×
الطبعة الأخيرة من كتاب آداب البحث والمناظرة؛ للعلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وقد اشتمل على بيان بعض آداب البحث والمناظرة بأسلوب سهل، جمع بين الوجازة ووضوح العبارة ودقتها، مع متانة المادة العلمية، والاعتناء بالأمثلة الواقعية، والنماذج التطبيقية.

 آداب البحث والمناظرة

الكتاب: آداب البحث والمناظرة

[آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (7)]

المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 - 1393 هـ)

المحقق: سعود بن عبد العزيز العريفي

الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)

الطبعة: الخامسة، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)

عدد الصفحات: 379

قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (7)

آداب البحث والمناظرة

تأليف

الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 هـ - 1393 هـ)

تحقيق

سعود بن عبد العزيز العريفي

إشراف

بكر بن عبد الله أبو زيد

دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)

________________________________________

 تقديم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد؛ فيسرني أن أقدم للقارئ الكريم كتاب "آداب البحث والمناظرة" للعلامة المفسر الفقيه الأصولي الشيخ محمد الأمين الجكَني الشنقيطي -رحمه الله-، في حلته الجديدة -ضمن مشروع آثار العلامة الشنقيطي- بعد مراجعته وتصحيحه والتعليق عليه بقدر ما تدعو إليه الحاجة، وكان الكتاب قد طبع عام 1388 بالمدينة النبوية، وأشرف على طبعه ووضَع عناوينَه -كما جاء في آخر تلك الطبعة- المشرفُ على مطبوعات الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عطية محمد سالم -رحمه الله-، وهو من أخص تلاميذ المؤلف، إلا أن تلك الطبعة جاءت كثيرة الأخطاء، غير منسقة الفقرات، وذلك ما حال بين القارئ والانتفاع بالكتاب على الوجه المطلوب.

ومعلوم أن موضوع الكتاب من الموضوعات الدقيقة، التي قد تتأثر بأدنى خطأ طباعي، أو دمج بين المسائل والأمثلة في فقرة واحدة دون تفصيلها وتمييزها، وقد جربت ذلك في هذا الكتاب دراسة وتدريسًا فوجدت له أبلغ الأثر، فكم سهّل حسنُ ترتيب فقرات الكتاب على القارئ فهم المسائل، وذلك ما افتقرت إليه طبعة الكتاب السابقة، فلا عجب أن انصَرَفَ عنه إلى غيره كثيرٌ من المشتغلين بفني المنطق والجدل، مع تميزه على غيره من كتب هذين الفنين من عدة وجوه:

منها: أنه جمع بين الوجازة ووضوح العبارة ودقتها، وسهولة

(المقدمة/5)

________________________________________

الأسلوب مع متانة المادة العلمية، وذلك ما يندر بالنسبة إلى طبيعة موضوع الكتاب.

ومنها: أن المؤلف اعتنى بالأمثلة الواقعية، والنماذج التطبيقية، وأورد الكثير منها، فطبق القياس المنطقي بأشكاله على المناظرة في بعض مسائل الاعتقاد كالاستواء والرؤية، وطبق طرق الجدل والمناظرة على قوادح العلة في علم الأصول، ولا شك أن كثرة الأمثلة الواقعية مما يعين طالب العلم على فهم الأصول والمسائل ذات الدقة والصعوبة، كما أنها تقرب من الثمرة المرجوّة من هذا النوع من العلوم.

ومنها: أن مؤلفه إمام محقق فقيه مفسر أصولي موسوعي، وقد اجتمعت له آلة الاجتهاد على وجه لم يُعرف عن غيره من معاصريه، وهو لم يُخْلِ كتابه هذا من بعض الترجيحات والتعقبات والنقودِ وإن لم يلتزم بذلك تجنبًا للإطالة، ولا شك أن عالمًا في مرتبته تجدر العناية بآرائه وترجيحاته.

وأخرى حسنة جميلة: وهي أن المؤلف سلفي المعتقد، أثري المنهج، زيَّن كتابه بخاتمة نفيسة في الحض على التمسك بالسنة، واتباع منهج السلف الصالح في الاعتقاد، والإعراض عن طريقة الخلف، خصوصًا في الصفات الإلهية، التي كثر الخوض فيها بالباطل من بعض طوائف الأمة. وكان لفني المنطق والجدل دورهما البارز في ذلك؛ فكم من مبتدع مخالف لصريح الكتاب والسنة روّج لمقالته البدعية بزعم أنها من القواطع العقلية، والنتائج المنطقية، وكم من

(المقدمة/6)

________________________________________

مشتغل بالعلم سلّم لأهل البدع أو تهيب مخالفتهم والرد عليهم لتوهمه صحة ما ادعوه من اليقينيات المنطقية.

وميزات الكتاب غير هذه كثيرة، ستظهر للقارئ إن شاء الله واضحة في هذه الطبعة، التي كان جل عملنا فيها منصبًّا على ضبط النص، وتنقيته من الأخطاء والأوهام، ثم تفصيله في فقرات تراعي المادة العلمية وطبيعة الموضوع، بحث يناسب طالب العلم المبتدئ، وخصوصًا دارسي الأصلين: أصول الدين، وأصول الفقه؛ فهو من خير المقدمات للمتخصصين في العقيدة عند نقدهم للمنطق اليوناني، (وهي مادة معتمدة في أقسام العقيدة بالجامعات الإسلامية).

وقد جرت العادة بدراسة كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "نصيحة أهل الإيمان بالرد على منطق اليونان" المشهور بالرد على المنطقيين، مع التقديم له بدراسة مختصرٍ في المنطق؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهذا الكتاب فيما رأينا من واقع التجربة، وفي ضوء الميزات السابقة، من خير ما يؤدي هذا الغرض.

أما دارسو أصول الفقه فأولى؛ فأكثر القسم الثاني من الكتاب (البحث والمناظرة) - وهو أكبر قسميه- في ذكر قوادح العلة وتطبيق طرق المناظرة عليها، وهي أدق وأهم مباحث القياس (أهم أبواب أصول الفقه) كما هو معلوم.

وقد حرصت على أن تكون هذه الطبعة مقابَلة على أصل الكتاب بخط مؤلفه؛ لكثرة ما رأيته من الأخطاء في الطبعة، وقد تطلّبتُ هذا الأصل، لكن لم أحصل على شيءٍ، فلعله لم يحفظ بعد طبع الكتاب،

(المقدمة/7)

________________________________________

فاستعنتُ الله على إخراجه على الصورة التي يراها القارئ الكريم بين يديه، معتمدًا على طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة، راجيًا ممن يعلم شيئًا عن أي أصل يعتمد عليه أن يتفضل بإفادتنا وله منا جزيل الشكر وخالص الدعاء.

وقد أعادت مكتبة ابن تيمية بالقاهرة إخراج الكتاب في طبعة تجارية بصف جديد بدون تاريخ، إلا أن تلك الطبعة احتفظت بأكثر أخطاء طبعة الجامعة الإسلامية، ولم يُصوّب منها سوى بعض ما كان جليًّا لا يخفى، مما لا يعتمد تصويبه على فهم موضوعات الكتاب ومسائله، وأضافت إليها أخطاءً أخرى، كما افتقرت تلك الطبعة كسابقتها إلى الترتيب والتنسيق، وخلت من أي خدمة للنص.

ولما كانت أكثر عناوين الطبعة السابقة ليست من وضع المؤلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك لم ألتزم بإيرادها في طبعتنا هذه؛ لعدم دقتها أحيانًا، ولكونها أشبه بالعناوين الجانبية الزائدة على الحاجة أحيانًا أخرى، ومهما يكن، فكونها ليست من وضع المؤلف جعلني في مندوحة من إيرادها، على أني جعلت فهرسًا مفصلًا انتظم مضمونها وزيادة، إلا أنني استبقيت العناوين المنسبكة مع سياق الكلام؛ لأنها لا بد أن تكون من وضع المؤلف، وهي قليلة.

وقد نبهت على أكثر أخطاء الطبعة السابقة؛ ليعلم القاريء فضل طبعتنا هذه عليها، والجهدَ الذي بذلناه فيها، وليحترز من هذه الأخطاء من عنده الطبعة السابقة، فقد استخرجت بعضها بالمناقيش (كما في ص 15، 35، 46، 62، 84، 101، 277، 254)، وأهملت التنبيه على

(المقدمة/8)

________________________________________

بعض الأخطاء الواضحة التي لا تلتبس على القارئ، ولا أخفي أن كثرة الأخطاء في الطبعة السابقة قد أفقدها عندي المكانة التي تُعطى عادة للأصل المخطوط، وجرّأني على إثبات ما أراه صوابًا في الصلب دائمًا، سواء كان تصويبًا، أو إضافة أو حذفًا طفيفين، إلا أني أجعله بين معكوفين [هكذا]، وأنبه في الحاشية على الخطأ، دون التزام بتعليل التصويب إذا كان واضحًا، وقد كان خير معين لي في ذلك بعد الله -تعالى- سياق الكلام، وسباقه ولحاقه.

أما التعليقات فاقتصرت منها على ما دعت الضرورة إليه، فعزوت الأحاديث على قلتها إلى مصادرها مكتفيًا بذكر رقم الحديث، وحكمه إن كان خارج الصحيحين، أما الآيات فكُتبت برسم المصحف، وجعلْت أرقامها وسورها في الصلب تخفيفًا للحواشي، وخرَّجت الأبيات الشعرية من الدواوين والمصادر الأدبية، كما عرّفت بمن يحتاج إلى التعريف من الأعلام المذكورين، ووضَّحْت بعض المصطلحات والعبارات المستغلقة على ندرتها، ونبهت على بعض الأوهام التي قد تكون سبق قلم من المؤلف أو المصحح، (كما في ص 15، 53، 130، 161، 179، 201، 242، 305، 332)، وعلّقت ثلاث تعليقات موجزة صيانةً لما قد تُحمّلُه عبارة المؤلف من رأي مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة هو منه بريء، وذلك في ص 224، 258، 235.

كما التزمت بعزو النقول وأقوال العلماء بحسب توفر مصادر المؤلف بين يدي.

(المقدمة/9)

________________________________________

ومما تميزت به طبعتنا هذه الإحالات، فقد أكثر المؤلف من قوله (كما سبق أن أشرنا)، (كما سيأتي)، ومعلوم أن هذا النوع من الفنون مترابط الفقرات، منبنٍ آخره على أوله، موضح بعضه لبعض، فالتزمت بالإحالة على رقم الصفحة حيثما أحال المؤلف.

موارد المؤلف:

سبقت الإشارة إلى أن المؤلف عالم موسوعي، وهذا يعني أنه يعتمد في ما يكتب غالبًا على ما يملكه من مخزون علمي غزير، مع ما يفتح الله عليه من الفهم والاستنباط والتحليل والتحرير، والمؤلف -رحمه الله -كما يُعرف من ترجمته قد رُزق حافظة نادرة، زانها ذكاء عزيز، وعبقرية فذة، وذلك ما ملّكه رقاب العلوم والفنون، ولا سيما علوم الآلة ومنها موضوع الكتاب، فهي ماثلة أمامه يقطف منها ما يشاء، فهو بحق (مستلم أستاذية العالم الإسلامي في عصره)، كما وصفه تلميذه العلّامة بكر أبو زيد -حفظه الله-، ومن هذا حاله قد يعسر تحديد موارده في كتبه، وله في كتابه هذا عبارات تؤكد ما ذكرنا، نحو: (وعلى هذا القول عامة المنطقيين) (وعليه عامة البيانيين) (وعلى هذا جماهير الأصوليين) (وبه يظهر غلط جماهير علماء الأصول)، ونحوها من العبارات التي يعلم من عرف غزارة علم الشيخ أنها مبنية على استقراء، لا مجرد نقل، ومع ذلك فقد نص في هذا الكتاب على بعض الأسماء التي قد تعبر عن بعض موارده، مع أنه يذكرها غالبًا للاستدراك والمناقشة، لا للنقل والعزو، وإليك ما ذكره منها وبعضَ مواضعها من الكتاب:

(المقدمة/10)

________________________________________

1 - نظم في المنطق للعلامة المختار بن بونة، ص 5.

2 - السلم المنورق في فن المنطق، للأخضري، ص 5.

3 - مختصر في علم المنطق، للسنوسي، ص 81.

4 - ابن عرفة، ولم يذكر اسم كتابه، ص 132.

5 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ص 170.

6 - ألفية ابن مالك. ص 174.

7 - مراقي السعود، لعبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي. ص 244.

8 - شرح سلم الأخضري للبناني، ص 276، 196، وقد نقل منه صفحات.

9 - مختصر ابن الحاجب، ص 198، 308.

10 - رسالة في البحث والمناظرة، للشريف الجرجاني، ص 206.

11 - ركن الدين العميدي، ولم يذكر اسم كتابه في الجدل، فلعله رجح إليه بواسطة، ص 207.

12 - روضة الناظر، لابن قدامة، ص 308.

13 - الباقلاني، ص 322.

14 - الباجي، ص 322، ولم يسمّ لهما كتبًا، فلعله ينقل عنها بواسطة.

(المقدمة/11)

________________________________________

هذا سوى موارده في القراءات والتفسير والحديث والشعر والأدب والنحو والبلاغة والتاريخ وغيرها مما يعتمد فيه على حفظه كما سبقت الإشارة إليه.

وننبه القارئ الكريم إلى أن المؤلف قد ذكر في مقدمته بعض المسائل المتوقف فهمها على دراسة فن المنطق وفهم مصطلحاته، وهو -رحمه الله- إنما خاطب بها غير المبتدئين، فلا يعترض عليه بأن هذا من استباق الكلام، وتقديم ما حقّه التأخير، ويمكن للمبتدئ تجاوزها وتأخيرها إلى ما بعد فهم المقدمة المنطقية.

كما أنه -رحمه الله تعالى- لم يستوعب جيميع مباحث المنطق طلبًا للاختصار، فترك ذكر لواحق القياس وغيرها من المسائل التي نبه على تركها اختصارًا مرارًا في كتابه، فمن أرادها فعليه بمطولات هذا الفن.

وفي ختام بهذا التقديم نستميح القارئ الكريم العذر في أي تقصير يلحظه في خدمة هذا الكتاب النفيس، ونسأل الله -تعالى- أن يتغمد مؤلفه بواسع رحمته، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. سعود بن عبد العزيز بن محمد العَرِيفي

مكة المكرمة -جامعة أم القرى- قسم العقيدة

(المقدمة/12)

________________________________________

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أما بعد:

فإنه لما كان من أهداف الجامعة الإسلامية نشرُ العلم، وتعليمُ أبناء المسلمين بصفة عامة، وتخريجُ الدعاة إلى الله بصفة خاصة، وكانت الدعوة إلى الله من أهم أعمال المسلمين جميعًا، فإن الجامعة مازالت دائبةً في تدعيم مناهجها إلى أن أصبحت -ولله الحمد- في المستوى المنهجي اللائقِ بها وبأهدافها.

وقد تخرّج أفواجٌ من أبنائها من كلية الشريعة، شغلوا مناصب عدةً من تدريس وقضاءٍ ودعوة.

ولما كان من المتوقع أن يواجه الدعاةَ إلى الحق دعاةٌ إلى الباطل مضللون، يجادلون لشبهٍ فلسفية، ومقدماتٍ سوفسطائية (1)، وكانوا لشدة تمرُّنِهم على تلك الحُجج الباطلةِ كثيرًا ما يُظهرون الحقَّ في صورة الباطل، والباطلَ في صورة الحق، ويفحمون كثيرًا من طلبة العلم الذين لم يكن معهم سلاحٌ من العلمِ يدفع باطلَهم بالحق، وكان من الواجب على المسلمين أن يتعلموا من العلم ما يتسنّى لهم به إبطالُ

__________

(1) (السفسطة: قياس مركّب من الوهميّات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته).

التعريفات للجرجاني: ص 124. مكتبة لبنان 31969.

(1/3)

________________________________________

الباطل وإحقاقُ الحقِّ على الطرق المتعارَفة عند عامة الناس = حمل ذلك الجامعةَ على إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين.

ومهمّتُها تخريجُ دعاة قادرين على تبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى إفحام وإلزام الدعاة المضلِّلين، ببيان بها يصحح أدلتهم، ويظهرُ بطلانَ حُجج خصومهم.

ومن أجل ذلك قررَتْ في منهج هذه الكلية تدريسَ مادة "آداب البحث والمناظرة"؛ لأنه هو العلم الذي يَقدِر به من تعلمه على بيان مواضع الغلط في حُجة خصمه، وعلى تصحيح مذهبه بإقامة الدليل المقنعَ على صحته، أو صحة ملزومه، أو بطلان نقيضه، ونحو ذلك.

ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلةُ التي يحتج بها كل واحد من المتناظرَين إنما تُوجه الحجةُ بها منتظَمة على صورة القياس المنطقي.

ومن أجل ذلك كان فن "آداب البحث والمناظرة" يتوقف فهمُه كما ينبغي على فهم ما لا بد منه من فن المنطق؛ لأن توجيه السائل المنعَ على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلًا، أو القدحَ في الدليل بعدم تَكرار الحد الوسط، أو باختلال شرط من شروط الإنتاج ونحو ذلك (1)، لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.

وكانت الجامعة قد أسندت إلينا تدريسَ فن "آداب البحث

__________

(1) سيأتي بيان هذه المصطلحات عند الكلام على القياس المنطقي وأركانه ص 106 وما بعدها.

(1/4)

________________________________________

والمناظرة"، وكان لا بد من وضع مذكرة تُمكّن طلاب الفن من مقصودهم، فوضعنا هذه المذكرة، وبدأناها بإيضاح القواعد التي لابدّ منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة، واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصةً من شوائب الشُّبه الفلسفية، فيها النفع الذي لا يخالطه ضررٌ البتة؛ لأنها من الذي خلّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة، كما قال العلامة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة (1) -شارحُ الألفية والجامعُ معها ألفيةً أخرى من نظمه تكميلًا للفائدة- في نظمه في فن المنطق:

فإن تقُلْ حرّمه النواوي ... وابنُ الصلاح والسيوطي الراوي

قلتُ نرى الأقوال ذي المخالِفةْ ... محلُّها ما صنف الفلاسفةْ

أما الذي خلّصه من أسلما ... لا بد أن يعلم عند العلما

وأما قول الأخضري (2) في سلمه (3):

فابنُ الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يُعْلما

__________

(1) مترجم في "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" لأحمد بن الأمين الشنقيطي، ص 277 - 283، قال: كان حيا في أوائل القرن الثالث عشر.

(2) عبد الرحمن بن محمد الجزائري، توفي سنة 983 هـ. الأعلام للزركلي (3/ 331).

(3) السلم المنورق -أو: المرونق، وجهان-: ص 25 - 27، مع حاشية الباجوري، وتقريرات الأنبابي، مطبعة الحلبي بمصر، 1347 هـ.

(1/5)

________________________________________

والقولةُ المشهورةُ الصحيحةْ ... جوازهُ لكاملِ القريحةْ

مُمارِسِ السُنّةِ والكتابِ ... ليَهتدي به إلى الصوابِ

فمحلُّه المنطقُ المشوبُ بكلام الفلاسفة الباطل.

ومن المعلوم أن فن المنطق منذ تُرجم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميعُ المؤلفات توجدُ فيها عِباراتٌ واصطلاحات منطقيةٌ لا يفهمُها إلا من له إلمامٌ به، ولا يَفهم الردَّ على المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل إلا من له إلمام بفن المنطق.

وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةِ في الكتاب والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به، وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.

ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما تُرجم وتُعُلِّم، وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتةِ في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردّوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.

واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج، إن

(1/6)

________________________________________

ركبت مقدماتُه على الوجه الصحيحِ صورةً ومادةً مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه، فيغلط، فيظن هذا الأمر لازمًا لهذا مثلًا، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمةَ بينهما في نفس الأمر البتة.

ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجةُ مخالفةً للوحي الصحيح؛ لغلط المستدِل، ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجتُه مطابقةً للوحي بلا شك؛ لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح.

وإيضاحه باختصار أن القياس المنطقي نوعان:

الأول: الاقتراني، وهو المعروف بالحملي، وقياسِ الشمول، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله (1)، وسائر أشكاله راجعةٌ إلى الشكل الأول، ووجهُ الحكم العقلي بصحة إنتاج الشكل الأول هو أن الحد الأصغرَ إذا اندرج في الحد الأوسط، واندرج الأوسط في الأكبر، لزم عقلًا اندراج الأصغر في الأكبر، وهذا أمر عقلي لا شك فيه، ولا يتغير بتغير الزمان؛ لأنه حكم عقلي قطعي ثابت.

وأما القياس الاستثنائي (2) إن كان مركبًا من متصلة لزومية واستثنائية فلا يُنتج منه إلا ضربان، وحاصلهما بالتقريب للذهن أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، وثبوتَ الملزوم يقتضي ثبوتَ اللازم،

__________

(1) ص 105 وما بعدها.

(2) وهو النوع الثاني من نوعي القياس، وسيأتي إيضاحه ص 128 وما بعدها.

(1/7)

________________________________________

وكلاهما حكم عقلي قطعي ثابت لا يمكن تغيّره.

والمركب من شرطية منفصلة (1) إن كانت حقيقية مانعةَ جمع وخُلُوّ أنتجت ضروبُه الأربعة؛ لأن نفي كل واحد من النقيضين يستلزم وجود الآخر، ووجودَ كل واحد منهما يستلزم نفي الآخر، وهذه أحكام عقلية قطعية لا تتغير بحال.

والمركب من مانعة الجمع المجوِّزةِ للخُلُوّ يقطع العقل بصحة إنتاج ضربيه المنتجين؛ لأن مانعة الجمع المذكورةَ لا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، فكلا طرفيها أخصُّ من نقيض الآخر، ولذا كان إثبات كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر؛ لأن إثبات ما هو أخصُّ من النقيض يستلزم إثبات النقيض؛ لأن ثبوت الأخصِّ يستلزم ثبوت الأعم بلا عكس.

وإذا ثبت النقيض عُلم انتفاءُ نقيضه قطعًا؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، فتعين أن ثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر، بخلاف نفي أحد الطرفين فلا يقتضي نفي الآخر؛ لأن نفي ما هو أخص من النقيض لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.

وكذلك المركب من مانعة الخُلُوّ المجوِّزةِ للجمع، فإن العقل الصحيح يقطع بصحة إنتاج الضربين المنتجين منه، وهما العقيمان في الذي قبله؛ لأن مانعة الخلو المجوزةَ للجمع لا تتركب إلا من قضية

__________

(1) يعني مع الاستثنائية، انظر توضيحه ص 134.

(1/8)

________________________________________

وأعمَّ من نقيضها، فكلا طرفيها أعمُّ من نقيض الآخر، ولذا كان نفي كل واحد منهما يقتضي وجود الآخر بلا عكس؛ لأن نفي ما هو أعمُّ من النقيض يستلزم نفي النقيض؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وإذا لزم من انتفائه انتفاءُ النقيض عُلم قطعًا ثبوتُ النقيض الآخَرِ؛ لاستحالة عدم النقيضين معًا.

فتبين أن نفي كل واحد من طرفيها يستلزم ثبوت الآخر بلا عكس، وكلَّ ما ذكر بحكم العقل (1)، وأنه لا يتغير بتغير الزمان.

وبعد الانتهاء مما لا بد منه من فن المنطق نذكر جملا كافية من آداب البحث والمناظرة، تُعين من تعلمها على تصحيح مذهبه وإبطال مذهب خصمه، مع الآداب اللازمة لذلك، ثم نطبق ذلك في مسائلَ من القوادح في أصول الفقه، ومسائلَ من مسائل الكلام التي نفى فيها المعطلون بعض الصفات، ونوضح كيفية تصحيح الحق في ذلك وإبطالِ الباطل؛ لأن تطبيق ذلك عمليًّا يفيد الطالب إفادةَ أكبر.

ونختتم الكلام بالمقارنة بين ما يسميه المتكلمون مذهبَ السلف ومذهب الخلف، مع إحقاق الحق وإبطال الباطل على الطرق المعهودة في المنَاظرة؛ ليفيدَ ذلك الطالبَ تمرينًا على رد الشبه وإبطال الباطل بطريق المناظرة.

وهذا أوان الشروع في ذكر ما لا بد منه من المسائل المنطقية.

المؤلف

__________

(1) أي وتبين أن كلّ ما ذُكر ثابت بحكم العقل.

(1/9)

________________________________________

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة منطقية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 أنواع العلم الحادث

أَي وهو علم المخلوقين؛ لأن الكلام فيه، احترازًا عن علم الله -جل وعلا-؛ فإنه لا يوسف بصفات علم المخلوقين.

اعلم أولًا أنا تركنا الأبحاث في تعريف العلم ومناقشتها اختصارًا؛ ولأن طالب العلم يفهم المراد بالعلم.

اعلم أن العلم الحادث ينقسم أربعة أقسام؛ لأنه إما علم تصور، وإما علم تصديق، وكل واحد منهما إما ضروري وإما نظري، فالمجموع أربعة، من ضرب اثنين في اثنين.

الأول: علمُ تصورٍ ضروري.

الثاني: علمُ تصورٍ نظري.

الثالث: علم تصديق ضروري.

الرابع: علم تصديق نظري.

واعلم أن علم التصور في الاصطلاح هو "إدراك معنى المفرد من غير تعرض لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه"، كإدراك معنى اللذة،

(1/11)

________________________________________

والألم، ومعنى المرارة، ومعنى الحلاوة، وإدراك معنى الإنسان، ومعنى الكاتب.

فإدراك كل مفرد مما ذكرنا ونحوه -أي فهم المعنى المراد به ذلك المفرد- من غير تعرضٍ لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه هو المسمى في الاصطلاح بعلم التصور، وهو تفعُّل من الصورة، فكأن صورة المفرد تنطبع في الذهن؛ لإدراك المتصوِّر لها معناها.

والإدراك في الاصطلاح هو: "وصول النفس إلى المعنى بتمامه"، فإن وصلت إليه لا بتمامه فهو المسمى في الاصطلاح بالشعور.

وأما علم التصديق فهو "إثبات أمر لأمر بالفعل"، أو نفيه عنه بالفعل، وتقريبه للذهن أنه هو المسمى في اصطلاح البلاغيين بالإسناد الخبري، وفي اصطلاح النحويين بالجملة الاسمية التي هي المبتدأ والخبر، أو الفعليةِ التي هي الفعل والفاعل، أو الفعل ونائب الفاعل.

فلو قلت مثلًا: (الكاتب إنسان)، فإدراكك معنى (الكاتب) فقط علم تصور، وإدراكك معنى (الإنسان) فقط علم تصور، وإدراكك كونَ الإنسان كاتبًا بالفعل، أو ليس كاتبًا بالفعل، هو المسمى بالتصديق.

وإنما سمي تصديقًا لأنه خبر، والخبر بالنظر إلى مجرد ذاته يحتمل التصديق والتكذيب، فسمَّوه تصديقًا؛ بأشرف الاحتمالين.

وكونُ التصديق -الذي هو إدراك وقوع نسبة بالفعل أو عدمِ وقوعها بالفعل- من أنواع العلم هو قول الجمهور، وهو الحق. وقد تركنا ذكر ما خالفه وإبطاله لأجل الاختصار.

(1/12)

________________________________________

واعلم أنه لا يمكن إدراك نسبة وقوع الأمر أو عدم وقوعها فعلًا إلا بأربعة تصورات هي:

الأول: تصور المحكوم عليه الذي هو الموضوع.

الثاني: تصور المحكوم به الذي هو المحمول.

الثالث: تصور النسبة الحُكْمية التي هي مَوْرد الإيجاب والسلب من غير حكم بوقوعها ولا عدم وقوعها، كما يقع من الشاكّ في قيام زيد، فإنه يتصور معنى زيد، ويتصور معنى القيام، ويتصور معنى نسبة القيام إلى زيد مع أنه شاكٌّ في وقوعها، فليس متصوّرًا لوقوعها ولا لعدم وقوعها، فإن تصوّرَ وقوعَها بالفعل أو عدمَ وقوعها بالفعل فهو التصديق.

وجمهورهم يقول: إن التصديق بسيط، وهو التصور الرابع وحده، والثلاثة قبله شروط فيه.

وقال الرازي (1): التصديق مركب. يعني أنه مركب من أربعة تصورات، فهو عنده مجموع التصورات الأربعة.

والقولان متفقان على أنه لا بد قبلَه من ثلاثة تصورات؛ إلا أن من يقولُ هو بسيط يقول: توقفه على التصورات الثلاثة من توقف الماهية على شرطها، ومن يقول هو مركب يقول: هو من توقف الماهية على أركانها التي هي أجزاؤها.

__________

(1) فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشي، توفي سنة 606 هـ، انظر سير أعلام النبلاء (21/ 500).

(1/13)

________________________________________

فعُلم أن كل تصديق تصور، وليس كلُ تصور تصديقا.

واعلم أن الموضوع في اصطلاح المنطقيين هو المعروف في المعاني بالمسند إليه، وفي النحو بالمبتدأ، أو الفاعل والنائب عن الفاعل.

والمحمول (1) في اصطلاحهم هو المعروف في المعاني بالمسند، وفي النحو بالخبر، أو الفعل.

وإنما سمي الموضوع موضوعًا لأن المحمول صفة من صفات الموضوع، أو فعل من أفعاله، والصفة لا بد لها من موصوف، والفعل لا بد له من فاعل، فالأساس الذي وضع لإمكان إثبات الصفات أو نفيها هو المحكوم عليه، ولذا سمي موضوعًا، كالأساس للبنيان.

وسُمّي الآخر محمولًا لأنه كسقف البنيان، لا بد له من أساس يبنى عليه.

فلو قلت: زيد عالم، أو زيد ضارب، فالعلم صفة زيد، والضرب فعله، ولا تمكنُ صفةٌ بدون موصوف، ولا فعل بدون فاعل، فصار المحكوم عليه كأنه وضع أساسًا للحكم، فسمي موضوعا، وسمي ما يسند إليه من صفات وأفعال محمولًا؛ لأنها لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من أساس تُحمل عليه.

وإذا عرفتَ المراد بالتصور والتصديق، وأن كلًّا منهما يكون

__________

(1) انظر للأهمية ما سيذكره المؤلف عن الموضوع والمحمول ص 83.

(1/14)

________________________________________

ضروريًّا ونظريًّا، فاعلم أن الضروري في الاصطلاح: "ما لا يحتاج إدراكه إلى تأمل"، والنظري في الاصطلاح هو: "ما يحتاج إدراكه إلى التأمل".

فالتصور الضروري كتصور معنى الواحد ومعنى الاثنين.

والتصديق الضروري كإدراك أن الواحد نصفُ الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.

والتصور النظري مثّل له بعضُهم بتصور الملائكة، والجَنّة؛ فإنه [نظري] (1)، ومن أمثلته: تشخيص الطبيب لعين [المرض] (2)؛ فهو تصور له بعد بحث وتأمل ونظر.

والتصديق النظري كقولك: الواحد نصف سدس الاثني عشر، وربعُ عشر الأربعين.

والنظر في الاصطلاح: "الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن".

والفكر في الاصطلاح: "حركة النفس في المعقولات"، أما حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.

واعلم أن الطريق التي يُتوَصَّلُ بها إلى إدراك التصور النظري هي المعرِّفات بأنواعها، فيدخل فيها الحد، والرسم، واللفظي، والقسمة، والمثال، وتُسمى بالقول الشارح، كما سيأتي إيضاحه إن شاء

__________

(1) في المطبوع: (ضروري)، وما أثبته هو الموافق للسياق.

(2) في المطبوع: (المريض)، وما أثبته هو الموافق للسياق.

(1/15)

________________________________________

الله (1).

والطريق التي يُتوصل بها إلى معرفة التصديق النظري هي الحجة، وهو القياس المنطقي بأنواعه، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله (2).

وما تركب من مقدمات يقينية فهو المسمى منها بالبرهان.

__________

(1) ص 56 وما بعدها.

(2) ص 103 وما بعدها.

(1/16)

________________________________________

 [الدلالة وأنواعها] (1)

اعلم أن الدَّلالة مثلثة الدال، والأفصح فتحُها، ثم كسرها، وأردأُها الضم.

وهي في الاصطلاح: "فهم أمر من أمر"، أو "كون أمر بحيث يُفهم منه أمر، فُهم بالفعل أو لم يفهم".

وقال بعضهم: هي مشتركة بين الأمرين. ومناقشات التعريفين كلها ساقطة، وقد تركناها اختصارًا.

وفهم الأمر من الأمر واضح، كفهم المسمّيات من فهم المراد بأسمائها.

وكونُه بحيث يُفهم منه أمر [فُهم بالفعل] (2) أو لم يفهم: كعدم شق إخوة يوسفَ قميصَه، لما جعلوا عليه دم السخلة (3) ليكون الدم قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب، فنظر يعقوب إلى القميص، فإذا هو ملطخ بالدم ولا شقَّ فيه، فعَلم أن عدم شق القميص فيه الدلالةُ الواضحة على كذبهم، وإن لم يَفهموا بالفعل ذلك الأمر الدال عليه، فقال يعقوب: سبحان الله، متى كان الذئب حليمًا كيِّسًا، يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟!.

وكعدم فهم بعض الصحابة معنى الكلالة، وأنها الورثة الذين ليس

__________

(1) العنوان في المطبوع: (أنواع الدلالة الوضعية اللفظية)، وقد غيرته لعدم دقته.

(2) ليس في المطبوع، والسياق يقتضيه.

(3) ولد الغنم، مختار الصحاح: ص 290.

(1/17)

________________________________________

فيهم ابنٌ ولا أبٌ، مع دلالة آية الكلالة على ذلك؛ لأنه -تعالى- صرح بنفي الولد بقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]، ودل على أنه ليس له أبٌ التزامًا، بقوله -تعالى-: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} لأن إرث الأخت يلزمه عدم وجود الأب؛ لأنه يحجبها.

واعلم أن أنواع الدلالة محصورة في ستة أقسام لا سابع لها، وإيضاحه أن الدالَّ إما (لفظي) أو (غير لفظي)، ولا ثالث لهما، وقد دل الاستقراء التام على أن دلالته ثلاثة أقسام لا رابع لها، وهي:

دلالته وضعًا، دلالته عقلًا، دلالته طبعًا.

فتضرب حالتي الدالّ في حالات الدلالة الثلاث، فالمجموع ستة، من ضرب اثنين في ثلاثة:

الأول: دلالة اللفظ وضعًا، كدلالة (الرجل) على الإنسان الكبير الذكر، و (المرأة) على الإنسان الأنثى، وهكذا في دلالة الألفاظ على معانيها المفردة والمركبة.

والوضع في الاصطلاح هو: "تعيين أمر للدلالة على أمر".

الثاني: دلالة اللفظ عقلًا، كدلالته على لافظٍ به.

الثالث: دلالة اللفظ طبعًا، أي عادةً، كدلالة الصُّراخ على مصيبة نزلت بالصارخ، ودلالة لفظة (أح) -بالمهملة- على ألم بالصدر.

الرابع: دلالة غير اللفظ وضعًا، كدلالة المُفْهِمات الأربعة، وهي: الخط، والإشارة، والعقد، والنصب.

(1/18)

________________________________________

فالنقوش التي هي الخط تدل على الألفاظ وضعًا، وليست لفظًا.

والمراد بالعقد عقد الأصابع لبيان قدر العدد، فهو يدل على قدر العدد وضعًا، وليس باللفظ.

والإشارة تدل على المعنى المشار إليه وضعًا، وليست لفظًا.

والمراد بالنصب: نصب الحدود بين الأملاك، ونصب أعلام الطريق، وهو واضح مما تقدم.

الخامس: دلالة غير اللفظ عقلًا، كدلالة المصنوعات على صانعها.

السادس: دلالة غير اللفظ طبعًا، أي عادة، كدلالة حُمرة الوجه على خجل صاحبه، ودلالة صُفرة الوجه على وجل صاحبه، أي خوفه، كما قال القائل:

تفاحةٌ جمعت لونين خلتُهما ... خَدّي مُحِب ومحبوب قد اعتنقا

تعانقا فرَيا واشٍ فراعهما ... فاحمرّ ذا خجلًا واصفرّ ذا فرقًا (1)

ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري (2):

إذا شكوتُ إليها الحبَّ خفرها ... شكواي فاحمرّ خداها من الخجلِ

إذا عرفتَ هذا فاعلم أن المقصود عند المنطقيين من هذه الأقسام الستة هو واحد فقط، وهو دلالة اللفظ وضعًا، وهي تنقسم عندهم إلي

__________

(1) البيتان مع اختلاف يسير في المستطرف ص 483، باب 72.

(2) الملقّب بصريع الغواني، توفي سنة 208 هـ، انظر ديوانه ص 50.

(1/19)

________________________________________

ثلاثة أقسام: دلالة المطابقة، دلالة التضمن، دلالة الالتزام.

أما دلالة المطابقة: "فهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الموضوع له اللفظ"، كدلالة الرجل على الإنسان الذكر، والمرأة على الإنسان الأنثى، وهكذا دلالاتُ الأسماء على مسمياتها التي وضعت لها، وسميت مطابقة لتطابق الوضع والفهم، فالمفهوم من اللفظ هو عين المعنى الموضوع له اللفظ.

وأما دلالة التضمن: فهي "دلالة اللفظ على جزء مسماه في ضِمْن كُلِّه"، ولا تكون إلا في المعاني المركبة، كدلالة الأربعة على الواحد ربعِها، وعلى الاثنين نصفِها، وعلى الثلاثة ثلاثةِ أرباعها.

فلو سمعتَ رجلًا قال: عندي أربعةُ دنانير، فقلتَ له: أقرضْني دينارًا، أو دينارين، أو ثلاثة دنانير، فقال: لا شيء عندي من ذلك، فقلتَ له: سمعتُك تقول: إن عندك أربعةَ دنانير، فقال: نعم ولكن لم أقل واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، فإنك تقول له: لفظ الأربعة التي ذكرتَ يدل على الواحد رُبعِها، وعلى الاثنين نصفِها، وعلى الثلاثة ثلاثةِ أرباعها، بدلالة التضمن؛ لأن الجزء يُفهم في ضمن الكل.

وأما دلالة الالتزام: فهي دلالة اللفظ على خارجٍ عن مسماه لازم له لزومًا ذهنيًّا، بحيثُ يلزم من فهم المعنى المطابَقي فهمُ ذلك الخارجِ اللازم، كدلالة (الأربعة) على الزوجية.

والزوجيةُ في الاصطلاح هي: "الانقسام إلى متساويين".

واعلم أن اللوازم ثلاثةٌ لا رابع لما: لازم في الذهن والخارج معًا،

(1/20)

________________________________________

ولازم في الذهن فقط، ولازم في الخارج فقط.

أما الأوّلان -وهما اللازم في الذهن والخارج معًا، واللازم في الذهن فقط- فتُسمى بهما دلالةُ التزام بالإجماع.

وأما الثالث -وهو اللازم في الخارج فقط- فلا تسمى به دلالةُ التزام عند المنطقيين، وإنما تسمى [به دلالة] (1) التزام عند الأصوليين والبيانيين.

مثال اللازم في الذهن والخارج معًا: دلالة الأربعة على الزوجية، التي هي الانقسام إلى متساويين، فيلزم من فهم معنى الأربعة فهمُ أنها زوج، أي منقسمةٌ إلى متساويين، فهذا لازم في الذهن كما ذكرنا، ولازم في الخارج أيضًا، والمراد بالخارج هنا: "الواقع في نفس الأمر"، فالزوجية لازمة للأربعة في الذهن، وفي الواقع في نفس الأمر.

ومثال اللازم في الذهن فقط دون الخارج: لزومُ البصر للعمى؛ لأن معنى العمى بدلالة المطابقة هو "سلب البصر"، فمعناه المطابقي مركب إضافي، أي مركب من مضاف هو "سلب"، ومضاف إليه وهو "البصر"، ولا يُعقل "سلب البصر" حتى يعقل معنى البصر، فظهر أنه لا

__________

(1) في المطبوع: (بدلالة)، وما أثبته هو الموافق للسياق، مع أن العبارة لا تخلو من ركاكة من أولها؛ إذ كان حقها أن يقال: أما الأوّلان فيُسميان دلالة التزام بالإجماع، وأما الثالث فلا يُسمى دلالة التزام إلا عند الأصوليين والبيانيين، دون المنطقيين.

(1/21)

________________________________________

يَفهم أحد معنى العمى حتى يفهم معنى البصر؛ لأن معنى البصر جزء من معنى العمى؛ لأن معنى العمى مركب إضافي، والبصر أحد جزأيه، وهذا اللازم إنما هو في الذهن فقط، لا في الخارج؛ لأن العين التي اتصفت بالعمى انتفى عنها البصر ضرورة؛ لما بين العمى والبصر من التنافي؛ المعبر عنه بمقابلة العلم والملكة (1).

ومثال اللازم في الخارج فقط: دلالة لفظ الغراب على السواد؛ لأنه لا يوجد في الخارج غراب إلا هو متصف بالسواد، ولكن هذا لا يُفهم من فهم معنى الغراب؛ لأن من لم يرَ الغرابَ قط، ولم يخبره أحد بلونه قد يتصور أن الغراب طائر أبيض، فالسواد إنما يلزم الغرابَ في الخارج فقط، لا في الذهن، فدلالته عليه التزامية عند الأصوليين والبيانيين، وليست كذلك عند المنطقيين.

واعلم أن دلالة المطابقة وضعية بلا خلاف، وأما دلالةُ التضمن ودلالةُ الالتزام ففيهما لأهل العلم ثلاثةُ مذاهب:

الأول: أنهما وضعيتان أيضًا، وعلى هذا القول عامة المنطقيين، ووجهه أن سبب السبب سبب؛ لأن فهم المعنى المطابَقي هو سبب فهم جزئه في ضمن كله، وهو دلالة التضمن، وهو سبب فهم اللازم الخارج عن المسمى، وهو دلالة الالتزام، فلما كان وضع اللفظ سببًا لفهم المعنى المطابَقي، وفهمُ المعنى المطابقي سببًا في فهم الجزء في ضمن الكل، وفهم الخارج اللازم، صارت كل من التضمن والالتزام

__________

(1) انظر ما يأتي ص 46، 45.

(1/22)

________________________________________

وضعية؛ لأن السبب الأولَ في فهمهما الوضعُ، وسبب السبب سبب.

المذهب الثاني: أنهما عقليتان، وعليه عامة البيانيين، ووجهه أن اللفظ إنما وضع للمعنى المطابقي، ولكن العقل هو الذي فهم منه الجزء في ضمن الكل، والخارج اللازم.

المذهب الثالث: أن دلالة التضمن وضعيةٌ ودلالةَ الالتزام عقلية، ووجهه أن المدلول عليه بالتضمن جزء المدلول المطابقي، والمطابقةُ وضعية بلا خلاف، وجزء الوضعي وضعي؛ لأن الجزء مندرج في الكل، أما دلالة الالتزام فليست جزء الوضعي، ولكن العقل فهم من المعنى المطابقي لازمَه الخارجَ عن مسماه، وعلى هذا جماهيرُ من الأصوليين.

(1/23)

________________________________________

مباحث الألفاظ

المباحث جمع مبحث، وهو اسم مكان بمعنى مكان البحث، وهو الفحص والتفتيش عن الألفاظ من حيث التركيبُ والإفرادُ ونحوُ ذلك كالكلية والجزئية.

اعلم أولًا أن اللفظ المستعمل في اللغة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مركبًا، وإما أن يكون مفردًا، وهذا على قول الجمهور بأن القسمة ثنائية.

وضابط المركب عندهم: هو "ما يدل جزؤه على جزء معناه دلالةً مقصودةً خالصة".

فخرج بقولهم: "ما دل جزؤه" ما لا جزء له أصلًا، كباء الجر ولامه، وما له جزء لا دلالةَ له على شيء، كبعض حروف (زيد).

وخرج بقولهم: "على جزء معناه"، ما له جزء وله دلالة لكن لا على جزء معناه كـ (كأبكم)، فإن نصفه الأولَ وهو (أبي) يدل على ذاتٍ متصفة بالأبّوة، ونصفَه الأخيرَ وهو (كم) يدل على سؤال عن عدد، أو إخبارٍ بعددٍ كثير، ولكن ليس واحدٌ منهما يدل على جزء المعنى المقصود بالأبكم.

وخرج بقولهم: "مقصودةً" العلَمُ الإضافي كـ (عبد الله)؛ فإن جزءه الأول يدل على العبد، والثاني يدل على الخالق -جل وعلا-، ولكن هذه الدلالة ليست مقصودة؛ لأن المقصود جعلُ اللفظين علَمًا للشخص مُعيِّنًا له عن غيره من الأشخاص.

(1/24)

________________________________________

وخرج بقولهم "خالصةً" ما لو قُصد في تسمية الإنسان بـ (عبد الله) مثلًا أنه متصف بالعبودية لله؛ فإن دلالة جزء اللفظ على جزء المعنى حينئذ مقصودة، لكنها غيرُ خالصة من شائبة العلَمية.

وبهذا تعلم أن المفرد هو ما لا جزء له أصلًا، كباء الجر ولامه، أوْ له جزء لا دلالة له على شيء، أو له جزء وله دلالة لكن لا على جزء معناه، أو له جزء وله دلالة على جزء معناه ولكنها دلالة غير مقصودة.

أو له جزء وله دلالة على جزء مسماه دلالةً مقصودةً لكنها غيرُ خالصة من شائبة العلَمية.

وقد تركنا بعض المناقشات هنا لعدم اتجاهه عندنا.

وقد عرفتَ من هذا التعريف الذي ذكروا أن المركب هنا صادقٌ بالمركب الإسنادي، نحو: (زيد قائم)، والمركب الإضافي كـ (غلام زيد)، والمركب التقييدي كـ (الحيوان الناطق)، وأن المفرد هو الاسم أو الفعل أو الحرف، ويدخل في الاسم العلَم الإضافي كـ (عبد الله) و (عبد شمس).

وما تقدم في حدهم للتصور والتصديق، يدل على أن المركب الإضافي والمركب التقييدي من أنواع المفرد؛ لأن إدراكهما تصور لا تصديق، والتصور إدراك معنى المفرد، خلافًا لما يذكرون هنا.

والظاهر أن بعض الاصطلاحات تختلف في المفرد، فهو في التصور والتصديق: "كل ما ليس بإسناد خبري تام"، وفي مبحث المركب والمفرد: يكون له اصطلاح آخر، فيدخل فيه المركب

(1/25)

________________________________________

الإضافي والتقييدي مثلًا.

وإذا علمت هذا فاعلم أن المفرد بالاصطلاح المذكور هنا ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما؛ لأنه إما أن يكون كليًّا وإما أن يكون جزئيًّا.

وضابط الكلي في الاصطلاح أنه "هو ما لا يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه"، كالإنسان والحيوان والرجل والمرأة والأسد ونحو ذلك؛ فإنك إذ تعقلت معنى الإنسان لم يمنعك تعقله من وقوع الشركة فيه، فهو قدر مشترك يشترك فيه عمرو وزيد وخالد، وهكذا في باقي الأمثلة.

وإن شئت قلت في حد الكلي: هو "المفرد الذي لا يمنع تعقل مدلوله من حمله حمل مواطأة على أفراد كثيرة".

والمراد بحمل المواطأة هو حمله عليها بنفسه، من غير احتياج إلى اشتقاق أو إضافة، فالإنسان مثلًا إذا تعقلت مدلوله لم يمنعك ذلك من حمله حمل مواطأة على كثيرين، كأن تقول: زيد إنسان، وعمرو إنسان، وخالد إنسان، وهكذا، وكذلك الحيوان لا يمنعُك تعقل مدلوله من حمله حمل مواطأة على كثيرين، كقولك: الإنسان حيوان، والفرس حيوان، والجمل حيوان، وهكذا.

أما إن كان لا يمكن حملُه عليها حملَ مواطأة، بل حمل اشتقاق أو إضافة، فليس كليًّا لها، فليس العلم مثلًا كليًّا بالنسبة إلى الأشخاص العلماء؛ لأنك لا تقول: مالك عِلْم، والشافعي عِلْم، وإنما يصح في ذلك الحمل بالاشتقاق، كقولك: مالك عالم، والشافعي عالم، أو

(1/26)

________________________________________

الإضافة، كقولك: مالك ذو علم، والشافعي ذو علم، فالعلم كلّيٌ بالنسبة إلى الفنون؛ لأنك تقول: النحو علم، والفقه علم، والتوحيد علم. وهكذا؛ لأنه يُحمل عليها حملَ مواطأة، وليس العلمُ كليًّا بالنسبة إلى الأشخاص المتصفين به كما بينّا.

وتقريب الكلي للذهن: أنه هو "كل ما وضع لأكثر من شيء واحد"، كالقدر المشترك بين اثنين فصاعدًا.

[والجزئي] (1) هو "ما يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه".

وهنا واسطة وطرفان: طرف هو جزئي إجماعًا، يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه، وهو العَلَم بنوعيه، أعني علَم الشخص وعَلَم الجنس؛ لأنك إذا تعقلت معنى (زيد) عَلَمًا لرجل معيّن منعك تعقله من وقوع الشركة فيه؛ لأنه وُضمع له خاصة ليعيّنه ويميّزه عن غيره من الأشخاص.

واعلم أن الفرق بين علَم الجنس واسم الجنس يعسر فهمه على كثيرين من طلحة العلم؛ فقولك: (أسامة) علمًا لجنس الأسد معرفة؛ لأنه علم فيجوز الابتداء به بدون احتياج إلى مسوِّغ، ويجوز مجيء الحال منه متأخرة، نحو (هذا أسامة مقبلًا)، ولا يجوز دخول الألف واللام عليه؛ لأنه علَم، بخلاف لفظة (أسد) اسمًا لجنس الأسد؛ فإنها نكرة لا يجوز الابتداء بها إلا بمسوِّغ، ولا تجيء الحال منها متأخرة إلا بمسوِّغ، ويجوز دخول الألف واللام عليها؛ لأنها نكرة، فيعسر الفرق

__________

(1) في المطبوع: (والجزء).

(1/27)

________________________________________

بين (أسامة)، علمًا لجنس الأسد، و (أسد) اسمًا لجنسه.

وأوضح الفوارق التي فرقوا بها بينهما -بل لا يكاد يعقل غيره- هو أن علَم الجنس روعي فيه القدر المشترك بقطع النظر عن الأفراد، واسم الجنس روعي فيه القدر المشترك لا بقطع النظر عن وجوده في بعض الأفراد.

وإيضاحه أن معنى (الأسد) مثلًا شيء واحد، وهو مجموع الحيوانية والافتراسية مثلًا، فالمعنى الذهني الذي هو القدر المشترك بين أفراده شيء واحد لا تعدد فيه، وإنما التعدد في الأفراد الخارجية المشتركة فيه، فوضعوا علَم الجنس لذلك المعنى الذهني، وهو شيء واحد، فشخّصوه بالعَلَمِ في الذهن لا في الخارج، كتشخيص الشخص بعَلَمه في الخارج، فعَلم الجنس يشخّص مسماه في الذهن لا في الخارج، وعلَم الشخص يشخّص مسماه في الخارج.

وأما لفظة (أسد) فإنهم أرادوا بها المعنى الذهنيَّ المشتركَ بين الأفراد، بدون قطع النظر عن وجود بعض أفراده الخارجية فيه، التي هي محل التعدد.

وعلى قول من قال: إن اسم الجنس والنكرةَ شيء واحد فإن اسم الجنس يراعَى فيه وجودُ بعض الأفراد الخارجية في المعنى الذهني، الذي هو القدر المشترك، وهو الفرد الشائع في جنسه.

فقطْعُ النظر مطلقًا عن الأفراد الخارجية التي هي محل التعدد، وقصْدُ تشخيص المعنى الذهني الذي هو القدر المشترك بين الأفراد

(1/28)

________________________________________

-وهو واحد لا تعدد فيه- هو الذي يكون به الاسم المشخِّص لذلك المعنى الواحدِ في الذهن علَم الجنس، وما لم يُقطع النظر فيه عن الأفراد الخارجية هو اسم الجنس؛ لتعدد الأفراد واتحاد المعنى الذهني المشترك بينها.

والحاصل أن علَم الشخص وعلَم الجنس كلاهما جزئي بالإجماع، واسم الجنس كـ (أسد) و (إنسان) و (رجل) و (فرس) ونحو ذلك كلّيٌّ إجماعًا. وهذان هما الطرفان: طرف جزئي إجماعًا، وطرف كلي إجماعًا.

وأما الواسطة فقد اختُلف فيها، وهي أسماء الإشارة، والضمائر، والموصولات، فبعضهم يقول: هي كلية؛ لصلاحيتها لكل شيء، وبعضهم يقول: هي جزئية؛ لأنها لا تُستعمل بالفعل إلا في شيء معين خاص.

وبعضهم يقول: هي كلية وضعًا، جزئية استعمالًا، وأكثر من تكلموا في علم الوضع يختارون أنها جزئية، والله -جل وعلا- أعلم.

فإذا عرفت معنى الكلي والجزئي اللذَين هما قسما المفرد، فاعلم أنا نريد هنا أن نبين بعض تقسيمات الجزئي والكلي، ونبيّنَ معنى الكل والجزء، والكلية والجزئية، قبل الشروع في مبادئ التصورات.

اعلم أولًا أن الجزئي ينقسم إلى جزئي حقيقي، وجزئى إضافي:

أما الجزئي الحقيقي فهو العلَم بنوعيه، ويَلحق به ما جرى مجراه عند من يقول به، وهو الإشارة والضمير والموصول، على قول من

(1/29)

________________________________________

يقول إنها جزئية.

وأما الجزئي الإضافي فهو "كل كلّي مندرجٍ في كلي أعمَّ منه"، فالإنسان مثلًا كلي بالنسبة إلى (زيد)، و (عمرو)، وجزئي إضافي بالنسبة إلى الحيوان؛ لأن الحيوان ينقسم إلى إنسان، وغير إنسان كالفرس مثلًا. فالإنسان فرد من أفراد الحيوان، فهو جزئي بإضافته إليه، وهكذا الحيوان؛ فإنه كلي بالنسبة إلى الإنسان والفرس مثلًا، وجزئي إضافي بالنسبة إلى النامي؛ لأن النامي منه ما هو حيوان، ومنه ما ليس بحيوان كالنبات.

والنامي هو الذي يكبر تدريجيًّا. وقس على ذلك.

واعلم أن الكلي ينقسم تقسيمات مختلفةً باعتباراتٍ مختلفةٍ، وستذكر هنا بعض المهم منها.

اعلم أن الكلي ينقسم باعتبار استواء معناه في أفراده وتفاوته فيها إلى متواطئ ومشكك:

فالمتواطئ هو "الكلي الذي استوت أفراده في معناه"، كالإنسان، والرجل، والمرأة؛ فإن حقيقة الإنسانية والذكورة والأنوثة مستويةٌ في جميع الأفراد، وإنما التفاضلُ بينها بأمورٍ أُخَرَ زائدةٍ على مطلق الماهية.

والمشكك هو "الكلي الذي تتفاوت أفراده في معناه بالقوة والضعف" كالنور والبياض مثلًا، فالنور في الشمس أقوى منه في السراج، والبياض في الثلج أقوى منه في العاج، وهكذا.

(1/30)

________________________________________

وينقسم الكلي أيضًا باعتبار تعدّد مسمَّاه وعدمِ تعدّده إلى مشترَك ومنفرد.

فإن كان له مسمّيان فصاعدًا يسمى بكل منهما بوضع خاص فهو المشترَك. كالعين: للباصرة والجارية، والقُرء: للطُهر والحيض، وهكذا.

وإن كان مسماه واحدًا فهو المنفرد، كالإنسان، والحيوان؛ فإن الحقيقة الذهنية التي هي مسمى اللفظ واحدة، وإنما التعدد في الأفراد الخارجية كما تقدم.

وينقسم الكلي باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدم وجودها فيه إلى ستة أقسام؛ لأنه إما ألا يوجدَ منه في الخارج فرد أصلًا، أو يوجدَ منه فرد واحد، أو توجدَ منه أفراد كثيرة، وكل واحد من هذه الثلاثة ينقسم إلى قسمين، فالمجموع ستة:

الأول: كلي لم يوجد من أفراده فردٌ واحد في الخارج، مع أن وجود فرد منها مستحيل عقلًا، كجمع الضدين.

الثاني: كلي لم يوجد من أفراده فرد في الخارج مع جواز وجوده عقلًا، كبحر من زئبق، وجبل من ياقوت، والزئبق " [معدن] (1) سيّال لا يجمد إلا تحت الصفر في درجة أربعين".

الثالث: كلي وُجد منه فرد واحد مع استحالة وجود غيره من

__________

(1) في المطبوع: (معدني).

(1/31)

________________________________________

الأفراد عقلًا، كـ (إله)، فإنه كلي، ولذا لم يمنع العربَ تعقّلُ مدلوله من قبول الشركة، كما ذكر الله عنهم في قوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

ومن فوائد كون (الإله) كليًّا بحسب الوضع أنه تدخل عليه (لا) النافيةُ للجنس في كلمة (لا إله إلا الله)، وهي لا تدخل إلا على كلي من أسماء الأجناس، إلا أن هذا الكلي الذي هو الإله دل العقل الصحيح والكتاب والسنة والإجماع على أنه لم يوجد منه إلا فرد واحد، وهو خالق السموات والأرض -جل وعلا-؛ إذ لا معبود بالحق موجودًا يستحق العبادة إلا هو وحده -جل وعلا-؛ فكل معبود سواه عبادتُه كفر ووبال على صاحبها، يخلد بسببها في النار، فهو ليس بمعبود بحق، ولا بشريك حقًّا، كما قال -تعالى-: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66].

فإن قيل المعبودات من دون الله من أنواع الطواغيت قد وجدت بكثرة! ؟ .

فالجواب أن المعدومَ شرعًا كالمعدوم حسًا، فهي ليست بمعبودات، ولكن الكفار افتروا ذلك على الله، واختلقوه كذبًا من تلقاء أنفسهم، {بِغَيرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20] أنهم شركاء له، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

الرابع: كلي وجد منه فرد واحد مع جواز وجود غيره من الأفراد عقلًا، كـ (شمس)؛ فإن الشمس التي هي الكوكب النهاري لا يمنع

(1/32)

________________________________________

تعقّلُ مدلولها من وقوع الشركة، إلا أن هذا الكلي لم يوجد منه إلا فرد واحد، وهو هذه الشمسُ المعروفة، مع إمكان أن يكثّر الله من أفراد الشموس كما أكثر من أفراد النجوم، حتى تتشعشع الدنيا نورًا، ويحترقَ العالم من شدة حر تلك الشموس الكثيرة.

الخامس: كلي وجدت منه أفراد كثيرة لكنها متناهية، كـ (الإنسان) و (الحيوان).

السادس: كلي وجدت منه أفراد كثيرة غير متناهية، كـ (نعيم الجنة) وكـ (العدد).

وإذا عرفت معنى الكلي والجزئي وبعض تقسيماتهما فاعلم أنّا أردنا هنا أن نبيّن معنى الكل والجزء، والكلية والجزئية:

اعلم أن الكل في الاصطلاح هو "ما تركب من جزأين فصاعدًا".

وضابطه أن الحكم عليه بالمحمول (1) إنما يقع على مجموعه لا على جميعه.

وإيضاحه أن الحكم يقع عليه في حال كونه مجتمعًا، فإذا فرضت تفرقة أجزائه لم يتبع الحكمُ كلَّ واحد منها بانفراده، وإنما يقع عليها مجموعة.

ومثاله قوله -تعالى-: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]؛ لأن الحكم على الثمانية بحمل العرش إنما هو على مجموعها لا

__________

(1) سبق التعريف بالمحمول والموضوع ص 14.

(1/33)

________________________________________

على جميعها؛ إذ لو كان على جميعها لكان كل واحد من الثمانية مستقلًا بحمل العرش وحدَه، والواقع أن الحامل للعرش هو مجموع الثمانية، فلو فرضتَ تفرقةَ الثمانية لم يتْبعِ الحكمُ بحمل العرش كلَّ واحد منهم.

وأما الكلية فهي "الحكم على كل فرد من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان"، كقولك: كل إنسان حيوان؛ فإن كل فرد من أفراد الإنسان مستقل بالحكم عليه بأنه حيوان، فكل [منها] (1) يتبعُه الحكم بانفراده.

وقد قرر علماء المعاني هنا قاعدة وهي: أن لفظة (كل) إذا اقترنت بحرف سلب -أعني حرف نفي- فإن كان حرف النفي قبل لفظة (كل) فهو من الكل المجموعي، فلا يقع الحكم على الموضوع إلا مجموعًا، ولا يتبع كل فرد من أفراده، كقوله:

ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ (2)

فإن المرء قد يتمنى شيئًا ويدركُه، وكم من مُنْية أدركها صاحبها كما لا يخفى.

وكقولهم: (ما كل بيضاءَ شحمة)، و (ما كل مدوّر كعكًا) فقد تكون البيضاء شحمة، وقد يكون المدور كعكًا، في بعض الأحوال دون كلها.

__________

(1) في المطبوع: (منهما)، والمثبت هو المناسب للسياق.

(2) البيت للمتنبي، انظر ديوانه ص 472، دار بيروت.

(1/34)

________________________________________

وإن كان حرف النفي بعد لفظة (كل) فهو من الكلية، فالحكم بالمحمول على الموضوع شامل لكل فرد، كقول أبي النجم:

قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تدّعي ... عليَّ ذنبا كلُّه لم أصنعِ (1)

برفع لفظة (كل)؛ لأن مراده أنه لم يصنع شيئًا واحدًا مما ادعت عليه.

ومن هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لذي اليدين لما قال: أقُصرت الصلاة أم نسيت؟ : "كل ذلك لم يكن" (2)، أي لم يكن شيء منه: لم أنْسَ ولم تُقصر، يعني في ظني، كما هو مقرر في الأصول، في مبحث دلالة الاقتضاء.

وهذه القاعدة أغلبية؛ [لورود] (3) آيات متعددة فيها حرف النفي قبل لفظة (كل)، مع أنها كلية، لا كلٌّ مجموعي، كقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] ونحو ذلك من الآيات؛ لأن الحكم بنفي المحبة عام لكل فرد من أفراد الخوّانين الكفورين، والمختالين الفخورين، كما ترى.

فقد عرفتَ أن الفرق بين (الكل) و (الكلية)، أن (الكل) لا يتبع الحكمُ فيه كلَّ فرد من أفراده، وأن (الكلية) يتبع الحكمُ فيها كلَّ فرد من أفرادها، ومثالها موجبةً: (كل إنسان حيوان)، وسالبةً: (لا شيء من

__________

(1) ديوانه ص 132، النادي الأدبي، الرياض.

(2) أخرجه البخاري (682) ومسلم (573)، وهذا لفظ مسلم.

(3) في المطبوع: (نورد)، والمثبت هو اللائق بالسياق.

(1/35)

________________________________________

الحجر بحيوان)؛ لأن إثبات الحيوانية للإنسان شامل لكل فرد من أفراده، ونفيَ [الحيوانية] (1) عن الحجر شامل لكل فرد من أفراده.

وأما الفرق بين (الكل) و (الكلي) فمن جهتين:

الجهة الأولى:

أنا قدمنا أن (الكلي) لا يمنع تعقلُ مدلوله من حمله على كثيرين حملَ مواطاة، فيجوز حمل الكلي على كل فرد من أفراده حمل مواطأة، كقولك: (عمرو إنسان)، و (زيد إنسان)، و (خالد إنسان) إلخ، فالإنسان كلي، وقد صح حمله على كل فرد من أفراده حمل مواطأة كما تقدم إيضاحه (2).

أما (الكل) فلا يجوز حملُه على جزء من أجزائه حمل مواطأة، بل حملَ إضافة أو اشتقاق.

فالكرسي مثلًا: كلٌّ مركبٌّ من خشب ومسامير، فلا يجوز أن تقول: الكرسي مسمار، ولا أن تقول: الكرسي خشب، ولكن يصح حملُه على أجزائه بالأضافة والاشتقاق، فالإضافة كان تقول: الكرسي ذو مسامير، والاشتقاق كقولك: الكرسي مسمّر.

وكالشجرة؛ فإنها كلٌّ مركب من جذوع وأغصان، فلا يقال: الشجرة جذوع، ولا: الشجرة أغصان، وإنما يقال: الشجرة ذات جذوع، وذات أغصانٍ مثلًا.

__________

(1) في المطبوع: (الحيوان)، والمثبت هو الملائم للسياق.

(2) ص 26.

(1/36)

________________________________________

الجهة الثانية:

أن (الكلّي) يجوز تقسيمه بأداة التقسيم إلى جزئياته، كأن يقول: الحيوان إما إنسان أو فرس، وإما بغل وإما حمار إلخ. بخلاف (الكل)، فلا يجوز تقسيمُه إلى أجزائه بأداة التقسيم، فلا يصح أن يقال: الكرسي إما خشب وإما مسامير، ولا أن يقال: الشجرة إما جذوع وإما أغصان، وإنما يجوز حمل (الكلّ) على أجزائه حمل مواطأة مع العطف خاصة، أعني عطف بعض أجزائه على بعضها، كقولك: الكرسي مسامير وخشب، والشجرة جذوع وأغصان.

وأما الجزء فهو "ما تركب منه ومن غيره كُلٌّ"، كالمسامير بالنسبة إلى الكرسي، وكالخشب بالنسبة إليه، وكالجذع بالنسبة إلى الشجرة، والأغصان بالنسبة إليها.

والجزئية في الاصطلاح هي "القضية التي حُكم بمحمولها على بعض أفراد موضوعها لا كلِّها سلبًا أو إيجابًا"، فمثالها موجبةً: (بعض الحيوان إنسان)، ومثالها سالبةً: (بعض الحيوان ليس بإنسان)، وسيأتي (1) إن شاء الله في مبحث القضايا زيادة إيضاح للكلية والجزئية.

__________

(1) ص 81.

(1/37)

________________________________________

النسب الأربع

واعلم أن كل معقولين لا بد أن تكون بينهما إحدى نسب أربع لا خامسةَ لها وهي: المساواة، والتباين، والعموم والخصوص المطلًق، والعموم والخصوص من وجه.

وبرهان الحصر في الأربع أن المعقولين إما ألا يجتمعا البتة، أو لا يفترقا البتة، أو يجتمعا تارة، ويفترقا أخرى.

فإن كانا لا يجتمعان البتة فهما المتباينان، كالإنسان والحجر؛ فإن كل ذات ثبتت لها الإنسانية انتفت عنها الحجرية، كعكسه، فالنسبة بين الإنسان والحجر التباين.

وإن كانا لا يفترقان البتةَ فهما المتساويان، كالإنسان والناطق، فإن كل ذات ثبتت لها الإنسانية ثبتت لها الناطقية، كعكسه، فالنسبة بين الإنسان والناطق المساواة.

وإن [كانا] (1) يجتمعان تارة ويفترقان أخرى فلهما حالتان:

الأولى: أن يكون أحدُهما يفارقُ صاحبَه، والآخرُ لا يمكن أن يفارقه.

الثانية: أن يكون كلُّ واحد منهما يفارقُ الآخرَ في بعض الصور، مع أن المفروض الاجتماع في بعضها.

__________

(1) في المطبوع: (كان).

(1/38)

________________________________________

فإن كان الذي يفارق واحدًا منهما فقط دون الآخر، فهما اللذان بينهما العموم والخصوص المطلق، والذي يفارق أعمُّ مطلقًا، والذي لا يفارق أخصُّ مطلقًا، كالحيوان والإنسان؛ فإن الحيوان يفارق الإنسان؛ لوجوده دونه في الفرس والبغل مثلًا، والإنسان لا يمكن أن يفارق الحيوان؛ إذ لا إنسان إلا وهو حيوان، فلا يفارقُ الإنسانُ الحيوانَ بحال، فالحيوان أعمُّ مطلقًا، والإنسان أخصُّ مطلقًا فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.

وإن كان كل منهما يفارقُ الآخر فهما اللذان بينهما العموم والخصوص من وجه، كالإنسان والأبيض، فإنهما يجتمعان في الإنسان الأبيض، كالعربي والرومي، وينفرد الأبيض عن الإنسان في الثلج والعاج مثلًا، وينفرد الإنسان عن الأبيض في الزنجي مثلًا، فهو إنسان أسود.

وإذا عرفت هذه النسبَ الأربعَ فاعلم أنها هي الميزانُ الذي يُعرف به الصادق والكاذب من القضايا:

فكل قضية كانت النسبة بين طرفيها التباينَ فهي صادقة السلْبين، كاذبةُ الإيجابين -أعني بالسلبين: السلبَ الكليَّ والجزئي، وبالإيجابين: الإيجابَ الكليَّ والجزئي-، فلا تكذبُ سالبةٌ مطلقًا، ولا تصدُق موجبةٌ مطلقًا.

فلو ركّبْتَ قضية من الإنسان والحجر صدقَتْ في كل سلب، كقولك: (لا شيء من الحجر بإنسان)، و (لا شيء من الإنسان بحجر)، و (بعض الحجر ليس بإنسان)، و (بعض الإنسان ليس

(1/39)

________________________________________

بحجر)، كل ذلك صادق (1).

وكذبَتْ في كل إيجاب كقولك: (كل إنسان حجر)، أو (كل حجر إنسان)، أو (بعض الإنسان حجر)، و (بعض الحجر إنسان)، كل ذلك كاذب.

وإن كانت النسبة بين طرفيها المساواةَ فهي صادقة الإيجابين، كاذبة السلبين -أعني الإيجابَ الكليَّ والإيجابَ الجزئي، والسلب الكلي والسلب الجزئي-، فلا تكذب في إيجاب مطلقًا، ولا تصدق في سلب مطلقًا.

فلو ركّبْتَ قضية من الإنسان والناطق فإنها تصدق في كل إيجاب، كقولك: (كل إنسان ناطق)، و (كل ناطق إنسان)، و (بعض الإنسان ناطق)، و (بعض الناطق إنسان)، فكله صادق.

وتكذب في كل سلب كقولك: (لا شيء من الإنسان بناطق)، و (لا شيء من الناطق بإنسان). و (بعض الإنسان ليس بناطق)، و (بعض الناطق ليس بإنسان)، فكل ذلك كاذب.

وإن كانت النسبة بين طرفيها العمومَ والخصوصَ من وجه فهي صادقة الجزئيتين -أعني الجزئية الموجبة، والجزئية السالبة-، كاذبةُ الكليتين -أعني الكلية الموجبة والسالبة- فلا تكذِبُ في جزئية مطلقًا،

__________

(1) يلاحظ هنا أن مفهوم المخالفة لا اعتبار له في فن المنطق، فلا يُعترض على صدق (بعض الحجر ليس بإنسان) ونحوها بأنه يلزم منه أن يكون البعض الآخر إنسانًا، فيناقض (لا شيء من الحجر بإنسان).

(1/40)

________________________________________

ولا تصدُقُ في كلية مطلقًا.

فلو ركبْتَ قضية من الإنسان والأبيض فإنها تصدق في كل جزئية، كقولك: (بعض الأبيض إنسان) و (بعض الإنسان أبيض)، و (بعض الأبيض ليس بإنسان)، و (بعض الإنسان ليس بأبيض)، فكل ذلك صادق.

وتكذب في كل كلية، كقولك: (كل إنسان أبيض)، و (كل أبيض إنسان)، أو (لا شيء من الإنسان بأبيض)، و (لا شيء من الأبيض بإنسان)، فكل ذلك كاذب.

وإن كانت النسبة بين طرفيها العمومَ والخصوصَ المطلقَ فلها حالتان:

الأولى: أن يكون الموضوع أخصَّ والمحمولُ أعمَّ.

الثانية: أن يكون الموضوع أعمَّ والمحمولُ أخصَّ.

فإن كان الموضوع أخصَّ مطلقًا جرت على حكم المتساويين، فلو ركبت قضية من الإنسان والحيوان، وجعلت الإنسان هو الموضوع، فإنها تصدق في كل إيجاب، وتكذب في كل سلب، كالمتساويين، فقولك: (كل إنسان حيوان)، أو (بعض الإنسان حيوان) كله صادق، وقولك: (لا شيء من الإنسان بحيوان) أو (بعض الإنسان ليس بحيوان)، كله كاذب.

