يتقبل كل شئ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ويعلم أنه ان لم يحصل له الهدى والنجاة باتباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فانه لا يحصل ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل وعلى كل حال فاثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه من أوامر الله ونواهيه كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه وكذلك تثبت بها صفاته , وقد بينا أنها من احدى الجهتين قطعية.
(1/125)
قال المؤلف: (فصل) وأنكر قول جواز التعبد بخبر الواحد عقلا الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن قوماً أنكروا جواز التعبد بخبر الآحاد عقلا قالوا لا يجوز عقلا أن يأمر الله خلقه أن يعبدوه بمقتضى ما يبلغهم عنه وعن رسله على ألسنة الآحاد وعللوا ذلك الامتناع العقلي بأن الآحاد غير معصومين فخبرهم غير مقطوع بصدقة وغير المقطوع بصدقة ليس من العلم والتكليف بما ليس بمعلوم علماً يقينياً يقبح والقبيح مستحيل في حقل الله تعالى. ومن يروى عنه هذا القول ابن علية والأصم والجبائي وجماعة من المتكلمين وهذا القول لا شك في بطلانه كما أنه لا شك أن التحقيق هو مذهب الجمهور وهو جواز وقوع التعبد بأخبار الآحاد فالعمل بها قطعي والموافقة لما في نفس الأمر ظنية ولا مانع عقلا ولا شرعاً ولا عادة من بناء قطعي شرعاً على أمر ظني بالنسبة لما في نفس الأمر كما تقدم قريباً. قال المؤلف: (فصل) وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل ان أبا الخطاب قال: ان العمل بخبر الآحاد يوجبه العقل لثلاثة أمور:
(1/126)
الأول: ان الأمور القطعية في الشرع قليلة والأغلب فيه الظنيات فلو علق العمل على القطع لتعطل أغلب الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارك اليقين. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ولا تمكن مشافهة جميعهم ولا إبلاغ جميعهم بالتواتر. الثالث: ان العدل الراوي لخبر الواحد مظنون الصدق لعدالته والظن أرجح من مقابله والعمل بالراجح يوجبه العقل فمتى ترجح وجود أمر الله ورسوله بأخبار العدل فالعمل له اذن أرجح من مقابلة فالعقل يقتضيه , وأجاب المخالفون عن الأمور الثلاثة بأنه لا يلزم من عدم التعبد به تعطل الأحكام لامكان البقاء على البراءة الأصلية واستصحاب العدم الأصلي وكذلك الظن الناشئ منه قالوا لا يرفع حكم اليقين الثابت بالبراءة الأصلية واستصحاب العدم الأصلي قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم يكلف بتبليغ من أمكنه تبليغه من أمته دون من لم يمكنه. قال مقيده عفا الله عنه: - التحقيق ان العقل بالنظر إليه وحده لا يمنع التعبد بخبر الواحد ولا يوجبه فكلا القولين المتقدمين باطل بلا شك أعني قول من قال يمنعه العقل كالأصم والجبائي وقول من قال يوجبه وهو أبو الخطاب فالعقل يجيز التعبد به ولا يمنعه ولا يوجبه وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى. قال المؤلف: (فصل) فأما التعبد بخبر الواحد سمعا فهو قول الجمهور خلافاً لأكثر القدرية وبعض أهل الظاهر ولنا دليلان قاطعان الخ ... خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أن التعبد بخبر الواحد بالنظر إلى الحكم الشرعي فهو مراده بقوله سمعا هو مذهب الجمهور خلافاً لأكثر القدرية
(1/127)
وبعض أهل الظاهر وان للجمهور دليلين قاطعين على التعبد به شرعاً , الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في وقائع لا تنحصر على قبوله كرجوع أبي بكر لقول المغيرة ابن شعبة ومحمد بن سلمة في ميراث الجدة لما أخبراه أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس ومنها رجوع عمر رضي الله عنه إلى قول المذكرين في دية الجنين أنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغيرة عبد أو وليدة ومنها رجوع عمر إلى قول الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وكرجوعه إلى قول عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم اخذ الجزية من مجوس هجر ومنها رجوع عثمان رضي الله عنه إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالسكنى في دار زوجها لما قتل حتى تنقضي عدتها إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تنحصر (1) والمقصود المثال لا حصر جميعها وقد جاء عنهم التصريح برجوعهم عما كانوا يرونه لنفس تلك الأخبار التي هي آحاد كما جاء في بعض روايات حديث الغرة في الجنين أن عمر قال لله أكبر لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره عند أبي داوود وغيره كما روي عنه أنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها حتى أخره الضحاك بن سفيان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم _________ (1) ومن اقواها واصرحها تحول بني سليم إلى الكعبة وهو في صلاة الظهر لما اخبرهم رجل واحد انه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح إلى الكعبة فاستداروا إليها حالا.
(1/128)
كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وكان قد قتل خطأ وأمثال هذا كثيرة فان قيل قد جاء ما يدل على ترك العمل بخبر الواحد في وقائع أخرى كعدم قبوله صلى الله عيه وسلم لخبر ذي اليدين لما قال له أقصرت الصلاة أن نسيت وأخبره أنه سلم من أثنتين ولم يقبل أبو بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد ابن مسلمة ولم يقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ثلاثاً حتى شهد معه أبو سعيد الخدري ولم تقبل عائشة خبر ابن عمر في حديثه أن الميت يعذب ببكاء أهله فالجواب من وجهين: الأول: ان هذا اعتراف من المخالف بقبول خبر الآحاد وإذا فهو إقرار منه بمحل النزاع لأن شهادة محمد ابن مسلمة مع المغيرة وأبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر من كونه آحاداً لأن خبر الاثنين آحاد كما ترى. الثاني: ان تلك الوقائع ليس فيها ما يدل على عدم قبول خبر الآحاد لأن عدم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لأنه كان يظن خلاف ما اخبر به ولذا قال له كل ذلك لم يكن أي لم أنس ولم تقصر الصلاة أي في ظني ولا يكلف الإنسان بقبول خبر هو يظن عدم صدقة ولما أخبره الصحابة بصدق ذي اليدين أتم صلاته وسجد للسهو وهذا هو الصواب في الجواب عن هذا خلافاً لما ذكره المؤلف رحمه الله من أن الجواب عنه أن عدم تصديقه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ليعلمهم أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد لأنهم كانوا خلفه صلى الله عليه وسلم كثيرين جداً وفيهم من هو أضبط للصلاة وأحرص على كمالها من ذي اليدين فكان انفراده بالتنبيه على ذلك دون جميعهم بعيداً ولذا لم يصدقه حتى أخبره غيره ...
(1/129)
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يرد قول المغيرة وانما طلب الاستظهار بشهادة آخر معه ولو لم يجد غيره لقبله منفرداً كقول إبراهيم بلى ولكن ليطمئن قلبي. وأما عمر رضي الله عنه فانه قال لأبي موسى سداً للذريعة ليلا يكون الناس كلما توجه إلى أحد منهم لوم وضع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع به عنه ذلك اللوم وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه غير مكذب ولا متهم لأبي موسى ولكنه خشي أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما عائشة فهي لم تكذب ابن عمر بل قالت انكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ كما ثبت عنها رضي الله عنها في الصحيح. وفي رواية عنها في الصحيح أيضاً أنها قالت رحم الله أبا عبد الرحمن تعني ابن عمر سمع شيئاً فلم يحفظه الخ ... ولكنها ظنت أنه غلط لاعتقادها أن ما أخبر به مخالف لقوله تعالى: ((ولا تز وازرة وزر أخرى)) لأن بكاء أهل الميت ليس من فعله فلو عذب به لكان من مؤاخذته بعمل غيره والقرآن ينفي هذا ومن هنا ظنت أنه غلط ظن شخص غلط شخص معين في حادثة معينة لسبب معين ليس فيه البتة ما يقتضي رد قول ذلك المخبر مطلقاً كما ترى مع أن الصواب في هذه المسألة مع ابن عمر رضي الله عنهما وليس الأمر كما ظنت عائشة رضي الله عنها وتوجيهه عند العلماء من أربعة أوجه , الأول: ان ذلك الميت أوصى أهل بالبكاء عليه كقول طرفة ابن العبد في معلقته: وحينئذ فتعذيبه بفعله الذي هو أمره وايصاؤه بالمنكر.
(1/130)
الثاني: أن يعلم أن أهله يفعلون ذلك بعد موته ولم ينههم عنه لأن الله يأمره بنهيهم عن ذلك المنكر كما قال تعالى: ((قوا أنفسكم وأهليكم ناراً)) وتعذيبه اذا بتقصيره وإهماله ما أمره الله به من نهي أهله عن المنكر. الثالث: ان معنى تعذيبه ببكاء أهله توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به. الرابع: أن معنى تعذيبه تألمه بما يقع من أهله من النياحة وغيرها قال ابن حجر في الفتح وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة ن المتأخرين واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة ومحل الشاهد في كلامه من حديثها قوله صلى الله عليه وسلم: (فو الذي نفس محمد بيده ان أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم) قال: وهذا حديث طويل حسن الإسناد أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم. الدليل الثاني: ما تواتر ما إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءة ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام والقضاء وتبليغ الرسالة ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول ليكون مفيداً والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغهم الرسالة ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفي يه وهذا دليل قاطع على قبول أخبار الآحاد. وقال البخاري في صحيحه باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام قول الله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون)) ويسمي الرجل طائفة لقوله تعالى: ((وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا))
(1/131)
فلو اقتتل رجلان دخل في معنى الآية. وقوله تعالى: ((ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)) وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءة واحداً بعد واحد فان سها أحد منهم رد إلى السنة ثم ساق رحمه الله أحاديث في وقائع متعددة كلها دجالة على الزامه صلى الله عليه وسلم بقبول خبر الآحاد فانظر ها فيه ان شئت ومراد البخاري رحمه الله أن العمل بخبر الواحد دل عليه الكتاب والسنة فمن الآيات الدالة عليه قوله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)) الآية. لأن تلك الطائفة لم يقل أحد بشرط بلوغها عدد التواتر مع أن الله يلزم بقبول خبرها في قوله: ((ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم لعلهم يحذرون)) بل ذكر البخاري أن الطائفة تصدق بالرجل الواحد , واستدل على ذلك بالآية التي ذكرنا آنفاً وقد سبقه للاستدلال بالآية على ذلك الشافعي ومجاهد رحمهم الله تعالى. ومن الآيات الدالة على قبول خبر الواحد قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)) الآية. فانه يفهم من دليل خطاب هذه الآية أعني مفهوم مخالفتها ان ذلك الجائي بنبأ لو كان غير فاسق بل كان معروفاً بالعدالة والصدق فانه لا يلزم التبين في خيره على قراءة فتبينوا ولا التثبيت على قراءة فتثبتوا بل يلزم العمل به حالا من غير تبين ولا تثبت والتحقيق اعتبار مفهوم المخالفة كما تقرر في الأصول خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - دليل ثالث وهو أن الإجماع انعقد على قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى.
(1/132)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) وذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد انما يقبل اذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى يصير في زماننا إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلا الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن لجبائي قاس الرواية على الشهادة وهذا مذهب باطل بإجماع من يعتد به من العلماء. فرواية المرأة كرواية الرجل وليست شهادتها كشهادته. ورواية النساء مقبولة في الدماء والحدود ونحو ذلك ولا تقبل شهادتهن في ذلك والشهادة في الزنا لا بد فيها من أربعة والرواية فيه لا تحتاج إلى ذلك إلى غير ذلك من الفوارق بينها التي لا نزاع فيه بين أهل العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط: الإسلام والتكليف والعدالة والضبط الخ ... اعلم أن الكافر لا تقبل روايته على التحقيق ولو كان متأولا معظماً للدين لأن منصب القبول لا يستفاد بغير الإسلام وخلاف من خالف في هذا لا يعول عليه وأما غير المكلف كالصغير والمجنون فلا تقبل روايته أيضاً على التحقيق أما المجنون فلا تقبل مطلقا لا في التحمل ولا في الأداء وأما الصبي فيقبل في التحمل دون الأداء على التحقيق والمعنى أنه ان سمع الحديث من النبي فتحمله عنه وهو صغير عاقل ثم أداه بعد بلوغه قبل كما هي حالة رواية ابن عباس والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير وأضرابهم أما لو أداه في حال
(1/133)
صغره فانه لا تقبل روايته لكونه لا يخاف الله ولا يعرفه ولو فرضنا أنه يعرفه فهو يعلم أن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يخاف عاقبة الكذب ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر به عن نفسه وهو الاقرار فما يخبر به عن غيره أولى بعدم القبول ولا ينتقض هذا بالعبد فان إقراره لا يقبل مع أن روايته مقبولة لأن المانع من قبول إقراره هو حق سيده الذي يملكه وليس لأحد إقرار بملك غيره مع أن قوماً أجازوا إقراره في العقوبات البدنية وهو مذهب مالك وقول من قال من العلماء بقبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من الجنايات لا يرد على ما ذكرنا لأنه من قبيل الاستدلال بالقرائن اذا كثروا وأخبروا قبل التفرق مع مسيس الحاجة لذلك لكثرة وقوع الجنايات بينهم وانفرادهم غالبا عن غيرهم وأما الضبط فلا خلاف في اشتراطه فلا تقبل رواية غير المميز ولا المجنون ولا المغفل الذي لا يحسن ضبط ماحفظه ليؤديه على وجه فلا ثقة بقوله وان كان غير فاسق والضبط في اللغة هو حفظ الشئ بالحزم وفي الاصطلاح هو كون الراوي غير كثير الغلط والخطأ بل خطؤه نادر ويعرف ذلك بمخالفته للجماعة المشهورين بالعدالة والضبط فمن كثرت مخالفته لهم فليس بضابط فلا تقبل روايته ومن ندرت مخالفته لهم فهو الضابط المستكمل لهذا الشرط قال في طلعة الأنوار معرفاً للضابط: كذاك لا يقبل إلا من ضبط ... من زايل الخطأ كثيراً والغلط بالضابطين اتعبرن فإن غلب ... وفق فضابط وإلا يجتنب وأما العدالة فلا اختلاف في اشتراطها في الراوي والعدالة في اللغة التوسط وفي الاصطلاح سلامة الدين من الفسق والمروءة من القوادح وعرفها ابن عاصم في رجزه بقوله: والعدل من يجتنب الكبائرا ... ويتقى فى الأغلب الصغائرا وما أبيح وهو في العيان ... بقدح في مروءة الانسان.
(1/134)
وقال بعض علماء الأصول: العدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروؤة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقة فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب وخلاف أهل الأصول في اشتراط الملكة المانعة من فعل ما يخل بالدين والمروءة مشهور وممن جزم باشتراط الملكة فيها صاحب جمع الجوامع والغزإلى والأبياري والفهري وغيرهم وأكثر أهل على أن العدل هو من يجتنب الكبائر مطلقاً وصغائر الخسة مطلقاً كسرقة لقمة وتطفيف جبة لدلالة ذلك على سقوط مروءته وساقط المروءة لا ثقة بقوله ويجتنب صغائر غير الخسة في أغلب الأحوال ويجتنب ما يخل بالمروءة عرفاً من المباحات كالبول في الطريق والأكل في السوق لغير سوقي ونحو ذلك وظاهر كلامهم سواء كان الاجتناب بسبب ملكه أي هيئة راسخة في النفس ومجاهدتها دون فعل ذلك وهذا هو الأظهر عندي وممن ما ل اليه ابن حلولو في الضياء اللامع والعبادي في الآيات البينات والله تعالى أعلم , واعلم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة لاشعاره بعدم التقوى من فاعله , قال في المراقي: ولا صغيرة مع الإصرار ... المبطل الثقة بالأخبار وخلاف العلماء في حد الكبيرة معروف فلا نطيل به الكلام هذا وما ذكره المؤلف من اشتراط العدالة يعلم منه أنه لا تقبل رواق فاسق وهو كذلك كما نص الله على ذلك في قوله: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هو الفاسقون)) الآية. وقوله: ((ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) أما ان كان فسقة بارتكاب كبيرة كقذف المحصنات ونحو ذلك فلا
(1/135)
خلاف في عدن قبول روايته وأما ان كان فسقة عن تأول كبعض أهل الأهواء الذين لم تبلغ بهم بدعهم الكفر البواح فاختلاف أهل الأصول والحديث في قبول رواياتهم معروف فأما من كان منهم برى أن الكذب لترويج بدعته جائز كالخطابية وغيرهم فلا تقبل روايته قولا واحدا وكذلك من يدعو منهم إلى بدعته أما الذي لا يدعو إلى بدعته ولا يرى جواز الكذب بل عرف الصدق والتحرز من الكذب واحترام الدين فأكثر أهل العلم على قبول روايته لأن صدقه مما يغلب على الظن وقد روى الشيخان وغيرهما من جماعة من المبتدعة من خوارج ومرجئة وقدرية وممن اخرج له البخاري عمران بن حطان وهو القائل في ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمدحه على ذلك. يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا يبلغ من ذى العرش رضوانا إنى لأذكره من غوى فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ولقد صدق من رد عليه بقوله: بل ضربة من غوى أوردته لظى ... وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا وفي هذه المسألة أعني الرواية عن أهل البدع كلام كثير للعلماء لم نطل به الكلام وأظهره هو ما ذكرنا والله تعالى أعلم وانما العدالة بواحد من ستة أمور: الأول: الاختبار بالمعاملة والمخالطة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها. الثاني: التزكية ممن ثبتت عدالته وهي أخبار العدول المبرزين عنه بصفات العدالة. الثالث: السماع المتوتر أو المستفيض عنه أنه عدل فمن اشتهرت عدالته
(1/136)
بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالعدالة كفى ذلك في ثبوت عدالته كمالك والسفيانين والأوزاعي والشافعي وأحمد وأشباههم. الرابع: قضاء قاض بشهادة شاهد ان كان معروفاً عنه أنه لا يحكم بعلمه أو لم يكن عالماً بالواقعة مع شهرته بالعدالة وعدم الحكم بقول غير العدل أو مجهول الحال فان احتمل أنه حكم بعلمه لا بشهادة الشاهد فليس ذلك تعديلا له. وحكى ابن الحاجب الإجماع على أن حكم القاضي بشهادة الشاهد نحو ما ذكرنا له والظاهر أنه لا يخلو من خلاف. الخامس: أن يروي عنه من عرف من عادته أو من لفظه أنه لا يروى الا عن العدل كالبخاري في صحيحه ومالك فان تلك الرواية عنه تعديل له , وذهب جماعة من علماء الحديث إلى أن ذلك ليس تعديلا له لاحتمال مخالفته عادة وكونه ذلك تعديلا له هو اختيار الأصوليين أما ان كان يروى عن غير العدل فليست روايته عن شخص تعديلا له قولا واحدا. السادس: أن يعمل عالم بروايته بشرط أن يعرف من لفظ ذلك العالم أو عادته أنه لا يعمل الا بقول العدل وعلى هذا جماعة من الأصوليين وقالت جماعة من أهل الحديث ليس عمل العالم بروايته تعديلا له ولا تصحيحاً لمرويه لجواز أن يكون عمل به احتياطاً أو في فضائل الأعمال التي أجاز بعضهم العمل فيها بالضعيف بشرطه المعروف في علم الحديث. قال مقيده عفا الله عنه: - ان كان العمل المذكور في الترغيب أو كان أحوط فالظاهر أن العمل له لا يستلزم تعديل رواية أما ان كان ليس من مواضع الترغيب وكان الاحتياط في ترك العمل به كما لو دل المروي المذكور على جواز أخذ مال إنسان أو عقوبته وكان العالم الذي عمل به لا يعمل الا برواية العدل فالظاهر أن عمله بروايته حينئذ تعديل له وقطع بذلك العبادي في الآيات البينات
(1/137)
وقال صاحب نشر البنود ليس بعيداً أما إن كان العالم لا يلتزم في العمل بالرواية عدالة الراوي فعمله بروايته ليس تعديلا له اتفاقاً وإلى المسألة إشارة في المراقي بقوله: ومثبت العدالة اختبار ... كذاك تعديل والانتشار وفى قضا القاضى وأخذ الراوى ... وعمل العالم أيضاً ثاوى وشرط كل أن ير ملتزماً ... رداً لما ليس بعدل علما وستأتي هذه المسألة في المتن وقدمناها لنذكر مثبت العدالة عند ذكر العدالة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ولا يقبل خبر مجهول الحال في هذه الشروط في احدى الروايتين وهو مذهب أبي حنيفة الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن من جهل إسلامه فلم يعرف أمسلم هو لا ومن جهل بلوغه فلم يدر أبالغ هو أم صبي ومن جهل ضبطه فلم يدر أضابط هو أم لا لا تقبل رواية واحد منهم قولا واحداً أما من جهلت عدالته فلم يدر أعدل هو أو لا فالرواية المشهورة عن أحمد أنه لا يقبل وهو مذهب الشافعي. قال مقيده عفا لله عنه: - وهو مذهب مالك والجمهور والرواية الأخرى عن أحمد أنه يقبل. قال المؤلف. وهو مذهب أبي حنيفة ومدار هذا الخلاف على أن شرط القبول هل
(1/138)
هو العلم بالعدالة أو هو عدم العلم بالفسق فمن قال لا يقبل مجهول العدالة قال المدار على علم العدالة والمجهول لم تعلم عدالته فلا يقبل ومن قال يقبل قال المدار على عدم العلم بالفسق وهذا لم يعلم منه فسق فيقبل واحتج من قال بأن مجهول العدالة لا يقبل بحجج الأولى ان مستند قبول خبر الواحد الإجماع والمجمع عليه قبول رواية العدل ورد خبر الفاسق. والمجهول ليس بعدل ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بخبره. الثانية: قياس الشك في العدالة على الشك في بقية الشروط الذي هو محل اتفاق على عدم القبول اذ لا فرق بين الشروط المذكورة فلا وجه لجعل الشك مانعاً من القبول في بعض منها دون بعض بلا دليل. الثالثة: قياس روايته على شهادته فشهادة مجهول العدالة لا تقبل لقوله تعالى: ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) الآية. وقوله: ((ممن ترضون من الشهداء)) والمجهول غير عدل ولا مرضى فكذلك روايته. الرابعة: ان المقلد اذا شك في بلوغ المفتي الدرجة التي تخول له الإفتاء لم يجز تقليده فكذلك الرواية عنه. الخامسة: ان الفرع الشاهد على شهادة أصل لا تقبل شهادته ما لم يعينه فلو كانت شهادة المجهول مقبولة لما احتيج إلى تعيينه. هذا حاصل ما ذكره المؤلف منه حجج القول مع بعض اختصار. واحتج من قال بقبول رواية مجهول العدالة بحجج. الأولى: قبوله صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي برؤية الهلال ولم يعرف منه الا الإسلام.
(1/139)
الثانية: ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون رواية الأعراب والعبيد والنساء لأنهم لم يعرفوهم بفسق. الثالثة: ان من أسلم من الكفار ثم روى فور إسلامه فروايته مقبولة والقول بردها بعيد ولا مستند لقبولها الا إسلامية وعدم العلم بفسقه بعد إسلامه. الرابعة: أنه لو أخبر بطهارة ماء أو نجاسته أو أنه على طهارة أو أن هذه الجارية ملكه أو أنها خالية من زوج قبل قوله في ذلك فيجوز التطهر بالماء الذي أخبر بطهارته ويترك الماء الذي أخبر بنجاسته ويجوز الائتمام به لقوله أنه على طهارة ويجوز وطئ الجارية المشتراة منه بقوله أنها ملكه وأنها خالة من زوج هذا الذي ذكره المؤلف من حجج هذا القول وأجاب أهل القول الأول عن هذه الحجج بأن قبوله صلى الله عليه وسلم لشهادة الأعرابي لم يتعين فيه كون الأعرابي كان مجهولاً عنده لاحتمال أن يكون كان عالماً بعدالته بوحي أو غيره أو يكون زكاه بعض الصحابة والظاهر أن الجواب عن هذا أن الصحابة كلهم كلهم عدول تثبت عدالتهم وتزكيتهم بالنص وبأن الصحابة ما كانوا يقبلون رواية أحد من غير الصحابة من العبيد والنساء الا من عرفوا صدقه وعدالته وأما قريب العهد بالكفر ممن أسلم ثم روى فان كان صحابياً فله عدالة الصحابة وطراوة إسلامه ورغبته في الدين تجعله يتباعد من الكذب وأما ان كان من غير الصحابة فلا نسلم قبول روايته حتى تعرف عدالته وأما من أخبر عن نجاسة الماء أو طهارته من غير الصحابة فلا تصدق روايته إلا إذا عرفنا عدالته وأما قول البائع ان هذه السلعة له وان هذه الأمة لا زوج لها فقد رخص في قبول ذلك في المعاملات لشدة حاجة الناس اليها ولو كان بيده المتاع معروفاً أنه غير عدل. اذ لو توقفت المعاملات على إثبات ملك السلع المعروضة للبيع لتعذر ذلك وصار فيه حرج كبير فاكتفي
(1/140)
في ذلك بوضع اليد ودعوى الملك ولو من غير عدل. قال المؤلف: (فصل) ولا يشترط في الرواية المذكورة الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل سبعة أشياء: الأول: ان رواية المرأة كرواية الرجل فرواية عائشة مثلا لا فرق بينها ورواية الرجال من الصحابة إذ الرواية ليست كالشهادة فالنساء في باب الرواية هن والرجال سواء. الثاني: ان رواية الأعمى إذا وثق بمعرفة الصوت مقبولة واستدل لذلك بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يروون عن عائشة وغيرها من النساء من وراء حجاب اعتماداً على الصوت الا أن الأصوليين قرروا في مباحث الترجيح أن الذي روي عن النساء من غير حجاب لكونه من محارمهن ترجح روايته على رواية من روى عنهن من وراء حجاب ومثلوا له برواية القاسم بن محمد عن عائشة أن بريرة عتقت وزوجها عبد مع رواية الأسود بن يزيد عنها أنه كان حراً لأن القاسم ابن أخيها يروي عنها من غير حجاب والأسود ليس محرماً لها فلا يروي عنها الا من وراء حجاب. وعن البخاري أن القائل بأنه كان حراً الحكم وليس من قول عائشة. الثالث: ان الراوي لا يشترط فيه كونه فقيهاً بل تقبل رواية العدل الذي ليس بفقيه واستدل له المؤلف بحديث رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وبأن الصحابة كانوا يقبلون خبر
(1/141)
الأعرابي الذي لا يروي الا حديثاً واحداً. الرابع والخامس أنه لا يقدح في الرواية بالعداوة والقرابة بخلاف الشهادة وإيضاحه أنه لو كانت خصومة بين أثنين ثم روى قريب أحدهما أو عدوه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي نفع ذلك القريب أو ضر ذلك العدو فلا يقدح في روايته بتلك العداوة أو القرابة لأن حكم الرواية عام لكل الناس لا يختص بشخص بعينه بخلاف الشهادة. السادس: أنه لا يقدح في رواية الراوي بعدم معرفة نسبه. السابع: أنه لو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل فلا تقبل تلك الرواية لاحتمال كون ذلك الشخص المذكور في السند هو المجروح. هذا هو حاصل ما ذكره المؤلف في هذا لفصل وجميع ما فيه صواب والمقرر في أصول مالك وألي حنيفة أنهما لا يقبلان رواية غير الفقيه وبعضهم يقيده عن أبي حنيفة بما اذا خالفت رواية غير الفقيه القياس وبهذه القاعدة ردوا كثيرا من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه بدعوى أنه غير فقيه وأن روايته مخالفة للقياس ومثال ذلك ردهم لحديثه في المصراة أنه يردها اذا حلبها وصاعاً من تمر والمروي في أصول المالكية عن مالك عدم قبول رواية غير الفقيه مطلقاً بدعوى أن غير الفقيه لا يوثق بفهمه الكلام على وجهه فربما فهم غير المقصود لعدم فقهه وربما نقله بالمعنى فيقع بذلك الخلل في روايته ولا شك أن هذا باطل من وجهين: الأول: ان عدالته تمنعه من أن يقول شيئاً لم يفهمه ولمم يجزم بفهمه مع أن معنى الكلام الذي لا خفاء فيه ولا إجمال يفهمه على وجهه غير الفقيه كما لا يخفى. الثاني: ان النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهه قد يحمل الفقه
(1/142)
غير الفقيه وذلك نص في محل النزاع وهو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: نضر الله أمرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه فقوله صلى الله عليه وسلم: ورب حامل فقه ليس بفقيه نص في محل النزاع دال على صحة رواية غير الفقيه كما ترى. وقد قال المناوي في شرح الجامع الصغير في الكلام على هذا الحديث رواه الترمذي في العلم والضياء في المختارة عن زيد بن ثابت قال الترمذي صحيح وقال ابن حجر في تخريج المختصر حديث زيد بن ثابت هذا صحيح خرجه أحمد وأبو داوود وابن حبان وابن أبي حاتم والخطيب وأبو نعيم والطيالسي والترمذي وفي الباب عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء وأنس وغيرهم وقال في موضع آخر الحديث صحيح المتن وان كان بعض أسانيده معلولا. اهـ. قال مقيده عفا الله عنه: - ومعنى هذا ثابت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المتفق عليه المشهور وكان منه أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا الحديث مثل مضروب لكون الراوي قد يكون غير فقيه فكما أن تلك الأجادب لم تنبت ولم تثمر ولكنها أمسكت ذلك الماء للناس فنفعهم الله به فشربوا منه وسقوا وزرعوا فكذلك أولئك الرواة لم يتفقهوا ولكن نفع الله الناس بما حفظوا من العلم فانتفعوا به وتفقهوا فيه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ
(1/143)
أوعى من سامع وقوله مبلغ بصيغة اسم المفعول وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم في باب قول النبي صلى لله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع من حديث أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صاحب الجامع الصغير هذا الحديث من رواية ابن مسعود وعزاه للامام أحمد في المسنتد والترمذي وابن حبان وجعل عليه علامة الصحة وقال شارحه المناوي قال ابن حجر في تخريج المختصر حديث مشهور خرج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير ابن مطعم وصححه ابن حبان والحاكم. وذكر أو القاسم بن منده في تذكرته أنه رواه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون صحابياً ثم سرد أسماءهم وقال عبد الغني في الآداب تذاكرت أنا والدارقطني طرق هذا الحديث فقال: هذا أصح شئ روي فيه. اهـ. وهذه النصوص تدل على أن ما روي عن مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى من عدم قبول رواية غير الفقيه مطلقاً أو اذا خالفت القياس خلاف لصواب وقد رد صاحب مراقي السعود هذا القول على أهل مذهبه من المالكة بقوله: من ليس ذا فقه أباه الجيل ... وعكسه أثبته الدليل والحيل الصنف من الناس ومراده بهم علماء المالكية وقوله وعكسه أي عكس قولهم أثبته الدليل وهو ما ذكرنا آنفاً من الأحاديث في ذلك. قول المؤلف في التزكية والجرح قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) المراد بالتزكية في الاصطلاح أخبار العدول عنه بصفات العدالة والمراد
(1/144)
بالجرح في الاصطلاح أخبارهم عنه بما يخل بعدالته من فسق أو سقوط مروءة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - اعلم أنه يسمع الجرح والتعديل من واحد في الرواية لان العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية بخلاف الشهادة وكذلك تقبل تزكية العبد والمرأة كما تقبل روايتها معنى كلامه واضح وهو أن التعديل والجرح بالنسبة إلى الرواية كلاهما يثبت بواحد عدل ولو عبد أو امرأة لان نفس الرواية تثبت بواحد ولو عبداً أو امرأة فكذلك التزكية فيها أما الشهادة فلا يكفي فيها واحد كما هو معروف وكذلك لا يكفي في التزكية فيها واحد وحاصل كلام العلماء في هذه المسألة أن لهم فيها ثلاثة مذاهب: الأول لا بد في التعديل والتجريح من عدلين مطلقاً سواء كان ذلك بالنسبة إلى الرواية أو الشهادة والثانية يكفي فيها معاً واحد والثالث التفصيل فيكفي الواحد فيها بالنسبة إلى الرواية دون الشهادة وهو الذي درج عليه المؤلف وأشار في مراقي السعود إلى هذه المسألة بقوله في الجرح والتعديل: كلاهما يقبته المنفرد ... ومالك عنه روى التعدد وقال بالعدد ذو دراية ... فى جهة الشاهد لا الرواية والقول باشتراط التعدد في المعدل والمجرح في الرواية والشهادة معاً عزاه الفهري للمحدثين والأبياري لأكثر الفقهاء. وأظهرها عندي الفرق بين الرواية والشهادة في ذلك وكون التعديل والتجريح تبعاً لما فيه التعديل والتجريح فان كان يكتفي فيه بواحد اكتفى في تعديله وتجريحه بواحد والا
(1/145)
فلا وان كان صاحب الضياء اللامع يقول ان الفرق بينهما غلط قائلا ان معقول الشهادة فيهما سواء لأن كلا منهما أخبار عن شخص بصفات العدالة أو عدمها وما قاله يرده الإجماع على الفرق بين الرواية والشهادة في مسائل كثيرة كقبول رواية المرأة منفردة ولو في الدماء والحدود مع عدم قبول شهادتها في ذلك وكلا الأمرين أخبار منها عن أمر. وقد قال ابن عاصم المالكي في تحقيه: وواحد يجزئ فى بابا الخبر ... وإثنان أولى عند كل ذى نظر قال المؤلف رحمه الله تعالى: - واختلف الرواية في قبول الجرح اذا لم يتبين سببه الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الحديث أن فيه ثلاثة مذاهب أحدها أن الجرح يقبل ولو لم يبين المجرح سببه لأن عدالته تمنعه من الجرح بأمر غير قادح. الثاني: ان الجرح لا يقبل الا مع بينان سببه لاختلاف الناس فيما يحصل به الجرح فقد يظن الأمر قادحاً وهو ليس بقادح. الثالث: التفصيل بين المجرح الذي حصلت الثقة ببصيرته وشدة معرفته وتمييزه لأسباب الجرح فيقبل تجريحه مع عدم بيان السبب وبين من ليس كذلك فلا يقبل تجريحه حتى يبين السبب. قال مقيده عفا الله عنه: - جمهور أهل الأصول والحديث لا يقبل الا مع بيان السبب لأن المجرح قد يظن ما ليس بقادح قادحاً وقد قيل لشعبة: لم تركت حديث فلا ن؟ قال: رأيته يركض على بر ذون فتركت حديثه. وروي عن مسلم بن إبراهيم أنه
(1/146)
سئل عن حديث صالح المري فقال: وما تصنع بصالح ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد. اهـ. وأشباه هذا كثيرة ولأجل هذا احتج الشيخان في صحيحهما بجماعة سبق من غيرهما تجريحهم فلم يقبلوا ذلك التجريح لعدم بيان السبب. ومن أمثلة ذلك رواية البخاري عن عكرمة وعمر بن مرزوق , ورواية مسلم عن سويد ابن سعيد وغيره. قال العراقي في ألفيته: وربما رد الكلام الجارح ... كالنسئ فى أحمد بن صالح قال المؤلف رحمه الله تعالى: - أما اذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا المبحث أن الجرح اذا تعارض مع التعديل قدم الجرح لأن المجرح اطلع على أمر خفي على المعدل هذا ان تساوي عدد المجرحين والمعدلين أو كان المجرحون أكثر فان كان المعدلون أكثر من المجرحين فكذلك في الصحيح لأن سبب تقديم الجرح علم المجرح بما خفي على المعدل وذلك لا ينتفي بكثرة عدد المعدلين وقيل يقدم التعديل للكثرة وهو ضعيف هذا حاصل كلامه وتحقيق المقام في هذه المسألة أن المجرحين ان كانوا أكثر فالتجريح مقدم اجماعاً فان تساوى عدد المجرحين والمعدلين أو كان المعدلون أكثر فكذلك على الصحيح وقيل بالترجيح فيهما وأسباب الترجيح ستأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب وأشار في المراقي إلى هذه المسألة بقوله: وشذ من زعم أن التعديل يقدم في جميع الصور.
(1/147)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) في التعديل وذلك إما بقول واما بالرواية عنه الخ ... قد قدمنا ما ذكره في هذا المبحث مستوفي في الكلام على اشتراط العدالة فلا حاجة إلى إعادته هنا وأعلى أنواع التزكية الشادة له بأنه عدل رضى وان لم يبين أسبابا ذلك. واعلم أن تحقيق قبول التعديل بدون بيان السبب كما هو مذهب الجمهور من أصوليين ومحدثين. واعلم أن عدم العمل بشهادة شاهد ليس تجريحاً له كما هو ظاهر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) والذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم معلومة عدالتهم بتعديل الله تعالى وثنائه عليهم. قال الله تعالى: ((والسابقون الأولون)) الآية. وقال: ((لقد رضي الله عن المؤمنين)) الآية. وقال: ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار)) الآية ... الخ ... خلاصة ما ذكره في الفصل أن الصحابة كلهم عدول للثناء عليهم في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا قول جمهور علماء المسلمين وهو الصواب ان شاء الله تعالى , وعلى هذا فجهالة الصحابي لا تضر لأنهم كلهم
(1/148)
عدول والصحابي هو من اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً وما ت على ذلك والصحبة تثبت بقوله عن نفسه أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ان كان أدرك عصره وكذلك تثبت بقول غيره من الصحابة رضي الله عنهم هذا حاصل كلامه رحمه الله وخالف جماعة فقالوا لا تثبت العدالة الا لخصوص الذين لازموه صلى الله عليه وسلم واهتدوا بهديه أما من رآه مرة مثلا ثم فارقه فلا تثبت له العدالة بذلك وممن اختار هذا التفصيل المازري في شرح البرهان لإمام الحرمين والقرافي وغيرهما والصواب ان شاء الله تعالى هو مذهب الجمهور وانهم كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم سواء لازموه أو اجتمعوا به وذهبوا وقد أطبق العلماء على قبول رواية وائل ابن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص الثقفي وغيرهم ممن اشتهرت صحبتهم وروايتهم عنه صلى الله عليه وسلم مع أنهم وفدوا إليه واجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى أهليهم ولم يلازموه. وقال ابن حجر في مقدمة الإصابة: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك الا شذوذ من المبتدعة وذكر الخطيب في الكفاية فصلا نفيساً في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وأحباره عن طهارتهم واختياره لهم فمن ذلك قوله تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) وقوله: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) الآية. وقوله: ((لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم)) وقوله: ((والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)) وقوله: ((يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)) و
(1/149)
قوله: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون)) إلى قوله: ((ان ك رؤوف رحيم)) في آيات كثيرة يصول ذكرها وأحاديث كثيرة يكثر تعدادها وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله إلى تعديل أحد من الخلق على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأنباء والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع بتعديلهم إلى أن قال: والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة ومن أدلها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله ابن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبعضهم ومن آذاهم فقد آذى الله ومن آذى الله فسيوشك أن يأخذه. وقال أبو محمد بن حزم: الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً. قال الله تعالى: ((ولا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى)) وقال تعالى: ((ان الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)) فثبت أن الجميع من أهل الجنة وانه لا يدخل أحد منهم النار لأنهم هم المخاطبون بالآية السابقة فان قيل التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك فالجواب أن التقيدات المذكورة خرجت مخرج
(1/150)
الغالب والا فالمراد من اتصف بالانفاق بالفعل أو القوة انتهى منه مع حذف واختصار غير مخل بالمقصود وأشار في مراقي السعود إلى مسألة عدالة الصحابي جامعاً معا الفرق بين الرواية والشادة بقوله: ومراده بالامام المؤتمن القرافي وقد سبقه إلى ذلك القول المازري وغيره كما تقدم فالحاصل أن الحق الذي عليه من يعتد به من المسلمين أن الصحابة كلهم تقدم فالحاصل أن الحق الذي عليه من يعتد به من المسلمين أن الصحابة كلهم محكوم لهم بالعدالة ولا يبحث عن عدالة أحد منهم وليسوا معصومين فمن ثبت عليه في خوصه قادح ثبوتاً واضحاً لا مطعن فيه عمل به وقد ارتد بعضهم كعبيد الله بن جحش الذي كان زوج أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة رضي الله عنها والرده أعظم من ارتكاب كبيرة توجب الفسق وقد مات والعياذ بالله على ردته منتصراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) المحدود في القذف ان كان يلفظ الشهادة فلا يرد خبره لأن نقصان العدد ليس من فعله ولهذا روى الناس عن أبي بكرة واتفقوا على ذلك وهو محدود في القذف وان كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب حاصل ما ذكر في هذا الفصل أن أبطال الرواية بالحد في القذف تفصيلا فان كان المحدود شاهداً عند الحاكم بأن فلاناً زني وحد لعدم كمال الأربعة فهذا لا ترد به روايته لأنه إنما حد لعدم كمال نصاب
(1/151)
الشهادة في الزنى وذلك ليس من فعله وان كان القذف ليس بصيغة الشهادة كقوله لعفيف: يا زاني ويا عاهر ونحو ذلك بطلت روايته حتى يتوب أي ويصلح بدليل قوله تعالى: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هو الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)) الآية. واستدل المؤلف رحمه الله لما ذكره من الفرق بين الحد على سبيل القذف والحد على سبيل عدم كمال النصاب في الشهادة بقصة أبي بكرة لأنه متفق على قبول روايته مع أنه محدود في شهادته على المغيرة ابن شعبة الثقفي بالزنا والشهادة في هذا ليست كالرواية فلا تقبل شهادة المحدود في قذف أو شهادة حتى يتوب ويصلح بدليل قول عمر [بي بكرة تب أقبل شهادتك خلافاً لمن جعل شهادته كروايته فلا ترد وهو محكي عن الشافعي والحاصل أن القذف بالشتم ترد شهادته وروايته بلا خلاف حتى يتوب ويصلح والمحدود في الشهادة لعدم كمال النصاب تقبل روايته دون شهادته وقيل تقبل شهادته وروايته وقصة أبي بكرة المشار إليها أنه شهد على المغيرة ابن شعبة بالزنا هو وأخوه زياد ونافع ابن الحارث وسعيد ابن سهل فتلكأ زياد أو غيره في الشهادة فجلد عمر الثلاثة المذكورين. قال مقيده عفا الله عنه: - يظهر لنا في هذه القصة أن المرأة التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما هي زوجته ولا يعرفونها وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على المغيرة وغيره من الأمراء فظنوا أنها هي فهم لم يقصدوا باطلاً ولكن ظنهم أخطأ وهو لم يقترف ان شاء الله فاحشة لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال والعلم عند الله تعالى.
