×
بدائع الفوائد : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - مشحونٌ بالفوائد النادرة، والقواعد الضابطة، والتحقيقات المحرَّرة، والنقول العزيزة، والنِّكات الطريفة المُعْجِبَة؛ في التفسير، والحديث، والأصلين، والفقه، وعلوم العربية. إضافة إلى أنواع من المعارف، من المناظرات، والفروق، والمواعظ والرِّقاق وغيرها، مقلِّداً أعناق هذه المعارف سِمطاً من لآلئ تعليقاته المبتكرة.

 بدائع الفوائد

- أ - مقدمة المشرف على مشروع «آثار الإمام ابن قيم الجوزيَّة وما لحقها من أعمال» فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة الحمد لله على ما أولانا ووفقنا وهدانا إلى الاستنجاد بعدد من المحققين لِوَصْل جُهود المصلحين في إخراج «آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال». وقد تم بحمد الله تعالي طباعة جملة منها مع مقدمة لها في أحد عشر مجلدا، ويتبعها آثار أخرى إن شاء الله تعالي (1). والآن نبدأ على هذا المنوال - مستعينين بالله عز شأنه - بأثر من وجهٍ آخر من آثار هذا العالم المجدد في مدرسته التجديدية الإصلاحية، وهو «آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». فإن هذا الإمام الحافظ أبا عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الزُّرعي ثم الدمشقي، المولود سنة 691 والمتوفى سنة 751 - رحمه الله تعالي - هو من أخص تلاميذ شيخ الإسلام به، بل هو أخصهم به، وأسبقهم مرتبة في نشر علمه وفضله، ومن أكثرهم تآليف، أسبغ اللهُ عليه فيها من النضارة وجمال العبارة ما بهر عقول العلماء. __________ (1) منها: «تنبيه الرجل العاقل ... » في مجلدين، وترجمة شيخ الإسلام لابن عبد الهادي المطبوع باسم «العقود الدرية»، والمجموعة السادسة وما بعدها من جامع المسائل»، وغيرها.

(التقديم/1)


- ب - ولأن دأبه فيها: استقصاء أصول المسائل وآثارها، وإجراء مطية فكره في أنجادها وأغوارها، وإبراز مقاصد الشريعة وحِكَمها وأسرارها = صارَ لها من القبول والانتشار ما لا يبلغه الوصف؛ حتى اشتهر وعُرف بمؤلفاته، ولحِقَه الوصفُ بها على نَصِيبَة قبره. فإني لما دخلت دمشق الشام عام 1412 زُرت مقبرة الباب الصغير بالجابية، ووجدت قبره - رحمه الله تعالى - على يسار الداخل، مکتوبا على نَصِيبَة قبره - على عادة عامة أهل الشام المنكرة شرعا - ما نصُّه: «هذا قبر الإمام الحافظ صاحب التصانيف المفيدة ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 رحمه الله تعالى». وقد تنافس في نسخها واقتنائها أهلُ العلم من شتى المذاهب، وانتشرت مخطوطات الكثير منها في مكتبات العالمين على الرغم من عدوان المعتدين، وكانت محل الرضا والقبول والتسليم من المنصفين، وما هو بالمعصوم. وبعد ظهور المطابع في العالم الإسلامي تزاحم المصلحون على طباعتها ونشرها، وكان السابقون في ذلك أهل الحديث في شبه القارة الهندية منذ عام 1298 مثل «زاد المعاد» و «إعلام الموقعين» و «النونية». وغيرها، وعنها صدرت بعض الطبعات المصرية القديمة مثل: البولاقية، والأميرية، والسلفية. . .؛ ولهذا لم يَرِد ذِكْرٌ للمخطوط فيها. ثم تتابع طبع ما شاء الله من آثار هذا الإمام في الشرق الإسلامي، وفي عصرنا توارد الطابعون، لكن شابَ هذه الأعمال ما انتشر في سوق

(التقديم/2)


- جـ - الكُتْبيين مما امتدت إليه أيدي بعض المرتزقة باسم التحقيق حينًا، والاختصار حينا آخر، واستلال بحث من أيٍّ منها وإيهام القارئين بأنه تأليف مستقل لابن القيم، وعامة هؤلاء من أصحاب الصنائع والحِرَف الذين لا عهد لهم بتلقي العلم الشرعي عن أهله، وإنما قعدت بهم حظوظهم، وضاقت بهم سُبل المعاش، ولو شئنا لسميناهم بذنوبهم، ولكن نصرف النظر حينًا عسى أن يكون لهم توبة من هذه الحوبة. ومن العناء أن العلم الشرعي مستباح الحِمى فتسوروه، وعرفوا مطلب السوق الرائجة فأخذوا في العمل على طبعها ونشرها في واحد من هذه الطرق وغيرها بما نشير إلى بعض منه في الآتي: 1 - سرقة ما ناله قلم التحقيق، ولهم في ذلك عدة طرق منها: أ- تجريده من الحواشي. ب - التحوير فيها. ج - القدح بالطبعة السابقة بتلمس الأخطاء فيها وأن طبعته هذه قابلها على نسخة كذا التي وجدها حين زار المحل الفلاني، فمدّ يده إلى رَفٍّ فإذا بمخطوطة نفيسة، فعاد بها غنيمة باردة، وهكذا من الكرامات؟!. د - أنه بعد أن أمضى مدة غير قصيرة في التحقيق وأتمه اطلع عليه محققا مطبوعا، أو في رفوف الرسائل الجامعية، ثم يأخذ في ثلبها. ه- وإن حَسُنَت من بعضهم الحال - وما هو بالحسن - اتخذ فريقَ عمل من المُمْلِقِين - (وَرْشَة) كما يقوله بعضُ مَنْ كَرِهَ حالَهم -. ولهذا تراه في العام الواحد يخرج ما لم يخرجه عميد المحققين مدة

(التقديم/3)


- د - حياته في التحقيق: عبد السلام هارون - رحمه الله - وهذه وأضعافها داء قديم للمتأكِّلين، ومن نظر في كتاب «نموذج من الأعمال الخيرية» للشيخ محمد منير آغا الدمشقي - رحمه الله تعالي - رأى أضعاف ذلك. 2 - الاختصار، الغرض الذي يقصد منه حذف ما يخالف مشربه الفاسد. 3 - تنتيف الكتاب الواحد إلى عدة كتب موهمًا أنه تأليف مستقل دون الإشارة على الغلاف بما يفيد الاستلال. 4 - التعليق على الكتاب بما ينقض مقصده في مهمات مسائله. هذه بعض أفاعيل العابثين بكتب هذا الإمام؛ ولمرارة هذا العملِ، وقذف المطابع به في المكتبات التجارية، وخطره على العِلم والعَالمين ألَّفْتُ رسالة باسم «الرِّقابة على التراث» عسى أن تحمل الفاعلين على توبة نصوح، وتحمل المصلحين على إجراء ضمانات الحماية التراث. ونحن نرجو أن يكون العمل في هذا المشروع المبارك - إن شاء الله تعالى - على الأُسس التي رُسِمَت له، والامتيازات التي تحلى بها؛ من توفير أفضل النسخ الخطية من مكتبات العالم، والسير على طريقة سوية مقتصدة في التعليق والتحقيق، وخدمة كل كتاب بمقدمة موعبة، وفهارس مفصَّلة كاشفة، وذلك كله بواسطة عددٍ من طلبة العلم المحققين، بعد إخضاع العمل للمراجعة والتحكيم = فنحن نرجو أن يكون في ذلك كله إخراجٌ لمؤلفات هذا الإمام الحافظ القدوة بما يليق

(التقديم/4)


- هـ - بها، وحصانة تحول دون هذه الغثائيات. وأن تكون طبعاته أساسًا لما يَرِدُ من ملاحظات لتصَحَّح في طبعة لاحقة بإذن الله تعالي. وفي خاتمة هذا التقديم أشير إلى الأمور الآتية: الأول: في الجلسة الختامية للدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في البحرين عام 1420 تم إعلان تبنِّي «المَجْمع» لطبع ونشر کتب ابن القيم - رحمه الله تعالى - لما فيها من فقه الدليل وصفاء التوحيد، وهذه من أهداف «المجمع» التي أُسِّسَ من أجلها. الثاني: من حسنات الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي موافقته على تمويل هذا المشروع بواسطة مؤسَّسته الخيرية. أجزل الله له الأجرَ والثوابَ. الثالث: جري عمل ثَبَتٌ بمخطوطات ومطبوعات مؤلفات ابن القيم (1) - رحمه الله تعالى - فلم يحصل فيها حتى التاريخ إضافة للمطبوع (2)، وإنما حصل بعض النسخ الصحاح التي فيها زيادة على المطبوع، وأنَّ بعض الكتب التي كان يشار إليها بأنها من تأليفه مثل «طب القلوب» الذي ذكره أحمد عبيد - رحمه الله تعالى - في مقدمة «روضة المحبين» نقلا عن معلوف، تبين بعد إحضار مصورته عن نسخة برلين أنه فصل من «زاد المعاد»، وكتاب «سر الصلاة» فصل من «زاد المعاد» و «مسألة السماع»، وكتاب «معاني الأدوات والحروف» __________ (1) وستكون ضمن «المداخل إلى آثار الإمام ابن القيم وما لحقها من أعمال». (2) إلا رسالة «رفع اليدين في الصلاة»، وقطعة من رسالة «حكم صوم يوم الغيم.

(التقديم/5)


- و - الموجود في بعض المكتبات العراقية ليس له. . . الرابع: يوجد عدد من مؤلفات ابن القيم حقق في رسائل جامعية، منها ما طبع ومنها ما لم يطبع، وهذه نكتفي بضم ما يصلح منها إلى المشروع باسم محققيها بعد التنسيق معهم. الخامس: سبق أن أَلَّفْتُ كتابا باسم: «ابن قيم الجوزية/ حياته، آثاره، موارده» وقد اقتضى النظر تأخير ضمه إلى المشروع مطبوعًا؛ للإضافة والتصحيح. السادس: جُمِعَت ترجمةُ ابن القيم من كتب التراجم العامة على نحو ما تمَّ في كتاب «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون»، وسيكون ضمن مقدمة المشروع المطوّلة: «المداخل إلى آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». . السابع: ابن القيم - رحمه الله تعالى - ليس له مؤلَّف على طريقة الماتنين في التأليف؛ ولهذا لم أقف على أيِّ شرح لأيٍّ من كتبه، وإنما تناولها العلماء بواحد من الأعمال الآتية: 1 - الاختصار: مثل «مختصر الصواعق المرسلة» للموصلي. ومختصرات لزاد المعاد»، ومختصر کتاب «الروح» للبقاعي باسم «سر الروح»، ومختصر «مدارج السالكين»، ومختصرات لـ «بدائع الفوائد» لغير واحد، ذُكِرَت في مقدمة التحقيق. وغيرها. 2 - النظم: وقفت على نظم واحد لـ «زاد المعاد» لأحد علماء اليمن. وسَيُذكر ذلك بالتفصيل في «المداخل .. » المشار إليها آنفًا. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم

(التقديم/6)


 مقدمة المحقِّق

الحمد لله واهب الحمد ومُسْديه، وصلاةً وسلامًا على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد؛ فإن أغراض التأليف وألوانه لا تقف عند حدّ (1)، وهمم العلماء في ذلك لا تنقطع إلا بانقطاع العلم؛ وذلك لكثرة المطالب الباعثة عليه، وسعة المباغي الداعية إليه. ومن جملة تلك المطالب التي ألِفَ العلماءُ الكتابةَ فيها: تقييدُ بها يمرُّ بهم من الفوائد، والشوارد، والبدائع؛ من نصٍّ عزيز، أو نقلٍ غريب، أو استدلالٍ محرَّر، أو ترتيبٍ مُبتكر، أو استنباطٍ دقيق، أو إشارةٍ لطيفة = يُقيِّدون تلك الفوائد وقتَ ارتياضهم في خزائن العلم ودواوين الإسلام، أو مما سمعوه من أفواه الشيوخ أو عند مناظرة الأقران، أو بما تُمليه خواطرهم وينقدح في الأذهان. يجمعون تلك المقيَّدات في دواوين، لهم في تسميتها مسالك، فتُسَمَّى بـ "الفوائد" أو "التذكرة" أو "الزنبيل" أو "الكنَّاش" أو "المخلاة" __________ (1) نعم، وإن حصرها بعض العلماء في أربعة أغراض كابن فارس في "الصاحبي" وأرسطو كما في "كشف الظنون"، أو بثمانية كما ذكر ابن حزم في "نقط العروس" ونقله عنه صاحب "الكشف" وأبو الطيب ابن الشركي في "إضاءة الراموس" وغيرهم، إلا أن هذا الحصر الجُمْلي يدخل تحته من التفاصيل والفروع ما لا يُحْصَى، والناظر في مدوّنات أسماء الكتب كـ "الكشف" ونظائره يعلم هذا حق العلم.

(المقدمة/5)


أو "الفنون" أو "السفينة" أو "الكشكول" (1) وغيرها. وهم في تلك الضمائم والمقيَّدات يتفاوتون في جَوْدة الاختيار، وطرافة الترتيب، وعُمْق الفكرة = تفاوتَ علومهم وقرائحهم، وفهومهم ومشاربهم، فاختيار المرء -كما قيل وما أصدق ما قيل! - قطعةٌ من عقله، ويدلُّ على المرء حسنُ اختياره ونقله. إلا أن تلك الكتب تجمعها -في الجملة- أمور مشتركة؛ كغلبة النقل، وعزة الفوائد، وعدم الترتيب، وتنوُّع المعارف. ومن أحسن الكتب المؤلَّفة في هذا المضمار كتاب "بدائع الفوائد" (2) للإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيِّم الجوزية، المتوفى: سنة (751) رحمة الله عليه. وهو كتابٌ مشحونٌ بالفوائد النادرة، والقواعد الضابطة، والتحقيقات المحرَّرة،: والنقول العزيزة، والنِّكات الطريفة المُعْجبَة؛ في التفسير، والحديث، والأصلين، والفقه، وعلوم العربية. إضافة إلى أنواع من المعارف؛ من المناظرات، والفروق، والمواعظ والرِّقاق وغيرها، مقًلِّدًا أعناق هذه المعارف سِمطًا من لآلئ تعليقاته المبتكرة. __________ (1) انظر "معجم الموضوعات المطروقة": (2/ 948 - 949). وفي ضبط (الكناش). انظر "تاج العروس": (9/ 188 - 189)، و"قصد السبيل": (2/ 404)، و"كناشة النوادر": (ص/9 - 11). (2) وقد رأيت الشيخ الفقيه محمد العثيمين - رحمه الله - قد قال: "وأحسن ما رأيتُ في مثل هذا -أي: في تقييد الفوائد المهمة والشوارد العلمية- كتاب "بدائع الفوائد" للعلامة ابن القيم، ففيه [من] بدائع العلوم مالا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيَّد ذلك، ولهذا تجد فيه من علم الحقائد والفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة .. " اهـ من كتاب "العلم": (ص/ 231).

(المقدمة/6)


ومع ما وصفنا من كثرة فوائد الكتاب، إلا أنه لم يَنَل من الشهرة والذُّيُوع -في عصرنا هذا على الأقل (1) - ما نالَ صنوه "الفوائد"! وهل يكون "الفوائد" إلا قطرةً في بحرٍ لُجِّيٍّ من فوائد "البدائع"؟! وسبب ذلك -عندي- أن فوائد الكتاب عالية الرتبة، تَوَلَّجَ المؤلفُ فيها إلى دقائق الفنون، خاصة العربية، وهذه الدقائق والمباحث لا يفهمها المبتدئ والمقلِّد، كما يقول المؤلِّف في كتابه هذا (3/ 889). فبقي الكتاب لا يستفيد منه إلا الخاصةُ وخاصتُهم. وقد اتَّجَه العزمُ إلى تحقيق هذا الكتاب من بضع سنوات خلت، إلا أن العمل فيه كان متقطِّعًا، إلى أن صمدت له أخيراً ليكون باكورة هذا المشروع المبارك -إن شاء الله تعالى- "آثار الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال" تحتَ رعايةِ ونظر شيخنا العلامة أبي عبد الله بكر بن عبد الله أبو زيد، ناشرِ علومِ الإمام ابن القيم وفقهِهِ وتراثِهِ -أحسنَ الله إليه وبارك في عمره-. وقد مهَّدْت بين يدي الكتاب بمباحث متعددة هي: * اسم الكتاب. * تاريخ تأليفه. * إثبات نسبته للمؤلف. * التعريف بالكتاب، فيه:. أهميته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف. __________ (1) ومن الغرائب أن نسخ "البدائع" كثيرة جدًّا، أما كتاب "الفوائد" فلم نعثر له إلا على نسخة فريدة -هي التي طبع عنها الكتاب أول ما طبع- فهل كان "البدائع" أكثر شهرة وتداولاً من "الفوائد"؟!.

(المقدمة/7)


• العلوم التي حواها، ومُجْمَل ترتيبه. • علاقته بكتاب "الفوائد". • سماتُ الكتاب ومعالم منهجه. * إفادة العلماء منه ونقولهم عنه، وثناؤهم عليه. * موارده فيه. * بَيْن ابن القيم في (البدائع) والسُّهيلي في (النتائج). * مختصراته والمباحث المستلَّة منه. * طبعاته. * نسخه الخطيَّة. * منهج العمل فيه. * نماذج من النسخ الخطيَّة. وأنا أرجو -بعملي هذا- أن أكون قد أسهَمْتُ في توسيع دائرة الإفادة من الكتاب، بما أقمتُ من نصِّه؛ وبما أظهرتُ من مكنونات علومه وفوائده؛ وبما كشفتُ من خبايا زواياه؛ وبما قدَّمْتُ بين يدي الكتاب من مباحث بسطتُ القولَ فيها بما يُلاقىِ مكانةَ الكتاب ومكانةَ مؤلِّفِه، مع اعترافي قبل: ذلك وبعده بالعجز والتقصير، والله المستعان. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد. وكتب علي بن محمد العمران 9/ ربيع الأول/ 1424 في مكة المكرمة حرسها الله تعالى

(المقدمة/8)


* اسم الكتاب لا يختلف الذين ذكروا هذا الكتاب أن اسمه: "بدائع الفوائد"، سواء الذين ترجموا للمؤلف؛ كالصفدي في "أعيان العصر": (4/ 370)، و"الوافي بالوفيات": (2/ 271)، وتلميذه ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة": (2/ 450)، والحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة": (3/ 402)، والسيوطي في "بغية الوعاة": (1/ 63) وغيرهم. = وسواء الذين نقلوا عن الكتاب واقتبسوا منه؛ كابن مفلح في "الفروع" والمرداوي في "الإنصاف"، والمناوي في "الفيض"، والشوكاني والقِنّوجي وغيرهم (كما سيأتي مشروحًا). ثم وجدنا هذا الاسم "بدائع الفوائد" هو الثابت على النُّسَخ الخطية التي وقفنا عليها، أو الموصوفة في الفهارس. فثبت أن هذا هو اسمه. ولا يُعَكِّر على ذلك ما وقع في "كشف الظنون" -وتابعه عليه صاحبُ "هدية العارفين"- من الاختلاف. فقد وقع فيهما على وجهين: 1 - وقع باسم (بدائع الفرائد) -بالراء- (الكشف: 1/ 230، وهدية العارفين: 6/ 158). وهذا لا يعدو أن يكون أحد التحريفات الكثيرة في الكتابين. 2 - ووقع -أيضًا- باسم (بديع الفوائد) (في الكشف: 1/ 235 وحده).

(المقدمة/9)


وكان يمكن أن نعتبر هذا الوجه في التسمية أحد التحريفات، لكن يُعَكّر عليه أن الحاج خليفة قد ساقه بين كتبٍ كلُّها تُسمَّى بـ "بديع كذا وكذا. . "، فلعلَّه وقف على نسخة بهذا الاسم وهو احتمال ضعيف، أو تصَحَّف عليه الاسم، أو غير ذلك. ويبقى أن بعض العلماء قد يختصر اسمه عند النقل منه، فيسمِّيه "البدائع" كما وقع لجماعةٍ منهم. ومما يُلاحظ هنا أن المصنِّف -رحمه الله- لم يُسَمِّ كتابَه في أوله ولا في أثنائه، ولا في كتبه الأُخرى، ولا نقل عه أحدٌ أنه سمَّاه بهذا الاسم، ومن عادة ابن القيم الاعتناءُ بتسمية كتبه، واختيار العناوين المناسبة المسجوعة لها، فمن أين جِيء بهذا الاسم؟. يُمكن القول: إن المؤلف إما أن يكون قد سمَّاه بذلك في صفحة العنوان من النسخة التي بخطه، فنُقِلت التسمية من هناك، كما نراه فى النسخ الفرعية التي وقفنا عليها أو وُصِفت. وهذا الموضع -أعني صفحة العنوان- من أَلْيَق المواضع بتسمية الكتاب ومعرفة عنوانه. فكم هي تلك الكتب التي إنَّما عُرِفت أسماؤها من صفحات عنواناتها، ولا أثر لتسميه الكتاب في مقدمته! -وهذا هو الأرجح-. وإما أن يكون -الاسم- مأخوذًا من تسمية من بعده من التلاميذ أو النُّسَّاخ، مستلْهِمِين ذلك من عَنْوَنة المؤلف لكثير من فوائد الكتاب بقوله: "فائدة بديعة" (تبدأ هذه العنونة من: 1/ 160 فما بعدها). ومع أن هذه العنونة ليست هي الغالبة، بل الغالب هو قوله "فائدة" فقط، إلا أن المؤلف رأى تخصيص هذا الكتاب بهذا الاسم (لفائدة بديعة) = ليَمِيْز بينه وبين كتابه الآخر "الفوائد"، ولعلّه من

(المقدمة/10)


أجل ذلك تعمَّد هناك ألا يعنون بـ"فائدة بديعة" -مع اشتراكهما في بعض الفوائد- ليَسْلم لهذا الأخير اختصاصُه بهذه الفوائد البدائع، والله أعلم. * * *

(المقدمة/11)


 * تاريخ تأليفه

لما كانت طبيعة الكتاب وموضوعه جمع الفوائد والشوارد والنِّكات وما شابهها، مما يُوْقَف على أكثره بالمطالعة، أو ينقدح بعد التأمل والتفكّر في الذهن = فإن تحديد وقت لبدء تأليف الكتاب ونهايته يُعد أمرًا عسيرًا ما لم يصرِّح به جامعه، أو تدلُّ عليه إشاراته وإيماءاته في تضاعيف كلامه وشأنُ هذه الكتب أن تُجْمع مع طول الأيام. إذا تقرر ذلك، فلا بأس إذًا من تلمُّس إشارات في ثنايا الكتاب: ترشد إلى تاريخ تأليف الكتاب جملةً، أو تاريخ كتابة تلك الفائدة -التي وُجدت فيها تلك الإشارة- على الأقل، إذ قد يكون بين كل فائدة وأخرى زمنٌ ليس بالقليل، لما وصفناه سابقًا. فمن تلك الإشارات: إحالاته على كتبه الأخرى لاستيفاء مبحث أو نحوه، فهذا دليل في الغالب -وإن كان يحتمل غير ذلك- على أن كتابنا أُلِّف بعد ذلك الكتاب المحال إليه. وقد أحال ابن القيم على عددٍ من كتبه (انظر فهرس الكتب) كـ "التحفة المكية"، و"جِلاء الأفهام"، وكتبٍ أخرى لا نعرف عنها إلا أسمها، أما "الجِلاء" فَلم نعرف تاريخ تأليفه. وكتبه الأخرى لم نقف عليها. لكن الإشارة التي نستفيد منها هي إحالته على كتاب "تهذيب سنن أبي داود"، فقد ذكره في: (2/ 668)، وقال: "وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب "تهذيب السنن" اهـ وهذا

(المقدمة/12)


الموضع موجود فيه: (8/ 75 - 77). وقد وقع في آخر "تهذيب السنن" التنضيص على سنة تأليفه وأنها سنة (732) بمكة المكرمة -حرسها الله-. وعلى هذا فكتاب (بدائع الفوائد) قد أُلِّف بعد سنة (732). ومما يؤيّد هذا -أيضًا-: كثرة نقل المؤلف عن شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-، وذكره لاختياراته، وجوابه على سؤالاته، وذكر بعض أحواله -مع الدعاء له بالرحمة- وذلك وإن لم يكن صريحًا في النقل عنه بعد وفاته (أي بعد سنة 728)؛ إذ يحتمل أن يكون الدعاء له من النُّساخ = فإنه قد ذكر في موضعٍ ما يقطعُ بأن تاريخ كتابة تلك الفائدة -على الأقل- إنما كان بعد وفاة شيخ الإسلام، ففي: (3/ 1113) ذكر ابن القيم محاورة بينه وبين شيخه، ثم ذكر إيرادًا وقال عقبه: "ولم أسأله عن ذلك، وكان يمنع ذلك، ويختار ... " اهـ. فلو كان حيًّا لسأله. وهذا ظاهر فيما أشرنا إليه. والله أعلم. * * *

(المقدمة/13)


* إثباتُ نسبة الكتاب إلى مؤلٌفه دلائل صحة نسبة كتاب "بدائع الفوائد" إلى مؤلِّفه كثيرة، نذكُرُ هنا أهمها: 1 - ذَكَر عامَّةُ من ترجم للمؤلف أن له كتابًا بهذا الاسم، ووصفه بعضُهم بما يُطابق محتواه، من كونه كثير الفوائد، فيه كثير من المسائل النحوية (1)، وأنه كالتذكرة له (2). 2 - جاءت نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه في جميع النسخ الخطية التي وقفنا عليها أو وُصِفت في الفهارس. 3 - إحالات المؤلف على كتبه (انظر فهارس الكتب)، فقد أحال على "تهذيب سنن أبي داود" ووجدنا النقل فيه (انظر ما تقدم ص/12)، وأحال على "جلاء الأفهام" في موضعين: (2/ 685 و 688). 4 - نقول العلماء عن الكتاب باسمه الخاص، مع وجود تلك النقول في أماكنها في الكتاب، من مثل ابن مفلح في "الفروع"، والمرداوي في "الإنصاف"، والسيوطى في "الإتقان"، والزركشي في "البرهان"، والشوكاني في "النيل" وغيرهم (كما سيأتيِ مفضَّلاً في بابه). 5 - كثرة نقول المؤلِّف عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد نقل عنه في أكثر من أربعين موضعًا (انظر فهرس الأعلام) على __________ (1) انظر: "بغية الوعاة": (1/ 63) للسيوطي. (2) انظر: "نظم الدرر": (1/ 73) للبقاعي.

(المقدمة/14)


طريقته المعهودة في النقل عنه؛ كقوله: "قال شيخ الإسلام. . . "، أو "سمعت شيخ الإسلام. . . "، أو "وأختار شيخنا"، و"قال لي" ونحوها. 6 - كثيرًا ما نجد توافقًا بين مباحث الكتاب ومباحث ابن القيم في كتبه الأخرى، سواء في التقرير أو النقول أو الاختيارات، وذلك بالتوافق التام حينًا، وبالمعنى حينًا آخر، وبالاختصار تارةٌ، والتوسع والبسط تارةً أخرى، كما بيّنا بعضه في حواشي الكتاب. 7 - طريقة المؤلف وأسلوبه المعروف ظاهر في الكتاب، لا يخفى على من أَلِفَ أُسلوبَه واعتادَ طريقته. وهذه الدلائل كافية لإثبات نِسبة الكتاب إلى مُؤلِّفه. * * *

(المقدمة/15)


 * التعريف بالكتاب

وفيه مباحث:

  • الأول: أهميَّته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف.

تتجلى أهمية الكتاب في نقاط عدة، نذكر هنا أهمها، وسيأتي ذكر بعضها عَرضًا في مباحث المقدمة، تظهر بالتأمل. 1) أنه أكبر آثار المصنِّف -وُجِد- فيما يتعلَّقُ بالعربية وعلومها. ومباحثها، نعم للمؤلف عدة كتب في علوم العربية، مثل "معاني: الأدوات والحروف"، و"مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين" وغيرها، وله مباحث متفرقة في ثنايا كتبه، لكن كتبه المفردة لم يصلنا منها شيء، ومباحثه المضمَّنة قليلة مقارنة بمسائل هذا الكتاب. ونظرة إلى "فهرس مسائل النحو والصرف والبلاغة" تُفصح عما وصفناه. 2) كما تظهر أهميته في أن المؤلف -رحمه الله- لم يكن فيما يورده من مباحث العربية ناقلاً فحسب، بل كان ناقلاً ناقدًا. ولم يكن يستكثر من مشهور مسائل الفن، بل يغوص في أعماقه ويستجلي أسراره، ويُنقِّب عن كنوزه ومكنوناته، فأتى فيه بكل عجيبة مستحسنة، وكل بديعة مُستملحة. وما فتئ المؤلف يستحسن هذه المباحث ويُشيد بها، ويبين عِزَّتها، ولطفها، ودقتها. ولنضرب أمثلة: قال في موضع: "فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في

(المقدمة/16)


الكتب والألسنة" (1). وقال في موضع آخر: "فليُنزِّه الفَطِنُ بصيرته في هذه الرياضِ المونقة المعْجِبة، التي ترقص القلوب لها فرحًا، ويغتذي بها عن الطعام والشرابَ" (2). وقال أيضًا: "فهدا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها" (3). وقال في موضع: "ولا تستطل هذا الفصل، فإنه يحقق لك فصولاً لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعد وأصولاً لا تجدها في عامة المصنّفات" (4). وقال في مواضع عدة: إن هذا من لطيف العربية ودقيقها (5). وقال في مواضع: إن هذا البحث من فقه النحو (6). وفي موضع: من بديع النحو (7). (3) اشتماله على تفسير كثير من الآيات الكريمة (وقد صنعنا لها فهرسًا خاصًا) وهو في تفسيره لتلك الآيات يغوص إلى ما تضمنه القرآن من الأسرار والحكم والعجائب والإعجاز. __________ (1) (1/ 197). (2) (1/ 208). (3) (1/ 246). (4) (1/ 268)، ومثله: (2/ 540، 610، 4/ 1603). (5) (1/ 333)، ومثله: (1/ 355، 2/ 607). (6) (1/ 355) و (1/ 358). (7) (1/ 327).

(المقدمة/17)


والمؤلف يلفت نظر القارئ في أحيانٍ كثيرة إلى تلك المباحث، فتراه يقول في موضع: "واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عُشر معشارها" (1). وقال في موضع آخر: "فتأمل هذا الشرّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه" (2). كما أنه قد فسَّر سورًا بكاملها بما لم يُسْبَق إليه، مثل سورة الكافرون: (1/ 234 - 249)، والمعوِّذتين: (2/ 699 - 825)، كما فسّر آيات تفسيراً واسعًا يصلح أن يكون جزءاً مفردًا مثل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}: (2/ 406 - 453) فذكر فيها عشرين مسألة. وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]: (3/ 835 - 889). ومما تغرَّد به هذا الكتاب: "جزء في تفسير آيات من القرآن" عن الإمام أحمد رواية المرُّوْذي، نقله المصنف من خط القاضي أبي يعلى: (3/ 1015 - 1034) (3). (4) ومن ميزات هذا الكتاب التي لا توجد مجتمعة في غيره، تلك التأصيلات والتحريرات والقواعد في مسائل الأسماء والصفات: (1/ 280 - 300) مما جعلها عمدة لكل كاتب في هذه المسائل ممن __________ (1) (2/ 654). (2) (2/ 694). (3) كما بث المؤلف كثيرًا من القواعد فى التفسير وعلوم القرآن (صنعنا لها فهرسًا)، وأفردْتُ قواعده التفسيرية في بحث لي مستقلّ.

(المقدمة/18)


أتى بعد المؤلف. وقد صنعنا لهذه القواعد فهرسًا ضمن فهرس مسائل العقيدة في آخر الكتاب. (5) ومن ميزاته كثرة نقول المؤلف -رحمه الله- عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية (انظر فهرس الأعلام)، وبعض هذه النقول لا توجد في غيره من الكتب مما يُكْسبه أهمية أخرى، وذلك مما جعل الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله- يستلُّ منه بعض هذه النقول والفتاوى ويدرجها في "مجموع الفتاوى" كما في: (4/ 393 - 394) و (25/ 286 - 287، 288 - 289) (1). (6) واشتمل الكتاب -أيضًا- على كثير من التحريرات والقواعد والضوابط الفقهية والأصولية، فضلاً عن اشتماله على كثير من مسائل الفقه والأصول. (7) كما اشتمل على كثير من مسائل الإمام أحمد -رحمه الله- التي هي الآن في عداد المفقود، فصار مرجعًا مهمًّا لتوثيق كثير من الروايات المنقولة في الكتب. ولا يُخلي المصنف تلك الروايات من الشرح والتوجيه والجمع بين ما تعارض منها (وقد صنعنا فهرسًا لتلك الروايات في موارد المصنف وفي الفهارس). (8) وفي الكتاب كثير من المباحث التي تصلح أن تُفْرد بكتاب أو رسالة مستقلة -وقد كاد- كما سيأتى بيانُ بعضًها في مبحث الكتب المستلّة منه. (9) كما حفظ لنا نصوصًا كثيرة من كتب هي في عداد المفقود __________ (1) وهذه النقول في "البدائع": (3/ 1102 - 1106).

(المقدمة/19)


اليوم، يتبين ذلك بالنظر في (موارد المصنف). <رمز>•

 المبحث الثاني: العلوم التى حواها، ومُجْمَل ترتيبه.

كتاب "بدائع الفوائد" كتابٌ جامع كما ذكر جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (1)، وهو الشأن في عامة الكتب المؤلفة على هذه الطريقة وذكر في كتابه الآخر "بغية الوعاة" (2): أن أكثره مسائل نحوية. وهذه الأكثرية التي ذكرها السيوطي تكون صحيحة إما باعتبار تتابع مباحث العربية بلا فاصل من فنون أخرى، كما هو شأن أكثر المجلد الأول. أو باعتبار تناسبها مع مادة الفنون الأخرى، فهي بالمقارنة مع كل فن على حدة تبدو الأكثر ظهوراً في الكتاب. لكن لو قورنت مباحثُ العربية ببقية الفنون لكانت تكُوْن نحو ثلث الكتاب، أي أكثر من خمسمئة صحيفة منه، ومن هاتين الجهتين يصدق كلام السيوطي: أما مسائل الكتاب من حيث كثرة العدد، فإن الفقه هو أكثرها، يليه العربية وعلومها، ثم التفسير، ثم العقيدة، فبقيَّة الفنون (انظر الفهارس الموضوعية). هذا من جهة الأكثرية، أما العلوم التي تضمَّنها الكتاب فهي غالب العلوم الإسلامية، من التفسير وعلومه، والقرآن وعلومه، والحديث وشرحه والاستنباط منه، والفقه وأصوله وقواعدهما، والتاريخ والتراجم، والعربية وعلومها من: نحو وصرف وبلاغة، __________ (1) (1/ 24). (2) (1/ 63).

(المقدمة/20)


والعقيدة وتقريرها والرد على المخالفين. كما اشتمل على ضروب من العلم، كالمناظرات، والفروق، والقواعد، والضوابط، والمواعظ، والحكم، والأشعار، واللطائف، والفوائد. أما ترتيب الكتاب؛ فلم يكن للمؤلف نَهْج مُتَّبع يسير عليه -كما هو حال هذه الكتب- إلا ما كان من تسلسل مباحث النحو والعربية في أول الكتاب بعد استفتاحه بطائفة من مسائل الفقه، ثم صار ينتقل من فن إلى فنٍّ، ومن دوحةٍ إلى أخرى. ولا بأس من عرضٍ موجزٍ لأهم أبحاث الكتاب وموضوعاته، التي تمثل وحدات موضوعية، أو مباحث متسلسلة، بحسب وضع الكتاب. (1) المجلد الأول: - بحوث فقهية: 1/ 3 - 13 - مباحث نحوية (أكثرها من النتائج): 1/ 13 - 233 - تفسير سورة الكافرون: 1/ 234 - 249 - مباحث نحوية: 1/ 250 - 280 - مباحث جليلة في الأسماء والصفات: 1/ 280 - 300 - مباحث نحوية: 1/ 301 - 384 (2) المجلد الثاني: - عشرون مسألة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}: 2/ 406 - 453

(المقدمة/21)


- مسائل نحوية ولغوية: 2/ 452 - 576 - عشر مسائل في قولهم (هذا بسرًا أطيب منه رطبًا): 2/ 577 - 593 - ثمانية وعشرون سؤالاً في (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته): 2/ 594 - 698 - تفسير المعوٍّذتين: 2/ 699 - 825 (3) المجلد الثالث: - فصل في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}: 3/ 835 - 889 - مسائل نحوية: 3/ 989 - 915 - واو الثمانية و (لولا): 3/ 915 - 922 - مباحث في الاستثناء: 3/ 922 - 954 - فوائد من خط القاضي أبي يعلى: 3/ 955 - 993 - منتقيات من خط القاضي أبي يعلى: 3/ 994 - 1015 - جزء في التفسير للإمام أحمد: 3/ 1015 - 1034 - فوائد في كلام ابن عقيل وفتاويه: 3/ 1035 - 1176 - مواعظ من "المدهش" لابن الجوزي: 3/ 1176 - 1233

(المقدمة/22)


- فوائد من "الفروق" للقوافي مع التعليق عليها 3/ 1236 - 1252 - ثلاث قواعد في الشك والاشتباه: 3/ 1253 - 1283 - فقهيات ومنتقيات: 3/ 1283 - 1291 (4) المجلد الرابع: - مباحث أُصولية وفقهية: 4/ 1305 - 1351 - - من فتاوى أبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني: 4/ 1353 - 1377 - مباحث فقهية أصولية: 4/ 1378 - 1387 - منتقيات من روايات الإمام أحمد: 4/ 1387 - 1448 - منتقيات لبعض كتب الحنابلة من خط القاضي أبي يعلى: 4/ 1448 - 1526 - فصول عظيمة في إرشاد القرآن والسنة إلى طرق المناظرة وتصحيحها: 4/ 1533 - 1610 - مباحث أصولية: 4/ 1611 - 1629 - مباحث نحوية ولغوية: 4/ 1630 - 1656 - مباحث أصولية: 4/ 1656 - 1662 - فوائد متفرقة: 4/ 1664 - 1667

(المقدمة/23)


وهذا العرض -على طوله- مفيد في إعطاء صورة شاملة سريعة لمحتوى الكتاب وطريقة ترتيبه، وتوزع الفنون فيه، وكم تستوعب من حجم الكتاب في الجملة، ولا يخفى أن هناك الكثير من الفوائد والمباحث والنِّكات لم نُشِر إليها؛ لأن الغرض هو الوصف الجُمْلي للكتاب حَسْب.

  • المبحث الثالث: علاقته بكتاب "الفوائد".

قد يظن الظانُّ -لأول وهلة- أن كتاب "الفوائد" مختصر أو منتقى من كتاب "بدائع الفوائد" بالنظر إلى حجم الكتابين، واتحاد موضوعهما، مع ما توحيه تسمية الكتابين من خلاف هذا الظن، إذ المظنون أن يكون "الفوائد" هو الأوسع، ثم تُنتقى بدائعها في كتاب مستقلّ. لكن كل ذلك لم يكن، فليس "الفوائد" منتقًى منه، بل هو كتاب مستقلّ برأسه، ولنعقد بعض المقارنات بينهما، تظهر من خلالها سمات كل كتاب: 1 - "الفوائد" يكون في ربع حجم "البدائع". 2 - لم يتبين أيهما المتقدم على الآخر في زمن التأليف. 3 - يغلب على "البدائع" المسائل العلمية من عقيدة وفقه. . . مع تحقيق وإطالة نفس، بينما يغلب على "الفوائد" الوعظ والترقيق، والاختصار في العرض، مع سهولة عبارته وقرب مأْخَذِه. 4 - "البدائع" يَكْثُر فيه النقل عن العلماء ومصنفاتهم مع تعليق المؤلف عليها، بينما "الفوائد" أكثره خواطرُ وتأملات، وفِكر وتجلِّيات،

(المقدمة/24)


ويقل فيه النقل جدًّا. 5 - وَقَع اتفاق بين الكتابين في النقل عن "المدهش" لابن الجوزي بدون عزوٍ، "الفوائد": (ص/ 145 - 151، 357 - 405)، و"البدائع": (3/ 1176 - 1233). وهو الموضع الوحيد الذي يتفق فيه الكتابان. وقد نقل المؤلف في "الفوائد" عن "المدهش" في مواضع أخرى كثيرة. هذا أهم ما يمكن إبرازه في المقارنة بين الكتابين. وبالجملة فكتاب "البدائع" كتاب علم وتحقيق مع شيءٍ من المواعظ واللطائف، وكتاب "الفوائد" كتاب مواعظ وترقيق مع شيءٍ من العلم والتحقيق.

  • المبحث الرابع: سمات الكتاب ومعالم منهجه.

هذه بعض السمات والمعالم التي تبدَّت لنا في الكتاب، وهي تكفي للخروج بتصور واضح جليٍّ عن الكتاب وطريقة مؤلفه فيه، وسنذكرها في النقاط الآتية: (1) أن كثيرًا من فوائد الكتاب نقول عن مصادر أخرى، يُصرِّح المؤلف بها حينًا ويُغفلها أخرى، وقد يصرِّح بمؤلفيها وقد يُغفل الجميع (انظر مبحث موارد المصنف)، وهذا عائد إلى طبيعة الكتاب، فهو كالتذكرة. (2) لم يكن المؤلف متخيِّرًا فحسب، بل كانت له تعليقات ضافية، وإضافات سابغة على كثير من النصوص المنتخبة، وهذه التعليقات إما أن تكون تصحيحًا لوهم أو خطأ، أو تكميلاً لنقص، أو إضافة في البحث، أو تبيينًّا لمجمل، أو تنبيهًا على فائدة بديعة، ونكتة لطيفة.

(المقدمة/25)


ومن العلماء الذين ناقشهم في الكتاب: (السهيلي -وأكثر من ذلك- والقرافي وأبو يعلى، وابن عقيل، وشيخه ابن تيمية، وابن العربي، وسيبويه، وابن قدامة والعز بن عبد السلام وابن جني، وابن الطراوة، والزمخشري). وكان في ذلك كله متأدّبًا بأدب العلماء؛ من أمانة النقل، والثناء على العلماء بما أحسنوا فيه، والانقياد للحجة والبرهان، وأدب المناظرة والاحتياج للخصم بكل دليل يصلح له (1). . . مع ما قد يعتريه -أحيانًا- من الشدة في الرد، كقوله: (1/ 347): "وفي هذا من التعسُّف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى"، ومثله (2/ 566). وقوله: (2/ 414): "فهذا جواب فاسد جدًّا". وقوله: (2/ 514): "والذي ذكره أبو الحسين -أي ابن الطراوة- غير حَسَن، بل باطل قطعًا". وهو بعد هذا كله يعلن تواضعه وحسن قصده فيقول: (2/ 668): "فهذا ما ظهر في. . . فمن وجد شيئًا فليلحقه بالهامش، يَشكر الله وعبادُه له سعيَه، فإن المقصود الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وُضِعَ ما عداه تحت الأَرْجُل" اهـ. (3) الأمانة العلمية، فإنه قد صرَّح بالنقل عن غالب من نقل عنهم، وهذا المنهج هو الذي ارتضاه المصنف لنفسه -ويرتضيه كل منُصف- وقد صرّح المؤلف بهذا المعنى أتم تصريح إذ قال: (1/ 249) -بعد تفسير سورة الكافرون-: "فهذا ما فتح الله العظيم. . . من غير استعانة بتفسير، ولا تتبّع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه. . . واللهُ __________ (1) انظر (3/ 1139).

(المقدمة/26)


يعلمُ أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها .. " اهـ. وقال في موضع آخر (1/ 361): "فهذا ما في هذه المسألة، وكان قد وقع لي هذا بعينه أيام المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيته بعدُ لفاضلين من النحاة؛ أحدهما: حام حوله وما ورَدَ، ولا أعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السُّهيلي -رحمه الله- فإنه كشفه وصرَّح به. . . " اهـ. وقال بعد أن قرر بعض المسائل: (2/ 418): "ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ" اهـ. وقال في: (2/ 528): "فتأمل هذه المعاني. . . وقد ذكرنا من هذا وأمثاله. . . ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان المدح. . . " اهـ. (4) أن غالب هذه الفوائد قد كتبها المؤلف من الخاطر، دون مراجعة كتاب، مع بُعْده عن كتبه وعدم تمكنه من مراجعتها، فقال في (1/ 249): "فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة. . . من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانَّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه. . . " اهـ وتقدم نقل باقيه قبل قليل. وقال في موضع آخر: (2/ 592): "فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث علّقتها صيدًا لسوائح الخاطر فيها خشية ألا يعود، فليسامح الناظر فيها، فإنها عُلِّقت على حين بُعدي

(المقدمة/27)


عن كتبي، وعدم تمكني من مراجعتها، وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر، والله: المستعان" اهـ. فقوله: "هذا التعليق" يُفهم منه أن التعليقات والإضافات التي يضيفها على الفوائد المنقولة = إنما هي من رأس القلم دوَن مراجعة كتاب، أو حالَ السفر مع بعده عن كتبه، وهذا قريب. ويُفهم أيضًا أنَّه أراد جُملة الكتاب: بنقوله وتعليقاته، وهو ظاهر كلامه، وليس ذلك ببعيد، مع ما آتاه الله من قوَّة الحفظ وسَعَة الاطلاع والتبحُّر في العلم، ولا يبعد -أيضًا- وقد ألّف بعض كتبه في حال السفر وبعده عن الكتب، مثل "زاد المعاد" و"تهذيب السنن" و"مفتاح دار السعادة": و"روضة المحبين" و"الفروسية" (1) مع ما فيها من التوسّع والتحقيق والنقول!. (5) أما فوائده التي يسوقها، فكان يُصَدِّرها بعناوين مختلفة، فأكثر تلك الألفاظ استخدامًا هو لفظ (فائدة) مجردة، ثم لفظ (فصل)، ثم (فائدة بديعة) وقد ابتدأ هذا العنوان من: (1/ 160)، ثم تليها عبارات استخدمها المرة بعد المرة مثل (مسألة، وفوائد شتى، وفصول، وقاعدة). (6) الاستطراد (2). ونُدوِّن هنا بعض الملحوظات على استطرادات المؤلِّف. (أ) يستطرد المؤلف في أحيانٍ كثيرة، ثم يطلب من القارئ عدم __________ (1) "أبو قيِّم الجوزية: حياته، آثاره، موارده": (ص / 60). (2) انظر "المصدر السابق": (ص / 103 - 109)، وهو مهم.

(المقدمة/28)


استطالته؛ لأنه -أي الاستطراد- يكون أحيانًا أهم مما سِيق الكلام من أجله (1)، وذلك في المواضع الآتية: (1/ 128، 268 و 2/ 629، 665، 724 و 4/ 1598). (ب) يستطرد في أحيانٍ قليلة، ثم يعتذر بأنه من باب تكميل الفائدة، كما في: (2/ 538، 620). (جـ) قد يكون مجال الاستطراد فسيحًا، إلا أن المؤلف يُحْجم عنه؛ لأن هذا ليس موضعه، كما في: (1/ 343، 375 و 2/ 585، 643). بل يقول: إنه لو استطرد لاحتاج إلى سِفْرين، كما في: (1/ 290 و 2/ 697، 774). لأجل هذا تراه كثيرًا ما يحيل على كتبه الأخرى لاستيفاء مبحثٍ ما، خاصة "التحفة المكية"، وربما وعد بتأليف كتاب أو رسالة مستقلة في المسألة أو الآية التي يشرحها، كما في: (3/ 877 - 878 و 4/ 1591 و 1/ 300 و 2/ 605) وغيرها. (7) التكرار (2). __________ (1) وقد ذكر المصنِّف -رحمه الله- في "مدارج السالكين": (2/ 306) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه (كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية، ذكر فى جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قَدِر، ومأخْذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته. فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته) اهـ وذكر أن هذا من الجود بالعلم، وذكر أمثلة من أجوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الطريقة. (2) انظر توجيه هذه الظاهرة فى كتاب "ابن قيم الجوزية": (ص/ 122 - 128) وإن كان التكرار الذي نعنيه هنا أخص؛ لأنه في كتاب واحد، لا عدة كتب.

(المقدمة/29)


وقع للمؤلف -رحمه الله- تكرار بعض المباحث في الكتاب، فيعيد البحث في المسألة الواحدة في موضعين دون الإشارة إلى أنه قد تقدم بحثها أو سيأتي البحث فيها، لكن يلاحظ في هذه المواضع: أن كلاًّ منها يقدم جديداً إلى المسألة المطروقة من زيادة استدلال وتحقيق، أو بسط وتوسع، إلا في مواضع يسيرة حصل للمؤلف نقل بعض الروايات عن الإمام أحمد، ثم أعادها مرة أخرى! فهدا يدلّ أن المؤلف كان يكتب هذه الفوائد والتعاليق على فترات متباعدة، وإلا لضم النظير إلى نظيره (1) أو تكلَّم عنها في موضع واحد، أو أشار إلى تقدم البحث فيها. وهذا بيان المسائل التي أعاد المؤلِّف البحثَ فيها: • التفضيل بين السمع والبصر: (1/ 123 - 130 و 3/ 1106 - 1108). • دخول الشرط على الشرط في الطلاق: (1/ 101 - 106 و 3/ 1237 - 1241). • العمل بالقرائن والفراسة: (3/ 1037، 1089 - 1096 و 4/ 1319 - 1322). • مسائل في الشكِّ: (3/ 1276 - 1283 و 4/ 1338 - 1339). • مسائل الفضل بن زياد القطان: (3/ 986، 991، 1002 و 4/ 1406، 1411). __________ (1) قد يُحيل في موضع على كتابٍ آخر له، ثم هو يستوفي الكلام عليه في موضعٍ آخر من الكتاب -أعني البدائع- كما وقع له في: (2/ 664)، وقد استوفاه في (3/ 915) وهذا يدل على تفاوت وقت تدوين الفائدتين.