وإن كان الموضوع أعمَّ والمحمولُ أخصَّ، كما لو ركبت قضية من الإنسان والحيوان، وجعلتَ الحيوان موضوعًا والإنسان محمولًا،

(1/41)

________________________________________

فإنها تجري على حكم الأعمّين من وجه، فلا تكذبُ في جزئية، ولا تصدقُ في كلية.

فلو قلتَ: (بعض الحيوان إنسان) أو (بعض الحيوان ليس بإنسان)، فكل ذلك صادق، بخلاف الكلّية؛ فإنها كاذبة هنا مطلقًا، كما لو قلت: (كل حيوان إنسان) أو (لا شيء من الحيوان بإنسان)، فكله كاذب.

واعلم أن التباين الذي هو إحدى النسب الأربع ينقسم إلى قسمين وهما: تباين المخالفة، وتباين المقابلة.

وضابط تباين المخالفة هو أن الحقيقتين متباينتان في ذاتيهما، ولكنهما ليس بينهما غايةُ المنافاة، بمعنى أنه يمكن اجتماعهما في ذات واحدة.

فحقيقة البرودة مثلًا تُباين حقيقة البياض، لأن كل معنى ثبت له أنه هو البرودة انتفى عنه أنه هو البياض، كعكسه، ولكن لا مانع من اجتماع البرودة والبياض في ذات واحدة كالثلج، فهو أبيض بارد.

وكالحلاوة والسواد، وكالكلام والقعود، فإن حقيقة الحلاوة تُباين حقيقة السواد، ولكنهما ليس بينهما غاية المنافاة، بمعنى أنه يجوز اجتماعهما في محل واحد، كالتمرة السوداء، فهي جامعة بين الحلاوة والسواد، فالنسبة التي بين السواد والحلاوة هي تباين المخالفة.

وكذلك حقيقة الكلام فإنها تباين حقيقة القعود، ولكن لا مانع من أن يكون الإنسان الواحد قاعدًا متكلمًا في وقت واحد.

(1/42)

________________________________________

وأما تباين المقابلة فضابطه أن تكون الحقيقتان متباينتين في ذاتيهما مع أن بينهما غايةَ المنافاة، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد في وقت واحد، كالسواد والبياض، والحركة والسكون.

وتباين المقابلة ينقسم إلى أربعة أقسام وهي:

1 - المقابلة بين النقيضين.

2 - المقابلة بين الضدين.

3 - المقابلة بين المتضائفين.

4 - المقابلة بين العدم والملكة.

أما مقابلة النقيضين، فهي المقابلة بين السلب والإيجاب -أعني النفي والإثبات-، كقولك: (زيد قائم الآن)، (زيد ليس بقائم الآن).

فالمقابلة بين هذا النفي والإثبات مقابلة نقيضين، وهي واحد من أنواع تباين المقابلة.

وضابط النقيضين، أنهما "لا يجتمعان ولا يرتفعان"، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، والمقابلة بين الزوج والفرد مثلًا من مقابلة الشيء ومساوي نقيضه؛ لأن الفرد مساوٍ لـ (ليس بزوج)، كعكسه.

وأما المقابلة بين الضدين فهي المقابلة بين أمرين وجوديّين بينهما غايةُ المنافاة، لا يتوقف إدراك أحدهما على إدراك الآخر.

كالسواد والبياض، والحركة والسكون، ونحو ذلك؛ فإن النقطة

(1/43)

________________________________________

البسيطة من اللون يستحيل أن تكون سوداء وبيضاء في وقت واحد، وكذلك الجِرم الواحد يستحيل أن يكون متحركا ساكنا في وقت واحدٍ، فالمقابلة بين السواد والبياض، وبين الحركة والسكون مثلًا، مقابلة الضدين، وهي من أنواع تباين المقابلة، خلافًا لمن زعم أن السكون ليس بوجودي.

وضابط الضدين أنهما "لا يجتمعان ولكنهما قد يرتفعان"، وارتفاعهما إنما يكون لواحد من سببين:

الأول منهما: وجود واسطة كضد ثالث؛ فإن السواد والبياض مثلًا لا يجتمعان في نقطة بسيطة من اللون، ولكنهما قد يرتفعان عنها لوجود واسطة أخرى كالحمرة والصفرة، فتكون تلك النقطة حمراء أو صفراء.

السبب الثاني: هو ارتفاع المحل، فالجِرم الواحد الموجود يستحيل أن يجتمع فيه السكون والحركة فيكون متحركا ساكنا في وقت واحد، ولكن الحركة والسكون قد يرتفعان عنه بارتفاعه، أي بانعدامه وزواله من الوجود؛ فإنه إذا عُدم لا يقال فيه: ساكن، ولا متحرك.

وأما المقابلة بين المتضائفين فهي المقابلة بين أمرين وجوديين بينهما غاية المنافاة ولا يمكن إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه، كالأبوة والبنوّة، والقَبْلِ والبعد، والفوقِ والتحت.

فإن الذات الواحدةَ يستحيل أن تكون جامعة بين كونها أبّا وابنًا لشخص واحد، فكون الشخص أبًا لشخص مع أنه ابن لذلك الشخص بعينه مستحيل، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة

(1/44)

________________________________________

واحدة. إلا أن الأبوة لا يُدرَك معناها إلا بإضافة بنّوة إليها، كعكسه.

والمكان الذي فوقك يستحيل أن يكون تحتك في الوقت الذي هو فوقك فيه، إلا أنه لا يُعقل فوو إلا بإضافة تحتٍ إليه، كعكسه.

وكذلك الزمان الذي قبل الوقت الذي أنت فيه: يستحيل أن يكون بعده في الوقت الذي هو قبله فيه، مع أنه لا يُعقل قبل إلا بإضافة بعدٍ إليه، كعكسه.

وهكذا فالمقابلة بين الأبوة والبنوة، والفوق والتحت، والقبل والبعد، مقابلة المتضائفين، وهي من أنواع تباين المقابلة، وهي المسماة في الاصطلاح بالصفات الإضافية.

واعلم أن عامة المنطقيين على أن الصفاتِ الإضافيةَ وجوديةٌ، كما ذكرنا أن المقابلة بين المتضائفين هي المقابلة بين أمرين وجوديين .. إلخ.

وعامة المتكلمين على أن الصفاتِ الإضافيةَ أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج، وقد سببوا بهذا القول أنواعًا من الإشكال، معروفةً في علم الكلام، ليس هذا محلُّ بسطها.

وأما المقابلة بين العدم والملكة فهي المقابلة بين أمرين: أحدُهما وجودي، والآخرُ عدمي، والطرف العدمي سلْبٌ للطرف الوجودي عن المحل الذي شأنه أن يتصف به.

كالمقابلة بين البصر والعمى، فهي مقابلة بين أمرين: أحدهما وجودي وهو المعبر عنه بالملكة، كالبصر في هذا المثال. والثاني

(1/45)

________________________________________

عدمي، وهو المعبر عنه [بالعدم] (1)، وهو العمى، وهذا الطرف العدمي الذي هو العمى سلبٌ للطرف الوجودي الذي هو البصر عن المحل الذي شأنه أن يتصف به، كالحيوان الذي هو من جنس ما يبصر.

أما ما ليس من شانه الاتصافُ بالملكة فلا تردُ عليه عندهم مقابلةُ العدم والملكة، كالحائط، والغصن، فلا يقول: (هذا الحائط أعمى)، ولا: بصير، ولا (هذا الغصن أعمى) ولا: [بصير] (2)؛ لأنه ليس من شأنه الاتصاف بالبصر حتى يُسلب عنه بالعمى.

فتبين أن المقابلة بين النقيضين وبين العدم والملكة كلتاهما مقابلة بين أمرين أحدهما وجودي والآخر عدمي، والفارق بينهما هو القيد الذي في العدم والملكة، الذي هو قولهم: (عن المحل الذي شأنه أن يتصف به) (3).

وأن المقابلة بين الضدين والمتضائفين كلتاهما مقابلة بين أمرين وجوديين، والفارق بينهما أن الضدين لا يتوقف إدراك أحدهما على إضافة الآخر إليه، بخلاف المتضائفين، فلا يمكن إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه كما تقدم إيضاحة.

__________

(1) في المطبوع: (بالعدمي).

(2) في المطبوع: (يبصر).

(3) ما قرره المؤلف هنا هو إصلاح المناطقة، وقد تذرع به المتكلمون إلى نفي عقوه -تعالى- على خلقه، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، انظر معيار العلم لأبي حامد الغزالي: ص 32، 62، 147، دار الأندلس، بيروت. وانظر نقد ذلك في التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 151 وما بعدها، ودرء تعارض العقل والنقل له (4/ 35 وما بعدها).

(1/46)

________________________________________

 فصل في مبادئ التصورات

اعلم أن مبادئ علم التصور هي الكليات الخمس، وهي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. والكليات في هذا المبحث جمعُ (كلي)، وقد قدمنا أنه هو "ما لا يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه".

اعلم أولًا أن السؤال في فن المنطق إنما يكون بإحدى أداتين؛ لأنهما هما المحتاج لهما في فن المنطق، وهما لفظة (ما)، ولفظة (أي).

أما لفظة (ما) فالأصل فيها أن يُسأل بها عن تمام حقيقة المسؤول عنه، أما السؤال بها عن وصفه كقولهم: ما زيد؟ أكريم، أم بخيل؟ فهو خلاف الأصل.

أما لفظة (أي) فيُسأل بها عمّا يميز المسؤول عنه، ويفصِلُه عما يشاركه، ذاتيًا كان أو عرَضيًا.

واعلم أن الجواب عن السؤال ب (ما) محصور في ثلاثة أشياءٍ لا رابع لها، وهو أنها إما أن يُجاب عن السؤال بها بالجنس، أو بالنوع، أو الحد.

فإن كان السؤال بها عن أشياءِ متعددة مختلفةٍ حقائقُها فالجواب بالجنس، وإذًا فالجنس هو "ما صدق في جواب (ما هو) على كثيرين مختلفة حقائقُهم".

(1/47)

________________________________________

والصدق هنا والقول بمعنى الحمل، فلو قلت مثلًا: ما هو الإنسان؟ وما هو الفرس؟ وما هو الحمار؟ وما هو البغل؟ فالجواب بالقدر المشترك [بينها] (1) وهو الحيوان: فالحيوان إذًا قد صدق -أي حُمل- في جواب (ما هوَ) على كثيرين مختلفة حقائقهم.

وإن شئتَ قلتَ في تعريف الجنس: هو "جزء الماهية الذي هو أعمُّ منها"؛ لصدقه عليها وعلى غيرها، كالحيوان، فهو جزء من ماهية الإنسان؛ لأن الإنسان عندهم مركب من (حيوان) و (ناطق)، فالحيوان جزء ماهيته الصادقُ بها والفرسِ والبغل مثلًا.

وإن كان السؤال عن جزئي كـ (زيد)، ومثلُه المصنف كـ (الزنجي) و (الرومي)، أو عن أشياءِ متعددة متّحدةٍ حقائقُها كـ (زيد، وعمرو، والزنجي، والرومي)، فجواب ذلك بالنوع، فلو قلتَ مثلًا: ما هو زيد؟ أو ماهو الزنجي وزيد وعمرو؟ فالجواب بالقدر المشترك [بينها] (2)، وهو النوع الذي هو الإنسان.

فحد النوع إذًا هو "ما صدق في جواب (ما هوَ) على كثيرين متفقين بالحقيقة"، وإنما الاختلاف بينهم بالتشخص الذاتي، فقولك: ما هو زيد؟ وما هو عمرو؟ وما هو بكر؟ وما هو خالد؟ وما هي هند؟ الكلمة التي تُحمل على الجميع هي النوع، فجواب ذلك أن تقول (الإنسان)؛ لأنه القدر المشترك بين الأفراد، فالإنسان نوع.

__________

(1) في المطبوع: (بينهما).

(2) في المطبوع: (بينهما).

(1/48)

________________________________________

وإن شئتَ قلتَ في تعريف النوع: هو "الكلي الذي هو تمام ماهية أفراده".

وأما حد الفصل- فهو "ما صدق في جواب (أيٌّ ما هو) صدقًا ذاتيًا لا عرضيًا"، كأن تقول: (أي أنواع الحيوان هو الإنسان؟ ) فجواب هذا السؤال الصادقُ على المسؤول عنه صدقًا ذاتيًا هو الفصل، وهو (الناطق) في هذا المثال، لأن (الناطق) هو نوع الحيوان الذي هو الإنسان.

وإن شئتَ قلتَ في تعريف (الفصل): "هو جزء الماهية المساويها في الماصدق" (1)؛ لاختصاصه بها.

وأما حد (الخاصة): فهو "ما صدق في جواب (أيٌّ ما هو) صدقًا عرضيًا لا ذاتيًا"، كأن تقول: (أي أنواع الحيوان هو الإنسان؟ ) فجواب هذا السؤال الصادقُ على المسؤول عنه صدقًا عرضيًا لا ذاتيًا هو الخاصة، وهو في هذا المثال (الضاحك) أو (الكاتب) مثلًا؛ لأن الضحك والكتابة خاصتان من خواص الإنسان، يتميز بهما عن غيره من أفراد الحيوان.

وإن شئتَ قلتَ في تعريف الخاصه: هي "الكلي الخارج عن الماهية، المختصُ بها دون غيرها"، كـ (الضاحك) بالنسبة إلى (الإنسان).

__________

(1) (الماصدق) هو الأفراد التي يصدق عليها مفهوم اللفظ الكلي. انظر ما يأتي ص 172.

(1/49)

________________________________________

وإيضاح انقسام الكليات إلى خمس أن الكلي إما أن يكون تمام الماهية أو ليس بتمامها، فإن كان تمام الماهية فهو النوع، وإن كان غير تمامها فهو إما داخل فيها وإما خارج عنها.

فإن كان داخلًا فيها فلا يخلو: إما أن يكون أعمَّ منها، وإما أن يكون مساويًا لها، فالأول (الجنس)، والثاني (الفصل)، وإن كان خارجًا عنها فلا يخلو أيضًا من أن يكون أعمَّ منها أو مساويًا لها، فإن كان أعم منها فهو (العرض العام) وإن كان مساويًا لها فهو الخاصة، وقد عرفتَ حدودها وأمثلتها.

فإن قيل: بقي كلَّي سادس لم يُذكر وهو (المصنف): كالزنجي، والرومي؟ فقد أجاب بعضهم بأن المصنف خاصة غير شاملة، وعليه فالخاصة تنقسم إلى شاملة، وغير شاملة.

واعلم أنّ (الجنس) و (الفصل) عندهم ذاتيان بلا خلاف، و (الخاصة) و (العرض العام) عرضيان عندهم بلا خلاف، و (النوع) فيه ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه ذاتي؛ بناء على أن كل ما ليس بخارج عن الذات فهو ذاتي.

الثاني: أنه عرضي؛ بناء على أن كل ما لم يدخل في الذات فهو عرضي.

الثالث: وهو أقربها إلى الواقع، أنه ليس بذاتي ولا عرضي؛ لأنه تمام الماهية، فليس جزءً منها حتى يكون داخلًا، ومعلوم أن تمام

(1/50)

________________________________________

الماهية لا يمكن خروجه عنها حتى يكون عرضيًا.

واعلم أن (الفصل) إنما سمي فصلًا لأنه يفصل بين الأنواع المشتركة في الصفات، فالإنسان والفرس مثلًا يشتركان في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية. فالناطق يفصل الإنسان عن الفرس المشارك له فيما ذُكر، والصاهل يفصل الفرس عن الإنسان كذلك.

تنبيه: لا يخفى أنا ذكرنا في الأمثلة الماضية أن الناطق (فصل)، وأنه مميز ذاتي، وأنه جزءُ الماهية الداخلُ فيها الصادقُ عليها صدقًا ذاتيًّا، وأنا ذكرنا أن الضاحك والكاتب مثلًا خاصتان، وأنهما عرضيان خارجان عن الماهية، وليس واحدٌ منهما جزءً منها، ولا داخلًا فيها، فقد يقول السامع: ما حقيقة الفرق بين الناطق والضاحك حتى صار أحدُهما جزءً من الماهية عندهم والثاني خارجًا عنها؟

والجواب أن لهم أجوبة متعددةً كثيرٌ منها ليس فيه مَقنع، وأقربها عند الذهن ثلاثة:

الأول: أن الذاتيَّ هو المعروف عند المتكلمين بالصفة النفسية، وضابطه أنه "لا يمكن إدراك حقيقة الماهية بدونه"، والعرضي يمكن إدراكها بدونه.

الثاني: أن الذاتيَّ لا يُعلل، والعرضيُّ يعلل.

الثالث: أن الذاتي هو الذي لا تبقى الذات مع توهم رفعه، والعرضي بخلافه.

وإيضاح الفوارق الثلاثة بالأمثلة كما سيأتي:

(1/51)

________________________________________

أما كون الذات لا تعقل بدون الناطق، ولكن تعقل بدون الضاحك والكاتب فقد قالوا: لو فرضنا أن عاقلًا من العقلاء لم ير الإنسان ولم يتصورْه بحال، فسأل عنه من يعرفُه، فإن عرّفه له بأنه "جسم"، دخل في التعريف الحجر مثلًا، فإن زاد في التعريف أنه "نامٍ" دخل النبات والشجر، فإن زاد أنه "حساس" دخل الفرس مثلًا، فإن زاد أنه "ناطق" مثلًا انفصل عن غيره، وتميز عن كل ما سواه.

والنطق في الاصطلاح عند المنطقيين: "القوة العاقلة المفكرة التي يُقتدر بها على إدراك العلوم والآراء"، وليس المراد به عندهم الكلام.

وإن قال: هو "منتصب القامة يمشي على اثنتين"، دخل الطير، فإن زاد "لا ريش له" دخل منتوفُ الريش من الطيور وساقطُه، فإن زاد "ناطق" حصل التمييز والإدراك.

فإن قيل: كذلك يحصل التمييز والإدراك فيما لو قال: إنه ضاحك"، أو "كاتب"؛ لأنه لا يشاركه غيره في الضحك والكتابة؟

فالجواب أنهم يقولون: الضحك "حالة تعرض عند التعجب من أمر بعد أن تتفكر فيه القوة الناطقة"، والكتابة "نقوش على هيئات ومقاديرَ معلومةٍ لا تحصل إلا بتفكير القوة الناطقة"، فظهر أن الضحك والكتابة فرعان عن النطق، لا يوجدان إلا تبعًا له, ولا يُعقلان إلا تبعًا له، فلم تُعقل حقيقة الإنسان دون النطق، بخلاف الضحك، والكتابة، فإن الحقيقة تُعقل بدونهما، كذا قالوا!

وأما الفرق الثاني -الذي هو كون الذاتي لا يعلل، والعرضي

(1/52)

________________________________________

يعلل- فواضح؛ فإنك لا تقول: لم كان الإنسان ذا قوة مفكرة يَقتدر بها على إدراك العلوم والآراء؟ تعني النطق، ولكن إذا رأيته يضحك أو يكتب شيئًا فإنك قد تقول له: ما هو السبب الذي أضحكك؟ وما هو السبب الذي حملك على كتابة هذا الذي كتبت؟ .

وأما الفرق الثّالث -الذي هو أن الذاتيَّ لا تبقى الذات مع توهم رفعه أي عدمه- فواضح؛ لأنك لو فرضتَ خُلُوّ حيوان من القوة العاقلة المفكرة التي يُقتدر بها على إدراك العلوم والآراء لا يمكن أن يكون ذلك الحيوان إنسانًا، ولا يردُ على ذلك المعتوه الذي لا عقل له، والمجنون الفاقد العقل بالكلية؛ لأن المراد بكونه ناطقًا أنّ ذلك هو طبيعته وجِبِلَّتُه التي جُبل عليها، ولو زالت عن بعض الأفراد لسبب خاص.

فبهذه الفوارق الثلاثة تعرف الفرق بين الذاتي والعرضي.

وإذا عرفت حد (الجنس) و (النوع) و (الفصل) و (الخاصة) و (العرض العام).

فاعلم أن (الجنس) ينقسم إلى: جنس قريب، وجنس متوسط، وجنس بعيد.

وضابط الجنس القريب أنه هو "تمام القدر المشترك بين الأنواع"، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس؛ فإن [الإنسان] (1) والفرس

__________

(1) في المطبوع: (الحيوان)، وما أثبته هو المناسب للسياق.

(1/53)

________________________________________

يشتركان في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، وكل هذه الصفات داخلةٌ في الحيوان، فهو تمام القدر المشترك بينهما، وقد يتميز كل منهما عن الآخر بفصله أو خاصته، كتمييز الإنسان بأنه الناطق إن كان المُميز ذاتيًّا، أو بأنه الضاحك أو الكاتب إن كان المُميز عرضيًا، وكتمييز الفرس بالصاهل مثلًا.

وضابط الجنس المتوسط: أنه هو "ما ليس تمامَ القدر المشترك، مع اندراجه في جنس فوقه"، وهو مرتبتان:

الأولى: كالنامي بالنسبة إلى الإنسان والفرس مثلًا؛ فإنه جنس متوسط بالنسبة إليهما؛ لأنهما يشتركان في (النامي)، وليس تمامَ القدر المشترك بينهما؛ لاشتراكهما في (الحساسية) أو (التحرك بالإرادة)، وهما (1) خارجان عن (النامي) وهو الذي يكبر تدريجًا، مع أن النامي داخل في جنس فوقه وهو الجسم مثلًا.

المرتبة الثانية: من مرتبتي الجنس المتوسط (كالجسم) بالنسبة إلى الإنسان والفرس؛ فإنهما يشتركان في الجسمية، وليست تمام القدر المشترك بينهما؛ لاشتراكهما في النمائية والحساسية مثلًا، وكلتاهما خارجة عن الجسم، لا يتحقق شموله لها؛ إذ ليس كل جسم ناميًا، ولا كل جسم حساسًا؛ فإن الحجر ليس بنام ولا حساس، مع أنه جسم، والجسم داخل في جنسٍ فوقه وهو الجوهر.

وأما ضابط الجنس البعيد فهو "ما ليس تمام القدر المشترك بين

__________

(1) أي الحساسية والتحرك بالإرادة.

(1/54)

________________________________________

الأفراد مع أنه ليس فوقه جنس"، كالجوهر، وهو "ما يستحيل قبوله الانقسام لقلته".

فالجوهر مثلًا هو الجنس الأبعد العالي، وجنس الأجناس.

ومناقشات المتكلمين في إمكان وجوده وعدم إمكانه معروفة، وليس هذا محلَّ بسطها.

وأما الجواب عن السؤال (بما) بالحد فهو في السؤال عن كلي واحد. فقولك: ما هو الإنسان؛ جوابه بحده الذي هو "الحيوان الناطق"، وهكذا.

وهذا هو حاصل ما لا بد منه من مبادئ التصورات، فتحصل أن الحيوان مثلًا جنس قريب للإنسان والفرس مثلًا، وأن النامي والجسم كلاهما جنس متوسط بالنسبة لهما، وأن الجوهر جنس أبعد.

(1/55)

________________________________________

 فصل في مقاصد التصورات

اعلم أن مقاصد التصورات هي (المعرِّفات) -بصيغة اسم الفاعل-.

وضابط المعرِّف -باسم الفاعل- هو "الجامع لجميع أفراد المعرَّف" -باسم المفعول-، بحيث لا يخرج عنه منها فرد واحد "المانع لكل ما سواها من الدخول فيها"، فكل جامع مانع معرِّف.

واعلم أن الجمع والمنع هما المعبَّر عنهما في الاصطلاح بالطرد والعكس، فالمنع هو الطرد، والجمع هو العكس.

ومثال الجامع المانع تعريف الإنسان بأنه "الحيوان الناطق"، وتعريف الفرس بأنه "الحيوان الصاهل".

واعلم أن النسبة بين المعرِّف -باسم الفاعل- والمعرَّف -باسم المفعول-[إن] (1) كانت المساواة فهو جامع مانع، كالمثلين المذكورين؛ فإن الحيوان الناطق مساوٍ للإنسان، والحيوان الصاهل مساوٍ للفرس.

واعلم أن أنواع المعرِّفات -باسم الفاعل- سبعة وهي:

الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، واللفظي، والقسمة، والمثال.

__________

(1) في المطبوع: (بان).

(1/56)

________________________________________

فالحد التام: هو "تعريف الماهية بالجنس القريب والفصل"، كتعريف الإنسان بأنه "الحيوان الناطق".

والحد الناقص: هو "تعريف الماهية بالفصل مع الجنس المتوسط أو البعيد، أو بالفصل وحده". كتعريف الإنسان بأنه "النامي الناطق". أو "الجسم الناطق"، أو "الجوهر الناطق"، أو تعريفه بأنه "الناطق".

والرسم التام: هو "تعريفها بالخاصة مع الجنس القريب"، كتعريف الإنسان بأنه "الحيوان الضاحك"، أو "الحيوان الكاتب".

والرسم الناقص: هو "التعريف بالخاصة مع الجنس المتوسط أو البعيد، أو الخاصة وحدها"، كتعريف الإنسان بأنه "النامي الضاحك أو الكاتب"، أو "الجسم الضاحك أو الكاتب" أو "الجوهر الضاحك أو الكاتب"، أو تعريفه بأنه "الضاحك" فقط، أو "الكاتب" فقط.

واللفظي: هو "تعريف اللفظ بلفظ مرادف له أشهرَ منه"، كتعريف الغضنفر بأنه الأسد، وتعريف الزخيخ بأنه النار، وكتعريف الخيتعور بأنه السراب وكلُ زائل مُضْمَحِل، ومنه قوله:

كل أنثى وإن بدا لك منها ... آيةُ الحبِّ حبُّها خيتعورُ (1)

أي زائل مضمحلٌّ غير دائم.

وأما القسمة: فكقولك في تعريف العِلْم: الاعتقاد إما جازم وإما

__________

(1) البيت لآكلِ المُرار، حُجر بن عمرو بن الحارث، انظر الأغاني (16/ 381).

(1/57)

________________________________________

غير جازم، والجازم إما مطابق أو غير مطابق، والمطابق إما ثابت لا يقبل التشكيك بحال، وإما ألا يكون كذلك.

فخرج (1) عن القسمة "اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيك بحال"، وهو العلم.

وخرج بالجازم غير الجازم، كالظن والشك والوهم.

وخرج بالمطابق غير المطابق وهو الاعتقاد الفاسد، كاعتقاد الفلاسفة قدمَ العالم.

وخرج بالثابت الذي لا يقبل التشكيك بحالٍ اجتهادُ المجتهد المصيب؛ لأن الاجتهاد قابل للتغيير والتشكيك.

وأما المثال: فكقولك في تعريف العلم هو "إدراكٌ كإدراك أن الواحد نصفُ الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء". و"إدراك البصيرة الذي هو كإدراك الباصرة"، وكقولك: "الاسم كزيد" و"الفعل كضرَب".

واعلم أن الحد في اللغة: المنع، ومنه قول نابغةِ ذبيان (2):

ولا أرى فاعلًا في الناس يُشْبِهُهُ ... ولا أُحاشي من الأقوام من أحدِ

إلا سليمانَ إذ قال الإله لهُ ... قم في البريّةِ فاحدُدْها عن الفنَدِ

__________

(1) خرج هنا بمعنى نتج، بخلاف ما بعدها فهي ضدُّ دخل.

(2) ضمن معلّقته، انظر ديوانه ص 20، دار المعارف.

(1/58)

________________________________________

فقوله: (فاحددها) أي امنعها.

وسُمّي الحد حدًّا لأنه يمنع أفراد المحدود من الخروج، ويمنع غيرَها من الدخول.

وهو عندهم "تمييز الماهية بأجزائها الذاتية"؛ لأنها متركبة عندهم من جنس وفصل، والجنس عندهم جزؤها الذي هو أعمُّ منها، والفصل عندهم هو جزؤها المساويها كما تقدم (1).

وإن لم يشتمل الحد على جميع الذاتيات كالتعريف بالفصل وحده أو مع الجنس المتوسط أو البعيد فهو عندهم ناقص؛ لعدم اشتماله على جميع الذاتيات.

والرسم أصله العلامة، ومنه رسومُ الدار، أي علاماتها، كقوله:

........................ ... وهل عند رسمٍ دارسٍ من معوّلِ (2)

وإنما سمَّوه رسمًا لأن التعريف فيه بالخاصة، وهي من علامات الذات المختصةِ بها الخارجةِ عن ماهيتها عندهم كما تقدم إيضاحه (3).

واعلم أن جميع المعرِّفات يشترط فيها شروط:

الأول: أن يكون المعرِّف -باسم الفاعل- مُطَّرِدًا، أي مانعًا من دخول غير المعرَّف -باسم المفعول-.

__________

(1) ص 49، 47.

(2) شطر بيت ضمن معلقة امرئ القيس، انظر ديوانه ص 166.

(3) ص 49.

(1/59)

________________________________________

الثاني: أن يكون منعكسًا، أي جامعًا لجميع أفراده، والتحقيق أن الطرد هو المنع، والعكس هو الجمع، خلافًا لمن عكس ذلك.

وإيضاح أن الطرد هو المنع والعكسَ هو الجمع هو أن تعلم أولًا أن الطرد في الاصطلاح هو "الملازمة في الثبوت"، وقضيته: كلّما وُجِد الحدّ وُجد المحدود.

والعكس في الاصطلاح "الملازمة في الانتفاء"، وقضيته: كلَّما انتفى الحدّ انتفى المحدود.

فإذا صدَقتْ قضية (كلما وُجد الحد وُجد المحدود) لزم منع غير المحدود من الدخول قطعًا، كقولك: (كلما وجد الحيوان الناطق وجد الإنسان)، فهذا الحد مطّرد، أي مانع من دخول غير الإنسان.

فإن اختلّت [قضيةُ] (1) الملازَمة في الثبوت اختل المنع، فلو قلت: (كلما وجد الحيوان وجد الإنسان) فهذا ليس بصحيح؛ لأن وجود الإنسان لا يلزم من وجود الحيوان، فلو عرفتَ الإنسان بأنه حيوان كان الحد غير مانع من دخول غير الإنسان كالفرس، وإنما كان غيرَ مطّرد -أي غير مانع- لاختلال الملازمة في الثبوت.

وكذلك الملازَمة في الانتفاء إن اختلّت لزم من ذلك اختلال جمع جميع أفراد المحدود. فلو قلت مثلًا: (كلما انتفى الناطق انتفى الحيوان) فهذا ليس بصادق. ولذلك لو عرّفْتَ الحيوان بأنه الناطق كان غير جامع لجميع أفراد الحيوان؛ لأن منها ما ليس ناطقًا.

__________

(1) في المطبوع: (قضيته).

(1/60)

________________________________________

وحاصل إيضاح هذا أن النسبة بين الحد والمحدود إن كانت المساواةَ كان جامعَا مانعًا.

وإن كان الحد أعمَّ من المحدود كان جامعًا غير مانع، كتعريف الإنسان بأنه الحيوان.

وإن كان الحد أخصَّ من المحدود كان مانعًا غير جامع، كتعريف الحيوان بأنه الناطق؛ فإنه مانع من دخول غير الحيوان؛ إذ لا ناطق إلا وهو حيوان، ولكنه غير جامع؛ لأن من أفراد الحيوان ما ليس بناطق.

وإن كانت النسبة بينهما العمومَ والخصوصَ من وجه أو التباينَ كان غيرَ جامع ولا مانع، كتعريف الإنسان بأنه الأبيض، أو بأنه الحجر، كما لا يخفى.

والمراد بالحد هنا مطلق التعريف، فيدخل فيه جميع المعرِّفات، والحاصل أن كل مانع من دخول غير المحدود جامعٍ لجميع أفراد المحدود فإنه هو المطّرَد المنعكس، والاطراد والانعكاس شرطان في كل تعريف.

الشرط الثالث: أن يكون المعرِّف -باسم الفاعل- أظهرَ وأوضحَ عند السامع من المعرَّف -باسم المفعول-، كتعريف الغضنفر بالأسد؛ فإن الأسد أظهر وأوضح عند السامع من الغضنفر، وهكذا.

ولا يجوز أن يكون المعرِّف -باسم الفاعل- مساويًا للمعرَّف في الظهور أو أخفى منه.

ومثال المساوي: تعريف الزوج بما ليس فردًا، كعكسه، وتعريفُ

(1/61)

________________________________________

الساكن بما ليس بمتحرك، كعكسه.

ومثال ما هو أخفى منه: تعريف النار بأنها "جسم كالنفس"، فالنفس أخفى من النار عند العقل، وكتعريف الذهب بالنُّضار أو العسجد، وتعريفِ القمر بأنه الزبرقان.

الشرط الرابع: أن لا يكون المعرِّف -باسم الفاعل- مجازًا، إلا مع قرينة تعيّن المقصود بالتعريف، فإن وُجدَتْ قرينةٌ تدل على ذلك جاز التعريف به، كتعريف البليد بأنه "حمار يَكتب".

فإن قيل: المجاز لا بد له من قرينة صارفة عن قصد المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، فإنهم يجيبون بأن قرينة المجاز لا تكفي وحدها هنا؛ لأن قرينة المجاز إنما تدل على استعمال اللفظ في غير ما وُضع له، والقرينة المشترطة هنا هي الدالة على تعيين المراد بالتعريف.

ومن الفوارق بينهما أن قرينة المجاز من حيث هو قد تكون خفية، وقرينته في التعريف لا بد أن تكون واضحة؛ لأن المقصود بالتعريف الإيضاح.

الشرط الخامس: أن لا يكون التعريف فيه دور سبقي، ومعناه أن تكون معرفة الحد يشترط لها سبقية معرفة بعض ألفاظ المحدود؛ لأن [الفرْض] (1) توقف معرفة المحدود على معرفة الحد، فإن توقفت معرفة الحد على معرفة المحدود كان دورًا سبقيًا؛ لأن معرفة كل منهما

__________

(1) في المطبوع: (الغرض)، والمثبت هو اللائق بالمعنى.

(1/62)

________________________________________

تتوقف على سبق معرفة الآخر، فلا يمكن الإدراك، كتعريف العلم بأنه "معرفة المعلوم على ما هو به"؛ لأن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه.

أما الدور المَعِيُّ فلا مُحال فيه، ككون ما يسمونه (الجرم) متصفًا بما يسمونه (العرَض)؛ إذ لا يعقل جرْمٌ خالٍ من جميعَ الأعراض، كالحركة والسكون، والاجتماع والافترَاق، واللون ونحو ذلك، كما لا يُعقل عندهم عرَضٌ قائمٌ بنفسه دون جرم، فمعرفة كل منهما تتوقف على معرفة الآخر، إلا أنه لا يُشترط سَبق أحدهما للآخر، بل يُعلمان معًا في وقت واحد، وذلك هو معنى كونه دورًا مَعِيًّا.

والأربع الأوَلُ التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق هي المعروفة عند المتكلمين بالأكوان.

ويدخل في الدور الممنوع إدخال الأحكام في الحدود؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره.

الشرط السادس؛ أن لا يكون المعرِّف مشترَكًا بين معنيين فصاعدا؛ لأن الاشتراك مانع من فهم المراد بالتعريف، ما لم توجد قرينةٌ تعيّن المراد، فإن وُجدتْ جاز التعريف به،

فمثال التعريف بالمشترَك دون القرينة تعريف الشمس بأنها عين. ومثال القرينة المعيِّنة للمراد تعريف الشمس بأنها "عين تضيء جميع آفاق الدنيا".

فهذه الشروط تُشترط في كل تعريف من أنواع التعاريف

(1/63)

________________________________________

المذكورة.

فإن قيل: قد عرّفتم لنا المعرِّف -باسم الفاعل- بأنه الجامع المانع، أي المنعكس المطرد، ثم ذكرتم لنا الجمع والمنع من شروط المعرِّفات -باسم الفاعل-، ومعلوم أن الشرط خارج عن الماهية؟ .

فالجواب أن ذلك التعريف رسم؛ لأنه تعريف بالخاصة، وهي خارجة عن الماهية.

والواحد بالشخص له جهتان، فالخاصة من جهة تعريف الماهية بها فهي معرِّف -باسم الفاعل-، وقد تكون شرطًا في التعريف إذا عُرّف بشيء آخرَ غيرها كالفصل، ونحن راعينا كليهما من جهة فعرَّفْنا بها، ثم جعلناها شرطًا بالاعتبار الآخر.

ومقصودنا بالخاصة هنا هو كل من الجمع والمنع، فمجموعُهما خاصة للمعرّف -باسم الفاعل-، والله -تعالى- أعلم.

(1/64)

________________________________________

 فصل في مباديء التصديقات

اعلم أن مبادئ التصديقات هي القضايا وأحكامها.

والقضية في الاصطلاح هي "التصديق"، وقد تقدم إيضاحه (1)، وتسمى: "القضية" و"الخبر"، و"التصديق"، وقد قدمنا أنه هو ما يعبَّر عنه في المعاني بالإسناد الخبري، وفي النحو بالجملة الاسمية أو الفعلية.

واعلم أن القضايا بالتقسيم الأول تنقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، وهما: القضية الحملية، والقضية الشرطية.

وضابط القضية الحملية أمران:

الأول: أنها ينحلُّ طرفاها إلى مفردين، أو ما في قوة المفردين.

الثاني: أن الحكم فيها ليس معلّقًا على شيء.

ومثالها: (زيد قائم) و (عمرو جالس) و (الإنسان حيوان) ونحو ذلك؛ فإن كل واحد من هذه الأمثلة ينحلّ طرفاه إلي مفردين، وليس الحكم فيها معلقًا.

وما في قوة المفرد ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون الموضوع مفردًا [و] (2) المحمولُ جملةً في قوة

__________

(1) ص 12.

(2) في المطبوع: (أو)، والمثبت هو الصواب.

(1/65)

________________________________________

المفرد، كقولك: (زيد قائم أبوه)؛ لأن (قائم أبوه) في قوة (قائم الأب)، وقولك: (خير الذكر لا إله إلا الله)؛ فإنه في قوة (خير الذكر كلمة لا إله إلا الله).

الثاني: عكسه، وهو أن يكون الموضوع جملة في قوة المفرد والمحمول مفردًا، كقولك: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة).

الثالث: أن يكون كل من الموضوع والمحمول جملة في قوة المفرد، كقولك: (زيد عالم نقيض زيد ليس بعالم)؛ لأنه في قوة (قضية زيد عالم نقيضُ قضية زيد ليس بعالم).

فتحَصّل أن الأقسام أربعة:

مفردان، كزيد قائم، وأقسام ما في قوة المفرد الثلاثة المذكورة بأمثلتها آنفًا.

وسميت حملية للحكم بمحمولها على أفراد موضوعها.

وأما القضية الشرطية فضابطها أمران:

الأول: أن ينحلّ طرفاها إلى جملتين، أعني أنه إن أزيلت أداةُ الربط في المتصلة، أو أداةُ العناد في المنفصلة بين طرفيها يصير كل من طرفيها -أعني مقدَّمَها وتاليَها- جملة مستقلة.

والثاني: أنّ الحكم فيها معلّق.

فقولك مثلًا: (لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا)،

(1/66)

________________________________________

قضية شرطية متصلة؛ لأنك لو أزلت أداة الربط بين مقدَّمها وهو الطرف المقترن بـ (لو)، وبين تاليها، وهو الطرف المقترن باللام في المثال المذكور -ونعني بأداة الربط لفظ (لو) واللام- صار المقدَّم (كانت الشمس طالعة) وهي قضية حملية؛ لأنها مبتدأ وخبر، دخل عليها فعل ناسخ، وكان التالي (النهار موجود) وهو قضية حملية؛ لأنه مبتدأ وخبر، مع أن الحكم بوجود النهار معلق على طلوع الشمس، وكل قضية كان الحكم فيها معلقًا [و] (1) كانت ينحل طرفاها إلى جملتين فهي القضية الشرطية.

وكذلك لو قلت: (العدد إما زوج وإما فرد) فهذه شرطية منفصلة، فلو زالت أداة العناد بين طرفيها وهي لفظة (إما) صار الطرف الأول (العدد زوج) والطرف الثاني (العدد فرد)، وكلاهما قضية حملية.

ووجه تعليق الحكم في المنفصلة أن كون العدد -مثلًا- زوجًا [معلقٌ] (2) على نفي الفردية عنه، كعكسه.

واعلم أن القضية الشرطية تنقسم بالتقسيم الأول إلى قسمين:

أحدهما: الشرطية المتصلة، والثاني: الشرطية المنفصلة.

وإيضاح كل واحدة منهما أن الشرطية المتصلة هي التي يجتمع طرفاها في الوجود، ويجتمعان في العدم، بمعنى أنهما يجوز عدمُهما معًا، ويجوز وجودُهما معًا، واجتماعهما في الوجود واجتماعهما في

__________

(1) ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.

(2) في المطبوع: (معلقًا).

(1/67)

________________________________________

العدم (1) هو معنى الاتصال، فسميت متصلة لاتصال طرفيها في كونهما موجودين، واتصالهما في كونهما معدومين.

فقولك: (لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا) يجتمع طرفاها في الوجود: فتكون الشمسُ طالعةً والنهارُ موجودًا، ويجتمعان في العدم: فتكون الشمسُ ليست بطالية والنهارُ ليس بموجود، كما يقع في زمن الليل، واجتماعهما في الوجود والعدم هو (2) معنى الاتصال الذي سميت بسببه متصلة.

واعلم أن الشرطية المتصلة تنقسم إلى قسمين وهما: الشرطية المتصلة اللزومية، والشرطية المتصلة الاتفاقية، وتحقيق الفرق بينهما لا يستغني عنه طالب علم.

وقد ارتبك خلق كثير من أهل العلم في تحقيق معنى الشرط والجزاء في نحو (لو لم يخف الله لم يعصه) (3) ونحوها من القضايا؛ بسبب عدم الفرق بين اللزومية والاتفاقيه، ولو فرقوا بينهما لم [يرتبكوا] (4).

وإيضاح الفرق بينهما هو أن اللزومية لا بد أن يكون اتصال مقدَّمها

__________

(1) بعدها في المطبوع: زيادة (هو العدم)، ولا معنى لها.

(2) (هو) مكررة في المطبوع.

(3) هذه الجملة قطعة من حديث لا أصل له اشتهر على ألسنة الأصوليين وغيرهم ونصه (نعم العبد صهيب؛ لو لم يخف الله لم يعصه)، ورُوي أيضًا في حق سالم مولى أبي حذيفة، انظر كشف الخفاء (2/ 323).

(4) في المطبوع: (يرتكبوا).

(1/68)

________________________________________

بتاليها في الوجود والعدم لموجب يقتضي ذلك، ككون أحدِهما سببًا للآخر والآخرِ مُسَبَّبًا له، أو كوَن أحدِهما ملزومًا للآخر والآخِر لازمًا له، وبذلك الموجِب المقتضي للارتباط بينهما في الوجود والعدم سميت لزومية.

وسواء كان ذلك الارتباط بينهما المذكور عقليًّا أو شرعيًّا أو عاديًا.

ومثال العقلي عندهم (كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانًا)؛ لأن الحيوان عندهم جزء الإنسان الذي هو أعم منه. والعقل يمنع انفكاك الكل عن جزئه، فكونه إنسانًا ملزوم لكونه حيوانًا وكونه حيوانًا لازم لكونه إنسانًا، وذلك اللزوم عقلي.

ومثال الشرعي قولك: (كلما زالت الشمس وجبت صلاة الظهر)، و (كلما وُجد شهر رمضان وجب الصوم)؛ لأن كلًّا من زوال الشمس ووجودِ رمضانَ سبب شرعي للعبادة المذكورة من صلاة أو صيام.

ومثال العادي قولك: (كلما لم يكن ماء لم يكن نبات)؛ لأن الله أجرى العادة بأن وجود الماء سببٌ لوجود النبات، وعدمَه سبب لعدمه.

وأما الشرطية المتصلة الاتفاقية فضابطها أنها لا ربط بين مقدَّمها وتاليها، أي لا علاقة بينهما أصلًا، لا عقلًا ولا شرعًا ولا عادة، ولكن اتفق في الخارج أنّ صِدْق كل منهما مع صدْق الأخرى، أي اجتمعا في الوجود، مع أنه لا أَثر لنفي أحدهما -لو فرض- في نفي الآخر ولا

(1/69)

________________________________________

عدمه؛ إذ لا علاقة بينهما أصلًا، كقولك: (كلما كانت الشمس طالعة كان الإنسان ناطقًا)، فلا علاقة أصلًا بين طلوع الشمس وبين نطق الإنسان.

ومن أمثلتها في القرآن قوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]؛ لأن كينونتهم في بيوتهم وبروزَهم إلى مضاجعهم لا علاقة بينهما، ولا يستلزم أحدُهما الآخرَ ولا عدمَه.

وكقوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]؛ لأن كون البحر مدادًا لها لا علاقة له بنفادها ولا عدمِه.

وكقوله -تعالى-: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]، لأن دعاءه إياهم إلى الهدى لا علاقة بينه وبين عدم اهتدائهم.

ومن هذا القبيل قولهم: (لو لم يخف الله لم يعصه)؛ لأن عدم خوفه من الله لا أثر له في عدم عصيانه. بل قد يكون سببًا لعصيانه فيما يظهر للناظر.

وقد نبهنا في كتابنا (أضواء البيان) (1) على غلط الزمخشري (2)

__________

(1) (4/ 161 - 163).

(2) أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الخُوارَزمي، صاحب "الكشاف" في التفسير، و"المفصّل" في النحو، كان رأسا في العربية والبلاغة والاعتزال، =

(1/70)

________________________________________

وأبي حيان (1) في آية {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} فقد ظنا هذه الشرطية في هذه الآية لزومية؛ حيث زعما أنه جُعل فيها سبب عدم اهتدائهم هو دعوته لهم إلى الهدى. والمعنى أن الكفار عندهما جعلوا ما يكون سببًا للاهتداء سببًا لانتفائه، وكل ذلك غلط؛ لأن الشرطية المذكورة في الآية اتفاقية، لا ربط أصلًا بين مقدَّمها وتاليها.

واعلم أن الشرط الحقيقي في الاتفاقية ليس هو المذكورَ مع الجزاء، بل سبب الجزاء شيء آخرُ غيرُ مذكور معه في الشرطية المذكورة.

كقولهم (لو لم يخف الله لم يعصه) فعدم العصيان الذي هو الجزاء في مثل هذا المثل سببه غير مذكور معه، فليس سببُه عدمَ الخوف الذي هو الشرط في المثال المذكور، ولكنه شيء آخرُ لم يذكر، وهو تعظيمه لله ومحبته له المانعةُ من معصيته له، ولو لم يكن خائفًا.

وكذلك قوله -تعالى-: {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} سببه الحقيقي غير مذكور معه، فليس هو قولَه: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، بل سببه هو إرادة الله -تعالى- عدمَ اهتدائهم، على وفق ما سبق في علمه أزلا.

__________

= توفي سنة 538 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (20/ 151 - 155).

(1) هو رأس العربية في زمانه، محمد بن يوسف بن علي، النفزي، الأندلسي، صاحب "البحر المحيط" في التفسير، توفي سنة 745 هـ. انظر "معرفة القراء الكبار" للذهبي (2/ 723).

(1/71)

________________________________________

وكذلك قوله -تعالى-: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}، لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخرُ غيرُ مذكور في الآية، وهكذا.

ومن الأسباب المستوجبة لكون الشرطية اتفاقيةً هو رفع ما يحصل في الوهم من المنافاة بين قضيتين، فيبين بالمتصلة الاتفاقية أنهما لا منافاة بينهما، فالكفار مثلًا كانوا يتوهمون أن كينونتهم في بيوتهم تنافي بروزهم إلى مضاجعهم، ويظنون أنها تنجيهم من القتل، كما ذكر -تعالى- عنهم بقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] (1)، فبين -تعالى- عدم المنافاة بين بقائهم في بيوتهم وبين بروزهم إلى مضاجعهم التي كتب عليهم أن يقتلوا فيها، وهكذا.

تنبيهات:

الأول: اعلم أن التحقيق أن الصدق والكذب في الشرطية المتصلة إنما يكون بحسب صحة الربط بين المقدم والتالي وعدم صحته، فإن كان الربط صحيحًا كانت صادقة، وإن كان الربط غير صحيح كانت كاذبة، ومن أجل أن الصدق والكذب إنما يتواردان على الربط بين المقدَّم والتالي يصح أن تكون صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط.

__________

(1) وقوله -تعالى-: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156].

(1/72)

________________________________________

فقوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، شرطية متصلة لزومية في غاية الصدق، مع أنك لو أزلت أداة الربط بين طرفيها كان كل من الطرفين قضيةً كاذبة، فيصير الطرف الأول عند إزالة الربط: {كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ} وهذه قضية كاذبة، سبحانه وتعالى عن أن يكون معه إله علوًا كبيرًا، ويصير الطرف الثاني في المثال المذكور (فسدتا) أي السموات والأرض، وهي أيضًا قضية كاذبة.

وكقولك: (لو كان زيد حجرًا لكان جمادًا)، فهذه لزومية صادقة مع كذب الطرفين، لأن زيدًا لم يكن حجرًا ولم يكن جمادًا.

وقال بعض أهل العلم: إن مورد الصدق والكذب في الشرطية المتصلة هو التالي فقط الذي هو الجزاء، فهو المحتمل للصدق والكذب عندهم. والشرط الذي هو المقدم قيد فيه، وزعموا أن هذا قول أهل العربية.

والصواب فيما يظهر أن أهل اللغة موافقون للمنطقيين في أن الصدق والكذب في الشرطية المذكورة إنما يتواردان على الربط بين طرفيها؛ لصدقها مع كذب الطرفين كما مثّلنا، ولصدقها أيضًا مع كذب أحدهما وصدق الآخر لو أزيل الربط، [كقولك] (1): (لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت)، فهذه شرطية صادقة، وتاليها الذي هو (ما نجا من الموت) صادق، ومقدّمها الذي هو كونه في السماء كاذب.

التنبية الثاني: اعلم أن الطرف الأول من طرفي الشرطية يسمى

__________

(1) في المطبوع: (كقوله)، وهو خلاف ما جرى عليه المؤلف في سائر الأمثلة.

(1/73)

________________________________________

مقدَّمًا، والثاني يسمى تاليًا. وهذا في المتصلة لا خلاف فيه.

وقيل في المنفصلة أيضًا كذلك، وقيل لا يسمى جزآها مقدَّمًا وتاليًا؛ لأنها لم يكن أحد طرفيها مرتبًا على الآخر، فالتقديم والتأخير فيها موكول إلى اختيار المتكلم.

فلو قلت: (العدد إما زوج وإما فرد) فلا فرق بين ذلك وبين قولك: (العدد إما فرد وإما زوج)، فلك أن تقدم من الطرفين ما شئت وتؤخره.

بخلاف المتصلة؛ فإنه لو أُخِّر المقدمُ لم تصدق لزومًا، ولو صدقت في بعض الصور لخصوص المادة (1).

فقولك: (لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا) صحيح، ولو عكست فقلت: (لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانا) كان كاذبًا. فتبين أن كونه إنسانًا مقدم، وكونه حيوانًا تالٍ على الحقيقة. بخلاف المنفصلة كما مثلنا.

التنبيه الثالث: اعلم أنه تأتي في اللغة العربية قضايا على هيئة الشرطية المتصلة وهي مقبولة في اللغة العربية، بل معدودة من بديعها المعنوي عند أهلها، مع أن الربط بين طرفيها كاذب؛ وذلك لسر آخر من أسرار العربية، لا يجري مثله في فن المنطق.

__________

(1) كقولك: (لو كان هذا إنسانًا لكان ناطقًا) (لو كان هذا ناطقًا لكان إنسانًا)؛ لأن النسبة بين الإنسان والناطق هي التساوي.

(1/74)

________________________________________

فقول نابغة ذبيان (1):

ولو أنها عرضَتْ لأشمطَ راهبٍ ... عَبَدَ الإلهَ صرورةٍ مُتعبّدِ

لرنا لبهجتها وحُسْنِ حديثها ... ولخالهُ رشَدًا وإن لم يرشُدِ

فيُستبعد صدق الشرطية فيه؛ فكون عروض المرأة للأشمط الراهب العابد يستوجب رُنُوَّه إليها وغيبوبته عن رشده وعبادته مستبعد الوقوع، وإن كان غير مستحيل عقلًا ولا عادة.

وقول قيس بن الملوّح (2):

ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ... ومن دون رَمْسَينا من الأرض [سبسبُ (3)]

لظل صدى صوتي وإن كنت رِمّة ... لصوت صدى ليلى يَهَشُّ ويطربُ

يستحيل عادة صدق الشرطية فيه، وإن أمكن عقلًا.

وإنما ساغ نحو هذا في اللغة لأنه نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى المبالغة.

وهي في اصطلاح البلاغيين (أن يُدَّعى لوصفٍ بلوغُه في الشدة أو الضعف حدًّا مستبعدًا أو مستحيلًا؛ لئلا يُظن أنه غير مُتَناهٍ فيه)، وهي ثلاثة أنواع:

__________

(1) ديوانه ص 95، 96، دار المعارف.

(2) ديوانه ص 12، دار الفكر العربي.

(3) في المطبوع: سبب.

(1/75)

________________________________________

الأول: نوع مستبعد الوقوع، ولكنه لا يمنعه العقل ولا العادة، كالشرطية في بيتي نابغة ذبيان المذكورَين.

وهذا النوع من أنواع المبالغة هو المعروف عندهم بالتبليغ، وإنما ساغ مع عدم صدقه للغرض المذكور في قولهم: (لئلا يُظن أنه غير متناه فيه).

النوع الثاني: هو المستحيل عادة وإن كان يجوز عقلًا. ومن أمثلته الشرطية في بيتي قيس بن الملوّح المذكورَين، لأن طرب صدى صوته بعد الموت لصدى صوت ليلى تُحيله العادة وإن أمكن عقلًا، وإنما جاز مع عدم صدقه للغرض المذكور، وهذا النوع من أنواع المبالغة هو المعروف عندهم بالإغراق.

النوع الثالث: ما استحال عقلًا وعادة، وهو المعروف بالغلو، وأمثلته والتفصيلُ بين المقبول منه وغير المقبول معروفةٌ في البديع من فن البلاغة، ولسنا نريد تفاصيل ذلك هنا، وقد فصلناها في رسالتنا في منع المجاز في القرآن (1).

وأما الشرطية المنفصلة فضابطها أنها لا بد أن يكون بين طرفيها عناد في الجملة.

واعلم أن المراد بالعناد هنا والتنافرِ شيء واحد، وهو تنافي الطرفين، واستحالةُ اجتماعهما، والعناد المذكور بين الطرفين هو

__________

(1) عنوانها: (منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز)، وانظر عن المبالغة العمدة لابن رشيق القيرواني (2/ 658 - 681)، الخانجي 1420 هـ.

(1/76)

________________________________________

معنى كونها منفصلة.

والتقسيم العقلي الصحيح يحصر العناد المذكور في ثلاثة أقسام لا رابع لها:

الأول: أن يكون في الوجود والعدم معًا.

الثاني: أن يكون في الوجود فقط.

الثالث: أن يكون في العدم فقط.

فإن كان العناد بين طرفيها في الوجود والعدم معًا، بمعنى أن طرفيها لا يمكن اجتماعهما في الوجود ولا في العدم، فلا يوجدان معًا ولا يُعدمان معًا، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، فهي المعروفة بالشرطية المنفصلة الحقيقية، وتسمى مانعةَ الجمع والخُلُوِّ معًا، ولا تتركب إلا من النقيضين، أو من الشيء ومساوي نقيضه، ومثالها في النقيضين قولك: (العدد إما زوج أو ليس بزوج)، ومثالها في الشيء ومساوي نقيضه: (العدد إما زوج وإما فرد)؛ لأن لفظة (فرد) مساوية لـ (ليس بزوج)، وهي نقيض (العدد زوج).

وإن كان العناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع [المجوِّزة] (1) للخلو، ولا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، كقولك: (الجسم إما أبيض وإما أسود)، فهذه شرطية منفصلة مانعة جمع؛ لأنه يستحيل اجتماع طرفيها في الوجود، بأن يكون الجسم

__________

(1) في المطبوع: (المحجوزة).

(1/77)

________________________________________

الواحد أبيض أسود في وقت واحد من جهة واحدة، ولكنها تُجوِّز الخُلُوَّ من الطرفين؛ لأنها لا عناد بين طرفيها في العدم، فيجوز أن يكون الجسم غير أبيض وغير أسود؛ لكونه أحمر وأصفر مثلًا. وجواز عدم طرفيها معًا هو معنى [كونها] (1) لا عناد بين طرفيها في العدم، بل هما مصطحبان فيه، لانعدام كليهما.

وإن كان العناد بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو [المجوِّزةُ] (2) للجمع، عكسَ التي قبلها، ولا تتركب إلا من قضية وأعمَّ من نقيضها، كقولك: (الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود)، فهذه شرطية منفصلة مانعةُ خلُوّ مجوِّزةُ جمع، فلا يمكن اجتماع طرفيها في العدم البتة، ولكن يمكن اجتماعهما في الوجود؛ إذ لا عناد بينهما في الوجود، وإنما العناد بينهما في العدم.

فطرفا هذه المنفصلة اللذان هما (غير أبيض) و (غير أسود) يجوز اجتماعهما في الوجود فنقول: (هذا الجسم غير أبيض وغير أسود)، وأنت صادق؛ لكونه أحمرًا أو أصفرًا مثلًا.

ولكن لا يمكن اجتماعهما في العدم بحال، بل إذا عُدم أحدُهما لزم وجود الآخر ضرورة؛ لأنك لو حكمتَ بنفي (غير الأبيض) فقد جزمت بأنه أبيض؛ لأن نفي النفي إثبات، وإذا جزمت بأنه أبيضُ لزم ضرورةً حصولُ الطرف الثاني الذي هو (غير أسود)؛ لأن الأبيض غير

__________

(1) في المطبوع: (كونهما)، والصواب ما أثبته.

(2) في المطبوع: (المحجوزة)، والصواب ما اثبته.

(1/78)

________________________________________

أسود قطعًا كما هو ضرورة.

وإذا علمت مما ذكرنا أن القضية تنقسم إلى حملية وشرطية بالتقسيم الأول، وأنّ الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة، وأن المتصلة تنقسم إلى لزومية واتفاقية، وأن المنفصلة تنقسم إلى [حقيقية] (1) مانعة جمع وخلو معًا، ومانعةِ جمع مجوّزة خلو، ومانعة خلو مجوّزة جمع، وعرفت أنّا بيّنا كل قسم بأمثلته، فاعلم أنا أردنا هنا أن نقتصر على ما لا بد منه في علم المناظرة، فلم نذكر الرابطة؛ لعدم الاحتياج لها في اللغة العربية، للاكتفاء عنها بالاشتقاق والإضافة مثلًا. ولم نتعرض للجهة، ولا للقضايا [الموجّهة] (2)، ولا لمنحرفات السور، ولا للحقيقيات والخارجيات (3)، ولا للمحصَّلات والمعدولات (4)، إلى غير ذلك من أحكام القضايا، ولكنّا أردنا هنا أن نبين ما لا بد للمناظرة منه، وهو ثلاثة أشياء، وبها ينتهي بحثنا في مبادئ التصديقات:

الأول: تقسيم القضايا باعتبار الكم والكيف خاصة.

الثاني: العكس.

الثالث: التناقض.

__________

(1) في المطبوع: (حقيقة)، والصواب ما أثبته.

(2) في المطبوع: (الموجبة)، والصواب ما أثبته، والقضايا الموجهة يأتي التعريف بها ص 95.

(3) يأتي التعريف بها في القسم الثاني ص 173 - 176.

(4) يأتي التعريف بها ص 96.

(1/79)

________________________________________

ثم نذكر مقاصد التصديقات، ثم نشرع في المقصود من آداب البحث والمناظرة.

(1/80)

________________________________________

 [فصل في تقسيم القضايا باعتبار الكم والكيف] (1)

اعلم أولًا أن الكَمَّ في الاصطلاح هو: الكلية والجزئية. وقد أوضحنا فيما سبق (2) أن الكلية هي الحكم بالمحمول على كل فرد من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان، إيجابًا أو سلبًا، وأن الجزئية هي الحكم بالمحمول على بعض أفراد الموضوع لا كلها، إيجابًا أو سلبًا. خلافا للسَّنوسي (3) في مختصره؛ فقد غلط في هذا الموضع.

والمراد بالكيف في الاصطلاح هو: الإيجاب والسلب، وهما الإثبات والنفي.

واعلم أن السور في الاصطلاح هو "اللفظ الدال على الإحاطة بجميع الأفراد أو بعضها إيجابًا أو سلبًا"، فأقسامه أربعة:

الأول: سور كلي إيجابي، نحو: (كل) و (عامة) ونحوهما.

الثاني: سور كلي سلبي، نحو (لا شيء) و (لا واحد) ونحوهما.

الثالث: سور جزئي إيجابي، نحو (بعض).

الرابع: سور جزئي سلبي، نحو: (بعض ليس). و (ليس بعض).

وإذا عرفت هذا فاعلم أن القضية الحملية لا بد لموضوعها من أحد

__________

(1) ليس في المطبوع والسياق يقتضيه.

(2) ص 34، 37.

(3) محمد بن يوسف بن عمر السّنوسي، التلمساني، له "مختصر في علم المنطق" مطبوع، توفي سنة 895 هـ، انظر الأعلام للزركلي (7/ 154).

(1/81)

________________________________________

أمرين: إما أن يكون جزئيًّا، وإما أن يكون كليًّا.

وإن كان موضوعها كليًّا فله خمس حالات:

الأولى: أن يسوّر بسور كلي إيجابي.

الثانية: أن يسور بسور كلي سلبي.

الثالثة: أن يسور بسور جزئي إيجابي.

الرابعة: أن يسور بسور جزئي سلبي.

الخامسة: أن يهمل من السور، وهذه الخامسة بمنزلة الجزئية.

فأقسام ما موضوعُها كلّيٌ أربعة في الحقيقة؛ لأن المهملة في قوة الجزئية.

وإن كان موضوعها جزئيًّا فهي التي تسمى شخصية ومخصوصة، ولها حالتان؛ لأنها تكون موجبة نحو (زيد قائم) و (هند جميلة)، وسالبةً نحو (زيد ليس بقائم) و (هند ليست بجميلة).

فتحصّل أن الحملية باعتبار الكيف والكم ستة أقسام:

1 - الأول: كلية موجبة، نحو (كل إنسان حيوان) و (جميع الإنسان حيوان)، و (عامة الإنسان حيوان)، ونحو ذلك.

2 - الثاني: كلية سالبة، نحو (لا شيء من الإنسان بحجر)، والا واحد من الإنسان بفرس)، ونحو ذلك.

3 - الثالث: جزئية موجبة، نحو (بعض الحيوان إنسان).

(1/82)

________________________________________

4 - الرابع: جزئية سالبة، نحو (بعض الحيوان ليس بإنسان).

5 - الخامس: شخصية موجبة، نحو (زيد قائم).

6 - السادس: [شخصية] (1) سالبة: نحو (زيد ليس بقائم).

تنبيهات:

الأول: اعلم أنه جرى عرف المنطقيين في التقسيم المذكور أن القضايا باعتبار الكم والكيف ثمانية؛ لأنهم يزيدون على الستة التي ذكرنا المهملة الموجبة، نحو (الإنسان حيوان)، والمهملة السالبة نحو (ليس الحيوان بإنسان)، وإنما جعلناها ستة لا ثمانية لأن المهملة في قوة الجزئية، لا قسمٌ زائد عليها، فصارت القضايا باعتبار الكم والكيف ستًّا على التحقيق كما ذكرنا.

التنبيه الثاني: وهو مهم جدًّا، وهو أن تعلم أن المراد بالموضوع منافٍ للمراد [بالمحمول] (2) في القضية الحملية؛ لأن المراد بالموضوع جميع أفراده الخارجيةِ الداخلةِ تحت العنوان (3)، سواء اعتبرنا الوجود الخارجي؛ لكونها خارجية، أو اعتبرنا تقدير الوجود؛ لكونها [حقيقية] (4)، ولا يراد بالموضوع القدر المشترك، الذي هو

__________

(1) في المطبوع: (شخية).

(2) في المطبوع: (بالمحصول).

(3) العنوان هو اللفظ الدالّ على الموضوع، انظر ما يأتي ص 172.

(4) في المطبوع: (حقيقة)، وانظر التعريف بالقضايا الحقيقية والخارجية ص 172 - 175.

(1/83)

________________________________________

المعنى الذهني، بخلاف المحمول؛ فإنه لا يقصد به الأفراد الخارجية، وإنما يراد به مطلق الماهية الذهنية، التي هي القدر المشترك بين الأفراد.

فقولك: (كل إنسان حيوان) قضية حملية، موضوعها (الإنسان)، ومحمولها (الحيوان)، فالموضوع الذي [هو] (1) (الإنسان) يراد به أفراده الداخلة في لفظه، فكل فرد من أفراد (الإنسان) محكوم عليه بأنه (حيوان)، بخلاف المحمول الذي هو (الحيوان) في هذا المثال؛ فإنما يراد به معناه الذهني، الذي هو القدر المشترك بين أفراده، ولا يجوز أن تقصد أفراده؛ لأنك لو قصدت أفراد الحيوان كالفرس والبغل كنت حاكمًا على الإنسان بأنه فرس أو بغل، وقد قدمنا أن الحكم على المباين بمباينه إيجابًا أنه كاذب (2).

أو الحكمَ (3) على [الشيء] (4) بنفسه، وهو تحصيل الحاصل، إن قصدت بالحيوان المحمول على (الإنسان) الإنسان.

وإن قصدت بالموضوع القدر المشترك، الذي هو الحقيقة الذهنية، سُمّيتْ القضية طبيعية، كقولك: (الحيوان جنس)، و (الإنسان نوع)، وهكذا.

__________

(1) ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.

(2) راجع ص 39.

(3) المعنى: أو كنت حاكما الحكمَ على الشيء بنفسه.

(4) في المطبوع: (السلبي).

(1/84)

________________________________________

التنبيه الثالث: اعلم أن السور الذي هو لفظة (كل) أو (بعض) ونحوهما ليس هو الموضوع، وإنما هو بيان للقدْر المحكوم عليه من أفراد الموضوع، فقولك: (كل إنسان حيوان) أو (بعض الإنسان حيوان) الموضوع فيها المضاف إليه، الذي هو (الإنسان)، وأما السور الذي هو لفظة (كل) أو (بعض) وإن أُعربت مبتدأ فليست هي [الموضوع] (1)، وإنما هي لفظ مبيّن للكمّية المحكوم عليها من أفراد الموضوع: هل هي جميعها أو بعضها؟ .

التنبيه الرابع: اعلم أن السور بأقسامه الأربعة يدخل على الشرطيات المتصلة والمنفصلة.

فمثال الشرطية المتصلة المسوّرة بسور كلي إيجابي قولك: (كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانا) و (مهما كان الشيء مفتقرًا في وجوده للفاعل فهو مخلوق)، و ([متى] (2) كان مخلوقًا فلا بد له من خالق).

فـ (كلما) و (مهما) و (متى) ونحوُها سور كلي إيجابي للشرطية المتصلة.

ومثال السور الإيجابي الكلي للشرطية المنفصلة (دائمًا) وما في معناها، كقولك: (دائمًا إما أن يكون العدد زوجًا أو ليس بزوج)، و (دائمًا إما أن يكون الشيء غنيا عن الخالق وإما أن يكون مخلوقًا).

ومثال السور الكلي السلبي للمتصلة والمنفصلة معا (ليس البتة).

__________

(1) في المطبوع: (السور)، وهي خطأ كما هو ظاهر من السياق.

(2) في المطبوع: (من)، وهي خطأ كما هو ظاهر من السياق.

(1/85)

________________________________________

ومثاله في المتصلة (ليس البتة إذا كان الشيء إنسانًا كان حجرًا). ومثاله في المنفصلة (ليس البتة إما أن يكون الشيء أبيض وإما أن يكون باردًا)؛ لأن الصدق فيها بحسب صدق العناد، وهو هنا كاذب؛ إذ لا عناد بين البياض والبرودة؛ لأن تباينهما تباينُ مخالفة، فيجوز اجتماعهما كالواقع في الثلج.

ومثال السور الجزئي الإيجابي للمتصلة والمنفصلة معًا: (قد يكون).

كقولك في المتصلة: (قد يكون إذا كان الشيء حيوانًا كان إنسانًا).

وكقولك في المنفصلة: (قد يكون إما أن يكون الشيء حيوانًا وإما أن يكون فرسًا)؛ لأنه في حال كون الحيوان غير الفرس يصح العناد، وباعتبار صدق الحيوان على الفرس يبطل العناد، فصح أن صدق العناد جزئي.

ومثال السور الجزئي السلبي لهما معًا (قد لا يكون)، وللمتصلة فقط (ليس كلما)، وللمنفصلة فقط (ليس دائمًا).

فنقول في المتصلة: (قد لا يكون إذا كان هذا حيوانًا كان إنسانًا).

وتقول في المنفصلة: (قد لا يكون إما أن يكون الشيء حيوانًا وإما أن يكون إنسانًا)؛ لأنه في بعض الأحوال يكون جامعًا بين كونه إنسانًا وحيوانًا، فلا عناد.

(1/86)

________________________________________

وتقول في المتصلة: (ليس كلما كان الشيء حيوانًا كان فرسًا).

وفي المنفصلة: (ليس دائمًا إما أن يكون الشيء حيوانًا وإما أن يكون فرسًا).

والشرطية المهملة هي التي تَجرّدَ ربطها أو عنادها عن جميع الأسوار.

ومثالها متصلة: (إنْ كان هذا حيوانًا كان إنسانًا).

ومثالها منفصلة: (إما أن يكون هذا حيوانًا وإما أن يكون فراسًا).

والمهملة في قوة الجزئية كما تقدم.

وأما الشرطية المخصوصة: فهي الشرطية التي حُكم فيها على وضع معين من الأوضاع الممكنة، أي: حالٍ من الأحوال الممكنة.

ومثالها متصلة: (إن جئتني الآن أكرمتك)، فتخصيص ربطها بالوقت الحاضر دون غيره من الأزمنة صيّرها مخصوصة.

ومثالها منفصلة: (زيد الآن إما كاتب أو غير كاتب).

فتبين بما ذكرنا أن الشرطية كالحملية؛ تنقسم إلى مخصوصة وكلية وجزئية ومهملة. وكل واحدة منها تكون موجبة أو سالبة، فالأقسام ثمانية، وهي في الحقيقة ستة؛ لأن المهملة السالبة والمهملة الموجبة راجعتان إلى الجزئية، لأنها في قوتها، فتصير الأقسام في الحقيقة ستة كما تقدم.

واعلم أن شمول الكلية الحملية إنما هو للأفراد الداخلة تحت لفظ

(1/87)

________________________________________

الموضوع، وشمولَ الجزئية الحملية إنما هو لبعض الأفراد المذكورة، وأما الشرطية الكلية فشمولها بحسب الأوضاع والأحوال لا الأفراد، وكذلك الشرطية الجزئية، فشمولها لبعض الأوضاع والأحوال لا الأفراد، وقد قدمنا أمثلة الجميع.

(1/88)

________________________________________

 فصل في التناقض

وهو في اللغة: "كون شيئين ينقض كل واحد منهما الآخر".

وفي الاصطلاح: هو "اختلاف قضيتين في الكيف -أعني السلب والإيجاب- على وجه يلزم منه أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة"، فإن كذبتا معًا أو صدقتا معا فلا تناقض.

وقد علمتَ مما مرّ أن القضايا أربع: شخصية، ومهملة، وكلية، وجزئية، وأن المهملة في قوة الجزئية، فهي في الحقيقة ثلاث.

أما تناقض الشخصية فلا يحتاج إلا إلى تبديل الكيف فقط، فنقيض الشخصية الموجبة شخصية سالبة، كعكسه، فقولك: (زيد قائم) نقيض (زيد ليس بقائم). و (زيد ليس بقائم) نقيضه (زيد قائم).

وإن كانت مسورة فإنها يلزم تبديل أكَمّها، (1) مع تبديل كيفها، فنقيض الكلية الموجبة نحوَ (كل إنسان حيوان) جزئيةٌ سالبة، وهي (بعض الإنسان ليس بحيوان) كعكسه، ونقيض الكلية السالبة نحو (لا شيء من الإنسان بحجر)، جزئية موجبة، وهي (بعض الإنسان حجر)، كعكسه.