(1/152)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) في كيفية الرواية وهي على أربع مراتب الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن كيفية الرواية يعني الرواية عن غير النبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما تقدم على أربع مراتب. الأولى: وهي أعلاها عند المؤلف قراءة الشيخ عليه في معرض الأخبار ليروي عنه وذلك يسوغ للراوي أن يقول حدثني وأخبرني وسمعته يقول وقال كذا ونحو ذلك من صنيع الأداء. المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ فيقول: نعم أو يسكت فتجوز الرواية به خلافاً لبعض أهل الظاهر القائل بأنه لا بد من إقرار الشيخ نطقاً ولا يكفي سكوته لأن الساكت لا ينسب إليه قول عندهم واستدلاله أيضاً بظاهر قوله تعالى: ((قال أأقررتم وأخذتم على ذلك أصري)) الآية. والجمهور على قبول الرواية ولو سكت لأن عدالته تمنعه من أن يسكت مع علمه بعدم صحة ما يقرأ عليه ما لم تكن هناك مخيلة إكراه أو غفلة ونحو ذلك فلا يكتفي بسكوته وهذه المرتبة الثانية تسوغ للراوي أن يقول أنبأنا وحدثنا فلان قراءة عليه وهل يجوز الاقتصار على حدثنا فلان دون ذكره قراءة عليه فيه روايتان أحدهما يجوز ذلك وعزاه المؤلف لأكثر الفقهاء والأخرى لا يجوز ذلك كما لا يجوز سمعت من فلان في ذلك وهل يجوز للراوي أن يبدل قول شيخه حدثنا بأخبرنا أو عكسه فيه روايتان أيضاً بالجواز والمنع ووجه القول بجواز ذلك اتحاد اللفظيين في المعنى لغة ووجه المنع من ذلك اختلاف مقتضى اللفظيين عند المحدثين لأنهم
(1/153)
يخصون حديثنا بما سمع من لفظ الشيخ وأخبرنا يصلح عندهم لذلك أيضاً ولما قرئ على الشيخ فأقر به فالأخبار عندهم أعلم من التحديث. المرتبة الثالثة: الجازة وهي أربعة أنواع: الأول: الإجازة لمعين في معين كقوله أجزت لك أو لكم أن تروي أو ترووا عني الكتاب الفلاني. الثاني: الإجازة لمعين في غير معين كقوله أجزت لك أو لكم أن ترووا عني جميع مروياتي. الثالث: الإجازة لغير معين في معين كأن يقول أجزت للمسلمين أن يرووا عني الكتاب الفلاني. الرابع: الإجازة لغير معين في غير معين كأن يقول: أجزت للمسلمين أن يرووا عني جميع مروياتي وجمهور أهل العلم على جواز الرواية والعمل بالإجازة واستقر عليه عمل عامة أهل العلم وحكى الإجماع على ذلك أبو الوليد الباجي وعياض من المالكية ومنع الرواية بالإجازة والعمل بها جماعة من الطوائف ممن روي عنه ذلك شعبة ابن الحجاج قائلا لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة وإبراهيم الحربي وأبو نصر الوائلي وأبو بكر الخجندي الشافعي وأبو طاهر الدباس الحنفي وهذا هو إحدى الروايتين عن الشافعي وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك وقال ابن حزم أنها بدعة غير جائزة وفيها أقوال أخر غير ما ذكرنا بالتفصيل بين أنواع الإجازة مذكورة في الأصول وعلوم الحديث والحق جواز الرواية بالإجازة كما عليه الجمهور وقال صاحب المراقي: واعمل بما عن الإجازة روي ... إن صح سمعه يظن قد قوى
(1/154)
(تنبيه) فان قيل ما الدليل على جواز الرواية والعمل بالإجازة فالجواب أن بعض أهل العلم استدل لذلك بما يأتي قال صاحب تدريب الراوي قال ابن الصلاح وفي الاحتجاج لتجويزها غموض ويتجه أن يقال إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة كما لو أخبره بها تفصيلاً وأخباره بها غير متوقف على التصريح قطعاً كما في القراءة وانما الغرض حصول الإفهام والفهم وذلك حاصل بالإجازة وقال الخطيب في الكفاية احتج بعض أهل العلم لجوازها بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب سورة براءة في صحفية ودفعها لأبي بكر ثم بعث علي بن أبي طالب فأخدها منه ولم يقرأها عليه ولا هو أيضاً حتى وصل إلى مكة ففتحها وقرأها على الناس , فكان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز له أن يروي عنه ما في تلك الصحيفة من غير سماع منه. المرتبة الرابعة: المناولة وهي أن يناوله كتاباً ويقول له أرو عني ما فيه فهو كالإجازة لأن مجرد المناولة دون اللفظ لا يكفي واللفظ وحده يكفي وكلاهما تجوز الرواية به فيقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة فان لم يقل إجازة لم يجز على أصح القولين , فان قال هذا الكتاب سماعي ولم يأذن في روايته عنه فلا تجوز الرواية بذلك لأنه يمكن ألا يجيز رواية عنه لخلل يعلمه فيه وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد بها ما لم يقل أذنت لك أنت تشهد على شهادتي وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد بخها ما لم يقل أذنت لك أن تشهد على شهادتي وكذا لو وجد شيئاً بخطه لا يرويه عنه لكن يجوز له أن يقول وجدت بخط فلان كذا كذا فان قال العدل هذه نسخة من صحيح البخاري أو مسلم مثلا فليس له أن يرويه عنه ما لم يأذن وخل يلزمه العمل به فيه خلاف وأظهره لزوم العمل به لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون
(1/155)
صحف الصدقات إلى البلاد وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حامليها بصحتها دون أن يسمعها كل واحد منهم فان ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وإلى ذلك أشار في المراقي بقوله: والخلف فى أعلاه السجود ... وأعملن من صحيح السند هذا هو خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث مع زيادات إيضاح واستدلال واستظهار وهذا الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله من ترتيب هذه المراتب الأربعة المذكورة قول بعض أهل العلم وفيه أقوال أخر غير هذا منها أن المناولة والسماع والعرض الذي هو القراءة على الشيخ فيقول نعم في مرتبة واحدة وان الإجازة المجردة عن المناولة مرتبة ثانية دونها وهذا هو المشهور عند المالكية وعليه درج في مراقي السعود بقوله: ومراده بالأذن الإجازة وبالنوال المناولة يعني أن الإجازة المشتملة على المناولة في مرتبة السماع والعرض وكون المناولة المذكورة تساوي السماع هو ما ذهب إليه ابن شهاب وربيعة ومالك وخلق كثير قاله في نشر البنود وكونها دون السماع هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وصححه النووي قاله في نشر البنود أيضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) إذا وجد سماعة بخط يوثق به جاز له أن يرويه وان لم يذكر سماعه الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أنه إذا وجد سماعه بخط يغلب
(1/156)
على الظن به أنه سمعه مع أنه ناس للسماع فهل له أن يرويه اعتماداً على الخط وهو ما اختاره المؤلف وغزاه للشافعي وعلل ذلك بأن مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته بناء على دليل وقد وجد ذلك في هذه المسألة لأن الثقة بالخط المذكور يغلب على الظن بها صحة السماع المذكور ولا يجوز له أن يروي ذلك اعتماداً على الخط لأجل نسيانه للسماع وعزاه أبي حنيفة مستدلا له بقياس الرواية على الشهادة في ذلك. واعترض المؤلف قياس الرواية على الشهادة في هذه المسألة من جهتين: الأولي: ان الشهادة تصح اعتماداً على الخط الموثوق به وان لم يتذكرها على إحدى الروايتين الثانية: ان الشهادة أضيق من الرواية لما علم بينها من الفروق كما تقدم , والله تعالى أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) إذا شك في سماع حديث من شيخه لم يجز أن يرويه عن الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل ثلاث نقط: الأولي: انه ان شك في سماع حديث من شيخه لا يجوز له أن يرويه عنه مع الشك وهذا واضح لأن منع رواية المشكوك فيه ضروري كما ترى. الثانية: انه إن شك في حديث من سماعه ثم التبس عليه ذلك الحديث المشكوك فيه فلم يميزه من غيره لم يجز له أن يروي عنه شيئاً مع ذلك الشك لأن كل حديث رواه عنه احتمل أن يكون هو ذلك الحديث الذي
(1/157)
شك في سماعه. الثالثة: اذا غلب ظنه أنه سمع منه حديثاً ولم يجزم بذلك فهل تكفي غلبة الظن فتجوز الرواية بها أو لا تكفي فلا تجوز بها ولم يرجح واحداً منها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) اذا أنكر الشيخ الحديث وقال لست أذكره لم يقدح ذلك الخبر في قول أم أمنا وما لك والشافعي وأكثر المتكلمين ومنع منه الكرخي قياساً على الشهادة خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن شيخ الراوي إذا أنكر الحديث وقال: لست أذكره فلا يبطل ذلك روايته عنه لأنه نسى الحديث والراوي ذاكر له فلا وجه لرد كلام ذاكر له فلا وجه لرد كلام ذاكر بنسيان ناس وهذا القول هو الصحيح وعزاه المؤلف للكرخي ورد المؤلف هذا القياس بكثرة الفوارق بين الرواية والشهادة. قال مقيدة عفا الله عنه: - الذي يظهر صوابه في هذه المسألة هو اختاره غير واحد من الأصوليين والمحدثين من التفصيل في ذلك فان كان الشيخ جازماً بنفيه وانه ما روى هذا الحديث أصلاً لم تقبل رواية الراوي عنه ولا يقدح ذلك في رواية ذلك الراوي في غير ذلك الحديث لأنه لم يثبت كذبه وان لم يجزم بنفيه بل قال لا أعرفه أو لا أذكره أو نحو ذلك لم يقدح فيه. وقد روي ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد ثم نسيه سهيل فكان يقول
(1/158)
حدثني ربيعة عني أني حدثته ولم ينكر عليه أحد قال العراقي في ألفيته: وإن يرده بلا أذكر أو ... ما يقتضى نسيانه فقد رأوا الحكم للذاكر عند المعظم ... وحكى الاسقاط عن بعضهم كقصة الضاهد واليمين إذ ... نسيه سهيل الذى أخذ عنه فكان بعد عن ربيعة ... عن نفسه يرويه لن يضيعه وذكر صاحب المراقي تفصيلاً في جزم الشيخ بعدم رواية الراوي وعزاه للباجي وحاصله أن الشيخ اذا قال هذا الحديث من جملة مروياتي الا أن فلاناً هاذ لم يروه عني جزماً قبلت رواية الراوي وان كان الشيخ جازماً بعدمها وان قال الشيخ هذا الحديث لم يكن من مروياتي أصلا ردت رواية الراو ي عنه وذلك في قوله عاطفا على ما تقبل فيه الرواية: وذكر صاحب المراقي تفصيلا في جزم الشيخ بعدم رواية الراوي وعزاه للباجي وحاصله أن الشيخ إذا قال هذا الحديث من جملة مروياتي الا أن فلاناً هذا لم يروه عني جزماً قبلت رواية الراوي وان كان الشيخ جازماً بعدمها وان قال الشيخ هذا الحديث لم يكن من مروياتي أصلاً ردت رواية الراوي عنه وذلك في قوله عاطفاً على ما تقبل فيه الرواية: والجزم من فرع وشك الأصل ... ودع بجزمه لذلك النقل وقال بالقبول إن لم ينتف ... أصل من الحديث شيخ مقتفى ومراده بهذا الشيخ الباجي ثم أشار إلى أن جزم الأصل بتكذيب الفرع لا يقدح في عدالة الفرع بقوله: وليس ذا يقدح فى العدالة ... كشاهد للجزم بالمقالة (تنبيه) ذكر بعض أهل العلم في هذا المبحث أن السبب الذي منع الحنفية من قبول الحكم بالشاهد واليمين هو نسيان الراوي المذكور للحديث وان نسيانه مبطل للرواية عندهم. وقد قدمنا في النسخ أن الموجب لرد حديث الحكم بالشهادة واليمين
(1/159)
عندهم أنه زيادة على قوله تعالى: ((قان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) الآية. وان الزيادة على النص نسخ عندهم والحديث المذكور آحاد والآية معلوم أنها من المتواتر والمتواتر لا ينسخ عندهم بالآحاد كما تقدم إيضاحه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) انفراد الثقة في الحديث بزيادة مقبول سواء كانت لفظاً أو معني , الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن الثقة اذا روى زيادة في الحديث لم يروها غيره بل انفرد بها فروايته لها مقبولة واستدل لذلك بأمرين: الأول: ان الثقة لو انفرد بحديث لقبل فكذلك الزيادة في حديث. الثاني: امكان انفراده دون غيره بحفظ الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث في مجلسين وذكر الزيادة في أحدهما دون الآخر وحضر هذا المجلس الذي ذكر فيه الزيادة الثقة الذي زادها ولم يحضره الآخر وحضر هذا المجلس الذي ذكر فيه الزيادة الثقة الذي زادها ولم يحضره الآخر الذي روى الحديث بدونها كما يحتمل أيضاً أن الراوي الذي لم يرو الزيادة دخل في أثناء المجلس وقد سمع غيره الزيادة قبل دوله أو عرض له في أثناء الحديث ما يزعجه أو يدهشه عن الإصغاء أو يوجب له القيام عن تمام الحديث وسمع غيره الزيادة بعد أن عرض له هو ما يمنعه من سماعها كما يحتمل أن يسمع جميع الحديث وينسى منه بعض الذي زاده الثقة الآخر فهذه الاحتمالات تبين أن انفراد الثقة بحفظها دون غيره ممكن وقد أخبر بها الثقة ولا داعي لرد خبر ثقة عن أمر ممكن لم يعارضه فيه غيره كما ترى فان علم أنهما معاً سمعا
(1/160)
في مجلس واحد فقال أبو الخطاب يقدم قول الأكثرين وذوي الضبط فان تساووا في الحفظ والضبط قدم قول المثبت وإيضاح معنى قول أبي الخطاب المذكور أن السماع اذا كان في مجلس واحد قدم قول الأكثر سواء كانوا رواة الزيادة أو غيرهم تغليباً لجانب الكثرة لأن الخطأ أبعد عن العدد الكثير من غيره فان تساووا في العدد قد أحفظهم وأضبطهم للترجيح بالحفظ والضبط فان استووا في الكثرة والحفظ قدم قول المثبت على النافي وقال القاضي إذا تساويا فعلى روايتين إحداهما قبول الزيادة وهو الصحيح والأخرى قدم قبول الزيادة هذا حاصل كلامه رحمه الله. واعلم أن التحقيق في هذه المسألة أن فيها تفصيلا لأنها واسطة وطرفان طرف لا تقبل فيه الزيادة على التحقيق وهو ما إذا كانت الزيادة مخالفة لرواية الثقات الضابطين لأنها يحكم عليها حينئذ بالشذوذ فترد وطرف تقبل فيه الزيادة بلا خلاف وهو ما اذا تفرد ثقة بجملة حديث لا تعرض فيه لما رواه بمخالفة أصلا وممكن حكى الإجماع على قبول هذا الطرف الخطيب , وواسطة هي محل الخلاف وهو زيادة لفظة في حديث ليم يذكرها غير من زاد من رواة ذلك الحديث كحديث حذيفة: وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً. انفرد أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي فقال: وجعلت ترتبها لنا طهورا وسائر الرواة لم يذكروا ذلك والصحيح قبول مثل هذه الزيادة كما قرر المؤلف رحمه الله تعالة وعليه جمهور الأصوليين ومن أمثلة هذا الباب حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال الصلاة على وقتها اتفق أصحاب شعبة عنه على هذا اللفظ في أول وقتها كما أخرجها الحاكم والدارقطني والبيهقي من طريقة وكذلك روى الزيادة المذكورة الحسن بن علي المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن
(1/161)
المثنى عن غندر عن شعبة كذلك قاله ابن حجر في الفتح وكذلك روى الزيادة المذكورة عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن شيخ شعبة في الحديث المذكور وهو الوليد ابن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما قاله ابن حجر أيضاً. فالظاهر ثبوت هذه الزيادة وان لم تكن في جميع طرقها. وقال النووي في شرح المهذب أنها ضعيفة ومن أمثلته أيضاً حديث الصحيحين عن أنس أمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة زاد سماك بن عطية الا الإقامة وزيادته لها عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس ثابتة في صحيح البخاري وغيره. ومن أمثلة ما قدمنا في هذا الباب من أن راوي الحديث بدون الزيادة قد يدخل في أثناء الحديث فتفوته الزيادة ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كانت علينا رعاية الابل فجاءت نوبتي فروحتها بعشر فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة فقلت ما أجود هذه فإذا قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال اني قد رأيتك جئت آنفاً قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله الا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. هذا لفظ مسلم في صحيحه ومثال ما قدمنا من أن راوي الحديث بدونه الزيادة قد يعرض له في أثناء الحديث ما يزعجه عن سماع الزيادة التي رواها غيره ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا قد بشرتنا
(1/162)
فأعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن اذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قد قبلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا جئنا نسألك عن هذا الأمر قال كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والأرض فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فو الله لوددت اني تركتها هذا لفظ البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق. (تنبيه) التحقيق أن الرفع والوصل من نوع الزيادة فلو روى بعض الرواة حديثاً موقوفاً ورواه ثقة آخر مرفوعاً أو رواه بعض الرواة مرسلا ورواه ثقة آخر موصولا فذلك الرفع وذلك الوصل يقبل لأنه من زيادة الثقات وهي مقبولة ولا تكون الطريق الموقوفة أو المرسلة علة في الطريق المرفوعة أو الموصولة خلافاً لمن زعم ذلك وللأصوليين أقوال كثيرة في زيادات العدول منها عدم القبول مطلقاً ومنها عدم القبول ان علم اتحاد المجلس ومنها التعارض إذا غيرت الزيادة الإعراب إلى غير ذلك من الأقوال. وأشار إلى بعضها في المراقي بقوله:
(1/163)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) وتجوز رواية الحديث بالمعنى للعام المفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم عند الجمهور فيبدل لفظاً مكان لفظ فيما لا تختلف الناس فيه كالألفاظ المترادفة مثل القعود والجلوس والصب والإراقة والحظر والتحريم الخ ... خلاصة ما ذكره رحمه الله في هذا الفصل أن نقل الحديث بالمعنى جائز عند الجمهور بشروط وان بعض أصحاب الحديث قال يمنعه مطلقاً وانه لا بد من أداء الحديث بنفس اللفظ لا بمعناه وشروط جوازه عند من أجازه الأول منها أن يكون ناقل الحديث بالمعنى عالما باللسان العربي لا تخفى عليه النكت الدقيقة التي يحصل بها الفرق الخفي بين معاني الألفاظ عارفاً بالمحتمل وغيره والظاهر والأظهر والعام والأعم ونحو ذلك لأن من ليس كذلك قد يبدل اللفظ يساويه في ظنه وبينهما تفاوت في المعنى خاف عليه فيأتي الخلل في حديثه من ذلك. الثاني: أن يكون جازماً يقيناً بمعنى الحديث لا ان كمان فهمه للمعنى بنوع استنباط واستدلال يختلف فيه أو يظن لعدم وضوح الدلالة خلافاً لمن زعم الاكتفاء بالظن بالغالب. الثالث: أن لا يكون اللفظ الذي نقل به الراوي معنى الحديث أخفى من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا أظهر أما منع نقله بما هو أخفى منه فواضح وأما منعه بما هو أظهر منه فقد علله المؤلف بأن الشارع ربما قد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أخرى
(1/164)
والمعروف عند أخل الأصول تعليله بأن الظهور من المرجحات عند التعارض فقد يتعارض مع الحديث الذي رواه الراوي بأظهر من معناه حديث آخر فيرجحه المجتهد عليه بالظهور ظاناً أن اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم والواقع أن موجب الترجيح من تصرف الراوي لا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه العلة ظاهرة كما ترى وحجج جواز نقله بالمعنى المذكور في هذا الفصل منها الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال كلمة عربية بكلمة عجمية فإبدالها بكلمة عربية أولى , ومنها أن سفراء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبلغونهم أوامره بلغتهم ومنها أن الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة بألفاظ مختلفة والمعنى واحد. ومنها أن من سمع شاهداً يشهد بالعجمية جاز أن يشهد على شهادته بالعربية والشهادة آكد من الرواية. ومنها أن الرواية بالمعنى عن غيره صلى الله عليه وسلم جائزة فكذلك الرواية عنه بجامع حرمه الكذب فيهما معاً , وحجة من قال بالمنع في هذا الفصل حديث نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمها. الحديث هذا هو خلاصة ما ذكره في هذه الفصل. قال مقيده عفا الله عنه: - التحقيق في هذه المسألة هو ما ذهب اليه الجمهور من جواز نقل الحديث بالمعنى بالشروط المتقدمة لأنه غير متعبد بلفظه والمقصود منه المعنى فاذا أدى المعنى على حقيقته كفى ذلك دون اللفظ ومن أتى بالمعنى بتمامه فقد أداه كما سمعه فيدخل في قوله فأداها كما سمعها ويدل لهذا قوله تعالى: ((إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)) والذي في تلك الصحف إنما هو معنى ما ذكر لا لفظه وأمثال
(1/165)
ذلك كثيرة في القرآن فان قيل ما الجواب عن حديث البراء بن عازب المشهور الصحيح ومحل الشاهد منه أن البراء سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث ومن جملته آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فقال البراء ورسولك الذي أرسلت فأبدل لفظ النبي بلفظ الرسول فقال له صلى الله عليه وسلم: قال آمنت بنبيك الذي أرسلت، فأنكر عليه إبدال لفظ النبي بلفظ الرسول وهذا يدل على منع نقل الحديث بالمعنى قلنا قد أجيب عن هذا بأجوبة متعددة والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن وجه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على البراء إبدال النبي بالرسول إن لفظ الرسول لا يقوم مقام لفظ النبي في الحديث المذكور لتفاوت معنى الكلمتين فانك لو قلت ورسولك الذي أرسلت كان قولك الذي أرسلت لا حاجة له مع قولك ورسولك فهو تكرار ظاهر وتأكيد لا حاجة إليه بخلاف لفظ النبي فان النبي قد يكون غير مرسل فصرحي بأنه مرسل فيكون قوله الذي أرسلت تأسيساً لا تأكيداً ومعلوم أن التأكيد لا يساوي التأسيس وقد تقرر في الأصول أنه ان دار اللفظ بين التأكيد والتأسيس فحمله على التأسيس أرجح الا لدليل كما أوضحناه في كتابنا أضواء البيان في سورة النحل في الكلام على قوله: ((فلنحيينه حياة طيبة)) الآية. تنبيهات: - الأول: حكى قوم الإجماع على جواز نقل الحديث بالمعنى في الترجمة أعني إبدال اللفظ العربي بلفظ أعجمي لا فهام أهل ذلك اللسان الأعجمي , وحكى قوم الإجماع أيضاً على ابدال لفظ بمرادفه وأدخل ذلك في الخلاف قوم آخرون والفرق بين ابدال اللفظ بمرادفه وبين مسألة نقل الحديث بالمعنى ان ابدال اللفظ بمرادفه لا بد فيه من بقاء التركيب
(1/166)
الأول على حالته من غير تقديم ولا تأخير ولا إبدال فعل باسم مثلا ولا عكسه فلو فرضنا مثلا أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد أريقوا على بوله سجلا من ماء فقال الراوي أريقوا على بوله دلوا ملأى أو ذنوباً من ماء فهذا من إبدال لفظ بمرادفه لأنه لم يغير فيه شيئاً من تركيب الكلام وانما أبدل لفظ السجل بمرادفه وهو الذنوب أو الدلو الملئ ولو قال مثلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب دلو ملأى من الماء على بول الأعرابي فهذا من النقل بالمعنى لأنه غيره من تركيب إلى تركيب آخر يساويه في المعنى وبيان الفرق بين المسألتين يظهر أن المؤلف أدخل إحداهما في الأخرى في قوله فيبدل لفظاً مكان لفظ. التنبيه الثاني: - اعلم أن الخلاف في جواز نقل الحديث بالمعنى إنما هو في عير المتعبد بلفظه أما ما تعبد بلفظه كالأذان والإقامة والتشهد والتكبير في الصلاة ونحو ذلك فلا يجوز نقله بالمعنى لأنه متعبد بلفظه. وقال بعض أهل العلم وكذلك جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم فلا يجوز نقلها بالمعنى اذ لا يقدر غيره على الاتيان بمثلها , قال: ومثال ذلك قوله الخراج بالضمان البينة على المدعي العجمي جبار لا ضرر ولا ضرار. الآن حمي الوطيس ونحو ذلك. التنبيه الثالث: اختلف أهل العلم في الاحتجاج بألفاظ الحديث على مسائل اللغة العربية فقال قوم: لا يجوز لأن الغالب الرواية بالمعنى دون اللفظ وكثير من الرواة الذين يروون بالمعنى لا يحتج بهم في اللغة لأن أصلهم عجم أو عرب لا يحتج بقولهم واستدلوا لهذا بكثرة اختلاف ألفاظ الرواة في الواقعة الواحدة اذ ليس كل تلك الألفاظ المختلفة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وممن قال بهذا القول الدماميني زاعماً أن علماء
(1/167)
عصره كالبلقيني وابن خلدون وغيرهم وافقهوه في ذلك كما ذكره العبادي في الآيات البينات عن شهاب الدين عميرة وذهب آخرون إلى جواز الاحتجاج بألفاظ الحديث على اللغة العربية بناء على أن الأصل والغالب الرواية باللفظ قالوا ولا حجة على خلاف ذلك باختلاف الألفاظ في الواقعة الواحدة لجواز كونه صلى الله عليه وسلم حدث عن واقعة واحدة في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة فروى كل راو كما سمع وممن اشتهر بالاستدلال بلفظ الحديث على اللغة ابن مالك رحمه الله. قال مقيده عفا الله عنه: - الذي يظهر لي في هذه المسألة والله أعلم هو التفصيل فيها فما غلب على الظن أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كبعض الأحاديث التي اتفق فيها جميع الرواة أو معظمهم على لفظ واحد فانه حجة في اللغة وما غلب على الظن أنه من لفظ الراوي بالمعنى لا يحتج بقوله في العربية فلا يحتج بلفظه والعلم عند الله تعالى وأشار صاحب المراقي إلى ما في هذه المسألة من الأقوال بقوله: والنقل للحديث بالمعنى منع ... ومالك عنه الجواز قد سمع لعارف يفهم معناه جزم ... وغالب الظن لدى البعض انحتم والاستواء فى الخفاء والجلا ... لدى المجوزين حتماً حصلا وبعضهم منع فى القصار ... دون التى تطول لاضطرار وبالمراد يجوز قطعاً ... وبعضهم يحكون فيه المنعا وجوزت وفقاً بلفظ عجمى ... ونحوه الإبدال للمترجم
(1/168)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) مراسل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره أو عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي والا فلا لأنه قد يروي عمن تثبت لنا صحبته الخ ... حاصل ما ذكره في هذا الفصل ان مراسيل الصحابة لها حكم الوصل لأن الصحابي لا يروي غالباً إلا عن صحابي ولأن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من صغار الصحابة مع إكثارهم من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وكثير من روايتهم عن مراسيل وشذ قوم فخالفوا في ذلك الا إذا عرف عن الصحابي أنه لا يروى غالباً الا عن صحابي هذا خلاصة ما ذكره في هذا الفصل وقبول مرسل الصحابي هو الصواب والذي يظهر لي أن الصحابي لو علم أن أكثر روايته عن التابعين كمان مرسله كمرسل غيره , والله تعالى أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) فأما مراسيل غير الصحابة وهو أن يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره أو يقول قال أبو هريرة ولم يدركه ففيها روايتان إحداهما تقبل اختارها القاضي وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعة من
(1/169)
المتكلمين والأخرى لا تقبل وهو قول الشافعي وبعض أهل الحديث وأهل الظاهر الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن في قبول الحديث المرسل روايتين عن الإمام أحمد وان مذهب مالك وأبي حنيفة وممن ذكر معهم قبوله ومذهب الشافعي ومن ذكر معه عدم قبوله وحجة من قال بقبوله هي أن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بالخبر إلا وهو عالم بأن الواسطة التي حذف ثقة فحذفه لها مع الجزم بالخبر بمثابة قوله أخبرني فلان وهو ثقة لأن أخباره عنه صلى الله عليه وسلم بالجزم مع عدم عدالة الناقل الذي لم يذكره ينافي عدالته لما في ذلك من إحلال الحرام وتحريم الحلال والزام الناس بالعبادات بأمر مشكوك فيه وحجة من قال بعدم قبوله ن الواسطة المحذوفة في المرسل لا تعرف عينها ومن لا تعرف عينه لم تعرف عدالته ورواية مجهول العدالة مردودة كما تقدم ولأن شهادة الفرع لا تقبل على شاهد الأصل فكذلك الرواية وافتراق الشهادة والرواية في بعض الأحكام كما تقدم لا يستلزم افتراقهما في هذا المعنى كما أنهما لا فرق بينهما في عدم قبول رواية المجروح والمجهول هذا هو خلاصة ما ذكره في هذه المبحث وما أشار إليه هنا من الفوارق بين الشهادة والرواية في بعض الأحكام كما تقدم لا يستلزم افتراقهما في هذا المعنى كما أنهما لا فرق بينهما في عدم قبول رواية المجروح والمجهول هذا هو خلاصة ما ذكره في هذا المبحث وما أشار إليه هنا من الفوارق بين الشهادة والرواية تقدمت الإشارة إلى ما فيه كفاية منه. تنبيهات: - الأول: اعلم أن المرسل في اصطلاح أهل الأصول غير المرسل في الاصطلاح المشهور عند المحدثين. فضابط المرسل في الاصطلاح الأصولي هو ما عرف أنه سقطت من سنده طبقة من طبقات السند كما
(1/170)
مثل له المؤلف في هذا الفصل فالمرسل في اصطلاح أهل الأصول يشمل أنواع الانقطاع فيدخل فيه المنقطع والمعضل فمن قال من أهل الأصول بقبول المرسل فانه يقبل المنقطع والمعضل كما بينا والمرسل في الاصطلاح المشهور عند المحدثين هو قول التابعي مطلقاً أو التابعي الكبير خاصة قال صلى الله عليه وسلم وبعض أهل الحديث يطلق الإرسال على كال انقطاع كاصطلاح أهل الأصول. التنبيه الثاني: اعلم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلسين من باب أولى كما نبه عليه غير واحد. التنبيه الثالث: اعلم أن في المرسل لعلماء الأًصول ثلاثة مذاهب: الأول: انه مردود للجهل بالساقط فيه وعلى هذا جماهير أهل الحديث. الثاني: انه مقبول كما تقدم وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأحمد ولكنه يقدم عليه عند التعارض المسند لأنه أرجح منه. الثالث: قول جماعة ان المرسل يرجح على المسند عند التعارض لأن الراوي ما حذف الواسطة في المرسل الا لأنه جازم بعدالتها بخلاف المسند فقد يحيل فيه الناظر على تعديل الراوي ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول لأن من كانت عدالته معروفة لا شك أنه أولى ممن لم تعرف عدالته ولا عينه الا بحسن الظن بمن روى عنه أنه عالم بأنه عدل والا لم اجزم بالخبر. التنبيه الرابع: اعلم أن قول المؤلف فأما مراسيل الصحابة فيه بحث عربي وهو أن يقال الياء في المراسيل من أين جاءت والمفرد مرسل فالقياس مراسل كمساجد لعدم موجب للياء وأظهر ما يقال في ذلك عندي
(1/171)
أن إشباع الكسرة في بعض الكلمات أسلوب عربي معروف ومنه قول كعب بن زهير. أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل وقول الآخر وهو من أبيات كتاب سيبويه: تنفى يداها الحصى فى كل هاجرة ... نفسى الدراهيم تنقاد الصياريف فالدراهيم بالياء جمع درهم وأما على زعم من قال أنها جمع دراهم لغة في درهم فلا شاهد في البيت وأشار في المراقي إلى تعريف المرسل ومذاهب العلماء فيه بقوله: ومرسل قولة غير من صحب ... قال: إمام الأعجميين والعرب عند المحدثين قول التابعى ... أو الكبير قال خير شافع وهو حجة ولكن رجحا ... عليه مسند وعكس صحجا قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى كرفع اليدين في الصلاة ومس الذكر ونحوه في قول الجمهور. وقال أكثر الحنفية لا يقبل لأن ما تعم به البلوى كخروج النجاسة من السبيلين يوجد كثيراً وتنتقض به الطهارة ولا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يشيع حكمه اذ يؤدي إلى إخفاء الشريعة وابطال صلاة الخلق فتجب الإشاعة فيه ثم تتوفر الدواعي إلى نقله وكيف يخفي حكمه وتقف روايته على الواحد , الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن مذهب الجمهور هو قبول أخبار
(1/172)
الآحاد فيما تعم به البلوى أي فيما يعم التكليف به وان أكثر الحنفية خالف في ذلك قائلا ان ما تعم به البلوى تتوفر الدواعي إلى نقله فلا يقبل الا متواتراً وان الحق قبوله بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون خبر الواحد فيما تعم به البلوى كقبولهم خبر عائشة في وجوب الغسل من الجماع بدون انزال وخبر رافع بن خديح في المخابرة ولأن الراوي عدل جازم بالرواية وصدقة ممكن فلا يجوز تكذيبه مع إمكان صدقه ولأن ما تعم به البلوى يثبت بالقياس والخبر أولى من القياس لأنه أصل له ومقدم عليه وما ذكره الحنفية في توجيه عدم قبوله يبطل بالوتر والقهقهة وخروج النجاسة من غير السبيل وتثنية الإقامة فان كل ذلك مما تعم به البلوى وقد أثبتوه بخبر الواحد هذا خلاصة ما ذكره رحمه الله في هذا الفصل والمخابرة المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض مشتقة من الخبار كسحاب وهي الأرض الرخوة ذات الحجارة أو الخبراء وهي القاع ينبت السدر. وحديث رافع المذكور فيه النهي عن بعض أنواع المزارعة. كأن يشترط رب الأرض أن له مانبت في بقعة معينة من الأرض كالبقعة التي تلي مجرى السيل لأنه قد ينبت الزرع فيها دون غيرها كالعكس وغير ذلك مما هو مذكور في حديثه كاشتراط القصارة وما يسقى الربيع ونحو ذلك والقصارة ما بقي في السنبل من الحب بعدما يداس. قال مقيدة عفا الله عنه: - التحقيق هو قبول أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يقبلون أخبار الآحاد فيما يعم التكليف به كالصلاة والطهارة والصوم وغير ذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يبلغ الشاهد ويأمره بتبليغ الغائب.
(1/173)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويقبل خير الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات وحكى عن الكرخي أنه لا يقبل لأنه مظنون فيكون ذلك شبهة فلا يقبل لقوله عليه الصلاة والسلام ادرأوا الحدود بالشبهات الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن خبر الواحد يقبل فيما يسقط بالشبهة كالحدود وأن الكرخي خالف في ذلك زاعماً ان خبر الواحد انما يفيد الظن وعدم إفادته القطع شبهة فيدرأ بها الحد للحديث المذكور وهذا باطل لما قدمنا من أن أخبار الآحاد من جهة العمل بها قطعية فتثبت بها الحدود كسائر الأحكام ولأن الحدود تثبت بشهادة العدول وهي أخبار آحاد والمشهور جواز القياس في الحدود كما عقده في المراقي بقوله: والحد والكفارة والتقدير ... جوازه فيها هو المشهور والضمير في جوازه راجع إلى القياس واذ جاز فيها القياس فخبر الواحد أولى منه كما تقدم وحديث ادرأوا الحدود بالشبهات الذي استدل به المؤلف كل طرقة ضعيفة والمعروف أنه من قول عمر بمعناه لا بلفظه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس وحكي عن مالك أن القياس
(1/174)
يقدم عليه. وقال أبو حنيفة اذا خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به , الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن خبر الواح يقبل فيما يخالف القياس وان مالكاً حكى عنه تقديم القياس على خبر الآحاد وان أبا حنيفة لا يقبل خبر الواحد اذا خالف الأصول أو معنى الأصول واستدل المؤلف لقبوله بحديث معاذ فانه قدم الكتاب والسنة على الاجتهاد وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وبأن الصحابة كانوا لا يستعملون القياس الا عند عدم النص. ومن ذلك رجوع عمر إلى حديث حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين وكان يفاضل بين ديات الأصابع ويقسمها على منافعها فرجع عن ذلك لحديث في كل أصبع عشر من الإبل وهو آحاد ولأن الحديث من كلام المعصوم والقياس استنباط وكلام المعصوم أولى من الاستنباط لأنه أبلغ منه , واحتج المؤلف على أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله بأنهم أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر وأبطلوا الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها وحكموا في الأمة بخلاف القياس وهو مخالف للأصول. هذا هو خلاصة ما ذكره في هذا الفصل وقوله في هذا الفصل وحكى عن مالك أن القياس يقدم عليه هذا الذي ذكر عن مالك بصيغة حكى هو المقرر في أصول الفقه المالكي وعقده في
(1/175)
المراقي بقوله في أول كتاب القياس: والحامل المطلق والمقيد ... وهو قبل ما رواه الواحد يعني أن القياس مقدم عند مالك على خبر الواحد لكن فروع مذهبه تقتضي خلاف هذا وأنه يقدم خبر الواحد على القياس كتقديمه خبر صاع التمر في المصراة على القياس الذي هو رد مثل اللبن المحلوب من المصراة لأن القياس ضمان المثلى بمثله وهذا هو الذي يدل عليه استقراء مذهبه مع أن المقرر في أصوله أيضاً ان كال قياس خالف نصاً من كتاب أو سنة فهو باطل بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول فساد الاعتبار وعقدة في المراقي بقوله في القوادح: والخلف للنص أو إجماع دعا ... فساد الاعتبار كل من وعى وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه لان القياس لا يجوز مع وجود النص من النبي صلى الله عليه وسلم قال مقيدة عفا الله عنه: قدم مالك وغيره من العلماء الخبر على نوع القياس المسمى عند الشافعي بالقياس في معنى الأصل وهو المعروف بتنقيح المناط. وهو مفهوم الموافقة في صورة لا يكاد العقل السليم يستسيغ فيها تقديم الخبر على القياس المذكور وقد بينا في كتابنا أضواء البيان في سورة بني إسرائيل ان ذلك لا يمكن فيما يظهر لنا كما أنكره ربيعة ابن ابي عبد الرحمن وذلك هو ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن انه قال لسعيد بن المسيب كم في اصبع المرأة قال عشر من الإبل قلت فكم في إصبعين قال عشرون من الإبل قلت فكم في ثلاثة أصابع قال ثلاثون من الإبل قلت فكم في أربعة أصابع قال عشرون من الإبل قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال سعيد أعراقي أنت قلت بل عالم نتثبت أو جاهل متعلم قال هي السنة يا ابن أخي فكون عقل ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثين من الابل وعقل أربعة أصابع من اصابعها عشرين من الإبل ينافي ما علم من حكمة الشرع الكريم ووضعه الأمور في مواضعها وايقاعها في مواقعها كما بيناه في كتابنا المذكور وتكلمنا على سند الحديث المقتضي لذلك وعلى المراد بالسنة في قول سعيد بن المسيب هي السنة يا ابن أخي وبالجملة فلزوم ثلاثين من الإبل في ثلاثة أصابع يقتضي بقياس التنقيح الاحروى المعروف بالقياس في معنى الأصل. ان أربعة أصابع لا يمكن أن تقل ديتها عن ذلك لانها مشتملة على الثلاثة وزيادة اصبح وحديث معاذ الذي استدل به المؤلف ضعفه غير واحد والمناقشة في
(1/176)
تضعيفه وتصحيحه كثيرة معروفة ومن انتصر لتضعيفه ابن حزم وغيره وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره بعد أن ساق حديث معاذ المذكور بصيغة الجزم بقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه الي اليمن فبم تحكم إلى قوله الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نصه وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه وقال ابن قدامة في روضة الناظر في كتاب القياس بعد أن ساق حديث معاذ المذكور ما نصه قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمر عن رجال من أهل حمص والحارث والرجال مجهولون إلى أن قال قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول فلا يضره كونه مرسلا. اهـ. وقد أوضحنا الكلام على وجه الاحتجاج بالحديث المذكور وبطلان الطريق التي أشار لها عن عبادة بن نسي في كتابنا أضواء البيان في سورة الأنبياء وسرة بني إسرائيل وما استشهد به المؤلف رحمه الله من رجوع عمر إلى الحديث حمل بن مالك في دية الجنين كان الأولى له ان يستدل لذلك برجوع عمر في دية الجنين إلى قول المغيرة بن شعبة ومحمد ابن مسلمة لأن رجوعه لحديثهما في ذلك متفق عليها. (تنبيه) فان قيل ما الفرق بين مخالفة الأصول أو معنى الأصول. فالظاهر في الجواب ان مخالفة القياس أخص من مخالفة الأصول لان القياس أصل من الاصول فكل قياس أصل وليس كل أصل قياسا فما خالف القياس خالف أصلا خاصا وما خالف الأصول يصدق بما خالف قياسا أو نصا
(1/177)
أو إجماعا أو استصحابا أو غير ذلك فوجوب الوضوء بالنوم مثلا موافق للقياس من حيث انه تعليق حكم بمنطقه كسائر الأحكام المعلقة بمظانها مع أنه مخالف لبعض الأصول وهو استصحاب العدم الأصلي في ذلك والمراد بمعنى الأصل في الاصطلاح نفي الفارق كما عقده في المراقي بقوله: ومن أمثلة ذلك ما قدمنا من كون ثلاثة أصابع من أصابع المرأة فيهما ثلاثون من الإبل وأربعة أصابع من أصابعها فيها عشرون لان نفي الفارق المؤثر في نقص الأصابع المذكورة محقق يقينا وانما الفارق بينهما فارق مستوجب للزيادة لان الأربعة مشتملة على الثلاثة مع زيادة إصبع كما ترى.
(1/178)
الأصل الثالث: الإجماع ومعنى الإجماع للغة الاتفاق يقال: اجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه ويطلق على العزم المصمم ومنه قوله تعالى: ((فأجمعوا أمركم)) . وفي الشرع عرفة المؤلف بأنه اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين وبقي عليه شرط وهو كون ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لانه في حياته لا غبرة بقول غيره. واختار المؤلف ان وجود الإجماع ممكن متصور خلافاً لمن قال لا يمكن بعد الصحابة لكثرة العلماء وانتشارهم في أقطار الدنيا وعد القدرة على معرفة أقوال الكل واحتج المؤلف لامكانه وتصوره بأننا نعلم إجماع المسلمين كلهم على وجوب الصلاة مثلا وبأن العلماء مشهورون في نواحي الدنيا فلا يمتنع معرفتهم ومعرفة أقوالهم في المسألة بأخبار أو مشافهة. وذكر أن الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور خلافاً للنظام في قوله ليس بحجة. واعلم ان الإجماع الذي هو حجة قاطعة عند الأصوليين هو القطعي لا الظني. والقطعي هو القولي المشاهد أو المنقول بعدد التواتر والظني كالسكوتي والمنقول بالآحاد. واستدل المؤلف لحجية الإجماع بدليلين: الأول الكتاب وهو قوله تعالى ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ... )) الآية. لأن فيها التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين وسبيلهم هو ما أجمعوا عليه وفي الاستدلال عليه بهذه
(1/179)
الآية بحوث ومناقشات. والثاني من السنة كقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تجتمع أمتي على ضلالة.)) وكقوله ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق..)) وأحاديث الحض على الجماعة وعدم الشذوذ عنها ونحو ذلك وذكر المؤلف أن الصحابة كانوا يستدلون بمثل تلك الأحاديث على حجية الإجماع من غير نكير إلى زمن النظام. (فصل) لا يشترط في أهل الجماع أن يبلغوا عدد التواتر لأن الحجة في قولهم لصيانة علماء الأمة عن الخطأ بالأدلة المتقدمة وان لم يوجد من علمائها غيرهم فهم على الحق وان لم يبلغوا عدد التواتر صيانة لهم عن الخطأ. (فصل) ولا خلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في الإجماع وأنه لا يعتد فيه بقول الصبيان والمجانين وأما العوام فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين وقال قوم يعتبر قولهم لدخولهم في اسم المؤمنين ولفظ الأمة: وهذا القول يقتضي إبطال الإجماع إذ يستحيل معرفة أقوال الأمة جميعها في مسألة واحدة والحق أن العوام لا عبرة بهم لجهلهم. (فصل) ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في الأحكام الشرعية كعلم الكلام
(1/180)
واللغة والنحو والحساب لا عبرة به في الإجماع لأنه بالنسبة إلى الأحكام الشرعية عامي. فأما الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع, والفقيه الحافظ لأحكام الفروع من غير معرفة الأصول والنحوي اذا كان الكلام في مسألة تبني على النحو فلا يعتبر بقولهم أيضاَ خلافاً لقوم هكذا ذكره المؤلف مع أن أكثر الشافعية والمالكية يعتبرون الأصولي وان لم يحفظ تفاصيل الفروع لأن فيه قوة قابلة لمعرفتها من الأصول. (فصل) ولا يعتبر في الإجماع بقول كافر سواء كان بتأويل أو غيره. فأما الفاسق باعتقاد أو قول او فعل فقال القاضي لا يعتد به وهو قول جماعة لقوله تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)) أي عدولا وهو ليس بعدلا ولأنه لا يقبل منفرداً فلا يقبل مع غيره. وقال أبو الخاب يعتبر قول الفاسق لدخوله في عموم الأمة والمؤمنين في الأدلة المتقدمة. (مسألة) اذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة اعتد به في الإجماع عند الجمهور وأختاره أبو الخطاب وقال القاضي وبعض الشافعية لا يعتد به وأومأ أحمد رحمه الله إلى القولين ووجه الاعتداء به وهو الحق عند الجمهور: انه مجتهد من علماء الأمة فلا وجه لإلغائه ووجه إلغائه أن الصحابة لما شاهدوا التنزيل وكانوا أعلم بالتأويل كان غيرهم من العلماء بالنسبة إليهم كالعامي بالنسبة إلى العلماء فإن انعقد إجماع الصحابة قبل
(1/181)
بلوغ التابعي رتبة الاجتهاد فلا عبرة بقوله لانه مسبوق بالإجماع. (فصل) ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول الجمهور وقال ابن جرير الطبري وأبو بكر الراوي لا عبرة بمخالفة الواحد أو الاثنين فلا تقدح مخالفتهما في الإجماع وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله وحجه الجمهور أن العبرة بقول علماء جميع الأمة لان العصمة انما هي للكل لا البعض وحجة الآخر اعتبار الأكثر والغاء الأقل. قال في المراقي: والك واجب وقبل لا يضر ... لاثنان دون من عليهما (فصل) واجماع أهل المدينة ليس بحجة وقال ما لك هو حجة أما حجة الجمهور على أنه غير حجة فواضحة لانهم بعض الأمة والمعتبر إجماع الأمة كلها. وأما حجة ما لك فالتحقيق أنها ناهضة أيضاً لان الصحيح عنه أن إجماع أهل المدينة المعتبر له شرطان. أحدهما أن يكون فيمالا مجال للرأي فيه. الثاني أن يكون من الصحابة التابعين لا غير ذلك لان قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع فألحق بهم مالك التابعين م أهل المدينة فيما فيه اجتهاد لتعلمهم ذلك عن الصحابة. أما
(1/182)
في مسائل الاجتهاد فأهل المدينة عند مالك فالصحيح عنه كغيرهم من الأمة وحكي عنه الإطلاق وعلى القول بالإطلاق يتوجه عليه اعتراض المؤلف بأنهم بعض من الأمة كغيرهم وإلى ما ذكرنا عن مالك أشار في المراقي قال: وأوجين حجية للمدنى ... فيما على التويف أمره بنى وقيل مطلقاً وما أجمعا ... عليه أهل البيت مما منعا ومعناه عند مالك إنفاق الصحابة والتابعين الذين في المدينة واتفاق الخلفاء ... الخ. (فصل) واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع عند الجمهور والصحيح أنه حجه وليس بإجماع لأن الإجماع لا يكون الا من الجميع. فالجماع إنما يكون من الكل.. الخ. الإجماع إنما يكون من الكل. وقيل إجماع وقيل حجة لا إجماع وهو أظهرها وما نقل عن أحمد رحمه الله من أنه لا يخرج عن قولهم إلى قول غيرهم لا يدل على أن قولهم إجماع لان الدليل قد يكون حجة وليس إجماعا. (مسألة) ظاهر كلام أحمد رحمه الله أن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع وهو قول بعض الشافعية وقد أومأ إلى أن ذلك ليس بشرط بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة واحدة انعقد الإجماع وهو قول الجمهور واختاره أبو الخطاب - ووجه هذا القول أن حقيقة الإجماع
(1/183)
المعصوم تحصل باتفاقهم ولو في لحظة واحدة والنصوص الدالة على حجة الإجماع ليس فيها القيد بانقراض العصر ولأنه يؤدي إلى تعذر الإجماع لأنه لا يكاد عصر ينقرض حتى يحدث من أولاده من يكون من علماء العصر فيتسلسل. ووجه اشتراطه احتمال رجوع البعض عن اجتهاده فيؤول الأمر إلى الخلاف - وقد ذكر الإمام أحمد أن أم الولد كان حكمها حكم المة بإجماع ثم أعتقهن عمر وخالفه علي بعد موته. وحد الخمر كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه أربعين ثم جلد عمر ثمانين ثم جلد علي أربعين ولولا اشتراط انقراض العصر لما جاز ذلك. وأشار في المراقي إلى أن مذهب الأكثر عدم اشتراط انقراض العصر بقوله: - (مسألة) إجماع أهل كل عصر حجة كإجماع الصحابة خلافاً لداود فعنده إجماع الصحابة لا غير هو المعتبر وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى ذلك وحاصل ما ذكره المؤلف في هذا المبحث ان الإجماع من الأمة معتبر في كل عصر فالماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر. وكلية الأمة حاصلة بالموجودين في كل عصر وخالف الظاهرية في إجماع غير الصحابة وأومأ إليه أحمد ويعتبر في الإجماع الغائب لا الميت. (فصل) إذا اختلف الصحابة على قولين فأجمع التابعون على أحدهما فقال أبو الخطاب والحنفية يكون إجماعا لانه اتفاق من جميع أهل العصر. وقال
(1/184)
القاضي وبعض الشافعية لا يكون إجماعا لان الذين ماتوا هو مخالفون لا يسقط قولهم بموتهم أما إذا اختلف الصحابة ثم اتفقوا بعد الاختلاف كاختلافهم في أمانة أبي بكر ثم اتفاقهم عليها بأن رجع بعضهم إلى قول الآخرين فهو إجماع منهم كما هو الحق وخالف فيه الصيرفي من الشافعية. والعم ان غير الصحابة من أهل كمل عصر كذلك عند الجمهور فاذا اختلفوا ثم اتفقوا كان اجماعاً واذا اتفق من بعدهم على أحد قوليهم ففيه الخلاف المذكور والراجح أنه اجماع. (فصل) إذا اختلف الصحابة إلى قولين لم يجز إحداث ثالث مخالف لقوليهما في قول الجمهور وقال بعض الحنفية والظاهرية يجوز فحجة الأول أن اختلافهم إلى القولين في قوة الإجماع على بطلان ما سواهما وحجة الثاني أنهم خاضوا في المسألة خوض مجتهدين ولم يحرموا ولم يصرحوا تحريم قول ثالث وأن الصحابة لو عللوا بعلة أو استدلوا بدليل فلمن بعدهم التعليل ولاستدلال بغير ذل كلأنهم لم يصرحوا ببطلان ذلك وأنهم لو اختلفوا في مسألتين فذهب بعضهم إلى الجواز فيهما وذهب الآخرون إلى المنع فيهما فذهب التابعي إلى التجويز في إحداهما والمنع في الأخرى كان له ذلك - مثال أحداث الثالث المخالف ما حكاه ابن حزم من أن الأخ يحجب الجد لأن الصحابة اختلفوا فيذلك إلى قولين فمن قائل أن الجد أب يحجب الأخ ومن قائل يرثان معا فكان اجماعا على أنه للجد نصيب فالقول بحجب الأخ له: حرق لاجماعهم بأحداث هذا الثالث. قال مقيدة عفي الله عنه: حاصل تحرير هذه المسألة عند الأصوليين انهم اختلفوا في أحداث القول الثالث فقال بعضهم لا يكون الا خارقا للإجماع
(1/185)
فهو ممنوع مطلقاً ومثاله ما ذكرناه عن ابن حزم وقال بعضهم هو قد يكون خارقاً فيمتنع وغير خارق فيجوز مثال الخارق: الجد والاخوة وقد تقدم. ومثال غير الخارق ما لو فرضنا أنه تقدم القولان في متروك التسمية لكونه يؤكل عند البعض مطلقا وممنوعا عند بعض مطلقاً فعلى قول القائل بأنه يؤكل في تركها نسيانا لا عمداً لأنه وافق بعضاً في كل منهما ولم يخالفهم جميعاً لأنه في حالة النسيان وافق القائل بالإجابة وفي حالة العمد وافق القائل بالمنع ومن أمثلة اختلاف العلماء في فسخ النكاح بعيوب الزوجين المعروفة فمن قائل يفسخ بكلها ومن قائل لا يفسخ بشيء منها فلو أحدث قول ثالث بالفسخ ببعضها دون البعض لم يكن خارقاً لموافقته لكل مذهب في البعض (1) . (تنبيه) إحداث التفصيل جعله قوم داخلا في إحداث القول الثالث وقال قوم ليس داخلا فيه وهو ممنوع أيضاً ان كان التفصيل خارقاً للإجماع ومثاله اختلاف العلماء في توريث العمة والخالة فمن قائل لا ترثان ومن قائل ترثان فلو أحدث التفصيل بإرث العمة دون الخالة أو العكس كمان باطلا لانه خارق لاجماعهم على أنهما سواء لأنهم لو قالوا في المسألتين انهما سواء امتنع التفصيل بينهما قولا واحدا واعلم أن الأصوليين اختلفوا في _________ (1) بيان وجه موافقة المذهب الثالث هنا انه لو كانت العيوب مثلا خمسة كالفتق والعفل والجب والجذام والبرص فقال صاحب المذهب الثالث بجواز الفسخ بالثلاثة الأولى فقط التي هي عيوب العرج ومنع في الاثنين الباقيتين لكان موافقا للمذهبين في البعض حيث وافق من يقول بالفسخ بجميعها في ثلاثة منها فقط , ووافق من يقول بالمنع منها كلها في اثنين فقط.
(1/186)
انقسام الأمة إلى قسمين في مسألتين وكلاهما مخطئ في إحداهما وحاصل تحرير هذا المقام ان له ثلاث حالات اثنتان يتفق عليها وواحدة هي المختلف فيها فالمتفق عليها: 1- اتفاقهم على الخطأ في المسألة الواحدة من الوجه الواحد فهذا لا يجوز إجماعا. 2- اتفاقهم على الخطأ في مسألتين متباينتين كخطأ بعضهم في مسألة من الجنايات وخطأ البعض الآخر في مسألة من العبادات فهذا يجوز إجماعا. ومحل الخلاف 3- المسألة الواحدة ذات الوجهين نحو المانع من الميراث فانه جنس واحد الا أنه ينقسم إلى نوعين مثلا قتل ورق فهم يجوز أن يقول بعضهم القاتل يرث والعبد لا يرث ويقول البعض الآخر بعكس ذلك فيخطئ كل منهما فيما أصاب فيه الآخر فقيل هذا لا يمتنع لان الأمة لم تجتمع على خطأ في شيء معين واحد وقيل يمتنع نظراً إلى خطأ المجموع في الجملة (وهذه المسألة هي محل الخلاف) . (فصل) الإجماع السكوتي إذا قام بعض الصحابة قولا في تكليف فانتشر في بقية الصحابة فسكتوا ففي ذلك ثلاثة أقوال والحق انه إجماع سكوتي ظني: انه إجماع وروى عن أحمد ما يدل عليه وبه قال أكثر الشافعية أي والمالكية تنزيلا للسكوت منزلة الرضا والموافقة. ويشترط في ذلك ألا يعلم
(1/187)
أن الساكت ساخط غير راض بذلك القول وأن تمضي مهلة تسع النظر في ذلك القول بعد سماعه 2- انه حجة لا جماع 3 - ليس بحجة ولا إجماع لان الساكت قد يسكت وهو غير راض ولذلك أسباب متعددة كاعتقاده أن كل مجتهد مصيب أو انه لا إنكار في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك وتحرير هذه المسألة أن لها ثلاث حالات: 1- أن يعلم من قرينه حال الساكت انه راض بذلك فهو إجماع قولا واحدا. 2- أن يعلم من قرينته أنه ساخط غير راض فليس بإجماع قولا واحدا. 3- ألا يعلم منه رضي ولا سخط ففيه الأقوال الثلاثة المتقدمة ومذهب الجمهور انه إجماع سكوتي وهو ظني كما تقدم. (مسألة) أعلم أن الأصوليين اختلفوا في مستند الإجماع هل يصح أن يكون عن اجتهاد وقياس على ثلاثة أقوال: الأول: أحدهما انه لا يتصور الثاني: انه يتصور وليس بحجة الثالث: وعليه الأكثر انه جائز وواقع وهو اختيار المؤلف ومثل وله بعضهم بالإجماع على تحريم شحم الخنزير قياساً على لحمه ومن أمثلة الإجماع على تحريم القضاء في حالة الجوع والعطش المفرطين ونحو ذلك كالحقن والحقب من مشوشات الفكر قياسا على الغضب المنصوص عليه
(1/188)
في الحديث المتفق عليه ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)) (فصل) الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. (فصل) الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع كالاختلاف في دية الكتابي فقيل كدية المسلم وقيل نصفها وقيل ثلثها فالتمسك بالثلث ليس بالإجماع وأظهر دليل على ذلك جواز مخالفته , هـ.
(1/189)
((الأصل الرابع الاستصحاب)) استصحاب الحال ودليل العقل اعلم أن الاستصحاب ثلاثة أقسام اثنان مقبولان عند الجمهور وواحد مردود عندهم. 1- استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه , لأن العقل يدل على براءة الذمة حتى يقوم الدليل كعدم وجوب صيام صفر مثلا لان الأصل براءة الذمة منه , فيستصحب الحال في ذلك وهذا النوع هو الذي ينصرف إليه اسم الاستصحاب وهو المعروف بالبراءة الأصلية والإباحة العقلية. وهذا النوع قد دل القرآن على اعتباره في آيات كثيرة كقوله تعالى: ((فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ... )) الآية. وقوله: ((وما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى بين لهم ما يتقون)) ووجه الدلالة في الآية الأولى انه لما نزل تحريم الربا خافوا من الأموال المكتسبة من الربا قبل التحريم. فبينت الآية ما اكتسبوا من الربا قبل التحريم على البراءة الأصلية حلال لهم ولا حرج عليهم فيه. ووجه دلالة الآية الثانية: ان النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب واستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين وأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ندموا على استغفارهم للمشركين بينت الآية أن استغفارهم لهم قبل التحريم على البراءة الأصلية لا اثم عليهم فيه ولا حرج حتى بين لهم الله ما يتقونه كالاستغفار لهم مثلا.
(1/190)
2- استصحاب دليل الشرع كاستصحاب النص حتى يرد الناسخ , والعموم حتى يرد المخصص , ودوام الملك حتى يثبت انتقاله ودوام شغل الذمة الثابت حتى تثبت براءتها ونحو ذلك. 3- وهو المردود عند الجمهور هو استصحاب حال الإجماع في محل النزاع واعتبره بعضهم واختاره أو أساق بن شاقلا ومثاله: أن يقول في المتيمم إذا رأي الماء في أثناء الصلاة فالإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامه فيها فنحن نستصحب ذلك إلى ورود الدليل الصارف عنه وهذا غير صحيح لان الإجماع إنما دل على الدوام فيها حال عدم الماء ... أما مع وجوده فلا إجماع حتى يقال باستصحابه. (فصل) اعلم بأنه من نفى حكماً بأن الأمر الفلاني ليس بكذا اختلف فيه , هل يكفيه مجرد النفي بناء على انه الأصل حتى يرد دليل الوجوب أو يكلف بالدليل على ما ادعاه من النفي وهذا الأخير هو مذهب الجمهور وهو الحق واختاره المؤلف واستدل له بقوله تعالى: ((وقالوا لن يدخل ... هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين)) .
(1/191)
الأصول المختلف فيها قال المؤلف رحمه الله تعالى: - هذا بيان أصول مختلف فيها وهي أربعة: الأول: شرع من قبلنا اذا لم يصرح شرعنا بنسخة هل هو شرع لنا وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً قبل البعثة باتباع شريعة من قبلة؟ فيه روايتان: إحداهما: أنه شرع لنا: اختارها التميمي وهو قول الحنفية. الثانية: ليس شرع لنا , وعن الشافعي كالمذهبين. اعلم أولا أن كونه صلى الله عليه وسلم متعبداً بعد البعثة بشرع من قبلنا أو غير متعبد به متفرع على الاختلاف في شرع من قبلنا. فعلى أنه شرع لنا بعد وروده في شرعنا فهو متعبد وعلى العكس فلا. وحاصل ما ذكره المؤلف في هذا الأصل أن فيه قولين ورجح أنه شرع لنا ان ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ولم ينسخ في شرعنا. وهو مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة. ومشهور مذهب الشافعي: أنه ليس شرعاً لنا. وحاصل تحرير هذه المسألة أن لها واسطة وطرفين , طرف يكون فيه شرعاً إجماعا , وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا وواسطة هي محل الخلاف المذكور , أما الطرف الذي يكون فيه شرعاً لنا إجماعا فهو ما ثبت بشرعنا
(1/192)
أنه كان شرعاً لمن قبلنا ثم ثبت بشرعنا انه شرع لن كالقصاص فانه ثبت بشرعنا أنه كان لمن قبلنا في قوله تعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)) الآية. ثم صرح لنا في شرعنا بأنه شرع لنا في قوله تعالى: ((كتب عليكم القصاص في القتلى)) الآية. وأما الطرف الثاني: الذي يكون فيه غير شرع لنا إجماعا فهو أمران: أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلا كالمأخوذ من الإسرائيليات. الثاني: ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لهم وصرح في شرعنا بنسخة كالأصر والأغلال التي كانت عليهم كما في قوله تعالى: ((ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم)) . وقد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ((ربنا ولا تحمل علينا اصراً كما حملته على الذين من قبلنا)) قال الله: قد فعلت. والواسطة: هي ما ثبت بشرعنا أنه شرع لمن قبلنا ولم يصرح بنسخة في شرعنا. وحجة الجمهور أنه ما ذكر لنا في شرعنا الا لنعمل به سواء علينا أكان شرعاً لمن قبلنا أم لا , وقد دلت على ذلك آيات كثيرة كتوبيخه تعالى لمن لم يعقل وقائع الأمم الماضية كما في قوله تعالى: ((وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا يعقلون)) . وقد صرح تعالى بأن الحكمة في قص أخبارهم إنما هي الاعتبار بأحوالهم في قوله تعالى: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) وقال تعالى: ((أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده)) .
(1/193)
وحجة الشافعي رحمه الله قوله تعالى: ((لكل جعنا منكم شرعة ومنهاجاً)) وحمل رحمه الله الهدى في قوله تعالى: ((فبهداهم اقتده)) والدين في قوله تعالى: ((شرع لكم من الدين)) الآية. على خصوص التوحيد دون فروعه العملية. وقال: ان الخطاب الخاص صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: ((فبهداهم اقتده)) لا يشمل حكمه الأمة ألا بدليل منفصل لأنه لا يشملها في الوضع اللغوي فإدخالها فيه صرف للفظ اللغوي عن ظاهره فيحتاج إلى دليل. وأجيب عن الاستدلال الشافعي بان النصوص دالة على شمول الهدى والدين في الآيتين للأمور العملية. أما في الأولى: فقد روى البخاري في صحيحه عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص) فقال: أو ما تقرأ: ((ومن ذريته داوود أولئك الذين هذى الله فبهداهم اقتده)) فسجدها داوود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تصريح صحيح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قد أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله تعالى: ((فبهداهم اقتده)) وسجود التلاوة من الفروع العملية لا من الأصول. وأما الدين في قوله تعالى: ((شرع لكم من الدين)) الآية. فقد دل الكتاب والسنة على شموله أيضا ً للأمور العملية فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) يعني الإسلام والإيمان والإحسان مع أنه
(1/194)
فسر الإسلام فيه بأنه يشمل الأمور العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج. وفي حديث ابن عمر المتفق عليه ((بني الإسلام على خمس: الحديث , ومعلوم أن الصلاة والزكاة والصوم والحج أمور عملية لا عقائد)) وقد قال تعالى: ((إن الدين عند الله الإسلام)) وقال: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)) الآية. فدل على أن الدين يشمل الأمور العملية كتاباً وسنة. وبأن الأدلة دلت على أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة حكمه لا لفظه الا بدليل على الخصوص كقوله: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) وقد علمنا من استقرار القرآن أن يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بخطاب لفظه خاص والمقصود منه تعميم الحكم. فمن ذلك قوله تعالى: ((يا أيها النبي)) ثم قال: ((اذا طلقتم النساء)) الآية. فأفهم شموله حكم الخطاب للجميع. وقال: ((يا أيها النبي لا تحرم)) ثم قال: ((قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)) وقال: ((يا أيها النبي اتق الله)) ثم قال: ((ان الله كان بما تعملون خبيرا)) . وقال: ((وما تكون في شأن)) ثم قال: ((وما تعملون من عمل)) الآية. فدل التعميم بعد الخطاب الخاص به في الآية المذكورة على عموم حكم الخطاب الخاص به , وقال تعالى: ((فأقم وجهك للدين حنيفا)) ثم قال: ((منيبين إليه واتقوه)) فهو حال الضمير المستتر في ((فأقم)) وهو خاص به صلى الله عليه وعلى آله
(1/195)
وسلم , وتقديره ((فأقم وجهك للدين يا نبي الله في حال كونكم منيبين)) فلو لم يشمل الأمة حكماً لقال ((منيبا)) بالإفراد لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية لا بد من مطابقتها لصاحبها إفراداً وتثنية وجمعاً وتذكيراً وتأنيثاً , فلا يجوز جاء زيد ضاحكين اجماعاً , ودعوى أن العامل في الحال ألزموا مقدراً وصاحبها الواو في ألزموا , أي ألزموا فطرة الله في حال كونكم منيبين تقدير لا دليل عليه ولا حاجة إليه. وقال تعالى: ((فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها)) ثم قال: ((لكي لا يكون على المؤمنين حرج)) الآية. وقال تعالى: ((خالصة لك من دون المؤمنين)) مع أن الكلام خاص به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ((وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي)) الآية. فلو كان حكمه خاصاً به لأغنى ذلك عن قوله ((خالصة لك من دون المؤمنين)) . وبأن قوله: ((لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)) معناه أن بعض الشرائع ينسنح فيه بعض ما كان في منها ويزداد فيها أحكام لم تكن مشروعة من قبل , وبهذا الاعتبار يكون لكل شرعة ومنهاج من غير مخالفة لما ذكرنا. قال صاحب المراقي في هذه المسألة: ولم يكن مكلفا بشرع ... صلى عليه الله قبل الوضع وهو والأمة بعد كلفا ... إلا إذا التكليف بالنص انتفى وقيل: لا والخلف فيما شرعا ... ولم يكن داع إليه سمعاً
(1/196)
(قول الصحابي) الأصل الثاني المختلف فيه: قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - قول الصحابي: ليس بحجة على صاحبي آخر. وخلاصة كلام المؤلف في قول الصحابي أنه ذكر فيه أربعة أقوال: 1- انه حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وعزاه مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية واستدل بحديث (أصحابي كالنجوم) الحديث. 2- ليس بحجة وعزاه لعامة المتكلمين والشافعي في الجديد واختار أبي الخطاب واستدل له بامكان الغلط والخطأ من الصحابة وبأنه يجوز عليهم الاختلاف ولم تثبت عصمتهم. 3- قول الخلفاء الراشدين دون غيرهم واستدل له بحديث: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) الحديث. 4- قول أبي بكر وعمر واستدل له بحديث اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر , ويظهر من الثالث والرابع أنه ولو هناك مخالف. هذه خلاصة كلامه رحمه الله في هذا المبحث.
(1/197)
قال مقيدة عفا الله عنه: - حاصل تحرير هذه المسألة: أن قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان: الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه. الثانية: أن يكون مما له فيه مجال. فان كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع كما تقرر في علم الحديث , فيقدم على القياس ويخص به النص , إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات وان كان مما للرأي فيه مجال , فان انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف فهو الإجماع السكوتي وهو حجة عند الأكثر وان علم له مخالف من الصحابة فلا يجوز العمل بقول أحدهم إلا بترجيح بالنظر في الأدلة كما ذكره المؤلف في الفصل الذي بعد هذا. وان لم ينتشر فقيل: حجة على التابعي ومن بعده لأن الصحابي حضر التنزيل فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال , وقيل ليس بحجة على المجتهد التابعي مثلا لأن كليهما مجتهد يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب. والأول أظهر. وعن أحمد لا يخرج عن قول الخلفاء الأربعة , فقولهم عنده حجة وليس بإجماع , وحديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين: أخرجه الترمذي وغيره , أبو داوود. وقال المحلي: ان الترمذي صححه , وهو كذلك. وحديث اقتدوا باللذين من بعدي أخرجه الترمذي وغيره وقال صاحب الضياء اللامع عن ولي الدين أنه صححه ابن حبان والحاكم وقال المحلي ان الترمذي حسنه. وحديث: أصحابي كالنجوم. الحديث. ضعيف لا يحتج به.
(1/198)
(تنبيه) قول الصحابي: الذي ليس له حكم الرفع ليس بحجة على مجتهد آخر من الصحابة اجماعاً , واعلم أن الذين قالوا: ان قول الخلفاء الأربعة وقول أبي بكر وعمر كغيرهم من الصحابة قالوا: إن المراد بالأمر بالاقتداء بهم هو المقلد. وأما المجتهد العارف بالدليل فليس بمأمور بترك الدليل الظاهر له لي قول غيره. واعلم أن التحقيق أنه لا يخصص النص بقول الصحابي إلا إذا كان له حكم الرفع لأن النصوص لا تخصص باجتهاد أحد لأنها حجة على كل من خالفها. وأشار صاحب المراقي إلى مسألة قول الصحابي بقوله: رأى الصحابى على الأصحاب لا ... يكون حجة بوفق من خلا فى غيره، ثالثها إنتشر ... وما مخالف له قط ظهر الاستحسان الأصل الثالث المختلف فيه: الاستحسان. قال المؤلف: الاستحسان , ولا بد أولا من فهمه وله ثلاثة معان: أحدهما: أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. قال القاضي يعقوب: القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله.