(المقدمة/30)


• مسائل الميموني: (3/ 963، 991، 993 و 4/ 1406). • البحث في قولهم (في مستقر رحمتك): (2/ 677 - 678 و 4/ 1418 - 1419). • بيع المغيَّبات في الأرض: (3/ 1323 و 4/ 1423 - 1424). • إذا زوج السيدُ عبدَه: (4/ 1481 - 1483 و 4/ 1519 - 1520). • طريقةُ القرآن في إضافة الخير إلى الله والشر إلى غيره: (2/ 420 - 421 و 2/ 724 - 725). • قول السيد لعبده: أنت حر. . .: (4/ 1372 و 1399). (8) من الظواهر البارزة في كتب المصنف -رحمه الله- كثرةُ ثنائه على مباحثها، وما تفردت به من البحوث العزيزة والتحقيقات النادرة، كما في "مفتاح دار السعادة" و"إعلام الموقعين" و"حادي الأرواح"، و"تحفة المودود" و"جلاء الأفهام"، وهي أظهر وأجلى في كتابنا هذا، وله في بيان ذلك والدلالة عليه طرائق: منها: قوله إن فيه ما لا يوجد في الكتب: (1/ 197، 242، 268 و 2/ 610 و 4/ 1603). ومنها: أن يحمد الله -تعالى- على ما فتح عليه من العلم والنعم: (1/ 336 و 2/ 540، 694، 697). وتارة: بالإشارة إلى ما تضمنته الفائدة من أسرار العلم: (1/ 353، 358 و 2/ 420، 469، 476، 561، 608، 674 وغيرها).

(المقدمة/31)


وتارة: بأن هذا البحث من النِّكات البديعة والمباحث العزيزة: (2/ 403، 411، 457، 463، 527، 576، 607 و 4/ 1603). وتارةً: بأن هذه الفائدة تساوي رحلة، أو حصلت بعد سَهَر وتَعَب وفِكْر: (1/ 34 و 2/ 540، 641). وتارة: بأن هذا البحث لا يفهمه إلا من آتاه الله فهمًا، أو أنه يحتاج إلى تدقيق نظر، أو لا يفهمه إلا العلماء، أو أنه لا يفهمه إلا ذهن يناسبه لطافةً ورِقة: (2/ 423، 527، 694، 480، 641 و 4/ 1568). وتارة: بالشكوى من أهل الزمان وقلة المساعد منهم والمعاون، وأن أكثرهم نَقَلَه: (2/ 641، 642، 672، 697). وهذا كله -في تقديري- خارج مخرج النصيحة لطالب العلم والشفقة عليه من أن تفوته هذه الفوائد والتقريرات والتحريرات دون أن يلتفتَ إليها، ويُنْعِمَ النظرَ فيها، ويُعطيَها بها يليق بها من الحفظ والإجلال (1). فكم من فائدةٍ ربما مرّ عليها الطالبُ دون شعور بقيمتها العلمية إلا بتنبيه أستاذ: أو إرشاد معلِّم، فابن القيّم هو ذلك المعلِّمُ الحَدِبُ الشفيقُ على تلميذه، فلا تمر فائدة عزيزة تستحق -الدلالة والإرشاد إليها إلا سارع إلى ذلك بأحدى هاتيك العبارات، نصيحة وإرشادًا. والمصنِّف -رحمه الله- إنما يخاطب بهذا الكلام طبقةً عالية من أهل العلم وطلابه، يَقْدُرون هذه الفوائد قدرَها، وينزلونها منزلتها، ويشكرون من يرشدهم وينبِّههم إلى مثلها، ولا يقفون عند رسم عبارةٍ __________ (1) انظر (4/ 1623).

(المقدمة/32)


لم يكن الغرض من سياقها أكثر من الدلالة على الأمر المدلول عليه. أما المبتدئ والمقلِّد -كما يقول ابن القيم: (3/ 889) - فإنه لا يفهم كثيرًا من هذه الدقائق والمباحث. وابن القيم -رحمه الله- إمام من أئمة الدين والورع والزهد والعبادة، فلا يُظَنُّ به -إن شاء الله- إلا ما وصفتُه لك. وهو بعد ذلك إمامٌ متبحِّر في العلم، واسعُ الاطلاع، حافظ ضابط، فإذا أخبر عن عِزِّةِ بحث أو ندرة فائدة = فاركن إلى ذلك فعلى الخبير سقطت. واعتبرْ ذلك تجِدْه كذلك إن شاء الله (1). (9) قد يكتب المؤلف بعض الفوائد ليكشف عنها ويعلِّق عليها، فقد دوّن عدة أحاديث مما انتقاه القاضي أبو يعلى، ثم قال: "وليت القاضي ذكر أسانيد هذه الأحاديث، وكتبتُها لأكشف عن حالها" (2). (10) عنايته الظاهرة بالتفسير وعلومه (انظر ما سبق في أهمية الكتاب). (11) عنايته الظاهرة -أيضًا- بتدوين المسائل والروايات عن الإمام أحمد، إذ نقل عن أكثر من أثنين وثلاثين من كتب الرواية عن الإمام (وانظر ما سبق، وما سيأتي في الموارد). (12) كما ظهر جليًّا عنايته بالنقل عن أفرادٍ من العلماء، وهم: - الإمام أحمد بن حنبل (241)، فنقل عن كثير من رواياته. - أبو حفص العُكْبَري (387)، وكثير من النقول عنه بواسطة أبي يعلى. __________ (1) وانظر: "ابن قيم الجوزية": (ص / 120 - 122). (2) (3/ 1006 - 1009).

(المقدمة/33)


- القاضي أبو يعلى بن الفراء (458)، أكثر النقول عنه من تعاليق له وفتاوي ومنتقيات. - أبو الوفاء بن عقيل (510)، من "الفنون" وغيره. - شيخ الإسلام: ابن تيميَّة (728)، من فتاويه وكتبه. وذَكَر بعض أحواله. - أبو القاسم السُّهيلي (581)، أكثرها من "النتائج"، ومواضع من "الروض الأنف". - سيبويه (180)، من "الكتاب" وكثير منها بواسطة السُّهيلي. - القرافي (684)، من "الفروق". * * *

(المقدمة/34)


 * إفادة العلماء منه ونقولهم عنه، وثناؤهم عليه

عرف العلماء الذين وقفوا على الكتاب قيمتَه العلمية وما حواه من الفوائد والتحقيقات -فأثنوا عليه واقتبسوا منه واقتنوا نسخَه الخطيّة. فأول من أثني عليه وأبدى محاسنه وأظهرها هو مؤلِّف الكتاب، وقد تقدم تفصيل ذلك بما يُغني عن إعادته (1). ونقل منه البقاعي واستحسن مباحثه، وذكر بعض الأسرار التي حواها في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور". وقال السيوطي في "بغية الوعاة" (2): "بدائع الفوائد، مجلدان، وهو كثير الفوائد، أكثره مسائل نحوية" اهـ. وقد كُتِب على طرة نسخة (ق) فوق عنوانه ما يلي: "هذا الكتاب جمع علومًا شتى، أصولاً وفروعًا ونحوًا وبديعًا، فليعرف الواقف عليه حقه ولا يجهل قدره" اهـ. وهذه النسخة قد تملّكها جماعة من العلماء وأثبتوا ذلك على غلافها، فمنهم: علي القاري الهروى الحنفي سنة (989) (ت 1014)، وابن علاّن الصديقي الشافعي ولمٌ يظهر تاريخ تملُّكِه (ت 1057)، __________ (1) انظر ص/ 31 - 33. (2) (1/ 63).

(المقدمة/35)


والأمير المتوكل على الله إسماعيل ين المنصور بالله (ت 1087)، وعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري إمام المقام الشريف سنة (1019)، ومحمد بن علي العَمْراني سنة (1228)، ومحمد بن عبد الله بن حميد الحنبلي صاحب "السحب الوابلة" سنة (1265) وغيرهم (1). وهذا يدل على مزيد عنايتهم بالكتاب ومعرفتهم لقدره. وهذا بيان ما وقفت عليه من نقول العلماء من الكتاب -لا على سبيل الاستقصاء- مرتبة على وفياتهم: 1 - ابن مفلح (763)، وهو من أقرائه، نقل منه في "الفروع" (4/ 513) (2) روايةً من روايات الإمام أحمد. و (6/ 247) في مسألة إثبات "الواو" في (وعليكم). 2 - الزركشي (794)، نقل منه في "البرهان في علوم القرآن": (2/ 6 - 12) في الكلام على أصول الفقه، و (3/ 56) في أمثال القرآن، و (4/ 16) في أسرار القرآن في المفرد والمثنى والجمع و (2/ 369، 85 - 87). 3 - المرداوي (885)، نقل منه في "الإنصاف": (1/ 427) في (مقامًا محمودًا)، و (4/ 233) في إثبات "الواو" في (وعليكم)، و (7/ 223) رواية عن أحمد، و (8/ 185) في تزويج السيد لعبده من أمته (3)، و (8/ 464) في حادثة الطلاق التي وقعت في عهد ابن جرير، و (8/ 478) في قولهم: (الله قد طلقك)، و (9/ 47). في بيت __________ (1) انظر بقية التملكات في الكلام على وصف نسخة (ق)، ص / 73. (2) وحدَّد موضع النقل بقوله: "قبل آخره بقريب من كراسة". (3) ولم يصرِّح بالنقل عنه هنا.

(المقدمة/36)


شعر فيه ثمانية أوجه (1)، و (11/ 284) في أن غالب الناس على عدم العدالة (2). ونقل عنه في "التحبير شرح التحرير": (1/ 75 و 2/ 602 - 605). 4 - البقاعي (885)، نقل منه في "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور": (1/ 37)، نقل منه سر ابتداء القرآن بقوله (الم). 5 - ابن المَبْرَد (909)، نقل منه في "شرح غاية السول إلى علم الأصول": (ص/75). 6 - السيوطي (911)، كان من مصادره الأساسية التي اعتمد عليها في بناء كتابه "الإتقان" فذكره في المقدمة: (1/ 24) في الكتب الجامعة، ونقل عنه في "الأشباه والنظائر": (1/ 320) في الوصلات في كلام العرب، و (1/ 61) في العامل في نصب المصادر، و (4/ 241) المسألة المشهورة وهي قولهم: (هذا بسرًا أطيب منه رطبًا)، وفي هذا الموضع الأخير نسب الكلام لنفسه وسمَّى هذا البحث "تحفة النجبا في قولهم: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا"!. 7 - المناوي (1033)، نقل منه في "فيض القدير": (4/ 309) في انقطاع عذاب القبر، و (6/ 426) في التعدية بالباء. 8 - البهوتي (1051)، نقل منه في "كشَّاف القِناع": (5/ 247، 283). 9 - المنقور (1125) نقل عنه عدة نصوص في كتابه "الفواكه __________ (1) وحدد مكان النقل بقوله: "في آخره بقريب من كراسين". (2) وحدد مكان النقل بقوله: "في أواخر بدائع الفوائد".

(المقدمة/37)


العديدة" ينظر الفهرس (ص / 418 - فهرس الكتب). 10 - الشوكاني (1250)، نقل منه في "نيل الأوطار": (5/ 254) في باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه. 11 - القِنّوجي (1307)، نقل منه في "أبجد العلوم": (2/ 587) في فائدة ما من يوم إلا وليلته قبله. 12 - ابن عيسى: (1329)، نقل منه في "شرح النونية" في مواضع كثيرة (1/ 11، 12، 13، 15، 20، 68، 130، 308، 413 و 2/ 36، 216، 249، 252، 450). 13 - القاسمي: (1332)، نقل عنه في تفسيره "محاسن التأويل": (2/ 303 و 17/ 6097، 6311). 14 - الكتاني (1382)، نقل منه في "التراتيب الإدارية": (1/ 388، 460 و 2/ 92). هذا ما وصل إليه علمي الآن، ومزيد البحث والتنقيب كفيل بكشف مصادر أخرى لم أقف عليها (1). __________ (1) وقد أفادني الشيخ سليمان العمير بعدد آخر من العلماء أفادوا من "البدائع" مثل: ابن البخاري في "معونة أولي النهى"، وابن البهاء البغدادي في "فتح الملك العزيز"، والسفاريني في "لوائح الأنوار السنية": (1/ 161).

(المقدمة/38)


 * موارده

يمكن تقسيم الموارد التي اعتمد عليها المصنِّف من حيث تصويحُه بها وعدمُه إلى أقسام ثلاثة: الأول: مصادر صرَّح بأسمائها. الثاني: مصادر صرَّح بأسماء مؤلِّفيها. الثالث: مصادر لم يصرح لا بأسمائها ولا بأسماء مؤلِّفيها، عُرِفت بتطابق المادة العلمية.

 * القسم الأول، فنرتبها على حروف المعجم.

- الأجوبة المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية: (2/ 572). أقول: لعله "التسعينية". - الأدب المفرد، للبخاري: (2/ 677 و 4/ 1419). - إصلاح الغلط، لابن قتيبة: (1/ 261). - الأصول، لابن السرَّاج: (1/ 79 وغيرها). - أعلام الحديث، للخطّابي: (4/ 1666). - ترغيب القاصد، للفخر ابن تيمية: (4/ 1371). - تعاليق للقاضي أبي يعلى: (3/ 1011). - التنبيه، للشيرازي: (4/ 1331، 1332).

(المقدمة/39)


- التفسير، لابن أبي حاتم: (1/ 296). - الثقات، لابن حبان: (3/ 1153). - سنن الترمذي: (2/ 699، 700، 755 و 3/ 812، 813 و 4/ 1667 ومواضع أخرى). - الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار، للحاكم: (3/ 1150). - جزء فيه تفسير آيات من القرَآن عن الإمام أحمد: (3/ 1015). - الجواهر، لابن شاس: (1/ 104 و 3/ 1239). - الروض الأُنف، للسُّهيلي: (2/ 666 و 4/ 1598 (1)). - زاد المسافر، لغلام الخلال: (4/ 1482). -سنن أبي داود: (2/ 597، 699، 727 و 3/ 853). - السنن الكبير، للنسائي: (4/ 1479). - سنن النسائي (الصغرى): (2/ 553، 667، 699 و 4/ 1486) - سنن ابن ماجه: (2/ 611، 612 و 3/ 1259). - السيرة النبوية، لابن إسحاق: (3/ 1329). - شرح أبي داود، للخطابي: (2/ 665 و 4/ 1666). - شرح الطحاوي، للإسبيجابي: (3/ 1059). __________ (1) في هذا الموضع لم يُسم الكتاب.

(المقدمة/40)


- شرح كتاب سيبويه، للسيرافي: (3/ 896، 929). - شرح المفصَّل، للأندلسي: (1/ 91، 104). - الصحاح، للجوهري: (2/ 524 و 4/ 1643)، (3/ 1156، 1160 و 4/ 1645) (1). - صحيح الإمام البخاري: (2/ 706، 797 و 3/ 1057، 1060، 1265 و 4/ 1486، 1665). - صحيح ابن خُزَيمة: (4/ 1486). - صحيح الإمام مسلم (2): (2/ 682، 699 و 3/ 951). -العلل، لابن أبي حاتم: (3/ 1155). - فتاوى ابن عقيل وأبي الخطَّاب وابن الزاغوني: (3/ 1035 وغيرها). - الفصول، لابن عقيل: (4/ 1473، 1474، 1479، 1480). - الفنون، لابن عقيل: (4/ 1384، 1385 وغيرها). - الكتاب، لسيبويه: (1/ 307، 425 و 2/ 515، 559، 622) (3). - العين، للخليل: (2/ 564). - الكشاف، للزمخشري: (2/ 431، 744 و 3/ 905). __________ (1) في المواضع الثلاثة الأخيرة لم يصرِّح باسم الكتاب. (2) يعزو المؤلف إلى "الصحيحين" جميعًا في مواضع: (2/ 700، 794، 813 و 3/ 951، 1046، 1155 و 4/ 1575). (3) ومواضع أخرى كثيرة، وكثير منها بواسطة السُّهيلي.

(المقدمة/41)


- المبْهِج، لأبي الفرج المقدسي: (3/ 1112). - المحرَّر، للمجد ابن تيميَّة: (4/ 1416، 1479). - المحكم، لابن سِيْدَه: (3/ 888). - مختصر الخِرَقي: (3/ 1261، 1271، 1272). - المدوَّنة: (3/ 973). - مراتب الإجماع، لابن حزم: (1/ 12). - مسائل أحمد بن أصرم (للإمام أحمد) (1): (4/ 1418). - مسائل أحمد بن محمد البراثي: (4/ 1446). - مسائل أحمد بن محمد بن صدقة: (4/ 1439). - مسائل إسحاق بن منصور الكوسج: (3/ 1288 - 1291 وغيرها). - مسائل البُرْزاطي: (4/ 1394). - مسائل بكر بن أحمد البراثي: (4/ 1405). - مسائل أبي جعفر الجرجرائي: (4/ 1388). - مسائل أبى جعفر الورَّاق (4/ 1401). - مسائل حرب الكرماني (2): (4/ 1475). __________ (1) جميع المسائل الآتية للإمام أحمد. (2) وهي من أجل المسائل عن الإمام وأكبرها، حُقِّقت قطعة منها في جامعة أم القرى، وعند الشيخ زهير الشاويش قطعة أخرى، ذكر لي أنه صوَّرها أكثر من مرة لمن طلبها منه، وله نسخة جليلة كاملة رأيتُ بعضَها مصوراً -نحو سبعين =

(المقدمة/42)


- مسائل الحسن بن ثواب: (4/ 1437 وغيرها). - مسائل حنبل بن إسحاق: (3/ 959 وغيرها). - مسائل أبي داود: (4/ 1475 وغيرها). - مسائل زياد الطوسي: (4/ 1404). - مسائل صالح بن أحمد: (3/ 968، 975، وغيرها). - مسائل أبي طالب: (3/ 998). - مسائل أبي العباس البرتي: (4/ 1404). - مسائل عبد الملك الميموني: (4/ 1406، 1474 وغيرها). - مسائل الفضل بن زياد القطَّان: (4/ 1406، 1411، 1421 وغيرها). - مسائل أبي القاسم البغوي: (4/ 1391). - مسائل مثنَّى بن جامع الأنباري (1): (4/ 1392). - مسائل محمد بن الحسن بن بدينا: (4/ 1436). - مسائل المرُّوْذي: (4/ 1454 وغيرها). __________ = ورقة- عند بعض الفضلاء. وقد جمع الشيخ عبد الباري الثبيتي في رسالته الدكتوراه من الكتب الناقلة المسائلَ الفقهية منها ولم يلتزم الاستيعاب، ونوقشت قريبًا. (1) وقع في جميع المطبوعات وبعض النسخ: "فوائد من مسائل شتَّى من جامع الأنباري"! وهو تحريف صوابه. "فوائد من مسائل مثنى بن جامع الأنباري"، وبسبب هذا التحريف جُعِل "جامع الأنباري" من مصادر ابن القيم! وهو كتابٌ لا وجود له في الخارج!.

(المقدمة/43)


- مسائل ابن هانئ: (4/ 1430 وغيرها). - مسند الإمام أحمد: (2/ 611، 644، 817 و 3/ 952، 1046، 1078، 1132، 10266). - معالم السنن = شرح سنن أبي داود. - معاني القرآن، للزجاج: (2/ 469). - المغني، لابن: قدامة: (3/ 1261، 1444، 1472، 1482، 1485 وغيرها). - المقالات، للأشعري: (3/ 1013). - المقنع، لابن قدامة: (4/ 1474، 1483). - منتحب الفنون، لابن الجوزي: (4/ 1385). - منتقى من شرح العكبَري؛ لأبي يعلى: (4/ 1490 - 1516). - منتقى من شرح مسائل الكوسج، لأبي يعلى: (4/ 1448، 1468). - منتقى من كتاب حكم الوالدين في مال ولدهما، له: (3/ 994). - منتقى من كتاب الصيام، له: (3/ 993). - المهذب، للشيرازي: (1/ 104 و 3/ 1239 و 4/ 1331). - الموطأ، لمالك: (8/ 758 و 3/ 1155 و 4/ 1476). - نهاية المطلب، للجويني: (3/ 1239).

(المقدمة/44)


ونُسجِّل هنا بعض الملحوظات على هذه القائمة: (1) أغلب هذه المصادر: نقل عنها المؤلف دون واسطة، وبقي في بعضها تردُّد، فذكرناه هنا على الاحتمال. (2) سيجد المتصفِّح للكتاب بعض الكتب التي صرّح المؤلف بأسمائها (انظر فهرس الكتب) ولم نذكرها هنا في القائمة، وذلك لأحد أمرين: إما أن المؤلّف لم ينقل عنها مباشرة، أو حاء ذكرها عَرَضًا ضمن نصٍّ منقول أو نحوه. (3) بعض هذه الكتب التي نقل عنها المؤلف بواسطة لا يعني أنه لم يطَّلِع عليها أصلاً، بل المقصود أنها ليست من مصادره في هذا الكتاب فحسب، إذ هو المخصوص بالدراسة هنا.

  * أما القسم الثاني: وهي المصادر التي صرّح بالنقل عن مؤلِّفيها، فنذكرهم مرتبين على المعجم.

- أحمد بن عبد الحليم ابن تيميَّة (728). نقل عنه كثيرًا من أقواله وفتاويه وأحواله، ولم يصرِّح من أيِّ الكتب ينقل، وأغلب نقوله فتاوي واختيارات وليست نصوصًا من كتاب معيَّن إلا في مواضع قليلة. فقد نقل عن كتابه "قاعدة في الاستحسان" في: (4/ 1527 - 1532)، وعن "رسالة في معنى القياس" في: (4/ 1526). ونقل جملةً من مسائل التفضيل في: (3/ 1101 - 1108) ولم أقف عليها في شيءٍ من كتبه المطبوعة، والموضع الذي في "الفتاوى": (4/ 393 وما بعدها) منقول من هنا.

(المقدمة/45)


- أحمد بن مروان الدينوري (333) نقل من كتابه "المجالسة وجواهر العلم" في: (3/ 1149 - 1150). - الأخفش (215) نقل من كتابيه "معاني القرآن" و "إعراب القرآن" في: (1/ 325، 326 و 2/ 592 و 3/ 893). - ابن الأنبارى (328) نقل عن كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" في: (1/ 283). ومن كتاب آخر لعله "المشكل في الرد على أبي حاتم وابن قتيبة" في: (3/ 1106). - البغوي (516) نقل من تفسيره: "معالم التنزيل" في: (2/ 681، 741). وانظر ما سيأتي. - أبو بكر بن أبي شيبة (235) نقل من كتابه "المصنَّف" في مواضع: (2/ 740 و 3/ 862، 1045، 1047). - البيهقي (458). نقل عنه في موضع واحد من "السنن الكبرى" في (3/ 1155). - ابن جرير الطبري (310).

(المقدمة/46)


نقل من تفسيره "جامع البيان" في عدة مواضع: (2/ 743 و 3/ 1129، 1130 وغيرها). - ابن ِجِنَّي (392). نقل من كتبه "الخصائص" و"المنصف" في: (1/ 166، 302 و 3/ 894 و 4/ 1620، 1651). - ابن الجوزي (597) نقل عنه مصرِّحًا باسمه في موضع واحد: (2/ 696) من كتابه "المدهش"، ونقل عنه مرارًا -كما سيأتي- دون تصريح. - الجويني إمام الحرمين (476) من "البرهان" في: (1/ 15، 124). - أبو حاتم الرازي (277) نقل من كتاب ابنه "الجرح والتعديل" في: (4/ 1486). - حرب الكرماني (280) نقل عنه في مواضع بلغت أربعًا وعشرين، وذلك من "مسائله للإمام أحمد"، (انظر ص/42 حاشية 2). - ابن حزم (454) نقل عنه في موضعين اختيارين فقهيين: (2/ 713 و 3/ 1258) من كتابه "المحلَّى". - الحسن بن محمد الأنماطي (؟)

(المقدمة/47)


نقل من مسائله عن الإمام أحمد في مواضع: (3/ 971، 980). - أبو حفص البرمكي (العكبري) (387) ذكره المؤلف كثيرًا -أغلب أقواله إن لم يكن كلها- بواسطة منتقيات للقاضي أبي يعلى انتقاها من كتبه "شرح المبسوط" و"شرح مسائل الكوسج" و"كتاب الصيام" و"حكم الوالدين في مال ولدهما". - حنبل بن إسحاق الشيباني (273) نقل من "مسائله للإمام أحمد" في مواضع: (3/ 959، 962، 968 وغيرها). - أبو الخطاب الكلوذاني (510) نقل من "فتاويه" مرات: (3/ 951، 953 وغيرها). - الخطابي (388) من "غريب المحديث" في: (2/ 474). - الخلّال (307) من كتابه "الجامع" مرات عديدة: (3/ 989 و 4/ 1384، 1396 وغيرها). - الخليل بن أحمد (175) من كتاب "العين" وغيره في: (1/ 165، 273 و 2/ 564 و 3/ 897 و 4/ 1616). - الدارقطني (385)

(المقدمة/48)


من كتابه "السنن" في: (3/ 1046، 1259). -ابن دُرَيْد (321) من "المقصورة" في: (3/ 1240). - ابن الزاغوني (527) نقل من "فتاويه" مرات في: (4/ 1353، 1355 وغيرها). - الزمخشري (537) من "الكشاف" و" المفصَّل" في: (1/ 91 و 2/ 438 و 3/ 840، 932 وغيرها). - ابن السِّكِّيت (244) لعله نقل من "إصلاح المنطق" -ولم أجد النص فيه-: (1/ 297). - السُّهَيْلي = عبد الرحمن بن عبد الله - ابن سِندي (؟) من "مسائله لأحمد" في: (3/ 965 و 4/ 1442). - صالح بن أحمد (266) من "مسائله لوالده" (انظر فهرس الأعلام). - أبو طالب المشكاني (244) من "مسائله للإمام أحمد" في: (3/ 957، 958، 961، 963 وغيرها).

(المقدمة/49)


-الطحاوي (321) من "شرح معاني الآثار" في: (3/ 1048). - ابن عبد البر (463) من "التمهيد" و"الاستذكار" في: (2/ 662 و 4/ 1666). - عبد الرحمن بن عبد الله أبو القاسم السُّهيلي (583) نقل عنه المؤلف كثيرًا من كتابه "نتائج الفكر" دون أن يُسمِّيه، ووقعت تسمية الكتاب في موضع واحد: (3/ 913) إلا أنها ليست من ابن القيم، وإنما هي من كلام السُّهَيلي نفسه، لذا لم نعتبره من المصادر التي صرَّح بتسميتها. وسنفرد الحديث عن هذا المصدر فيما سيأتي. ونقل من كتابه الآخر "الروض الأُنُف" مرَّة باسمه، ومرَّة باسم مؤلفه (انظر ما سبق). - عبد الرزاق الصنعاني (211) من كتابه "المصنَّف" في: (2/ 754 و 4/ 1412). - العز بن عبد السلام (660) من كتابه "الإمام في أدلة الأحكام" في: (4/ 1312، 1328، 1331، 1333، 1334). - عبد الله بن الإمام أحمد (292) من "مسائله لوالده" (انظر فهرس الأعلام). - أبو عبد الله بن مالك النحوي (676)

(المقدمة/50)


لعله من "شرح التسهيل" أو "شرح الخلاصة"، ورسالةٍ له في {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} فى: (1/ 185 و 3/ 886، 930 و 4/ 1630). - أبو عبيد القاسم بن سلام (224) من كتابيه "غريب الحديث" و"الغريب المصنَّف" في: (1/ 261 و 3/ 1192 و 4/ 1380). - أبو عبيدة مَعْمر بن المثنَّى (207) من "مجاز القرآن" في: (2/ 736 و 4/ 1518). - أبو عثمان المازني (249) من "تصريف المازني" في: (4/ 1619). - العُقيلي (321) من "الضعفاء" في: (3/ 1259). - علي بن سعيد النَّسَوي (257) من "مسائله لأحمد" في: (3/ 963، 1001 وغيرها). - عياض بن موسى اليحصُبي (544) من "إكمال المعلم " في: (3/ 1160). -الفرَّاء (207) من كتابه "معاني القرآن" وغيره في: (2/ 803 و 3/ 868، 923 و 4/ 1625 وغيرها).

(المقدمة/51)


-ابن قتيبة (276) من "تأويل مشكل القرآن" في: (1/ 124 و 2/ 753 و 3/ 1106). - القرافى (684) من "الفروق": (1/ 93 و 4/ 1316) ونقل عنه في مواضع أخرى ولم يصرِّح باسمه. - المبرَّد (286) لعلها من "المقتضب" أو غيره من كتبه في: (2/ 524 و 3/ 893، 920 و 4/ 1625 وغيرها). - محمد بن إدريس الشافعي (204) من "الرسالة" و"الأم". - محمد بن الحكم (223) من "مسائله لأحمد" في: (3/ 955، 957 و 4/ 1494، 1505 وغيرها). - محمد بن موسى بن مُشَيْش (؟) من "مسائله لأحمد" في: (3/ 976، 987 و 4/ 1435). - مهنّأ بن يحيى الشامي (؟) من "مسألة لأحمد" (انظر فهرس الأعلام). - يعقوب بن بختاِن (؟).

(المقدمة/52)


من "مسائله لأحمد" في: (3/ 956 و 4/ 1482، 1510، 1515، 1524). - أبو يعلى بن الفرّاء الحنبلي (458) نقله عنه كثيرًا (انظر فهرس الأعلام). ويُقال في هدا القِسم من ملحوظات ما قيل في الذي قبله.

 * القسم الثالث: مصادر لم يُصرِّح بأسمائها ولا بأسماء مؤلِّفيها.

وهذا القسم إنما يُعْرف من تتبُّع المظانّ، وتصفُّح الكتب، ومعرفة أساليب المؤلِّفين. وهذا النوع قليل، فالذي وقفنا عليه من ذلك خمسة كتب هي: 1 - المدهش، لابن الجوزي (597). فقد نقل عنه وأكثر في: (3/ 1176 - 1232) أي ما يزيد على خمسين صحيفة، وقد لاحظتُ في نقله عن هذا الكتاب أمورًا: أ- لم ينقل نقلاً مجرَّدًا متتابعًا، بل تصرَّف في النص كثيرًا فغيَّر وبدَّل، وانتقى من كل الكتاب؛ أوله وأوسطه وآخره. ب - من (3/ 1176 - 1203) كانت طريقة الانتفاء غير منتظمة ولا مرتبة، ثم من (3/ 1203 - 1232) غيَّر هذه الطريقة، فكان نقله مرتَّبًا، لكن من آخر الكتاب -أعني المدهش- إلى أوله من (531 - 387). جـ- هناك بعض النصوص لم أجدها في "المدهش"، وهي لا تخرج في سبكها عن طريقة ابن الجوزي في كتبه الوعظية. فهل هي

(المقدمة/53)


من إنشاء المؤلِّف (1) -وهو خبير بهذه الطريقة- أو سقطت من طبعة "المدهش"، أو في كتابٍ آخر لابن الجوري؟. 2 - أدب المفتي والمستفتي، لتقي الدين أبي عَمْرو بن الصلاح (643). (3/ 1283 - 1287) انتقى منه شيئًا من حالِ السلف في الفتيا، وتحذيرهم من الإفتاء بغير علم، وقولهم: "لا أدري". 3 - مختصر سنن أبي داود، للمنذري (656). نقل عنه في موضع واحد: (2/ 667). 4 - الفروق، للقرافي (684) نقل في موضع: (1/ 8، 12 - 13، 15، 78 و 3/ 1126، 1234 - 1252)، (وانظر: ص/ 52). 5 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة (728) (3/ 835 - 862) نقل تفسير قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56] مع إضافات يسيرة. تنبيه: هناك موضع آخر في "البدائع": (2/ 462 - 464) عنوانه: بديعة في تفسير قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ... } [البقرة / 217]، وهو موجود بنصه في "مجموع الفتاوى -التفسير": __________ (1) وقد أعاد هذه النقول في كتابه "الفوائد" وأشرنا إلى ذلك في الهوامش.

(المقدمة/54)


(14/ 88 - 90)، فهل هو مما نقله المؤلف من شيخه دون إشارة؟ أو هو مما أُقْحِم في "الفتاوى" وليس منها بل هو لابن القيّم؟. الجواب: أن هذا الموضع ليس لابن تيميّة ولا لابن القيّم، بل حو للسُّهيلي في "نتائج الفكر": (ص/312) استفاده المؤلف منه، فلتحذف من "المجموع" إذن. * * *

(المقدمة/55)


* بين ابن القيم في (البدائع) والسُّهيلي في (النتائج) من أهم المصادر التي بنى المصنِّف كتابه عليها فيما يتعلق بمسائل اللغة والنحو هو كتاب "نتائج الفكر" لأبي القاسم عبد الرحمن ابن عبد الله السُّهيلي العلامة المتفنِّن المتوفى سنة (581). ولأجل الغموض الذي اكتنفَ النقلَ عن هذا الكتاب؛ إذ نقل كثيرًا من نصوصه دون تصريح باسمه، بل يذكُرُ مُؤَلِّفَه -السُّهيلي-، ويُثني على بحوثه، ويرد عليه، ويتعقبه، ويزيد عليه، لكن من أيِّ كُتُب السُّهيليِّ ينقل؟ هذا ما لم يفصح عنه ابن القيم في شيء من الكتاب، وإن وقعت تسميته في موضع واحد: (3/ 913) لكن هذه التسمية ليست من ابن القيم بل من السهيلي نفسه (انظر ما سبق ص 50). وهذا الغموض هو ما كشف عنه الدكتور محمد إبراهيم البنَّا عندما أصدر كتاب السهيلي "نتائج الفكر"، فطابَقَ بين نقولِ ابن القيم وبين هذا الكتاب، فوجدَ الضالةَ وبان الأمرُ. إلا أن نَشْوَته بهذه الفائدة جعلته يتجاوز الحد فى وصف صنيع المؤلف هتا بأنه: (ادعى نحوَ السُّهيلى لنفسه)، وأنه: (إنما حذف مقدمته وقدَّم وأخَّر، وزاد قليلاً واختصر، حتى ليظن القارئُ أن النحو الذي يسوقه اين القيم في كتابه من بدائعه، قال: والحق أنه ليس له فيه نصيب من قريب أو بعيد، وأن البدائع المسطورة في كتابه هي "نتائج الفكر" الني نقدمها الآن) (1) اهـ. __________ (1) مقدمة "النتائج": (ص/ 7).

(المقدمة/56)


ولم يقف عند هذا الحد المتجاوز، فتعدَّاه إلي القول بـ "أنه ينبغي إعادة النظر في هذا الرجل، إذ نُسبَ إليه من الآراء ما أدخله في عداد النحاة!! " = لأجل ذلك كلِّه رَأينا أن نفرد الكلام في هذه القضيّة، ليتجلّى وجه الحق فيها، دون وكَسْ أو شطط في الانتصار أو الاعتذار، وإن كان قُرْبي من (ابن القيم)، وتجاوز (البنَّا) في حقه قد يحدوني إلي الانتصار له، لما تُمليه وشائج القربى ويدفع إليه تجاوز (البنَّا)، لكني سأدفع ذلك قدر المستطاع؛ لأن المقصود هو الحق وما عداه فيوضع تحت الأرجل -كما قال ابن القيم-. وهنا نؤصِّل أصلاً -في عزو الفوائد إلي أهلها- لا ينبغي أن يُخْتَلَف فيه، تواردت علية كلماتُ الأئمة السابقين ومن بعدهم -والمؤلف منهم-. قال أبو عبيد (224): (من شُكر العلم أن تقعد مع كل قوم، فيذكرون شيئًا لا تُحسنه فتتعلّم منهم، ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر فيذكرون ذلك الشيءَ الذي تعلّمته فتقول: والله ما كان عندي شيء حتى سمعتُ فلانًا يقول كذا وكذا، فتعلّمته، فإذا فعلتَ ذلك فقد شكرتَ العلم) (1). وقال النووي (676): (ومن النصيحة: أن تُضاف الفائدة التي تُسْتغرب إلي قائلها، فمن فعل ذلك بورك له في علمه وحاله ... ولم يزل أهل العلم والفضل على إضافة الفوائد إلى قائلها ... ) (2). وكلماتهم في هذا الشأن مشهورة، لا نطيل بإيرادها. __________ (1) "المزهر": (2/ 319) للسيوطي، و"طبقات المفسرين": (2/ 41) للداوودي. (2) "بستان العارفين": (ص/ 29).

(المقدمة/57)


أما المؤلف فقد قال في كتابه هذا: (1/ 249) "فهذا ما فتح الله العظيم ... من غير استعانة بتفسير، ولا تتبُّع لهذه الكلمات. من مظانّ توجد فيه ... والله يعلمُ أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، ولبالغتُ في استحسانها ... " اهـ. وقال في موضع آخر: (2/ 528): "فتأمل هذه المعاني. . . . وقد ذكرنا من هذا وأمثاله. . . مالو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقَّه من الاستحسان والمدح. . . " اهـ، وانظر: (1/ 361 و 2/ 418) (1). فهو إذن أصل متفق عليه: إذا تقرَّر هذا؛ فلننظر الطريقة التي سلكها ابن القيم في النقل من كتاب السُّهيلي، لنعلم صِدْق ما دْهب إليه الأستاذ (البنَّا) من عدمه، فنقول: قد تقدَّم لنا عَرْضٌ جُمْلِيّ لموضوعات الكتاب (ص/ 21 - 23)، فقد استفتح المؤلف كتابه بطائفة من الفوائد الفقهيّة، ثم بدأ المسائل والفوائد النحوية واللغوية من (ص/27) نقلاً عن السهيلي دون تصريح، وهي أول فائدة في كتاب "النتائج" (ص/ 37). ثم صرح باسمه في الفائدة الثانية المنقولة من "النتائج" (ص/ 37)، فبعد أن ذكر ابن القيم أصلَ المسألة وزادَ وتوسَّع وصفَّى كلام السهيلي مما يُنْتقد عليه في المعتقد، ونقل عن شيخه ابن تيمية فوائد = ذكر إشكالاً وقال: "وأجاب السُّهيلي ... " وحكاه بلفظه، ثم قال ختامه: "وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله" (ص/ 39). __________ (1) انظر ما تقدم ص/ 31 - 32.

(المقدمة/58)


فأنت الآن ترى المؤلِّف في ثاني فائدة في الكتاب ينسب الكلامَ للسهيلي ويستحْسِنُه غايةَ الاستحسان. فهل يكون هذا صنيع من أراد انتحال كلام شخص وادعاءه وإخفاءه ونسبته إلى نفسه؟! كلا. - وقد صرَّح ابنُ القيم بالنقل عن السُّهيلي صراحةً لا مزيد عليها، وكان له في ذلك طرائق: منها: أن يذكر رأس المسألة دون نسبة، وفي أثناء الأجوبة والمناقشات يُورد كلامَ السهيلي وتعليقاته، كما في (1/ 37). ومنها: أن يذكر كلامه بنصِّه (قال السهيلي)، وفي آخره (تم كلامُه) كما في (1/ 41). - وتارة يقول من أوَّل المسألة: (رأيتُ للسهيلى فصلاً حسنًا هذا لفظه) (1/ 45، 47 و 2/ 506). - تارة ينقل الفائدة، وفي آخرها يقول: (هذا لفظ السُّهيلي)، كما في (1/ 59، 332 و 2/ 501، 505، 556). - وأحيانا يقول: (وهذا ما أشار إليه السُّهيلي فقال) ويسوقُ نصَّه، كما في (1/ 63 و 2/ 516). - وقال في موضع: (وقال بعض الناس) وهو السهيلي (2/ 487). - وقال في موضع: (فائدة من كلام السهيلي: (1/ 308). - وقال فى آخر: (هذا تقرير طائفة من النحاة منهم السُّهيلي) (1/ 254). - نقل كلامه في موضع (2/ 418) ثم قال: "ثم رأيت هذا

(المقدمة/59)


المعنى بعينه قد ذكره السهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ". ونقل عنه في موضع (1/ 361) وقال: إن هذا المعنى وقع له أثناء إقامته بمكة، وكان يجول في نفسه فيضرب عنه صفحًا، لأنه لم يره في مباحث القوم، ثم رآه بَعْدُ لاثنين من النحاة، أحدهما لا يعرفه .. والآخر السهيلي، فإنه كشفه وصرّح به. وعلى هذه الوتيرة سارَ المصنّف في النقل عن السهيلي من الإشارة إليه ونقل كلامِه بنصِّه، إما في أول الفائدة أو في آخرها، أو في درج الكلام ناسبًا إليه أكثر تحقيقاته وبدائعه، مع الثناء البالغ والاعتراف له بالفضل: والتقدّم. فمن الثناء عليه قوله (1/ 38): "وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله" وقوله (1/ 51): "وهذا الفصل من أعجب كلامه، ولم أعرف أحدًا من النحويين سبقه إليه"، وقوله (2/ 402): "وهذا من كلامه من المرقِّصَات، فإنه أحسن فيه ما شاء" وقوله: (1/ 116): "وقد تولَّج -رحمه الله- مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر، وأتى بأشياء حسنة. . . ". واعترف له بالسبق والفضل والتقدُّم في (1/ 142). فقال: "فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله -رحمه الله- مزيد السبق وفضل التقدم. وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولةَ البُزْلِ القناعيسِ" وأثنى على قوَّته فقال (1/ 326): "هذا كلام الفاضل، في هو كما، ترى كأنه سيل ينحط من صبب"، وأثنى على ذهنه الثاقب وفهمه البديع (2/ 416). فهذا كما ترى جلاءً ووضوحًا في الاعترافِ للسهيلي، وعدم

(المقدمة/60)


جحده حقه، والمبالغة في الثناء عليه ومدحه، فهل هذا شأنُ من يريد نسبة فوائده إلى نفسه أو هضم حقه؟! كلا. فهذا يدفع القول بأن ابن القيم ادعى نحو السهيلي لنفسه، كيف وهو لا يفتئ يذكره، ويُثْني عليه، ويعترفُ له؟!!. وبعد؛ فلم يكن المؤلف مجرَّد ناقل ومقرَّر لكلام السهيلي -على علو كعبه وجودة مباحثه- بل جاراه في المضمار، ووقف معه موقف القِرْن والنِّدِّ، بل أربي عليه في بعض الأحيان، وناقشه ورد عليه. . . فقد رد عليه في مواضع كثيرة جدًّا كما في (1/ 39)، وفي (1/ 326) أثنى عليه وأن كلامه: سيل ينحط من صبَب، ثم ردَّ عليه. وساق كلامه في موضع (1/ 334) ثم قال: "وهو كما ترى غير كافٍ ولا شاف. . . وأنه زاد السؤال سؤالاً". كما رد عليه وغلَّطه في معنى حديث (1/ 342). وفي مسألة أخرى. (1/ 347). وفي تفسير آية (2/ 488). وذكر جوابَه مرة ثم قال: "ولا يخفى ما فيه من الضعف والوهن" (2/ 413). كما أشار إلى اضطرابه في (2/ 517)، وبين غَلَطَه وأنه كبوة من جواد ونبوة من صارم في (2/ 541)، وفي موضع تعجَّب من فهمه الخاطئ مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع (2/ 416). كما أنه ينقل كلامَه كاملاً، ويثني عليه، ثم يكرّ عليه جُملةً جُملةً بالتعليق والمناقشة كما في (1/ 116 - 142، 261 - 270 و 2/ 516 - 533، 556 - 560). وقد يشتدّ أحيانًا في الرد، مثل قوله (1/ 347): "وفي هذا من التعسُّف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى"، ونحوه (2/ 566)، وقوله (2/ 414) "فهذا جواب فاسد جدًّا" (وانظر ما سبق ص/ 25 - 26).

(المقدمة/61)


كما أن المؤلف -رحمه الله- كان كثيرًا ما يردّ على السهيلي -رحمه الله- في مسائل العقيدة، ويناقشه ويبين خطأه (1)، فبين (2/ 571) موافقتَه للكُلاَّبية ورد عليه. ونافَشَه في: (2/ 394 - 395، 398). وقد يكتفي أحيانًا بتهذيب كلامه من الأخطاء العقدية كما في (1/ 31 - 32، 316، 402). ولم يكتف ابن القيم بالرد على السهيلي ومناقشته في مباحثه، بل كان يستظهر معاني أخرى: (1/ 61 - 62)، ويُفصِّل أشياء لم يتعرّض لها كما في (2/ 399، 507). بل ويأْتي بأحسن مما جاء به السهيلي، كما في مواضع كثيرة: (1/ 221، 229، 251، 254، 261 - 270، 332، 372 و 2/ 412، 459، 488، 505). وبعد هذا العَرْض المطوَّل؛ هل لمنصفٍ أن يقول: إن المؤلف ادَّعى نحوَ السهيليِّ لنفسه؟ وأنه إنما قدَّم وأخَّر واختصر؟ وأن الظان ليظن أن النحو الذي يسوقه من بدائعه؟ حاشا المُنْصف أن يُطلق هذا الحكم. أما الذين أدخلوا ابن القيم في عداد النحاة، فليس نتيجةً لما في "بدائع الفوائد" من بجوث وتحقيقات، وليس لأجل ما في كتبه المفردة في العربية أو كتبه الأخرى من مسائل النحو والعربية، وليس لأجل ما فيها من تحرير وتدقيق بالِغَيْن، ليس لأجل ذلك فقط، بل لأن تلاميذه وأصحابه الذين خبروه عن قرب -وهم أهل للحكم- وصفوه بدلك بل بأكثر منه، قال تلميذه: الصفدي (764) في "أعيان العصر" (2): "قد تبحَّر __________ (1) وقد فاته موضع، علقنا عليه في الحاشية (1/ 46). (2) (4/ 367).

(المقدمة/62)


في العربيَّة وأتقنها، وحرَّر قواعدها ومكَّنها ... " اهـ وقال: "اجتمعتُ به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصًا في العربية والأصول" (1) اهـ. وقال تلميذه ابن رجب (795) في "الذيل على طبقات الحنابلة" (2): "وتفنَّن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير .. ، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام والنحو ... " اهـ. ولذا أدخله السيوطى في "طبقات اللغويين والنحاة". فكيف لو ضُمَّ إلى ذلك كلِّه هذه التحقيقات التي نثرها في "البدائع" وأربى في كثير منها على السهيلي (كما سبق)؟! وأتى بما أغفله كثير من النحاة ولم ينبهوا عليه، انظر (1/ 344). وبعد، فإنَّ المصنِّف -رحمه الله تعالى- لو صرَّح بأته ينقل هذه الفوائد من كتاب السهيلي "نتائج الفكر" -لكان أسلم عن الاعتراض وأنفى للاعتذار، هذا في المواضع التي سمَّى فيها السهيلي، أما ما أغفله ولم يُسَمِّه فيتوجَّه اللوم عليه أكثر، وإن كان يُعْتذر له بأن طبيعة الكتاب وموضوعه تساعد على مثل هذا الصنيع إذ هو كالتذكرة له، والتذكرة يتجوَّز فيها ما لا يتجوَّز في غيرها من الكتب، ويُعْتذر له أيضًا بأنه قد ذكر السهيلي وأكثر من ذِكره في أول النقول ووسطها وآخرها، فأغنى ذلك عن ذكره في كل موضعٍ ما دام النقلُ متتابعًا أو شبه متتابع. وهذه اعتذارات سائغة وجيهة خاصةً إذا علمنا أن المَوَاطن التي لم يصرِّح فيها باسمه أقل بكثير مما صرَّح به فيها، ولكن يُعكِّر عليها __________ (1) المصدر نفسه: (4/ 369). (2) (2/ 448).

(المقدمة/63)


موضع واحد في: (2/ 577 - 593) فصل في قولهم: "هذا بسرًا أطيبْ منه رطبًا"، وهذا الفصل موجود في "النتائج": (ص/ 399 - 405) ذكر فيه السُّهيلي سبعة أسئلة في هذه الجملة، وذكر أبي القيم عشرة أسئلة، السبعة التي عند السُّهيلي وزاد ثلاثة، مع زيادة أجوية السهيلي تحريرات وفوائد. لكنه في هذا الفصل برمّته لم يصرح باسم السُّهيلي، وقال في آخره: "فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث، علّقتها صيدًا لسوائح الخاطر فيها، خشيةَ أن لا يعود، فليُسامح الناظر فيها، فإنها عُلّقت على حين بُعْدي عن كتبي، وعدم تمكُّني من مراجعتها ... " اهـ. فهذا الشكل موضع في الكتاب، إلا أن يقال فيه ما قاله المؤلف في موضع آخر (2/ 418) إذ ساق فصلاً، ثم قال في آخره: "ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السُّهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ". وكذلك ما قاله في موضع قبله (1/ 361) بعد أن ساق فصلاً للسهيلي: "وكان قد وقع لي هذًا بعينه أيام المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيتُه بغدُ لفاضلين من النحاة، أحدهما: حام حوله وما وَرَد، ولا اعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السُّهيلي -رحمه الله- فإنه كشفه وصرّح به ... ". اهـ. وبهذا البَسْط والتفصيل تظهر علاقة "البدائع" بـ "النتائج"، ويَبِيْن وجه الحق في المسألة، ويتجلّى غاية الجلاء، والحمد لله. ويؤخذ على الأستاذ (البنّا) أمران: الأول: فاته كثيرٌ من التصحيحات التي هي في "البدائع" على

(المقدمة/64)


الصواب، وفي نسخ "النتائج" على الخطأ. الثاني -وهو أشدهما-: أنه أهمل تعقبات ومناقشات وردود وإضافات ابن القيم على السهيلي. فلم ينقل شيئًا منها، بل لم يُشر إليها مجرد إشارة! وهذا فيه حَيْفٌ بالكتاب المحقّق، وقلة نَصَفة لابن القيم، ولعله أغفل ذلك كله لتَسْلَم له نتيجتُه التي تهاوت أمام الحجة والبرهان. * * *

(المقدمة/65)


* مختصراته، والكتب المستلّة منه اختصر الكتاب جماعةٌ من أهل العلم، وانتقى آخرون منه مواضع متفرقة، واستلّ جماعةٌ بعضَ مباحثه، فنشروها مفردة، أو ضموا إليها ما يشبهها من مباحث، وهذا بيان بما وقفت على ذكره من ذلك. * أما مختصراته فهي: 1 - مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله بن عثمان بن جامع ت (1256) (1) -رحمه الله-. 2 - مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ت (1282) -رحمه الله- طبع (2). 3 - مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله الدويش ت (1408) -رحمه الله-، وهو مطبوع مع: مجموعة مؤلفاته في المجلد الرابع في (383 صفحه) (3)، قال في أوله: "اختصرته لما رأيتُ أهل الزمان غلب عليهم الملل وأخلدوا إلى الكسل، وقلَّت رغبتهم في المطوَّلات لقلّة رغبتهم في العلم وكثرة الشواغل التي تصدّهم عنه ... " ثم ذكر أنه لم يزد شيئًا من عنده، إلا تصحيح بعض الأخطاء المطبعية. 4 - المنتقى من: بدائع الفوائد، للشيخ محمد بن صالح العثيمين __________ (1) ذكره مؤلفا "إمارة الزبير": (3/ 68). (2) انظر: "روضة الناظرين" (1/ 339). (3) من مطبوعات دار العليان بالقصيم 1411 هـ.