والمهملة في قوة الجزئية، فإن كانت مهملة موجبة فنقيضها سالبة كلية، وإن كانت مهملة سالبة فنقيضها كلية موجبة كما هو واضح.

فظهر أن الاختلاف في الكيف بين القضيتين لا بد منه في التناقض.

__________

(1) في المطبوع: (كمهما)، والصواب ما أثبته.

(1/89)

________________________________________

وأن تبديل السور الكلي بالجزئي كعكسه أيضًا لا بد منه في المسورات؛ لأن السور الكلي إذا لم يبدل بالجزئي ولم يبدل الجزئي بالكلي جاز صدقهما معًا وكذبهما معًا فيما إذا كان المحمول أخص من الموضوع.

فلو قلت: (كل حيوان إنسان) و (لا شيء من الحيوان بإنسان) فهما كليتان كاذبتان؛ لعدم تبديل الكم.

وكذلك لو قلت: (بعض الحيوان إنسان) و (بعض الحيوان ليس بإنسان) فهما جزئيتان صادقتان؛ لعدم تبديل الكم، وقد عرفت أن لا تناقض بين كاذبتين، ولا بين صادقتين.

واعلم أن المنطقيين يقولون: إنه يشترط لتحقيق التناقض بين القضيتين الاتحاد في تسعة أمور:

الأول: اتحاد المحمول، فلو اختلف جاز كذبهما وصدقهما، كقولك: (زيد ضاحك) (زيد ليس بكاتب).

الثاني: اتحاد الموضوع، فلو اختلف جاز صدقهما وكذبهما، كقولك: (زيد عالم) و (عمرو ليس بعالم).

الثالث: اتحاد الزمان، فإن اختلف الزمان جاز صدقهما وكذبهما، كقولك: (النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس) (النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل إلى بيت المقدس)، فإن قصدت بالأول ما قبل النسخ وبالثاني ما بعده صدقتا، وإن عكسْت كذبتا.

الرابع: اتحاد المكان، فإن اختلف جاز صدقهما وكذبهما، كقولك: (زيد صلى) تعني في المسجد، (زيد لم يصل) تعني في

(1/90)

________________________________________

الدار.

الخامس: الفعل والقوة، فإن قُصد بإحدى القضيتين الفعل وبالأخرى القوة جاز صدقهما وكذبهما، كقولك: (الخمر في الدن مسكرة)، تعني بالقوة، و (الخمر في الدن ليست بمسكرة) تعني بالفعل، فهما صادقتان، ولو عكست في القصد لكانتا كاذبتين.

السادس: الكل والبعض، فإن اختلفا في الكل والبعض جاز صدقهما وكذبهما، كقولك: (الزنجي أبيض) تعني بعضه، وهو أسنانُه وبياض عينيه، (الزنجي ليس بأبيض) تعني سائر بدنه.

السابع: الإضافة، فإن اختلفا في الإضافة جاز كذبهما وصدقهما، كقولك (زيد أب) و (زيد ليس بأب)، تعني بالأول أنه أبٌ لعمرو، وبالثاني أنه ليس أبًا لبكر.

الثامن: الشرط، فإن اختلفا في الشرط جاز كذبهما وصدقهما، كقولك: (زيد يدخل الجنة) و (زيد لا يدخل الجنة)، تعني بالأول بشرط موته على الإيمان، وبالثاني بشرط موته على الكفر.

التاسع: اتحادهما في التحصيل والعدول (1)، فإن كانت إحداهما

__________

(1) التحصيل هو سلامة طرفي القضية -الموضوع والمحمول- من تسلط السلب عليه، ولو مع نفي النسبة، فقولك: (زيد كاتب) محصَّلة موجبة، وقولك: (زيد ليس بكاتب) محصلة سالبة، أما العدول فيكون بتسلط السلب على الموضوع أو المحمول أو كليهما، فقولك: (زيد هو غير كاتب) معدولة المحمول موجبة، وقولك: (زيد ليس هو غير كاتب) معدولة المحمول =

(1/91)

________________________________________

محصَّلة والأخرى معدولة لم [تتناقضا] (1)، لصدق السالبة المحصلة مع صدق الموجبة المعدولة، كما هو معروف في محله، وكذلك تصدق المحصلة الموجبة مع صدق السالبة المعدولة، هكذا يقولون.

والتحقيق أن التناقض بين القضيتين يتحقق بالوحدة في شيء واحد، وهو النسبة الحكمية، بأن تكون النسبة المثبتة هي بعينها النسبة المنفية.

تنبيهان مهمان:

الأول: اعلم أن ماذكرنا هنا من أنه يشترط في التناقض بين النقيضين اتحاد الزمان أمر حق صحيح لا شك فيه، وبه يظهر غلط جماهير علماء الأصول في قولهم: إن المتواترات لا تُنسخ بأخَبار الآحاد الثابتِ تأخرُها عنها، مع أن خبر الواحد المتأخر عن المتواتر لا يناقضه، لاختلاف زمنهما، وكلاهما حق في وقته.

فقوله -تعالى-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} الآية [الأنعام / 145]، إذا أُنزل بعده بأكثرَ من سبع سنينَ تحريمُ الحمر الأهلية بخيبر مثلًا، فلا يكون تحريم الحمر الطارئُ بعد الآية بسنينَ مناقضا لها، لأنها وقتَ نزولها لم يكن محرما إلا ما ذُكر فيها من المحرمات الأربعة، وتحريم الحمر طارئ بعد ذلك، فالآية صادقة في وقتها،

__________

= سالبة، وقولك: (غير زيد كاتب) معدولة الموضوع، وقولك: (غير زيد هو غير كاتب معدولة الطرفين. انظر البصائر النصيرية ص 97، وانظر كلام المؤلف في ذلك في القسم الثاني من هذا الكتاب ص 282.

(1) في المطبوع: (يتناقضا).

(1/92)

________________________________________

وأحاديث تحريم الحمر الأهلية صادقة في وقتها.

فتبين أن التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز نسخ المتواتر بأخبار الآحاد الثابتِ تأخرُها عنه؛ لعدم المنافاة مع اختلاف الزمن. وقد أوضحنا هذا في كتابنا "أضواء البيان" في سورة الأنعام، في الكلام على قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145].

وقد غلط في هذه المسألة جماهير علماء الأصول، مع كثرتهم وجلالتهم في العلم والفهم، والعلمُ عند الله -تعالى-.

التنبيه الثاني: قد علمتَ مما ذكرنا في التناقض أن الكلية الموجبة يتحقق نقضها بالجزئية السالبة، وهذا في فن المنطق أمر معروف مطّرد لا نزاع فيه، ولكنْ مثلُه لا يتحقق به التناقض في فن الأصول؛ لأنه كمْ مِن نصٍ من كتاب أو سنة هو كلية موجبة، مع وجود نص آخرَ من كتاب أو سنة يتضمن جزئية سالبة، ووجه عدم التناقض بينهما أن الجزئية السالبة تكون مخصِّصة للكلية الموجبة، والتخصيص في الاصطلاح هو "قصر العام على بعض أفراده بدليل".

فقوله -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الألف واللام في (المطلقات) سواء قلنا: إنها موصولةٌ وصلتُها اسم المفعول المقترنُ بها، أو قلنا: إنها تعريفية؛ نظرًا إلى تناسي الوصفية، أو على رأي من يرى أنها تعريفية، فهو في قوة كلية موجبة هي (كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء).

(1/93)

________________________________________

وقوله في المطلقات الحوامل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض المطلقات لا يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، بل ينتظرن وضع حملِهنّ، فهذه الجزئية السالبة لم تناقض تلك الكلية الموجبة، بل هي مخصصة لعمومها.

وكذلك قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية [الأحزاب: 49]. فهو أيضًا في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض المطلقات لا يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)؛ لأنهن لا عدة عليهن أصلًا، وهن المطلقات قبل الدخول.

وكل المخصِّصات المنفصلة المعروفة في فن الأصول أمثلة لما ذكرنا، كقوله -تعالى-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه كلية موجبة؛ لأن لفظة (ما) في الآية صيغة عموم. فهو في قوة: وأحل لكم كل امرأة سوى ما ذكر من المحرمات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء / 23 - 24].

وتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنكاح المرأة على عمتها أو خالتها في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض ما وراء ذلك ليس بحلال لكم) كجمع المرأة وعمتَها وخالتَها، فهو تخصيص لا تناقض، وهكذا فافهمه فإنه مهم.

واعلم أن التناقض باعتبار الجهة لم نذكره لأنا لم نتعرض للجهة

(1/94)

________________________________________

ولا للقضايا الموجهة (1) أصلا، كغيرها من أحكام القضايا اختصارا، كما أشرنا إليه سابقًا (2).

ونقيض الشرطية يعرف من نقيض الحملية، ويشترط لتناقضهما اتحاد المقدَّم والتالي، والزمان والمكان، واختلاف الكيف مع اختلاف الكم في المسؤرات.

فقولك مثلًا: (كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانًا) نقيض (قد لا يكون إذا كان هذا إنسانًا كان حيوانًا).

وقولك: (ليس البتة إذا كان هذا إنسانًا كان حجرًا نقيضه (قد يكون إذا كان هذا إنسانًا كان حجرا)، وبالعكس فيهما، وقس على ذلك باقيَها.

ومن فوائد معرفة التناقض أنك إذا أقمت الدليل على صحة نقيض قول الخصم فكأنك أقمته على بطلان دليله؛ لأن صحة النقيض يلزمها بطلان نقيضه.

وإذا أقمت الدليل على بطلان نقيض قولك فكأنك أقمته على صحته؛ لأن بطلان النقيض يلزمه صحة نقيضه، وهكذا.

__________

(1) التوجيه في القضايا هو بيان كيفية نسبة المحمول إلى الموضوع من حيث الضرورة وعدمها، ومن حيث الدوام وعدمه، انظر تحرير القواعد المنطقية للقطب الرازي، ط 2، 1367 هـ، مصر. وسيشير المؤلف إلى تعريف القضية الموجهة في القسم الثاني من هذا الكتاب ص 225.

(2) ص 79.

(1/95)

________________________________________

 فصل في العكس

وهو في اللغة "قلب الشيء" بجعل أوله آخرَه، وأعلاه أسفلَه مثلًا.

وهو في الاصطلاح ثلاثة أقسام:

1 - العكس المستوي، وإليه ينصرف اسم العكس عند الإطلاق.

2 - وعكس النقيض الموافق.

3 - وعكس النقيض المخالف.

وهذا تعريف كل واحد منها مع إيضاحه بالأمثلة.

أما العكس المستوي: فضابطه هو "تبديل كل واحد من طرفي القضية ذات الترتيب الطبيعي (1) بعين الآخر مع بقاء الكيف والكم على وجه يلزم معه الصدق".

ولا يلزم الصدق في عكس الموجبة الكلية إلا مع تبديل السور الكلي بسور جزئي.

وإيضاحه أن المحمول يصير وضوعا مقصودًا به أفرادُه، والموضوعَ يصير محمولا مقصودا به الماهيةُ الذهنية التي هي القدر المشترك.

فالسالبة الكلية تنعكس كنفسها، فقولك: (لا شيء من الإنسان

__________

(1) سيذكر بعد قليل أن القضايا ذات الترتيب الطبيعي هي الحمليات، والشرطيات المتصلة، دون المنفصلة.

(1/96)

________________________________________

بحجر) عكسه (لا شيء من الحجر بإنسان).

والموجبة الكلية تنعكس إلى جزئية موجبة، فقولك: (كل إنسان حيوان) عكسه (بعض الحيوان إنسان).

والموجبة الجزئية تنعكس إلى موجبة جزئية، فقولك: (بعض الإنسان حيوان) عكسه (بعض الحيوان إنسان).

والمهملة في قوة الجزئية.

والشخصية إذا كان كل من موضوعها ومحمولها [شخصيًّا] (1) انعكست إلى شخصية، فقولك: (هذا زيد) عكسه (زيد هذا).

وإذا كان محمولها كليًّا انعكست إلى جزئية، فقولك: (زيد كاتب) عكسه (بعض الكاتب زيد).

وإن كان المحمول شخصيًّا والموضوع كليًّا انعكست شخصية، فقولك: (الإنسان زيد) عكسه (زيد إنسان).

أما السالبة الجزئية فلا عكس لها؛ لاجتماع الخستين فيها وهما: الجزئية والسلب، فلو قلت: (بعض الحيوان ليس بإنسان) وأردت أن تعكس لكان عكسه (بعض الإنسان ليس بحيوان)، وهو باطل كما ترى.

ومن فوائد العكس أنك إذا أقمت الدليل على صحة الأصل

__________

(1) في المطبوع: (شخصية)، والصواب ما أثبته.

(1/97)

________________________________________

المنعكس لزم من ذلك صحة عكسه.

والعكس إنما يكون في القضايا ذات الترتيب الطبيعي، وهي الحمليات والشرطيات المتصلة، وقد تقدمت أمثلته في الحمليات.

وأما في الشرطيات فهو كالحمليات، فعكس المتصلة الكلية الموجبة جزئيةٌ موجبة، فقولك: (كلما كان الشيء إنسانًا كان حيوانًا) عكسه (قد يكون إذا كان الشيء حيوانًا كان إنسانًا) وقس على ذلك باقيَها.

أما القضايا التي ترتيبها ليس بطبيعي، بل باختيار المتكلم في التقديم والتأخير، وهي الشرطيات المنفصلة، فلا عكس فيها أصلًا؛ لأن التقديم والتأخير فيها بحسب اختيار المتكلم، فليس في عكسها حكم لازم.

والمعروف عندهم أن صدق العكس إن كان على الوجه الذي ذكرنا تدل عليه ثلاثة أدلة وهي: الافتراض، والخُلْف، وطريق العكس.

وسنكتفي منها هنا بواحد وهو الافتراض؛ لأجل الاختصار.

وهو أن تفرض لفظًا مرادفًا لموضوع القضية التي هي الأصل المنعكس، ثم تحمل عليه نفس محمولها في قضية، وتحمل عليه نفس موضوعها في قضية أخرى، فإنه يُنتج من الشكل الثالث (1) عين العكس

__________

(1) سيأتي شرحه ص 120.

(1/98)

________________________________________

المستوي المذكور في المثال السابق.

فلو قلت مثلًا: (كل إنسان حيوان) فهذا هو الأصل المنعكس، وهو كلية موجبة، تنعكس إلى جزئية موجبة، فإذا فرضت مرادف موضوعها، كالناطق المرادف للإنسان، وحملت عليه كلا من طرفي الأصل المنعكس، بادئًا بالمحمول، فقلت: (كل ناطق حيوان) و (كل ناطق إنسان) فإنه يُنتج من الشكل الثالث: (بعض الحيوان إنسان)، وهو عين عكس الأصل الذي هو (كل إنسان حيوان)، فهذا دليل واضح على صدق العكس.

واعلم أن ما يذكره بعض المنطقيين من أن ما يجري فيه الافتراض من القضايا يُشترط فيه كونُ القضايا فعلية -والمراد بها ما عدا الممكنات من الموجّهات، فيصدق بالضروريات والدوائم والمطْلقات- وكونُ المحمول وجوديا، تركنا إيضاحه؛ لأنه يتعلق ببحث القضايا الموجهة، وقد تركناها رأسًا، والشروط المذكورة لا تُشترط إلا مع الجهة، فلا وجه لذكرها مع تركنا الكلام على الجهة والموجهات (1).

وأما عكس النقيض الموافقُ (2): فضابطه هو "أن تبدل كل واحد من طرفي القضية بنقيض الآخر"، فتبدل الموضوع بنقيض المحمول،

__________

(1) سبقت الإشارة ص 95 إلى أن المؤلف سيعرف بالقضية الموجهة في القسم الثاني من هذا الكتاب 225.

(2) سمي موافقا لموافقته لأصله في الكيف، انظر حاشية الباجوري على متن السلم ص 57، مصر 1347 هـ.

(1/99)

________________________________________

والمحمولَ بنقيض الموضوع، "مع بقاء الكيف".

فإن كانت كلية موجبة انعكست كلية موجبة كنفسها، وإن كانت كلية سالبة فلا بد من تبديل السور الكلي بسور جزئي، فتنعكس من الكلية السالبة إلى جزئية، عكسَ الواقع في العكس المستوي؛ فإن الكلية السالبة فيه تنعكس كنفسعها، والكليةَ الموجبة تنعكس فيه جزئية موجبة.

أما في المستوي فقد تقدمت الأمثلة قريبا.

وأما عكس النقيض الموافقُ فمثاله أنك لو قلت مثلًا: (كل إنسان حيوان)، وأردت أن تعكسه بعكس النقيض الموافق فإنك تقول: (كل لا حيوان لا إنسان)؛ فإن (لا حيوان) في هذا المثال هو الموضوع، وهو نقيض المحمول في الأصل المنعكس؛ لأنه فيه هو لفظة (حيوان)، ونقيض الحيوان (لا حيوان)؛ لما قدمنا في أقسام التباين من أن النقيضين هما السلب والإيجاب (1) ولفظة (لا إنسان) في هذا المثال هي المحمول، وهو نقيض الموضوع في الأصل المنعكس؛ لأن الموضوع فيه لفظة (إنسان)، ونيقيض الإنسان (لا إنسان)، وقد انعكست فيه الموجبة الكلية إلى موجبة كلية كنفسها.

أما الكلية السالبة فيه فلا تنعكس إلا جزئية سالبة، فلو قلت: (لا شيء من الإنسان بحجر) وأردت أن تعكسه بعكس النقيض الموافق

__________

(1) راجع ص 43.

(1/100)

________________________________________

فإنك تقول: ([ليس] (1) بعض لا حجر لا إنسان) وهو واضح مما تقدم.

فلو عكست فيه الكلية السالبة إلى كلية سالبة لم يلزم الصدق، بل ربما كذبت، فلو عكست المثال المذكور الذي هو (لا شيء من الإنسان بحجر) إلى كلية فقلت: (لا شيء من لا حجر لا إنسان) فإنه يكون كذبا؛ لأن بعض لا حجر [غير] (2) إنسان، فانتفاء الحجرية عن شيء لا يلزم منه كونه [إنسانًا] (3)، فقد يكون إنسانًا وقد يكون غير إنسان كما لا يخفى.

وعكس الموجبة الجزئية فيه موجبةٌ جزئية، فلو قلت: (بعض الحيوان إنسان) فعكس نقيضه الموافقُ (بعض لا إنسان لا حيوان) وهو صادق. ولا يصدق إلا جزئيًّا؛ لأن ما انتفت عنه الإنسانية قد تنتفي عنه الحيوانية كالحجر، وقد تثبت له الحيوانية كالفرس.

واعلم أن الشرطيات في عكس النقيض كالحمليات أيضًا.

فقولك في الشرطية المتصلة اللزومية التي هي كلية موجبة: (كلما كان الشيء إنسانًا كان حيوانًا) ينعكس بعكس النقيض الموافق إلى قولك: (كلما لم يكن الشيء حيوانًا لم يكن إنسانًا).

وكقولك في الشرطية المتصلة اللزومية التي هي كلية سالبة: (ليس

__________

(1) ليست في المطبوع، ويلزم إضافتها ليستقيم المثال؛ لأن الكيف لا يتغير في عكس النقيض الموافق، فوجب بقاؤها سالبة. كما ذكر المؤلف.

(2) ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.

(3) في المطبوع: (غير إنسان)، والمثبت هو الصواب كما يظهر عند التأمل في السياق.

(1/101)

________________________________________

البتةَ إذا كان الشيء إنسانًا كان حجرًا) فعكس نقيضه الموافقُ جزئية سالبة؛ لأن السالبة فيه لا تنعكس إلا جزئية، وهو في المثال المذكور: (قد لا يكون إذا لم يكن الشيء حجرا لم يكن إنسانًا).

وأما عكس النقيض المخالفُ: (1) فهو "أن تُبدل الطرف الأول من القضية ذات الترتيب الطبيعي بنقيض الطرف الأخير، وتبدلَ الطرف الأخير بعين الطرف الأول، مع تبديل الكيف -الذي هو السلبُ والإيجاب، فتبْدل السلبَ بالإيجابِ والإيجابَ بالسلب- مع لزوم الصدق".

فلو قلت: (كل إنسان حيوان) وأردت عكسه بعكس النقيض المخالف فإنك تقول: (لا شيء من لا حيوان بإنسان)، فقد أبدلت الأول بنقيض الأخير، وأَبدلت الأخير بعين الأول، وأبدلت الإيجاب بالسلب.

__________

(1) سمي مخالفًا لمخالفته لأصله في الكيف.

(1/102)

________________________________________

 فصل في مقاصد التصديقات

وهي القياس المنطقي، وهو المقصود الأصلي من فن المنطق؛ لأنه هو العمدة عندهم في تحصيل المطالب التصديقية، التي هي أشرف من التصورية.

والقياس في اللغة مصدر قاس الشيء على الشيء، إذا قدّره بقدره.

وهو في اصطلاح المنطقيين: "قول مؤلف من [قضيتين] (1) فأكثر على وجه يستلزم لذاته قضية أخرى".

فخرج بقولهم "مؤلف من قضيتين" ما ليس بمؤلف، كالقضية الواحدة ولو كانت من الموجّهات المركبة التي هي في قوة قضيتين؛ لأنها تُسمى قضية واحدة، وإن كانت بالتركيب تكون في قوة اثنتين.

ودخل بقولهم "فأكثر" القياس المركب كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله (2).

وخرج بقولهم: "يستلزم لذاته قضية أخرى" ما لم يستلزم قضية أصلًا، كما لو قلت: (الإنسان حيوان والحجر جماد)؛ فإنهما لا يستلزمان قضية.

وخرج بقولهم: "لذاته" ما استلزم قضية أخرى لا لذاته، بل من

__________

(1) في المطبوع: (قضية)، والسياق يأباه.

(2) ص 127.

(1/103)

________________________________________

أجل قضية أجنبية، أو لخصوص المادة.

فمثال ما استلزم قضية لا لذاته بل لمقدمة أجنبية: قياس المساواة، كقولك: (زيد مساو لعمرو، وعمرو مساو لبكر). فإنه ينتج: (زيد مساو لبكر)؛ وذلك بواسطة مقدمة أجنبية وهي: (مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء)، فلو لم تكن هناك قضية أجنبية صادقة لم يستلزم شيئًا.

كما لو قلت: (الإنسان مباين للفرس، والفرس مباين للناطق) فلا يستلزم كون الإنسان مباينًا للناطق؛ لأنك لو قلت: (مباين المباين لشيء مباين لذلك الشيء) لم تصدق؛ لأنه قد يكون غير مباين له، كالمثال المذكور.

وكذلك قياس النِصْفيّة؛ فإنه لا يستلزم شيئًا، كقولك: (الاثنان نصف الأربعة، والأربعة نصف الثمانية)، فلا يستلزم أن الاثنينِ نصفُ الثمانية؛ لعدم صدق: (نصف النصف نصف).

ومثال الاستلزام لخصوص المادة قولك: (لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الحجر بصاهل)، فإنه ينتج: (لا شيء من الإنسان بصاهل)، وهو صادق لخصوص المادة، لا لذات المقدمتين، بدليل أنك لو جعلت: (الناطق) في الكبرى مكان (الصاهل) لما كانت صادقة، كما لو قلت: (لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الحجر بناطق) فإنه ينتج: (لا شيء من الإنسان بناطق) وهو كاذب، وهيئة تركيب المقدمتين هي هي، وصدقها في (الصاهل) وكذبها في (الناطق) يدل على أن ذلك الصدق إنما لزم المقدمتين لخصوص

(1/104)

________________________________________

المادة، لا لذات المقدمتين كما ترى.

وإذا علمت المراد بالقياس عند المنطقيين فاعلم أنه بالتقسيم الأول ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: هو المسمى بالقياس الاقتراني، ويسمى القياسَ الحملي، وقياسَ الشمول، وهو يكون في القضايا الحملية، والشرطيات المتصلة.

والقسم الثاني: هو المسمى بالقياس الاستثنائي، ويسمى الشرطي، ولا يكون إلا في القضايا الشرطية خاصة، وهو يكون في الشرطيات المتصلة، والشرطيات المنفصلة، ولا يكون في الحمليات البتة.

وإذا علمت هذا فدونك تفاصيلَ جميعه بإيضاح:

اعلم أَولًا أن القياس الحملي إنما سمي اقترانيا لاقتران حدوده الثلاثةِ من غير أن يتخللها حرف استثناء، الذي هو (لكن).

وسمي حمليًّا لأن الحمليات تختص به.

ويسمى شموليًّا لأن الحد الأصغر إذا اندرج في الأوسط واندرج الأوسط في الأكبر لزم اندماج الأصغر في الأكبر وشمولُه له، كما يأتي إيضاح ذلك كلِّه قريبًا إن شاء الله -تعالى-.

وقد أردنا هنا أن نبدأ بإيضاح الاقتراني وأقسامِه في القضايا الحملية، ونبينَ أن ذلك يُفهم منه نحوُه في الشرطيات المتصلة، ثم

(1/105)

________________________________________

نعقد فصلًا مستقلًا للقياس الاستثنائي، فنوضح فيه جميع أقسامه.

اعلم أولًا أنا ذكرنا في تعريف القياس أنه "قول مؤلف من قضيتين .. إلخ"، وقد علمتَ مما مضى (1) أن الحملية مركبة من موضوع ومحمول، فإذن لا بد في القياس الاقتراني من أربع كلمات: موضوع القضية الأولى ومحمولها، وموضوع الأخيرة ومحمولها، فهذه أربع كلمات هي: موضوعان ومحمولان.

وهذه الكلمات الأربعُ لا بد أن تكون واحدة منها مكررة؛ بأن تكون هي إحدى كلمتي القضية الأولى، وهي بعينها أيضًا إحدى كلمتي القضية الأخرى، فالكلمات في الحقيقة ثلاث؛ لأن واحدة من الأربع لا بد من تكرارها.

فالكلمة المتكررة التي هي جزء كل واحدة من القضيتين هي التي تسمى بالحد الوسط، والكلمة التي تختص بها القضية الأولى هي التي تسمى بالحد الأصغر، والكلمة التي تختص بها القضية الأخيرة هي التي تسمى بالحد الأكبر.

والقضية المجعولةُ جزءَ دليلٍ كما هنا تسمى في اصطلاحهم مقدِّمة، فالمقدمة المشتملة على الحدِّ الأصغر تسمى في الاصطلاح مقدمة صغرى، والمقدمة المشتملة على الحد الأكبر تسمى في الاصطلاح مقدمة كبرى.

__________

(1) ص 65.

(1/106)

________________________________________

والحد الأصغر هو موضوع النتيجة دائمًا، والحد الأكبر هو محمولها، والحد الوسط يُلغَى عند الإنتاج فيحذف، وتكون النتيجة متآلفة من الأصغر والأكبر، فالأصغر موضوعها، والأكبر محمولها.

فلو قلت مثلًا: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس). فهذا قياس اقترانيٌ يتألف من ثلاث كلمات:

الأولى (الإنسان)، وقد اختصت بها المقدمة الأولى، فلفظة (الإنسان) في هذا المثال هي الحد الأصغر، والمقدمة المشتملة عليها التي هي (كل إنسان حيوان) هي المقدمة الصغرى.

والثانية (الحيوان)، وهي متكررة؛ لأنها في هذا المثال محمول في الأولى، وموضوع في الأخرى، فلفظة (الحيوان) في هذا المثال هي المسمى بالحد الوسط.

والثالثة (الحساس)، وقد اختصت بها المقدمة الأخيرة، و (الحساس) في هذا المثال هو الحد الأكبر، والمقدمة المشتملة عليه هي المقدمة الكبرى التي هي (كل حيوان حساس).

أما لفظة (كل) في المقدمتين فإنما هي سور، جيئ به لبيان كمية الأفراد المحكوم عليها، فليست موضوعًا -كما قدمنا إيضاحَه (1) - وإن أعربها النحويون مبتدأ، ولذا لم نَعدَّها في المثال المذكور من الكلمات؛ لأنها ليست بمحمول ولا موضوع، وإنما هي لفظ جيئ به

__________

(1) ص 85.

(1/107)

________________________________________

لبيان الكمية المحكوم عليها من أفراد الموضوع بالمحمول.

وإذا نظرنا [في] (1) هذا المثال الذي ذكرنا للقياس الاقتراني، الذي هو قولنا: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس)، وعرفت أن (الإنسان) حدٌّ أصغر، و (الحساسَ) حد أكبر، و (الحيوان) حد وسط (2)، فاعلم أن القياس المذكور ينتج: (كل إنسان حساس)، فصار (الإنسان) الذي هو الحد الأصغرُ موضوعَ هذه النتيجة، و (الحساسُ) الذي هو الحد الأكبر محمولَها. و (الحيوان) الدي هو الحد الوسط أُلغي وحذف لدى الإنتاج.

واعلم أن الكلماتِ المذكورةَ إنما سميت حدودًا لأنها أطراف القياس ومنتهاه، وحد الشيء طرفه ومنتهاه.

واعلم أن ضابط القياس الاقتراني هو "أنه يشتمل على النتيجة بالقوة دون الفعل"، بأن يكون مشتملًا على مادتها دون صورتها.

فقولك: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس)، قياس اقتراني، يُنتج (كل إنسان حساس)، وهذا اللفظ الذي هو: (كل إنسان حساس) لم يكن مذكورًا في هذا القياس بصورته، بل بمادته؛ لأن (الإنسان) مذكور في المقدمة الصغرى، و (الحساس) مذكور في الكبرى، والشيء يوجد مع مادته بالقوة قبل حصول صورته.

وإذا عرفت هذا فاعلم أن القياس الاقتراني تنحصر أشكاله -أي

__________

(1) ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.

(2) في المطبوع: (حدًّا وسطًا)، والمثبت هو الصواب.

(1/108)

________________________________________

هيئاته التي يأتي عليها- في أربعة أشكال؛ وذلك بحسب هيئات الحد الوسط؛ فإنها محصورة في أربع حصرا قطعيا؛ لأنه لا بد له من واحدة من أربع حالات، لا خامسة لها البتة:

الأولى: أن يكون الحد الوسط محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى.

الثانية: أن يكون محمولا فيهما.

الثالثة: أن يكون موضوعًا فيهما.

الرابعة: أن يكون موضوعًا في الصغرى محمولا في الكبرى.

ولا خامسة البتة كما ترى.

فإن كان الحد الوسط محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو المسمى بالشكل الأول، ويعرف ببيِّن الإنتاج، ومثاله: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس)، يُنتج من الشكل الأول: (كل إنسان حساس).

وإن كان الحد الوسط محمولا فيهما فهو المسمى بالشكل الثاني، ومثاله: (كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحجر بحيوان)، ينتج من الشكل الثاني: (لا شيء من الإنسان بحجر).

وإن كان الحد الوسط موضوعًا فيهما فهو المسمى بالشكل الثالث، ومثاله (كل إنسان حيوان، وكل إنسان ناطق)، ينتج من الشكل الثالث: (بعض الحيوان ناطق).

(1/109)

________________________________________

وإن كان موضوعًا في الصغرى محمولًا في الكبرى فهو المسمى بالشكل الرابع، وهو أبعدها من الشكل الأول الذي هو بيِّن الإنتاج. ومثاله: (كل إنسان حيوان، وكل ناطق إنسان)، يُنتج من الشكل الرابع: (بعض الحيوان ناطق).

واعلم أن الصور الداخلة تحت الأشكال الأربعة باعتبار الكم والكيف تسمى ضروبًا، فكل شكل مشتمل على ستة عشر ضربًا؛ لأن صُغرى مقدمتي الشكل إما أن تكون كلية وإما أن تكون جزئية، وفي كلٍّ منهما إما أن تكون سالبة وإما أن تكون موجبة، فصورها أربعة من ضرب حالتي الكم في حالتي الكيف، وهذه الصور الأربعة في المقدمة الكبرى أيضًا، فتُضرب حالاتُ الصغرى الأربعُ في حالات الكبرى الأربعُ فيكون المجموع ستة عشر ضربًا، منها المتكرر ومنها العقيم.

قصدنا هنا أن نبيّن شروط الإنتاج وعدد الضروب المنتِجة في كل شكل بأمثلتها، ونتركَ ذكر الضروب العقيمة والمتكررةِ اختصارًا.

اعلم أن الشكل الأول الذي هو أفضل الأشكال وأظهرُها نتيجة يُشترط لإنتاجه شرطان (1):

الأول: بحسب الكيف، وهو كون صغراه موجبة.

الثاني: بحسب الكم، وهو كون كبراه كليةً.

والشرطان المذكوران لا ينطبقان إلا على أربع صور، وبه تعلم أن

__________

(1) سيأتي ص 114، 115 بيان وجه اشتراطهما.

(1/110)

________________________________________

الشكل الأول لا ينتج من ضروبه إلا أربعةٌ فقط، والاثنا عشرَ الباقيةُ لا إنتاج فيها.

الضرب الأول: كليتان موجبتان، ينتجان كلية موجبة، مثاله: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس) يُنتج: (كل إنسان حساس).

ولا ينتج كلية موجبة من الأشكال إلا الشكل الأول.

ومثاله في العقليات قولك: (كل العوالم كالسموات والأرض ومن فيهما مخلوقة، وكل مخلوق لا بد له من خالق) يُنتج: (كل العوالم لا بد لها من خالق).

ومثاله في الفقهيات قول الحنبلي والحنفي: (كل بُر مكيل، وكل مكيل يحرم فيه الربا) يُنتج: (كلُ بُر يحرم فيه الربا).

وقول الشافعي: (كل بر مطعوم، وكل مطعوم يحرم فيه الربا) يُنتج: (كل بر يحرم فيه الربا).

وقول المالكي: (كل بر مقتات مدخر، وكل مقتات مدخرٍ يحرم فيه الربا) يُنتج: (كل بر يحرم فيه الربا).

ومثاله في النحويات: (كل فاعل مرفوع، وكل مرفوع عمدة) يُنتج: (كل فاعل عمدة).

الضرب الثاني: كليتان صغراهما موجبة، وكبراهما سالبة. ينتج كلية سالبة، كقولك: (كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحيوان بحجر) يُنتج: (لا شيء من الإنسان بحجر).

(1/111)

________________________________________

ومثاله في العقليات: (كل بشر مخلوق، ولا شيء من المخلوق بغني عن الفاعل) ينتج: (لا شيء من البشر بغني عن الفاعل).

ومثاله في الفقهيات: (كل صوم شرعي عبادة، ولا شيء من العبادة يصح بلا نية) يُنتج: (لا شيء من الصوم الشرعي يصح بلا نية).

ومثاله في النحويات: (كل فاعل مرفوع، ولا شيء من المرفوع بفضله) ينتج: (لا شيء من الفاعل بفضلة).

الضرب الثالث: موجبتان صغراهما جزئية وكبراهما كلية، يُنتج جزئية موجبة، كقولك: (بعض الحيوان إنسان، وكل إنسان ناطق) ينتج: (بعض الحيوان ناطق).

ومثاله في العقليات: (بعض الصفات مخلوق -تعني صفات الخلق-، وكل مخلوق لا بد له من خالق) يُنتج: (بعض الصفات لا بد لها من خالق).

ومثاله في الفقهيات: (بعض الطعام مكيل، وكل مكيل يحرم فيه الربا) ينتج: (بعض الطعام يحرم فيه الربا)، وهذا على رأي من يعلل بالكيل.

ومثاله في النحويات: (بعض المرفوع فاعل، وكل فاعل يجب تأخيره عن عامله) ينتج: (بعض المرفوع يجب تأخيره عن عامله).

الضرب الرابع: جزئية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى، ينتج جزئية سالبة، كقولك: (بعض الحيوان إنسان، ولا شيء من الإنسان بفرس) ينتج: (بعض الحيوان ليس بفرس).

(1/112)

________________________________________

ومثاله في العقليات: (بعض الصفات أزلي -أي لا أول لوجودها، تعني صفة الخالق-، ولا شيء من الأزلي بمخلوق) ينتج: (بعض الصفات ليس بمخلوق).

ومثاله في الفقهيات: (بعض العبادة صلاة، ولا شيء من الصلاة بقابل للنيابة) ينتج: (بعض العبادة ليس بقابل للنيابة).

ومثاله في النحويات: (بعض المرفوعات فاعل، ولا شيء من الفاعل بجائز التقديم على عامله) ينتج: (بعض المرفوع ليس بجائز التقديم على عامله).

فهذه الضروب الأربعة المنتجة من الشكل الأول.

وإيضاح كونه لا ينتج من ضروبه إلا أربعةٌ بحسب الشرطين المشترطين لإنتاجه، اللذين قدمنا أنهما إيجابُ صغراه وكليةُ كبراه: أن إيجاب الصغرى يستلزم أنها ليس لها إلا حالتان، وهما كونها كلية موجبة أو جزئية موجبة. وكليةُ الكبرى تستلزم أنها ليس لها إلا حالتان، وهما كونُها كلية موجبة أو كلية سالبة، فتضرب حالتي الصغرى في حالتي الكبرى بأربع، وهي الضروب المنتِجة التي أوضحناها بأمثلتها.

واعلم أنه لا ينتج الكليةَ الموجبة من الأشكال إلا الشكلُ الأول، فهو ينتج جميع المطالب الأربعة، أعني الكليتين الموجبة والسالبة، والجزئيتين الموجبةَ والسالبة.

أما الشكل الثاني فلا يُنتج من الكليات إلا السالبةَ.

(1/113)

________________________________________

والثالث والرابع لا ينتجان إلا الجزئيات، وقد يوجد ضرب من الرابع ينتج كلية، كالمركب من كليتين صغراهما سالبة، كما سترى إيضاحه إن شاء الله.

تنبيه: اعلم أن النتيجة تتبع ما في القياس من الخستين، والخستان هما السلب والجزئية، فكل قياس فيه سالبة فنتيجته سالبة، وكل قياس فيه جزئية فنتيجته جزئية، وكل قياس فيه جزئية وسالبة فنتيجته جزئية سالبة، فالنتيجة تتبع الخسة دائمًا (1)، كما قال الشاعر (2):

إن الزمان لتابع أرذالَه ... تبَعَ النتيجة للأخس الأرذلِ

والسلب خسة الكيف، والجزئية خسة الكم.

ولا نريد الآن أن نتتبع جميع الضروب العقيمةِ الخارجةِ بالشرطين المذكورين، ولكنا أردنا أن نمثل لها دون تتبع جميعها للاختصار.

فوجه اشتراط الإيجاب في الصغرى أنها إذا كانت سالبة لا تلزم المقدمتين نتيجة صادقة، بل قد تكون كاذبة، مع أن القياس على هيئته

__________

(1) ولا يُفهم من هذا سلامة النتيجة من خسة الجزئية إذا ما كانت المقدمتان كليتين، وذلك عندما يكون موضوع النتيجة أعم من محمولها، كما يأتي في الضربين الأول والثاني من الشكل الثالث ص 121، 122 والأول والرابع من الشكل الرابع ص 123، 124.

(2) في ديوان أبي الفتح البستي ص 154 البيتان التاليان:

تعس الزمان فإن في إحسانه ... بغضًا لكل مقدم ومفضّلِ

وتراه يعشق كل نذلٍ ساقطٍ ... عشق النتيجة للأخسّ الأرذلِ

ونسبهما العاملي في الكشكول إلى ابن سينا.

(1/114)

________________________________________

الصحيحة، وإنما تطرق إليه الخلل من جهة كون صغراه سالبة، كقولك: (لا شيء من الحيوان بحجر، وكل حجر جسم)، فإنه ينتج: (لا شيء من الحيوان بجسم)، وهو كاذب، وذلك لكون الصغرى سالبة.

وكذلك لو جعلت الكبرى جزئية لم يلزم صدق النتيجة، كما لو قلت: (كل إنسان حيوان، وبعض الحيوان فرس) فإنه ينتج: (بعض الإنسان فرس)، وهو كاذب، فتبين أنه إن اختل أحد الشرطين لم يلزم الإنتاج.

واعلم أن هذه الطريقة التي أردنا سلوكها في بيان المنتج من الضروب والعقيم هي المعروفة بطريق التحصيل (1).

ولبيان العقيم طريقة أخرى تسمى طريقَ الإسقاط، كأن يقال: يَسقط بالشرط الأول الذي هو إيجاب الصغرى ثمانية ضروب، لأنها إن لم تكن موجبة فهي إما أن تكون سالبة كلية أو سالبة جزئية، وكل واحدة منهما إنتاجها مع الكبريات الأربع ... إلخ.

فقد تركنا هذه الطريقة المعروفة بطريقة الإسقاط، وبينا المقصود بالطريقة المسماة طريق التحصيل اختصارا.

تنبيه: اعلم أن وجه الحكم العقلي بصدق نتيجة هذا الشكل، الذي هو الشكل الأول، إن كان تركيبه على الهيئة الصحيحة المستوفية

__________

(1) وهو غير التحصيل المقابل للعدول، الذي سبق التعريف به ص 91.

(1/115)

________________________________________

للشروط، هو أن العقل يحكم قطعيًّا بأن الأصغر إذا اندرج في الأوسط، واندرج الأوسط في الأكبر، أن الأصغر مندرج في الأكبر، وهذا مما لا يشك فيه عاقل، وسترى أن جميع الأشكال راجعة إلى الأول باستعمال لازم عقلي من لوازم القضايا، وهو العكس المستوي، أو بتبديل إحدى المقدمتين بالأخرى كما سترى إيضاحه إن شاء الله -تعالى-.

وأما الشكل الثاني: الذي هو كون الحد الوسط محمولًا فيهما فيشترط لإنتاجه أيضًا شرطان:

الأول بحسب الكيف، وهو اختلاف مقدمتيه في الكيف، فلا بد من كون إحداهما موجبة والأخرى سالبة، فلا ينتج فيه سالبتان ولا موجبتان.

والشرط الثاني بحسب الكم، وهو كون كبراه كلية، فلا ينتج مع جزئية الكبرى.

وضروبه المنتجة بحسَب الشرطين أربعة أيضًا، فلو فرضت أن الصغرى هي الموجبة لزم أن تكون الكبرى سالبة كلية، فيدخل في ذلك صورتان:

أولاهما: كلية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى.

وثانيتهما: جزئية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى.

ولو فرضت أن الصغرى هي السالبةُ لزم أن تكون الكبرى كلية موجبة، فيدخل في ذلك صورتان:

(1/116)

________________________________________

أولاهما: كلية سالبة صغرى، وكلية موجبة كبرى.

وثانيتهما: جزئية سالبة صغرى، وكلية موجبة كبرى.

وهذه هي ضروبه الأربعة المنتجة، وسنذكر بعض الأمثلة باختصار؛ لأنه يفهم منه غيرُه في العقليات والفقهيات والنحويات.

الضرب الأول: كليتان صغراهما موجبة وكبراهما سالبة، ينتج كلية سالبة، ومثاله:

(كل ياقوت حجر، ولا شيء من إنسان بحجر)، ينتج: (لا شيء من الياقوت بإنسان).

الضرب الثاني: كليتان صغراهما سالبة وكبراهما موجبة، ينتج كلية سالبة، ومثاله: (لا شيء من الإنسان بحجر، وكل ياقوت حجر) ينتج: (لا شي من الإنسان بياقوت).

الضرب الثالث: جزئية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى، [ينتج جزئية سالبة] (1)، ومثاله: (بعض الحيوان إنسان، ولا شيء من الفرس بإنسان) ينتج: (بعض الحيوان ليس بفرس).

الضرب الرابع: جزئية سالبة صغرى وموجبة كلية كبرى، ينتج جزئية سالبة. ومثاله: (ليس بعض الحيوان بناطق، وكل إنسان ناطق) ينتج: (ليس بعض الحيوان بإنسان).

__________

(1) ليس في المطبوع، والسياق يقتضيه.

(1/117)

________________________________________

وغير هذه الأربعة عقيم.

تنبيهان يتعلقان بهذا الشكل الذي هو الشكل الثاني:

الأول: اعلم أن وجه الحكم العقلي في إنتاجه أن المحمول فيه مثبت لأحد موضوعين، وهو أي المحمول بعينه منفي عن الموضوع الآخر، فيلزم عقلًا اختلاف الموضوعين؛ إذ لو لم يختلفا لما ثبت لأحدهما شيء منتف عن الآخر؛ وذلك لأن المحمول في الشكل الثاني واحد في المقدمتين، وأن اختلافهما في الكيف الذي هو أحد شرطى إنتاجه يلزمه ثبوتُه لأحدهما ونفيُه عن الآخر، وذلك يلزمه اختلافُهما -أعني موضوعي المقدمتين- في الجملة، ولذلك لا يُنتج الشكلُ الثاني إلا سالبةً.

التنبيه الثاني: اعلم أن هذا الشكل الثانيَ إذا عكسْتَ كبراه بالعكس المستوي رجع إلى الشكل الأول بعينه.

فالمثال الأول الذي مثلنا به وهو: (كل ياقوت حجر، ولا شيء من الإنسان بحجر) لو عكسْتَ كبراه بالعكس المستوي فقلت: (كل ياقوت حجر، ولا شيء من الحجر بإنسان) رجع إلى الشكل الأول كما ترى، والنتيجة فيهما كلية سالبة، إلا أنها في الأول: (لا شيء من الياقوت بإنسان)، وفي الثاني: (لا شيء من الإنسان بياقوت)، فانعكست النتيجة بعكس الكبرى، ولو اختل أحد الشرطين المذكورين في هذا الشكل الذي هو الثاني لم تلزم نتيجة.

فمثال الموجبتين: (كل إنسان حيوان، وكل فرس حيوان) ينتج:

(1/118)

________________________________________

(كل إنسان فرس)، وهو كذب كما ترى.

ومثال السالبتين: (لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الناطق بحجر) ينتج: (لا شيء من الإنسان بناطق)، وهو كذب كما ترى؛ وذلك لعدم اختلاف الكيف.

ولو اختل الشرط الثاني -وهو كون كبراه كلية- لم يلزم الإنتاج أيضًا، كما لو قلت: (كل إنسان حيوان، وبعض الجسم ليس بحيوان) ينتج: (بعض الإنسان ليس بجسم)، وهو كذب كما ترى؛ وذلك لعدم كلية الكبرى.

وقس على ذلك.

وأما الشكل الثالث: وهو ما كان الحد الوسط فيه موضوعًا في كلتا المقدمتين، فيشترط لإنتاجه أيضًا شرطان: الأول بحسب الكيف، وهو كون صغراه موجبة، والثاني بحسب الكم، وهو كون إحدى مقدمتيه كلية.

والصور الداخلة فيه بحسَب الشرطين ستة، فضروبه المنتجة ستة.

وإيضاحه أن الصغرى لا تكون إلا موجبة، وحينئذ إما كلية فتنتج مع الكبرَيات الأربع؛ لأن الصغرى إن كانت كلية موجبة اجتمع فيها الشرطان، فأنتجت مع صور الكبرى الأربع، وإما جزئية موجبة فيلزم كون الكبرى كلية، وهي إما موجبة وإما سالبة، فتضم هاتين الصورتين إلى الأربع التي قبلها فيكون المجموع ستةَ أضرب:

الضرب الأول: كليتان موجبتان، ينتج جزئية موجبة، كقولك:

(1/119)

________________________________________

(كل إنسان حيوان، وكل إنسان ناطق) ينتج: (بعض الحيوان ناطق).

الضرب الثاني: كليتان صغراهما موجبة، وكبراهما سالبة، ينتج جزئية سالبة، كقولك: (كل إنسان حيوان، ولا شيء من الإنسان بفرس) ينتج: (ليس بعض الحيوان بفرس).

الضرب الثالث: موجبتان صغراهما جزئية، وكبراهما كلية، ينتج جزئية موجبة، ومثاله: (بعض الحيوان إنسان، وكل حيوان حساس) ينتج: (بعض الإنسان حساس).

الضرب الرابع: موجبتان صغراهما كلية وكبراهما جزئية، ينتج جزئية موجبة، مثاله: (كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان ناطق) ينتج: (بعض الحيوان ناطق).

الضرب الخامس: موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى، ينتج جزئية سالبة، مثاله: (بعض الحيوان ناطق، ولا شيء من الحيوان بجماد) ينتج: (بعض الناطق ليس بجماد).

الضرب السادس: موجبة كلية صغرى وجزئية سالبة كبرى، ينتج جزئية سالبة. مثاله: (كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان ليس بفرس) ينتج: (بعض الحيوان ليس بفرس).

تنبيهات تتعلق بهذا الشكل الثالث:

الأول: اعلم أن كون هذا الشكل لا ينتج إلا جزئية سببه في الحقيقة أن نتيجته متركبة من محمول الصغرى، ومحمول الكبرى، ومحمول الصغرى هو موضوع النتيجة، ومن الجائز عقلًا أن يكون

(1/120)

________________________________________

محمول الصغرى أعم من محمول الكبرى، وقد قدمنا (1) أن الحكم على الأعم بالأخص لا يصدق إلا جزئيًّا.

وإذا كان محمول الصغرى الذي هو موضوع النتيجة أعم من محمول الكبرى الذي هو محمول النتيجة تبين من ذلك أن الحكم بالأخص على الأعم لا يصدق إلا جزئيًّا، سلبًا كان أو إيجابًا، كما قدمنا إيضاحه في الكلام على النسب الأربع (2).

فقولك مثلًا: (كل إنسان حيوان، وكل إنسان ناطق) هو الضرب الأول من هذا الشكل الثالث، والموضوع في كلتا المقدمتين الذي هو (الإنسان) هو الحد الوسط المُلغى لدى الإنتاج، والنتيجة متركبة من محمول الصغرى [وهو (الحيوان)] (3) في هذا المثال، ومحمول الكبرى وهو (الناطق) في هذا المثال، وموضوعها هو (الحيوان)، ومحمولها هو (الناطق)، و (الحيوان) أعم من (الناطق)، فلا يصح الحكم عليه به إلا جزئيًّا، سلبًا كان أو إيجابًا، ولذا كانت نتائج هذا الشكل كلها جزئيات، ولا يُنتج كليةً كما تقدم.

التنبيه الثاني: اعلم أنك إذا عكست صغرى هذا الشكل الثالث في العكس المستوي رجع إلى الشكل الأول بعينه في غالب أحواله.

فالمثال المذكور الذي هو قولنا: (كل إنسان حيوان، وكل إنسان

__________

(1) ص 42، 41.

(2) راجع ص 41.

(3) في المطبوع: (الحيوان وهو)، والصواب ما أثبته.

(1/121)

________________________________________

ناطق) لو عَكسْتَ صغراه فقط فقلت: (بعض الحيوان إنسان، وكل إنسان ناطق) لكان راجعًا إلى الشكل الأول، ونتيجته (بعض الحيوان ناطق).

التنبيه الثالث: اعلم أن وجه الحكم العقلي في إنتاج هذا الشكل في الجملة أن الموضوع الواحد إذا ثبت له محمولان في حالة كون هذا الشكل متركبًا من موجبتين لزم عقلا جواز الحكم بأحد المحمولين على الآخر في الجملة؛ لأن جواز حملهما إيجابًا على شيء واحد يدل على حمل آخرهما على أولهما في الجملة.

وإن كانت إحدى مقدمتيه سالبة والأخرى موجبة لزم من نفي أحد المحمولين عن الموضوع في السالبة وإثباته له في الموجبة حصولُ التغاير بين المحمولين، وجواز الحكم بسلب أحدهما عن الآخر سلبًا جزئيًّا؛ لنفي أحدهما عن الموضوع الذي ثبت له الآخر.

وقد تقدمت أَمثلة الجميع.

وأما الشكل الرابع: فيشترط لإنتاجه ألا يجتمع فيه خستان، سواء كانتا من جنسين أو من جنس واحد (1)، وهما الجزئية والسلب، إلا صورة واحدة فيُغتفر فيها اجتماع الخستين، وهي كون صغراه جزئيةً موجبة، وكبراه كليةً سالبة، وضروبه المنتجة بحسب ما ذكر خمسة.

وإيضاحه بطريق التحصيل أن الصغرى لا تكون جزئية سالبة أبدًا، وإذن:

__________

(1) وسواء كان ذلك في مقدمة واحدة، أو في المقدمتين.

(1/122)

________________________________________

إما أن تكون موجبة كلية، وهي تُنتج [مع] (1) الموجبة الكلية والموجبة الجزئية والسالبة الكلية من الكبريات، إذ ليس في شيء من تلك الصور اجتماع الخستين.

وإما أن تكون الصغرى موجبة جزئية، وهي تنتج مع السالبة الكلية الكبرى فقط، وهي الصورة المستثناة.

وإما أن تكون الصغرى كلية سالبة، وهي تنتج مع الكلية الموجبة الكبرى.

فتبين أن الصغرى إن كانت موجبة كلية أنتجت مع ثلاث كبريات، وإن كانت جزئية موجبة أنتجت مع كبرى واحدة، وإن كانت كلية سالبة أنتجت مع كبرى واحدة كما أوضحنا.

وهذه هي الضروب الخمسة المنتجة من الشكل الرابع، الذي هو ما كان الحد الوسط فيه موضوعًا في الصغرى محمولًا في الكبرى:

الضرب الأول: موجبتان كليتان، ينتج موجبة جزئية. ومثاله: (كل إنسان حيوان، وكل ناطق إنسان) ينتج: (بعض الحيوان ناطق).

الضرب الثاني: موجبتان صغراهما كلية وكبراهما جزئية، ينتج جزئية موجبة، مثاله: (كل إنسان حيوان، وبعض الناطق إنسان) ينتج: (بعض الحيوان ناطق).

الضرب الثالث: كليتان صغراهما سالبة وكبراهما موجبة، ينتج

__________

(1) في المطبوع: (من)، وما أثبته هو الموافق للسياق.

(1/123)

________________________________________

كلية سالبة. مثاله: (لا شيء من الإنسان بفرس، وكل ناطق إنسان) ينتج: (لا شيء من الفرس بناطق).

الضرب الرابع: موجبة كلية صغرى، وسالبة كلية كبرى، ينتج جزئية سالبة. مثاله: (كل إنسان حيوان، ولا شيء من الفرس بإنسان) ينتج: (بعض الحيوان ليس بفرس).

الضرب الخامس: موجبة جزئية صغرى، وسالبة كلية كبرى -وهي الصورة المستثناة من اجتماع الخستين- ينتج جزئية سالبة، مثاله: (بعض الحيوان إنسان، ولا شيء من الجماد بحيوان) ينتج: (بعض الإنسان ليس بجماد).

واعلم أنا تركنا خلاف المتأخرين في هذا الشكل، وقولَ جماعات منهم: إن شرط إنتاج هذا الشكل الرابع هو إيجاب مقدمتيه، أو اختلافهما في الكيف مع كلية إحداهما. وبنوا على ذلك أن المنتِج من ضروبه ثمانية، ثركنا ذلك كله اختصارا؛ لأن مقصودنا بهذه المقدمة إيصال طالب العلم إلى إدراك فن آداب البحث والمناظرة، ولذلك تركنا كثيرًا من المناقشات في تقديم بعض الضروب على بعض في تعريف القياس وغيره اختصارا كما أشرنا إليه في الترجمة.

تنبيهات تتعلق بهذا الشكل الرابع:

الأول: اعلم أن بعض الأقدمين حذفه؛ لبعد إنتاجه عن الطبع، وجعل الأشكال ثلاثة (1).

__________

(1) وعلى هذا جرى أبو حامد الغزالي في معيار العلم.

(1/124)

________________________________________

الثاني: اعلم أن سبب كون هذا الشكل لا ينتج إلا جزئية إلا في ضرب واحد من ضروبه هو أن الحد الوسط فيه هو موضوع الصغرى ومحمول الكبرى، والنتيجة فيه متركبة من محمول الصغرى وموضوع الكبرى، وموضوع نتيجته هو محمول الصغرى، ومحمولها هو موضوع الكبرى، ومن الجائز عقلا أن يكون محمول الصغرى الذي هو موضوع النتيجة أعم من موضوع الكبرى الذي هو محمول النتيجة.

وإذا كان الموضوع أعم لم يصدق عليه الحكم بالمحمول إلا جزئيًّا، كما تقدم إيضاحه في النسب الأربع (1)، وفي الكلام على الشكل الثالث (2).

وإنما كانت نتيجته كلية فيما إذا تركب من كليتين صغراهما سالبة وكبراهما موجبة، كما [تقدّم] (3) في قولك: (لا شيء من الإنسان بفرس، وكل ناطق إنسان) فإنه ينتج كلية سالبة هي: (لا شيء من الفرس بناطق)؛ لأن المقدمة الصغرى السالبة سلبت الفرسية عن كل فرد من أفراد الإنسان، والمقدمة الكبرى أثبتت الإنسانية لكل ناطق، فلزم سلب الناطقية عن كل فرس كما ترى.

الثالث: هذا الشكل الرابع يرجع في الغالب إلى الشكل الأول: تارة بتبديل [مقدمتيه] (4) مع عكس النتيجة، كالمتركب من كليتين

__________

(1) ص 41.

(2) ص 120.

(3) في المطبوع: (تقوم).

(4) في المطبوع: (مقدمته)، والمثبت هو مقتضى السياق.

(1/125)

________________________________________

موجبتين، فلو قلت: (كل إنسان حيوان، وكل ناطق إنسان) فهذا هو الضرب الأول من الرابع، ونتيجته جزئية موجبة هي (بعض الحيوان ناطق)، فلو جعلت صغراه هي الكبرى، وكبراه هي الصغرى، وعكست النتيجة بالعكس المستوي رجع إلى الأول.

كما لو قلت: (كل ناطق إنسان، وكل إنسان حيوان) ينتج من الشكل الأول (كل ناطق حيوان)، وهي عكس نتيجته قبل تبديل كل من المقدمتين بالأخرى.

وتارة باستعمال العكس.

والحاصل أن هذا الشكلَ ترجع ضروبه كلُها للشكل الأول، إما بتبديل المقدمتين وعكس النتيجة، وإما باستعمال العكس المستوي في مقدمتيه، كما يدركه من فهم ما سبق، وليمس قصدنا إطالةَ الكلام في ذلك؛ لأن المقصود من هذه العجالة المنطقية هو التوصل إلى معرفة آداب البحث والمناظرة.

ونظم بعضهم وجه رد الأشكال الثلاثة إلى الشكل الأول بقوله (1):

وغيرُ أولي من الأشكالِ ... إليه مردودٌ بلا إشكالِ

فالثانِ مردودٌ بعكسِ الكبرى ... والثالثَ اردده بعكسِ الصغرى

ورابعٌ بعكسِ ترتيب يَرِدْ ... أو المقدماتِ هكذا وردْ

__________

(1) النظم في حاشية الباجوري على متن السلم للأخضري، ص 70، وذكر أنها زيادة في بعض النسخ.

(1/126)

________________________________________

وأولٌ منها هو المعيارُ ... لأنه من بينها المدارُ

مسألة: اعلم أن القياس المذكورَ يكون بسيطًا، ويكون مركبًا:

فالبسيط هو ما تألف من قضيتين فقط، كقولك: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس).

والمركب هو ما تألف من أكثرَ من قضيتين، وضابطه أن تجعل النتيجة مقدمة صغرى، وتضم إليها كبرى، ثم تجعل النتيجة أيضًا صغرى، وتضم لها كبرى وهكذا.

ولذلك طريقان:

إحداهما: أن تذكر النتيجة بلفظها، فتجعلها صغرى، وتضم لها كبرى، كما لو قلت: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس) فالنتيجة (كل إنسان حساس)، فتضم لها كبرى فتقول: (كل إنسان حساس، وكل حساس نام) ينتج: (كل إنسان نام)، فتضم لها كبرى بعد التلفظ بها وهي (كل نام جسم)، ينتج: (كل إنسان جسم)، ويسمى هذا القسم متصل النتائج.

والثانية: أن لا تذكر النتائج، تقول: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس، وكل حساس نام، وكل نام جسم) ينتج: (كل إنسان جسم)، ويسمى هذا النوع مفصول النتائج.

(1/127)

________________________________________

 فصل في القياس الاستثنائي

وهو المعروف [بالشرطي] (1):

اعلم أولًا أن ضابط القياس الاستثنائي أنه هو "الذي يدل على النتيجة بمادتها وصورتها"؛ بأن يكون لفظ النتيجة مذكورًا فيه بصورته ومادته، أو "يكون دالًّا على نقيض النتيجة"، بأن يكون نقيضها مذكورا فيه بمادته وصورته، فلا بد من أن يكون فيه لفظ النتيجة أو نقيضها بالمادة والصورة.

تنبيه: في تعريف القياس الاستثنائيِّ هذا سؤال معروف، وهو أن يقال: تقدم في تعريف القياس أن النتيجة قول آخرُ مغاير لمقدمتي القياس في الصورة والمادة، فيشكل على ذلك أن نتيجة الاستثنائي قد تكون مذكورة فيه بمادتها وصورتها، وإذن فليست النتيجة قولا آخرَ غيرَ القياس، مع لزوم مغايرة النتيجة للقياس؟.

والجواب عن هذا السؤال معروف، وهو أن تعلم أولًا أن القضية الحملية تكون كلامًا مستقلا تام الفائدة، وإذا رُبطتْ بأداة شرط أو عناد زال استقلالها بكونها قضية، وصارت غير كَلام مفيد؛ لأنها حينئذ تصير جزء قضية شرطية، لا قضية حملية مستقلة.

فقولك مثلًا: (قام زيد) قضية حملية تامة المعنى، ولو أدخلت عليها أداة شرط فقلت: (إن قام زيد) زال استقلالها بكونها قضية،

__________

(1) في المطبوع: (بالشرطين)، وهو خطأ.

(1/128)

________________________________________

وصارت غير كلام مفيد؛ لتوقف فهم الشرط على الجزاء.

فإذا عرفت هذا فلفظ النتيجة في القياس جزء قضية، لا قضيةٌ مستقلة، ولفظُها باعتبار كونها نتيجةً قضيةٌ مستقلة لا جزءُ قضية.

ومن هنا حصل التغاير بين القياس والنتيجة، وسيتضح ذلك بأمثلة القياس الشرطي.

وقد علمتَ بما مر (1) أن الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة.

ولا يُنتج القياس المركبُ من المتصلة إلا إذا كانت لزومية، أما الاتفاقية فلا ذكر لها في القياس، إذ لا إنتاج لها.

وإذا علمتَ ذلك فاعلم أن القياس الاستثنائي المركب من الشرطية المتصلة اللزومية ومن الاستثنائية تنحصر ضروبه في أربعة لا خامس لها، اثنان منها منتجان، واثنان عقيمان.

واعلم أنّ حرف الاستثناء في هذا الفن هو لفظة (لكن) خاصة، وإطلاق الاستثناء عليه اصطلاح (2) منطقي.

ووجه مناسبته للّغة أن الاستثناء استفعال من الانثناء وهو الرجوع، والشرطية لم يُحكَم بوجود مقدَّمها ولا عدمه، ولا وجود تاليها ولا عدمه، فينثني المستدل إليها بحرف الاستثناء الذي هو (لكن)، ويُثبتُ مقدَّمها أو ينفيه، أو يثبتُ تاليَها أو ينفيه، ولا خامس البتة، ومن هنا

__________

(1) ص 67.

(2) في المطبوع: (اصطلاحا).

(1/129)

________________________________________

كانت ضروبها أربعةً فقط:

1 - فنفي التالي يسمى استثناء نقيض التالي.

2 - وإثبات التالي يسمى استثناء عين التالي.

3 - ونفي المقدَّم يسمى استثناء نقيض المقدم.

4 - وإثبات المقدَّم يسمى استثناء عين المقدم.

فكل واحد من طرفيها أثبتّه فقد استثنيت عينه، وكل واحد من طرفيها نفيته فقد استثنيت نقيضه.

وإذا علمت ذلك فاعلم أن الضربين المنتجين في القياس الشرطي المتصل هما: استثناء نقيض التالي، واستثناء عين المقدم.

أما الضربان العقيمان منه فهما: استثناء عين التالي، واستثناء نقيض المقدم.

فلو قلت مثلًا: (لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا، لكنه غير حيوان) فإنه ينتج (فهو غير إنسان)؛ لأن استثناء نقيض [التالي] (1) ينتج نقيض [المقدم] (2).

وبعبارة أوضحَ: نفي اللازم يقتضي نفيَ الملزوم.

ولو قلت في المثال المذكور: (لكنه إنسان) أنتج: (فهو حيوان)؛

__________

(1) في المطبوع: (المقدم)، وهو خطأ كما يظهر من السياق.

(2) في المطبوع: (التالي).

(1/130)

________________________________________

لأن استثناء عين المقدم ينتج عين التالي.

وبعبارة أوضح: وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم.

فهذان هما الضربان المنتجان منه.

وأما العقيمان:

فالأول منهما: هو استثناء عين التالي، كما لو قلت في المثال المذكور -الذي هو (لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا) -: (لكنه حيوان) فلا ينتج كونه إنسانًا؛ لجواز أن يكون حيوانًا آخر غيرَ الإنسان، كالفرس مثلًا؛ لأن استثناء عين التالي لا ينتج عين المقدم.

وبعبارة أوضح: وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم؛ لاحتمال كون اللازم أعمَّ من الملزوم، ووجودُ الأعم لا يقتضي وجودَ الأخص.

الضرب الثاني من العقيمين هو استثناء نقيض المقدم، فإنه لا ينتج نقيض التالي، كما لو قلت في المثال المذكور؛ (لكنه غير إنسان) فلا ينتج ذلك كونه غير حيوان؛ لاحتمال أن يكون حيوانًا آخرَ غيرَ الإنسان، كالفرس أو البغل مثلًا.

وبعبارة أوضح: نفيُ الملزوم لا يقتضي نفي اللازم.

فهذه الضروبُ الأربعةُ التي ذكرناها بأمثلتها وبيَّنا المنتجَين منها والعقيمين تنحصر فيها ضروبُ الشرطي المتصل، المتركبِ من شرطية متصلة لزومية واستثنائية.

(1/131)

________________________________________

تنبيه يتعلق بهذا القياس الاستثنائي:

قد علمت أن هذا النوع يتركب قياسه من [مقدمتين] (1):

الأولى منهما تسمى الشرطية، وهي قضية شرطية.

والثانية تسمى الاستثنائية، وهي قولك: (لكنه غير حيوان) مثلًا، أو (لكنه إنسان) مثلًا. والقضية التي هي الاستثنائية حملية.

ونقل ابن عرفة (2) عن الفارابي (3) أن الشرطية فيه هي الكبرى، والاستثنائيةَ هي الصغرى، عكس الاقتراني؛ فإن أولاه هي الصغرى، وأخراه هي الكبرى.

وأما القياس الشرطي المركب من الشرطيات المنفصلة والاستثنائية فهو ثلاثة أقسام؛ لأن الشرطية المنفصلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام كما تقدم إيضاحه (4).

__________

(1) في المطبوع: (تقدمتين).

(2) محمد بن محمد بن محمد بن عرفة، أبو عبد الله الورْغمي، التونسي، المالكي، عالم المغرب، توفي سنة 803 هـ. انظر الضوء اللامع للسخاوي (9/ 240)، الأعلام للزركلي (7/ 43).

(3) أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي المنطقي الفيلسوف، يقال إنه أول من اخترع القانون -الآلة الموسيقية-، وإنه يعرف سبعين لغة، توفي سنة 339 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (15/ 416 - 418).

(4) ص 76، 77.

(1/132)

________________________________________

1 - فإن كان القياس مركبًا من [منفصلةٍ] (1) حقيقيةٍ (2) مانعةِ جمعٍ وخلُوٍ معًا فإن ضروبه الأربعةَ منتجة، ولا عقيم فيه البتة:

فاستثناء نقيض كل واحد من طرفيها ينتج عين الآخر؛ لعنادهما في العدم.

واستثناء عين كل واحد من طرفيها ينتج نقيض الآخر؛ لعنادهما في الوجود.

فلو قلت: (العدد إما زوج وإما فرد، لكنه غير زوج) أنتج: (فهو فرد).

ولو قلت: (لكنه غير فرد) أنتج (فهو زوج).

ولو قلت: (لكنه زوج) أنتج: فهو غير فرد.

ولو قلت: (لكنه فرد) أنتج: (فهو غير زوج).

وهكذا في كل قياس مركب من مانعة جمع وخلُو معا.

2 - وأما القياس الشرطي المنفصل المركبُ من مانعة الجمع المجوِّزةِ للخلو (3) فإنه ينتج من [ضروبه] (4) الأربعةِ اثنان، والآخران عقيمان.

__________

(1) في المطبوع: (منصلة).

(2) يعني مع الاستثنائية.

(3) يعني مع الاستثنائية.

(4) في المطبوع: (ضروربه).

(1/133)

________________________________________

فالمنتجان منها هما: استثناء عين المقدم، فإنه ينتج نقيض التالي، واستثناء عين التالي، فإنه ينتج نقيض المقدم؛ للعناد بين طرفيها في الوجود.

والضربان العقيمان هما: استثناء نقيض التالي، واستثناء نقيض المقدم، فلا ينتجان؛ لعدم العناد بين طرفيها في العدم.

فلو قلت: (الجسم إما أبيض وإما أسود، لكنه أبيض) أنتج: (فهو غيرُ أسود).

ولو قلت: (لكنه أسود) أنتج: (فهو غيرُ أبيض).

ولو قلت: (لكنه غيرُ أبيض) لم ينتج شيئًا؛ لصدق (غير الأبيض) بالأسود وبغيره.

3 - وأما القياس الشرطي المنفصلُ المركبُ من مانعة الخلو [المجوِّزةِ] (1) للجمع (2) فإنه يُنتج فيه الضربان العقيمان في الذي قبله، والضربان المنتجان في الذي قبله عقيمان فيه، فهو عكسُه في الحقيقة والإنتاج.

فاستثناء نقيض كل واحد من الطرفين فيه ينتج عين الآخر، واستثناء عين كل واحد من الطرفين لا ينتج شيئًا.

وقد علمتَ أن نقيض النفي الإثبات، ونقيض الإثبات النفي.

__________

(1) في المطبوع: (المحجوزة).

(2) يعني مع الاستثنائية.

(1/134)

________________________________________

فلو قلت: (الجسم إما غيرُ أبيض وإما غيرُ أسود) واستثنيت نقيض المقدم فقلت: (لكنه أبيض) أنتج عين التالي، الذي هو (غير أسود)؛ لأن الأبيض غير أسود بالضرورة.

وكذلك لو استثنيت نقيض التالي فقلت: (لكنه أسود) أنتج عين المقدم، الذي هو (غير أبيض)؛ لأن الأسود غير أبيض ضرورة.

وكذلك لو استثنيت عين التالي فقلت: (لكنه غير أسود) لم يُنتج شيئًا؛ لأن غير الأسود صادق بالأبيض وغير الأبيض، وهكذا.

وهذه العجالة هي التي أردنا أن نذكرها قبل الشروع في أدب البحث والمناظرة؛ لأن أدب البحث والمناظرة لا يفهمه إلا من له إلمام بما ذكرنا في هذه العجالة. (وبالله التوفيق).

وبهذا ينتهي مقرر السنة الأولى وسيأتي مقرر السنة الثانية من قواعدِ ومباحث أدب البحث والمناظرة إن شاء الله -تعالى-.

(1/135)

________________________________________

آداب البحث والمناظرة

تأليف

الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 هـ - 1393 هـ)

تحقيق

سعود بن عبد العزيز العريفي

إشراف

بكر بن عبد الله أبو زيد

 القسم الثاني البحث والمناظرة

(1/137)

________________________________________

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

آداب البحث والمناظرة

اعلم أولًا أن البحث في اللغة الفحص والتفتيش. ومنه قوله -تعالى-: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، والمتناظران كل منهما يفحص ويفتش عما يصحح به حجته ويبطل به حجة خصمه.

والمناظرة: مفاعلة على بابها من اقتضاء الطرفين، وهي من النظر أو النظير، وكلاهما معروف لغة.

والنظر في الاصطلاح: هو الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن.

وقد قدمنا تعريفه وتعريف الفكر في الاصطلاح (1).

فالمناظرة في اللغة: المقابلة بين اثنين كل منهما ينظر إلى الآخر، أو كل منهما ينظر بمعنى يفكر، والفكر هو المؤدي إلى علم أو غلبة ظن.