(1/199)
وهذا التعريف للاستحسان هو الصحيح عند المؤلف ولذا رد التعريفين الآخرين. الثاني: أن المراد به ما يستحسنه المجتهد بعقله. الثالث: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه. وبطلان هذه التعريفين ظاهر لأن المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شئ , وما لم يعبر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويعرض على الشرع. ومثال الاستحسان على معنه الذي ارتضاه المؤلف: ما لو باع رجل سلعة بثمن لأجل ثم اشتراها بائعها بعينها قبل قبض ثمنها بأكثر من الثمن الأول لأبعد من الأجل الأول. فالقياس يقتضي جواز البيعتين فيهما لأن كلا منهما بيع سلعة بثمن إلى أجل معلوم لكن عدل بهذه المسألة عن نظائرها من أفراد بيع سلعة بثمن إلى أجل بدليل خاص وهو هنا أنت السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة فيؤول الأمر إلى أخذه عند الأجل الأول نقداً ودفعة أكثر منه من حينه عند الأجل الثاني وهذا عين الربا. وأشار في المراقي إلى مسألة الاستحسان بقوله: والأخذ بالذى له رجحان ... من الأدلة هو استحسان أو هو تخصيص يعرف ما يعم ... ورعى الاستصلاح بعضهم الاستصلاح بعضهم يؤم ورد كونه دليلاً ينقدح ... ويقصر التعبير عنه متضح الأصل الرابع المختلف فيه: الاستصلاح: وهو الوصف الذي لم يشهد الشرع لا بإلغائه ولا باعتباره: قال المؤلف رحمه الله تعالى: -
(1/200)
الرابع من الأصول المختلف فيها الاستصلاح واتباع المصلحة المرسلة , الخ ... وخلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الحديث: أن المصلحة المرسلة , إن كانت من الحاجيات أو التحسينيات فهو لا يعلم خلافاً في منع التمسك بها لأنه وضع حكم بغير دليل. وان كانت من الضروريات , فهو يرى جواز العمل بها عن مالك وبعض الشافعية مع أنه يرى منع العمل بها مطلقاً. قال مقيده عفا الله عنه: - اعلم أن الوصف من حيث هو إما أن يكون في إناطة الحكم به مصلحة أو لا , فان لم تكن في إناطة الحكم به مصلحة فهو الوصف الطردي كالطول والقصر بالنسبة إلى جميع الأحكام وكالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق , والطردي لا يعلل به حكم , وان كان في إناطة الحكم به مصلحة فهو المسمى بالوصف المناسب وهو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يشهد الشرع باعتبار تلك المصلحة كالاسكار فانه وصف مناسب لتحريم الخمر لتضمنه مصلحة حفظ العقل. وقد نص الشرع على اعتبار هذه المصلحة فحرم الخمر لأجلها. وهذا هو المؤثر والملائم. وسيأتي الكلام عليهما في القياس إن شاء الله , فقول المؤلف: أن هذا القسم هو القياس لا يخلوا من نظر. الثاني: أن يلغي الشرع تلك المصلحة ولا ينظر إليها كما لو ظاهر الملك من امرأته , فالمصلحة في تكفيره بالصوم لأنه هو الذي يردعه لخفة العتق ونحوه عليه لكن الشرع ألغى هذه المصلحة. وأوجب الكفارة بالعتق من غير نظر إلى وصف المكفر بكونه فقيراً أو ملكاً وهذا الوصف يسمى الغريب عند جماعة أهل الأصول.
(1/201)
الثالث: أن لا يشهد الشرع لاعتبار تلك المصلحة بدليل خاص , ولا لإلغائها بدليل خاص , وهذا بعينه هو الاستصلاح , ويسمى المرسل , والمصلحة المرسلة , والمصالح المرسلة , وسمي مصلحة لاشتماله على المصلحة وسميت مرسلة لعدم التنصيص على اعتباره ولا على إلغائها. وعرفه في المراقي بقوله: والوصف حيث الاعتبار يجهل ... فهو الاستصلاح قل والمرسل واعلم أن المصالح من حيث هي ثلاث أقسام: الأول: مصلحة درء المفاسد , وهي المعرفة بالضروريات وهي ستة لأن درء المفسدة اما عن الدين, أو النفس , أو العقل , أو النسب , أو المال , أو العرض , ومن فروع درء المفاسد نصب الأئمة ووجوب قتل المرتد , وعقوبة المضل صيانة للدين , وتحريم القتل ووجوب القصاص فيه صيانة للأنفس , وتحريم الخمر ووجوب الجلد فيها صيانة للعقول , وتحريم الزنا ووجوب الحد فيه صيانة للنسب , وتحريم السرقة ووجوب القطع فيها صيانة للمال , وتحريم القذف ووجوب الحد فيه صيانة للأغراض , وقد جعلها المؤلف خمساً بحذف العرض , وانتابه فيها لا بد منه. الثاني: التحسينات: وتسمى التتميمات وهي الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات , ومن فروعها خصال الفطرة كاعفاء اللحى وقص الشارب , ومنها تحري المستقذرات ووجوب الانفاق علتى الأقارب الفقراء كالآباء والأبناء.
(1/202)
واعلم أن مالكاً يراعي المصلحة المرسلة في الحاجيات والضروريات كما قرره علماء مذهبه خلافاً لما قله عنه المؤلف من عدم مراعاتها في الحاجيات. ودليل ما لك على مراعاتها اجماع الصحابة عليها كتولية أبي بكر لعمر واتخاذ عمر سجناً وكتبه أسماء الجند في ديوان , واحداث عثمان لأذان آخر في الجمعة وأمثال ذلك كثيرة جداً. فقد عرفت أنواع المصالح , وعرفت المرسل منها وغير المرسل , وعرفت أن مالكاً يراعيها في الحاجيات كالضروريات. واعلم أن الضروري له مكمل والحاجي له مكمل. فمكمل الضروري كتحريم القليل جداً من المسكر , ومكمل الحاجي كالخيار في البيع والرهن بناء على ان البيع من الحاجيات. والحق أن أهل المذاهب كلهم يعملون بالمصلحة المرسلة وان قرروا في أصولهم أنها غير حجة كما أوضحه القراني في التنقيح , وما ذكره الؤلف رحمه الله من أن مالكاً رحمه الله أجاز قتل الثلث لا صلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك وهو غير صحيح ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه ولم يقله مالك كما حققه العلامة محمد بن الحسن البناني في حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل , وأشار صاحب المراقي إلى هذه المسألة بقوله: ثم المناسب عنيت الحكمة ... منه ضرورى وجا تتمة بينهما ما ينتمى للحاجى ... وقدم القوى فى الرواج دين فنفس ثم عقل نسب ... مال إلى ضرورة تنتسب ورتبن ولتعطف مساويا ... عرضا على المال تكن موافياً فحفظها حتم على الإنسان ... فى كل شرعة من الأديان الحق به ما كان ذا تكميل ... كالحد فيما يسكر القليل
(1/203)
إلى أن قال: والبيع كاإجارة الحاجى ... خيار بيع لاحق جلى وما يتمم لدى الحذاق ... حث على مكارم الأخلاق وبهذا الإيضاح يظهر لك أن ما يوهمه كلام المؤلف من شمول الاستصلاح لما دل الشرع على اعتباره غير مراد له , لكن المؤلف رحمه الله ترجم للاستصلاح الذي هو المصلحة المرسلة ثم ذكر جميع أنواع المصالح من مرسلة وغيرها الإيهام. وقد عرفت التحقيق.
(1/204)
مقرر السنة الثالثة
(باب في تقسيم الكلام والأسماء)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - اختلف في مبدأ اللغات: فذهب إلى أنها توقيفية ... الخ ... خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أن مبدأ اللغات: قيل هو توقيفي أي بتعليم من الله وقف الخلق على معاني تلك الألفاظ , وقيل: هي اصطلاحية. والذي يقول هي توقيفية يحتج بأن الاصطلاح يحتاج إلى مفاهمة سابقة ليعلم كل منهم مراد الآخر. والذين يقولون هي اصطلاحية يقولون أيضاً: ان التوقيف يحتاج إلى فهم لكلام الموقف سابقاً على التوقيف , والا لم يفهم. والكل باطل لأن الاصطلاح لا يحتاج إلى علم سابق لإمكان الفهم بالإشارة واليقين , كما يفهم الطفل عن أبويه , ولأن الله سبحانه قادر على أن يخلق في الإنسان علماً ضرورياً يعرف به معاني الألفاظ من غير سابق. وذكر المؤلف أن القاضي جوز كونها اصطلاحية , وكونها توقيفية وكون بعضها توقيفياً وبعضها اصطلاحياً وكون بعضها ثابتاً قياساً. قال: والواقع في ذلك لا دليل عليه. ثم قال المؤلف: ان هذه المسألة لا تدعوا لها حاجة فالخوض فيها تطويل بما لا فائدة تحته. وقال بعض أهل الأصول: هي مسألة طويلة الذيل قليلة النيل.
(1/205)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - الأشبه أن تكون توقيفية لقوله تعالى: ((وعلم آدم الأسماء)) الآية. قال مقيده عفا الله عنه: - وفي الحديث أيضاً: (وعلمك أسماء كل شئ) الحديث. ولم يعرف المؤلف اللغة , وعرفها في المراقي بقوله: وما من الألفاظ للمعنى وضع ... قل: لغة بالنقل يدرى من سمع وأشار إلى الخلاف الذي ذكره المؤلف بقوله: واللغة الرب لها قد وضعا ... وعزوا للإصطلاح سمعا فبالإشارة وبالتعيين ... كالطفل فهم ذى الخفا والبين (تنبيه) لم يذكر المؤلف فائدة مبنية على الخلاف المذكور في مبدأ اللغات. وقال الأبياري: لا فائدة تتعلق بهذا الخلاف أصلا. وقال قوم ينبني على هذا الخلاف جواز قلب اللغة كتسمية الثوب فرسا مثلا , وارادة الطلاق والعتق بنحو: اسقني الماء. قالوا: فعلى أنها اصطلاحية يجوز لقوم أن يصطلحوا على تسمية الثوب فرسا مثلا , ولواحد أن يقصد ذلك
(1/206)
في كلامه , وعلى القول بالتوقيف لا يجوز ذلك , وكذلك على الأول أيضاً يصح الطلاق والعتاق بكأسقني الماء ان نواه به. وعلى القول الثاني لا يصح. قال المازري: ومحل هذا الخلاف ما اذا لم يكن اللفظ متعبداً به كتكبيرة الإحرام , أما المتعبد به فلا يجوز فيه القلب اجماعاً وأشار إلى هذا في المراقي بقوله: يبنى عليه القلب والطلاق ... بكاسقنى الشراب والعتاق أي يبني الاختلاف في اللغة فعلى أنها توقيفية يمنع , واصطلاحية يجوز. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) قال القاضي يعقوب بجوز أن تثبت الأسماء قياساً.. الخ.. خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل: أنهم اختلفوا في تثبيت الأسماء بالقياس فقيل يجوز ذلك. ومراد قائله: أن العرب إذا سمت شيئاً باسم لأجل صفة فيه ثم وجدنا تلك الصفة في شئ آخر. فلنا أن نقول بإطلاق ذلك الاسم عليه كإطلاقها الخمر على عصير العنب القاذف بالزبد. وهذه التسمية لأجل صفة فيه هي مخامرة العقل. فإذا وجدنا هذه الصفة في النبيذ سميناه خمراً في لغتهم. وقيل يمنع ذلك لن الحال لا يخلو من واحد من ثلاث:
(1/207)
أما أن تكون العرب وضعب الاسم لهما معاً , أو لواحد منها , أو احتمل الأمر هذا وذاك فان وضعته لهما فليس هناك قياس. وانما هو وضع منهم. وإن كانت وضعته لواحد فليس لنا أن نتعدى عليهم ونزعم أنهم وضعوه للثاني أيضاً. وان احتمل الأمرين فليس لنا أن نتحكم. وهذا القول أظهر ولم يذكر المؤلف فائدة مرتبة على هذا الخلاف. وذكر بعض أهل الأصول فائدة وهي أنا اذا قلنا بثبوت الأسماء قياساً كفانا ذلك مؤونة القياس الشرعي , فلو أدخلنا النبيذ مثلا في اسم الخمر بقياس اللغة تناولته النصوص الواردة في الخمر فلا يحتاج إلى قياس شرعي. ولو قلنا بأنه لا يدخل في اسم الخمر احتجنا إلى قياس عليها بالقياس الشرعي فيجب مراعاة شروطه وإلى هذا أشار في المراقي بقوله: وفرعه المبنى ىخفة الكلف ... فيما بجامع يقيه السلف (تنبيه) يشترط في الخلاف المذكور: أن يكون اللفظ المقيس عليه مشتقاً. وفي المسألة قول ثالث لم يذكره المؤلف وهو جواز ذلك الحقيقة دون المجاز عند بعضهم وأشار إلى هذا في المراقي بقوله: وأما المقيسات بالقياس التصريفي فهي تسعة: وهي الفعل واسم الفاعل
(1/208)
واسم المفعول , وصيغة المبالغة والصفة المشبهة وصيغة التفضيل واسم المكان واسم الزمان واسم الآلة ومحل البحث في تحقيقها في فن الصرف فلا نطيل بها الكلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) في تقاسيم الأسماء وهي أربعة أقسام: 1- وضعية , 2- وعرفية , 3- وشرعية , 4- ومجاز مطلق ... الخ خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا البحث ان الأسماء منقسمة إلى الأقسام الأربعة وأن الحقيقة الشرعية مقدمة ولا يكون لفظها مجملا لاحتمال قصد الحقيقة اللغوية فلو وجد في كلام الشارع السم ((الصلاة)) مثلا وجب حمله على معناه الشرعي دون اللغوي الذي هو الدعاء , ولا يقال مجمل لاحتماله هذا وذاك اذا عرفت ذلك فاعلم أن مراده بالوضعي هو الحقيقة اللغوية كاستعمال الرجل في الإنسان الذكر والمرأة في الإنسان الأنثى. وان كان الوضعي يشمل في اصطلاحهم المجاز لأن دلالة المجاز عندهم على معناه المجازي دلالة مطابقة وهي وضعية بلا خلاف ومراده بالشرعية ما عرفت فيه التسمية الخاصة من قبل الشرع بالصلاة والزكاة. اذا الصوم في اللغة كل إمساك والزكاة في اللغة الطهارة والنماء والصلاة في اللغة الدعاء. وعرف في المراقي الشرع بقوله: وما أفاد لاسمه النبى ... لا الوضع مطلقاً هو الشرعى ومراد المؤلف بالعرفية أمران: أحدهما , داخل في المجاز والمجاز
(1/209)
سيأتي والثاني منهما هو: أن يخصص عرف الاستعمال في أله اللغة الاسم ببعض مسمياته الوضعية كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب على الأرض. وأما المجاز فهو المعروف عند أهل البلاغة وغيرهم: استعمال الكلمة في غير ما وضعت له لعلاقة بينهما مع قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي. وهذا التعريف للمجاز المفرد المنقسم إلى استعارة , ومجاز مرسل , وأقسام المجاز عند البيانين أربعة. هذا الذي ذكرنا والمجاز المركب المنقسم إلى استعارة تمثيلية ومجاز مرسل مركب. والمجاز العقلي , والتجويز فيه الإسناد لا في لفظ المسند إليه , ولا المسند , ومجاز النقص والزيادة بناء على عدها من أقسام المجاز. وبرهان الحصر في الأقسام الأربعة: أن اللفظ اما أن يبقي على أصل وضعه أو يغير عنه فان غير فلا بد أن يكون ذلك التغيير من قبل الشرع أو من قبل عرف الاستعمال أو من قبل استعمال اللفظ في غير موضعه لعلاقة بقرينة فالأول الوضعية , والثاني الشرعية , والثالث العرفية , والرابع المجاز. واعلم أن التحقيق حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية ثم المجاز عند القائل به ان دلت عليه قرينة. وأشار إلى هذا في المراقي بقوله: والتحقيق وجود الحقيقة الشرعية خلافاً لمن أنكرها وزعم أنها اللغوية
(1/210)
وزيد فيها شروط لأنه قول باطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (النص والظاهر والمجمل) والكلام المقيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص , وظاهر , ومجمل. وبرهان الحصر في الثلاثة أن الكلام اما أن يحتمل معنى واحداً فقط فهو والنص نحو: تلك عشرة كاملة. وان احتمل معنيين فأكثر فلا بد أن يكون في أحدهما أظهر من الآخر أولا , فان كان أظهر في أحدهما فهو الظاهر ومقابلة المحتمل المرجوح. كالأسد فانه ظاهر في الحيوان المفترس ومحتمل في الرجل الشجاع. وان كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل. كالعين والقرء. ونحوهما. وحكم النص: أن لا يعدل عنه الا بنسخ. وحكم الظاهر أن لا يعدل عنه الا بدليل على قصد المحتمل المرجوح وذلك هو التأويل. وسيأتي ان شاء الله. وحكم المجمل أن يتوقف عن العمل به الا بدليل على تعيين المراد. والتأويل في اصطلاح الأصوليين هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم ((الجار أحق بصقبه) فانه ظاهر في ثبوت الشفعة للجار مطلقاً محتملاً احتمالا مرجوحاً أن يكون المراد به خصوص الشريك المقاسم الا أن هذا الاحتمال المرجوح دل عليه الدليل وهو قوله صلى الله عيه وسلم ((فذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ولا بد
(1/211)
في دليل التأويل. والاحتمال البعيد يحتاج إلى دليل قوي كما مثلنا. والاحتمال القريب يكفيه دليل يجعله أغلب على الظن من الظاهر. والمتوسط من الدليل للمتوسط من الاحتمال. ولكل مسألة من هذا ذوق خاص فالأحق بتفصيل ذلك: الفروع. واعلم أن النص قد يطلق على الظاهر أيضاً , ويطلق على الوحي. قد يطلق على كل ما دل. واختار المؤلف رحمه الله الإطلاق المذكور أولا. (تنبيه) لم يتعرض المؤلف للتأويل بدليل يظنه المؤول دليلاً وليس بدليل في نفس الأمر , ولا للتأويل بلا دليل أصلا. والأول هو المسمى بالتأويل الفاسد , والتأويل البعيد ومثل له الأصوليون من المالكية والشافعية بنصوص أولها الامام أبو حنيفة رحمه الله. وسيأتي في هذا المبحث ... منها حمل ((المسكين)) على المد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ستين مسكيناً)) وستأتي بقيتها. والثاني: هو المسمى باللعب كقول غلاة الشيعة في ((أن تذبحوا بقرة)) هي عائشة. واعلم أن دليل المؤول قد يكون قرينة كمناظرة الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله في عود الواهب في هبته. فالشافعي يجيز وأحمد يمنع. فاستدل أحمد بحديث ((العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)) . فقال أحمد في أول
(1/212)
الحديث: ((ليس لنا مثل السوء)) وهو قرينة على أن هذا المثل السيئ منفي عنا فلا يجوز لأحد اتيانه لنا. وقد يكون نصاً آخر كعموم ((حرمت عليكم الميتة)) فانه ظاهر في شموله الانتفاع بجلدها والنص على الانتفاع بجلد الشاة الميتة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((هلا أخذتم اهابها فانتفعتم به)) ... الحديث يصرف ذلك العموم عن ظاهره ... وقد يكون ظاهر عموم آخر كالآية المذكورة مع عموم ((أيما اهاب دبغ فقد ظهر)) وقد يكون قياساً راجحاً. فعموم جلد الزاني مائة جلدة ظاهر في شمول العبد ولكنه صلى الله عليه وسلم لما خص عموم الزانية الأنثى بغير الأمة بقوله ((فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) عرف أن الرق على لتشطير الجلد محكم بتشطير جلد العبد قياساً على الأمة فكان في قياسه عليها صرف اللفظ عن إرادة عموم ((الزاني)) إلى محتمل مرجوح هو كونه في خصوص الحر اعتماداً على القياس على الأمة المنصوص عليها. واعلم أن كل مؤول يلزمه أمران: الأول: بيانه احتمال اللفظ لما حمله عليه. الثاني: الدليل الصارف له إلى المحتمل المجوح. قال المؤلف وهو ظاهر. واعلم أن الظاهر قد يكون فيه قرائن يدفع الاحتمال مجموعها لآحادها كحمل الحنفية قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على عشر نسوة أمسك منهن أربعاً وفارق من سواهن. على الانقطاع عنهن. وان يبتدئ نكاح أربع منهن فهذا ليس ظاهر اللفظ وفيه قرائن يدفعه مجموعها منها: أنه قال ((أمسك)) ولو أراد ابتداء النكاح لما أمر الزوج بالإمساك لأن ابتداء النكاح يشترط فيه رضى المرأة والولي. ومنها أنه أراد النكاح لذكر شروطه لأنه حديث عهد بالإسلام
(1/213)
والبيان لا يؤخر عن وقت الحاجة. ومنها: أن ابتداء النكاح لا يختص بهن ومن التأويل البعيد في العموم: حمل المرأة في قوله: ((أيما امرأة نكحت)) الحديث.. على ((المكاتبة)) عند أبي حنيفة رحمه الله لأنها صورة نادرة وهذا الحديث صريح في عموم النساء لأن لفظه ((أي)) صيغة عموم وقد أكد عمومها بما المزيدة للتوكيد. ورتب بطلان النكاح على الشرط في معرض الجزاء , وهذا من أبلغ صيغة في الدلالة على العموم. فحمله على خصوص المكاتبة لا يخفي بعده. ومن التأويل البعيد أيضاً: حمل ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)) على النذر والقضاء لأن صوم التطويع غير مراد فلم يبق الا الفرض الذي هو ركن الإسلام وهو صوم رمضان. والقضاء والنذر يجيئان لأسباب عارضة فهما كالمكاتبة في مسألة النكاح المتقدمة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - والصحيح أن نذره هذا ليست كندره المكاتبة وأن الفرض أسبق إلى الفهم فيه فيحتاج هذا التخصيص بالنذر والقضاء إلى دليل قوي وهذه الأمثلة المذكورة للتأويل البعيد هي ما سبقت الإشارة إليها من أنها لأبي حنيفة رحمه الله وأن الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة مثلوا لها بالتأويل البعيد. وعرف في المراقي النص بقوله: نص إذا أفاد ما لا يحتمل ... غيرا وظاهر أن الغير احتمل وأشار إلى اطلاقات النص الآخر بقوله: والكل من زين له تجلى ... ويطلق النص على ما دلا وفي كلام الوحي ...
(1/214)
وأشار إلى هذه التأويلات البعيدة التي ذكرها المؤلف وزاد عليها حمل المسكين على المد في قوله: ((ستين مسكيناً)) بقوله: فجعل مسكين بمعنى المد ... عليه لائح سمات البعد كحمل مرأة على الصغيرة ... وما ينافى الحرة الكبيرة وحمل ما ورد فى الصيام ... على القضاء مع الالتزام وعرف التأويل في الاصطلاح الأصولي وذكر أقسامه إلى صحيح وفاسد ولعب بقوله: حمل لظاهر على المرجوح ... واقسمه للفاسد والصحيح صحيحه وه القريب ما حمل ... مع قوة الدليل عند المستدل وغيره الفاسد والبعيد ... وما خلا فلعباً يفيد قال المؤلف القسم الثالث المجمل: وهو ما لا يفهم منه معنى عند الإطلاق , وقيل ما احتمل أمرين لا مزيّة لأحدهما على الآخر كالألفاظ المشتركة ... الخ. قال مقيده عفا الله عنه: أعلم التحقيق في معنى المجمل عند الأصوليين هو ما تقدم في تقسيم الكلام المفيد إلى نص وظاهر ومجمل. وهو ما اجتمل معنيين كالقرء للطهر والحيض , والشفق للحمرة والبياض , والمتردد بين معان كالعين للباصرة , والجارية , والنقد. وهذا مثال الإجمال بسبب الاشتراك في اسم , وقد يأتي بسبب الاشتراك في حرف أو فعل. مثاله في الحرف: الواو في قوله: والراسخون في العلم , فانها محتملة للعطف فيكون الراسخون يعلمون التشابه ومحتملة للاستئناف فيستأثر الله بعلمه. ولفظه ((من)) في قوله ((فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)) محتملة للتبعيض
(1/215)
فيشترط ما له غبار يعلق في اليد ومحتملة لابتداء الغاية فلا يشترط. ومثاله في الفعل قوله: ((والليل اذا عسق)) مشترك بين أقبل وأدبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - وقد يكون الإجمال في لفظ مركب كقوله: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح , متردد بين الزوج والولي. وقد يكون بحسب التصريف كالمختار يصح لاسم الفاعل واسم المفعول. قال مقيده عفا الله عنه: - كل فعل على وزن افتعل اذا كان معتل العين أو مضعفاً يتحد اسم فاعله واسم مفعوله لأن الكسرة المميزة لاسم المفعول كلتاهما تسقط للاعتلال والتضعيف مثاله في معتل العين: المختار , والمصطاد , والمجتاب , ومثاله في المضعف المضطر والمحتمل , وكذلك كل صيغة ((فاعل مضعفة)) يستوي لفظ اسم فاعلها ((واسم مفعولها كما يستوي مضارعها المبني لفاعل ومضارعها المبني للمفعول , ((كمضار)) لهما و ((مضار)) للفعلين. ولأجله اختلف في أعراب والدة في قوله تعالى: ((لا تضار والدة)) فقيل فاعل وقيل نائب فاعل. وكذلك ((كاتب وشهيد)) في قوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد)) . وحكم المجمل: التوقف عنه حتى يعرف البيان كما تقدم. وعرف المجمل في المراقي بقوله:
(1/216)
(تنبيه) قد يكون الإجمال مع الوضوح في وجه آخر كقوله تعالى: ((وآتوا حقه يوم حصاده ... )) الآية. فانه واضح في اتينان الحق مجمل في مقدار الحق لاحتماله النصف وأقل وأكثر. وأشار له في المراقي بقوله: والتحقيق ان ((حرمت عليكم الميتة)) ونحوه غير مجمل لظهوره من جهة العرف في تحريم الأكل. وكذلك قوله ((وأحل لكم البيع)) ليس بمجمل لأنه على عمومه الا ما أخرجه الدليل. وتظهر فائدة في حمل بيوع المسلمين على الصحة حتى يقوم دليل على الفساد. وكذلك قوله ((لا صلاة الا بطهور)) ليس بمجمل أيضاً لأن المراد نفي الصحة. وان شئت قلت: نفي الصلاة بمعنى حقيقتها الشرعية. والمعنيان متلازمان. ولأن الصحة كلما وجدت فحقيقة الصلاة الشرعية موجودة. وكلما عدمت فهي معدومة. والتحقيق أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم ((لا عمل الا بنية)) أنه غير مجمل أيضاً. وحاصل تحرير المقام فيه: أن العمل ان كان عبادة كالصلاة فالمراد فيه نفي الصحة والاعتماد. وان شئت قلت: نفي العمل باعتبار حقيقته الشرعية كما قدمنا في مبحث ((لا صلاة الا بطهور)) . وان كان معاملة فهو يصح ويعتد به دون النية اجماعاً , والنفي فيه ينصب على انتفاء الأجر. فمن أنفق على زوجته وقضى الدين ورد الأمانة والمغضوب لا يريد بشيء من ذلك وجه الله فان المطالبة تسقط عنه. ويصح فعله ويعتد به. ولكن
(1/217)
لا أجر له. وكذلك جميع التروك. وكل هذه المسائل التي ذكرنا أنها غير مجملة قال فيها بعض العلماء بالإجمال مستدلا بأن الصور غير منفية. فالنفي إذاً غيرها ولم يصرح به فانه محتمل واذاً فهو مجمل وقد علمت التحقيق فيه وأنه غير مجمل واليه الإشارة بقول صاحب المراقي: وكذلك خبر: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان على تقدير ثبوت هذا اللفظ ليس بمجمل أيضاً لأن العرف يبين أن المراد رفع المؤاخذة , وهو الحق ولا يلزم من ذلك رفع ضمان ما أتلفه خطأ أو نسياناً. لأن ضمان المتلفات , وأروش الجنايات من خطاب الوضع , ولذا يلزم الصبي مع أن القلم مرفوع عنه ويجب على العالقة في دية الخطأ مع أنهم لا علم لهم بالجناية , وما ذكره المؤلف عن أبي الخطاب من أن اراده نفي المؤاخذة لا تضح مستدلا بأنه لو أراد نفي الأثم لم يكن لهم في هذه الأمة مزية لأن الناسي غير مكلف في جميع الشرائع , فيه عندي أمران: أحدهما: أن اثم الناسي والمخطئ من غير هذه الأمة غير مسلم لورود أدلة تدل على اختصاص هذه الأمة بعفو الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه منها: هذا الحديث الذي نحن بصدده. فقوله: ((عن أمتي)) يفهم منه أن غيرهما ليس كذلك. ومنها: حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربة لصن مع أنه مكروه بالخوف من القتل لأنهم قتلوا صاحبه لما أبي عن ذلك ومنها: أن قوله تعالى: ((ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا)) . وقول الله قد فعلت كما ثبت في صحيح مسلم. يدل على أن المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا اذ لو كانت مرفوع عن كل أحد لما دعت ضرورة إلى ذلك الدعاء وإظهار
(1/218)
الكرامة بالإجابة بقوله: قد فعلت. فظاهر الامتنان أنه خاص بنا. ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي عن الكلبي من أن من قبلنا كانموا يؤاخذون بالخطأ والنسيان. وقد اقل الله تعالى في آدم: ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي.)) وقال: وعصى آدم ربه فأضاف إليه العصيان والنسيان فدل على المؤاخذة به. وأما على القول بأن ((نسي)) بمعنى ترك فلا دليل في الآية. ومن الأدلة على مؤاخذة في الإكراه قوله تعالى عن أصحاب الكهف ((انهم ان يظهروا عليكم يرجمونكم أو يعيدوكم في ملتهم)) فهذا صريح في الإكراه مع أنهم قالوا: ولن تفلحوا اذاً أبداً فدل على عدم عذرهم به. ثانيها: هو أنا نقول متعلق الرفع في قوله: ((رفع عن أمتي)) الخ.. لا بد أن يكون أحد أمرين. أو كليهما وهما الإثم والضمان اذ لا وصف يتعلق به الرفع الا الإثم والضمان والاثم مرفوع قطعاً لقوله تعالى: ((ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)) وقوله في الحديث القدسي قد فعلت كما تقدم. والضمان غير مرفوع اجماعاً لتصريحه تعالى بضمان المخطئ في قوله ((ومن قتل مؤمناً خطأ إلى قوله: إلى أهله.. الآية)) . فاتضح أن الاثم مرفوع وأن الضمان غير مرفوع فتعين كون المرفوع متعلق الرفع في الحديث كما هو واضح.
(فصل في البيان)
(1/219)
والمبين في مقابلة المجمل. واختلف في البيان فقيل هو الدليل وهو: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم أو ظن. وقيل هو: إخراج الشيء من الأشكال إلى الوضوح , وقيل: ما دل على المراد بما لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد وقد قيل: هذان الحدان مختصان بالمجمل ... الخ. حاصل هذا الخلاف هو: هل البيان يطلق على كل إيضاح تقدمه خفاء أو لا أو هو إيضاح ما فيه خفاء خاص. وأكثر الأصوليين على أن الينان في الاصطلاح الأصولي هو تصيير المشكل واضحاً , والبيان يحصل بكل ما يزيد بالأشكال من: أ- كلام: كبيان قوله تعالى: ألا ما يتلى عليكم بقوله: حرمت عليكم الميتة ... الخ. ب- أو كتابة: ككتابته صلى الله عليه وسلم إلى عماله على الصدقات. جـ- أو إشارة: كقوله: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه إلى كونه مرة ثلاثين ومرة تسعاً وعشرين. د- أو فعل: كبيانه صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج بالفعل وقال في الأولى: ((صلوا كما رأيتموني أصلى)) . وفي الثاني ((خذوا عني مناسككم)) . هـ - أو سكوت على فعل: فانه بيان لجوازه. وعرف في المراقي البيان وما به البيان بقوله: تصير مشكل من الجلى ... وهو واجب على النبى إذا أريد فهمه وهو بما ... من الدليل مطلقاً يجلو العمى فقوله: بما من الدليل ... الخ. يدل على أن كل شئ يزيل الإشكال
(1/220)
بيان واختار المحشي أن البيان شامل لكل إيضاح تقدمه خفاء أولا وهو قول معروف لبعض أهل الأصول ولا مشاحة في الاصطلاح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - ولا يشترط حصول العلم للمخاطب فانه يقال: بين له ولم يتبين , ومثاله فيما يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم بين أن عموم قوله تعالى ((يوصيكم الله في أولادكم , لا يتناول الأنبياء , لأنهم لا يورث عنهم المال فلا يقدح في هذا البيان ان فاطمة الزهراء رضى الله عنها وصلى وسلم على أبيها لم تعلم به وجاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها منه صلى الله عليه وسلم وإلى هذه القاعدة أشار في المراقي بقوله: ونسبة الجهل لذى وجود ... بما يخصص من الموجود ويجوز بيان النص بما هو دونه سنداً قال بعضهم: أو دلالة فتبين المتواترات بالآحاد وهو مذهب الجمهور. واليه الإشارة بقوله في المراقي: وبين القاصر من حيث السند ... أو الدلالة على ما يعمد وأوجبن عند بعض علماً ... إذا وجوب ذى الحلفاء عماً ومن قال بهذا أجاز بيان المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم قوله صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد ظلم يجل عرضه وعقوبته)) , بمفهوم الموافقة في قوله: فلا تقل لهما أف ((لأن فحواه يقتضي منع الأذى بالحبس في الدين , فلا يحبس الوالد في دين ولده. وكتخصيص عموم قوله ((في أربعين شاة شاة. بمفهوم المخالفة بقوله ((في الغنم السائمة الزكاة)) عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة. هكذا ذكر جماعة من أهل الفصول. وذهب قوم إلى أبي الأضعف دلالة لا يمكن البيان به اذ لا يبين الأظهر بالأخفي.
(1/221)
وأما الأضعف سنداً اذا كان أقوى دلالة فلا مانع من أن يبين به الأقوى سنداً الذي هو أضعف دلالة. ومثاله قوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلك)) فانه أقوى سنداً من حديث ((لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها)) ولكن الحديث أقوى دلالة على تحريم جمع المرأة مع عمتها من دلالة عموم الآية على إباحة ذلك.)) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) لا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وجزم في المراقي بأن من أجازه وافق على عدم وقوعه بقوله: وذهب قوم إلى أنه واقع واحتجوا بأن جبريل أخر بيان صلاة الصبح من ليلة الإسراء. وأجيب من جهة الجمهور بأن أول صلاة منها يجب أداؤها صلاة الظهر من اليوم الذي بعد ليلة الإسراء ولو كانت صلاة الصبح من ذلك اليوم واجبة الأداء لبينها جبريل عليه السلام. والحق ما ذهب اليه الجمهور لأن تكليف الإنسان بما لا يعلم تكليف له بالمحال وهو ممنوع الوقعوع على التحقيق.
(1/222)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) واختلف في تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فقال ابن حامد يجوز وبه قال بعض الحنفية وبعض الشافعية. وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمي. لا يجوز ذلك وهو قول أهل الظاهر والمعتزلة ... الخ ... خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا البحث ثلاثة أقوال: أولا: اختيار المؤلف منها: أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة حائز وواقع مطلقاً. ثانياً: أنه لا يجوز مطلقاً. لا ان كان له ظاهر لأنه يوقع في المحظور فقوله: ((اقتلوا المشركين)) مثلا ظاهره العموم فلو أخر البيان لأدى إلى قتل الذمي والمعاهد والمستأمن لشمول ظاهر العموم لهم واستدل المؤلف لجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة بقوله تعالى: ((فاتبع قرآنه , ثم ان علينا بيانه)) . و ((ثم)) للتراخي فدلت على تراخي البيان عن وقت الخطاب وكذلك عنده قوله تعالى: ((ثم فصلت من لدن حكيم خبير)) وبأنه صلى الله عليه وسلم علم بأن المراد بقوله: ((في خمس الغنيمة ولذي القربة)) بنو هاشم والمطلب. دون إخوانهم من بني نوفل وعبد شمس مع أن الكل أولاد عبد مناف. فأخر بيانهم حتى سل فقال: أنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام , وبأنه تعالى قال لنوح: ((أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول)) وآخر بيان أن ولده الذي غرق ليس من الأهل الموعود بنجاتهم حين قال نوح:
(1/223)
((ان ابني من أهلي)) فبين له أنه ليس من أهله بقوله: ((يا نوح انه ليس من أهلك)) وبأن آيات الصلاة والزكاة والحج بينتها السنة بالتراخي والتدريج في أوقات الحاجة. وبأن النسخ بيان لانقضاء زمن الحكم الأول. ولا خلاف في تأخير بيانه إلى وقته. إلى غير ذلك من الأدلة وأشار في المراقي إلى هذا الخلاف في هذه المسألة مع زيادة قول رابع بقوله: باب الأمر قال المؤلف رحمه الله تعالى: - الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء , وقيل هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ... الخ. وهو فاسد ... الخ. وجد فساد الحد الأخير أن فيه لفظة ((المأمور)) مرتين وهي مشتقة من الأمر فيحصل الدور فيمتنع الفهم. ومفهوم قوله على وجه الاستعلاء أنه ان كان على عكس ذلك فهو دعاء وان كان التساوي فهو التماس كما قال الأخضري في سلمة: واشترط الاستعلاء الذي مشى عليه المؤلف هو قول الفخر الرازي وأبي الحسين والآمدي وابن الحاجب والباجي. وقيل يشترط فيه العلو فقط , وهو قول المعتزلة وأبي اسحق الشيرازي , وابن الصباغ والسمعاني , وقيل
(1/224)
يشترط فيه العلو والاستعلاء معاً وهو قول القشيري والقاضي عبد الوهاب , وقيل لا يشترط فيه علو ولا استعلاء فيصح من المساوي والا دون على غير وجه الاستعلاء. وهو مذهب المتكلمين واختاره غير واحد من متأخري الأصوليين. وأشار في المراقي إلى هذه الأقوال بقوله: والاستعلاء: كون الأمر على وجه الغلظة والترفع والقهر , والعلو شرف الآمر وعلو منزلته في نفس الأمر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - وللأمر صيغة مبينة تدل بمجردها على كونها أمراً اذا تعرب عن القرائن وهي: افعل للحاضر وليفعل للغائب هذا قول الجمهور ... الخ. اعلم ان الصيغ الدالة على الأمر أربع وكلها في القرآن وهي: 1- فعل الأمر نحو:: أقم الصلاة. 2- المضارع المجزوم بلام الأمر نحو: فليحذر الذين يخالفون عن أمره. 3- اسم فعل الأمر نحو عليكم أنفسكم. 4- المصدر النائب عن فعله نحو ((فضرب الرقاب)) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - وزعمت فرقة من المبدعة أنه لا صيغة للأمر بناء على خيالهم ان الكلام
(1/225)
معنى قائم بالنفي فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والصرف ... الخ. أعلم أن كثيرا من المتكلمين يزعمون أن كلام الله معنى قائم بذاته مجرد عن الألفاظ والحروف والأمر عندهم هو اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس المجرد عن الصيغة ولأجل هذا الاعتقاد الفاسد قسموا الأمر إلى قسمين: نفسي , ولفظي. فالأمر النفسي عندهم هو ما ذكرنا. والأمر اللفظي هو اللفظ الدال عليه كصيغة افعل. وأشار إلى مرادهم هذا صاحب مراقي السعود بقوله في تعريف النفسي عندهم واللفظي: اذا علمت ذلك فأعلم أن هذا المذهب باطل وأن الحق أن كلام الله هو هذا الذي نقرؤه بألفاظه: فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ وقد صرح تعالى بذلك في قوله: ((فأجره حتى يسمع كلام الله)) فصرح بأن ما يسمع ذلك المشرك المستجير بألفاظه ومعانيه كلامه تعالى. وأقام المؤلف الحجج على أنه ما في النفس ان لم يتكلم به لا يسمي كلاماً كقوله في قصة زكريا ((قال آيتك أن لا تكلم الناس)) مع أنه أشار إليهم , كما قال ((فأوحي إليهم أن سبحوه)) فلم يكن ذلك المعنى القائم بنفسه الذي عبر عنه بالإشارة كلاماً وكذلك في قصة مريم ((اني نذرت للرحمن صوماً)) الآية. مع قوله فأشارت إليه وفي الحديث: ((إن الله عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به)) .
(1/226)
واتفق أهل اللسان على أن الكلام: اسم , وفعل , وحرف. وأجمع الفقهاء على أن من حلف لا يتكلم لا يخنث بحديث النفس وانما يحنث بالكلام. قال مقيده عفا الله عنه: - واذا أطلق الكلام في بعض الأحيان على ما في النفس فلا بد أن يقيد بما يدل على ذلك كقوله تعالى: ((ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله)) الآية. فلو لم يقيد بقوله ((في أنفسهم)) لا نصرف إلى الكلام باللسان كما قرره المؤلف رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمراً ولو قال رجل لعبده: ((اسقني ماء)) عد أمراً وعد العبد مطيعاً بالامتثال. وهذا واضح. ومن الواضح أيضاً أن لا يقدح في كون افعل صيغة أمر كونها قد ترد لغير ذلك كالندب في قوله ((فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيراً)) على القول به , والإباحة في قوله: ((فإذا حللم فاصطادوا)) . والإكرام في قوله: ((ادخلوها بسلام آمنين)) . والإهانة في قوله: ((ذق انك أنت العزيز الكريم)) . والتهديد في قوله: ((اعملوا ما شئتم)) . والتعجيز في قوله: ((فادرؤا عن أنفسكم الموت)) إلى غير ذلك من المعاني لأن صيغة ((فعل)) حقيقة متبادرة في استدعاء الفعل وطلبه مع أنها تستعمل في معنى آخر مع قرينة تبين أن المراد ذلك المعنى الآخر. وهكذا لا أشكال فيه كما أوضحه المؤلف.
(1/227)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ولا يشترط في كون الأمر أمراً اراده الأمر ... الخ. أعلم أن التحقيق في هذا المبحث أن الإرادة نوعان: إرادة شرعية دينية ... وارادة كونية قدرية. والأمر الشرعي انما تلازمه الإرادة الشرعية الدينية ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية فالله أمر أبا جهل مثلا بالإيمان , وأراده منه شرعاً وديناً. ولم يرده منه كوناً وقدراً. اذ لو أراده كوناً لوقع. ((ولو شاء الله ما أشركوا)) . ((ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)) . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. فان قيل: ما الحكمة في أمره بشيء وهو يعلم أنه يريد وقوعه كوناً وقدراً؟ . فالجواب: أن الحكمة في ذلك ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع وقد صرح تعالى بهذه الحكمة فانه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده مع أنه لم يرد وقوع ذبحه بالفعل كوناً وقدراً. وقد صرح بأن الحكمة في ذلك ابتلاء إبراهيم حيث قال: ابن هذا لهو البلاء المبين. فظهر بطلان قول المعتزلة أن لا يكون أمرا
(1/228)
ً الا بإرادة وقوعه. وقد جرم ضلالهم هذا إلى قولهم: ان معصية العاصي ليست بمشيئة الله لأنها أمر بتركها ولم يرد الا التزام الذي أمر به لأن الأمر لا يكون أمراً الا بالإرادة فنسبوا إليه تعالى العجز واستقلال الحادث بالفعل دونه , سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. وقد يشاهد السيد يأمر عبده اختباراً لطاعته ونيته أنه ان أظهر الطاعة أعفاه من فعل المأمور به فهو أمر دون ارادة وقوع المأمور به لا لبس فيه كما ذكره المؤلف رحمه الله. (مسألة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - اذا ورد الأمر متجرداً عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء.. الخ. خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أربعة أقوال: 1- أن الصيغة المذكورة للوجوب. 2- أنها للإباحة , وحجته أنا رأينا الأمر قد يأتي لها كقوله: ((فاصطادوا)) فنحمله على أدني الدرجات وهو الإباحة. 3- أنها للندب. وحجته أن صيغة ((افعل)) تقتضي طلب الفعل وأدني درجات الطلب الندب فنحمله عليه. 4- الوقوف أنها للوجوب الا بدليل صارف عنه لقيام الأدلة , كقوله ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره)) إلى قوله: ((عذاب أليم)) فالتحذير من الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة المر يدل على أنه للوجوب.
(1/229)
وقوله: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم , فإنه جعل أمر الله ورسوله مانعاً من الاختيار وذلك دليل الوجوب. وقوله: ((واذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)) فهو ذم على ترك امتثال الأمر بالركوع وهو دليل الوجوب وقوله: ((ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك)) فقرعه على مخالفة الأمر. وهو دليل الوجوب وقوله: ((أفعصيت أمري)) فهو دليل على أن مخالفة الأمر معصية. وذلك دليل الوجوب. وقوله: ((لا يعصون الله ما أمرهم)) إلى غير ذلك من أدلة الكتاب والسنة. ولا خلاف بين أهل اللسان العربي أن السيد لو قال لعبده افعل فلم يمتثل فأدبه لأنه عصاه أنه ذلك واقع موقعه مفهوم من نفس صيغة الأمر. وأشار في المراقي إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله: والحق أن دليل اقتضاء ((افعل)) للوجوب الشرع واللغة كما ذكرنا وقيل العقل كما أشار اليه في المراقي بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) اذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة وهو ظافر قول
(1/230)
الشافعي. خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث: أن صيغة ((افعل)) اذا وردت في أمر كان ممنوعاً ففيما تفيده ثلاثة أقوال: الأول: الإباحة وعزاه لظاهر قول الشافعي. الثاني: أنهما كالتي لم يتقدمها حظر وقد قدمنا أنها للوجوب عند التجرد من القرائن. الثالث: ان ورد الأمر بصيغة ((افعل)) فهي للجواز. وان ورد بمثل ((أنتم مأمورون)) فكالتي لم يتقدمها حظر. وحجة القول بالوجوب هو ما قدمنا من أدلة كون ((افعل)) للوجوب وحجة القول بالإباحة - وهو اختيار المؤلف - أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر بالإباحة بدليل أن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر بالإباحة كقوله تعالى: ((واذا حللتم فاصطادوا. فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض. فإذا تطهرن فأتوهن)) إلى غير ذلك من الأدلة. وحجة القول الثالث: أن الجملة الاسمية قد تفيد من الثبوت والدوام ما لا تفيده صيغة ((افعل)) ولا يخفي ضعف هذا القول. وحاصل معنى اختيار المؤلف أنها للإباحة هو: أن الحظر الأول قرينة صارفة للصيغة عن الوجوب إلى الإباحة. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي في هذه المسألة هو ما يشهد له القرآن العظيم وهو أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الفعل إلى ما كان عليه قبل الحظر فان كان قبله جائزاً رجع إلى الجواز , وان كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب.
(1/231)
فالصيد مثلا كان مباحاً ثم منع للإحرام ثم أمر به عند الإجلال فيرجع لما كان عليه قبل التحريم. وقت المشركين كان واجباً ثم منع لأجل دخول الأشهر الحرم ثم أمر به عند انسلاخها في قوله تعالى: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم ... الآية)) فيرجع إلى ما كان عليه قبل التحريم. وهكذا. وهذا الذي اختر نا به بعض الأصوليين واختاره ابن كثير في تفسير قوله تعالى ((فإذا حللتم فاصطادوا)) . وإلى هذه الأقوال في هذه المسألة أشار في المراقي بقوله: وهذا الذي اخترناه , قال به بعض الأصوليين واختاره ابن كثير في تفسير قوله: ((فاصطادوا)) وإلى الأقوال في هذه المسألة أشار في المراقي بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو اختيار أبي الخطاب , وقال القاضي وبعض الشافعية يقتضي التكرار إلى آخره. خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أن الأمر المطلق أي غير المقيد بمرة ولا تكرار ولا صفة ولا شرط فيه أربعة أقوال: الأول: لا يقتضي التكرار وهو الحق. الثاني: يقتضيه. الثالث: ان علق على شرط اقتضى التكرار والا فلا.
(1/232)
الرابع: ان كرر لفظ الصيغة اقتضى التكرار والا فلا. اعلم أولا أن ذكر القول بأنه ان علق على شرط مكرر سهو من المؤلف رحمه الله , لأن الكلام في الأمر المطلق خاصة والمعلق على شرط غير مطلق. والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة واحدة فلو قال لو كيله طلق زوجتي فليس له الا تطليقة واحدة , ولو قال لعبده اشتر متاعاً لم يلزمه ذلك الا مرة واحدة وهذا لا شك فيه , سواء قلنا باقتضائه المرة أو مطلق الماهية لأن معناها آيل إلى شئ واحد. فادعاء اقتضاء التكرار لا وجه له البتة. وكذلك تكرير الصيغة فكونه للتأكيد أظهر. تنبيهان: - الأول: اذا علق الأمر على شرط فالظاهر أنه يكون بحسب ما يدل عليه ذلك الشرط لغة فان كان يفيد التكرار تكرر والا فلا. مثال الأول: كلما جاءك زيد فأعطه درهما. ومثال الثاني: ان جاءك زيد فأعطه درهما. الثاني: قول المؤلف وقولهم ان الحكم يتكرر بتكرر العلة فكذا الشرط. قلنا: العلة تقتضي حكمها فيوجد بوجودها والشرط لا يقتضي الخ ... معناه أنه قائل بأن الحكم يتكرر بتكرر علته وكذلك كلام محشية. والظاهر أن ذلك لا يصح على الإطلاق لأن تكرر العلة قد يتكرر معه الأمر وقد لا يتكرر إما إجماعاً واما على قول. فمثال ما لا يتكرر فيه ي
(1/233)
الأمر بتكرر علته قولا واحداً من بال مرات متعددة أو جامع كذلك فعله وجوب الوضوء والغسل متكررة والأمر بهما غير متكرر بل يكفي فيهما واحد. وكذلك من زنا مرات قبل أن يحد أقيم عليه حد واحد. ومثال ما يتكرر فيه اجماعاً أن يضرب امرأة حاملا فتسقط جنينين , فعليه غرتان , ومن ولد له توأمان فعليه عقيقتان. ومثال ما اختلف فيه تعدد صاع المصراة بتعدد الشياه وتعدد كفارة الظهار أن ظاهر من زوجات وتعدد غسل الاناء بتعدد ولوغ كلب أو كلاب , وتعدد الحميد بتعدد العطاس , وحكاية أذان المؤذنين إلى غير ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (مسألة) الأمر يقتضي فعل المأمور على الفور في ظاهر المذهب , وهو قول الحنفية وقال أكثر الشافعية هو على التراخي الخ ... خلاصة ما ذكره في هذا المبحث ان فيه القولين المذكورين وكونه للفور هو الحق لأمور: الأول: ان ظواهر النصوص تدل عليه كقوله تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم , سابقوا إلى مغفرة)) الآية. وقوله: ((فاستبقوا الخيرات)) الآية. وقد مدح الله تعالى المسارعين بقوله: ((أولئك يسارعون في الخيرات)) الآية.
(1/234)
الثاني: ان السيد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه لم يكن له عذر بأن الأمر على التراخي وذلك مفهوم من وضع اللغة. الثالث: أنه لو قيل هو على التراخي فلا بد أن يكون لذلك التراخي غاية أولاً , فان قيل: له غاية قلنا مجهولة والتكليف بالمجهول لا يصح وان قيل: إلى غير غاية قلنا أدى ذلك إلى سقوطه والفرض أنه مأمور به وان قيل غايته الوقت الذي يغلب على الظن البقاء اليه , فالجواب أن ظن البقاء معدوم لأنه لا يدري أيخترمه الموت الآن. وقد حذر تعالى من التراخي لئلا يفوت التدارك باقتراب الأجل بقوله: ((أو لم ينظرا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم)) ولا سيما والإنسان طويل الأمل , يهرم ويشيب أمله. وأشار في المراقي إلى أن كونه للفور مذهب مالك أيضاً بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) الواجب الموقت لا يسقط بفوات وقته ولا يفتقر القضاء إلى أمر جديد وهو قتول بعض الفقهاء. وقال الأكثرون: لا يجب القضاء الا بأمر جديد واختاره أبو الخطاب الخ ... حاصل هذا المبحث: أن العبادة الموقتة بوقت معين اذا فات وقتها فهل يجب قضاؤها بالأمر الأول، وهو اختيار المؤلف، أو لا يجب إلا
(1/235)
بأمر جديد , وهو قول الأكثرين. حجة الأول: أن الأمر قد شمل أمرين أحدهما فعل العبادة. والثاني: اقترانها بالوقت المعين لها , فإذا فات الوقت تعذر أحدهما وبقي الآخر في الإمكان فيجب الاتيان بالممكن لأن المركب من أجزاء ينسحب حكمه علهما. وحجة الثاني: أنها لما قرنت بالوقت المعين علم أن مصلحتها مختصة به اذ لو كانت في غيره لما خصصت به فيحتاج القضاء إلى أمر جديد. وإلى هذه المسألة أشار في المراقي بقوله: فمن ترك الصلاة عمداً على القبول بعدم خروجه من الملة يلزمه القضاء بالأمر الأول على الأول , وعلى الثاني فبعضهم يقول: لا قضاء عليه لأنه بأمر جديد وهو لم يرد فيه أمر , وبعضهم يوجب عليه القضاء بالقياس على النائم والناسي , لورود الأمر بوجوب القضاء عليها , والأظهر أن يجيب عليه القضاء بنص جديد هو عموم قوله صلى الله عيه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) . قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي الاجزاء بفعل المأمور به اذا
(1/236)
امتثل المأمور بكمال وصفه وشروطه الخ.. حاصل هذا المبحث ان من امتثل الأمر وجاء به على الوجه المطلوب اختلف فيه هل يقتضى ذلك الأجزاء وعدم القضاء أولا , والحق الذي لا شك فيه أنه يقتضيه ولا يعترض عليه بالمضي في الفاسد من الحج , ولا بمن صلى يظن الطهارة ثم تبين حدثه , لأنه في الأول أفسد حجه , وفي الثاني صلى محدثاً فلم يمتثل في واحد منهما على الوجه المطلوب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (مسألة) الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً به ما لم يدل عليه دليل. مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع) ليس بخطاب من الشارع للصبي ولا بإيجاب عليه مع أن الأمر واجب على الولي لكن اذا كان المأمور النبي صلى الله عليه وسلم كان واجباً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لقيام الدليل على وجوب طاعته وتحريم مخالفته. وقال بعض أهل العلم: الأمر بالأمر: أمر. فالأول مأمور بالمباشرة , والثاني بالواسطة وله وجه من النظر. أما اذا حصل في اللفظيين ما يدل على الأمور فهو أمر بلا خلاف كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في شأن طلاق ابنه عبد الله امرأته في الحيض ((مرة فليراجعها)) لأن لام الأمر صدرت منه صلى الله عليه وسلم متوجهة إلى ابن عمر فهو مأمور منه بلا خلاف , وإلى هذه
(1/237)
المسألة أشار في المراقي بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم ... الخ.. خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أن الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل فرد منهم الا بدليل يدل على أنه على الكفاية كقوله تعالى: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير)) الآية. والتحقيق في فرض الكفاية أنه واجب على كلهم يسقط بفعل بعضهم بدليل أنهم ان فعلوه كلهم نالوا ثواب الواجب كلهم وان تركوه كلهم أثموا كلهم. والدليل على أنه ليس على واحد معين تعذر تكليف المجهول وأشار إليه في المراقي بقوله: يعني تعذر تكليف المجهول.
(1/238)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) إذا أمر الله تعالى نبيه بلفظ ليس فيه تخصيص الخ ... قدمنا هذا الفصل مستوفي في مسألة شرع من قبلنا وذكر المؤلف هنا أن ما خوطب به صحابي واحد يعم غيره وأشار في المراقي إلى أن غير الحنابلة خالفهم في عموم خطاب الواحد بقوله: وذكر فيه أيضاً أن الخطاب العام للناس يدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الا بدليل على عدم دخوله. وأشار إليه في المراقي بقوله: ... ... ... ... ... ... ... وقيل لا ولنذكر التفصيلا (1) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) الأمر يتعلق بالمعدوم الخ ...
(1/239)
اعلم ألاً أن الخلاق في هذا المبحث لفظي لأن جميع العلماء مطبقون على أن أول هذه الأمة آخرها إلى يوم القيامة سواء في الأمر والنواهي , والذين يقولون لا يدخل المعدوم في الخطاب , يقولون تكليف المعدوم وقت الخطاب بأدلة منفصلة كقوله: ((وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به
(1/240)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويجوز الأمر من الله لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله وعند المعتزلة لا يجوز إلى آخره. والتحقيق فيه الجواز والحكمة: الابتلاء. ويوضحه أنه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده وهو يعلم أنه لا يمكنه من ذبحه بالفعل وصرح بأن الحكمة في ذلك الابتلاء بقوله: ((ان هذا لهو البلاء المبين)) الآية كما قدمنا , وهذه المسألة مبنية على النسخ قيل التمكن من الفعل. والحق جوازه كما وقع في خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) العم أن ما ذكرناه من الأوامر تتضح به أحكام النواهي إلى آخره أي فكما أن الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء فالنهي استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء. وصيغة الأمر ((افعل)) وصيغة النهي ((لا تفعل)) ولا يشترط فيه إرادة الناهي , والنهي يقتضي التكرار والفور خلافاً للأمر في الأولى على الصحيح.