(المقدمة/66)


ت (1421) -رحمه الله- (1). * أما ما انتقاه النُّسَّاخ أو طُبع مستلاَّ منه: 1 - قطعة منه، اختارها الأمير الصنعاني، منها نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء رقم (240) (ق 20 - 88). 2 - قطعة أُخرى في الظاهرية رقم (3874 عام، مجاميع 139) كُتِبَت سنة 833، كتبها إبراهيم بن محمد بن التقي المقدسي (ق 115 - 117). 3 - وفي ليدن رقم (3003 شرقيات) مختارات منه في 134 صفحة بخط حديث. 4 - تفسير المعوِّذتين. أفردَه محمد منير الدمشقي قديمًا (انظر ص/69). وطُبع عن طبعته في الهند سنة 1375 بتحقيق عبد الرحمن شرف الدين، ثم في مكتبة الصديق بالطائف. 5 - تفسير سورة الكافرون والمعوّذتين، أفرده الشيخ محمد حامد الفقي. 6 - ذم الحسد وأهله. 7 - إرشاد القرآن والسنة إلى طريق المناظرة وتصحيحها وبيان العلل المؤثِّرة، أفرد هذا الفصل من "البدائع" وحققه الدكتور أيمن الشوَّا، وطبع عن دار الفكر بدمشق. __________ (1) ذكره صاحب كتاب "الجامع لحياة الشيخ محمد العثيمين": (ص/153)، وللشيخ "المنتقى من فرائد الفوائد" على نمط كتاب ابن القيم، وهو مطبوع، فلعلَّه اشتبه عليه، فظنه منتقى من "البدائع".

(المقدمة/67)


* طبعات الكتاب طبع الكتاب أكثر من مرة، وأول طبعة له هي الطبعة المنيرية، وما بعدها إما صورة عنها، أو بالاعتماد عليها دون الرجوع للأصول الخطية للكتاب، وغنيٌّ عن القول ما في ذلك من القصور، مهما اجتهد المصحِّحُ تصحيحه! فالأصول الخطية أصل أصيل وركن. ركين يرُجع إليها للخروج بنصٍّ أقرب إلى الصحة، وأسلم عن الخطأ. وهذا بيان بطبعات الكتاب التي وقفت عليها: 1 - الطبعة المنيرية، بإدارة الطباعة المنيرية، لصاحبها الشيخ محمد منير آغا الدمشقي الأزهري ت (1367)، بدون تاريخ، في مجلدين، في كل مجلد جزاءن، عدد صفحاتهما نحو (1000 صحيفة). وقد كُتِب على كل جزءٍ من أجزائها الأربعة هذه العبارة "عُني بتصحيجه والتعليق عليه ومقابلة أصوله للمرة الأولى محمد منير الدمشقي". وقال في آخر الكتاب: (4/ 218): "الحمد لله .. يقول محمد منير ... صاحب إدارة الطباعة المنيرية: قد تم -والحمد لله- كتاب بدائع الفوائد للإمام ... ، وقد بذلت جهدي بتصحيحه ومراجعة أصوله على غير نسخة بعد عرضِها على جماعة من أهل العلم والفهم والذكاء، فجاءت بحول الله وقوّته غاية في الصحة ... " اهـ.

(المقدمة/68)


وقد استلَّ من "البدائع" تفسير المعوِّذتين وطبعه مفرداً في (80 صفحة)، كما ذكر في كتابه "نموذج من الأعمال الخيرية": (ص/ 399 - 400)، ولم يُشر هناك إلى كون هذا الجزء من "بداع الفوائد"!. وقد تبيّن لي أنه اعتمد على نسختين، اعتمد إحداهما أصلاً، والأخرى للنظر فيما يُشكل، وأثبتَ ذلك في مواطن معدودة في الكتاب، إلا أنه لم يذكر لنا تفاصيل عن النسخ التي اعتمدها، فلا نستطيع الجزم بأنها إحدى النسخ التي بين أيدينا، وإن كنت أميل إلى أن نسخة الظاهرية التي رمزنا لها بـ (ظ) هي الأصل الذي اعتمده، بسبب الزيادة التي في آخر النسخة، وبسبب التوافق في ترتيب الكتاب (1) والله أعلم. 2 - طبعة دار المعالي بالأردن، سنة 1420، مجلدان في أربعة أجزاء، تحقيق محمد بن إبراهيم الزّغلي. 3 - طبعة دار الخير ببيروت، سنة 1414، مجلدان في أربعة أجزاء، كُتِب عليها: تحقيق معروف مصطفى زريق، ومحمد وهبي سليمان، وعلي عبد الحميد بلطه جي، وقدَّم لها الدكتور محمد الزُّحيلي. 4 - طبعة مكتبة دار البيان بدمشق، سنة 1415 في مجلدين تحقيق محمد بشير عيون، ذكر في المقدمة أنه اعتمد على نسختي الظاهرية، ولم يظهر أثر ذلك في الكتاب!. 5 - طبعة دار الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ، في مجلَّدين، __________ (1) انظر ص/ 72 - 73 من المقدمة.

(المقدمة/69)


تحقيق أحمد عبد السلام. 6 - طبعة مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة، سنة 1419، في أربع مجلدات، تحقيق مركز البحوث في الدار. 7 - طبعة دار الحديث بالقاهرة، سنة 1423، في مجلدين، تحقيق سيد عمران، وعامر صلاح. 8 - طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق الدكتور محمد الاسكندراني وعدنان درويش، ط الأولى، 1422، في مجلد واحد. 9 - طبعة المكتبة العصرية، سنة 1422 هـ في أربعة مجلدات تحقيق، محمد عبد القادر الفاضلي، والدكتور أحمد عوض أبو الشباب. * * *

(المقدمة/70)


* نسخه الخطية للكتاب نسخ كثيرة، وقفت على ذكر أريع عشرة نسخة منها، ثلاث منها تامة، وبقيتها قطع من الكتاب متفاوتة الحجم، وبعضها أشبه بالمنتقى، نُعرِّف أولاً بالكاملة، ثم الناقصة، مع الإشارة إلى ما اعتمدناه منها بوضع إشارة (*) قبلها. أ- النسخ الكاملة: * 1 - نسخة المكتبة الظاهرية (ظ) نسخة محفوظة بالمكتبة الظاهرية بدمشق -سابقًا- رقمها (10536) تقع في مجلدين عدد أوراقهما (272 (1) ورقة = 544 صفحة)، ليس عليها تاريخ النسخ ولا اسم الناسخ، وهي -تقديراً- من منسوخات القرن العاشر، وعليها تملُّكات وقراءات، حاولنا استظهار بعض ما لم يُطْمَس منها، فأحد التملُّكات كان بتاريخ (1039)، وهناك قراءة بتاريخ (1037)، وقد شُطِب على اسم القارئ. تبدأ النسخة بورقة عليها خاتم دار الكتب الظاهرية، وعليها تملك بتاريخ (1300) لمحمد علي بن السيد محمد عطية الله الأنصاري، وكتب تحته: هذا كتابٌ لو يُباعُ بوزنه ... ذهبًا لكان البائعُ المغبونا __________ (1) في ترقيم النسخة عدة أخطاء، وهذا العدد بحسب ترقيمنا لها.

(المقدمة/71)


ثم في الصفحة التي تليها فهرسة لموضوعات الكتاب، اشتمل على ثلاث مئة وسبعة وأربعين عنوانًا. وفي الورقة التالية كتب عنوان الكتاب بخط كبير: (كتاب بدائع الفوائد) ثم بخط أصغر (الجزء الأول والثاني)، أسفل منه: (للعلامة الإمام الحبر البحر الهمام شيخ الإسلام علم العلماء الأعلام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيَّم الجوزية -قدس الله روحه-) وعلى جانبي: العنوان عدد من التملكات والقراءات، أشرنا إلي بعضها، وفي منتصف الصفحة ترجمة مختصرة للمؤلف في أحد عشر سطرًا. وهي بحالة جيده، تحتوي كل صفحة على سبعة وعشرين سطرًا، والسطر فيه أكثر من عشرين كلمة، وهي بخط ناسخ واحد، وإن كان يبدو تغير الخط أحيانًا، إلا أن ذلك يعود -في تقديري- إلى قَلَم الناسخ ونشاطه، وعلى هوامشها بعض التعليقات والعناوين للمباحث. وقد جعل الناسخُ كلَّ عشر صفحات جزءًا، يشير إلى ذلك في الركن العلوي للورقة. وتعتبر هذه النسخة أتمّ النسخ، فهي تزيد على النسخ الأخرى بعشر فوائد في آخرها لا توجد في غيرها، وهي في (4/ 1658 - 1663). وقال في آخرها: "فرغت الفوائد بحمد الله"، ثم كتب بعده: "والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لمن دعا بالمغفرة آمين". ومما تتميز به -أيضًا-: أن في آخرها منتحْبَيْن؛ الأول: بعنوان

(المقدمة/72)


"منتخب أيضًا" وهو في صفحة واحدة، وقد ألحقناه بالكتاب؛ لأن فيه ما يدلُّ على أنه للمؤلف، ففيه النقل عن شيخ الإسلام، إذ قال: "وقال لي شيخنا ... "، وقرائن أخرى. أما المنتخب الثاني؛ فَعَنْونه الناسخُ بقوله: "الحمد لله وحده، منتخب من "الفوائد المنتقية من الرقوم الشرقية" (1)، وهذا المنتقى لم نر ما يشهد بصحة نسبته للمؤلف، وفيه أيضًا ما لم يُعْهَد عن المؤلف في كتبه الأخرى من نقول وتقريرات؛ لأجل ذلك لم نثبِتْه. والنسخةُ في ترتيبها تحاكي المطبوعة سواء بسواء، بخلاف بعض النسخ الأخرى، مما يدل على أنها إحدى النسخ التي اعتمد عليها من طبع الكتاب لأول مرة. وبعدُ، فالنسخة جيدة، سقطها قليل، وأغلبُه من انتقال النظر، ولا تخلو من أخطاء وتصحيفات، وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ظ). وقد حصلنا على صورة منها ومن النسخة الآتية برقم (4) من مركز جمعة الماجد للتراث بدبي، أحسن الله إليهم. * 2 - نسخة القصيم (ق) نسخة مخطوطة في مكتبة الشيخ سليمان بن صالح البسام بعنيزة، منها صورة فلمية بجامعة الإمام رقم (105/ ف). تقع النسخة في مجلد واحد فيه (392 ق = 784 صفحة)، __________ (1) لم يتبين لي شيءٌ عن هذا الكتاب (الرقوم الشرقية)!.

(المقدمة/73)


كُتبت بتاريخ أربع وسبعين وثمان مئة، في شهر رجب، يوم الأربعاء منه، وناسخها هو: محمد بن سالم النحريري (1). وهده النسخة كَثُر تنقّلها بين البلدان واختلفت عليها أيدي العلماء، إذ عليها تملُّكات عديدة، لعدد من مشاهير العلماء في مكة واليمن ونجد من مذاهب شتى، الحنفية، والشافعية، والزيدية، والحنابلة، وعددها اثنا عشر تملُّكًا، منها: لعلي القاري الهروي سنة (989)، ولابن علاَّن الصديقي الشافعي (ولم يتبين التاريخ)، وللأمير المتوكل على الله إسماعيل بن المنصور بالله، ولعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري إمام المقام الشريف سنة (1019)، ولمحمد بن المؤيد بالله سنة (1113)، وللمهدي لدين الله العباس سنة (1173)، ولأحمد بن إسماعيل بن المهدي (ولم يتبين التاريخ)، ولمحمد بن علي العَمْراني سنة (1228)، ولابنه حسين بن محمد العَمْراني، ولمحمد بن عبد الله بن حُميد النجدي الحنبلي سنة (1265)، ثم باعها ابن حُميد أخيراً على عبد الله بن حمد آل بسّام، وأوقفه على طلبة العلم من الحنابلة في عنيزة، والوقفية مكتوبة بخط ابن حميد، وأشهد عليها اثنين من آل بسام، سنة (1275) كما هو مثبت على الورقة الأولى من الكتاب بعد ورقة العنوان. ثم آلت أخيراً إلى مكتبة الشيخ سليمان بن صالح بن حمد ابن بسّام، ابن أخي الواقف. هذا جملة ما على النسخة من تملكات. __________ (1) كذا قرأتها، وبعدها كلمة لم أتبينها، ولم أجد له ترجمة، ولم أقف على هذه النِّسبة إلا أن يكون فيها تحريف.

(المقدمة/74)


كُتب عنوان النسخة بخط كبير واضح: (كتاب بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية ... " وكتب فوق العنوان: "هذا الكتاب جمع علومًا شتى؛ أصولاً وفروعًا ونحوًا وبديعًا، فليعرف الواقفُ عليه حقَّه ولا يجهل قدره". والنسخة حالتها ممتازة، في كل صفحة منها سبعة وعشرون سطرًا، يتفاوت عدد الكلمات في كل سطر، مكتوبة بخط واضح جميل، وفي النسخة جملة من التصحيحات والزيادات المهمة الساقطة من بقية النسخ، كما في (2/ 729، 731، 745، 763 و 3/ 1059 - 1060 ثمانية أسطر). ومع دلك فقد وقع فيها جملة من الأخطاء، وسقطان هما في المطبوعة: (2/ 704 - 707) و (2/ 720 - 724) والأخير يمثل الورقة (174)، فلا أدري هل سقطت من الأصل أو من مصورتي؟. وعلى جانبي النسخة عدد من التعليقات والحواشي والتصويبات، أثبتنا غالبها، وتنتهي النسخة في المطبوعة: (4/ 1652)، وتزيد عنها نسخة (ع وظ) ببعض الفوائد في آخرها وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ق). * 3 - نسخة خاصة (د) نسخة من إحدى المكتبات الخاصة بنجد، تقع في مئتي ورقة (200 ق = 400 صفحة)، في كل صفحة اثنان وثلاثون سطرًا، في كل سطر نحو 20 كلمة، وهي ناقصة من آخرها نحو اثنتي عشرة ورقة، تنتهي عند قوله: "يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة" (4/ 1603)، لذلك لم يُعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها. وهي

(المقدمة/75)


-تقديرًا- نُسخت بعد (1200). كُتب على ورقة الغلاف "كتاب بدائع الفوائد، تصنيف الشيخ العلامة ابن قيم الجوزية تغمده الله برحمته". وفي أعلى الصفحة كتب: "وقف عبد الرحمن بن محمد: بن عتيق ابن بسَّام" وتكرر ذلك عدة مرات، وعلى الغلاف أيضًا: "عارية للشيخ عبد الرحمن بن حسن". ومع قرب عهد النسخة إلا أنها قد تأثرت بالرطوبة فتآكلت أكثر ورقة العنوان والأطراف: السفلية للورقات الأولى. وعلى جوانب النسخة الكثير من التعليقات والحواشي، أكثرها تلخيص وعناوين لمباحث الكتاب، وفيها بعض التصحيحات وعلامات المقابلة، والإلحاق ونحوها، وهي قريبة الشبه بنسخة (ظ)، الآنفة الذكر، فلعلها منسوخة منها، أو أن أصلهما واحد، وقد رمزنا لها بحرف (د)، وقد تفضَّل بتصوير النسخة الشيخ الوليد بن عبد الرحمن الفريان الأستاذ بجامعة الإمام بالرياض، جزاه الله خيرًا. هذه هي النسخ الكاملة التي عرفناها، أما: ب - النسخ الناقصة: * 4 - نسخة الظاهرية الثانية (ع) نسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية، ضمن مجموعة المكتبة العمرية برقم (2273)، وهي الجزء الثاني من الكتاب فقط. عدد صفحاته (157 ق = 314 صفحة) في كل صفحة سبعة وعشرون سطرًا إلا في الصفحات العشر الأولى فإنَّ فيها واحدًا

(المقدمة/76)


وعشرين سطرًا، كُتِبَت بتاريخ 28 ربيع الأول، سنة ثلاث وتسعين وسبع مئة، على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن موسى بن يحيى الحِمْصي (1) مولدًا الحنبلي مذهبًا -كما جاء في ختامها-. فهي على هذا أقدم نسخة للكتاب وُجِدَت. وهي -أيضًا- أجود نسخ الكتاب صحة، قليلة التحريف والسقط، وهي أصل يُرْكَنُ إليه ويُعَوَّل عليه في إثبات النص، فلو وُجدت كاملة؛ لاكتمل بها عَقْد التحقيق. تبدأ النسخة بورقة العنوان، وقد كُتِب عليها "الجزء الثاني من بدائع الفوائد، تأليف ابن القيم -رحمه الله-". وكتب تحته: "وقف الشيخ شمس الدين ابن طولون، وجعل مقره بمدرسة أبي عمر بالصالحية"، وعلى الجانب الأيمن إثبات مطالعه لهذا الجزء سنة (جمع) أي: (933) بحساب الجُمَّل، من رجب بن سري الدين الأعلم المجاور بمدرسة أبي عمر، وتحته: مِن كُتب أبي الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن. . . (2)، وتحته: الحمد لله، من كتب علي بن صالح الحنبلي لُطِف به. والنسخة عليها تصحيحات، وبعض التعليقات المفيدة -على قلَّتها-، وقد اصطلح الناسخ على جَعْل كل عشر ورقاتٍ في جزء يُشير إليه في أركان الصفحات، فكانت ستة عشر جزءًا، والنسخة بحالة جيِّدة. __________ (1) لم أجد من ترجمه. (2) لم أتبينها.

(المقدمة/77)


وهي تبدأ بقوله "بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة، فصل: ويندف شرّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب ... " وهي في طبعتنا في: (2/ 764)، وتنتهي في (4/ 1658). وقد اشتركت هى ونسخة القصيم (ق) باختلاف في ترتيب الفوائد عن نسخة (ظ) بدأ من (4/ 1327) استمر عدة صفحات ثم اتفقت النسخ، ثم عاد الاضطراب من (3/ 1430) واستمر أيضًا صفحات عديدة، ثم عادت النسخ إلى ترتيب واحد إلى آخر الكتاب. وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ع). 5 - نسخة في تركيا باستانبول، اسميخان سلطان 15، كتبت سنة 892 (1). 6 - نسخة بجامعة أم القرى رقم (1473)، في (291 ورقة)، وهي ناقصة الآخر، وفيها خروم في أثنائها، فلم يُعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها، لكن: عليها وقفية بتاريخ (1212)، فلعلها من مخطوطات القرن الثاني عشر. وخطها واضح حسن. 7 - نسخة بجامعة أم القوى -أيضًا- برقم (1478)، في (233 ورقة،، ناقصة الآخر -أيضًا- تمثل أكثر من نصف الكتاب بقليل مجهولة التاريخ والناسخ، وعليها وقفية عبد العزيز العريفي، على طلبة العلم بتاريخ 10، صفر: سنة 1300. 8 - في دار الكتب المصرية نسخة رقم [2 م معارف عامة] في (207 ورقة)، وهي ناقصة. انظر "الفهرس الثانى": (6/ 181). __________ (1) انظر: "الفهرس الشامل - الفقه وأصوله ": (2/ 67).

(المقدمة/78)


9 - جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض رقم (976 ق) في (280 ورقة). 10 - وفي مكتبة الأوقاف بالموصل رقم (3/ 18 - موضوعات مختلفة) في (234 ورقة) كما في "الفهرس": (2/ 80). 11 - وفي مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (1/ 5674 مجاميع) في (191 ورقة) كتبت سنة (1303) بخط محمد بن علي النجفي، كما في "الفهرس": (4/ 361). 12 - مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (7148)، في (210 ورقة)، دون تاريخ وهي تمثل الجزء الثاني من الكتاب من قوله: "فصل، ويندفع شر الحاسد بعشرة أسباب ... ". انظر "الفهرس": (2/ 320). 13 - وفي المكتبة القادرية ببغداد رقم (516) نسخة بخط محمد بن علي بن الملاّ أحمد تاريخها سنة 1308، في (309 ورقة)، انظر "فهرس المكتبة": (2/ 341). 14 - نسخة في القصيم -بريدة، بخط سليمان بن صالح بن دخيل كتبها سنة (1314)، فى (411 صفحة)، وعليها ختم بتملُّك فوزان السابق. اطلعتُ عليها في مكتبة الملك فهد بالرياض (مخطوطات القصيم - بريدة - 8 ب). وهناك قطع من الكتاب، هي أقرب إلى الانتقاء والانتخاب، ذكرناها عند الكلام على مختصرات الكتاب.

(المقدمة/79)


* منهج العمل في الكتاب لا ريبَ أن العمل في كتاب ذي وحدة موضوعية في علمٍ ما، كالفقه أو الحديث أو غيرها أسهل للباحث من تحقيق كتاب يجمع فنونًا شتَّى، بأقلام مختلفة -شأن هذا الكتاب- كما سَبَق شرحُه. ولاشك أن ركن التحقيق الرَّكيْن للخروج بنصٍّ صحيح هو وجود النُّسَخ القَلَميَّة الصحيحة الموثوق بها، وذلك ما لم يتحقق في نصفِ الكتاب الأول -على الأقل- وهو الموضع الذي كُنَّا بأمسِّ الحاجة فيه إلى نُسَخٍ كالتي وصفنا، لكن من حسن الحظِّ أن: هذا الخلل قد استدركنا كًثيرًا منه بواسطة الكتاب الذي نقل منه المؤلِّف واعتمدَه فى أكثر الفوائد المتعلقة بالعربية في المجلَّد الأول وبعض الثاني من "البدائع"، وهو كتاب "نتائج الفِكْر" للعلامة أبي القاسم السُّهيلي (581). (وانظر ما سبق ص/ 56 وما بعدها). فقابلنا جميع النصوص المنقولة منه بكتابنا، واتخذناه نسخةً أُخرى معتمدة في التصحيح وإقامة النصِّ، فاستفدنا منه في مواضع كثيرة تربو على الثلاثين (1)، واستدركنا في بعض المواضع عبارةً كاملة أو سطرًا بتمامه (2). __________ (1) انظر (1/ 144، 158، 160، 164، 169، 217، 230 ... و 2/ 401، 412، 481 - 484، 495، 505 وغيرها). (2) كما في (2/ 524، 557).

(المقدمة/80)


وهذا الأمر لم يَصْفُ لنا كما أردناه أن يكون فبقيت بعض المواضع لا تخلو من إشكال أشرنا إليها في الحواشي؛ إذ نُسَخُ كتاب "نتائج الفكر" كانت هي الأخرى مشحونة بالأخطاء والسقط، لكن اجتهاد محققه الأستاذ محمد إبراهيم البنَّا في تصحيحه أقام كثيرًا من أَوَدِه، واستفدنا في عملنا كثيرًا من تصحيحاته وتعليقاته، وصرّحنا بذلك مرارًا، واستفاد هو في التصحيح من كتاب "البدائع" كما يلاحظ في كثيرٍ من تعليقاته -وإن فاتته مواضع أخرى-. كما استفدنا -أيضًا- في تصحيح الكتاب من المصادر الأخرى التي نقل عنها المؤلف، خاصة تلك التي نقل منها نصوصًا مطوّلة، كرسائل شيخه ابن تيمية، وكتاب "المدهش" لابن الجوزي، ومسائل الإمام أحمد، و"الفروق" للقرافي. أما النسخ الخطية، فقد اعتمدنا منها النسخ ذوات الرموز (ظ، ق، ع، د)، أما (ظ وق) فكاملتان، و (د) مع كونها شبه كاملة إلا أننا لم نقابلها إلا بالنصف الأول من الكتاب؛ لأنا استغنينا عنها بنسخة (ع) إذ هي تمثل نصف الكتاب الثاني (1)، وهي أجود النسخ وأقدمها كما مرّ. وقد استفدنا من مصادر الكتاب ومن هذه النسخ جميعًا لإثبات النصّ، وإن كُنَّا قد عوَّلنا في نصفه الأخير كثيرًا على نسخة (ع)، وأثبتنا الفروق المهمة في هوامش الكتاب، وقيَّدنا طائفة من التصحيفات والأخطاء للدلالة على ما لم نثبته من جنسها. __________ (1) تبدأ من (2/ 764) وهو أول الجزء الثاني من النسخة.

(المقدمة/81)


أما ترتيب الكتاب، فإنه يسير على نَسَق وأحد في جميع النسخ حتى (4/ 1327) إذ: يبدأ اختلاف في ترتيب (ق وع) ويستمر عدة صفحات، ثم يبدأ اختلاف آخر من (4/ 1430) ويستمر صفحات أخر. وقد اعتمدنا ترتيب نسخة (ظ) الموافق للمطبوعات إلا في موضع أو اثنين اقتضاهما السياق وتسلسل النص، وتركنا الكتاب كما كان -أوَّلَ ما طُبع -في أربعة أجزاء، كل جزء في مجلد مستقل، ختمنا كلَّ جزءٍ بفهرس موضوعي. وقد بيَّنَّا عند الكلام على النسخ أن نسخة (ق) تنتهي في (4/ 1652)، ونسخة (ع) في (4/ 1658)، أما (ظ) فإنها أتم النسخ وتنتهي في (4/ 11663) وقال ختامها: "فرغت الفوائد"، ثم يبدأ منتخب جديد أثبتناه، وآخر لم نثبته (1). كما استفدنا من الطبعة المنيرية في تصحيح النص في مواضع، انظر: (1/ 352 و 2/ 417، 435، 484، 496، 515، - 612، 620، 672، 730 و 3/ 883). هذا مجمل ما قمنا به لخدمة نص هذا الكتاب، إضافة إلى ما تَسْتَتْبِعُه مهمة التحقيق؛ من عزو النصوص وتوثيقها، وتخريج الأحاديث، وضبط النص وتقسيمه، وصنع الفهارس الكاشفة، وغير ذلك مما شرحناه غير: مرة في غير ما كتاب. والحمد لله حقَّ حمده. __________ (1) انظر شرح ذلك (ص/ 72 - 73).

(المقدمة/82)


صفحة العنوان من نسخة الظاهرية (ظ) ويظهر عليها بعض التملكات

(المقدمة/83)


الورقة الأولى من نسخة (ظ) ويظهر فيها تعليق طويل

(المقدمة/84)


الورقة الأخيرة من نسخة (ظ)

(المقدمة/85)


المنتخب الذي تفرّدت به نسخة (ظ)

(المقدمة/86)


صفحة العنوان من نسخة التصميم (ق) ويظهر عليها كثير من التملكات

(المقدمة/87)


الورقة الأولى من نسخة (ق)

(المقدمة/88)


الورقة قبل الأخيرة من نسخة (ق)

(المقدمة/89)


الورقة الأخيرة من نسخة (ق)

(المقدمة/90)


صفحة العنوان من نسخة الظاهرية (ع)

(المقدمة/91)


الورقة الأولى من نسخة (ع)

(المقدمة/92)


الورقة قبل الأخيرة من نسخة (ع)

(المقدمة/93)


الورقة الأخيرة من نسخة (ع)

(المقدمة/94)


صفحة العنوان من النسخة النجدية (د)

(المقدمة/95)


الورقة الأولى من نسخة (د)

(المقدمة/96)


الورقة قبل الأخيرة من الموجود من نسخة (د)

(المقدمة/97)


آخر الموجود من نسخة (د)

(المقدمة/98)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم (1) قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد البارع، أوحد الفضلاء، وقدوة العلماء، وارث الأنبياء، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، المجتهد المفسِّر ترجمان القرآن، ذو الفوائد الحِسان، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيّم الجوزية تغمّده ألله برحمته (2). الحمد لله، ولا قوة إلا بالله (3)، هذه فوائد مختلفة الأنواع. فائدة حقوق المالك شيء، وحقوق الملك شيء آخر (4)؛ فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق، وحقوق الملك تتبع الملك، ولا يُراعَى بها المالك، وعلى هذا حق الشفعة للذمَى على المسلم؛ من أوجبه جعله من حقوق الأملاك، ومن أسقطه جعله من حقوق المالكين. والنظر الثاني أظهر وأصحُّ؛ لأن الشارع لم يجعل للذمِّى حقًّا في __________ (1) التصلية من (ق)، وفىِ (د) بعد البسملة: "ربّ يسِّر ولا تعسِّر يا كريم آمين". (2) من "قال الشيخ. . . " إلى هنا ليست في (ق)، وآخر العبارة في (ظ): "رحمه الله وأدخله الجنة آمين". (3) ليست في (ق). (4) "آخر" سقطت من (ق).

(1/3)


الطريق المشترك عند المزاحمة فقال: "إذَا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرَّوهُمْ إِلى أَضْيَقِهِ" (1) فكيف يجعل له حقًّا في انتزاع الملك المختصِّ به (2) عند التزاحم؟! وهذه حجة الإمام أحمد نفسه. وأما حديث "لَا شُفْعَةَ لِنَصْرَانيٍّ" (3) فاحتجَّ به بعض أصحابه، وهو أعلم من أَنْ يحتج به، فإنه من كلام بعض التابعين. فائدة (4) تمليك المنفعة شيء، ومليك الانتفاع شيء آخر (5)، فالأول __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2167) وغيره، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وللحديث قصة عند أبي داود: (5/ 384). (2) "به" سقطت من (ق). (3) أخرجه الطبراني في "الصغير": (1/ 206)، وابن عدي في "الكامل": (7/ 56)، والبيهقي في "الكبري": (6/ 108) وغيرهم. من طريق نائل الحَنَفي عن الثوري عن حُميد عن أنسٍ - رضي الله عنه -. قال ابنُ عدي: "وأحاديثه -أي نائل- مُظلمة جدًّا، وخاصًّة إذا روى عن الثوري" اهـ. (4) قارن بـ "الفروق": (1/ 187) للقرافي. (5) في هامش (ظ) تعليق مطول نثبتُ ما اتضحَ منه: "قد يقال: إن هذا الكلام غير ظاهر، وما ذاك إلا لأنَّ الانتفاع مصدر، وهو عبارة عن ملابَسَة المتعيّن بالانتفاع بها، وإذا كان كذلك؛ فما فائدة ملكه له بعل وجوده وصدوره منه؟ لا يقال: فائدته أنَّه لا يأثم إن قلنا بملكه له وإلا أَثِم، لأنا نقول: هذا يقتضي أن القدوم على الانتفاع حرام؛ لأنَّه لم يملك إلا الانتفاع، وهو لم يوجد، فقد أدَّى تمليكه له إلى المنع من حصوله، وليس هذا في تمليك المنفعة، على أن تمليك المنفعة فيها بقي له، ثم أيضًا: فما الملجئ إلى هذا الكلام. الثاني: أن الانتفاع فعل للمنتفع، وصاحب العلم لم يملكهـ حتى يملّكهـ إيَّاه. الثالث: أن هذا لا يُنجي من القول بجواز إجارة العين المعارة، لجواز أن يملك ما ملكه من غيره لغيره. فإن قلتم: المالك لم يرض بهذا. قلنا: قولوا: =

(1/4)


يملك به الانتفاعَ والمعاوضةَ، والثاني يملك به الانتفاعَ دون المعاوضة، وعليها إجارة (1) ما استأجره، لأنَّه ملك المنفعة بخلاف المعارضة على البُضْع، فإنه لم يَمْلِكْه، وإنما ملك أن ينتفع به. وكذلك إجارة ما ملك أن ينتفع به من الحقوق؛ كالجلوس بالرِّحاب، وبيوت المدارس والرُّبط ونحو ذلك (2) لا يملكها؛ لأنَّه لم يملك المنفعة وإنما ملكَ الانتفاعَ، وعلى هذا الخلاف تَخَرَّج إجارة المستعار، فمن منعها كالشافعي وأحمد ومن تبعهما قال لم يملك المنفعة، وإنما ملك الانتفاع ومَن جوَّزها كمالك ومن تَبِعه قال هو قد ملك المنفعة ولهذا يلزم عنده بالتوقيت، ولو أطلقها لزمت في مدة ينتفع بمثلها عرفًا فليس له الرجوع قبلها. فائدة قولهم: "إذا كان للحكم سببان، جاز تقديمه على أحدهما"؛ ليس بجيد، وفي العبارة تسامح، والحكمُ لا يتقدم سببَه، بل الأَوْلَى أن يقال: إذا كان للحكم سبب وشرط، جاز تقديمه على شرطه دون سببه، وأما تقديمه عليهما أو على سببه فممتنع، ولعل النزاعَ لفظيٌّ، فإن شرط الحكم من جملة أسبابه المعتبرة في ثبوته، فلو قدمت __________ = المالك ملك المنفعة ولم يستحق بهذا الملك أن يعطيها لغيره، ولا بُعد في هذا، كالهبة في القبض، يملكلها الموهوب له، ولا يملك إجارتها لغيره. وكالمكيل والموزون قبل قبضه. بخلاف المؤجرة فإنه لما ملك المؤجّر العِوض كأنه أذن في [ ... ] كالمنفعة لأي أحد كان بشرطه. الرابع أنهم قالوا: إن الموقوف عليه يملك الوقف، ولم يقولوا الانتفاع. (1) في (د): "وعليها إجارة إيجار". (2) "ونحو ذلك" ليست في (ق).

(1/5)


الظهر -مثلًا- على الزوال، والجَلْدَ على الشرب والزنا، لم يجز (1) اتفاقًا. وأما إذا كان له سبب وشرط؛ فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتقدم عليهما؛ فلغو. والثاني: أن يتأخر عنهما، فمعتبر صحيح. الثالث: أن يتوسَّط بينهما؛ وهو مثار الخلاف. وله صور: أحدها: كفَّارة اليمين سببها الحلف، وشرطها الحنث، فمن جوز توسطها؛ راعَى التأخُّر عن السبب، ومن منعه؛ رأى أنَّ الشرط جزء من السبب. الثانية: وجوب الزكاة سببه النصاب وشرطه الحول، ومأخَذُ الجواز وعدمه ما ذكرناه. الثالثة: لو كفَّر قبل الجرح؛ كان لغوًا، وبعد القتل معتبر، وبينهما مختلف فيه. الرابعة: لو عفا عن القصاص قبل الجرح؛ فلغو، وبعد الموت؛ عفو الوارث معتبر، وبينهما ينفد أيضًا. الخامسة: إذا أخرج زكاة الحَبِّ قبل خروجه؛ لا يجزئ، وبعد يُبْسه؛ يعتبر، وبين نُضْجه ويُبسه كذلك. السادسة: إذا أَذِن الورثةُ في التصرف فيما زاد على الثلث قبل __________ (1) (ق): "يصح".

(1/6)


المرِض، فلغو، وإجارتهم بعد الموت معتبرة، وإذنُهم بعد المرض مختلَف فيه، فأحمد لا يعتبره " لأنَّه إجازةٌ من غير مالك، ومالكٌ يعتبره، وقوله أظهر. السابعة: إذا أسقطا الخيار قبل التبايع؛ ففيه خلاف، فمن منعه نظر إلى تَقَدُّمه على السبب، ومن أجازه -وهو الصحيح- قال: الفرق بينهما أنَّهما قد عقدا العقدَ على هذا الوجه، فلم يتقدم هنا الحكم على سببه أصلًا فإنه لم يثبت، وسقط بعد ثبوته، وقبل سببه، بل تبايعا على عدم ثبوته، وكأنَّه حق لهما رضيا بإسقاطه وعدم انعقاده، وتجردَ السببُ عن اقتضائه. فمن جعل هذه المسألة من هذه القاعدة، فقد فاته الصواب. ونظيرها سواء: إسقاط الشفعة قبل البيع، فمن لم يرَ سقوطَها، قال: هو تقديمٌ للحكم على سببه، وليس بصحيح، بل هو إسقاط لحقٍ كان بمعرض (1) الثبوت، فلو أن الشفعة ثبتت، ثم سقطت قبل البيع، لزم ما ذكرتم، ولكن صاحبها رضي بإسقاطها، وأن لا يكون البيع سببًا لأخذه بها، فالحقّ له، وقد أسقطه. وقد دل النصُّ على سقوط الخيار والشُّفعة قبل البيع، وصار (2) هذا كما لو أذن له في إتلاف ماله، وأسقط الضمان عنه قبل الإتلاف، فإنه لا يضمنه اتفاقًا، فهذا مُوْجَب النصِّ والقياس، وأما إذا أسقطت المرأةُ حقَّها من النفقة، والقَسْم؛ فلها الرجوع فيه، ولا يسقط؛ لأنَّ الطِّباع لا تصبر على ذلك، ولا تستمر عليه، لتجدد اقتضائها له كل __________ (1) (د): "إسقاط الحق كان يعرض". (2) (ق): "وقد صار".

(1/7)


وقت، بخلاف إسقاط الحقوق الثابتة دفعة؛ كالشفعة، والخيار، ونحوهما، فإنها قد توطن النفس على إسقاطها، وأسبابُها (1) تتجدد، فافهمه. فائدة (2) الفرق بين الشهادة: والرواية: أنَّ الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الأزمان، والشهادة تخص المشهود عليه وله، ولا يتعداهما إلَّا بطريق التبعيّة المحضة. فإلزام المعين يتوقع منه: العداوة، وحق (3) المنفعة، والتهمة الموجبة للرد، فاحْتِيط لها بالعدد والذكورية. ورُدَّت بالقرابة، والعداوة، وتطرق التهم. ولم يفعل (4) مثل هذا في الرواية التي يعمُّ حكمها ولا يَخُصُّ، فلم يُشترط فيها عدد ولا ذكورية، بل اشترط فيها ما يكون مغلبًا على الظن صدق المخبر، وهو العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السّهو (5) والتخليط. ولما كان النساء ناقصات عقلٍ ودين لم يكنَّ من أهل الشهادة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك، قُوِّيَت (6) المرأة بمثلها، لأنَّه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها (7). __________ (1) (ظ ود): "وأشباهها"!. (2) انظر: "الفروق": (1/ 4 - 15). (3) (ق): "وجد"!. (4) (ق) "ويبعد"، و (د): "ويفعل" وهو سهو. (5) (د) و (ظ): "الشهوة" والمثبت من (ق). (6) (ق): "قُرِنت". (7) انظر في شهادة النساء: "التقريب لعلوم ابن القيم": (ص/ 402).

(1/8)


وأما اشتراط الحرية ففي غاية البعد، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع (1)، وقد حكى أحمد عن أنس بن مالك، أنَّه قال: "ما علمتُ أحدًا رد شهادة العبد" (2)، والله تعالى يقبل شهادته على الأمم يوم القيامة، فكيف لا يقبل شهادته على نظيره من المكلفين! ويقبل شهادته على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرواية، فكيف لا يقبل شهادته (3) على رجل في درهم! ولا ينتقض هذا بالمرأة، لأنَّها تقبل (4) شهادتها مع مثلها لما ذكرناه، والمانع من قبول شهادتها وحدها منتفٍ في العبد. وعلى هذه القاعدة مسائل: أحدها: الإخبار عن رؤية هلال رمضان، من اكتفى فيه بالواحد؛ جعله روايةً لعمومه للمكلفين، فهو كالأذان، ومن اشترط فيه العدد ألحقه بالشهادة، لأنَّه لا يعمّ الأعصار ولا الأمصار، بل يخص تلك السنة وذلك المصر في أحد القولين، وهذا ينتقض بالأذان نقضًا لا محيص منه. وثانيهما: الإخبار بالنسب بالقافة (5)، فمن حيث إنَّه خبر جزئي عن شخص جزئي، يخص (6) ولا يعم، جري مجري الشهادة، ومن __________ (1) انظر "التقريب": (ص 403). (2) ذكره المصنّف في "الطرق الحكمية": (ص / 166)، وابن قدامه في "المغني": (14/ 185)، وأسند ابن أبي شيبه في "المصنف": (4/ 292) إلي أنسٍ جواز شهادة العبد. ثم ساق أقوال المانعين. (3) من (ق). (4) (5): (مثل). (5) (ق): "في القيافة"، و (د): "بالقافية"!. (6) "جزئي يخص" سقطت من (ق).

(1/9)


جعله كالرواية غَلِط، فلا مدخل لها هنا، بل الصواب أن يقال: من حيث: هو منتصب للناس انتصابًا عامًّا، يستند قوله إلى أمرٍ يختص به دونهم من الأدلة والعلامات؛ جرى مجرى الحاكم، فقوله حُكم لا رواية (1). ومن هذا الجرح للمحدِّث والشاهد؛ هل يُكتفى فيه بواحد، إجراءً له مجرى الحكم، أو لابد فيه (2) من اثنين، إجراءً له مجرى الشهادة؟ على الخلاف، وأما أن يجري مجرى الرواية؛ فغير صحيح، وما للروايةِ والجرحِ! وإنَّما هو (3) يجرحُه باجتهادِه لا بما يرويه عن غيره. ومنها: الترجمة للفتوى والخط والشهادة وغيرها (4)، هل يشترط فيها التعدد؟ مبنيٌّ علي هذا، ولكن بناؤه علي الرواية والشهادة صحيح، ولا مَدْخَل للحكم هنا. ومنها: التقويم للسِّلَع، من اشترط فيه (5) العدد رآه شهادة، ومن لم يشترطه؛ أجراه مجرى الحكم لا الرواية. ومنها: القاسم، هل يُشترط تعدّده على هذه القاعدة؟ والصحيح الاكتفاء بالواحد؛ لقصة عبد الله بن روّاحة (6). __________ (1) انظر "التقريب لعلوم ابن القيم": (ص/ 396). (2) من (ق). (3) العبارة في (ق): "وأما الرواية وللجرح وهو إما أن"!. و (د): "وأما الرواية والجرح" والمثبت من (ظ). (4) "وغيرها" ليست في (د). (5) من (ق). (6) يعنى لما كان خارصًا بين اليهود والمسلمين بخيبر، انظر "السيرة النبوية": (2/ 354) لابن هشام، "والطبقات الكبرى": (3/ 526) مرسلًا، وللقصة سياقات مختلفة انظر "سير النبلاء": (1/ 237).

(1/10)


ومنها: تسبيح المصلّي بالإمام هل يُشترط أن يكون المسبِّح اثنين؟ فيه قولان مبنيان على هذه القاعدة. ومنها: الخبر عن نجاسة الماء، هل يُشترط تعدده؟ فيه قولان. ومنها: الخارص، والصحيح في هذ كلِّه الاكتفاء بالواحد، كالمؤذن وكالمخبر بالقبلة. وأما تسبيح المأموم بإمامه؛ ففيه نظر. ومنها: المفتي يقبل واحد (1) اتفاقًا. ومنها: الإخبار عن قدم العيب وحدوثه عند التنازع، والصحيح الاكتفاء فيه بالواحد، كالتقويم والقائف. وقالت المالكية: لابد من اثنين، ثم تناقضوا فقالوا: إذا لم يوجد مسلم قُبل من أهل الذمة. فائدة إذا كان المؤذن يُقبل قوله وحده، مع أن لكل قوم فجرًا وزوالًا وعروبًا يخصهم؛ فأن (2) يقبل قول الواحد في هلال رمضان أولى وأحرى. فائدة يُقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان، وعليه عمل الأمة قديمًا وحديثًا، وذلك لِمَا احتفَّ بأخبارهم من القرائن التي تكاد تصل إلى حد القطع في كثير من الصور، مع عموم __________ (1) (د) و (ق): "وحدًا". (2) (ظ): "فلأن".

(1/11)


البلوى بذلك، وعموم الحاجة إليه. فلو أن الرجل لا يدخل بيت الرجل، ولا يقبل هديته إلا بشاهدين عدلين يشهدان بذلك، حَرِجت الأمةُ، وهذا تقرير صحيح، لكن ينبغي طَرْدُه وإلا وقع التناقض، كما إذا اختلفا في متاع البيت؛ فإن القرائن التي تكاد تبلغ القطع، تشهد بصحة دعوى الرجل لما هو من شأنه، والمرأة لما يليق بها، ولهذا قبله الأكثرون، وعليه تُخَرَّج حكومة سليمان بين المرأتين في الولد (1)، وهي محض الفقه. وقد حكى ابنُ حزم في "مراتب الإجماع" (2): إجماعَ الأمة على قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العوس، وهو كما ذَكَر، وقد اجتمع في هذه الصورة من قرائن الأحوال؛ من اجتماع الأهل والقرابات، ونُدْرة التدليس والغلط في ذلك، مع شهرته وعدم المسامحة فيه، ودعوى ضرورات الناس إلى ذلك، ما أوجب قبول قولها. فائدة (3) قبول قول القَصَّاب (4) في الذكاة ليس من هذا الباب بشيءٍ، بل هو من قاعدة أخرى، وهي أن الإنسان مؤتمن على ما بيده، وعلى ما يخبر به عنه (5). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3427)، ومسلم رقم (1720) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) (ص / 65). (3) انظر لهذه الفائدة والتى بعدها: "الفروق": (1/ 15، 17). (4) هو: الجزَّار. (5) انظر "التقريب": (ص/ 403).

(1/12)


فإذا قال الكافر: هذه ابنتي، جاز للمسلم أن يتزوجها، وكذا إذا قال: هذا مالي، جاز شراؤه وأكله. فإذا قال: هذا ذكَّيته جازَ أكله. فكل أَحدٍ مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده، فلا يُشترط هنا عدالة ولا عدد. فائدة الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأُمة؛ فإما أن يكون مستنده السماع؛ فهو الرواية، وإن كان مستنده الفهم من المسموع، فهو الفتوى، وإن كان خبرًا جزئيًا يتعلَّق بمعيَّن (1)، مستندُه المشاهدة أو العلم؛ فهو الشهادة، وإن كان خبرًا عن حقٍّ يتعلق بالمخبِر عنه، والمخبَرُ به هو مستمعه (2) أو نائبه؛ فهو الدعوى؛ وإن كان خبرًا عن تصديق هذا الخبر؛ فهو الإقرار، وإن كان خبرًا عن كذبه؛ فهو الإنكار، وإن كان خبرًا نشأ عن دليل؛ فهو النتيجة، وتسمى قبل أن يحصل عليها (3) الدليل: مطلوبًا، وإن كان خبرًا عن شيءٍ يقصد منه نتيجته؛ فهو دليل، وجزؤه مقدِّمة. فائدة (4) "شهد" في لسانهم لها معانٍ: أحدها: الحضور ومنه قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة 185] وفيه قولان: أحدهما: من شهد المصر في الشهر. __________ (1) (ظ ود): "بمعنى". (2) (ق): "هو المستحق له". (3) (ق): "عليه". (4) انظر: "الفروق": (1/ 17).

(1/13)


والثانى: من شهد الشهر في المصر، وهما متلازمان: والثاني: الخبر، ومنه: "شهد عندي رجال مَرْضيُّون، وأرضاهم عندي عمر: "أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاةِ بَعْد العصرِ وبَعْد الصُّبْح"" (1). والثالث: الاطلاع على الشيء. ومنه: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} [المجادلة: 6]. وإذا كان كل خبرٍ شهادة، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل على كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح (2). وعن أحمد فيها ثلاث روايات: إحداهن: اشتراط لفظ الشهادة، والثانية: الاكتفاء بمجرد الإخبار، اختارها شيخنا (3) -والثالثة: الفرق بين الشهادة على الأقوال وبين الشهادة على الأفعال. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وهنا في حاشية (ظ) تعليق نصُّه: "يتبيّن بهذا أن الشهادة أهم من الخبر مطلقًا؛ إذ كل خبر شهادة ولا عكس إذ يقال فيه: شهادة، والحضور يقال فيه شهد، ولا يقال فيهما خبر. ومن الفائدة [] أن الخبر أعم من الشهادة مطلقًا؛ لأن النتيجة والفتوى والدعوى والرواية يقال لها: إنها أخبار لا شهادات. ثم ظاهر كلام الشيخ أن قول الخارص والمخبر بنجاسة الماء والقاسم و .. ، والمخبر عن قدم العيب وحدوثه والقائف والجارح للمحدّث، بل والمؤذن والمسبح بالإمام شهادة اصطلاحًا، فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم. (2) انظر "التقريب": (ص / 397). (3) أي: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهو المراد إذا أطلقه المؤلف: وستأتي هذه المسألة عند المؤلف بأبسط مما هنا، وهناك الإشارة إلى كلام شيخ الإسلام فيها. (4/ 1370 - 1372).