وهي في الاصطلاح: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق، فكأنها بالمعنى الاصطلاحي مشاركتهما في النظر الذي هو الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن ليظهر الصواب.

والأصل في مشروعيتها قوله -تعالى-: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

__________

(1) في القسم الأول "مقدمات منطقية": ص 15.

(1/139)

________________________________________

[النحل / 125] وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وقوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 33].

فأقل مراتب حكمها الجواز إن كانت على الوجه المطلوب، وقيل بعضهم باستحبابها. وقيل إن القدر الذي يلزم لإبطال شبه خصوم الحق فرض كفاية، وليس ببعيد والله أعلم.

وموضوع هذا الفن: الأبحاث الكلية التي تندرج تحتها أبحاث جزئية من حيث هي موجهة مقبولة، أو غير مقبولة، فالأبحاث الكلية: كالمناقضة والنقض والمعارضة الكليات (1).

والأبحاث الجزئية المندرجة تحت هذه: كمعارضة دليل بعينه، وكنقض دليل خاص.

وقبول ذلك وعدمه يعرف من هذا الفن، فكل نقض بالتخلف أو استلزام الفساد، فهو وظيفة مقبولة، وكل إفساد للمقدمة، قبل إثباتها مع إقامة دليل الإفساد فهو غصب غير مقبول.

وقد علمت معنى الموضوع في المقدمة (2)، وبه تعلم أن موضوع كل فن ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كما أشرنا له الآن بالأمثلة (3)، فموضوع علم الطب بدن الإنسان، وموضوع الحساب

__________

(1) يقصد المناقضة الكلية، والنقض الكلي، والمعارضة الكلية.

(2) ص 14، 83.

(3) يقصد قوله: كالمناقضة والنقض والمعارضة. . إلخ.

(1/140)

________________________________________

الأعداد، وموضوع الفرائض التركات، وهكذا.

وموضوع هذا الفن الأبحاث الكلية المشتملة على الأبحاث الجزئية من حيث إنها موجهة مقبولة، أو غير موجهة ولا مقبولة.

(1/141)

________________________________________

 فصل في تقسيم الكلام إلى مفرد ومركب وبيان ما تجري فيه المناظرة وما لا تجري فيه

اعلم أن الكلام ينقسم إلى مفرد ومركب، وقد أوضحناهما فيما سبق في المقدمة المنطقية (1).

والمفرد لا تجري فيه المناظرة، وقد يجري فيه الاستفسار إن كان غريبًا.

والمركب الناقص كالتقييدي تجري فيه المناظرة بشرط أن يكون قيدًا للقضية. والمركب التقييدي كالحيوان الناطق.

والمركب الإنشائي التام كحملة الأمر والنهي والاستفهام والتمني ونحو ذلك: إن جاء به المتكلم من قبل نفسه فإنه لا تجري فيه المناظرة، وإن نقله عن غيره طولب بتصحيح النقل، فإن صححه خرج من العهدة، وهذا هو الأظهر؛ لأن الأحاديث النبوية التي يطالب من حَدَّث بها بتصحيحها منها ما معناه إنشائي كما هو معلوم، خلافًا لجماعة قالوا: إن المركب الإنشائي لا يكون محلًا للبحث أصلًا، ولا يكون منقولًا حتى يطالب صاحبه بتصحيح النقل، والأول هو الصواب إن شاء الله -تعالى-.

وأما المركب الخبري التام -وهو ما قدمنا أنه هو المسمى بالتصديق، وبالقضية، وأوضحنا معناه في المقدمة (2) عند النحويين،

__________

(1) ص 24.

(2) ص 12.

(1/142)

________________________________________

والبلاغيين، والمنطقيين، وما يسميه به كل منهم- فهو محل البحث والمناظرة، وعليه ترد اعتراضات المعترض، وإجابة المجيب، كما سترى تفاصيله إن شاء الله تعالى.

واعلم أن التعريفات والتقسيمات قد تجري فيها المناظرة، فإن قيل: كيف جرت فيها وهي لا تخلو أن تكون من قبيل المفرد أو المركب الناقص؟ فالجواب أن المناظرة إنما جرت فيها من حيث إنها متضمنة مركباتٍ خبريةً تامة.

وإيضاح ذلك في التعريف أنك لو عرفت الإنسان مثلًا بأنه هو "الحيوان الناطق" فهذا المركب التقييدي -الذي هو "الحيوان الناطق" الذي هو في قوة المفرد؛ لأنه يساوي الإنسان، ومساوي المفرد مفرد- يتضمن مركبات خبرية تامة، فكأَنك ادعيت في ضمن ذلك التعريف الدعاوى الآتية:

الأولى: أن هذا التعريف حدٌّ لا رسم.

والثانية: أنه مؤلف من الذاتيات، لا العرضيات.

والثالثة والرابعة: أنه مانع من دخول غير المحدود، جامع لجميع أفراد المحدود.

والخامسة: أنه لا يستلزم شيئًا من أنواع المحال، كالدور السبقي والتسلسل ونحو ذلك.

فجريان المناظرة في التعريف باعتبار هذه القضايا الخبرية التامة التي تضمنها التعريف، وقد تقدم جميع إيضاحها في المقدمة

(1/143)

________________________________________

المنطقية (1).

وأما إيضاح ذلك في التقسيمات فإنك لو قسمت كليًّا إلى جزئياته فقلت مثلًا: الجسم إما متحرك أو ساكن، فكأنك ادعيت في ضمن هذا التقسيم الدعاوى الآتية:

الأولى: أن هذا التقسيم حاصر لجميع أنواع المقسَّم، بمعنى أنه لا يوجد جسم خال من الحركة أَو السكون أو متصف بهما معًا في وقت واحد.

والثانية: أن الأقسام المذكورة كل واحد منها أخص مطلقًا من المقسَّم؛ لأنه لو لم يكن أخص منه لما صح انقسامه إليه وإلى غيره.

والثالثة: أن كل واحد من تلك الأقسام مباين للآخر، فلا مساواة بين اثنين منهما، ولا عموم مطلقًا، ولا من وجه، ولا خصوص مطلقًا، ولا من وجه.

الرابعة: أنه لا يدخل في التقسيم شيء مما ليس من أنواع المقسَّم.

فجريان المناظرة في التقسيمات باعتبار هذه المركبات الخبرية التامة التي تضمنها التقسيم.

وبما أوضحنا تعلم أن حاصل المناظرة في التعريف والتقسيم الاعتراض على تلك الدعاوى الضمنية؛ كأن يُدّعى في التعريف أنه غير

__________

(1) ص 56 وما بعدها.

(1/144)

________________________________________

جامع مثلًا، أو يدعى في التقسيم أنه غير حاصر، أو أن بعض الأقسام ليس أخصّ مطلقًا من المقسَّم، أو أَن بعضها لا يباين بعضًا، وهكذا.

فتحصّل أن محل المناظرة ثلاثة أقسام:

الأول: المركب الخبري التام، وهو محلها الأصلي.

الثاني: التقسيم.

الثالث: التعريف، وقد أوضحنا وجهة المناظرة فيهما آنفًا.

(1/145)

________________________________________

 فصل في التقسيم

اعلم أولًا أن الشيء المنقسم يسمى مقسَّمًا، وموردَ القسمة، والأجزاءُ المنقسم هو إليها تسمى أقسامًا، وكل قسم بالنسبة إلى الآخر يسمى قسيمًا له.

والأجزاء الداخلة في المقسَّم ولم تذكر في الأقسام تسمى واسطة.

والتقسيم في اللغة: جعل الشي أقسامًا، أي أجزاء.

وهو في اصطلاح أهل هذا الفن ينقسم إلى نوعين:

الأول: تقسيم الكل إلى أجزائه.

الثاني: تقسيم الكلي إلى جزئياته.

أما تقسيم الكل إلى أجزائه فهو تحصيل الحقيقة المركبة بذكر جميع أجزائها التي تتركب منها، كقولك: الكرسي خشب ومسامير، والشجرة جذع وأغصان.

وأما تقسيم الكلي إلى جزئياته، فضابطه ذكر أفراد الكلي التي هو قدر مشترك بينها بأداة تقسيم كـ "إما" و"أو"، بشرط كون الأفراد متباينة أو متخالفة (1).

__________

(1) راجع ما سبق ذكره عن قسمي التباين في المقدمة المنطقية ص 42.

(1/146)

________________________________________

كقولك: المعلوم إما موجود أو معدوم، والعدد إما زوج أو فرد، وقد قدمنا في المقدمة المنطقية إيضاح الكل والكلي والجزء والجزئي، وأوضحنا الفوارق بين تقسيم الكل إلى أجزائه والكلي إلى جزئياته فأغنى ذلك عن إعادته هنا (1).

واعلم أن تقسيم الكلي إلى جزئياته يشمل تقسيماتٍ متعددةً باعتبارات مختلفةٍ، فيقسم باعتبار تباين الأقسام وتخالفها، إلى حقيقي واعتباري.

أما التقسيم الحقيقي فهو ما كانت الأقسام فيه متباينة في المفهوم والماصدق، أعني تباينها في العقل والخارج معًا.

وإيضاحه أن يكون العقل حدَّ لكم قسم من تلك الأقسام حقيقة تُباينُ حقيقة ما سواه، وبها يتميز عن غيره من الأقسام، ولا يكون في الخارج شيء واحد من تلك الأقسام يمكن أن تتحقق فيه الحقائق المتباينة، ولو باعتبارات مختلفة، كتقسيم العدد إلى زوج وفرد، والجسم إلى متحرك وساكن، فإن الزوج يباين الفرد مفهومًا وماصدقًا، والسكون يباين الحركة مفهومًا وماصدقًا، فتقسيم العدد إلى فرد وزوج، والجسمِ إلى متحرك وساكن، ونحوُ ذلك هو المسمى بالتقسيم الحقيقي.

وأما التقسيم الاعتباري فهو ما كانت الأقسام فيه متخالفة -أي متباينة- في المفهوم دون الماصدق، أعني تباينها في العقل وحده دون

__________

(1) راجع ص 26 وما بعدها من المقدمة المنطقية.

(1/147)

________________________________________

الخارج؛ لإمكان أن يوجد في الخارج شيء واحد تتحقق فيه حقائق الأقسام المختلفة في المفهوم باعتبارات مختلفة.

ومثاله ما يسمى في الاصطلاح بالنوع الإضافي، وقد أوضحناه فِيما مضى (1)، كالحيوان مثلًا فإنه جنس بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد كالإنسان والفرس مثلًا، وهو نوع بالنسبة إلى ما فوقه كالنامي؛ لأن الحيوان نوع من جنس النامي، ونوعه الآخر النبات؛ لأنه نامٍ، أي يكبُر تدريجيًّا، وكالنامي؛ فإنه جنس بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد كالحيوان والنبات، ونوع بالنسبة إلى ما فوقه كالجسم؛ لأن منه ناميًا وغير نام كالحجر.

فلو قسّمت الحيوان فقلت: الحيوان إما جنس وإما نوع، تعني بكونه جنسًا إضافته إلى ما تحته، وبكونه نوعًا إضافته إلى ما فوقه، فهذا التقسيم يسمى تقسيمًا اعتباريًّا؛ لأنك قسمت الحيوان فيه إلى جنس ونوع باعتبارين مختلفين. والجنس والنوع في هذا المثال مختلفان في المفهوم؛ لأن النوع يغاير مفهومُه مفهومَ الجنس كما تقدم إيضاحه في الكليات الخمس (2)، فقسما هذا التقسيم مختلفان في المفهوم، ولكنهما في هذا المثال المذكور متحدان في الماصدق، لأن عين المراد بالجنس فيه هو عين المراد بالنوع فيه، فالمراد بهما معًا إنما هو الحيوان، ولكنه صار جنسًا باعتبار، ونوعًا باعتبار آخر، فتغاير المفهوم بالاعتبارين، والماصدق واحد.

__________

(1) المقدمة المنطقية ص 53 - 55.

(2) راجع ص 47 - 50.

(1/148)

________________________________________

وكما لو قلت: النامي إما جنس وإما نوع، تعني بكونه جنسًا إضافته إلى ما تحته كالحيوان والنبات، وبكونه نوعًا إضافته إلى ما فوقه كالجسم، وهكذا.

قال بعضهم: ألا ترى أن الملون جنس بالنسبة إلى الأسود والأحمر مثلًا، فتقول في تعريف الأحمر: هو الملون بالحمرة. وهكذا، مع أن الملّون نوع بالنظر إلى المكيف؛ لأن المكيف يتنوع إلى ملون ومشموم وملموس ونحو ذلك.

وهو أيضًا فصل بالنظر إلى الكثيف؛ لأنه يميز الكثيف عن اللطيف؛ لأنك تقول في تعريف الكثيف: هو جسم ملون.

والملوّن أيضًا خاصةٌ بالنظر إلى الجسم؛ لأن ما ليس بجسم كالهواء (1) لا يكون ملونًا.

والملون أيضًا عرض عام بالنسبة إلى الحيوان؛ لأن الجمادات ملونة أيضًا.

فصح في الملون أنه جنس باعتبار، ونوع باعتبار، وفصل باعتبار، وخاصة باعتبار، وعرض عام باعتبار، ومعلوم أن كل واحد من هذه الكليات الخمس يخالف غيره منها في المفهوم كما أوضحناه في تعريفنا لكل واحد منها في المقدمة المنطقية (2)، مع أن المقصود بجميعها لا يختلف في الماصدق؛ لأن المراد بها كلِّها الملونُ، فلو قلت: الملون إما جنس، وإما نوع، وإما فصل، وإما خاصة، وإما

__________

(1) الظاهر أنه يعني الفراغ، لا الغاز؛ فإنه جسم يتلون.

(2) ص 47 وما بعدها.

(1/149)

________________________________________

عرض عام، فهذه الأقسام التي قسمت إليها الملون مختلفة في المفهوم، متحدة في الماصدق، وإذن فهذا التقسيم اعتباري لا حقيقي.

وبما ذكرنا تعلم أن التباين في اصطلاح أهل هذا الفن هو المخالفة في المفهوم والماصدق معًا.

وأن التخالف هو المخالفة في المفهوم فقط دون الماصدق، وقد قدمنا أنواع التباين في اصطلاح المنطقيين، وأنه ينقسم إلى تباين مخالفة وتباين مقابلة، وأوضحنا جميع أقسام كل (1). واصطلاحات الفنون قد تختلف في الشيء الواحد.

وينقسم التقسيم بالنظر إلى طريق حصر المقسَّم إلى قسمين: عقلي واستقرائي.

وإيضاحه أنه لا طريق يعرف بها الحصر المذكور إلا العقل والاستقراء، ولا ثالث البتة.

فإن كان طريق الحصر العقلَ فهو تقسيم عقلي، وإن كان طريقه الاستقراءَ فهو تقسيم استقرائي.

واعلم أن ضابط التقسيم العقلي هو تقسيم المقسَّم إلى الشيء ونقيضه، أو إلى الشيء ومساوي نقيضه، فمثال تقسيمه إلى الشيء ونقيضه كقولك: العدد إما زوج وإما ليس زوج. والمعلوم إما موجود أو ليس بموجود؛ لما قدمنا من أن النقيضين هما السلب والإيجاب.

__________

(1) ص 42.

(1/150)

________________________________________

ومثال تقسيمه إلى الشيء ومساوي نقيضه قولك: العدد إما زوج وإما فرد، لأن لفظة (فرد) مساوية لـ (ليس بزوج)؛ لأن العقل يحكم بمجرد النظر في حصر الأقسام في الشيء ونقيضه، إذ لا واسطة بين النقيضين البتة، وكذلك: الشيء ومساوي نقيضه، فالعقل يحكم بمجرد النظر فيهما بحصر الأقسام فيهما.

وما يزعمه بعض المتكلمين (1) من أن ما يسمونه الحال المعنوية واسطةٌ ثبوتية بين المعدوم والموجود، فلا هي موجودة على الحقيقة، ولا هي معدومة على الحقيقة، لا شك في أنه باطل، وأنه من الأوهام الخيالية التي لا أساس لها من الحقيقة.

ولا شك أن العقل الصحيح يحكم بالحصر القطعي في الشيء ونقيضه أو مساوي نقيضه كما ذكرنا.

واعلم أن التقسيم العقلي قد يتعدد فتكون الأقسام أكثر من اثنين، كقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35] فإنه يتضمن تقسيمين عقليين قطعييين، وبهما تكون الأقسام ثلاثة.

وإيضاحه أن تقول: إما أن يكون خلْقُهم صدر من خالق هو خالقهم، أو لم يصدر من خالق أصلًا، وهذا تقسيم عقلي قطعي، منحصر في النقيضين المذكورين، ثم تُقسم أحد القسمين تقسيمًا عقليًّا

__________

(1) اشتهر بذلك منهم أبو هاشم الجبائي من أئمة المعتزلة (ت 321 هـ). انظر حول هذه المسألة "مذاهب الإسلاميين" للدكتور عبد الرحمن بدوي، ص 342 وما بعدها.

(1/151)

________________________________________

آخر فتقول: وعلى فرض أنهم خلقهم خالق فلا يخلو: إما أن يكون ذلك الخالق هو أنفسهم، أو ليس بأنفسهم، [فصح] (1) بالحصر العقلي انحصار الأقسام في ثلاثة:

الأول: أنهم خلقوا من غير شيء خالق لهم.

الثاني: أنهم خلقهم خالق هو أنفسهم.

الثالث: أنهم خلقهم خالق غير أنفسهم.

ومعلوم بطلان القسمين الأولين، وصحة الثالث كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله -تعالى-.

وأما التقسيم الاستقرائي الذي هو ما كان حصر المقسم في أقسامه فيه بطريق الاستقراء فهو ما لا يحكم العقل فيه بحصر، ولكن صاحب التقسيم استقرأ الأقسام أي تتبعها حتى علم بالتتبع والاستقراء أنه لم يبق قسم فِي الخارج غير ما ذكر.

كقولهم العنصر: إما ماء، وإما تراب، وإما هواء، وإما نار، وزعموا أنهم استقصوا تتبع أقسام العنصر فلم يجدوا له في الخارج من الأقسام إلا هذه الأربعة، مع أن العقل يجوز وجود غيرها من الأقسام.

وكقولهم: الكلمة إماسم، وإما فعل، وإما حرف.

وكقولهم: المبتدأ إما ظاهر، وإما مضمر.

__________

(1) في المطبوع: (وصح) بالواو، والسياق يقتضي ما أثبته.

(1/152)

________________________________________

وكقولهم: الخبر إما مفرد، أو جملة، أو شبه جملة، كالظرف والجار والمجرور، ونحو ذلك.

فتتبع الأفراد الخارجية حتى لم يبق منها فرد هو الحصر الاستقرائي.

وأصل الاستقراء من قولهم: استقريت البلد، إذا تتبعته قرية قرية.

واعلم أن الحصر في التقسيم قد يكون قطعيًّا وقد يكون ظنيًّا، فالعقلي قطعي مطلقًا، والاستقرائي قد يكون قطعيًّا، كقولنا الخبر إما مفرد أو جملة أو شبه جملة؛ لأنا نقطع أن تتبع أفراد الخبر الخارجية يعلم به أنه ليس قسم رابع للخبر، وقد يكون ظنيًّا.

تنبيه: اعلم أن الأصل في التقسيم العقلي أن يؤتى به عن طريق الترديد بين النفي والإثبات، كما قدمنا من أن أصله التقسيم إلى الشيء ونقيضه، والنقيضان هما النفي والإثبات، كقولك: المعلوم إما موجود وإما لا.

وأما التقسيم الاستقرائي فالأصل فيه ألا يكون بالترديد بين النفي والإثبات، كما قدمنا في المثال بالعناصر وأقسام الكلمة وأقسام المبتدأ وأقسام الخبر.

وقد يعرض لصاحب التقسيم عارض يستوجب إيراد الاستقرائي على طريق إيراد العقلي، وذلك كقصد ضبط الأقسام ومنع انتشارها، كقولهم: العنصر إما تراب أو لا، وهذا إما ماء أو لا، وهذا إما هواء أو لا، وهو النار.

(1/153)

________________________________________

والقسم الأخير في هذا النوع يكون أعم من نفس المراد به؛ لأن نقيض الهواء أعم من النار كما ترى.

وكقولهم الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها وإما لا، والثاني هو الحرف، والأول إما أن يكون الزمن جزءًا من مفهومه وإما لا، الأول الفعل، والثاني الاسم.

فنحو هذا من التقسيم الاستقرائي جيء به على صورة التقسيم العقلي بين الإثبات والنفي للعارض المذكور.

فإذا جاء صاحب التقسيم بكل نوع من هذين النوعين على ما هو الأصل فيه لم يلتبس أحدهما بالآخر، وإذا جاء بالاستقرائي في صورة العقلي، أو بالعقلي في صورة الاستقرائي التبس أحدهما بالآخر.

والتباس الاستقرائي بالعقلي يضر صاحبه؛ لأن خصمه يتوهم أن التقسيم عقلي فيعترض عليه بتجويز العقل قسمًا آخر، الذي هو مفروض في الاستقرائي، فيضطر إلى بيان أنه استقرائي جيء به في صورة العقلي.

بخلاف التباس العقلي بالاستقرائي، فلا يضر؛ لأن العقل فيه لا يجوّز قسمًا آخر.

وزاد بعض أهل هذا الفن التقسيم الجعلي والقطعي: أما الجعلي فكتقسيم المؤلف كتابًا أبواب الكتاب أو فصوله إلى عشرة مثلًا، فالمؤلف هو الذي جعل الأقسام عشرة، فهو جعلي بالنسبة إليه، واستقرائي بالنسبة إلى قارئ الكتاب.

(1/154)

________________________________________

وأما القطعي فهو ما كان قطع العقل فيه بنفي قسم آخر مستندًا إلى دليل أو تنبيه، ومثاله أن يدل على الحصر المذكور إجماع شرعي، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به، فإن علة الإجبار إما البكارة، وإما الجهل بالمصالح، فإن قال المعترض: أين دليل الحصر في الأمرين؟ أجيب بأنه هو الإجماع على عدم التعليل بغيرهما، فإسناد التقسيم المذكور إلى الإجماع صغيّره قطعيًّا، ومعلوم أن التقسيم القطعي أعم من هذا التقسيم، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح.

(1/155)

________________________________________

 فصل في شروط صحة التقسيم

أما تقسيم الكل إلى أجزائه فيشترط الصحته شرطان:

الأول: أن يكون حاصرًا لجميع الأجزاء التي تركب منها الكل، مانعًا من دخول قسم آخر ليس من أقسام المقسَّم.

الثاني: أن يكون كل قسم مباينًا لما عداه من الأقسام، ومباينًا أيضًا للمقسَّم بالنظر إلى الحَمل لا بالنظر إلى التحقق.

ومثال ما استوفى الشرطين قولك: الكرسي خشب ومسامير؛ لأن أجزاء الكرسي منحصرة في الخشب والمسامير، ولا يدخل فيها قسم آخر من غير أقسام الكرسي، والمسامير مباينة للخشب، وهي والخشب كلاهما مباين للكرسي بالنظر إلى الحمل، إذ لا يجوز أن تقول: المسامير كرسي، ولا الخشب كرسي، مع أنه إذا تحقق الكرسي في الخارج تحققت أجزاؤه ضرورة، وهي الخشب والمسامير، وذلك هو معنى قولنا: لا بالنظر إلى التحقق.

وأما تقسيم الكلي إلى جزئياته فيشترط الصحته ثلاثة شروط:

الأول: أن يكون حاصرًا لجميع أقسام المقسَّم، بمعنى كونه جامعًا للأقسام العقلية كلها إن كان التقسيم عقليًّا، وجامعًا لما جميع الأقسام الموجودة في الخارج إن كان استقرائيًّا، وأن يكون مانعًا من دخول قسم من غير أقسام المقسم.

الشرط الثاني: أن يكون كل قسم منها أَخصَّ مطلقًا من المقسَّم،

(1/156)

________________________________________

فلا يجوز أن تكون النسبة بينه وبين واحد منها المساواة، أو العمومَ والخصوصَ من وجه، أو العمومَ والخصوصَ المطلقَ إن كان القسم أعمَّ مطلقًا من المقسَّم، فإن كان أخصَّ منه مطلقًا فهو الشرط المطلوب.

الشرط الثالث: أن يكن كل قسم من الأقسام مباينًا لما سواه منها، فلا يصح كون بعض الأقسام مساويًا لبعضها أو أعمَّ مطلقًا أو من وجه أو أخصَّ مطلقًا أو من وجه منه.

وقد قدمنا أن التباين في التقسيم العقلي لا بد أن يكون في العقل والخارج معًا، وأنه في التقسيم الاعتباري يكون في العقل دون الخارج.

ومثال التقسيم العقلي المستوفي للشروط الثلاثة قولك: (الممكن إما موجود أو ليس بموجود)، فهذا التقسيم حاصر لأقسام المقسّم العقلية، مانع من دخول غيرها، فالمقسم في هذا المثال هو الممكن، وأقسامه العقلية منحصرة في كونه موجودًا أو ليس بموجود، ولا يدخل فيهما قسم لغير هذا المقسم، ولا يخرج عنهما قسم منه؛ لأن العقل يحصر الأقسام في الشيء ونقيضه؛ إذ لا واسطة بين النقيضين، والموجود وما ليس بموجود كلاهما أخص من الممكن؛ لصدقه بكل واحد منهما، والموجود وما ليس بموجود يباين كل منهما الآخر عقلًا وخارجًا.

ومثاله في الاستقرائي تقسيم العنصر إلى الأقسام الأربعة، وهو واضح مما ذكرنا.

(1/157)

________________________________________

وإذا استكمل التقسيم بنوعيه الشروط المذكورة كان تقسيمًا صحيحًا، وإذا اختل شرط منها لم يكن صحيحًا، وورد عليه الاعتراض من جهة اختلاله.

ومثال اختلال شرط الجمع قولك: (الحيوان إما ناطق وإما صاهل)؛ لأن هذا التقسيم غير حاصر؛ لأنه لم يشمل الناهق ونحوه.

ومثال اختلال المنع قولك: (الحيوان إما أبيض وإما ناطق وإما صاهل. إلخ. . .)؛ لدخول الثلج ونحوه في قسم الأبيض مع أنه ليس من أقسام الحيوان.

ومثال اختلال شرط كون كل قسم أخص مطلقًا من المقسَّم مع مساواته له قولك: (الحيوان إما حساس وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ لأن الحساس يساوي المقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور.

ومثاله مع كون بعض الأقسام أعم من المقسم قولك: (الحيوان إما نام وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ لأن النامي أعم من المقسم الذي هو الحيوان في هذا المثال.

ومثاله مع كونه أعم من وجه وأخص من وجه قولك: (الحيوان إما أبيض وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ لأن قسم الأبيض أعم من المقسم الذي هو الحيوان في المثال من وجه، وأخص منه من وجه، فيجتمعان في الحيوان الأبيض كالديك الأبيض، وينفرد الحيوان عن الأبيض في الحيوان الأسود كالغراب، وينفرد الأبيض عن الحيوان في الثلج والعاج ونحوهما.

(1/158)

________________________________________

ومثاله مع كون بعض الأقسام مباينًا للمقسم قولك: (الحيوان إما حجر وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ لأن قسم الحجر يباين المقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور.

ومثال اختلال شرط مباينة بعض الأقسام بعضًا مع المساواة بين اثنين منها قولك: (الحيوان إما ناطق وإما بشر وإما صاهل وإما ناهق) إلخ؛ فإن قسم الناطق وقسم البشر متساويان في الماصدق.

ومثاله مع العموم والخصوص المطلق قولك: (الحيوان إما حساس وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ فإن قسم الحساس أعم مطلقًا من الناطق والصاهل، وهما أخص منه مطلقًا؛ لصدق الحساس بهما وبغيرهما.

ومثاله مع العموم والخصوص من وجه قولك: (الحيوان إما أسود وإما ناطق وإما صاهل) إلخ؛ فإن قسم الأسود أعم من وجه من الناطق والصاهل، وأخص منهما من وجه، يجتمعان في الإنسان الأسود والفرس الأسود، وينفرد الناطق والصاهل عن الأسود في الإنسان والفرس الأبيضين، وينفرد الأسود عنهما في الغراب والفحم ونحو ذلك.

والقصد مطلق المثال، والمثال لا يعترض بأن الأسود كما أن بينه وبينهما العمومَ والخصوصَ من وجه أنه كذلك في المقسم، فبين الأسود والمقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور عموم وخصوص من وجه أيضًا كما هو واضح؛ إذ لا مانع من تداخل الأمثلة وكون المثال الواحد صالحًا لشيئين فأكثر.

(1/159)

________________________________________

 فصل في بيان أوجه الاعتراض على التقسيم وبيان طرفي المناظرة في التقسيم

اعلم أولًا أنه قد اشتهر عند علماء هذا الفن أن الذي يعترض على التقسيم بأحد وجوه النقض الآتية يسمى مستدِلًا، وأن صاحب التقسيم أو الذي يبين بطلان الاعتراضات عليه يسمى مانعًا، عكس الاصطلاح الأصولي المعروف، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وقد عرفت مما قدمنا أن تقسيم الكلي إلى جزئياته تشترط لصحته ثلاثة شروط، وقد قدمناها قريبًا موضحة، وأن تقسيم الكل إلى أجزائه له شرطان، وقد قدمناهما موضحين قريبًا، وبينا أن الاعتراض على التقسيم إنما يتوجه بسبب اختلال أحد الشروط المذكورة، وقد قدمنا أمثلة اختلالها، وورود الاعتراض على التقسيم بسبب اختلال أي واحد من الشروط، ومثلنا لذلك كله في تقسيم الكلي إلى جزئياته، وسنذكره مع المثال هنا في تقسيم الكل إلى أجزائه.

وإيضاحه أنك قد علمت مما مر أن الشرطين المشترطين لصحة تقسيم الكل إلى أجزائه: الأول منهما كونه جامعًا مانعًا، والثاني كون كل قسم من أقسامه مباينًا لما عداه منها، ومباينًا أيضًا للمقسم بالنظر إلى الحمل، لا بالنظر إلى التحقق، وبذلك تعلم أن الاعتراض يتوجه إليه باختلال أحد الشرطين، كان يكون غير جامع أو غير مانع، أو يكون بعض أقسامه غير مباين لبعض، أو غير مباين للمقسم من حيث الحمل.

(1/160)

________________________________________

فمثال ورود الاعتراض عليه بكون غير جامع قولك في كرسي مركب من ذهب وخشب ومسامير: (هذا الكرسي ذهب ومسامير)؛ لأن ذلك لم يشمل الجزء الخشبي، فهو غير جامع لجميع الأجزاء التي هي أقسامه.

ومثال كونه غير مانع قولك: (الكرسي: المتحيز [و] (1) المسامير)، تعني: الجزء الخشبي ومسامير؛ لأن لفظ المتحيز وإن كان صادقا بالجزء الخشبي فإنه لا يمنع غير أجزاء الكرسي من الدخول كالحجر لأنه متحيز.

ومثال توجه الاعتراض إليه بكون بعض الأقسام غير مباين لبعضها الآخر قولك في كرسي مركب من خشب وصفائح حديد ومسامير: (هذا الكرسي قطع حديد -تعني الصفائح- وخشب ومسامير)؛ لأن قطع الحديد لا تباين المسامير؛ لأن كل واحد منها قطعة من حديد في الجملة، وإن كانت قطع الحديد المذكورة تختلف هيآتها؛ لأن اختلاف الهيآت لا يغير الحقيقة، فلا شك في أنه يصدق على كل من الصفائح والمسامير أنه قطع من حديد.

ومثال توجه الاعتراض عليه بكون بعض الأقسام غير مباين للمقسَّم من حيث الحمل قولك: (الكرسي مسامير وشيء يجلس عليه) تعني الجزء الخشبي؛ لجواز الحمل في قولك الكرسي شيء يجلس عليه.

__________

(1) في المطبوع: (غير)، والسياق يأباها ويقتضي ما أثبت.

(1/161)

________________________________________

 فصل في الأجوبة عن الاعتراضات الموجهة إلى التقسيم

وهي راجعة إلى ما يسمونه تحرير المراد، وضابطه عندهم أن يوضح صاحب التقسيم مراده الذي قصده في تقسيمه بما يدفع عنه الاعتراض، وهو أربعة أنواع:

الأول: تحرير المراد من المقسَّم؛ بأن يوضِّح أنه قصد به معنًى لا يتوجه إليه الاعتراض، وأنه غير المعنى الذي ظنه السائل.

ومن أمثلته أن يقول صاحب التقسيم: الكلمة إما اسم أو فعل.

فيعترض المستدل هذا التقسيم فيقول: هو تقسيم استقرائي غير حاصر للأقسام الموجودة في الخارج؛ لأنه لم يشمل الحرف، وهو قسم من أقسام الكلمة، وكل تقسيم غيرُ جامع -أي حاصر لجميع الأقسام- فهو فاسد.

فيجيب صاحب التقسيم -فيقول: أمنعُ كونه غيرَ حاصر- بتحرير مراده، ويوضح أن مراده بالمقسَّم الذي هو الكلمة في المثال المذكور معنى خاص، وهو ما دل عليه معنى في نفسه، والحرف لا يدل على معنى في نفسه بل في غيره، وحصر أقسام المقسَّم حاصل على المعنى الذي قصده، وبين أنه هو مراده، فيندفع عنه الاعتراض بتحرير مراده في المقسم.

النوع الثاني: تحرير المراد من الأقسام.

ومثاله أن يقول صاحب التقسيم: الإنسان إما ذكر وإما أنثى.

(1/162)

________________________________________

فيقول المستدل: هذا تقسيم استقرائي غير جامع للأقسام الموجودة في الخارج؛ لأنه لا يشمل الخنثى المشكل، وهو قسم من أقسام الإنسان موجود في الخارج.

فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنع كونه غير جامع؛ لأني أردت بتقسيمي الأقسام المشهورة الغالبة في الوجود، ولم أرد ما يشمل القسم النادر وجوده الذي لا يكاد يخطر بالبال في أغلب الأوقات، وتقسيمي حاصر على ما أوضحت من مرادي بالأقسام.

النوع الثالث: تحرير المراد من التقسيم.

كأن يقول صاحب التقسيم: العنصر إما تراب أو لا، وهذا إما هواء أو لا، وهذا إما ماء أو لا، وهو النار كما تقدم إيضاحه.

فيقول المستدل: هذا تقسيم ظاهره أنه عقلي؛ للترديد فيه بين النفي والإثبات، وهو تقسيم غير جامع؛ لأن العقل يجوّز قسما خامسًا وسادسًا. . . إلخ من أقسام العنصر، وكل تقسيم كان غير جامع فهو فاسد.

فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنعُ قولك إن كل تقسيم جوّز فيه العقل قسمًا آخرَ غير مذكورٍ فاسد؛ لأن محل ذلك في التقسيم العقلي خاصة، وأما التقسيم الاستقرائي فلا يَبطل بمجرد تجويز العقل قسما آخرَ غير مذكور، بل لا يبطل إلا بوجود قسم في الخارج غيرِ مذكور في التقسيم كما تقدم إيضاحه.

فاندفع عنه الاعتراض بتحرير مراده من التقسيم، وأن مراده

(1/163)

________________________________________

التقسيمُ الاستقرائي الذي لا يَبطل بمجرد تجويز العقل قسمًا آخر، لا التقسيمُ العقلي كما ظنه المستدِل.

ويدخل في هذا النوع أن يظن المستدِل التقسيم حقيقيًّا، فيُعترض عليه بأن الأقسام ليست متباينة في المفهوم والماصدق، فيجيب صاحبه بأن التقسيم اعتباري لا حقيقي، ولا يشترط فيه تباينُ الأقسام في العقل والخارج، بل يكفي فيه تخالفها، وهو تباينها في العقل فقط دون الخارج، كما تقدم إيضاحه وأمثلته.

النوع الرابع: تحرير المراد من المذهب العلمي الذي بني عليه صاحب التقسيم تقسيمه.

ومثاله أن يقول صاحب التقسيم: المعلوم إما موجود وإما معدوم.

فيقول المستدِل: هذا تقسيم عقلي غيرُ جامع؛ لأن ما يسميه المتكلمون الحال سواءٌ كانت معنوية أو نفسية قسمٌ من أقسام المعلومِ لم يذكر في التقسيمِ، وهي واسطة ثبوتية بين الوجود والعدم، فلا هي من قسم الموجود ولا هي من قسم المعدوم، وكل تقسيم غيرُ جامع فهو فاسد.

فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنعُ كون تقسيمي غيرَ جامع؛ لأني بنيت تقسيمي على مذهب من يقول إن الحال المذكورة لا أصل لها، وإنما هي خيال وهمي محض، وأن العقل الصحيح يحصر المعلوم في الشيء ونقيضه حصرًا لا شك فيه.

(1/164)

________________________________________

فقد أبطل الاعتراض الوارد على تقسيمه بتحرير المراد الذي قصده من المذهب العلمي الذي بني عليه تقسيمه، وقد أوضحنا في غير هذا الموضع أن الحال المذكورة خيال وهمي لا حقيقة له البتة، وأن كل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعًا، وكلَّ ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعًا كما لا يخفى (1).

واعلم أن ما ذكرنا من الاعتراضات على التقسيم والأجوبة عنها ينبغي أن ينظر قبله هل صاحب التقسيم ناقل له عن غيره أو لا؛ فإن كان ناقلًا عن غيره ولم يلتزم صحته لم يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل عن المصدر الذي نقل عنه، من كتابٍ أو راوٍ مثلًا.

وإن كان جاء التقسيم من تلقاء نفسه أو نقله عن غيره والتزم صحته: فإن كان في كلامه شيء غير واضح فللسائل الاستفسار عنه، وعليه البيان والإيضاح، وإن كانت الكلمات لا إجمال فيها ولا لبس ولا اشتراك فللسائل الاعتراض على التقسيم بالأوجه التي ذكرنا، ولخصمه الجواب عنها بالأجوبة التي بينّا، وإن عجز عن الجواب عن أحد الاعتراضات المذكورة فعليه الانتقال إلى تقسيم آخر، وإن وجد تقسيمه صحيحًا لا خلل فيه وجب عليه تسليمه والاعتراف بصحته، وهذا هو ترتيب المناظرة في التقسيم.

__________

(1) راجع ص 151.

(1/165)

________________________________________

فصل

اعلم أن التقسيم قد يكون دليلًا مستقلًا في التصورات، وجزءَ دليل في التصديقات.

أما كونه دليلًا مستقلًا في التصورات فقد أشرنا إليه في المقدمة المنطقية (1) في الكلام على المُعرِّفات، وبينّا أن (القسمة) من المُعرِّفات التي تتميز بها الحقيقة المعرِّفة عن غيرها، ومرادنا بالقسمة التقسيم المذكور، ومثّلنا لذلك بتعريف (العلْم) بالتقسيم بأن نقول: الاعتقاد إما جازم أو غير جازم، والجازم إما مطابق أو غير مطابق، والمطابق إما ثابت لا يقبل التشكيك بحال وإما لا، فظهر من التقسيم: اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيك بحال، وهو (العلم)، كما قدمنا إيضاحه وما يحترز عنه بكل لفظ من ألفاظ التقسيم المذكورة، فهذا التقسيم صار دليلًا مستقلًا لتصور (العلم)؛ لأنه يحصل به تصور (العلم) بأنه اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيل بحال، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.

وأما كون التقسيم جزءَ دليل في التصديقات فلأن الدليل المعروفَ عند أهل الأصول بالسبر والتقسيم، وعند الجدليين بالتقسيم والترديد، متركب من أصلين: أحدهما التقسيم، وهو حصر جميع أقسام المقسَّم، والثاني هو سبر تلك الأقسام كلها، أي اختبارها وتمييز ما يصلح منها وما لا يصلح، وبه تعلم أن التقسيم صار أحدَ ركني هذا الدليل التصديقي، وقسمه الثاني هو سبر الأقسام -أي اختبارها-، فإذا

__________

(1) ص 57، 58.

(1/166)

________________________________________

صح التقسيم واستوفى شروطه المذكورةَ وصح سبرها وهو اختبار صحيحها من فاسدها، وصالحِها من غيره، كان الأمران المذكوران دليلًا تصديقيًّا، والتقسيم جزء منه.

وهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم يستعمله المنطقيون في مقاصد آخر، وهو ما قدمنا أنهم يسمونه الشرطي المنفصل (1).

واعلم أنا قد بسطنا الكلام في هذا الدليل في كتابنا "أَضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" في سورة مريم، في الكلام على قوله -تعالى-: {أَطَّلَعَ الْغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}، وبينّا المراد به عند الأصوليين والجدليين والمنطقيين، وأوضحنا الفرق بين ما تريد به كل طائفة منهم وبين ما تريد به الأخرى، وذكرنا له أربعة أمثلة قرآنية، وبينّا بعض آثاره التاريخية العقائدية والأدبية، ولذلك سنختصر الكلام عليه هنا، فنذكر له مثالًا في القرآن، ومثالًا في الأصول، ومثالًا في الجدل.

فمن أمثلته في القرآن قوله -تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35].

وقد قدمنا أن التقسيم في هذه الآية عقلي، وإنما كانت الأقسام ثلاثة لأنهما تقسيمان عقليان قطعيان، لأنا نقول: إما أن يكونوا خُلقوا بلا خالق أصلًا، أو خلقهم خالق، وهذا تقسيم عقلي قطعي؛ لحصره في الشيء ونقيضه، ثم نقسم القسم الثاني الذي هو قولنا: أو خلقهم خالق، فنقول: لا يخلو ذلك الخالق من أن يكون أنفسَهم أو ليس بأنفسهم، وهذا أيضًا تقسيم عقلي قطعي؛ لحصره في الشيء ونقيضه،

__________

(1) راجع ص 132.

(1/167)

________________________________________

فصارت الأقسام في التقسيمين ثلاثة: الأول كونهم خلقوا بلا خالق أصلًا، الثاني أنهم خَلقوا أنفسهم، الثالث أنهم خلقهم خالق غيرُ أنفسهم. فهذا التقسيم العقلي الصحيح جزء الدليل التصديقي، وجزءه الآخرُ هو سبر هذه الأقسام الثلاثة واختبارها، وتمييز الصحيح منها من الباطل. وبالسبر الصحيح يتبين أن القسمين الأولين -وهو أنهم خُلقوا بدون خالق أو أنهم خَلقوا أنفسهم- باطلان غاية البطلان كما لا يخفى، وأن القسم الثالث -وهو أنهم خلقهم خالق- صحيحٌ لا شك فيه، وهذا الخالق الذي خلقهم هو خالق السموات والأرض ومن فيهما -سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا-. فالقسم الصحيح من الأقسام حُذف في الآية؛ لدلالة المقام عليه، فدل التقسيم والسبر المذكوران على أن لهم خالقًا هو الذي خلقهم، وهو الذي يستحق عليهم أن يعبدوه وحده، فكونهم خلقهم خالق تصديق، وكان التقسيم جزء الدليل عليه، ومن المعلوم أن الحصر والتقسيم إن كانا قطعيين كان السبر والتقسيم دليلًا قطعيًّا، كالآية التي مثلنا بها، فدلالتها على أنه -تعالى- هو الخالق المستحق للعبادة وحده قطعية؛ لأن الحصر والإبطال [فيها] (1) قطعيان.

واعلم أن الأصوليين إنما يستعملون هذا الدليل في إثبات العلة بحصر أوصاف المحل، وإبطال غير الصالح للتعليل، فيتعين الباقي الصالح للتعليل.

كقول الشافعي: علة تحريم الربا في البر إما الكيل وإما الطُعم وإما الاقتيات والادخار مثلًا، ثم يستدل على بطلان وصف الكيل ووصف الاقتيات والادخار بأن ملء الكف من البر لا يجوز فيه الربا، مع أنه غير

__________

(1) في المطبوع: (فيهما)، والمثبت هو الصواب لأن الضمير يعود على الآية.

(1/168)

________________________________________

مكيل وغير مقتات ولا مدخر، لكنه مطعوم، فيتعين الطُعم للعلية. وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.

ومن أمثلته عندهم قصة الأعرابي الذي جاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: هلكتُ، واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له - صلى الله عليه وسلم - أعتق رقبة (1).

فنقول: علة عتق الرقبة إما أن تكون كونَه أعرابيًّا، أو كونَ الموطوءة أهلًا لا سُرِّية، أو هي الجماع في نهار رمضان.

ثم نرجع للأقسام بالسبر الصحيح فنجد كونه أعرابيًّا ليس بصالح للتعليل؛ لأن حكم جماع الحضري في نهار رمضان كحكم جماع الأعرابي. وكون الموطوءة أهلًا ليس بصالح؛ لأن وطء أَمته بالتسرّي في نهار رمضانَ كحكم وطء زوجته، فيبقى الجماع في نهار رمضان، فيتعيّن كونه هو العلة. فقولنا (علة الكفارة الجماع) تصديق، والتقسيم جزء من دليله المذكور.

ومن أمثلته الجدلية التاريخية العقائدية قول عبد الله بن محمد الأذرمي (2) لأحمد بن أبي دؤاد (3) أمام الواثق بالله (4) ما حاصله

__________

(1) صحيح البخاري (1834)، وصحيح مسلم (1111).

(2) هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي، نسبة إلى أذْرمة، قرية بنصيبين، الموصلي، ثقة من العاشرة كما في التقريب: ص 320.

(3) هو أحمد بن فرج بن حريز الإيادي البصري ثم البغدادي، تبنى القول بخلق القرآن وامتحان العلماء على ذلك، مات سنة 230 هـ. انظر سير أعلام النبلاء (11/ 169 - 171).

(4) الخليفة العباسي، هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، توفي سنة 232 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 306 - 314) وقد أورد القصة هناك.

(1/169)

________________________________________

ومضمونه هو هذا الدليل، فخلاصة ما قاله له: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها -وهي كون القرآن مخلوقًا- إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا، وهذا تقسيم عقلي صحيح؛ لحصره في الشيء ونقيضه، ثم نرجع للقسمين المذكورين بالسبر الصحيح فنجدك يا ابن أبي دؤاد على غير الصواب في جميع الاحتمالات، فعلى تقدير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين كانوا غير عالمين بها فلا يمكن أن تكون عالمًا بها، وإذًا فأنت تدعو الناس لما لا علم لك به، وهذا غير صواب منك. وعلى تقدير أنهم كانوا عالمين بها ولم يدعوا الناس إليها فإنك يا ابن أبي دؤاد يسعك في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما وسعه هو وخلفاءَه الراشدين، فأنت على غير صواب في دعائك إلى شيء علمه النبي وأصحابُه وتركوا دعوة الناس له؛ لأنك يسعك ما وسعهم.

وقد بسطنا الكلام على هذه القصة، وذكرنا أنه روي عن الخطيب (1) أن الواثق بالله كان حاضرًا لهذا الكلام، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، وأَطلق سراح الشيخ الشامي، ولم يَمتحن بعد ذلك أحدًا بخلق القرآن، وأن هذا الدليل صار هو أول مصدر لكبح جماح فتنة القول بخلق القرآن.

ومن أراد بسط الكلام في هذا الدليل فلينظر كتابنا أضواء البيان، في الكلام على آية مريم التي أشرنا إليها. وقد اكتفينا بهذه الكلمات القليلة المبيِّنة أن التقسيم قد يكون جزء دليل تصديقي.

__________

(1) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (10/ 75 - 79).

(1/170)

________________________________________

 فصل في التعريفات

والاصطلاح فيها هنا قد يختلف مع الاصطلاح المنطقي المتقدم في بعض الأحوال.

واعلم أن أقسام التعريف عند أهل هذا الفن أربعة:

الأول: اللفظي، وضابطه هو ما قدمناه من كونه تعريف لفظ بلفظ آخرَ مرادفٍ له أوضحَ منه عند السامع، كتعريف الغضنفر بالأسد، وقد أوضحناه بأمثلة في المقدمة المنطقية (1)، ومعلوم أن هذا النوع من التعريف نسبي؛ لأن شهرة أحد الرديفين تختلف بِاختلاف الأشخاص، فترى بعضهم لا يعرف القمح إلا باسم البر، وبعضهم لا يعرفه إلا باسم الحنطة، وقس على ذلك.

القسم الثاني من أقسام التعريف: هو المعروف بالتعريف التنبيهي، وضابطه أنه إحضار معنى في ذهن المخاطب كان معلومًا عنده سابقًا، ولكنه قد غاب عنه علمه وقت التعريف حتى نُبه عليه بالتعريف، ولا يخفى أن الفرق بين اللفظي والتنبيهي اعتباري؛ لأن الاعتبار فيه بحال المخاطب، فإن كان لم يسبق له علم بمعنى الحقيقة المعرفة فالتعريف لفظي، وإن كان قد سبق له بها علم ولكنها غابت عن ذهنه وأَراد المعرِّف إحضار معناها الغائب عنه في ذهنه بالتعريف فالتعريف تنبيهي، وبذلك تعرف أن التعريفين المذكورين متفقان حقيقة وماصدقًا؛ لأن الاختلاف بينهما باعتبار أمر خارج عن حقيقتهما، وهو

__________

(1) ص 57.

(1/171)

________________________________________

حال المخاطب من سبق علم له بالأمر وعدمه.

تنبيه: اعلم أن اللفظ الدال على الموضوع يسمى عنوانًا، ومعناه المطابقي يسمى مفهومًا، وأَفراده الموجودة في الخارج تسمى ماصدقًا، وسميت بذلك لأنها هي ما صدق عليه المفهوم.

القسم الثالث من أقسام التعريف وهو التعريف الحقيقي، وضابطه أنه تعريف الماهية التي لأفرادها وجود في الخارج بالحد والرسم، على نحو ما قدمنا إيضاحه (1)، كتعريف الإنسان بأَنه الحيوان الناطق ونحو ذلك.

القسم الرابع من أقسام التعريف هو التعريف الاسمي، وهو تعريف ماهية متخيلة، ولكنها لا يُعلم وجودها في الخارج.

تنبيه: اعلم أن من المقرر في فن المنطق أن من أَنواع تقسيم القضايا تقسيمها إلى قضية خارجية وقضية حقيقية، وإيضاح الفرق بينهما أن كل قضية اعتُبر في صدق عنوانها على مفهومه الذي هو حقيقة الموضوع وجودُ الأفراد الخارجية في أحد الأزمنة الثلاثة فهي المسماة بالخارجية؛ لوجود أفراد موضوعها في الخارج، وأما إن لم يُعتبر وجودُها في الخارج بل اكتُفي فِيها بتقدير الوجود مع كونه غير واقع بالفعل فهي المسماة بالحقيقة.

ومثال الخارجية (كل إنسان حيوان)؛ لأن العنوان الذي هو لفظ (الإنسان) في هذا المثال معتبر في صدقه وجود أفراده في الخارج، كزيد وعمرو.

__________

(1) ص 58، 59.

(1/172)

________________________________________

ومثال الحقيقية قولك: (العنقاء طائر عجيب الشكل طويل العنق يصطاد الصبيان وصغار البقر)؛ لأن العنقاء طائر تتخيله العرب ولا وجود لفرد من أفراده فِي الخارج البتة، ولذلك كانوا يضربون المثل للمفقود الذي لا طمع في وجوده بحال بقولهم: (طارت به العنقاء).

ومن أمثلة [الحقيقية] (1) تعريف الصَّفَر بأنه (دابة في جوف الإنسان تعض على شراسيفه إذا جاع)، والشراسيف أصول الأضلاع؛ لأن الصفر شيء تتخيله العرب مع أنه لا وجود له في الخارج، ومنه قول أعشى باهلة (2):

لا يتّأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شرسوفه الصفرُ

قولهم (العنقاء طائر، والصفر دابة) لم يعتبر في صدق عنوانه على موضوعه الوجود الخارجي، بل اكتُفي بتقدير الوجود؛ لأن الطائر والدابة المذكورين لو فُرض وجودهما في الخارج لصدق عليهم الاسم، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى الفرق بين الخارجية والحقيقة بقولي:

كل قضية على ما ذكروا ... في صدق عنوان لها يعتبرُ

وجود موضوع لها في الحالِ ... أو المضي أو الاستقبالِ

فخارجية على المعهودِ ... وحيث لا اعتبار بالوجودِ

__________

(1) في المطبوع: (الحقيقة) والصواب ما أثبته.

(2) ديوان الأعشين ص 268، ملحق بديوان الأعشى الكبير (الصبح المستنير).

مطبعة آدلف هلز هوسن.

(1/173)

________________________________________

بل كان بالتقدير للوجود مع ... كون الوجود خارجًا قد لا يقع

فهي الحقيقية والفرق أضا ... بينهما بأنه لو فُرضا

الحصر للألوان في السوادِ ... في خارج والغير ذو انفقادِ

فقولك البياض لون فنّدوا ... بحسب الأول إذ لا يوجدُ

وكِذْبُه لفقده في الخارجِ ... مع اعتبارنا الوجودَ الخارجي

وصادق بالاعتبار الثاني ... كونَ البياضِ أحدَ الألوانِ

إذ فيه معنى كلِّ ما لو وجدا ... كان بياضًا فبحيث لو بدا

وجوده يكون لونًا فعلمْ ... الصدقُ مع كون البياض منعدمْ

وصدقُ حصر اللون بالسوادِ ... بحسَب الأول أمرٌ بادِ

وكِذْبه بحسَب الثاني اتضحْ ... فما أبيح افعل ودع ما لم يُبحْ

انتهى محل الغرض من الأرجوزة المذكورة.

ولا يخفى أنا ذكرنا في الأبيات ثلاث كلمات كلُّها يمنعه كثير من علماء العربية.

إحداها: إتباع (قد) بلا النافية في قولنا: قد لا يقع، وقد أجازه بعضهم، وقال ابن مالك في خلاصته (1): "والمصروف قد لا ينصرف".

__________

(1) ص 57، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1409 هـ.

(1/174)

________________________________________

الثانية: تعريف لفظة (غير) بالألف واللام، وإنما جئنا به لأن عامة المتأخرين تساهلوا فيه، وجرى على ألسنتهم بكثرة، ولا يخلو من قول بجوازه وإن كان ضعيفًا، والنظم لضيقه أصله محل الضرورات.

الثالثة: الوقف على لفظة (منعدم) بالسكون، مع أنها منصوبة؛ لأنها خبر المصدر الكوني، وذلك لغة ربيعة فلا بأس به، كما قال بعضهم:

كذا لدى ربيعةَ المنوّنُ ... في نصبٍ أَو في غيره يسكنُ

وبحث الحقيقيات والخارجيات من المباحث التي أشرنا في المقدمة المنطقية (1) إلى أنا تركناها اختصارًا مع مباحثَ كثيرةٍ من فن المنطق.

وإذا عرفت الفرق بين الخارجية والحقيقية فاعلم أن ضابط التعريف الحقيقي هنا هو ما كانت الحقيقة المعرَّفة فيه موضوع القضية الخارجية.

وأن ضابط التعريف الاسمي هو ما كانت الحقيقة المعرَّفة فيه موضوع القضية الحقيقية.

وكل واحد من التعريفين المذكورين ينقسم إلى حد تام وناقص، أو رسم تام وناقص، وقد قدمنا إيضاح الجميع وأمثلته وشروطه في

__________

(1) ص 79.

(1/175)

________________________________________

مقاصد التصورات فأَغنى ذلك عن إعادته هنا (1).

وكثير من أهل هذا الفن لا يشترطون في التعريف اللفظي الجمع ولا المنع، فيجوز عندهم تعريف الأعم بالأخص وعكسُه، وبه قال قليل من المنطقيين.

وعلى عدم الاشتراط جرى اللغويون، كقولهم: (البلوط ثمرُ شجرٍ يؤكل ويدبغ بقشره)، فهذا غير مانع لكثرة الثمار التي تؤكل ويدبغ بقشرها غيرِ البلوط.

وكقولهم: (العندليب طائر) و (الورد زهر) ونحو ذلك.

وكقولهم في تعريف الأعم بالأخص: (الطيب مسك) ونحو ذلك.

وقد قدمنا أن المنطقيين يشترطون الجمع والمنع الذين هما الطرد والعكس كما تقدم إيضاحه (2)، وهو قول جماهير المتأخرين منهم إلا من شذ.

وقد يكون التعريف اللفظي بمركب يقصد به تعيين الحقيقة لا تفصيلها، كقولهم في تعريف الإنسان: (شبح منتصب القامة عريض الأظفار يمشي على اثنين لا ريش له).

أما التعريف بما يساوي المعرَّف -بالفتح- فهو محل اتفاق كما

__________

(1) راجع المقدمة المنطقية ص 58، 59.

(2) ص 59، 60 من المقدمة المنطقية.

(1/176)

________________________________________

تقدم إيضاحه.

واعلم أن أهل هذا الفن يشترطون شروطًا لحسن التعريف الحقيقي والاسمي، وهي عندهم شروط في الحسن لا في الصحة، والمنطقيون يجعلون بعضها شرطًا في الصحة لا الحسن، وهو أظهر.

وشروط الحسن المذكورة عند أهل هذا الفن أربعة:

الأول: السلامة من الأغلاط اللفظية، كتقديم الضمير على مفسِّره لفظًا ورتبة، وكالعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل أصلًا، وكفَكّ ما يجب فيه الإدغام وعكسه، وكل هذا معروف في محله، وكونُه شرطًا للحُسْن صحيح.

الثاني: ألا يكون في ألفاظ التعريف لفظ مجازي إلا مع قرينة تعيّن المراد.

الثالث: ألا يكون فيه لفظ مشترك بين معنيين فأكثرَ إلا مع قرينة تعيّن المراد.

وهذان قد قدمنا أَنهما شرطان في صحة التعريف عند المنطقيين لا في حسنه (1)، وهو الأظهر، ومحل اشتراط عدم الاشتراك المذكور عند أهل هذا الفن دون القرينة إذا لم يصح إرادة كل واحد من المعاني على سبيل البدل، فإن صح إرادةُ جميعها على ذلك الوجه صح عندهم استعماله بدون القرينة.

__________

(1) راجع المقدمة المنطقية ص 62، 63.

(1/177)

________________________________________

الشرط الرابع: من شروط الحُسْن ألا يكون في التعريف لفظ غريب غيرُ ظاهر الدلالة على معناه المراد به، أو موهمٌ لمعنًى غيرِ المعنى المراد لصاحب التعريف.

(1/178)

________________________________________

فصل في أوجه الاعتراض على التعريف الحقيقي والاسمي

اعلم أن الاعتراض يتوجه إلى كل واحد منهما، سواء كان حدًّا تامًّا أو ناقصًا، أو رسمًا تامًّا أو ناقصًا، باختلال شرط من شروط التعريف المتقدمة في مقاصد التصديقات، وشروط الصحة عند أَهل هذا الفن أربعة، فالاعتراض على التعريفين المذكورُ عندهم بواحد من أربعة أمور، وأحرى إن كان باثنين منها فأكثر:

الأول: ألا يكونَ التعريف مطردًا، أي مانعًا.

الثاني: ألا يكونَ منعكسًا، أي جامعًا.

الثالث: [أن] (1) يستلزمَ المحال، كالدور السبقي.

الرابع: ألا يكونَ أظهرَ وأوضحَ من المعرَّف -بالفتح-، وقد أوضحنا هذا بأمثلته في المقدمة المنطقية.

وأما التعريف اللفظي فعلى قول من لا يشترط فيه الجمع ولا المنع فلا يتوجه إليه الاعتراض بعدم الطرد أو العكس، وإنما يتوجه عليه الاعتراض باستلزامه المحال كالدور السبقي، أو كويه غيرَ أظهرَ وأوضحَ من المعرَّف.

وأما على قول من يشترط فيه الجمع والمنع، وهم المنطقيون

__________

(1) في المطبوع: (ألا)، والصواب ما أثبته كما هو واضح من السياق، وانظر ما يأتي ص 186.

(1/179)

________________________________________

وبعض الجدليين، فإنه يتوجه إليه الاعتراض من الجهات الأربع المذكورة التي يُعترض بها على الحقيقي والاسمي.

وقد عرفتَ مما مر أن الاعتراض يتوجه إلى التعريف من حيث إنه غيرُ حسن وإن لم يكن فاسدا، وذلك بتخلف شرط من شروط الحُسْن المذكورة، ككونه مشتملًا على بعض الأغلاط اللفظية، وكأن يكون في ألفاظ التعريف لفظ مجازي دون قرينة تعيّن المراد، أو لفظٌ مشترك بين معنيين فأكثرَ دون قرينة تعيّن المقصود، وقد قدمنا أن هذين شرطان لصحته عند المنطقيين، وهذا أظهر، وكان يكون في ألفاظ التعريف لفظ غريب غيرُ ظاهر الدلالة على معناه المقصود، أو موهمٌ لمعنًى غيرِ المراد.

وإذا عرفتَ أوجه الاعتراض على التعريف، فلا يخفى عليك أن الطريقة المعهودةَ في ذلك هي أن تجعل وجه الاعتراض مقدمةً صغرى من دليل المعترض، وهو قياس اقتراني من الشكل الأول، وتضمَّ إليها كبرى صورتُها مثلًا: (وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد، أو فهو غير حسن).

كقولك: هذا التعريف الحقيقي غير مانع، وكل تعريف حقيقي كان كذلك فهو فاسد، ينتج: هذا التعريف الحقيقي فاسد، وهو المراد، وهكذا.

وكقولك: هذا التعريف في بعض ألفاظه غلط، وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن، ينتج من الشكل الأول: هذا التعريف غير حسن، وهكذا.

(1/180)

________________________________________

واعلم أن ترتيب المناظرة في التعريف كترتيبها في التقسيم، وقد أوضحناه في الكلام على التقسيم (1)، وبه تعلم أَن أول ما يبدأ به المناظر في التعريف هو أن ينظر في كلام خصمه هل هو ناقل له عن غيره أو لا؟ وإن كان ناقلًا له فهل هو ملتزم صحته أو لا. فإن كان ناقلًا ولم يلتزم الصحة فلا يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل، وإن كان ملتزمًا صحة ما نقل أو غير ناقل عن غيره بل هو آت بالتعريف من تلقاء نفسه فإن كان في ألفاظ تعريفه لفظ غير واضح المعنى استُفسر عنه وعليه البيان.

كأن يعرِّف موجبَ القصاص في النفس فيقول: هو القتل بما يَقتل غالبًا كالزخيخ، فلخصمه أن يقول: وما مرادك بالزخيخ؟ وعليه أن يبين أن مراده به النار.

وإن كانت ألفاظ تعريفه واضحة المعاني فإن كانت سالمة من أوجه الاعتراض وجب تسليمها وقبولها، وإن كان فيها خلل اعتُرض عليه بأحد أوجه الاعتراض التي بيّنّا، وعليه أن يجيب عن الاعتراض عليه بأحد الأجوبة المقررة في هذا الفن.

__________

(1) راجع ص 160.

(1/181)

________________________________________

 فصل في أجوبة صاحب التعريف

عن أوجه الاعتراض الأربعة المذكورة، التي يعترض بها عندهم على التقسيم الحقيقي والاسمي، حدًّا كان كل واحد منهما أو رسمًا، تامًّا كان كل واحد منهما أو ناقصًا.

أما الاعتراض على التعريف بعدم الطرد أو العكس -أعني بهما الجمع والمنع كما أوضحناه مرارًا- فالجواب عنه بتحرير المراد، وهو أربعة أنواع:

الأول: تحرير المراد من المعرَّف -بالفتح-، ومثاله أن تعرف الماء المستوجب للماء في حديث "إنما الماء من الماء" (1) بأنه المني الخارج بلذة معتادة.

فيقول المستدل: هذا التعريف غير منعكس، أعني غير جامع لجميع أقسام المعرَّف؛ لأنه لم يشمل خروج المني بغير لذة معتادة، كخروجه بسبب لدغ عقرب له في ذكره، وكخروجه بسبب نزوله في ماء حار، أو هزة دابة له، ونحو ذلك، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيجيب صاحب التعريف فيقول: أمنع قولك: إن هذا التعريف غيرُ جامع؛ لأن المراد بالماء في التعريف المنيُّ الغالبُ نزولُه، ولم يُرَد به النادر الذي هو الخارج بدون لذة معتادة، وهذا على قول من يقول:

__________

(1) أخرجه مسلم (1/ 269) برقم (342).

(1/182)

________________________________________

إن الغسل لا يجب من خروج المني إلا إذا كان خارجًا بلذة معتادة كمالك وأصحابه ومن وافقهم.

ومثاله في عدم المنع أن يعرِّف ذا الخف الذي تجوز المسابقة عليه بجُعْل بأنه الإبل خاصة.

فيقول خصمه: هذا التعريف غير مانع؛ لأن ذا الخف يدخل فيه الفيل، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: أمنع قولك: إنه غير مانع؛ لأني أردت بذي الخف النوعَ الغالب المتعارَف، ولم أُرِد الفرد النادر الذي يندر ركوبُه ولا يكاد يخطر بالبال وهو الفيل.

واعلم أن مثالنا هذا لا يعترض بدعوى كون هذه التعريفات من قبيل اللفظي، وأكثرهم لا يشترطون فيه الجمع والمنع، لأنا نقول: هي من قبيل التعريف بالرسم؛ لأنها عرّفت بخواصَّ لتلك الأشياء، ولو سلمنا أنها لفظية، فالمثال يكفي فيه وروده على قولٍ ولو غيرِ قوي، بل يكفى فيه الفرض والاحتمال كما هو معروف، قال صاحب مراقي السعود (1):

والشأن لا يُعترض المثال ... إذ قد كفى الفرض والاحتمال

وكلا المثالين المذكورين جواب بتحرير المراد من المعرَّف -بالفتح-، الأول عن عدم الجمع، والثاني عن عدم المنع، وضابط تحرير المراد من المعرَّف -بالفتح- هو تفسير صاحب التعريف الحقيقةَ

__________

(1) ص 100، رقم (809).

(1/183)

________________________________________

المعرَّفة بمعنًى يقصده هو أعمُّ أَو أخصَّ من المعنى المتبادر منها؛ ليكون بذلك المعرَّف -بالفتح- مساويًا للمعرِّف -بالكسر-.

النوع الثاني: تحرير المراد من بعض أجزاء التعريف، وضابطه تفسير صاحب التعريف بعضَ أجزائه بمعنَى يقصده هو أعمُّ أو أخصَّ من المعنى المتبادر منه؛ ليكون المعرِّف والمعرَّف متساويين.

ومثاله في الاعتراض بعدم الجمع: تعريف الحيوان بأنه (الجسم النامي الحساس المفكر).

فيقول المستدل: هذا التعريف غير جامع؛ لأن قيد المفكر مخرجٌ غيرَ المفكر، كالفرس والبغل مثلًا، مع دخولهما في الحيوان، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: أمنع قولك: إن هذا التعريف غيرُ جامع، ويفسِّر المفكر بأن مراده به المتحرك بالإرادة؛ لأنه فكّر في الحركة وأرادها ففعلها، والمفكر على هذا التفسير شامل لجميع أنواع الحيوان، فهو جواب عن عدم الجمع بتحرير المراد من بعض أجزاء التعريف.

ومثال الجواب عن عدم المنع بتحرير المراد من بعض أجزاء التعريف أن يقال في تعريف الإنسان: هو (حيوان منتصب القامة يمشي على اثنين لا ريش له).

فيقول المستدل: هذا التعريف غيرُ مانع؛ لأن الديك مثلًا إذا نُزع ريشُه كان حيوانًا منتصب القامة يمشي على اثنين لا ريش له، وكل

(1/184)

________________________________________

تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: أمنع قولك: إن هذا التعريف غيرُ مانع؛ لأني أردت بقولي: لا ريش له، كونَه لا ينبت له ريش أصلًا، وهو بذلك المعنى مانع من دخول منزوع الريش من الطير.

النوع الثالث: تحرير المراد من المذهب العلمي الذي بَنى عليه المعرِّف تعريفه.

كتعريف الورد بأنه زهر، فيقول المستدل: هذا التعريف غير مانع؛ لدخول غير الورد من الأزهار، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: إنما بنيت تعريفي على مذهب من لا يشترط في التعريف اللفظي المنع، لا على مذهب من يشترط ذلك.

وكتعريف الطيب بأنه مسك، فيقول المستدل: هذا غير جامع؛ لأنه لا يشمل غير المسك من أنواع الطيب، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف أيضًا: أمنع ذلك؛ لأني بنيته على مذهب من لا يشترط الجمع في اللفظي، لا على مذهب من يشترطه.

النوع الرابع: تحرير المراد من نوع التعريف، وهو يكون في اعتراض المعترض على التعريف متوهمًا كونه حقيقيًّا أو اسميًّا في حال كونه لفظيًّا، أو متوهمًا كونه حدًّا تامًّا وهو ناقص، أو كونه حقيقيًّا وهو اسمي.

وضابط هذا النوع أن يبين صاحب التعريف النوع الذي أراده من تعريفه، كأن يعرف الإنسان بأنه (منتصب القامة يمشي على اثنين)،

(1/185)

________________________________________

فيظن خصمه أن هذا التعريف حقيقي وأنه رسم، فيعترض عليه بأنه غير مانع من دخول الطير، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد، فيقول صاحب التعريف: أمنع كون هذا التعريف حقيقيًّا، وإنما هو لفظي، واللفظي لا يُشترط فيه المنع.

وقد اتضح في الأنواع الأربعة أن تحرير المراد من المعرَّف -بالفتح- ومن بعض أجزاء التعريف، كلاهما راجع إلى منع الصغرى من دليل المعترض، وأما تحرير المراد من المذهب العلمي ومن نوع التعريف فكلاهما راجع إلى منع كبراه كما لا يخفي على من فهم ما ذكرنا.

واعلم أن الاعتراض على التعريف يجاب عنه بأجوبة أخرى غيرِ تحرير المراد المذكورة:

فإن اعتُرض عليه بأنه غير أظهر من المعرَّف -بالفتح-، فالجواب بمنع ذلك استنادًا إلى أن الظهور والخفاء نسبيان.

كأن تعرف البر تعريفًا لفظيًّا بأنه الحنطة، فيعترضه المعترض بأن الحنطة أخفى من البر، وكل تعريف لم يكن فيه المعرِّف -بالكسر- أظهر من المعرَّف -بالفتح- فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: أمنعُ قولك: إن الحنطة أخفى من البر؛ لأن بعض الناس أظهرُ عنده الحنطة من البر، وهو الذي عَنيتُ خطابه بتعريفي.

وإن اعتُرض على التعريف باستلزامه المحال كالدور السبقي،

(1/186)

________________________________________

فجواب صاحب التعريف بمنع الاستلزام المذكور، مستندًا في ذلك إلى انفكاك الجهة، أو كونِ الدور المذكور غيرَ محال كالدور المعي، وقد تقدم إيضاح الدور المعي ومثاله في المقدمة المنطقية فأغنى ذلك عن إعادته هنا (1).

وأما انفكاك الجهة فكتعريف الدلالة الوضعية اللفظية بأنها (كون اللفظ بحيث إذا أطلق فُهم منه معناه بعد العلم بوضع اللفظ).

فيقول المعترض: هذا التعريف مستلزم للمحال وهو الدور؛ لأنه جُعل فيه فهمُ المعنى متوقفًا على العلم بالوضع، ومعلوم أن العلم بالوضع يتوقف على فهم المعنى، وكل تعريف استلزم الدور فهو فاسد.

فيقول صاحب التعريف: أمنع كون التعريف مستلزمًا للدور المحال؛ لأن فهم المعنى من اللفظ متوقف على العلم بتعيين عين ذلك اللفظ لِعين ذلك المعنى، وأما العلم بوضع اللفظ للمعنى فهو متوقف على مطلق المعنى لأعلى تعيينه، فجهة توقف كل منهما على الآخر غير جهة توقف صاحبه عليه، ومتى انفكت جهة توقف أحدهما عن جهة توقف الآخر لم يتحقق الدور.

واعلم أن الاعتراض على التعريف إن كان من جهة اختلال بعض شروط حسنه فله أجوبة أخرى غيرُ ما ذكرنا:

فإن قال المعترض: هذا التعريف فيه لفظة كذا، وهي غلط، وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن فلصاحب التعريف عن ذلك جوابان:

__________

(1) راجع ص 63.

(1/187)

________________________________________

الأول: منع كون ذلك اللفظ غلطًا، لجريانه على بعض المذاهب النحوية.