(1/241)
والأمر يقتضي الاجزاء والنهي يقتضي الفساد , واقتضاؤه الفساد هو الحق خلافاً لأبي حنيفة القائل يقتضي الصحة. والدليل على اقتضائهم الفساد قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) والمنهي عنه ليس من أمرنا فهو مردود بهذا النص المتفق عليه. وأشار في المراقي إلى اقتضائه الفساد على الصحيح بقوله: وأشار إلى قول أبي حنيفة باقتضائه الصحة بقوله: وحجة أبي حنيفة أن النهي عن الفعل يدل على تصور المنهي عنه اذ لو كان ممتنعاً في نفسه لا يقع لم يتوجه اليه النهي كما لا يتتوجه النهي عن الأبصار إلى الأعمى ولا يخفي ما فيه. قال مقيده عفا الله عنه: - في اقتضاء النهي الفساد أقوال كثيرة عن أهل الأصول , ومدار تلك الأقوال على أن النهي ان كانت له جهة واحدة كالشرك والزنا اقتضى الفساد بلا خلاف وان كان له جهتان هو من إحداهما مأمور به ومن الأخرى منهي عنه فهم متفقون على أن جهة الأمر ان انفكت عن جهة انهي لم يقتض الفساد وان لم تنفك عنها اقتضاه , ولكنهم يختلفون في انفكاك الجهة ومن ثم يقع بينهم الخلاف , فالحنبلي يقول: الصلاة بالحرير مأمور بها من جهة كونها صلاة منهي عن لبس الحرير فيها والصلاة في الأرض المغصوبة لا تنفك فيها الجهة لأن نفس شغل أرض الغير بحركات الصلاة حرام فهي باطلة. فيقول المالكي والشافعي والحنفي: لا فرق بين المسألتين فهو أيضاً مأجور على صلاته آثم بغصبه وهكذا.
(1/242)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (باب في العموم) اعلم أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة وقد يطلق في غيرها الخ ... معنى كلامه أن العموم من صفات الألفاظ وقيل: توصف به المعاني أيضاً واختاره العضد وابن الحاجب وغيرهما واليه الاشارة في المراقي بقوله: ومراده بالمباني الألفاظ. وعرف المؤلف ((العام)) تعريفين: الأول: العام هو اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعدا مطلقاًً. وهذا التعريف لا يصح تعريف العام في الاصطلاح به لأنه ليس بمانع فلفظه زوج وشفع مثلا تدل على أثنين ولم يقل أحد أنها صيغة عموم. التعريف الثاني: العام: كلام مستغرق لجميع ما يصلح له. قلت: وهذا التعريف جيد , الا أنه ينبغي أن يزاد عليه ثلاث كلمات: الأولى: بحسب وضع واحد. والثانية: (دفعة) . والثالثة: ((بلا حصر)) من اللفظ فيكون تعريفاً تاماً مانعاً. فخرج بقوله: مستغرق لجميع ما يصلح له ما لم يستغرق نحو: بعض الحيوان إنسان وخرج بقوله: دفعة , النكرة في سياق الإثبات كرجل , فإنها مستغرقة , ولكن استغراقها بدلي لا دفعة واحدة. وخرج بقوله: ((بلا حصر)) لفظ عشرة.
(1/243)
مثلا لأنه محصور باللفظ فلا يكوم من صيغ العموم , على رأي الأكثرين وخرج بقوله: بحسب وضع واحد المشترك ((كالعين)) فلا يسمى عاما بالنسبة إلى شموله الجارية والباصرة , لأنه لم يوضع لهما وضعاً واحدا بل لكل منهما وضع مستقل وعرف العام في المراقي بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - ثم العام ينقسم إلى عام لا أعم منه إلى آخره. حاصله: ان للعموم والخصوص واسطة وطرفين: طرف لا شئ أعم منه , كالمعلوم , والمذكور , فأنه يشمل جميع الموجودات والمعدومات. وطرف لا شيء أخص منه كالأشخاص نحو زيد , وهذا الرجل. وواسطة هي أعلم مما تحتها وأخص مما فوقها , كالحيوان فانه أعلم من الإنسان وأخص من النامي وكالنامي فانه أعم من الحيوان وأخص من الجسم لشمول الجسم غير النامي كالحجر وهكذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) وألفاظ العموم خمسة أقسام: الأول: اسم عرف بالألف واللام لغير المعهود وهو ثلاثة أنواع: 1-ألفاظ الجموع كالمسلمين والمشركين والذين.
(1/244)
2- أسماء الأجناس وهو مالا واحد له من لفظه كالناس والحيوان والماء والتراب. 3- لفظ الواحد كالسارق , والسارقة , والزاني والزانية و ((ان الإنسان في خسر)) . قلت: معنى كلامه ظاهر الا أن إدخال: الذين , والسارق , والزاني , والمشركين , مثلا من المعرف: ((بأن)) فيه نظر لأن ((أل)) في الذين , زائدة لزوماً على الصحيح , وهو اسم موصول معرف , كما قال في الخلاصة: ولأن (0 أل)) في السارق , والزاني , والمشركين , اسم موصول أيضاً , كما قال: واعلم أن المثنى كذلك نحو ((اذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) فانه يعم كل مسلمين وهذا بناء على تناسي الوصية في المسلم وان لم نتناسى ((فأل)) فيه موصوة. القسم الثاني: أدوات الشريط: كمن , فيمن يعقل , و ((ما)) فيما لا يعقل , و ((أي)) في الجميع , و ((أين)) , و ((أيان)) في المكان , و ((متى)) في الزمان إلى آخره. قلت جعله ((أيان)) للمكان سهو منه رحمه الله بل هو للزمان ((كمتى)) . القسم الثالث: من ألفاظ العموم ما أضيف من هذه الأنواع الثلاثة إلى معرفة كعبيد زيد ومال عمرو. قلت: ومن أمثلة في القرآن: ((وان
(1/245)
تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) الآية. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. واعلم أن ((ما)) , و ((من)) , و ((أي)) ) , تعم مطلقاً سواء كانت شروطاً كما ذكره المؤلف أو موصولات , أو استفهامية والأمثلة واضحة نحو: ومن يتوكل عل الله فهو حسبه , وما تفعلوه من خير يعلمه الله , أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل. الحديث) . القسم الرابع: كل , وجميع , كقوله تعالى: ((كل نفس ذائقة الموت , ولكل أمة أجل , فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون , الله خالق كل شئ)) . القسم الخامس: النكرة في سياق النفي , نحو ولم تكن له صاحبة , ولا يحيطون بشيء من علمه. قلت: النكرة في سياق النفي تكون نصاً صريحاً في العموم في ثلاث مسائل: الأولى: المركبة مع ((لا)) التي النفس الجنس نحو لا ريب فيه. الثانية: التي زيد قبلها ((من)) وتطرد زيادتها في: 1- الفاعل نحو: مات آتاهم من نذير.
(1/246)
2- والمفعول: نحو: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول)) الآية. والمبتدأ نحو: وما من اله الا اله واحد. الثالثة: الملازمة للنفي , كالعريب والصافر والدابر والديار وفيما سوى هذه الثلاثة فهي ظاهرة في العموم كالعاملة فيها ((لا)) عمل ليس. (تنبيه) من صيغ العموم: النكرة في سياق الشرط نحو: ((وان أحد من المشركين)) الآية. والنكرة في سياق الامتنان نحو: ((وأنزلنا من السماء ماء طهورا)) , والنكرة في سياق النهي نحو: ((ولا تطع منهم آثماً أو كفورا)) . فائدة: - وربما أفادت النكرة في سياق الإثبات العموم بمجرد دلالة السياق كقوله تعالى: ((علمت نفس ما أحضرت , علمت نفس ما قدمت وأخرت)) بدليل قوله تعالى: ((هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)) الآية. وأنشد لنحوه صاحب اللسان: والعلم أن الحق أن صيغ العموم الخمس التي ذكرها المؤلف التي هي: 1- المعرف ((بأل)) غير العهدية. 2- والمضاف إلى المعرفة.
(1/247)
3- والنكرة في سياق النفي تفيد العموم وخلاف من خالف في كلها أو بعضها كله ضعيف لا يعول عليه. والدليل على أفادتها العموم إجماع الصحابة على ذلك لأنهم كانوا يأخذون بعمومات الكتاب والسنة ولا يطلبون دليل العموم بل دليل الخصوص , وبان السيد لو قال لعبده إحدى الصيغ المذكورة نحو ((من دخل فأعطه درهما , أو كل داخل فأعطه درهما فعليه التعميم وليس له منع أحد ممن شملهم العموم. ومن قال: ان المفرد المعرف ((بأل)) لا يعم. يرد عليه بقوله تعالى: ((والعصر ان الإنسان لفي خسر الا الذين آمنوا)) اذ لو لم يعم كل إنسان لما استثنى منه ((الا الذين آمنوا)) الآية. (تنبيه) قال محققو الأصوليين: لا فرق في الجموع المعرفة ((بأل)) بين جمع القلة والكثرة لأن الاستغراق فيها مفهوم من الألف واللام. ولذاعم معهما المفرد كما ذكرنا آنفاً فكيف بالجميع , وقد أشار المؤلف إلى هذا في هذا المبحث وهو ظاهر. وذكر في المراقي صيغ العموم بقوله.
(1/248)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) أقل الجمع ثلاثة , وحكى عن أصحاب مالك وابن داوود وبعض النحويين وبعض الشافعية: أقلة اثنان الخ.. خلاصة هذا المبحث أن في أقل الجمع قولين: أحدهما أنه ثلاثة , وهو مذهب الجمهور. والثاني: أنه اثنان وعزاه المؤلف لمن ذكر وهو رأي مالك رحمه الله. قال في المراقي: يعني مالكاً - وحجه هذا القول قوله تعالى: ((فان كان له أخوة)) الآية. لأنها تحجب بالأثنين من الثلث إلى السدس. وقوله: ((وأطراف النهار)) الآية. مع أنهما طرفان. إلى غير ذلك من الأدلة. قلت: وينبني على الخلاف ما لو أقر بدراهم أو دنانير ولم يبين وقلنا يلزم أقل الجمع لأنه محقق فعلة القول بأنه ثلاثة تلزمه وهو الحق واتفق على لزوم الثلاثة المذكورة المالكية وحجة الجمهور واضحة وهي أن أهل اللسان العربي فرقوا بين المفرد والمثنى والجمع. وجعلوا لكل واحد منها لفظاً وضميراً مختصاً به فالفرق في اللسان بين التثنية والجمع ضروري ولا حجة لمن يقول أقله اثنان في حديث: الاثنان فما فوقهما جماعة
(1/249)
لأن المراد حصول فضل الجماعة بالأثنين وهو أمر شرعي والكلام في أمر لغوي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) اذا ورد لفظ العموم على سبب خاص لم يسقط عمومه إلى أن قال: وقال مالك وبض الشافعية يسقط عمومه الخ ... حاصلة: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب فالنصوص العامة الواردة على أسباب خاصة تكون أحكمها عامة وهذا هو الحق. قلت: تحرير المقام في هذه المسألة أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات: الأولى: أن يقترن بما يدل على العموم فيعم اجماعاً كقوله تعالى: ((السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) لن سبب نزولها المخزومية التي قطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها والاتيان بلفظ السارق الذكر يدل على التعميم وعلى القول بأنها نزلت في الرجل الذي سرق رداء صفوان بن أمية في المسجد فالاتيان بلفظ السارقة الأنثى دليل على التعميم أيضاً. الثانية: أن يقترن بما يدل على التخصيص فيخص اجماعاً كقوله تعالى: ((خالصة لك من دون المؤمنين)) . الثالثة: ألا يقترن بدليل التعميم ولا التخصيص وهي مسألة المؤلف. والحق فيها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيعم حكم آية اللعان
(1/250)
النازلة من عويمر العجلاني وهلال. وآية الظهار النازلة في امرأة أوس بن الصامت وآية الفدية النازلة في كعب بن عميرة. وآية: ((وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون)) النازلة في ابنتي سعد بن الربيعة. وهكذا. (تنبيه) فان قيل: ما الدليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ فالجواب: أن ذلك دل عليه الوحي واللغة أما الوحي فان هذه المسألة سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتى بذلك , وذلك أن الأنصاري الذي قبل الأجنبية ونزلت فيه: ((ان الحسنات يذهبن السيئات)) الآية. قال للنبي: إلى هذا وحدي يا رسول الله , ومعنى ذلك هل حكم هذه الآية يختص بي لأني سبب نزولها؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن العبرة بعموم لفظ: ((ان الحسنات يذهبن السيئات)) لا بخصوص السبب حيث قال له: (بل لأمتي كلهم) وهو نص نبوي في محل النزاع. ومن الأحاديث الدالة على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أيقظ علياً وأمره وفاطمة بالصلاة من الليل , وقال له على رضي الله عنه: ان أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا ولي صلى الله عليه وسلم يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شئ جدلا , فجعل عليا داخلاً فيها مع أن سبب نزولها الكفار الذين يجالدون في القرآن. وخطابه صلى الله عليه وسلم لواحد كخطابه للجميع كما تقدم
(1/251)
ما لم يقم دليل على الخصوص. وأما اللغة فان الرجل لو قالت له زوجته: طلقني فطلق جميع نسائه لا يختص الطلاق بالطالبة التي هي السبب. والتحقيق عن مالك أنه يوافق الجمهور في هذه المسألة خلافاً لما ذكره عنه المؤلف , وأشار في المراقي إلى أن السبب لا يخصص عموم اللفظ عند مالك بقوله: وجمهور أهل الأصول على أن صورة السبب قطعية الدخول في العام فلا يجوز اخراجها منه بمخصص وهو التحقيق. وروي عن مالك أنها ظنية الدخول كغيرها من أفراد العام , وأشار له في المراقي بقوله: يعني بالإمام مالكاً رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) قول الصحابي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وقضى بالشفعة فيما لم يقسم ((يقتضي العموم)) وقال قوم لا عموم له الخ ... هذه المسألة يترجم لها عن الأصوليين (بحكاية الصحابي فعلا)) ظاهرة العموم نحو: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
(1/252)
بيع الغرر وكل شاهد مثلا , زاعمين أن الحجة في المحكي لا في الحكاية. والمحكي غير عام , والمؤلف يجزم باقتضائه العموم وهو الذي اختاره ابن الحاجب , والفهري , والقرافي , وغير واحد. قلت: واقتضاؤه العموم هو الحق لأن الصحابي عدل عارف فلا يروي مال يدل على العموم الا وهو جازم بالعموم. والحق جواز نقل الحديث بالمعنى , وعدالة الصحابي تنتفي احتمال منافاة حكايته لما حكى كما هو ظاهر. وقد حققه القرافي بإيضاح وتبع في المراقي الأكثر القائلين بعدم العموم في هذه المسألة فقال عاطفاً على ما لا يعم على الصحيح عنده: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) وما ورد من خطاب مضاف إلى الناس والمؤمنين دخل فيه العبد الخ ... حاصله: أن العبيد داخلون في الخطابات العامة نحو: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم)) الآية. وقوله: ((وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون)) وقوله تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) لأنهم من جملة الناس والمؤمنين والأمة , ومن جملة المكلفين.
(1/253)
وقال قوم: لا يدخلون إلا بدليل خاص لخروجهم في كثير من العمومات كالحج , والميراث , ووجوب الجمعة , ونحو ذلك. وأجيب عنه بأنهم داخلون إلا إذا دل دليل على إخراجهم , وهذا هو الظاهر. واعتمد في المراقي دخولهم بقوله: وقوله المؤلف في هذا الفصل: ويدخل النساء في الجمع المضاف إلى الناس وما لا يتبين فيه لفظ التذكير والتأنيث الخ ... خلاصته: أن له طرفين وواسطة: طرف يدخل فيه النساء مع الرجال اتفاقاً نحو الخطاب بـ ((يا أيها الناس)) وكادوات الشرط نحو ((من)) . (ب) وطرف لا يدجلن فيه معهم اجماعاً نحو: الرجال والذكور كما لا يدخل الرجال في لفظ النساء والإناث ونحو ذلك. ( ج) وواسطة: اختلف فيها وهي: الجموع المذكورة ونحوها وذكر أنه اختيار القاضي وقول بعض الحنفية وابن داوود , وعزا عدم دخولهن للأكثرين , وهو اختيار أبى الخطاب. قلت: واحتج كل من الفرقين بالقرآن الكريم , كالآتي: (أ) احتج من قال بدخولهن في جموع التذكير ونحوها بقوله تعالى: ((وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)) وقوله: ((واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين))
(1/254)
وقوله تعالى: ((وصدها ما كانت تبعد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين)) . وفي ضمائر المذكور بقوله تعالى: ((قلنا أهبطوا منها جميعاً)) الآية. فان الضمير يتناول حواء اجماعاً. (ب) واحتج من قال بعدم دخولهن بقوله تعالى: ((ان المسلمين والمسلمات)) إلى قوله تعالى: ((أجراً عظيماً)) وقوله تعالى: ((قل للمؤمنين بغضوا من أبصارهم)) الآية. ثم قال: ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)) الآية. والعطف يقتضي عدم الدخول. وقوله تعالى: ((ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات)) . واحتج المؤلف وغيره لدخولهن بأن المذكر يغلب في الجمع على المؤنث. وأجاب المخالفون بأن الخلاف ليس في جواز التغليب المذكور وانما هو في الظهور والتبادر من اللفظ. (تنبيه) ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن أدوات الشرط نحو ((نحو)) مجمع على شمولها للنساء مع أن ذلك خالف فيه جماعة من الحنفية. وقال إمام الحرمين: لفظ ((من)) يتناول الأنثى باتفاق كل من ينسب للتحقيق من أرباب اللسان والأصول. وقالت شرذمة من الحنفية لا يتناولهن فقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم:
(1/255)
(من بدل دينه فاقتلوه) انه لا يتناول المرأة فلا تقتل عندهم المرتدة بناء على ذلك. قلت: ومن الأدلة القرآنة على دخول النساء في لفظ ((من)) قوله تعالى: ((ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى)) الآية. وقوله تعالى: ((يا نساء النبي من يأت منكن)) الآية. ((ومن يقنت منكن)) الآية. وأشار إلى مسألة ((من)) ) والجمع المذكر السالم ونحوه في المراقي بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور. وقال أبو ثور وعيسى بن أبان لا يبقى حجة لأنه يصير مجازاً فقد خرج الوضع من أيدينا ولا قرينة تفصل وتحصل فيبقى مجملاً. ولنا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالمعلومات وما عن عموم إلا وقد تطرق إليه تخصيص الا اليسير الخ ... معنى كلامه ظاهر وهو مذهب الجمهور وهو الحق ولا يخفى أن قوله تعالى: ((وأحل لكم ما رواء ذلكم مثلا إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج منه جمع المرأة مع عمتها أو خالتها يبقى عمومه حجة فيما سوى ذلك , وإلى هذه المسألة أشار في المراقي
(1/256)
بقوله: والقول بأنه لا يبقى حجة في الباقي بعد التخصيص يلزمه بطلان جل عمومات الكتاب والسنة لأن الغالب عليها التخصيص والتخصيص لا يقدح في دلالة اللفظ على الباقي. كما أن قوله تعالى: ((فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاماً)) لا يقدح فيه إخراج الخمسين بالاستثناء في صحة لبثه فيهم تسعمائة وخمسين كما هو ظاهر. وقولهم لا قرينة تفصل مردود بأن اللفظ شامل للكل بحسب الوضع فلا يخرج منه الا ما أخرجه دليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) واختار القاضي أنه حقيقة بعد التخصيص , وهو قول أصحاب الشافعي , وقال قوم يصير مجازاً على كل حال الخ ... حاصل ما يقوله الأصوليون في هذا المبحث أن تخصيص العام ينقسم إلى عام مخصوص , وعام أريد به الخصوص (أ) فالعام المراد به الخوص عندهم مجاز من غير خلاف بينهم. (ب) والعام المخصوص فيه عندهم طرق: الأولى: أنه يصير مجازاً أيضاً , وعزاه غير واحد للأكثر واختاره ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما, وعزاه القرافي لبعض أصحاب ما لك وأصحاب أبي حنيفة , وأصحاب الشافعي.
(1/257)
الثانية: أنه حقيقة في الباقي وذكر المؤلف أنه اختيار القاضي , واختاره ايضاً صاحب جمع الجوامع وعزاه لوالده والفقهاء وهو أظهرها. وقال الغزالي: انه مذهب الشافعي , وعزاه القرافي لبعض أصحاب ما لك وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وحجة هذا القول: أن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله هله بلا تخصيص لأنه يتناوله بحسب الوضع الأصلي وهو واضح. واحتج المانعون بأن أصل الوضع يتناوله مع غيره لا دونه والشئ مع غيره , غيره لا مع غيره. ولا يخفى أن الأول أظهر. الثالثة: ان خص بما لا يستقل بنفسه كالاستثناء والشرط وافة والغاية , فهو حقيقة وأن خص بمستقل من سمع أو عقل فهو مجاز. وعزاه الآمدي والأبياري للقاضي أبي بكر وهذه الطرق هي التي أشار اليها المؤلف , وفيه أربعة أقوال غيرها: 1- الأول: أنه حقيقة ان كان الباقي غير منحصر لبقاء خاصية العموم وبه قال ابن فورك. 2- الثاني: أنه حقيقة في تناول ما بقي مجاز في الاقتصار عليه وبه قال إمام الحرمين , وضعفه الأبياري. 3- الثالث: ان خص باستثناء كان مجازاً وان خص بشرط أو صفة كان حقيقة , وبه قال عبد الجبار من المعتزلة. 4- الرابع: ان خص بغير لفظ كالعقل فهو مجاز , وان خص بدليل لفظي مطلقاً فهو حقيقة , وأشار في المراقي إلى بعض الأقوال في هذه المسألة مع تعريف العام المخصوص والعام المراد به الخصوص بقوله:
(1/258)
وهذا التقسيم للمتأخرين , وهما شئ واحد عند القدماء , قال في المراقي: ((واتحد القسمان عند القدماء)) . قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد , وقال القاضي , والرازي , والقفال , والغزالي , لا يجوز النقصان عن أقل الجمع الخ ... حاصله: هل يجوز إخراج أفراد العام بالمخصص حتى لا يبقى الا فرداً واحداً أولا بد من بقاء أقل الجميع: جزم المؤلف بالأول , وعزا الثاني لمن ذكرنا , وذكر هذه المسألة في المراقي بقوله: ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: ((الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)) الآية. لأن المراد بالناس نعيم بن مسعود , أو أعرابي من خزاعة , ويدل لذلك إفراد الإشارة في قوله: ((انما ذلك الشيطان يخوف أولياءه)) الآية. كما نبه عليه غير واحد. وقوله: ((فادته الملائكة)) الآية.
(1/259)
المراد به النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) والمخاطب يدخل تحت الخطاب بالعام وقال قوم لا يدخل الخ ... حاصله: ان المخاطب باسم الفاعل اذا خاطب غيره بصيغة العموم هل يدخل هو في عموم ذلك الخطاب أو لا؟ اختار المؤلف أنه يدخل , واحتج المخالف بأنه لو قال لعبده: من دخل فأعطه درهماً فدخل هو لم يدخل في عموم خطابه فليس عليه أن يعطيه , وأجاب المؤلف عن هذا بأن اللفظ عام والقرينة هي التي أخرجت المخاطب وقد قدمنا طرفاً من هذا في الأمر. قلت: سأل أصحاب رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم عن مضمون هذه المسألة فأجابهم يما يقتضي دخول المخاطب وذلك أنه لما قال لهم: لن يدخل أحدكم عمله الجنة. سألوه: هل هو داخل في هذا الخطاب بقولهم: ولا أنت فقال صلى الله عليه وسلم: ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمة من فضله. وذكر المؤلف في هذا المبحث أن أبا الخطاب اختار أن الأمر لا يدخل في الأمر وقد قدمنا هذا في قول صاحب المراقي:
(1/260)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال في قول أبي بكر والقاضي. وقال أبو الخطاب: لا يجب حتى يبحث فلا يجد ما يخصصه. قال وقد أومأ إليه في رواية صالح وأبي الحارث الخ ... حاصله: أن التحقيق ومذهب الجمهور وجوب اعتقاد العموم والعمل من غير توقف على البحث عن المخصص لأن اللفظ موضوع للعموم فيجب العمل بمقتضاه فان اطلع على مخصص عمل به , وقيل لا يجوز اعتقاد عمومه ولا العمل به حتى يبحث عن المخصص بحثاً يغلب به على الظن عدم وجوده لأنه قبل البحث محتمل للتخصيص. قلت: وقد قدمنا إن الظاهر يجب العمل به حتى يوجد دليل صارف عنه , ولا شك أن العموم ظاهر في شمول جميع الأفراد كما لا يخفى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) في الأدلة التي يخص بها العموم , ولا نعلم اختلافاً في جواز تخصيص العموم الخ.. اعلم أولاً أنه رحمة الله لم يذكر تعريف التخصيص ولا تقسيم المخصص إلى متصل ومنفصل , ونحن نوضح ذلك إن شاء الله ,
(1/261)
فالتخصيص في الاصطلاح قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك وعرفه في الراقي بقوله: والمخصص ينقسم عند أهل الأصول إلى متصل ومنفصل: 1- الاستثناء نحو: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)) إلى قوله: ((إلا الذين تابوا)) وقوله: ((ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) . 2- الشرط نحو: ((لكل واحد منها السدس مما ترك إن كان له ولد)) وقوله: ((والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ً)) . 3- الصفة نحو: ((من فتياتكم المؤمنات)) الآية. وفي الغنم السائمة الزكاة. 4- الغاية: نحو: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن)) الآية. ((ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)) . 5- الخامس يدل البعض من الكل نحو: ((ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)) وأشار في المراقي للتخصيص بالاستثناء بقوله في المخصص المتصل: وأشار في المراقي للشرط بقوله:
(1/262)
وأشار للوصف بقوله: وأشار للغاية بقوله: وأشار لبدل البعض من الكل بقوله: (ب) وأما المخصص المنفصل فهو ما يستقل بنفسه دون العام من لفظ أو غيره وهو ثمانية أقسام عند أهل الأصول: 1- الحس: وهم يمثلون له بقوله تعالى في ريح عاد: ((تدمر كل شئ)) الآية. فيقولون: أثبت الحس أموراً لم تدمرها تلك الريح , كالسموات والأرض والجبال. قلت: وفيه عندي نظر لأن التخصيص قد يفهم من قوله تعالى: ((بأمر ربها)) وقوله: ((ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم)) . نعم قد يصلح مثاله بقوله: ((وأوتيت من كل شئ)) . الآية. ((وتجبى إليه
(1/263)
ثمرات كل شئ)) الآية. لأن من تتبع أقطار الدنيا قد يشاهد بالحسن بعض الأشياء التي لم تؤتها بلقيس ولم تجب إلى الحرم. 2- العقل: ويمثلون له بقوله تعالى: ((خالق كل شئ)) الآية. يقولون. دل العقل على أنه تعالى لا يتناوله ذلك وان كان لفظ الشيء يتناول كقوله: ((كل شئ هالك إلا وجه)) وقوله: ((قل أي شئ اكبر شهادة قل الله شهيد)) . ومثل له المؤلف بقوله: ((ولله على الناس حج البيت)) فان العقل دل على أن فاقد العقل بالكلية لا يدخل في هذا الخطاب. 3- الإجماع: ومثل له بعضهم بإجماع المسلمين على أن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين فيلزم تخصيص: ((أو ما ملكت أيمانهم)) الآية. بالإجماع. والإجماع في الحقيقة ((هنا)) إنما يدل على مستند للتخصيص فمستند هذا الإجماع الذي ذكرنا هو قوله تعالى: ((وأخواتكم من الرضاعة)) . 4- الرابع القياس كقوله تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما)) الآية. فان عموم الزانية خصص بالنص وهو قوله في الإماء: ((فعليهن نصف ما على المحصنات)) الآية. فقيس عليها العبد فخص عموم ((الزاني)) بهذا القياس أعني قياس العبد على الأمة في تشطير الحد عنها المنصوص عليه بقوله: ((فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) بجامع الرق فيلزم جلد العبد
(1/264)
خمسين لقياسه على الأمة ويخرج بذلك من عموم ((الزاني)) الذي يجلد مائة , وهذا التخصيص في الحقيقة إنما هو بما دل عليه قوله: ((فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) من أن الرق مناط تشطير الحد. 5- الخامس: المفهوم وهو: (أ) مفهوم موافقة. (ب) ومفهوم مخالفة. فمثال الخصيص بمفهوم الموافقة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته. الحديث) بمفهوم الموافقة في قوله تعالى:: ((فلا تقل لهما أف)) الآية. فانه يفهم منه منع جس الوالد في الدين فلا يجس في دين ولده. ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص حديث (في أربعين شاة شاة بمفهوم المخالفة في قوله: في الغنم السائمة الزكاة فمفهوم السائمة أنه لا زكاة في المعلوفة فتخرج من عموم في أربعين شاة شاة) . 6- السادس: العرف المقارن للخطاب , ولم يذكره المؤلف رحمه , ومثاله: ما رواه الإمام احمد ومسلم من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (الطعام بالطعام مثلا بمثل , وكان طعامنا يؤمئذ الشعير , فمن يقول: بأن علة الربا غير الطعم خصص عموم إطعام في هذا الحديث بالشعير للعرف المقارن للخطاب. 7- السابع: نص آخره يخصص العموم وهذا النوع أربعة أقسام لأن كلا من المخصص والمخصص باسم الفاعل والمفعول تارة يكون كتاباً وتارة يكون
(1/265)
سنة , فالمجموع أربعة من ضرب أثنتين في أثنتين. 1- الأولى: تخصيص كتبا بكتاب كتخصيص عموم ((والمطلقات يتربصن بأنفسهن)) الآية. , بقوله: ((وألات الأجمال أجلهن)) الآية. وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا اذا نكحتم المؤمنات)) الآية. وكتخصيص: ((ولا تنكحوا المشركات)) بقوله: ((والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)) الآية. 2- الثانية: تخصيص كتاب سنة كتخصيص ((وأحل لكم ما وراء ذلك)) الآية. بحديث: (لا تكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. الحديث) . وتخصيص: ((يوصيكم الله في أولادكم. للذكر مثل حظ الأنثيين)) . الآية. بحديث: (انا معشر الأنبياء لا نورث. الحديث) . 3- الثالثة: تخصيص سنة بسنة كتخصيص فيما سقت السماء العشر بقوله: (ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة) ويدخل في هذا النوع التخصيص بفعله صلى الله عليه وسلم أو تقريره لأن التقرير فعل ضمني وفعله من سنته صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة تخصيص القرآن بالفعل تخصيص: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن)) بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بعض أزواجه أن تشد ازارها ثم يباشرها وهي حائض. 4- الرابعة: تخصيص السنة بالكتاب , مثاله. حديث ما أبين من حي فهو ميت. فان عمومه مخصص بقوله تعالى: ((ومن أصوافها
(1/266)
وأوبارها)) الآية. وكتخصيص حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا (أن لا اله الا الله) بقوله تعالى: ((حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون)) . وأشار في المراقي إلى تعريف المخصص المنفصل وأقسامه بوله: ... واعلم أن التحقيق أنه يجوز تخصيص المتواتر بأخبار الآحاد لأن التخصيص بيان وقد قدمنا أن المتواتر يبين الآحاد قرآناً أو سنة كما أن التحقيق أيضاً جواز تخصيص السنة بالكتاب كما ذكرنا خلافاً لمن منعه محتجاً بقوله: ((لتبين للناس ما نزل إليهم)) . ومن الحجة عليه: ((وأنزلنا عليك الكتاب تبيناناً لكل شئ)) . الآية. واعلم أيضاً أن التحقيق هو تخصيص العام بالخاص سواء تقدم عنه أو تأخر خلافاً لأبي حنيفة القائل بأن المتأخر منهما ناسخ , محتجاً بقول ابن عباس أو الزهري كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث وبأن العام قطعي الشمول للأفراد عنده , وعليه ان جهل التاريخ يلزم التوقف حتى يدل دليل على أحدهما. وهذا المذهب رواية أيضاً عن أحمد. والدليل على تقديم الخاص على العام مطلقاً أمران: الأول: أن الصحابة كانوا يقدمونه عليه كما قاله المؤلف وغيره ومن تتبع قضاياهم تحقق ذلك عنهم.
(1/267)
الثاني: أن دلالة الخاصة أقوى من تناولهم العام له فلا شك أن دلالة ((انا معاشر الأنبياء لا نورث)) على عدم أرث فاطمه له صلى الله عليه وسلم أقوى من دلالة عموم ((يوصيكم الله في أولادكم)) الآية. على ارثها له صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وزاد المؤلف من المخصصات المنفصلة , قول الصحابي عند من يراه حجة , وقد قدمنا أن قول الصحابي لا يمكن أن يخص به العام إلا إذا كان له حكم الرفع بكونه لا مجال للرأي فيه. والمؤلف جعل فعله وتقريره صلى الله عليه وسلم مخصصين مستقلين , ونحن أدرجنا هما في التخصيص بالسنة , لأن السنة قول وفعل وتقرير. وقد مثلنا للفعل ومثل بعضهم للتقرر بتقريره صلى الله عليه وسلم على عدم إخراج الزكاة من الخيل فانه يخصص وجوب الزكاة مع أن الخيل جاء بها نص وهو حديث: (ليس على مسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) متفق عليه. والمخالف يقول: ان كثرت وكانت سائمة ففيها الزكاة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) اذا تعارض العمومان فان أمكن الجمع بينهما جمع الخ ... قال مقيده عفا الله عنه: - حاصل كلام أخل الأصول في التعارض أنه له ثلاث حالات: الأولى: تعارض عام وخاص , وهي التي قدمنا أن العام فيها يحمل على الخاص خلافاً لأي حنيفة القائل بأن المتخر ناسخ وهو رواية عن أحمد.
(1/268)
الثانية: تعارض خاصين فيجب الترجيح كتعارض حديث ابن عباس أنه النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم , مع حديث ميمونة وأبي رافع بخلاف ذلك. فيرجع حديث ميمونة بأنها صاحبة القصة فهي أدرى بها وحديث أبي رافع بأنه هو السفير بينهما , والمباشر أعلم بالقصة من غيره. الثالثة: تعارض عامين مطلقاً أو من وجه , فان أمكن الجمع جمع والا وجب الترجيح , مثال ما أمكن فيه الجمع: أحاديث ذم من يشهد قبل أن يستشهد مع أحاديث مدحه. فيجمع بحمل ذمه على؟ أن يكون عالماً بأن صاحب الحق عالم بأنه يعرف حقه. ويحمل مدحه على كونه لم يعلم بأنه شاهد له على حقه. ومثال ما يجب فيه الترجيح حديث وجوب الوضوء من مس الذكر وحديث عدم وجوبه فيرجع حديث الوجوب بأنه أحوط في الخروج من العهدة. ومثال الترجيح في الأعمين من وجه ترجيح عموم ((وأن تجمعوا بين الأختين على عموم)) أو ما ملكت أيمانهم , بأنه أحوط أيضاً وبأنه نص مقصود لتحريم النساء وتحليلهن بخلاف ((أو ما ملكت أيمانهم فانه في معرض مدح المتقين. وحاصل تحريره أن المتعارضين يجب الجمع بينهما ان أمكن فان لم يمكن رجح أحدهما , فان لم يرجح فالأخير ناسخ فان لم يعلم الأخير طلب الدليل من غيرها.
(1/269)
فصل في الاستثناء
صيغ الاستثناء هي المعروفة في النحو وأم الباب ((الا)) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - وحده: أنه قول ذو صيغة متصل يدل على ان المذكور معه غير مراد بالقول الأول. وذكر المؤلف أن الاستثناء يفارق التخصيص في شيئين: الأول: أن اتصاله لازم بخلاف التخصيص. الثاني: أنه يتطرق إلى النص الذي لا يحتمل الا معنى واحداً نحو عشرة الا ثلاثة , بخلاف التخصيص فهو من العمومات وهي ظواهر. قلت: وقد قدمنا أن غير المؤلف يعد الاستثناء من المخصصات المتصلة. قال المؤلف: ويفارق النسخ أيضاً في ثلاثة أشياء: أحدهما: في اتصاله. والثاني: أن النسخ رافع لما دخلت تحت اللفظ. والاستثناء يمنع أن يدخل تحت اللفظ ما لولاه لدخل. الثالث: أن النسخ يرفع جميع حكم النص , والاستثناء إنما يجوز في البعض. قلت: وقد يجوز النسخ في البعض كحديث عائشة الثابت في مسلم من نسخ عشر رضعات بخمس معلومات , واشترط المؤلف ثلاثة شروط:
(1/270)
الأول: أن يكون متصلا بالمستثنى منه. الثاني: أن يكون من جنس المستثني منه. الثالث: أن يكون المستثنى أقل من النصف. وقال: في استثناء النصف وجهان. وحكى المؤلف جواز تأخير الاستثناء عن ابن عباس وحكى عن طاووس والحسن جوازه في المجلس, قال: وأومأ أحمد رحمه الله في الاستثناء في اليمين , والأولى ما ذكرنا. قلت: التحقيق أن الاستثناء لا بد أن يكون متصلا بالمستثنى منه ويدل له قوله تعالى في قصة أيوب: ((وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث)) اذ لو كان تدارك الاستثناء ممكناً لقال: قل ان شاء الله. والظاهر فيما روى عن ابن عباس أن مراده به الخروج من عهده النهي في قوله تعالى: ((ولا تقولن لشئ)) الآية. وليس مراده أن تحل به الأيمان وغيرها مع تأخيره عنها. وأما اشتراط كون المستثنى من جنس المستثنى منه فاستدل له بأن الاستثناء أخرج بعض ما دخل في المستثنى منه وغير جنسه لم يدخل حتى يخرج. وأكثر الأصوليين على جواز الاستثناء المنقطع , واستدلوا له بكثرة وروده في القرآن وفي كلام العرب كقوله تعالى: ((لا يسمعون فيها لغواً الا سلاما)) , وقوله تعالى: ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى الا ابتغاء وجه ربه الأعلى)) وقوله: ((لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم)) .
(1/271)
وقال النابغة الذبياني: وقال الراجز: وينبني على الخلاف في هذه المسألة ما لو قال: له على ألف درهم الا ثوباً , فعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع تسقط قيمة الثوب بتقدير مضاف أو على المجاز عندهم من إطلاق الثوب وارادة قيمته. وفرق بعضهم بين الإقرار فأسقط فيه قيمة الثوب وبني العقد فجعل ((إلا)) فيه بمعنى الواو , وهو مقتضى كلام مالك في المدونة وأشار في المراقي إلى هذه المسألة مع تعريف الاستثناء المتصل والمثقطع بقوله. وما اشترط كون المستثنى أقل من النصف فقد استدل له بان استثناء الأكثر ليس من لغة العرب. قال: وقال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثرة. وقال ابن جنبي: لو قال قائل له على مائة إلا تسعة وتسعين. ما كان متكلماً بالعربية , وكان كلامه عياً من الكلام ولكنة.
(1/272)
قلت: وهذا القول عزاه واحد لمالك وهو قول الباقلاني والبصريين وعليه أكثر النحاة. وقال أكثر الأصوليين: يجوز استثناء الأكثر , واستدلوا بأن الله تعالى قال في آية ((فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)) الآية. وقال في أخرى: ((إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)) الآية. قالوا: ((فلا بد أن يكون الغوون أكثر من المخلصين)) أو العكس وعلى كل فقد استثنى الله الأكثر. قلت: وهذا الدليل في المسألة قوى. وجواب المؤلف رحمه الله عنه بدخول الملائكة في آية استثناء الغاوين وخروجهم من آية استثناء المخلصين ليس بمتجه فيما يظهر لي بل الظاهر إخراجهم من الآيتين أو إدخالهم فيها. أما إخراجهم من واحدة وإدخالهم في الأخرى بلا دليل فهو تحكم لا دليل عليه. أما البيت الذي استدل به بعضهم وهو قوله: فقد أجاب عنه المؤلف بجوابين: أحدهما: أنه ليس فيه استثناء أصلاً. والثاني: أنه مصنوع وعزاه لابن فضال النحوي. وأشار في المراقي إلى جميع الأقوال في هذه المسألة بقوله.
(1/273)
(تنبيه) لم يتكلم المصنف رحمه الله على حكم تعدد الاستثناء وحكمه: إن تعدد بعطف فجميع الاستثناءات راجعة للمستثني منه الأول بلا خلاف نحوله على عشرة إلا واحدا وإلا أثنين. فان تكررت بلا عطف فلها أربع حالات: الأولى: أن لا يستغرق واحد منها وفي الحالة فكل استثناء راجع لما قبله على التحقيق نحو: له عشرة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة فتلزمه ستة لأن الثلاثة تخرج من الأربعة فيبقى واحد يخرج من الخمسة تبقى أربعة تخرج من العشرة تبقى ستة. الثانية: أن يستغرق كل ما يليه فيبطل الكل. الثالثة: أن يستغرق غير الأول فيرجع الكل للمستثنى منه الأول بلا خلاف نحو له على عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة فتلزم خمسة. الرابعة: أن يستغرق الأول وحده نحو عشرة إلا عشرة إلا أربعة فقيل يبطل ما بعد المستغرق تبعاً له فيلزم العشرة. وقيل يعتبر ما بعده واختلف في طريق اعتباره. فقيل: يستثنى من الاستثناء الأول فتلزم أربعة. وقيل: يعتبر الثاني دون الأول فتلزم ستة وهذه الأقوال على قول من يجيز استثناء الأكثر والمثال لا يعترض لأن المقصود منه فهم القاعدة. واعلم أن التحقيق هو ما ذكرنا من جواز الاستثناء من الاستثناء وذكره السيرافي في شرح كتاب سيبويه.
(1/274)
قلت: ودليله من القرآن قوله تعالى: ((قالوا انا أرسلنا إلى قوم مجرمين , آل لوط انا لمنجوهم أجمعين الا امرأته)) الآية. وأشار في المراقي إلى تعدد الاستثناء وأحكامه بقوله: وبهذا نعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة: ((وحكمها في القصد حكم الأول)) ليس على إطلاقه. وقول المؤلف في هذا المبحث: ولا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز استثناء الكل , فيه أنه خالف فيه ابن طلحة الأندلسي في كتابه المسمى بالمدخل. وأشار له في المراقي بقوله: وعله فلو قال: له على عشرة إلا عشرة لم يلزمه شئ وعامة العلماء على خلافه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) إذا تعقب الاستثناء جملا إلى آخره. خلاصة ما ذكره في هذا المبحث: أن الاستثناء إذا ورد بعد جمل متعاطفة رجع لجميعها خلافاً لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخير فقط ,
(1/275)
وبنى على هذا الأصل عدم قبل شهادة القاذف ولو تاب وأصلح , لأن الاستثناء في قوله تعالى: ((إلا الذين تابوا)) , لا يرجع عنده إلا للأخيرة وهي)) وأولئك هم الفاسقون)) الآية. واستدل المؤلف لرجوع الاستثناء للكل بثلاثة أمور. الأول: قياسه على الشرط. وقد قدمنا أن الشرط يرجح لكل المتعاطفات قبله. الثاني: اتفاق أهل اللغة على أن التكرار الاستثناء عقب كل جملة عي ولكنه , فيما يراد فيه الاستثناء من الجمع. الثالث: أن العطف بالواو يوجب نوعاً من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه , وأشار في المراقي إلى هذه المسألة بقوله: وظاهر المؤلف الفرق بين الواو وغيرها , وذكر غير واحد أن الفاء وثم كذلك , لأن الكل يدل على الاتفاق ي الحكم , وانما التفاوت في الترتيب والتراخي ومطلق التشريك , وهو الظاهر , أما نحو: بل , ولكن , ولا. فظاهر أنها ليست كذلك لأنها لأحد الشيئين بعينه وهل يمكن رجوعه فيها للكل وهو محل تردد للأصوليين. وأما , أو , وأم , واما , فإنها لأحدهما لا بعينه فلا يتأتي دخول المتعاطفين بها في محل النزاع.
(1/276)
قال مقيده عفا الله عنه: - (فصل) في الشرط إلى آخره قد قدمنا الكلام الشرط مستوفي في المخصصات المتصلة وهو ينقسم إلى عقلي وشرعي ولغوي. فالعقلي كالحياة للعلم , والشرعي كالطهارة , واللغوي نحو: ان دخلت الدار فأنت طالق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) (في المطلق والمقيد) المطلق هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه وهي النكرة في سياق الأمر , كقوله تعالى: ((فتحرير رقبة)) الآية. وقد يكون في الحبر نحو لا نكاح إلا بولي وشاهدين ... الخ.. مشى المؤلف إلى اتحاد النكرة والمطلق الذي هو اسم الجنس وكثير من الأصوليين يفرقون بينهما. وحد المؤلف المقيد بأنه: المتناول لمعين أو لغية معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه كقوله تعالى: ((فتحرير رقبة مؤمنة لم
(1/277)
يجد فصيام شهرين متتابعين)) قيد الرقبة بالإيمان والصيام بالتتابع. وقد يكون اللفظ مقيداً من جهة ومطلقاً من جهة أخرى , كقوله: ((رقبة مؤمنة فهي مقيدة بالإيمان مطلقة بالنسبة إلى السلامة وسائر الأوصاف وحدهما في المراقي تحت ترجمة المقيد والمطلق بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) إذا ورد لفظان مطلق ومقيد فهو على ثلاثة أقسام الخ ... اعلم أن الأصل في القسمة كونها رباعية , لأن المطلق والمقيد لهما أربع حالات: الأولى: أن يتحد حكمها وسببهما. الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب. الثالثة: أن يتحد السبب ويختلف الحكم. الرابعة: أن يختلفا معاً. فان اتحد السبب والحكم وجب حمل المطلق على المقيد خلافاً لأي
(1/278)
حنيفة. ومثاله: حرمت عليكم الميتة والدم , مع قوله: أو دماً مسفوحاً. وحجة أبي حنيفة: أن الزيادة على النص نسخ. وان اتحد الحكم واختلف السبب كقوله في كفارة القتل: رقبة مؤمنة , مع قوله في اليمين والظهار: رقبة فقط. فقيل: يحمل المطلق على المقيد فيشترط الإيمان في رقبة الظهار واليمين , وعزاه المؤلف الممالكية وبعض الشافعية واختيار القاضي. وقيل: لا يحمل عليه. وعزاه المؤلف لجل الحنفية , وبعض الشافعية , وأبي إسحاق بن شاقلا. ونقل عن أحمد ما يدل عليه. واما إن اختلف الحكم فقال المؤلف: لا يحمل المطلق على المقيد سواء اختلف السبب أو اتفق كخصال الكفارة. اد قيد الصوم بالتتابع وأطلق الإطعام لأن القياس من شرطه اتحاد الحكم , والحكم هنا مختلف. هكذا قال المؤلف رحمه الله تعالى. قلت: أما إن اختلف الحكم والسبب معاً فهو كما قال المؤلف لا خلاف في عدم حمله عليه. وأما ان اختلف الحكم واتحد السبب فبعض العلماء يقول في هذه الصورة يحمل المطلق على المقيد كما قبلها , ومثلوا له , بصوم الظهار وعتقه فانهما مقيدان بقوله: من قبل أن يتماسا , واطعامه مطلق عن ذلك يقيد بكونه قبل المسيس , حملا للمطلق على المقيد لاتحاد السبب , ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد في قوله من أوسط ما تطعمون أهليكم وأطلقت الكسوة عن القيد بذلك في قوله: أو كسوتهم, فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم.
(1/279)
وحمل المطلق على المقيد , قيل من أساليب اللغة لأن العرب يثبتون ويحذفون اتكالا على المثبت كقول قيس بن الحطيم: فحذف راضون لدلالة , راض عليه , وقول عمرو بن أحمد الباهلي: وقل بالقياس , وقيل بالعقل وهو أضعفها ولم يذكر المؤلف. (تنبيه) هذا الذي ذكرنا فيما إذا كان المقيد واحداً. أما إذا كان هناك مقيدان مقيدين مختلفين فان كان أحدهما أقرب للمطلق حمل عليه عند جماعة من العلماء , وبه يقول المؤلف: وان لم يكن احدهما أقرب لم يحمل على واحد منهما اتفاقاً. مثال الأول إطلاق صوم كفارة اليمين عن القيد التتابع في صوم الظهارة , وقيد التفريق في صوم التمتع. فالظهار أقر لليمين مع التمتع لأن كلا منهما كفارة. فيقيد بالتتابع دون التفريق وقراءة ابن مسعود ((تتابعات)) لم تثبت قرآنا لاجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية. ومثال الثاني صوم قضاء رمضان , فانه تعالى أطلقه في قوله: ((فعدة من أيام أخر)) مع قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق , وقضاء رمضان ليس أقرب لواحد منهما فيبقي على إطلاقه من شاء تابعه ومن شاء فرقه. وأشار في المراقي إلى هذه المسألة
(1/280)
بقوله: قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (باب في الفحوى والاشارة) اعلم أن مراده بالفحوى والإشارة المفهوم , وعرف المفهوم بأنه ما يقتبس من الألفاظ من فحواها واشارتها لا من صيغتها. قلت: وتعريها المشهور عند أهل الأصول: هو أن المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. وعرف في المراقي المنطوق بقوله: وعرف المفهوم بقوله: وحاصل تحرير المقام في هذه المسألة: أن لها واسطة وطرفين: (أ) طرف منطوق بلا خلاف. ( ب) وطرف مفهوم بلا خلاف. (ج) وواسطة مختلف فيها هل هي من المنطوق غير الصريح أو من المفهوم فالمجمع على أنه منطوق دلالة الألفاظ مسمياتها.
(1/281)
2- والطرق المتفق على أنه مفهوم كمفهوم المخالفة الآتي ذكره. 3- والواسطة المختلف فيها هل هي من المنطوق غير الصريح , أو من الفهوم هي دلالة الاقتضاء, والإشارة , والإيماء , والتنبيه , وجزم المؤلف بأنها من المفهوم , وأجرى غيره فيها الخلاف الذي ذكرناه واليه الإشارة في المراقي بقوله: وسنوضح لك الفرق بينهما: (أ) اعلم أن دلالة الاقتضاء لا تكون أبداً إلا على محذوف دل المقام عليه , وتقديره لا بد منه لأن الكلام دونه لا يستقيم لتوقف الصدق أو الصحة عليه. فمثال توقف الصدق عليه: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان لو قدر ثبوته لأنه لم يقدر محذوف أي المؤاخذة بالخطأ كان الكلام كذباً لعد رفع ذات الخطأ (لأنه كثيراً ما يقع الخطأ من الناس) . وكقوله صلى الله عليه وسلم لذى اليدين: كل ذلك لم يكن أي في ظني لأنه دون ذلك المحذوف يكون كذباً (لأنه قد وقع بالفعل واحد منهما) . ومثال توقف الصحة شرعاً عليه قوله تعالى: ((فمن كان منكم مريضاً أو على سفر أي فأفطر فعدة من
(1/282)
أيام أخر)) ومثله قوله تعالى: ((أو به أذى من رأسه ففدية أي فحلق شعره)) . فاتضح أن دلالة الاقتضاء إنما هي على مقصود محذوف لا بد من تقديره لتوقف الصدق أو الصحة عليه. (ب) وإيضاح دلالة الإشارة: أنها دلالة اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل , ولكنه لا زم للمقصود فكأنه مقصود بالتبع لا بالأصل. كدلالة ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)) الآية. على صحة صوم من أصبح جنباً. لأن إباحة الجماع في الجزء الأخير من الليل الذي ليس بعده ما يتسع للاغتسال من الليل يلزم إصباحه جنباً. وكدلالة قوله تعالى: ((وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)) مع قوله: ((وفصاله في عامين)) عل أن أقل أمد الحمل ستة أشهر. ( ج) وأما دلالة الإيماء والتنبيه , فهي لا تكون الا على علة الحكم خاصة وضابطها: أن يذكر وصف مقترن بحكم في نص من نصوص الشرع على وجه لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكاتن الكلام معيباً. ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال له: هلكت وأقعت أهلي في نهار رمضان. أعتق رقبة , فلو لم يكن ذلك الوقاع علة لذلك العتق كان الكلام معيباً. وكل هذه الثلاثة من دلالة الالتزام. والحق أنها من المفهوم. أما المفهوم فهو قسمان:
(1/283)
1- مفهوم موافقة. 2- مفهوم مخالفة. أما مفهوم الموافقة فهو ما يكون فيه المسكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق مع كون ذلك مفهوماً من لفظ المنطوق , وعرفه في المراقي بقوله: وهو أربعة أقسام: لأن المسكوت عنه: 1- تارة يكون أولى بالحكم من المنطوق كقوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) , فمثقال الجبل المسكوت عنه أولى بالحكم من مثقال الذرة , وقوله: ((وأشهدوا ذوي عدل منكم)) , فأربعة عدول المسكوت عنهم إلى. 2- وتارة يكون مساوياً , كإحراق مال اليتيم وإغراقه المفهوم منعه من قوله: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)) وكلا هذين القسمين يكون ظنياً , وقطعياً. فالأقسام أربعة وستأتي هذه المسألة بإيضاح إن شاء الله تعالى في القياس. واعلم أن مذهب الجمهور هو كون هذا النوع من المفهوم , وذهب جماعة منهم الشافعي إلى أنه مجاز من اطلاق البعض وارده الكل. وذهب قوم إلى أن العرف اللغوي نقل اللفظ من وضعه لثبوت الحكم في المذكور خاصة إلى ثبوته في المذكور والمسكوت عنه معاً. وأشار إلى هذه الأقوال في المراقي بقوله:
(1/284)
وأما مفهوم المخالفة فهو أن يكون المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق كقوله صلى الله عليه وسلم: (في الغم السائمة الزكاة) . فالمنطوق السائمة: والمسكوت عنه: المعلوفة. والتقييد بالسوم يفهم منه عدم الزكاة في المعلومة ويسمى دليل الخطاب , وتنبيه الخطاب وهو ثمانية أقسام: 1- مفهوم الحصر وأقوى صيغ الحصر: النفي والإثبات نحو: (لا اله الا الله) فالأصوليون يقولون منطوقها نفي الألوهية عن غيره جل وعلا , ومفهومها اثباتها له وحده جل وعلا , والبيانيون يعكسون. قلت: الحق الذي لا شك فيه: أن النفي والإثبات كلاهما منطوق صريح , فلفظه ((لا)) صريحة في النفي , ولفظه ((الا)) صريحة في الاثبات. فعد مثل هذا من المفهوم غلط فيما يظهر لي وقد نبه علهي صاحب نشر البنود , وانما يكون للحصر مفهوم في الأدوات الأخر نحو: انما , وتقديم المعمول وتعريف الجزأين ونحو ذلك. ومفهوم الغاية نحو: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره. مفهوم أنها ان تكحت زوجاً غيره حلت له. ومفهوم الشرط نحو: ((وان كن أولات حمل)) الآية. يفهم منه أن غير الحوامل لا نفقة لهن. ومفهوم الوصف نحو: في الغنم السائمة زكاة.
(1/285)
ومفهوم العدد نحو: ((فاجلدوهم ثمانين جلدة)) . يفهم منه أنه لا يجلد أكثر من ذلك. ومفهوم الظرف زماناً كان أو مكاناً. مثال الزماني: ((الحج أشهر معلومات)) . يفهم منه أنه لا حج في غيره. ومثال المكاني: ((وأنتم عاكفون في المساجد)) يفهم منه أنه لا اعتكاف في غير المسجد عند من يقول ذلك. ومفهوم العلة: نحو: أعط السائل لحاجته يفهم منه أنه لا يعطي غير المحتاج. ومفهوم اللقب: وهو أضعفها , وضابط اللقب عند الأصوليين هو كل اسم جامد سواء كان اسم جنس , أو اسم جمع , أو اسم عين لقباً كمان أو كنية أو اسما فلو قلت: ((جاء زيد)) لم يفهم منه عدم مجئ عمرو بل ربما كان اعتباره كفراً كما لو قيل: ((محمد رسول الله)) يفهم من مفهوم لقبه أن غيره لم يكن رسول الله. وأشار في المراقي إلى أقسام ومراتبه بقوله: واعلم أن أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بمفهوم المخالفة من أصله.