(1/14)


فالشهادة على الأقوال لا يُشترط فيها لفظ الشهادة، وعلى الأفعال يُشترط؛ لأنَّه إذا قال: سمعته يقول، فهو بمنزلة الشاهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر عنه. فائدة (1) اختلف أبو المعالي (2) وابن الباقلاني (3) في قولهم في حدِّ الخبر: إنه الَّذي يحتمل التصديق والتكذيب. فقال أبو المعالي: يتعين أن يقال: يحتمل الصدق أو الكذب لأنهما ضدان، فلا يقبل إلا أحدهما. وقال القاضي: بل يقال: يحتمل الصدق والكذب (4)، وقوله أرجح، إذ التنافي إنما هو بين المقبولين، لا بين القبولين، ولا يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات (5). __________ (1) انظر: "الفروق": (1/ 19 - 20). (2) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، إمام الحرمين ت (478). "السير": (18/ 468). (3) هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر البصري (403). "السير": (17/ 190). والباقلاني في ضبطها وجهان، بتشديد اللام وتخفيفها. (4) الظاهر أن المؤلِّف قد وهم في نسبة الأقوال -تبعًا للقرافي-، فالذي أختاره القاضي الباقلاني هو ما نسبَه لأبي المعالي الجويني. انظر: "البرهان": (1/ 565) للجويني، و"شرح اللمع": (2/ 567) للشيرازي، و"البحر المحيط": (4/ 217). (5) في حاشية: (ظ) هنا تعليق نصُّه: "قد يقال: وبين المقبولين أيضًا في [] وأنه يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات. ولا يرد الممكن؛ لأنَّه في زمن فيه الوجود لا يقبل العدم وإلا لاجتمع الوجود والعدم في زمن واحد وهو محال، وإنما ساغ أن يقال فيه: إنه =

(1/15)


ولهذا يقال: الممكن يقبل الوجود والعدم، وهما متناقضان، والقبولان يجب اجتماعهما له لذاته؛ لأنَّه لو وُجد أحد القبولين دون الآخر لم يكن ممكنًا، فإنه لو لم يقبل الوجود كان مستحيلًا، ولو لم يقبل العدم كان واجبًا، فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين، وإن تنافى المقبولان، وكذلك نقول: الجسم يقبل الأضداد، فقبولاتها مجتمعة، والمقبولات متنافية. فائدة اختلف في الإنشاءات التي صِيَغها أخبار: كـ "بِعْتُ وأَعْتَقت"، فقالت الحنفية: هي أخبار، وقالت الحنابلة والشافعية: هي إنشاءات لا أخبار لوجوه: أحدها: لو كانت خبرًا لكانت كذبًا؛ لأنَّه لم يتقدم منه مخبره من البيع والعتق، وليست خبرًا عن مستقبل، وفي هذا الدليل شيء؛ لأنَّ __________ = يقبل الوجود والعدم باعتبار أنَّه يجوز أن يطرأ عليه العدم إذا كان موجودًا، كما يجوز أن يطرأ عليه الوجود إذا كان معدومًا، وليس هذا في الخبر؛ لأنَّه إذا اتصف بالصدق لا يقبل بعده الكذب، وإذا اتصف بالكذب لا يقبل بعده الصدق، فظهر أن بين قبوله للصدق، والكذب تنافٍ، إلا أنَّه لا يجوز أن يجتمعا فيه أصلًا بخلاف الوجود والعدم، فإنهما يجتمعان في شيءٍ واحد باعتبار الزمان. فظهر أن قبول الخبر للصدق والكذب إنما هو بطريق البدلية، وما هو كذلك يتعيّن فيه "أو"، والله سبحانه وتعالى أعلم". ثم كتب بعده بخط مغاير تعليقًا عليه: "والحق أن العبارتين صحيحتان علي سواء؛ لأنَّ الخبر لا يجتمع فيه الصدق والكذب في معناه ويجتمعان في لفظه في قبوله لأنَّ تستعمل صداقًا ولأن تستعمل كذبًا، وقد استعملوا مثل هاتين العبارتين في الكلمة، فتارة يقولون: "اسم أو فعل أو حرف" وتارة يقولون: "اسم وفعل وحرف" والوجه في صحة ذلك ما ذُكر.

(1/16)


لهم أن يقولوا: إنها إخبارات عن الحال، فخبرها مقارن للتكلم بها. الثاني: لو كانت خبرًا فإما صدقًا وإما كذبًا، وكلاهما ممتنع، أما الثاني؛ فظاهر، وأما الأول؛ فلأنّ صدقها متوقّف على تقدم أحكامها، فأحكامها إما أن تتوقف عليها، فيلزم (1) الدور، أو لا يتوقف، وذلك محال؛ لأنَّه لا توجد أحكامها بدونها. ولقائل أن يقول: هو دور مَعِيَّةٍ لا تَقَدُّم، فليس بممتنع. وثالثها: أَنَّها لو كانت إخبارات؛ فإما عن الماضي أو الحال، ويمتنع مع ذلك تعليقها بالشرط؛ لأنَّه لا يعمل إلا في مستقبل. وإما عن مستقبل، وهي محال؛ لأنَّه يلزم تجردها عن أحكامها في الحال، كما لو صرح بذلك، وقال: ستصيرين طالقًا. ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون خبرًا عن الحال قولكم: يمتنعُ تعليقها بالشرط؟ قلنا: إذا عُلِّقت بالشرط لم (2) تبق إخبارًا عن الحال، بل إخبارًا عن المستقبل، فالخبر عن الحال الإنشاء المطلق، وأما المعلق فلا. ورابعها: أنَّه لو قال لمطلقةٍ رجعيَّة: أنت طالق، لزمه طلقة أخرى؛ مع أن خبره صدق. فلما لزمه أخرى دل على أنهما إنشاء. ولقائل أن يقول: لما قلنا: هي خبر عن الحال، بَطل هذا الإلزام. وخامسها: أنّ امتثال قوله تعالى {فَطَلَقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] __________ (1) (ظ ود): "فلزم". (2) (د): "فلم".

(1/17)


أن يقول: "أنت طالق"، وليس هذا تحريمًا، فإنّ التحريم والتحليل ليس إلى المكلف، وإنَّما إليه أسبابهما، وليس المراد بالأمر: أخبروا عن طلاقهنَّ، وإنما المراد إنشاء أمر يترتب عليه تحريمهن، ولا نعني بالإنشاء إلا ذلك. ولقائل أن يقول: المأمور به هو السبب الَّذي يترتب عليه الطلاق. فهنا ثلاثة أمور: الأمر بالتطليق، وفعل المأمور به وهو: التطليق. والطلاق وهو: التحريم الناشئ عن السبب. فإذا أتى بالخبر عما في نفسه من التطليق فقد وفَّى الأمرَ حقه وطلقت. وسادسها: أنَّ الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم عرفًا. وهو دليل الحقيقة، ولهذا لا يحسن أن يقال فيه: صدقى أو كذب، ولو كان خبرًا لحسن (1) فيه أحدهما. وقد أجيب عن هذه الأدلة بأجوبة أُخَر: فأجيب عن الأول: بأنَّ الشرع قدَّر تقدم مدلولات هذه الأخبار قبل التكلم بها بالزمن الفرد، ضرورة الصدق (2)، والتقديرُ أولى من النقل. وعن الثاني: أن الدور غير لازم، فإنّ هنا ثلاثة أمور مترتبة (3): فالنطق باللفظ لا يتوقف علي شيء، وبَعْده تقدير تقدم المدلول على اللفظ، وهو غير متوقف عليه في التقدير، وإن توقف عليه في الوجود، __________ (1) (د): "يحسن". (2) كذا في (ظ وق)، وفي (د): "بالزمن بالفرد بضرورة". (3) (ق ود): "مرتبة".

(1/18)


وبَعْده لزوم الحكم، ولا يتوقف اللفظ عليه، وإن توقَّف هو على اللفظ. وعن الثالث: أنا نلتزم (1) أنها إخبارات عن الماضى، ولا يتعذر التعليق؛ فإنّ الماضي نوعان: ماضٍ تقدم مدلوله عليه قبل النطق به من غير تقدير، فهذا يتعذر تعليقه. والثانى: ماض بالتقدير لا التحقيق، فهذا يصح تعليقه. وبيانُه: أنَّه (2) إذا قال: "أنت طالق إن دخلتِ الدار"، فقد أخبر عن طلاق امرأته بدخول الدار، فقدرنا هذا الارتباط قبل نطقه بالزمن (3) الفرد ضرورة الصدق، وإذا قُدر الارتباط قبل النطق، صار الخبر عن الارتباط ماضيًّا. إذ حقيقة الماضي هو الَّذي تقدم مُخبَرُه خَبَرَه؛ إما تحقيقًا وإما تقديرًا، وعلى هذا فقد اجتمع المضِيّ والتعليق ولم يتنافيا. وعن الرابع: أن المطلقة الرجعيَّة إن أراد بقوله لها: "أنت طالق"؛ الخبر عن طلقةٍ ماضية؛ لم يلزمه ثانية، وإن أراد الخبر عن طلقة ثانية؛ فهو كذب، لعدم وقوع الخبر (4)، فيحتاج إلى التقدير ضرورة التصديق، فيقدر تقدم طلقة قبل طلاقه بالزمن الفرد، يصح معها الكلام فيلزمه. وعن الخامس: أنّ الأمر متعلق بإيجاد خبر يقدر الشارع قبله الطلاق، فيلزم به، لا أنَّه متعلق بإنشاء الطلاق حتَّى يكون اللفظ سببًا كما ذكرتموه، بل هو علامة ودليل علي الوقوع، وإنّما ينتفي الطلاق __________ (1) (ظ ود): "إما يلزم". (2) سقطت من (ق). (3) (ظ ود): "قبل تطلقها لزمان". (4) (ق): "المخبر".

(1/19)


عند انتفائه، كانتفاع المدلول لانتفاء دليله وعلاماته، ولا يقال: لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول، فإنّ هذا لازم في الشرعيات، لأنَّها إنّما ثبتت بأدلتها، فأدلتها أسباب ثبوتها. وأما السادس: فهو أقواها، وقد قيل: إنه لا يمكن الجواب عنه إلا بالمكابرة، فإنا نعلم بالضرورة أن من قال لامرأته: "أنت طالق"، لا يحسن أن يقال له: صدقت ولا كذبت، فهذه نهاية أقدام الطائفتين في هذا المقام. وفصل الخطاب في ذلك: أنّ لهذه الصِّيَغ [نسبتين] (1)؛ نسبة إلى متعلقاتها الخارجية، فهي من هذه الجهة إنشاءات محضة كما قالت الحنابلة والشافعية، ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته، وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاءه كما قالت الحنفية، فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية، إنشاءات بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية، وعلى هذا فإنّما لم يحسن أن يقال (2) بالتصديق والتكذيب، -وإن كانت أخبارًا-؛ لأنّ متعلِّق التصديق والتكذيب النفي والإثبات، ومعناهما مطابقة الخبر لمخْبَره، أو عدم مطابقته، وهنا المخبر حصل بالخبر حصول المسبب بسببه، فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب، وإنّما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لم يحصل مخْبَره ولم يقع به كقولك: "قام زيد"، فتأمَّلْه. فإن قيل: فما تقولون في قول المظاهر: "أنتِ عَلَيَّ كظَهْر أُمي"، هل هو إنشاء أو إخبار؟ __________ (1) في النسخ: "نسبتان". (2) (ق): "يقابل".

(1/20)


فإن قلتم: إنشاء، كان باطلًا من وجوه: أحدها: أنّ الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب، والله سبحانه قد كذَّبهم هنا في ثلاثة مواضع: أحدها: في قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] فنفى ما أثبتوه، وهذا حقيقة التكذيب، ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال: ما هى مطلقة. الثاني: قوله تعالى: {وَإِنِّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] والإنشاء لا يكون منكرًا، وإنما يكون المنكر هو الخبر. والثالث: أنَّه سماه زورًا، والزور هو الكذب، وإذا كذبهم الله تعالى دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء. الثاني: أَنَّ الظِّهَار محرَّم، وليس جهة تحريمه إلَّا كونه كذبًا. والدليل على تحريمه خمسة أشياء: أحدها: وصفه (1) بالمنكر. والثاني: وصفه (2) بالزور. والثالث: أنَّه شرع فيه الكفارة، ولو كان مباحًا لم يكن فيه كفارة. والرَّابع: أن الله قال: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3]، والوعظ إنّما يكون في غير المباحات. والخامس: قوله: {وَإِنَّ اللهَ لعَفْوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 3]، والعفو __________ (1) (ظ ود): "ما وصفه". (2) سقطت من (ق).

(1/21)


والمغفرة إنّما يكونان عن الذنب. وإن قلتم: هو إخبار؛ فهو باطل من وجوه: أحدها: أنّ الظهار كان طلاقًا في الجاهلية، فجعله الله في الإسلام تحريمًا تُزيله الكفارة، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، ولو كان خبرًا لم يوجب التحريم، فإنه إن كان صدقًا؛ فظاهر، وإن كان كذبًا؛ فأبعد له من أن (1) يترتب عليه التحريم. والثاني: أنَّه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه، وهو التحريم، وهذا حقيقة الإنشاء، بخلاف الخبر، فإنه لا يوجب حكمه بنفسه؛ فَسَلْب كونه إنشاءً مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه؛ جمعٌ بين النقيضين. وثالثها: أَنَّ إفادة قوله: "أنت عَلَيَّ كظهر أمي" للتحريم، كإفادة قوله: أنت حرة"، "وأنت طالق"، و"بعتك"، و"وهبتك"، و"تزوجتك" (2)، ونحوها لأحكامها، فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار؟ وما الفرق؟. قيل: أما الفقهاء فيقولون: الظهار إنشاء، ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك، وقال: الصواب أنَّه إخبار، وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء. قال: أما قولهم: كان طلاقًا في الجاهلية (3)؛ فهذا لا يقتضى أنهم كانوا يثبتون به الطلاق، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون به العصمة عند النطق به، فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم، أو لكونه __________ (1) من قوله: "تزيله الكفارة ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ظ ود): وتزوجت". (3) "في الجاهلية" ليس في (د).

(1/22)


كذبًا، وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه، وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك. قال: وأما قولكم: إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار، فلا نسلِّم أنَّ ثَمَّ تحريمًا ألبتة، والذي دل عليه القرآن: وجوب تقديم الكفارة على الوطء، كتقديم الطهارة على الصلاة، فإذا قال الشارع: لا تصلِّ حتَّى تتطهر، لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه، بل ذلك نوع ترتيب. سلَّمنا أن الظهار ترتَّب عليه تحريم، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، ودلالته عليه، وهذا هو الإنشاء. وقد يكون عقوبة مَحْضة، كترتيب حرمان الإرث على القتل، وليس القتل إنشاء للتحريم، وكترتيب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به، فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ. وحقيقة الإنشاء: أن يكون ذلك اللفظ وُضِع لذلك الحكم، ويدل عليه، كصِيَغ العقود، فسببية القول أعم من كونه سببًا بالإنشاء أو بغيره. فكل إنشاء سبب، وليس كل سبب إنشاء. فالسببيَّة أعم، فلا يُستدل بمطلقها على الإنشاء، فإن الأعمّ لا يستلزم الأخص، فظهر الفرق بين تَرَتُّب التحريم على الطلاق، وترتُّبه على الظهار. قال: وأما قولكم: إنه كالتكلُّم بالطلاق والعِتَاق والبيع ونحوها؛ فقياس في الأسباب. فلا نقبله ولو سلمناه، فخصُّ القرآن يدفعه. وهذه الاعتراضات عليهم باطلة: أَمَّا قوله: "إن كونه طلاقًا في الجاهلية، لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق" إلى أَخره؛ فكلامٌ باطل قطعًا؛ فإنهم لم يكونوا

(1/23)


يقصدون الإخبار الكذب، ليترتب عليه التحريم، بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادةً للطلاق؛ ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين في ذلك (1)، ولا مخبرين، وإنّما كانوا منشئين للطلاق به. ولهذا كان هذا (2) ثابتًا في أول الإسلام حتَّى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة (3) بنت ثعلبة، كانت تحت عُبادة بن الصامت (4)، فقال لها: "أنت عليَّ كظهر أُمي"، فأتت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَرُمُت عَلَيْهِ"، فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب، ما ذكر الطلاقَ، وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليَّ فقال: "حَرُمْتِ عَلَيْهِ"، فقالت: أشكو إلى الله فاقتى وَوَحْدتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُرَاكِ إلِّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، وَلَمْ أُؤْمَرُ فِي شَأْنِكِ بِشَيءٍ"، فجَعَلَتْ تراجعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإذا قال لها: حَرُمْتِ عَلَيْهِ" هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وأن لي صِبْيَة صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إنِّي أشكو إليك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فنزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قُضي الوحي قال: "ادْعِي زَوْجَكِ" فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {قَدْ سَمِعَ اللهُ} [المجادلة: 1] الآيات (5). __________ (1) من (ق). (2) ليست في (ق). (3) على خلافٍ في اسمها واسم أبيها، انظر "الإصابة": (4/ 289). (4) كذا في الأصول، وجاء كذلك في بعض الروايات، وهو وهم، والصواب: أنها كانت تحت أوس بن الصامت أخي عبادة، انظر: "الإصابة": (4/ 291)، و"الاستيعاب" بهامشها. (5) أخرجه أبو داود رقم (2214)، وعلقه البخاري في الصحيح "الفتح": (13/ 384)، =

(1/24)


فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام؛ ثم نسخ ذلك بالكفارة. وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند وِلادِها عشرةَ أبطن، ونحوه، فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم، بل هو شارع منهم لهذا التحريم، عند هذا السبب. وأما قوله: "إنا لا نسلِّم أنَّه يوجب تحريمًا"؛ فكلام باطل، فإنه لا نزاع بين الفقهاء: أَنَّ الظِّهار يقتضي تحريمًا تزيله الكفارة، فلو وطئها قبل التكفير (1)؛ أَثِمَ بالإجماع المعلوم (2) من الدين، والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام وبالحيض. وأمَّا تنظيره بالصلاة مع الطهر؛ ففاسد، فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر، فإذا لم يأت بالطهر فقد (3) ترك ما أوجب الله عليه، فاستحقَّ الإثم، وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته، وشبَّهها بمن تحرُم عليه، فمنعه الله من قربانها، حتَّى يُكفِّر، فهنا تحريم مُستند إلى ظِهَارِه، وفي الصلاة لا تُجزئ منه بغير طُهر؛ لأنَّها غير مشروعة أصلًا. قوله: "التحريم عَقِب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، وقد يكون عقوبة ... "، إلى آخره، جوابه أنهما غير متنافيين في الظِّهار، فإنه حرام وتحرم به تحريمًا مؤقتًا حتَّى يكفِّر، وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها، والطلاق في الحيض فإنه __________ = وأحمد في "المسند": (6/ 410). وما في "المسند" أصح ما ورد في قصة المجادلة، قاله الحافظ في "الفتح". (1) (ق): "الكفارة". (2) (ظ ود): "المعروف". (3) من (ق).

(1/25)


محرَّم، ويتعقبه التحريم، وقد قلتم: إن طلاق السكران يصح عقوبةً له، مع أنَّه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تَطْلُق امرأته اتفاقًا، فكون التحريم عقوبةً، لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها. قوله: "السببية أعمُّ من الإنشاء .... " إلى آخره؛ جوابه: أنّ السبب نوعان: فعل وقول، فمتى كان قولًا لم يكن إلّا إنشاء، فإن أردتم بالعموم: أنّ سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارًا؛ فممنوع، وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول: فمُسَلَّم، ولا يفيدكم شيئًا. وفَصْل الخطاب: أن قوله: "أنتِ عليَّ كظهر أمي"، يتضمن إنشاءً وإخبارًا، فهو إنشاءٌ من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ، وإخبار من حيث تشبيهها (1) بظهر أمه، ولهذا جعله الله منكرًا وزورًا، فهو منكر باعتبار الإنشاء، زوّر باعتبار الإخبار. وأما قوله: "إن المنكر هو الخبر الكاذب"؛ فالخبر الكاذب من المنكر، والمنكر أعم منه، فالإنكار في الإنشاء والإخبار، فإنه ضد المعروف، فما لم يُؤذَن فيه من الإنشاء؛ فهو منكر، وما لم يكن صداقًا من الإخبار؛ فهو زور. فائدة المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص، وإنما يدخل في (2) الظاهر المحتمل له، وهنا نُكْتة ينبغي التفطن لها، وهي: أن كون اللفظ نصًّا يُعْرف بشيئين: __________ (1) (ظ ود): "شبهها". (2) ليست في (ق).

(1/26)


أحدهما: بعدم احتماله (1) لغير معناه وضعًا، كالعشرة. والثاني: ما اطرد استعماله علي طريقة واحدة في جميع موارده؛ فإنه نصٌّ في معناه، لا يقبل تأويلًا ولا مجازًا، وإن قُدِّر تطرُّق ذلك إلى بعض أفراده، وصار هذا بمنزلة خبر التواتر، لا يتطرَّق احتمال الكذب إليه، وإن تطرَّق إلى كل واحد من أفراده بمفرده وهذه عصمة (2) نافعة، تدلك على خطأ كثير من التأويلات في السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها، وتأويلُها والحالة هذه غلط، فإن التأويل إنّما يكون لظاهر قد ورد شاذًّا مخالفًا لغيره من (3) السمعيات، فيحتاج إلى تأويله ليوافقها، فأما إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة؛ صارت بمنزلة النص وأقوى، فتأويلها ممتنع، فتأمل هذا. فائدة (4) أضافوا الموصوف إلى الصفة وإن اتّحدا؛ لأنَّ الصفة تضمنت معنى ليس في الموصوف، فصحَّت الإضافة للمغايرة (5). وهنا نكتة لطيفة، وهي: أن العرب إنّما تفعل ذلك في الوصف المغرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب للأعلام؛ كما قالوا: "زيد بطَّة" أي: صاحب هذا اللقب. وأما الوصف الَّذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه؛ فلا يضاف __________ (1) (ظ ود): "تقدم إكماله" ثم صوِّبت في الهامش. (2) (ق): "عظيمة"!. (3) (ظ ود): "ومن"!. (4) انظر "نتائج الفكر": (ص/ 37 - 38) لأبي القاسم السُّهيلي. (5) (ظ ود): "للمغاير".

(1/27)


الموصوف إليه، لعدم الفائدة [المخصِّصة] (1) التي لأجلها أضيف الاسم إلى اللقب، فإنه لما تخصص به، كأنك قلتَ: صاحب هذا اللقب، وهكذا في "مسجد الجامع" و"صلاة الأُولى". فإنه لما تخصص الجامع بالمسجد ولزمه، كأنك قلتَ: صاحب هذا الوصف، فلو قلت: "زيد الضاحك"، و"عمرو القائم"، لم يجز، وكذا إن كان لازمًا غير معرفة فلا (2) تقول: "مسجد جامع" و"صلاة أولى". فائدة (3) اللفظ المؤلف من "الزاي والياء والدال" -مثلًا- له حقيقة متميزة متحصِّلة، فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه؛ لأنَّه شيء موجود في اللسان، مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من (همزة الوصل والسين والميم) عبارة عن اللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) مثلًا، واللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان، وهو المسمى والمعنى، واللفظ الدال عليه الَّذي هو (الزاي والياء والدال) هو الاسم، وهذا اللفظ أيضًا قد صار مسمًّي، من حيث كان لفظ (الهمزة والسين والميم) عبارة عنه، فقد بان لك أنّ الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى، ولهذا تقول: سميت __________ (1) في الأصول: "المصححة" والمثبت هو الصواب. (2) سقطت من (ظ ود). (3) انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 39 - 41) للسُّهيلي، والمؤلف نقل أكثر فوائد هذا الكتاب بنصها حينًا وبمعناها حينًا آخر، مع تهذيب عبارته وتصفيتها من الشوائب العقدية، مع تعليقات واستدراكات ونقد وإضافة، واستجادة لمباحث السُّهيلي في كتابه هذا، ناسبًا أكثر تلك النقول إلى صاحبها. وانظر المقدمة.

(1/28)


هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية غير المحلَّى، فكذلك الاسم غير المسمى. وقد صرح بدلك سيبويه، وأخطأَ من نَسَبَ إليه غير هذا، وادَّعى أن مذهبه (1) اتحادهما، والذي غرَّ من ادعى ذلك قوله: "الأفعال أمثلة أُخذت من لفظِ أَحداث الأسماء" (2)، وهذا لا يعارض نصه قبل هذا بسطر (3)، فإنه نصَّ على أنّ الاسم غير المسمَّى، فقال: "الكلم اسم وفعل وحرف" (4)، فقد صرح بأنّ الاسم كلمة؛ فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى [إنّما هو] شخص؟. ثم قال بعد هذا: "تقول: سميت زيدًا بهذا الاسم، كما تقول: علمته بهذه العلامة". وفي كتابه قريب من ألف موضع؛ أنَّ الاسم هو اللفظ الدال على المسمّى، ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير ذلك بالمسمى أصلًا، وما قال نحويٌّ قط ولا عربيّ: إن الاسم هو المسمَّى ويقولون: أَجَل مسمًّى، ولا يقولون: أَجَل اسم، ويقولون: مسمًّى هذا الاسم كذا، ولا يقول أحد: اسم هذا الاسم كذا، ويقولون: هذا الرجل مسمًّى بزيد، ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد، ويقولون: "بسم الله"، ولا يقولون: بمسمًّى الله. __________ (1) (د): "وأدعى أن هذا مذهبه". (2) "الكتاب": (1/ 12) لسيبويه، وعبارته: "وأمّا الفعل فأمثلة ... ". (3) من (ق) و"النتائج". (4) "الكتاب": (1/ 12).

(1/29)


وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لي خَمُسَةُ أَسْمَاءٍ" (1) ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات، و"تَسَمّوا باسْمي (2) ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي، و"للهِ تسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا" (3) ولا يصح أن يقال: تسعة. وتسعون مسمًّي. وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمَّى، فبقي هاهنا "التسمية"، وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى، و"التسمية ": عبارة عن فعل المسمِّي، ووضعه الاسم للمسمَّى، كما أنَّ "التحلية" عبارة عن فعلي المحَلِّي، ووضعه الحلية على المحلَّى، فهنا ثلاث حقائق: اسم ومسمى وتسمية، كحِلْية ومحلَّي وتحلية، وعلامة ومُعلِّم وتعليم، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين علي معنًي واحد؛ لتباين حقائقها، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولابُد. فإن قيل: فحُلُّوا لنا شُبَه من قال باتحادهما ليتم الدليل، فإنكم أقمتم الدليل؛ فعليكم الجواب عن المعارِض. فمنها: أن الله وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة، وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة، لأنَّ أسماءه صفات، وهذا هو السؤال الأعظم الَّذي __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3532)، ومسلم رقم (2354) من حديث جُبير بن مُطعم - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري رقم: (1110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري رقم (3736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/30)


قاد متكلِّمي الإثبات إلى أن يقولوا: الاسم هو المسمَّى، فما عندكم في دفعه؟. والجواب (1): أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة، محتملة لمعنيين حق (2) وباطل، فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني، وتنزيل ألفاظها عليها، ولا ريبَ أن الله -تبارك وتعالى- لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها. فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمَّى اسمه، وإن كان لا يُطلق على الصفة أنها الله يخلق ويرزق، فليست صفاته وأسماؤه غيره، وليست هي نفس الإله. وبَلاءُ القومِ من لفظة "الغير"، فإنها يُراد بها معنيان: أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة "بالله"، وكل ما غاير "الله" مغايرةً مَحْضَة بهذا الاعتبار، فلا يكون إلا مخلوقًا. ويُراد به: مغايرة الصِّفة للذات، إذا جُرِّدَت (3) عنها. فإذا قيل: عِلْمُ الله وكلامُ الله غيرُه، بمعنى: أنَّه غير الذات المجردة عن العلم والكلام؛ كان المعنى صحيحًا، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أُريد أن العلم والكلام مُغاير لحقيقته المختصَّة التي امتاز بها عن غيره؛ كان باطلًا لفظ ومعنًي. __________ (1) انظر: "نتائج الفكر": (ص / 42) بتصرف؛ إذ صفّي كلام السهيلي من عبارات الأشاعرة. (2) (ظ): "صحيح"، وسقطت من (د). (3) (ظ ود): "خرجت".

(1/31)


وبهذا أجاب أهلُ السنة المعتزلةَ القائلين بخلق القرآن، وقالوا: كلامه تعالى داخل في مسمَّى اسمه. فالله تعالى اسم للذات (1) الموصوفة بصفات الكمال، ومن تلك الصفات: صفة الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة. وإذا كان القرآنُ كلامه، وهو صفة من صفاته؛ فهو متضمن لأسمائه الحسنى، فإذا كان القرآن غير مخلوق (2)، ولا يقال: إنه غير الله، فكيف يقال: إن بعض ما تضمنه، وهو أسماؤه: مخلوقة، وهي غيره؟! فقد حَصْحَصَ الحق بحمد الله، وانحسم الإشكال، وأن أسماءه الحسني التي في القرآن من كلامها، وكلامه غير مخلوق، ولا يقال: هو غيره، ولا هو هو، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره، وهي مخلوقة. ولمذهب من ردِّ عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته لا غيره. وبالتفصيل تزول الشُّبَه، ويتبين الصواب، والحمد لله. حجة ثانية لهم (3)، قالوا: قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، {وَاذكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل: 8]، {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1]. وهذه الحجة عليهم في الحقيقة؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثل هذا (4) الأمر، وقال: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم"، ولو كان "الأمر كما زعموا؛ لقال: "سبحان اسم ربي العظيم" __________ (1) (ظ ود): "الذات". (2) من قوله: "وإذا كان ... " إلى هنا ساقطة من (ق) وهو انتقال نظر. (3) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 43). (4) ليست في (ق).

(1/32)


ثم إن الأمة كلهم لا يجوِّز أحد منهم أن يقول: "عبدت اسم ربي"، ولا "سجدت لاسم ربي"، ولا "ركعت لاسم ربي"، ولا "باسم ربي ارحمني"، وهذا يدل على أن هذه (1) الأشياء متعلقة بالمسمَّى لا بالاسم. وأما الجواب عن تعلق الذكرِ والتسبيحِ المأمور به بالاسم، فقد قيل فيه: إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم، فقد تُعَظم ما هو من سببه (2) ومتعلق به، كما يقال: "سلامُ على الحضرة العالية، والباب السَّامي والمجلس الكريم" ونحوه. وهذا جواب غير مَرْضيٍّ (3) لوجهين: أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفهم هذا المعنى، وإنّما قال: "سبحان ربي"، فلم يعرِّج على ما ذكرتموه. الثاني: أنَّه (4) يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل، وسائر ما يطلق على المسمَّى، فيقال: "الحمد لاسم الله، ولا إله إلا اسم الله"، ونحوه، وهذا مما لم يقله (5) أحد. بل الجواب الصحيح: أنَّ الذكر الحقيقي محلُّه القلب، لأنَّه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح، لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله تعالى أراد من عباده __________ (1) من (ق). (2) في (ظ): "شبيه"! والتصويب من (ق ود) و"النتائج". (3) هذا الجواب لأبي حامد الغزالي في كتابه: "المقصد الأسني": (ص / 38). (4) (ظ ود): "أن". (5) (د): "يقل به".

(1/33)


الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، فصار معني الاثنين: سبِّح ربك بقلبك ولسانك، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحم الاسمَ تنبيهًا على هذا المعنى، حتَّى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ بالألسان؛ لأن ذكر القلب متعلَّقه اللفظ مع مدلوله، لأنَّ اللفظ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى. وعبَّر لي شيخُنا أبو العباس ابن تيمية -قدّس الله روحه- عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة، فقال: المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربك متكلِّمًا به، وكذا سبح اسم ربك، المعني: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها. فالحمد لله المنان بفضله، ونسأله تمام نعمته. حجة ثالثة لهم (1)، قالوا: قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وإنّما عبدوا مُسمَّياتها. والجواب: أنَّه كما قلتم: إنّما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة، لا مسمَّى لها: في الحقيقة. فإنهم سموها: آلهة، وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء؛ لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمي قشور البصل: لحمًا، وأكلَها، فيقال: ما أكلت من اللحم إلَّا اسمه لا مسماه، وكمن سمّى التراب: خبزًا، وأكله، فيقال: __________ (1) انظر: نتائج الفكر": (ص / 45 - 46).

(1/34)


ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم؛ فإنه لا حقيقةَ لإلهيتها بوجهٍ، وما الحكمة (1) ثَمَّ إلا مجرد الاسم، فتأمَّل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى. فإن قيل (2): فما الفائدة (3) في دخول الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاْسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، ولم تدخل في قوله: {سَبِّحْ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعَلَى (1)} [الأعلى: 1]. قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر، ويراد به ذلك مع الصلاة، وهو ذكر وتنزيه مع عمل، ولهذا تسمَّي الصلاة: تسبيحًا، فإذا أُريد التسبيح المجرد (4)؛ فلا معنى للباء؛ لأنَّه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المقرون بالفعل، وهو الصلاة، أدخلت الباء تنبيهًا على ذلك المراد، كأنك قلت: سبح مفتتحًا باسم ربك، أو ناطقًا باسم ربك، كما تقول: صل مفتتحًا أو ناطقًا باسمه، ولهذا السر -والله أعلم- دخلت اللام في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلِّهِ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] والمراد التسبيح الَّذي هو السجود، والخضوع، والطاعة، ولم يقل في موضع: سبح الله ما في السموات والأرض (5)، كما قال: {وَلِلِّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السِّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15]، وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206] فكيف __________ (1) سقطت من (ق). (2) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 46). (3) (ق): (الحكمة). (4) سقطت من (ق). (5) (ق): "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض".

(1/35)


قال: {وَيُسَبِّحُونَهُ} لما ذكر السجود باسمه الخاص، فصار التسبيح ذكرهم له، وتنزيههم إيّاه. شبهة رابعة (1)، قالوا: قد قال الشاعر: إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلام عَلَيْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ (2) وكذلك قول الأعشى (3): * دَاعٍ يُنَادِيْه بِاسْمِ الماءِ مَبْغُوْمِ * هذه حجة عليهم لا لهم، وأما قوله: "ثم اسم السلام عليكما"، فالسلام: هو الله تعالى، والسلام أيضًا: التحية، فإن أراد الأول؛ فلا إشكال، فكأنه قال: ثم اسم الله (4) عليكما، أي: بركة اسمه، وإن أراد التحية؛ فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول، وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى: ثمّ اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول: اللفظ، وبالثاني: المعني، كما تقول: "زيد بطة"، ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه (5)، وفيه نُكتة حسنة، كأنه أراد: ثم هذا اللفظ باقٍ عليكما، جارٍ لا ينقطع منِّي، بل أنا مراعيه دائمًا. __________ (1) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 47 - 50). (2) البيت اللبيد بن ربيعة -رضي الله عنه- في "ديوانه": (ص / 79). (3) كذا في الأصول!. ولعله خطأ ممن النسَّاخ، والصواب -كما قال المؤلف فيما سيأتي- أن البيت لذي الرُّامَّة، في "ديوانه: (ص / 474)، وصدره: *لا ينعشُ الطرف إلا ما تخوَّنَه* وتحرّف في (ق) إلى: "متعوم". (4) (ظ ود): "السلام" والمثبت من (ق). (5) ليست في (ق).

(1/36)


وقد أجاب السُّهيلى (1) عن البيت بجواب آخر، وهذا حكاية لفظه، فقال: "لبيدٌ لم يُرِدْ إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنّما أراد بعد الحول، ولو قال: "السلام عليكم"؛ كان مسلِّمًا لوقته الَّذي نطق فيه بالبيت، فلذلك ذكر الاسم الَّذي هو عبارة عن اللفظ، أي: إنّما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيَّد بالزمان المستقبل، وإنّما هو لحينه، ألا ترى أنَّه لا يقال: "بعد الجمعة اللهم ارحم زيدًا"، ولا: "بعد الموت اللهم اغفر لي"، إنّما يقال: "اللهم اغفر لي بعد الموت"، فيكون "بعد" ظرفًا للمغفرة، والدعاء واقع لحينه، فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفًا للدعاء صرَّحت بلفظ الفعل، فقلت: "بعد الجمعة أدعو بكذا، أو أسلم، أو أَلْفِظ بكذا"؛ لأنَّ الظروف إنّما تُقيد (2) بها الأحداث الواقعة فيها خبرًا، أو أمرًا، أو نهيًا. وأما غيرها من المعانى، كالطلاق، واليمين، والدعاء، والتمني، والاستفهام، وغيرها من المعاني، فإنّما هي واقعة لحين النطق بها، ولذلك (3) يقع الطلاق ممن قال: "بعد يوم الجمعة. أنت طالق"، وهو مُطلق لحينه، ولو قال: "بعد الحول. والله لأخرجنَّ"، انعقدت اليمين في الحال، ولا ينفعه أن يقول: أردت أن لا أوقع اليمين، إلّا بعد الحول؛ فإنه لو أراد ذلك، لقال: "بعد الحول __________ (1) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي المالقي الضرير، أبو زيد وأبو القاسم السُّهيلي، من علماء اللغة، وهو صاحب الروض الأُنُف" وغيره، وكلامه هذا في كتابه "نتائج الفكر" وقد تقدمت الإشارة إليه. ت (581). انظر: "وفيات الأعيان": (3/ 143)، و "إنباه الرواة": (2/ 162)، و"نكت الهِمْيان": (ص / 187). (2) (د): "يريد". (3) (ظ): "وكذلك".

(1/37)


أحلف"، أو "بعد الجمعة أطلقك". فأما الأمر، والنهى، والخبر، فإنّما تقيَّدت بالظروف؛ لأنَّ الظروف في الحقيقة إنّما يقع فيها الفعل المأمور به، والمخْبَر به، دون الأمر والخبر، فإنهما واقعان لحين النطق بهما. فإذا قلت: "أضرب زيدًا يوم الجمعة"، فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة، وأما الأمر، فأنت في الحال آمرُ به، وكذلك إذا قلت: "سافر زيد يوم الجمعة"، فالمتقيِّد باليوم المخبر به لا الخبر، كما أن في قوله: "اضربه يوم الجمعة"، المقيد بالظرف المأمور به، لا أمرك أنت، فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع البابُ كلُّه بابًا واحدًا، فلو أن لبيدًا قال: "إلى الحول ثم السلام عليكما"؛ لكان مسلِّمًا لحينه، ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول، ولذلك ذكر الاسم الَّذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم؛ ليكون ما بعد الحول ظَرْفًا له". وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه -رحمه الله-. وأما قوله: "باسم الماء" والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة، ولهذا عرَّفه تعريف الحقيقة الذهنية، والبيت لذي الرُّمَّة (1)، وصدره: * لا يَنْعَشُ الطَّرْفَ إِلَّا ما تَخَوَّنَهُ * ثم قال: "دَاعٍ يُنَادِيْه باسْمِ الماء ... "، فظن الغالط أنَّه أراد حكاية صوت الظبية، وأنها دعت ولدها بهذا الصوت، وهو "مِآمِآ"، وليس هذا مراده؛ وإنّما الشاعر أَلْغَزَ لما وقع الاشتراك بين لفظ "الماء" المشروب، وصوتها به، فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبِّر __________ (1) تقدم قبل قليل نسبته إلى الأعشى، وبيان ما فيه.

(1/38)


عن الماء المشروب، فكأنها تُصوِّت باسم هذا الماء المشروب، وهذا لأنَّ صوتها "مِآمِآ"، وهذا في غاية الوضوح، والحمد لله (1). فائدة زعم السهيلي (2) وشيخه أبو بكر بن العربي (3): أنّ اسم الله غير مشتق؛ لأنّ الاشتقاق يستلزم مادةً يُشْتقَّ منها، واسمه -تعالى- قديم، والقديم لا مادة له، فيستحيل الاشتقاق. ولا ريب أنَّه إن أُريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمدٌّ من أصل آخر، فهو باطل. ولكن الذين قالوا بالاشتقاق، لم يريدوا هذا المعنى، ولا أَلَمَّ بقلوبهم، وإنّما أرادوا: أنَّه دال على صفةٍ له -تعالى-، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم (4) والقدير، والغفور والرحيم، والسميع والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له. فما كان جوابكم عن هذه الأسماء؛ فهو جواب القائلين باشتقاق اسمه: "الله". ثم الجواب عن الجميع: أنَّا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منها تولُّد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: "أصلًا وفرعًا" ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنّما هو باعتبار أن أحدهما __________ (1) من (ق) وحدها. (2) في "نتائج الفِكْر": (ص/ 51). (3) هو: محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي المالكي الفقيه، صاحب التصانيف، ت (543). انظر: "الصلة": (2/ 558)، و"السير": (20/ 197). (4) (ق): "كالعظيم".

(1/39)


يتضمن الآخر وزيادة. وقول سيبويه: "إن الفعل أمثلة أُخِذَت من لفظ أحداث الأسماء" (1)؛ هو بهذا الاعتبار، لا أنّ العرب تكلموا بالأسماء أولًا، ثم اشتقوا منها الأفعال، فإن التخاطب بالأفعال ضروري، كالتخاطب بالأسماء، لا فرق بينهما، فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي (2)، وإنّما هو اشتقاق تلازم، سُمِّي المتضمِّن (3) -بالكسر-: مشتقًا، والمتضمّن. -بالفتح-: مشتقًّا منه، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله -تعالى- بهذا المعني. فائدة (4) استبعد قوم أن يكون الرحمن، نعتًا لله، من قولنا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة: 1]، وقالوا: "الرحمن، عَلَم، والأعلام لا ينعت بها، ثم قالوا: هو بدل من اسم الله. قالوا: ويدل على هذا أن "الرحمن" علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره، فليس هي" كالصفات التي هي: العليم والقدير، والسميع والبصير، ولهذا تجري على غيره تعالى. قالوا: ويدل عليه -أيضًا- وروده في القرآن. غير تابع لما قبله، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن 1 - 2]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20]، وهذا شأن الأسماء __________ (1): "الكتاب" (1/ 12). (2) (ق): "فالاستعارة هنا ليس هو اشتقاق بادي"! وهو تحريف. (3) (ق ود): "المتضمن فيه". (4) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 35). (5) ليست في (ق).

(1/40)


المحْضَة؛ لأنَّ الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف. قال السُّهيلي: "والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان؛ لأنَّ الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، فإنه أعرف المعارف كلها، وأبينها (1)، ولهذا قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] ولم يقولوا: وما الله؟ ولكنه -وإن جرى مجرى الأعلام- فهو وصف، يُراد به الثناء، وكذلك "الرحيم"، إلَّا أنّ "الرحمن" من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنّما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية، فإن التثنية في الحقيقة تضعيف؛ وكذلك هذه الصفة، فكأن "غضبان" و"سكران" حامل (2) لِضِعْفَين من الغضب والسُّكْر، فكان اللفظ مضارعًا للفظ التثنية؛ لأنّ التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم -أيضًا- قد شبهوا التثنية بهذا البناء، إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا: الحَكَمان والعَلَمان، وأعربوا "النون" كأنه اسم لشيءٍ واحد، فقد (3) اشترك باب "فَعْلان" وباب التثنية، ومنه قول فاطمة: "يا حَسَنانُ يا حُسَينانُ" برفع النون لابْنَيها، ولمضارعة التثنية امتنع جمعُه، فلا يقال: غضابين، وامتنع تأنيثه، فلا يقال: غضبانة، وامتنع تنوينه كمالا ينون نون المثنى (4)، فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظًا ومعنى. وفائدة الجمع بين الصفتين؛ "الرحمن والرحيم": الإنباء عن رحمةٍ عاجلةٍ وآجلةٍ، أو (5) خاصة وعامة" تمَّ كلامه. __________ (1) (ق): "وأثبتها". (2) (ظ ود): "كامل"! لكن صُححت في (د) بخط مغاير. (3) (ظ ود): "فقالوا" والتصويب من (ق) و"النتائج". (4) من قوله: "لابنيها ... " إلى هنا ساقط من (د). (5) (ظ): "و".

(1/41)


قلت: أسماء الرب -تعالى- هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تَنافيَ فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه -تعالى- ووصفه، لا تُنافي اسميتُه وصفيته، فمن حيث هو صفة؛ جرى تابعًا علي اسم: الله -تعالى-، ومن حيث هو أسم: ورد في القرآن غير تابع، بل ورودَ الاسم العَلَم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به -تعالى-، حَسُن مجيئه مفردًا غير تابع، كمجيء اسمه "الله" كذلك، وهذا لا ينافي دلالته على صفة "الرحمة" كاسمه "الله" فإنه دالٌّ على صفة الألوهية، ولم يجئ قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير، والسميع والبصير، ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة، بل تابعة (1). فتأمل هذه النكتةَ البديعةَ؛ يظهرْ لك بها أنّ "الرحمن" اسمٌ وصِفَة، لا ينافي أحدهما الآخر، وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعًا. وأما الجمع بين "الرحمن الرحيم"؛ ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما، وهو: أنّ الرحمن دالُّ على الصفة القائمة به -سبحانه-، والرحيم دالة على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثانى للفعل، فالأول دال على أنّ الرحمة صفته، والثانى دال على أنَّه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فَهْمَ هذا؛ فتأمل قوله {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ (117)} [التوبة: 117]. ولم يجيء قط: "رحمن بهم" فَعُلِم أن "رحمن" هو الموصوف بالرحمة، و"رحيم" هو الراحم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآةُ قلبك، لم تنجل لك صورتها. __________ (1) "بل تابعه" ليست في (ق).

(1/42)


فائدة (1) لحذف العامل في "بسم الله" فوائد عديدة. منها: أنَّه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله (2)، فلو ذكرت الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله؛ كان ذلك مناقضًا للمقصود، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعني، ليكون المبدوع به اسم الله، كما تقول في الصلاة: "الله أكبر"، ومعناه: من كل شيءٍ، ولكن لا تقول هذا المقَدَّر، ليكون اللفظ في اللسان (3) مطابقًا لمقصود الجنان، وهو: أن لا يكون في القلب ذِكْر إلا الله وحده، فكما تجرَّد ذكره في قلب المصلِّي، تجرَّدَ ذكره في لسانه. ومنها: أن الفعل إذا حُذف صح الابتداء بالتسمية (4) في كل عمل وقول وحركة، وليس فِعْل أولى بها من فِعْل؛ فكان الحذف أعم من الذِّكر، فإنّ أي فعل ذكرته؛ كان المحذوف أعم منه. ومنها: أنَّ الحذف أبلغ؛ لأنَّ المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدّعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل، فكأنه لا حاجة إلى النطق به، لأنّ المشاهدة والحال دالة على أن هذا الفعل وكُلُّ فعل فإنّما هو باسمه -تبارك وتعالى-، والحَوَالة على شاهد الحال أبلغ من الحَوَالة على شاهد النطق، كما قيل: ومن عَجِبٍ قول العَوَاذِل مَنْ بِهِ ... وهَلْ غيرْ مَنْ أهْوي يُحبُّ ويُعْشَقُ __________ (1) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 55). (2) (ق): "اسم الله". (3) "في اللسان" من (ق) وحدها. (4) سقطت من (ق).

(1/43)


فائدة (1) استشكل طائفةٌ قول المصنفين: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله"، وقالوا: الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة، والتسمية قبله خبر، والدعاء لا يحسن عطفه على الخبر، لو قلت: "مررت بزيد، وغفر الله لك"؛ لكان غثًا من الكلام، والتسمية في معنى الخبر؛ لأنَّ المعنى: أفعل كذا باسم الله. وحجة من أثبتها: الاقتداء بالسلف، والجواب عما قاله هؤلاء: أنّ الواو لم تَعْطِف دعاءً على خبر؛ وإنّما عطفت الجملة على كلامٍ مَحْكِيٍّ، كأنك تقول: قلت (2): بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد"، أو "أقول هذا وهذا"، أو "أكتب هذا وهذا". فائدة (3) قولهم: "الصلاة من الله بمعنى الرحمة"، باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله تعالى غايَرَ بينهما في قوله: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]. الثاني: أن سؤال الرحمة يُشْرع لكلِّ مسلم، والصلاة تختص النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- وآله (4)، وهي حق له ولآله، ولهذا منع كثير من العلماء من الصلاة على مُعَيَّنٍ غيره، ولم يمنع أحد من الترحُّم على مُعيِّن. __________ (1) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 56). (2) "قلت" من (ق). (3) انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 57 - فما بعدها). (4) سقطت من (ظ).

(1/44)


الثالث: أنّ رحمة الله عامة وسِعَت كلَّ شيء، وصلاته خاصة بخواص عباده. وقولهم: "الصلاةُ من العباد بمعنى الدعاء"، مُشْكِل من وجوه: أحدها: أنّ الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلَّا في الخير. الثاني: أنّ "دعوت" تعدّى باللام، و"صلّيت" لا تعدّي إِلَّا بعلي، و"دعاء" المعدّى بعلى ليس بمعنى صلّى، وهذا يدل على أنّ الصلاة ليست بمعني الدعاء. الثالث: أنّ فِعْل (1) الدعاء يقتضى مدعوا ومدعوًّا له، تقول: دعوت الله لك بخير، وفِعْل الصلاة لا يقتضي ذلك، لا تقول: صليت الله عليك، ولا لك، فدل على أنَّه ليس بمعناه، فأيُّ تباين أظهر من هذا، ولكن التقليد يُعْمي عن إدراك الحقائق، فإياك والإخلاد إلى أرضه. ورأيت لأبي القاسم السهيلي كلامًا حسنًا في اشتقاق الصلاة، وهذا لفظه، قال: "معنى (2) اللفظة حيث تصرَّفت ترجع إلى الحُنُو والعَطْف، إلا أنّ (3) الحنو والعطف يكون محسوسًا ومعقولًا، فيُضاف إلى الله منه ما يليق بجلاله، ويُنفى عنه ما يتقدَّس عنه، كما أن العلو محسوس ومعقول، فالمحسوس منه صفات الأجسام، والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام وهذا المعنى كثير موجود في الصفات، __________ (1) سقطت من (ق). (2) (ظ ود): "معني الصلاة ... ". (3) (ق): "لا لأنَّ".

(1/45)


و"الكبير" (1) يكون صفة للمحسوسات، وصفة للمعقولات، وهو من أسماء الرب -تعالى-، وقد تقدس عن مشابهة الأجسام، ومضاهاة الأنام، فالمضاف (2) إليه من هذه المعاني معقولة غير محسوسة. وإذا ثبت هذا فالصلاة -كما قلناه-، حنوّ وعطف، من قولك: "صليت" أي: حنيت [صَلَاك] (3): وعطفته، فأخلِق بأن تكون الرحمة صلاة، كما (4) تُسمَّى عطفًا وحنوًّا، تقول: "اللهم اعطف علينا"، أي: ارحمنا، قال الشاعر (5): وَمَا زِلْتُ في لِيْني لَهُ وَتَعَطُّفي ... عَلَيه كما تَحْنُو على الوَلَدِ الأُمُّ ورحمة العباد: رقة في القلب، إذا وجدها الراحم من نفسه انعطفَ على المرحوم وانثنى عليه، ورحمة الله للعباد جود وفضل، فإذا صلى عليه فقد أفْضَل عليه وأنعَم. وهذه الأفعال إذا كانت من الله، أو من العبد؛ فهي متعدية بعلى، مخصوصة بالخير، لا تخرج عنه إلى غيره، فقد رجعت كلها إلى معنى واحد، إلّا أنها في معنى الدعاء والرحمة صلاة معقولة، أي: انحناء معقول غير محسوس، ثمرته من العبد الدعاء؛ لأنَّه لا يقدر على أكثر منه، وثمرته من الله الإحسان والإنعام، فلم تختلف الصلاة __________ (1) في الأصول: "الكثير"، والمثبت من "النتائج". (2) (ق ود): "فما يضاف"، وما ذكره السهيلي هنا فيه نظر؛ لأنَّ كون الصفة محسوسة أو غير محسوسة من الألفاظ المجملة التي لم ترد عن السلف، مثل لفظ (الجسم والحيز والجهة) فلابد من التفصيل فيها، فإن أُريد به المعنى الصحيح قُبِل وإن أُريد به المعني الباطل رُدَّ، انظر "منهاج السنة" (2/ 34 - 35). (3) (ق): "صلاتك" وهو خطأ، والمثبت من "النتائج". (4) من قوله: "قلناه حنو وعطف .... " إلى هنا سقط من (ظ ود) وهو انتقال نظر، والاستدراك من (ق) و"النتائج". (5) البيت لمعن بن أوس من قصيدة له، انظر: "زهر الآداب": (3/ 246) للحُصْري.