والثاني: القول بموجَبه؛ بأن يقول: سلمنا أن ذلك اللفظ غلط، ولكنه لا تتوقف عليه صحه التعريف، وأمَّا لا يلزمني إلا صحة التعريف، فلم أعتدَّ إلا بالذي لا بد منه، وهو صحة تعريفي.

وإن اعتُرض على التعريف بأن فيه لفظة كذا يراد بها كذا وهو معنى مجازي وليس ثَمّ قرينةٌ تعيّن المراد، وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن. فلصاحب التعريف عن ذلك جوابان أيضًا:

الأول: أن يدعيَ أن ذلك اللفظة المجازيَّ صار حقيقة عرفيةً في المعنى المقصود.

والثاني: أن يدعيَ أن ثَم قرينةً تبيّن المراد، ولكن المعترض غفل عنها.

وإن كان قال: هذا التعريف مشتمل على لفظ كذا، وهو لفظ مشترك؛ لوضعه لمعاني متعددة، وليس هناك قرينة تعيّن المراد، وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن فلصاحب التعريف عن ذلك ثلاثة أجوبة:

الأول: أن يجيب بأنّ اللفظ المدّعى أنه مشترك قد صار حقيقة عرفية في المعنى الذي يقصده دون غيره من المعاني.

والثاني: أن يقول بموجَبه، فيقول: سلّمنا أنه مشترَك، ولكن عدم حسن استعمال المشترَك في التعريف محله فيما لم تصحَّ فيه إرادةُ كل

(1/188)

________________________________________

معنى من معانيه، وهنا تصح إرادة كل معنى من معانيه، فلو تعدى اللصوص على رجل اسمه (زيد) في محل معيّن، فعوّروا عينه الباصرة، وغوّروا عينه الجارية، واستلبوا عينه التي هي فضته وذهبه، فقال قائل: عرّف لنا الشيء الذي تعدى عليه اللصوص في ذلك المحل المعين، فقال: المعرِّف: هو عين زيد، فاعترض عليه المعترض بأَنَّ العين لفظ مشترك، فإنه يجيب بأن إطلاق العين في التعريف على كل واحد من الثلاثة صحيح؛ لأنه كلَّه حق، واللفظي لا يُشترط فيه الجمع عند أكثر أهل هذا الفن، والمشترك إن كان كذلك فلا مانع منه في التعريف.

وقد قدمنا أن إطلاق المجاز والمشترك دون قرينة تعين المراد في التعريفات يبطل التعريف عند المنطقيين، فالسلامة من ذلك شرط صحة عندهم لا شرط في الحسن، خلافًا لأهل هذا الفن، وقد قدمنا أن قول المنطقيين فيه أظهر.

الثالث: إثبات قرينة تعين المراد من المشترك ولكن المعترض لم ينتبه لها.

واعلم أن التعريف تتوجه إليه اعتراضات غيرُ ما ذكرنا، وكلها راجع في الحقيقة إلى الدعاوي الضمنية التي تضمنها التعريف كما قدمنا إيضاحَه، كأن يقول صاحب التعريف مثلًا: هذا التعريف حقيقي، وهو حد تام، فإنّ كلامه هذا يستلزم الدعاوي الآتية:

الأولى: أنه بالجنس والفصل القريبين.

(1/189)

________________________________________

الثانية: أن أجزاءه كلها ذاتية لا عرضية.

فيُعترض عليه بغير ما تقدم:

كأن يقول المعترض: أجزاء تعريفك هذا ليست ذاتية بل هي عرضية، أو بعضُها عرضي.

وكأن يقول: هذان الجزآن ليسا هما الجنسَ والفصلَ القريبين.

وكأن يدعيَ أن لتلك الحقيقة حدًا تامًا غير ماذكره؛ لاستحالة إمكان حدين لحقيقة واحدة؛ لأن الحد لا يكون إلا بالفصل الذي هو المميز الذاتي، وتعدده مستحيل؛ لأن الفصل القريب لا يمكن تعدده لحقيقة واحدة كما هو معلوم في محله؛ لأن تعدده يفضي إلى المستحيل، وهو كون الحقيقة الواحدة في ذاتها حقيقتين متباينتين؛ لأن كل جنس قريب إذا ذُكر معه الفصل حصلت حقيقة الماهية؛ لأنها مركبة عندهم من جنس وفصل، كما تقدم إيضاحه (1)، فلو فرضنا تعدد الفصل القريب للماهية الواحدة لكان كل واحد من الفصلين مع الجنس حقيقة مستقلة غير الحقيقة الأخرى، والمفروض أنها حقيقة واحدة، فلا يمكن كونُها حقيقتين مختلفتين، وتعددُ الفصل يستلزم ذلك، وما استلزم المحال فهو محال، هكذا يقولون، والعلم عند الله تعالى.

واعلم أن هذه الدعاوى المذكورةَ لا يُقبل الاعتراض بها إلا بدليل يُنتجها، فلا تُقبل من المعترض بدعواه المجردة عن الدليل، فإن أقام الدليل على أحد أوجه الاعتراض المذكورةِ كان لصاحب التعريف أن

__________

(1) راجع ص 59.

(1/190)

________________________________________

يجيب عن دليله بالمنع، سواء ذكر دليل المنع أو لم يذكره، وسيأتي في الكلام على المنع إن شاء الله ما يزيد هذا إيضاحًا.

فلو قال المعرِّف: تعريفي الإنسان بأنه (الحيوان الناطق) حد تام؛ فأجزاؤه ذاتية؛ لأنها حد وفصل قريبان.

فقال المعترض: لا أسلم أن الناطق مثلًا ذاتي، بدليل أن الضاحك غير ذاتي، والناطقُ والضاحكُ لا فرق بينهما.

فيقول صاحب التعريف: أمنع قولك: إن الناطق غير ذاتي، وأنه لا فرق بينه وبين الضاحك. وإن شاء اقتصر على هذا المنع مجردًا عن الدليل، وإن شاء أقام عليه الدليل، وأدلة الفرق بينهما قد قدمناها موضحة في المقدمة المنطقية (1).

ومثال إقامة الدليل على الفرق بينهما ببعض الفوارق التي قدمناها أن يقول: لو رأيت إنسانًا يضحك لكان لك أن تسأله عن سبب ضحكه فتقولَ له: ما أضحكك؟ بخلاف كون الإنسان ناطقًا -أي ذا قوة عاقلة مفكرة يقدر بها على إدراك العلوم والآراء-، فليس لك أن تقول له: ما سبب كونك ناطقًا؟ كما تقدم إيضاحه.

__________

(1) راجع ص 51.

(1/191)

________________________________________

 فصل في تسمية طرفي المناظرة في التعريف

اعلم أن من علماء هذا الفن من يسمي ناقض التعريف المعترِض عليه: (سائلًا) وموجهَه المدافعَ عنه: (معللا).

وأكثرهم على أن ناقضه يسمى: (مستدلا) وموجهه يسمى: (مانعًا)، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وهم يريدون بذلك أن الاعتراض على التعريف لا يتم بالدعوى مجردة، بل لا بد لمدعي فساد التعريف من إقامة الدليل على دعواه اختلال شرط من شروط صحته مثلًا، وبذلك يتجه كونُه مستدلًا.

ويقصدون بتسمية الآخرِ مانعًا أنّ جوابه عن الاعتراض على تعريفه يكفي أن يكون بمنع مقدمة من مقدمات دليل البطلان، سواء ذكر سندًا لمنعه أو لم يذكره، كما أشرنا إليه قريبًا، وبذلك يتجه كونُه مانعًا.

ونحوُ هذا يجري في توجيه تسمية طرفي المناظرة في التقسيم، التي أشرنا لها سابقًا والعلم عند الله -تعالى-.

(1/192)

________________________________________

 فصل في التصديق وبيان المناظرة فيه

وقد قدمنا تعريفَ التصديق بإيضاح، وذكرنا انقسامه إلى ضروري ونظري، وبينا أمثلة ذلك في الاصطلاح المنطقي (1)، وهو عند أهل الفن ينقسم إلى تصديق بديهي وتصديق نظري، والتصديق البديهي عندهم هو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، سواء كان محتاجًا إلى تنبيه أو كان غير محتاج إليه، والتصديق البديهي عندهم ينقسم بالتقسيم الأول إلى قسمين: الأول البديهي الجلي، والثاني البديهي الخفي.

والبديهي الجلي ينقسم عندهم إلى أربعة أقسام:

الأول: البديهي الأولى، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بمجرد تصورهما -أعني الموضوع والمحمول- من غير احتياج إلى واسطة أصلًا، كقولك: الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ونحو ذلك؛ فإن مجرد تعقلك للواحد والنصف والاثنين، وتعقلك للكل والعظم والجزء، وتعقلك للنقيضين وللارتفاع والاجتماع، يجعلك تحكم بثبوت المحمول للموضوع في الأمثلة الثلاثة المذكورة كما هو واضح من غير احتياج إلى شيء زائد.

القسم الثاني من أقسام البديهي الجلي: هو ما يسمونه البديهي الجلي الفطري، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بعد تصورهما بواسطة قياس اقتراني طبيعي،

__________

(1) راجع ص 12، 15.

(1/193)

________________________________________

بمعنى أنه مركوز في طبيعة الإنسان، لا يمكن أن يغيب عن ذهنه؛ للزوم إدراكه لإدراك طرفي القضية، كالحكم على الأربعة بأنها زوج؛ لأنك إذا تصورت معنى الأربعة والزوجية لزم عقلًا أن تدرك أنها عدد منقسم إلى متساويين، وتدرك أن كل عدد منقسم إلى متساويين فهو زوج.

وصورة القياس الطبيعي المذكور أن تقول: الأربعة عدد منقسم إلى متساويين، وكل عدد كان كذلك فهو زوج، ينتج من الشكل الأول: الأربعة زوج. وهذا القياس لا يغيب عن ذهنك، وهذه النتيجة هي ما يسمى بالبديهي الجلي الفطري، وقد قدمنا ما يزيد هذا إيضاحًا في الكلام على أنواع الدلالة في مبحث اللازم في الذهن والخارج معًا (1).

النوع الثالث من أنواع البديهي الجلي: التجريبي، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بواسطة تجريب ومشاهدات متكررة مفيدة للعلم بأن هذا الوقوع المتكرر على نمط واحد من غير تخلف لا بد له من سبب، وإن لم يكن عالمًا بحقيقة هذا السبب.

وهذا القسم واضح، ومن أمثلته قولك: الماء يُروي، والخبز يشبع، والنار محرقة، والسقمونيا مسهل للصفراء، والسكنجبيل مسكن لها، وهكذا؛ لأنها قضايا علمت بالتجريب، وتكرُّرُ المشاهدة لترتب المسبَّب فيها على السبب، فحصل الجزم بها بواسطة ذلك

__________

(1) راجع ص 21.

(1/194)

________________________________________

التكرر المذكور.

الرابع من أنواع البديهي الجلي: المشترك بين عامة الناس، وهو نوعان:

الأول: الحسي، وهو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها استنادًا إلى إدراك الحواس الظاهرة، كقولك: (الشمس مضيئة)؛ لأنك تدرك إضاءتها بحاسة عينك، وقولك: (هذا الحرير لين)؛ لأنك تدرك لينه بحاسة لمسك، و (هذا الكلام واضح)؛ لأنك تدرك وضوحه بحاسة سمعك. وهذه الأمثلة الإدراك فيها بالحواس الظاهرة.

والثاني من نوعيه: الوجداني، وهو الذي يسميه بعضهم بالمشاهدات، وهو كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع استنادًا إلى إدراك الحواس الباطنة، كقولك: اللذة عارض يعرض للإنسان، والألم كذلك، والفرح والخوف ونحو ذلك كذلك؛ فإن الإنسان يدرك حصول اللذة والألم والفرح والخوف ونحو ذلك بحواسه الباطنة.

وأما البديهي الخفي فأشهر أنواعه اثنان:

الأول: البديهي الخفي الحدسي، وأصل الحدس الظن والتخمين، وضابط البديهي الحدسي هو كل قضية يحكم فيها العقل بثبوت المحمول للموضوع استنادًا إلى حدس قوي من النفس يزول معه الشك ويحصل به اليقين.

(1/195)

________________________________________

كقولك: ارتفاع الماء في الأنهار سبب ارتفاع ماء الآبار التي ليست بعيدة من الأنهار.

وجرت عادة أهل هذا الفن وأهل فن المنطق بأنهم يمثلون للحدسيات بأن نور القمر مكتسب من نور الشمس؛ قالوا: لأن القرائن تقوي هذا الحدس حتى يصير يقينيا؛ لأن نور القمر يشاهد كماله ونقصانه بحسب بعده من الشمس وقربه منها، ويجزمون بناء على هذا بأن نوره مكتسب من نورها.

ونحن دائمًا نتوقى هذا المثال ونحوه تأدبًا مع ظاهر القرآن في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] وقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] (1).

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحدسيات من الظنيات لا من اليقينيات.

وقال العلامة محمد بن الحسن البناني (2) في شرحه لسلم الأخضري: والتحقيق أن الحدس عبارة عن الظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة، فلا حركة فيه، وإلا كان فكرًا؛

__________

(1) وجه تأدب المؤلف -رحمه الله- مع ظاهر القرآن بتوقي المثال الذي يذكره الجدليون والمناطقة أنه قد يُفهم من عبارتهم نسبة التأثير إلى الشمس استقلالًا، وهذا قادح في توحيد الربوبية، وانظر ما يأتي ص 258.

(2) محمد بن الحسن بن مسعود البناني، أبو عبد الله، فقيه مالكي من أهل فاس، توفي سنة 1194 هـ. انظر الأعلام للزركلي (6/ 91).

(1/196)

________________________________________

فالانتقال في الحدس دفعي لا تدريجي، عكس الفكر. انتهى محل الغرض منه.

ومعنى كلامه أن الحدسيات لا يُحتاج فيها إلى العلم بدليلها ثم الانتقالِ من علم الدليل إلى علم المدلول الذي هو الحدسيات؛ لأنها من البديهيات لا من النظريات، بل يكفي في إدراكها التأمل في الطرف المتكرر الذي هو الحد الأوسط كما تقدم إيضاحه.

فالحد الأوسط في المثال المتقدم كون ارتفاع ماء الأنهار سببًا في ارتفاع ماء الآبار، لأنك تقول: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وكل سبب في شيء يوجد معه مسبَّبه، ينتج من الشكل الأول: ارتفاع ماء الأنهار يوجد معه مسبَّبه، أي وهو ارتفاع ماء الآبار، وهو المطلوب، فإذا التفت إلى هذا المطلوب بالحد الوسط الذي هو كون هذا سببًا في هذا حصل لك المطلوب دفعة من غير تدريج، وهو معنى [كون] (1) الانتقال فيه دفعيًا لا تدريجيًا، والله -تعالى- أعلم.

وقال بعضهم: هو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بناءً على محسوسات أخرى لا يحتاج العقل في ترتب هذه عليها إلى نظر واستدلال. وهو راجع لما ذكرنا.

النوع الثاني: من نوعي البديهي الخفي هو البديهي المتواتر، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع

__________

(1) في المطبوع: (كان)، وما أثبتُّه هو المناسب للسياق.

(1/197)

________________________________________

استنادًا إلى إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، كقولك: مدينة بغداد موجودة، ودمشق موجودة. وحقيقة التواتر وشروطه كل ذلك مبين في علوم الحديث وعلم الأصول.

فهذه الأقسام الستة هي أقسام التصديق البديهي، الأربعة الأول منها من البديهي الجلي، والأخيران من البديهي الخفي، كما رأيت إيضاحه، وهذه البديهيات الست تعرف باليقينيات.

ومذهب الأخضري (1) وابن الحاجب (2) ومن وافقهما أنها ست، ولكن حذفوا منها النوع الفطري، وجعلوا الحسي نوعين: ما يدرك منه بالحواس الظاهرة جعلوه قسمًا مستقلًا وسموه المحسوسات، وما يدرك بالحواس الباطنة جعلوه قسمًا آخر مستقلًا وسموه بالمشاهدات والوجدانيات، وعلى ذلك درج الأخضري في سلّمه في قوله:

أجلُّها البرهانُ ما أُلف مِنّ ... مقدماتٍ باليقين تَقترنْ

من أولياتٍ مشاهداتِ ... مجرباتٍ متواتراتِ

وحدَسياتٍ ومحسوساتِ ... فتلك جملة اليقينياتِ

ونبه بعض شروحه على أن الصواب هو التقسيم الذي ذكرنا.

وإذا عرفتَ أقسام التصديق البديهي، وأن أربعة منها من النوع

__________

(1) سبقت ترجمته ص 5.

(2) هو أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، الكردي، المالكي، من كبار الأصوليين، توفي سنة 646 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (23/ 264 - 266).

(1/198)

________________________________________

الجلي، واثنين من النوع الخفي، فاعلم أن النوع الآخر من نوعي التصديق هو التصديق النظري، وقد قدمنا أن النظري هو ما يُحتاج في إدراكه إلى تأمل.

وضابط التصديق النظري عند أهل هذا الفن هو: كل قضية لا يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها إلا بعد النظر فيها والاستدلال عليها، كقولك: العالم حادث، وخالقه أزلي، بمعنى أنه لا أول لوجوده.

وقد عرفت مما مر أن التصديق ثلاثة أقسام: الأول تصديق بديهي جلي، والثاني تصديق بديهي خفي، والثالث تصديق نظري.

أما التصديق البديهي الجلي فليس محلًا للمناظرة، ولا يجوز لأحد اعتراضه بحال، والمناقشة فيه تسمى مكابرة، وهي غير مقبولة، وصاحبها لا يريد الحق، وإنما يريد الباطل، كأن يرفع من شأن نفسه، ويضع من شأن خصمه، فإذا قال لك أحد: الكل أكبر من الجزء، والواحد نصف الاثنين، أو الأربعة زوج، أو الشمس مضيئة، أو الماء يُروي، ونحو ذلك، فليس لك المناقشة في شيء من ذلك، بل يجب عليك تسليمه؛ لأنه بديهي جلي.

وأما البديهي الخفي فلا يحتاج إلى دليل؛ لأنه بديهي، وإنما يحتاج إلى تنبيه.

والتنبيه في الاصطلاح عندهم: مركب يُقصد به إزالة الخفاء لا الاستدلالُ، ومثاله في الحدس القياس الاقتراني الذي ذكرناه في أن

(1/199)

________________________________________

ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وبينا أن البناني قال: إن تأمل الحد الوسط فيه يكفي في إدراك المطلوب.

ومثال التنبيه في المتواتر أن تقول: وجود بغداد أخبر به عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، وكل شيء أخبر به عدد كذلك فهو حق، ينتج من الشكل الأول: وجود بغداد حق. وهذا القياس للتنبيه لا الاستدلال؛ لأن من المعلوم أن ما أخبر به العدد المذكور فهو حق؛ ولأن المتواترات من البديهيات.

ومثال الاستدلال على التصديق النظري قولك: أنا مخلوق بعد أن كنتُ معدومًا، وكل مخلوق بعد أن كان معدومًا فلا بد له من خالق، ينتج من الشكل الأول: أنا لا بد لي من خالق.

وقد علمت مما مر أن المناظرة في التصديق لا تكون إلا في نوعين لا ثالث لهما:

الأول التصديق النظري، وهو المحتاج إلى الدليل.

والثاني التصديق البديهي الخفي، وهو المحتاج إلى التنبيه.

وهذه تفاصيل طرق المناظرة فيهما:

اعلم أولًا أنك إذا ألقى إليك صاحب التصديق تصديقًا نظريًا أو تصديقًا بديهيًا خفيًّا فلكل واحد منهما حالتان:

أما حالتا التصديق النظري فالأولى منهما أن يكون ألقاه إليك مجردًا عن الدليل؛ لأجل إيهام أنه من البديهيات التي لا تحتاج لدليل،

(1/200)

________________________________________

أو لغرض آخر، والثانية أن يكون ألقاه إليك مقرونًا بالدليل.

وهاتان هما حالتا البديهي الخفي؛ لأنه تارة يلقيه إليك مجردًا عن التنبيه لأجل إيهام أنه من الجليات أو لغرض آخر، وتارة يلقيه إليك مقرونًا بالتنبيه، فالأقسام أربعة:

الأول: [تصديق] (1) نظري مجرد عن الدليل.

الثاني: [تصديق] (2) نظري مقرون بالدليل.

الثالث: بديهي خفي مجرد عن التنبيه.

الرابع: بديهي خفي مقرون بالتنبيه.

فإن كان ألقى إليك [تصديقًا] (3) نظريًا مجردًا عن الدليل، أو بديهيًا خفيًّا مجردًا عن التنبيه فليس لك في الاعتراض عليه إلا شيء واحد: وهو المنع، كأن تقول: أمنع هذه الدعوى، أو: لا أسلم لك هذه الدعوى، أو: هذه الدعوى ممنوعة، أو غير مسلمة، ونحو ذلك.

ويكفيك الاقتصار على واحدة من تلك العبارات، فيكون منعك هذا منعًا مجردًا عن السند، وهو الأظهر عندي.

وقد قال غير واحد من أهل هذا الفن: إنه لا مانع من أن تذكر مع المنع المذكور السند الذي استندت إليه في المنع، فيكون منعك

__________

(1) في المطبوع: (تصور)، ولعله سبق قلم كما هو واضح من السياق.

(2) في المطبوع: (تصور)، ولعله سبق قلم كما هو واضح من السياق.

(3) في المطبوع: (تصورًا)، وهو خطأ كما سبقت الإشارة.

(1/201)

________________________________________

المذكورُ مقرونًا بالسند.

والذي يظهر أن إتيانه بالسند في منع دعوى لم يُقم صاحبها عليها دليلًا أنه من أنواع الغصب، والغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن، وسيأتي في الكلام على الغصب أن السائل إذا عمد إلى دعوى غير مستدل عليها أو إلى مقدمة دليل لم يُقم المعلل عليها دليلًا فأقام دليلًا على بطلان إحداهما أنه يكون غاصبًا، والغصب وظيفة غير مقبولة في هذا الفن، ووجه كونه غاصبًا ظاهر؛ لأن الاستدلال لصاحب التصديق المحتاج إلى دليل أو تنبيه، فإذا منعه السائل واستدل على منعه فقد غصب وظيفة المعلل التي هي الاستدلال، واقتران المنع بسندٍ استدلال بذلك السند على بطلان دعوى المعلل قبل أن يستدل عليها فكونه من قبيل الغصب ظاهر.

والظاهر أن من أجاز اقتران المنع المذكور بالسند من أَهل هذا الفن يرى هذا النوع من الغصب جائزًا كما لا يخفى.

ومثاله في التصديق النظري أن تقول: العالم كله حادث، فيقول خصمك القائلُ بقدمه من الفلاسفة الضالين: أمنع دعواك هذه.

ومثاله في البديهي الخفي أن تقول: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، فيقول خصمك: أمنعُ هذه الدعوى، أو: لا أسلمها، ونحو ذلك من العبارات المتقدمة.

وسيأتي إن شاء الله (1) أوجه الجواب عن المنع المذكور، مع أمثلة

__________

(1) ص 223.

(1/202)

________________________________________

استدلال السائل على المنع الذي ذكرنا أنه من الغصب.

وإذا عرفت أن التصديق الذي لم يكن مقرونًا بدليل إن كان نظريًا، أو بتنبيه إن كان بديهيًا خفيًّا، لا يصح الاعتراض على واحد منهما إلا بالمنع مجردًا عن السند، أو مع السند عند من يجيز ذلك، فاعلم أن صاحب التصديق إذا ألقى إليك تصديقًا نظريًا مصحوبًا بالدليل على صحته، أو تصديقًا بديهيًا خفيًّا مصحوبًا بتنبيه يزيل عنه الخفاء، فلك في الاعتراض على صاحب التصديق حينئذ ثلاث طرق (1)، كل واحدة منها يجوز للسائل المناظرة بها، والاعتراض على صاحب التصديق بها:

الطريق الأولى: هي أن تمنع مقدمة معينة من مقدمات الدليل، كأن تمنع صغراه فقط، أو كبراه فقط، وإن منعت الصغرى ومنعت الكبرى أيضًا فهما منعان.

وهذا النوع الذي هو منع مقدمة معينة من الدليل هو أسلم وظائف السائل، وأبعدها عن شائبة الغصب، وهو المعروف بالمناقضة، وإنما سمي مناقضةً لاستلزامه الإبطال في بعض الموارد، ويسمى أيضًا بالنقض التفصيلي؛ لتفصيل السائل في المنع بتبيين المقدمة الممنوعة، ويسمى أيضًا بالمنع الحقيقي، والممانعة، فهذه كلها أسماء له عند أهل هذا الفن.

__________

(1) يأتي ذكرها ص 232، 233.

(1/203)

________________________________________

وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن المقدمة الصغرى في القياس الاقتراني هي المشتملة على الحد الأصغر، وهو موضوع النتيجة دائمًا، وأن المقدمة الكبرى فيه هي المشتملة على الحد الأكبر، وهو محمول النتيجة دائمًا، وأن المقدمة الكبرى في الاستثنائي هي الشرطية، متصلة كانت أو منفصلة، وأن الصغرى فيه هي الاستثنائية، كما نقله ابن عرفة عن الفارابي، وقد أوضحنا كل ذلك فيما تقدم (1).

وكثير من أهل هذا الفن يعبرون عن المنع بالمطالبة بالدليل، والمطالبة به في الحقيقة كأنها منع ضمني، وعلى كل حال فهي عندهم منع، وبعضهم يعترض على المنع المذكور بالمطالبة بالدليل؛ لأنه لا يشمل البديهي الخفي؛ لأن صاحبه لا يطالب بدليل، وإنما يطالب بتنبيه يزيل الخفاء كما عرفت مما تقدم.

ومثال منع المقدمة الصغرى في هذه الطريق من طرق المناظرة في الاقتراني ما لو قال: التفاح ربوي، ثم أقام الدليل على هذا التصديق فقال: كل تفاح مكيل، وكل مكيل ربوي، ينتج من الشكل الأول: التفاح ربوي.

فيقول خصمه: أمنع صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: كل تفاح مكيل.

ومثال منع الكبرى أن يقول: الخيل السائمة تجب فيها الزكاة، ثم

__________

(1) ص 106، 107، 132.

(1/204)

________________________________________

يقيم الدليل على ذلك فيقول: الخيل السائمة مال، وكل مال تجب فيه الزكاة، ينتج من الشكل الأول: الخيل السائمة تجب فيها الزكاة.

فيقول خصمه: أمنعُ كُبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكل مال تجب فيه الزكاة.

ومثاله في الاستثنائي أن يريد إثبات أن هذا إنسان فيقول: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا، لكنه حيوان، ينتج فهو إنسان.

فيقول خصمه: أمنعُ المقدمة الكبرى من دليلك هذا، وهي الشرطية، أعني قولك: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا.

ومثال منع الصغرى في القياس الاستثنائي أن يريد إثبات أن الذُرَة ليست بربوية، فيقول: لو كانت الذُرةُ ربوية لكانت مكيلة، لكنها غيرُ مكيلة، ينتج: فهي غير ربوية.

فيقول خصمه: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: لكنها غيرُ مكيلة.

ومثاله في التنبيه أن يقول صاحب التصديق: حرمة الحمر الأهلية قطعية. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: حرمتها أخبر بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عددٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكل حرمة أخبرَ بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عددٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب فهي قطعية، ينتج من الشكل الأول: حرمة الحمر الأهلية قطعية.

فيقول خصمه: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: إن حرمتها أخبر بها عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب.

(1/205)

________________________________________

واعلم أنا لا نطيل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه؛ لأن البديهي لا يحتاج في أصل ثبوته إلى دليل، وإنما يحتاج لتنبيه يزيل عنه الخفاء، ولا يتوجه إليه منع حقيقي صادق في نفس الأمر إلا إذا كان صاحبه جاء به على غير وجهه، كالمثال الذي ذكرنا، وإنما ذكرناه على غير وجهه لنوضح مثال ورود المنع عليه، والمثال لا يُعترض كما تقدم، وسنأتي إن شاء الله فيما يأتي بأمثلة للتنبيه والاستدلال صحيحة، يكون المنع الوارد عليها باطلًا، لنوضح وجه بطلانه.

وقد قال الجرجاني (1) في رسالته في البحث والمناظرة ما نصه: وأما التنبيه فيتوجه عليه ذلك، ولا يكثر نفعه [إذْ] (2) لم يُقصد به إثبات الدعوى، فلا يُقدح في ثبوته المستغني عن الإثبات، بخلاف الاستدلال. انتهى منها. وهو واضح.

وبناء على ذلك سنقلل الكلام في التنبيه ونبسطه في الاستدلال.

وهذه الأمثلة التي ذكرنا كلُّها أمثلة لمنع مقدمة معينة من دليل المعلل على تصديقه، مع كون المنع المذكور مجردًا عن السند. ومن المعلوم أن المنع المذكور للمقدمة المعينة تارة يكون مجردًا عن السند، وتارة يكون مقرونًا بالسند، ولا ينبغي أن يكون المنع المذكور مقرونًا بالسند إلا بعد إقامة المعلل عليه الدليل؛ فإن منعه السائل

__________

(1) علي بن محمد بن علي، الشريف الجرجاني، (740 - 816 هـ)، له "الكبرى والصغرى في المنطق"، ترجمته في الضوه اللامع (5/ 328) والأعلام (5/ 7).

(2) في المطبوع: (إذا)، وما أثبتّه هو المناسب للسياق.

(1/206)

________________________________________

بالسند قبل استدلال المعلل فهو غصب، وقد قدمنا أن الغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن، خلافًا لمن أجازه من أهل هذا الفن، كركن الدين أبي حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي الحنفي (1)، وهو أول من ميز هذا الفن عن غيره من العلوم، وجعله فنًا مستقلًا على الكيفية التي يتناقلها أهله (2)، وهو يجيز الغصب المذكور، هو ومن تبعه، وأكثر أهل هذا الفن على أنه وظيفة غير مقبولة، وهو الصواب؛ لأن ارتكاب الغصب يصيّر السائل في منزلة المعلل، كعكسه، وهذا لا ينبغي في المناظرة.

وقد يقول صاحب السنَد إنه ليس من الغصب؛ لأنه ليس بدليل مركب تام. ويجاب بأنه دليل على المنع، وإن حُذف بعض مقدماته، فلو قلتَ مثلًا: لا يجوز أن يكون كذا، فكأنك قلت: العقل يجوّز خلاف الدعوى، وكل دعوى يجوّز العقل خلافها فليست بصحيحة إلا احتمالًا، واحتمال الصحة لا يستلزم الصحة، فمنعها بطلب الدليل عليها واضح.

أما إن أقام المعلل الدليل على إحدى مقدمتي دليله، أو عليهما، فمنَعهما منعًا مقرونًا بالسند الذي هو دليل المنع، فهو مقبول جائز.

وإذا عرفت أن منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل قد يكون مجردًا عن السند كما مثلنا، وقد يكون مقرونًا بالسند جوازًا اتفاقًا مع

__________

(1) كان إمامًا في الخلاف والجدل، توفي سنة 615 هـ، انظر الأعلام (7/ 27).

(2) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 257).

(1/207)

________________________________________

إقامة صاحبها الدليل عليها، وقد يكون بدون إقامته الدليل عند من يجيز ذلك، فاعلم أن السند في اصطلاح أهل هذا الفن هو ما يذكره السامع معتقدًا أنه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجِّه إليها المنع.

وإيضاح ذلك أنه هو المستند الذي يستند إليه المانع في إبطال الدعوى الممنوعة، ويسمى "المستنَد"، وربما قيل له: "الشاهد".

واعلم أن السند المذكور قد تختلف تقسيماته باختلاف الاعتبارات، فينقسم بالنظر إلى صورته التي يورد عليها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: السند اللمي، ويسمى "الجوازي".

والثاني: السند القطعي.

والثالث: السند الحَلِّي، بالحاء المهملة المفتوحة ثم تشديد اللام بعدها ياء النسب.

أما اللمي فهو منسوب إلى لفظ "لِمَ"، المركبةِ من لام الجر، و"ما" الاستفهامية المحذوف ألفها، على القاعدة المشار إليها بقول ابن مالك في الخلاصة:

و(ما) في الاستفهام إن جُرّتْ حُذفْ ... أَلفُها وأَوْلِها الها إن تقفْ (1)

وإنما نسب هذا النوع من السند إلى "لِمَ" لأنها تذكر فيه، وضابط

__________

(1) ألفية ابن مالك: ص 72، باب الوقف.

(1/208)

________________________________________

هذا النوع من السند أن المانع يمنع مقدمة من دليل المعلل مثلًا، ويستند في ذاك المنع إلى أن العقل يجيز أن يكون الأمر على خلاف ما ذكره المعلل، وإذا كان العقل يجيز خلافه فلا يتعيّن هو مع تجويز خلافه؛ لأن تطرق ذلك الاحتمال سند في عدم نهوض ذلك الاستدلال، ولهذا كان اللمي يسمى الجوازي لما ذكرنا.

ومن أمثلته أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح إنسان، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان، ينتج من الشكل الأول: هو -أي الشبح المذكور- إنسان، وهذا هو عين التصديق المدعى الذي أقيم عليه الدليل.

فيمنع السائل صغرى هذا القياس الاقتراني التي هي: هو -أي الشبح المذكور- ناطق، ويقرن هذا المنع بالسند اللمي المقتضي جوازَ كون ذلك الشبح غيرَ ناطق فيقول: لا نسلم أن ذلك الشبح ناطق، وهذا هو معنى منعه صغرى الدليل، ثم يأتي بالسند اللمي فيقول مثلًا: لم لا يكون حجرًا، أو يقول: لم لا يجوز أن يكون غير ضاحك، أو: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق، وتجويز كونه حجرًا سند لكونه غير ناطق، وكذلك تجويز كونه غير ضاحك سند لكونه غير ناطق، وكونه غيرَ ناطق واضح أنه سند لمنع كونه ناطقًا كما ترى.

ومن أمثلته أن يقول المعلِّل صاحبُ التصديق: هذا الإنسان وارث لهذا الإنسان قطعًا، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه ابنُه، وكل ابن وارث لأبيه، ينتج من الشكل الأول: هذا الابن [وارث] (1)

__________

(1) في المطبوع: (وراث).

(1/209)

________________________________________

لأبيه، وهو عين التصديق المدعَى الذي أقيم عليه الدليل، وهو كون هذا الإنسان الذي هو الابن وارثًا لهذا الإنسان الذي هو الأب.

فيقول السائل أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكل ابن وارثٌ لأبيه، وهذا هو المنع، ويقرن هذا المنعَ بالسند اللمي المقتضي جواز كون ذلك الابن لا يرث ذلك الأب، فيقول مثلًا: لم لا يجوز أن يكون الابن كافرًا، أو: لم لا يجوز أن يكون عبدًا، أو: لما لا يجوز أن يكون الأب كافرًا، أو: لم لا يجوز أن يكون الأب عبدًا، وهكذا.

وأما النوع الثاني وهو السند القطعي فضابطه أن يكون السند المقرونُ بالمنع فيه التصريحُ القاطع من صاحب المنع المقترنِ بالسند، بما ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل، من غير تعرض منه إلى بيان منشأ الغلط في الدعوى الممنوعة، قائلًا: إن السند المذكور قد قطع العقل بصحته.

ومثاله أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه حجر، ولا شيء من الحجر بإنسان، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبح ليس بإنسان، وهو عين التصديق الذي أقيم عليه الدليل.

فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه أي الشبح المذكور حجر، ويقرن هذا المنع بالسند القطعي فيقول: كيف يكون الشبح المذكور حجرًا وهو ناطق، فقطعه بأنه ناطق ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل، وهي كون الشبح المذكور ليس بإنسان، وذلك يمنعه صغرى الدليل منعًا مقرونًا بالسند القطعي.

(1/210)

________________________________________

ومن أمثلته أن يقول المعلل الحنفي صاحب التصديق: صوم رمضان يصح بنية قبل الزوال، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق فيقول: لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال، وكل صوم تكفي فيه النية قبل الزوال فهو صحيح.

فيقول السائل الشافعي أو المالكي أو الحنبلي: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك؛ لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال، ثم يقرن منع هذه الصغرى بالسند القطعي فيقول: كيف تكفي فيه النية قبل الزوال وقد وقع الشروع فيه أولًا فاسدًا؛ لتجرده عن النية، و"الأعمال بالنيات" (1)، "ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (2).

واعلم أن قصدنا دائمًا بالأمثلة التي اختلف فيها الأئمة مطلقُ المثال لفهم القاعدة، وليس قصدُنا مناقشةَ أدلة أقوالهم، وترجيحَ الراجح منها بالدليل.

والشأن لا يُعترض المثالُ ... إذ قد كفى الفرض والاحتمال

وأما النوع الثالث من أنواع السند الذي هو السند الحَلّي، وربما سموه الحل، فضابطه أن يكون مرادُ السائل المانع تبيينَ منشأ غلط المعللِ صاحب التصديق، وتعيينَ موضع غلطه، وإنَّما يورد هذا النوع

__________

(1) جزء من حديث مشهور في أول صحيح البخاري.

(2) أخرجه أصحاب السنن بعدة ألفاظ، الترمذي (730)، أبو داود (2454)، النسائي (2336)، ابن ماجه (1700)، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل (4/ 25).

(1/211)

________________________________________

الذي هو السند الحَلي على مقدمة مبنية على الغلط، بسبب اشتباه شيء بآخر.

ومثاله أن يقول المعلل صاحب التصديق: لا زكاة فيما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه، وكل ما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعروض.

فيقول السائل: أمنعُ كبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكلما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعُروض، ثم يقرنه بالسند الحَلي فيقول: إنما يصح ما ذكرت فيما لو كانت العُروض لغير التجارة، أما عُروض التجارة فتجب فيها الزكاة، وهي في الحقيقة واجبة في قيمتها من النقد، فالمعلل قد اشتبهت عليه عُروض التجارة بعُروض القُنية، فنفَى الزكاةَ عن الجميع، والسائل بين بهذا السند الحَلّي منشأ غلطه، وأنه اشتباه هذا بهذا، وعيّن موضع الغلط، وأنه غلط في عُروض التجارة لاشتباهها عليه بعُروض القُنية، وظنِّه أنهما سواء، كما هو مذهب داود الظاهري (1) ومن تبعه.

ومن أمثلته أن يقول المعلل: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه -أي الشبح المذكور- فرس، ولا شيء من الفرس بإنسان، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبح ليس بإنسان.

فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه فرس؛

__________

(1) داود بن علي بن خلف، الأصبهاني، رأس الظاهرية، (200 - 270 هـ).

انظر ترجمته في أعلام النبلاء للذهبي (13/ 97 - 108).

(1/212)

________________________________________

لأن محل ذلك فيما لو كان غيرَ ناطق، والحال أنه ناطق. فقد اشتبه على المعلل شبح الإنسان بشبح الفرس، فظن أن الإنسان فرس، فأقام الدليل المذكور على ذلك، [فبين] (1) السائل منشأ غلطه، [وأنه] (2) اشتباه شبح الفرس عليه بشبح الإنسان، وعيّن موضع غلطه وهو زعمه أن الإنسان فرس.

وهذا النوع الذي هو السند الحَلي أكثر ما يقع بعد النقض الإجمالي، الآتي تعريفُه إن شاء الله -تعالى - (3)، وليس بلازم أن يُذكر قبلَه النقضُ الإجمالي على كل حال.

ومثال المنع المقترن بسند في التنبيه أن يقول صاحب التنبيه: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وكل سبب مستلزم مسبَّبه، ينتج من الشكل الأول: ارتفاع ماء الأنهار مستلزم مسبَّبه، أي وهو ارتفاع ماء الآبار.

فيقول السائل أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، ثم يقرن منعه بالسند المي مثلًا، فيقول: لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ماء الآبار لسبب آخرَ غيرِ ارتفاع ماء الأنهار.

وقد ذكرنا أنا نقلل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه، ونبسطه

__________

(1) في المطبوع: (فيبين).

(2) في المطبوع: (وأن).

(3) ص 234.

(1/213)

________________________________________

على الاستدلال.

ومثال المنع بالسند اللمي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحبُ التصديق: ذلك الشبح إنسان، ثم يقيم على دعواه دليلًا استثنائيا فيقول: لو كان ذلك الشبح حيوانًا لكان إنسانًا، لكنه حيوان، ينتج فهو إنسان.

فيقول السائل: أمنعُ كبرى دليلك هذا، وهي الشرطية، أعني قولك: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا، ويقرن منعه إياها بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكون حيوانًا فرسًا، ولم لا يجوز أن يكون حيوانًا بغلًا، وهكذا.

ومثال المنع بالسند القطعي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم على دعواه دليلًا استثنائيًا فيقول لو كان ذلك الشبح إنسانًا لكان حيوانًا، لكنه غيرُ حيوان، ينتج فهو غير إنسان.

فيقول السائل: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي الاستثنائية، أعني قولك: لكنه غيرُ حيوان، كيف يكون غير حيوان والحال أنه ناطق.

ومثال ذلك في السند الحلي أن يقول صاحب التصديق: العروض لا تجب فيها الزكاة، ثم يقيم على ذلك دليلًا استثنائيًا فيقول: لو كانت عروضًا ما وجبت فيها الزكاة، لكنها عروض، ينتج: لم تجب فيها الزكاة.

فيجيب السائل: محل ذلك لو كانت لغير التجارة، إلى آخره.

(1/214)

________________________________________

تنبيهان:

الأول: اعلم أن المراد باللمي في مبحث السند ليس هو المراد باللمي في مبحث البرهان، وإن كان كل واحد منهما منسوبًا إلى لفظة "لم"، كما أوضحناه في السند اللمي، وليس قسيم واحد منهما كقسيم الآخر، أما قسيم اللمي في السند فقد علمت أنه القطعي والحلي.

وأما البرهان فمن تقسيماته عندهم أنه ينقسم باعتبار كون الحد الوسط علةً للنتيجة أو غير علة لها إلى قسمين: الأول البرهان اللمي، والثاني البرهان الإني، وإنما قيل للبرهان لمي لأنك إن سألت فيه عن النتيجة بلفظة "لم" كان الجواب بالحد الوسط، ولذا سمي لِمّيًا، وإذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يكن جوابًا للنتيجة المسؤول عنها بلم فهو البرهان الإني، وإنما قيل له إنّي بالنسبة إلى "إنْ" بالهمزة المكسورة والنون الساكنة؛ لأنه يقال فيه: إن كان كذا فهو كذا.

وإيضاحه بالمثال أنهم يقولون: إن تعفن الأخلاط سبب في حصول الحمى، فلو قلت: هذا متعفن الأخلاط، وكل متعفن الأخلاط فهو محموم، فهو ينتج من الشكل الأول: هذا محموم، فإذا سألت عن هذه النتيجة بلم فقلت: لم كان محمومًا؛ فالجواب بالحد الأوسط، وهو أن يقال: لأنه متعفن الأخلاط، والحد الوسط هنا الذي هو تعفن الأخلاط علة للنتيجة، التي هي إصابة الحمى.

وأما إذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يجاب به عن النتيجة المسؤول عنها بلم لأنه ليس علتها فهو البرهان الإني، كما لو قلت:

(1/215)

________________________________________

هذا محموم، وكل محموم متعفن الأخلاط، فإنه ينتج من الشكل الأول: هذا متعفن الأخلاط، ولو سألت عن هذه النتيجة بلم لم يصح الجواب بالحد الوسط، فلو قلت لم كان متعفن الاخلاط؟ فلا يصح أن تقول: لأنه محموم؛ لأن الحمى ليست علة لتعفن الأخلاط، بل العكس، وإنما قيل لنحو هذا برهان إني لأنك تقول وأنت صادق: إن كان محمومًا فهو متعفن الاخلاط، هكذا يقولون والعلم عند الله تعالى.

التنبيه الثاني: اعلم أنه يجري على ألسنة أهل هذا الفن كثيرًا نحو هذه العبارات: كقولهم (هذا الشبح ليس بضاحك) ويقيمون الدليل على هذا التصديق السلبي بقولهم (لأنه ليس بإنسان، وكل ما ليس بإنسان ليس بضاحك، فالشبح ليس بضاحك)، وهذا الدليل وإن أنتج المقصود، الذي هو كون ذلك الشبح ليس بضاحك، فإنما أنتج ذلك لخصوص المادة، والدليل في حد ذاته باطل؛ لأنه قياس اقتراني من الشكل الأول، ومعلوم أنه يُشترط لإنتاجه أن تكون صغراه موجبة، وهذا الدليل المذكور صغراه سالبة، وهي قولهم: لأنه ليس بإنسان، ولا يجوز الاستدلال بالشكل الأول في حال كون صغراه سالبة لاختلال شرط الإنتاج كما تقدم إيضاحه، صمان أنتج المقصود في بعض الحالات لخصوص المادة، فتنبه لذلك، والخطب سهل؛ لأن المثال يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره كما تقدم.

واعلم أن السند قد يقسم تقسيمًا آخر باعتبار آخر، فهو ينقسم باعتبار نسبته إلى نقيض الدعوى الممنوعة في نفس الأمر لا بالنظر إلى اعتقاد المانع إلى ستة أقسام، وسيأتي تفصيلها بأمثلتها.

(1/216)

________________________________________

واعلم أولا أن ثلاثة من هذه الأقسام الستة هي محل المناظرة المقصود؛ لأن السائل ينفعه الإتيان بها في إبطال دعوى المعلل، والمعلل ينفعه الاشتغال بالرد عليها؛ لأن إبطالها سبب لاستقامة دليله، وواحد منها لا ينفع السائل إتيانه، ولكن ينفع المعلل إبطاله، واثنان منها لا فائدة فيهما للمعلل ولا للسائل، فلا حاجة للإتيان بهما أصلًا، ولكنه قد يأتي بهما يظن فيهما فائدة والأمر بخلاف ما يظن.

وإذا علمت ذلك فالأول من الأقسام الستة المذكورة هو ما يكون فيه السند نفس نقيض الدعوى الممنوعة.

ومثاله أن يقول المعلل: هذا إنسان، ثم يستدل على هذا التصديق فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان، ينتج: هذا إنسان.

فيقول السائل: أمنع صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه ناطق، ويجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق، فالصغرى الممنوعة: هو ناطق، والسند: جواز كونه غير ناطق، وغير الناطقِ هو عين نقيض الناطق.

وهذا القسم من الأقسام الثلاثة التي ينفع السائلَ الإتيانُ بها، وينفع المعللَ إبطالُها؛ لما قدمنا من أن إثبات النقيض يلزمه نفي نقيضه، كعكسه، كما أوضحنا في القياس الشرطي المنفصل، المركب من [حقيقيةٍ] (1) مانعةِ جمع وخلو (2).

__________

(1) في المطبوع: (حقيقة) والصواب ما أثبته.

(2) يعني مع الاستثنائية، راجع ص 133.

(1/217)

________________________________________

القسم الثاني منها: هو ما يكون فيه السند مساويًا لنقيض الدعوى الممنوعة.

ومثاله أن يقول المعلل: هذه الدنانير زوج، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنها منقسمة إلى قسمين متساويين، وكل منقسم إلى متساويين فهو زوج، ينتج من الشكل الأول: هي زوج.

فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: إنها منقسمة إلى متساويين، والحال أنها فرد، فالصغرى الممنوعة هي كونها منقسمةً إلى متساويين، والسند الذي هو (هي فرد) مساوٍ لنقيض كونها منقسمةً إلى متساويين؛ لأن نقيضه (هي ليست منقسمة إلى متساويين) والفرد مساوٍ لهذا النقيض؛ لأن كل ما لم ينقسم إلى متساويين فهو فرد، كعكسه.

وهذا القسم أيضًا ينفع السائلَ الإتيان به، وينفع المعلل إبطاله؛ لما أوضحناه في القياس الشرطي المنفصل المركب من الحقيقية المانعة للجمع والخلو معًا والاستثنائية؛ لأنا قدمنا أنها لا تتركب إلا من النقيضين، أو من قضية ومساوي نقيضها، ومساوي النقيض حكمه كحكم النقيض، فثبوت مساوي النقيض يدل على نفي نقيضه، كعكسه، كما تقدم إيضاحه في القياس الشرطي المنفصل (1).

فإذا أثبت المانع مساوي نقيضِ الدعوى الممنوعةِ فقد أثبت بطلانها قطعًا؛ لأن إثبات مساوي النقيض يدل على انتفاء نقيضه

__________

(1) راجع ص 133.

(1/218)

________________________________________

الآخر، وإبطالُ المعلل له ينفعه في عدم بطلان دليله كما هو واضح.

القسم الثالث منها: هو ما يكون السند فيه أخص مطلقًا من نقيض الدعوى الممنوعة.

ومثاله أن يقول: ذلك الشبح ضاحك، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه إنسان، وكل إنسان ضاحك، ينتج من الشكل الأول: هو -أي الشبح المذكور- ضاحك.

فيقول السائل: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: إن ذلك الشبح إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول: [لم] (1) لا يجوز أن يكون فرسًا، فالمقدمة الممنوعة كون ذلك الشبح إنسانًا، ونقيضها (ليس هو بإنسان)، والسند هنا هو جواز كونه فرسًا، وكونه فرسًا أخص من نقيض كونه إنسانًا؛ لأن نقيضه غير إنسان، وغير الإنسان صادق بالفرس وغيره، فنقيض الدعوى الممنوعة أعم مطلقًا، والسند أخص منه مطلقًا كما ترى.

وهذا القسم الثالث أيضًا ينفع السائلَ الإتيانُ به؛ لأن إثبات ما هو أخص من نقيض الدعوى يستلزم إثبات نقيض الدعوى ضرورة؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، فإذا أثبت السائل ما هو أخص من نقيض الدعوى لزم ثبوت نقيض الدعوى، وإذا لزم ثبوت نقيضها تحقق انتفاؤها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين.

__________

(1) ساقطة من المطبوع، والسياق يقتضيها.

(1/219)

________________________________________

وقد أوضحنا أن ثبوت ما هو أخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض، وثبوت النقيض يستلزم انتفاء نقيضه الآخر، في الكلام على القياس المركب من مانعة الجمع المجوّزة للخلو؛ لأنها لا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، وثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر؛ لما أوضحنا من أن ثبوت الأخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض، إلى آخره (1).

القسم الرابع منها: هو ما يكون السند فيه أعم من نقيض الدعوى الممنوعة.

ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح حجر، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه غير ناطق، وكل غيرِ ناطق فهو حجر، ينتج من الشكل الأول: هو -أي ذلك الشبح- حجر.

فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه غير ناطق، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند القطعي فيقول: كيف يكون غير ناطق والحال أنه حيوان؟ فالمقدمة الممنوعة هي (غير ناطق) ونقيضها (هو ناطق) والسند (هو حيوان)، والحيوان الذي هو السند أعم مطلقًا من الناطق الذي هو نقيض الدعوى الممنوعة.

وهذا القسم الرابع لا ينتفع به السائل؛ لأن إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص، ولكن المعلل إذا نفى ذلك السندَ الذي هو أعم من نقيض الدعوى لزم انتفاءُ نقيض الدعوى؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي

__________

(1) راجع ص 77، 133، 134 من المقدمة المنطقية.

(1/220)

________________________________________

الأخص، وانتفاءُ نقيض الدعوى يلزمه صحتها؛ لأن النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان، وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في مبحث الضربين المنتجين من القياس الشرطي المتصل (1).

القسم الخامس منها: هو ما يكون فيه السند أَعمَّ من نقيض الدعوى من وجه وأخصَّ منه من وجه.

ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح متنفس، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه إنسان، وكل إنسان متنفس، ينتج: هو -أي ذلك الشبح- متنفس.

فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكن أبيض؟ فالمقدمة الممنوعة هي كونه إنسانًا، ونقيضها (ليس بإنسان) والسند: جواز كونه أبيض، و (الأبيض) و (غير الإنسان) بينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في الثلج والعاج، فكلاهما أبيض وكلاهما غير إنسان، وينفرد (غير الإنسان) عن الأبيض في الغراب والفحم، فكلاهما غير إنسان، وليس واحد منهما بأبيض، وينفرد الأبيض عن (غير الإنسان) في الإنسان الأبيض، فهو إنسان أبيض، وليس (غير إنسان).

وهذا القسم لا فائدة في إثباته ولا نفيه للمعلل ولا للمستدل؛ لأن الأعمّين من وجه لا يقتضي وجودُ أحدهما نفيَ الآخر ولا عدمَه ولا

__________

(1) راجع ص 130.

(1/221)

________________________________________

وجوده، فلا فائدة في الإتيان به في المناظرة أصلًا.

القسم السادس منها: هو ما يكون فيه السند مباينًا لنقيض الدعوى الممنوعة.

ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح غير مفكر، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه غير إنسان، وكل غير إنسان فهو غير مفكر، ينتج من الشكل الأول: هو -أي ذلك الشبح- غير مفكر.

فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه غير إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند فيقول: محل كونه غير إنسان إذا كان حجرًا، فالمقدمة الممنوعة هي (غير إنسان)، ونقيضها (هو إنسان)، والسند هو (إذا كان حجرًا)، وكونه إنسانًا وكونه حجرًا [متباينان]؛ (1) لأن النسبة بين الإنسان والحجر التباين، كما تقدم إيضاحه.

وهذا القسم السادس لا فائدة البتةَ في الإتيان به للمعلل ولا للمستدل كما لا يخفى.

تنبيه: اعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الستة التي ذكرنا يجوز أن يؤتى به على الأوجه الثلاثة المتقدمة، التي هي اللمي والقطعي والحَلي، وقد أوردنا من الأمثلة ما فيه كفاية.

__________

(1) في المطبوع: (متباينًا)، والصواب ما أثبتّه.

(1/222)

________________________________________

 فصل في الأجوبة عن المنع

اعلم أن للمعلل وظائفَ في جوابه عن المنع الذي منع به السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردةِ عن الدليل:

الأول من ذلك أن يقيم دليلًا ينتج نفس الدعوى التي منعها السائل، أو ينتج دعوى أخرى تساويها، أو ينتج دعوى أخرى أخصَّ منها مطلقًا، لأن إثبات مساوي الشيء إثباتٌ له، وإثباتُ الأخص يستلزم إثباتَ الأعم، كما تقدم إيضاحه.

وهذا الجواب يصلح للرد على المنع المجرد والمصحوب بالسند جميعًا.

ومثال إقامته الدليلَ على الدعوى المجردةِ التي منعها السائل أن يقول: العالم حادث، فيقول خصمه القائل بقدم العالم من الفلاسفة: أمنعُ دعواك هذه التي [هي] (1) العالم حادث.

فيقيم المعلل الدليل عليها جوابًا لمنع السائل فيقول: العالم متغير بالانعدام ونحوه، وكل متغير كذلك فهو حادث، ينتج من الشكل الأول: العالم حادث، وهو عين الدعوى الممنوعة.

ومثال إنتاج الدليل ما يساوي الدعوى الممنوعة أن يقول: كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية، ولا شيء من الأزلي الوجودي بمنعدم، ينتج من الشكل الأول: لا شيء من ذرات العالم

__________

(1) في المطبوع: (نص)، ولا معنى لها هنا.

(1/223)

________________________________________

المفروض أنها لم تسبق بعدم بمنعدمة، وهذه النتيجة كاذبة؛ لأن جميع ذرات العالم تنعدم شيئًا فشيئًا كما هو مشاهد، وإنما كذبت النتيجة لكون الصغرى مستحيلة، و [هي] (1) قوله: (كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية)؛ لاستحالة وجود ذرة منه لم تُسبق بعدم حتى تكون أزلية، ومن المعلوم أن الأزلي الوجودي لا يُعقل انعدامه؛ إذ لو كان انعدامه جائزا لكان محتاجًا في وجوده الأول إلى مخصص يخصص وجوده، ويرجحه على عدمه المساويه عقلًا أزلًا، فيكون حادثًا لترجيح المخصص المذكور وجودَه على عدمه، والفرض أنه أزلي، واستحالة الصغرى التي هي (كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية) يلزمها صحة نقيضها، وهي (كل ذرة من ذرات العالم مسبوقة بعدم)؛ لتساوي ذراته لذاتها (2)، فهذه النتيجة مثال لإنتاج الدليل مساوي الدعوى الممنوعة؛ لأنها مساوية لقولك: العالم حادث.

ومثال إنتاج الدليل ما هو أخصُّ من الدعوى الممنوعة أن تكون مناقشة المتناظرَين في موجَّهة بالإمكان، فيمنع السائل جهتها التي هي الإمكان، فيقيم المعلل الدليل على صحة توجيهها بالإطلاق؛ لأن

__________

(1) في المطبوع: (لكن) ولا معنى لها هنا.

(2) قوله (لتساوي ذراته لذاتها) برر به جعله نقيض الكلية كلية على خلاف المقرر في قواعد المنطق من كون نقيض الكلية جزئية (راجع ص 89)، وهو يحتمل موافقة المتكلمين في قولهم بتماثل الأجسام، مع أن إثبات حدوث ذرات العالم غير موقوف على إثبات تماثلها، وانظر في ذلك درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: 1/ 115 - 117، 4/ 176 وما بعدها.

(1/224)

________________________________________

الإطلاق أخصُّ من الإمكان، فثبوت الإطلاق يلزمه ضرورةً ثبوتُ الإمكان، كما قال العلامة الشيخ المختار بن بونا الشنقيطي (1):

ونسبةٌ ممْكِنةٌ محقِّقَة ... ثبوتَ صدقٍ عند صدق المطلقة

وإيضاح هذا الكلام لمن لا يعرف مبحث الجهات في فن المنطق (2): أن الموجهة بالإمكان هي ما لا يستحيل عقلًا ثبوت موضوعها لمحمولها وإن كان غير ثابت له بالفعل، ولا نطيل هنا الكلام بالفرق بين الإمكان العام والإمكان الخاص، والموجهة بالإطلاق في الاصطلاح هي القضية التي اتصف موضوعها بمحمولها بالفعل إيجابًا أو سلبًا، فقولك: (أبو لهب مؤمن) بالإمكان الخاص صادق؛ لأن اتصافه بالإيمان ليس بمستحيل عقلًا، ولو كان مستحيلًا عقلًا لما كُلّف به، بخلاف ما لو قلت: (أبو لهب مؤمن) بالإطلاق، أي بالفعل، فهو كذب بل كفر؛ لتكذيبه نص القرآن العظيم. وإذا علمت ذلك علمت أن ثبوت الإطلاق يستلزم ثبوت الإمكان بلا عكس.

وإذا علمت ذلك فاعلم أن المناظرة بين أهل السنة والجماعة القائلين برؤية الله -جل وعلا- بالأبصار يوم القيامة وبين المعتزلة المانعين لذلك إنما هي في جهة الإمكان، فالمعتزلة يقولون إنها مستحيلة ولا تدخل في الإمكان أصلًا، وأهل السنة يقولون هي ممكنة؛ وطلب موسى لها في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} دليل على

__________

(1) سبقت ترجمته في المقدمة المنطقية ص 5.

(2) راجع تعريف القضايا الموجهة في المقدمة المنطقية ص 95 الحاشية.

(1/225)

________________________________________

إمكانها؛ لأن نبي الله موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لا يجهل المستحيل في حق الله -تعالى-، ولا يلتبس عليه بالممكن حتى يسأله.

وإذا علمتَ أن المناظرة في الإمكان علمتَ أن المعلل إذا أقام دليلًا ينتج الإطلاق، الذي هو الوقوع الفعلي، الذي هو أخص قطعًا من الإمكان، فكأنه أقام الدليل على الإمكان؛ لأن وجود الأخص يستلزم وجود الأعم.

وإذا علمت ذلك فاعلم أن صورة استدلاله على ذلك أن يقول: الله أثبت في كتابه وقوع الرؤية بالفعل، في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23] فصح بنظرها إلى ربها بالفعل يوم القيامة، وكل ما أثبته الله في كتابه فهو حق صحيح، ينتج من الشكل الأول: الرؤية حق صحيح، وهذه النتيجة أخص من الدعوى الممنوعة، التي هي الإمكان، فافهمه؛ لأنه لا يقع بالفعل إلا ما هو ممكن الوقوع، ومن المعلوم بالضرورة أن المستحيل وقوعُه عقلًا لا يقع بالفعل، كما لا يخفى.

ومناقشة استدلال المعتزلة ببعض الآيات كقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، ونحو ذلك قد بينا بطلانها في غير هذا الموضع، ومقصودنا هنا مطلق المثال.

الوجه الثاني من وظائف المعلل في جوابه عن منع السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردة هو أن يبطل السند الذي استند إليه

(1/226)

________________________________________

السائل في المنع المذكور، وهذا الجواب خاص بالمنع المقترن بالسند؛ لأن إبطاله السند يستلزم بطلان المنع؛ لأن المنع ماسوٍ السندَ في نظر المانع دائمًا، وإن كان في نفس الأمر قد يكون بخلاف ذلك، كما بيناه في الأقسام الستة المذكورة آنفًا، وإبطال أحد المتساويين إبطال لمساويه الآخر كما هو معلوم، وإذا ثبت بإبطال السند إبطال المنع فقد تحقق ثبوت نقيضه وهو الدعوى الممنوعة كما لا يخفى؛ لأن النقيضين لا يرتفعان.

ومن أمثلة ذلك أن يقول المعلل صاحب التصديق: هذا الشبح إنسان، ثم يقيم دليله على ذلك فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان. فيمنع السائل صُغرى دليله بسند لِمّيٍ فيقول: لا أسلّم أنّ هذا الشبحَ ناطق، لمَ لا يجوز أن يكون حجرًا؟ ، أو لا يجوز أن يكون غير ضاحك؟ ، أو: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق؟ ونحو ذلك.

فيقول المعلل: السائل هذه التجويزات العقلية التي استندتَ إليها في منع صُغرى دليلي كلها باطلة، ولا يجوز شيء منها عقلًا؛ لأن ذلك الشبح كاتب قطعًا، وكل كاتب لا يجوز فيه شيء مما ذكرتَ عقلًا، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبحُ لا يجوز فيه شيء مما ذكرتَ عقلًا، وإذا بطل هذا السندُ الجوازي بطل المنع كما تقدم إيضاحه قريبًا.

والوجه الثالث: من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المدعَى -باسم المفعول- الممنوع، كأن يقول المعلل: لا تجب الزكاة في العُروض، فيقول السائل: لا أسلم دعواك

(1/227)

________________________________________

هذه، فيجيب عن هذا المنع بتحرير المراد من المدعَى فيقول: مرادي بالعُروض التي لا تجب فيها الزكاة عروضُ القُنية التي هي محل وفاق، ولا أقصد عروض التجارة التي يقول جماهير أهل العلم بوجوب زكاتها. فقد أجاب عن منع دعواه بتحريره مراده مما ادعاه.

وكذلك الجواب عن المنع المذكور بتحرير المراد من المقدمة الممنوعة، [كأن] (1) يقول المعلل: هذا حيوان، وكل حيوان يحرك فكه الأسفلَ عند المضغ، ينتج من الشكل الأول: هذا يحرك فكه الأسفل عند المضغ.

فيقول السائل: أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك (وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ)؛ لأن التمساح حيوان لا يحرك فكه الأسفل عند المضغ، وإنما يحرك فكه الأعلى.

فيجيب المعلل عن منع هذه المقدمة بتحرير المراد منها فيقول: مرادي بقولي (وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ) أفرادُ الحيوان الظاهرةُ المشهورة المتعارَفة عند العامة، ولا أقصد الفرد النادر الذي لا يكاد يخطر بالبال لقلة ملابسة أغلبية الناس له ملابسةً تؤدي إلى معرفة شيء عنه. فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير مراده منها.

الوجه الرابع من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المذهب العلمي الذي يَبني عليه الممنوع.

__________

(1) في المطبوع: (كأنه)، والصواب ما أثبته.

(1/228)

________________________________________

ومثاله أن يقول المعلل: تغريب الزاني البكر سنةً زيادةٌ على قوله -تعالى-: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وكل زيادة على النص فهي نسخ له، ينتج من الشكل الأول: تغريب الزاني البكر سنةً نسخ لقوله {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} الآية، ومراده أن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد، والمتواتر عنده لا يُنسخ بالآحاد، فيُمنع عنده التغريب لذلك.

فيقول السائل: أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك: (وكل زيادة علي النص نسخ)؛ لأن محل ذلك فيما إذا نفت الزيادة شيئًا أثبته النص، أو أثبتت شيئًا نفاه، فإن كانت لم تنف ما أثبته النصُّ ولم تثبت ما نفاه فإنها ليست بنسخ؛ لأنها إنما رفعت البراءة الأصلية فقط، ورفعها ليس بنسخ.

فيجيب المعلل عن منع كبرى دليله هذا بتحرير مراده من المذهب العلمي الذي بَنى عليه الممنوع فيقول: إني بنيت قولي (وكل زيادة على النص فهي نسخ) على مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، ولم أبنه على رأي من خالفه.

فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير المراد من المذهب العلمي الذي بناها عليه.

فهذه هي أجوبة المعلل عن المنع المجرد عن السند والمقرون به.

واعلم أنه لا ينفعه أن يمنع صحة ورود المنع، ولا أن يمنع السند القطعي، ولا أن يمنع صلاحية السند للاستناد إليه، ولا ينفعه الاشتغال

(1/229)

________________________________________

بالاعتراض على عبارة المنع بدعوى أنها مخالفة لقوانين العربية، فإن اشتغل بشيء من ذلك ولم يُجب بأحد الأجوبة التي بينا فقد أُفحم، ووجب انتقال الكلام إلى بحثَ آخر.

(1/230)

________________________________________

فصل في الغصب

اعلم أن كل ما صح للسائل أن يمنعه فإن استدلاله عليه من الغصب.

وإيضاحه أنا قد بينا فيما سبق (1) أن كلًّا من المدّعَى الذي لم يُقِم عليه المعلل دليلًا، ومقدمةِ الدليل التي لم يُقِم عليها دليلًا يجوز للسائل أن يمنعهما، ويطلبَ الدليلَ على صحتهما، فإن أقام السائل دليلًا على بطلان واحد منهما قبل أن يقيم المعلل عليه دليلًا فهو غاصب، والغصب وظيفة غير مقبولة عند جماهير أهل هذا الفن.

والحاصل أن الغصب هو استدلال السائل على بطلان تصديق نظري لم يقم صاحبه عليه دليلًا، أو استدلاله على بطلان تصديق بديهي خفي لم يقم صاحبه عليه تنبيهًا.

__________

(1) راجع ص 202.

(1/231)

________________________________________

 فصل في المكابرة

وهي في الاصطلاح المنازعة بين الخصمين لا لإظهار الصواب، بل لإظهار الفضل والغلبة.

ومن أَمثلتها أن يقول المعلل صاحب التصديق: الكل أكبر من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والأربعة زوج.

فيقول السائل: أمنعُ هذه الدعاوى أو واحدة منها، فإن قال ذلك فهو مكابر، والمكابرة وظيفة مردودة، لا تُسمع ولا تُقبل كما لا يخفى.

ومن المكابرة منع التصديق النظري الذي أقام المعلل عليه دليلًا صحيحًا لا يمكن تطرق الخلل إليه بوجه من الوجوه.

وقد بينا سابقًا (1) أن التصديق النظري المجرد عن الدليل والتصديقَ البديهي الخفي المجرد عن التنبيه لا يجوز الاعتراض على واحد منهما إلا بالمنع فقط، وأن التصديق النظري المصحوبَ بالدليل من المعلل، والتصديقَ البديهيَّ الخفيَّ المصحوبَ بالتنبيه يجوز الاعتراض على كل واحد منهما بثلاث طرق كلها يصح الاعتراض بها وهي:

1 - المناقضة، وتسمى بالنقض التفصيلي، والمنع الحقيقي، والممانعة، وهي منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل، وهذه الطريق هي التي قدمنا الكلام عليها مستوفىً وأوجهَ الجواب عن المنع فيها.

__________

(1) راجع ص 201، 202.

(1/232)

________________________________________

2 - الطريق الثانية: النقض.

3 - الطريق الثالثة: المعارضة، وسنوضح إن شاء الله تعالى الكلام على هاتين الطريقتين كما أوضحناه على الأولى التي هي المناقضة.

(1/233)

________________________________________

 فصل في النقض وأقسامه ويسمى النقضَ الإجمالي

اعلم أولًا أن النقض في اصطلاح أهل هذا الفن هو ادعاء السائل بطلانَ دليل المعلِّل مع إقامته الدليل على دعواه بطلانَه، وذلك إما بتخلف المدلول عن الدليل، بمعنى أن الدليل يكون موجودًا والمدلول ليس بموجود، فيكون الدليل جاريًا على مدّعىً آخرَ غيرِ المدّعَى الذي أقامه عليه المعلَّل، أو بسبب استلزامه المحال كالدور السبقي والتسلسل المحال ونحو ذلك، ولهم فيه تعاريفُ غيرُ هذا، وسيتضح لك ذلك في الكلام عليه في تطبيقه على القادح المسمى بالنقض عند أهل الأصول (1).

واعلم أن النقض لا يُقبل إلا مقترنا بشاهد، والمراد بالشاهد المذكور هو الدليلُ على صحة النقض، فإن لم يذكر السائل مع [النقض] (2) الشاهدَ المذكورَ لم يقبل منه، وقد عرفتَ من تعريفه أن الشاهد المذكور نوعان:

الأول: تخلف المدلول عن الدليل. والثاني استلزامه المحال.

فمثال تخلف المدلول عن الدليل أن يقول المعلِّل المعتقد مذهبَ الفلاسفة في قدم العالم: العالم قديم، ثم يقيم على ذلك الدليلَ في

__________

(1) يأتي ص 296.

(2) في المطبوع: (النقيض)، والصواب ما أثبتّه.

(1/234)

________________________________________

زعمه فيقول: لأنه أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، ينتج من الشكل الأول: هو -أي العالم- قديم.

فيقول السائل: هذا الدليل باطل، لأنه يوجد مع عدم وجود مدلوله، وقد يوجد مع مدعىً آخر مقطوع بأنه غير حق، كأن يقول: الحوادث اليومية المتجددة في الدنيا حينًا بعد حين أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، ينتج من الشكل الأول: الحوادث اليومية المتجددة في الدنيا حينًا بعد حين قديمة، مع أن حدوثها مشاهد مدرَك بالحواس، فهو يقيني، ومقدمة الدليل المذكور الصغرى -وهي كونها أثرَ القديم- صحيحة، فتعين أن قوله (وكل ما هو أثر القديم فهو قديم) باطل؛ لأنه منقوض بالحوادث اليومية المتجددة بمرأىً منا ومسمع (1).

ولا يلزم في النقض تعيين المقدمة التي منها الفساد، وإنما عينّاها في هذا المثال لأجل الإيضاح.

والحاصل أنه يقول له: دليلك الذي هو قولك (وكل ما هو أثر القديم فهو قديم) منقوض، لأن الحوادث اليومية أثرُ القديم، وليست بقديمة.

وإيضاح الإبطال بهذا النوع من النقض أن المدلول لازم للدليل، وتخلفُ اللازم عن الملزوم لا يمكن، فلا يكون تخلف المدلول عن الدليل إلا لفساد فيه، وسيأتي (2) إن شاء الله -تعالى- كثير من أمثلة هذا

__________

(1) الصواب في هذه المسألة التفريق بين النوع والأفراد، فنوع الحوادث قديم، وإلا لزم تعطيل الخالق عن الفعل أزلًا، أما الأفراد فحادثة.

(2) ص 296.

(1/235)

________________________________________

النوع من النقض في تطبيقه على القادح المعروف في الأصول بالنقض.

ومثال النوع الثاني من نوعي النقض وهو استلزام دليل المعلل المحال: فقد مثل له بعضهم بأن يقول المعلل: الحد له تعريف، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه تعريف، وكل تعريف له تعريف، ينتج من الشكل الأول: الحد له تعريف.

فيقول السائل هذا الدليل منقوض؛ لاستلزامه المحال وهو التسلسل إلى غير نهاية؛ لأن قولك (وكل تعريف له تعريف) يقتضي أنه كلما أتى بتعريف لزمه تعريفه بتعريف آخر إلى غير نهاية، وهذا محال.