(1/286)
(تنبيه) الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب: إن تخصيص الغنم بالسوم مثلا لو لم يكن للفرق بين السائمة وغيرها في الحكم لكان تطويلا بلا فائدة بخلاف جاء زيد فان تخصيصه بالذكر ليمكن إسناد المجيء إليه إذا لا يصح الإسناد بدون مسند إليه. إذا علمت هذا فاعلم أن المؤلف رحمه الله لم يذكر ((دلالة الإشارة)) التى بينا أصلا , وانما أطلق الإشارة على الإيمان الذي بينا وأطلق التنبيه على مفهوم الموافقة ولا مشاحة من الاصطلاح. ط وذكر لمفهوم المخالفة ست درجات: الأولى: مفهوم الحصر , وصيغ الحصر كثرة كالنفي والإثبات , وانما , والتحقيق أنها أداة حصر كما يدل عليه جعلها في القرآن كثيراً في موضع النفي والإثبات نحو: ((إنما ألهكم اله واحد إنما تجزون ما كنتم تعلمون)) . وتقديم المعمول , وتعريف الجزأين ونحو ذلك. الثانية: الشرط: قال: وأنكر مفهوم الشرط قوم. قلت: وممن أنكره الباقلاني. الثالثة: الوصف وجعله المصنف درجتين: إحداهما: أن يذكر الوصف قيداً للاسم العام. والثانية: أن يذكر قيداً لغير العام لا للفظ الشامل لجميعها الأولى أقوى من الثانية. ومثال الأولى في الغنم السائمة زكاة. ومثال الثانية: الثيب أحق بنفسها من
(1/287)
وليها. والفرق بين المسألتين أن التلفظ باسم الغنم في الأولى تدخل فيه السائمة والمعلوفة فلا يمكن أن يكون غافلاً عن المعلوفة لدخولها في لفظة الغنم فيعلم أنه ما خص السائمة الا لمخالفة حكمها لحكم المعلوفة بخلاف لفظ الثيب في الثانية , فلا يتناول البكر , فيمكن أن يكون غافلاً عن البكر وقت التلفظ باسم الثيب في الثانية. وكثير من الأصوليين لا يفرق بين المسألتين. الدرجة الخامسة: مفهوم العدد كحديث ((لا تحرم المصة ولا المصتان)) , يفهم منه أن الثلاثة تحرم , ولكن جاء نص يخالف هذا المفهوم وهو خمس رضعات يحرمن وقصة من: عشر رضعات يجرمن فنسخن بخمس الخ.. معروفة في الفروع. السادسة: مفهوم اللقب وهو مراد المؤلف بقوله: السادسة أن يخص اسماً بحكم فيدل على (أنا) ما عداه بخلافة إلى آخره. وقد علمت أن الحق عدم اعتبار مفهوم اللقب وان فائدة ذكره إمكان الإسناد اليه. وقال المؤلف فيه: وأنكره الأكثرون وهو الصحيح. خاتمة: - لم يذكر المؤلف رحمه الله موانع اعتبار مفهوم المخالفة , وله موانع تمنع اعتباره ذكرها الأصوليون منها: 1- أن يكون تخصيص المنطوق بالذكر للامتنان كقوله تعالى: ((تأكلون منه لحماً طرياً فلا يفهم منه منع قديد الحوت.
(1/288)
2- ومها: تخصيصه بالذكر لموافقة الواقع كقوله تعالى: ((لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء)) الآية. فإنها نزلت في قوم والوا اليهود من دون المؤمنون فجاءت الآية ناهية عن الحالة الواقعة من غير قصد التخصيص بها. 3- ومنها تخصيصه بالذكر جرياً على الغلب كقوله: ((وربائبكم اللاتي في حجوركم)) لأن الغالب في الربيبة كونها في حجر زوج أمها. 4- ومنها تخصيصه بالذكر لأجل التوكيد كحديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)) الخ ... 5- ومنها: ورود الجواب على سؤال فلو فرض أن سائلاً سأله صلى الله عليه وسلم: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فأجابه في الغنم السائمة زكاة. لم يكن له مفهوم لأن صفىة السوم في الجواب لمطابقة السؤال. 6- ومنها: أن يكون المتكلم لا يعرف حكم المفهوم فإذا كان المتكلم يعلم حكم السائمة ويجهل حكم المعلوفة فقال: في السائمة زكاة يكون قوله لا مفهوم له لأن تركه للمفهوم لعدم علمه بحكمه. 7- ومنها: الخوف كأن يقول قريب العهد بالإسلام لعبده بحضرة المسلمين تصدق بهذا على المسلمين فلا يعتبر مفهوم المسلمين لتركه ذكر غيرهم خوفاً من أن يتهم بالنفاق. 8- ومنها: أن يكون السائل يعلم المفهوم ويجهل حكم المنطوق فلا يكون للمنطوق مفهوم لأن تخصيصه بالذكر لأن السائل لا يجهل الا إياه.
(1/289)
وأشار في المراقي إلى أسماء مفهوم المخالفة ومواقعه بقوله:
(1/290)
مقرر السنة الرابعة
باب القياس
... القياس في اللغة التقدير، ومنه قسمت الثوب بالذراع إذا قدرته به، أو قست الجراحة إذا جعلت الميل فيها لتعرف غورها. وهو في الشرع: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. والمراد بالحمل هنا الالحاق، فالفرع كالأرز، والأصل كالبر، والحكم كتحريم الربا، والجامع كالكيل. ولا بد لكل قياس من أصل، وفرع، وعلة، وحكم، كما سيأتي ايضاحه ان شاء الله تعالى في أركان القياس. واعلم أن العلة هي مناط الحكم لأنها مكان نوطه أي تعليقه، وسميت علة لأنها أثرت في المحل كعلة المريض، من اطلاق النوط على التعليق في اللغة قول حسان رضي الله عنه: وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد وقول أبي تمام: أحب بلاد الله ما بين منعج ... ... الي وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها نيطت على تمائمي ... ... وأول أرض مس جلدي ترابها ومن هذا المعنى: ذات أنواط. والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط، وتنقيحه، وتخريجه. وقد علمت أن المناط هو العلة فمعنى تحقيق المناط تحقيق العلة في الفرع وهو نوعان:
(1/291)
الأول: مجمع عليه في كل الشرائع: وهو أن تكون القاعدة الكلية منصوصة أو متفقاً عليها فيجتهد في تحقيقها في الفرع، كوجوب المثل من النعم في جزاء الصيد، وكوجوب نفقة الزوجة، فيجتهد في البقرة مثلا بأنها مثل الحمار الوحشي، ويجتهد في القدر الكافي في نفقة الزوجة. فوجوب المثل والنفقة معلوم من النصوص، وكون البقرة مثلا، وكون القدر المعين كافياً في النفقة، علم بنوع من الاجتهاد، وهو هذا القسم من تحقيق المناط، والمناط هنا ليس بمعناه الاصطلاحي لأنه ليس المراد به العلة، وانما المراد به النص العام وتطبيق النص في أفراده هو هذا النوع من تحقيق المناط. ولا يخفى أن في عده من تحقيق المناط مسامحة، ولا مشاحة في الاصطلاح. النوع الثاني منه هو ما عرف فيه علة الحكم بنص أو اجماع، فيحقق المجتهد وجود تلك العلة في الفرع، كالعلم بأن السرقة هي مناط القطع، فيحقق المجتهد وجودها في النباش لأخذه الكفن من حرز مثله. الضرب الثاني: تنقيح المناط، والتنقيح في اللغة التهذيب والتصفية، فمعنى تنقيح المناط تهذيب العلة وتصفيتها بالغاء ما لا يصلح للتعليل واعتبار الصالح له. ومثاله: قصة الأعرابي المجامع في نهار رمضان. ففي بعض رواياتها أنه جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكت، وأقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة. فكونه إعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته مثلا، كلها أوصاف لا تصلح للعلية فتلغي تنقيحاً للعلة أي تصفية لها عند الاختلاط بما ليس بصالح. واعلم أن تنقيح المناط تارة يكون بحذف بعض الأوصاف لأنها لا تصلح، وتارة بزيادة بعض الأوصاف لأنها صالحة للتعليل. وقد اجتمع
(1/292)
مثالهما في قصة الأعرابي المذكورة. فقد نقح فيها المناط الشافعي وأحمد مرة واحدة وهي تنقيحه بحذف بعض الأوصاف كما قلنا. ونقحه مالك وأبو حنيفة مرتين: الأولى هي هذه التي ذكرنا، والثانية هي تنقيحه بزيادة بعض الأوصاف وهي: أن سالكا وأبا حنيفة ألفيا خصوص الوقاع وأناطا الحكم بانتهاك حرمة رمضان فأوجبا الكفارة في الأكل والشرب عمداً فزادا الأكل والشرب على الوقاع تنقيحاً بزيادة بعض الأوصاف. (تنبيه) هذه الصورة التي فسر بها المؤلف تنقيح المناط وهي تنقيحة النقص هي السير والتقسيم بعينه وتنقيحة الزيادة هي مفهوم الموافقة بعينه وهو المعروف عند الشافعي رحمه الله بالقياس في معنى الأصل. الضرب الثالث: تخريج المناط: وهو استخراج العلة بمسلك المناسبة والإخالة بعينه وسيأتي ان شاء الله في استنباط العلة بالمناسبة. هذا هو المعروف في الاصطلاح. وظاهر كام المؤلف أن مراده بتخريج المناط هو استخراج العلة بالاستنباط مطلقاً فيدخل فيه السبر والتقسيم والدوران الوجودي والعدمي مع المناسبة والإخالة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) في (إثبات القياس على منكريه) قال بعض أصحابنا: يجوز التعبد بالقياس شرعاً وعقلا لقول أحمد
(1/293)
رحمه الله: لا يستغني أحد عن القياس وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين. وذهب أهل الظاهر والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلا ولا شرعاً، وأومأ إليه أحمد رحمه الله فقال: (يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس) وحمله القاضي على قياس يخالف نصاً. . إلخ. اعلم أولاد ان ما ورد عن الصحابة من ذم الرأي والتحذير منه إنما يعنون به الرأي الفاسد، كالقياس المخالف للنص أو المبني على الجهل لا جماعهم على العمل بالرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه وإلى هذا أشار في المراقي بقوله: وما روى من ذمه فقد عنى ... ... ... به الذي على الفساد قد بنى وذكر المؤلف أدلة لوجوب العمل بالقياس منها: 1- أن عدم العمل به يفضي إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام لقلة النصوص وكون الصور لا نهاية لها. 2- ومنها أن العقل يدرك حكم العلل الشرعية إذ مناسبتها للحكم عقلية مصلحية يدرك العقل طلب تحصيلها وورود الشرع بها. 3- ومنها أننا نستفيد بالقياس ظناً غالباً، والعمل بالظن الراجح متعين. 4- ومنها اجماع الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية من النص، كقياسهم العهد على العقد في الإمامة العظمى، وكاجتهادهم في مسألة الجد والأخوة، وتمثيلهم في ذلك بالغضين والخليجين. وكقولهم في المشركة. وكقول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي. وكقول عمر رحمه الله لأبي موسى الأشعري: " اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك ". وكقولهم في السكران: إذا سكر هذى، وإذا
(1/294)
هذى افترى فحدوه حد الفرية. وكقول معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يجتهد حيث لا كتاب ولا سنة، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم. وأمثال هذا كثيرة جداً، أن لم تتواتر آحادها حصل بمجموعها العلم الضروري أنهم كانوا يجتهدون فيما لا نص فيه. 5- وقد استدل على اثبات القياس بقوله تعالى: " فاعبروا يا أولي الأبصار "، وحقيقة الاعتبار مقايسة الشيء بغيره كقولهم: (اعتبر الدينار بالصنجة) وهذا الاعتبار هو القياس. 6- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) . 7- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر. .) . 8- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. فهو تنبيه على قياس دين الله على دين المخلوق) . 9- وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين سأله عن القبلة للصائم: (أرأيت لو تمضمضت فهو قياس للقبلة على المضمضة بجامع أن الكل مقدمة الفطر، وأمثال هذا كثرة جداً. (تنبيه) هذه الأدلة التي ذكر منها ما هم أعم من محل النزاع لأن مطلق الاجتهاد أعم من القياس، ومنها ما يدل على محل النزاع كقصة
(1/295)
معاذ، فإنه صرح فيها بأن اجتهاده في ما لا نص فيه، وذلك أنما يكون بالالحاق بالمنصوص وكحديث الذين والمضمضة. ومن أصرح الأدلة على اثبات القياس ما ثبت في الصحيحين من قصة الذي ولد له ولد أسود يخالف لونه لون أمه وأبيه فقاسه صلى الله عليه وسلم على أولاد الإبل الحمر يكون فيها الأورق. وقال فيه عليه الصلاة والسلام: فلعله نزعه عرق. والقصة صحيحة مشهورة (1) . قال المؤلف رحمه الله: - (أوجه تطرق الخطأ إلى القياس) اعلم أن القياس يتطرق إليه الخطأ من خمسة أوجه: 1- ألا يكون الحكم معللا كان يعلل نقض الوضوء بلحم الجزور بأنه " حار " فيلحق به لحم الظبي فيجعله ناقضاً. وهذا بناء على أن نقض الوضوء بلحم الجزور ليس تعبدياً. 2- ألا يصيب علته في نفس الأمر كأن لا تكون علة الربا في البر الطعم بالنسبة إلى من يعلل بالطعم. 3- أن يقصر في بعض أوصاف العلة، كأن يقول: علة القصاص " القتل العمد " ويحذف العدوان. فيلزم على علته القصاص من ولي الدم إذا اقتص _________ (1) 1- وسيأتي إن شاء الله في آخر المذكرة ملحق خاص من دروس رمضان في المسجد النبوي الشريف لفضيلة المؤلف في اثبات القياس واقسامه ومناقشة ابن حزم مما يتحتم في هذا المبحث.
(1/296)
من القاتل لأن قصاصه منه قتل عمد. 4- أن يجمع إلى العلة ما ليس منها كما لو جعل علة وجوب الكفارة على المواقع في نهار رمضان كونه أعرابياً مجمعاً فيلزم عليه أن جماع الحضري ليس علة الكفارة وهو باطل. 5- أن يخطئ في وجود العلة في الفرع كما لو ظن التفاح مكيلا فيلحقه بالبر في الربا بجامع الكيل. (تنبيه) اعلم أن هذه الخمسة المذكورة هنا راجعة إلى القوادح الآتية في آخر الكتاب. أما الأول: وهو ألا يكون الحكم معللا. . الخ. . فهو راجع إلى نوع من أنواع القادح المعروف بعدم التأثير، وهو المعبر عنه بعدم التأثير في الوصف كما سيأتي ايضاحه ان شاء الله. وأما الثاني: وهو ألا يصيب علته في نفس الأمر. . الخ. . فهو راجع إلى القادح المذكور آنفا أيضاً. وأن كان هناك مجتهد آخر يعلل ذلك الحكم بعلة أخرى فهو راجع إلى القادح المعروف بمركب الأصل. وأما الثالث: وهو أن يقصر في بعض أوصاف العلة. . الخ. . فهو راجع إلى القادح المسمى بالكسر، لأنه خلال بجزئي العلة والاخلال بجزئها كسر لها. وهذا القادح لم يذكره المؤلف.
(1/297)
وأما الرابع: وهو أن يخطئ في وجود العلة في الفرع فهو راجع إلى نوع من أنواع القادح المسمى " بالمنع " وهو منع وجود العلة في الفرع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - الحاق المسكوت عنه بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون فالمقطوع ضربان: أحدهما: أن كون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ولا يكون مقطوعاً به حتى يوجد فيه المعنى الذي في المنطوق وزيادة. . الخ. . اعلم أولا: أن الالحاق من حيث هو ضربان: الأول: الالحاق ينفي الفارق. الثاني: الالحاق بالجامع وضابط الأول أنه لا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يكتفي فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم كالغاء الفارق بين البول في الماء الراكد، وبين البول في اناء وصبه فيه. إذا علمت ذلك فاعلم أن التحقيق أن نفي الفارق أربعة أقسام لأن نفيه إما أن يكون قطعياً أو مظنوناً وفي كل منهما أما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، أو مساوياً له. فالمجموع أربعة:
(1/298)
الأول: هو ما كان المسكوت عنه فيه أولى بالحكم من المنطوق مع القطع ينفي الفارق كالحاق أربعة عدول بالعدلين في قبول الشهادة في قوله تعالى: " واشهدوا ذوي عدل منكم " والى مثقال الجبل بمثل الذرة في المؤاخذة في قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الآية. وكالحاق الضرب بالتأفيف في الرحمة في قوله تعالى: " فلا تقل لهما أف " الآية. الثاني: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساوياً للمنطوق مع القطع بنفي الفارق أيضاً كالحاق احراق مال اليتيم واغراقه بأكله في الحمة في قوله تعالى: " ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " الآية. وكالحاق صب البول في الماء بالبول فيه. المذكور في حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. الحديث) . الثالث: هو ما كان المسكوت عنه فيه أولى مع نفي الفارق بالظن الغالب كالحاق شهادة الكافر بشهادة الفاسق في الرد المنصوص عليه بقوله تعالى: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ". لاحتمال الفرق بأن الكافر يحترز عن الكذب لدينه في زعمه والفاسق متهم في دينه، وكالحاق العمياء بالعوراء في منع التضحية المنصوص في الحديث. فالعمياء أولى بالحكم المذكور من العوراء، ولكن نفي الفارق مظنون ظنا غالبا مزاحما لليقين، وليس قطعياً كما قاله غير واحد، ووجه ذلك أن الغالب على الظن أن علة منع التضحية بالعوراء هي كون العور نقصاً في ثمنها وقيمتها، والعمياء أحرى بذلك من العوراء ولكن هناك احتمال آخر، هو أن تكون العلة هي: أن العور مظنة الهزال لأن العوره ناقصة البصر إذ لا ترى إلا ما قابل عينها المبصرة ونقص بصرها المذكور
(1/299)
مظنة لنقص رعيها، ونقص رعيها مظنة لهزالها، وهذه العلة المحتملة ليست موجودة في العمياء لأن من يعلفها يختار لها أجود العلف، وذلك مظنة السمن. وبما ذكرنا تعلم أنه لا يلزم من كون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق أن يكون قطعيا خلافا لما ذكره المؤلف رحمه الله، وأنه لا يلزم أيضاً من كونه مساويا أن يكون نفي الفارق ظنيا خلافا لظاهر كلامه. الرابع: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساويا للمنطوق به مع كون نفي الفارق مظنونا لا مقطوعا، كالحاق الأمة بالعبد في سراية العتق المنصوص عليه في العبد في الحديث الصحيح فالغالب على الظن أنه لا فرق في سراية العتق بين الأمة والعبد لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يعلق بواحد منهما حكم من أحكام العتق. وهناك احتمال آخر هو الذي منع كون نفي الفارق قطعيا، وهو احتمال أن يكون الشارع أنما نص على العبد في قوله: (من أعتق شركا له في عبد. الحديث) لخصوصية في العبد لا توجد في الأمة، وهي أن العبد إذا أعتق يزاول من مناصب الرجال ما لا تزاوله الأنثى ولو حرة. (تنبيه) اعلم أنه نفي الفارق الذي ذكرنا أقسامه الأربعة انما هو قسم من تنقيح المناط، وهو مفهوم الموافقة بعينه، واختلف العلماء في دلالته على مدلوله هل هي قياسية أو لفظية، ولهم في ذلك أربعة مذاهب. الأول: أن دلالة مفهوم الموافقة انما هي من قبيل القياس، وهو المعروف عند الشافعي بالقياس في معنى الأصل، ويقال له القياس
(1/300)
الجلي. الثاني: أن دلالة الموافقة لفظية لكن لا في محل النطق، لأن ما دل عليه اللفظ في محل النطق هو المنطوق وما دل عليه لا في محل النطق هو المفهوم، وكلاهما من دلالة اللفظ. الثالث: أنها دلالة لفظية مجازية عند القائلين بالمجاز وهو عندهم من المجاز المرسل، ومن علاقات المجاز المرسل " الجزئية " والكلية، قالوا: ففي مفهوم الموافقة يطلق الجزء ويراد الكل، وبعبارة أخرى يطلق الأخص ويراد الأعم فقد أطلق التأفيف في الآية وأريد به عموم الأذى مجازا مرسلا، كما زعموا. قالوا: وكذلك أطلق النهي عن أكل مال اليتيم، وأريد الاتلاف، فيدخل الاحراق والاغراق وغيرهما من أنواع الاتلاف، مجازا مرسلا كما زعموا أيضاً. الرابع: أنها لفظية لأن العرف اللغوي نقل اللفظ من وضعه لمعناه الخاص إلى ثبوته فيه، وفي المسكوت عنه أيضا، قالوا: فعرف اللغة نقل التأفيف من معناه الخاص إلى عموم الأذى، ونقل أكل مال اليتيم من معناه الخاص إلى عموم الاتلاف، وعلى هذا تكون دلالته لفظية من قبيل العرفية وأكثر الأصوليين على أن اللفظ دل عليه لا في محل النطق. الضرب الثاني: هو الالحاق بالعلة الجامعة، كالحاق الذرة بالبر بجمع الكيل. (طرق إثبات العلة) اعلم أن اثبات العلة له طريقان، النقل، والاستنباط، فالنقل ثلاثة أضرب والاستنباط ثلاثة أضرب كذلك.
(1/301)
أضرب إثبات العلة بالنقل: الضرب الأول: النص الصريح على العلية نحو " من أجل كتبنا على بني إسرائيل " وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) . والمؤلف جعل اللام، لام التعليل، والباء ونحو ذلك من الصريح، نحو " الا لنعلم من يتبع الرسول " ونحو " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " ونحو ذلك، وغيره جعل هذا من الظاهر لا من الصريح. الضرب الثاني: الايماء والتنبيه، أن يقرن الحكم بوصف على وجه لو لم يكن علة لكان الكلام معيباً عند العقلاء، وأنواع الايماء والتنبيه عند المؤلف ستة: الأول: أن يذكر الحكم عقب وصف بالفاء فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم نحو " قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " و " السارق والسارقة فأقطعوا أيديهما " ويلحق بهذا ما رتبه الراوي بالفاء كقوله: " سها النبي صلى الله عليه وسلم فسجد، ورض يهودي رأس جارية فأمر عليه الصلاة والسلام أن يرض رأسه بين حجرين ". وبعض علماء الأصول يقول: أن ما رتبه الراوي الفقيه بالفاء مقدم على ما رتبه بها الراوي غير الفقيه. الثاني: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل كقوله تعالى: " من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ".
(1/302)
الثالث: أن يذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أمر حادث فيجب بحكم فيدل على أن ذلك الأمر المذكور له صلى الله عليه وسلم علة لذلك الحكم الذي أجاب به كقول الأعرابي " واقعت أهلي في نهار رمضان " فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعتق رقبة) فدل على أن الوقاع هو علة العتق. الرابع: أن يذكر مع الحكم شيئا لو لم يقدر التعليل به لكان لغوا غير مفيد، وهو قسمان: الأول: أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود ثم يذكر الحكم عقبه كقوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر، أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: " فلا إذا " فلو لم يكن نقصان الرطب باليبس علة للمنع لكان الاستكشاف عنه لغواً. الثاني: أن يعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال كما روى أنه لما سألته الخثعمية عن الحج عن الوالدين، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء. ففهم منه التعليل بكونه دينا. الخامس: أن يذكر في سياق الكلام شيء لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " فانه يفهم منه أن علة النهي عن البيع كونه مانعا من السعي إلى الجمعة. السادس: ذكر الحكم مقرونا بوصف مناسب كقوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم " أي لبرهم وفجورهم.
(1/303)
الضرب الثالث: ثبوت العلة بالاجماع، كالاجماع على تأثير الصغر في الولاية على المال. واعلم أن بعض الأصوليين يقولون بتقديم الاجماع على النص، لأن النص يحتمل النسخ والاجماع لا يحتمله، وسيأتي بيان ذلك وبيان موجب تقديم الاجماع على النص في الكلام على ترتيب الأدلة، ومرادهم بالاجماع الذي يقدم على النص خصوص الاجماع القطعي دون الاجماع الظني، وضابط الاجماع القطعي هو الاجماع القولي، لا السكوتي، بشرط أن يكون مشاهدا أو منقولا بعدد التواتر في جميع طبقات السند. أضرب إثبات العلة بالاستنباط الثلاثة: - الضرب الأول: اثبات العلة بمسلك المناسبة، والمناسبة لغة الملائمة. وفي الاصطلاح: كون الوصف يتضمن ترتب الحكم عليه مصلحة، كالاسكار، فان ترتب المنع عليه فيه مصلحة حفظ العقل من الاختلال، (ويسمى المناسبة، والمناسبة والإخالة) . وضابط مسلك المناسبة والإخالة عند الأصوليين، أن يقترن وصف مناسب بحكم في نص من نصوص الشرع، ويكون ذلك الوصف سالما من القوادح، وبقوم دليل على استقلاله بالمناسبة دون غيره، فيعلم أنه علة ذلك الحكم، ومثاله: اقتران حكم التحريم بوصف الاسكار في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) فالاسكار مناسب للتحريم مقترن به في النص سالم من القوادح، مستقل بالمناسبة، واعلم أن الوصف من حيث هو قسمان: 1- طردي كالطول والقصر. 2- ومناسب كالاسكار والصغر لتحريم الخمر وولاية المال. إذا علمت
(1/304)
ذلك فالمناسب عند المؤلف ثلاثة أقسام: مؤثر، وملائم، وغريب. وعند غيره أربعة: الثلاثة الأول السابقة والرابع المرسل، وهو المعروف بالمصلحة المرسلة. واعلم أولا أن المراد بالجنس في هذا المبحث القدر المشترك بين أفراد مختلفة حقائقها، والمراد بالنوع القدر المشترك بين أفراد متفة حقائقها. إذا علمت ذلك فاعلم أن المؤثر عند لمؤلف قسمان: الأول: ما دل نص أو اجماع على تأثير عين الوصف في عين الحكم، ومثل له المؤلف بنفي الفارق المتقدم. الثاني: ما دل نص أو اجماع على تأثير عين الوصف في جنس الحكم، ومثل له المؤلف بالأخوة من الأب والأم فانه مؤثر بالنص في التقديم في الميراث. فقياس عليه ولاية النكاح. والملائم: عند المؤلف هو ما دل نص أو اجماع على تأثير جنس الوصف في عين الحكم فيه، ومثل له بتأثير جنس المشقة في اسقاط الصلاة عن الحائض، لأنه ظهر تأثير جنس الحرج في عين اسقاط الصلاة، كتأثير مشقة السفر في اسقاط ركعتين من الرباعية. والغريب عند المؤلف: هو ما دل الدليل المذكور على تأثير جنس الوصف في جنس الحكم فيه، ومثل له بتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام. وقال محشيه: وذلك كالحاق الصحابة شارب الخمر بالقاذف في جلده ثمانين لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.
(1/305)
وذكر جماعة من أهل الأصول: أن المؤثر ما دل نص أو اجماع على اعتبار عينه في عين الحكم، والملائم هو ما دل فيه الدليل المذكور على اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، وأن الغريب هو ما دل على اهدار المصلحة التي صار بها مناسبا، ومثاله جماع الملك في نهار رمضان فالمصلحة تتمحض في تكفيره بخصوص الصوم لأنه هو الذي يردعه لخفة العتق والاطعام عليه، ولكن الشرع ألغى هذه المصلحة. واعلم أن الشرع لا يلغي مصلحة الا لأجل مصلحة أخرى أرجح منها، فالغاؤه مصلحة بزجر الملك المجامع في نهار رمضان بخصوص الصوم إنما هو من أجل أن مصلحة اعتاق الرقبة واطعام المساكين أرجح في نظر الشرع من التضييق على الملك بخصوص الصوم لينزجر. والمرسل: هو ما لم يقم دليل خاص على اعتبار مناسبته، ولا على اهدارها، ومثلوا لتأثير العين في العين بتأثير الصغر في عين الولاية على المال، وبتأثير مس الذكر في نقض الوضوء، ولتأثير العين في الجنس بتأثير عين الصغر في ولاية النكاح، لأن عين الصغر اعتبر اجماعا في جنس الولاية الصادق بولاية المال، لأن الجنس يوجد في كل فرد من أفراده من حيث هو قدر مشترك بينها، ومثلوا لتأثير الجنس في العين بأنه لو لم يرد دليل على الجمع في الحضر لمشقة المطر ونحوه بأن الدليل دل على اعتبار جنس المشقة في عين الحكم الذي هو الجمع كتأثير مشقة السفر في الجمع، ومثلوا لتأثير الجنس في الجنس بتأثير القتل بالمثقل في القصاص للاجماع على اعتبار جنس الجناية في جنس القصاص. واعلم أن للجنس مراتب بعضها أعم من بعض في الأوصاف والأحكام، فأعم أجناس الحكم كونه حكماً، وأخص من ذلك كونه
(1/306)
واجباً أو محرماً مثلا، وأخص من الواجب كونه عبادة أو غير عبادة. والمراد بغير العبادة ما ليس تعبدياً كقضاء الدين، ورد المغصوب والأمانة، والتعبدي كالصلاة. ويظهر الفرق بينهما بأن فاعلها لا يقصد الامتثال يصح له الأول دون الثاني وان كان لا يؤجر الا بالنية، وأخص من العبادة كونها صلاة أو غيرها. وأعم أنواع الوصف كونه وصفاً تناط به الأحكام، وأخص منه كونه مناسباً وأخص من المناسب كونه مصلحة أو درئ مفسدة، كالحاجيات والضروريات والتميمات. إذا علمت مراتب الأحكام والأوصاف فاعلم أن ما هو أخص مقدم على ما هو أعم، فجنس القرابة مثلا مؤثر في نوع الميراث فيقدم الأخص فلذا تقدم البنوة على الأخوة، والأخوة على العمومة مثلا، ومن هنا قال بعض العلماء: يقدم الحرير لأن تحريم الحرير لا يختص بالصلاة فكأن تحريم النجس أقوى منه لأنه يختص بها. وانه ان لم يجد المحرم المضطر الا ميتة وصيدا أكل الميتة دون الصيد لأن تحريم الصيد خاص باالحر، والقاعدة تقديم الأخص، وخالف بعض العلماء في الفرعين والله اعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - النوع الثاني في اثبات العلة (السبر ... الخ..) اعلم أولا أن هذا المسلك من مسالك العلة، يسمى بالسبر فقط، وبالتقسيم فقط، وبهما معاً، وهو الأكثر، والسبر بالفتح لغة: الاختبار،
(1/307)
ومنه يسمى ما يعرف به طول الجرح وعرضه سباراً ومسباراً، وأصل هذا الدليل من حيث هو مبني على أمرين: أحدهما: حصر أوصاف المحل، وهو المعبر عنه بالتقسيم. ثانيهما: ابطال ما ليس صالحاً للتعليل بطريق من طرق الأبطال الآتية. . فيتعين الوصف الباقي وهو المعبر عنه بالسبر. فإذا عرفت معنى هذا المسلك فاعلم أن خلاصته ما ذكره فيه المؤلف أن أبا الخطاب اشترط في هذا المسلك اجماع الأمة على أن الأصل المقيس عليه معلل أي غير تعبدي مع الاختلاف في تعيين العلة فيبطل المستدل بالسبر جميع ما قالوه إلا واحدة فيعلم صحتها، كي لا يخرج الحق عن أقاويل الأمة، فنقول الحكم معلل ولا علة الا كذا وكذا وقد بطل أحدهما فيتعين الآخر. كان يقول الحنبلي مثلا: علة تحريم الربا أما الكيل وأما الطعم وأما الاقتيات والإدخار فيبطل ما سوى الكيل فيتعين الكيل فهذا المسلك متأسس على ثلاثة أمور على ما درج عليه المؤلف: الأول: الاجماع على كون حكم الأصل معللا. الثاني: كون التقسيم حاصراً لجميع ما يعلل به، وذلك إما بموافقة الخصم أو عدم ابدائه وصفاً زائداً سواء أقر بالعجز عن ذلك، أو أدعاه وامتنع عن ذكره. الثالث: ابطال ما سوى ذلك الوصف ولهذا الابطال طريقان: الأولى: وجود الحكم بدون الوصف الذي يبطله المستدل بالسبر فيظهر أنه غير العلة لوجود الحكم دونه، ومثاله قول الشافعي المعلل تحريم الربا في البر بالطعم أن وصف الكيل والاقتيات، والادخار لغو بدليل وجود
(1/308)
الحكم الذي هو منع الربا في ملء الكف من البر مع أنه لا يكال وليس فيه قوت لقلته، فيتعين وصف الطعم. ومثل لهذا المحشى بقول الحنبلي والشافعي مثلا: يصح أمان العبد لأنه صادر عن عاقل مسلم غير متهم فيصلح قياساً على الحر. فيقول الحنفي مثلا: بقي وصف آخر هر الحرية لم يوجد في الفرع فيبطل القياس فيقول المستدل: وصف الحرية لغو هنا بدليل الاتفاق على صحة أمان العبد المأذون له. الثانية: أن يكون الوصف طردياً لم يعهد من الشارع الالتفات إليه في اثبات الأحكام أما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر، أو إلى بعضها كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق لأنهما يعتبران في غير العتق كالشهادة والميراث، ولا يكفي المستدل بالسبر في الأبطال المذكور النقض الذي هو وجود الوصف دون الحكم، وسيأتي ايضاحه في القوادح ان شاء الله. واعلم أن المؤلف ذكر أنه لا يكفي في حصر الأوصاف أن يقول المستدل " بحث فلم أجد إلا هذا " وأنه لا يكفي في الابطال أن يقول بحثت في الوصف الفلاني فما عثرت فيه على مناسبة لأن الخصم يعارض بمثل ذلك. ثم قال المؤلف: فان بين صلاحية ما يدعيه علة أو سلم له الخصم ذلك فانه يكفيه ابتداء بدون السبر فالسبر إذا تطويل طريق غير مفيد، فلنصطلح على رده. قال مقيده عفا الله عنه: - أكثر المالكية والشافعية على الاكتفاء بقوله بحثت فلم أجد غير هذا، أو عدم أو عدم ما سوى هذا الأصل، وعليه فالسبر ليس تطويل طريق، ومما
(1/309)
يوضح ذلك اطباق النظار على أن من أعظم طرق الحصر العقل والاستقراء، فالاستقراء من طرق الحصر قطعا. وقوله بحثت فلم أجد غير هذا استقراء منه لأوصاف المحل حتى لا يجد غير تلك الأوصاف التي حصرها بالاستقراء فرد هذا الحصر لا وجه له. والأكثر منهم يثبت به الحجة للناظر والمناظر معا ولا يشترطون الاجماع على تعليل حكم الأصل لأن الغالب في الأحكام التعليل خلافاً لأبي الخطاب. تنبيهان: - الأول أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم منقسم عند الأصوليين إلى قطعي وظني، فالقطعي هو ما كان فيه حصر الأوصاف وابطال الباطل منها قطعيين. والظني هو ما إذا كان ظنيين أو أحدهما ظنياً. الثاني: اعلم أن المعترض إذا أبدى وصفاً زائداً على الأوصاف التي حصرها المستدل فان السبر يبطل لبطلان أحد ركنيه وهو الحصر، ومحل هذا ما لم يبين المستدل أن الوصف الزائد الذي أبداه المعترض طردي لا دخل له في التعليل، فانه يكون وجوده وعدمه سواء فيستقيم حصر المستدل بالسبر ولا يبطل دليله، وقد أوضحنا البحث في هذا الدليل وأكثرنا من أمثلته في القرآن وغيره وذكرنا بعض آثاره العقائدية والتاريخية، وبينا المراد به عند الأصوليين والجدليين، والمنطقيين، وما تسميه به كل طائفة منهم، في كتابنا أضواء البيان في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ". قال المؤلف رحمه الله تعالى: - النوع الثالث في إثبات العلة: أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها
(1/310)
كوجود التحريم بوجود الشدة في الخمر وعدمه بعدمها. . الخ. . اعلم أولا أن هذا المسلك من مسالك العلة يسمى بالدوران الوجودي والعدمي، وبالدوران فقط، وبالطرد والعكس في الاصطلاح: الملازمة في الانتفاء وخلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المسلك أن اقتران الحكم بالوصف وجوداً وعدماً دليل على أنه علته، ولا يقدح في ذلك أن اقترانه به في الوجود فقط لا يفيد العلية على الصحيح الذي هو الحق. كما يأتي في مبحث الطرد قريباً ان شاء الله.. وكذلك اقترانه به في العدم فقط لا يفيد العلية اجماعاً لأن عدم تأثير كل واحد منهما منفرداً لا يمنع تأثيرهما مجتمعين: لا تخاصم بواحد أهل بيت ... ... ... فضعيفان يغلبان قويا ولا يقدح في هذا المسلك بأن رائحة الخمر مثلا يدور معها المنع وجوداً وعدماً وليست بعلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - والنقض برائحة الخمر ليس بلازم لأن صلاحية الشيء للتعليل لا يلزمها أن يعلل به اذ قد يمتنع لمعارضته ما هو أولى منه. قال مقيده عفا الله عنه: - النقض برائحة الخمر يدفعه القيد الذي ذكره جماهير من أهل الأصول وهو أنهم جعلوا الوصف المذكور في مسلك الدوران يشترط فيه المناسبة أو احتمالها، فان كان طردياً محضاً علم قطعاً أنه غير العلة ولو دار معه الحكم وجوداً وعدماً كرائحة الخمر المذكورة، واليه الاشارة بقول صاحب المراقي معرفا للدوران: أن يوجد الحكم لدى وجود ... ... ... وصف وينتفي لدى الفقود
(1/311)
والوصف ذو تناسب أو احتمل ... ... ... له والا فعن القصد اعتزل وهو عند الأكثرين سند ... ... ... في صورة أو صورتين يوجد والحق أن في هذا المسلك ثلاثة أقوال: الأول: أنه يفيد العلية ظناً وهو مذهب الجمهور وعليه درج المؤلف. الثاني: أنه يفيد العلية قطعاً وبه قال المعتزلة. الثالث: أنه لا يفيد التعليل أصلا لاحتمال كون الوصف الدائر معه الحكم ملازماً للعلة كرائحة الخمر أو جزء منها. (تنبيه) الدوران يكون في صورة واحدة كما مثلنا به في شدة الخمر فان المنع يدور معها وجوداً وعدماً. وقد يكون في صورتين وهو أضعف من الأول ولذا أبطله بعض من اعتبر الأول، ومثاله ما لو قلت: الحلى المباح تجب فيه الزكاة لكونه نقداً والنقد أحد الحجرين (1) والنقدية يدور معها الوجوب وجوداً في المصكوك والمسبوك مثلا، وعدماً في العبيد، والثياب، والدواب. وهذا المسلك الذي هو الدوران كما أن له دخلا في الأمور الشرعية _________ (1) أي الذهب والفضة والنقدية يدور معها الوجوب أي وجوب الزكاة في المصكوك دراهم فضة أو دنانير ذهب والمسبوك خواتم أو أساور ففيها النقدية التي هي أحد الحجر من الذهب والفضة..ويدور معها في العدم فإذا انعدمت النقدية انعدم وجوب الزكاة أي في الأعيان مثل العبيد والثياب والدواب فلا زكاة في اعيانها لانعدام النقدية عن اعيانها فحصل الدوران في صورتين: صورة وجود في المصكوك والمسبوك من الذهب والفضة، وصورة عدم في العبيد والثياب والدواب.
(1/312)
فنفعه كثير جداً في الأمور الدنيوية وهو الذي توصل به الأطباء إلى ما علوه من فوائد الأدوية والأغذية حيث دارت معها آثارها وجوداً وعدماً كما أشار إليه في المراقي بقوله: أصل كبير في أمور الآخرة ... ... ... والنافعات عاجلا والضائرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد. . الخ. . اعلم أولا أن هذا المسلك من مسالك العلة وهو المعروف بالطرد، ويسمى بالدوران الوجودي وهو مختلف في صحة دلالته على العلة فجمهور العلماء على أنه مردود وعليه درج المؤلف. وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة أن سلم من الانتقاض وجرى على الاطراد ومثاله: المائع الذي تبنى عليه القناطر ويصاد فيه السمك تقع به الطهارة فنقول ليس بعلة لأن الطهارة تقع بغير المذكور كالتراب ونحوه، وذهب كثير من الشافعية إلى أنه حجة بشرط مقارنة الحكم والوصف في جميع الصور غير صورة النزاع الحاقاً للنادر بالأغلب. وقيل تكفي المقارنة في صورة واحدة ولا يخفى بعده، وذهب الكرخي من الحنفية إلى أنه مقبول جدلا لا فتيا وعملا، وهو بعيد أيضاً. فاذا عرفت ذلك فاعلم أن معنى الطرد هو ما قدمنا من أنه الملازمة في الثبوت، أي كلما ثبت الوصف ثبت معه الحكم، والمراد بالطرد هنا الملازمة في الثبوت فقط، أي وعدم الملازمة في الانتفاء.
(1/313)
فقول المؤلف: فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد. يعني به دوران الحكم معها وجوداً فقط لا عدما وخلاصة ما ذكر فيه المؤلف " أنه لا يدل على العلية إذ لا معنى له الا سلامتها من مفسد واحد هو النقض. والنقض هو وجود الحكم دون الوصف كما سنوضحه ان شاء الله تعالى في مبحث القوادح، وانتفاء المفاسد ليس بدليل على الصحة بل لو سلم من كل مفسد لم يكن دليلا على الصحة كما لو سلمت شهادة المجهول من جارح لم تكن حجة ما لم تقم بينة معدلة مزكية فكذلك لا يكفي في الصحة انتفاء المفسد بل لا بد من دليل على الصحة، فلو قيل دليل صحتها انتفاء المفسد، لقال الخصم دليل فساد انتفاء المصحح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - ثم للمعترض في افساده المعارضة بوصف مطرد يختص بالأصل فلا يجد إلى التخلص عنه طريقا كقولهم في الخل مائع لا يصاد من جنسه السمك ولا تبنى عليه القناطر فلا تحصل الطهارة به كالمرق. انتهى. أي ومعلوم أن كونه مائعاً لا يصاد من جنسه السمك الخ.. دائر معه الحكم الذي هو عدم الطهارة مع أنها أوصاف طردية لا تناط بمثلها الأحكام فظهر أن الحكم يدور مع الوصف في الوجود وليس علة له. (تنبيه) ذكر جماعة من الأصوليين أنه لا يشترط في عدم الاحتجاج باطراد الوصف أن لا يكون مناسباً بالذات أو بالتبع فان كان مناسباً بالذات فهو قياس عليه لا طرد وان كان بالتبع فهو قياس شبه لا طرد وإلى هذا أشار
(1/314)
صاحب المراقي بقوله معرفاً للطرد: حصول حكم حيثما الوصف حصل ... ... والاقتران في انتفا الوصف انحظل ولم يكن تناسب بالذات ... ... أو تبع فيه لدى الثقات ثم يبين صاحب المراقي ابطال الرد بأن المنقول عن الصحابة هو التعليل بالمناسب دون الطرد حيث قال: وروى النقل عن الصحابة ... ... ... ومن رأى بالأصل قد أجابه ومعنى قوله: ومن رأى بالأصل قد أجابه أن من رأى كون الطرد يفيد العلية أجاب المانع لذلك بأن الأصل في الملازمة في الوجود أن تكون لموجب يقتضي ذلك، وهو كون الوصف الدائر معه الحكم في الوجود علة له. (تنبيه) لا يلتبس عليك الطرد بالوصف الطردي فان الطرد هو ما عرفناه الآن في هذا المسلك، والوصف الطردي هو الذي ليس في اناطة الحكم به مصلحة كالطول والقصر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - " متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها فقيل أن المناسبة تنتفى. . الخ. . " اعلم أن التحقيق في هذه المسألة أن الخلاف فيها لفظي لأن المصلحة إذا استلزمت مفسدة مساوية أو راجحة فان الحكم لا ينبني على تلك المصلحة قولا واحداً لأن الشرع لا يأمر باستجلاب مصلحة مؤدية لمفسدة أكبر منها أو مساوية لها، ولكن الخلاف في المصلحة المعارضة بالمفسدة هل
(1/315)
هي منخرمة زائلة من أصلها أو هي باقية معارضة بغيرها وهو اختيار المؤلف. فعلى أن المصلحة باقية فعدم الحكم لوجود المانع، وعلى أنها زائلة فعدم الحكم لعدم المقتضى ومن أمثلته فداء أسارى المسلمين بالسلاح إذا كان يؤدي إلى قدرة الكفار بذلك السلاح على قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) (في قياس الشبه) واختلف في نفسيره وفي أنه حجة. . الخ. . اعلم أولا: أن هذا المسلك من مسالك العلة هو أصعبها وأدقها فهماً كما رح به الأصوليون وحدوه بحدود مختلفة غالبها يرجع إلى أن الوصف في قياس الشبه مرتبة بين الطردي والمناسب فمن حيث أنه لم تتحقق فيه المناسبة أشبه الطردي، ومن حيث أنه لم يتحقق فيه انتفاؤها أشبه المناسب، ولهذا سمي شبهاً، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المؤلف ذكر في حده قولين: الأول: قول القاضي يعقوب: أن الشبه هو أن يتردد الفرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهاً كالاختلاف في العبد، هل يملك، وهل إذا قتل تلزم فيه القيمة أو الدية فانه يشبه المال من حيث أنه يباع ويوهب ويورث ونحو ذلك، ويشبه الحر من حيث أنه يثاب ويعاقب وينكح ويطلق ونحو ذلك فيلحق بأكثرهما شبهاً، والأكثر على أن شبهه بالمال أكثر فتلزم فيه القيمة إذا قتل وقيل بالعكس، وهذا النوع هو المعروف بغلبة الأشباه.
(1/316)
وأجمع الجمهور على أن غلبة الأشباه لا يخرج عن الشبه لأنه إما أن يكون هو بعينه وإما أن يكون نوعاً منه خلافاً لما زعمه العضد من أنه ليس نوعاً من المسلك المسمى (بالشبه) وإن حاصله تعارض مناسبين بالذات رجح أحدهما فهو من مسلك المناسب بالذات وأن الشبه لفظ مشترك يطلق على كل منهما، وغلبة الأشباه من أقوى قياسات الشبه. وأقوى أنواعه الشبه في الحكم والصفة معاً، ثم الشبه في الحكم فقط، ثم الشبه في الصفة فقط. ومثال الشبه في الصفة والحكم معاً شبه العبد بالمال في أن يورث ويباع ويشتري ونحو ذلك، وهذا شبه في الحكم، وشبهه للمال في الصفة هو كون العبيد تتفاوت قيمة أفرادهم بحسب تفاوت أوصافهم جودة ورداءة. والشبه في الصفة فقط كشبه الأقوات بالبر والشعير في الربا. والشبه في الحكم فقط، لم أذكر مثالا الآن. الثاني: أن الشبه هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة وذلك أن الأوصاف ثلاثة أقسام: الأول: قسم يعلم اشتماله على المناسبة كالاسكار وقياسه وهو قياس العلة. الثاني: قسسم لا تتوهم فيه مناسبة، كالطول والقصر، وهو الطردي والقياس به باطل. الثالث: قسم بين القسمين الأولين وهو ما يتوهم اشتماله على مصلحة الحكم ويظن أن مظنتها من غير اطلاع على عين المصلحة، مع عهدنا
(1/317)
اعتبار الشارع له في بعض الأحكام، كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخف في نفي التكرار بجامع كونه مسحاً. والجمع بينه وبين الأعضاء المغسولة في التكرار بكونه عضواً من أعضاء الوضوء كالوجه، وهذا هو قياس الشبه وهو مختلف فيه، واختلفت فيه الرواية بالصحة وعدمها عن الإمام أحمد، وأكثر الأصوليين على قبوله لأنه يثير ظناً بثبوت الحكم. قال مقيده عفا الله عنه: - الذي يظهر لي في كلام المؤلف رحمه الله في هذا المسلك أنه لا يخلو من بعض نظر الله تعالى أعلم، وذلك لأن مثاله للقول الثاني من القولين اللذين ذكرهما في نفسير الشبه وهو بعينه مثال الأول، لأن قضية تكرار مسح الرأس في الوضوء راجعة إلى غلبة الأشباه، لأن تكرار مسح الرأس في الوضوء دائر بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهاً. أحدهما: أنه مسح فلا يتكرر كغيره من المسح كمسح الوجه واليدين في التيمم ومسح الخف في الوضوء. ثانيهما: أنه ركن من أركان الوضوء الأربعة المذكورة في الآية فيكرر كما يكرر غسل الوجه واليدين فمن قال بعدم تكرار مسحه قال أنه أكثر شبها بالأول، ومن قال: بتكراره قال أنه أكثر شبهاً بالثاني، والقول الأخير في تفسير الشبه مثل له صاحب المستصفى بأمثلة متعددة منها قول الشافعي رحمه لله في مسألة اشتراط النية في طهارة الحدث: طهارة موجبها (1) في غير محل موجبها فتفتقر إلى النية قياساً على التيمم وهذا يوهم الاجتماع في _________ (1) بفتح الجيم وهو غسل اعضاء الوضوء في غير محل موجبها بكسر الجيم وهو الناقض للوضوء كالريح مثلا، فانه موجب لغسل اعضاء غير محل الناقض، بخلاف الطهارة من النجس فنها تستوجب غسل المحل الذي فيه النجاسة، فيطهر بازالتها عنه بدون نية.
(1/318)
مناسب هو مأخذ النية وإن لم يطلع على ذلك المناسب. ومنها تشبيه الأرز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين فان ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق، إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة والطعم والقوت وصف ينبئ عن معنى به قوام النفس والأغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنها لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الأجسام إلى غير ذلك من أمثلته لهذا النوع المذكور. وقد أوضح مسلك الشبه جماعة من أهل الأصول بأنه هو ما كان الوصف الجامع ليس مناسباً بالذات ولكنه مناسب بالتبع أي مستلزم للوصف المناسب. وقد شهد الشرع بتأثير الجنس القريب لذلك الوصف في الجنس القريب لذلك الحكم ومثلوا لذلك بأمثلة، ومنها قولهم في الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تحصل به الطهارة قياساً على الدهن فقولهم: لا تبنى القنطرة على جنسه، ليس مناسباً في ذاته، لكنه مستلزم للمناسب، لأن العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة كالأنهار فالقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما تكليف جميع لناس بما لا يجده الا بعضهم فبعيد عن قواعد الشرع، فقولهم: لا تبنى القنطرة على جنسه ليس بمناسب وهو مستلزم للمناسب وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فانه تترك الطهارة به وينتقل إلى التيمم. ومنها تعليلهم بوجوب النية في التيمم بكونه طهارة، فيقاس عليه الوضوء بجامع أنه طهارة، فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط
(1/319)
النية لعدم اشتراطها في طهارة الخبث. ولكن تناسبه من حيث أنها عبادة وقربة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية لقوله: " وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " الآية. فان قيل: ان كان المناسب لاشتراط النية جهة العبادة لزم اشتراطها في الطهارة من النجاسة لتحقق تلك الجهة فيها إذ لا تكون الا واجبة أو مندوبة، والواجب والمندوب كلاهما عبادة مع أن عدم اشتراطها فيها مجمع عليه. فجواب المخالفين هو أن الطهارة من النجاسة من حيث هي لم توضع لمحض التعبد، فقد تكون غير واجبة ولا مندوبة كأزالتك لها عن أرضك دفعاً للاستقذار، بخلاف الوضوء مثلا فانه لا يقع إلا عبادة، ولا ينافي ذلك غسل الأعضاء لمجرد التنظيف لأن غسلها على الوجه والترتيب الخاصين لا يكون الا للتعبد. (تنبيه) اعلم أن من الفوارق التي ذكرها بعض أهل الأصول بين الشبه والمناسب أن صلاحية الشبه لما يترتب عليه من الأحكام لا يدركها العقل لو قدر عدم ورود الشرع، قالوا فاشتراط النية في الوضوء لو لم يرد الشرع باشتراطها في التيمم لما أدرك العقل اعتبارها فيه بخلاف المناسب فان صلاحيته لما يترتب عليه من الأحكام قد يدركها العقل قبل ورود الشرع. ولذلك حرم بعض رجال العرب الخمر على نفسه قبل ورود الشرع بتحريمها لأن عقله أدرك قبح زوال العقل وما يلزم عليه من القبائح، حرمها على نفسه للموجب المذكور قيس بن عاصم المنقري التميمي كما ذكره عنه بعض المؤرخين وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وفي ذلك يقول:
(1/320)
رأيت الخمر صالحة وفيها ... ... ... خصال تفسد الرجال الحليما فلا والله أشربها صحيحاً ... ... ... ولا أشفى بها أبداً سقيما ولا أعطى بها ثمناً حياتي ... ... ... ولا أدعو لها أبداً نديما لأن الخمر تفضح شاربيها ... ... ... وتجنيهم بها الأمر العظيما فقوله لأن الخمر تفضح شاربيها البيت دليل على أنه أدرك بعقله مناسبة الأسكار للتحريم كما لا يخفى. (تنبيه) فان قيل ذكرتم أن عبارات الأصوليين في تعريف الشبه يدور غالبها على أن الوصف الجامع فيه مرتبة بين الطردي والمناسب. وأن غلبة الأشباه لا تخرج عن الشبه المذكور، فما وجه كون الوصف في غلبة الأشباه مرتبة بين الطردي والمناسب. فالجواب أن ذلك واقع فيه بالنظر إلى اعتبارين مختلفين فشبه العبد بالمال مناسب للزوم القيمة طردي بالنسبة إلى لزوم الدية وشبهه بالحر مناسب بالنسبة إلى لزوم الدية طردي بالنسبة إلى لزوم القيمة. وهكذا فصار الوصف في غلبة الأشباه مناسباً باعتبار طردياً باعتبار آخر. والله تعالى أعلم.
(1/321)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) (في قياس الدلالة) وهو أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة فيلزم اشتراكهما في الحكم كأن نقول في اجبار البكر البالغة جاز تزويجها وهي ساكتتة فجاز وهي ساخطة قياساً على الصغيرة فإن أباحه تزويجها مع السكوت تدل على عدم اعتبار رضاها ولو اعتبر لاعتبر دليله وهو النطق لأن السكوت محتمل متردد، وإذا لم يعتبر رضاها جاز تزويجها حالة السخط. فقد جمع في هذا القياس بين الصغيرة والبكر والكبيرة في جواز الاجبار على النكاح عند من يقول بذلك بدليل عدم اعتبار رضاهما أي وهو السكوت بناء على ما قاله من أنه محتمل متردد فعدم اعتبار الرضا وهو علة الإجبار، وقد جمع في هذا المثال بين الفرع والأصل بدليله الذي هو التزويج حالة السكوت هذا حاصل ما ذكره المؤلف في قياس الدلالة. وقد أوضح قياس الدلالة جماعة من الأصوليين بأنه الجمع بين الأصل والفرع بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها. فمثال الجمع بملزومها: الحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة لأنها ملزومة للأسكار الذي هو العلة. ومثال الجمع بأثر العلة: الحاق القتل بالمثقل بمحدد في القصاص بجامع الإثم، لأن الإثم أثر العلة التي هي القتل العمد العدوان.
(1/322)
ومثال الجمع بحكم العلة: الحكم بحياة شعر المرأة قياساً على سائر شعر بدنها بجامع الحلية بالنكاح والحرمة بالطلاق، وكقولهم بجواز رهن المشاع قياساً على جواز بيعه بجامع جواز البيع. (تنبيه) اعلم أن القياس من حيث الجمع بنفس العلة أو غيرها ينقسم ثلاثة أقسام: الأول: ما كان الجمع فيه بنفس العلة كالاسكار وهو المسمى بقياس (العلة) . الثاني: ما جمع فيه بدليل العلة كملزومها أو أثرها أو حكمها وهو (قيا سالدلالة) كما مر آنفاً. الثالث: ما جمع فيه ينفي الفارق وهو القياس في معنى الأصل وهو مفهوم الموافقة، وتنقيح المناط، والأكثر على أنه ليس من القياس، وقد قدمنا في سلك الشبه أنه ينقسم أيضاً باعتبار تحقق المناسبة وعدمه إلى قياس علة، وطردي، وشبه. (أركان القياس) قال المؤلف رحمه الله تعالى: - باب أركان القياس ن وهي أربعة: أصل، وفرع، وعلة، وحكم، فالأول له شرطان. .الخ. .
(1/323)
ظاهر كلامه أن الشرطين في الأصل، ولا يخفى أن الشرطين المذكورين، شرطان في حكم الأصل لا في نفس الأصل، ويمكن أن يكون كلام المؤلف مبنياً على ما قاله جماعة من أن الأصل هو الحكم لا محل الحكم فمشى في عبارته الأولى على أحد القولين، وفي الثانية على الآخر. إذا علمت ذلك فالأول من الشرطين هو أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو اتفاق الخصمين. الشرط الثاني: هو أن يكون الحكم معقول المعنى كتحريم الخمر لا إن كان تعبدياً كأوقات الصلاة واعداد الركعات ووجه اشتراط الأول أن الحكم إن كان مختلفاً فيه لم يصح التمسك به لأن كونه أصلا مقيساً عليه ليس بأولى من كونه فرعاً مقيساً، فلو أراد المستدل أن يثبت حكم الأصل بالقياس على محل آخر فقيل لم يجز له ذلك، وهو اختيار المؤلف، وقيل يجوز وعزاء المؤلف لبعض الأصحاب من الحنابلة، وهو مذهب مالك وعليه درج في المراقي قوله: وحكم الأصل قد يكون ملحقا ... ... ... لما من اعتبار الأدنى حققا ومثاله قياس الأرز على البر في تحريم الربا فيكون الأرز أصلا ثابتاً بالقياس الذرة عليه مثلا، وقد يظهر لك أن هذا تطويل لا فائدة فيه لا مكان قياس الكل على الأصل الأول كما احتاج به من قال بالمنع والقائلون به يقولون: قد تكون فيه فائدة ككون المقيس الثاني أقرب إلى الأصل الثاني منه إلى الأول واعتبار الأدنى مقصد صحيح وإليه الإشارة بقول صاحب المراقي المذكور آنفاً: " لما من اعتبار الأدتى حققا " فيجوز مثلا أن يكون الأرز أقرب إلى الذرة منه إلى البر فيقاس على الذرة لأنها أقرب له من البر بعد قياس الذرة على البر.