(1/46)


في معناها، إنّما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها. والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناءٌ محسوس، فلم يختلف المعنى فيها إلّا من جهة المعقول والمحسوس، وليس ذلك باختلاف في الحقيقة، ولذلك تعدَّت كلُّها بعلى، واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة، ولم يَجُز "صلَّيتُ على العدوّ"، أي: دعوت عليه؛ فقد صار معنى الصلاة أرق (1) وأبلغ من معنى الرحمة، وإن كان راجعًا إليه، إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم، ولا ينعطف عليه من شدة الرحمة (2). فائدة (3) رأيت للسهيلي فصلًا حسنًا في اشتقاق الفعل من المصدر هذا لفظه، قال: "فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر؛ أنّ المصدر أسم كسائر الأسماء، يخبر عنه كما يخبر عتها، كقولك: "أعجبني خروج زيد"، فإذا ذكر المصدر وأخبر عنه كان الاسم الذي هو فاعل (4) له مجرورًا بالإضافة، والمضاف إليه تابع للمضاف. فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للمصدر، لم يكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره، وحق المخْبَر عنه أن يكون مرفوعًا مبدوءًا به، فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفًا يدل على أنَّه مُخبر عنه، كما تدل الحروف على معانٍ في الأسماء، وهذا لو فعلوه __________ (1) (ق): "أدق". (2) "من شدة الرحمة" من (ق) و"النتائج". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 67). (4) (ظ ود): "الفاعل". و (ق): "الَّذي فاعل" والمثبت من "النتائج".

(1/47)


لكان الحرف حاجرًا بينه وبين الحديث في اللفظ، والحَدّث يستحيل انفصاله عن فاعله، كما يستحيل انفصال الحركة عن محلها، فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل؛ لأنَّه تابع للمعنى، فلم يبق إلا أن يُشتقَّ من لفظ الحديث لفظ يكون كالحرف في النيابة عنه، دالًّا على معنًى في غيره، ويكون متصلًا اتصال المضاف بالمضاف إليه، وهو الفعل المشتق من لفظ الحَدَث، فإنه يدل على الحديث بالتضمُّن، ويدل على [أنَّ] (1) الاسم مُخْبَر عنه لا مضاف إليه، إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم، كاستحالة إضافة الحرف؛ لأنّ المضاف هو الشيء بعينه، والفعل ليس هو الشيء بعينه، ولا يدل على معنًى في نفسه، وإنّما يدل على معنًى في الفاعل، وهو كونه مخبرًا عنه. فإن قلت: كيف لا يدل (2) على معنى في نفسه، وهو يدل على الحدث؟. قلنا: إنّما يدل على الحديث بالتضمُّن، والدال عليه بالمطابقة هو "الضَّرْب" و"القَتْل"، لا "ضَرَبَ" و"قَتَلَ"، ومن ثمَّ وجب أن لا يضاف، ولا يعرَّف بشيء من آلات التعريف؛ إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه، لا بلفظ يدل على معنى في غيره، ومن ثَمَّ وجب أن لا يثنَّى ولا يُجمع كالحرف، ومن ثَمَّ وجب أن يُبنى كالحرف، ومن ثَمَّ وجب أن يكون عاملًا في الاسم كالحرف، كما أنّ الحرف لما دل على معنًى في غيره؛ وجب أن يكون له آثر في لفظ ذلك الغير، كماله آثر في معناه، وإنّما أعرب المستقبل ذو الزوائد؛ لأنَّه تضمن معنى الاسم إذ "الهمزة" تدل على المتكلم، و"التاء" على المخاطب، و"الياء" __________ (1) زيادة من "النتائج". (2) (ق): "كيف لا يكون دالًّا".

(1/48)


على الغائب، فلما تضمن بها معنى الاسم، ضارعه فأُعْرِب، كما أن الاسم إذا تضمَّن معنى الحرف بُني. "وأما الماضى والأمر" فإنهما -وإن تضمنا معنى الحديث وهو اسم- فما شاركا فيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره، وهي حقيقة الحرف، أوجب بناءهما، حتَّى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه آخر، غير التضمن للحدث، خرج عن مضارعة الحرف، وكان أقرب شبهًا بالأسماء كما تقدم. ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنًى في الاسم -وهو كون الاسم مخبرًا عنه- وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمرًّا أو مظهرًا بخلاف الحديث. فإنّك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمرًا ولا مظهرًا نحو قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)} [البلد: 14، 15] وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] والفعل لابد من ذكر الفاعل بعده، كما لابد بعد الحرف من الاسم. فإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر، وهو كونه دالًّا على معنى في الاسم؛ فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة، وتلك الصيغة هي لفظ الماضي؛ لأنَّه أخف وأشبه بلفظ الحديث، إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال المحدث (1)، فتختلف صيغة الفعل. ألا ترى كيف لم (2) تختلف صيغته بعد "ما" الظرفية من قولهم: "لا أفعله ما لاح برق، وما طار طائر"؛ لأنهم يريدون الحديث مخبرًا __________ (1) في "النتائج": (ص / 69): "الحدث". (2) سقطت من (ظ ود).

(1/49)


عنه (1) على الإطلاق، من غير تعرُّضٍ لزمن ولا حال من أحوال الحديث، فاقتصروا على صيغة واحدة، وهي أخف أبنية الفعل. وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرَهُمْ} [البقرة: 6] وقوله: {أَدْعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193]؛ لأنَّه أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق، من غير تقييد بوقت ولا حال، فلذلك لم يحتج إلّا إلى صيغة واحدة وهي صيغة الماضي، كما سبق. فالحَدّث إذا على ثلاثة أَضْرُب: * ضرب يحتاج إلى الإخبار (2) عن فاعله، وإلى اختلاف أحوال الحديث، فَيُشْتَقُّ منه الفعل، دلالةً على كون الفاعل مخبرًا عنه، وتختلف أبنية دلالته (3) على اختلاف أحوال الحدث. * وضرب يحتاج إلى (4) الإخبار عن فاعله على الإطلاق، من غير تقييد بوقت ولا حال، فَيُشْتَقُّ منه الفعل، ولا تختلف أبنيته نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد التسوية، وبعد "ما" الظرفية. * وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله، بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق، مضافًا إلى ما بعده، نحو: "سبحان الله". و"سبحان" (5) اسمٌ ينبئ عن العظمة والتنزيه، فوقع القصد إلى ذكره مجردًا من التقييدات بالزمان، أو بالأحوال، ولذلك وجب __________ (1) في "النتائج: "به". (2) (ق): "الخبر". (3) (د): "استدلالته"!. (4) (ق): "وضرب ما يحتاج إلا ... ". (5) (ق): "فإن سبحان الله"، و"النتائج": "فإن سبحان".

(1/50)


نصبه كما يجب نصب كلّ مقصودٍ إليه بالذكر، نحو: إياك، وويلَه (1)، وويحَه، وهما مصدران لم يُشتق منهما فعل، حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما، ولا احتيج إلى تخصيصهما بزمن، فحكمهما حكم "سبحان"، ونصبهما كنصبه؛ لأنَّه مقصود إليه. ومما انتصب لأنَّه مقصودٌ إليه بالذكر: "زيدًا ضربته"، في قول شيخنا أبي [الحسين] (2) وغيره من النحويين، وكذلك "زيدًا ضربہت"، بلا ضمير، لا نجعله مفعولًا مقدَّمًا؛ لأنَّ المعمول لا يتقدم على عامله، وهو مذهب قوي. ولكن لا يبعد عندي قول النحويين: إنه مفعول مقدّم، وإن كان المعمول لا يتقدَّم على العامل، والفعل كالحرف؛ لأنَّه عامل في الاسم، ودالٌّ (3) على معنى فيه، فلا ينبغي للاسم أن يتقدَّم على الفعل، كما لا يتقدم على الحرف، ولكن الفعل في قولك: "زيدًا ضربت" قد أخذ معمولَه، وهو الفاعل، فمعتمده عليه ومن أجله صِيْغ، وأما المفعول؛ فلم يبالوا به، إذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل، ألا ترى أنَّه يُحْذف والفاعل لا يُحذف؟ فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه، وأما "زيدًا ضربته"؛ فينتصب بالقصد إليه كما قال الشيخ. وهذا الفصل مران أعجب كلامه، ولم أعرف أحدًا من النحويين سبقه إليه. __________ (1) سقطت من (د). (2) في الأصول: الحسن"! والتصويب من "النتائج" ومصادر الترجمة. وهو: أبو الحسين سليمان بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الطراوة. ت (528)، وكان من النحاة المعدودين. انظر: "إنباه الرواة": (4/ 107)، و"إشارة التعيين": (ص/ 135). (3) (ظ ود): "وذاك"!.

(1/51)


فائدة (1) قولهم للضرب ونجوه: مصدر؛ إن أريد بحروف (مصدر)، مصدر: صَدَر يَصْدر مَصَدرًا (2)؛ فهو يقوِّي قول الكوفيين: إن المصدر صادر عن الفعل مشتقٌّ منه، والفعل أصله، وأصله على هذا: "صادر"، ولكن توسَّعوا فيه كـ "صوم وزَوْر" وعلل في صائم وبابه. وقال السُّهيلي: هو علي جهة المكان استعارة، كأنه الموضع الَّذي صدرت عنه الأفعال، والأصل الَّذي نشأت منه (3). قلتُ: وكأنه يعني مصدور (4) عنه لا صادر عن غيره. قال: ولابد من المجاز على القولين؛ فالكوفي يحتاج أن يقول: الأصل صادر، فإذا قيل: "مصدر" قدر فيه حذف، أي ذو مصدر كما يقدر في "صوم" وبابه، ونحن نسميه مصدرًا استعارة من المصدر الَّذي هو المكان. فائدة (5) أصل الحروف أن تكون عاملة؛ لأنَّها ليس لها معانٍ في أنفسها، وإنّما معانيها في غيرها، وأما الَّذي معناه في نفسه (6)، وهو الاسم، فأصله أن لا يعمل في غيره، وإنّما وجب أن يعمل الحرف في كلِّ __________ (1) انظر: "نتائج الفكر": (ص / 72 - 73). (2) (ق): "مصدر يصدر صدرًا"!. (3) "النتائج": (عنه). (4) (د): "مصدر"، (ق): "مصدرًا عنه لا صادرًا". (5) "نتائج الفكر": (ص / 74). (6) (ظ ود): "غيره" وهو خطأ، ثم صوَّبت في (د).

(1/52)


ما دل على معنى فيه؛ لأنَّه اقتضاه معنى، فيقتضيه عملًا؛ لأنَّ الألفاظ تابعة للمعاني، فكما تشبَّث الحرف بما (1) داخلي عليه معنًي وجب أن يتشبث به لفظًا، وذلك هو العمل. فأصل الحرف أن يكون عاملًا، فنسأل عن غير العامل، فنذكر الحروف التي لم تعمل، وسبب سلبها العمل. فمنها: "هل"، فإنها تدخل على جملة قد عمل بعضها في بعض، وسبق إليها عمل الابتداء أو الفاعلية، فدخلت المعنى في الجملة، لا لمعنى في اسم مفرد، فاكتفى بالعامل (2) السابق قبل هذا الحرف، وهو الابتداءُ ونحوه. وكذلك "الهمزة" نحو: "أعمرو خارج" فإن الحرف دخل لمعنًى في الجملة، ولا يمكن الوقوف عليه، ولا يتوهم انقطاع الجملة عنه؛ لأنَّه حرف مفرد لا يوقَفُ عليه، ولو تُوُهِّم ذلك فيه، لعمل في الجملة، ليؤكدوا بظهور أثرِه فيها تعلُّقَه بها ودخوله عليها واقتضاءَه لها، كما فعلوا في "إنّ" وأخواتها، حيث كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعدًا، يجوز الوقف عليها، كـ "إنه وليته ولعله"، فأعملوها في الجملة إظهارًا لارتباطها وشدة تعلقها بالحديث الواقع بعدها، وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة، إذا (3) كان مؤلَّفًا من حرفين، نحو: "هل"، فربما توهم (4) الوقف عليه، أو خيف ذهول السامع عنه، فأُدْخل في الجملة حرفٌ زائد ينبه السامع عليه، وقام ذلك الحرف __________ (1) (ظ ود): "عما"، والمثبت من (ق). (2) (ظ ود): "بالعمل" والمثبت من (ق) و"النتائج". (3) (ظ ود): "إذ". (4) (ق): "وهم".

(1/53)


مقام العمل، نحو: "هل زيد بذاهب"، و"ما زيد بقائم"، فإذا سمع المخاطب "الباء" وهي لا تدخل في الثبوت، تأكد عنده ذكر النفي والاستفهام، وأنَّ الجملة غير منفصلة [عنه] (1)، ولذلك أعمل أهل الحجاز "ما" النافية [لتشبُّثِها] (2) بالجملة. ومن العرب من اكتفى في ذلك التعلق وتأكيده بإدخال "الباء" في الخبر؛ ورآها نائبة (3) في التأثير عن العمل، الذي هو النصب. وإنما اختلفوا في "ما"، ولم يختلفوا في "هل"؛ لمشاركة "ما" لـ "ليس" في النفي، فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة، يؤكَد [تشبئها] (4) بها، جعلوا ذلك الأثر كأثر "ليس"، وهو النصب، والعمل في باب "ليس" أقوى؛ لأنها كلمة، كـ "ليت" و"لعل" و"كأنّ"، والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى توهُّم انفصال الجملة عن "ما" و"هل". فلم يكن بدّ من إعمال "ليس" وإبطال معنى الابتداء السابق. ولذلك إذا قلت: "ما أريد إلا قائم"، لم يعملها أحد منهم؛ لأنه لا يتوهم انقطاع "زيد" على "ما"؛ لأن "إلا" لا تكون إيجابًا إلا بعد نفي، فلم يتوهم انفصال الجملة عن "ما"، ولذلك لم يُعْمِلوها عند تقديم الخبر، نحو: "ما قائم زيد"، إذ ليس من رقبة النكرة أن يكون مبدوءًا بها مخبرًا عنها إلا مع الاعتماد على ما قبلها، فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة عن "ما" قبلها, لهذا السبب فلم يحتج إلى إعمالها وإظهارها، وبقي الحديث كما كان قبل دخولها، مستغنيًا عن تأثيرها فيه. __________ (1) في الأصول: "عنده"، والتصويب من "النتائج". (2) في الأصول: "لشبهها" والتصويب من "النتائج". (3) (ظ ود): "ثابتة" و (ق) محتملة، والمثبت من "النتائج". (4) تحرفت في (ق وظ): والمثبت من (د) و"النتائج".

(1/54)


وأما حرف "لا"؛ فإن كان عاطفًا فحكمه حكم حروف العطف، ولا شيء منها عامل، وإن لم تكن عاطفة نحو: "لا زيد قائم ولا عَمرو"، فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة؛ لأنه لا يتوهم انفصال الجملة بقوله: "ولا عمرو"؛ لأن الواو مع "لا" الثانية تشعر بالأولى لا محالة، وتربط الكلام بها؛ فلم يحتج إلى إعمالها، وبقيت الجملة عاملًا فيها الابتداء، كما كانت قبل دخول "لا". فإن (ق 12/ ب)، قلت: فلو لم تعطف، وقلتَ: "لا زيد قائم"؟. قلتُ: هذا لا يجوز؛ لأن "لا" يُنفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، تقول: "هل قام زيد"؟ فيقال: لا. وقال سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1] وليست نفيًا لما بعدها هنا، بخلاف ما (1) لو قيل: "ما أقسم" فإنّ "ما" لا (2) تكون أبدًا إن نفيًا لما بعدها، فلذلك قالوا: "ما زيد قائم"، ولم يخشوا (3) توهم انقطاع الجملة عنها, ولو قالوا؟ "لا زيد قائم"، لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة، وأن "لا" كـ "هي" أني (لا أقسم)؛ إلا أن تعطف فتقول: "لا زيد في الدار ولا عَمرو" وكذلك] في النكرات، نحو: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] إن أنهم في النكرات قد أدخلوها على المبتدإ والخبر تشبيها لها بـ "ليس"؛ لأنّ النكرة أبعد في باب (4) الابتداء من المعرفة، والمعرفة أشد استبدادًا بأول الكلام. وأما التي للتبرِئَة؛ فللنحويين فيها اختلاف، أهي عاملة أم لا؟ فإن كانت عاملة فكما أعملوا "إِن" حرصًا على إظهار تشبُّثها بالحديث. __________ (1) سقطت من (ق). (2) سقطت من (ق). (3) (ق): "يجتنبوا". (4) من (ق) وما بين المعكوفات قبلها من "النتائج".

(1/55)


وإن كانت غير عاملة -كما ذهب إليه سيبويه (1) -، والاسم بعدها مركب معها مبني على الفتح، فليس الكلام فيه. وأما حرف النداء؛ فعامل في المنادى عند بعضهم، قال (2): "والذي يظهر لي الآن أن النداء (3) تصويت بالمنادى نحو "ها" ونحو "يا" (4)، وأن المنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره، كما تقدم من قولنا في كل مقصود إلى ذكره مجردًا عن الإخبار عنه: إنه منصوب. ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه، نحو: "صاحب زيد أقبل"، و {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] وإن كان مبنيًّا عندهم فإنه بناء كالعمل. ألا تراه ينعت على اللفظ كما ينعت المعرب؟ ولو كان حرف النداء عاملًا لما جاز حذفه وإبقاء عمله. فإن قلت: فلِمَ عملت النواصب والجوازم في المضارع؟ والفعلُ بعدها جملة قد عمل بعضه في بعض، ثم إن المضارع قبل دخول العامل عليه كان مرفوعًا، ورفعه بعامِل، وهو وقوعه موقع الاسم, فهلاَّ مَنع هذا العامل هذه الحروف من العمل، كما منع الابتداء الحروف الداخلةَ على الجملة من العمل؛ إِلَّا أن يُخشى انقطاع الجملة، كما خِيف في "إِن" وأخواتها. فالجواب من وجهين: أحدهما: أَن العامل في المبتدأ (5) -وإن كان معنويًا- __________ (1) انظر: "الكتاب" (1/ 145). والكلام في مختلف عما هنا، فإن "لا" تعمل عنْدَه. (2) القائل هو: السُّهيلي فيِ "نتائج الفكر": (ص/ 77). (3) في "النتائج": "أن يا". (4) (د): "ونحوها". (5) (ق): "الابتداء".

(1/56)


كما أَنَّ الرَّافع للفعل المضارع معنوي، ولكنه أقوى منه؛ لأنَّ حقَّ كلِّ مُخبر عنه أن يكون مرفوعًا لفظًا وحسًّا، كما أنه مرفوع معنى وعقلًا، ولذلك استحق الفاعلُ الرفعَ دون المفعول؛ لأنّه المحْدَث عنه الفعل (1)، فهو أرفع رتبة في المعنى، فوجب أن يكون [في] (2) اللفظ كذلك، لأنه تابع للمعنى. وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر عنه (3) والاسم التابع له، فلم يَقْوَ قوَّته في استحقاق الرفع، فلم يمنع شيئًا من الحروف اللفظية عن العمل؛ إذ اللفظي أقوى من المعنوي، وامتنع ذلك في بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف وقوة (4) العامل السابق للمبتدأ. الجواب الثاني: أن هذه الحروف لم تدخل لمعنى في الجملة، إنّما دخلت لمعنى (5) في الفعل المتضمِّن للحديث من نفى أو إمكان (6) أو نهي أو جزاءٍ أو غيره، وذلك كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة، فوجب عملها فيها كما وجب عمل حروف الجر في الأسماء، من حيث دلت على معنى فيها, ولم تكن داخلة على جملة قد سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي. ومما ينبغي أن يُعْلَمْ أن النواصب والجوازم لا تدخل على الفعل الواقع موقع الاسم، لحصوله في موضع الأسماء، فلا سبيل __________ (1) في الأصول: "بالفعل"، والتصويب من "النتائج". (2) زيادة من "النتائج". (3) كذا في الأصول و"النتائج"! والصواب: "به". (4) (ظ ود): "وقلّة"!. (5) "الجملة، إنما دخلت لمعنى في" سقطت من (د). (6) (ظ ود): "إنكار".

(1/57)


لنواصب الأفعال وجوازمها أن تدخل على الأسماء ولا على (1) ما هو واقع موقعها. فهي إذا دخلت على الفعل؛ خلَّصته للاستقبال، ونفت عنه معني الحال، وهذ: معنًى يختصُّ بالفعل لا بالجملة. وأما "إلا" في الاستثناء؛ فقد زعم بعضهم أنها عاملة، ونقض ذلك عليه (2) بقولهم: "ما قام أحد إلا زيد"، و"ما جاءني إلا عَمرو"، والصحيح أنها موصلة الفعل إلى العمل في الاسم بعدها، كتوصيل واو المفعول معه الفعلَ إلى العمل فيما بعدها, وليس هذا يكسر الأصلَ الذي قدمناه، وهو: استحقاق جميع الحروف العمل فيما دخلت عليه من الأسماء المفردة والأفعال! لأنها إذَا كانت موصلة للفعل، والفعل عامل، فكأنها هي العاملة. فإذا قلت: "ما قام إلا زيد"، وقد أعملت الفعل على معنى الإيجاب، كما لو قلت: "قام زيد لا عَمرو"، وقامت "لا" مقام نفي الفعل عن عَمرو، فكذلك (3) قامت "إلا" مقام إيجاب الفعل لزيد، إذا قلت: "ما جاءني إلا زيد"، فكأنها هي العاملة، فاستغنوا عن إعمالها عملًا آخر. وكذلك حروف العطف، وإن لم تكن عوامل، فإنما جاءت "الواو" الجامعة منها لتجمع بين الاسمين في الإخبار عنهما بالفعل. فقد أوصلت الفعل إلى العمل في الثاني، وسائر حروف العطف يتقدَّرْ بعدها العامل، فتكون: في حكم الحروف الداخلةَ على الجمل. وإذا قلت: "قام زيد وعَمرو"، فكأنك قلت: "قام زيد (4) وقام عَمرو"، __________ (1) من (ق). (2) من (ق). (3) (ظ ود): "فلذلك ". (4) "وعمرو، فكأنك قلت: قام زيد" سقطت من (ق).

(1/58)


فصارت هذه الحروف كالداخلة على الجمل، فقد تقدَّم في الحروف الداخلة على الجمل، أنها لا تستحق من العمل فيها ما تستحق الحروف الداخلة على الأسماء المفردة والأفعال. ونقيس على ما تقدم "لامَ" التوكيد وتركَهم إعمالَها في الجملة، مع أنها لا تدخل لمعنى في الجملة فقط، بل لتربط ما قبلها من القَسَم بما بعدها. هذا هو الأصل فيها، حتى إنهم ليذكرونها دون القسم، فتشعر عند المخاطب باليمين (1) كقوله: إني لأمْنحُكِ الصدودَ وإنني ... قَسَمًا إليكِ مع الصُّدودِ لأمْيَلُ (2) لأنه حين قال: "لأمنحك"، علم أنه قد أَقسم، فلذلك قال: "قسمًا". وهذا الأصل محيط بجميع أصول إعمال الحروف وغيرها من العوامل، وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء، ومَنْبَهَةٌ على سر امتناع الأسماء، أن تكون عاملة في غيرها" هذا لفظ السهيلي، والله أعلم. فائدة (3) اختص الإعراب بالأواخر؛ لأنه دليل على المعاني اللاحقة للمعْرَب، وتلك المعاني لا تلحقه إلا بعد تحصيله وحصول العلم بحقيقته، فوجب أن يترتَّب (ق/ 13 ب) الإعراب بعده كما ترتب مدلوله __________ (1) (ظ ود): "بالنهي" وهو خطأ. (2) وقع في النسخ بعض التحريف في البيت. وهو للأحوص بن محمَّد الأنصاري من قصيدة له، وهو من شواهد في "الكتاب" (1/ 190) وانظر "الخزانة": (2/ 48). (3) "نتائج الفِكْر": (ص/ 82).

(1/59)


الذي هو الوصف في المعْرَب. فائدة (1) قولهم: "حرف متحرك" و"تحركت الواو"، ونحو ذلك؛ تساهل منهم، فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حيِّز إلى حيِّز، والحرف جزء من الصوت، ومحالٌ أن تقوم الحركة بالحرف؛ لأنه عَرض، والحركة لا (ظ/ 11 أ)، تقوم بالعرض، وإنما المتحرك في الحقيقة هو العضو من الشفتين، أو اللسان، أو الحَنك الذي يخرج منه الحرف. فالضمة عبارة عن: تحريك الشفتين بالضمِّ عند النطق. فيحدث مع ذلك صُوَيت خفيّ مقارن للحرف، إن امتد كان "واوًا"، وإن قصر كان "ضمة". وكذلك الفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف، وحدوث الصوت الخفي، الذي يسمى: فتحة أو نصبة، وإن مدت كانت ألفًا، وإن قصرت: فهي فتحة، وكذلك القول في الكسرة. والسكون عبارة عن: خلوِّ العضو من الحركات عند النطق بالحرف، فلا يحدث بعد الحرف صوت فيجزم عند ذلك، أي: ينقطع، فلذلك سُمي: جزمًا؛ اعتبارًا بانجزام الصوت، وهو انقطاعه. وسكونًا؛ اعتبارًا بالعضو الساكن. فقولهم: "فتح، وضم، وكسر"، هو من صفة العضو، وإذا سميت ذلك: "رفعًا ونصبًا وجزمًا وجرًا" فهي من صفة الصوت؛ لأنه يرتفع عند ضمّ الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما، __________ (1) المصدر نفسه: (ص/ 83).

(1/60)


وينجزم عند سكونهما. ولهذا عبروا عنه: بـ "الرفع والنصب والجر" عن حركات الإعراب، إذ الإعراب (1) لا يكون إلا بعامل وسبب، كما أن هذه الصفات التي تضاف إلى الصوت، مِنْ رفع ونصب وخفض إنما تكون بسبب، وهو حركة العضو، واقتضت الحكمة [اللطيفة] (2) أن يُعبّر بما يكون عن سبب عما يكون [لسبب] (3)، وهو الإعراب، وأن يعبر: "بالفتح والضم والكسر والسكون" عن أحوال البناء، فإن البناء لا يكون بسبب، وأعني بالسبب: العامل. فاقتضت الحكمة أن يعبَّر عن تلك الأحوال بما يكون وجوده بغير آلة (4)؛ إذ الحركات الموجودة في العضو لا تكون إلا (5) بآلة، كما تكون الصفات المضافة إلى الصوت (6). وعندي (7) أن هذا ليس باستدراك على النحاة، فإن الحرفَ وإن كان عَرضًا فقد يوصف بالحركة، تبعًا لحركة محلِّه، فإن الأعراض وإن لم تتحرك بأنفسها؛ فهي تتحرك بحركة محالّها، وعلى هذا فقد اندفع الإشكال جملة. __________ (1) "إذ الإعراب" سقطت من (د). (2) في الأصول: "اللفظة"، والمثبت من "النتائج". (3) في الأصول: "عن سبب" والمثبت من "النتائج". (4) (ظ): "بما كون وجوده لغير آلة". (5) كذا في جميع النسخ و"النتائج". واستظهر محققه أن المعنى لا يستقيم إلا بحذف "إلا". (6) (ظ ود): "الموصوف"!. (7) الكلام لابن القُيم -رحمه الله-.

(1/61)


وأما المناسبة التي ذكرها في اختصاص الألقاب؛ فحَسَنة، غير أن كثيرًا من النحاة يطلقون كلًّا منها على الآخر، ولهذا يقولون في "قام زيد": مرفوع علامة رفعه ضمة آخره، ولا يقولون: رفعة آخره، فدل على إطلاق كل منهما على الآخر. فائدة (1) تقول: "نوَّنت الكلمة" ألحقتُ بها نونًا، و"سيَّنْتُها" ألحقت بها سينًا، و"كَوَّفتها" ألحقت بها كافًا، فإن ألحقت بها زايًا قلت: "زوَّيْتُها"؛ لأنَّ ألف الزاي منقلبة عن واو؛ لأن باب "طويت" أكثر من (2) باب "حوة وقوة". وقال بعضهم: "زيَّيتها" وليس بشيء. فائدة (3) التنوين فائدته التفرقة بين فصل الكلمة ووصلها، فلا يدخل في الاسم إلا علامة على انفصاله (ق/ 14 أ)، عما بعده. ولهذا كَثُر في النكرات؛ لِفَرْط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة، فإذا لم تضَف احتاجت إلى التنوين تنبيهًا على أنها غير مضافة، ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك، إلا فيما قلّ من الكلام؛ لاستغنائها في الأكثر عن زيادة تخصيصها. وما لا يتصوّر فيه الإضافة بحال، كالمضمر والمبهم لا ينون بحال، وكذلك المعرف باللام، وهذه علة عدم التنوين وقفًا، إن الموقوف عليه لا يضاف. واختصت النون الساكنة بالدلالة على هذا المعنى؛ لأنَّ الأصل __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 86). وانظر "الخصائص": (3/ 278). (2) (د): "و"!. (3) "نتائج الفكر". (ص/ 87).

(1/62)


في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء أن تكون بحروف المد واللين وأبعاضها، وهي الحركات الثلاث، فمتى قدر عليها؛ فهي الأصل، فإن تعذرت (1) فأقرب شبهًا بها، وآخر الأسماء المعربة قد لحقتها حركات الإعراب، فلم يبقَ لدخول حركة أخرى عليها سبيل، ولا لحروف المدّ واللِّين؛ لأنّها مُشْبَعة (2) من تلك الحركات؛ ولأنها عرضة الإعلال (3) والتغير. فأشبه شيء بها: النون الساكنة؛ لخفائها وسكونها، وأنها من حروف الزيادة، وأنها من علامات الإعراب. ولهذه العلة لا يُنوّن الفعل؛ لاتصاله بفاعله، واحتياجه إلى ما بعده. فائدة (4) جُعِلت علامة التصغير: ضم أوله وفتح ثانيه وياء ثالثة (5). وحكمةُ ذلك -والله أعلم- ما أشار إليه السُّهيلي: فقال: "التصغير: تقليل أجزاء المصغَّر، والجمع: مقابله، وقد زِيْد في الجمع ألفٌ ثالثة كـ "فعالل"، فزيد في مقابلته ياء ثالثة، ولم تكن آخرًا كعلامة التأنيث، لأن الزيادة في اللفظ على حسب الزيادة في المعنى، والصفة التي هي صغر الجسم لا تختص بجزء (ظ/ 11 ب) منه دون جزء، بخلاف صفة التأنيث؛ فإنها مختصة في جميع الحيوانات بطرف يقع به الفرق بين الذكر والأنثى، فكانت العلامة في اللفظ المنبئة عن معنى المناسبة طرفًا في اللفظ، بخلاف الياء في التصغير، فإنها منبئة عن صفة واقعة __________ (1) (ظ ود): "تعددت"!. (2) (ق): "مشتقة"!. (3) (ق): "الإعمال"!. (4) "نتائج الفكر": (ص/ 89). (5) "وياء ثالثة" ليست في (ظ ود).

(1/63)


على جملة المصغر، وكانت "ياء" لا "ألفًا"؛ لأن الألف قد اختصت بجمع [التكثير] (1)، وكانت به أولى، كما كانت الفتحة التي هي أُختها بذلك أولى؛ لأن الفتح يُنبئ عن الكثرة، ويُشار به إلى السَّعَة، كما تجد الأخرس والأعجم -بطبعه- إذا أخبر عن شيءٍ كثير، فتح شفتيه، وباعَدَ ما بين يديه، وإذا كان الفتح يُنبئ عن الكثرة والسعة (2)، والضم الذي هو ضده (3) يُنبئ عن القلة والحقارة، كما تجد المقلِّل للشيء يُشير إليه بضم فم أو يد، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر ساعةَ الجمعة، وأشار بيده يقللها (4)، فإنه جمع أصابِعَه وضمَّها ولم يفتحها (5). وأما الواو، فلا معنى لها في التصغير لوجهين: أحدهما: دخولها في ضَرْبٍ من الجموع، نحو "الفعول" (6)، فلم يكونوا يجعلونها علامة في التصغير، فيلتبس التقليل بالتكثير. والثاني: أنّه لابد من كسر ما بعد علامة التصغير، إذا لم يكن حرف إعراب كما كسر ما بعد علامة [التكثير] (7) في "مَفَاعِل"، ليتقابل اللفظان، (ق/ 14 ب) وإن تضادَّا، كما قابلوا "عَلِم" بـ "جَهِل"، أو "رَوِي" بـ "عَطِش"، و"وَضيع": فهو "وضيع" بـ "شَرُف" فهو "شريف"، فلم __________ (1) في الأصول: "التذكير" والمثبت من "النتائج". (2) (ظ ود): "على السعة". (3) (ظ ود): "صدره"!. (4) أخرجه البخاري رقم (935) ومسلم رقم (852) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (5) جاءت صفة التقليل في "البخاري" رقم (5294) من طريق سلمة بن علقمة، وفيه: "وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخِنصر. قلنا: يُزَهِّدها" اهـ. (6) (ظ ود): "المجموع نحو المفعول". (7) في الأصول: "التكسير" والمثبت من "النتائج".

(1/64)


يمكن إدخال الواو لئلا يخرجوا منها إلى كسره، وامتنعت (1) "الألف" لأجل أصل الجمع لها، تعيّنت الياء وفتح ما قبلها لأجل ضم أول الكلمة، لئلّا يخرج من ضمٍّ إلى كسر. فائدة (2) الأفعال: واجب وممكن ومنتف أو في حكمه، فالرفع للواجب، والنصب للممكن، والجزم -الذي هو عدم الحركة- للمنفي، أو ما في حكمه، هذا هو الأصل. وقد يخالف، وإن شئت قلت: الأفعال ثلاثة أقسام: وأقع موقع الاسم؛ فله الرفع نحو: "هل تضرب"، واقعٌ موقع "ضارب". وفعل في تأويل الاسم، فله النصب نحو: "أريد أن تقوم"، أي: "قيامك". وفعلٌ لا واقع موقع اسم ولا في تأويله، فله الجزم، نحو: "لم يقم". فائدة (3) إنما أضيفت ظروف الزمان، إلى الأحداث الواقعة فيها، نحو "يوم يقوم زيد"؛ لأنها أوقات لها وواقعة فيها، فهي لاختصاصها بها أُضيفت (4) إليها، وهذا بخلاف ظروف المكان؛ لأنها لا تختص بتلك الأحداث. فإن اختصت غالبًا حَسُنَت الإضافة، نحو: "هذا مكان يجلس القاضي"، ويكون بمنزلة: "يوم يجلس القاضي" سواء. وربما أضيفت (أسماء الزمان) إلى أحداثٍ لا تقع فيها لاتصالها بها، كقوله __________ (1) تحرفت في (ظ ود). (2) "نتائج الفكر": (ص/ 91). (3) "المصدر نفسه" ت (ص/ 93 - 97). (4) (ظ ود): "أضيف".

(1/65)


تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] فالليلة من ظروف الزمان، وقد أضيفت إلى الصيام، وليس بواقع فيها، فلما جاز في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث -وإن لم يكن واقعًا فيه- أضافوه إلى الفعل لفظًا، وهو مضاف إلى الحدث معنًى، وأقحم لفظ الفعل إحرازًا (1) للمعنى، وتخصيصًا (2) للغرض، ورفعًا لشوائب الاحتمال، حتى إذا سمع المخاطب قولك: "يوم قام زيد"، علم أنك تريد: اليوم الذي قام فيه زيد، ولو قلت مكان قولك: "ليلةَ الصيام": "ليلةَ صيام زيد" ما كان له معنًى إلاّ وقوع الصيام في الليل, فهذا (3) الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم إضافة الظروف إلى الأحداث، وقِسْ على ذلك المبتدأ والخبر. وأما "ريث" فبمنزلة الظرف وقد صارت في معناه، وكذلك: "حيث" و"ذي تَسْلم" لأن (4) المعنى في قول بعضهم: "اذهب بوقت ذي تَسْلم" (5)، أي: سلامتك، فلمَّا حذفت المنعوتَ، وأقمت النعت مقامه، أضفته أبي ما كنت تضيف إليه المنعوت وهو الوقت. قال السُّهيلي: وهو عندي على الحكاية حكوا قول الداعي "تسلم" (6) كما تقول (7): "تعيش وتبقى"، فقولهم: "اذهب بذي __________ (1) (ظ ود): "إقرارًا".! (2) كذا في الأصول، وفي: "النتائج": "وتحصينًا". (3) (ظ ود): "فهو"!. (4) (ظ ف د): "أن"!. (5) (ق): "اذهب بذي تَسْلم" و (ظ ود): "اذهب لوقت ... ". (6) تكررت في (د) وهو: متَّجِه. (7) من (ق) و"النتائج".

(1/66)


تسلم"، أي: اذهب بهذا القول مني، ولم يقولوا: اذهب بتسلم؛ لئلا يكون اقتصارًا على دعوة واحدة، ولكن قالوا: بذي تسلم، أي: يقول يقال فيه: "تسلم"، يريدون هذا المعنى، وحذفوا القول المنعوت بذي؛ اكتفاءً بدلالة الحال عليه. وأما قوله: * بآيةِ ما يحبُّون الطَّعَاما (1) * فالآية هي: العلامة، وهي ها هنا بمعنى الوقت؛ لأن الوقت علامة للمؤقت. والذي يجوز إضافته من ظروف الزَّمان إلى الفعل؛ ما كان منها منفردًا متمكِّنًا، جاز إضافته إليها، وما كان مثنى كـ "يومين" ونحوه لم يضف إليها؛ لأنَّ الحدث إنَّما يقع مضافًا لظرفه الذي هو وقت له؛ فلا معنى لِذكر وقتٍ آخر. وأيضًا: فالجملة المضاف إليها نعت للظرف في المعنى، فقولك "يوم قام زيد"، كقولك: "يوم قام زيدٌ فيه" في المعنى، والفعل لا يدخله التثنية؛ فلا يصح أن يضاف إليه الاثنان, كما لا يصح أن يُنعت الاثنان بالواحد. ووجه ثالث: وهو أن قولك: "قام زيدٌ يومَ قام عَمْرو" (2)، لم __________ (1) عجز بيت ليزيد بن عَمرو الكِلابي، وصدره: * ألا من مُبْلغ عني تميمًا * انظر "الكتاب": (1/ 460) , و"الخزانة": (6/ 518). (2) بالأصول: " ... يومًا ... " واختلفت نسخ "النتائج" في العبارة، واستظهر المحقق ما هو مثبت.

(1/67)


يصح، إلا أن يكون جوابًا. لـ "متى"، واليومان جواب لـ "كم"، وما هو جواب لـ "كم" لا يكون جوابًا لـ "متى" أصلًا، فإن أضفتَ اليومين إلى الفعل، صرتَ مناقضًا لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا لـ "متى". وأما "الأيام"، فربما جاء (1) إضافتها مجموعة إلى الفعل؛ لأنها قد يُراد بها معنى الفرد (2) كالشهر، والأسبوع، والحول، وغيره، وكذلك غير المتمكن، كـ "قبل وبعد", لا يضاف إلى الفعل، لأنك لو أضفتها إليه لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك: "يوم قام زيد"؛ أي: اليوم الذي قام فيه، وذلك محال في "قبل وبعدُ"؛ لأنه يؤول (3) إلى إبطال معنى القبليَّة والبعدية. وأما "سحر" يوم بعينه فَيَمنع (4) إضافته إلى الفعل ما فيه من معنى اللام، فقِس على هذا. [فائدة] وقال السُّهيلي (5): قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة؛ لأن أصلها: "أبو أخو"، والواو إذا تحرَّكت وانفتح ما قبلها تُقْلَب ألفًا، فتكون مقصورة -كما هو إحدى لغاتها- ولكن هذه الأسماء حُذفت أواخرها في حال الإفراد والانفصال عن الإضافة. وقال لي بعض أشياخنا في تعليل الحذف (6): إن التنوين لما أوجب حذف الألف المنقلبة لالتقاء الساكنين؛ حذفوها رأسًا، كما قيل: __________ (1) في "النتائج": "جاز". (2) في "النتائج": "المفرد". (3) (د): "يؤدي". (4) (ظ ود): "فيمتنع". (5) في "نتائج الفكر": (ص/ 98 - 106). (6) (ظ): "في بعلبك"، وعليه عامة الطبعات، وهو تحريف غريب!.

(1/68)


رأى الأمرَ يُفْضي إلى آخِرٍ ... فصَيَّرَ آخرَ أوَّلا (1) فإذا أضفت وزالت [عِلَّة] (2) التنوين، رجعت الحروف المحذوفة، وكان الإعراب فيها مقدَّرًا كما هو مقدر في الأسماء المقصورة، وقال بهذا بعض النحاة. قال: والأمر فيها عندي أنها علامات إعراب، وليست حروف إعراب، والمحذوف منها لا يعود إليها في الإضافة، كما (3) لا يعود المحذوف من "يد" و"دم". وبُرهان ذلك أنك تقول: أخي وأبي، إذَا أضفت إلى نفسك، كما تقول: يدي ودمي؛ لأنَّ حركات الإعراب لا تجتمع مع ياء المتكلم، كما تجتمع (4) معها واو الجمع، فلو كانت الواو في "أخوك" حرف إعراب لقلت في الإضافة إلى نفسك: هذا أخيَّ، كما تقول: هؤلاء مسلميّ، فتدغم الواو في "الياء" لأنها حرف إعراب عند سيبويه (5)، وهي عند غيره علامات إعراب (6) , فإذا كانت واو الجمع تَثبتُ مع ياء المتكلم, وهي (7) زائدة، وهي عند غيره علامة إعراب، فكيف يحذف "لام" الفعل وهي (8) أحقّ بالثبات منها!؟ فقد وضح لك أنها ليست الحروف المحذوفة الأصلية. __________ (1) البيت غير منسوب في "الخزانة": (8/ 109)، و"العقد الفريد": (2/ 253). (2) (ظ ود): "وزالت عند"، و (ق): "وزال عنه"، والمثبت من "النتائج". (3) ليست في (ظ ود). (4) في (ق، وبعض نسخ "النتائج"): "كما لا تجتمع". (5) انظر "الكتاب": (1/ 4). (6) وهم الكوفيون، انظر "الإنصاف": (1/ 258) للأنباري. (7) (ظ ود): "وهي غير". (8) من (ق).

(1/69)


فإن قيل: فلِمَ أعرْبت بالحروف؟ ولِمَ أُعِلَّت بالحذف دون القلب، خلافًا لنظائرها مما علّته كعلَّتها، وهي الأسماء المقصورة؟. قلنا: في ذلك جوانب لطيف، وهو: أن اللفظ جَسَد، والمعنى رُوح, فهو تَبَع له في صحته واعتلاله، والزيادة فيه والنقصان منه، كما أن الجسد مع الروح كذلك؛ فجميع ما يعتري اللفظ من زيادة أو حذف، فإنما يكون (1) بحسب ما يكون في المعنى، اللهم إلا أن يكثر استعمال كلمة، فيحذف منها تخفيفًا على اللسان، لكثرة دورها فيه, ولعلم المخاطب بمعناها، كقولهم: "أَيْشٍ" في "أي شيء", و"لم أُبَلْ" (2). وهذه الأسماء الخمسة مضافة في (3) المعنى، فإذا قُطِعَتْ عن الإضافة وأُفْرِدت نقص المعنى، فنقصى اللفظ تبعًا له، مع أنّ أواخرها حروف علّة، فلابدّ من تغييرها إما بقلب وإما بحذف, وكان الحذفُ فيها أولى، كما قدمنا وكان ينبغي على هذا أن يتمَّ لفظها في حال الإضافة كما تمَّ معناها، إلا أَنهم كرهوا أن يُخلوا "الخاء" من أخ، و"الباء" من أب من الإعراب الحاصل فيها؛ إذ ليس في الكلام ما يكون حرف إعراب في حال الإفراد دون الإضافة؛ فجمعوا بين الغرضين، ولم يبطلوا أحدَ القياسين، فمكنوا الحركات التي هي علامات الإعراب في الإفراد؛ فصارت حروف مدٍّ ولينٍ في الإضافة، وقد تقدَّم أن الحركة بعض الحرف، فالضمَّة: التي في قولك: "أخٌ"، هي بعينها علامة الرفع (4) __________ (1) في "النتائج": "هو". (2) (د). "لم أبالِ". (3) (ظ ود): "إلى". (4) سقطت من (ق).

(1/70)


في "أخوك" إلا أن الصوت (1) بها يمد، ليتمِّموا اللفظ كما تَمموا المعنى بالإضافة إلى ما بعد الاسم، ولم يحتاجوا مع تطويل حركات الإعراب إلى إعادة ما حُذِف من الكلمة رأسًا؛ كما لا يُعَاد محذوف "يد ودم". وأما التثنية؛ فإنهم صحَّحوا اللفظ فيها بإعادة المحلوف تنبيهًا على الأصل، وهو الانقلاب إلى ألف، فقالوا: "أخوان" و"أَبوان"، كما قالوا: عصوان [ورجَوَان] (2)؛ لأن قياسه في الأصل كقياسه بخلاف "يد" و"دم "، فإن أصلهما: "يَدْيٌ ودَمْيٌ" (3)، فلم يكن بابها كباب "عَصَى" و"رجا", فاستمر الحذف فيهما في التثنية والإفراد. فإن قيل: فلم لا يعود المحذوف (4) في "ابن" في تثنيةٍ ولا إضافة؟. قيل: لأنهم عوَّضوا من المحذوف ألف الوصل في "ابن واسم"، فَلَمْ يجمعوا بين العِوَض والمعوَّض، بخلاف "أخ وأب"، ومَنَعهم أن يعوضوا من المحذوف في "أخ وأب" الهمزة التي في أولهما فِرارًا (5) من اجتماع همزتين. وأما "حم" فأصله حَمَأٌ بالهمزة، فلم يكونوا ليعوضوا من الهمزة همزة أخرى، فجعلوه كأخٍ وأبٍ. __________ (1) (ظ ود): "المصوّت". (2) (ظ ود): "عضوان وبطوان" و (ق): "ومطوان" ولعل الصواب ما أثبت بدليل ما بعدها، والرجوان مثنى: رجا، وهو ناحية البئر. (3) أجمعوا على سكون الدال من "يَدْي" واختلفوا في الميم بن (دَمَْي)، فقيل: بالفتح وقيل: بالسكون. (4) سقطت من (ظ ود). (5) (ظ ود): "أولها فروا".

(1/71)


فإن قيل: (ق/ 16 أ): فلم قالوا في جمْعِه: "بنون" دون "ابْنون"؟. قيل: الجمع قد يلحقه التغيير بالكسر وغيره، بخلاف التثنية فإنها لا يتغير فيها لفظ الواحد بحال، مع إنهم رأوا أن جمع السَّلامة لا بد فيه من "واو" في الرفع، و"ياء" مكسور ما قبلها في النصب والخفض، فأشبهت حالُه حالَ ما لم يحذف منه شيء (1). وليست هذه العلة في التثنية، ولم يقولوا: "ابنات" كما قالوا: "ابنتان"، فإنهم حملوا جمع المؤنث على جمع المذكر؛ لئلا يختلف. وأما "أخت" و"بنت"؛ فتاء "أخت" مبدلة من "واو"، كـ "تاء" "تراث" و"تُخَمَة"، وإنما حملهم على ذلك ها هنا أنهم رأوا المذكر قد حذفت لامه في الإفراد، فقالوا: "أخ" وكان القياس أن يقولوا في المؤنث: "أخَةٌ" كـ "سَنَة" , ولو فعلوا ذلك لكانت تلك التاء حرف إعراب في الإضافة والإفراد، ولم يمكنهم أن يعيدوا المحذوف في الإضافة إلى اللفظ، فيخالف لفظه لفظ المذكر، ولا أمكنهم من تطويل الصوت بالحركات ما أمكنهم في التذكير، لأن ما قبل تاء التأنيث ليس بحرف إعراب، ولا أمكنهم نقصان اللفظ في الموطن الذي تم فيه المعنى؛ فجمعوا بين الأغراض بإبدالها تاء، لتكون في حال الإفراد علمًا للتأنيث، وفي حال الإضافة من تمام الاسم كالحرف الأصلي، إذ هو موطن تتميم، كما تقدم، وسكَّنوا ما قبلها، لتكون بمنزلة الحرف الأصلي، وضمُّوا أول الكلمة إشعارًا بالواو، وكسروها في "بِنْت" إشعارًا بالياء؛ لأنها من "بَنيْتُ". __________ (1) بعده في "النتائج": "إذ المحذوف منه "ياء" أو "واو" ففتحوا أوله كما كانوا يفعلون لو لم يُحذف منه شيءٌ ... ".