ووجه [النقض] (1) باستلزامه المحال أن الأمور المتحققة في الواقع لا تستلزم المحال، فاستلزام الدليل للمحال لا يكون إلا لعدم صحته في الواقع.

ووجه استحالة التسلسل فيما ذكر أن كل تعريف من حيث هو معرَّف -باسم المفعول- محتاج إلى تعريف، وهذا محتاج أيضًا إليه إلى ما لا نهاية، فلا تُعقل معرفة تعريف منها بحال.

ومثّل بعضهم لاستحالته بالدور السبقي بأن يقول المعلل: الإنسان ابن بشر، وكل ابن بشر بشر، ينتج: الإنسان بشر.

فيقول السائل: هذا منقوض باستلزامه المحال؛ لأن لفظة (بشر) في الصغرى يتوقف إدراكها على لفظة (بشر) في الكبرى، كعكسه،

__________

(1) في المطبوع: (النقيض)، والصواب ما أثبته.

(1/236)

________________________________________

فكل واحد [منهما] (1) يتوقف إدراكه على إدراك الآخر، فيستحيل فهم المعنى لو فرض أنه لا طريق له يُعرف بها إلا ما قاله المعلِّل في دليله، ولا يخفى ما في هذا المثال.

وقد مثلنا للدور السبقي في المعرِّفات في المقدمة المنطقية (2).

وقد قدّمنا أن المثال لا يُعترض؛ لأنه يكفي فيه الفرض والاحتمال.

واعلم أن النقض في اصطلاحهم ينقسم إلى قسمين: الأول النقض الحقيقي، والثاني النقض الشبيهي، والأول الذي هو النقض الحقيقي ينقسم إلى قسمين: أحدهما النقض المشهور، والثاني النقض المكسور، فتحصل أن أقسام النقض ثلاثة:

الأول نقض مشهور، الثاني نقض مكسور، الثالث نقض شبيهي.

أما النقض الحقيقي المشهور فهو ما عرّفناه آنفا ومثلنا له، وضابطه أن السائل إذا أَراد الاعتراض على دليل المعلل بالنقض جاء بدليل المعلل على نفس الهيئة التي أورده عليها صاحبه، ولم يحذف منه شيئًا؛ فإنْ حذف بعضَ الأوصاف وأجرى النقض على دليل المعلل في حال كونه حاذفًا بعض الأوصاف فهو النقض المكسور، وتارة يكون الوصف المحذوف له فائدةُ بحيث أنه لو لم يحذفْه لما صح له النقض،

__________

(1) في المطبوع: (منها).

(2) راجع المقدمة المنطقية ص 62.

(1/237)

________________________________________

وتارة يكون الوصف المحذوف لا فائدة فيه فوجوده كعدمه بالنسبة إلى صحة النقض وعدمها.

ومثال النقض المكسور بحذف بعض الأوصاف التي لها فائدة في عدم توجه النقض أن يقول المعلل: هذا يجب قتله قصاصًا، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه قاتلٌ كفؤا عمدًا عدوانًا، وكل قاتل كفؤا عمدًا عدوانًا يجب قتله قصاصًا، ينتج من الشكل الأول: هذا يجب قتله قصاصًا.

فيقول السائل: دليلك هذا منقوض؛ لأنه يوجد دون مدلوله؛ فإن ولي الدم إذا مكّنه السلطان من قاتل وليه فإنه يقتله عمدًا، وهذا القتل العمد لا قصاص فيه، فقد وجد دليلك وهو القتل العمد لكفؤ مع تخلف القصاص.

وإنما كان هذا النوع من النقض المسكور لأنه حَذف في نقضه بعض أوصاف دليل المعلل التي لها فائدة في عدم توجه النقض، ولو لم يحذفها لما توجه نقضه، وذلك هو الوصف بكون القتل عدوانًا؛ لأن قتل ولي الدم للجاني قصاصًا ليس عدوانًا.

وهذا النوع من النقض المكسور مردود غير مقبول، فلا يجوز ارتكابه في المناظرة، لكن السائل إذا ارتكبه أجاب عنه المعلل.

أما إن كان الوصف المحذوف لا فائدة فيه فحذفه لا بأس به، ولا يؤثر في توجه النقض، ومثاله أن يقول المعلل المعتقدُ مذهبَ

(1/238)

________________________________________

الفلاسفة: العالم قديم، ثم يقيم دليله الباطلَ على ذلك فيقول: لأنه أثر القديم، ومستندٌ في وجوده إليه، وكل ما هو كذلك فهو قديم، ينتج من الشكل الأول: العالم قديم.

فيقول السائل: دليلك هذا منقوض بالحوادث اليومية، كما تقدم إيضاحه، ويذكر دليله، ويحذف لفظ (ومستند في وجوده إليه)؛ لأن كونه مستندًا في وجوده إليه لا فائدة في ذكره، ولا ضرر في حذفه؛ لأن كونه أثر القديم يُغني عنه كما لا يخفى.

وهذا النوع من النقض المكسور مقبول؛ لأن حذف مالا فائدة فيه وذكره سِيّان.

ولا يخفى أن النقض الحقيقي الذي ذكرناه بأمثلته مَوْرِده دليلُ المعلل.

وأما النقض الشبيهي فضابطه إبطال الدعوى بشهادة فساد مخصوص، ككونها مخالفة لإجماع العلماء، أو منافية لمذهب المعلل، وهذا موردُه الدعوى كما هو واضح.

ومثال كونها مخالفةً لإجماع العلماء أن يقول المعلل: هذا العامل "يعمل في مقابلة أن يُعطَى مالًا لا يدري أيوجد ذلك المال أو لا يوجد أصلًا، وعلى تقدير وجوده فلا يدري أيكون قليلًا أو كثيرًا، وهذا عين المعاوضة بما فيه غرر، وكل عامل يعمل كذلك فمعاوضته فاسدة، ينتج من الشكل الأول: هذا العامل معاوضته فاسدة.

فيقول السائل: هذا الدليل منقوض بإجماع العلماء على تخلف

(1/239)

________________________________________

مدلوله عنه في صورة شركة المضاربة المعروفة بالقراض، فقد أجمع جميع العلماء فيها على أن الرجل يجوز له أن يدفع للعامل مالًا يعمل فيه بالتجارة، على أن يكون للعامل نصفُ الربح أو ربعُه أو ثلثُه مثلًا، حسبما اتفقا عليه، مع بقاء رأس المال ملكًا لصاحبه، ولا شيء للعامل في مقابلة عمله إلا ما يحصل من الربح، مع أن الربح يجوز أن يحصل أو لا يحصل، وعلى تقدير حصوله يجوز أن يكون قليلًا أو كثيرًا، فقد أجمع العلماء على وجود ما استدل به المعلل على المنع، مع إجماعهم على تخلف الحكم الذي هو المنع عنه في هذه الصورة.

فهذا نقض شبيهي؛ لأن إبطال الدعوى فيه كان بشهادة فساد مخصوص وهو مخالفتها لإجماع العلماء، في صورة النقض، وإن أمكن صدقُها في غيرها.

واعلم أن الاعتراض بالنقض في قوة دليل مركب بحذف بعض مقدماته، وصورته أن يقول مثلًا: هذا الدليل تخلف عنه مدلوله، وكل دليل كان كذلك فهو فاسد، فهذا الدليل فاسد. أو يقول: هذا الدليل مستلزم للمحال، وكل دليل كان كذلك فهو فاسد، فهذا الدليل فاسد.

ومثال كونها منافية لمذهب المعلل قول. الشافعي ومالك وغيرهما: إن الزانية لا يحرم نكاحها، واستدلوا على ذلك بأن قوله تعالى {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3] الآية منسوخ بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ومعلوم أن هذا الناسخ المزعوم الذي هو آية {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] أعمُّ من المنسوخ في محل النزاع، وهو آية {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] لأن لفظ الأيامى صادق

(1/240)

________________________________________

بالعفائف والزواني، والذكور والإناث، ومعلوم أن مذهب الشافعي ومالك أن الخاص لا يُنسخ بالعام؛ لأن الخاص عندهما يقضي على العام فيخصص عمومه، سواء تأخر نزولُه عنه أو تقدم، كما هو مقرر في أُصولهما.

فيقول المعلل كالشافعي مثلًا: دليل تحريم نكاح الزانية الذي هو خاص منسوخ بدليل إباحته الذي هو عام، وكل دليلين نسخ أحدهما الآخر فالحكم للناسخ منهما، ينتج من الشكل الأول: الحكم هنا لدليل الإباحة العام؛ لأنه هو الناسخ.

فيقول السائل: هذا الدليل منقوض؛ لأن الناسخ فيه أعم من المنسوخ، وذلك ينافي مذهبك؛ لأنه لا يجوز فيه نسخ خاص بعام.

فقد نقض عليه دليله بتخلف الحكم عنه بمقتضى مذهب المعلل؛ لأن ثبوت حكمه معه مناف لمذهب المعلل.

(1/241)

________________________________________

 فصل في الأجوبة عن النقض

اعلم أنه لا يخفى على من فهم حقيقة النقض أن الجواب عنه في هذا الفن إما:

1 - بمنع وجود تمام دليل الدعوى، فيقول: دليلها غير موجود على التمام، ولو كان موجودًا كذلك لما تخلف مدلوله عنه.

2 - الثاني أن يمنع تخلف المدلول فيقول: المدلول موجود غير متخلف.

3 - وإما [بمنع استلزامه] (1) المحال.

4 - أو [بمنع] (2) كونه محالًا.

أما الجوابان الأولان فسيأتي إيضاحهما بأمثلتهما إن شاء الله -تعالى- إيضاحًا شافيًا في الكلام على تطبيق النقض في القادح الأصولي المعروف بالنقض (3).

وأما الجواب عن النقض باستلزام الدليل المحال، الذي هو منع استلزامه المحال، فمن أمثلته أن يقول المعلل مثلًا: هذا الأمر الذي شرعتَ فيه ينبغي ابتداؤه بالبسملة، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه أمر ذو بال، وكل أمر ذي بال ينبغي ابتداؤه بالبسملة، ينتج من الشكل الأول: هذا الأمر ينبغي ابتداؤه بالبسملة.

__________

(1) في المطبوع: (يمنع استلزام)، والمثبت هو الأقرب للصواب.

(2) في المطبوع: (يمنع).

(3) ص 296.

(1/242)

________________________________________

فيقول السائل: هذا الدليل منقوض باستلزامه المحال وهو التسلل؛ لأن نفس البسملة أمر ذو بال ينبغي أن يصدّر بالبسملة، وهذه البسملة أيضًا أمر ذو بال ينبغي تصديره بالبسملة، وهكذا إلى غير نهاية، وهو تسلسل ممنوع، واستلزام الدليل له.

فيجب نقض له فيجب المعلل عن هذا النقض بمنع استلزام الدليل للمحال، ويستند في ذلك المنع إلى أن البسملة نفسَها مستثناةٌ من حكم الدليل، فيقول: أمنع استلزام هذا الدليل المحال؛ لأن محل ذلك فيما لو كانت البسملة نفسُها مع كونها من الأمور ذواتِ البال داخلةً في عموم (كل أمر ذي بال)، لكنها غيرُ داخلة فيه، بل مستثناة منه.

ومثال منع كونه محالًا أن يقول المعلل: هذان الأمران يتوقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر، وكل شيئين توقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر استحال إدراك أي واحد منهما؛ لاستلزام ذلك للدور المحال.

فيقول السائل: دليلك هذا منقوض بالجوهر والعرض؛ فإنهما أمران يتوقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر، مع إمكان إدراكهما معًا كما هو مشاهد، والدور الذي استلزمه دليلك ليس محالًا؛ لأنه دور مَعِيٌّ، والمحال إنما هو الدور السبقي.

وللمعلل بعد ورود النقض على دليله أن يثبت مُدّعاه بدليل آخر، فيكون ذلك إفحامًا من وجه، وإظهارًا للصواب من وجه.

(1/243)

________________________________________

فصل في المعارضة

وهي الطريق الثالثة من الطرق الثلاث التي تقدم الكلام عليها (1).

اعلم أولًا أن جميع طرق الاعتراض راجعة إلى شيئين: وهما المنع والمعارضة، وبعضهم ردها كلها إلى شيء واحد وهو المنع، كما قال صاحب مراقي السعود (2):

وللمعارضة والمنع معا ... أو الأخيرِ الاعتراضُ رجعَ

واعلم أن المعارضة في الاصطلاح هي إقامة الخصم الدليلَ المنتجَ نقيضَ الدعوى التي استدل عليها خصمُه وأثبتها بدليله، أو المنتجَ ما يساوي نقيضها أو ما هو أخصُّ من نقيضها؛ لأن إقامته الدليلَ المنتجَ أحدَ الأمور الثلاثة يلزمه إبطال دعوى خصمه؛ لأنه إن ثبت نقيضها أو مساوي نقيضها أو أخصُّ من نقيضها بدليل المعارض فقد تحقق بطلانها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، واستحالة اجتماع الشيء ومساوي نقيضه، واستحالة اجتماع الشيء والأخص من نقيضه كما تقدم إيضاحه (3).

ومثال المعارضة بإثبات النقيض أن يقول المعلل المعتقد مذهبَ الفلاسفة الباطلَ في قدم العالم: العالم قديم، ثم يقيم الدليل في زعمه

__________

(1) وهي: النقض التفصيلي، والنقض الإجمالي، والمعارضة، راجع ص 203، 232، 233.

(2) ص 100، رقم (807)، دار المنارة، جدة، 1416 هـ.

(3) راجع ص 77، 134، 218 - 220.

(1/244)

________________________________________

الباطلِ على دعواه فيقول: لأنه أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، فهذا دليل على الدعوى نصبه المعلل لإثبات دعواه، ينتج في زعمه: العالم قديم.

فيقول السائل: العالم غير قديم، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير، وكل ما هو كذلك فليس بقديم، ينتج: هو -أي العالم- ليس بقديم، وهذه النتيجة عين نقيض دعوى المستدل التي نصب عليها دليله وهي قوله: (العالم قديم)؛ لأن نقيض القديم (ليس بقديم).

ومثال إنتاجه مساوي نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقال في هذا المثال الأخير: العالم متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير، وكل ما هو كذلك فهو حادث، ينتج: العالم حادث. والحادث مساوٍ لنقيض القديم؛ لأن نقيض القديم (ليس بقديم)، والحادث مساو لـ (ليس بقديم) كما لا يخفى.

ومثال إنتاجه ما هو أخص من نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقول المعلل المعتزلي المعتقد استحالةَ رؤية الله بالأبصار يوم القيامة: رؤية الله بالأبصار يلزمها كثير من أنواع مشابهة الخلق، وكل ما هو كذلك فهو مستحيل في حقه -تعالى-، فينتج له دليله هذا الباطلُ باطلًا، وهو قوله: رؤية الله -تعالى- بالأبصار مستحيلة، يعني لا تمكن عقلًا.

فيقول السائل المعارض: رؤية الله -تعالى- بالأبصار يوم القيامة أخبر الله في كتابه، ورسولُه في الأحاديث الصحيحة بأنها واقعة

(1/245)

________________________________________

بالفعل، وكل ما هو كذلك فهو حق صحيح. وهذه النتيجة التي هي وقوع الرؤية بالفعل أخصُّ من إمكانها، الذي هو نقيض دعوى الخصم التي هي استحالتها كما قدمنا إيضاحَه.

واعلم أن المعارضة عند أهل هذا الفن تختلف تقسيماتها باختلاف الاعتبارات، فتنقسم باعتبار ما تُوجه إليه إلى قسمين: الأول يسمى المعارضة في الدليل، والثاني يسمى المعارضة في العلة.

وتنقسم باعتبار مقارنة دليل المعارضِ بدليل المعلل إلى ثلاثة أقسام: الأول المعارضة على سبيل القلب، والثاني المعارضة بالمثل، والثالث المعارضة بالغير، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة يكون معارضة في الدليل، ويكون معارضة في العلة، فالأقسام ستة من ضرب اثنين في ثلاثة.

واعلم أن أنواع المعارضةِ في العلة والمعارضة في الدليل سنوضحها إن شاء الله إيضاحًا تامًّا في التطبيق على القادح المسمى في الأصول بالمعارضة (1)، ولذلك سنختصر القول فيهما هنا، وبالمثال يتضح معنى ما ذكرناه.

اعلم أنه لو قال المعلل مثلًا: العالم حادث، فهذا التصديق دعوى؛ فإن أقام الدليل على هذه الدعوى فقال: لأنه متغير، وكل متغير حادث. ينتج: العالم حادث، فهذا دليل على هذه الدعوى، ومشتمل على مقدمتين كل واحدة منهما في ذاتها دعوى.

__________

(1) يأتي ص 319.

(1/246)

________________________________________

فلو أراد المعلل أن يقيم دليلًا على صغرى دليله هذا مثلًا التي هي (العالم متغير) فقال: لأنه لا يخلو عن الأكوان، وكل ما لا يخلو عن الأكوان فهو متغير، ينتج هو -أي العالم- متغير.

والأكوان في اصطلاح المتكلمين هي الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.

فقد عرفت من هذا الكلام أنه ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى الدعوى الأصلية التي هي (العالم حادث).

والثانية هي الدليل على هذه الدعوى الذي هو الأنه متغير، وكل متغير حادث).

والثالثة إقامة الدليل على صغرى هذا الدليل التي هي (العالم متغير)، بأن يقول: لأنه لا يخلو عن الأكوان، وكل ما لا يخلو عنها فهو متغير.

فلو أقام السائل الدليل على إبطال الدعوى الأصلية، وهي هنا (العالم حادث)، فأثبت بدليله نقيضها، أو مساويَ نقيضها، أو أخص من نقيضها، سُمي ذلك معارضة في الدليل، لأنه عارض دليل إثباتها بدليل إبطالها، ، وتسمى أيضًا معارضة في المدعَى، ومعارضة في الحكم.

وإذا أقام السائل الدليل على إبطال المقدمة الصغرى من دليل الدعوى الأصلية التي هي في المثال المذكور (العالم متغير)، وكان ذلك بعد إقامة المعلل الدليل على صحتها بقوله: لأنه لا يخلو عن

(1/247)

________________________________________

الأكوان إلخ .. ، فأثبت بدليله نقيض تلك الصغرى، أو ما يساويه، أو ما هو أخص منه، بعد الاستدلال عليها، فإن ذلك يسمى معارضة في العلة، ويقال له أيضًا: معارضة في المقدمة.

والحاصل أن المعارضة إن وُجهت إلى الدعوى الأصلية المدلل عليها فهي المعارضة في الدليل، وإن وجهت إلى إحدى مقدمات دليل الدعوى الأصلية فهي المعارضة في العله.

وقد عرفت مما مر أن المعارضة لا توجه إلى إحدى مقدمات الدليل إلا إذا كانت تلك المقدمة قد استُدل عليها؛ لأنها إن لم تكن قد استدل عليها لا يتوجه إليها إلا المنع، وتعد معارضتها حينئذٍ غصبًا كما تقدم إيضاحه (1).

وقد علمت مما مر أن كل واحد من هذين القسمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي: المعارضة على سبيل القلب، والمعارضة بالمثل، والمعارضة بالغير، وسنوضح إن شاء الله -تعالى- المعارضة على سبيل القلب وغيرَها مع أمثلة متعددة فقهية، في تطبيق المعارضة على القادح المعروف في الأصول بالمعارضة (2)، ولذلك سنختصر الكلام عليها هنا.

أما النوع الأول الذي هو المعارضة على سبيل القلب فهو معارضة دليل المعلل بعين دليله، وإيضاحه أن يقول له: دليلك هذا ينتج نقيض دعواك، فهو حجة عليك لا لك.

__________

(1) ص 202، 231.

(2) انظر ما يأتي ص 319.

(1/248)

________________________________________

وسميت معارضة بالقلب لأنه قُلب عليه دليله بعينه حجةً عليه لا له، ومعلوم أن ذلك يلزمه اتحاد الدليلين: دليل المعلل، ودليل المعارض، شكلًا وضربًا، مع اتحادهما في الحد الوسط إن كانا اقترانيين، واتحادُهما وضعا ورفعا مع اتحادهما في الجزء المكرر إن كانا استثنائيين.

ومثل له بعضهم بأن يقول المعلل المعتزلي المانع رؤية الله -تعالى-: رؤية الله غير جائزة عقلًا، ثم يقيم الدليل على ذلك في زعمه فيقول لأنها منفية بقوله -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وكل ما كان كذلك فليس بجائز عقلًا، ينتج في زعمه: هي ليست بجائزة عقلا.

فيقول السائل المعارض: رؤية الله جائزة عقلًا؛ لأنها منفية بقوله -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلًا، ينتج: فهي جائزة عقلًا.

فقد عارضه بنفس دليله، وأثبت به نقيض دعواه.

ولا يخفى أن لكل من السائل والمعلل ملاحظةً في الدليل غيرَ ملاحظة الآخر، فباختلاف ملاحظة السائل لملاحظة المعلل أمكنه أن يقلب عليه دليله، ويستحيل قلبُ دليله عليه لا له مع اتحاد ملاحظتهما؛ لأن الدليل الواحد لا ينتج النقيضين من جهة واحدة كما لا يخفى، لكنه قد ينتج نتيجتين متناقضتين باعتبارين مختلفين.

وإيضاحه في المثال المذكور أن المعتزلي لاحظ أن قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] مقتضٍ لنفي رؤية الأبصار له مطلقا، ولكن خصمه

(1/249)

________________________________________

الذي قلب عليه دليله لاحظ في الآية ملاحظة أخرى، وهي أن الآية إنما نفت الإدراك المشعرَ بالإحاطة، فهي تدل على أن مطلق الرؤية بدون الإحاطة جائز عقلًا.

ومن أمثلته الفقهية الآتية قول الشافعي: إن مسح الرأس في الوضوء يكفي فيه أقلُّ ما يطلق عليه اسم المسح، ولو كان الممسوح شعراتٍ قليلةً من الرأس. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه مسح، وكل مسح يكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم المسح.

فيعارضه الحنفي القائل بأن أقل ما يجزيء مسحُه من الرأس في الوضوء الربع، فيقول الحنفي المعارض: مسحُ الرأس ركن من أركان الوضوء، وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه أقلُ ما يطلق عليه الاسم، كغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، فلا يكفي في شيء من ذلك غسل أقل ما يطلق عليه اسم الغسل.

فيقلب الشافعي عليه دليله على سبيل المعارضة بالقلب فيقول: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه الربع كالوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين؛ فإنه لا يكفي في شيء من ذلك غسل الربع.

فتراه قلب عليه دليله، وأبطل دعواه أن الربع يجزئ دون أقل ما يطلق عليه الاسم، بعين دليله.

وأما النوع الثاني: وهو المعارضة بالمثل فضابطه أن يتحد دليل المعارض مع دليل المعلل في الصورة مع الاختلاف في المادة، وذلك بأن يكون الدليلان من شكل واحد، ككونهما معًا من الشكل الأول مع

(1/250)

________________________________________

اختلافهما في الحد الوسط وغيره، كالمقدمتين الصغرى والكبرى، وكأن يكون الدليلان معًا من الشرطي المتصل المستثنى فيه نقيض التالي فيهما معًا مثلًا.

وأما النوع الثالث: وهو المعارضة بالغير فضابطه أن تختلف صورة دليل المعارض وصورة دليل المعلل، كأن يكون دليل أحدهما من الشكل الأول ودليل الآخر من الشكل الثاني والثالث مثلًا، وكأن يكون دليل أحدهما اقترانيًا ودليل الآخر استثنائيًا.

ومثالهما معًا بتقديم المعارضة بالغير ثم المعارضة بالمثل أن يقول المعلِّل المشترط للنية في الوضوء كالمالكي والشافعي والحنبلي: النية شرط في الوضوء. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأن الوضوء طهارة هي قربة غيرُ معقولة المعنى، وكل ما كان كذلك تجب فيه النية، ينتج: الوضوء تجب فيه النية.

فيقول السائل كالحنفي: لو كانت الطهارة التي هي الوضوء تشترط فيها النية لكانت النية تشترط في طهارة الخبث، التي هي إزالة النجاسة عن البدن والثوب مثلًا، لكنها لا تشترط في طهارة الخبث إجماعًا، ينتج: فهي لا تشترط في طهارة الحدث؛ لما قدمنا من أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فدليل المعلل من القياس الاقتراني، ودليل المعارض من القياس الاستثنائي، فهذه معارضة بالغير.

فيعارض المعلل الأول دليل المعارض بقياس استثنائي من نوعه فيقول: لو كانت طهارة الحدث كطهارة الخبث لكان موجَبُها في محل موجِبها، لكن موجَبَها ليس في محل موجِبِها، ينتج: فهي ليست

(1/251)

________________________________________

كطهارة الخبث، وكونها ليست مثلها مبطلٌ لدليل المعارض؛ لأن مبناه على تماثلهما.

ومعنى كون موجَبها -بصيغه اسم المفعول- في محل موجبها -باسم الفاعل- أن موجَب طهارة الخبث في محل موجِبها؛ لأن الشيء الذي أوجبها هو التلبس بالخبث الذي هو النجاسة، وموجَبها هو الغسل؛ لأن الخبث أوجب الغسل، ولا يلزم إلا غسلُ عين المحل الذي فيه النجاس، فإن كانت النجاسة في اليد لم يلزم إلا غسل اليد، ولا يلزم غسل الرجل، فموجَبها -بالفتح- وهو الغسل في محل موجبها -بالكسر- وهو الخبَث، بخلاف طهارة الحدث؛ فإن موجَبها -بالفتح- ليس في محل موجِبها -بالكسر-، فلو خرجت ريح منه فخروجها موجِب للوضوء، فالوضوء موجَب -باسم المفعول الذي ربما عبرنا عنه بالفتح-، وخروج الريح موجب للوضوء -باسم الفاعل الذي ربما عبرنا عنه بالكسر-، ومحل الموجَب -بالكسر- الدبر؛ لأنه هو الذي خرجت منه الريح، والموجَب الذي هو الوضوء ليس في محل الدبر، بل هو في الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، فكون موجَب طهارة الخبث في محل موجبها يدل على أنها معقولة المعنى، فلا تُشترط لها النية، كون موجَب طهَارة الحدث في غير محل موجِبها يدل على أنها ليست معقولة المعنى، فتشترط لها النية.

ومعارضة الدليل الثاني بالدليل الثالث في هذه الأمثلة مثال للمعارضة بالمثل؛ لأن الدليل في كل منهما قياس استثنائي متصل،

(1/252)

________________________________________

استُثنيَ فيه نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم كما ترى.

ومن أمثلة المعارضة بالمثل ما قدمناه من قول معتقد قدم العالم: العالم أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، ينتج في زعمه: العالم قديم.

فيعارضه السائل بالمثل فيقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، ينتج: العالم حادث، فكل واحد من دليل المعلل ودليل المعارض اقتراني من الشكل الأول، وإن اختلف فيهما الحد الوسط والمقدمتان كما أوضحناه.

(1/253)

________________________________________

 فصل في أجوبة المعلل عن المعارضة

اعلم أن السائل إذا عارض دليل المعلل بنوع من أنواع المعارضة التي بينا فللمعلل أن يجيب عن تلك المعارضة بواحد من ثلاثة أجوبة:

الأول منها: أن يمنع بعض مقدمات دليل المعارض التي لم يقم عليها المعارض دليلًا، بأن يطلب منه إثبات المقدمة بالدليل الدال على صحتها على نحو ما قدمنا في المنع (1).

الثاني: أن يبطل دليل المعارض بالنقض، بأن يقول: إن مدلوله متخلف عنه، أو إنه مستلزم للمحال. وقد قدمنا أنه يقال له النقض الإجمالي (2).

والثالث: أن يثبت دعواه بدليل آخرَ غير الدليل الذي أورد السائل عليه المعارضة، والأظهر أن هذا الأخير مقبول، وأنه يفيد المعلل؛ [لجواز] (3) أن يكون هذا الدليل الأخير الذي أقامة المعلل بعد المعارضة أقوى من دليل المعارض، ولأن دليله الأخير يقوّي دليله الأول، وقد يكون مجموعهما أقوى من دليل المعارض، وإن كان دليل المعارض أقوى من كل واحد منهما بانفراده:

__________

(1) راجع ص 203.

(2) راجع ص 234.

(3) في المطبوع: (بجواز)، وما أثبتّه هو الملائم للسياق.

(1/254)

________________________________________

لا تخاصم بواحد أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويًّا (1)

خلافًا لقوم من أهل هذا الفن منعوا هذا الوجهَ الأخي؛ لأنه انتقال من حجة إلى أخرى بعد إبطال الحجة الأولى، والأول أظهر كما ذكرنا، والعلم عند- الله تعالى-.

ومثال منع بعض مقدمات دليل المعارض أن يقول المعلل: العالم حادث. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه متغير بالانعدام والاجتماع والافتراق ونحو ذلك، وكل ما كان كذلك فهو حادث، ينتج: هو -أي العالم- حادث.

فيعارضه الفلسفي الضال القائل بقدم العالم فيقول: العالم قديم. ثم يقيم الدليل على ذلك في زعمه الفاسد فيقول: لأن وجود الخالق القديمِ علةٌ في وجود العالم، وكل شيء علةُ وجوده قديمةٌ فهو قديم، ينتج: العالم قديم.

فيجيب المعلل عن دليل المعارض هذا بمنع الصغرى فيقول: أمنع قولك (وجود الخالق القديم علة لوجود العالم)، وأقم دليلًا على ذلك. ولن يقيمه أبدًا.

ومثال إبطاله دليل المعارض بالنقض هو ما قدمنا من أن المعلل السني يقول: العالم حادث. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه

__________

(1) البيت في النجوم الزاهرة لابن تغري بردي (8/ 241)، وقبله:

كن جريا إذا رأيت جبانًا ... وجبانًا إذا رأيت جريّا

(1/255)

________________________________________

متغير بالانعدام والاقتران والاجتماع ونحو ذلك، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فالعالم حادث.

فيعارضه السائل الفلسفي فيقول: العالم قديم. ثم يقيم الدليل في زعمه الباطل على ذلك فيقول: لأنه أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم.

فيجيب المعلل عن دليل المعارض هذا بالنقض الإجمالي فيقول: هذا الدليل منقوض بالحوادث اليومية المشاهد تجددها؛ لأنها أثر القديم وليست بقديمه، فالدليل منقوض بتخلف مدلوله عنه كما تقدم إيضاحه (1).

ومثال إقامة المعلل دليلًا آخر بعد المعارضة أن يقول المعلل السني: العالم حادث؛ لأنه متغير بأنواع التغير التي ذكرنا، وكل ما كان كذلك فهو حادث، فالعالم حادث.

فيقول المعارض الفلسفي الضال: العالم قديم؛ لأنه أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، فالعالم قديم.

فينتقل المعلل إلى دليل آخر يثبت به حدوث العالم غيرِ دليله الأول فيقول: كل العالم مخلوق؛ لدخوله في عموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الزمر: 62]، وكل مخلوق فهو حادث، ينتج: كل العالم حادث.

__________

(1) ص 234.

(1/256)

________________________________________

تنبيه: اعلم أن ما يصدقُ عليه اسمُ المؤثر عند أهل الحق وأهل الباطل محصور في ثلاثة أقسام:

الأول: المؤثر بالاختيار، وهذا هو المؤثر الحق، وهو خالق السموات والأرض -جل وعلا-؛ إذ لا يقع أي شيء كائنًا ما كان إلا بقدرته ومشيئته.

والثاني: المؤثر بالطبيعة عند الطبائعيين.

والثالث: المؤثر بالعلة.

وبرهان الحصر في الثلاثة أن المؤثر من حيث هو إما أن يصِح منه ترك التأثير وإما لا، فإن كان يصح منه ترك التأثير فهو المؤثر بالاختيار، ووجه ذلك واضح؛ لأنه لما صح منه التأثير وترك التأثير فقد اختار التأثير على تركه.

وإن كان لا يصح منه ترك التأثير فإما أن يتوقف تأثيره على وجود الشرط وانتفاء المانع وإما ألا يتوقف على شيء من ذلك، فإن توقف تأثيره على وجود الشرط وانتفاء المانع فهو الذي يسمونه المؤثر بالطبيعة، وهو عندهم كتأثير النار بالإحراق؛ فإنها لا يصح منها تركه، مع توقفه على وجود الشرط وهو إثارتها وإبرازها من كمونها الأصلي في الزناد مثلًا، وانتفاءِ المانع بأن يكون الملاقي لها قابلًا للتأثير بالاحتراق، لا إن كان من شأنه إبطالها وإطفاؤها كالماء.

وإن كان لا يتوقف تأثيره على وجود شرط ولا انتفاء مانع فهو الذي يسمونه المؤثر بالعلة، وهو عندهم كتأثير حركة الإصبع في حركة الخاتم.

والفلاسفة يزعمون أن تأثير الخالق في خلقه بالعلة، والمعلولُ لا

(1/257)

________________________________________

يتأخر عن علته، ومن هنا زعموا أن العالم قديم، قبحهم الله، ما أشد عماهم وطمْس بصائرهم.

والحق الذي لا شك فيه أن المؤثر في الحقيقة هو المؤثر بالاختيار (1)، وهو خالق السموات والأرض ومن فيهما وما بينهما، وهو المسبب ما شاء من المسبَّبات على ما شاء من الأسباب.

ومن أعظم البراهين القرآنية على ذلك أن القرآن دل على أن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- جُعل هو والحطب في النار، فأحرقت الحطب حتى صار رمادًا من حرها، في نفس الوقت التي هي فيه برد وسلام على إبراهيم؛ لأن المؤثر الحق شاء تأثيرها في الحطب، ولم يشأ تأثيرها في إبراهيم، بل قال لها: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69] وقد بينّا حكم الأسباب واستعمالها والتوكل على الله في سورة مريم وفي غيرها في كتابنا "أضواء البيان في

__________

(1) مذهب أهل السنة والجماعة إثبات التأثير الحقيقي للأسباب، مع كونه من خلق الله، فالله عندهم هو خالق السبب والأثر، وهو موجد الشروط، ونافي الموانع، والفرق بينهم وبين الطبائعيين في هذا أن هؤلاء يثبتون لها التأثير استقلالا، وهذا عند أهل السنة شرك في الربوبية، أما إنكار تأثيرها مطلقا والقولُ بأن التأثير يحصل عندها لا بها فإنما هو قول الأشعرية ومن وافقهم، انظر منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 12 - 14)، ومجموع فتاواه (8/ 289 وما بعدها)، والمؤلف في قوله هنا (المؤثر في الحقيقة هو المؤثر بالاختيار) إنما قصد به التأثير استقلالا لا غير، فهو لا ينفي حقيقة تأثير الأسباب بلا استقلال عن قدرة الله ومشيئته، كما هو واضح من كلامه في هذه المسألة في كتابه "أضواء البيان" (4/ 271)، وراجع هنا تصريحه بترتب المسبَّب على السبب ص 194، وانظر أيضًا ص 196.

(1/258)

________________________________________

إيضاح القرآن بالقرآن" والعلم عند الله -تعالى-.

تنبيه: اعلم أنا مثلنا للدليل على حدوث العالم بالأمثلة التي رأيت ومرادنا فهمُ قواعد الأدلة، مع علمنا بكثرة مناقشة الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام، واختلاف طرقهم في إثبات حدوث العالم عقلا، ومناقشةِ القائلين بقدم الهيولى -التي هي مواد الأشياء وأصولُها- في حدوث (1) العالم، وكذلك مناقشة أرسطاطاليس (2) وأتباعه في ذلك بادعاء قدم الأفلاك، فلم نطل هنا الكلام بمناقشاتهم وبيات الباطل منها؛ وكلامُنا في هذه المذكرة مع المسلمين، وكلُ مسلم يقنعه إقناعًا كاملا أن تقول له: كل العالم مخلوق لدخوله في عموم قوله -تعالى-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الزمر: 62] وكل مخلوق فهو حادث، ينتج: كل العالم حادث، مع أن قوله -تعالى-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الزمر: 62] يغني عن دليل مركب يدل على ذلك، فلو اقتضت الحال أن يكون كلامنا مع غير المسلمين لاضطُررنا إلى بيان فساد الفاسد من تلك المناظرات وتصحيح الصحيح منها عن طريق المناظرة الصحيحة، المستندِ فيها العقلُ إلى الوحي الصحيح، ولا يتسع هذا المقام لذلك، ونرجو الله التوفيق للصواب، وحسبنا ونعم الوكيل.

__________

(1) الجار والمجرور هنا متعلقان بقوله قبلهما: (ومناقشة).

(2) أرسطوطاليس بن نيقوماخس الجراسني، وتفسير أرسطوطاليس: تام الفضيلة، أعظم فلاسفة اليونان، ومعلمهم الأول، وواضع المنطق، عاش ما بين 384 - 322 قبل الميلاد، انظر عنه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة (1/ 84).

(1/259)

________________________________________

 فصل في ترتيب المناظرة في التصديق

حسبما تقدم متفرقًا في هذه المذكرة؛ لأن جمعه في محل واحد بعد تفرقه يعين طالب العلم على إدراكه بسرعة.

إعلم أولًا أنك إذا أُلقي إليك تصديق -ويقال له هنا: الدعوى، والمدَعى- فانظر في ألفاظه أولًا، فإن كان في بعض ألفاظه إجمال أو غرابة فلك حينئذ الاستفسار، وهو طلب تفسير اللفظ الذي فيه إجمال وغرابة، أي تعيين المراد به.

ومثال ما فيه إجمال ما لو قال: (تؤخذ العين بالعين)؛ فإن لفظ العين فيه إجمال؛ لصدقه على الباصرة والجارية وغيرهما.

ومثال ما فيه غرابة أن يقول: (من قتل بالزخيخ قتل به)، فالزخيخ وهو النار لفظ فيه غرابة.

وعلى المستفسر إثبات الإجمال والغرابة، ويكفيه في إثبات الإجمال بيان احتمالين في اللفظ، كما لو قال: يجب أخذ العين بالعين. فقال المستفسر ما مرادك بالعين؟ فقال المعلل: ليس في كلامي إجمال حتى تستفسر عنه. فيثبت المستفسر الأجمال بأن العين تُطلق على الباصرة والجارية والنقد وغير ذلك.

وإذا أثبت المستفسر الاحتمال فجواب المعلل صاحب التصديق بأحد أمرين:

الأول: منع تعدد الاحتمال، كما لو قال المعلل: يجوز لك أن

(1/260)

________________________________________

تمنع الشرب من عينك. فيقول المستفسر: ما مرادك بالعين؟ فيقول: ليس في كلامي إجمال؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا. فيقول المستفسر: أليس لفظ العين في كلامك مشتركًا بين الباصرة والجارية وغيرهما؟ فيقول المعلل: لفظ الشرب في كلامي قرينة تعيّن أن مرادي العين الجارية، لا الباصرةَ ولا غيرها، فلا يحتمل كلامي إلا معنى واحدًا هو العين الجارية.

الثاني: ترجيح الاحتمال الذي قصده على غيره من الاحتمالات، كان يقول المعلل: ذلك الشيح أسد. فيقول المستفسر: ما مرادك بالأسد؟ فيقول: لا إجمال في كلامي. فيقول الآخر: أليس الأسد يطلق على الحيوان المفترس وعلى الرجل الشجاع؟ فيقول الآخر: هو في الحيوان المفترس أظهرُ منه في الرجل الشجاع عند التجرد من القرائن، وحملُ اللفظ على الأظهر لازم؟ لرجحانه على غيره.

وإذا كان المعلل معترفًا بالغرابة أو الإجمال لزمه بيان مراده من كلامه.

وإذا كان لفظ صاحب التصديق ظاهر المعنى واضح الكلمات لا إجمال فيه ولا غرابةَ، أو كان فيه إجمال أو غرابة وبيّنه صاحبُه حتى صار واضح المعنى لا إشكال فيه من غرابة أو إجمال = فعليه بعد هذه الخطوة أن ينظر في كلام المعلل صاحب التصديق: هل هو ناقل لذلك التصديق عن غيره من كتاب أو راوٍ؟ أو هو آت به من تلقاء نفسه؟ وفي حال كونه ناقلا له عن غيره: هل هو ملتزم صحتَه أو ليس ملتزمًا لها؟

فإن كان ناقلًا ولم يلتزم صحة ما نقل فليس له أن يوجه إليه شيئًا إلا المطالبةَ بتصحيح النقل، ويلزمه حينئذ تصحيحُ نقله بإثباته ذلك بطريقٍ

(1/261)

________________________________________

من طرق الإثبات.

وأما إن كان جاء بالتصديق من عند نفسه أو نقله والتزم صحته فعلى السائل أن يفعل كما يأتي: وهو أن ينظر في ذلك التصديق هل هو بديهي أو نظري؟ وإذا كان بديهيًا فهل هو جلي أو خفي؟

فإن وجد التصديقَ بديهيًا جليًا فعليه تسليمُه والأذعانُ له، وإن منعه فهو مكابر.

وإن وجد التصديق نظريًا أو بديهيًا خفيًّا فلينظر: هل أقام صاحب التصديق البديهي الخفي عليه تنبيهًا أو لم يقمه عليه؟ وهل أقام صاحب التصديق النظري عليه دليلًا أو لم يقمه؟

فإن كان صاحب النظري لم يقم عليه دليلًا، وصاحب البديهي الخفي لم يقم عليه تنبيهًا، بل كلاهما دعوى مجردةٌ فليس للسائل إلا شيء واحد: وهو منع الدعوى المذكورة، وطلب الدليل عليها أو التنبيه، وعلى صاحب الدعوى أن يأتي بالدليل في النظري، أو التنبيه في البديهي الخفي.

فإن كان صاحب التصديق الذي هو الدعوى قد أقام عليه دليلًا إن كان نظريًا، أو تنبيهًا إن كان بديهيًا خفيًّا، فللسائل حينئذ أن يعترض بإحدى الوظائف الثلاث الموضحة سابقًا، وهي (المنع) وهو المناقضة والنقض التفصيلي، و (النقض) ويقال له النقض الإجمالي، و (المعارضة)، وقد تقدم إيضاح الجميع وإقسامة وأمثلته، وعلى صاحب الدعوى بعد ورود أحد هذه الاعتراضات أن يجيب عنه، وقد بينا أوجه جوابه عن كل واحد منها. والعلم عند الله -تعالى-.

(1/262)

________________________________________

 فصل في النقل

اعلم أن النقل هو أن تذكر كلامًا لغيرك مع بيانك إسنادَه لمن نقلته عنه، كقولك: (قال مالك والشافعي إن النية شرط في صحة الوضوء، وقال أبو حنيفة بعكس ذلك).

وسواء كان ذلك الكلام المنقول تصديقًا كما مثلنا، أو تعريفًا أو تقسيمًا أو غير ذلك، فإن التزم الناقل صحة ما نقل كأن يقول: (وما قاله مالك والشافعي هو الصحيح) في المثال المذكور، أو عكس ذلك، فهو مُدع، وهذا الذي قاله دعوى، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في التصديق.

وإن كان لم يلتزم صحة ما نقل: فإن كان بديهيًا أو مسلّمًا عند الخصم أو معتبرًا من ضروريات مذهبه لم يتوجه إليه شيء من الاعتراضات، ولزم خصمَه القبولُ والتسليم، وإن كان ليس كذلك فلا يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل، بطريق يَثبُت بها صحةُ ذلك النقل، وقد يسمى طلب تصحيح النقل منع الدعوى.

وقد قدمنا في أول الكلام في البحث والمناظرة (1) أن الصواب مطالبتُه تصحيحَ النقل، خلافًا لمن زعم أن النقل ليس محلًا للمناظرة أصلًا.

واختلف أهل هذا الفن في تصحيح النقل على القول به: هل هو

__________

(1) ص 142.

(1/263)

________________________________________

واجب أو مستحسن؟ فقيل يجب، وقيل يستحسن، وقيل: إن كان السائل جاهلًا بصحة النقل وجب طلب تصحيحه، صان كان عالمًا بأن النقل صحيح وأن الناقل صادق في نقله لم يجز له طلب التصحيح، وهذا ظاهر.

(1/264)

________________________________________

 فصل في العبارة

اعلم أن العبارة في اصطلاح أهل هذا الفن هي مطلق اللفظ الصادر من المتكلم، سواء كان تعريفًا أو تقسيمًا أو تصديقًا أو دليلًا أو غير ذلك.

واعلم أن المناظرة تجري في العبارة، فيتوجه على العبارة الإبطال؛ بسبب أنها تخالف قاعدة من قواعد اللغة العربية، كأن يقول السائل في قول ذي الرمة:

أمن دِمنةٍ جرّت بها ذيلَها الصَّبا ... لصيداء -مهلًا- ماءُ عينيكَ سافحُ (1)

إنه خطأ؛ لمخالفته القاعدةَ العربية: وهي أن مفسِّر الضمير يكون مذكورًا قبل الضمير، وهنا جاء بالضمير الذي هو ضمير الغائبة الواحدة في لفظة (ذيلها) قبل مفسِّره، وهو لفظة (الصَّبأ)؛ لأن الأصل: جرَّت الصَّبا ذيلَها بها.

فيقول المجيب: هذا ليس مخالفًا للقاعدة العربية؛ لأن الفاعل وإن تأخر لفظًا فهو متقدم رتبة، فكأنه مذكور قبل الضمير؛ لتقدمه في الرتبة، كما قال ابن مالك في الخلاصة (2):

__________

(1) ديوانه (2/ 859)، وذو الرمة هو غيلان بن عقبة العدوي، من كبار شعراء العصر الأموي، إلا أنه مات شابا سنة 117 هـ.

(2) ص 25، آخر باب الفاعل.

(1/265)

________________________________________

وشاع نحوُ خاف ربَّه عمر ... وشذ نحوُ زان نورُه الشجر

وكأن يقول السائل في قول أبي الطيب المتنبي:

هذي برزتِ لنا فهِجتِ رسيسًا ... ثم انثنيتِ وما شفيتِ نسيسا (1)

إنه خطأ؛ لأن فيه نداءَ اسم الإشارة في قوله (هذي برزتِ) بحرف محذوف، ونداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بأدوات محذوفة مخالف للقاعدة العربية.

فيقول المجيب: نداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بحرف محذوف هو مذهب الكوفيين، والمتنبي كوفي، كما قال ابن مالك في الخلاصة (2):

وذاك في اسم الجنس والمشار له ... قلَّ ومن يمنعْه فانصر عاذِلَه

وكأن ينصبَ المبتدأ بلكنْ المخففة، فيبطله السائل بأنها إن خُفّفت أُهملت، والنصبُ بها مخففةً مخالفٌ للقاعدة العربية.

فيقول المجيب: هو جار على مذهب يونس (3)، وهو من أئمة العربية، كما قال الشيخ المختار بن بونة في ألفيته الحمراء (4):

__________

(1) ديوانه (2/ 193)، مع الشرح المنسوب للعكبري.

(2) ص 49، باب النداء.

(3) يونس بن حبيب البصري، من أكابر النحويين، توفي سنة 183 هـ. انظر نزهة الألباء لابن الأنباري: ص 47.

(4) سميت الحمراء لأنها كتبت باللون الأحمر تمييزا لها عن ألفية ابن مالك؛ إذ كانت مجموعة معها، وانظر ما سبق ص 5.

(1/266)

________________________________________

(لكنّ) إن خفّفتها فأهملا ... ويونسٌ مجوزٌ أن تَعملا

وعن يونسَ أنه حكى ذلك عن العرب، وبه قال الأخفش (1).

وكأن يصوغ فِعْلي التعجب أو صيغةَ التفضيل من أفعل الرباعية، فيقول السائل: هذه العبارة غلط؛ لمخالفتها القاعدة العربية، وهي أن فِعْلي التعجب وصيغةَ التفضيل لا يُصاغ شيء منهما إلا من الثلاثي.

فيقول المجيب: ظاهر كلام سيبويه جوازُ صوغ كل ذلك من أفعل -وهو مذهب أبي إسحاق (2)، وقال به ابن عصفور (3) - إن كانت همزة (أفعل) لغير النقل من اللزوم إلى التعدي مثلًا.

وكأن يقول: هذا يضرُب هذا -بضم الراء في (يضرُب) -، وهذا يكتِب -بكسر التاء في (يكتِب) -. فيقول السائل: العبارة خطأ؛ لأن المشهور المستفيضَ عن العرب كسرُ راء (يضرِب)، وضم تاء (يكتُب).

__________

(1) إن كان الكبير فهو أبو الخطاب، عبد الحميد بن عبد المجيد، توفي سنة 177 هـ، وإن كان الأوسط فهو أبو الحسن، سعيد بن مسعدة البصري، توفي سنة 215 هـ، وإن كان الصغير فهو علي بن سليمان، توفي سنة 315 هـ.

انظر نزهة الألباء لابن الأنباري: ص 44، 107، 185.

(2) (أبو إسحاق) كنية عدةٍ من النحويين، منهم اليزيدي، والزيادي، والزجاج، والأقرب أن المراد هنا إبراهيم بن سفيان الزيادي؛ فغن له نكتًا على كتاب سيبويه ذكرها السيرافي في شرحه، توفي سنة 249 هـ، انظر نزهة الألباء: ص 157.

(3) هو علي بن مؤمن بن محمد، النحوي، الحضرمي، الإشبيلي. حياته ما بين (597 - 663)، انظر بغية الوعاة للسيوطي (2/ 210).

(1/267)

________________________________________

فيقول المجيب: ضم راء (يضرُب)، وكسر تاء (يكتِب) جوازه جارٍ على مذهب الإمام أبي الحسن بن عصفور، وهو من أئمة اللغة العربية، وأمثال هذا كثيرة جدا.

والظاهر أن مطلق السماع الذي يُحفظ ولا يقاس عليه لا يصح للمجيب الجوابُ به على معترض العبارة، كما لو جَزم المضارعَ بلن أو بلو، أو نصبه بلم، أو أثبت نون الرفع مع الجازم أو الناصب ونحو ذلك، كان يقول: هذه العبارة خطأ؛ لأنك نصبت المضارع بلم.

فيقول المجيب: ذلك مسموع عن العرب، كقول الشاعر:

في أي يومي من الموت أفرّ ... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِره (1)

وقول الآخر:

في كل ما همّ أمضى عزمه قدمًا ... ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا

وعليه القراءة الشاذة (ألم نشرحَ) (2) بالنصب، وهو قول ابن الشجري (3).

أو: هذه العبارة خطأ؛ لأنك جزمت فيها المضارع بأن أو بلن أو بلو.

__________

(1) ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر ديوانه ص 79، والبيت فيه:

أي يومي من الموت أفرّ ... يومَ يقدرُ أم يوم قُدِر

(2) انظر: "إعراب القراءات الشواذ" للعكبري (2/ 723).

(3) هبة الله بن علي، الحسني، توفي سنة 542 هـ، انظر نزهة الألباء: ص 299.

(1/268)

________________________________________

فيقول المجيب: كل ذلك مسموع عن العرب، أما جزم المضارع بأن -بفتح الهمزة وتخفيف النون- فكقوله:

إذا ما غدونا قال وِلْدانُ أهلِنا ... تعالوا إلى أن يأتِنا الصيدُ نحطِبِ (1)

وقد أجازه بعض الكوفيين. ونقله اللحياني عن بعض بني صباح من ضبه.

وجزمه بلن كقول كثيّر (2):

أيادي سبا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكم ... فلن تحل للعينين بعدك منظر

وقول الآخر:

لن يخِبِ الآن من رجائكْ ... من حرك دون بابك الحلقهْ

وجزمه بلو كقول الآخر:

تامت فؤادك لو يحزنك ما فعلت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا (3)

وقول الآخر:

لو يشأ طارَ بِهِ ذو ميعةِ ... لاحقُ الآطالِ نهدٌ ذو خُصَل (4)

والظاهر أن المحل الذي يكون للمعلل فيه الجواب عن اعتراض

__________

(1) ديوان امرئ القيس: ص 68، وفيه: (ركبنا، يأتيَ) موضع: عذونا، يأتنا.

(2) ديوانه: ص 133، وفيه: لم يحلُ.

(3) البيت للقيط بن زرارة، انظر العقد الفريد (7/ 78)، دار الفكر.

(4) البيت لعلقمة الفحل، انظر خزانة الأدب للبغدادي، الشاهد 928.

(1/269)

________________________________________

العبارة لا بد أن يكون مستندًا فيه لقول إمام، كما ذكرنا عن يونس وابن عصفور، أو طائفةٍ كما ذكرنا عن الكوفيين، أو كونه مطّردًا، أو لغةً لبعض القبائل، أو موافقًا لقراءة سبعية مثلًا.

ومثال ما هو موافق للغة بعض العرب إهمالُ (أن) ورفعُ المضارع بعدها حملًا على (ما) المصدرية، كقوله:

أن تقرآن على أسماءَ ويحكما ... منى السلام [وألا] (1) تشعرا أحدا (2)

وإهمال (لم) ورفع المضارع بعدها حملًا على ما النافية كقوله:

لولا فوارس من نعم وأسرتهم ... يوم الصليقاء لم يوفون بالجار (3)

ومثال الموافق لقراءة سبعية العطف على ضمير خفض من غير إعادة الخافض، كقراءة حمزة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] بخفض (الأرحامِ) معطوفًا على الضمير المخفوض (4).

وكالفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعول المضاف، كقراءة ابن عامر (5) {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] ببناء (زُين) للمفعول، ونصب (أولادَهم)،

__________

(1) في المطبوع: (ولا)، والتصويب من المصادر.

(2) البيت في "الأضداد" لأبي بكر ابن الأنباري ص 123، وقبله بيتان، والمفصل للزمخشري ص 375، دار إحياء العلوم، 1410 هـ، وغيرهما بدون تسمية قائله.

(3) البيت في خزانة الأدب برقم (676).

(4) انظر السبعة لابن مجاهد: ص 226.

(5) السبعة ص: 270.

(1/270)

________________________________________

وخفضِ (شركائهم)؛ على أن لفظة (قتل) مضاف و (شركائهم) مضاف إليه، و (أولادَهم) منصوب هو مفعول المضاف، وقد حال بين المضاف والمضاف إليه.

فمثل هذه الأشياء يصح بها للمعلل الجوابُ عن فساد العبارة بمخالفتها للقواعد العربية، والظاهر أن مطلق السماع لا يصح أن يكون جوابًا، وأمثلة النوعين كثيرة جدًّا في كلام العرب، ولكن لا نطيل الكلام بذلك زيادة على ما ذكرنا.

(1/271)

________________________________________

 فصل في المصادرة

وهي في اصطلاح أهل هذا الفن جعل نتيجة الدليل هي إحدى مقدمات الدليل بتغيير في اللفظ يكون سببًا لتوهم المغايرة بين النتيجة والمقدمة.

كأن يقول: (هذا أسدٌ وكل أسد ليث)، ينتج: (هذا ليث) وهذه النتيجة هي نفسى الصغرى التي هي (هذا أسد)؛ إذ لا فرق بين (هذا أسد) و (هذا ليث)؛ لترادف الليث والأسد.

وكأن يقول: (هذه نقلة، وكل نقلة حركة)، ينتج: (هذه حركة)، وهذه النتيجة هي صغرى الدليل التي هي (هذه نقلة)؛ لترادف النقلة والحركة.

وينبغي اجتناب المصادرة في المناظرة؛ لما فيها من الإيهام الذي بيّنّا، والمكابرةُ قد قدمنا معناها وأنها غير مقبولة (1).

فصل في المعاندة

وهي في اصطلاح أهل هذا الفن المنازعة بين شخصين لا يفهم أحدهما كلام الآخر، وهو يعلم فساد كلامه الذي تكلم به.

فصل في المجادلة

وهي في اصطلاحهم المنازعةُ لا لإظهار الحق، بل لإلزام

__________

(1) راجع ص 232.

(1/272)

________________________________________

الخصم، وبعض أهل العلم يفصّل في المجادلة: فإن كان قصدُه بها ظهورُ الحق فهي كما ذكرنا آنفًا، ويدل على التفصيل المذكور قوله -تعالى-: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله -تعالى-: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] كما قدمنا الإشارة إليه (1)، ولا مشاحة في الاصطلاح.

 فصل في الجواب الجدلي

وهو عندهم ما يذكره المجيب وهو يعتقد بطلانه، سواءٌ كان باطلًا في نفس الأمر أو غيرَ باطل، والمنطقيون يقولون إن المراد بالحجة الجدليةِ إفحامُ الخصم، أو إقناعُ القاصر عن الدليل، كما هو معروف.

والاستفسار قد قدمنا إيضاحه وأوجه الجواب فيه (2).

 فصل في انتهاء المتناظرَين

لا يخفى أنه لا بد في المناقشة أن تنتهي بعجز أحدهما عن دفع دليل الآخر، فإن كان العاجز هو السائل سمي ملزَمًا، وسمي عجزُه إلزامًا، وإن كان العاجز هو المعلِّل سُمي مفحَما، وسُمي عجزه إفحامًا.

__________

(1) ص 140.

(2) ص 260.

(1/273)

________________________________________

 فصل في آداب المتناظرَين التي ينبغي أن يلتزماها

1 - فمنها أن يتحرزا عن إطالة الكلام في غير فائدة، وعن اختصاره اختصارًا يخل بفهم المقصود من الكلام.

2 - ومنها أن يتجنبا غرابة الألفاظ وإجمالها.

3 - ومنها أن يكون كلامهما ملائما للموضوع، ليس فيه خروجٌ عما هما بصدده.

4 - ومنها ألا يستهزئ أحدُهما بالآخر ويسخرَ منه.

5 - ومنها أن يقصِد كل منهما ظهورَ الحق، ولو على يد خصمِه.

6 - ومنها ألا يتعرّض أحدُهما لكلام الآخر حتى يفهمَ مرادَه من كلامه.

7 - ومنها أن ينتظر كل واحد منهما صاحبَه حتى يفرغَ من كلامه، ولا يقطعَ عليه كلامَه قبل أن يتمَّه.

8 - ومنها أن يتجنب المناظرةَ مع من هو من أهل المهابة العظيمة والاحترامِ العظيم؛ كيلا تُدهشَه وتُذهلَه جلالةُ خصمه عن القيام بحجته كما ينبغي.

9 - ومنها ألا يحتسب خصمه حقيرًا قليل الشأن؛ لأن ذلك يؤديه إلى عدم الجد والاجتهاد في القيام بحجته، فيكون ذلك سببًا لغلبة الخصم الضعيف له، وغلبةُ القِرن الحقير أشنع من غلبة القِرن العظيم، كما قال

(1/274)

________________________________________

الشاعر (1):

ولو أني بُليتُ بهاشميٍّ ... خُؤولتُه بنو عبد المَدانِ

لهان عليّ ما ألقى ولكنْ ... تعالوا فانظروا بمَن ابتلانيِ

وعن حاتم الطائي لما لطمته عجوز قبيحة قال: لو ذاتُ سوار لطمتني (2).

__________

(1) هو ابن أبي حصينة، الحسن بن عبد الله بن أحمد بن عبد الجبار، أبو الفتح الشامي، حياته ما بين (388 - 357 هـ).

(2) انظر ربيع الأبرار للزمخشري (3/ 14).

(1/275)

________________________________________

 فصل في آيات قرآنية تستلزم طرقَ المناظرة المصطلح عليها

اعلم أولا أن العلامة الشيخ محمد بن الحسن البناني (1) قال فيم شرحه لسلم الأخضري: ذكروا (2) أن الأشكال الثلاثة موجودة -أي بالقوة- في القرآن العظيم:

أما الأول: ففي احتجاج إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- علي انفراد الله بالربوبية ونفيِها عن النمرود، حيث ادعاها وقال للخليل: من ربك؟ فقال: ربي الذي يحي ويميت. فأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، وقال: أنا أحي وأميت؛ فهذا أمته وهذا أحييتُه. فانتقل (3) [به] (4) الخليل إلى ما [لا] (5) يتعلق به كسب المخلوق فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبُهت الذي كفر، وانحسمت شبهتُه.

__________

(1) سبق التعريف به ص 196.

(2) أول من أشار إلى ذلك أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في كتابه "القسطاس المستقيم"، مطبوع ضمن مجموعة "القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي" (1/ 18 وما بعدها)، وانظر انتقاد ابن تيمية له في الرد على المنطقيين: ص 194، 195.

(3) قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 491): وليس هذا انتقالا من حدة إلى حجة أوضحَ منها كما لاعم بعض النظّار، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كانت صحيحة).

(4) في المطبوع: (له)، والمثبت هو اللائق بالسياق.

(5) ساقطة من المطبوع، والسياق يقتضيها.

(1/276)

________________________________________

فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ} [البقرة: 258]: في قوة قوله: أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس من المغرب، وكل من لا يقدر على ذلك فليس برب، ينتج: أنت لست برب.

فالصغرى يمكن أن تؤخذ من قوله (فأت بها من المغرب)؛ لأنه أمر تعجيز، وتؤخذ أيضًا من شاهد حال النمرود -لعنه الله-، ولا يسعه إنكارها،

والكبرى عكس نقيض قضية مفهومه من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]: وهي: ربي يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب، أي كما أتى بها من المشرق. فيُعكس [بعكس] (1) النقيض الموافق إلى الكبرى، والنمرود أيضًا يسلمها، فلهذا بهت.

والظاهر أن قولهم في الصغرى: (أنت لا تقدر) موجبة معدولة؛ ليكون الوسط مكررًا، وقولَهم في الكبرى: (وكل من لا يقدر) محصلةٌ سالبة، وإن لم تسوّر بالسور المتعارف للكلية السالبة؛ لأن المعتبر المعنى لا اللفظ.

ولو جُعل (عاجز) مكان (لا يقدر) ويقال في الكبرى: (ولا شيء من العاجز برب) لكان أولى.

ثم يصح سوق الدليل استثنائيًا فيقال: لو كنتَ يا نمرودُ ربي

__________

(1) في المطبوع: (بعض)، ولا معنى لها.

(1/277)

________________________________________

لقدَرتَ على الإتيان بالشمس من المغرب، لكنك لا تقدر عليه، ينتج: فلست بربي.

ويمكن أن يساق من الشكل الثاني بأن يقال: ما أنت قادرٌ على أن تأتيَ بالشمس من المغرب، وربي قادر على أن يأتي بها، ينتج: فلست بربي؛ فليس المقصود حصرَ المستنبط من الآية في الشكل الأول، وكأنهم رأوه أظهر من غيره.

وأما الشكل الثاني: ففي استدلال إبراهيمَ الخليلِ أيضًا -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بالأفول على نفي الربوبية عن الكواكب والقمر والشمس في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآية [الأنعام: 76]؛ لأن قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَال لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76] في قوة قوله: هذه آفلة، وربي ليس بآفل، ينتج من الشكل الثاني: هذه لست بربي، فالصغرى من قوله: (فلما أفل)، والكبرى من قوله: (لا أحب الآفلين). إذ المعنى: لا أحب عبادتهم؛ لأن الرب وهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا يأفل أبدًا.

ويمكن سوقُه من الشكل الأول، وهو أَسهل، بأن يقال: هذه آفلة، ولا شيء من الآفل بربي، ينتج: هذه ليست بربي.

ويمكن سوقُه من الاستثنائي بأن يقال: لو كانت هذه ربي ما أفلت، لكنها أفلت، ينتج: فليست بربي.

ويمكن سوقُه من الشكل الرابع بأن يقال: الآفل ليس بربي، وهذه آفلة، ينتج: ربي ليس بهذه. وينعكس إلى: هذه ليست بربي، لكن

(1/278)

________________________________________

الشكل الرابع لبعده عن الطبع لا يُصار إليه مع تأَتي غيره.

وأما الشكل الثالث: ففي رد الله على اليهود في قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] توصلًا منهم إلى إنكار نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكأنهم يقولون: (هو بشر. ولا شيء من البشر أُنزل عليه الكتاب) وصغرى المقدمتين حق، وكبراهما باطلة، وهم يزعمون صدقها، فينتج لهم (هو - صلى الله عليه وسلم - ما أُنزل عليه الكتاب) فرد الله -عزَّ وجلَّ- عليهم بقوله -سبحانه-: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91].

ونظْمُه من الشكل الثالث: (موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بشر، وموسى أُنزل عليه الكتاب) وكلتا المقدمتين حق، وهم يسلمون ذلك، ينتج من الشكل الثالث: (بعض البشر أنزل عليه الكتاب)؛ لأن الثالث لا ينتج إلا جزئية، وهذه النتيجة جزئية موجبة، تناقض السالبة الكلية التي جعلوها كبرى، يعني قولهم: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]، فبطل بذلك إنكارُهم لنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه.

ثم قال البناني -رحمه الله- قال السعد (1): الحد الوسط في الشكل الأول والرابع ليس بمتكرر، لأنه إذا وقع محمولًا فالمراد به المفهوم، وإذا وقع موضوعًا فالمراد به الذات.

__________

(1) هو سعد الدين، مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الماتريدي، شارح العقائد النسفية والمقاصد، حياته ما بين (722 - 791 هـ).

(1/279)

________________________________________

قلت (1): إن أريد بكون المحمول هو المفهوم [أن] (2) ذات الموضوع عينُ مفهوم المحمول ففساده ظاهر، وإن أريد أنه يصدق عليه مفهوم المحمول فتكرر الحد الوسط في الشكلين ظاهر. انتهى كلام البناني بطوله، وجلُه واضح عند من فهم المقدمة المنطقية التي كتبنا قبل الشروع في البحث والمناظرة، وفي كلامه إشكالات تحتاج إلى جواب، وفيه بعض الاصطلاحات التي لم نوضحها في المقدمة المنطقية.

اعلم أولًا أن ما ذُكر من تكرار الحد الوسط في الأول والرابع باعتبار أن مفهوم المحمول صادق على ذات الموضوع واضح لا إشكال فيه، كما قدمنا إيضاحه في المقدمة المنطقية (3) في اختلاف المراد بالمحمول والموضوع في الحكم.

ومن الأسئلة المذكورة أن الدليل الذي بُيّن نظمُه من الشكل الثالث بصورة (موسى بشر، موسى أُنزل عليه الكتاب) ينتج من الشكل الثالث: (بعض البشر أنزل عليه كتاب) وهي جزئية موجبة، نقيضُ السالبة الكلية التي هي قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] فهو إبطال دليل بإثبات نقيضه، على نحو الطرق المعروفة في المناظرة = يتوجه إليه السؤال بأن يقال: قد تقدم في شروط إنتاج الشكل الثالث أن تكون إحدى مقدمتيه كلية، وهذا الشكل الثالث الذي

__________

(1) القائل البناني.

(2) في المطبوع: (وأن) بواو، ولا يستقيم معها الكلام.

(3) ص 83، 84.

(1/280)

________________________________________

نُقض به دليل اليهود ليست إحدى مقدمتيه كلية؛ لأن مقدمتيه كلتيهما شخصيتان؛ لأن موضوع كل واحدة منهما شخص، وهو موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.

والجواب هو أن كل ما تُشترط فيه الكليةُ تُنتج فيه الشخصيةُ؛ لاتحاد الكلية والشخصية في أن الحكم بالمحمول شامل لجميع أفراد الموضوع؛ أما في الكلية فحصر الأفراد بالسور الكلي، وأما في الشخصية المخصوصة فالحصر بأصل الوضع، فالحصر واقع في كل واحدة منهما، وهذا الجواب يجاب به عما في كلامه من الإتيان بالشخصية في موضع الكلية في بعض الأدلة التي ساق.

واعلم أن البناني -رحمه الله- لما قال إن قول إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] في قوة (أنت لا تقدر على أن تأتي بالشمس من المغرب، وكل من لا يقدر على ذلك فليس ربي) ينتج من الشكل الأول: (أنت لست بربي)، وبيَّن كيف أُخذت صحة المقدمتين من الآية وشاهِدِ الحال = احتاج إلى أن يجيب عن سؤال وارد على كل واحدة من المقدمتين:

أَما الصغرى وهي قوله: (أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس .. إلخ) فيقال فيه: هذه صغرى قياس من الشكل الأول، وصغراها يشترط لإنتاجه أن تكون موجبة.

فأجاب أن النفي في قوله: (أنت لا تقدر) من قبيل العدول لا من قبيل السلب، فهي موجبة معدولة، لا محصلةٌ سالبة، وبكونها موجبةً معدولةً صح شرط الإنتاج، وقوله: (كل من لا يقدر) محصلة سالبة

(1/281)

________________________________________

وإن لم تسور بالسور المتعارف للكلية السالبة؛ لأن السور المتعارفَ لها أَن يقال مثلًا: (ولا شيء ممن لا يقدر على ذلك بربي).

واعلم أن ضابط العدول في الاصطلاح هو اقتران السلب بالمحمول؛ بأن يكون السلب بعد الرابطة، وهي (1) في الاصطلاح: اللفظُ الدال على ثبوت المحمول للموضوع.

ولما كانت اللغة العربية غيرَ محتاجة إلى الرابطة؛ للاكتفاء عنها بالاشتقاق والاضافة ومطلق الإسناد، نحو (زيد أخوك)، اصطلحوا على أن يجعلوا الرابطة هي ضمير الفصل، فكل سلب كان مقترنًا بالمحمول بعد ضمير الفصل فهو العدول، وما سوى ذلك يسمى بالتحصيل.

فمثال المعدولة الموجبةِ: زيد هو ليس عالمًا.

ومثال السالبة المحصّلة: زيد ليس هو عالمًا.

ومثال المحصَّلة الموجبة: زيد عالم.

ومثال المعدولة السالبة: ليس زيد هو ليس عالمًا.

فالمعدولة السالبة يرجع معناها إلى معنى المحصلة الموجبة؛ لأن نفي النفي فيها إثبات، فيؤول للمحصلة الموجبة.

والسالبة المحصلة والموجبة المعدولة يتعذر الفرق بينهما.

__________

(1) أي الرابطة.

(1/282)

________________________________________

فالسالبة المحصلة كقولك: زيد هو ليس عالمًا، والمعدولة الموجبة كقولك: زيد ليس هو عالمًا.

وحاصل الفرق بينهما في اللفظ أن السلب في المعدولة بعد الضمير، وفي المحصلة قبله.

والأقدمون من علماء المنطق يفرّقون بينهما بأن الموجبة المعدولةَ تقتضي وجود الموضوع، والسالبةَ المحصلة لا تقتضي وجود الموضوع.

وقد أوضحت في أرجوزتي في فن المنطق أن هذا الفرق بينهما الذي اعتمده الأقدمون من المنطقيين فرق باطل، وأن الموجبة لا تقتضي وجود الموضوع كالسالبة، وذلك في قولي في الأرجوزة المذكورة:

والفرق بين السالب المحصّلْ ... وذي عدولٍ موجَبٍ لم يُعقلْ

وبعضُهم بينهما قد فَرَّقا ... ونور وجه الفرق لي ما أشرقا

والفرق باقتضاء موجَبٍ فقط ... وجودَ موضوعٍ يحثٍ قد سقطْ

إذ كل محمول لديهم عدمي ... أو بين ذي الوجودِ مع ذي العدمِ

مشترك فحمْلُه إذًا على ... موضوعِهِ المعدومِ قطعًا قُبلا

ألا ترى في قولنا: المعدومُ ... ممكنٌ أو مذكورٌ أو مفهومُ

فهذه موجَبةٌ لن يوجَدا ... موضوعُها فما اقتضته أبدا

(1/283)

________________________________________

بل ربما لزم أن ينعدِما ... موضوعُ بعضِ الموجَباتِ فاعلما

فالمستحيلُ ذو انعدامٍ موجَبُ ... وعدم الموضوع فيه يوجبُ

وبحر زئبقٍ كذاك ممكنُ ... منعدم موجَبُه لا تؤذنُ

بكون موضوعٍ لها موجودًا ... فبطل اقتضاؤُها الوجودا

فبان مِن ذا للمذكيِّ الحاذق ... الباذقِ (1) انعدامُ وجهِ الفارق

والحق في ذاكَ هو التفصيلُ ... فيما له عدولٌ أو تحصيلُ

فكل ما منها اقتضت قيامَ ... وصفٍ بموضوع لها إذا ما

يكونُ وصفُها وجوديًا فقدْ ... صحَّ اقتضاؤها وجودَه فقدْ

لأن منع وصفِ ما قد عُدما ... بصفةٍ ذاتِ وجودٍ عُلما

مثالُ ما ذكرتُ: زيد قائمْ ... أو جالس أو أبيضٌ أو عالمْ

إذِ البياضُ والجلوسُ والقيامْ ... ممتنع وجودُها من ذي انعدامْ

إذْ يستحيلُ أن يقومَ العرَضُ ... بنفسه بدون جِرم يعرضُ

وغيرُ ما ذكرتُه لا يقتضي ... وجودَه موجَبًا اولا فارتضِ

كمثل زيدٌ ممكن أو معلومْ ... فالحكمُ فيه صادقٌ في المعدومْ

والحاصل أن الأمثلة التي ذكرها البناني تستلزمُ إبطال حجة

__________

(1) يقال: رجل حاذق باذق، من باب الإتباع، وهي فارسية معربة.