(1/324)
والحاصل أن المؤلف استدل لمنع اثبات حكم الأصل بالقياس على محل آخر بأنه لا يخلو الحال من أحد أمرين: الأول: أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع الثاني. الثاني: أن تكون غير موجودة فيه. فان كانت موجود فيه، فاللازم قياس كل من الفرعين على الأصل الأول، كأن تقييس كلا من الذرة والأرز على البر الذي هو الأصل الأول بجامع الكيل مثلا، لأن قياس الذرة على البر مثلا ثم قياس الأرز على الذرة تطويل لا فائدة فيه. وأما عن كانت غير موجودة فيه فلا يصح القياس فيه لأنه قد تبين ثبوت حكم الأصل الأول بعلة غير موجودة في الفرع. ومن شرط القياس تساوي الفرع والأصل في العلة. قال: ولا يمكن تعليل الحكم في الأصل الأول بغير ما علله به في قياسه الأصل الثاني عليه، لأن ابداء تلك العلة الثانية فيه يقدح فيه كما سيأتي في القوادح، واستدل أيضاً لقول بعض أصحابه بجواز القياس على ما ثبت بالقياس، بأنه لما ثبت بالقياس صار أصلا ثابتاً في نفسه فجاز القياس واتفق عليه الخصمان. وقوله في هذا المبحث: فانه لا يعتبر كون الأصل متفقاً عليه بين الأمة، فانه ان لم يكن مجمعاً عليه فللخصم أن يعلل الحكم في الأصل، بمعنى مختص به لا يتعدى إلى الفرع، وإن لم يساعده منع الحكم في الأصل فبطل القياس، وسموه القياس المركب، ومثاله قياسنا العبد على المكاتب فنقول:
(1/325)
العبد منقوص بالرق ولا يقتل به الحر كالمكاتب. فيقول المخالف: العلة في المكاتب أنه لا يعلم هل المستحق لدمه الوارث أو السيد فان سلمتم ذلك امتنع قياس العبد عليه لأن مستحقه معلوم، وإن منعنا الحكم في المكاتب فذهب الأصل فبطل القياس. . الخ. . لا يخلو من نظر فيما يظهر. والله تعالى أعلم. لأن قوله وإن لم يساعده منع الحكم في الأصل فبطل القياس وسموه القياس المركب فيه نظر لأنه لا يعرف عند الأصوليين تسمية منع الحكم في الأصل " بالقياس المركب " وليس القادح فيه التركيب، وإنما هو أحد أقسام المنع الأربعة الآتية، والقدح به يسمى منعاً لا تركيباً وليس من قسمي المنع اللذين هما قسما القياس المركب كما يأتي ايضاحه. واعلم ان ايضاح القياس المركب في اصطلاح أهل الأصول أنه قسمان أحدهما يسمى مركب الأصل والثاني يسمى مركب الوصف. (القياس المركب) أما مركب الأصل فهو أن يتفق الخصمان على حكم الأصل وعلى كون الوصف المدعي أنه علة موجوداً فيه، ولكن كل واحد منهما يدعي له علة غير علة الآخر، كالاتفاق على تحريم الربا في البر وعلى وجود وصف الكيل والطعم فيه، مع أن بعضهم يقول: العلة الكيل، والآخر يقول: العلة الطعم مثلاً. . الخ. . أما مركب الوصف: فهو أن يتفق الخصمان أيضاً على حكم الأصل، ولكن العلة التي يثبته بها المستدل يقول الخصم أنها غير موجود في الأصل. ومثاله: قياس الشافعي والحنبلي: أن تزوجت فلانة فهي طالق
(1/326)
على فلانة التي أتزوجها طالق في عدم لزوم الطلاق بعد التزوج، فان المالكي يوافقهم في عدم الطلاق في الأصل، وهم يقولون: العلة تعليق الطلاق قبل ملك محله، فيمنع المالكي وجود هذه العلة في الأصل فيقول: هو تنجيز طلاق أجنبية وهي لا ينجر عليها الطلاق، ولو كان فيه التعليق على زواجها لطلقت بعد التزوج. فالحاصل: أن الاتفاق ثابت بين الخصمين في الحكم في نوعي المركب، فان منع الخصم كون الوصف علة الحكم مع اعترافه بوجود الوصف في الأصل فهو مركب الأصل، وإن منع وجود الوصف في الأصل فهو مركب الوصف سواء اعترف بأن ذلك الوصف المزعوم نفيه عن الأصل هو العلة أولا وبما ذكرنا تعلم أن قول المؤلف رحمه الله وسموه القياس المركب لا يخلو من نظر. والله أعلم. وقياس العبد على المكاتب الذي مثل به يصح أن يكون مثالا للمركب ولكن أول الكلام لا يساعد على ذلك. ووجه اشتراط الثاني واضح لأن ماليس بمعقول لا تمكن فيه التعدية إلى محل آخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - الركن الثاني الحكم: وله شرطان: - الأول: أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل كقياس الأرز على البر في تحريم الربا، فلا يصح قياس واجب على مندوب، ولا مندوب على واجب مثلا لعدم مساواتهما في الحكم. الثاني: كون الحكم شرعياً أي فرعياً لا ان كان عقلياً أو من الأصول أعني العقائد فلا يثبت ذلك بالقياس.
(1/327)
الركن الثالث: الفرع: - ويشترط فيه وجود علة الأصل فيه لأن وجودها فيه هو مناط تعدية الحكم إليه، واختلف في اشتراط تقدم الأصل على الفرع فعلى أنه شرط لا يقاس الوضوء على التيمم مثلا في وجوب اشتراط النية لأن التيمم شرع متأخراً عن الوضوء، وعلى عدم اشتراطه فلا مانع من قياسه عليه. واختار المؤلف اشتراط ذلك في قياس العلة دون قياس الدلالة لأن العلة لا يجوز تأخيرها عن المعلول لئلا يلزم وجوده بدون علة، أو بعلة غير المتأخرة بخلاف قياس الدلالة، لجواز تأخير الدليل عن المدلول ومنع غير واحد ظهور حكم الفرع للمكلفين قبل ظهور حكم الأصل مطلقاً وعليه درج صاحب المراقي بقوله: منع الدليلين وحكم الفرع ... ... ... ظهوره قبل يرى ذا منع الركن الرابع: العلة: - وهي الجامع بين الفرع والأصل، وهو الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. فتعريف المؤلف لها بأنها مجرد علامة لا يخلو من نظر. وقد تبع فيه غيره، وهو مبني على قول المتكلمين أن الأحكام الشرعية لا تعلل بالأغراض قائلين: أن الفعل من أجل غاية معينة يتكمل صاحبه بوجود تلك الغاية، والله جل وعلا منزه عن ذلك لأنه غني لذاته الغني المطلق، والتحقيق أن الله يشرع الأحكام من أجل حكم باهرة ومصالح عظيمة، ولكن المصلحة في جميع ذلك راجعة إلى المخلوقين الذين هم في غاية الفقر والحاجة إلى ما يشرعه لهم خالقهم من الحكم والمصالح وهو جل وعلا غني لذاته الغني المطلق سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
(1/328)
اعلم أولا أن العلة قد تكون حكماً شرعياً كما تقدم في قياس الدلالة. وتكون وصفاً عارضاً كالشدة في الخمر. وتكون وصفاً لازماً كالأنوثة في ولاية النكاح. وقد تكون فعلا للمكلف كالقتل والسرقة. وتكون وصفاً مجرداً كالكيل عند من يعلل به تحريم الربا في البر. وقد تكون مركبة من أوصاف كالقتل العمد العدوان، وكالاقتيات والادخار وغلبة العيش عند من يعلل بذلك تحريم الربا في البر. وقد تكون نفياً نحو لم ينفذ تصرفه لعدم رشده، وتكون وصفاً مناسباً وغير مناسب، فالمناسب كالاسكار لتحريم الخمر. والظاهر أن المراد بغير المناسب يشمل أمرين: الأول: هو ما لم يتحقق فيه المناسبة ولا عدمها كما تقدم في الدوران وقياس الشبه من أن الوصف المدار في الدوران والوصف الجامع في قياس الشبه لا يشترط في واحد منهما تحقق المناسبة فيه بل يكفي في الدوران احتمال المناسبة ويكفي في الشبه أن يشبه المناسب من جهة ولو كان يشبه الطردي من جهة أخرى. وكذلك الوصف المومى إليه في مسلك الايماء والتنبيه فالأكثرون من الأصوليين لا يشترطون فيه المناسبة. والثاني: هو ما تخلفت فيه الحكمة عن العلة في بعض الصور مع كون وجودها هو الغالب ومثاله المسافر سفر ترفه كالنائم على محمل فان أكثر أهل العلم على أن له أن يترخص بسفره ذلك فيقصر الصلاة ويفطر في رمضان لأن العلة التي هي السفر موجودة، ووصف السفر في هذا المثال ليس مناسباً لتشريع الحكم لتخلف الحكمة لأن حكمة التخفيف بالقصر والافطار هي تخفيف المشقة على المسافر، وهذا المسافر المذكور لا مشقة عليه أصلا، ووجه بقاء الحكم هنا مع انتفاء حكمته هي أن السفر مظنة
(1/329)
المشقة غالباً، والمعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته اعتباراً بالغالب والغاء للنادر. ومما يوضح ذلك أن الوصف الطردي المحض لا يعلل به قولا واحداً. وربما كانت العلة وصفاً غير موجود في محل الحكم الا أنه يترقب وجوده كتحريم نكاح الأمة لعلة خوف رق الولد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - قال بعض أصحابنا من شرط العلة أن تكون متعدية فان كانت قاصرة على محلها كتعليل الربا في الأثمان بالثمينة لم يصح وهو قول الحنفية. . الخ. . اعلم أن علة الحكم إذا كانت لا تتعداه إلى غيره أجمع العلماء على منع القياس بها لعدم تعديها إلى الفرع واختلفوا في صحة تعليل محلها القاصرة عليه بها، فذكر المؤلف عن الأصحاب عدم صحته وعزاه للحنيفة واستدل له بثلاثة أمور: الأول: أن علل الشرع أمارات، والقاصرة ليست كذلك. الثاني: أن الأصل عدم العمل بالظن وإنما جوز لضرورة العمل بالأدلة الظنية، والقاصرة لا عمل بها. الثالث: أن القاصرة لا فائدة فيها، وأجاز التعليل بها أكثر المالكية والشافعية وصححه صاحب جمع الجوامع واختاره أبو الخطاب وعليه درج في المراقي بقوله: وعللوا بما خلت من تعدية ... ... ... ليعلم امتناعه والتقوية وذكروا لها فوائد. . منها:
(1/330)
أنها تقوي الحكم بإظهار حكمته، وذلك أدعى إلى القبول والطمأنينة. ومنها أنها يعلم بسببها امتناع القياس عليه لكونها قاصرة على محلها، ومن أمثلتها جعل شهادة خزيمة كشهادة رجلين لعلة سبقه إلى ذلك النوع من تصديقه صلى الله عليه وسلم، ومناقشات الأصوليين في قبول العلة القاصرة وردها كثيرة جداً. والأظهر بحسب النظر جواز التعليل بها مع منع القياس بها قولا واحداً قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) في اطراد العلة. وهو استمرار حكمها في جميع محالها. حكى أبو حفص البرمكي في كون ذلك شرطاً لصحتها وجهين: أحدهما أنه شرط فمتى تخلف الحكم عنها مع وجودها استدللنا على أنها ليست العلة إن كانت مستنبطة أو على أنها بعض العلة أن كانت منصوصة وقد نصر هذا الوجه القاضي أبو يعلى وبه قال بعض الشافعية. الوجه الآخر: تبقى حجة فيما عدا المحل المخصوص كالعموم إذا خص، واختار هذا الوجه أبو الخطاب وبه قال مالك والحنيفة وبعض الشافعية. . الخ. . اعلم أن هذا المبحث الذي هو هل يشترط في العلة الأطراد أي وجود الحكمكلما وجدت العلة هو بعينه مبحث النقض هل هو قادح في العلة أو مخصص لعمومها لأن النقض هو وجود العلة دون الحكم كما تقدم،
(1/331)
فعلى اشتراط اطراد العلة فالنقض قادح فيها، وعلى عدمه فهو تخصيص لعمومها. إذا علمت ذلك فاعلم أن خلاصة ما ذكره االمؤلف في هذا المبحث أنه راجح إلى أربعة أضرب: الأول: ما علم أنه مستثنى من قاعدة القياس كايجاب الدية على العاقلة مع أن جناية الشخص علة لوجوب الضمان عليه هو دون غيره، وكايجاب صاع من تمر في لبن المصراة مع أن علة ايجاب المثل في المثليات التماثل بينهما، وكبيع العرايا مع وجود المزابنة فيها أي الربا وورودها على علة كل معلل (1) هذا لا ينقض العلة اجماعاً. الضرب الثاني: تخلف الحكم عن العلة من أجل معارضتها بعلة أخرى، واختيار المؤلف في هذا أنه أيضاً ليس نقضاً للعلة، ومثاله تعليل رق الولد برق أمه، فولد المغرور بحرية جارية فتزوجها يكون حراً مع وجود العلة التي هي رق الأم لأنها عورضت بعلة أخرى وهي الغرور الذي صار سبباً لحرية الولد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - فهذا لا يكون نقضاً للعلة أيضاً ولا يفسدها لأن الحكم ههنا كالحاصل تقديراً يعني أن رق الولد كالحاصل بدليل لزوم القيمة فيه، ولا يخفى أن هذا إنما هو على القول بلزوم القيمة وعلى القول بعدم لزومها فالظاهر أنه من قبيل العلة التي منع من تأثيرها مانع فالغرور مانع من تأثير رق الأم _________ (1) أي كل من علل الربا سواء بالكيل لأنها بيع رطب بتمر مكيل أو بالطعم لأنه مطعوم أو بالادخار والقوت فكلها موجودة في العرايا فلم تتخلف عنها علة الربا.
(1/332)
في رق الولد. الضرب الثالث: أن يتخلف الحكم عنها لعدم مصادفتها لمحلها أو لفوات شرطها كالسرقة م غير حرز، وسرقة أقل من نصاب، وكوجود الزنا دون الاحصان بالنسبة إلى الرجم، ومن هذا القبيل وجود المانع كتخلف القصاص عن القتل لمانع الأبوة. الضرب الرابع: هو ما كان تخلف الحكم فيه لغير أحد هذه الأضرب الثلاثة، وهو الذي قدمنا فيه الوجهين عن أبي حفص البرمكي في أول هذا البحث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) والمستثنى من قاعدة القياس منقسم إلى ما عقل معناه، وإلى ما لم يعقل. . الخ. . فالأول: يصح أن يقاس عليه ما وجدت فيه العلة كاستثناء العرايا للحاجة، فلا يبعد قياس العنب على الرطب في ذلك إذا تبين أنه في معناه، وكاباحة أكل الميتة للمضطر صيانة لحياته يقاس عليه بقية المحرمات إذا اضطر إليها. والثاني: لا يصح فيه القياس كشهادة خزيمة وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: (اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك) وكتفريقه صلى الله عليه وسلم بين بول الجارية وبول الغلال ونحو ذلك هذا حاصل ما ذكره المؤلف مع أن القياس على الأول خالف فيه كثير
(1/333)
من العلماء كما أشار إليه صاحب المراقي بقوله: وقس على الخراج للمصالح ... ... ... ورب شيخ لامتناع جانح قال المؤلف رحمه الله تعالى: - قال أبو الخطاب: يجوز أن تكون العلة نفي صورة أو اسم أو حكم على قول أصحابنا. . . . الخ. . مثال نفي الصورة قولهم ليس بمكيل ولا موزون فلا يمتنع فيه ربا الفضل. ومثال نفي الاسم قولهم ليس بتراب فلا يجوز التيمم به. ومثال نفي الحكم قولهم في الخمر لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه. وخلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أنه يجوز تعليل الوجودي بالعدمي خلافاً لمن منع ذلك. ومثاله: ترك الصلاة فان عدم فعلها علة للقتل، والقتل وجودي، وعدم مال القريب علة لوجوب النفقة عليه، وعدم المال في حق المسكين والفقير علة لكونهما من مصارف الزكاة. قال مقيده عفا الله عنه: - حاصل هذا المبحث راجع إلى أربعة أقسام: لأن العلة إما وجودية وإما عدمية والمعلل بها إما وجودي أو عدمي فالمجموع أربعة من ضرب اثنتين باثنين، ثلاثة منها لا خلاف في التعليل بها. وهي: تعليل الوجودي بالوجودي وتعليل العدمي بالعدمي وتعليل العدمي بالوجودي. والرابعة هي محل الخلاف وهي تعليل الوجودي بالعدمي، وقد عرفت الراجح منها آنفاً.
(1/334)
مثال تعليل الوجودي بالوجودي كتعليل عدم الميراث بالكفر. (تنبيه) اختلف في الصفات الاضافية كالأبوة البنوة هل هي وجودية أو عدمية، وعلى أنها عدمية يجري فيها الخلاف المذكور. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) (يجوز تعليل الحكم بعلتين) اعلم أن لهذا المبحث صورتين: احداهما أن يعلل الحكم الواحد بعلتين أو أكثر بأن يثبت الحكم بكل واحدة منفردة عن الأخرى كالبول والغائط والتقبيل بالنسبة إلى نقض الوضوء وهذا لا اختلاف فيه في العلل المنصوصة، واختلف في جوازه في العلل المستنبطة وقد أشار إليه في الراقي بقوله: وعلة منصوصة تعدد ... ... ... في ذات الاستنباط خلف يعهد الصورة الثانية وهي التي يعنيها المؤلف: أن يكون الحكم معللا بمجموع العلتين لا احداهما بعينها كمن لمس وبال في وقت واحد فعلة نقض وضوئه بمجموعهما لا أحدهما بعينه. وكذلك إذا اجتمع لبان أختك لبان زوجة أخيك ووصل المجموع دفعة واحدة إلى حلق المرأة فانك تكون عماً لها وخالا في وقت واحد. والمجموع هو علة التحريم
(1/335)
لعدم تميز واحد بعينه. ولا يمكن أن يقال هما تحريمان لأن التحريم حقيقة واحدة، وهذه الصورة اختلف في التعليل بها واختيار المؤلف جواز ذلك. وشرطه عنده أن تكون منصوصة لا مستنبطة بدليل قوله في هذا المبحث، وإن كانت ثابتة بالاستنباط فسدت. . الخ. . ومنع التعليل بهذه الصورة الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما، والظاهر بحسب النظر هو ما درج عليه المؤلف لأن العلة لا تعدو تلك الأوصاف المجتمعة ولا تميز لواحد منها بعينه فيتعين اعتبار مجموعها. والله أعلم. ولا يرد على ما ذكره المؤلف القدح بعدم العكس أي ملازمة المعلول للعلة في الانتفاء كما لو قلت قد ينتفي البول والغائط ولا ينتفي نقض الوضوء لوجود على أخرى كالنوم مثلا: وكقولك قد ينتفي رضاع الأخت وزوجة الأخ ولا ينتفي تحريم النكاح لوجوده بعلة أخرى كالمصاهرة أو ارضاع من غير من ذكر لأن عدم العكس على القول بأنه قادح محله في الحكم المعلل بعلة واحدة دون المعلل بعلل فلا يقدح فيه قولا واحداً. قال في المراقي: وعدم العكس مع اتحاد ... ... ... ... يقدح دون النص بالتماد قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) (قال قوم يجوز إجراء القياس في الأسباب) خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أن الأصوليين اختلفوا في اجراء القياس في الأسباب واختيار المؤلف جواز ذلك، وحاصل كلامه
(1/336)
فيه: أن يجعل الشارع وصفاً سبباً لحكم فيقاس عليه وصف آخر فيحكم بكونه سبباً أيضاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الغضب سبباً لمنع الحكم من القضاء فيقاس على الغضب الجوع والحزن مثلا فتجعل أسباباً لمنع القضاة أيضاً. واعلم أن أكثر الأصوليين على منع القياس في الأسباب والشروط والموانع وجعلوا المثال الذي ذكرناه ونحوه من تنقيح المناط وهو مفهوم الموافقة والأكثرون على أنه ليس قياساً كما تقدم، خلافاً للشافعي وطائفة. وعللوا بأن القياس في الأسباب يفضي إلى ما لا ينبغي فلا يحسن قياس طلوع الشمس على غروبها في كونه سبباً لوجوب الصلاة مثلاً، وعللوا منعه في الأسباب أيضاً بكونه يخرجها عن أن تكون أسباباً لاستلزام القياس نفي السببية عن خصوص الأصل المقيس عليه، فيكون السبب المقيس عليه بالمقياس غبر سبب مستقل، وهكذا في المانع والشرط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) ويجري القياس في الكفارات والحدود وهو قول الشافعية وأنكره الحنفية. . الخ. . خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أن دخول القياس في الكفارات والحدود اختلف فيه واختار هو جوازه واستدل له بأنه يجري فيه قياس التنقيح كما تقدم في السبب ولأنهما أحكام شرعية عقلت عللها فجاز فيها القياس.
(1/337)
(تنبيه) اعلم أن المسائل التي اختلف في جريان القياس فيها سبع: وهي: 1- الحدود، 2- الكفارات، 3- التقادير، 4- الرخص، 5- الأسباب، 6- الشروط، 7- الموانع. واختيار المؤلف جوازه في الرخص كما تقدم في جواز قياس العنب على الرطب في بيع العرايا ونحو ذلك، ولم يتعرض للباقي، وقد أجازه في الباقي قوم ونعه آخرون وهم الأكثر ومنهم المالكية كما هو ممنوع عندهم أيضاً في الرخص، ومثال القياس في الأسباب قد تقدم، ومثاله في الحدود قياس اللائط على الزاني في وجوب الحد بجامع ايلاج الفرج في فرج مشتهي طبعاً محرماً شرعاً، وقياس النباش على السارق في القطع بجامع أخذ مال الغير من حرز مثله. ومثاله في الكفارات اشتراط الايمان في رقبة كفارة الظهار واليمين قياساً على كفارة القتل خطأ بجامع أن الكل كفارة، ومثاله في التقديرات جعل أقل الصداق ربع دينار عند من اشترط ذلك قياسا على اباحة قطع اليد في السرقة بجامع أن كلا منهما فيه استباحة عضو. ومثاله في الشروط قياس استقصاء الأوصاف في بيع الغائب على الرؤية عند من يقول بذلك ومثاله في المانع قياس نسيان الماء في الرحل على المانع مع استعماله حساً كالسبع واللص في صحة الصلاة عند من يقول بذلك.
(1/338)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: - (فصل) (القوادح) قال بعض أهل العلم يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالا. . الخ. . اعلم أن هذا المبحث هو المعروف ببحث القوادح وأوصلها بعضهم إلى خمسة وعشرين وبعضهم إلى ثمانية وعشرين. وأصل هذا المبحث من فن الجدل، وإنما يذكره الأصوليون لأنه من مكملات الدليل كالقياس. واعلم أن القوادح منها ما يقدح في العلة فقط، كالنقض، والتركيب، ومنها ما يقدح في الدليل علة أو غيرها كالقول بالموجب وهذه هي الأسئلة التي ذكرها المؤلف: الأول: الاستفسار: - وهو طلب تفسير اللفظ إذا كان فيه اجمال أو غرابة، ولا يرد هذا السؤال الا على ما فيه غرابة، ومثال الاجمال ما لو قال الحنبلي: يقاس الأرز على البر في تحريم الربا بجامع الوصف القائم بالبر الموجود في الأرز. فيقول المعترض: فسر لنا مرادك بالوصف ليمكننا النظر فيه أصحيح أم لا. ومثال الغرابة ما لو قال: من قتل بالزخيخ قتل به قياساً على السيف. فيقال: ماالزخيخ؟ (وهو النار) . وعلى المعترض في هذا السؤال اثبات الاجمال أو الغرابة، ويكفيه في
(1/339)
اثبات الاجمال بيان احتمالين في اللفظ، كما لو قال: يجب أخذ العين بالعين قياساً على غيره من سائر الانتصافات. فيقول: ما مرادك بالعين؟ فيجيب: ليس في قولي اجمال، فيثبت خصمه الاجمال بأن العين تطلق على الباصرة، والجارية، والنقد. وجوابه بمنع تعدد الاحتمال أو بترجيح أحدهما. ومثال منع تعدد الاحتمال كما لو قيل: يجوز لك أن تمنع الشرب من عينك قياساً على قربتك فيقول: ما مرادك بالعين فيجيب ليس في كلامي اجمال لأنه لا يحتمل الا معنى واحداً، فيقول: أليست العين مشتركة بين الباصرة والجارية مثلا، فيجيب: لفظ الشرب قرينة تعين الجارية دون الباصرة، فلا يحتمل اللفظ غير الجارية. ومثال الترجيح أن نقول: إذا حال الأسد بينك وبين الماء والماء قريب منك جاز لك التيمم قياساً على عادم الماء، فيقول: الأسد يطلق على الحيوان المفترس وعلى الرجل الشجاع، فأيهما تريد؟ فيجيب: هو في الحيوان المفترس أظهر عند التجرد من القرينة، واحتماله أرجح من غيره فيجب الحمل عليه دون الاحتمال المرجوح. وهذا السؤال ليس بقادح في الحقيقة وإنما هو مطالبة باظهار المراد من الدليل ليمكن المعترض الحكم عليه بابطال أو تسليم. السؤال الثاني: فساد الاعتبار: - وهو مخالفة الدليل لنص أو اجماع، فمخالفته للنص كقياس لبن المصراة على غيره من المثليات في وجوب المثل، فانه فاسد الاعتبار لمخالفته نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن فيه صاعاً من تمر. وكالقول بمنع السلف في الحيوان لعدم انضباطه قياساً على غيره من المختلطات،
(1/340)
فيعترض بأنه مخالف لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه استلف بكراً ورد رباعياً وقال: إن خير الناس أحسنهم قضاء، ومثال مخالفة الاجماع، قول الحنفي: لا يغسل الرجل زوجته الميتة لحرمة النظر إليها قياساً على الأجنبية، فيعترض بأن علياً غسل فاطمة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. فصار اجماعاً سكوتياً وعرفه في المراقي بقوله: والخلف للنص أو اجماع دعا ... ... ... فساد الاعتبار كل من وعا وجواب المستدل عن فساد الاعتبار من وجهين: أحدهما: أن يبين أن النص لم يعارض دليله. الثاني: أن يبين أن دليله أولى بالتقديم من نص المعارض. فمثال الأول أن يقال: شرط الصوم النية في رمضان فلا تصح نيته في النهار قياساً على القضاء، فيقول الحنفي هذا فاسد الاعتبار لمخالفته لقوله تعالى: " والصائمين والصائمات " إلى قوله تعالى: " أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما " فانه يدل على ثبوت الأجر العظيم لكل من صام وذلك مستلزم للصحة. فيقول المستدل: الآية لا تعارض دليلا ولا تدل على الصحة لأن عمومها مخصص بحديث: (لا صيام لمن لا يبيت النية من الليل) . ومثال الثاني: أن يقال: قياس العبد على الأمة في تشطير حد الزنا بالرق فاسد الاعتبار لمخالفة عموم قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا " لأننا تقول هذا القياس مقدم على ذاك العموم ومخصص له لأنه أخص منه في محل النزاع.
(1/341)
فائدة: - اعلم أن أول من قاس قياساً فاسد الاعتبار ابليس حيث عارض النص الصريح الذي هو السجود لآدم بأن قياس نفسه على عنصره، وقاس آدم على عنصره، فأنتج من ذلك أنه خير من آدم وأن كونه خيراً من آدم يمنع سجوده له المنصوص عليه من الله. وقياس ابليس هذا مردود من ثلاثة أوجه: الأول: هو ما ذكر من كونه فاسد الاعتبار لمخالفة النص. والثاني: منع كون النار خيراً من الطين، بأن النار طبيعتها الخفة، والطيش والافساد والتفريق، وأن الطين طبيعته الرزانة والاصلاح، تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة، وإذا نظرت إلى ما في البساتين الجميلة من أنواع الفواكه والحبوب والزهور عرفت أن الطين خير من النار. الثالث: أنا لو سلمنا جدلياً أن النار خير من الطين، فشرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع فكم من أصل رفيع وفرعه وضيع. إذا افتخرت بآباء لهم شرف ... ... ... قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا السؤال الثالث - فساد الوضع: - وضابطه أن يكون الدليل على غير الهيئة الصالحة لأخذ الحكم منه كأن يكون صالحاً لضد الحكم أو نقيضه كأخذ التوسع من التضييق والتخفيف من التغلظ، والنفي من الاثبات أو الاثبات من النفي. فمثال أخذ التوسيع من التضييق قول الحنفي: الزكاة واجبة على وجه الارفاق لدفع حاجة المسكين فكانت على التراخي كالدية على العاقلة، فالتراخي الموسع ينافي دفع الحاجة المضيق.
(1/342)
ومثال أخذ التخفيف من التغليظ قول الحنفي: القتل العمد العدوان جناية عظيمة فلا تجب فيه الكفارة كالردة. . فعظم الجناية يناسب تغليظ الحكم لا تخفيفه بعد الكفارة. ومثال أخذ النفي من الاثبات قول الشافعي في معاطاة المحقرات: لم يوجد فيها سوى الرضا فلا ينعقد بها البيع كغير المحقرات فالرضا يناسب الانعقاد لا عدمه. ومثال أخذ الاثبات من النفي قول من يرى صحة انعقاد البيع في المحقرات وغيرها بالمعاطاة كالمالكية، بيع لم توجد فيه الصيغة فينعقد فان انتفاء الصيغة يناسب عدم الانعقاد لا الانعقاد. واعلم أن من صور فساد الوضع كون الوصف الجامع ثبت اعتباره بنص أو اجماع، الهر سبع ذو ناب فيكون سؤره نجساً كالكلب فيقال: وصف السبعية اعتبره الشارع علة للطهارة حيث دعى إلى دار فيها كلب فامتنع، وإلى دار فيها سنور فلم يمتنع فسئل عن ذلك فقال: الهر سبع، مثل بهذا بعض الأصوليين والظاهر أنه على تقدير ثبوت الحديث، قد يكون الامتناع عن دار فيها كلب من أجل أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب. والله أعلم. وعرف في المراقي فساد الوضع بقوله: من القوادح فساد الوضع أن ... ... ... يجي الدليل حائداً عن السنن كالأخذ للتوسع والتسهيل ... ... ... والنفي والاثبات من عديل والجواب عن فساد الوضع بأحد أمرين: الأول: أن يدفع قول الخصم أنه يقتضي نقيض الحكم، كقول الحنفي: قولكم أن القتل عمداً يقتضي نقيض نفي الكفارة الذي هو وجوبها مدفوع فان جناية القتل لعظمها تستدعي أمراً أغلظ من الكفارة وهو القصاص،
(1/343)
فلا يقتضي عظمها نقيض نفي الكفارة. الثاني: أن يبين أن ما ذكره يقتضيه دليله من جهة أخرى كقول الحنفي في مسألة الزكاة المتقدمة: إنما قلت بالتراخي لمناسبته للرفق بالمالك. فالمستدل نظر إلى الرفق بالمالك والمعترض نظر إلى حاجة المسكين. تنبيهان: - اعلم أن فساد الاعتبار وفساد الوضع يقدح بهما في كل دليل قياساً كان أو غيره. اعلم أن النسبة بينهما اختلف فيها: (أ) فقيل فساد الاعتبار أعم مطلقاً وبه صرح الآمدي في أحكامه وهو ظاهر قول السبكي في جمع الجوامع. (ب) والحق في ذلك ما حققه بعض المتأخرين من أن النسبة بينهما الموم والخصوص من وجه، يجتمعان فيما هو مخالف للنص مع كونه على غير الهيئة الصالحة لأخذ الحكم. وينفرد فساد الاعتبار بما خالف النص وكان على الهيئة الصالحة لأخذ الحكم منه. السؤال الرابع: المنع: - ومواقعه أربعة: منع حكم الأصل. منع وجود ما يدعيه علة في الأصل. منع كونه علة. منع وجوده في الفرع.
(1/344)
ومثال منع حكم الأصل - قول الحنبلي: جلد الميتة نجس فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب، فيقول الحنفي: " لا أسلم حكم الأصل وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ بل هو يطهر به عندي. وأما منع وجود ما يدعيه علة، ومنع كونه علة: فهما مركب الوصف ومركب الأصل وقد أوضحناهما سابقاً، وعدهما في القوادح بناء على أن المركب بنوعيه مردود وهو المختار كما أشار إليه في المراقي بقوله: وان يكن لعلتين اختلفا ... ... ... تركب الأصل لدى من سلفا مركب الوصف إذا الخصم منع ... ... ... وجود ذا الوصف في الأصل المتبع ورده انتقى وقيل يقبل ... ... ... وفي التقدم خلاف ينقل ومحل الشاهد منه قوله: ورده انتقى: أي اختير. ومثال منع وجوده في الفرع: قول الجمهور بقطع يد النباش قياساً على السارق بجامع السرقة. فيقول الحنفي: وجود العلة التي هي السرقة ممنوع في الفرع لأن النباش ليس بسارق، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط. واعلم أنه اختلف في تةجيه المنع على حكم الأصل هل ينقطع به المستدل أو لا؟ واختيار المؤلف أنه لا ينقطع به بل له اقامة الدليل على الحكم، ووجه منعه انتشار الكلام والانتقال إلى مسألة أخرى لأن ذلك قد يتسلسل. السؤال الخامس: التقسيم: - وهو قادح عند الجمهور في الدليل ومنع قوم القدح به، وضابط التقسيم
(1/345)
أن يحتمل لفظ مورد في الدليل معنيين أو أكثر بحيث يكون متردداً بين تلك المعاني، والمعترض بمنع وجود علة الحكم في واحد من تلك المحتملات كأن يقول مشترط النية في الوضوء: " الطهارة قربة فتشترط فيها النية كغيرها من القرب، فيقول الحنفي: الطهارة النظافة أو الأفعال المخصوصة التي هي الوضوء شرعاً. والأول ممنوع كونه قربة التي هي علة في وجوب النية. ومن أمثلته: أن يستدل على ثبوت الملك للمشتري في زمن الخيار بوجود سبب الملك فيقول المعترض: السبب مطلق البيع أو البيع الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني مسلم ولكنه مفقود في محل النزاع. فالجواب عن التقسيم كالجواب عن الاستفسار المتقدم وهو أن يبين أن لفظه لا يحتمل الا ذلك المعنى أو أنه أظهر فيه، وعرفه في الراقي وعرف جوابه والخلف فيه بقوله: ويقدح التقسيم أن يحتملا ... ... ... لفظ لأمرين ولكن حظلا وجود علة بأمر واحد ... ... ... وليس عند بعضهم بالوارد جوابه بالوضع في المراد ... ... ... أو الظهور فيه باستشهاد شروط صحة التقسيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: - ويشترط لصحة التقسيم شرطان: الأول: أ، يكون ما ذكره المستدل منقسماً إلى ما يمنع وما يسلم. فلو زاد المعترض وصفاً لم يذكره المستدل لم يقبل منه.
(1/346)
الثاني: أن يكون التقسيم حاصراً لجميع الأقسام فان لم يحصرها فللمستدل أن يبين أن مورده غير ما عينه المعترض بالذكر، ووجه قبول القدح بالتقسيم أن اللفظ إذا احتمل أمرين: أحدهما باطل فهو محتمل للطلان فلا تنتهض به حجة ووجه رد القدح به أن احتمال البطلان لا يبطل الدليل. السؤال السادس: المطالبة: - اعلم أن حقيقة المطالبة في الاصطلاح هي منع كون الوصف علة الحكم وهي بعينها أحد أقسام المنع الأربع المتقدمة، وقد قدمنا أن هذا النوع من المنع هو مركب الأصل في موضعين ان ادعى الخصم المانع علة أخرى. ومثال المطالبة قول الحنبلي للشافعي: أثبت دليلك على أن علة الربا في البر الطعم. ولما ذكر القدح في المراقي بمنع وجود الوصف وبمنع كونه علة في قوله: من القوادح كما في النقل ... ... ... منع وجود علة في الأصل ومنع علية ما يعلل ... ... ... به وقدحه هو المعول قال في شرحه: وهذا الأخير هو المسمى بالمطالبة. السؤال السابع: النقض: - وقد قدمنا حده مراراً وقلنا بأنه وجود الوصف المعلل به دون الحكم وقسمناه في الكلام على اشتراط اطراد العلة إلى أربعة أقسام، وأوضحناها سابقاً، ونزيد هنا ذكر أقوال العلماء فيه، وأوجه الجواب عن القدح به بناء على أنه قادح. اعلم أن بيع العرايا ونحوه لا يقدح به في علة الربا بالنقض اجماعاً كما
(1/347)
تقدم بل هو تخصيص لحكم العلة كالعموم، أما غيره فقال قوم هو قادح مطلقاً، وقال قوم هو تخصيص لحكم العلة لا قدح فيها وعليه الأكثر. وروي عن مالك أنه تخصيص في المستنبطة وقدح في المنصوصة، وقال قوم بالعكس وعزاه امام الحرمين في البرهان للأكثر وهو أوجه عندي مما قبله، لأن النص على صحة العلة أقوى من النقض بتخلف الحكم عنها فلا يبطل الأقوى بالأضعف. واختار ابن الحاجب في مختصره الأصولى: أن النقض قادح في المنصوصة الثابتة بدلالة قطعية بخلاف الثابتة بظاهر عام، فهو تخصيص لها، وأنه يقدح في المستنبطة أن لم يكن تخلف الحكم عنها لوجود مانع أو فقد شرط. وذكر في المراقي هذا الخلاف مع تعريف النقض بقوله: منها وجود الوصف دون الحكم ... ... ... سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح ... ... ... بل هو تخصيص وذا مصحح وقد روى عن مالك تخصيص ... ... ... ان يك الاستنباط لا التنصيص وعكس هذا قد رآه البعض ... ... ... ومنتقى ذي الاختصار النقض ان لم تكن منصوصة بظاهر ... ... ... وليس فيما استنبطت بضائر ان جا الشرط أو لما منع ... ... ... والوفق في مثل العرايا قد وقع (تنبيه) والجواب عن النقض بناء على أنه قادح من أوجه خمسة: الأول: منع وجود الوصف أي العلة في صورة النقض فيصير تخلف الحكم لعدم وجود علته وجود علته فلا نقض إذاً ومثاله أن يقال فيما لو رمى الوالد ولده بحديدة مثلا فقتله قتل عمد عدوان، وهذه علة القصاص في هذه
(1/348)
الصورة وفد تخلف الحكم عنها مع وجودها فهذا نقض للعلة. فيقول المالكي مثلا: العلة غير موجودة في هذه الصورة، فعدم القصاص فيها لعدم وجود العلة ففيها دليل على صحة انعكاس العلة الذي هو عدم الحكم عند عدمها بل رمى الوالد لولده بحديدة أو نحوها أن يقصد به التأديب ولا يقصد به القتل، فلم يتحقق وجود القتل العمد العدوان في هذه الصورة، وقد قدمنا مراراً أن المثال يصح على شطر خلاف وأنه يكفي فيه الفرض والاحتمال لأن المراد منه فهم القاعدة. الثاني من أجوبة النقض: منع تخلف الحكم عن العلة بأن يقول: الحكم موجود لوجود علته، ومثاله: ما لو ذبح الوالد ولده أو شق بطنه، أو قطع رأسه أو نحو ذلك مما لا يحتمل التأديب بحال وإنما هو صريح في قصد قتله عمداً عدواناً فان المالكية يقولون بوجوب القصاص من الأب في هذه الصورة فلو قال غيرهم في الصورة المذكورة: قتل عمد عدوان وهذه هي علة القصاص وقد تخلف عنها الحكم الذي هو القصاص وذلك نقض للعلة، فانهم يجيبون (أي المالكية) عن هذا النقض بمنع تخلف الحكم بل يقولون الحكم غير متخلف هنا والقصاص واجب من الأب في هذه الصورة. وقولكم الوالد سبب في وجود الولد فلا يصح أن يكون الولد سبباً في اعدامه منتقض بما لو زنى الأب بابنته فانه يرجم اتفاقاً، فقد كان سبباً في وجودها، وكانت سبباً في اعدامه وجناية الزنا ليست أعظم من جناية القتل. وشرط صحة الجواب بهذا أن لا يكون انتفاء الحكم في صورة النقض مذهب المستدل. فالذي يرى عدم القصاص من الأب في الصورة المذكورة لا يمكنه أن يجيب عن النقض المذكور بوجود الحكم الذي
(1/349)
هو القصاص لأنه يرى عدم وجوبه. الثالث من أجوبة النقض: بيان مانع من تأثير العلة في الحكم أو نقد شرط تأثيرهما فيه عند من يرى ذلك مانعاً من النقض. ومثال بيان مانع من تأثيرها أن يقال في قتل الوالد قتل عمد عدوان وهو علة القصاص، والحكم الذي هو القصاص متخلف هنا عن علته اذ لا قصاص من الوالد لولده فالعلة منتقضة لوجودها بدون حكمها، فيجاب عن هذا بأن القتل العمد العدوان علة للقصاص ولكن هذه العلة منع من تأثيرها في الحكم في هذه الصورة مانع هو الأبوة. ومن أمثلته المغرور بحرية الأمة، فتزوجها يظنها حرة لغرور سيدها له بدعواه أنها حرة على قول من يقول أن ولده منها حر ولا يلزمه دفع قيمته لسيدها الذي غره، فيقال: رق الأم علة لرق ولدها لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، وقد وجدت في هذه الصورة علة رق الولد التي هي رق أمه مع تخلف الحكم لأن ولد المغرور حر فهذا نقض للعلة. . فيجاب عن هذا بأن رق الأم علة لرق الولد ولكن هذه منع من تأثيرها في حكمها في هذه الصورة مانع هو الغرور. . ومثال فقد شرط تأثير العلة في حكمها ما لو سرق أقل من نصاب أو سرق نصاباً من غير حرز مثله، فيقال: هذا قد وجدت منه السرقة وهي علة القطع ولكن شرط تأثير هذه العلة في حكمها مفقود هنا لأنه يشترط في تأثيرها في حكمها أن يكون المسروق نصاباً وأن يكون السارق أخرجه من حرز مثله. الرابع من أجوبة النقض: كون الصورة الوارد فيها النقض مستثناة بالنص من القاعدة الكلية بأن يقول في بيع العرايا، بيع رطب بتمر وعلة التحريم التي هي المزابنة موجودة فيه، وقد تخلف حكمها عنها وهو منع
(1/350)
البيع، فهو نقض للعلة. فيجاب عن هذا بأن الصورة أخرجها دليل خاص مع بقاء علتها معتبرة في تحريم الرطب بالتمر في ماسواها. وقد يقول المستدل للمعترض بالنقض في الصورة المذكورة، هذا وارد عليك وعلي، فليس بطلان مذهبي به أولى من بطلان مذهبك، ومثل هذا لا خلاف بين العلماء في أنه تخصيص لحكم العلة لا نقض لها، فهو تخصيص العام بقصره على بعض الأفراد بدليل خاص. الخامس من أجوبة النقض: هو أن تكون المصلحة المشتملة عليها العلة معارضة بمفسدة أرجح منها مساوية لها، كأن يقال في أكل المضطر الميتة: قذارة الميتة علة لحرمة أكلها، والعلة التي هي قذارتها موجودة في هذه الصورة مع أن الحكم الذي هو منع الأكل متخلف عنها فيجاب عن هذا بأن مصلحة تجنب المستقذرات معارضة في هذه الصورة بمفسدة أرجح منها هي هلاك المضطر ان لم يأكل الميتة، فالقذارة علة لمنع الأكل ولكنها عورضت بما هو أقوى منها. . تنبيهات: - الأول: قول المؤلف رحمه الله في هذا المبحث " وأما الكسر " وهو ابداء الحكمة بدون الحكم فغير لازم. . الخ. . فيه نظر من جهتين: الأولى: أنه عرف الكسر بأنه ابداء الحكمة بدون الحكم، والكسر يشمل أعم مما ذكره. الثانية: أنه قال: لا يلزم به قدح وبه قال بعض الأصوليين واختاره ابن الحاجب في بعض المواضيع من مختصره. مع أن جماعة من أهل الأصول صححوا أنه قادح. قال ابن الحاجب وهو اسقاط وصف من العلة. . . الخ. . فالظاهر أن الكسر كالنقض، فعلى أن النقض قادح فالكسر كذلك. والجواب عنه كالجواب عنه.
(1/351)
وقال صاحب الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع، واتفق أهل العلم على صحته وافساد العلة به. انتهى محل الغرض منه. واعلم أن من أنواع الكسر ما ذكره المؤلف وهو ابداء الحكمة بدون الحكم وجزم بأنه غير قادح واختاره ابن الحاجب في بعض المواضع من مختصره، ومثل له بقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره: مسافر فيترخص في سفره كغير العاصي. فاذا قيل له: ولم قلت ان السفر علة للترخيص قال بالمناسبة لما فيه من المشقة المقتضية للترخص لأنه تخفيف وهو نفع للمترخص، فيعترض عليه بصنعة شاقة في الحضر كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قرب النار في ظهيرة القيظ في القطر الحار. فهنا قد وجدت الحكمة وهي المشقة، ولم يوجد الحكم الذي هو قصر الصلاة واباحة الفطر مثلا. والجواب عن هذا أن الشرع انما اعتبر مشقة السفر فالعلة في الترخص السفر فالعلة في الترخص السفر وحكمتها رفع المشقة فأصل العلة لم يوجد في الصنعة الشاقة في الحضر، فلم يقع كسر في العلة، وسفر العاصي بسفره علة للترخص والمانع من تأثيرها هنا عند من يقول به أن الترخيص تخفيف والتخفيف على العاصي إعانة له على معصيته، والله يقول: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ". ومن أنواع الكسر: تخلف الحكمة مع وجود الحكم اختلف فيه هل ينتفي فيه الحكم لانتفاء حكمته، أولا ينتفي بناء على أن المعلل بالمظان لن
(1/352)
يتخلف فيه الحكم بتخلف الحكمة نظراً إلى إناطة الحكم بالمظنة وإلى هذا الخلاف أشار في مراقي السعود بقوله: وفي ثبوت الحكم عند الانتفا ... ... ... للظن والنفي خلاف عرفا وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى بنشر البنود: لكن الفروع المبنية على هذه القاعدة، منها ما رجح فيه ثبوت الحكم كاستبراء الصغيرة، فان حكمة الاستبراء تحقق براءة الرحم وهي متحققة بدون الاستبراء وكمن مسكنه على البحر ونزل منه في سفيتة قطعت به مسافة القصر في لحظة فإنه يجوز له القصر في سفره هذا، ومنها ما يرجح فيه انتفاء الحكم لانتفاء حكمته قطعاً الغاء للمظنة من أصلها أو بدليل مخصوص اقتضى الغاء المظنة فيها، وعلى هذا يتخرج كثير من المسائل كشرع الاستنجاء من حصاة لا بلل معها والغسل من موضع الولد جافاً، وعدم نقض الوضوء إذا لم تجد اللذة في اللمس بباطن الكف أو الأصابع، والنقض بالقبلة على الفم إذا لم توجد اللذة. هـ منه. ومن المسائل التي تتخرج على القاعدة المذكورة ما لو قال لأمرئته أنت طالق مع آخر جزء من الحيض، فهذا طلاق صادف الحيض وهو علة لتحريم الطلاق، ولكن يستعقب العدة فلا تطويل فيه فالحكمة الموجبة للمنع التي هي التطويل منتفية هنا، فمنهم من نظر إلى المعنى وقال وهو سني، ومنهم من نظر إلى مظنة التطويل وهو الحيض فقال وهو بدعي، وكذلك لو قال لها أنت طالق مع آخر جزء من الطهر فعلى أن هذه المسائل المذكورة وأمثالها الكثيرة ينتفي فيها الحكم لانتفاء حكمته فتخلف الحكمة عن الحكم فيما باق مع انتفاء حكمته. فعلى قول من يقول أن هذا النوع من الكسر غير قادح فلا اشكال وعلى قول من يقول انه قادح فالجواب عنده أن هذه
(1/353)
المسائل علق الحكم فيها بمظنة وجود الحكمة والمعروف أن المعلل بالمظان لا يتخلف الحكم فيه بتخلف الحكمة لأن الحكم فيها منوط بالمظنة وأشار بعض أهل العلم إلى هذا القول: ان علل الحكم بعلة غلب ... ... ... ... وجودها اكتفى بذا عن الطلب لها بكل صورة. . الخ. . وعليه فالمانع من القدح بهذا النوع من الكسر اناطة الحكم بمظنة الحكمة لا بنفس الحكمة، وذلك لأن نفس الحكمة ربما لا يمكن انضباطها، فلو علقنا حكم قصر الصلاة واباحة الفطر في رمضان مثلا بحصول المشقة لم تنضبط هذه الحكمة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال فأنيط بسفر أربعة برد مثلا لأنه مظنة المشقة، ومن هنا لم ينظر الا للمظنة عند من يقول بذلك. ومن أنواع الكسر ابطال المعترض جزءاً من المعنى المعلل به، ونقضه ما بقي من أجزاء ذلك المعنى المعلل به فعلم أنه إنما يكون في العلة المركبة من وصفين فأكثر. والقدح به مقيد بأن يعجز المستدل عن الاتيان ببدل من الوصف الذي أبطله المعترض، فان ذكر بدلا يصلح أن يكون علة للحكم ألغى الكسر واستقام الدليل. وابطال الجزء بأن يبين المعترض أنه ملغي بوجود الحكم عند انتفائه. والمراد بنقض الباقي عدم تأثيره في الحكم وله صورتان: الصورة الأولى: أن يأتي المستدل ببدل الوصف المسقط عن الاعتبار كما يقال في وجوب أداء صلاة الخوف هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تفعل فيجب أداؤها قياساً على صلاة الأمن، فإنها كما يج قضاؤها لو لم تفعل يجب أداؤها. فوجوب القضاء هو العلة، ووجوب الأداء هو الحكم المعلل
(1/354)
بتلك العلة. فيعترض بأن خصوص الصلاة بوصف عام هو العبادة بأن يقول: عبادة يجب قضاؤها لو لم تفعل. . الخ. . فينقض عليه المعترض أيضاً هذا البدل بصوم الحائض، فانه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم. والصورة الثانية: أن لا يبدل المستدل الوصف الذي أبطله المعترض فلا يبقى للمستدل علة في المثال المذكور الا قوله يجب قضاؤها فينقضه المعترض بأن يقول ليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل صوم الحائض في رمضان فنها يجب عليها قضاؤه ولا يجب عليها أداؤه بل يحرم. هـ. فعلم مما ذكرنا أن الكسر يصدق بأنواع: منها ما لا ينبغي أن يختلف في أنه قادح. ومنها ما اختلف فيه والأظهر في بعض صوره عدم القدح: وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أنه قادح مع ذكر بعض صوره بقوله في مبحث القوادح: والكسر قادح ومنه ذكرا ... ... ... ... تخلف الحكمة عنه من درى ومنه ابطال لجزء والحيل ... ... ... ... ضاقت عليه في المجئ بالبدل وضابط الكسر المنطبق على جميع جزئياته أنه اظهار خلل في بعض العلة فيصدق بوجود حكمتها بدونها، وبوجودها دون حكمتها، وبابطال بعض أجزائها مع العجز عن بدل منه صالح. وقد تقدم ايضاح ذلك كله بأمثلته. وبما ذكرنا تعرف ما في كلام المؤلف رحمه الله كما أشرنا إليه. التنبيه الثاني: أظهر قولي أهل الأصول عندي وجوب الاحتراز في الدليل على صورة
(1/355)
النقض بأن يذكر في دليله ما تخرج به الصورة التي يرد عليها النقيض كأن يقول في علة القصاص " قتل عمد عدوان واقع من غير والد لولده فيجب فيه القصاص " فقوله واقع من غير والد لولده احترز به عن صورة النقض، فلو لم يحترز بذلك عنها لقال المعترض هذه العلة منتقضة بقتل الوالد ولده. فهو قتل عمد عدوان ولا قصاص فيه، وهكذا في الأمثلة السابقة خلافاً لمن قال من الأصوليين لا يجب الاحتراز المذكور بل يستحب. ... وقال المؤلف رحمه الله في هذا المبحث والأليق وجوب الاحتراز فانه أقرب إلى الضبط وأجمع لنشر الكلام وهو هين وان اختار وجوبه غير واحد، واختار ابن الحاجب في مختصره الأصولي أن الاحتراز المذكور ليس بلازم وفيه أقوال وتفصيل معروف عند الأصوليين أشار إليه ابن الحاجب، وقال صاحب جمع الجوامع ويجب الاحتراز منه على المناظر مطلقاً، وعلى الناظر فيما اشتهر من المستثنيات فصار كالمذكور، وقيل يجب مطلقاً وقيل إلا في المستثنيات (مطلقاً) انتهى محل الغرض منه ومراده بالمستثنيات العرايا ونحوها. ... والذين لم يوجبوا الاحتراز المذكور وجهوا ذلك بأن النقض سؤال خارج عن القياس فلا يجب إدخاله في صلب القياس بل إذا أورده المعترض لزم جوابه بما يدفعه كسائر الأسئلة ولأن فيه تنبيهاً للمعترض على موضع النقض وقد يدعي أن الوصف الذي به الاحتراز طردي وذلك يؤدي إلى انتشار الكلام وهو خلاف المطلوب من المناظرة. ... وأما الذين أوجبوا الاحتراز المذكور فقد وجهوا ذلك بأن فيه حسم مادة الشغب وانتشار الكلام وسداً لبابه فكان واجباً لما فيه من صيانة الكلام عن الانتشار. ... وهذا الأخير أظهر عندنا وقد أجاب القائلون به بأن سؤال النقض وان
(1/356)
كان خارجاً عن القياس فهو مصحح له ومانع من اظهار خلل النقض فيه. ... وأجابوا من كونه فيه تنبيه للمعترض على موضع النقض بأن ذلك لا يمنع وجوب الاحتراز لأن المناظرة المشروعة مبنية على العدل والانصاف وقصد ظهور الحق لا على المشاغبة وقصد غلبة الخصم. التنبيه الثالث: ... قد قدمنا أن من أجوبة المستدل عن النقض منعه وجود الوصف الذي هو العلة في صورة النقض، فلو أراد المعترض اثبات وجوده بالدليل فقد اختلف أهل الأصول هل يمكن من ذلك إلى أربعة مذاهب. الأول: وبه قال الأكثر أنه ليس له ذلك لأن فيه نقل الكلام إلى مسألة أخرى وبذلك يصير المعترض مستدلاً والمستدل معترضاً، وكل ذلك على خلاف ما تقتضيه طريقة الجدل. الثاني: أن له ذلك لأنه متمم للنقض. الثالث: وبه قال الآمدي أن تعين ذلك طريقاً للمعترض في دفع كلام المستدل وجب قبوله وإن أمكن القدح بطريق أخرى هي أقرب للمقصود فلا يقبل منه ذلك. الرابع: وحكاه ابن الحاجب واختاره بعضهم هو أن العلة إن كانت حكماً شرعياً لم يقبل منه ذلك لما فيه من الانتشار، وان كانت حكماً عرفياً أو عقلياً فله ذلك لقرب المأخذ في العقليات والعرفيات دون الشرعيات، ولم يذكر صاحب جمع الجوامع هذا القول الأخير لأنه لم يره لغير ابن الحاجب كما ذكره عنه المحلى.
(1/357)
التنبيه الرابع: ... قد قدمنا أن من أجوبة النقض منع المستدل تخلف الحكم، فان منعه وقال بل الحكم موجود فلا نقض، فأراد المعترض إقامة الدليل على عدم الحكم، فقال بعضهم له ذلك إذ به يحصل مطلوبة وهو النقض بتخلف الحكم عن الوصف. وقال بعضهم له ذلك إن لم يكن طريق آخر أولى بالقدح نظير ما تقدم، والقول بمنعه من الاستدلال مطلقاً صححه صاحب جمع الجوامع، وقال صاحب الضياء اللامع وعزاه ولي الدين لأكثر النظار. التنبيه الخامس: ... لو أقام المستدل الدليل على وجود العلة في محل التعليل، وذلك الدليل موجود في محل النقض فنقض المعترض العلة، فقال المستدل لا نسلم وجوده في محل النقض، فقال المعترض ينتقض دليلك، لوجوده في محل النقض دون مدلوله وهو وجود العلة فاختلف هل يسمع منه ذلك أو لا فقال الجدليون: لا يسمع واختاره صاحب جمع الجوامع وغير واحد لأنه انتقال. وقال بعضهم يسمع منه ذلك ومثل له بعضهم بقول الحنفي يصح صوم رمضان بنية قبل الزوال للامساك والنية، فينقضه الشافعي بالنية بعد الزوال فانها لا تكفي فيمنع الحنفي وجود العلة في هذه الصورة، فيقول الشافعي ما أقمته دليلاً على وجود العلة في هذه الصورة، فيقول الشافعي ما أقمته دليلاً على وجود العلة في محل التعليل دال على وجودها في صورة النقض أيضاً. أما لو قال المعترض يلزمك أحد الأمرين أما نقض العلة أو نقض دليلها وأياً ما كان فلا تثبت العلية كان مسموعاً يفتقر إلى الجواب ولا نزاع في ذلك.