(1/72)


وقالوا في تأنيث "ابن": "ابنة وبنت"، ولم يقولوا في تأنيث: "أخ" إلا "أخت"، والعلَّة في ذلك مُستقرَأَة مما تقدَّم. وأما قولهم: "فوك" و"فاك" و"فيك"؛ فحروف المسند فيها حروف إعراب بخلاف ما تقدم في "أخيك" و"أبيك" و"حميك"، والفرق: أن الفاء لم تكن قط حرف إعراب (1)؛ لانفرادها، فلم يلزم فيها ما لزم في "الخاء" و"الباء"، ألا تراهم يقولون: "هذا فيَّ"، و"جعلته في فيَّ"، كما يقولون؛ "مسلمي"، فيثبتونها مع ياء المتكلم. وهذا يدلك على أنها حرف إعراب، بخلاف أخواتها، ألا تراهم في حال الإفراد كيف أبدلوا من الواو ميمًا ليتعاقب عليها حركات الإعراب، ويدخلها التنوين، إذ لو لم يبدلوها ميمًا لأذهبها التنوين في الإفراد، وبقيت الكلمة على حرف واحد، فإذا أضيفت زالت العلة، حيث [أمِنوا] (2) التنوين، فلم يحتاجوا إلى قلبها ميمًا. فإن قلت: أين علامات الإعراب في حال الإضافة (3)؟. قلت: مقدر فيها، وإن شئتَ قلتَ: تغَيُّر صيغِها في الأحوال الثلاثة هو الإعراب، والمتغير هو حرف الإعراب. فإن قلت: فلِمَ لم تثبُت الألف في حال النصب إذَا أضيفت إلى ضمير المتكلِّم، فتقول: "فأي" كـ "عصاي"؟. قلتُ: الفرق: أن ألف "عصا" ثابتة في جميع الأحوال، وهذه لا __________ (1) من قوله: "بخلاف ما تقدم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود) , والاستدراك من (ق والنتائج). (2) في النسخ: "أثبتوا"، والتصويب من "النتائج". (3) (ظ): "الأصالة"!.

(1/73)


تكون إلا في حال النصب، وقد قُلِبت تلك "ياء" في لغة طَيء، فهذه أحرى بالقلب. وأما "ذو مال"؛ فكان الأظهر فيه أن يكون حرف العلة حرف إعراب، وأن يكون الاسم على حرفين، كما هو في بعض الأسماء المبهمة كذلك، يدلُّك على ذلك قولهم في الجمع "ذوو مال" و"ذوات مال"، إلا أنه قد جاء في القرآن: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} [الرحمن: 48] و: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} [سبأ: 16] وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي ولامه "ياء" انقلبت ألفًا في تثنية المؤنث خاصة. وقولهم في التثنية: "ذواتَي"، وفي الجمع: "ذوات"، والجمع كان أحق بالرد من التثنية؛ لأن التثنية أقرب إلى لفظ الواحد، ولأنها أقرب إلى معناه، ألا تراهم يقولون: "أخت وأختان وأخوات"، و"ابنة وابنتان"، ولا يقولون (1) في الجمع: ابنات (2)، فلذلك كان القياس (3) -حين قالوا: "ذوات" فلم يردّوا لام الكلمة [ألا يردُّوا في التثنية]. والعلة فيه أن "ألف ذات" (ظ/ 13 أ) وإن كانت منقلبة عن واو، فإن انقلابها ليس بلازم، وإنما هو عارض بدخول التأنيث، ولولا التأنيث لكانت "واوًا" في حال الرفع غير منقلبة، و"ياء" في حال الخفض، والتثنية أقرب إلى الواحد لفظًا ومعنى، فلذلك حين ثنوها (4).جعلوها "واوًا"، كما هي في الواحد، إذا كان مرفوعًا ومثنى ومجموعًا، وكان حكم "الواو" أغلب عليها من حكم "الياء" و"الألف"، ثم ردوا لامَ __________ (1) (ظ ود): "تقول". (2) الأصول: "ابنتات" والمثبت من "النتائج". (3) (ق): "القياس في الجمع". (4) (ظ ود): "ثبوتها"!.

(1/74)


الفعل؛ لأنهم لو لم يردوها, لقالوا: "ذَوَتا مال" في حال الرفع، فيلتبس بالفعل، نحو: "رمَتا" و"قَضَتا"، إذا أخبرت عن امرأتين، و"ذوتا" من "الذوِي"؛ فكان في ردّ اللام رفع لهذا اللبس. وفَرق بين ما يصح عينه في المذكر نحو: "ذات" (1) و"ذو"، وبين ما لا يصح عينه في مذكر، ولا في جمع، نحو: "شاة"؛ فإنك تقول في تثنيته: "شاتان"، كقياس "ذات"، وليس في جمع "ذات" ما يوجب ردّ لامها كما في تثنيتها، كما تقدم. وأما "سنتان" أو "شفتان"؛ فلا يلزم فيهما من الالتباس بالفعل ما لزم في "ذوتا"، لو قيل؛ لأن "نون" الاثنين لا تحذف منهما حذفًا لازمًا؛ لأنهما غير مضافين في أكثر الكلام، بخلاف "ذواتا"، فإن "النون" لا توجد فيها ألبتة؛ للزومها الإضافة. * * * __________ (1) (ق). "ذوات".

(1/75)


فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط (1) وفيها مباحث وقواعد (2) عزيزة نافعة، تحرَّرت بعد فكر طويل بحمدِ الله. فائدة الروابط بين جملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازمًا لم يُفهَم قبل دخولها؛ وفي أربعة أقسام: أحدها: ما يوجب تلازمًا مطلقا بين الجملتين، إما بين ثبوت وثبوت، أو بين نَفْي ونفْي، أو بين نَفي وثبوت، وعكسه في المستقبل خاصّة، وهو حرف الشرط البسيط كـ "إن" فإنها تلازم بين هذه الصّور كلها، تقول: "إن اتقيت الله أفلحت"، و"إن لم تتق الله لم تفلح"، و"إن أطعت الله لم تخب"، و"إن لم تطع الله خسرتَ"، ولهذا كانت أمَّ الباب وأعمَّ أدواته تصرفًا. القسم الثاني: أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة، تكون (3) في __________ (1) اقتبس المصنف -رحمه الله- بعض هذه الفوائد -مع زيادة تحرير- من كتاب "أنوار البروق في أنواء الفروق" لشهاب الدين القرافي -رحمه الله-، وأشرنا إلى ذلك في مواضعه. (2) (ق): "وأحكام". (3) (ق): "لكن".

(1/76)


الماضي خاصَة، وهي: "لما" تقول: "لما قام أكرمته"، وكثير من النحاة يجعلها ظرف زمان، ويقول: إذا دخلت على الفعل الماضي فهي (1) اسم، وإن دخلت على المستقبل فهي حرف، ونص سيبويه على خلاف ذلك، وجعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين، ومثال الأقسام الأربعة: "لما قام أكرمته"، و"لما لم يقم لم أكرمه"، و"لما لم يقم أكرمته"، و"لما قام لم أكرمه". القسم الثالث (2): أداة تلازم بين امتناع الشيء لامتناع غيره وهي: "لو" نحو: "لو أسلمَ الكافرُ نجا من عذابِ الله". القسم الرابع: أداة تلازم بين امتناع الشيءِ ووجودِ غيره وهي: "لولا" نحو: "لولا أن هدانا الله لضللنا". وتفصيل هذا الباب برَسْم عشرة مسائل (3): المسألة الأولى: المشهور أن الشرط والجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل. فإن كان ماضي اللفظ، كان مستقبل المعنى، كقولك: "إن مِتّ على الإِسلام دخلت الجنة"، ثم للنحاة فيه تقديران: أحدهما: أنّ الفعل ذو تغيّر في اللفظ، وكان الأصل: "إن تَمُتْ مسلمًا تدخل الجنة"، فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلًا له منزلة المحَقَّق. والثانى: أنه ذو تغير في المعنى، وأنَّ حرف الشرط لما دخل __________ (1) (ظ ود): "فهم"!. (2) في النسخ "الثاني" والذي يليه "الثالث "، وهو سبق قلم، وصوّبت في هامش (ق ود). (3) انظر بعضها في: "الفروق": (1/ 86) , ولم يذكر المصنف العاشرة.

(1/77)


عليه قلب معناه إلى الاستقبال، وبقي لفظه علي حاله، والتقدير الأول أفقه في العربية, لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام المستقبل، وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقَّن، نحو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] ونظائره، فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد فليفهم مثله في (1) المقارن لأداة الشرط، وأيضًا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني؛ لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى، وأيضًا فإنهم: إذَا اعتزموا (2) الشرط أتوا بأداته، ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء. فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل، وكان حقه أن يكون مستقبلا لفظا ومعنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى لفظِ (3) الماضي لما ذكرنا، فعَدَلوا من صيغة إلى صيغة، وعلى التقدير الثّاني؛ كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولًا ماضيين، ثمَّ أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلَين، والترتيب والقصد يأبى ذلك، فتأمَّله. المسألة الثانية (4): قال تعالى حكاية (5) عن عيسى -عليه الصلاة والسلام-: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ، وهو ماضي المعنى قطعًا؛ لأنَّ المسيحَ إما أن يكون صَدَر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء، أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة، وعلى التقديرين، فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي. __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) من (ظ ود) , و (ق): "اعترضوا" وفي المطبوعة: "أعربوا". (3) من (ق). (4) انظر: "الفروق": (1/ 86). (5) من (ق).

(1/78)


وغَلِط على الله من قال: إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه، والتقدير: إن أكن أقول هذا فإنك تعلمه، وهذا تحريف للآية؛ لأنَّ هذا جوابٌ, إنما صَدَر منه بعد سؤال الله له على ذلك، والله لم يسأله وهو بين أظهر قومه، ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين. فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارًا لقاعدة نحوية، هَدْم مئةٍ أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية. وقال ابن السراج (1) في "أصوله" (2): "يجب تأويلهما بفعلَين مستقبلَين تقديرهما: إن يثْبُت (3) في المستقبل أني قلته في الماضي يثبت أنك علمته، وكلّ شيءٍ تقرَّر في الماضي كان ثبوته في المستقبل [معلومًا] فيحسن التعليق عليه". وهذا الجواب أيضًا ضعيف جدًا، ولا يُنبئ عنه اللفظ، وليت شعري ما يصنعون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (4): "إِنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بذنْب فَاسْتَغفِري الله وَتُوبي إلَيْهِ" (5)، هل يقول عاقل: إن الشرطَ هنا مستقبل؟!. أما التأويل الأول؛ فمنتفٍ هنا قطعًا، وأما الثاني! فلا يخفى وجه __________ (1) هو: محمَّد بن السري البغداديّ أبو بكر بن السرَّاج النحوي ت (316). انظر: "معجم الأدباء": (18/ 197) و"إنباه الرواة": (3/ 145) , و"بغية الوعاة": (1/ 109). (2) (2/ 190) , والعبارة بالمعنى، وما بين الحاصرتين من "الفروق". (3) من (ق). (4) من (ق). (5) أخرجه البخاري رقم (2661) , ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة -رضي الله عنها - في حديث الإفك الطويل.

(1/79)


التعسف فيه، وأنه لم يقصد: إن (1) يَثْبُت في المستقبل أنَّكِ أذنبت في الماضي فتوبي، ولا قصد هذا المعنى، وإنما المقصود المراد ما دل على الكلام: إن كان صدر منكِ ذنبٌ فيما مضى فاستقبليه بالتوبة, لم يُرِد إلَّا هذا الكلام. وإذا ظهر فساد. الجوابين، فالصواب أن يُقال: جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقًا محضًا (2)، غير متضمن جوابًا لسائل: هل كان كذا؟ ولا مُتضمِّن لنفي قول من قال: قد كان كذا؟ فهذا يقتضي الاستقبال، وتارة يكون مقصوده ومضمنه جواب سائل: هل وقع كذا؟ أوْ رَدّ قوله: قد وقع كذا، فإذا علق الجواب ها هنا على شرط؛ لم يلزم أن يكون مستقبلًا لا لفظًا ولا معنًى، بل لا يصح فيه الاستقبال بحالٍ، كمن يقول لرجل: هل أَعْتقت عبدك (3)؟ فيقول: إن كنت قد أعتقته فقد أعتقته لله فما للاستقبال هنا معنًى قط، وكذلك إذا قلتَ لمن قال: صحبتُ فلانًا، فتقول: إن كنت صحبته فقد أصبتَ بصحبته خيرًا. وكذلك إذا قلت له؟ هل أذنبتَ؟ فيقول: إن كنتُ قد أذنبتُ فإني قد تبت إلى الله واستغفرته. وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا؟ وهو يعلم أنه علم بقوله له، فيقول: إن كنت قلته فقد علمته، فقد عرفت أن هذه المواضع كلَّها مواضع ماضٍ لفظًا ومعنًى ليطابق السؤالُ الجوابَ، ويصبح التعليق الخبري لا الوعدي. فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال، وأمّا التعليق الخبري (4) فلا يستلزمه. __________ (1) (ق): "أنه" وكذا في نسخة كما في هامش (د). (2) عن قوله: "إلا هذا الكلام ... " أبي هنا ساقط من (ق). (3) (ظ): "عدل"!. (4) من قوله: "لا الوعدي ... " إلى هنا سقط من (د).

(1/80)


ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: 26، 27]، وتقول: إن كانت البيِّنة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت، وهذه دقيقة خَلَت عنها كتب النحاة والفضلاء، وهي كما ترى وضوحًا وبرهانًا ولله الحمد. المسألة الثالثة (1): المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة "إن" لا يعلَّق عليها إلا محتمل الوجود والعدم، كقولك: "إن تأتني أكْرِمْك"، ولا يعلق عليها محقَّق الوجود، فلا تقول: "إن طلعت الشمس أتيتك"، بل تقول: "إذا طلعت الشمس أتيتك"، و"إذا" يعلق عليها النوعان. واستشكل هذا بعض الأصوليين، فقال: قد وردت "إن" في القرآن في معلوم الوقوع قطعًا كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه. وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] ومعلوم قطعًا انتفاء فعلهم. وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية (2) مبنية على خصائص الخلق، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في عادة العرب حَسَنًا؛ أنزل القرآن على ذلك الوجه، أو قبيحًا لم ينزل __________ (1) انظر: "الفروق": (1/ 92 - 93) للقرافي، وهو الذي أشار إليه المصنف بإيراد الإشكال وجوابه. (2) "بل الأوضاع العربية" ساقط من (د).

(1/81)


في القرآن، فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه بين (1) الناس حَسُنَ تعليقُه بـ "إن" من قبل الله ومن قبل غيره، سواء كان معلومًا للمتكلم أو للسامع أم لا. ولذلك يحسن في الواحد منا أن يقول: "إن كان زيد في الدار فأكرمه"، مع علمه بأنه في الدار؛ لأنَّ حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه، فهذا هو الضابط لما يعلق على "إن"، فاندفع الإشكال. قلتُ: هذا السؤال لا يرد، فإن الذي قاله القوم: إن الواقع ولابد بد لا يعلّق بـ "إن"، وأما ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع؛ فهو الذي يعلق بها، وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع, وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى: 48] كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى بـ "إذا"، وأتى في إصابة السيئة بـ "إن"، فإن ما يعفو الله عنه أكثر، وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع، وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولابدّ، وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرَّحمة لهم، وأنها (2) مذوقة لهم، والذوق هو أخصّ أنواع (3) الملابسة وأشدها، وكيف أتى في وصول السيئة بمطلق الإصابة دون الذوق، وكيف أتى في (4) الرحمة بحرف ابتداء __________ (1) (ظ): "من". (2) (ق): "وإنهم". (3) من (ظ). (4) من قوله: "وصول السيئة ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/82)


الغابة مضافة إليه، فقال: {مِنَّا رَحْمَةً}، وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم، وكيف أكَّد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف "إن" دون الجملة الثانية؛ وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر. وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] كيف أتى بـ "إذَا" ها هنا لما كان مسّ الضر لهم في البحر محقّقًا، بخلاف قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} (1) [فصلت: 49] فإنه لم يقيد مَسّ الشر هنا، بل أطلقه، ولما قيده بالبحر الذي هو (2) يتحقَّق فيه ذلك أتى بأداة "إذا". وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)} [الإسراء: 83] كيف أتى هنا بـ "إذا" المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس، فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له، فكان الإتيان بـ "إذا" كانا أدلَّ على المعنى المقصود من "إن", بخلاف قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} [فصلت: 51] فإنه لقلة صبره وضَعْف احتماله، متى توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء. فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسًا. ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدًا في كتابه. فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ __________ (1) في جميع النسخ: "لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسَّه الشر فذو دعاءٍ عريض"! وهذا تلفيق بين آيتي فُضَلت رقم (49، 51) فالأولى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) والثانية: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}. (2) ليست في (ق).

(1/83)


أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] والهلاك محقق. قلتُ: التعليق ليس على مطلق الهلاك، بل على هلاك مخصوص، وهو هلاك لا عن ولد. فإن قلت: فما تصنع بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [الأنعام: 118] وتقول العرب: إن كنت ابني فأطعني. وفي الحديث في السلام على الموتى: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بكُمْ لَاحِقُوْن" (1) واللّحاق محقَّق، وفي قول الموصِي: إن متُّ فثلث مالي صدقة؟. قلت: أما قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}؛ الذي حسَّن مجيء "إن" ها هنا الاحتجاج والإلزام. فإن المعنى: إنَّ عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين (2) لعبادته داخلين في جملتها؛ فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه، وهذا كثيرا ما يُوْرَد في الحِجَاج كما تقول للرجل: إِن كان الله ربك وخالقك فلا تعصه، وإن كان لقاء الله حقًا فتأهَّب له، وإن كانت الجنة حقًّا فتزوَّد لها، وهذا أحسن من جواب من أجاب: بأنَّ "إن" هنا قامت مقام "إذا"، وكذا قوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وكذا قولهم: "إن كنت ابني فأطعني"، ونظائر ذلك. وأما قوله: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُوْنَ"؛ فالتعليق __________ (1) أخرجه مسلم رقم (974, 975) من حديث عائشة وبريدة بن الحصيب - رضي الله عنهما-. (2) (د): "مستلزمين".

(1/84)


هنا ليس لمطلق الموت، وإنما هو للحاقُهم بالمؤمنين، ومصيرهم إلى حيث صاروا. وأمَّا قول الموصِي: إن متُّ فثلث مالي صدقة؛ فلأنّ الموت وإن كان محققًا، لكن لما لم يُعرف تعيُّن وقته، وطال الأمد (1)، وانفرجت (2) مسافة أمنية الحياة، نزلَ منزلة المشكوك فيه (3)، كما هو الواقع الذي تدلُّ عليه أحوال العباد، فإن عاقلاً لا يتيقّن الموت، ويرضى بإقامته على حالٍ لا يحب الموتَ عليها أبدًا، كما قال بعض السلف: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبهَ بشك لا يقينَ فيه من الموت (4)، وعلى هذا حمل بعض أهل المعاني قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 15، 16] فأكَّدَ الموتَ باللام، وأتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت، وأتى في البعث بالفعل، ولم يؤكده. المسألة الرابعة: قد يُعلقُ الشرط بفعل محال ممتنع الوجود، فيلزمه محال آخر، وتصدق الشرطية دون مفرديها. أما صدقها؛ فلاسْتِلْزام (5) المحالِ المحالَ. وأما كذب مفرديها؛ فلاستحالتهما، وعليه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81] ومنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ومنه: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42] ونظائره كثيرة. __________ (1) (ق): "الأمل". (2) (ظ ود): "وانفردت". (3) من (ق). (4) قاله أبو حازم المدني، انظر "الحلية": (3/ 232). (5) (ظ ود): "فلا يستلزم".

(1/85)


وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران؛ أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى. والثاني: أَنَّ اللازم منتف، فالملزوم كذلك، فقد تبين من هذا أن الشرطَ يعلَّقُ به المحقق الثبوت، والممتنع الثبوت، والممكن الثبوت. المسألة الخامسة: اختلف سيبويه ويونس (1) في الاستفهام الداخل على الشرط، فقال سيبويه: يعتمد على الشرط وجوابه، فيقدَّم أولًا، ويكون بمنزلة القَسَم، نحو قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. وقال يونس: يعتمد على الجزاء فتقول: إن مت أفأنت خالد؟ والقرآن مع سيبويه, والقياس أيضًا، كما يتقدم القسم ليكون جملة الشرط والجزاء مقسمًا: عليها ومستفهمًا عنها, ولو كان كما قال يونس، لقال: فإن من أَفهم الخالدون. المسألة السادسة: اختلف الكوفيون والبصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء، ثم ذكر فعل الشرط، ولم يذكر له جزاء، نحو: أقوم إن قمت؛ فقال ابن السرَّاج (2): الذي عندي أن الجوابَ محذوف، يغني (3) منه الفعل المتقدم. قال: وإنما يُستعمل هذا على وجهين، إما أن يضطر إليه شاعر، وإما أن يكون المتكلّم به محقِّقًا بغير شرط ولا نية، فقال: أجيئك، ثم يبدو له أَن لا يجيئه إِلّا __________ (1) هو: يونس بن حبيب: الضبِّي مولاهم البصرىِ أبو عبد الرحمن النحويين، سمع من العرب وأخذ عنه سيبويه ت (182). انظر: "إنباه الرواة": (4/ 74) و"بغية الوعاة": (2/ 365). (2) في "الأصول": (2/ 187). (3) (ق ود): "كفى".

(1/86)


بسبب, فيقول: إن جئتني، فيشبه الاستثناء ويغني عن الجواب ما تقدم، وهذا قول البصريين. وخالفهم أهل الكوفة، وقالوا: المتقدم هو الجزاء، والكلام مرتبط به، وقولهم في ذلك هو الصواب، وهو اختيار الجرجاني (1)، قال: "الدليل على أنك إذا قلت: آتيك إن أتيتني، كان الشرط متصلًا بآتيك، وأن الذي يجري في كلامهم: لابدّ من إضمار الجزاء، ليس على ظاهره، وأما إن علمنا على ظاهر يُوْقِفُنا (2) أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء، صار من ذلك شيئان؛ ابتداءُ كلام ثان، ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الأَيمان، من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه، وبين أن يقف، ثم يأتي بالشرط، وأنّه إذا قال لعبده: "أنت حرٌّ إن شاء الله"، فوَصل لم يعتق، ولو وقف، ثم قال: "إن شاء الله"، فإنه يعتق. فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة، فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط" هذا كلامه. قلت: ولم يكن به حاجة في تقرير الدليل إلى الوقف بين الجملة الأولى وجملة الشرط، فالدلالة قائمة ولو وصل، فإنه إذا قال: "أنت حر"، فهذه جملة خبرية، ترتب عليها حكمها، عند تمامها (3) , __________ (1) هو: عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني أبو بكر العلاّمة؛ شيخ العربية صاحب "الدلائل" والأسرار" ت (471). انظر: "إنباه الرواة: (2/ 188) , و"طبقات الشافعية": (5/ 149)، و"السير": (18/ 432). (2) العبارة غير مكررة في الأصول، والمثبت من (ق). (3) من قوله: "فالدلالة قائمة ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/87)


وقوله: "إن شاء الله" ليس تعليقًا لها عندكم، فإن التعليق إنما يعمل في الجزاء، وهذه ليست بجزاء، وإنما هي خبر محض، والجزاء عندكم محذوف، فلما قالوا: إنه لا يعتق، دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق، هذا تقرير الدلالة، ولكن ليس هذا باتفاق، وقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن الشرط إنما يعمل في تعليق الحكم، إذا تقدم على الطلاق (1)، فتقول: "إن شاء الله فأنت طالق"، فأما إن تقدَّم: الطلاق، ثم عقبه بالتعليق، فقال: "أنت طالق إن شاء الله"؛ طلقت, ولا ينفع التعليق، وعلى هذا فلا يبقى فيما ذكر حُجة، ولكن هذا المذاهب شاذ، والأكثرون على خلافه، وهو الصواب؛ لأنه إما جزاءٌ لفظًا ومعنًى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين، وإما أن يكون جزاء في المعنى، وهو [نائب] (2) عن (3) الجزاء المحذوف ودال عليه. فالحكم تَعلَّقَ به على التقديرين، والمتكلِّم إنما بنى كلامه عليه. وأما قول ابن السرَّاج: "إنه قصد الخبر جزمًا، ثم عقبه (4) بالجزاء"؛ فليس كذلك، بل بنى كلامه على الشرط، كما لو قال له: علَيَّ عشرة إلاّ درهمًا، فإنه لم يُقر بالعشرة ثم أنكر منها (5) درهمًا، ولو كان. كذلك لم ينفعه الاستثناء. ومن هنا قال بعض الفقهاء: إن الاستثناء لا ينفع في الطلاق، __________ (1) (ق): "الإطلاق". (2) في الأصول: "ثابت" والمثبت هو الصواب. (3) من (ق). (4) (ق): "علقه". (5) من (ق).

(1/88)


لأنه إذا قال: "أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة"؛ وقد أوقع الثلاثة، ثم رفع منها واحدة، وهذا مذهب باطل!! فإن الكلام مبني على آخره، مرتبط أجزاؤه بعضها ببعض، كارتباط التوابع من الصفات وغيرها بمتبوعاتها، والاستثناء لا يستقلّ بنفسه، فلا يقبل إلا بارتباطه بحسب قبله، فجرى مجرى الصفة والعطف. ويلزم أصحاب هذا المذهب أن لا ينفع الاستثناء في الإقُرار؛ لأن المقَرَّ به لا يرتفع بعد (1) ثبوته، وفي إجماعهم على صِحَّته دليلٌ على إبطال هذا المذهب، وإنما احتاج الجُرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل؛ لأنه إذا وقف عَتَقَ العبد، ولم ينفعه الاستثناء، وإذا وصل لم يعتق، فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت. والوصل هو المؤثر في الحكم لا تقدم الجزاء وتأخُّره، فإنه تأثير له بحال. وما ذكر ابن السرَّاج، أنه إنّما يأتي في الضرورة؛ ليس كما قال، فقد جاء في أفصح الكلام، وهو كثير جدًا، كقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] , وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمران: 118] وهو كثير. فالصواب: هو (2) المذهب الكوفي، والتقدير إنما يُصَار إليه عند الضرورة، بحيث لا يتم الكلام إلا به، فإذا كان الكلام تامًّا بدونه، فأيُّ حاجة بنا إلى التقدير، وأيضًا فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر والمفعول والحال ونظائرها. __________ (1) (ظ ود): "لا يرفع". (2) من (ق).

(1/89)


فإن قيل: الشرط له التصدير وضعًا (1) , فتقديم الجزاء عليه يخلُّ: بتصديره. قلنا: هذه هي (2) الشُّبهة التي منعت القائلين بعدم تقديمه، وجوابُها: أنكم إن عَنيتم بالتصدير؛ أنه لا يتقدم معموله عليه، والجزاء معمول له؛ فيمتنع تقديمه، فهو نفس المتنازع فيه، فلا يجوز إثبات الشيء بنفسه، وإن عَنيتم به أمرًا آخر؛ لم يلزم منه امتناع التقديم. ثم نقول: الشرط والجزاء جملتان، قد صارتا بأداة الشرط جملة واحدة، وصارت الجملتان بالأداة كأنهما مفردان، فأشبها المفردين في باب المبتدإ والخبر، فكلما لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ فكذلك تقديم الجزاء، وأيضًا فالجزاء هو المقصود والشرط قيدٌ فيه، وتابعٌ، فهو من هذا الوجه رتبته التقديم طبعًا, ولهذا كثيرًا ما يجيء الشرط متأخرًا على المشروط؛ لأنَّ المشروط هو المقصود, وهو الغاية، والشرط سببٌ ووسيلة، فتقديم المشروط هو تقديم الغايات على وسائلها، ورتبتها التقديم ذهنًا، وإن تقدمت الوسيلة وجودًا، فكل منهما له المتقدم بوجه، وتقدم الغاية أقوى، فإذا وقعت في مرتبتها، فأيّ حاجةٍ إلى أن نقدرها متأخِّرة، وإذا انكشف الصوابُ، فالصوابُ أن تدور معه حيثما دار. المسألة السابعة: "لو" يُؤتَى بها للرَّبط، لتعلق ماضٍ بماض، كقولك: "لو زرتني: لأكرمتك"، ولهذا لم تجزم إدأ دخلت على مضارع؛ لأنَّ الوضع للماضي لفظًا ومعنى، كقولك: "لو يزورني زيد __________ (1) (ظ ود): "وصفًا". (2) من (ق).

(1/90)


لأكرمته"، فهي في الشرط نظير "إن" في الرَّبط بين الجملتين، لا في العمل، ولا في الاستقبال، وكان بعض فضلاء المتأخرين، وهو: تاج الدين الكِنْدي (1)، يُنكر أن تكون "لو" حرف شرط، وغلَّط الزَّمخشريَّ (2) في عَدِّها في أدوات الشرط (3)، قال الأندلسي في "شرح المفصل (4): فحكيت ذلك لشيخنا أبي البقاء (5) فقال: غَلِط تاج الدين في هذا التغليط، فإن "لو" تربط شيئًا بشيء، كما تفعل "إن". قلت: ولعلَّ النزاع لفظيّ؛ فإن أُريد بالشرط: الربط المعنوي الحُكمي، فالصواب ما قاله أبو البقاء، والزمخشري، وإن أريد بالشرط: ما يعمل في الجزأين، فليست من أدوات الشرط. المسألة الثامنة (6): المشهور أن "لو" إذا دخلت على ثبوتين نَفَتْهما، أو نفيين أثبتتهما، أو نفي وثبوت؛ أثبتت المنفيّ، ونفت المثبت، __________ (1) هو: زيد بن الحسن بن زيد أبو اليُمن تاج الدين الكندي، العلامة ذو الفنون ت (613). انظر "معجم الأدباء": (11/ 171) و"السير": (22/ 34). (2) هو: محمود بن عمر بن محمد أبو القاسم جار الله الزمخشري الحنفي المعتزلي، صاحب التصانيف، ت (538). انظر: "إنباه الرواة": (3/ 265) و"السير" (20/ 151). (3) انظر "شرح المفصَّل": (8/ 155) لابن يعيش. (4) هو: القاسم بن أحمد بن الموفّق اللورقي الأندلسيّ، علم الدين النحوي ت (661) , له شرح كبير على "المفصل". قال القِفطي: "استوفى فيه القول، لا يقصر أن يكون في مقدار كتاب أبي سعيد السيرافي في شرح سيبويه" اهـ. انظر: "معجم الأدباء": (16/ 234)، و"إنباه الرواة": (4/ 167) , وانظر أيضًا ص/154 من هذا الجزء. (5) هو أبو البقاء العكبري النحوي الحنبلي (ت 616)."ذيل الطبقات": 2/ 115. (6) انظر: "الفروق": (1/ 89 - 92).

(1/91)


وذلك لأنها تدلُّ على امتناع الشيء لامتناع غيره. وإذا امتنع النفي صار إثباتًا، فجاءت الأقسام الأربعة، وأُوْرِدَ على هذا أمور: أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] ومقتضى ما ذكرتم أن تكون كلمات الله تعالى قد نفدَت، وهو محال؛ لأنَّ الأول ثبوت، وهو كون أشجار الأرض أقلامًا والبحار مدادًا لكلماته، وهذا منتفٍ. والثاني وهو قوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، فيلزم أن يكون ثبوتًا. الثاني: قول عمر: "نعمَ العبد صهيبٌ لو لم يَخَف الله لَمْ يَعْصِه" (1). فعلى ما ذكرتم يكون لخوف ثابتًا لأنّه منفيّ, والمعصية كذلك, لأنَّها منفية أيضًا، وقد اختلفت أجوبةُ الناس عن ذلك. فقال أبو الحسن بن عُصْفور (2): "لو" في الحديث بمعنى "إن" لمطلق الربط فلا يكون أنفيها إثباتًا ولا إثباتها نفيًا, فاندفع الإشكال. وفي هذا الجواب ضَعْف بيِّن، فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال، وإنما قصد ارتباط مُتَضمِّن لنفي الجزاء ولا سيق __________ (1) اشتهر هذا الأثر على ألسنة الأصوليين وأهل العربية عن عمر -رضي الله عنه -، ولم يوقف له على إسنادٍ بعد الفحص والتتبع. انظر: "المقاصد الحسنة": (ص/ 449)، و"كشف الخفاء": (2/ 428). ولشيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة في شرح هذا الأثر، ساقها السيوطي برمتها في "الأشباه والنظائر النحوية": (4/ 65). (2) هو: علي بن مؤمن بن محمد أبو الحسن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي النحوي ت (663) وقِيل غير ذلك. انظر: "إشارة التعيين": (ص/ 236) و"بغية الوعاة": (2/ 210).

(1/92)


الكلام إلا لهذا، ففي هذا (1) الجواب إبطال خاصية "لو" التي فارقت بها سائر أدوات الشرط. وقال غيره: "لو" في أصل (2) اللغة لمطلق الربط، وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة. حَكَى هذا الجواب القَرَافي (3) عن الخُسْرُوشَاهِي (4)، وهو أفسد من الذي قبله بكثير!! فإن اقتضاء "لو" لنفي الثابت بعدها وإثبات المنفي، متلقى من أصلِ وَضْعها لا من العرْف (5) الحادِث، كما أن معاني (6) سائر الحروف؛ من نفي أو تأكيد أو تخصيص، أو بيان أو ابتداءٍ أو انتهاء؛ إنما هو متلقًى من الوضع لا من العرف، فما قاله ظاهر البُطْلان. الجواب الثالث: جواب الشيخ أبي محمَّد ابن عبد السلام (7) وغيره، وهو: أنَّ الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد، فينتفي عند انتفائه، وقد يكون له سببان، فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه؛ لأنَّ __________ (1) من (ق). (2) من (ق). (3) هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس القرافي المالكي الأصولي الفقيه ت (684) , صاحب التصانيف، ومنها: "الفروق" الذي ينقل منه المؤلف. انظر: "الديباج المذهب": (ص/ 62)، و"شجرة النور": (ص/ 188). (4) هو: عبد الحميد بن عيسى بن عمويه بن يونس أبو محمد الخُسْرُوشاهي ت (652). انظر: "شذرات الذهب": (5/ 255)، و"الأعلام": (3/ 288). (5) (ظ ود): "الحرف"!. (6) سقطت من (ق). (7) هو: عبد العزيز بن عبد السلام، سلطان العلماء، ت (660).

(1/93)


السبب الثاني يَخْلُف السبب الأول، كقولنا في زوج هو ابن عم: "لو لم يكن زوجًا لوَرِث"، أي بالتعصيب، فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، وكذلك الناس ها هنا في الغالب، إنما لم يعصوا لأجل الخوف، فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا، لاتحاد السبب في حقهم، فأخبر عمرُ أن صهيبًا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية: الخوف والإجلال، فلو انتفى الخوف في حقه، لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال، وهذا مدح عظيم له. قلت: وبهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في ابنة حمزة (1)، "إِنَّها لَوْ لَم تكنْ رَبيْبتِي في حَجْرِي لَما حَلَّتْ لي إنَّها ابْنَةُ أخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ" أي: فيها سببان يقتضيان التحريم، فلو قُدِّر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني. وهذا جوابٌ حَسَنٌ جدًّا. الجواب الرَّابع: ذكره بعضهم بأن قال: جواب "لو" محذوف وتقديره: "لو لم يخف الله لعصمه فلم يعصه بإجلاله له (2) ومحبته إِيَّاه"، فإن الله يعصم: عبدَه بالخوف تارة، و [المحبة] (3) والإجلال __________ (1) كذا في الأصول، وهو وهم، فإن الذي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك هي: بنت أبي سلمة؛ لأن أباها أبو سلمة أخو النبي من الرضاعة، وأمها أم سلمة زوج النبي، فهي ربيبته. والحديث أخرجه البخاري رقم (5101) ومسلم رقم (1449) من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنهما - أما حديث بنت حمزة، فقال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ابنة أخي من الرضاعة" أخرجه البخاري رقم (2645) , ومسلم رقم (1447). (2) من (ق). (3) في الأصول: "والخوف"، والمثبت هو الصواب، بدليل ما بعده.

(1/94)


تارة، وعِصْمة الإجلال والمحبة أعظم من عِصمة الخوف، لأنَّ الخوف يتعلَّق بعقابه، والمحبة (1) والإجلال يتعلَّقان بذاته وما يستحقه تبارك وتعالى، فأين أحدهما من الآخر؟! ولهذا كان دين الحبِّ أثبت وأرسخ من دين الخوف وأَمكن وأعظم تأثيرًا، وشاهده ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه وطاعة الخائف لمن يخافه، كما قال بعض الصحابة: "إنه ليستخرج حبه منِّي من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف"، وليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر، وقد بسطته في: "كتاب الفتوحات القدسية" (2). الجواب الخامس (3): أن "لو" أصلها أن تستعمل للرَّبط بين شيئين كما تقدَّم، ثم إنها قد تستعمل لقطع الرَّبط، فتكون جوابًا لسؤالٍ محقَّق أو متوهَّم وقع فيه ربط، فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط، كما لو قال القائل: "إن لم يكن زيدٌ زوجًا لم يرث"، فتقول أنت: "لو لم يكن زوجًا لورث"، تريد (4): أنَّ ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق، فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه، وتقول: "لو لم يكن زيد عالمًا لأُكرِم"، أي: لشجاعته، جوابًا لسؤال سائل يتوهَّم أنه لو لم يكن عالمًا لما أُكرِم، فيربط بين عدم العلم والإكرام، فتقطع أنت ذلك الربط، وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام؛ لأنَّ ذلك ليس بمناسِب ولا من أغراض العقلاء، ولا يتجه كلامك إلا على عدم الرَّبط. __________ (1) من قوله: "والإجلال تارة ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) لم يُعثر على شيءٍ من نسخه الخطية، انظر: "ابن القيم حياته وآثاره": (ص / 278). (3) هذا الجواب للقرافي في كتابه "الفروق" ت (1/ 90). (4) ليست في (ظ).

(1/95)


كذلك الحديث، لما كان الغالب على النَّاس أن يرتبط عصيانُهم بعدمِ خوفهم، وأَنَّ ذلك في الأوهام؛ قَطَعَ عُمَرُ هذا الربط، وقال: "لو لم يخف الله لم يعصه". وكذلك لما كان الغالبُ على الأوهام أَنَّ الأشجار كلَّها إذا صارت (1) أقلامًا، والبحار المذكورة كلها تُكْتَب بها الكلمات الإلهية، فلعلَّ الوهم يقول: ما يُكتب بهذا شيء إلا نفِدَ كائنًا ما كان، فقطع الله تعالى هذا الربط، ونفى هذا الوهم، وقال: {مَا نَفِدَتْ} (2). قلت: ونظير هذا: في الحديث: أن زوجته لما توهَّمتْ أن ابنة عمه حمزة (3) تحلّ له؛ لكونها بنت عمه, فقطع هذا الربط بقوله: "إنها لا تحل"، وذكر للتحريم سببين: الرَّضَاعة، وكونها ربيبة له، وهذا جواب القَرَافي، قال: "وهو أصْلح من الأجوبة المتقدِّمة من وجهين؛ أَحدهما: شموله للحديث والآية، وبعض الأجوبة لا تنطبق على الآية. والثاني: أَنَّ ورود "لو" بمعنى "إن" خلاف الظاهر، وما ذكرته (4) لا يتضمن خلاف الظاهر". قلت: وهذا الجواب فيه ما فيه، فإنه إِن ادَّعى أَنّ "لو" وُضِعت أو جيء بها لِقَطْع الرَّبط فغلط، فإنها حرف من حروف الشرط التي مضمونها ربط السبب بمسببه والملزوم بلازمه، ولم يُؤْتَ بها لقطع هذا الارتباط ولا وُضعت له أصلًا، فلا يفسر الحرف بضد موضوعه. ونظير هذا قول من يقول: إن "إلا" قد تكون بمعنى "الواو"، __________ (1) سقطت من (ق). (2) "وقال: ما نفدت" سقطت من (د). (3) (ق): "بنت حمزة"، وانظر ما تقدم (ص/94 حاشية 1) من التعليق والتصحيح. (4) (ظ ود): "ذكره".

(1/96)


وهذا فاسد، فإن "الواو" للتَّشْريك والجمع، و"إلا" للإِخراج وقطع التشريك، ونظائر ذلك. وإن أراد: أَنَّ قَطْع الربط المتوهَّم مقصودٌ للمتكلم من أدلة؛ فهذا حق، ولكن لم ينشأ هذا من حرف "لو", وإِنَّما جاء من خصوصية ما صحبها من الكلام المتضمِّن لنفي ما توهَّمه القائل أو ادَّعاه، ولم يأت من قِبَل "لو". فهذا كلام هؤلاء الفضلاء في هذه المسألة، وإنما جاء الإشكال سؤالًا وجوابًا من عدم الإحاطة بمعنى هذا الحرف ومقتضاه وحقيقته، وأنا أذكر حقيقة هذا الحرف ليتبين سر المسألة بعون الله: فاعلم أن "لو" حرف وُضِع للملازمة بين أمرين, يدل على أَنّ الجزء (1) الأول منهما ملزوم والثاني لازم، هذا وَضْعُ هذا الحرف وطبيعته، وموارده في هذه الملازمة أربعة؛ فإنه إِما أنْ يلازم بين ثبوتين أو نفيين، أو بين ملزوم مثبت ولازم منفي، أو عكسه، ونعتي بالثبوت والنفي هنا: الصوري اللفظي لا المعنوي (2). فمثال الأول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] , {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64] , {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} [النساء: 66] ونظائره. ومثال الثاني: "لَوْ لَمْ تكنْ رَبِيْبَتِي في حَجْرِي لَما حَلَّتْ لي"، __________ (1) (ق): "الجزءين". (2) العبارة في (ق): "ونعني بالثبوت هنا وبالنفي الصوري اللفظي لا المعنوي"!.

(1/97)


و"لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ" (1). ومثال الثالث: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]. وقال الرابع: "لَو لَمْ تُذْنِبوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجاءَ بقَوْمٍ يُذنِبُونَ فَيَسْتغْفروْنَ فيَغفر لَهُمْ" (2). فهذه صور ورودها على النفي وَالإثبات. وأما حكم ذلك فأمران: أحدهما: نفي الأول لنفي الثاني، لأنَّ الأول ملزوم والثاني لازم، والملزوم عدم عند عدم لازمه. والثاني: تحقُق الثاني لتحقق الأول؛ لأنَّ تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه. فإذا عرفت هذا فليس في طبيعة "لو" ولا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزءين ولا إثباته، وإنما طبيعتها وحقيقتها الدَّلالة على التلازم المذكور؛ لكن إنما يُؤتى بها للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققهما, ومن هنا نشأَت الشُّبهة، فلم يؤتَ بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزءين أو نفيهما، فإذا دخلت على جزءين متلازمين قد انتفى اللازم منهما، اسْتُفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم، لا من نفس الحرف. وبيانُ ذلك: أنَّ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لم يستفد نفي الفساد من حرف "لو"، بل الحرف دخل __________ (1) تقدما (ص/92، 94). (2) أخرجه مسلم رقم (2749) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وجاء بنحوه من حديث أبي أيوب الأنصاري عند مسلم أيضًا.

(1/98)


على أمرين قد عُلِم انتفاء أحدهما حسًّا فلازمت لينه وليس ما (1) يريد نفيه من تعدد الآلهة، وقضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، فإذا كان اللازم منتفيًا قطعًا وحسًّا انتفى ملزومه لانتفائه، لا من حيث الحرف، فهنا أمران: أحدهما: الملازمة التي فهمت من الحرف. والثاني: انتفاء اللازم المعلوم بالحس. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم والملزوم بـ "لو"، فمن هنا قالوا: إن دخلت على مثْبَتَين صارا منتفيين، بمعنى أن الثاني منهما قد عُلِم انتفاؤه من خارج، فينتفي الأول لانتفائه، وإذا دخلت على منفيين أثبتهما كذلك أيضًا؛ لأنها تدخل على ملزوم محقَّق الثبوت من خارج، فيتحقق ثبوت لازمه كما في قوله: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا" فهذا الملزوم وهو صدور الذنب متحقق (2) في الخارج من البشر، فتحقق لازِمُه وهو: بقاء النوع الإنساني وعدم الذهاب به؛ لأنَّ الملازمة وقعت بين عدم الذنب وعدم البقاء، لكن عدم الذنب منتف قطعًا فانتفى لازمه، وهو عدم الذهاب بنا فثبت الذنب وثبت البقاء. وكذلك بقية الأقسام الأربعة تُفْهَم على هذا الوجه. وإذا عُرِف هذا؛ فاللازم الواحد قد يلزم ملزومات متعددة؛ كالحيوانية اللازمة للإنسان والفرس وغيرهما، فيقصد المتكلِّم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات واللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر، فيكون مقصوده: أنَّ الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك __________ (1) من (ق). (2) (ق): "يتحقق".

(1/99)


الملزوم الآخر، فلا يتوهَّم المتوهِّم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معيَّن، فإن الملازمة حاصلة بدونه، وعلى هذا يُخرَّج: "لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ"، وَ"لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبيْبتَي لَما حَلَّتْ لَي"، فإن عدم المعصية له ملزومات وهي (1) الخشية والمحبة والإجلال، فلو انتفى بعضها وهو الخوف مثلًا، لم يبطل اللازم؛ لأنَّ له ملزومات أُخر غيره، وكذلك لو انتفى كون البنت ربيبته لما انتفى التحريم, لحصول الملازمة بينه وبين وصف آخر، وهو الرَّضاع، وذلك الوصف ثابت، وهذا القسم (2) إنَّما يأتي في لازم له ملزومات متعددة، فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها. وأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] فإن الآية سِيْقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلامًا، والبحار: مِدَادًا، فكتِبت بها كلماتُ الله؛ لنفدت البحارُ والأقلام، ولم تنفد كلمات الله، فالآية سِيْقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته، وبين كون الأشجار أقلامًا، والبحار مدادًا يكتب بها، فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقديرٍ يكون في نفاد المكتوب؛ فثبوتها على غيره من التقادير أولى. ونوضِّح هذا بضرب مثل يُرْتقى منه إلى فهم مقصود الآية: إذا قلت لرجل لا يعطي أَحدًا شيئًا: "لو أَنَّ لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدًا منها شيئًا"، فإنك إنما (3) قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء، فلازَمْتَ بين عدم إعطائه وبين __________ (1) (ظ ود): "ملزومان وهي". (2) ليست في (ق). (3) (ظ ود): "إذا".

(1/100)


أعظم أسباب الإعطاء، وهو كثرة ما يملكه، فدلَّ هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير، وأن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير، فافهم نظير هذا المعنى في الآية، وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى، على تقدير أن الأشجارَ أقلام، والبحارَ مداد يُكْتَب بها، فإذا لم تنفد على هذا التقدير، كان عدم نفادها لازمًا له؛ فكيف بحسب دونه من التقديرات!! فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقتٍ ولا تكاد تجدها في الكتب، وإنما هي من فتح الله وفضله، فله الحمد والمنة، ونسأله المزيد من فضله. فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية، وجاءت الخصوص بمقتضاهما معًا من غير خروج عن مُوْجب عقلٍ ولا لغةٍ ولا تحريفٍ لنصٍّ، ولو لم يكن في هذا التَّعليق إلا هذه الفائدة لساوت رحلة، فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد مالًا يَنفُق إلا على تجَّارِه، وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة، والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة، ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما!! والله المعين. المسألة التاسعة (1): في دخول الشرط على الشرط، ونذكر فيه ضابطًا مزيلًا للإشكال إن شاء الله، فنقول: الشرط الثاني تارة يكون معطوفًا على الأول وتارة لا يكون، والمعطوف تارة يكون معطوفًا على فعل الشرط وحده، (2) وتارة يُعْطف على الفعل مع الأداة، فمثال غير المعطوف: "إن قمتِ إن قعدتِ فأنت طالق". __________ (1) قارن بـ "الفروق": (1/ 81 - 85) للقرافي, ولم يذكر المصنف العاشرة. (2) (ق/22 ب) من النسخة (ق) ساقط من مصوَّرتي وينتهي السقط إلى قوله: "وممن نص ... " ص/104.

(1/101)


ومثال المعطوف على فعل الشرط وحده: "إن قمتِ وقعدتِ". ومثال المعطوف على الفعل مع الأداة: "إن قمتِ وإن قعدتِ"، فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب وهي عشر صور: أحدها: "إن خرجتِ ولبستِ"، فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا. الثانية "إن لبست فخرجت"، لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس، فلو خَرَجَت ثم لبست لم يحنث. الثالثة: "إن لبست ثم خرجت"، فهذا مثل الأول، وإن كان "ثم" للتراخى فإنه لا يُعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده. الرابعة: "إنْ خرجت لا إنْ لبست"، فيحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: جعل الخروج شرطًا؛ ونفي اللبس أن يكون شرطًا. الثاني: أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس، والمعنى: إن خرجت لا لابسة، أي غير لابسة، ويكون المعنى إن كان منك خروج لا مع اللبس، فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده، وعلى الثاني: لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه. الخامسة: "إن خرجت بل إن لبست"، ويحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب، والثاني: أن يكون كل منهما شرطًا فيحنث بأيهما وجد، ويكون الإضراب عن الاقتصار، فيكون إضراب اقتصار لا إضراب (1) إلغاء، كما تقول: "أعطه درهما بل درهمًا آخر". __________ (1) من قوله: "الاقُتصار ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/102)


السادسة: "إن خرجت أو إن لبست" فالشرط أحدهما أيهما كان. السابعة: "إن لبست لكن إن خرجت"، فالشرط الثاني [إن] وقع لغا الأول لأجل الاستدراك بـ "لكن". الثامنة: أن يدخل الشرطُ على الشرط، ويكون الثاني معطوفًا بالواو، نحو: "إن لبست وإن خرجت"، فهذا يحنث بأحدهما. فإن قيل: فكيف لم يحنِّثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما، وحنثتموه ها هنا بأيهما كان؟. قيل: لأنه هناك جعل الشرط مجموعهما، وهنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه، وجعل لهما جوابًا واحدًا، وفيه رأيان؛ أحدهما: أن الجواب لهما جميعًا وهو الصحيح، والثاني: أن جواب أحدهما، حُذِفَ لدلالة المذكور عليه، وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزءين. التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء، نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (1) [البقرة: 38]. فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني، وهو وجوابه جواب الأول، فإذا قال: "إن خرجت فإن كلمت أحدًا فأنت طالق"، لم تَطْلق حتى تخرج وتكلم أحدًا. العاشرة (2): وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف، نحو: "إن خرجتِ إن لبستِ"، اختلف أقوالهم فيها، فحن قائل: إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى، وأنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج، ومن قائل بل المقدَّم لفظًا هو المقدِّم معنًى، وذكر كلٌّ منهم حُجَجًا لقوله. __________ (1) بقية الآية: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... } والكلام عليه. (2) انظر "الفروق": (1/ 81)، وسيعيد المؤلف هذا البحث فيما سيأتي: (3/ 1237).