(1/284)

________________________________________

الخصم الضال، بما فيه بالقوة الطرقُ المعروفة في المناظرة.

فالنمرود مثلًا ادعى الربوبية لنفسه، وأقام على ذلك دليلًا في زعمه، فقتل رجلًا وترك آخر وقال: أنا أحي وأميت؛ أي وكل من يحيى ويميت فهو الرب، ينتج له على زعمه الفاسد: أنا الرب.

فأبطل إبراهيم هذه الدعوى الباطلةَ التي هي كفرٌ بواحٌ بدليلٍ مقتضاه: أنت عاجز عن الإتيان بالشمس من المغرب، وكل عاجز عن ذلك فليس برب، ينتج: أنت لست برب.

فعارض دليله بدليل صحيح أنتج نقيض دعواه، فصح بطلانها بإثبات نقيضها كما تقدم إيضاحُه (1)، وأن قومه زعموا ربوبية الشمس والقمر والكواكب، واستدلوا على ذلك بأدلتهم الفاسدة، فأقام إبراهيم الدليلَ المنتجَ نقيضَ دعواهم، وحاصله: هذه آفلة، ولا شيء من الآفل برب، ينتج: هذه ليس واحد منها برب. وهو نقيض دعواهم، وبإثبات نقيضها يتحقق بُطلانها.

ولا شك أن حجة إبراهيمَ هذه مركبةٌ من مقدمتين: الأولى أفولها، في قوله في كل واحد منها: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] والثاني عدم ربوبية الآفل في قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76].

واستنتاج هذه الدعوى المبطِلةِ دعوى الخصم سمّاه الله حجة، وأضافها إلى نفسه، وذكر امتنانه على إبراهيمَ بذلك في قوله بعد ذكر

__________

(1) ص 277.

(1/285)

________________________________________

المناظرة المذكورة: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83]، والتحقيق أن المناظرة المذكورة داخلة في الحجة المذكورة، خلافًا لمن زعم أن الحجة مختصة بقوله: {وَكَيفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] الآية، بل التحقيق أنها شاملة لاستنتاج بطلان دعواهم الكفرية من مقدمات صحيحةٍ تُنتج نتيجةً حقًّا، وهي أنه لا رب إلا اللهُ وحدَه.

وهذه الحجة التي هي استنتاج النتائج الصحيحةِ من المقدمات الصحيحة المقتضيةِ بطلانَ الحجج الكفريةِ نوّه الله بها، وأضافها لنفسه بصيغة التعظيم في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} [الأنعام: 83]، وذكر امتنانه بها على إبراهيم، وأشار إلى أن من آتاه الله ذلك النوعَ من الحجة أنه يكون فيه رفعُ درجتِه، وذلك في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] الآية، ويدخل في عموم الآية رفع درجة إبراهيم بما آتاه ربه من الحجة القاطعة على قومه.

ولا شك أن اليهود لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] أنهم يقصدون بذلك نفي إنزال الكتاب على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فحذفوا الصغرى والنتيجة كما أوضحنا في كلام البناني، وكانت عمدةُ دليلهم الكبرى التي هي كليةٌ سالبة، التي هي قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91].

وأن قوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ينتج نقيض دعواهم، لأن موسى بشر، وقد أُنزل عليه كتاب هو التوراة، فيلزم من ذلك أن بعض البشر وهو موسى أُنزل عليه كتاب هو التوراة، فهذه جزئية موجبة هي نقيض السالبة الكلية التي

(1/286)

________________________________________

احتجوا بها، و [بإنتاج] (1) الدليل نقيضَ حجة الخصم يتحقق بطلانها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، قال الأخضري في سلمه:

وإن تكن سالبةً كليةْ ... نقيضُها موجبةٌ جزئيةْ

وقال في نحو جواز حذف اليهود المقدمةَ الصغرى والنتيجةَ من دليلهم:

والحذف في بعض المقدماتِ ... أو النتيجة بعلمٍ آتي

ومن الآيات المتضمنة لإبطال الحجج الكفرية على طريق المناظرة المعروفة قوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ لأن الكفار -قبحهم الله- ادعوا آلهة كثيرة مع الله، وعبدوها معه، واستدلوا على تعدد الآلهة بشبهٍ كفرية واهية، هي في زعمهم أدلة:

منها قول بعضهم: إن العالم أكثر شؤونًا من أن يمكن أن يقوم بجميع شؤونه إله واحد، فلا يمكن أن يقوم بذلك مع كثرته إلا آلهةٌ كثيرة.

ومنها قول بعضهم إن عبادة الآلهة معه قربةٌ إليه مشروعة، كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

ولأجل شبههم الواهيةِ استَبعدوا كلَّ الاستبعاد أن يكون الإله واحدًا، فقالوا فيما ذكر الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ

__________

(1) في المطبوع: (إنتاج)، والمثبت هو الملائم للسياق.

(1/287)

________________________________________

عُجَابٌ (5)} [ص: 5]، فأقام الله -جل وعلا- الدليل القاطع الذي يُلقم كل مخالف حجرًا، على أنه هو الإله وحده -جل وعلا-، ولا يمكن بحال أن تكون معه آلهةٌ أخرى فقال -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

فهذه شرطية متصلة لزومية، استثناء نقيض تاليها محذوف لظهوره، أي لكنهما لم تفسدا، ينتج: لم يكن فيهما آلهة إلا الله، وهذه النتيجة القطعية لهذا القياس الشرطي المتصل التي هي (لم يكن فيهما آلهة غير الله) نقيض دعواهم تعدّدَ الالهة، وقد عرفت مما أوضحنا في البحث والمناظرة (1) أنه إذا قام الدليل القاطع على نقيض الدعوى تحقق بطلان تلك الدعوى بسبب ثبوت نقيضها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين.

ووجه صحة الربط بين المقدم والتالي في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أوضحه -تعالى- بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [المؤمنون: 91]، وأشار له بقوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42]، على أصح التفسيرين.

ولأجل (2) أن القرآن بين أن موجِب فساد السموات على فرض

__________

(1) راجع ص 244.

(2) الجار والمجرور هنا متعلقان بما قبلهما، وهو قوله: ووجه صحة الربط .. إلخ.

(1/288)

________________________________________

المحال الذي [هو] (1) تعددُ الآلهة هو استقلال كل إله دون الآخر بما خلق، وغلبةُ بعضهم لبعض، ونحوُ هذا لا يمكن أن يقوم عليه نظام السموات والأرض، وتنتظمَ معه شؤون العالم، بل هو مستلزم لفساد السموات والأرض، وضياعِ من فيهما.

ولما بين إبطال دعواهم الكفريةِ بالدليل القاطع نزه نفسه، وذلك فيه تأكيد لصحة إنتاج الدليل المذكور بطلانَ دعوى الكفار، وذلك في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} فقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} الآية، تنزويهٌ منه - جل وعلا - لنفسه عن دعوى الكفار بعد إبطالها بالدليل القطعي.

وكقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] فقوله أيضًا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية، تنزيهٌ عن دعواهم الكفريةِ بعد إقامة الدليل على إبطالها.

فهذه الأدلة القاطعةُ هي المعروفةُ في الاصطلاح بالقياس الشرطي المتصلِ المستثنى فيه نقيضُ التالي، فينتج نقيضَ المقدم كما تقدم إيضاحه (2). والدليل في القرآن على نحو الشرطية المتصلة اللزومية كما ترى.

ومن أمثلة إتيان ما يشبه صور القياس الاقتراني في القرآن قوله

__________

(1) ليست في المطبوعة.

(2) ص 130.

(1/289)

________________________________________

-تعالى-: {إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146].

لأن قوله {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} في قوة صغرى الدليل، وكونهم معهم يستلزم أنهم شركاؤهم فيما يؤتيهم الله.

وقولَه {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} في قوة كبرى الدليل المذكور، ينتج: أن {الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} الآية، سوف يؤتيهم الله أجرًا عظيمًا.

وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن نتائج القياس المنطقي حق لا شك فيها إذا أقيمت أدلتها على الوجه الصحيح، وأنها لا يعتريها خلل إلَّا من جهة خطأ الذي يحتج بها، وأوضحنا وجه ذلك (1).

وفي القرآن العظيم أدلة كثيرة تستلزم إبطال شبه الضالين، وهي في قوة المناظرة بالطرق المعروفة، وقصدنا التمثيل بآيات منها كما ذكرنا تنبيهًا بها على غيرها.

__________

(1) راجع ص 6، 7.

(1/290)

________________________________________

تطبيق قواعد البحث والمناظرة التي كنا نوضحها على الاعتراضات المعروفة في فن الأصول بالقوادح

اعلم أنا نريد أولًا أن نطبقها في الأدلة الثلاثة المذكورةِ في البحث والمناظرة، وهي النقض الإجمالي، والمناقضة التي هي المنع، وتسمى بالنقض التفصيلي، والمعارضة بأقسامها.

واعلم أنا سنقدم أمام هذا البحث ثلاثة تنبيهاتٍ لا بد لطالب العلم منها:

التنبيه الأول: اعلم أن قياس التمثيل الذي هو القياس الأصولي المعروف بقياس الفقهاء وهو أحد أدلة الفقه الأربعة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس عند غير الحنابلة = (1) لا فرق بينه وبين القياس المنطقي في الحقيقة؛ لأنك كلما جعلت الفرع فيه حدًّا أصغرَ والأصلَ حدًّا أكبرَ والعلةَ حدًّا أوسطَ كان قياسًا اقترانيا من الشكل الأول، فلو قلتَ مثلًا: الذرة يحرم فيها الرِّبَا قياسًا (سقط) على البر بجامع الكيل، كما يقوله الحنفي والحنبلي، أو بجامع الطُعم كما يقوله الشَّافعي، أو بجامع الاقتيات والادخار - قيل: وغلبةِ العيش - كما يقوله المالكي، فهذا قياس تمثيل، وهو القياس الأصولي.

__________

(1) لأن الحنابلة يجعلون الرابع استصحاب الحال. انظر روضة الناظر لابن قدامة ص 60.

(1/291)

________________________________________

والفرع فيه الذرة، والأصل فيه البر، والعلة الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار.

فإن جعلت الذرة في هذا القياس حدًّا أصغرَ والبرَّ حدًّا أكبرَ والكيلَ مثلًا حدًّا أوسطَ كان قياسًا اقترانيًا من الشكل الأول.

وكيفيةُ نظمه أن يقول: الذرة مكيلة، وكل مكيل يحرم فيه الرِّبَا، ينتج من الشكل الأول: الذرة يحرم فيها الرِّبَا.

وكذلك لو قلت: الذرة مقتاتة مدخرة، وكل مقتات مدخر يحرم فيه الرِّبَا، ينتج أيضًا من الشكل الأول: الذرة يحرم فيها الرِّبَا.

وهكذا فهو مطرد في كل قياس أصولي؛ فإنه راجع إلى القياس المنطقي الاقتراني المعروف بالحملي والشمولي على نحو ما ذكرنا، وبه تعلم أن تفريق المنطقيين بين قياس [التمثيل] (1) وقياس الشمول زاعمين أن الأول لا يفيد القطع والثانيَ يفيده غلط منهم؛ لأن مرجعهما في الحقيقة إلى واحد.

وكونُ النتيجة قطعيةً أو غيرَ قطعيةٍ راجعٌ في كل منهما إلي المقدمات التي تركب منها الدليل، فإن كانت قطعية فالنتيجة قطعية، وإلا فلا.

وبه تعلم أن قول الأخضري في سلّمه (2):

__________

(1) في المطبوع: (التمثيلي).

(2) ص 75، مع حاشية الباجوري وتقرير الأنبابي.

(1/292)

________________________________________

ولا يفيدُ القطعَ بالدليلِ ... قياسُ الاستقراء والتمثيلِ

غلط منه، كما غلط فيه عامة المنطقيين.

وإذا علمت أن كل قياس أصولي فهو راجع بالطريقة التي ذكرنا إلى قياس منطقي اقتراني من الشكل الأول، فاعلم أن في تطبيق القوادح على البحث والمناظرة إذا جئنا بالدليل في صورة قياس تمثيلي فإنما فعلنا ذلك لأنه في قوة قياس منطقي كما أوضحناه.

والقياس المنطقي هو الدليل الذي يوجه إليه الاعتراض في البحث والمناظرة.

التنبيه الثاني: هو ما قدمنا من أن فن الأصول إذا جاءت فيه كلية موجبة مثلًا في كتاب أو سنة ثم جاءت في نص آخر جزئيةٌ سالبةٌ مناقضةً لها أن ذلك لا يُعدّ تناقضًا في فن الأصول؛ بل تكون السالبة الجزئية مخصِّصةً لعموم الموجَبة الكلية، كما أوضحنا في المقدمة المنطقية (1) مع أمثلة قرآنية، وإنَّما يعد تناقضًا مستلزمًا لبطلان أحدهما في فن المنطق.

واعلم أن فن البحث والمناظرة كذلك؛ لما ذكرنا مرارًا من أن إنتاج نقيض الدعوى أو مساوى نقيضها أو أخصَّ من نقيضها مستلزمٌ بطلانَها، كما أوضحناه مرارًا.

وبهذا تعلم أنَّه ما كل دليل مبطلٍ دليلًا في البحث والمناظرة يبطلُه

__________

(1) ص 94.

(1/293)

________________________________________

في الأصول، لأن تخصيص أحدهما بالآخر في فن الأصول مانعٌ من التناقض المستلزمِ بطلانَ أحدهما في المنطق والبحث والمناظرة.

وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك، منها أن قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، في قوة كلية موجبة هي (كل مطلقة تتربص بنفسها ثلاثة قروء)، وقولَه - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] في قوة جزئية سالبة مناقضة للكلية الموجبة المذكورة، وهي اليس بعض المطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء) وهن المطلقات قبل الدخول؛ لأنهن لا عدة عليهن، إلى آخر الأمثلة القرآنية التي قدمنا.

فهذه الموجبة الكلية لا تنقضها هذه السالبة الجزئية في الأصول، بل تكون مخصِّصةَ لعمومها، والتخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بدليل، كما هو مقرر في الأصول، ومعلوم أن الجزئية السالبة هي بعينها نقيض الموجبة الكلية، كما قال الأخضري في سلمه (1):

فإن تكن موجبة كلية ... نقيضُها سالبةٌ جزئية

أما في فن المنطق وفن البحث والمناظرة فإثبات السالبة الجزئية يقتضي إبطال الموجبة الكلية، لأن إثبات النقيض يستلزم نفي نقيضه الآخرِ كما أوضحناه مرارًا.

__________

(1) ص 57، مع حاشية الباجوري.

(1/294)

________________________________________

ومرادنا بهذا التفصيل بين فن الأصول وفن البحث والمناظرة والمنطق أن تعلم أن ما كلُّ ما يبطل الدليل في البحث والمناظرة يبطلُه في الأصول، بل قد يبطله في البحث والمناظرة لمناقضته له، ويكون مخصِّصًا له في فن الأصول لا مبطلًا له، فافهم ذلك.

وبالاختلاف المذكور قد تختلف الأجوبة عن الاعتراض في الأصول عن الأجوبة في البحث والمناظرة.

التنبيه الثالث: اعلم أن الذي جاء مسمى باسمه من [القوادح] (1) الأصولية فيما ذكرنا في طرق البحث والمناظرة ثلاثةُ قوادحَ فقط، هي التي ذُكرت أسماؤها في البحث والمناظرة مطابقةَ لأسمائها في مبحث القوادح في الأصول: وهي النقض، والمنع المعروف بالمناقضة، والمعارضة.

وغيرُ هذه الثلاثةِ من القوادح لم نذكر له اسمًا فيما ذكرنا في البحث والمناظرة، وسنتكلم أولًا على الثلاثة المسماة في الفنين، ثم نذكر ما تيسر من تطبيق ما لم يُسمَّ في البحث والمناظرة من القوادح على ما سُمّي منها.

__________

(1) في المطبوع: (القواعد).

(1/295)

________________________________________

الفصل الأول: في النقض

وقد عرفتَ مما ذكرنا تعريفَه ومثاله في البحث والمناظرة، والمراد به في الأصول أخصُّ من المراد به في البحث والمناظرة.

وضابط النقض في اصطلاح الأصوليين هو وجود الوصف الذي هو العلةُ مع تخلف حكم العلة عنها.

وهو في الأصول أنواع:

الأول منها هو ما أجمع العلماء على أنَّه ليس نقضًا للعلة ولا مبطِلا لها، وإنما هو تخصيص لعمومها وشمولها لجميع أَفراد حكمها الذي تستوجبُه، وهذا النوع هو ما علم بدليل خاص من كتاب أو سنة أنَّه مستثنى من قاعدة القياس، كترخيصه - صلى الله عليه وسلم - في بيع العرايا، وهو بيع رطب بتمر يابس على كل التفسيرات، وعلة المنع موجودة في بيع العرايا بالإجماع، واردةٌ على علة كل معلل.

فلو قال المعترض: كون بيع الرطب بالتمر اليابس الذي هو المزابنة ليس علةً لتحريم البيع؛ لأنه (1) يقدح فيه القادح المسمى بالنقض في بيع العرايا، فهو بيع تمر يابس برطب، والمزابنةُ التي هي علة المنع موجودة فيه، مع أن حكمها متخلّف عنها، وهو منع البيع؛ لأن ذلك البيع جائز في العرايا، ووجود العلة مع تخلّف حكمها عنها نقضٌ لها، فهي باطلة.

__________

(1) الجار والمجرور هنا خبر لقوله قبله: (كون بيع .. إلخ).

(1/296)

________________________________________

فالجواب أن هذا النوعَ ليس نقضًا للعلة بإجماع العلماء، وإنما هو تخصيص لحكمها؛ فالعرايا التي استثناها الشارع وأجاز فيها بيع الرطب بالتمر مخصِّصةٌ لعموم تحريم كل ما فيه المزابنة، فيخرج ما أخرجه الدليل المخصِّص، وتبقى العلة معتبرةً في غيره، مقتضِيةً لتحريم البيع فيه، كالشأن في كل مخصِّص.

ومن هذا النوع إيجابُ دية الخطأ على العاقلة، مع أن جناية الجاني الشخصِ علةٌ لوجوب الضمان عليه هو دون غيره، فالعلة هنا موجودة، وهي أن جناية الجاني علة لاختصاصه بالضمان دون غيره، وحكمُها متخلّف عنها؛ لأن الضمان هنا في جنايته على غيره (1)، وليس هذا نقضًا للعلة؛ لاستثنائه من قاعدة القياس.

ومن هذا النوع إيجاب صاع من تمر في لبن المُصرَّاة، مع أن علة إيجاب المِثْل في المِثْليّات موجودة، وهي التماثل، وقد تخلّف حكمها هنا عنها، وهو تخصيص لحكم العلة لا نقضٌ لها، وهذا النوع لا خلاف فيه أنَّه تخصيص لحكم العلة لا نقض لها، وهذا من فوائد ما نبهنا عليه غيره مرة، أنَّه ليس كل ما يبطل الدليلَ في البحث والمناظرة والمنطق يبطلُه في الأصول؛ لأن مقتضى قواعد البحث والمناظرة بطلانُ العلل المذكورة بالنقض، الذي هو تخلفُ مدلولها عنها كما تقدم إيضاحه، وهي في فن الأصول علل صحيحة خُصصت بأدلة منفصلة، كتخصيص العام بقصره على بعض أفراده بدليل.

__________

(1) الجار والمجرور هنا متعلقان بالضمان المذكور أول الجملة.

(1/297)

________________________________________

النوع الثاني: تخلف الحكم عن علته لوجود مانع من تأثير العلة أو فقد شرط تأثيرها.

فوجود المانع كقتل الوالد ولدَه عمدًا عدوانًا، فعلة القصاص التي هي القتل عمدا عدوانًا موجودة في قتل الوالد ولدَه، ولكنّ حكمها وهو القصاص متخلفٌ عنها في هذه الصورة؛ لوجود مانع من تأثير العلة في حكمها، وهو هنا الأَبوة.

وكولد المغرور الذي غُر بمملوكةٍ، فقيل له إنها حرة فتزوجها، فولدُه منها حر، مع أن رِقَّ الأم علة لرق ولدها، ولكنَّ هذه العلةَ التي هي رق الأم تخلّف عنها حكمُها، وهو رق الولد في مسألة الغرور؛ لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في حكمها الذي هو رق ولدها.

ومثال تخلف الحكم عن علته لفقد شرط تأثيرها فيه [سرقة] (1) السارق أقلَّ من نصاب السرقة، وكونُه لم يخرجْه من حرز، فالسرقة التي هي علة القطع موجودة، ولكنَّ شرطَ تأثيرها في حكمها وهو كون المسروق نصابًا، وكونُه مُخرجًا من حرز = مفقودٌ هنا، فتخلُّفُ الحكم الذي هو قطع اليد هنا عن علته التي هي السرقة لأجل فقد شرط تأثير العلة في حكمها كما ترى.

ومن هذا القبيل عدم الإحصان بالنسبة إلى الرجم؛ لأن الزنى علة للرجم، ولكن يُشترط لتأثير هذه العلة التي هي الزنى في حكمها الذي

__________

(1) في المطبوع: بسرقة.

(1/298)

________________________________________

هو الرجم الإحصان، فتخلُّفُ الرجم عنها في غير المحصن إنما هو لفقد شرط تأثيرها في حكمها.

النوع الثالث: تخلف حكمها عنها لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا. ومثل له بعضهم بقوله - تعالى -: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)} [الحشر: 3]. فصرح أنَّه لو لم يكن الجلاء على بني النضير لعذبهم في الدنيا إلى آخر ما ذكر، ثم بين علة ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، [الحشر: 4] قالوا: فهذه العلة التي هي مشاقة الله ورسوله قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها، وهو أن ينزل بهم ما نزل ببني النضير للعلة المذكورة، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقًا، لا نقضٌ لها، وعزاه في مراقي السعود (1) للأكثرين، في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول:

منها وجود الوصف دون الحكمِ ... سمّاه بالنقض وُعاةُ العلمِ

والأكثرون عندهم لا يقدحُ ... بل هُوَ تخصيصٌ وذا يُصَحّحُ

إلى آخر ما ذكر من الأقوال، كما أوضحنا في غير هذا الموضع.

وإذا علمتَ أن تخلف حكم العلة عنها هو المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالنقض، وأنهم مختلفون فيه: هل هو قادح في العلة أو

__________

(1) ص 95، رقم (762، 763)، وفيه: (مصحح) بدل (يصحح).

(1/299)

________________________________________

مخصص لها؟ مع تفاصيلَ معروفةِ في فن الأصول = فاعلم أنَّه على القول بأن النقض تخصيص لعموم حكم العلة لا نقضٌ لها فلا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى جواب؛ لعدم القدح به على هذا القول.

وعلى أنَّه قادح فالجواب عنه من خمسة أوجه:

الأول: منها منعُ وجود الوصف الذي هو علة الحكم في صورة النقض فيصير تخلف الحكم [لعدم] (1) وجود علته، فلا نقض إذًا.

ومثاله أن يقال فيما لو رمى الوالد ولده بحديدة مثلًا فقتله: قتلُ عمدٍ عُدوان، وهو علة القصاص، وقد تخلف حكمها عنها في هذه الصورة وهو القصاص؛ لأن الوالد لا يُقتل بولده مع وجود علة الحكم التي هي القتل عمدًا عدوانًا.

فيقول المالكي ومن وافقه: العلة غير موجودة في هذه الصورة؛ فعدم القصاص فيها لعدم وجود العلة، ففيها دليل على صحة انعكاس العلة الذي هو عدم الحكم عند عدمها، بل رميُ الوالد لولده بحديدة أو نحوها يَحتمِل أن يَقصِد به التأديب؛ لقرينة شدة شفقة الأب، ولا يَقصد به القتل، فلم يتحقق وجود العلة التي هي القتل العمد العدوان في هذه الصورة، ومرادنا مطلق المثال لا مناقشةُ أدلة الأقوال.

الثاني من الأجوبة عن النقض: منعُ تخلف الحكم عن العلة، بأن يقول: الحكم موجود لوجود علته.

__________

(1) في المطبوع: (العدم).

(1/300)

________________________________________

ومثاله ما لو أضجع الوالد ولده فذبحه أو شق بطنه أو قطع رأسه، ونحو ذلك مما لا يحتمل التأديب بحال، بل لا يحتمل إلَّا قصد القتل عمدًا عدونًا، فإنّ المالكية ومن وافقهم يقولون بوجوب القصاص من الأب في نحو هذه الصورة.

فلو قال المعترض عليهم: في هذه الصورة قتلُ عمد عدوان، وهذه هي علة القصاص، وقد تخلف حكمها عنها الذي هو القصاص، وذلك نقض لها.

فإن المالكية يجيبون عن هذا النقض بمنع تخلف الحكم فيقولون: الحكم غير متخلف هنا، والقصاص واجب من الأب في هذه الصورة.

ومن الأمثلة أيضًا حرية ولد المغرور؛ لأن المستدل يجيب بأنّ الحكم موجود، وهو رق الولد؛ لوجود علته التي هي رق أمه، ولكن ذلك الرقيق فداه أَبوه بقيمته، وهذا عند من يقول بلزوم القيمة، كما جنح إليه ابن قدامة في روضة الناظر (1).

والمالكية الذين يقولون بوجوب القصاص من الأب في القتل الذي لا يحتمل إلَّا قصد إزهاق الروح كما مثلنا له يقولون: قولُكم (الوالد سبب في وجود الولد فلا يصح أن يكون الولد سببًا في إعدامه) منتقِضٌ بما لو زنى الأب بابنته؛ فإنه يُرجم إجماعًا، فقد كان سببًا في وجودها وكانت سببًا في إعدامه، وجناية الزنى ليست أعظم من جناية القتل.

__________

(1) ص 297، دار الكتاب العربي، 1401 هـ.

(1/301)

________________________________________

وشرط صحة الجواب بهذا ألا يكون [انتفاء] (1) الحكم في صورة النقض مذهبَ المستدل، فالذي يرى عدم القصاص من الأب في الصورة المذكورة لا يمكنه أن يجيب عن النقض المذكور بوجود الحكم الذي هو القصاص، لأنه يرى عدم وجوبه، وكذلك الذي يرى عدم لزوم القيمة في ولد المغرور، فلا يمكنه الجواب بهذا.

الثالث من أوجه الجواب عن النقض: بيان وجود مانع من تأثير العلة في الحكم، أو فقدُ شرط تأثيرها فيه، وقد بيناهما قريبًا بمثالهما.

الرابع من أوجه الجواب عن النقض: هو كون الصورة الوارد فيها النقضُ مستثناةً من القاعدة الكلية بالنص، كما قدمنا أمثلته ببيع العرايا، وصاع التمر في لبن المصرّاة، وتحمُّلِ العاقلة الدية.

الخامس من الأجوبة عن النقض: هو أن تكون المصلحة المشتملةُ عليها العلةُ معارَضةً بمفسدة أرجحَ منها أو مساويةٍ لها.

كأن يقال في أكل المضطر الميتة: قذارة الميتة علة لحرمة أكلها، والعلة التي هي قذارتها موجودة في هذه الصورة، مع أن الحكم الذي هو منع الأكل متخلّف عنها.

فيجاب عن هذا بأن مصلحة تجنب المستقذرات معارَضَةٌ في هذه الصورة بمفسدة هي أرجح منها، وهي هلاك المضطر إن لم يأكل الميتة، فقذارة الميتة علة لمنع اكل، ولكنها هنا عُورضت بما هو أقوى منها.

__________

(1) في المطبوع: (انتقاد)، والمثبت هو الملائم للسياق.

(1/302)

________________________________________

 [فصل في الكسر] (1)

تنبيه: اعلم أن ما قدمنا (2) مما يسميه أهل البحث والمناظرة بالنقض المكسور وأوضحناه بأمثلة وبينا المقبولَ منه والمردود = له شبه في الجملة بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر.

واعلم أن ضابط القادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر هو أن يبيّن المعترض خللًا في بعض أجزاء العلة، وذلك بثلاثة أمور:

الأول: بيانه وجود الحكم دون حِكمته.

الثاني: عكسه، وهو وجود الحِكمة دون حُكمها.

والثالث: إبطال المعترض بعضَ أجزاء العلة المركّبة، ويكون الباقي من الأجزاء بعد الجزء الذي أبطله ليس صالحًا للتعليل، بشرط عجز المستدل عن الإتيان ببدلٍ صالح للتعليل في مكان الجزء الذي أبطله المعترض.

واعلم أولًا أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول هي جلب المصلحة أو تكميلُها، أو دفع المفسدة أو تقليلُها، وضابطها أنَّها هي التي صار الوصف علة من أجلها، كما قال في تعريفها صاحب مراقي السعود (3):

__________

(1) هذا العنوان زيادة يقتضيها السياق وترتيب فصول الكتاب.

(2) ص 237، 238.

(3) ص 84، رقم (665).

(1/303)

________________________________________

وهي التي من أجلها الوصفُ جرى ... علةَ حُكمٍ عند كلِّ من دَرى

فتحريم الخمر مثلًا هو الحكم، والإسكار هو علة التحريم، والمحافظة على العقل هي الحكمة؛ لأنها هي التي من أجلها صار الإسكار علةً لتحريم المسكر، وهكذا.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن وجود الحكم بدون حكمته قد قال بعض أهل العلم إنه كسر قادح في العلة؛ لتخلف حكمتي التي صارت من أجلها علة، وقال بعضهم إنه ليس بقادح.

ووجه قول من قال إنه قادح ظاهر؛ لتخلف الحكمة التي هي أساس العلة التي صارت من أجله علة.

ومن قال إنه ليس بقادح أن إنه لا يكون إلَّا في المعلَّل بالمظانّ، والمعللُ بالمظانّ، لا يتخلف فيه الحكم بتخلف الحكمة؛ نظرًا إلى إناطة الحكم بالمَظِنَّة لا بنفس الحكمة، وأشار إلى هذا الخلاف صاحب مراقي السعود (1) بقوله:

وفي ثبوت الحكم عند الانتفا ... للظنِّ والنفيِ خلافٌ عُرِفا

والفروع المبنية على هذه القاعدة منها ما يرجّح فيه بعض العلماء ثبوت الحكم؛ بناء على أن هذا النوع من الكسر ليس بقادح، ومنها ما يرجّح بعضهم انتفاءَ الحكم فيه لانتفاء حكمته؛ بناء على أن هذا النوع من الكسر قادح.

__________

(1) ص 85، رقم (671).

(1/304)

________________________________________

ومن الفروع المبنية على ذلك استبراء الصغيرة؛ لأن تجدّد مِلْك الأمة علةٌ لاستبرائها، وحكمة الاستبراء هي تحقيق براءة الرحم من الحمل، وهي متحقِّقة في الصغيرة بدون الاستبراء.

وكمن مسكنُه على البحر ونزل منه في سفينة قطعت به مسافة القصر في لحظة، فهل يجوز له قصر الصلاة والفطرُ في رمضان لوجود علة ذلك وهي السفر، أو لا يجوز له ذلك نظرًا إلى تخلف الحكمة التي هي رفع المشقة؛ إذ لا مشقة على المذكور أصلًا؟ .

ومنها شرع الاستنجاء من خروج حصاة منه لا بلل معها، ووجوبُ الغسل على النفساء من وضع الولد جافًا لا دم معه.

ومنها عدم نقض الوضوء بمس الذكر إذا لم توجد اللذةُ في اللمس بباطن الكف أو الأصابع.

ومنها نقض الوضوء بالقبلة على الفم إذا لم توجد اللذة.

ومنها ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الحيض؛ فإنه طلاقٌ صادفَ الحيض، وهو علةٌ لتحريم الطلاق، ولكنْ يستعقبُ العدةَ فلا تطويل فيه، فالحكمة الموجبة للمنع التي هي التطويل منتفية هنا.

ومنها ما لو قال: أنت طالق مع آخر جزء من الطهر؛ فإنه عكسُ الصورة المذكورة قبله.

في قول من قال (إن تخلّف الحكمة عن الحكم قادحٌ في العلة) فلا [يجوز] (1) عنده قصرُ الصلاة والإفطار في رمضان لمن لم تلحقْه

__________

(1) في المطبوع: (يجب)، ولعلها سبق قلم.

(1/305)

________________________________________

مشقةٌ أصلًا، ولا يجب عنده الغُسْل بخروج الولد جافًا من الدم، ولا يُنقض عنده الوضوءُ بدون اللذة في لمس ذكرٍ أو تقبيل، ولا يُمنع عنده الطلاقُ مع آخر جزء من الحيض لأنه تطويلٌ وإن كان نفسُ الطلاق واقعًا في آخر جزء من الطهر.

ومن قال (إن هذا النوعَ من الكسر غيرُ قادح) فإنه يلزم على قوله استبراء الصغيرة، وجواز القصْر والإفطار لمن لم تلحقْه مشقةٌ بسفره، والوضوءُ من حصاة لا بلل معي، ونقضُ الوضوء باللمس وإن لم توجد اللذة، إلى آخر ما ذكرنا من المسائل المبنية على الخلاف في هذه المسألة.

والحاصل أن من قال من أهل العلم: إن الحكم منتف في المسائل المذكورة لانتفاء علته، فهو قول منه بأن هذا النوع من الكسر قادح، وعلى قوله فلا إشكال؛ لأن العلة إذا بطلت بالكسر المذكور لم يوجد حكمها؛ لعدم وجود علته.

ومن قال من أهل العلم: إن الحكم فيها باقٍ مع تخلف الحكمة فلقوله توجيهان:

أحدُهما: أنَّه قائل بأن هذا النوع من الكسر ليس بقادح.

والثاني: أنَّه قادح، ويجيب عن عدم القدح به في المسائل المذكورة بأني إنما عُلّق الحكمُ بها بمَظِنّة وجود الحكمة، والمعروف أن المعلل بالمظان لا يتخلف الحكم فيه بتخلف الحكمة؛ لأن الحُكم فيه منوط بالمظنة لا بنفس الحكمة؛ وأشار بعض أهل العلم إلى هذا

(1/306)

________________________________________

بقوله:

إن عُلّلَ الحكمُ بعلةٍ غَلبْ ... وجودُها اكْتفي بذا عن الطلب

لها بكل صورة إلخ.

وعلى هذا فالمانع من القدح بهذا النوع من الكسر إناطة الحكم بمظنة الحكمة لا بنفس الحكمة؛ وذلك لأن نفس الحكمة ربما لا يمكن انضباطها في بعض الأحوال.

كما لو عُلّق حكم قصر الصلاة وجوازُ الإفطار في رمضانَ مثلًا بحصول المشقة، فإن هذه الحكمةَ لا تنضبط؛ لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة، فأنيط الحكم بسفر أربعة بُرُدٍ (1) مثلًا؛ لأنه مظنة المشقة، ومن هنا لم يُنظر إلَّا للمظنة، وأُلغي نفس الحكمة عند من يقول بذلك، فأجاز الفطر والقصر لمن سافر أربعة بُرُدٍ وإن لم تلحقه مشقة؛ لأن سفرها مظنة المشقة، وهو حاصل، فاكتُفيَ بمظنة الحكمة عن نفس الحكمة.

واعلم أن هذه المسائلَ التي ذكرنا أنَّها مفرعةٌ على هذه المسألة مختلفٌ فيها بين أهل العلم، فمن أثبت الحكم مع تخلف الحكمة فهو إما قائل بأن ذلك الكسر غير قادح، أو أنَّه قادح مُنع من اعتباره إناطة الحكم بالمظنة.

ومن نفى فيها الحكم لتخلف حكمته فهو قائل بأن الكسر المذكور

__________

(1) جمع بريد، والبريد يساوي اثني عشر ميلًا.

(1/307)

________________________________________

قادح كما أوضحنا قريبًا.

وأما تخلف الحكم عن حكمته فهو أحد أنواع الكسر، والأظهر أن هذا النوع من الكسر غير قادح، وجزم بذلك ابن قدامة في روضة الناظر (1)، واختاره ابن الحاجب في بعض المواضع في مختصره الأصولي (2)، ومثّل له بقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره: مسافر، فيترخص بسفره كغير العاصي، فإذا قيل له: ولم قلتَ إن السفر علة للترخيص؟ قال: بالمناسبة لما فيه من المشقة المقتضيةِ للترخيص؛ لأنه تخفيف، وهو نفع للمترخِّص.

فيُعترض عليه بصنعة شاقة في الحضر، كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قربَ النار في ظهيرة القيظ في القُطر الحار، فههنا قد وُجدت الحكمة وهي المشقة، ولم يوجد الحكم الذي هو قصر الصلاة وإباحة الفطر مثلًا.

والجواب عن هذا الكسر بتخلف الحكم مع وجود الحكمة أن الشرع إنما اعتبر مشقة السفر، فالعلة في الترخيص المذكور السفر، وحكمتها رفع المشقة، والتخفيف على المسافر، فأصل العلة لم يوجد في هذا الكسر، وإنَّما وجدت فيه الحكمة فقط، فلم يقع كسرٌ في العلة؛ لعدم وجودها أصلًا في صورة الكسر المذكور، وسفرُ العاصي بسفره علة للترخيص، والمانع من تأثيرها عند من يقول بذلك أن

__________

(1) ص 310.

(2) (3/ 47) مع شرح الأصفهاني، جامعة أم القرى، 1406 هـ.

(1/308)

________________________________________

الترخيص تخفيف، والتخفيف على العاصي إعانة له على معصيته، والله - جل وعلا - يقول: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2].

ومن أنواع الكسر إبطال المعترض جزءًا من المعنى المعلَّل به، ونقصُه ما تبقى من أجزاء ذلك المعنى المعلل به، فعلم أن هذا النوع من الكسر لا يكون إلَّا في العلل المركبة من وصفين فأكثر.

والقدح بهذا النوع مقيدٌ بعجز المستدِل عن الإتيان ببدلٍ من الوصف الذي أبطله المعترض، فإن ذكر بدلًا صالحًا لأن يكون علة الحكم أُلغي الكسر واستقام الدليل.

وإبطال الجزء بأن يبيّن المعترض أنَّه مُلغىً بوجود الحكم عند انتفائه، والمراد بنقص الباقي عدمُ تأثيره في الحكم، وله صورتان:

الأولى: أن يأتيَ المستدلِ ببدلِ الوصف المسقَط عن الاعتبار، كأن يقول في وجوب أداء صلاة الخوف: هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تفعل، فيجب أداؤها قياسًا على صلاة الأمن؛ فإنها كما يجب قضاؤها لو لم تفعل يجبُ أداؤها، فوجوبُ القضاء هو العلة، ووجوبُ الأداء هو الحكم المعلَّل بتلك العلة.

فيقولُ المعترض: خصوص الصلاة في دليلك مُلغَى، ويبين ذلك بأن الحج واجب الأداء كالقضاء.

فيبدلُ المستدل خصوصَ الصلاة الذي أبطله المعترضُ بوصفٍ عام وهو العبادة، فيقول: هي عبادة يجب قضاؤها لو لم تفعل، إلى

(1/309)

________________________________________

آخره.

فينقض عليه المعترض هذا البدلَ أيضًا بصوم الحائض؛ فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يحرم.

الصورة الثانية: ألا يبدّل المستدل الوصف الذي أبطله المعترض، فلا يبقى للمستدِل علةٌ في المثال المذكور إلَّا قولُه: يجب قضاؤها.

فينقضه المعترض بأنَّ يقول: ليس كلُّ ما يجب قضاؤه يجب أداؤه، بدليل صوم الحائض في رمضان؛ فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يحرم.

ومثال الإتيان ببدل صالح للتعليل أن يقول مشترط النية في الوضوء: الوضوء طهارةٌ واجبة فتشترط لها النية كغيرها من الواجبات.

فيقول المعترض: خصوص الطهارة مُلغَى، لأنه لا أثر له في وجوب النية؛ لأن طهارة الخبث طهارة لا تشترط لها النية إجماعًا.

فيُبْدِل لفظ الطهارة الذي أبطله المعترض بغيره فيقول: الوضوء قربة غيرُ معقولة المعنى؛ لأن موجَبَها في غير محل موجِبها، فتشترط لها النية كسائر القرب التي هي ليست معقولةَ المعنى.

وقصْدُنا المثال لا مناقشةُ أَدلة الأقوال.

وقد بيّنا فيما مضى أنا إن جئنا بالدليل على صورة القياس الأصولي كهذه الأمثلة التي ذكرنا آنفًا، فإننا إنما نفعل ذلك لأنه في قوة قياس منطقي اقتراني، بجعل الفرع حدا أَصغر، والأصلِ حدًّا أكبر،

(1/310)

________________________________________

والعلةِ حدًّا أوسط، كما أوضحناه سابقًا بأمثلته (1).

وقد تكلمنا فيما مضى على قادحين من القوادح في الدليل عند أهل الأصول:

الأول النقض، وبيّنا أن النقض في اصطلاح أهل الأصول [داخل] (2) في المراد بالنقض في فن البحث والمناظرة، لأنه في فن البحث والمناظرة صادق بتخلف كل مدلول عن دليله، وكل استلزام [للمُحال] (3) كما تقدم إيضاحه (4).

وفي اصطلاح أهل الأصول لا يطلق إلَّا على تخلف مدلول خاص عن دليله، وهو تخلف الحكم عن علته في حال كونها موجودة؛ لأن العلة دليل الحكم، ووجودُها بدونه وجودٌ للدليل بدون مدلوله، وأوضحنا كلام أهل الأصول فيه والأجوبة عنه.

الثاني الكسر، وإنَّما ذكرناه هنا في اصطلاح أهل الأصول وبينا صورة الجواب عنه على القول بأنه قادح لأنه له شبهٌ بالنقض المكسور في البحث والمناظرة؛ لأن النقض المكسور يَحْذِف فيه السائل بعض أجزاء الدليل، والكسرُ في فن الأصول يُبطل فيه المعترض بعض أجزاء العلة كما تقدم قريبًا.

__________

(1) ص 291.

(2) في المطبوع: (وداخل)، بواو، ولا يستقيم الكلام معها.

(3) في المطبوع: (للحال).

(4) ص 234.

(1/311)

________________________________________

فصل في تطبيق الاعتراض المسمى بالمناقضة -وهو المنع الحقيقي- على القادح المسمى في الأصول بالمنع

وقد علمتَ مما مر أن هذا الاعتراض يسمى بالمنع الحقيقي، ويسمى بالمناقضة، والنقدِ التفصيلي، إلى آخر أَسمائه التي قدمناها.

وقد علمتَ أنَّه في فن البحث والمناظرة يتوجه إلى الدعوى المجردة، وإلى الدليل بمنع مقدمة معينة من مقدماته، كمنع الصغرى فقط، أو الكبرى فقط، ومنعُهما معًا يُعَدُّ منعين، وأنه قد يكون مجردًا عن السند، وقد يكون مقرونًا بالسند كما تقدم إيضاحه (1).

وأما القادح المسمى بالمنع في اصطلاح أهل الأصول فمواقعه أربعة:

الأول: منع حكم الأصل.

الأني: منع وجود ما يدعيه علة في الأصل.

الثالث: منع كونه علةَ الحكم.

الرابع: منع وجوده في الفرع.

ومثال منع حكم الأصل قول الحنبلي: جِلد الميتة نجس فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب.

__________

(1) ص 201، 202.

(1/312)

________________________________________

فيقول الحنفي: لا نسلّم حكم الأصل، وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ، بل هو يطهر به عندي.

ومثال منع وجود ما يدعيه علة في الأصل قول الشَّافعي والحنبلي: من قال (إن تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوجها لم يلزمه طلاق؛ قياسًا على قوله (فلانة التي أتزوجها طالق) بجامع أن كلا منهما تعليقُ طلاقِ أجنبية، فالأصل المقيس عليه (فلانة التي أتزوجها طالق)، والفرع المقيس (إن تزوجت فلانة فهي طالق)، والحكم هو عدم لزوم الطلاق بعد التزويج، والعلة عند صاحب الدليل هي تعليق طلاق الأجنبية.

فيقول المعترض كالمالكي والحنفي: الوصف الذي تدعي أنَّه علة الحكم وهو تعليق طلاق الأجنبية ليس موجودًا أصلًا في الأصل المقيس عليه؛ لأن الأصل الذي هو (فلانة التي أتزوجها طالق) تنجيز طلاقٍ أجنبية، وهي لا يتنجز عليها الطلاق، والتعليق الذي زعمته علة ليس موجودًا أصلًا، ولذا ليس في الصيغة أداةُ تعليق في الأصل.

وهذا النوع الذي هو منع وجود ما يدعيه علة في الأصل هو المعروف بمركب الوصف.

والحاصل في حكم هذه المسألة أن الأئمة الأربعةَ وغيرَهم من فقهاء الامصار متفقون أن الطلاق لا يقع إلَّا بعد النكاح؛ لأن الله رتبه عليه بثُمّ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، الآية، فإن قال (إن تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوجها فالمالكي والحنفي يقولان بلزوم الطلاق؛ لأنه ما وقع إلَّا بعد النكاح، فقد راعيا وقت نفوذ الطلاق، وهي وقتَ نفوذِه زوجة.

(1/313)

________________________________________

والشَّافعي والحنبلي يقولان بعدم لزوم الطلاق؛ لأنهما نظرا إلى وقت صدور الصيغة منه، وهي وقتَ صدور صيغة الطلاق المعلّق على التزويج أجنبية.

أما تنجيز طلاق الأجنبية فهو لغو بلا خلاف.

وأما منع كون الوصف علةً فهو أن يعترف المعترض بوجود الوصف في الأصل المقيس عليه، ولكنه يمنع كونه هو العلة.

كأن يقول الشَّافعي: وصف الكيل موجود في البُرّ، ولكنه ليس هو علةَ تحريم الرِّبَا فيه، فإن ادعى الخصم له علة أخرى كقول الشَّافعي في هذا المثال بل علة الرِّبَا فيه الطعم، فهو المعروف في اصطلاح أهل الأصول بمركب الأصل، وقد عرف صاحب مراقي السعود (1) مركب الأصل [هو و] (2) مركب الوصف بقوله:

وإن يكن لعلتين اختلفا ... تَركَّبَ الأصلُ لدى من سلَفا

مركبُ الوصفُ إذا الخصمُ منعْ ... وجودَ ذا الوصفِ في الأصل المتبعْ

ومثال منع وجود الوصف الذي هو العلةُ في الفرع قول الجمهور: تُقطع يد النبَّاش؛ لأنه سرق الكفن من حرز مثله، قياسًا على السارق المُخرِج من الحرز، كسرقته الدراهمَ من الصندوق المقفول.

فيقول المعترض كالحنفي: وجود العلة التي هي السرقة ممنوع في

__________

(1) ص 82، برقم (650، 651).

(2) في الأصل: (وهو)، والمثبت هو الصواب كما يظهر من البيتين.

(1/314)

________________________________________

الفرع الذي هو النباش؛ لأن النباش ليس بسارق، بل آخذُ مالٍ عارضٍ للضياع، كالملتقط.

واعلم أنَّه اختُلف في توجيه المنع على حكم الأصل: هل ينقطع به المستدل أو لا؟

وأظهر القولين أنَّه لا ينقطع بمجرد منع حكم الأصل، وممن اختار ذلك ابن الحاجب (1) وابن قدامة في روضة الناظر (2)، وقالا إنه له إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض.

وقال بعضهم: ينقطع بذلك، ووجهوا قولهم أنَّه لو جاز للمستدل إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض لانتشر الكلام وانتقلا من مسألة إلى أخرى، وقد يفضي ذلك إلى التسلسل، والأول أظهر.

واختار الغزالي (3) اتّباع عرف البلد، فإن كان عرفُهم في المناظرة انقطاعَه بمجرد منع حكم الأصل انقطع به، وإلَّا فلا؛ لأنه أمر اصطلاحي، ليس بعقلي ولا شرعي.

وقال أَبو إسحاق الشيرازي (4): لا يُسمع منعُه حكم الأصل، فلا

__________

(1) بيان المختصر (3/ 187، 188).

(2) ص 307.

(3) ذكره عنه ابن الحاجب كما في الموضع السابق.

(4) انظر الموضع السابق، وأَبو إسحاق هو إبراهيم بنُ علي بنُ يوسف، جمال الدين الشَّافعي، من كبار الأصوليين والفقهاء، وفاته سنة 476 هـ، له ترجمة =

(1/315)

________________________________________

يلزمه الاستدلال عليه.

قال ابن الحاجب وهو بعيد. وقد صدق في ذلك.

وإذا علمت أن الأظهر عدم انقطاعه بذلك فاعلم أن جواب المستدل عن منع حكم الأصل هو إثباته [حكمه] (1) بدليل.

والجواب عن منعه وجود الوصف في الأصل هو إثباث وجوده فيه بما لو طريق ثبوت مثله؛ لأن الوصف قد يكون حسيًا فيثبتُه بالحس، وقد يكون عقليًا فيثبثُه بالعقل، وقد يكون شرعيًا فيثبتُه بالشرع.

ومثال الثلاثة المذكورة ما لو قال في القتلِ بالمثقَّل: قتل عمد عدوان، فلو قيل (لا نسلم أنَّه قتل) أجاب عنه بأن القتل ثابت بالحس الذي هو رؤيته بالحاسة، ولو قيل (لا نسلم أنَّه عمد) فالجوأب بأن العقل علم أنَّه عمد بالقرائن والأمارات المحتفّة به، التي لا تترك لبسًا في أنَّه عمد، وإن قيل (لا نسلم أنَّه عدوان) فالجواب بأن الشرع حرّمه وجعله من العدوان.

والجواب عن منع كونه علةً بإثبات كونه علة، كما لو قال المالكي للشافعي: أمنع كون الطَّعم علةَ الرِّبَا في البُرّ. فيثبت الشَّافعي كونَه علة، كأن يقول مثلًا: ملء كف من البر فيه الرِّبَا، وهو غير مكيل ولا مقتات ولا مدخر؛ لقلته، ولكنه مطعوم، فعُلم استقلال الطُّعم بالعلّية دون الأوصاف الأخرى.

__________

= حافلة في سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 452 - 464).

(1) في المطبوع: (حكم)، والسياق يقتضي ما أثبت.

(1/316)

________________________________________

وكأن يقول الشَّافعي في المثال المذكور: حديث معمر بنُ عبدِ الله عند مسلم قال: كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطَّعام بالطعام مثلًا بمثل" الحديث (1)، يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن الطَّعم هو علة الرِّبَا في المطعومات. وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.

والجواب عن منع وجود العلة في الفرع هو إثبات وجودها فيه، كقول الجمهور: الحرز في السرقة يتنوّع بتنوع المسروق، فالإصطبل مثلًا حرز للدواب وليس حرزا للدنانير، والصندوق حرز للدنانير وليس حرزًا للدواب، وبذلك التنوع يُعلم أن القبر حرز للكفَن؛ لأنه حرز مثله، فالعلة التي هي السرقة موجودة في الفرع الذي هو النباش.

وقد علمتَ أن المنع في الأصول كالمنع في البحث والمناظرة؛ لأن صاحب البحث والمناظرة يقول: أمنعُ مقدمةَ هذا الدليل مثلًا، والمعترضَ في الأصول يقول: أمنعُ حكمَ الأصل مثلًا، أو وجودَ العلة فيه، أو كونَها علة، أو وجودَها في الفرع.

وقد علمتَ مما مر أن القياس الأصولي راجعٌ للقياس المنطقي بالطريق التي أوضحناها سابقًا مرارًا (2)، فإذا رددت قياس الأصول إلى القياس المنطقي علمت أن مواقع المنع الأربعةَ في القياس الأصولي راجعةٌ إلى منع مقدمات الدليل المنطقي.

فلو قال الشَّافعي مثلَا: يحرم الرِّبَا في التفاح قياسًا على البُر بجامع

__________

(1) صحيح مسلم برقم (1592).

(2) راجع ص 291.

(1/317)

________________________________________

الطُعم، فقال المالكي أو الحنفي أو الحنبلي: أمنعُ كون العلة هي الطُعم، فإذا أحد مواقع المنع الأربعة في الأصول، وهو منع كون الوصف علة.

وهذا المنع في الحقيقة راجع إلى منع الكبرى في القياس المنطقي؛ لأنك لو رددتَه إلى القياس المنطقي فقلت: التفاح مطعوم، وكل مطعوم ربوي، ينتج من الشكل الأول: التفاح ربوي.

فيقول المالكي أو الحنفي مثلًا: أمنعُ المقدمة الكبرى، وهي قولك (وكل مطعوم ربوي)؛ لأن علة الرِّبَا في المطعومات ليست هي الطُعم، بل هي الكيل أو الاقتيات والادخار، وقس على هذا المثال باقيَها؛ فإن المقام لا يقتضي بسط أمثلة الجميع.

(1/318)

________________________________________

 فصل في المعارضة وأقسامها

اعلم أن ما يسمى في البحث والمناظرة بالمعارضة على سبيل القلب، هو بعينه القادح المسمى في الأصول بالقلب، وضابطه عند الأصوليين أن يُثبت المعترض نقيض حكم المستدل بعين دليل المستدل، فيقلب دليله عليه لا له.

والمستدل في الأصول هو المعلل في البحث والمناظرة، والمعترض في الأصول هو السائل في البحث والمناظرة، فتذكر اختلاف الاصطلاحَين؛ لئلا يلتبس عليك المقصود بغيره.

وإذا علمت ذلك فاعلم أن القلب عند أهل الأصول قسمان:

أحدهما: ما صحح فيه المعترض مذهبه، وذلك التصحيح فيه إبطال مذهب خصمه، سواء كان مذهب الخصم المستدِل مصرَّحًا به في دليله أو لا.

ومثال ما كان مصَّرحًا به فيه قول الشَّافعي في بيع الفُضولي: عقدٌ في حق الغير بلا ولاية عليه فلا يصح، قياسًا على شراء الفضولي؛ فإنه لا يصح لمن سمّاه.

فيقول المعترض كالمالكي والحنفي: عقدٌ فيصح كشراء الفضولي؛ فإنه يصح لمن سمّاه إذا رضي ذلك المسمّى له، وإلَّا لزم الفضولي، فهو صحيح على كل حال.

ومثال غير المصَّرح به فيه قولُ من يشترط الصوم في الاعتكاف

(1/319)

________________________________________

كالمالكي: الاعتكاف لُبْث فلا يكون قربة بنفسه، كوقوف عرفة، أي فإنه قربة بضميمة الإحرام إليه، فكذلك الاعتكاف إنما يكون قربة بضميمة عبادة إليه، وهي الصوم في الاعتكاف المتنازع فيه، ومذهبه وهو اشتراط الصوم في الاعتكاف غيرُ مصرح به في دليله.

فيقول المعترض كالشَّافعي: الاعتكاف لُبْث فلا يشترط فيه الصوم، كوقوف عرفة، أي فإنه لا يُشترط فيه الصوم.

القسم الثاني من قسمي القلب: هو ما كان لإبطال مذهب الخصم من غير تعرض لتصحيح مذهب المعترض، سواء كان الإبطال المذكور مدلولًا عليه بالمطابقة أو الالتزام.

ومثال كون الإبطال مدلولا عليه بالمطابقة قول الحنفي في مسح الرأس: عضُو وضوءٍ فلا يكفي في مسحه أَقلُّ ما يطلَق عليه اسم المسح؛ قياسًا على الوجه، فإنه لا يكفي في غسله ذلك.

فيقول المعترض كالشَّافعي: عضوُ وضوءٍ فلا يقدّر بالربع؛ كالوجه؛ فإن غسله لا يتقدر بالربع.

ومثال الإبطال بالاتزام قول الحنفي في جواز بيع الغائب: عقدُ معاوضةٍ فيصح مع الجهل بالعوض؛ كالنكاح؛ فإنه يصح مع الجهل بالزوجة، أي عدم رؤيتها.

فيقول المعترض كالمالكي: فلا يَثبت فيه خيارُ الرؤية كالنكاح. فقد أبطل مذهب الحنفي بالالتزام؛ لأن ثبوت خيار الرؤية لازمٌ

(1/320)

________________________________________

عنده (1) شرطًا للصحة، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

[فجميع] (2) هذه الأمثلة فيها إبطالٌ لمذهب المستدل بعين دليله، وهو القلب، وقد علمتَ أن القلب نوع خاص من أنواع المعارضة، والجواب عنه كالجواب عن المعارضة، إلَّا أنَّه يُستثنى من ذلك منعُ وجود الوصف، فلا يصح في القلب، لاتفاق الخصمين عليه، كما يتضح من الأمثلة المذكورة.

وأما ما يسمونه قلب المساواة فضابطه أنَّه ثبوت حُكْمين للأصل المقيس عليه، وأحد الحُكْمين منتفٍ عن الفرع المقيس اتفاقًا، والحكم الآخر هو محل الخلاف: هل هو ثابت للفرع أو لا؟ فيُلحِق المستدِل الفرعَ المختلَفَ فيه بالأصل المقيس عليه، فيقول المعترض: التساوي بين الحكمين في الفرع واجب كاستوائهما في الأصل.

ومثاله قول الحنفي في الوضوء والغُسل: طهارة بالمائع فلا تجب فيها النية قياسًا على غَسل النجاسة؛ لا تجب فيه النية، بخلاف غير المائع كالتيمم؛ فإنه تجب فيه النية.

فيقول المعترض كالمالكي والشَّافعي: فيستوي جامد هذه الطهارة ومائعُها، كالنجاسة؛ فإنها يستوي جامدها ومائعها في الحكم الذي هو عدم وجوب النية، وقد وجبت النية في التيمم، فتجب في الغُسل والوضوء.

__________

(1) أي عند الحنفي.

(2) في المطبوع: (فجمع).

(1/321)

________________________________________

فأحد حكمي الأصل عدم وجوب النية في الطهارة في الجامد، وهو منتف عن الفرع اتفاقًا؛ لوجوب النية فيه، والآخر عدم وجوب النية في الطهارة بالمائع، وهو المختلف فيه، فيُثبته المستدِل في الفرع، فيقول المعترض: فتجب التسوية بين الحكمين في الفرع، كما وجبت بينهما في الأصل.

واعلم أن قلب المساواة هذا الذي ذكرنا اختُلف في قبوله، فمنع بعضُهم قبوله، وممن منعه القاضي أَبو بكر الباقلاني (1) من المالكية، وحجة من قال بأنه لا يُقبل هي أن وجه استدلال المعترض القالبِ غيرُ وجه استدلال المستدل؛ إذ وجه استدلال المستدل في المثال المذكور كونُ الجامع الطهارةَ بالماء، ووجه استدلال المعترض كونُه مطلقَ الطهارة.

وقال الباجي (2): لا يصح قلب القلب؛ لأن القلب نقض للعلة، والنقض لا ينقض.

وقال بعض المالكية والشَّافعية: يصح قلب القلب؛ لأن القلب معارضة في الحكم، والمعارضة تُعارض، فيُصار إلى الترجيح، في أن القلب معارضة لا يتم القدح به بمجرده، بل حتَّى يعجز المستدل عن الترجيح. وعلى أنَّه نقضٌ يقدح بمجرده، والصواب أنَّه معارضة

__________

(1) محمد بنُ الطيب بنُ محمد بنُ جعفى، من كبار المتكلمين، وفاته سنة 403 هـ، انظر سير أعلام النبلاء (17/ 190).

(2) أَبو الوليد، سليمان بنُ خلف بنُ سعد، الأندلسي، المالكي، حياته ما بين (403 - 474 هـ)، انظر سير أعلام النبلاء (18/ 535 - 545).

(1/322)

________________________________________

كما بيناه بإيضاح، خلافًا لصاحب المراقي والباجي، ولذا قال صاحب مراقي السعود (1) إن القدح بالقلب لا يُعترض، في قوله:

والقلب إثبات الذي الحكمَ نَقَضْ ... بالوصفِ والقدحُ به لا يُعترض

وأما المعارضة بغير القلب فهي قسمان: معارضة في الأصل، ومعارضة في الفرع، وبعض أهل الأصول يسميها: الفرقُ بين الأصل والفرع.

وقد علمتَ مما مر أن ضابط المعارضة أنَّها هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الخصم عليه دليله، وهي ترد على جميع الأدلة، قياسًا كانت أو غيره، والأصوليون الذين يقولون إنها قسمان: معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع، إنما يريدون المعارضة في القياس خاصة.

أما المعارضة في الأصال فضابطها عندهم أن يُبدي المعترض وصفًا آخر صالحًا للتعليل، كأن يقول الشَّافعي: علة الرِّبَا في البُر الطُعم، فيعارضُه الحنفي والحنبلي بإبداء وصف آخرَ صالحٍ للتعليل، وهو الكيل.

ولا يخفى أن هذا النوع من المعارضة مبنيٌ على القول بمنع تعدد العلل المستنبطة، لأنه على القول بجواز تعددها فلا مانع من أن تكون علةُ المستدل وعلةُ المعترض صحيحتين، والعلل المستنبَطة مختلَف في جواز تعددها، ولذلك اختُلِف في قبول القدح بهذا النوع من

__________

(1) ص 97، رقم (778).

(1/323)

________________________________________

المعارضة. أما العلل المنصوصة فلا خلاف في جواز تعددها، كالبول والغائط والتقبيل والنوم لنقض الوضوء، وكالجماع والإنزال والنَّقاء من الحيض لوجوب الغُسل، ولا يرد عليها هذا النوع من المعارضة، وأشار لما ذكرنا صاحب مراقي السعود (1) بقوله:

وعلةٌ منصوصةٌ تَعدَّدُ ... في ذات الاستنباط خُلْفٌ يُعْهَدُ

وضابط النوع الثاني من نوعي المعارضة وهو المعارضة في الفرع هو إبداء المعترضِ وصفًا مانعًا من الحكم في الفرع منتفيًا عن الأصل.

كقياس المهبة على البيع في منع الغرر، فيقول المعترض: البيع عقد معاوضة، والمعاوضة مكايسة يُخل بها الغرر، والهبة محض إحسان فلا يُخل بي الغرر، فإن لم يحصل شيء لم يتضرر الموهوب له.

فكون الهبة محضَ إحسان معارضةٌ في الفرع ليست موجودةً في الأصل، مانعةٌ من إلحاقه به.

وكقول الحنفي: يُقتل المسلم بالذمي كغير المسلم بجامع القتل العمد العدوان، فيقول المعترض: الإسلام في الفرع مانع من القَود.

واعلم أن المعارضة في الأصل كما تكون بإبداء المعترض وصفًا آخر صالحًا للتعليل تكون أيضًا بإبداء وصفٍ صالح لأن يكون جزءًا من العلة غيرَ مستقل بنفسه، كما لو قال المالكي والشَّافعي مثلًا: القتل

__________

(1) ص 85، رقم (675).

(1/324)

________________________________________

بالمثقّل يجب فيه القصاص؛ لأنه قتل عمد عدوان، فيعارضه الحنفي بإبداء جزء صالح للتعليل، وهو كونُ القتل المذكور بمحدد كالسيف والرمح مثلًا.

واعلم أن للمستدل أن يجيب عن المعارضة بأجوبة متعددة، فيجيب عن المعارضة في الأصل بعدة طرق:

الأولى: أن يبين المستدل أن مثل الحكم المتنازع فيه ثبتَ بدون الوصف الذي أبداه المعترض، فيستقل بالعلية ما ذكره المستدل.

ومثاله قول الشَّافعي: علة تحريم الرِّبَا في البُر الطُعم، فيعارضُه الحنفي مثلًا بوصف الكيل، فيقول الشَّافعي: إن ملء الكف من البُر ينتفي عنه الكيل لقلته، ومنعُ الرِّبَا موجود فيه، فيستقل الطُعم بالعلية.

والقصد المثال، [لا] (1) مناقشة أدلة الأقوال.

الثانية: أن يبين المستدل إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختَلف فيه، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، ففي الحديث الصحيح "من أعتق شِرْكًا له في عبد" الحديث (2)، فيقول المستدل: الأمة كالعبد في سِراية العتق الواردةِ في الحديث بجامع الرق.

فيقول المعترض: إن في الأصل وصفًا مانعًا من إلحاق الفرع به وهو الذكورة؛ لأن عتق الذكر تلزمه مصالح -كالشهادة والجهاد

__________

(1) ساقطة من المطبوع، والسياق يقتضيها.

(2) رواه البخاري (2369)، ومسلم (1501).

(1/325)

________________________________________

وجميع المناصب المختصة بالرجال- لا توجد في الفرع الذي هو الأمة.

فيجيب المستدل عن هذا الاعتراض بأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان، لا يترتب [عليهما] (1) شيء من أحكام العتق، كما هو معلوم في الشرع.

الثالثة: أن يبين أن العلة التي عارضها خصمُه ثابتةٌ بنصٍ أو إيماء وتنبيه.

ومثاله في الإيماء والتنبيه قول الشَّافعي: العلة في تحريم الرِّبَا الطُعم، فيعارضُه المالكي بالاقتيات والادخار، فيقول الشَّافعي: إن كون الطُعم هو العلة ثبت بمسلك الإيماء والتنبيه في حديث معمر بنُ عبدِ الله في صحيح مسلم (2): كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الطَّعام بالطعام مثلًا بمثل)، فترتيب اشتراط المثلية على وصف الطُعم يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن العلة الطعم. والقصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.

ومثاله فيما هو كالنص أن يقول الحنبلي مثلًا: علة تحريم الرِّبَا في البر الكيل، فيعارضه المالكي بوصف الاقتيات والادخار، فيقول الحنبلي: إن كون العلة الكيلَ ثبت مقتضاه بالنص، ففي حديث حيان بنُ عبيد الله عند الحاكم (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

__________

(1) في المطبوع: (عليها).

(2) برقم (1592).

(3) المستدرك (2/ 49) رقم (2282).

(1/326)

________________________________________

بعد أن ذكر الستة المنصوص على تحريم الرِّبَا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكذلك كل ما يكال أو يوزن"، وقد بينا في كتابنا أضواء البيان (1) أن هذا الحديث ثابت، وناقشنا من ضعّفه، وهو كالنص الواضح على أن معرفة القدر بالكيل والوزن هي علة الرِّبَا، وفي الصحيحين (2) بعد ذكر الرِّبويات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وكذلك الميزان)، بعد ذكر الكيل في الحديث.

الطريقة الرابعة: أن يبين رجحان ما ذكره على ما أبداه المعترض، ومثاله قول المالكي والحنفي: إن علة كفّارة الجماع في نهار رمضان انتهاكُ حرمة رمضان، فتجب الكفارة عندهما في الأكل والشرب عمدا كالجماع، فيعارضه الشَّافعي والحنبلي بخصوص وصف الجماع الذي رتب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الكفارة، فيجيب المالكي والحنفي بأن الوصف المتعدي إلى غيره أرجح من الوصف القاصر الذي لم يتعد إلى غيره؛ لأن التعدية من المرجحات، وكون العلة هي انتهاك حرمة رمضان يتعدى بها الحكم من الجماع إلى الأكل والشرب بجامع انتهاك حرمة رمضان، فتجب الكفارة في الجميع، وكون العلة خصوصَ الجماع تكون به قاصرةً على محلها، فلا يتعدى حكمها إلى شيء، مع أن العلة القاصرة مختلف في التعليل بها أصلًا، كما هو معلوم في محله، والقصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.

الطريقة الخامسة: منع وجود الوصف الذي عارض به المعترض،

__________

(1) (1/ 210).

(2) صحيح البخاري برقم (6918)، وصحيح مسلم برقم (1593).

(1/327)

________________________________________

مثل أن يعارَض الاقتيات والادخار بالكيل، فيقول المستدل: لا نسلم أنَّه مكيل؛ لأن العبرة بعادة زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في زمنه - صلى الله عليه وسلم - غير مكيل.

الطريقة السادسة: مطالبة المعترض بكون الوصف الذي عارض به مؤثرًا في الحكم، وهذا إنما يُسمع من المستدل إذا كان مُثبتًا للعلة بالمناسبة أو الشبه، حتَّى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة أو شبه، بخلاف ما إذا كان مُثبتًا للعلة بالسبر والتقسيم، فلا يرد عليه هذا الاعتراض؛ بناءً على عدم اشتراط المناسبة في الوصف المتبقي في السبر، والظاهر أن الوصف المدار في الدوران كذلك.

الطريقة السابعة: بيان عدم انضباط الوصف المعارَض به، كأن يقول: السفر علة قصر الصلاة وجوازِ الإفطار في رمضان، فيعارضه المعترض بوصف المشقة، فيجيبُ المستدل بأن المشقة لا تنضبط؛ لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة.

ومنها غير ذلك تركناه اختصارًا لأن فيما ذكرنا كفاية.

واعلم أنا ذكرنا فيما مضى تطبيق ستة أسئلة من الأسئلة التي ترد على المستدل في الأصول، واحد مني ليس بقادح في نفس الأمر وهو الاستفسار، وخمسة من القوادح وهي: النقض، والكسر، والمنع، والقلب، والمعارضة، وإن كان القلب نوعًا من المعارضة؛ لأن الأصوليين يعدونه قادحًا مستقلًا، ويعدون المعارضةَ قادحًا آخر مستقلًا.

(1/328)

________________________________________

والمعارضة بالقلب التي ذكرنا واضح تطبيقها على المعارضة على سبيل القلب في البحث والمناظرة.

وأما النوعان الآخران من المعارضة، اللذان هما المعارضة في الأصل، والمعارضة في الفرع، فيصح تطبيقهما على المعارضة بالمثل والمعارضة بالغير في البحث والمناظرة.

وإيضاح ذلك أن يقول المستدل: هذا مكيل، وكل مكيل يحرم فيه الرِّبَا؛ يعني لأن علة تحريم الرِّبَا الكيل، [والفرض] (1) منع تعدد العلل المستنبطة كما تقدم (2)، ينتج: هذا يحرم فيه الرِّبَا، ولازم هذا التعليل أن المطعوم إن كان غير مكيل لا يحرم فيه الرِّبَا؛ لمنع تعدد العلل المستنبطة.

فيعارضه الشَّافعي مثلًا معارضة بالمثل فيقول؛ التفاح مطعوم، وكل مطعوم يحرم فيه الرِّبَا وإن كان غير مكيل، ينتج: التفاح يحرم فيه الرِّبَا، ولازم هذا التعليل أنَّه لا يحرم في غير المطعوم، لمنع تعدد العلل المستنبَطة، وهو مناقض لما دل عليه دليل الأول، فمقتضى دليل الأول أنَّه يحرم في [المكيل] (3) ولا يحرم في مطعوم غير مكيل، ومقتضى دليل الثاني أنَّه يحرم في كل مطعوم وإن كان غير مكيل، ولا يحرم في مكيل غير مطعوم، فكل من الدليلين قياس اقتراني، وكلاهما

__________

(1) في المطبوع: (والغرض) بالغين، والصواب ما أثبته، ولها نظير فيما سبق ص 62.

(2) ص 324، 325.

(3) في المطبوع: (الكيل)، والمثبت هو الملائم للسياق.

(1/329)

________________________________________

يستلزم نقيض الآخر، لما ذكرنا أن هذا النوع من المعارضة مبني على منع تعدد العلل المستنبطة، فوجود علة يلزمه نفي غيرها، كما أوضحنا بالأمثلة.

ويصح أن يكون من المعارضة بالغير، كأن يقول الحنفي: الذرة مكيلة، وكل مكيل ربوي، ينتج: الذرة ربوية. وهذا الدليل اقتراني.

فيعارضه الشَّافعي معارضةً بالغيرِ بدليل استثنائي فيقول: لو كان كل مكيل ربويًا -أي [والفرض] (1) أنَّه لا ربويَّ غيرُ المكيل؛ لمنعِ تعدُدِ العللِ المستنبطة- لكان مِلءُ الكف من البُر غيرَ ربوي؛ لأنه غيرُ مكيل لقلته، لكنه ربوي، ينتج: ما كل مكيل ربويًا، وهو إبطال بالمعارضة بالغير.