(1/358)
السؤال الثامن: القلب -: وضابطه أن يثبت المعترض نقيض حكم المستدل بعين دليل المستدل فيقلب دليله حجة عليه لا له وهو قسمان: ... أحدهما ما صحح فيه المعترض مذهبه وذلك التصحيح فيه ابطال مذهب خصمه سواء كان مذهب الخصم المستدل مصرحاً به في دليله أو لا. ... ومثال ما كان مصرحاً به فيه: قول الشافعي في بيع الفضولي، عقد في حق لغير بلا ولاية عليه فلا يصح قياساً على شراء الفضول فانه لا يصح لمن سماه، فيقول المعترض كالمالكي والحنفي: عقد فيصح كشراء الفضول فانه يصح لمن سماه إذا رضي المسمى له، وإلا لزم الفضولي. ... ومثال غير المصرح فيه: قول من يشترط الصوم في الاعتكاف كالمالكي " لبث فلا يكون بنفسه قربة كوقوف عرفة " أي فانه قربة بضميمة الإحرام أليه، فكذلك الاعتكاف إنما يكون قربة بضميمة عباده إليه وهي الصوم في الاعتكاف المتنازع فيه، ومذهبه وهو اشتراط الصوم في الاعتكاف غير مصرح به في دليله، فيقول المعترض كالشافعي: الاعتكاف لبث فلا يشترط فيه الصوم كوقوف عرفة، أي فانه لا يشترط فيه الصوم. ... القسم الثاني من قسمي القلب: هو ما كان لابطال مذهب الخصم من غير تعرض لتصحيح مذهب المعترض سواء كان الابطال المذكور مدلولاًَ عليه بالمطابقة أو الالتزام. ... مثال الأول: قول الحنفي في مسح الرأس: عضو وضوء فلا يكفي في مسحه أقل ما يطلق عليه اسم المسح قياساً على الوجه فاذن لا يكفي في غسله ذلك فيقول المعترض كالشافعي ك فلا يقدر بالربع كالوجه لا يتقدر بالربع.
(1/359)
.. ومثال الثاني ك وهو ما أبطل فيه مذهب المستدل بالالتزام قول الحنفي في جواز بيع الغائب: عقد معاوضة يصح مع الجهل بالعوض كالنكاح يصح مع الجهل بالزوجة أي عدم رؤيتها. فيقول كالمالكي: فلا يثبت خيار الرؤية كالنكاح. فقد أبطل مذهب الحنفي بلالتزام لأن ثبوت خيار الرؤية لازم عنده شرطاً للصحة، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وعرف في المراقي القلب بنوعيه بقوله: ... والقلب اثبات الذي حكم نقض ... ... بالوصف والقدح به لا يعترض ... فمنه ما صحح رأي المعترض ... ... مع أن رأي الخصم فيه منتقض ... ومنه ما يبطل بالتزام ... ... ... أو الطباق رأي ذي الخصام ... ولم يذكر المؤلف قلب المساواة ولذا تركناه، وأعلم أن القلب نوع من المعارضة إلا أنه نزع خاص لأن المعترض فيه يعارض المستدل بنفس دليله كما تقدمت أمثلته، والجواب عنه كالجواب عن المعارضة إلا أن يستثني من ذلك منع وجود الوصف فلا يصح في القلب لاتفاق الخصمين عليه كما يتضح من الأمثلة السابقة. السؤال التاسع: المعارضة - وهي قسمان: معارضة في الأصل. ومعارضة في الفرع. وأحسنها المعارضة في الأصل لأنه لا يحتاج إلى ذكر غير صلاحية ما يذكره للعلة. وأعلم أن ضابط المعارضة هو إقامة الدليل على خلاف ما أقام الخصم عليه دليله وترد على جميع الأدلة قياساً أو غيره وهذا الذي ذكره المؤلف " المعارضة في القياس ".
(1/360)
وضابط المعارضة في الأصل: أن يبدي المعترض وصفاً آخر صالحاً للتعليل كأن يقول الشافعي علة تحريم الربا في البر الطعم، فيعارض الحنبلي بابداء وصف آخر صالح للتعليل وهو الكيل، ولا يخفى أن هذا النوع من المعارضة مبني على القول بمنع تعدد العلل المستنبطة، لأنه على القول بجواز تعددها فلا مانع من أن تكون كلتا العلتين صحيحة، أما العلل المنصوصة، فلا خلاف في جواز تعددها، كالبول، والنوم لنقض الوضوء، ولا يرد عليها هذا النوع من المعارضة، وأشار إلى هذا في المراقي بقوله: وعلة منصوصة تعدد ... ... في ذات الاستنباط خلف يعهد ... وهذا النوع المذكور من المعارضة في الفرع ابداء وصف مانع من الحكم في الفرع منتف عن الصل كقياس الهبة على البيع في منع الغرر فيقال المعترض: البيع عقد معاوضة، والمعاوضة مكايسة يخل بها الغرر، والهبة محض احسان لا يخل بها الغرر، فان لم يحصل شيء لم يتضرر الموهوب له، فكون الهبة محض احسان معارضة في الفرع ليست موجودة في الأصل مانعة من الحاقه به، وكقول الحنفي: يقتل المسلم بالذمى كغير المسلم بجامع القتل العمد العدوان، فيقول المعترض: الاسلام في الفرع مانع من القود. ... وذكر المؤلف أن من المعارضة في الفرع فساد الاعتبار المتقدم، وهو واضح، لأنك لو قلت كالحنفي يمنع السلف في الحيوانات لعد انضباطها كسائ المختلطات، فللمعترض أن يقول: أن في هذا الفرع وصفاً مانعاً من الحاقه بالأصل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكراً ورد رباعياً، وهذا النص الموجود في الفرع منتف عن الأصل الذي هو سائر المختلطات. ... وذكر المؤلف في جواب المعارضة في الأصل أربعة طرق:
(1/361)
.. الأولى: أن يبين المستدل أن مثل الحكم المتنازع فيه ثبت بدون ما ذكره المعترض فيستقل به ما ذكره المستدل ومثاله قول الشافعي: علة تحريم الربا في البر الطعم، فيعارضه الحنفي مثلاً بوصف الكيل، فيقول الشافعي أن ملء الكف من البر ينتفي عنه الكيل لقلته ومنع الربا موجود فيه فيستقل الطعم بالعلة. والقصد المثال لا مناقشة أدلة الأقول. الثانية: أن يبين المستدل الغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه كالذكورة والأنوثة بالنسبة على العتق، فان في الحديث من أعتق شركاً له في عبد. الحديث. فيقول المستدل الآمة كالعبد في سراية العتق الواردة في الحديث بجامع الرق فيقول المعترض: أن في الأصل - وصفاً مانعاً من الحاق الفرع به وهو الذكورة لأن عتق الذكر تلزمه مصالح كالشهادة والجهاد وجميع المنصب المختصة بالرجال لا توجد في الفرع الذي هو الأمة. فيجيب المستدل على هذا الاعتراض بأن الذكورة لا توجد بالنسبة إلى العتق وصفا " طردياً " لا يترتب عليهما شيء من أحكام العتق كما تقدم ايضاحه. الثالثة: أن يبين أن العلة ثابتة بنص أو ايماء وتنبيه. ومثاله في الايماء والتنبيه قول الشافعي العلة في تحريم الربا في البر الطعم فيعارضه المالكي بالاقتيات والادخار فيقول الشافعي: أن كون الطعم هو العلة تثبت بمسلك الايماء والتنبيه في حديث معمر بن عبد الله في صحيح مسلم: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل. الحديث. فترتيب اشتراط المثلية على وصف الطعم يدل بمسلك الايماء والتنبيه على أن العلة الطعم. والقصد المثال لا مناقشة أدلة الأقوال ومثاله في النص أن يقول الحنبلي: علة الربا في البر الكيل فيعارضه المالكي بوصف الاقتيات والادخار فيقول الحنبلي أن كون العلة الكيل ثبت بالنص، ففي حديث حيان ابن عبيد الله عند الحاكم عن أبي سعيد بعد أن ذكر السنة
(1/362)
المنصوص على تحريم الربا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكذلك كل ما يكال أو يوزن) وفي الصحيحين بعد ذكر الربويات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكذلك الميزان بعد ذكر الكيل في الحديث) . الرابعة: أن يبين رجحان ما ذكره على أبداه المعترض. ومثاله قول المالكي والحنفي: أن علة كفارة الجماع في نهار رمضان انتهاك حرمة رمضان فتجنب الأكل والشرب كالجماع فيعارضه الحنبلي والشافعي بخصوص وصف الجماع الذي رتب النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الكفارة، فيجيب المالكي والحنفي بأن الوصف المتعدي إلى غيره أرجح من الوصف الذي لم يتعد إلى غيره، لأن التعدية من المرجحات وكون العلة هي انتهاك حرمة رمضان يتعدى بها الحكم من الجماع إلى ألكل والشرب فتجنب الكفارة في الجميع. وكون العلة خصوص الجماع تكون به قاصرة على محلها فلا يتعدى حكمها إلى شيء والقصد المثال لا مناقشة أدلة الأقوال. ورد قوم القدح بالمعارضة بدعوى أن القدح هدم، والمعارضة بناء، والتحقيق خلافه لأنها هدم للدليل. السؤال العاشر: عدم التأثير - أي عدم تأثير الوصف في الحكم: وضابطه أن يذكر في الدليل ما يستغني عنه وهو عند الأصوليين ثلاثة أقسام: الأول: وهو المسمى بعدم التأثير في الوصف، وضابطه أن يكون الوصف طردياً لا مناسبة فيه أصلاً كقول الحنفي في صلاة الصبح مثلاً، صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها على الوقت كالمغرب فعدم القصر طردي
(1/363)
في تقديم الأذان، وحاصل هذا القسم: انكار علة الوصف بكونه طردياً. الثاني: هو المسمى بعدم التأثير في الأصل، وضابطه: ابداء المعترض علة لحكم الأصل غير علة المستدل بشرط كون المعترض يرى منع تعدد العلة لحكم واحد، أما إذا كان يرى جواز التعدد فلا يقدح في هذا القسم، مثاله، أن يقال في بيع الغائب: بيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء، فيقول المعترض لا أثر لكونه غير مرئي في الأصل، فان العجز عن التسليم كاف في عدم الصحة وعدمها واقع مع الرؤية. وهذا النوع من هذا القادح الذي هو عدم التأثير يتداخل مع المعارضة في الأصل كما تقدم. الثالث: وهو المسمى بعدم التأثير في الحكم وأضربه ثلاثة: أن لا يكون لذكره فائدة أصلاً كقول الحنفي في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا بدار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي، ودار الحرب عندهم لا أثر لذكرها في الأصل ولا في الفرع، لأن من أوجب الضمان ومن نفاه لم يفرق أحد منهم بين دار الحرب وغيرها. وهذا راجع إلى القسم الأول وهو كون الوصف طردياً، فالمعترض يطالب المستدل بتأثير كون الاتلاف في دار حرب، والذي عليه المحققون فساد العلة بذلك، وذهب بعضهم إلى صحة التمسك به، ولا يخفي ضعفه. أن يكون لذكرها فائدة ضرورية كأن كقول معتبر العدد في الاستجمار بالأحجار: عبادة متعلقة بالأحجار لم تتقدمها معصية فاعتبر فيها العدد قياساً على رمي الجمار. فقوله لم تتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والفرع. لكنه مضطر إلى ذكره ليحترز به عن الرجم لأنه عبادة متعلقة بالأحجار ولم يعتبر فيها العدد. أن يكون لذكرها فائدة غير ضرورية كأن يقول: الجمعة صلاة
(1/364)
مفروضة فلا تفتقر في اقامتها إلى أذن الامام الأعظم كالظهر، فقوله مفروضة لو حذف لما ضر، لكنه ذكر لفائدة تقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبهة بينهما إذا الفرض بالفرض أشبه منه منه بغيره، ومنع قوم رد ما ذكر لفائدة وله اتجاه. تنبيهان: أعلم أن التأثير في هذا المبحث يراد به معنى أعم من معناه المقابل للملائم والغريب. أعلم أنه يشترط في القدح بعد التأثير أن يكون القياس قياس علة فلا يقدح به قياس الشبه، ولا في الطرد، على القول باعتباره ويشترط فيه أيضاً أن تكون العلة مستنبطة مختلفاً فيها فلا يقدح به في علة منصوصة ولا مستنبطة مجمع عليها. وأشار في المراقي إلى تعريف هذا القادح وشروطه وأقسامه بقوله: الوصف أن يعدم له تأثير ... ... فذاك لانتقاضه يصير خص بذي العلة بائتلاف ... ... وذات الاستنباط والخلاف يجئ في الطردي بائتلاف ... ... به وقجئ فيما أصلا وذا بابدا علة للحكم ... ... ممن يرى تعدداً ذا سقم ... ... وقد يجئ في الحكم وهو أضرب ... ... فمنه ماليس لفيد يجلب ... ... وما لفيد عن ضرورة ذكر ... ... أولا وفي العفو خلاف قد سطر السؤال الحادي عشر: التركيب: ... وهو القياس المركب.. الخ.. ... أعلم أن القياس المركب هو مركب الأصل ومركب الوصف، وهما
(1/365)
داخلان في المنع كما قدمناه واضحاً، لأن مركب الأصل ومركب الوصف، وهما داخلان في المنع كما قدمناه واضحاً، لأن مركب الأصل يمنع المعترض فيه كون الوصف علة. ... ومركب الوصف يمنع فيه وجود الوصف كما تقدم. فذكر هذا القادح تكرار مع ذكر قادح المنع. السؤال الثاني عشر: القول بالموجب -: ... وضابطه تسليم المعترض دليل الخصم مع بقاء النزاع في الحكم أي وذلك يجعل الدليل الذي سلمه ليس هو محل النزاع كقوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " الآية. فابن أبي في هذه الآية استدل على أنه يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة بأن الأعز قادر على إخراج الأذل، والله سلم له هذا الدليل مبيناً أنه لا يجديه لأنه هو الأذل. حيث قال تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " الآية. ... وأعلم أن القول بالموجب عند الأصوليين يقع على أربعة أوجه: ... الوجه الأول: أن يرد لخلل في طرف النفي وذلك أن يستنتج المستدل من الدليل ابطال أمر يتوهم منه أنه مبنى مذهب الخصم في المسألة، والخصم يمنع كونه مبنى مذهبه، فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه، وأكثر القول بالموجب من هذا النوع، كأن يقال في وجوب القصاص بالقتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة من آلات القتل وغيره لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه من قتل أو قطع أو غيرهما لا يمنع التفاوت فيه القصاص، فتفاوت الآلات ككونه بسيف أو برمح أو غيرهما. وتفاوت القتل ككونه بحز المفصل من جهة واحدة أو من جهتين أو بغير ذلك. فيقول المعترض كالحنفي: سلمنا أن التفاوت
(1/366)
في الوسيلة لا يمنع القصاص، ولكن لا يلزم من إبطال مانع انتفاء جميع الموانع ووجود جميع الشروط بعد قيام المقتضي. وثبوت القصاص متوقف على جميع ذلك. فقول المستدل " لا يمنع القصاص " نفي ولأجل ما وقع فيه من الخلل ورد القول بالموجب، فكأن الحنفي يقول للمستدل: " ما توهمت أنه مبنى مذهبي، بل مبنى مذهبي شيء آخر لم تتعرض له في اعتراضك. ... ومعلوم أن موجب منع الحنفي القصاص في القتل بالمثقل عدم تحقق العلة التي هي قصد القتل فهو عنده من الخطأ شبه العمد. إذ لا يلزم من قصده ضربه بالمثقل قصده ازهاق روحه عنده. ... الوجه الثاني: أن يقع على ثبوت، وضابطه أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهم منه أنه محل النزاع أو ملازمة، ولا يكون كذلك، كأن يقال في القصاص بالقتل بالمثقل.. قتل بما يقتل غالباً لا ينافي القصاص فيجب فيه القصاص قياساً على الإحراق بالنار. فيقول المعترض كالحنفي: سلمنا عدم المنافاة بين القتل بمثقل وبين ثبوت القصاص ولكن لم قلت أن القتل بمثقل يستلزم القصاص وذلك هو محل النزاع ولم يستلزمه دليلك وهو العلة التي هي قوله: قتل بما يقتل غالباً لا ينافي القصاص، ثبوت ولأجل ما ورد فيه من الخلل عنده وقع عليه القول بالموجب المذكور. ... الوجه الثالث: أن يقع لشمول لفظ المستدل صورة متفقاً عليها فيحمله المعترض على تلك الصورة ويبقى النزاع فيما عداها كقول الحنفي في وجوب زكاة الخيل: حيوان يسابق عليه فتجب فيه الزكاة كالابل فيقول المعترض أقول به إذا كانت الخيل للتجارة، وهذا أضعف أنواعه، لأن المستدل يقول عنيت وجوب الزكاة في رقابها.
(1/367)
الوجه الرابع: أن يقع لأجل سكوت المستدل عن مقدمة غير مشهورة مخافة منع الخصم لها لو صرح بها، كقول مشترط النية في الوضوء والغسل: كل ما هو قربة تشترط فيه النية كالصلاة، وسكت عن الصغرى وهي " الوضوء والغسل قربة " فيقول المعترض كالحنفي مثلاً نسلم أن كل ما هو قربة تشترط فيه النية، ولا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء والغسل، فلو صرح المستدل بالصغرى لمنعها المعترض (1) ، وخرج عن القول بالموجب وبعضهم يقول في هذا المثال: " السكوت عن مقدمة مشهورة " وما تقدم أظهر لأن المشهورة كالمذكورة فكأنها غير مسكوت عنها لشهرتها، وهذا النوع من القول بالموجب إنما ورد على السكوت عنها، ووجه من قال السكوت عن مقدمة مشهورة لأن الشهرة هي التي تبيح الحذف لأن حذف غير المشهورة يؤدي إلى عدم فهم الكلام. تنبيهان: - الأول: منشأ الخلاف في اشتراط النية في الوضوء والغسل هو أهما وسيلة إلى صحة الصلاة فمن أعطى الوسيلة حكم ما يقصد بها جعلها قربة فأوجب النية فيهما وهذا هو الأظهر. ومن لم يعط الوسيلة حكم مقصدها لم يجعلها قربة فلم يوجب فيهما النية. الثاني: قال بعض أهل الأصول: القول: بالموجب والقلب معارضة في الحكم لا قدح في العلة. وجعلهما الفخر الرازي من القوادح في العلة: وأشار في المراقي إلى تعريف القول بالموجب وأقسامه فقال: والقول بالموجب قدحه جلا ... وهو تسليم الدليل مسجلا من مانع أن الدليل استلزما ... لما من الصور فيه اختصما _________ (1) لأن أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء والغسل طهارة معقولة المعنى وليست قربة..
(1/368)
يجئ في النفي وفي الثبوت ... ولشمول اللفظ والسكوت عما من المقدمات قد خلا ... من شهرة لخوفه أن تحظلا ... وأعلم أن الذي بيناه هنا هو القول بالموجب في اصطلاح أهل الأصول، أما القول بالموجب الذي هو نوع من أنواع البديع المعنوي عند البلاغيين فقد تركنا ايضاحه هنا لأن محله في فن البلاغة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) (في حكم المجتهد) ... أعلم أن الاجتهاد في اللغة بذل المجهود في استفراغ الوسع في فعل، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد أي مشقة، يقال اجتهد في حمل الرحا، ولا يقال اجتهد في حمل النواة. والجهد بالفتح المشقة، وبالضم الطاقة، ومنه قوله تعالى: " والذين لا يجدون إلا جهدهم " قاله القرافي. ... والاجتهاد في اصطلاح أهل الأصول: بذل الفقيه وسعه بالنظر في الأدلة لأجل أن يحصل له الظن أو القطع بأن حكم الله في المسألة كذا، والأصل في الاجتهاد قوله تعالى: " يحكم به ذوا عدل منكم ". وقوله وداودود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ". وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أجتهد الحاكم فأصاب. الحديث.) وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم) ,
(1/369)
وشروط المجتهد: احاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها من كتاب وسنة واجماع واستصحاب، وقياس. ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض وتقديم ما يجب تقديمه منها كتقديم النص على القياس. والعدالة ليست شرطاً في أصل الاجتهاد، وإنما هي شرط في قبول فتوى المجتهد ولا يشترط حفظ آيات الأحكام، وأحاديثها، بل يكفي علم مواضعها في المصحف وكتب الحديث ليراجعها عند الحاجة. ويشترط علمه بالناسخ والمنسوخ، ومواضع الاجماع والاختلاف، ويكفيه أن يعلم أن ما يستدل به ليس منسوخاً، وأن المسألة لم ينعقد فيها اجماع من قبل، ولا بد من معرفته للعام والخاص، والمطلق والمقيد، والنص والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم، والمحكم والمتشابه. ولا بد من معرفة ما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث، من أنواع الصحيح والحسن، والتمييز بين ذلك، وبين الضعيف الذي لا يحتج به لمعرفته بأسباب الضعف المعروفة في علم الحديث والأصول. وكذلك القدر اللازم لفهم الكلام من النحو واللغة. تجزئ الاجتهاد: والصحيح جواز تجزيء الاجتهاد. ... التعبد بالقياس: واختلف في جواز التعبد بالقياس في زمنه صلى الله عليه وسلم فمنعه قوم لا مكان الحكم بالوحي، وأجازه قوم لقصة معاذ. ... اجتهاده صلى الله عليه وسلم: واختلف في اجتهاده صلى الله
(1/370)
عليه وسلم فمنعه قوم لقوله تعالى: " إن هو إلا وحي يوحى " وأجازه قوم لقوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " ونحوها. وأجازه قوم في الأمور الدنيوية دون الدينية. ... واختلف هل المصيب واحد من المجتهدين المختلفين أو كل مصيب؟ .. والأول هو اختيار المؤلف وهو الصحيح كما يدل عليه حديث " إذا أجتهد الحاكم فأخطأ.. الحديث " فهو نص صريح في أن المجتهدين، منهم المخطئ ومنهم المصيب. ... ومعلوم أن المخطئ في الفروع مع استكماله الشروط معذور في خطئه، مأجور باجتهاده كما في الحديث. وقصة بني قريظة تدل على أنه قد يكون الكل مصيباً في الجملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ من صلى العصر قبل ببني قريظة، ولا من لم يصلها إلا في بني قريظة، وهو لا يقر على باطل. ... وإذا لم يترجح عند المجتهد أد الدليلين المتعارضين وجب عليه التوقف. وقيل يخير، وقيل يأخذ بالأحوط منهما، وهو أظهرها لحديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". ... وليس للمجتهد أن يقول قولين في المسألة في حال واحدة في قول عامة الفقهاء. ... واتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليد غيره، أما القاصر في فن فهو كالعامي فيه. ... وأعلم أنه إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينهما فكل وصف توجد فيه تلك العلة فحكمه حكم ما نص عليه، فلأصحابه العارفين بمذهبه
(1/371)
أن يحكموا عليها أنها كمذهبه نظراً للعلة الجامعة كما يفعله المجتهد المطلق بالنسبة إلى نصوص الشرع العامة. ... ولأجل هذا القاعدة أوجب بعض المالكية الزكاة في التين مع أن مالكاً لم يذكر في التين زكاة. ومعلوم أن علة الزكاة في الثمار عنده إنما هي " الاقتيات والادخار " فلما كان الاقتيات والادخار موجوداً في التين جعل بعض أصابة الزكاة فيه كالزبيب بمقتضى علته المذكورة، ولذا قال ابن عبد البر: أظن مالكاً ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخن، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ولا تدخر كالرمان والفرسك. ... فان لم يبين المجتهد العلة لم يجعل ذلك الحكم مذهباً له في مسألة أخرى وأن أشبهتها شبهاً يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين، إذ لا يدري أنها لو خطرت بباله صار فيه إلى ذلك الحكم بل قد يظهر له فرق بينهما مع المشابهة. ... وأن نص المجتهد في مسألة واحدة على حكمين مختلفين فان عرف الأخير منهما فهو مذهبه على الصحيح. وإن لم يعلم الأخير، اجتهد في أشبههما بأصوله وأقواله دليلاً فتجعل مذهباً له، وتكون الأخير كالمشكوك فيها ومثل لذلك محشى الروضة بمثالين: ما لو اختلف نص احمد في أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر لكان الأشبه بأصلة أنهم لا يملكونها بناء على تكليفهم بالفروع، وهو أشبه بقاعدته لأن الأسباب المحرمة لا تفيد الملك، ولذلك رجحه أبو الخطاب ونصره في تعليقه، وإن كان مخالفاً لنصوص أحمد على أنهم يملكونها. هو أنه لما اختلف نصه في بيع النجش وتلقي الركبان ونحو ذلك هل
(1/372)
هو باطل أو لا كان الأشبه بنصه البطلان بناء على اقتضاء النهي الفساد مطلقاً. هو منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) (في التقليد) التقليد في اللغة وضع القلادة في العنق، ويستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص كأن الأمر مجمول في عنقه كالقلادة ومنه قول لقيط الأبادي: ... وقلدوا أمركم لله دركمو ... ... رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا وهو في اصطلاح الفقهاء قبول قول الغير من غير معرفة دليله. وأعلم أن قول الغير لا يطلق إلا على اجتهاده، أما ما فيه النصوص فلا مذهب فيه لأحد ولا قول فيه لأحد لوجوب اتباعها على الجميع، فهو اتباع لا قول حتى يكون فيه التقليد. والاجتهاد إنما يكون في شيئين: أحدهما: ما لا نص فيه أصلاً. والثاني: ما فيه نصوص ظاهرها التعارض، فيجب الاجتهاد في الجمع بينها، أو الترجيح. فالأخذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالاجماع لا يسمى تقليداً لأن ذلك هو الدليل نفسه ولم يخالف في جواز التقليد للعامي
(1/373)
إلا بعض القدرية، والأصل في التقليد قوله تعالى: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " وقوله: " فاسألوه أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " واجماع الصحابة عليه، ولا يستفتي العامي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل الفتوى، وإذا كان في البلد مجتهدون فله سؤال من شاء منهم، ولا يلزمه مراجعة الأعلم لجواز سؤال المفضول، وقيل يلزمه سؤال الأفضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) (في ترتيب الأدلة، ومعرفة الترجيح) ... أما ترتيب الأدلة فقد ذكر أن المقدم منها الاجماع، ثم المتواتر من الكتاب أو السنة، فتواتر السنة مرتبة القرآن ثم أخبار الآحاد. ... وأعلم إن الاجماع الذي يذكر الأصوليين تقديمه على النص هو الاجماع القطعي خاصة وهو الاجماع القولي المشاهد أو المنقول بعدد التواتر، أما غير القطعي من الاجماعات كالسكوتي والمنقول بالآحاد فلا يقدم على النص. ... وأعلم أن تقدم الاجماع على النص إنما هو في الحقيقة تقديم النص المستند إليه الاجماع على النص الآخر المخالف للاجماع، وتارة يكون النص معروفاً وتارة يكون غير معروف إلا أنا نجزم أن الصحابة لم يجمعوا
(1/374)
على ترك ذلك النص إلا لنص آخر هو مستند الاجماع. ... فمثال الأول: ما لو تنازع خصمان في الأخت من الرضاع هل يحل وطؤها بملك اليمين؟ فقال أحدهما: لا يحل ذلك لقوله تعالى: " وأخواتكم من الرضاعة " وظاهرة يشمل النكاح وملك اليمين، فقال خصمه: يحل وطؤها بملك اليمين لعموم قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ... " الآية في قد أفلح وسأل سائل وظاهرها الاطلاق في الأخت من الرضاع وغيرها. ... فيقول خصمه: أجمع جميع المسلمين على منع وطء الأخت من الرضاع بملك اليمين، فهذا الاجماع مقدم على قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانهم ". ... والمقدم في الحقيقة النص المستند إليه الاجماع وهو قوله تعالى: " وأخواتكم من الرضاعة ". ... ومثال الثاني: المضاربة المعروفة في اصطلاح بعض الفقهاء بالقراض. فان ظاهر النصوص العامة منعها لأن الربح المجعول للعامل جزء منه لا يدري هل يحصل منه قليل أو كثير أو لا يحصل شيء. وهذا داخل في عموم الغرر، ولم يثبت نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة بجواز المضاربة، والحديث الوارد فيها ضعيف لا يحتج به، إلا أن الصحابة أجمعوا على جواز المضاربة وكذلك من بعدهم فقدم هذا الاجماع على ظاهر تلك النصوص الدالة على منع الغرر لعلمنا بأنهم استندوا في اجماعهم إلى شيء علموه منه صلى الله عليه وسلم يدل على اباحة ذلك. والله أعلم. ... وأعلم أن التعارض لا يكون بين قطعيين ولا بين قطعي وظني وإنما يكون
(1/375)
بين ظنيين فقط. ... وأعلم أن تعادل الدليلين الظنيين بحسب ما يظهر للمجتهد جائز اتفاقاً، أما تعادلهما في نفس الأمر فاختلف فيه فنقل الامام أحمد والكرخي أنه لا يمكن تعادلهما في نفس الأمر وصححه صاحب جمع الجوامع، والأكثرون على جوازه، ومنهم من قال: هو جائز غير واقع. الترجيح ... والترجيح في الاصطلاح تقوية أحد الدليلين المتعارضين. ... وأعلم أنه إن حصل التعارض وجب الجمع أولاً إن أمكن كتنزيلهما على حالين كما أكثرنا من أمثلته القرآنية في كتابنا (دفع ايهام الاضطراب عن آيات الكتاب) ومن أمثلته في الحديث، الحديث الوارد بذم الشاهد قبل أن تطلب منه الشهادة ن مع الحديث الوارد بمدحه. فيجمع بينهما بأن ينزل كل منهما على حال، فيحمل حديث المدح على من شهد في حق الله، ومن يعلم أن المشهود له لا يعلم أنه شاهد له، ويحمل حديث الذم على الشاهد في حق الآدمي العالم بأن الشاهد يعلم ما يشهده به ولم يطلبه، فان لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ للمتقدم، فان لم يعرف المتأخر فالترجيح. ... والترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه الأول يتعلق بالسند وهو خمسة: ... أولا: كثرة الرواية. ... ثانيا: ثقة الراوي، وضبطه وقلة غلطه. ... ثالثا: ورع الراوي وتقاه لشدة تحرزه من رواية من يشك فيه. ... رابعا: أن يكون صاحب القصة كحديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم.
(1/376)
تزوجها وهو حلال ... خامسا: أن يكون مباشراً للقصة كحديث أبي رافع بذلك، لأنه هو السفير بينه وبين ميمونة. فكلاهما يرجح على حديث ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم. وللأصوليين في الترجيح باعتبار السند أمور كثيرة زائدة على ما ذكره المصنف. ... منها: علو السند، فالسند الذي هو أعلى يقدم على غيره لأن قلة الوسائط بين المجتهد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أرجح من كثرتها لأن قلة الوسائط يقل معها احتمال النسيان والاشتباه والزيادة والنقص. ... ومنها: السلامة من البدع فالراوي غير البدعي أرجح من الراوي البدعي. ... ومنها: فقهه في الباب المتعلق به المروي، فالفقيه في البيوع مثلا يقدم خبره على غير الفقيه فيها. وكذا يقدم زائد الفقه على غيره، ولذا قالت المالكية يقدم خبر رواه ابن وهب في الحج على ما رواه ابن القاسم فيه لأنه أفقه منه فيه، وان كان ابن القاسم أفقه منه في غيره. ... ويقدم عندهم العالم باللغة على غير العالم بها، والعالم بالنحو على غير العالم به، لأن الخطأ منهما في فهم مقاصد الكلام أقل، ويقدم الفطن على من دونه. ... ويقدم المشهورة بالعدالة على المعدل بالتزكية. ... ويقدم الراوي الذي زكاه المجتهد باختباره اياه على المزكى عنده بالاخبار إذ ليس الخبر كالعيان. ... ويقدم من زكى تزكية صريحة على من زكى تزكية ضمنية كالحكم
(1/377)
بشهادته والعمل براويته. ... ويقدم من زكاه جماعة كثيرون على من زكاه واحد مثلا. ... ويقدم غير المدلس على المدلس. ... ويقدم الحر على العبد لأن الحر لشرف منصبه يتحرز على ما لا يتحرز عنه العبد، وضعف بعضهم الترجيح بالحرية. ... ويقدم حافظ الخبر الذي يسرده متتابعاً على من ليس كذلك، وهو من يتخيل اللفظ ثم يتذكره ويؤديه بعد تفكر وتكلف، ومن لا يقدر على التأدية أصلاً لكن إذا سمع اللفظ علم أنه مويه عن فلان. ... ويقدم الراوي الذي يعرف نسبه على الراوي الذي لم يعرف نسبه لأن الوثوق بالأول أشد. ... ويقدم عندهم الذكر عن الأنثى إلا إذا علم أنها أضبط من الذكر, فتقدم عليه، وكذلك أن كانت صاحبة القصة قدمت على الذكر، قال بضعهم: الأنثى والذكر على السواء، ولا يرجح عليها إلا بما يرجح به الرجل على الرجل، وفصل بعض العلماء فقال: يرجح الذكر في غير أحكام النساء بخلاف أحكامهن كالحيض والعدة فيرجحن فيها على الذكور لأنهن أضبط فيها. ... ويقدم الذي كانت روايته أوضح في إفادة المروي على الذي في روايته خفاء كالأجمال، ولأجمل ذلك يقدم الروي بالسماع على الروي بالإجازة لأن السماع طريق واضح في إفادة المروي بيان تفصيله بخلاف الإجازة لما فيها من الأحمال. ويقدم من علمت جهة تحمله من سماع لفظ الشيخ أو القراءة عليه ونحو ذلك على رواية نم لم تعلم جهة تحمله.
(1/378)
.. وتقدم رواية المكلف وقت التحمل على رواية من هو صبي وقت التحمل. والحال أنه أدى بعد البلوغ للاختلاف في المحتمل قبل البلوغ، وقدم الاختلاف في التحمل بعد البلوغ لأن ما لا خلاف فيه يقدم على ما فيه خلاف وان كان المشهور المعروف قبول رواية من تحمل قبل البلوغ إذا كانت التأدية بعد البلوغ. ... ويقدم راوي الحديث بلفظه على الراوي بالمعنى لسلامة المروي باللفظ عن احتمال وقوع الخلل في المروي بالمعنى ويقدم خبر الراوي الذي لم ينكر شيخه أنه حدثه على خبر من أنكر شيخه الذي روى عنه روايته له عنه، وان قلنا بأن إنكاره لا يضر. ... ويقدم ما في الصحيحين أو أحدهما على ما ليس فيهما إلى غير ذلك. وكثير ما ذكرنا من المرجحات باعتبار السند لا يخلو من خلاف، ولكن له كله وجه من النظر. الوجه الثاني من الترجيح بأمر بعود إلى المتن كاعتضاد أحد الدليلين المتعارضين بكتاب أو سنة غير ذلك من الأدلة، كأحاديث صلاة الصبح فإن في بعضها التغليس بها أي فعلها في بقية الظلام، وفي بعضها الأسفار بها، فتعضد أحاديث التغليس بعموم فوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم "، وكان يختلف في وقف أحد الخيرين على الراوي والآخر يتفق على رفعه، وكأن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر متصلاً، فالمتصل أولى لأنه متفق على الاحتجاج به وذلك مختلف فيه. ... هذا حاصل ما ذكره المؤلف وللأصولين باعتبار حال المتن مرجحات
(1/379)
كثيرة، ما كرها المؤلف: ... منها كثرة الأدلة فالخير الذي اعتضد بأدلة كثيرة مقدم على ما اعتضد بأقل من ذلك من الأدلة. ... ومنها أن يكون المتن قولاً فهو مقدم على الفعل كما أن الفعل مقدم على التقرير. وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاص به صلى الله عليه وسلم. ويفهم منه أن ليس كل قول أقوى بل إذا احتمل القول الاختصاص فلا يكون أقوى من الفعل، فلا يرد قولهم: أن الإحرام بالعمرة من الجعرانة أفضل منه من التنعيم لأن أمره وأن كان قولاً يحتمل الخصوصية لعائشة، فلي أقوى من فعله بل هو دونه كما قالوا، لاحتمال أنه إنما أمرها بذلك لضيق الوقت لا لأنه أفضل، ويمكن على هذا أن يقاس على عائشة كل من له عذر، وإنما كان الفعل مقدماً على التقرير لأن التقرير كالفعل الضمني، والفعل الصريح مقدم على الضمني. قال بعضهم: ويقدم تقريره ما وقع بحضرته على ما بلغه فأقره. ... ومنها الفصاحة، فالخبر يقدم على غير الفصيح يقدم على غير الفصيح للقطع بأن غير الفصيح مروي بالمعنى لفصاحته صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بزيادة الفصاحة، فلا يقدم الخبر الأفصح على الفصيح. وقيل يقم عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح العرب فيعد نطقه بغير الأفصح فيكون مرياً بالمعنى فيتطرق إليه الخلل وأجيب بأنه يعد في نطقه بغير الأفصح لأنه كان يخاطب العرب بلغاتهم. ... ومنها الزيادة، فالخير المشتمل على الزيادة يقدم على غيره لما فيه من زيادة العلم كخبر التكبير في العيد سبعاً مع خبر التكبير فيه أربعاًًً، خلافاً لمن قدم الأقل كالحنفية.
(1/380)
.. ومنها ورود أحد الخبرين على علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوته، ودلالة الآخر على الضعف وعدم القوة صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه كان يتجدد شيئاً فشيئاً فما اشعر بعلو شأنه مقدم على غيره لأن الشعر بعلو شأنه معلوم أنه هو المتأخر. ... ومنها أن يتضمن الخبر قصة مشهورة بأنه يقدم على المتضمنة قصة خفية لأن القصة المشهورة يبعد الكذب فيها، قال القرافي. ... ومنها ذكر السبب فالخبر المذكور فيه السبب مقدم على ما ليس كذلك لاهتمام راوي الأول به، واهتمامه دليل على كمال ضبطه للمروي لأنه يترتب عليه عادة. ... وأيضاً فان علم السبب يعين على فهم المراد، ولأجل ذلك اعتنى المفسرون بذكر أسباب نزول الآيات. ... ومنها أن يكون أحد الخبرين رواه رواية عن شيخة بدون حجاب مع أن الثاني رواه من وراء حجاب كرواية القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة عتقت في حال كون زوجها عبداً على رواية الأسود بن يزيد عنها أنه حراً، لأن القاسم كان محرما لها لكونها عمته، وكان يسمع منها بدون حجاب بخلاف الأسود. ... ومنها الخبر المدني فانه مقدم على الخبر المكي لتأخره عنه. ومعلوم أن المدني ما روى بعد الشروع في الهجرة، والمكي ما روى قبل الشروع فيها، فيشمل المدني ما ورد بعد الخروج من مكة وقبل الوصول إلى المدينة في سفر الهجرة. هذا هو الاصطلاح المشهور في المدني والمكي ولذا كان
(1/381)
المشهور عندهم في آية: " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " إنها مدنية مع أنها نزلت بالجحفة في سفر الهجرة كما قاله غير واحد. ... ومنها كون أحد الخبرين جامعاً بين الحكم وعلته، مع أن الآخر ليس كذلك لأن الجامع بين الحكم والعلة أقوى في الاهتمام بالحكم من الخبر الذي فيه الحكم دون علته كحديث البخاري " من بدل دينه فاقتلوه " فهذا الحديث يدل بمسلك الايماء والتنبيه على أن علة القتل هنا هي تبديل الدين فيشمل الذكر والأنثى مع الحديث الصحيح الآخر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، ففيه الحكم دون ذكر العلة فيقدم عليه الأول لذكر العلة مع الحكم. فيكون الأرجح قتل المرتدة خلافاً لمن منع قتل النساء مطلقاً بالكفر مرتدات كن أو حربيات كالحنفية. ... ومعلوم أن النصين المذكورين بينهما عموم وخصوص من وجه، والأعمان من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها فيجب الترجيح، وهي هنا في المثالين النساء المرتدات فانهن يدخلن في عموم " من بدل دينه فاقتلوه " بناء على ما هو الحق من شمول لفظه (من) للأنثى كقوله تعالى: " ومن يقنت منكن.. " الآية. " يانساء النبي من يأت منكن ... " الآية. " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى ... " الآية. كما أنهن يدخلن في عموم النهي عن قتل النساء الكافرات وإلى الترجيح بين الأعمين من وجه أشار في مراقي السعود بقوله: ... ... وان يك العموم من وجه ظهر ... ... فالحكم بالترجيح حتم معتبر ... ومنها تأكيد الخبر، فالخبر المشتمل على تأكيد يقدم على الخبر الذي لم
(1/382)
يشتمل عليه مثال المشتمل على توكيد حديث " أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل باطل " مع حديث "الأيم أحق بنفسها" على تسليم ما فسرته به الحنفية لأن القصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال، فتكرار البطلان في الخبر الأول توكيد لحكمه فيرجع حكمه على الخبر الذي لم يؤكد حكمه. ... ومنها التهديد، فالخبر الذي فيه تهديد وتخويف مقدم على ما ليس كذلك، ومثل له بعضهم بحديث عمار رضي الله عنه، من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث تخويف من صوم يوم الشك بأنه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم هذا الحديث على الأحاديث المرغبة في صوم النفل. فان قيل: التخويف المذكور من كلام الراوي فليس ترجيحاً باعتبار حال المتن، فالجواب أن حكمه الرفع، إذ لا يقال من جهة الرأي، نعم للناظر أن يقول: في التمثيل المذكور نظر، لأنه تقديم خاص على عام فلا تعارض أصلاً، ويمكن أن يجاب بان الخاص إنما رجح على العام في خصوص ما تعارضا فيه فقط والله تعالى أعلم. ... ومنها اطلاق العام عن ذكر السبب، فالعام المطلق الذي لم يذكر له سبب، يقدم عمومه على العام الذي ذكر سببه لأن هذا أضعف، لا احتمال الخصوص بصورة السبب. والخلاف في ذلك معروف أما صورة السبب فهي مقدمة على العام المطلق لأنها قطعية الدخول على الأصح. ... أما صيغ العموم فيقدم ما دل منها على الشرط كمن، وما، الشرطتيتين، على النكرة في سياق النفي على ما صححه بعضهم محتجاً بأن الشرطي من العام يفيد التعليل غالباً، نحو، من جامع فعليه الكفارة، من بدل دينه فاقتلوه. ويفهم من هذا انه إن لم يفد التعليل فلا يقدم على النكرة
(1/383)
كقوله: " فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ... " الآية. وقال بعضهم: أن النكرة في سباق النفي تقدم على أدوات الشروط العامة كمن، وما. قال مقيدة عفا الله عنه: ... الظاهر أن النكرة في سياق النفي إذا كانت نصاً صريحاً في العموم كالمبنية مع لا نحو " لا إله إلا الله " أو المزيد قبلها (من) نحو ما من اله إلا الله. ما أرسلنا من قبلك من رسول. لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير، إنها أقوى مرتبة في العموم من صيغ الشرط، والله أعلم. ... وباقي أدوات العموم تقدم عليه النكرة في سياق النفي إلا لفظة " كل " ونحوها. فلا شك أنها مقدمة على النكرة في سياق النفي، والجمع المعرف بالألف واللام أو بالاضافة، يقدم عومه على (من، وما) الاستفهاميتين، لأنها أقوى منها في العموم لامتناع تخصيص الجمع إلى الواحد دونهما على ما رجحه بعض أهل الأصول. ... والثلاثة المذكورة التي هي: الجمع المعرف: ومن. وما , المذكورتان، مقدمة على المفرد الذي هو اسم جنس المعرف بأل نحو والعصر أن الانسان لفي خسر: أي كل انسان. لأنه يحتمل فيه أن أل عهدية، بخلاف من وما، فلا يحتمل فيهما ذلك. والجمع المعرف يبعد فيه. ... ومنها عدم التخصيص، فالعام الذي لم يدخله تخصيص، مقدم على العام الذي دخله تخصيص، وهذا رأي جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.
(1/384)
.. وحجة الجمهور أن العام المخصص اختلف في كونه حجة في الباقي بعد التخصيص، والذين قالو اهو حجة في الباقي قال جماعة منهم هو مجاز في الباقي، بخلاف الذي لم يدخله تخصيص، فهو سالم من ذلك، وما اتفق على أنه حجة وأنه حقيقة أولى مما اختلف في حجيته وهل هو حقيقة أو مجاز. وان كان الصحيح أنه حجة وحقيقة في الباقي بعد التخصيص، لأن مطلق الخلاف يكفي في ترجيح غيره عليه. ... وحجة الصفي الهندي والسبكي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى بخلاف الباقي على عمومه. ... ومثال هذه المسألة قوله تعالى: " وان تجمعوا بين الأختين " الآية. فانه عام في كل أختين سواء كان الجمع بينهما بنكاح أو بملك يمين، وهذا العام لم يدخله تخصيص فهو مقدم على عموم قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ... " الآية. فان قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانهم " شامل بعمومه للأختين إلا أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم. وأخواتكم من الرضاعة، فلا تحل الأخت من الرضاعة بملك اليمين اجماعاً، ويخصصه أيضاً عموم. ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.. الآية. فلا تحل موطوءة الأب بملك اليمين اجماعاً. فان قيل:عموم وأن تجمعوا بين الأختين مخصص بعموم أو ما ملكت أيمانهم. فالجواب أن ذلك التخصيص هو محل النزاع، والاستدلال بصورة النزاع ممنوع بأطباق
(1/385)
النظار، كما هو معلوم في محله. ... فان كان كل واحد من العامين دخله تخصيص فالأقل تخصيصاً مقدم على الأكثر تخصيصاً، ومثال هذا ما لو ذبح الكتابي ذبيحة، ولم يسم عليها الله، ولا غيره، فعموم قوله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " يقتضي اباحتها. وعموم: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " يقتضي تحريمها، وكل من العمومين دخله تخصيص إلا أن الأول خصص مرة واحدة، والثاني خصص مرتين، فالأول أقوى لأنه أقل تخصيصاً لأن قوله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " لم يخصص إلا تخصيصه واحدة وهي بما إذا لم يسم الكتابي على ذبيحته غير الله كالصليب، أو عيسى، فان سمى على ذبيحته غير الله، دخلت في عموم وما أهل لغير الله به، على الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه. أما الآية " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " فقد خصصت تخصيصتين، خصصها الجمهور بغير الناسي، فتارك التسمية نسياناً تؤكل ذبيحته عند الجمهور، وحكى عليه ابن جرير الاجماع مع أنه خالف فيه اثنان. وخصصه الشافعي وأصحابه بما ذبح لغير الله. ... ويقدم الدال بدلالة الاقتضاء على الدال بدلالة الإيماء والدال بدلالة الإشارة والظاهر تقديم الدال بالإيماء على الدال بالإشارة. ووجه تقديم الدال بالاقتضاء أنه مقصود للمتكلم يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً كما تقدم إيضاحه. ووجه تقديم الدال بالإيماء على الدال بالإشارة، لأن دلالة الإيماء مقصودة للمتكلم، وإن لم يتوقف عليها الصدق أو الصحة، والمدلول عليه بالإشارة ليس بمقصود ولكنه لازم للمقصود كما تقدم إيضاح ذلك كله بأمثلته. وقال صاحب الضياء اللامع: ويقدم ما كان في دلالة الاقتضاء لضرورة صدق المتكلم على ما كان لضرورة صحة
(1/386)
الملفوظ به عقلاً أو شرعاً. ... ويتقدم الدال بالإشارة والإيماء على المفهوم بنوعيه لما تقدم من أن دلالة الإيماء والإشارة كدلالة الاقتضاء في كون الجميع من المنطوق غير الصريح على ما صححه بعضهم، والمنطوق ولو غير صريح مقدم على المفهوم. ... ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة على الصحيح لضعف مفهوم المخالفة بالخلاف في حجتيه كما تقدم. وشذ من قال بتقديم مفهوم المخالفة، ولا يخفى ضعف قوله وبعده عن الصواب. ... الوجه الثالث: الترجيح بأمر خارجي ككون أحد الخبرين ناقلاً عن حكم الأصل، ومثاله حديث من مس ذكره فليتوضأ. مع حديث " وهل هو إلا بضعة منك بأن هذا الأخير نافياً لوجوب الوضوء موافق للبراءة الأصلية، والخبر الموجب له ناقل عن حكم الأصل، وعكس بعضهم فرجح المبقي على الأصل بالبراءة الأصلية، والمشهور عند الأصوليين الأول، وكذلك رواية الإثبات، فإنها مقدمة على رواية النفي ن ومثاله: حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة مع حديث أنه لم يصل فيها، وحديث أن المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم سعوا لحجهم وسعوا لعمرتهم مع حديث أنهم لم يسعوا إلا سعي العمرة الأول، ولم يسعوا للحج. ... والظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان. فلو قال أحدهما: دخلت الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كذا ولم أفارقه ولم يغب عن عيني حتى خرج منها ولم يصل فيها، وقال الآخر رأيته في ذلك الوقت بعينه صلى فيها فانهما يتعارضان فيطلب الترجيح من جهة أخرى والله أعلم. وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقاً ومن قدم النافي مطلقاً. ووجه
(1/387)
تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور مما ذكرناه آنفاً. ... ويقدم عنده الحاظر على المبيح، وقبل: لا. والحظر المنع، ومثال تقديم الحاظر على المبيح تقديم عموم قوله: وأن تجمعوا بين الأختين، المقتضي بعمومه منع الأختين بملك اليمين على عموم.. أو ما ملكت أيمانهم الشامل بعمومه للأختين بملك اليمين، وهذا مبيح وذلك حاظر فقد الحاظر على المبيح. ... ومن فروع تعارض الحاظر والمبيح عند بعضهم المتولد بين المأكول وغيره كولد الذئب من الضبع عند من يمنع أكل الذئب ويبيح أكل الضبع، فعلى تقديم الحاظر على المبيح لا يؤكل وعلى القول بالعكس يؤكل. وقيل: الحاظر والمبيح لا يرجح أحدهما على الآخر، فيطلب الترجيح بسواهما. ... ووجه تقديم الحاظر على المبيح، أن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، وزاد بعض الأصوليين تقديم الخبر الدال على الأمر على الدال على الإباحة. ... ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وأن الخبر الدال على النهي مقدم على الدال على الأمر، ووجهه عندهم أن درئ المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن أمثلته عند القائل به: ترك تحية المسجد في وقت النهي. ... أما الخبر المسقط للحد فلا يرجح على الخبر الموجب له عند المؤلف. وكذلك عنده الخبر الموجب للحرية لا يرجح على الخبر المقتضي للرق. قال: لأن ذلك لا يوجب تفاوتاً في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب والإسقاط. وذهب المالكية وغيرهم إلى أن الخبر النافي للحد مقدم على الخبر الموجب له، قالوا: لما في الخبر النافي للحد من اليسر الموافق
(1/388)
لقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج ... " الآية. وقوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ". قالو: ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وتعارض الأدلة في وجوبه وسقوطه شبهة، وهو مستثني عندهم من تقديم المثبت على النافي. والتعزير عندهم كالحد فيما ذكره. وقال المتكلمون بتقديم الموجب للحد أو التعزير على النافي لذلك لأنه ناقل عن الأصل، لأن النفي مستفاد من البراءة الأصلية وايجاب الحد ناقل عن الأصل، لأن النفي مستفاد من البراءة الأصلية وإيجاب الحد ناقل عنها فهو مقدم. وأجاب بعضهم بأن النفي الشرعي هنا مستفاد من الحكم الشرعي لا من البراءة الأصلية، وقال بعض أهل العلم: أن الخبر الموجب للحرية مقدم على الخبر المقتضي للرق لرجحانه بشدة تشوف الشارع للحرية، ومثال تعارض الخبر الموجب للحد والنافي له ما لو سرق سارق مجنا قيمته ثلاثة دراهم، فحديث ابن عمر المتفق عليه يوجب قطعه والأحاديث التي تمسكت بها الحنفية ومن وافقهم في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وأن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قيمته عشرة دراهم فسقط الحد عنه، فرجحوا الروايات بعشرة دراهم على الروايات الأخرى المتفق عليها بأن الحد يدرأ بالشبهات وأن النافي للحد مقدم على الموجب له وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال. ... وعلى ما ذهب إليه المصنف فلا ترجيح باسقاط الحد، وحينئذ يترجح موجب الحد في المثال المذكور لأن أدلته أصح. ... ومثال تعارض الخبر الموجب للحرية والموجب للرق حديث ابن عمر المتفق عليه (من أعتق شركاً له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاؤه خصصهم، وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق) . فظاهر هذا الحديث الصحيح أن الشريك المعتق
(1/389)
نصيبه من العبد إن كان فقيراً لا مال له بقي ما لشركائه من العبد رقيقاً. وظاهره أن العبد لا يستسعي ليحصل قيمة الباقي فيخلص نفسه من الرق، فهذا الحديث موجب لرق الباقي في حالة فقر معتق نصيبه من العبد المشترك، مع الحديث الآخر المتفق عليه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: من أعتق شخصاً له من مملوكه فعليه خلاصه من ماله، فان لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى في نصيب الذي لم يستق غير مشقوق عليه. فهذا الحديث موجب للحرية باستسعاء العبد ليحصل قيمة الباقي من نفسه. فعلى ما ذهب إليه المؤلف لا يرجح أحد الخبرين على الآخر بايجاب الحرية ولا باسقاطها، وعلى قول من قال يرجح موجب الحرية يجب استسعاء العبد لتحصيل قيمة الباقي ليتخلص من الرق. والحديثان صحيحان. ودعوى الادراج فيهما لا يخفى سقوطها كما هو واضح من صنيع الشيخين، والقصد مطلق المثال لا مناقشة الأقوال. مع أن بعض العلماء جمع بين الحديثين، ونحن مثلنا بهما للتعارض نظراً لأن الجمع المذكور لا يجب الرجوع إليه والعلم عند الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل) (ترجيح المعاني) " يعني بذلك الترجيح بين علل المعاني " ... ثم قال: قال أصحابنا أن العلة ترجح بما يرجح به الخبر من موافقتها لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قول صحابي أو خبر مرسل.
(1/390)
.. ومن أمثلة ذلك قول المالكي: علة تحريم الربا في البر الاقتيات والادخار، مع قول الشافعي: علة تحريم الربا فيه الطعم، لأن علة الشافعي هنا قد ترجح بموافقتها لحديث معمر بن عبد الله في صحيح مسلم: " كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعام مثلا بمثل) .. الحديث ". وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة الأقوال. ... ... والشأن لا يعترض المثال ... ... إذ قد كفى الفرض والاحتمال ... وترجح العلة أيضاً بكونها ناقلة عن الأصل كالخبر فقوله في حديث عدم نقض الوضوء بذلك إذ لا ينقض الوضوء بمس عضو لعضو من انسان واحد. وحديث " من مس ذكره فليتوضأ " يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن علة الوضوء فيه مس الذكر. فهذه العلة ناقلة عن الأصل، والعلة المقتضية البقاء على الأصل في عدم وجوب الوضوء التي هي " وهل هو إلا بضعة منك؟ " موافقة للبراءة الأصلية. فتقدم عليها الناقلة عن الأصل فيجب الوضوء من مس الذكر. ... وهذان الحديثان صالحان لمثال الحكم الناقل عن الأصل ن والعلة الناقلة عن الأصل معاً، ولذا مثلنا لهما بهما. ... ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه إذا تعارضت علتان احداهما حاظرة والأخرى مبيحة، أو علتان احداهما مسقطة للحد والأخرى موجبة له، أو علتان أحدهما موجبة للعتق والأخرى نافية له، فقد اختلف أهل العلم في ترجيح الحاظرة والمسقطة للحد، والموجبة للعتق على مقابلاتها، فرجح بذلك قوم احتياطياً للحظر ونفي الحد ن ولأن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثباتها، ومنع آخرون الترجيح بذلك من حيث أنهما حكمان شرعيان فيستويان، ولأن سائر العلل لا ترجح بأحكامها فكذا
(1/391)
هنا. هكذا قال المؤلف. ... ثم ذكر أن كل هذه الترجيحات مع الاختلاف فيها ضعيفة. قال مقيده عفا الله عنه: ... الذي يظهر لي أن العلة الحاظرة مع غير الحاظرة، كالنص الحاظر مع غيره إلى آخره فالأظهر اجراء العلل في الترجيح بما ذكره مجرى أحكامها، لأن الجميع أدلة، والأظهر عندي تقديم الحاظر على المبيح ن لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام. وتقديم المقتضية لنفي الحد لأن الخلاف شبهة والحدود تدراً بالشبهات كما عليه جماعة من الأصوليين ما لم يقم مرجح آخر أقوى يترجح به جانب الحد، وأن الموجبة للحرية أرجح لشدة تشوف الشارع للحرية، وترغيبه فيها ما لم يقم مرجح آخر أقوى يترجح به جانب الرق. ... ثم ذكر المؤلف أنه إن تعارضت علتان احداهما أخف حكماً أن قوماً رجحوا التي هي اخف حكماً والأخرى حكماً أن قوماً رجحوا التي هي أخف حكماً لأن الشريعة خفيفة مرفوع فيها الحرج، وأنه قال آخرون بالعكس لأن الحق ثقيل. قال مقيدة عفا الله عنه: ... لا يمكن الحكم مطلقاً في هذه المسألة لأن التخفيف يكون ارجح تارة، والتثقيل يكون أرجح أخرى ومما يوضح ذلك أن الله تعالى قال: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ولا خلاف أنه تارة ينسخ الأثقل بالأخف لأن الأخف خير في ذلك المحل، وتارة ينسخ الأخف بالأثقل لأن الأثقل خير في ذلك المحل كم أوضحناه في النسخ.