(1/103)


(ق/23 أ) وممن نص على المسألة [لبن] الموفَّق (1) الأندلسي في شرحه (2)، فقال: إذا دخل الشرط على الشرط، وأُعيد حرف الشرط، توقّف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول، كقولك: "إن أكلتِ إن شربتِ فأنت طالق"، فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل؛ لأنه معلق (3) على أكلٍّ معلَّقٍ على شربٍ، وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في "المهذب" (4)، وحكى ابن شاس في "الجواهر" (5). عن أصحاب مالك عكسه، والوجهان لأصحاب الشافعي. ولابد في المسألة من تفصيل وهو: أَنَّ الشرط الثاني إن كان متأخراً في الوجود عن الأول؛ كان مقدراً بالفاء، وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني، (ظ/ 17 ب) مثاله: "إن دخلت: المسجد إن صليت فيه فلك أجر"، تقديره: فإن صليت فيه، وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها، وإن كان الثاني متقدماً في الوجود على الأول؛ فهو في نية التقدم، وما قبله جوابه، والفاء مقدرة فيه، ومثله قوله عز وجل: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، تقديره: إن أراد الله أن يغويكم (6)، فإن __________ (1) تحرفت في (ق) إلى: "الفرضي". (2) أي: شرحه للمفصّل للزمخشري، وتقدم نقل المؤلف عنه ص/ 91، وترجمته والتعريف بكتابه. (3) (ظ ود) "تعلق". (4) (10/ 215 - مع شرحه للعمراني". (5) (2/ 207) واسم الكتاب "عِقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، ومؤلّفه هو: عبد الله بن نجم بن شاس الجذامي السعدي أبو محمد ت (616). انظر: "وفيات الأعيان": (3/ 61)، و"السير": (22/ 99). (6) "تقديره: إن أراد الله أن يغويكم" سقطت من (ظ ود).

(1/104)


أردت أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نُصْحِي، وتقول: "إن دخلت المسجدَ (1) إن توضأتَ فصل ركعتين"، تقديره: إن توضأت، فإن دخلت المسجد فصلِّ ركعتين، فالشرط الثاني هنا متقدِّم. وإذ لم يكن أحدهما متقدماً في الوجود على الآخر، بل كان محتملاً للتقدم والتأخر؛ لم (2) يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعاً إلى تقدير المتكلِّم ونيته، فأيهما قدره شرطاً كان الآخر جواباً له، وكان مقدراً بالفاء تقدم في اللفظ أو تأخر، وإن لم يظهر نِيَّة ولا تقدير احتمل الأمرين، فمما ظهر فيه تقديم المتأخر، قول الشاعر: إن تَسْتغيثوا بِنا إنْ تُذْعَرُوا تَجِدوا ... مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانها الكَرَمُ (3) لأنَّ الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذُّعر، ومنه قول ابن دُرَيد (4): فإنْ عَثَرتُ بَعْدها إنْ وألَتْ ... نَفْسي مِن هَاتَا فقولا لا لَعَا ومعلوم أن العثور مرة ثانية (5) إنما يكون بعد الذُّعر، ومن المحتمل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، يحتمل أن تكون الهبة شرطاً ويكون فعل الإرادة جواباً له، ويكون التقدير: إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له، ويحتمل أن تكون __________ (1) (ق): "الدار". (2) (ق): "للتقديم والتأخير ولم". (3) البيت في "الخزانة": (11/ 358) ولا يُعرف قائله. (4) ضمن المقصورة، وانظر "المقصورة": (ص/ 20 - مع شرح التبريزي). (5) (ق): "العبور الثاني".

(1/105)


الإرادة شرطاً والهبة جواباً له، والتقدير: إن أراد النبيُّ أن يستنكحها، فإن وهبت نفسها فهي خالصة له، يحتمل الأمرين، فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها، والله أعلم. فائدة عظيمة المنفعة (1) قال سيبويه (2): "الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب، تقول: صمتُ رمضانَ وشعبانَ، وإن شئتَ: شعبان ورمضان، بخلاف "الفاء" و"ثم" إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أَهَمُّ، وهُمْ ببيانِهِ أَعْنَى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويَعْنيانهم"، هذا لفظُه. قال السُّهيلي: وهو كلام مجمل يحتاج (ق/23 ب) إلى بسطٍ وتبيين، فيقال: متى يكون أحدُ الشيئين أحقَّ بالتقديم (3)، ويكون المتكلم ببيانه أعنى. قال: والجوابُ: أن هذا الأصل يجب الاعتناء به، لِعِظم منفعته في كتاب الله، وحديث رسوله؛ إذ لابدَّ من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير (4) ما أخر، كنحو السَّمْع والبصر (5)، والظلمات والنور، والليل والنهار، والجن والإنس في الأكثر، وفي بعضها: الإنس والجن، وتقديم السماء على الأرض في الذِّكر (6)، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي، ونحو: "سميع عليم"، ولم يجئ: __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/266). (2) في "الكتاب": (1/ 218). (3) (ظ ود): "بالمتقدم". (4) (ق): "ما قدم في القرآن أو ... ". (5) (ظ ود): "السميع والبصير"، والمثبت من (ق) و"النتائج". (6) ليست في (ق).

(1/106)


"عليم سميع"، وكذلك: "عزيز حكيم" و"غفور رحيم"، وفي موضع واحد: "رحيم غفور" إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر. وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام الحكيم الخبير. وسنقدِّم بين يدي الخوض في هذا الغرض أَصْلاً يقف بك على الطريق الأوضح. فنقول: ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حسب تقدُّم المعاني في الجَنَان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال، فإذا سبق معنى من المعاني إِلى الخَلَد والفِكْر (1) بأحد هذه الأسباب الخمسة، أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكاد ترتُّب الألفاظ بحسب ذلك، نعم وربما كان ترتُّب الألفاظ بحسب الخفة والثقل، لا بحسب المعنى، كقولهم: "ربيعة ومُضَر"، وكان تقديم "مضر" أولى من جهة الفضل، ولكن آثروا الخفة؛ لأنك لو قدمت "مضر" في اللفظ، كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وُقِف (2) عليها بالسكون. قلت: ومن هذا النحو: "الجن والإنس"، فإن لفظ الإنس أخفّ، لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجِمَامه. وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب، وسنشير إليها في آخر الفصل (ظ/18 أ) إن شاء الله تعالى. أما ما تقدم بتقدُّم الزمان فكـ "عاد وثمود" و"الظلمات والنور"، __________ (1) (ظ ود): "الخفة والثقل" ولا معنى له. (2) في الأصول ونسختَي النتائج: "ووقف" وأصلحه محققه كما أثبتْ.

(1/107)


فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمهما في المحسوس معلوم (1) بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل، قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] فالجهل (2) ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور العلم (3) ولذلك قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]، فهذه ثلاث محسوسات: ظلمة الرَّحِم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وثلاث معقولات وهي: عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة؛ إذ (4): "لكلِّ آية ظهر وبطن، ولكل حرف حدٌّ، ولكل حدٍّ (5) مطلع" (6)، وفي الحديث: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ عِبَادَهُ في (ق/24 أ) ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ من نُوْرِه" (7). ومن المتقدِّم بالطبع نحو: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ونحو: __________ (1) (ق): "معقول". (2) في "النتائج": "وانتفاء العلم". (3) (ق): "العلوم"، و"النتائج": "الإدراك". (4) ليست في (ق). (5) "ولكل حد" سقط من (د). (6) جاء هذا القول عن بعض السلف، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر ذلك مع شرحه في "الإتقان": (2/ 486)، و"البرهان": (2/ 169). (7) أخرجه أحمد: (2/ 176، 197)، والترمذي رقم (2642)، وحسَّنه، وابن حبان في "الإحسان": (14/ 43)، والحاكم في "المستدرك": (1/ 30) وصححه، وابن أبي عاصم في "السنة": (ص/ 108)، واللالكائي: (4/ 603)، والآجري في "الشريعة": (2/ 757). كلهم من طريق عبد الله ابن الدَّيْلمي عن عبد الله بن عَمرو به، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي والألباني في "السلسلة" رقم (1076).

(1/108)


{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7]. وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدَّم بالطبع، كتقدم الحيوان على الإنسان، والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم "العزيز" على "الحكيم"؛ لأنه عزَّ فلما عزَّ حَكَمَ، وربما كان هذا من تقدُّم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن، نحو: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]؛ لأنَّ التوبة سبب الطهارة، وكذلك: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ لأنَّ الإفك سبب الإثم، وكذلك: {كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12]. وأما تقدُّم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] فبالرتبة؛ لأنَّ المشي مرتب على القعود في المكان (1). والهماز هو: العيَّاب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة. وأما تقدُّم {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} على: {مُعْتَدٍ} [القلم: 12] فبالرتبة أيضاً؛ لأن المناع يمنع من (2) نفسه، والمعتدي يعتدي على غيره، ونفسه [في الرتبة] (3) قبل غيره. ومن المقدَّم بالرتبة قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]؛ لأنَّ الذي يأتي راجلاً يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد، على أنَّه قد رُوِي عن ابن عباس أنَّه قال: "وددت أني حججت راجلاً، لأنَّ الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن " (4)، فجعله ابن عباس من باب تقدُّم __________ (1) (ق): "الكلام". (2) "النتائج": "خير". (3) من "النتائج". (4) قال السيوطي في "الدر المنثور": (4/ 639): "وأخرج ابن أبي شيبة، وابن سعد، =

(1/109)


الفاضل على المفضول، والمعنيان موجودان. وربما قُدِّم الشيء لثلاثة معانٍ وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنًى واحد من الخمسة. ومما (1) قدم للفضل والشرف: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]، ومنه تقديم "السمع" على "البصر" (2)، و"سميع" على "بصير"، ومنه تقديم "الجن" على "الإنس" في أكثر المواضع؛ لأن الجنّ تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجْتَنَّ عن الأبصار قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] وقال الأعشى (3): وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكِ سَبْعَةً (4) ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ بِلا أَجْرِ وأما قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74] وقوله: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال؛ لنزاهتهم عن العيوب، وأنهم لا يُتَوهم عليهم الكذب، ولا سائر الذنوب؛ فلما لم يتناولهم عموم لفظ الجنِّ (5) __________ = وعَبْد بن حُميد، وابن جرير: (9/ 135 - 136)، وابن المنذر، وابن أبي حاتم: (8/ 2488)، والبيهقي: (4/ 331)، عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: "ما آسى على شيءٍ فاتني إلا أني لم أحج ماشيّا حتى أدركني الكِبَر، أسمع الله تعالى يقول: "يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر" فبدأ بالرجال قبل الركبان". (1) (ق ود): "ربما". (2) (ظ ود): "السميع علي البصير". (3) ليس في "ديوانه"، وذكره ابن منظور في "اللسان": (13/ 98). (4) في الأصول: "شِيعةً"، وفي "اللسان": "تسعة". (5) من (ق).

(1/110)


لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم. وأما تقديم "السماء" على "الأرض"؛ فبالرتبة -أيضاً- وبالفضل والشرف. وأما تقديم "الأرض" في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61]؛ فبالرتبة -أيضاً- لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم المخاطبون بقوله: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61]؛ فاقتضى حُسْن النظم تقديمها مَرْتبةً في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها، بخلاف الآية التي في "سبأ"، فإنها منتظمة بقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3]. وأمَّا تقديم "المال" على "الولد" في كثير من الآي؛ فلأن الولدَ بعد وجودِ المالِ نعمةٌ ومسرَّةٌ، وعند الفقر (ق/ 24 ب) وسوء الحال همٌّ ومضرَّة، فهذا من باب تقديم السبب على المسبب؛ لأنَّ المال سبب تمام النعمة بالولد. وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فتقديم النساء على البنين بالسبب، وتقديم [البنين] على [الأموال] بالرتبة (1). ومما تقدَّم بالرتبة ذكر "السمع والعلم" حيث وقع، فإنَّه خبر يتضمَّن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلُّقه بما قرب كالأصوات (ظ/18 ب) وهمس الحركات؛ فإن من سمع حِسَّك وخَفيَّ صوتك أقربُ إليك - في العادة - ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علمه __________ (1) في الأصول: "وتقديم الأموال على البنين بالرتبة"، والتصويب من "النتائج".

(1/111)


تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن، وواقعاً على ما قَرُب وشَطَن، ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم؛ فهو أولى بالتقديم. وأما تقديم "الغفور" على "الرحيم"؛ فهو أولى بالطبع (1)؛ لأنَّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة تُطْلب قبل الغنيمة. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعَمْرو بن العاص: "أَبْعَثُكَ وَجْهاً يُسَلِّمُكَ اللهُ فِيْهِ وَيُغَنِّمُكَ وَأَزْعَبُ لَكَ زَعْبَةً مِنَ المَالِ" (2)، فهذا من الترتيب البديع، بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة قبل الكسب. وأما قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] في سبأ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، فإِمَّا بالفضل والكمال، وإما بالطبع؛ لأنها منتظمة بذكر أصناف (3) الخلق من المكلّفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصُّهم، والعموم بالطبع قبل الخصوص، كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وكقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. __________ (1) (ق): "بالتقديم بالطبع". (2) أخرجه أحمد (4/ 197 و 202)، والبخاري في "الأدب المفرد": (ص/97)، وابن حبّان "الإحسان": (8/ 7)، والحاكم: (2/ 236) وغيرهم. كلهم من طرقٍ عن موسى بن عُلَيّ بن رباح عن أبيه عن عَمْرو بن العاص به. والحديث صححه الحاكم وابن حبان، والذهبي والألباني في "صحيح الأدب المفرد" رقم 229. ووقع في الأصول، وبعض مطبوعات كتب السنة: "أرغب لك رغبة" بالراء والغين، والصواب: "أزْعب لك زَعْبة" بالزاي والعين. والمعنى: أعطيك دفعة من المال. وأصل الزَّعب: الدَّفع والقَسْم، انظر: "النهاية" (2/ 302) لابن الأثير. (3) "النتائج": "أوصاف".

(1/112)


ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ لأنَّ السجودَ أفضل، و"أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" (1). فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقال من علوٍّ إلى انخفاض، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلَّا قُدِّم الركوع؟ فالجواب: أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثمَّ قال لها: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أي: صَلِّي مع المصلين في بيت المقدس. ولم يُرِد -أيضاً- الركوع وحده دون سائر (2) أجزاء الصلاة، ولكنه عبَّر بالركوع عن الصلاة كلِّها (3)، كما تقول: "ركعت ركعتين، وأربع ركعات"، تريدُ الصلاةَ لا الركوعَ بمجرده، فصارت الآية متضمنةً لصلاتين: صلاتها وحدها عبَّر عنها بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضل حالات العبد، وكذلك صلاةُ المرأة في بيتها أفضل لها. ثمَّ صلاتها في المسجد عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نَظْم بديع، وفقه دقيق، وهذه نُبَذٌ تشير لك إلى ما وراء، أَو تنبذك وأنت صحيحٌ بالعَرَاء (4). __________ (1) أخرجه مسلم رقم (482)، وأبو داود رقم (875)، والنسائي: (2/ 226) وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) من (ق) و"النتائج". (3) من (ق) و"النتائج". (4) تحرفت هذه الجملة في (ظ) و"النتائج".

(1/113)


قالوا (1): ومما يليق (2) ذكره بهذا الباب قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] بدأ بالطائفين للرتبةِ والقربِ من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوَّافين، وجمعهم جَمْعَ السلامة؛ لأنَّ جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علة يُعلَّق بها حكم التطهير، ولو كان مكان (لِلطَّائِفِينَ): الطُّوَّاف؛ لم يكن في هذا اللفظ من بيان قَصْد (3) الفعل ما في قوله (لِلطَّائِفِينَ)، ألا ترى أنك تقول: "يَطوفون"، كما تقول: "طائفون"، فاللفظان متشابهان. فإن قيل: فهلَّا أُتيَ بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: "وطهر بيتي للذين يطوفون"؟. قيل: إن الحكم مُعَلَّل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ "الذين" يُنْبئ عن الشخص والذات، ولفظ "الطُّوَّاف" يُخْفِي معنى الفعل ولا يبينه، فكان لفظ [الطائفين] (4) أولى بهذا الموطن. ثمَّ يليه في الترتيب (وَالْقَائِمِينَ)؛ لأنه في معنى (العاكفين)، وهو في معنى قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، أي: مُثابراً ملازماً، وهو كالطائفين في تعلُّق حكم التطهير به، ثمَّ يليه بالرتبة لفظ [الرُّكَّع] (5)؛ لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصُّون بما قَرُب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلَّق حكم التطهير __________ (1) ليست في (ق). وانظر "النتائج": (ص/273). (2) من (ق) و"النتائج". (3) (ق): "فضل"، و"النتائج": "قول"!. (4) (ظ وق): "الظاهر" والمثبت من "النتائج". (5) (ظ وق): "الراكع" والمثبت من "النتائج".

(1/114)


بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه (1) لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ بلفظ الجمع المسلَّم؛ إِذ لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل، كما احتيج فيما قبله. ثمَّ وصَفَ {الرُّكَّعِ} بالسجود، ولم يُعْطَف بالواو كما عطف ما قبله؛ لأنَّ {الرُّكَّعِ} هم {السُّجُودِ}، والشيءُ لا يُعْطَف بالواوِ على نفسه؛ ولفائدةٍ أُخرى: وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطف بالواو لتُوُهِّم أنَّه يريد السجودَ الذي هو المصدر دود الاسم الذي هو النعت؛ وفائدةٍ ثالثة: أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة (ظ/19 أ)؛ فلو عطفت هاهنا بالواو لتُوُهِّمَ أن الركوعَ حكم يجري على حِيَالِه. فإن قيل: فلم قال: "السجود" على وزد "فُعُول"، ولم يقل السُّجَّد كالرُّكَّع، وفي آية أخرى: {رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، وَلمَ جُمِع "ساجد" على "سجود"، ولم يُجْمع "راكع" على "ركوع". فالجواب: أن السجود في الأصل مصدرٌ كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال: "السُّجَّد" في جمع "ساجد" لم يتناول إلا المعنى الظاهر. وكذلك "الرُّكَّع" ألا تراه يقول: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] وهذه رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قيله مما يُراد به قصد (2) البيت، والبيت لا يُتَوجه إليه إلا بالعمل الظاهر. وأما الخشوع والخضوع الذي يتناوله لفظ "الركوع" دون لفظ __________ (1) (ق): "لهذا". (2) (ق): "فضل".

(1/115)


"الرُّكَّع" فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت. وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جُعِل وصفاً "للركع" ومتمماً لمعناه؛ إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول (ق/25 ب) لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يُشترط فيه التوجه إلى البيت، حَسُن انتظامه -أيضاً- بما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذين ذكرهم بذكر البيت، فمن لَحَظَ هذه المعاني بقلبه، وتدبَّر هذا النظمَ البديع بِلُبِّه؛ ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصرَ بعينِ اليقين أنَّه تنزيلٌ من حكيم حميد" تم كلامه - رحمه الله -. قلت (1): وقد تولَّج - رحمه الله - مضايق تضايق عنها أَن تولجها الإِبَر، وأتى بأشياءَ حسنة، وبأشياء غيرُها أحسن منها. فأما تعليلُه تقديمَ ربيعة على مضر؛ ففي غاية الحُسْن، وهذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد، فحَسُنَ فيهما ما ذكره. وأما (2) ما ذكره في تقديم الجنِّ على الإنس من شَرَف الجن؛ فمُسْتَدْرَك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع. وأما قوله: إن الملائكة منهم و (3) هم أشرف، فالمقدمتان ممنوعتان. أَما الأولى: فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خُلِقوا منها هي: __________ (1) ليست في (ق)، والكلام لابن القيم تعليقاً على كلام السهيلي. (2) من قوله: "ففي غاية ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ظ): "أو".

(1/116)


النور، كما ثبت ذلك مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم" (1)، وأما الجانُّ فمادتهم النار بنص القرآن، ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعاً ولا عقلاً. وأما المقدمة الثانية: وهي كون الملائكة خيراً وأشرف من الإنس؛ فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر (2)، والجمهور على تفضيل البشر، والذين فضَّلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا: إنه تقديمٌ بالزمان لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27]. وأما تقديم الإنس على الجنِّ في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74]؛ فلِحِكْمة أخرى سوى ما ذكره، وهو: أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات فيَرِد النفي عليه، وعلم النفوس بطَمْث الإنس ونُفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف، فجاء النفي على مقتضى ذلك، وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهمّ. وأما قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فهذا يُعرَف سره من السياق، فإن هذا حكايةُ كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ... } [الجن: 1 - 15]. __________ (1) رقم (2996) من حديث عائشة - رضي الله عنها-. (2) انظر: "طريق الهجرتين": (ص/ 411)، وهذا الكتاب: (3/ 1104)، و"مجموع الفتاوى": (4/ 35)، و"فتح الباري": (13/ 386)، وانظر كتاب: "مباحث. المفاضلة في العقيدة": (ص/ 354).

(1/117)


وكان القرآن أول (1) ما خُوطِب به الإنس، ونزل على نبيهم، وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن، فجاء قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] بتقديم الإنس لتقدُّمهم في الخطاب بالقرآن، وتقدّمهم بالتصديق والتكذيب. وفائدة ثالثة (2): وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم (3) بعد أن رجعوا إليهم، فأخبروهم بما سمعوا من القرآن وعَظَمته وهدايته إلى الرشد، ثمَّ اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولاً بخلاف (ق/26 أ) ما سمعوه من الرشد، بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن لم يقولوا (4) على الله كذباً، فَذِكْرهم (ظ/19 ب) الإنس هنا في التقديم، أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التُّهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبيَّن لهم كذبهم (5)، فبداءتُهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغَرَض والتهمة، وأنه لا يَظُن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنسَ عليهم، فإنهم أول ما أقرُّوا بتقوُّلهم الكذبَ على الله. وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحَّتَه. وأما تقديم عاد على ثمود حيثُ وقَعَ في القرآن؛ فما ذكره من تقدمهم بالزمان؛ فصحيح، وكذلك الظلمات والنور، وكذلك مَثْنى وبابه. __________ (1) (ق): "أولى". (2) (ق): "ثانية". (3) ليست في (ق). (4) (ظ): "يقولون". (5) (ق): "كذبه".

(1/118)


وأما تقديم "العزيز" على "الحكيم" فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر؛ فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحِكْمة، وهي كمال العلم والإرادة المتضمِّنَيْنِ اتساقَ صُنعه وجَرَيانه على أحسنِ الوجوه وأكملها، ووضعه الأشياء مواضعها، وهو الظاهر من هذا الاسم، فيكون وجه التقديم: أن العزَّة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وهو سبحانه الموصوف من كل صفةِ كمالٍ بأكملها وأعظمها وغايتها، فقدَّم وصفَ القدرة؛ لأنَّ متعلَّقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته. وأما الحكمة فمتعلّقها يُعْلم (1) بالنظر والفكر والاعتبار غالباً وكانت متأخرة عن متعلق القدرة. ووجهٌ ثان: أن (2) النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه (3) من الحكم والمعاني. ووجهٌ ثالث: أن الحكمة (4) غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأَخُّر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده، والحكمة تتعلّق بغايته، فقدَّم الوسيلة على الغاية؛ لأنها أسبق في الترتيب الخارجي. وأما قوله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ففيه معنى آخر سوى ما ذكره، وهو أنَّ الطُّهر طُهْران: طُهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطُهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مُكمِّل له معد مُهَيِّئ بحصوله، فكان أولى بالتقديم؛ لأنَّ العبد أول ما يدخل __________ (1) ليست في (ظ). (2) (ق): "ووجه بأن". (3) (ق): "ادعاه". (4) (ظ): "الكلمة".

(1/119)


في الإِسلام فقد تطهَّر بالتوبة من الشرك، ثمَّ يتطهر بالماء من الحدث. وأما قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ فالإفك هو: الكذب وهو في القول، والإثم هو: الفجور وهو في الفعل. والكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح: "إِنَّ الكَذِبَ يَدْعُو إِلى الفُجُوْرِ وَإِنَّ الفُجُوْرَ يَدْعُو إِلى النَّارِ" (1)؛ فالذي قاله صحيح. وأَمَّا {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] ففيه معنىً ثان غير ما ذكره، وهو: أَنَّ العدوان مجاوزة الحد الذي حُدَّ للعبد، فهو ظلم في القدر والوصف، وأما الإثم فهو: محرَّم الجنس، ومن تعاطَى تعدِّي الحدود تخطى إلى الجنس الآخر، وهو الإثم. ومعنىً ثالث: وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدواناً عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور، فكان تقديمه هنا على الأثيم (2) أولى؛ لأنه في سياق ذَمِّه (ق/26 ب) والنهي عن طاعته، فمن كان معتدياً على العباد ظالماً لهم؛ فهو أحرى بأن لا تطيعه وتوافقه. وفيه معنىً رابع: وهو أنَّه قدَّمه على الأثيم ليقترن بما قبله، وهو وصف المنع للخير، فوصفه بأنه لا خير فيه للناس، وأنه مع ذلك معتدٍ عليهم، فهو متأخِّر عن المنَّاع؛ لأنه يمنع خيره أوَّلاً ثمَّ يعتدي عليهم ثانياً، ولهذا يحمد الناسُ من يُوجِد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى، وهذا هو حقيقة التصوف (3)، وهذا لا راحة يُوجِدها ولا أذى يكفُّه. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6094)، ومسلم رقم (2607) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) (ق): "الاسم"!. (3) انظر "مدارج السالكين": (1/ 464 - 465).

(1/120)


وأما تقديم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذكره، وهو أن همزه عَيْب للمهموزِ، وإِزراء به (1)، وإظهارٌ لفسادِ حاله في نفسه، وهذه قالة (2) تختص المهموز لا تتعدَّاه إلى غيره، والمشي بالنميمة يتعدَّاه إلى من ينم عنده، فهو ضرر متعدٍّ، والهمز ضررهُ لازم للمهموز إذا شعر به؛ فانتقل (3) من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدِّي المنتشر. وأما تقديم الرجال على الرُّكبان؛ ففيه فائدة جليلة، وهي: أَنَّ الله تعالى شَرَط في الحج الاستطاعة، ولابدَّ من السفر إليه لغالب الناس، فذكر نوعَي الحُجَّاج لقطع توهُّم من يظن أنَّه لا يجب إلا على راكب، وقدَّم الرجال اهتماماً بهذا المعنى وتأكيداً، ومن الناس من يقول: قدَّمهم جبراً لهم؛ لأن نفوسَ الركبان تزدَرِيهم وتوبِّخهم (4)، وتقول: إن الله (ظ/ 20 أ) لم يكتبه عليكم ولم يُرِدْه منكم، وربما توهَّموا أنَّه غير نافع لهم، فبدأ بهم جبراً لهم ورحمة. وأما تقديم غسل الوجه، ثمَّ اليد، ثمَّ مسح الرأس، ثمَّ الرجلين في الوضوء؛ فمن يقول: إن هذا الترتيب واجب وهو: الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوباً لقرائن عديدة: أحدها: أنَّه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، ولو أُرِيد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات مُتَّسِقة في النظم، والممسوح بعدها، فلما عدل إلى ذلك؛ دلّ على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله تعالى. __________ (1) في (ق) زيادة مقحمة لا وجه لها، هي: "فهو ضرر متعدّ". (2) (ق): "وهذه حالة". (3) (ظ): "ما ينقل". (4) كذا رسمها في (ظ)، وفي (ق): "وتومهم".

(1/121)


الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به وهو الوضوء، فدخلت الواو عاطفة لأجزائه بعضها على بعض، والفعل الواحد لابدَّ (1) من ارتباط أجزائه بعضها ببعض، فدخلت الواو بين الأجزاء للربط، فأفادت الترتيبَ، إذ هو الربط المذكور في الآية، ولا يلزم من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينها، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أن لا تفيده بين أجزاءِ فعلٍ مرتبطة بعضها ببعض. فتأمل هذا الموضع ولطفه، وهذا أحد الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب، وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو قول ابن أبي موسى (2) من أصحاب أحمد، ولعله أرجح الأقوال. الثالث: أن لبداءة الرَّب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء (3) خاصة؛ فيجبُ مراعاتها، وأَن لا تُلغى وتُهدر (ق/ 27 أ) فيُهْدَر ما اعتبره الله ويُؤخَّر ما قدَّمه الله، وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما قدَّمه الله؛ فإنَّه ينبغي تقديمه ولا يؤخَّر، بل يُقدم ما قدم الله ويؤخر ما أخر (4)، فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا، وقال: "نَبْدَأُ بمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ" (5)، وفي رواية للنسائي: "ابْدَؤوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ" (6) على الأمر، فتأمل __________ (1) ساقطة من (ظ)، وفي المطبوعة: "يحصل". (2) هو: محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي الهاشمي القاضي الحنبلي، ت (428)، له تصانيف. انظر: "طبقات الحنابلة": (3/ 335). (3) "دون سائر الأعضاء": ساقط من (ق). (4) العبارة في (ظ): "بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر، فلما"!. (5) أخرجه مسلم رقم (1218) من حديث جابر - رضي الله عنه - في حجة الوداع. (6) "السنن": (5/ 236)، وأخرجه -أيضاً- الإمام أحمد في "المسند": (3/ 394)، والدارقطني: (2/ 254)، والبيهقيُّ في "الكبرى": (1/ 85)، من حديث جابر -أيضاً- وصححه ابن حزم والنووي.

(1/122)


بَدَاءته بالصفا معلِّلاً ذلك بكون الله بدأ به، فلا ينبغي تأخيره، وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء: نحنُ نبدأ بما بدأَ اللهُ به، ولا يجوز تأخير ما قدَّمه الله، ويتعين البداءة بما بدأ الله به، وهذا هو الصَّواب لمواظبة المبيِّن عن اللهِ مراده - صلى الله عليه وسلم - على الوضوء المرتَّب، فاتفق جميعُ من نقل عنه وضوءَه كلُّهم على إيقاعه مرتباً، ولم يَنقل عنه أحدٌ قطُّ أنَّه أخلّ بالترتيب مرة واحدة، فلو كان الوضوء المنكوس مشروعاً لفعله، ولو في عمره مرَّة واحدة ليبيِّن جوازَه لأمَّته، وهذا بحمد الله واضح. وأما تقديم النبيين على الصِّديقين؛ فلِمَا ذكره، ولكون الصِّديق تابعاً للنبي، فإنما استحقَّ اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي، فهو تابع مَحْض، وتأمَّل تقديم الصديقين على الشهداء؛ لفضل الصديقين عليهم، وتقديم الشهداء على الصالحين؛ لفضلهم عليهم. وأما تقديم السمع على البصر (1)؛ فهو متقدم عليه حيثُ وقعَ في القرآن مصدراً أو فعلاً أو اسماً. فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. والثاني: كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. والثالث: كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فاحتجَّ بهذا من يقول: إن السمعَ أشرفُ من البصر، وهذا قول __________ (1) انظر للمسألة: ما سيأتي من الكتاب: (3/ 1106)، و"مدارج السالكين": (2/ 424 وما بعدها)، و"مفتاح دار السعادة": (1/ 354 - 358)، و"الصواعق": (3/ 873 - 874).

(1/123)


الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل، ونصبوا معهم الخلافَ، وذكروا الحِجَاج من الطرفين، ولا أدري ما يترتَّب على هذه المسألة من الأحكام حتى تُذكر في كتب الفقه!! وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين. وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة (1) تفضيل البصر، وردَّ عليه، واحتج مفضِّلو السمع بأن الله تعالى يقدِّمه في القرآن حيثُ وقع، وبأن بالسَّمع تُنال سعادة الدنيا والآخرة، فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان (2) بما جاءوا به، وهذا إنما يُدْرَك بالسمع، ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: " [أَرْبَعَةٌ] (3) كُلُّهُمْ يُدْلي عَلَى اللهِ بِحُجَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فذكر منهم رجلاً أصم يقول: "يَا رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَأَنا لا أَسْمَعُ شَيْئاً" (4). واحتجُّوا: بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة (ظ/ 20 ب) من البصر، فإنَّ البصر لا يُدرِك إلا بعضَ الموجودات __________ (1) أبو المعالي هو الجويني، تقدم وابن قتيبة هو: عبد الله بن مسلم الدينوري الأديب صاحب التصانيف، ت (276).انظر: "وفيات الأعيان": (3/ 42)، و"السير": (13/ 296). وكلامه في "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 7). (2) سقط من (ق). (3) في الأصول: "ثلاثة" والتصويب من مصادر الحديث. (4) أخرجه أحمد: (4/ 24)، والطبراني في "الكبير": (1/ 287)، وابن حبَّان "الإحسان": (16/ 356)، والبيهقيُّ في "الاعتقاد": (ص/ 92). من طريق قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع به، والحديث صححه ابن حبان والبيهقي والهيثمي في "المجمع": (7/ 219)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1434).

(1/124)


المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يُدرِك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع (1)، فلا نسبة لإدراك (ق/ 27 ب) البصر إلى إدراكه. واحتجوا: بأن فَقْدَ السمع يوجب بَكَم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خِلْقةً لا يَنْطق في الغالب، وأما فقد البصر؛ فربما كان مُعِيْناً على قوة إدراك البصيرة وشدَّةِ ذكائها، فإنَّ نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطناً فيقْوَى إدراكُها ويعظُم، ولهذا تجد كثيراً من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقَّاد، والفطنة وضياء الحس الباطن، مالاً تكاد تجده عند البصير (2)، ولا ريب أن سَفَر البصر في الجهات والأقطار، ومباشرته للمُبْصَرات على اختلافها، يوجِبُ تفرُّق القلب وتشتيته؛ ولهذا كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة. قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإِسلام من هو أعمى (3)، ولم يُعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش، فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل السمع. قال مُنَازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران: أحدهما: أن مَدْرَك البصر هو النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم، ولا شيءَ أكمل من __________ (1) ليست في (ق). (2) انظر "نكْت الهميان في أخبار العميان": (ص/ 83 - 86) للصفدي. (3) جمعهم الصفدي في كتابه المتقدم.

(1/125)


المنظور إليه سبحانه، فلا حاسَّة في العبد أكمل من حاسَّةٍ تَرَاه بها. الثاني: أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع؛ فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم، ففضِيلته (1) عليه كفضِيْلةِ الغايات على وسائلها. وأما ما ذكرتم من سَعَة إدراكاته وعمومها؛ فيعارضه كثرة الخيانة (2) فيها ووقوع الغلط، فإن الصواب فيما يدركه السمع، بالإضافة إلى كَثْرة المسموعات؛ قليل في كثير، ويقابل كثير مُدْرَكاته صحة مُدْرَكات البصر، وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان؛ بقيَ الترجيح بما ذكرناه. قال شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيمية (3) -قدَّس اللهُ روحَه ونور ضريحه-: "وفَصْل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختصَّ به" تمَّ كلامُه. وقد ورد في الحديث المشهور أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر وعمر: "هَذَانِ السَّمْعُ والبَصَرُ" (4)، وهذا يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون المراد أنهما منِّي بمنزلة السمع والبصر. __________ (1) (ظ): "فتفضيله". (2) تحرفت هذه وما بعدها في (ق) إلى "الجناية". (3) انظر: "الدرء": (7/ 325)، و"الرد على المنطقيين": (ص/ 96). (4) أخرجه الترمذي (3671)، والحاكم: (3/ 69). والحديث أشار الترمذي إلى ضعفه، وصححه الحاكم والألباني، وحسنه الذهبي. انظر "السلسلة الصحيحة" رقم (814).

(1/126)


والثاني: أَنْ يريد أنهما من دين الإِسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين (1)، وعلى هذا فيَحْتَمِلُ وجهين: أحدهما: التوزيع؛ فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر. والثاني: الشركة؛ فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاسَّتين ثابتاً لكلِّ واحد منهما، فكلٌّ منهما بمنزلة السمع والبصر، فعلى احتمال (ق/ 28 أ) التوزيع والتقسيم (2) تكلَّم الناسُ أيهما هو السمع، وأيهما هو البصر، وبَنَوا ذلك على أيُّ الصفتين أفضل؛ فهي صفة الصدِّيق. والتحقيقُ: أنَّ صفة البصر للصديق، وصفة السمع للفاروق، ويظهرُ لك هذا من كون عُمر محدَّثاً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فإِنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ" (3)، والتحديث المذكور هو ما يُلْقَى في القلب من الصوابِ والحقّ، وهذا طريقُه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار للأُذن. وأما الصِّدِّيق: فهو الذي كمَّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنَّه قد باشر بصرُه مما (4) أخبرَ به الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - ما باشرَ قلبُه، فلم يبقَ بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى __________ (1) ويؤيده لفظ الحديث من رواية جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس" أخرجه الخطيب في "تاريخه": (8/ 459)، وفيه كلام من جهة الإسناد، إلا أنَّه صالح للاستشهاد. (2) ليست في (ق). (3) أخرجه مسلم رقم (2398) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (4) (ق): "ما".

(1/127)


ما أَخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يُكْرَم بها، وليس بعد درجة النبوَّة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا هو السِّر الذي سَبَقَ به (1) الصديقُ، لا بكثرةِ صومٍ ولا بكثرةِ صلاة، وصاحب هذا هو الذي (2): يمشي رُوَيداً ويجي في الأوَّل (3) (ظ/ 21 أ) ولقد تعنَّى من لم يكن سَيْره على هذه الطريق وتَشْميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمَّر إليه وإن كان يزحف زحفاً ويحبو حبواً، ولا تستَطِل هذا الفصل، فإنَّه أهم من ما قُصِدَ بالكلام، فليعد إليه. فقيل: تقديم السَّمع على البصر له سببان: أحدهما: أن يكون السِّياق يقتضيه بحيث يكون ذِكْر هاتين: الصِّفتين متضمِّناً للتهديد والوعيد، كما جرت عادةُ القرآن بتهديد المخاطَبين، وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] __________ (1) (ظ): "وهذا هو سبق"!. (2) "هو الذي" ليست في (ظ). (3) تمام البيت: من لي بمثل سَيْرك المدلل ... تمشي رويداً وتجي في الأوّل

(1/128)


والقرآن مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمعُ ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي، وأُبْصِرُ ما يفعلون. ولا ريب أنَّ المخاطَبين بالرسالة بالنِّسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان: أحدهما: قابلوها بقولهم: صَدَقْتَ، ثمَّ عملوا بموجبها. والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثمَّ عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر، فقدّم ما يتعلَّق (1) به على ما يتعلّق بالمبصَر، وتأمَّل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه، وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختصَّ منها بما هذا شأْنُه. والسبب الثاني: أَنَّ إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام، مع غاية البعد بين السامع والمسموع، أشدّ من إنكارها لرؤيته مع بُعْدِه. (ق/ 28 ب) وفي "الصحيحين" (2) عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثةُ نَفَرٍ؛ ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمعُ ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جَهَرْنا ولا يسمع إن أخفَيْنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فهو يسمع إذا أخفينا (3). ولم يقولوا: أترون الله يرانا؟ فكان تقديم السَّمع أهم، والحاجة إلى العلم به أمسّ. __________ (1) من قوله: "بموجبها ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) البخاري رقم (4816)، ومسلم رقم (2775). (3) العبارة معكوسة اللفظ في (ق).

(1/129)


وسببٌ ثالث: وهو أنَّ حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح، وأشدها تأثيراً في الخير والشر، والصلاح والفساد، بل عامَّة ما يترتَّب في الوجود من الأفعال، إنما ينشأ بعد حركة اللسان؛ فكان تقديم الصفة المتعلِّقة به أهم وأولى، وبهذا يُعْلَم تقديمه على العليم حيث وقع. * وأَمَّا تقديم السماء على الأرض؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذَكَره، وهو أن غالب ما تُذكر السَّموات والأرض في سياق آيات الرَّبِّ الدالة على وحدانيته وربوبيته، ومعلومٌ أنَّ الآيات في السموات أعظم منها في الأرض؛ لسَعَتها وعِظَمها، وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعُلُوِّها، واستغنائها عن عَمَد تُقِلّها، أو علاقة ترفعها، إلى غير ذلك من عجائبها التي الأرضُ وما فيها كقطرةٍ في سَعَتها، ولهذا أمر -سبحانه- بأن يرجع الناظرُ البصرَ فيها كرَّةً بعد كرَّة، ويتأمَّل استواءَها واتساقَها وبراءَتها من الخلل والفُطُور، فالآية فيها أعظم من الأرض. وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ -سبحانه وبحمده-. وأَمَّا تقديم الأرض عليها في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] وتأخيرها (1) عنها في (سبأ) فتأمَّل كيف وقع هذا الترتيب في (سبأ) في (2) ضمن قول: الكفار: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] كيف قدَّم السموات هنا؛ __________ (1) (ق): "وتأخرها". (2) (ق): "في سياق ... ".

(1/130)


لأنَّ الساعة إنَّما تأتي من قبلها وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ وتنشأ، ولهذا قدَّم صَعْق أهل السموات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68]. وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونُس (1)؛ فإنَّه لما كان السِّياقُ سِياقَ تحذيرٍ وتهديدٍ للبشر، وإعلامهم أنَّه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقِهَا وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيءٌ؛ اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء. فتبارك من أودع كلامَه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنَّه كلام الله! وأن مخلوقاً لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبداً!!. * وأمَّا تقديم المال على الولد؛ فلم يَطَّرد في القرآن، بل قد جاء مقدَّماً كذلك في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سبأ: 37] وقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقوله تعالى: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ (ق/ 29 أ) وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] وجاء ذكر البنين (ظ/ 21 ب) مقدَّماً كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة: 24]، وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14]. فأمَّا تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة؛ فلأنَّها ينتظمها معنىً واحد، وهو التحذير من الاشتغال بها، والحرص على تحصيلها حتَّى __________ (1) (ظ): "يس"! والآية في سورة يونس رقم (61): {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.

(1/131)


يفوته حظُّه من الله والدَّار الآخرة، فنهى في موضعٍ عن الالتهاء بها، وأخبر في موضعٍ أَنَّها فتنة، وأخبر في موضع آخر أَنّ الذي يقرِّب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح، لا أموالهم ولا أولادهم، ففي ضِمْن هذا النَّهْي عن الاشتغال بها عما يُقرِّب إليه، ومعلومٌ أَنَّ اشتغال الناس بأموالهم، والتباهي (1) بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم، وهذا هو الواقع، حتَّى إنَّ الرجلَ ليستغرقه اشتغاله بماله؛ عن مصلحةِ ولده وعن معاشرتِهِ وقربِهِ. وأما تقديمهم على الأموال في تَيْنك الآيتين؛ فلحكمةٍ باهرة وهي: أَنَّ آية (2) براءة متضمِّنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أنَّ تصوُّر المجاهد فراقه أهله، وأولاده، وآبائه، وإخوانه، وعشيرته، يمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقة ماله، فإن تصوَّر مع هذا أن يُقتل فيفارقهم فراقَ الدَّهر، نفرت نفسُه عن هذه (3) أكثرَ وأكثرَ، ولا يكاد عند هذا التصوُّر يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال! فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال. وتأمُّل هذا الترتيبِ البديع في تقديم ما قدَّم وتأخير ما أخَّر؛ يُطلعك على عظمةِ هذا الكلام وجلالته. فبدأ أولاً بذكر أصول العبد، وهم آباؤه المتقدِّمون طبعاً وشرفاً ورتبة، وكان فخرُ القوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم __________ (1) (ق): "والتهاؤهم". (2) ليست في (ظ). (3) (ق): "هذه الفرقة".

(1/132)


عن أنفسهم وأموالهم، وحتَّى عن أبنائهم، ولهذا حملتهم محاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احْتَملوا القتل وسَبْيَ الذُّرِّية، ولا يشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة، ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم. ثمَّ ذَكَر الفروع؛ وهم الأبناء لأنَّهم يَلُونهم في الرُّتبة وهم أقرب أقاربهم إليهم، وأعلق بقلوبهم (1)، وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة. ثمَّ ذكر الإخوان، وهم الكلالة وحواشي النَّسب. فَذَكَر الأصول أولاً، ثمَّ الفروع ثانياً، ثم النُّظراء ثالثاً، ثمَّ الأزواج رابعاً؛ لأنَّ الزوجة أجنبية عنده، ويمكن أن يتعوَّض عنها بغيرها، وهي إنما تُرَادُ للشَّهوة، وأما الأقارب؛ من (2) الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم ويُرادون للنُّصْرة والدفاع، وذلك مقدَّم على مجرَّد الشهوة. ثمَّ ذَكَر القرابة البعيدة خامساً، وهي العشيرة وبنو العم، فإن عشائرهم (ق/29 ب) كانوا بني عمِّهم غالباً، وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير. ثمَّ انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادساً، ووصفها يكونها مُقْترفة، أي: مُكْتَسَبَة؛ لأنَّ القلوبَ إلى ما اكتسبته من المال أمْيَل، وله أحَب، وبقدره أعْرَف لما حصل له فيه من التَّعب والمشقة، بخلاف مالٍ جاءه عَفْواً بلا كسبٍ (3)؛ من ميراثٍ أو هبة أو وصية، __________ (1) "وأعلق بقلوبهم" ساقطة من (ق). (2) (ق): "و". (3) (ق): "مشقة كسب".

(1/133)


فإنَّ حِفْظه للأوَّل، ومراعاته له، وحرصه على بقائه أعظم من الثاني، والحسُّ شاهد بهذا وحسبك به. ثمَّ ذكر التجارة سابعاً؛ لأنّ محبةَ العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقْتَرَف، فقدَّم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها، ثمَّ وصف التجارة بكونها مما يُخشى كَسَادُها، وهذا يدلُّ على شرفها وخطرها، وأَنه قد بلغ قدرها إلى أَنها مَخُوْفة الكساد. ثمَّ ذكر الأوطان ثامناً آخر المراتب؛ لأنَّ تعلُّق القلب بها دون تعلُّقه بسائر ما تقدَّم، فإن الأوطان [تتشابه] (1)، وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأوَّل من كل وجه، ويكون خيراً منه، فمنها عِوَض. وأمَّا الآباء والأبناء والأقارب والعشائر [والأموال] (2)، فلا يتعوَّض منها بغيرها، فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأوّل؛ فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم، فمحبة الوطن آخر المراتب، وهذا هو الواقع إلا لعارض (3) يترجَّح عنده إيثار البعيد على القريب، فذلك جزئي لا كلِّي، فلا تناقض به. وأما عند عدم العوارض فهذا هو الترتيب المناسب والواقع. وأما آية (آل عمران)؛ فإنَّها لما كانت في سياق الإخبار بما زُيِّن للناس من الشَّهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها، قدَّم ما تَعَلُّق الشهوة به أقوى، والنفس إليه أشدّ سُعراً (4) (ظ/22 أ) وهو __________ (1) (ق وظ): "متشابه" والصواب ما أثبت. (2) من (ق). (3) (ق): "لمعارض". (4) (ق): "والنفس أشد إليه سفراً".

(1/134)


النساء، التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا، وهن القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله. ثمَّ ذكر البنين المتولِّدين منهنَّ، فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته. ثم ذكر شهوة الأموال؛ لأنها تُقْصَد لغيرها، فشهوتها شهوة الوسائل، وقدَّم أشرف أنواعها وهو الذهب، ثمَّ الفضة بعده. ثمَّ ذكر الشهوة المتعلِّقة بالحيوان الذي لا يُعَاشَر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهما، وقدَّم أشرف هذا النوع وهو (الخيل) فإنها حصون القوم ومعاقلهم، وعِزُّهم وشرفهم، فقدمها على الأنعام التي هى الإبل والبقر والغنم. ثمَّ ذكر الأنعام وقدَّمها على الحرث؛ لأنَّ الجمالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ من الحرث، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] والانتفاع بها أكثر من الحرث، فإنها يُنتفع بها؛ ركوباً وأكلاً وشرباً ولباساً وأمتعة (ق/30 أ) وأسلحة ودواء وقُنْية، إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع. وأيضاً فصاحبها أعزّ من صاحب الحرث وأشرف، وهذا هو الواقع، فإن صاحب الحرث لابدَّ له من نوع مَذَلَّة، ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سِكَّة: ما دخل هذا دارَ قومٍ إلا دخلهم الذُّلُّ، فجَعَلَ الحرثَ في آخر المراتب، وضعاً له في موضعه. ويتعلَّقُ بهذا نوع آخر من التقديم لم يَذْكُرْه، وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث وقع في القرآن، إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ

(1/135)


بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111]. وأمَّا سائر المواضع فَقَدَّم فيها المال، نحو قوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11]، وقوله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] وهو كثير. فما الحكمة في تقديم المال على النفس؟ وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟. وهذا لم يتعرض له السُّهيلي - رحمه الله -، فيقال: أولاً: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، فإذا دَهَمَ العدوُّ؛ وجبَ على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً؛ وجبَ عليه أن يغزي (1) بماله، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، والأدلَّة عليها أكثر من أَنْ تُذْكَر هنا. ومن تأمَّل أحوالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد؛ قَطَعَ بصحَّة هذا القول. والمقصود تقديم المال في الذكر، وأن ذلك مشعر بإنكارِ وَهْم من يتوهَّم أن العاجز بنفسه إذا كان قادراً على أن يغزي بماله لا يجب عليه شيء، فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال، فكيف يقال: لا يجب به!. ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس؛ لكان هذا القول أصح من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بَيِّن، وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذِّكْر. وفائدة ثانية: -على تقدير عدم الوجوب- وهي: أَنَّ المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله، وترتكب الأخطار، __________ (1) (ظ ود): "يكتري".