__________

(1) في المطبوع: (والغرض)، وقد سبق التنبيه على أنَّها خطأ.

(1/330)

________________________________________

فصل في السؤال [السابع] (1)

وهو فساد الاعتبار، وضابطه عند الأصوليين أن يكون دليل المستدل مخالفًا لنص أو إجماع.

فمخالفته للنص كقياس لبن المصراة على غيره من المِثْليات في وجوب رد المِثْل؛ فإنه فاسد الاعتبار، لمخالفته نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن فيه صاعًا من تمر (2)، وكالقول بمنع السلف في الحيوان لعدم انضباطه قياسًا على غيره من المختلطات، فيُعترض بأنه مخالف لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنَّه استسلف بَكْرا ورد رُباعيًّا، وقال: "إن خير الناس أحسنهم قضاء" (3).

ومثلوا لمخالفته الإجماع بقول الحنفي: لا يغسل الرجل زوجته الميتة لحرمة النظر إليها قياسًا على الأجنبية، فيُعترض بأن عليا غسل فاطمة - رضي الله عنهما - ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار إجماعًا سكوتيًا. وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال، ولا تخفى علينا مناقشة الحنفية فيما ذكر.

والجواب عن فساد الاعتبار من وجهين: أحدهما أن يبين أن النص

__________

(1) في المطبوع: (الرابع)، وهو خطأ ظاهر؛ فقد أشار إلى الأسئلة الستة السابقة (ص 328) وهي: الاستفسار، والنقض، والكسر، والمنع، والقلب، والمعارضة، ثم يأتي بعد هذا الثامن.

(2) انظر صحيح البخاري، رقم (2044).

(3) رواه البخاري (2262)، ومسلم (1600).

(1/331)

________________________________________

لم يعارض دليله، والثاني أن يبين أن دليله أولى بالتقديم من نص المعارض.

ومثلوا للأول بان يقال: شرط الصوم تبييت النية في [الليل] (1)، فلا تصح نيته في النهار؛ قياسًا على القضاء.

فيقول الحنفي: هذا فاسد الاعتبار بمخالفته لقول - تعالى -: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} إلى قول - رضي الله عنه -: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]؛ فإنه يدل على ثبوت الأجر العظيم لمن صام، وذلك مستلزم للصحة.

فيقول المستدل: الآية لا تعارض دليلًا ولا تدل على الصحة؛ لأن عمومها مخصَّص بحديث "إنما الأعمال بالنيات" (2)؛ لأن أول الشروع في الصوم تجرد عن النية فلم يصح، وحديثِ "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (3).

ومثلوا للثاني بأن يقال: قياس العبد على الأَمة في تشطير حد الزنا بالرق فاسد الاعتبار؛ لمخالفته عموم {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]؛ لأنهم يقولون: هذا القياس مقدم على عموم ذلك النص ومخصِّص له؛ لأنه أخصُّ في محل النزاع منه، والمخصِّص الحقيقي هو مستند القياس، وهو الآية التي دلت على تشطير حد الزنا

__________

(1) في المطبوع: (رمضان)، ولعله سبق فلم.

(2) أخرجه البخاري (1).

(3) سبق تخريجه ص 211.

(1/332)

________________________________________

بالرق في الأَمة، وهي قوله - تعالى -: {أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَينَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وهو الجلد، فهذه الآية دلت على تشطير حد الزنا بالرق؛ لأن علة تشطيره في الأمة الرقُّ بلا نزاع، فعُلم أن الرق هو مناط التشطير، ولا فرق بين الذكور والإناث في الحدود.

ولا يخفى أن فساد الاعتبار معارضة لدليل المستدل بنص أو إجماع، وهي تصح أن تكون بالمِثْل وتكون بالغير كما لا يخفى على من فهم ما تقدم، وقال ابن قدامة في روضة الناظر (1) إن فساد الاعتبار من المعارضة في الفرع. وأوضحناه في غير هذا الموضع (2).

__________

(1) ص 306، 315.

(2) راجع ص 324.

(1/333)

________________________________________

فصل في السؤال الثامن

وهو القادح المسمى في الأصول فساد الوضع، وضابطه أن يكون الدليل على غير الهيئة الصالحة لأخذ الحكم منه، كأن يكون صالحًا لضد الحكم أو نقيضه، كأخذ التوسيع من التضييق، والتخفيف من التغليظ، والنفي من الإثبات، أو الإثبات من النفي.

ومثلوا لأخذ التوسيع من التضييق بقول الحنفي: الزكاة واجبة على وجه الإرفاق لدفع حاجة المسكين فكانت على التراخي، كالدية على العاقلة، فالتراخي الموسع ينافي دفع الحاجة المضيق.

ومثلوا لأخذ التخفيف من التغليظ بقول الحنفي: القتل العمد العدوان جناية عظيمة فلا تجب فيه الكفارة كالردة، فعِظَم الجناية يناسب تغليظ الحكم، لا تخفيفَه بعدم الكفارة.

ومثلوا لأخذ الإثبات من النفي بقول من يرى صحة انعقاد البيع في المحقّرات وغيرها بالمعاطاة كالمالكية: بيع لم توجد فيه الصيغة فينعقد؛ فإن انتفاء الصيغة يناسب عدم الانعقاد لا الانعقاد.

ومثلوا لأخذ النفي من الإثبات بقول الشَّافعي في معاطاة المحقّرات: لم يوجد فيها سوى الرضى فلا ينعقد بها البيع كغير المحقرات، فالرضى الذي هو مناط البيع يناسب الانعقاد لا عدمَه.

والجواب عن القدح بفساد الوضع بأحد أمرين:

الأول: أن يمنع قول الخصم إنه يقتضي نقيض الحكم، كأن يقول

(1/334)

________________________________________

الحنفي: قولكم إن القتل عمدًا يقتضي نقيض نفي الكفارة -الذي هو وجوبها- مدفوعٌ بأن جناية القتل لشدة عِظَمها تستدعي أمرًا أغلظ منِ الكفارة وهو القصاص، فليس مرادي بنفي الكفارة التخفيفَ بل التغليظ بما هو أعظم من الكفارة.

والثاني: أن يبين أن ما ذكره يقتضيه دليلُه من جهة أخرى.

كقول الحنفي في مسألة الزكاة المتقدمة: إنما قلت بالتراخي لمناسبته للرفق بالمالك، فالمستدل نظر إلى الرفق بالمالك، والمعترض نظر إلى حاجة المسكين.

وكأن يقول المالكي: قولي في المعاطاة (بيع لم توجد فيه الصيغة إلخ .. ) لم أبْنِ فيه قولي بالانعقاد على عدم الصيغة، وإنَّما بنيته على أن المعطاة تدل على الرضى، والرضى من الطرفين مناسب لانعقاد البيع.

وكأن يقول الشَّافعي: قولي (بيع لم يوجد فيه سوى الرضى فلا ينعقد) لم أبْنِ فيه مذهبي على وجود الرضى، وإنما بنيته على عدم الصيغة، والمعاملات تنعقد بالصيغة.

ومن صور فساد الوضع عندهم كون الوصف (الجامع) ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم أو ضده، أعني الحكم في قياس المستدل، ومثالهم المشهور لهذا تركناه؛ لأن فيه عندنا نظرًا ونراه غلطًا، ومثل له بعضهم بأن يقال في التيمم: مسْحٌ فيُسن فيه التكرار كالاستنجاء، فيقول المعترض: المسح لا يناسب التكرار؛ لأنه

(1/335)

________________________________________

ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف.

والجواب عن هذا النوع منه ببيان وجود المانع في أصل المعترض، فيقال في المثال المذكور: إنما كره التكرار في الخف لأنه يُعرّض الخف للتلف، واقتضاء المسح للتكرار باق.

تنبيه: اعلم أن فساد الوضع يشتبه بأمور لكنه يخالفها من بعض الوجوه:

فمن ذلك أنَّه يشبه النقض؛ لأن الوصف المعلَّل به فيه لما كان صالحًا لنقيض الحكم لزم من ذلك انتفاء الحكم، فإن كانت العلة تقتضي التغليظ مثلًا واستَدل بها المستدل على التخفيف فلا يخفى أن القادح بفساد الاعتبار يريد أن الحكم الذي هو التخفيف منْتفٍ مع وجود العلة المقتضية للتغليظ لصلاحها لنقيضه.

إلَّا أن في فساد الوضع زيادةً، [وهي] (1) أن الوصف هو الذي يثبت النقيض؛ لأن العلة المقتضية للتغليظ مثلًا هي بعينها التي أثبت بها المستدل التخفيفَ المنافي للتغليظ، وأما النقض فلا يُتعرض فيه لذلك، بل يكفي فيه ثبوت منافي الحكم مع الوصف، فلو قُصد به ذلك لكان هو النقض.

وفساد الوضع أيضًا يشبه القلب من حيث إنه إثبات ما ينافي الحكمَ بعين علة المستدل، إلَّا أنَّه يفارقه في شيء وهو أن صاحب القلب يثبت

__________

(1) في المطبوع: (وهو).

(1/336)

________________________________________

ما ينافي الحكم بأصل المستدل، وهذا يثبته بأصل آخر، فلو ذكره بأصله لكان هو القلب.

وفساد الوضع أيضًا يشبه القدح في المناسبة من حيث إن موجِّه القدحِ به نافٍ لمناسبة الوصف للحكم [بمناسبة] (1) الوصف لنقيض الحكم، إلَّا أنَّه لا يقصد هنا بيان عدم مناسبة الوصف للحكم، بل بناء نقيض الحكم عليه في أصل آخر، فلو بيَّن مناسبته لنقيض الحكم بلا أصل لكان قدحًا في المناسبة.

فتحصّل مما ذكرنا أن ثبوت المنافي مع الوصف نقض، فإن زِيدَ ثبوتُه بالوصف فهو فساد الوضع، وإن زيد كونه به وبأصل المستدل فقلب، وبدون ثبوته معه فالمناسبة.

ومعلوم أن القدح بالمناسبة لا يكون إلَّا إذا كانت وجهة نظر كل من الخصمين متحدة، فإن اختلفت فلا قدح بعدم المناسبة، كنظر الحنفي إلى الرفق بالمالك في قوله [بالتراخي] (2) في الزكاة، ونظر غيره إلى حاجة المسكين في قوله بوجوب الزكاة على الفور، ونحو ذلك.

والظاهر أن فساد الوضع بالنسبة إلى البحث والمناظرة يمكن رجوعُه إلى النقض، لأن النقض في البحث والمناظرة شامل لكل تخلف للمدلول عن دليله، وما يدل على التغليظ يتخلف عنه الحكم

__________

(1) في المطبوع: (لمناسبة)، والمثبت هو الأليق بالسياق.

(2) في المطبوع: (بالتراضي)، وهو خطأ.

(1/337)

________________________________________

بالتخفيف، إلى آخر الأقسام.

ويمكن رجوعه إلى المعارضة؛ لأن المقتضي للتغليظ مثلًا المستدَلَّ به على التخفيف معارَضٌ بأن التخفيف يستلزم عدم مقتضي التغليظ، فكان المعارض يقول: دليلك هذا مُقتضٍ للتغليظ، ولا شيء من مقتضي التغليظ يقتضي التخفيف، ينتج: دليلك هذا لا يقتضي التخفيف، وهذه النتيجة نقيض الدعوى المستدل عليها.

(1/338)

________________________________________

فصل في السؤال التاسع

وهو القادح المعروف في الأصول بالتقسيم، وهو قادح عند الجمهور في الدليل، ومنع قوم القدح به.

وضابط التقسيم هو أن يحتمل لفظٌ مُورَدٌ في الدليل معنيين أو أكثر، بحيث يكون مترددًا بين تلك المعاني، والمعترض يمنع وجود علة الحكم في واحد من تلك الاحتمالات.

كأن يقول مشترط النية في الوضوء: الطهارة قربة فتُشترط فيها النية كغيرها من القرب، فيقول المعترض كالحنفي: الطهارة تنقسم إلى النظافة من الخبث، وإلى الأفعال المعروفة المخصوصة التي هي الوضوء شرعًا، والأول ممنوعٌ كونُه من القرب التي هي علة وجوب النية.

ومن أمثلته أن يُستدل على ثبوت الملك للمشتري في زمن الخيار بوجود سبب الملك وهو البيع، فيقول المعترض: البيع الذي هو سبب الملك ينقسم إلى قسمين: أحدهما مطلق البيع، الصادق بما فيه شرط، والثاني البيع الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع كونُه علةً للملك، والثاني مسلم ولكنه مفقود في محل النزاع.

ويشترط لصحة التقسيم شرطان:

الأول: أن يكون ما ذكره المستدل منقسمًا إلى ما يمنع وغيرِه، فلو زاد المعترض وصفًا لم يذكره المستدل لم يُقبل منه.

(1/339)

________________________________________

والثاني: أن يكون التقسيم حاصرًا لجميع الأقسام، فإن لم يحصرها فللمستدل أن يتبين أن مَوْرِدَه غيرُ ما عيّنه المعترض بالذكر.

ووجه قبول القدح بالتقسيم أن اللفظ إذا احتمل أمرين أحدُهما باطل فهو محتمل البطلان، فلا تنهض به حجة.

ووجه رد القدح به أن احتمال البطلان لا يبطل الدليل.

والجواب عن القدح بالتقسميم كالجواب عن الاستفسار المتقدم، وهو أن يبين أن لفظه لا يحتمل إلا ذلك المعنى، أو أنه أظهرُ فيه، وقد أوضحناه [بأمثلته] (1) في الكلام على الاستفسار (2).

وتطبيق هذا القادح على الاعتراض في البحث والمناظرة هو أن التقسيم منع، ولكنه منع خاص؛ لأنه منع لا يأتي إلا بعد تقسيم.

ووجهه أن يقول: دليلك هذا منقسم إلى ما يحقق بطلانه وإلى غيره، وكل دليل كان كذلك فلا تنهض به حجة، ينتج: دليلك لا تنهض به حجة، فالصغرى تضمنت تقسيما، والكبرى تضمنت منعًا بعد التقسيم.

__________

(1) في المطبوع (بأمثلة)، والمثبت أقرب.

(2) ص 260، 261.

(1/340)

________________________________________

فصل في السؤال العاشر

وهو القادح المعروف في الأصول بعدم التأثير، أي عدم تأثير الوصف في الحكم.

وضابطه أن يُذكر في الدليل ما يُستغنى عنه، وهو أربعة أقسام، وبعضهم يجعله ثلاثة بإسقاط الرابع الآتي:

الأول من أقسامه: هو المسمى بعدم التأثير في الوصف، وضابطه أن يكون الوصف طرديًا لا مناسبة فيه أصلًا، كقول الحنفي في صلاة الصبح: صلاةٌ لا تُقصر، فلا يقدم أذانها على الوقت كالمغرب، فعدم القصر طردي في تقديم الأذان؛ لأن الصلوات التي تُقصر لا يقدم أذانها على الوقت.

وحاصل هذا القسم منع كون الوصف علةً لكونه طرديًا، وهو أحد أقسام المنع المتقدمة.

الثاني من أقسامه: هو المسمى بعدم التأثير في الأصل، وضابطه إبداء المعترض علةً لحكم الأصل غيرَ علة المستدل. بشرط كون المعترض يرى منع تعدد العلة لحكم واحد، أما إن كان يرى جواز ذلك فلا يصح قدحُه بهذا القسم؛ لجواز صحة كلتا العلتين.

ومثاله أن يقال في بيع الغائب: بيعُ غيرِ مرئي فلا يصح بيعه، كالطير في الهواء، فيقول المعترض: لا أثر لكونه غير مرئي في الأصل؛ فإن العجز عن التسليم كاف في عدم الصحة، وعدمها واقع مع الرؤية، وهذا القسم راجع إلى المعارضة في الأصل كما تقدم

إيضاحه.

القسم الثالث من أقسامه: هو المسمى بعدم التأثير في الحكم، وهو ثلاثة أضرب:

الأول منها: ألا يكون لذكره فائدةٌ أصلًا، ومثّلوا له بقول الحنفي في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا بدار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي، ودار الحرب عندهم لا أثر لذكرها في الأصل ولا في الفرع؛ لأن من أوجب الضمان ومن نفاه لم يفرق أحدٌ منهم بين دار الحرب وغيرها.

وهذا راجع إلى القسم الأول، وهو منع كون الوصف علةً لكونه طرديًا، فالمعترض يطالب المستدِل بتأثير كون الإتلاف في دار الحرب، والذي عليه المحققون فسادُ العلة بذلك، وذهب بعضهم إلى صحة التمسك به، ولا يخفى ما فيه.

الضرب الثاني: أن يكون لذكر الوصف فائدةٌ ضرورية، كقول معتبر العدد في الاستجمار بالأحجار: عبادةٌ متعلقة بالأحجار لم تتقدمها معصية، فاعتُبرَ فيها العددُ قياسًا على رمي الجمار. فقوله (لم تتقدمها معصية) عديم التأثير في الأصل والفرع، لكنه مضطر إلى ذكره [ليحترز] (1) به عن الرجم؛ لأنه عبادة متعلقة بالأحجار ولم يُعتبر فيها العدد، لكنها تقدمتها معصية هي الزنى بعد الإحصان.

__________

(1) في المطبوع: (يحترز)، والمثبت هو المناسب للسياق.

الضرب الثالث: أن يكون لذكر الوصف فائدة غيرُ ضرورية، كأن يقول: الجمعة صلاة مفروضة فلا تفتقر في إقامتها إلى إذن الإمام الأعظم كالظهر. فقوله (مفروضة) لو حُذف لما ضر، لكنه ذُكر لفائدة تقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبه بينهما؛ إذ الفرض أشبه بالفرض منه لغيره.

ومنع قوم رد ما ذُكر لفائدة، وله اتجاه.

القسم الرابع من أقسامه: هو المسمى بعدم التأثير في الفرع، كأن يقال في تزويج المرأةِ نفسَها: بغير إذن وليها فلا يصح، كما لو زُوجت من غير كفء.

فيقول المعترض: كونه غيرَ كفءٍ لا أثر له، لأن النزاع واقع في تزويجها من كفء ومن غير كفء، وحكمُهما سواء فلا أثر له.

ومرجعه إلى المعارضة بوصف آخر وهو (تزويج) فقط، ولهذا حَذف بعضُهم هذا القسم الرابع؛ لأنه راجع إلى منع التأثير في الأصل.

وقد عرفتَ مما ذكرنا أن أقسام القادح المسمى بعدم التأثير راجعةٌ إلى شيئين لا ثالث لهما: أحدهما: منع كون الوصف علة لكونه طرديًا. والثاني: المعارضة بإبداء وصف آخرَ صالحٍ للتعليل، وتطبيقُ المنع والمعارضة في هذا القادح على ما مر في البحث والمناظرة واضح.

واعلم أن القدح بهذا القادح المسمى في الأصول بعدم التأثير

يُشترط في القدح به أن يكون القياسُ قياسَ علة، فلا يُقدح به في قياس الشبه، ولا في الطرد على القول باعتباره، ويُشترط فيه أيضًا أن تكون العلةُ مستنبطةً مختلفًا فيها، فلا يُقدح به في علة منصوصة، ولا مستنبطةٍ مجمع عليها.

واعلم أن القادح المسمى في الأصول بالمطالبة والقادحَ المسمى بالتركيب تركنا ذكرهما لأنهما داخلان في أقسام المنع التي أوضحناها، فذكرهما تَكرار محض مع ذكر أقسام المنع؛ لأن المطالبة هي بعينها منعُ كون الوصف (1)، وقد أوضحناهما وبينا أنهما من أقسام المنع.

__________

(1) سياق الكلام يوحي بوجود سقط هنا لعل هذا معناه: [موجودًا في الأصل، والتركيبَ هو بعينه منع كون الوصف علةً للحكم]. وانظر ما سبق ص 313، 314.

فصل في السؤال الحادي عشر

وهو القادح المسمى في الأصول بالقول بالموجَب، وضابطه تسليم المعترض دليل الخصم مع بقاء النزاع، وذلك بجعل الدليل الذي سلّمه ليس هو محل النزاع، فلا يلزم من صحته وتسليمه صحةُ مذهب المستدِل به، كقوله -تعالى-: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فابن أبيٍّ في هذه الآية الكريمة استدل على أنه يُخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه من المدينة بأن الأعزَّ قادر على إخراج الأذل، والله -جل وعلا- سلّم له هذا الدليل مبينًا أنه لا ينفعه في محل النزاع؛ لأنه هو الأذل المقدور على إخراجه، وذلك في قوله -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ} الآية.

واعلم أن القول بالموجَب عند الأصوليين يقع على أربعة أوجه:

الوجه الأول: أن يرد لخلل في طرف النفي، وذلك أن يستنتج المستدِل من الدليل إبطال أمر يُتوهم منه أنه مبنى مذهبه، فلا يلزم من إبطاله إبطالُ مذهبه، وأكثر القول بالموجِب من هذا النوع.

كأن يقال في وجوب القصاص بالمثقل: التفاوت في الوسيلة من آلات القتل وغيره لا يمنع القصاص، كالمتوسل إليه من قتل أو قطع أو غيرهما: لا يمنع التفاوتُ فيه القصاص، فتفاوت الآلات ككونه بسيفٍ أو رمحٍ أوغيرِهما، وتفاوتُ القتل ككونه بحزِّ عنقٍ أو قطع عضو، وتفاوت القطع ككونه بحزّ المِفصل من جهةٍ واحدةٍ أو من جهتين، أو

بغير ذلك.

فيقول المعترض كالحنفي: سلّمنا أن التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص، ولكن لا يلزم من إبطال مانعٍ انتفاءُ جميع الموانع ووجودُ جميع الشروط بعد قيام المقتضي. وثبوت القصاص متوقف على جميع ذلك، فقول المستدل (لا يمنع القصاص) نفي، ولأجل ما وقع فيه من الخلل ورد القول بالموجِب، فكان الحنفي يقول للمستدل: ما توهمتَ أنه مبنى مذهبي في القصاص في القتل بالمثقل ليس هو مبناه، فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبي، بل مبنى مذهبي شيء آخرُ لم تتعرض له في اعتراضك، ومعلوم أن موجِب منع الحنفي القصاص في القتل بالمثقل عدمُ تحقق العلة التي هي قصد القتل، فهو عنده من الخطأ شبه العمد؛ إذ لا يلزم من قصدِه ضربَه بالمثّقل قصدُه إزهاقَ روحِه [عنده] (1).

الوجه الثاني: أن يقع على ثبوت، وضابطه أن يستنتج المستدِل من الدليل ما يُتوهم منه أنه محلُ النزاع أو مُلازمُه ولا يكون كذلك.

كأن يقال في القصاص في القتل بالمثقّل: قتلٌ بما يَقتل غالبًا لا ينافي القصاص، فيجب فيه القصاص قياسًا على الإحراق بالنار.

فيقول المعترض كالحنفي: سلّمنا عدمَ المنافاة بين القتل بمثقّل وبين ثبوت القصاص، ولكن لم قلت (إن القتل بمثقل يستلزم القصاص) وذلك هو محل النزاع، ولم يستلزمْه دليلُك، وهو العلة التي

__________

(1) في الأصل: عنه، وما أثبتّه هو الموافق للسياق.

هي قوله (قتل بما يقتل غالبًا لا ينافي القصاص)، فقوله (يجب فيه القصاص) ثبوت، ولأجل ما ورد فيه من الخلل عنده وقع عليه القول بالموجب المذكور.

الوجه الثالث: أن يقع لشمول لفظ المستدل صورةً متفقًا عليها، فيحمله المعترض على تلك الصورة، ويبقى النزاع فيما عداها.

كقول الحنفي في وجوب زكاة الخيل: حيوان يُسابق عليه فتجب فيه الزكاة كالإبل.

فيقول المعترض: أقول به إذا كانت الخيل للتجارة، وهذا أضعف أنواعه؛ لأن المستدل يقول: عنيت وجوب الزكاة في رقابها.

الوجه الرابع: أن يقع لأجل سكوت المستدِل عن مقدمة غيرِ مشهورة؛ مخافةَ منع الخصم لها لو صرح بها.

كقول مشترط النية في الوضوء والغُسل: كل ما هو قُربة تُشترط فيه النية كالصلاة، ويسكت عن المقدمة الصغرى التي هي: الوضوء والغسل قُربة.

فيقول المعترض كالحنفي: أُسلّم أن كل ما هو قربة تُشترط فيها النية، ولا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء والغُسل.

فلو صرح المستدل بالصغرى فمنعها المعترض خرج عن القول بالموجِب.

وبعضهم يقول في هذا المثال: السكوت عن مقدمة مشهورة.

ووجه الأول أن المشهورة كالمذكورة، فكأنها غير مسكوت عنها لشهرتها، وهذا النوع من القول بالموجَب إنما ورد على السكوت عنها. ووجه قول من قال (عن مقدمة مشهورة) هو أن الشهرة هي سبب جواز الحذف؛ لأن حذف غير المشهور قد يؤدي إلى عدم فهم الكلام.

واعلم بأن بعض أهل الأصول يقول: إن القول بالموجَب والقلبَ كلاهما معارضة في الحكم. وقد ذكرنا أنه الصواب في القلب سابقًا، وجعلهما الفخر الرازي (1) من القوادح في العلة.

وأظهرُ القولين أنه إن قال: (هذا الذي نفيتَ ليس مبنى مذهبي) أنه يُصدّق في ذلك، فإن استنتج من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو مُلازمُه فقال المعترض: (ليس هو محل النزاع ولا ملازمًا له) فجوابه عن هذا أن يُثبت أنه هو محل النزاع أو ملازم له بطريق من طرق الإثبات.

والحق أن القول بالموجَب يرِدُ على جميع الأدلة، قياسًا كان الدليل أو غيرَه، فقول الرازي إنه من القوادح في العلة لا يظهر كلَّ الظهور؛ لأنه أعم من ذلك.

وتطبيق القول بالموجَب على الاعتراض في البحث والمناظرة أنه شبيه بالنقض؛ لأن المعترض يقول: دليلك مسلّم، ولكن الحكم الذي هو مدلولُه متخلّف عنه، وتخلف المدلول عن الدليل نقض في البحث والمناظرة، ولكنه عندهم مبطل للدليل؛ لأن تخلف المدلول عندهم

__________

(1) سبقت ترجمته ص 13.

مبطل للدليل، كما تقدم إيضاحه (1).

والقول بالموجَب يتخلف فيه المدلول في دعوى المعترض عن الدليل، مع اعتراف المعترض بتسليم نفس الدليل، ومن هنا خالف النقضَ وإن أشبهه من حيث تخلفُ المدلول عن الدليل في كل منهما، والأقرب أنه من نوع المعارضة؛ لأن المعترض يعارض دليل الخصم بدليل آخرَ يقتضي أن دليله في [غير] (2) محل النزاع.

ولو قيل إنه نوع خاص من المنع: وهو منع بعد تسليم دليل المستدل، وهذا المنع منع لكون دليله في محل النزاع = لكان له وجه. والعلم عند الله -تعالى-.

وهذا الذي بيناه هنا القولُ بالموجَب في اصطلاح أهل الأصول، ولم نتعرض للقول بالموجب في اصطلاح البلاغيين، وهو عندهم نوع من البديع المعنوي، وقد أوضحناه بأمثلته في رسالتنا في منع المجاز في القرآن.

__________

(1) ص 234.

(2) ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.

فصل في السؤال الثاني عشر

وهو القادح المعروف في الأصول بالقدح في إفضاء الحكم إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم.

وضابطه الاعتراض بان المصلحة التي شُرع من أجلها الحكم لم يفض إليها الحكم.

ومثاله أن يقال في علة مصاهرة المحارم على التأبيد: إنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب، ووجه المناسبة أنه يفضي إلى رفع الفجور؛ لأن التأبيد التحريم يقطع الطمع، وقطع الطمع في النكاح يجعل المحرمة بالمصاهرة لا تتوق النفس إليها؛ لأنها بذلك تصير كالأخت والأم، فلا ينظر إليها نظرة شهوة، ولا يكون بينه وبينها ما يدعو إلى الريبة.

فيقول المعترض: هذا الحكم لم يفض إلى المصلحة المقصودة؛ لأن قطع الطمع في النكاح أدعى إلى الفجور؛ لأن النفس حريصة على ما مُنعت منه، كما قال الشاعر (1):

مُنعتَ شيئًا فأكثرتَ الولوعَ به ... أَحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنعا (2)

وقوة داعية الشهوة مع اليأس من حلّية النكاح مظنة الفجور.

والجواب عن هذا الاعتراض ببيان إفضاء الحكم إلى المصلحة،

__________

(1) المشهور بيت الأحوص الأنصاري:

وزادني كلفًا في الحب أن مَنَعتْ ... وحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا

(2) انظر ديوانه: 195.

كأن يقول في هذه المسألة: تأبيد التحريم يمنع عادةً من مقدمات الهم والنظر، وبالدوام يصير كالأمر الطبيعي، فلا يبقى المحل مشتهىً، كالأمهات والأخوات، كما هو مشاهد، ولا شك أن اليأس له أثر كبير في صدود النفس عما يئست منه، كما قال بعض المتأخرين من أدباء قُطْر شنقيط، وهو خال والدي شقيقُ أمه:

فكن يائسًا منها ففي اليأس راحةٌ ... وإن رسيس الشوق يطردُه اليأسُ

وهكذا يصح مثالًا لا شاهدًا؛ لتأخر قائله.

وكونُ اليأس يُريح من الطمع أمر معروف مشهور في شعر العرب، ومنه قول امرئ القيس:

أبيني لنا إن الصَريمة راحةٌ ... من الأمر ذي المخلوجة المتلبّسِ (1)

فإن معنى بيته أنها إن صرّحت له بالصريمة والقطيعة استراح من الطمع الذي لا يدري صاحبه أيحصل على شيء أم لا.

ووجه تطبيق هذا القادح في البحث والمناظرة ظاهر؛ لأنه منع؛ إذ المعترض يمنع فيه حصولَ المصلحة المقصودة بتشريع الحكم. وقد قدمنا لك أن جميع القوادح راجعة إلى المنع والمعارضة. وبعضهم يقول: إنها كلها راجعة إلى المنع.

__________

(1) ديوانه: ص 136، دار إحياء العلوم، 1410 هـ وفيه (الشك) موضع (الأمر).

فصل في السؤال الثالث عشر

وهو القادح المعروف في الأصول بكون الوصف خفيًّا غير ظاهر، كقول المالكية في انعقاد البيع بالمعاطاة دون صيغة دالة عليه: هذا البيع حصل فيه الرضا، وكل بيع كان كذلك فهو صحيح، فهذا البيع صحيح.

وكأن يقال: هذا القتل عمدٌ عدوان، وكل قتل كان كذلك يجب فيه القصاص، فهذا القتل يجب فيه القصاص.

فيقول المعترض: الرضا في العقود والقصد في الأفعال مثلًا كلاهما أمر خفي؛ لأنه شيء كامن في باطن الشخص، فقد يُظن عامدًا وهو ليس كذلك، وقد يُظن راضيًا وهو ليس كذلك.

فالجواب عن هذا القادح ضبطُه بصفة ظاهرة، كضبط الرضا بصيغ العقود، وضبط العمْد بفعل يدل عليه عادة، كاستعمال السلاح كالسيف والرمح في القتل.

والقصد مطلق المثال وهذا القادح راجع إلى المنع كما لا يخفى؛ لأنه مُنع فيه ظهور الوصف.

فصل في السؤال الرابع عشر

وهو القادح المعروف في الأصول بكون الوصف غيرَ منضبط، كأن يقول: العلة في قصر الصلاة رفعُ المشقة، والعلة في حد القذف مثلًا الزجر عن أعراض الناس.

فيقول المعترض: المشقة لا تنضبط؛ لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة، والزجر لا ينضبط؛ لاختلافه أيضًا باختلاف الأشخاص.

وقد يجاب عن هذا بإناطة المشقة بالمظنة كالسفر، وهو منضبط، وإناطة الزجر بالحدود مثلًا، وهي منضبطة.

وقد يجاب عن عدم الانضباط بأن العرف قد يصيّره منضبطًا؛ للرجوع للعرف في المسائل التي تختلف باختلاف الأحوال، وله اتجاه، فالعرف مثلًا قد يحدد المشقة التي يجوز بسببها الجلوس في الصلاة، وهكذا، وهذا القادح راجع إلى المنع كما لا يخفى.

فصل في السؤال الخامس عشر

وهو القادح المعروف في الأصول بمخالفة حكم الفرع لحكم الأصل، كأن يقول المستدل: لا يجوز أن يكون الصداق المعقودُ عليه النكاحُ عبدًا آبقًا، أو بعيرًا شاردًا، قياسًا على البيع في منع ذلك، بجامع العلة التي هي منع المعاوضة بما فيه غرر.

فيقول المعترض: الحكم في الفرع مخالف للحكم في الأصل حقيقة، وإن ساواه بدليلك صورةً، والمطلوبُ مساواته له حقيقة، فما هو مطلوبك ليس ما أفاده دليلُك، والدليل إذا نُصب في غير محل النزاع كان فاسدًا، كما تقدم إيضاحه في القول بالموجب؛ (1) لأن المقصود من الدليل إثبات محل النزاع.

وإيضاحه أن عدم الصحة في البيع [حرّم] (2) الانتفاعَ بالمبيع، وفي النكاح [حرّم] التلذذَ بالمنكوحة، فاختلفا.

والجواب عن هذا القادح هو أن البطلان شيء واحد، وهو عدم ترتيب المقصود من العقد عليه، وإنما اختلف المحل بكونه بيعًا ونكاحًا، واختلاف المحل لا يستلزم اختلافَ ما حل فيه، بل اختلاف المحل شرط في القياس ضرورة، فكيف يجعل شرطه مانعًا منه؟ فيلزم امتناعه أَبدًا.

__________

(1) راجع ص 345.

(2) في المطبوع: (حرمة) في الموضعين، والمثبت هو المناسب للسياق.

وهذا القادح راجع إلى المنع؛ لأن المعترض يمنع إفادة دليل المستدل مطلوبَه؛ لأنه في غير محل النزاع في دعوى الخصم، وهما مفترقان من حيث أن هذا لا يسلّم دليل خصمه، والقول بالموجَب يسلّم فيه دليل خصمه، ثم يمنع كونه في محل النزاع.

وقد اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرناها من القوادح؛ لأن ما تركناه راجع إلى ما ذكرنا، بل قد أوضحنا أنها كلها راجعة إلى المنع والمعارضة، أو المنع فقط، وأشرنا إلى تطبيقها في البحث والمناظرة عند الكلام على كل قادح.

فصل في إيضاح طرق مناظرة المتكلمين في الأدلة التي جاءوا بها

ونفوا بها بعض صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة ويكفينا في هذا البحث تطبيقُه في مثال واحد؛ لأن جميع الصفات حكمُها واحد، فإيضاح مثال واحد منها مستلزمٌ لإيضاح جميعِها؛ لأنها كلَّها من باب واحد؛ لأن الموصوفَ بها -جل وعلا- واحد، وهو منزه كلَّ التنزيه عن مشابهة الخلق في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، فإيضاح مثال واحد منها إيضاحٌ لها كلِّها.

وذلك المثال الذي نذكره في هذا الموضوع هو استواء الله -جل وعلا- على عرشه، فهو -سبحانه جل وعلا- أثنى على نفس في سبع آيات من كتابه (1) بأنه استوى العرش، فهي صفة ثابتة ثبوتًا قطعيًّا بسبعة أدلة قرآنية صريحة، وهذه الصفة الكريمة المقدسة التي كرر الله في كتابه ثناءه بها على نفسه ينفيها من أصلها كثير من [المتكلمين] (2)، والذين ينفونها قصدُهم حسن، وهو تنزيه الله عن مشابهة خلقه، ولكن هذا القصد الحسنَ تلزمه الإساءةُ الكبرى والجناية العظمى من ثلاث جهات، كلُّ واحدة منها أكبرُ من أختها، فهم ينطبق عليهم بيت الإمام

__________

(1) الأعراف 45، يونس 3، الرعد 2، طه 5، الفرقان 59، السجدة 4، الحديد 4.

(2) في المطبوع: (المتعلمين)، و (المتكلمون) مصطلح يتناول كل من اشتغل بتقرير العقائد الإسلامية بالطرق العقلية على خلاف منهج السلف.

الشافعي -رحمه الله-:

رام نفعًا فضرَّ من غير قصدٍ ... ومن البرِّ ما يكون عقوقًا (1)

وسيأتي إيضاح تلك الإساءةِ الكبرى من الجهات الثلاث المذكورةِ في الخاتمة، في المقارنة بين مذهب السلف وما يسمّونه مذهب الخلف، إن شاء الله -تعالى-.

فالمتكلمون النافون لبعض صفات الله -جل وعلا- الثابتة له في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ينفون إستواءَهُ على عرشه فيقولون: (لم يستو على العرش)، وهذه الدعوى المخالفةُ لصريح القرآن في سبعة مواضع منه ينتجونها من قياس منطقي استثنائي، وقد يجعلونه اقترانيًا، وسنذكر قياسهم المذكور ونبينُ وجهَ بطلانه في الاستثنائى والاقتراني:

أما صورة الاستثنائي فإنهم يقولون: لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوقات؛ لأن الاستواء على المخلوق من صفات المخلوق، لكنه غيرُ مشابهٍ للمخلوقات، ينتج عندهم: هو ليس مستويًا على العرش.

وهذه النتيجة من أعظم الافتراء على اللهِ وأشنع الكذب؛ لأنها تكذّب سبعَ آيات من القرآن العظيم.

وإيضاح إبطال هذا الدليل الذي أنتج هذا الباطل الأعظمَ من أَوجه متعددة:

__________

(1) ديوانه: ص 67، دار إحياء التراث العربي، 1403 هـ.

الأول: منع كبراه وهي الشرطية فنقول: قولكم: (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوق) شرطية متصلة كاذبة؛ لأن الربط بين مقدَّمها وتاليها غيرُ صحيح، ومدار صدق الشرطية على صدق الربط كما قدمنا إيضاحه، فإذا كان الربط بين المقدَّم والتالي غيرَ صحيحٍ كما هنا كانت الشرطيةُ غيرَ صحيحة، ولذلك أنتجت نقيض آيات القرآن، والتالي في هذه الشرطية أخصُّ من المقدَّم، والحكم بالأخص على الأعم لا يصدق إلا جزئيًّا، سلبًا كان أو إيجابًا، وسواءٌ كان الحكم معلقًا كما في الشرطيات أو غيرَ معلق كما في الحمليّات، بل هو -تعالى- مستوٍ على عرشه كما قال، مع التنزيه التام عن مشابهة المخلوق في استوائه؛ لأن استواءه كسائر صفاته وكذاته في تنزيه الجميع عن مشابهة الخلق، فدعوى أن استواءه على عرشه تلزمه مشابهة المخلوق دعوى كاذبةٌ كذبًا لا يماثله كذبٌ في الشناعة.

ومما يوضح هذا أنه لو قال معطل آخر: لو كان سميعًا بصيرًا لكان مشابهًا للمخلوق الذي يسمع ويُبصر، لكنه ليس مشابهًا للمخلوق، ينتج له: فليس سميعًا ولا بصيرًا، وهذا القياس كالذي قبله؛ لأن كلا منهما قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة واستثنائية، استَثْنَى فيه المستدلُّ به نقيضَ التالي فأنتح له في زعمه الباطل نقيضَ المقدَّم، ولو كان الربط صحيحًا لكان الإنتاج صحيحًا، لكن الربط باطل فالإنتاج باطل، فلو قال من يثبت السمع والبصر: قولك لو كان سميعًا بصيرًا لا تلزمه مشابهةُ الخلق؛ لتنزيه سمعه وبصره عن مشابهه أسماع الخلق وأبصارهم. لقال له خصمه: وكذلك قولك (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوق) شرطية كاذبة الربط؛ لأن استواءه على

عرشه لا تلزمه مشابهةُ الخلق؛ لتنزيه استوائه عن مشابهة استواء الخلق = لألزمه وألقمه حجرًا (1)؛ إذ لا فرق البتةَ بين الاستواء وبين السمع والبصر في أن كل ما وُصف به الله منها منزَّهٌ كلَّ التنزيه عن مشابهة صفات الخلق.

وما وُصف به المخلوق لائق بالمخلوق ولا يليق بالخالق البتة، والفرق بين الصفة والصفة كالفرق بين الذات والذات، والصفات كلها من باب واحد، وكذلك الصفات والذات، فما أُضيف من جميع ذلك للمخلوق فهو حق، وهو مناسب لذات المخلوق، وما وصف به منها الخالق لائقٌ بذات الخالق، منزّهٌ عن مشابهة صفات المخلوق.

فتبين أن القياس الشرطي المذكور الذي نفوا به صفة الاستواء كاذبُ الكبرى، وهي شرطية، والنتيجة تكذب لكذب كل واحدة من المقدمتين.

وتبين أن صاحبه يلزمُه مثلُه في كل ما يُقِر به من الصفات، كما مثلنا له بالسمع والبصر آنفًا.

الوجه الثاني من أوجه إبطاله: أنه قياس فاسد الاعتبار؛ لمخالفته سبعَ آيات من القرآن العظيم، وكل ما خالف القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بلا شك.

الوجه الثالث: معارضته بدليلٍ حقٍّ ليس فيه شائبةُ كذبٍ المعارضةَ

__________

(1) هذا جواب الشرط في أول الفقرة: (لو قال معطل آخر).

المعروفةَ بالمعارضة بالمثل، كأن يقال: لو كان غير مستوٍ على عرشه لما مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه، لكنه مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه، ينتج: هو مستوٍ على عرشه كما قال.

وهذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية، استُثنيَ فيه نقيضُ التالي فأنتج نقيضَ المقدم إنتاجًا صحيحًا موافقًا للوحي؛ لصحة الربط بين مقدَّم الشرطية فيه وتاليها، فهي معارضة بالمثل أنتجت الحق الصحيح المطابقَ لكلام رب العالمين، الذي هو نقيض الباطل الذي أنتجه الدليل الباطل.

فتحصل أن قول نافي الاستواء: (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للخلق) باطلٌ من جهات كثيرة: منها على طرق المناظرة منعُ كبرى الدليل، ومنها معارضتُه بمثله، ومنها نقضُه في الجملة باستلزام مثله المحال؛ لأن مثلَه مستلزمٌ نفي السمع والبصر بنفس الدليل المذكور، ونفيُهما محال، وكل دليل أَدّى إلى المحال فهو محال، وذلك في فن البحث والمناظرة من صور النقض الإجمالي كما تقدم إيضاحه (1)، لكنه هنا ليس نقضًا محضًا، ولكنه يشبهُهُ شبَهًا قويًّا، من حيث إن المحال يستلزمه مماثل الدليل لا نفسُ الدليل.

(فبان) أن استواءه -جل وعلا- على عرشه لا تلزمه مشابهةُ المخلوق البتة، بل هو -تعالى- قد استوى على عرشه كما قال من غير

__________

(1) ص 234.

مشابهة ولا مماثلة لاستواء المخلوق.

والاعتراف بهذا يَلزم الخصم لزومًا لا تخلّص له منه؛ لاعترافه بنظيره في كونه -تعالى- سميعًا بصيرًا قادرًا مريدًا إلخ، وأنه لم يلزم من ذلك مشابهةُ المخلوقات التي تسمع وتبصر وتَقْدِرُ وتريد.

وكلهم (1) يعترفون بأنه موجودٌ والمخلوقَ موجود، ولم تلزم من ذلك المشابهة، والجميع من باب واحد، والفرق بين صفة وصفة من ذلك لا وجه له البتة، ولا يقوم عليه دليل أبدًا كما لا يخفى.

وتبين أن قولهم (لو كان مستويًا على العرش لشابه الخلق) شرطيةٌ كاذبة، وأنها لا تصدق إلا جزئية، كما لو سُوِّرتْ بسور جزئي فقيل فيها: قد يكون إذا كان الشيء مستويًا على مخلوق كان مشابهًا للمخلوق؛ لأن الاستواء على المخلوق قسمان: قسمٌ تلزمه مشابهة المخلوق وهو استواء المخلوق، وقسمٌ لا يلزمه ذلك وهو استواء الخالق -جل وعلا-؛ لأنه لا يشبهه استواء المخلوق بوجه من الوجوه، كما أن سائر صفاته -جل وعلا- لا تشبه شيئًا من صفات المخلوقين، وكما أن ذاته -جل وعلا- لا تشبه شيئًا من ذواتهم، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

ووجه جعلهم الدليلَ المنتجَ لنقيض القرآن اقترانيًا هو أن يقول نافي الاستواء: قولُكم (هو مستوٍ على عرشه) لو جعلناه مقدمة صغرى وضمَمْنا إليها مقدمة صادقة كبرى فإن النتيجة تكون كاذبة، فانحصر

__________

(1) يقصد المؤلف -رحمه الله- من ينفي بعض الصفات أو جميعها.

الكذب اللازم من كذب النتيجة في الصغرى، وهي قولكم (هو مستوٍ على عرشه).

وإيضاحُه أنهم يقولون: هو مستوٍ على العرش، وكل مستوٍ على مخلوق عرشًا كان أو غيرَه فهو مشابه للمخلوق، ينتج عندهم: هو مشابه للمخلوق -سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا-، فيقولون: هذه النتيجة كاذبة بالضرورة، والقول بها كفر بواح -والعياذ بالله-، وكذبها لم ينشأ إلا من عدم صحة الصغرى التي هي قولكم (هو مستوٍ على العرش)؛ لأن الكبرى صادقة.

والجواب عن هذا بالمنع، وهو منع صدق الكبرى ومنع كذب الصغرى، وبيانِ أن الحق الذي لا شك فيه هو أن الكبرى التي جاؤوا بها وهي قولهم (وكل مستو على مخلوق فهو مشابه للمخلوق) كاذبة، ومن أجل كذبها جاءت النتيجة كاذبةً مناقضةً لسبع آيات من القرآن.

وهذه الكبرى لا تصدق أيضًا إلا جزئية، كما لو سُوِّرت بسور جزئي، كأن يقال: بعض المستوي على المخلوقُ مشابهٌ للمخلوق؛ لأن محمولها أخص من موضوعها، فلا يصدق الحكم عليه به إلا جزئيًّا، فقولهم (وكل مستوٍ على مخلوق مشابه للمخلوق) كليةٌ موجبةٌ مسورة بسور كلي إيجابي، وهي كاذبة السور، والمسورة تكذب لكذب سورها، كما تكذب الموجهة (1) لكذب جهتها، وقد بيّنا أن الاستواء على المخلوق قسمان: أحدهما لا تلزمه مشابهة المخلوق بوجه من

__________

(1) راجع ما سبق تعليقه عن القضايا الموجهة في ص 95, 225.

الوجوه، وهو استواء الخالق -جل وعلا- كما تقدم إيضاحه.

والدليل على أن الصغرى التي ادعوا كذبَها أنها هي الصادقةُ أن الله صرح بها في سبع آيات من كتابه، والله -جل وعلا- يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء: 87]، ويقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، ولا شك أنه لا أحدَ أصدقُ من الله، والصغرى صرَّح الله في كتابه العزيز بصدقها في سبعة مواضع منه، فتبين أن الكاذبة هي الكبرى التي جاءوا بها، ومن شدة كذبها صارت النتيجة كفرًا بواحًا -والعياذ بالله-، فزعموا للكاذبة الصدق، وادعوا على الصادقة الكذب، ولأجل هذا الافتراء جاءت النتيجة كاذبة.

وبإيضاح كذب الكبرى المذكورةِ تعلم أن كل قياس اقتراني جاؤوا به في الموضوع فبعض مقدماته كاذب يقينًا؛ لأن النتيجة كفر، وهي لا تكون كاذبة إلا بسبب كذب إحدى مقدمات الدليل.

ومثال كذب الكبرى هو ما رأيتَه.

ومثال كذب الصغرى قولهم: الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق، وكل ما كان [كذلك] (1) فهو ممنوع، ينتج لهم الباطل، وهو: الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق.

وبنحو هذا نعرف كيف يستدلون بالأدلة الباطلة، وينتجون بها ما يناقض القرآن.

__________

(1) في المطبوع: (كذب)، وهو خطأ.

وإبطال جعلهم الدليلَ اقترانيًا من جهات متعددة أيضًا: منها المنع كما أوضحناه آنفًا، ومنها كون دليلهم فاسدَ الاعتبار لمخالفته لسبع آيات من القرآن العظيم.

ومنها معارضتُه بالمثل كأن يقال: استواء الله على عرشه أثبته في كتابه، وكل ما أثبته الله في كتابه فهو حق لا شك فيه، ينتج من الشكل الأول: استواءُ الله على عرشه حق لا شك فيه، فهذا قياس اقتراني صحيح المقدمتينِ وصحيحُ صورة التركيب، ولذلك أنتج الحقَّ المطابقَ للوحي السماوي، فهو ينقض القياس الاقتراني الذي نفوا به صفة الاستواء بطريق المعارضة بالمِثْل؛ لأن كلا منهما اقتراني من الشكل الأول.

وكأن يقال: استواءُ الله على عرشه صَرّح في كتابه بالثناء على نفسه به، وكل ما كان كذلك فلا يلزمه محذور ولا باطل، ينتج من الشكل الأول: استواء الله على عرشه لا يلزمه محذور ولا باطل، وهذا أيضًا دليل اقتراني صحيح مطابق للقرآن، وهكذا.

فهذا النوع من إبطال هذه الأدلة الفاسدة مُطّرِد في جميع أدلتهم التي نفوا بها بعض صفات الله الثابتة بالوحي.

فصل في بيان عقيدة السلف الصحيحة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل

وقد أردنا أن نوضحها هنا باختصار، بأسلوب عربي خال من اصطلاح أهل المنطق وأهل البحث والمناظرة؛ لينفع الله بذلك من أراد هدايته من خلقه.

اعلم أن المعتقَد الصحيح المُنجيَ عند الله في آيات الصفات هو ما كان عليه السلف الصالح -رضي الله عنهم-، وهو مقتضى نصوص القرآن العظيم.

وهو مبنيٌّ على ثلاثة أسس، كلُها صرح الله به في كتابه عن نفسه، وصرح بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة، ولا يصف اللهَ أعلمُ بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]، ولا يصف اللهَ بعد الله أعلمُ بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

والأول من الأسس الثلاثة المذكورة هو تنزيه خالق السماوات والأرض -جل وعلا- من مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذا الأساس الأعظم للعقيدة الصحيحة صرح الله به في قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65] وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل: 74].

ومن وفقه الله لفهم هذا الأساس الأعظمِ ونزه خالقَه عن مشابهة الخلق تنزيهًا تامًّا جازمًا به قلبُه فإن قلبه يكون طاهرًا من أفذار التشبيه، وتكون عقيدتُه مبنية على أساس صحيح، وهو تنزيه خالق السموات والأرض عن مشابهة خلقه، في ضوء قوله -تعالى-: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}، ونحوها من الآيات، فإذا استحكم هذا الأساس الأعظمُ في قلب المؤمن كان استحكامه فيه سببًا لتوفيقه للأساس الثاني من الأسس الثلاثة التي ذكرنا.

ونعني بالأساس الثاني المذكور تصديقَ الله فيما أثنى به على نفسه، وتصديقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أثنى على ربه، والإيمانَ بتلك الصفات الثابتةِ في القرآن العظيم و [السنة] (1) الصحيحةِ إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه.

فهذان أساسان عظيمان: الأول تنزيه الله -تعالى- عن مشابهة خلقه، والثاني الإيمان بصفاته الثابتة في الوحي الصحيح إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه، بعيدًا كلَّ البعد عن مشابهة الخلق، وكيف يخطر في ذهن المؤمن العاقل مشابهةُ الخلق لخالقهم؟ فالصنعة لا تشبه صانعها بحال.

وهذان الأساسان أوضحهما الله في محكم كتابه إيضاحًا لا يترك في الحق لبسًا ولا شبهة، وذلك في قوله -تعالى-: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]؛ لأن قوله: {وَهُوَ

__________

(1) في المطبوع: (وللسنة).

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} بعد قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فيه سرٌ أعظمُ وتعليمٌ أكبر، في أوضح عبارة وأوجزِها، لا يترك في الحق لبسًا.

وإيضاح ذلك أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر صفتان يتصف بهما جميع الحيوانات -ولله المثل الأعلى-، فكأن الله يقول: يا عبدي، لا يخطرْ في عقلك أن سمعي وبصري يشابهان أسماع المخلوقين وأبصارَهم، حتى تقول: إن هذا النص يوهم غيرَ اللائق فتؤولَه أو تنفيَه، بل أثبتْ لي سمعي وبصري كما [أَثبتُّهما] (1) على نفسي، إثباتًا مبنيًّا على أساس التنزيه، ولاحظ في ذلك قولي قبله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}.

وهذا تعليم قرآني لا يتركُ في الحق لبسًا ولا شبهة، فأول الآية الكريمة الذي هو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} تنزيه تام من غير تعطيل، وآخرُها وهو قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان بالصفات من غير تشبيه ولا تمثيل، فيجب علينا أن نعتقد ما دل عليه أولها من التنزيه، وما دل عليه آخرُها من إثبات الصفات والإيمان بها على أساس ذلك التنزيه.

فلا نتنطع بين يدي خالقنا وننفي عنه صفة الكمال [التي] (2) أثنى بها على نفسه، ولا نشبّه خالقنا بخلقه، بل نجمع بين التنزيه أولًا, والإيمانِ بالصفات ثانيًا, حسبما دلت عليه آية {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ

__________

(1) في المطبوع: (أثبت بهما).

(2) ساقطة من المطبوع, والسياق يقتضيها.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}

والأساس الثالث هو أن تعلم أن العقول البشرية عاجزةٌ عن إدراك كيفية اتصاف الله -جل وعلا- بتلك الصفات؛ لأن قوله -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110] صريح في أن إحاطة علم البشر به -جل وعلا- منفية نفيًا باتًا قرآنيًا.

وهذه الأسس الثلاثة التي بينا أنها هي معتقد السلف الصالح وهي تنزيهُه -جل وعلا- عن مشابهة خلقه، والإيمانُ بما وصف به نفسه إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه، وكذلك ما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقطعُ الطمع عن الإحاطة بالكيفية -دل عليها كلِّها القرآن العظيم، وهو أصل الهدى ومنبع اليقين، وكلها طرق سلامة محققة لا شك فيها؛ لأنها كلَّها تَمسُّكٌ بالقرآن العظيم، ومن تمسّك به فقد تمسك بالعروة الوثقى.

ولا يؤمَنُ أن الله -جل وعلا- يومَ القيامة يسأل الجميع فيقول لهم: ماذا كنتم تقولون فيما أثنيت به على نفسي من الصفات، أو أثنى علي به رسولي - صلى الله عليه وسلم -؟ أكنتم تنفون وتدّعون أن ظاهره خبيثٌ غيرُ لائقٍ؟ أو كنتم تنزهونني وتصدقونني فيما أثنيت به على نفسي، أو أثني علي به رسولي - صلى الله عليه وسلم -؟ .

ولا شك أن من مات على العقيدة التي ذكرنا ولقي الله يوم القيامة على ذلك أنه آمنٌ من كل عذاب ومن كل توبيخ وتقريع يأتيه من قِبَل واحدٍ من تلك الأسس الثلاثة المذكورة في ضوء القرآن العظيم.

فلا يقول له الله: لمَ كنتَ تنزهُني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي؟ لا والله لا يقول له ذلك أبدًا؛ لأن ذلك الأساسَ طريقُ سلامة محققَّة كما ترى.

ولا يقول له الله: لمَ كنتَ في دار الدنيا تصدقُني فيما أثنيت به على نفسي وتصدقُ رسولي فيما أثنى به عليَّ وتؤمنُ بتلك الصفات إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه؟ لا والله لا يقول له ذلك؛ لأن هذا الأساس الثانيَ طريق سلامة محقّقة.

ولا يقول له الله: لمَ كنت في دار الدنيا تقول: إن البشر لا يحيطون بي علمًا؟

فهذه الأسسُ الثلاثة التي هي مذهب السلف كلُّها طريق سلامة محققة، وأدلتها ساطعة أنوارها من كتاب الله -جل وعلا-.

تنبيهان:

الأول: اعلم أنه إن قال معطل متنطع: نحن لا نعقل كيفية استواء مثلًا منزهةً عن مشابهة كيفية استواء الخلق، فبيّنوا لنا كيفية معقولة منزهة عن مشابهة كيفيات استواء الخلق لنعتقدها؛ لأنا لم تدرك عقولُنا كيفية استواء منزهة عن ذلك، فالجواب من وجهين:

الأول: أن يقال: هل عرفت كيفيةَ الذات الكريمةِ المقدسةِ المتصِفةِ بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فإن قال لا قلنا له: معرفةُ كيفية الاتصاف بالصفات متوقفةٌ على معرفة كيفية الذات؛ لأن الصفاتِ تختلف باختلاف موصوفاتِها، فكل صفة بحسب موصوفها، ألا ترى -

ولله المثل الأعلى- أن لفظة رأس مثلًا إذا أضفتَها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وأضفتها إلى الوادي فقلت: رأس الوادي، وأضفتها إلى الجبل فقلت: رأس الجبل، وأضفتها إلى المال فقلت: رأس المال، أن لفظة الرأس واحدة، وأنها اختلفت حقائقُها اختلافًا عظيمًا بحسب اختلاف إضافاتها، وهذا في اختلاف الإضافات إلى مخلوقات حقيرة، فما بالك بالاختلاف الواقع بين ما أضيف إلى الخالق وما أضيف إلى خلقه، فالفرق بين ذلك كالفرق بين ذات الخالق وذوات المخلوقين.

الوجه الثاني: هو أن تقول: هل عرفتم كيفيةً منزهة عن مشابهة الخلق في السمع والبصر مثلًا؛ فلا بد أن يقولوا أيضًا: لا، ولكنا نعلم أن سمع الله وبصره منزهان عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم. فإن قالوا ذلك قلنا: ونحن نقول مثل ذلك في الاستواء وسائر الصفات الثابتة بالوحي الصحيح.

التنبيه الثاني: اعلم أنه إن قال معطل متنطع: إن القرآن العظيم نزل بلغة العرب، والاستواء في لغتهم هو هذا الذي نشاهده في استواء المخلوقين، فإثباته دله يستلزم التشبيه بالخلق بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن، فالجواب من وجهين أيضًا:

الأول: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يعلمون كلَّ العلم من معاني لغتهم أن بين الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق والمحيي والمُحيىَ والمميت والمُمَات إلى آخره فوارقَ عظيمةً هائلةً مستلزمةً للاختلاف التام بين صفات الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق. وأن

أصل اللغة يقتضي أن تكون صفةُ كل منهما مناسبةً لحاله، فعظمة صفة الخالق كعظمة ذاته، وانحطاط صفة المخلوق عنها كانحطاط ذاته عن عظمة ذاته، وما كان يلتبس ذلك على عوام المسلمين في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فما كان يخطر في عقولهم مشابهةُ صفة الخالق لصفة خلقه، بل يعلمون أن صفة الخالق لائقةٌ به، وصفةَ المخلوق لائقةٌ به، والفرق بينهما كالفرق بين الذات والذات.

الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يعرفون للسمع والبصر مثلًا كيفية إلا هذا المعنى المشاهد في المخلوقين بالحاسة التي هي جارحة، فيلزم قولَكم أن يكون إثبات السمع والبصر ونحوهما من الصفات يستلزم التشبيه بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن.

فإن قالوا لا يلزمُ من كون الوضع العربي يراد فيه بمعنى السمع والبصر ما هو مشاهد في المخلوقات أن يكون سمعُ الله وبصرُه مشابهين لأسماع الخلق وأبصارهم؛ [لتنزّه] (1) صفاته عن مشابهة صفاتهم، قلنا: وكذلك نقول في الاستواء ونحوه، ولا وجه البتة للفرق بين السمع والبصر وبين الاستواء، والمشاهدُ من الجميع في المخلوقات لا يليق بالله -جل وعلا-، والذي اتصف الله به من الجميع منزه عن مشابهة صفات الخلق، كتنزيه سائر صفاته وذاته عن مشابهة صفات الخلق وذواتهم.

ولا يخفى أنه -جل وعلا- وصف نفسه بالقدرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى

__________

(1) في المطبوع: (لتنزيه)، والمثبت هو اللائق بالسياق.

كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} ووصف بعض المخلوقين بالقدرة فقال: {إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ} [المائدة: 34]، ووصف نفسه بالسمع والبصر فقال {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75] ووصف بعض المخلوقين بالسمع والبصر في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2]، ووصف نفسه بالحياة فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} الآية [البقرة: 255 {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، ووصف بعض خلقه بالحياة فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19 {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ}، {وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 15] وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، ووصف نفسه بالاستواء على العرش في سبع آيات من كتابه، ووصف بعض خلقه بالاستواء أيضًا كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيتُمْ عَلَيهِ} [الزخرف: 13] وكقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، فاستواؤه وقدرته وسمعه وبصره وحياته وسائر صفاته منزهة عن مشابهة صفات المخلوقين، واستواء المخلوقين وسمعُهم وبصرهم وقدرتهم وإرادتهم كل ذلك مناسب لحالهم، وبين صفاته -تعالى- وصفاتهم في الجميع كالفرق الذي بين ذاته وذواتهم، فافهم ما ذكرنا وتمسك بنور الوحي الذي أوضحنا؛ فالسلامة محققة في اتباع الوحي، وليست محققةً في شيء غيره، ولم يضمن الله لإنسان أن يكون غير ضال في الدنيا ولا شقي في الآخرة إلا متبعَ هداه الذي هو القرآن، كما في قوله -تعالى-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].

خاتمة في المقارنة بين مذهب السلف وما يسمونه مذهب الخلف

قد علمت [مما] (1) ذكرنا أن مذهب السلف مبني على ثلاثة أسس:

الأول: منها تنزيه الله -جل وعلا- عن مشابهة خلقه في ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم.

والثاني: الإيمان بما ثبت في الوحي الصحيح من صفات الله على أساس ذلك التنزيه.

الثالث: العجز عن الإحاطة لقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

فالسلفي إذا سمع قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] امتلأ قلبه من الإجلال والإعظام والتقديس والتنزيه لتلك الصفة التي أثنى الله بها على نفسه، وهي أنه استوى على عرشه، فيجزم قلبه جزمًا باتًا بأن ذلك الاستواء الذي مدح الله به نفسه الكريمةَ المقدسةَ بالغٌ من غايات الكمال والجلال والتنزيه ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فيكون معتقدًا لمضمون قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} وقولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} إلى غير ذلك من الآيات.

__________

(1) في المطبوع: (ما).

وبهذا التنزيه الكريم يتيسر له الإيمان بما وصف الله به نفسه من صفة الاستواء؛ لأنه إذا حمل الاستواء على ذلك المعنى اللائق المنزَّه عن مشابهة استواء المخلوقين سهُل عليه الإيمان به وتصديقُ الله في ثنائه به على نفسه على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}.

فالسلفي منزهٌ أولًا، ومؤمن بالصفات ومثبتٌ لها على أساس التنزيه ثانيًا، عالمٌ بعجزه عن إدراك كيفية الاتصاف؛ لأن إحاطة العلم البشري بالله منفية نفيًا باتًا قرآنيًا كما تقدم إيضاحه (1)، فهو بتنزيهه طاهرُ القلب من أقذار التشبيه، وبإيمانه بالصفات على أساس التنزيه طاهر القلب من أقذار التعطيل، فمذهبه طريق سلامة محقفةٍ لا لبس فيها، ولا شك في كونها حقًّا؛ لأن كل مذهبه تمسكٌ بنصوص القرآن العظيم.

أما ما يسمونه مذهب الخلف فهو مستلزم ثلاث [بلايا] (2) كل واحدة منها أكبر من أختها استلازمًا لا ينفك:

والأولى من البلايا الثلاث: أنه إذا سمع قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال: إن ظاهر هذا الاستواء -الذي مدح الله به نفسه في سبع آيات من كتابه- هو مشابهة استواء المخلوقين! وهذه بلية عُظمى؛ لأن صاحبها يتهجم على نصوص القرآن العظيم، ويفتري

__________

(1) ص 368.

(2) في المطبوع: (بلايات).

عليها أن ظاهرها المتبادرَ منها هو مشابهة استواء الخلق، وكل كلام كان ظاهرُه المتبادرُ منه مشابهةَ الخالق للخلق فهو كلام ظاهره قذر نجس؛ لأنه ليس كلامٌ أقذرَ ولا أنجسَ ظاهرًا من كلامٍ ظاهرُه تشبيهُ الخالق بالخلق، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فكأهم يقولون لله: هذا الذي مدحتَ به نفسك ظاهرُه المتبادرُ منه الذمُّ والتنقيص؛ لأنه لا ذمَّ ولا تنقيصَ أعظمُ من دعوى مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ} [النحل: 44] لم يقل حرفًا واحدًا من ذلك، ولم يبيّن شيئًا مما زعموه، مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لا يجوز في حقه تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة، ولا سيما في صفات الله، ولا سيما فيما ظاهره المتبادر منه الكفُر بالله بتشبيهه بخلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

فالافتراء على الله بأنه أثنى على نفسه [بما ظاهره] (1) المتبادرُ منه التشبيهُ بالخلق، والافتراء على نصوص القرآن بأن ظاهرها المتبادرَ منها التشبيهُ هو البلية الأولى من بلايا مذهب الخلَف، حاشا لله جل وعلا وحاشا نصوصَ كتابه مما افتروه.

والبلية الثانية من البلايا الثلاث اللازمةِ لمذهب الخلف هي أنهم لما قرروا أن ظاهر صفة الاستواء مثلًا المتبادرَ منها مشابهةُ الخلق، قالوا: إنها يجب نفيُها بالكلية؛ لأجل الصرف عن هذا الظاهر الخبيث

__________

(1) في المطبوع: (بمظاهر).

في زعمهم، ومَن تنطّع بين يدي الله فنفى عنه صفته التي أثنى بها على نفسه في سبع آيات من كتابه فهو أجرأ [خاصي] (1) الأسد بأضعاف، ولا شك أنه واقع في بلية عظمى؛ لأن التجروء على الله ونفيَ ما مدح به نفسه بادعاء أنه غيرُ لائق [أمر] (2) ليس بالهين كما ترى.

فافتروا على الصفة أولًا أن ظاهرها غيرُ لائق، فصاروا مشبّهين صفةَ الخالق الواردةَ في الوحي بصفة مخلوق شرَ تشبيه، وبسبب ذلك التشبيه المفترى [نفوا صفة] (3) الاستواء من أصلها، من غير اعتماد على كتاب ولا سنة، ونفيُهم للاستواء الذي أثنى الله به على نفسه في سبع آيات من كتابه هو البلية الثانيةُ اللازمة للمذهب الخلَفي، ولا شك أن التجرؤ على نفي ما مدح الله به نفسه مدحًا متكررًا في القرآن العظيم أنه بلية عظمى وجناية كبرى.

والبلية الثالثة من البلايا اللازمة لمذهب الخلَف هي أنهم لما ادعوا على صفة الاستواء أن ظاهرها غيرُ لائق، ثم نفوها من أصلها بسبب ذلك، زعموا أن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى عليه، فجاءوا بالاستيلاء من تلقاء أنفسهم، ونفوا الاستواء الثابتَ في القرآن، وضربوا لذلك مثلًا بقول الراجز:

__________

(1) في المطبوع: (خاص)، ومن أمثال العرب: (أجرأ من خاصي الأسد)، من الخِصاء، ويقال: خاسئ، من الخسة، انظر ثمار القلوب للثعالبي: ص 383.

(2) في المطبوع: (أو).

(3) في المطبوع: (فواصفه).

قد استوى بشرٌ على العراقِ ... من غير سيف ودم مهراقِ (1)

فقالوا قد (استوى بشر على العراق) معناه: قد استولى عليه، وإذًا فمعنى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: ثم استولى عليه.

ونحن نقول في هذا: أيها المستدلُ ببيت الرجز هذا على أن الاستواء معناه الاستيلاء، ألم تخش الله، ألم تستحي من خالق السموات والأرض -جل وعلا- استحياء يمنعك من أن تُشَبّه استيلاءه على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر على العراق؟ وهل يعقل في الدنيا تشبيه أشنعُ من تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟ ! .

فاعلم أيها الخلفي أن هذا التشبيه الذي جئتَ به في الاستيلاء الذي زعمتَ والبيتِ الذي استدللتَ به أنك به أنت أعظمُ المشبهين نصيبًا في التشبيه لصفات الخالق بصفات خلقه، وبأي دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل سوّغتَ لنفسك أن تشبه استيلاء الله على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟ .

ثم اعلم أيها الخلفي أن الاستيلاءَ الذي جئتَ به من تلقاء نفسك من غير اعتماد على وحي سماوي أنه أشدُّ الصفات توغلا في التشبيه؛ لأن فيه تشبيهَه -تعالى- في استيلائه على عرشه بكل مخلوق قهَر مخلوقًا فغلبه واستولى عليه، وهذا يستلزم من أنواع التشبيه بحورًا لا

__________

(1) يُنسب للأخطل النصراني، انظر ديوانه: ص 557، دار الفكر المعاصر 1416 هـ.

سواحل لها.

ولا شك أنك ستضطر أيها الخلفي إلى أن تقول: هذا الاستيلاء الذي فسرتُ به [استواءَه] (1) منزهٌ عن مشابهة استيلاء المخلوقين.

ونحن نسألك ونطلب منك الجواب بالحق الخالي من التعصبات التي تُعمي العقلاءَ وتُصِمُّهم: أيهما أحقُ بالتنزيه عن مشابهة صفات الخلق: الاستواء الذي أثنى الله به على نفسه في سبع آيات من كتابه، وأنزل به الروحَ الأمينَ على سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - قرآنًا يُتلى متعبدًا بلفظه، كلُ حرف منه عشرُ حسنات لقارئه، ويُقرأ به في الصلاة، ومن أنكر أنه من القرآن كفر بإجماع المسلمين، أم الأحق بالتنزيه عن مشابهة صفات المخلوقين هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم، من غير أن يدل عليه كتاب ولا سنة البتة بوجه من الوجوه؟

والظاهر أنك ستضطر إلى أن تقول: إن كلام رب العالمين أحق بالتنزيه من كلام جاء به ناس من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى دليل من نقل ولا عقل، إلا إذا كنت مكابرًا، والمكابر لا داعي للكلام معه.

وهذا الذي ذكرنا في الاستواء جارٍ في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، كما قدمنا أن إيضاح مثال واحد منها كافٍ في إيضاح الجميع.

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أَنَا

__________

(1) في المطبوع: (استواء).

عَلَيكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].

وفي الختام نوصي أنفسَنا وإخوانَنا المسلمين بتقوى الله -تعالى-، وعدمِ التهجم على الله -تعالى- وعلى كتابه بالدعاوَى الباطلة، والتمسكِ بنور الوحي الصحيح في المعتقد وغيرِه؛ لأن السلامة متحققة في اتباع الوحي، وليست متحققةً في شيء غيره:

ونهج سبيلي واضحٌ لمن اهتدى ... ولكنها الأهواءُ عمّتْ فأَعمتِ (1)

وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن مذهب السلف أسلمُ وأحكم وأعلم، وقولهم (مذهب السلف أسلم) إقرارٌ منهم بذلك؛ لأن لفظ (أسلم) صيغة تفضيل من السلامة، وما كان يَفضُلُ غيرَه ويفوقُه في السلامة فهو أحكم منه وأعلم.

وبه يظهر أن قولهم (ومذهب الخلف أحكم وأعلم) ليس بصحيح، بل الأحكم الأعلم هو الأسلم كما لا يخفي.

وهنا انتهى ما أردنا تلخيصَه وجمعه، والحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغُ منه في اليوم الرابعَ عشرَ من جُمادى الأولى من سنة 1388 هـ، بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونرجوا الله -جل وعلا- أن يرزقنا الإخلاص في جميع أعمالنا، ويجيرَنا من فساد القصد في الأعمال، إنه سميع مجيب قريب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

__________

(1) البيت لابن الفارض!، انظر ديوانه: ص 55، دار صادر.