(1/392)
.. ثم ذكر المؤلف أنه إن كانت علتان احداهما حكم شرعي، والآخر وصف حسي ككونه مسكراً أو قوتاً أن القاضي اختار ترجيح الحسية، وأن أبا الخطاب مال إلى ترجيح الحكمية، وذكر ما رجح به كل منهما قوله: " وقد تركنا ذكره لعدم اتجاه شيء منه عندنا ". ... ثم قال المؤلف: وقيل هذا فله ترجيح ضعيف. هـ. وقد صدق من قال ذلك والله أعلم. والمالكية ومن وافقهم يرجحون العلة التي هي وصف حسي على التي هي حكم شرعي. ... ووجه ترجيحهم لها أنها ألزم للمحل منها، ولا يخفى عدم ظهوره كما ترى. ... ثم ذكر المؤلف عن أبي الخطاب أنه ذكر ترجيح العلة التي هي أقل أوصافاً على التي هي اكثر أوصافاً ووجه ذلك بمشابهتهما العلة العقلية، وبأن ذلك أجرى على الأصول. هـ. ولا يخفى ضعف هذا التوجيه أيضاً ووجه المالكية، ومن وافقهم ترجيح العلة التي هي أقل أوصافاً على التي هي أكثر أوصافاً بأن تطرق البطلان أقل في التي هي أقل أوصافاً لأن المركب يسري إليه البطلان ببطلان كل واحد من أوصافه، فاحتمال البطلان في كثيرة الأوصاف أكثر منه في قليلة الأوصاف. ويفهم منه أن غير المركبة أعني العلة التي هي وصف واحد تقدم على المركبة من وصفين فأكثر على ما ذكرناه لأن تطرق الخلل للمتعدد أقوى احتمالاً من تطرقه لغير المتعدد، كما كان أقوى احتمالا في الأكثر أوصافاً من الأقل أوصافاً. ... وقال بعضهم: أن العلة التي هي أكثر أوصافاً مقدمة على العلة التي هي أقل أوصافاً لأن كثرة أوصاف العلة الجامعة بين الفرع والأصل تدل
(1/393)
على كثرة الشبه بينهما، وقد قدمنا الكلام في القياس على العلة المركبة وغيرها. ... ثم ذكر عن أبي الخطاب أنه ذكر ترجيح العلة بكثرة فروعها وعمومها، قال: ثم اختار التسوية وان هذين لا يرجح بهما لأن العلتين سواء في افادتهما حكمهما وسلامتهما من الفساد، ومتى صحت لم يلتفت إلى كثرة فروعها ن ولا كثرة أوصافها. ... ومثال ترجيح التي هي أقل أوصافاً على التي هي أكثر أوصافاً ترجيح علة الحنفي والحنبلي في تحريم الربا في البر المركبة من أكثر من وصف وهي: الاقتيات والادخار، وغلبة العيش على خلاف في الوصف الأخير. ... ومثال الترجيح بكثرة فروعها الكيل أيضاً مع الاقتيات والادخار لأن الميكلات أكثر من المقتات المدخر، فالكيل تحته فروع كثيرة كالنورة، والأشنان، ونحو ذلك لم تدخل في الاقتيات والادخار فهو أكثر فروعاً. ... وأعلم أن الترجيح بكثرة الفروع مبني على ترجيح العلة المتعدية على القاصرة، فالمتعدية التي هي أكثر فروعاً. وعلى العكس بالعكس. وقد مثلنا سابقاً لتقديم المتعدية على القاصرة. ... ومن امثلته تعليل بعضهم منع الربا في النقدين بالوزن، فالوزن علة متعدية إلى غيرهما كالحديد والنحاس ن مع تعليل بعضهم منع الربا فيهما بالثمنية أو النقدية فهي قاصرة عليهما. ... وأعلم ان المؤلف ذكر عن أبي الخطاب أن العلة المتعدية ترجح على القاصرة، وهو المعروف عند الأصوليين. ثم قال: ومنع ذلك قوم لأن
(1/394)
الفروع لا تنبئ عن قوة في ذات العلة بل القاصرة أوفق للنص، والأول أولى، فان المتعدية متفق عليها والقاصرة مختلف فيها. هـ. ... ولا يخفي أن المؤلف قد قدم في القياس أن العلة القاصرة مردودة لا يصح التعليل بها أصلاً. واستدل لذلك بأمور كما جاء أوضحناه وبينا الصواب فيه، وما ذكرناه عن المؤلف أنه ذكر عن أبي الخطاب من ترجيح العلة بعمومها ن معناه أن العلة العامة في جميع أفراد أصلها أعني الشاملة لجميعها بوجودها في جميعها مقدمة على ما ليست كذلك. ... ومثل له بعضهم بتعليل الشافعي منع الربا في البر بالطعم مع تعليل الحنفي بالكيل. فالطعم موجود في جميع البر على كل حال من أحواله قليلاً كان أو كثيراً ن بخلاف الكيل، فلا يوجد في ملء كف من البر. فعلة الطعم عامة في جميع أفراد الأصل بخلاف علة الكيل. والقصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال. ... ثم ذكر عن أبي الخطاب ترجيح العلة المنتزعة من أصول على المنتزعة من أصل واحد لأن الأصول شواهد للصحة، وما كثرت شواهده كان أقوى في إثارة غلبة الظن. قصور كلامه هذا ظاهر. ... ومثل له بعضهم بقياس الوضوء في وجوب النية وعدم وجوبها، فان الذي يقول بعدم وجوب النية فيه يقيسه على وصف منتزع من أصل واحد وهو انه تنظيف لا تلتزم به النية كطهارة الخبث. وطهارة الخبث التي قاس عليها الوضوء أصل واحد، أما القائل بوجوب النية فيه فيقول: هو قربة فتجنب فيه النية كالصلاة والصوم والحج، ونحو ذلك من القرب، فهذه أصول كثيرة، وذلك أصل واحد ن ومثل له بعضهم بما ورد من تضمين الغاصب، وتضمين المستعير من الغاصب. ... ويستنبط من كل منهما أن علة الضمان وضع اليد على مال الغير،
(1/395)
وظاهره ولو لغير تملك، فهما أصلان يشهدان بأن علة ضمان مال الغير وضع اليد عليه ن ولو بغير تملك. قالوا فيرجع ذلك على ما قاله أبو حنيفة من كون العلة وضع اليد بقصد التملك، وإن صح استنباط ذلك من تضمين مستام السلعة. ... ثم ذكر عن أبي الخطاب أنه رجح العلة المضطردة المنعكسة على ما لا تنعكس. قال: لأن الطرد والعكس دليل على الصحة ابتداء لما فيه من غلبة الظن فلا أقل من أن يصلح للترجيح. قال مقيده عفا الله عنه: ... وقد أوضحنا فيما مضى أن الطرد في اصطلاح الأصوليين هو ملازمة العلة والحكم في الثبوت. وقضيته: كلما وجدت العلة وجد الحكم وإن وجدت العلة بدون الحكم هو المسمى بالنقض، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفي، وهل هو قادح أو تخصيص للعلة، وأن العكس هو الملازمة في الانتفاء، وقضيته: كلما انتفت العلة انتفى الحكم. ... واختلفت في القدح بعدم الانعكاس. والصواب أنه يقدح عناد من يمنع تعدد العلل أما مع تجويز تعدد العلة فلا يقدح تخلف العكس قولاًُ واحداً. وقد علمت مما قدمناه أن العلة فلا يقدح تخلف العكس قولاً واحداً. وقد علمت مما قدمنا أن العلة المنصوصة تعدد بلا خلاف " ولا يقدح فيها تخلف العكس إجماعاً " فلو قلت: البول علة لنقض الوضوء وهو معدوم من هذا الشخص، مع أن وضوءه منتقض قلنا لثبوت نقض وضوئه بعلة أخرى غير البول، كالغائط، والنوم، والتقبيل، وكما لو قلت: الجماع علة لوجوب الغسل وهو منتف عن هذه المرأة مع أن الغسل واجب عليها، فأنا نقول: لثبوته بعلة أخرى وهي انقطاع دم الحيض عنها، وهكذا. ... أما العلل المستنبطة فهي التي اختلف في جواز تعددها، فعلى القول بجواز تعددها
(1/396)
فتختلف العكس ليس بقادح لأنه قد تنتفي العلة ويثبت الحكم بأخرى. ... أما على القول بمنع تعددها فتخلف العكس قادح ما لم يرد نص ببقاء الحكم مع تخلف العلة كالرمل في الأشواط الثلاثة الأول في طواف القدوم، فعلته واحدة وهي أن يعتقد المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقوياء، وأنهم لم تنهكهم حمى يثرب وقد زالت علة هذا الحكم مع بقائه. فتخلف العكس هنا ليس بقادح، لأن الدليل ورد ببقاء الحكم المذكور مع زوال علته لأنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال علة الرمل التي فعل من أجلها وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله في القوادح: ... ... وعدم العكس مع اتحاد ... ... يقدح دون النص بالتمادي ... فإذا علمت ذلك فمثال المضطردة المنعكسة الاسكار للتحريم. ومثال غير المضطردة العلة التي ورد عليها نقض، وقد قدمنا أمثلة ذلك مستوفاة. ومثال غير المنعكسة الكيل بالنسبة إلى ملء كف من البر عند من يقول أن الربا حرام فيه مع أن الكيل منتف عنه لقلته فقد انتفت علة الربا وبقي حكم الربا على هذا والقصد المثال لا مناقشة أدلة الأقوال. ... والمعروف عند أهل الأصول أن المضطردة المنعكسة مقدمة على المضطردة، والمضطردة مقدمة على المنعكسة، وإليه أشار في المراقي في ترجيح العلل بقوله: ... ... وذات الانعكاس واضطراد ... فذات الآخر بلا عناد ... ثم ذكر المؤلف عن أبي الخطاب أنه رجح ما كانت عليه وصفاً على ما كانت علته اسماً بأنه متفق على الوصف مختلف في الاسم فالمتفق عليه
(1/397)
أقوى، مثال التعليل بالوصف تعليل الربا في البر بالطعم أو الكيل، ومثال التعليل بالاسم تعليله فيه يكون براً. وتعليله في الذهب بكونه موزوناً تعليل بالوصف، وتعليله بكونه ذهباً تعليل بالاسم ن والوصف مقدم على الاسم، وهذا راجع في الحقيقة إلى مسألة تعدي العلة وقصورها والله تعالى أعلم. ... ثم ذكر عن أبي الخطاب أنه رجح ما كانت علته إثباتاً على التعليل بالنفي لهذا المعنى أيضاً، والظاهر أن مراده بهذا المعنى أن التعليل بالإثبات متفق عليه وبالنفي مختلف فيه، وليس ذلك على إطلاقه، لأن تعليل النفي بالنفي لا خلاف فيه إنما الخلاف في تعليل الإثبات بالنفي كما تقدم، ولا يبعد ترجيح تعليل الإثبات على النفي مطلقاً من حيث أن الموجود أولى من المعدوم في الجملة والله تعالى اعلم. ... ثم ذكر عن أبي الخطاب أنه رجح العلة المردودة إلى أصل قاس الشارع عليه كقياس الحج على الدين في أنه لا يسقط بالموت فهو أولى من قياسهم له على الصلاة لتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له بالدين. وإيضاحه أن الإنسان إذا مات ولم يحج حجة الإسلام وقد ترك مالاً فقد قال بعض أهل العلم يجب أن يحج عنه ماله لأن الحج دين في ذمته فيجب قضاؤه عنه بعد الموت كسائر ديونه، فقاسوا الحج على دين الآدمي بجامع أنه مطالب بالجميع ويسقط عنه بالأداء في الجميع، وينتفع بالقضاء في الجميع. وقال بعض أهل العلم: لا يلزم الحج عنه ماله إن لم يوصِ به لأن الحج عبادة بدنية فتسقط المطالبة بها بالموت قياساً على الصلاة، فيرجع القياس الأول بأنه وردت أحاديث متعددة بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحج عن الميت فشبهه بالدين وقال: أرأيت لو كان على املك دين فقضيته عنها أكان ينفعها؟ قالت: نعم. قال فدين الله أحق بالقضاء.
(1/398)
.. والحاصل أن القياس الأول يترجح بأن علته جمع بها النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك الأصل والفرع فصارت مردودة إلى أصل قاس الشارع عليه كما مثلنا. ... ثم قال المؤلف رحمه الله: ومتى كان أصل إحدى العلتين متفقاً عليه والآخر مختلفاً فيه كانت المتفق على أصلها أولى، فان قوة الأصل تؤكد قوة العلة، وكذلك ترجح كل علة قوى أصلها، مثل أن يكون أحدهما بخبر متواتر، والآخر بآحاد، أو أحدهما ثابت بروايات كثيرة، والآخر برواية واحدة، أو أحدهما بنص والآخر صريح، والآخر بتقدير أو اضمار. ... وحاصل كلامه من أن العلة ترجح بقوة حكمها فإذا تعارضت علتان وكان ما يثبت به حكم احداهما أقوى مما يثبت به حكم الأخرى، فان قوة حكمها مرجحة لها لأن قوة الأصل تؤكد قوة العلة. هكذا قال. ... والأسباب التي تقوي أحد الحكمين على الآخر كثيرة، منها: أن يكون أحد الحكمين منصوصاً. والآخر مستنبطاً، فعلة المنصوص تقدم على علة المستنبط، كما لو قال أحد المجتهدين الأرز يمنع فيه الربا قياساً على الذرة بجامع الاقتيات والادخار. فترجع العلة الأولى لأن أصلها وهو البر منصوص على تحريم الربا فيه، بخلاف الذرة التي هي الأصل في القياس في الآخر فتحريم الربا فيها مستنبط لا منصوص، ويمثل لهذا أيضاً بما إذا كان أحد الأصليين متفقاً على حكمه والآخر مختلفاً فيه فان تحريم الربا في البر مجمع عليه، وتحريمه في الذرة خالف فيه الظاهرية. ومنها أن يشهد لحكمها أصلان كما قدمنا في ضمان الغاصب والمستعير منه، بمطلق وضع اليد، مع قول القائل أنه لا بد من وضع اليد من قصد التملك، ومراده بمحتمل النسخ النص، وبما
(1/399)
لا يحتمله الإجماع لأنه لا ينسخ، وقدم قوم العلة التي مستند حكمها النص على النبي مستند حكمها الإجماع لأن الإجماع فرع النص لأنه مستنده. ... وقول المؤلف: أو يكون أحدهما أصلاً بنفسه والآخر أصلاً لآخر فيه تعقيد، والظاهر أن مراده المثال الذي ذكرناه في قياس الأرز على البر وقياسه على الذرة لأن البر أصل بنفسه والذرة ليست أصلاً مستقلاً. وإنما هي أصل بالنسبة إلى إلحاقها بالبر، فتكون فرعاً بالنسبة إلى البر، وأصلاً آخر بالنسبة إلى الأرز في المثال المذكور. وقد قدمنا أن مثل هذا لا يجوز عنده، وأن الصحيح جوازه، فلعله مشى أولاً على منعه، وثانياً على جوازه، كما صنع في العلة القاصرة، فإنه أولاً ذكر منع التعليل بها وأخيراً ذكر جوازه والله تعالى أعلم. ... وقول المؤلف: أو يكون أحدهما اتفق على تعليله، والآخر اختلف فيه، يمكن أن يمثل له بما لو قال أحدهما ينبغي إزالة النجاسة عن المكان قياساً على إزالتها عن بدن الإنسان، وقال الآخر: ينبغي إزالة النجاسة عن المكان قياساً على غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب، فإن إزالة ما أصابه من نجاسة لعاب الكلب، ومالك مثلا يقول لعاب الكلب طاهر وغسل الإناء من ولوغه تعبدي وليس معللا أصلاً، إذ لو كان معللاً لما احتاج إلى سبع كغسل سائر النجاسات، ولأن لعاب الكلب عنده طاهر بدليل قوله تعالى: " فكلوا مما أمسكن عليكم " ولم يرد أمر بغسل ما مسه لعاب الكلب، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ... وقول المؤلف: أو يكون أحدهما مفيداً للنفي الأصلي.. الخ.. تقدم إيضاحه.
(1/400)
.. وقوله: وترجح العلة المؤثرة على الملائمة، والملائمة على الغريبة، قد قدمنا إيضاح المؤثر والملائم والغريب عند المؤلف. أما عند غير المؤلف فالغريب لا يصح التعليل به أصلاً فلا مدخل له في الترجيح كما تقدم. ... وقوله: وترجح المناسبة على الشبهية لأنه أقوى في تغليب الظن، قد قدمنا إيضاح المناسب وأنواعه، والشبه وأنواعه فراجعه إن شئت والله أعلم. ... وهنا انتهى كتاب روضة المنظر. تنبيهات: - ... الأول: لم يتعرض المؤلف للترجيح بين الإجماعات والأقيسة والحدود، أعني التعاريف مع أن كل ذلك مذكور في كتب الأصول. ... الثاني: أعلم أنه قد يكون الترجيح بين المرجحات، وهو باب واسع لا تمكن الاحاطة به، ومن أمثلته: ترجيح حديث ميمونة في أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما حلال بأنها صاحبة القصة وحديث أبي رافع بأنه مباشر، على حديث ابن عباس بأنه تزوجها وهو محرم ن مع ترجيح حديث ابن عباس بأنه اتفق عليه الشيخان. وحديث ميمونة عند مسلم فقط، وحديث أبي رافع عند الترمذي فيلزم الترجيح بين هذين المرجحين مثلا. فنقول: سلمنا ترجيح الشيخين من جهة السند، فلنفرض بأنا جازمون بأن ابن عباس قال ذلك. وجزمنا بأنه قاله هو غاية الترجيح بكونه في الصحيحين. فيكون الطرف الآخر راجحاً بأن ميمونة وأبا رافع أعلم بنفس الواقعة من ابن عباس لأن لهما من الملابسة للواقعة ما ليس له لأنها صاحبتها وهو مباشرها مع أنهما بالغان وقت التحمل وهو ليس كذلك.
(1/401)
وقد خلت مرجحات فاعتبر ... وأعلم بأن كلها لا ينحصر قطب رحاها قوة المظنة ... فهي لدى تعارض مئنة ... وقال صاحب الضياء اللامع في المرجحات. ومن رام هذه الأجناس بضابط فقد رام شططاً لا تتسع له قوة البشر. ... الرابع: أعلم أنه جرت عادة الأصوليين بعقد باب يسمونه (كتاب الاستدلال) ومرادهم بالاستدلال هو ما لم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة، ولا إجماع ولا قياس ومسائل كتاب الاستدلال كثيرة، ذكر المؤلف منها مسائل متفرقة كالاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وقول الصحابي: وشرع من قبلنا، وترك منها أموراً كثيرة لم يذكرها. كاجماع أهل المدينة عند من يحتج به واجماع العشرة واجماع الخلفاء الأربعة عند من يحتج بذلك واجماع أهل الكوفة عند من يحتج به وكالقياس المنطقي بنوعيه أعني القياس الاقتراني والاستثنائي الذي هو الشرطي المتصل والمنفصل، والاستقراء وقياس العكس، وسد الذرائع إلى المحرمات، وفتحها إلى الواجبات، والعوائد، والأخذ بأخف الضررين، وفقد الشرط، ووجود المانع، ووجود المقتضي، وانتفاء مدرك الحكم أي دليله الذي يدرك به خلافاً للأكثر في الأخير. ونحو ذلك من مسائل الاستدلال وبعضها فيه الخلاف، والعلم عند الله وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. ... ... ... ... ... ... أملاه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ... ... ... ... ... مدرس المادة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(1/402)
ملحق لمبحث القياس ... كنت قد سجلته من دروس فضيلة الوالد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي حفظه الله في المسجد النبوي في رمضان عام 1389هـ في التفسير عند قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) ناقش فيه فضيلته إثبات القياس على منكريه، وأورد أقسام القياس وأمثلته العديدة مما لا يتسع له محله من الكتاب المقرر ولا يستغني عنه طالب لإيضاحه، وشموله. ... وقد نقل عن المسجل وصحح على فضيلته وعرض على سماحة رئيس الجامعة فارتأى حفظه الله طبعه مع هذه المذكرة تعميماً للفائدة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عطية
(1/403)
.. يقول الله جل وعلا: " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " تقدم الكلام فيما قبل على قوله تعالى: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ". ... وقوله جل وعلا حكاية عن إبليس: قال أنا خير منه. كان الله لما سأل إبليس وهو عالم لأنه جل وعلا أعلم بالموجب الذي بسببه امتنع إبليس من السجود قال له: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، وهو أعلم. فأجاب إبليس عليه لعائن الله بما كان يضمره من الكبر وكأنه اعترض على ربه وواجه ربه جل وعلا بأن تكليفه إياه أمر لا ينبغي ولا يصلح وخطأ ربه جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وجعل ذريعة له ومبرراً في زعمه الباطل لعد السجود قال: أنا خير منه كيف تأمرني أن أسجد لآدم وأنا أفضل من آدم والفاضل ليس من المعقول أن يؤمر بالسجود للمفضول فهذا التكليف ليس واقعاً موقعه. هذا قول اللعين لعنه الله أنا خير منه. خير تستعمل استعمالين: (أ) تستعمل اسماً للخير الذي هو ضد الشر وكثيراً ما تستعمل في المال كقوله: إن ترك خيراً أي مالاً. (ب) وتستعمل صيغة تفضيل وهو المراد هنا فقوله أنا خير منه أصله أنا أخير منه أي أكثر خيراً منه لفضل عنصري على عنصره ولفظه: خير وشر جعلتهما العرب صيغتي تفضيل وحذفت همزتها لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك في الكافية (وغالباً أغناهموا خير وشر، عن قولهم أخير منه واشر) .
(1/405)
.. قال إبليس اللعين أنا خير من آدم والذي هو فاضل والذي هو أكثر فضلاً وخيراً لا ينبغي أن يهضم ويؤمر بالسجود لمن هو دونه وهذا التكليف ليس واقعاً موقعه، ولذا لا أمتثله فتكبر وتجبر وجعل تكليف ربه له واقعاً غير موقعه فباء بالخيبة والخسران نعوذ بالله جل وعلا. قال إبليس أنا خير من آدم. ثم بين سبب الخيرية وقال: خلقتني من نار يعني أن عنصري اشرف من عنصره لأن النار في زعمه أشرف من الطين لأن النار مضيئة نيرة طبيعتها الارتفاع خفيفة غير كثيفة، وأن الطين منسفل كثيف مظلم ليس بمرتفع. هذا قوله في زعمه. وزعم أن الفرع تابع لعنصره في الفضل فقاس نفسه على عنصره الذي هو النار وقاس آدم على عنصره الذي هو الطين واستنتج من ذلك أنه خير من آدم لأن عنصره في زعمه خير من عنصره الذي هو السجود لآدم. ... وأول من قاس قياساً فاسداً ورد فيه نصوص الله وأوامره ونواهيه هو إبليس اللعين فكل من رد نصوص الشرع الواضحة الصريحة الواضحة بقياسات باطلة عنادا وتكبرا فإمه إبليس لأنه أول من رد النصوص الصريحة بالمقاييس الكاذبة وقياس إبليس هذا باطل من جهات عديدة: ... الأول: منها أنه مخالف لنص أمر رب العالمين لأن الله يقول: أسجدوا لآدم، وكل قياس خالف أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل. وقد تقرر في علم الأصول أن كل قياس خالف نصاً من كتاب أو سنة فهو باطل ويقدح فبه بالقادح المسمى فساد الاعتبار ومخالفة القياس للنص تسمى فساد الاعتبار وتدل على بطلان القياس فهذا وجه من أوجه بطلانه لأنه مخالف للنص الصريح ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة. ... الثاني: أن إبليس كاذب في أن النار خير من الطين بل الطين خير من
(1/406)
النار لأن طبيعة الطين الرزانة والتؤدة والاصلاح والجمع تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيكها نخلة وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ورايت ما فيها من أنواع الثمار الجنية والروائح والأزهار والثمار عرفت قيمة الطين. أما النار فطبيعتها الطيش والخفة يطير الشرر من هنا فيحرق ما هناك ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه والذي طبيعته الطيش والخفة والافساد والتفريق لا يكون خيراً من الذي طبيعته التؤدة والجمع والإصلاح تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيها نخلة. فالطين خير من النار بأضعاف وذلك غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة فطاش وتمرد على ربه وخسر الخسران الأبدي وغلب على آدم عنصره الطيني لما وقع في الزلة رجع إلى السكينة والتؤدة والتواضع والاستغفار لربه حتى غفر له. ... الثالث: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين فشرف الأصل لا يدل على شرف الفرع، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع وكم من أصل وضيع وفرعه رفيع. ... وأعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس ويذمون الرأي ويقولون إن من قاس فقد اتبع إبليس لأنه أول من رد النصوص بالقياس. وعن ابن سيرين رحمه الله: (ما عبدت الشمس غلا بالمقاييس) ويذكرون في كلام السلف ذم الرأي والقياس. ... ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس الظاهرية وبالأخص أبو محمد ابن حزم عفا الله عنا وعنه فإنه حمل على أئمة الهدى رحمهم الله
(1/407)
وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً وسخر بهم سخرية لا تليق به ولا بهم، وجزم بأن كل من اجتهد في شيء لم يكن منصوصاً عن الله أو سنة نبيه فإنه ضال وأنه مشرع وحمل على الأئمة وسخر من قياساتهم وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسفهها وسخر من أهلها فتارة يسخر من أبي حنيفة رحمه الله وتارة من مالك وتارة من أحمد وتارة من الشافعي لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم. ومن عرف الحق عرف أن الأئمة رحمهم الله أنهم أولى بالصواب من ابن حزم وأن ما شنع عليهم هم أولى بالصواب منه فيه وأنه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه وأعلم بالدين منه وأعمق فهماً لنصوص الكتاب والسنة منه وهذا باب كثير. فابن حزم يقول لا يجوز اجتهاد كائناً ما كان ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا بنص من كتاب أو سنة أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال، ويزعم أم ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال ويستدل بعشرات الآيات إن لم تكن مئات الآيات فلا تقل عن عشرات الآيات يقول "الله قال اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا، ويقول " قل ان ضللت فانما أضل على نفسي وان اهتديت فيما يوحى إلى ربي فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس. ويقول "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " والمقاييس لم تكن مما أنزل الله ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون" والقياس لم يكن مما أنزل الله ويأتي بنحو هذا من الآيات في شيء كثير جداً. ويقول ان القياس لا يفيد الا الظن والله يقول "ان الظن لا يغني من الحق شيئاً " وفي الحديث:
(1/408)
اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث. ويقول: ان كل مالم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه. ويقول ان الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها، وبحديث ما سكت الله عنه فهو عفو. ويقول ان مالم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام وهو معفوا لا مؤاخذة فيه، وهو باطل من جهات كثيرة، منها أن ما يسكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال فنحن مثلاً وجب علينا صوم شهر واحد وهو رمضان وسكت الوحي عن وجوب شهر آخر فلم يجب علينا الا هذا، وأن ما سكت عنه فهو عفو ووجبت علينا الصلوات وغيرها لم يجب علينا وان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ضمام بن ثعلبة قال: لا لما قال له الأعرابي ضمام هل على غيرها، قال لا الا ان تطوع أما أنه توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد ومن نظر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى وان الهدى مع الأئمة رحمهم الله، والذي يجب اعتقاده في الأئمة رحمهم الله كالامام مالك وأبي حنيفة رحمهم الله والامام أحمد والشافعي رحمة الله على الجميع أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه فلهم أجر اجتهادهم وأجر اصابتهم وأنه لا يخلو أحد من خطأ فلابد أن يكون بعضهم أخطأ في بعض ما اجتهد فيه فما أخطأوا فيه فهم مأجورون باجتهادهم معذورون في خطأهم رحمهم الله والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة رحمهم الله وسنلم بأطراف من هذا لأن هذا باب واسع لو تتبعناه لمكثنا فيه زمناً طويلاً ولكن نلم بالمامات بقدر الكفاية. أولاً: ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً بل الوحي يسكت عن أشياء ولابد البتة من حلها ومن أمثلة ذلك مسألة العول.
(1/409)
فكما قال الفرضيون ان أول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين هذه تركة زوجتي ولم تترك ولداً والله يقول في محكم كتابه: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد " فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق، فقالت الأختان: ياأمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان والله يقول: " فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق، فقال عمر رضي الله عنه: ويلك يا عمر والله ان أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وان أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف ونقول يا ابن حزم كيف تسكت عن هذا ويكون هذا عفواً والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما فهذا لا يمكن أن يكون عفواً ولابد من حل فلا نقول لهم تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر فلابد من الحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وحل مقعول بالاجتهاد فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العول لمثل هذا، فقال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: ياأمير المؤمنين أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير ديناً وتركت ستة دنانير فقط ماذا كنت فاعلاً؟ قال: اجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من السبعة قال كذلك فافعل، أصل فريضتها من ستة لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة مخرج النصف ومخرج الثلث متبايناً فنضرب إثنين في ثلاثة بستة ثم نجعل نقطة زائدة وهي المسمى بالعول فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء، وقال
(1/410)
للزوج حفك نصف الستة وهي الثلاثة فخذ الثلاثة من سبعة، وبقي من السبعة أربعة فقال للأختين لكما الثلثان من الستة وهما أربعة فخذاها من سبعة، فصار النقص على كل واحد من الوارثين ولم يضيع نصاً من نصوص القرآن الكريم. وكان ابن حزم في هذه المسألة يخطئ جميع الصحابة. ويقول ابن العباس وعامة الصحابة على غلط وان هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز وأن الحق مع ابن عباس وحده الذي خالف عامة الصحابة في العول. وقال الذي نعلم ان الله لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين، فرأي ابن عباس أن ننظر في الورثة اذا كان أحدهما أقوى سبباً نقدمه ونكمل له نصيبه ونجعل النقص على الأضعف، فابن عباس في مثل هذا يقول ابن الزوج يعطى نصفاً كاملاً لأن الزوج لا يحجبه الأبوان ولا يحجبه الأولاد بخلاف الأختين لأنهما أضعف سبباً منه لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب ونعطي للأختين نصفاً وهذا تلاعب بكتاب الله، الله يقول:" فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان " وهو يقول فلهما النصف فهذا عمل بما يناقض القرآن مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس يقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية وانما سميت المنبرية لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفتى فيها وهو على المنبر أثناء خطبته لأنه افتتح خطبته على المنبر وقال: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى واليه المآب والرجعي، فسمع قائلاً يقول: ما تقولون فيمن هلك عن زوجة وأبوين وابنتين؟ فقال علي رضي الله عنه: صار ثمنها تسعاً، ومضى في خطبته. وقوله: صار ثمنها تسعاً لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة، الابنتان لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لأن السدسين بثلث وتبقى الزوجة تعول لها بالثمن والفريضة من أربعة وعشرين وثمنها ثلاثة يعال فيها بثمن الزوجة وثمن الأربعة والعشرين ثلاثة واذا ضم الثمن الذي عالت به الفريضة
(1/411)
إلى اصل الفريضة أي اذا ضم الثمن الذي هو ثلاثة فريضة الزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة صارت سبعة وعشرين. والثلاثة من السبعة والعشرين تسعها ومن الأربعة والعشرين ثمنها، فهذه لو قلنا لابن حزم أيهما يحجب هل الابنتان يحجبان لا والله، هل الأبوان يحجبان لا والله هل الزوجة تحجب لا والله ليس فيهم من يحجبه أحد وكلهم أهل فروض منصوصة في كتاب الله ولا يحجب أحد منهم أبداً فبهذا يبطل قوله ان من هو أضعف سبباً فانه يحجب ويقدم عليه غيره. ثم لتعلموا أن الحقيقة الفاصلة في هذا أنه ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم كثير من الآثار المستفيضة في ذم الرأي والقياس. وأجمع الصحابة والتابعون على العمل بالقياس واستنباطه ما سكت عنه مما نطق به الوحي، هذا أمر لا نزاع فيه. فمن جمد على النصوص ولم يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به فقد ضل وأضل. ومن هذا النوع ما أجمع عليه جميع المسلمين حتى سلف ابن حزم وهو داوود بن علي الظاهري كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ويقول له القياس الجلي وهو المعروف عند الفقهاء بالقياس الجلي والغاء الفارق ويسمى نفي الفارق وهو نوع من تنفيح المناط، فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنطوق وان قول ابن حزم: انه مسكوت عنه لم يتعرض له أنه كذب محض وافتراء على الشرع وأن الشرع لم يسكت عنه، وقوله تعالى:" فلا تقل لهما أف " يقول ابن حزم ان هذه الآية، ناطقة بالنهي عن التأفيف ولكنها ساكتة عن حكم الضرب،ونحن نقول: لا والله لما نهى عن التأفيف وهو أخف الأذى فقد دلت هذه الآية من باب أولى على أن ضرب الوالدين أشد حرمة وان الآية غير ساكتة عنها بل نبهت على الأكبر بما هو أصغر منه فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذية من الضرب لم تسكت عن الضرب وتقول: ان قوله تعالى:
(1/412)
" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ان هذه الآية ليست ساكتة عن عمل مثقال جيل أحد فلا نقول نصت على الذرة وما فوق الذرة فهو مسكوت عنه فلا يؤخذ من الآية فهي ساكتة عنه بل نقول ان الآية غير ساكتة عنه وان ذلك المسكوت (عنه) يلحق بذلك المنطوق. وكذلك قوله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم" من جاء بأربعة عدول لا نقول أربعة عدول مسكوت عنها بل نقول ان الآية التي نصت على قبول شهادة العدلين دالة على قبول شهادة أربعة عدول ونقول: ان قوله تعالى:"ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " لا نقول كما يقول ابن حزم ساكنة عن احراق مال اليتيم واغراقه لأنها نصت على حرمة أكله فقط، بل نقول: ان الآية التي نهت عن أكله دلت على حرمة اغراقه واحراقه بالنار لأن الجميع اتلاف. ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل ان ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن البول في الماء الراكد يقول ابن حزم: لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه لأن النبي لم ينه عن هذا وانما قال: لا يبولن أحدكم في الماء الراكد في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ولم يقل لا يبولن أحدكم في اناء ثم يصبه فيه فهذا لا يعقل أيعقل أحد أن الشرع الكريم يمنع من أن يبول انسان بقطرات قليلة أقل من وزن ربع كيل ثم انه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات بولاً يعد بمئات الكيلوات ثم يصبها في الماء وان هذا جائز. وأيضاً في الحديث: لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان فألحق به الفقهاء اذ كان في حزن شديد مفرط يذهل عقله، أو فرح شديد مفرط يدهش عقله أو في عطش شديد مفرط يدهش عقله أو في جوع شديد
(1/413)
يدهش عقله، ونحو ذلك من مشوشات الفكر التي هي أعظم من الغضب فليس في المسلمين من يعقل أن يقال للقاضي أحكم بين الناس وأنت في غاية تشويش الفكر بالجوع والعطش المفرطين أو الحزن والسرور المفرطين، او الحقن والحقب المفرطين والحقن مدافعة البول والحقب مدافعة الغائط، والانسان اذا كان يدافع البول أو الغائط مدافعة شديدة كان مشوش الفكر مشغول الخاطر لا يمكن أن يتعقل حجج الخصوم، ومثل هذا، لذا قال العلماء لا يجوز للقاضي أن يحكم وهو مشوش الفكر. فنعلم أن قول ابن حزم: انهم جاؤوا بتشريع جديد أنه كذب وان حديث: لا يقضين حكم بين اثنين وهو عصيان يدل على أن من كان فكره مشوشاً تشويشاً أشد من الغضب أولى بالمنع من هذا الحكم، وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالشاة العوراء، لا نقول: ان العلماء لما نهوا عن التضحية بالشاة العمياء. هذا مما لا يقوله عاقل وكذلك قال الله:" والذين يرمون المحصنات " ولم يصرح في الآية الا أن يكون القاذف ذكر والمقذوفة أنثى فلو قذفت أنثى ذكراً أو قذف لا مؤاخذة فيه لأن الله انما نص على قذف الذكور بالأناث لأنه قال:" والذين يرمون المحصنات " وما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال: المحصنات نعت للفروج،والذين يرمون الفروج المحصنات فيشمل الذكور والأناث يرد عليه أن المحصنات في القرآن لم تأت قط للفروج وانما جاءت للنساء وكيف يأتي ذلك في قوله: ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات. هذا مما لا يعقل.
(1/414)
وكذلك نص الله جل وعلا على أن المبتوتة اذا نكحت زوجاً غير زوجها الأول نص على أنها ان طلقها الزوج الأخير طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه الا بعد زوج ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فانه يجوز للأول أن ينكحها لأنها حلت بنكاح الثاني، والله انما صرح في هذه السورة بنص واحد وهو أن يكون الزوج الذي حللها انما طلقها لأنه قال في تطليق الأول، فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره. ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها، فان طلقها فلا جناح عليهما أي على الزوجة التي كانت حراماً والزوج الذي كانت حراماً عليه أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود الله، فنص على طلاق المحلل خاصة فان طلقها أرأيتم لو حللها وجامعها مائة مرة حتى حلت وكانت كماء المزن ثم مات قبل أن يطلقها أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر كالاعسار بنفقة أو غير ذلك من أسباب الفسخ أيقول مسلم هذه لا تحل للأول لأن الله ما نص الا على قوله فان طلقها فان مات لم تحل لأن الموت ليس بطلاق، هذا مما لا يقوله عاقل. وأمثال ذلك كثيرة جداً. فنحن نقول ان هذا الذي يقول ابن حزم ان الوحي سكت عنه، ان الوحي لم يسكت عنه وانما أشار إليه لتنبيهه ببعضه على بعضه فالغضب يدل على تشويش الفكر والمحصنات لا فرق بين المحصنات والمحصنين، وقوله فان طلقها لا فرق بين مالو طلقها أو مات عنها فبعد أن جامعها وفارقها تحل للأول سواء كان الفراق بالطلاق المنصوص في القرآن أو بسبب آخر كالموت والفسخ وهذا مما لا ينازع فيه عاقل وان نازع فيه ابن حزم ثم ان ابن حزم يسخر من الامام أبي الحنيفه رحمه الله لأن الامام أبا حنيفة رحمه الله يقول: ان التشهد الأخير يخرج الانسان به من الصلاة بكل مناف للصلاة. وروي عنه: حتى أنه لو انتقض وضوءه فضرط انه خرج من الصلاة لأن الضراط مناف لها فجعل ابن حزم يسخر منه فيقول: ألا ترون قياس الضراط على السلام عليكم
(1/415)
قياساً فاسداً فليس في الدنيا قياس فاسد ويسخر من الامام مالك في مسائل كثيرة ويقول انه يقيس قياسات الألغاز لأن مالكاً رحمه الله جعل أقل الصداق ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة قياساً على السرقة بجامع أن في كل واحد منهما استباحة عضو في الجملة لأن النكاح فيه استباحة الفرج بالوطئ والقطع فيه استباحة اليد بالقطع فابن حزم يسخر من مالك ويقول هذه ألغاز ومحاجاة بعيدة من الشرع وتشريعات باطلة، وأمثال هذا منه كثيرة ونحن نضرب مثلاً فانه من أشد ما حمل به الأئمة رحمهم الله مسألة حديث تحريم ربا الفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى. فابن حزم يقول: ليس في الدنيا يحرم فيه ربا الفضل الا هذا ويقول الدليل على أنهم مشرعون وان أقوالهم كلها كاذبة ان بعضهم كالشافعي يقول علة الربا في البر الطعم ويقيس كل مطعوم على البر فيقول كل المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم وأبو حنيفة وأحمد يقولان علة الربا الكيل ويقولان كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر فيحرمان الربا في النورة والاشنان وكل مكيل فيقول فيه ابن حزم هذا يقول العلة الطعم ويلحق أشياء وهذا يقول العلة الكيل ويلحق أشياء أخرى. وكل منهم يكذب الآخر فهذه كلها قياسات متناقضة والأقوال المتكاذبة والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من عند الله وأمثال هذا كثيرة ونحن نضرب مثلاً لهذه المسألة ونقول ان الأئمة رضي الله عنهم أبا حنيفة وأحمد والشافعي رحمهم الله الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من ابن حزم،ونقول لابن حزم مثلاً: أنت قلت انك مع النصوص في الظاهر وقلت:
(1/416)
.. ألم تعلموا أني ظاهري واني ... ... على ما بدا حتى يقوم دليل فهذا الامام الشافعي الذي قال ان علة الربا في البر الطعم استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم وهو حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم قال: كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل. الحديث. فالامام الشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم وكذلك الامام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى اللذان قالا ان علة الربا في البر الكيل استدلا كذلك بالحديث الصحيح، وكذلك الميزان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بين المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال: وكذلك الميزان. والتحقيق أن وكذلك الموزونات مثل المكيلات، فجعل معرفة القدر علة للربا وقوله: وكذلك الميزان ثابت في الصحيحين. وفي حديث حيان بن عبيد الله الذي أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال انه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن أبي سعيد الخدري لما ذكر الستة التي يحرم فيها الربا قال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كل ما يكال ويوزن.
(1/417)
وهذا الحديث حاول ابن حزم تضعيفه من ثلاث جهات وهذا الحديث ناقشناه في الكتاب الذي كتبنا على القرآن مناقشة وافية، والتحقيق أن حيان بن عبيد الله ليس بمجروح وان زعم هو أن أبامجلز الذي روى عنه الحديث لم يلق ابن عباس أنه كذب وأنه أدرك ابن عباس وأبا سعيد الخدري رحمهما الله. وان الحديث لا يقل عن درجة القبول بوجه من الوجوه عند المناقشة الصحيحة كما بيناه في الكتاب الذي كتبناه في القرآن وهذا الحديث قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كل ما يكال أو يوزن وهذا أقرب لظاهر نص النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن حزم الذي يسخر من الامام أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله، وليس قصدنا في هذا الكلام أن نتكلم عن ابن حزم لأنه رجل من علماء المسلمين وفحل من فحول العلماء الا أن له زلات ولا يخلو أحد من خطأ ومقصودنا أن نبين لمن نظر في كتب ابن حزم فقط أن حملاته على الأئمة أن الغلط معه فيها لا معهم وأنهم أولى بالصواب مته وأعلم منه وأكثر علماً وورعاً منه فهم لا يحملون على أحد ولا يعيبون أحداً. والحاصل أن الحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه وأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل. والله جل وعلا قد بين نظائر في القرآن يعلم بها الحاق النظير والنبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة. فمن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم فقال له: أرأيت لو تمضمضت فهذا اشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قياس (القبلة على المضمضة) بجامع أن القبلة مقدمة الجماع والمضمضة مقدمة للشرب فكل منهما مقدمة الافطار وليس بافطار ومحل كون القبلة كالمضمضة اذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء أما اذا كانت القبلة تخرج منه شيئاً فهو كالذي اذا تمضمض ابتلغ شيئاً من الماء فحكمه حكمه. وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ثابتة متعددة في الصحيحين أنه سأله رجل مرة وامرأة مرة أنهما سألاه عن دين يقضيانه عن ميت لهما، مرة تقول مات أبي ومرة تقول أمي وكذلك الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى
(1/418)
فهو تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على قياس دين الله على دين الآدمي بجامع أن الكل حق مطالب به الانسان وأنه يقضي عنه بدفعه لمستحقه. وأمثال ذلك كثيرة. ومن أصرحها ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل، كان الرجل أبيض وامرأة بيضاء فولدت له غلاماً أسود فأصاب الرجل فزعاً من سواد الغلام وظن أنها زنت برجل أسود وجاءت بهذا الغلام فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزعجاً وأخبره بأنها جاءت بولد أسود وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللعان زعماً أن هذا الولد من زان أسود وأنه ليس ولده لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل لك من ابل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال حمر. قال هل فيها من أورق والأورق المتصف بلون الورقة والورقة يكون لوناً كحمام الحرم يعني سواد مع بياض يكون في الابل. قال الرجل ان فيها لورق. قال ومن أين جاءتها تلك الورقة؟ آباؤها حمر وأمهاتها حمر فمن أين جاءتها تلك الورقة؟ قال: لعل عرقاً نزعها. قال له وهذا الولد لعل عرقاً نزعه. فاقتنع الأعرابي وهذا الحاق نظير بنظير. وفي الجملة فنظير الحق حق ونظير الباطل باطل، وهذا مما لا شك فيه، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأقيسة التي ذكرنا ومنه قياس فاسد، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة وبعض الأقيسة الصحيحة. ومن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقال له: كن فيكون. لما قال اليهود ان عيسى لا يمكن أن تلده مريم الا من رجل زنا بها فقالوا لها يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً
(1/419)
وهذا الولد لابد أن يكون له والد وهذا الوالد رجل فجرتي معه وزنيت به " الله جل وعلا قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وجد ولم يكن له أم ولا أب خلق ولم يكن له أم ولا أب، فالذي خلق آدم ولم يكن أب ولا أم فهو قادر على أن يخلق عيسى من أم ولم يكن له أب، كما خلق حواء من ضلع رجل، فالله جل وعلا جعل خلق الانسان قسمة رباعية. بعض خلقه لا من ذكر ولا أنثى وهو آدم، وبعض خلقه من أنثى دون ذكر وهو عيسى بن مريم وبعض خلقه من ذكر دون أنثى وهي حواء لأن الله يقول: " خلقكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها ". والقسم الرابع خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى بآدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته. وأمثال هذا كثيرة. وكذلك قاس الموجودين زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمم الماضية وقال لهم " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم " ثم بين الحاق النظير بالنظير فقال: وللكافرين أمثالها، كأن الموجودين زمن النبي فرع والكفار المتقدمون أصل، والحكم الذي يهددون به العذاب والهلاك والعلة الجامعة تكذيب الرسل والتمرد على رب العالمين. وأمثال ذلك في القرآن كثير. وكذلك ما يسمونه قياس الدالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة يكثر في القرآن جداً كما في قوله جل وعلا: " ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها
(1/420)
لمحيي الموتى " فقاس احياء الموتى الذي ينكره منكروا البعث على أحياء الأرض المشاهد لأن كلا منهما احياء، وهذا الاحياء للموجود يدل على قدرة باهرة يقدر بها من اتصف بها على احياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها، وكما استدل جل وعلا بقياس الأولى على الأدنى واستدل بأن من خلق السموات والأرض لا يعجز عن خلق الانسان الصغير الحقير بعد الموت كما قال:" أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " الآية. وقال: " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر ". وقال جل وعلا: " أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى " وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال:" ولقد علمتم النشأة الأولى" والايجاد الأول فهلا قستم عليه النشأة الأخرى والايجاد الأخير وعلمتم أن القادر على الايجاد الأول قادر على الايجاد الثاني، كما قال:" قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وأمثال هذا كثيرة جداً. أما القياس الفاسد الذي يكون مخالفاً للنصوص كقياس ابليس لعنه الله وكالأقيسة المخالفة للنصوص وكأقيسة الشبه المبنية على الفساد فان الكفار جاؤوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً ومثله باطل كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأثبتوا السرقة على أخ يوسف لأن يوسف قد سرق
(1/421)
قبله والأخ شبيه بالأخ فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال وأن هذا سرق كما سرق ذلك. وهذا قياس شبه باطل، وهذا النوع من القياس كقياسات ابليس الباطلة والكفار لعنهم الله كذبوا جميع الرسل بقياسات شبه باطلة لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له أنت بشر وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر ولا نقبل أن تكون رسولاً لرب العالمين وأنت تأكل كما نأكل وتشرب مما نشرب وتمشي في الأسواق التي نمشي فيها ونص الله بأن هذا منع كل أمة في قوله:" وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر. والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ردوا عليهم هذا القياس ورده عليهم في آيات لما قالوا للرسل: ان أنتم إلا بشر مثلنا، فأجابهم الرسل قالوا: ما نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم عدم تفاوتنا في فضل الله كما قال جل وعلا: " قالوا أبشر يهدوننا، لئن أطعتم بشراً مثلكم انكم اذاً لخاسرون. وقالوا فيه يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون. وقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه انا اذاً لفي ضلال وسعر " وهذا كثير في القرأن وهذه الأقيسة فاسدة. والحاصل أن القياس منه صحيح، ومنه فاسد. والصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون وعامة المسلمين،وأحكام الصحابة بالقياس
(1/422)
لا يكاد أحد يحصيها. فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن المجتهدين يختلفون في اجتهادهم وكلهم لا اثم عليه ولا حرج عليه لأنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. هذا نص صحيح صريح سمعه الصحابة بآذانهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم راحوا من المدينة إلى ديار بني قريظة وأدركتهم صلاة العصر في الطريق فاختلفوا في فنهم هذا الحديث وكل اجتهد بحسب ما أدى إليه فهمه فجماعة قالوا ليس مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا: الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا: الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو قال لنا أتركوها إلى يوم القيامة تركناها إلى بني قريظة. وجاء النبي ولم يصلوا واجتمعوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم في خلاف بين مشرق ومغرب لأن من صلى ومن لم يصلي مختلفاً، وهو - صلى الله عليه وسلم - فررهم جميعاً ولم يخطئ أحداً منهم ولو ك ان واحد منهم فعل غير صواب أو حراماً لما أقره الرسول عليه لأنه لا يقر على باطل ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وثبت في صحيح البخاري عن الحسن البصري مضمونه ومعناه أنه كان يقول: لولا أنه من كتاب الله أشققت على المجتهدين، وهي قوله تعالى:" وداوود وسليمان اذ يحكمان في الحرث لأن الله جل وعلا صرح في الآية بأنهما حكما حيث قال انه يحكمان بألف الأثنين الواقعة على داوود وسليمان، ثم قال ففهمناها سليمان ولم يذكر شيئاً عن داوود فعلمنا أن داوود لم يفهمها لأنه لو فهمها لما اقتصر على ذكره ولم يكن للاقتصار على ذكر سليمان فائدة
(1/423)
مع أنهما فهماها ولو كان هذا وحياً من الله لما فهمها أحدهما دون الآخر لأن الوحي أمر لازم للجميع ودل على أنهما اجتهدوا وأن داوود لم يصب في اجتهاده وأن سليمان أصاب في اجتهاده والله أثنى على كل منهما ولم يؤنب داوود بل قال بعده: وكلا آتينا حكماً وعلماً. وقد ثبت في الصحيحين ما يستأنس به لأنه ثبت في الصحيحين أن داوود عليه السلام في زمانه جاءته امرأتان نفستا وجاء الذئب واختطف ولد واحدة منهن وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى هذا ولدي واختصمتا وتحاكمتا إلى داوود فقضى به للكبرى اجتهاداً منه لأمارات ظهرت له أو لشيء في شرعه يقتضي ظاهره ذلك الاجتهاد. فرجعتا إلى سليمان، فلما رجعتا إلى سليمان قال: كل واحدة منكما تدعيه هاتوا بالسكين أشقه بينهن نصفين فأعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه. وكان أبو هريرة يقةل: ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم ما كنا نقول لها الا المدية، فلما قال انه يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى وأدركتها رأفتها للولد فقالت له لا. يرحمك الله هو ابنها وأنا لاحق لي فيه. وكانت الكبرى راضية بأن يشق لتساويها أختها في المصيبة فعلم سليمان أن الولد للصغرى وحكم به للصغرى. وذلك ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هذه القصة عن داوود وسليمان إلا أنه في تاريخ ابن عساكر والله أعلم بصحتها وبعدم صحتها الا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة. والقصة التي ذكرها ابن عساكر في تاريخه أنه كان أربعة من أشراف بني اسرائيل راودا امرأة جميلة من بني اسرائيل عن نفسها وكانت بارعة الجمال فمنعتهم وحاولوا أن يصلوا إليها فامتنعت فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها، فجاءوا وشهدوا عند داوود أن عندها كلباً علمته الزنا وأنها تزني مع كلبها وكان مثل هذا عند داوود يقتضي حكم الرجم فدعا داوود
(1/424)
بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بالكلب فرجمها داوود، قالوا وكان سليمان اذا ذاك صغيراً فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شرطاً قال فلان وفلان جعلهم كالشرطين وأخذ قوماً وجعلهم شهوداً وجاءوا يشهدون فقام وجعل رجلاً كأنه امرأة وقالوا نشهد أن هذا زنت مع كلبها ثم قال سليمان للسياف والذين جعلهم كالشرط خذوا كل واحد منهم وفرقوهم وائتوني بهم واحداً واحداً، فجاءوه بالأول وقال له: ما تقول في شهادتك؟ قال: أقول انها زنت بكلبها. قال له: وما لون الكلب؟ قال: كان لون الكلب أحمر. ثم دعا بالثاني وقال: ما لون الكلب؟ قال: كان لون الكلب أسود، ثم دعا بالآخر فقال: أغبر، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب فعلم أنهم كذبة فقال: اقتلوهم لأنهم قتلوها وسمع داوود الخبر فأرسل للشهود حالاً وفرقهم وجاؤه واحداً واحداً فسألهم واختلفوا في لون الكلب فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة فقتلهم قصاصاً. هكذا قال والله أعلم. وعلى كل حال فالقياس هو قسمان صحيح وقياس فاسد فما جاء به الظاهرية من ذم القياس والسلف فهو ينطبق على القياس الفاسد، والصحابة كانوا باجماع على القياس الصحيح. وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاث نفر يختصمون في غلام كل يقول هو ابني فقال: اقترعوا على الغلام فوقعت القرعة على واحد منهما فقال للذي جاء الغلام في نصيبه قال له: خذ الغلام الغلام وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية ثلث دية الغلام. قالوا: فلما بلغ قضاؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحك من قضاء علي رضي الله عنه حتى بدت نواجذه. ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له: بم تقضي قال بكتاب الله قال وان لم تجد قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه
(1/425)
وسلم - قال: فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، قال الحمد لله الذي وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث يقول ابن حزم أنه باطل لا أصل له لأنه رواه الحارث بن عمر وابن أخ المغيرة عن ناس من حمص مجهولين، فهي رواية مجهول عن مجاهيل والاستدلال به ضلال. وقال ابن كثير في مقدمة كتاب تفسيره أنه رواه أصحاب السنن باسناد جيد وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن أسيد عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل والاسناد إلى هنا صحيح لا شك في صحته لأن رجاله معروفون، الا أن البلية من قبل عبادة بن أسيد والظاهر أن الذي رواه عن عبادة بن أسيد هو محمد بن حسان المصلوب والذي صلبه أبو جعفر المنصور في الزندقة وهو كذاب لا يحتج به فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له الا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو وعن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص. والذين قالوا ان الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين: أحدهما: أن الحارث بن عمر وثقه ابن حبان وان كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها كحديث مقبول. وكذلك قالوا: ان علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث خلفاً عن سلف وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الاسناد وكم من حديث يكتفي بصحته عن الاسناد يكتفي بعمل العلماء به في أقطار الدنيا لأن هذه الأمة اذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلاً واكتفى بذلك عن الاسناد.
(1/426)
وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المزموم والقياس الصحيح هو الحاق النظير بالنظير على وجه صحيح لا شك في صحته. والصحابة كذلك يلحقون المسكوت بالمنطوق به وهذا كثير وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة ونرجوا الله جل وعلا أن يوفقنا لما يرضيه وأن يختم لنا بالسعادة. اللهم أختم بالسعادة آجالنا وأختم بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا. اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما عطيت وقنا شر ما قضيت فانك تقضي ولا يقضى عليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا. وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي اليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم فالق الاصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً، أقض عنا الدين واغننا من الفقر وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا في سبيلك ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وأن نعمل صالحاً ترضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/427)