(1/136)


وتتعرَّض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنَّه هو (1) محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بَذْل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته، فإنَّ المقصود أن يكون الله هو أحبّ شيءٍ إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبَهم في حبه؛ نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها وهي: بَذْل نفوسهم له، فهذا غاية الحبّ، فإنّ الإنسان لا شيءَ أحبّ إليه من نفسه، فإذا أحبّ شيئاً بذل له محبوبَه من نفعِه ومالِه، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضَنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه، هذا هو الغالب، وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية. ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده (2)، فإذا أحسَّ بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه (ق/30 ب) فرَّ وتركهم، فلم يرضَ اللهُ من مُحبِّيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها. وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب، فإنَّ العبدَ يبذل ماله أولاً يقي به نفسَه، فإذا لم يبق له مال بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع. وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111]؛ فكان تقديم الأنفس (ظ/ 22 ب) هو الأولى؛ لأنها هي المشتراة بالحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّتَه، فكانت هي المقصود بعَقْد الشراء، والأموال تبعٌ لها، فإذا مَلَكها مشتريها مَلَك مالَها، فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه __________ (1) ليست في (ق). (2) (ق): "عن نفسه وماله وولده".

(1/137)


شيءٌ، فالمالك الحقُّ إذا مَلَك النفس مَلَك أموالَها ومتعلَّقاتها، فَحَسُنَ تقديم النفس على المال في هذه الآية حُسْناً لا مزيدَ عليه. * فلنرجع إلى كلام السهيلي (1) -رحمه الله-: وأما ما ذكره من تقديم "الغفور" على "الرحيم"؛ فحسنٌ جدّاً، وأما تقديم "الرحيم" على "الغفور" في موضع واحد، وهو أول (سبأ)؛ ففيه معنىً غير ما ذكره يظهر لمن (2) تأمَّل سياقَ أوصافه العُلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، فإنَّه ابتدأ -سبحانه- السورةَ يحمده الذي هو أَعمُّ المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمِّن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله مُسْتلزم لها، كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كلِّ حالة، وعلى كلِّ ما خلقه وشرعه، ثمَّ عقَّب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1]، ثمَّ عقَّبه بأنّ هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبداً، فإنَّه حَمْد يستحقّه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته؛ دائم بدوامه لا يزول أبداً، وقرن بين الملك والحمد على عادته -تعالى- في كلامه، فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكلِّ واحدٍ منهما، فله كمال من ملكه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حَمْد يستلزمُ نقصاً، والحمدُ بلا ملكٍ يستلزم عجزاً، والحمد مع الملك غاية الكمال. ونظير هذا العِزَّة والرحمة، والعَفْو والقدرة، والغِنى والكرم، فوسَّط الملك بين الجملتين، فجعله محفوفاً بحمدٍ قبله وحمدٍ بعده، __________ (1) يعني: إلى نقده والتعليق عليه. (2) (ق): "مِن".

(1/138)


ثمَّ عقَّب هذا الحمد والملك باسمَي (1) (الحكيم الخبير) الدَّالَّين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلّق بمرادٍ (2) إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم، وأنه (3) كما يتعلَّق بظواهر المعلومات؛ فهو متعلّق ببواطنها التي لا تُدرَك إلا بخبرَةٍ، فنسبةُ الحكمةِ إلى الإرادة كنسبة الخبرةِ إلى العلم، فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر، والخبرة باطنة، فكمال الإرادة: أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم: أن يكون كاشفاً عن الخبرة، فالخبرة: باطن العلم وكماله، والحِكْمة: باطن الإرادة وكمالها. فتضمَّنت الآية إثبات حمده وملكه، وحِكمته وعلمه، على أكمل الوجوه. ثمَّ ذكر (ق/31 أ) تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العُلْوي والسُّفْلي، فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2]. ثمَّ ختم الآية بصفتين تقتضيان غايةَ الإحسان إلى خَلْقه، وهما: الرحمة والمغفرة، فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتمِّ الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم (4) ويهب لهم ذنوبَهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته، فقال: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] فتضمَّنت هذه الآية سَعَة علمه ورحمته وحِلْمه ومغفرته. وهو سبحانه يَقْرن (5) بين سَعَة العلم والرحمة، كما يَقْرن بين __________ (1) (ظ): "باسم". (2) ليست في (ق). (3) (د): "ذاته". (4) (ق): "زللهم". (5) (ق): "يفرق" في الموضعين، وهو تحريف.

(1/139)


العلم والحلم (1)، فمن الأوّل: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، ومن الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] فما قُرِن شيءٌ إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن رحمة إلى علم. وحَمَلة العرش أربعة (2)؛ اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم؛ لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسُن مع العلم. وقدَّم "الرحيم" في هذا الموضع لتقدُّم صفة العلم، فحَسُن ذكر "الرحيم" بعده ليقترن به فيطابق قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. ثمَّ ختم الآيةَ بذكر صفة المغفرة لتضمُّنها دفع الشر وتضمّن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدَّماً على جلب الخير، قدم اسم "الغفور" على "الرحيم" حيثُ وقع. ولما كان في هذا الموضع معارض يقتضي تقديم اسمه "الرحيم" لأجل ما قبله؛ قُدِّم على "الغفور". * وأما قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ فقد أبعد النُّجْعَة فيما تعسَّفه من فائدة التقديم، وأتى بما ينبو اللفظُ عنه. __________ (1) (ق): "الحكم" في كل المواضع بعدها حتى الآية، وما في (ظ ود) أصح. (2) كذا في الأصول، وفي عدد من كتب المؤلف؛ لكن الذي أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (3/ 954)، والذهبي في "العلو" (1/ 571) عن بعض السلف: أن حملةَ العرش ثمانية؛ أربعة يقولون كذا ... وأربعة يقولون كذا ...

(1/140)


وقال غيره: السجود كان في دينهم قبل الركوع (ظ/33 أ) وهذا قائل ما لا علم له به!!. والذي يظهر في الآية -والله أعلم بمراده من كلامه-: أنها اشتملت على مُطلق العبادة وتفصيلها، فذكر الأَعَمّ، ثمَّ ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص، فذكر القنوت (1) أولاً، وهو الطاعة الدائمة، فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة، ثمَّ ذَكَر ما هو أخص منه، وهو السجود الذي يُشْرَع وحده؛ كسجود الشكر والتلاوة، ويُشْرَع في الصلاة؛ فهو أخص من مطلق القنوت، ثم ذكر الركوع الذي لا يُشْرَع إلا في الصلاة، فلا يُسَن الإتيان به منفرداً (2)، فهو أخص مما قبله. ففائدة الترتيب: النزول من الأعم، إلى الأخص، إلى (3) أخص منه، وهما طريقتان معروفتان في الكلام: النزول من الأعم إلى الأخص، وعكسها وهو الترقِّي من الأخص، إلى ما هو أعم منه، إلى ما هو أعم (4). ونظيرها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، فذكرَ أربعةَ أشياء؛ أخصها الركوع، ثمَّ السجود أعم منه، ثمَّ العبادة أعم من السجود، ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله. __________ (1) من قوله: "أنها اشتملت ... " إلى هنا سقطت من (ق). (2) (ق): "متفرقاً". (3) "الأخص، إلى" ساقط من (ق). (4) "إلى ما هو أعم" ساقط من (ق).

(1/141)


والذي يزيد هذا وضوحاً: الكلامُ على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ (ق/31 ب) وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، فإنَّه ذكر أخصَّ هذه الثلاثة، وهو الطواف الذي لا يُشْرَع إلا بالبيت خاصَّة، ثمَّ انتقل منه إلى الاعتكاف، وهو القيام المذكور في الحج (1)، وهو أعم من الطواف؛ لأنه يكون في كلِّ مسجدٍ، ويختصّ بالمساجد لا يتعدَّاها، ثمَّ ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض، سوى ما منع منه مانع أو اسْتُثْني شرعاً. وإِن شئتَ قلتَ: ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثمَّ الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد، ثمَّ الصلاة التي تكون في البلد كلِّه، بل في كلِّ بُقعة، فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة، وله -رحمه الله- مزيد السَّبْق وفَضْل التقدُّم. وابنُ اللَّبُوْنِ إِذَا مَا لُزَّ في قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيْسِ (2) * * * __________ (1) آية: 26. (2) البيت لجرير، "ديوانه": (ص/ 250).

(1/142)


[مسائل في المثنى والجمع] (1) الواو والألف في "يفعلون ويفعلان" أصل للواو والألف في "الزيدون والزيدان"، فإنما جعلنا ما هو في (2) الأفعال أصلاً لما هو في الأسماء؛ لأنها إذا كانت في الأفعال كانت اسماً وعلامة جمع، وإذا كانت في الأسماء كانت علامة محضة لا أسماء (3)، وما يكون اسماً وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفاً في موضع آخر، إذا كان اللفظ واحداً، نحو كاف الضمير وكاف المخاطبة في ذلك، وهذا أولى بِنَا من أن نجعل الحرف أصلاً والاسم فرعاً له، يدلُّك على هذا: أَنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إلا ما كان فيه معنى الفعل كـ "المسلمون" و"الصالحون"، دون "رجلون" و"خيلون". فإن قيل: فالأعلام ليس فيها معنى الفعل، وقد جمعوها كذلك؟. قيل: الأسماء الأعلام لا تجمع هذا الجمع إلا وفيها الألف واللام، فلا يقال: جاءني زيدون و (4) عمرون، فدلَّ على أنهم أرادوا معنى الفعل، أي: الملقبون بهذا الاسم، والمعرفون بهذه العلامة، فعاد الأمر إلى ما ذكرنا. وأما التثنية؛ فمن حيث قالوا في الفعل: "فَعَلا" و"صَنَعا" لمن __________ (1) انظر "نتائج الفكر": (ص/107 - 111). (2) (ظ ود): "من". (3) "النتائج": "كانت حرفاً علامة جمع". (4) (ق): "ولا".

(1/143)


يعقل وغيره، ولم يقولوا "صنعوا" إلا لمن يعقل، لم يجعلوا الواو علامةً للجمع في الأسماء إلا فيما يعقل؛ إذ كان فيه معنى الفعل، ومن حيث اتفق معنى التثنية ولم يختلف، اتفقَ لفظُها كذلك في جميع أحوالها ولم يختلف، واستوى فيها العاقل وغيره. ومن حيث اختلفت (1) معاني الجموع بالكثرة والقلة اختلفت ألفاظها، ولما كان الإخبار عن جمع مالاً يعقل يجري مجرى [الجُمَّة] (2) والأمة والثُّلة، لا يقصد به في الغالب إلا الأعيان المجتمعة على التخصيص، لا كل منهما على التعيين، كان الإخبار عنها بالفعل كالإخبار عن الأسماء المؤنثة؛ إذ الجُمَّة والأمة وما هو في ذلك المعنى أسماء مؤنثة. ولذلك قالوا: "الجِمال ذَهَبت" و"الثياب بِيْعَت"؛ إذ لا يتعين في قصد الضمير كلّ واحد منها (3) في غالب الكلام والتفاهم بين الأنام. ولما كان الإخبار عن جمع ما يعقل (4) بخلاف ذلك، وكان كلُّ واحد من الجمع يتعين غالباً في القصد إليه والإشارة، وكان اجتماعهم في الغالب عن مَلإٍ منهم (5) وتدبير وأغراض (ظ/23 ب) عقلية، جُعِلَت لهم علامة تختص بهم تنبئ عن الجمع المعنوي، كما هي في " (ق/32 أ) ذاتها جمع لفظي، وهي "الواو"؛ لأنها ضامَّة بين الشفتين __________ (1) في الأصول: "اختلف" والمثبت من "النتائج"، والموضع الآخر كذلك في (ظ ود). (2) في الأصول ومخطوطات النتائج: "الجملة" والصواب ما هو مثبت، نبّه عليه د/ البنا محقق "النتائج". والجُمَّة هي: الجماعة. وهذا التصويب يجري على الموضع الذي بعد هذا أيضاً. (3) (ظ ود): "منهما". (4) (ق): "ما لا يعقل"، وهو خطأ. (5) (ظ ود): "ملازمتهم"!.

(1/144)


وجامعة لهما، وكل محسوس يعبر [به] عن معقول، فينبغي أن يكون مُشاكِلاً له، فما خلق الله الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقةً للأرواح في صفاتها المعقولة، ولا وضع الألفاظ في لسان آدم وذُرِّيته إلا موازنةً للمعاني التي هي أرواحها، وعلى نحو ذلك خُصَّت "الواو" بالعطف؛ لأنه جمع في معناه، وبالقَسَم؛ لأنَّ واوه في معنى واو العطف. وأما اختصاص "الألف" بالتثنية، فلقرب التثنية (1) من الواحد في المعنى، فوجب أن يَقْرُب لفظُها من لفظِه. وكذلك لا يتغيَّر بناء الواحد فيها كما لا يتغير في أكثر الجموع، وفعلُ الواحد مبني على الفتح، فوجبَ أن يكون فعل الاثنين كذلك، وذلك لا يمكن مع غير "الألف". فلما ثبت أن الألف بهذه العلة ضمير الاثنين كانت علامةً للاثنين في الأسماء، كما فعلوا في "الواو" حين كانت ضمير الجماعة في الفعل جُعِلَت علامةً للجمع في الأسماء. وأما إلحاق "النون" بعد حرف المد في هذه الأفعال الخمسة، فحُمِلت على الأسماء التي في معناها المجموعة جمع السلامة والمثنَّاة، نحو "مسلمون" ومسلمان (2)، وهي في تثنية الأسماء وجمعها عِوَض مِن التنوين كما ذكروا، ثمَّ شبَّهوا بها هذه الأمثلة الخمسة وألحقوا النون فيها في حال الرفع؛ لأنّها إذا كانت مرفوعةً كانت واقعةً موقعَ الاسم، فاجتمعَ فيها وقوعُها موقعَ الاسم (3) ومضارعتُها له في اللفظ؛ لأن آخرها حرف مدٍّ ولِين، ومشاركتها له __________ (1) "فلقرب التثنية" سقطت من (ق). (2) (ظ ود): "مسلمات"!. (3) "فاجتمع ... " سقط من (ق).

(1/145)


في المعنى، فألحق فيها النون عِوَضاً مِن حركة الإعراب حَمْلاً على الأسماء، كما حُمِلت الأسماءُ عليها، فجُمِعت بالواو والياء. فالنون في تثنية الأسماء وجمعها أصل للنون في تثنية الأفعال وجمعها -أعني علامة الإعراب (1) - هي أصلٌ لحروفِ المدِّ (2) في تثنية الأسماء وجمعها، التي هى علامات إعراب، وحروف إعراب كما تقدم. فإن قيل: فهلا أثبتوا هذه النون في حال النصب والجزم من الأمثلة الخمسة؟. قلنا (3): لعدم العلة المتقدمة، وهي وقوعها موقع الاسم، وأنت إذا أدخلت النواصب والجوازم لم تقع موقع الأسماء؛ لأنَّ الأسماء لا تكون بعد عوامل الأفعال، فبعدت عن الأسماء، ولم يبق فيها إلا مضارعتها لها في اتصال حروف المدِّ بها، مع الاشتراك في معنى الفعل. فإن قيل: فأين الإعراب فيها في حال النصب والجزم؟. قلنا: مقدَّر، كما هو في كل اسم وفعل آخره حرف مدّ ولِيْن، سواءٌ (4) كان حرف المد زائداً أو أصلياً، ضميراً أو حرفاً، كـ: يرمي والقاضي، وعصا ورَحَى وسَكْرى وغُلامي، إلا أنَّه مع هذه الياء مقدَّر قبلها -أعني الإعراب-، وهو في: يرمي ويخشى ونحوه مقدَّر في __________ (1) في إحدى نسخ "النتائج": "الإضمار". (2) (ظ ود): "الحروف والمد". (3) سقطت من (ظ). (4) (ظ ود): "سواء. وسواءٌ".

(1/146)


نفس الحرف لا قبله؛ لأنه لا يتقدَّر إعراب اسم في غيره. وإذا ثبت ذلك فقولك: "لن تفعلوا" و"لن تفعلي"، إعرابه مقدر قبل الضمير في لام الفعل، كما هو كذلك في غلامي، وليس زوال النون وحذفها هو الإعراب، لأنه يستحيل (1) أن يَحُوْل (ق/ 32 ب) بين حرف الإعراب وبين إعرابه اسمٌ فاعلٌ أو غيرُ فاعلٍ، مع أن العدم ليس بشيءٍ، فيكون إعراباً وعلامة لشيءٍ في أصل الكلام ومعقوله (2). وأما فِعْل جماعة النساء؛ فكذلك -أيضاً- إعرابه مقدَّر قبل علامة الإضمار، كما هو مقدَّر قبل الياء من غلامي، فعلامة الإضمار (3) منعت من ظهوره لاتصالها بالفعل، وأنها كبعض حروفه، فلا يمكن تعاقب الحركات على لام الفعل معها، كما لم يُمكن ذلك مع ضمائر الفاعلين المذكورين، ولا مع الياء في (4) غلامي. ولا يمكن أيضاً أن يكون (5) الإعراب في نفس النون؛ لأنها ضمير الفاعل فهي غير الفعل، ولا يكون إعرابُ شيءٍ في غيره، ولا يمكن -؟ أيضاً- أن يكون بعدها؛ فإِنه مستحيل في الحركات، وبعيد كلَّ البعد في غير الحركات أن يكون إعراباً، وبينه وبين حرف الإعراب اسم أو (6) فعل، فثبت أنَّه مقدَّر كما هو في جميع الأسماء والأفعال المعربة التي لا يقدر على ظهور الإعراب فيها لمانع كما تقدم. __________ (1) (ق): "لا يستحيل". (2) (ظ ود): "ومفعوله". (3) (ق): "الإعراب". (4) (ظ ود): "مع". (5) (ق): "أن يكون بعدها ... ". (6) (ق): "و".

(1/147)


فإن قيل: فقد أثبتم أن فعل جماعة المؤنث معرب، وهذا خلاف لسيبويه ومن وافقه من النحويين، فإنهم زعموا أنَّه مبني، وإن اختلفوا في علة بنائه؟ قلنا: بل هو وِفاق لهم؛ لأنهم علَّمونا وأصَّلوا لنا أصلاً صحيحاً، فلا ينبغي لنا أن ننقضه ونكسره عليهم، وهو وجود (ظ/24 أ) المضارَعَة الموجبةِ للإعراب، وهي موجودة في "يَفْعَلْنَ" و"تَفْعَلْنَ"، فمتى وُجِدت الزوائدُ الأربع وُجِدت المضارعة، وإذا وُجدت المضارعة وُجد الإعراب. فإن قيل: فهلَّا عوَّضوا من حركة الإعراب في حال رفعه نوناً (1) كما فعلوا في "يفعلون"؛ لأنه -أيضاً- واقع موقع الاسم؟. قلنا: قد تقدم ما في "يفعلون" و"يفعلان" من وجوه الشَّبه بينه وبين جمع السلامة في الأسماء، فمنها: الوقوع موقع الاسم، ومنها: المضارَعَة في اللفظ من جهة حروف المدِّ واللِّين، وهذا الشبه معدوم في "يَفْعَلْنَ" من جهة اللفظ؛ لأنه ليس مثل لفظ "فاعلين" ولا "فاعلات"، وإن كان واقعاً موقعه في حال الرفع. فائدة (2) لما كانت الأيام متماثلة لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية ولا معنوية؛ لم يبقَ تمييزها إلا بالأعداد، ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخوذة من العدد، نحو: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، أو بالأحداث الواقعة فيها؛ كيوم بُعَاث ويوم بدر ويوم الفتح، ومنه: يوم الجمعة، وفيه قولان: __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) بنحوه في "نتائج الفِكْر": (ص/113).

(1/148)


أحدهما: لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثاني: -وهو الصحيح- لأنَّه اليوم الذي جمع فيه الخلق وكمل، وهو اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء. وأما يوم السبت: فمن القطع كما تُشْعِر به هذه المادة، ومنه (1) السُّبَات لانقطاع الحيوان فيه عن التحرُّك والمعاش. والنِّعال السبتية التي قُطِع عنها الشعر، وعِلَّة السُّبات التي تقطع العليل عن الحركة والنطق، ولم يكن يوماً من أيام تخليق العالم، بل ابتداء أيام التخليق (ق/ 33 أ) الأحد، وخاتمتها الجمعة، وهذا أصحّ القولين، وعليه يدل القرآن وإجماعُ الأمةِ على أن أيامَ تخليقِ العالم (2) ستة، فلو كان أولها السبت لكانت سبعة. وأما حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في "صحيحه" (3): "خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ"؛ فقد ذكرَ البخاريُّ في "تاريخه" (4): أنَّه حديث مَعْلول، وأن الصحيح أنَّه قول كعب، وهو كما ذكر؛ لأنه يتضمَّن أن أيام التخليق سبعة، والقرآن يرده (5). واعلم أنّ معرفة أيام الأسبوع لا يعرف بحسٍّ ولا عقل ولا وضع يتميز به الأسبوع عن غيره، وإنما يُعلم بالشرع، ولهذا لا يَعْرف أيامَ الأسبوع إلا أهل الشرائع، ومن تلقَّى ذلك عنهم وجاورهم، وأما __________ (1) (ق): "ومن اليوم ... ". (2) من قوله: "بل ابتداء ... " إلى هنا ساقط من (د). (3) رقم (2789). (4) "التاريخ الكبير": (1/ 413 - 414) وكعب هو: كعب الأحبار. (5) وانظر في الكلام على الحديث: "منهاج السنة": (7/ 215)، و"الأنوار الكاشفة": (ص/ 188 - 193) للمعلمي، و"السلسلة الصحيحة" رقم (1833).

(1/149)


الأمم التي لا تدين بشريعة ولا كتاب؛ فلا يتميز الأسبوع عندهم من غيره، ولا أيامه بعضها من بعض، وهذا بخلاف معرفة الشهر والعام، فإنَّه بأمرٍ محسوس. فائدة (1) في "اليوم" و"أمس" و"غد"، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه. اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه، فيقال: "فعلت اليوم"، فذكر الاسم العام ثمَّ عُرِف بأداة العهد، ولا شيءَ أعرفَ من يومك الحاضر، فانصرفَ إليه، ونظيره "الآن" من آن، و"الساعة" من ساعة، وأما "أمس" و"غد"؛ فلما كان كل واحد منهما متصلاً بيومك اشتُقَّ له اسم من أقرب ساعةٍ إليه، فاشْتُق لليوم الماضي أمس الملاقي للمساء، وهو أقرب إلى يومك من صاحبه، أعني: صباحَ غدٍ، فقالوا: أمس، وكذلك قالوا: "غد" اشْتُق له اسم (2) من الغدوِّ، وهو أقرب إلى يومك من مسائه، أعني: مساءَ غدٍ. وتأمل كيف بنوا "أمس" وأعربوا "غداً"؛ لأن "أمس" صِيْغ من فعل ماض وهو أمسى، وذلك مبنيّ، فوضعوا أمس على وزن الأمر من (3) أمسى يُمسي، وأما "الغد" فإنَّه لم يؤخذ من مبنيّ إذ لا يمكن أن يقال: هو مأخوذ من "غدا"، كما (4) يمكن أن يقال "أمس" من "أَمسى"، بل أقصى ما يمكن فيه أن يكون من "الغدوِّ" و"العُدْوة"، __________ (1) أصله في "النتائج": (ص/113 - 116) مع تصرُّف كبير وإضافة. (2) (ظ): "وكذلك غد اشتق الاسم ... ". (3) من قوله: "وكذلك قالوا ... " إلى هنا ساقط من (د). (4) (ق): "كما لا".

(1/150)


وليسا بمبنيين، وهذه العلة أحسن من علة النحاة أن "أمس" بُنِيَ لتضمنه معنى اللام، وأصله الأمس. قالوا: لأنهم يقولون: "أمسِ الدابر" فيصفونه بذي اللام، فدلّ على أنَّه معرفة، ولا يمكن أن يكون معرفة إلا بتقدير اللام، وهذا أولاً منقوض بقولهم: "غداً الآتي"، فيلزم على طرد علتهم أن يبنوا "غداً". وأيضاً: فإن "أمس" جرى مجرى الأَعلام، وهو -والله أعلم- بمنزلة: "إصْمِت" "وأطْرِقا" (1) مما جاء منها بلفظ الأمر اسم علم لمكان، يقول الرجل لصاحبه فيه: "اصمت" إذا [جاوره]، فـ"اصمت" في المكان كـ"أمس" في الزمان، ولعله (2) أُخِذَ من قولهم (ظ/24 ب): "أمس بخير" و"أمس معنا" ونحوه، ولا يقال: كيف يدعى فيه العلمية مع شِياعه (3) لأنا نقول: علميته ليست كعلمية "زيد" و"عمرو" بل كعلمية "أسامة" و"ذؤالة"، و"برة" و"فجار" (ق/33 ب) وبابه مما جعل الجنس فيه بمنزلة الشخص في العلم الشخصي. فإن قيل: فما الفرق بينه وبين (4) اسم الجنس إذاً؟. قيل: هذا مما أعضلَ على كثيرٍ من النُّحاة حتى جعلوا الفرق بينهما لفظيّاً فقط، وقالوا: يظهر تأثيره في منع (5) الصرف، ووصفه بالمعرفة، وانتصاب الحال عنه، ونحو ذلك، ولم يهتدوا لسرِّ الفرق __________ (1) اسما علم لمواضع، انظر "معجم البلدان": (1/ 212، 218). (2) (ق): "وأصله". (3) كذا بالأصول. (4) (ظ): "وهو" و (د) ساقطة. (5) (ق): "معنى".

(1/151)


بين أنَّ موضعَ اللفظ لواحدٍ منهم منكر شائع في الجنس، ولمسمَّى الجنس المطلق، فهنا ثلاثة أمور تَتبعها ثلاثةُ أوضاع: أحدها: واحد (1) معرف معين من الجنس له العلم الشخصي كـ "زيد". والثاني: واحد منهم شائع في الجنس، غير معرف فله الاسم النكرة كـ "أسد" من الأسد. الثالث: الجنس المتصوَّر في الذِّهن، المنطبق على كلِّ فردٍ من أفراده، وله عَلَم الجنس كـ"أُسامة"، فنظير هذا "أمس" في الزمان، ولهذا وُصِف بالمعرفة، فاعْلَق بهذه الفائدة التي لا تجدها في شيءٍ من كتب القوم، والحمد لله الواهب (2) المانّ بفضله. فائدة (3) المشهور (4) عند النحاة أن حذف لام "يد" و"دم" و"غد"، وبابه حذف اعتباطي لا سبب له؛ لأنهم لم يروه جارياً على قياس الحذف، وقد يظهر فيه معنى لطيف وهو: أن الألفاظ جُعِلت قوالب للمعاني و [مكاسي] (5) لها، تزيد بزيادتها، وتنقص بنقصانها، وهذه الألفاظ (6) أصلها المصادر الدالة على الأحداث، فأصل "غد" مصدر غَدَا __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) (ظ): "الوهاب"، و (د): "الوهاب المنان". (3) بنحوه في "النتائج": (ص/ 115). (4) ليست في (د). (5) (ق): "مكاسل" ولعل الصواب ما أثبت، وانظر ما سيأتي ص/ 189 السطر الثاني. (6) من قوله: "جُعِلت قوالب ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/152)


يغدو غَدْواً، بوزن رَمَى، وأصل "م" دَمِيَ، بوزن فَرِحَ مصدر دَمِيَ يَدْمَى كبَقِيَ يَبْقَى. وأصل "يد" كذلك "يَدِي" من يَدَيْتُ إليه يَدْياً ثمَّ حذفوا، فقالوا: يداً، وكذلك "سم" أصله: "سمو" من: سما يَسْمو سموّاً، كعلم يعلم علماً، فلما زُحْزِحت عن أصل موضوعاتها وبقي فيها من المعنى الأوّل ما يُعلم أنها مشتقة منه؛ حُذِفت منها لاماتها بإزاء ما نقص من معانيها، ليكون النقص في اللفظ موازياً للنقص في المعنى، فلا يستوفي حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأَسْرِه. فائدة (1) دخول الزوائد على الحروف الأصلية مُنْبِئة [عن] معانٍ زائدة (2) على معنى الكلمة التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه، فإن كان المعنى الزائد آخراً كانت الزيادة آخراً، كنحو "التاء" في "فعلت"؛ لأنها تُنبئ عما رُتْبته بعد الفعل، وإن كان المعنى الزائد أولاً، كانت الزيادة الدالة عليه سابقة على حروف الكلمة، كالزوائد الأربع، فإنها تُنبئ أن الفعل لم يحصل بَعْدُ لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءاً من الزمان، وكان الحرف الزائد السابق لِلَّفظ مشيراً (3) في اللسان إلى [ذلك] الجزء من الزمان، مُرتَّباً في البيان على حسب ترتب المعنى في الجَنَان، وكذلك حكم جميع ما يَرِد عليك في كلامهم. فإن قيل: فهلَّا كانت الياء مكان "التاء" و"الهمزة". __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 117). (2) (ق): "مبنية معنى زائد". (3) (ق): "متيسراً" و (د): "ميسر"!.

(1/153)


قيل: أصل هذه الزوائد "الياء"؛ بدليل كونها في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكَّر ومؤنَّث، وهو فعل جماعة النساء، فإنك إذا قلت: النسوة يقمن، (ق/ 34 أ) فالفرق حاصل بالنون. وأيضا: فأصل الزيادة لحروف المدِّ واللين، والواو لا تزاد أولًا لئلا يشتبه بـ "واو" العطف، والألف يتعذَّر أولًا لسكونها، فلم يبق إلا "الياء" هي الأصل، فلما أريد الفرق كانت الهمزة للمتكلم أولى؛ لإشعارها بالضمير المستتر في الفعل؛ إذ هي أول حروف ذلك الضمير إذا برز، فلتكن مشيرة إليه إذا خَفِيَ. وكانت النون لفعل المتكلم أولى لوجودها في أول لفظ الضمير الكامن في الفعل إذا ظهر، فلتكن دالة عليه إذا خفي واستتر، وكانت "التاء" من "تفعل" للمخاطب لكونها في الضمير المستتر فيه، وإن لم تكن في أول اللفظ -أعني "أنت"- ولكنها في آخره، ولم يخصّوا بالدلالة (1) عليه ما هو في أول لفظه -أعني الهمزة- لمشاركته للمتكلم فيها وفي "النون"، فلم يبق من لفظ الضمير إلا "التاء" فجعلوها في أول الفعل عَلَمًا عليه وإيماءً إليه (2). فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزيادة في فعل الغائب هاء، لوجودها في لفظ ضمير الغائب إذا برز؟. قيل: لا ضمير في الغائب (3) في أصل الكلام وأكثر موضوعه؛ لأن الاسم الظاهر يُغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتى يتقدَّمه __________ (1) (ق): "في الدلالة". (2) ليست في (ق). (3) من قوله: "هاء، لوجودها ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/154)


مذكور يعود عليه، وليس كذلك فعل المتكلم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم، فإنه لا يخلو أبدًا عن ضمير؛ ولا يجيء بعده اسم ظاهر يكون فاعلًا به (1) ولا مضمرًا أيضًا، إلا أن يكون توكيدًا للمضمر المنطوي عليه الفعل. ومن هاهنا (ظ/25 أ) ضارعت الأسماء حتى أُعْرِبت؛ وَجَرت مجراها فى دخول (2) لام التوكيد وغير ذلك؛ لأنها ضُمِّنت معنى الأسماء بالحروف التى في أوائلها، فهي من حيث دلَّت على الحدث والزمان فعلٌ محض، ومن حيثُ دلَّت بأوائلها على المتكلم والمخاطب وغير ذلك متضمِّنة معنى الاسم، فاستحقت الإعراب الذي هو من خواصِّ الاسم، كما استحق الاسم المتضمِّن معنى الحرفِ البناءَ. فائدة (3) فعل الحال لا يكون مستقبلًا وإن حَسُن فيه "غَدٌ" كما لا يكون المستقبل حالًا أبدًا ولا الحال ماضيًا، وأما "جاءني زيد يسافر غدًا"، فعلى تقدير الحكاية له إذا وقع، وهي حال مقدرة. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام: 30]، والوقوف مستقبل لا محالة، ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه؛ لأنه (4) يترتب على وقوف قد ثبت، وكذلك (5): {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 63] {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} [غافر: 49] وهو كثير، الوقت مستقبل والفعل __________ (1) (ظ ود): "علامة". (2) سقطت من (ق). (3) "نتائج الفِكْر": (ص / 120). (4) (ظ ود): "لا". (5) (ق): "ولذلك قال تعالى".

(1/155)


بلفظ الماضي، ونحوه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} [القصص: 15] وهذا (1) حكاية للحال: فكذلك: "يقوم زيد غدًا"، هو على التقدير والتصوير لهيئته إذا ووقع، وهذا لأنَّ الأصل أن لا يُحكم للفظين متغايرَيْن بمعنى واحد إلا بدليل، ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل. فائدة (2) حروف المضارعة -وإن كانت زوائد- فقد صارت كأنها من أنفس الكلم، وليست كذلك "السين" و"سوف"، وإن كانوا قد شبهوهما بحروف المضارعة والحروف (ق/ 34 ب) الملحقة بالأصول، ولذلك تقول: "غدا يقوم زيد"، فتقدم الظرف على الفعل، كما تفعل ذلك في الماضي الذي لا زيادة فيه، نحو: "أمس قام زيد"، ولا يستقيم هذا في المقرون بـ "السين"، و"سوف"، لا تقول: "غدًا سيقوم (3) زيد"؛ لوجوه: منها: أن "السين": تُنْبِئ عن معنى الاستئناف والاستقبال للفعل، وإنما يكون مستقبلًا بالإضافة إلى ما قبله، فإن كان (4) قبله ظرف أخرجته "السين" عن الوقوع في الظرف، فبقي الظرف لا عامل فيه، فبطل الكلام. فإذا قلتَ: "سيقوم غدًا"، دلَّت السينُ على أن الفعل مستقبل بالإضافة إلى ما قبله، وليس قبله إلا حالة المتكلم، ودلّ لفظ "غدًا" على استقبال اليوم فتطابقا، وصارًا ظرفًا له. __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) "نتائج الفكر": (ص / 121). (3) (ق): "سيقدم". (4) سقطت من (ظ ود).

(1/156)


الثاني: أن "السين" و"سوف" من حروف المعاني الداخلة على الجمل، ومعناها في نفس المتكلم وإليه يسند لا إلى الاسم المخبَرِ عنه، فوجب أن يكود له صدر الكلام، كحروف الاستفهام والنفي والنهي (1) وغير ذلك، ولذلك قَبُح: "زيدًا سأضرب" و"ريدٌ سيقوم"، مع أنَّ الخبرَ عن زيد إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه "السين"؛ فإن ذلك (2) المعنى مستند إلى المتكلم لا إلى زيد؛ فلا يجور أن يخلط بالخبر عن زيد، فتقول: زيد سيفعل. فإن أدخلت (3) "إن" على الاسم المبتدأ جاز دخول "السين" في الخبر لاعتماد الاسم على "إن" ومضارعتها للفعل، فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة، فصلح دخول "السين" فيما بعدها، وأما مع عدم "إن" فيقْبُح ذلك، وهذا مذهب أبي [الحسين] (4) شيخ السهيلي. قال السهيلي (5): فقلتُ له: أليس قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} [النساء: 57 و 122] فقال لي: اقوأ ما قبل الآية، فقرأت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فضحكَ وقال: قد كنت أفزعتني، أليست هذه "إن" في الجملة المتقدمة، وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها، والواو تنوب مناب تكرار (6) العامل __________ (1) "النتائج": "والتمنى". (2) (ق): "فإن كان ذلك". (3) (ظ ود): "فإذا دخلت". (4) في الأصول: "أبي الحسن" والتصويب من "النتائج" ومصادر الترجمة، وقد تقدمت ترجمته ص/ 51. (5) "نتائج الفكر": (ص/ 122). (6) (ظ ود): "نياب تكرار" و (ق): "تكرير".

(1/157)


فسلَّمتُ له وسكتُّ (1). قال: ونظير هذه المسألة مسألة "اللام" في "إن"، تقول: "إِن زيدًا لقائم"، ولا تقول: "زيد لقائم"، والمصحِّح لتقديم الظرف على الفعل الماضي: أن معنى المُضِيِّ مستفاد من لفظه، لا من حرف زائدٍ على الجملة منفصل عن الفعل كـ "السين"، و"قد"، وأما فِعْل الحال فزوائده ملحقة بالأصل، فإن أدخلت (2) على الماضي "قد" التي للتوقع؛ كانت بمنزلة "السين" التي للاستئناف، وقَبُحَ حِينئذ: "أمس قد قام زيد"، كما قَبُح: "غدًا [سيقوم] (3) زيد"، والعلة كالعِلَّة حَذْو النعل بالنعل (4). فائدة (5). "السين" تشبه حروف المضارعة ونقرِّر قيل ذلك مقدمة، وهي لمَ لَمْ تعمل في الفعل وقد اختصَّت به؟. والجواب؛ أنها فاضِلَة لهذا الفعل عن فعل الحال، كما فَصَلت الزوائد الأربع فعلَ الخال عن الماضي فاشبهتها، (ق/35 أ) وإن لم تكن مثلها في اتصالها ولحوقها بالأصل، كما أشبهت لام التعريف العَلَمية في اتصالها وتعرُّف الاسم بها، وإن لم تكن مُلْحقة بحروف __________ (1) انظر كتاب: "دراسات لأساليب القرآن": (2/ 191 - 192) لعبد الخالق عضيمة، فقد تعقَّب هذا الموضع بأن اقتران جملة الخبر بعلامة الاستقبال دود أن تسبقها إن وقع كثيرًا في القرآن. (2) (ظ): "فإذا دخلت". (3) في الأصول: "يقوم"، وكذا في مخطوطات "النتائج"، وصوَّبها المحقق؛ لأنه قد تقدم جواز "غدًا يقوم زيد". (4) تحرفت العبارة في (ظ ود). (5) "نتائج الفكر": (ص/ 123).

(1/158)


الأصل، فلمَّا لم تعمل تلك (ظ/25 ب) اللام في الأسماء مع اختصاصها بها، لم تعمل هذه في الأفعال مع استبدادها بها، هذا تعليل الفارسي (1) في بعض كتبه، وابن السرَّاج والسُّهيلي، وهو يحتاج إلى بيان وإيضاح. وتقريرُه: أن الحرف إذا نُزِّل منزلةَ الجزء من الكلمة لم يعمل فيها؛ لأن أجزاء الكلمة لا يعمل بعضُها في بعضٍ، ولام التعريف مع المعرفة بمنزلة اسم علم فنزِّلت منزلة جُزئِه. و"قد" مع الماضي بمنزلة فعل الحال؛ فنزِّلت منزلة جزْئِه، وأما الزوائد الأربع؛ فهي فاصلة لفعل الحال عن الماضي، فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة دالة على فعل الحال. وكذلك "السين" مع الفعل فاصلة للمستقبل عن الحال، فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة (2)، دالة على (3) فعل الاستقبال، وهذا المعنى موجود في "سوف" أيضًا، فاختصاص الحرف شرط عمله، ونزوله منزلةَ الجزءِ مانعٌ من العمل. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بـ "أن" المصدرية فإنها مُنَزَّلة منزلة الجزء (4) من الكلمة، ولهذا يصيرُ الفعلُ بها في تأويل كلمةٍ مفردة، ومع هذا فهي عاملة. قيل: هذا لا ينقض ما أصَّلناه؛ لأن هذا الحرف لم يُنزَّل منزلةَ __________ (1) هو: أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان النحوي ت (377). انظر: "إنباه الرواة": (1/ 308)، و"بغية الوعاة": (1/ 496). (2) ليست فى (ق). (3) من قوله: "الحال. وكذلك ... " ساقط من (د). (4) من قوله: "مانع من العمل ... " ساقط من (ق).

(1/159)


الجزء من الفعل، وإنما صار به الفعل في تأويل الاسم، فلم ينتقض ما ذكرناه. وعلَّل السهيلي (1) بطلان عمل "سوف" بعلة أخرى، فقال: وإما "سوف" فحرف، ولكنه على لفظ السَّوف الذي هو الشَّمُّ لرائحة ما ليس بحاضر، وقد وُجِدت رائحته، كما أن "سوف" هذه تدلُّ على أن ما بعدها ليس بحَاضر، وقد علم وقوعه وانْتُظِر [إِبَّانُه] (2)، ولا غَرْو أن يتقارب معنى الحرف من معني الاسم المشتق المتمكن في الكلام. فهذه "ثم" حرف عطف، ولفظها كلفظ "الثم" وهو: رمُّ الشيء بعضه إلى بعض، كما قال: "كنا أهل ثُمِّه ورُمِّه" (3)، وأصله من: ثممتُ البيتَ إذا كانت فيه فرج فسُدد بالثُّمام، والمعنى الذي في "ثم" العاطفة قريب من هذا؛ لأنه ضمُّ شيء إلى شيء بينهما مهلة، كما أن ثَمَّ البيت: ضمٌّ بين شيئين بينهما (4) فرجة، ومن تأمل هذا المعنى فى الحروف والأسماء المضارعة لها، ألفاه كثيرًا. فائدة بديعة (5) في دخول "أن" على الفعل دون الاكتفاء بالمصدر ثلاث فوائد: أحدها: أن المصدر قد يكون فيما مضى، وفيما هو آتٍ، وليس __________ (1) في "نتائج الفكر": (ص/ 124). (2) في الأصول: "إيابه"، والتصويب من "النتائج". (3) هو من قول أخوال أُحَيْحة بن الجُلاح فيه ... في حديث عروة، أخرجه مالك في "الموطأ": (2/ 868) في، وانظر "النهاية": (1/ 223)، وأهل الحديث يروونها بالضم، وصحح أبو عبيد الفتح "ثَمِّه ورَمِّه". (4) من قوله: "مهله، كما ... " إلى هنا ساقط من (ق). (5) "نتائج" الفكر": (ص/ 126).

(1/160)


في صيغته ما يدل عليه، فجاءوا يلفظ الفعل المشتق منه مع "أن" ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان. الثانية: أنَّ "أَنْ" تدلُّ على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. الثالثة: أنها تدل على مجرَّد معنى الحدث، دون احتمال معنىً زائد عليه، ففيها تحصين للمعنى (1) (ق/35 ب) من الإشكال، وتخليص له من شوائب الاحتمال (2). بيانُه: أنك إذا قلت: "كرهتُ خروجك" أو "أعجبني قدومك"، احتمل الكلام معاني: منها: أن يكون نفس القدوم هو المعجب لك، دون صفة من صفاته وهيآته، وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات، ولكنها عبارة عن الكيفيات. واحتمل -أيضًا- أنك تريد أنه أعجبك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته، فإذا قلتَ؛ "أعجبني أن قدمت"، كانت "أن" على الفعل بمنزلة الطابع والعنوان (3) من عوارض الاحتمالات المتصورة في الأذهان، ولذلك (4) زادوا "أن" بعد "لما" في قولهم: "لما أن جاء زيد أكرمتك"، ولم يزيدوها بعد (5) ظرف سوى "لما"، وذلك أن "لما" ليست في الحقيقة ظرف زمان، ولكنه حرف يدل على ارتباط __________ (1) "للمعنى" سقطت من (ظ ود). (2) (ظ ود): "الإجمال" والموضع بعده: "الإجمالات". (3) (ظ ود): "الطبائع والصواب"!. (4) (ظ ود): "وكذلك". (5) (ظ ود): "بغير".

(1/161)


الفعل الثاني بالأول، في أن أحدهما كالعلة للآخر، بخلاف الظرف إذا قلت: "حين قام زيد قام عَمْرو"، فجعلت أحدهما وقتًا للآخر على اتفاقٍ لا على ارتباط، فلذلك زادوا "أنْ" بعدها صيانةً لهذا المعنى، وتخليصًا له من الاحتمال العارض في الظرف؛ إذ ليس الظرف من الزمان بحرف، فيكون قد جاء لمعنى كما جاءت "لما". وقد زعم الفارسي أنها مركبة من "لم" و"ما". قال السُّهيلي (1): ولا أدري ما وجه قوله، وهي عندي من الحروف التي في لفظها شَبَه من الاشتقاق، وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها، نحو ما تقدم في "سوف" و"ثم"؛ لأنكْ تقول: "لممتُ الشيءَ لمًّا (2) ". إذا ضممتَ بعضَه إلى بعض، وهذا نحوٌ من هذا المعنى الذي سيقت إليه؛ لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب، فإذا كان التسبيب حَسُن إدخال "أن" بعدها زائدة (ظ/26 أ) إشعارًا بمعنى المفعول من أجلة، وإن لم يكن مفعولًا من أجله, نحو قوله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [العنكبوت: 33] , و {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] ونحوه. وإذا كاد التعقيب مجردًا من التسبيب، لم يحسن زيادة "أن" بعد "لما" (3) وتأمَّلْه في القرآن. وأما "أن" التي للتفسير؛ فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر، ولكنها تشارك "أن" التي: تقدَّم ذكرُها بعض معانيها؛ لأنها تحصينٌ (4) لما بعدها من الاحتمالات, وتفسير لما قبلها من الصادر المجْمَلات، __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 127). (2) سقطت من (ق). (3) (ظ ود): "بعدها". (4) سقطت من (ق).

(1/162)


التي في معنى المقالات والإشارات، فلا يكون تفسيرًا إلا لفعل في معنى التراجم الخمس الكاشفة عن كلام النفس؛ لأنَّ الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة يكشفه للمخاطبين خمسةُ أشياء: اللفظ، والخط، والإشارة، والعقد (1)، والنصبة (2)، وهي لسان الحال، وهي أصدق من لسان المقال، فلا تكون "أن" المفسرة إلا تفسيرًا لما أُجمل من هده الأشياء، كقولك: "كتبت إليه أن اخرج"، و"أشرت إليه أن اذهب" و {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] و "أوصيته أن اشكر". و"عقدتُ في يدي أن قد أخذت خمسين". و"زربت (3) على حائطي أن لا يدخلوه"، ومنه قول الله عزَّ وجل (ق/ 36 أ): {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} [الرحمن: 7، 8] هي هاهنا لتفسير النصبة التي هي لسان الحال. وإذا كان الأمر فيها كذلك، فهي بعينها التي تقدم ذكرها؛ لأنها إذا كانت تفسيرًا فإنما تفسر (4) الكلام، والكلام مصدر، فهي إذًا في تأويل مصدر، إلا أنك أوقعت بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي، وذلك مزيد فائدة، ومزيد الفائدة لا تُخْرج الفعلَ عن كونه فعلًا، فلذلك لا تخرج عن كونها مصدرية، كما لا (5) يخرجها عن ذلك صيغة المُضِيّ والاستقبال بعدها، إذا قلت: "يعجبني أن تقوم" و"أن قمت"، فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مُخْبَرًا [به] عن الفاعل لا __________ (1) هو: الحِساب بعقد الأصابع. (2) في "النتائج": "النصب"، والنصب هو العَلَم. (3) الزرب: البناء. (4) (ق): "فإنها تفسير". (5) سقطت من (ق).

(1/163)


الحدث مطلقًا، ولذلك ألا تكون مبتدأة وخبرها في (1) ظرف أو مجرور؛ لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي تدل عليه "أن"، ولا الذي من أجله صِيْغ الفعل واشْتُق من المصدر، وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجردًا من هذا المعنى، كما تقدَّم، فلا يكون خبرًا عن "أن" المتقدمة، وإن كانت في تأويل اسم، وكذلك -أيضًا- لا يخبر عنها بشيءٍ مما هو صفة للمصدر، كقولك: " [قيامك] (2) سريع أو بطيء" ونحوه، لا يكون مثل هذا خبرًا عن المصدر. فإن قلت: "حَسَن أن تقوم" و"قبيحٌ أن تفعل"، جاز ذلك؛ لأنك تريد بها معنى المفعول، كأنك تقول: "أستحسن هذا أو أستقبحه"، وكذلك إذا قلت: "لأن تقوم خير من أن تقعد"، جاز؛ لأنه ترجيح وتفضيل، فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث، بدليل امتناع ذلك في المضيِّ، فإنك لا تقول فيه (3): "أن قمتَ خير من أن قعدت"، ولا: "أَن قام زيدٌ خير من أن قعد"، وامتناع هذا دليل على ما قدمناه من أن الحدث هو الذي يخبر عنه. وأما "أن" وما بعدها فإنها -وإن كانت في تأويل المصدر- فإن لها معنىً زائدًا لا يجوز الإخبار عنه، ولكنه يراد ويلزم (4) ويُؤمر به، فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر، فليس الكلام على ظاهره، لما تقدم. __________ (1) كذا بالأصول والنتائج، والأولى حذف "في". (2) تحرّفت في الأصول، والمثبت من "النتائج". (3) من (ق). (4) (ق): "ويكره".

(1/164)


وأما "لن" (1) فهي عند الخليل مركبة من "لا" و"أن" (2)، ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم المفعول عليها، لأنه يجوز في المركبات مالا يجوز في البسائط. واحتج الخليلُ بقول جابر [الطائي] (3)، وهو من شعراء الجاهلية: فإن أُمْسِك فإنَّ العيشَ حُلْوٌ ... إليَّ كأنَّه عَسَلٌ مَشُوْبُ يُرجِّي المرءُ ما لا أن يُلاقي ... وتعرضُ دونَ أَبعدِهِ خُطُوبُ (4) فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان بـ "أن" كما تقدم. وكان ينبغي أن تكون جازمة كـ "لم"؛ لأنها حرف نفي مختص بالفعل، فوجب أن يكون عمله الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنى، وقد فعل ذلك بعض العرب، فجزم بها حين لحَظَ هذا الأسلوب، ولكن أكثرهم ينصب (ق/36 ب)، بها مراعاة لـ "أن" المركبة فيها مع "لا"؛ إذ هي من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه، فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي، فرب نفي لا يجزم الأفعال، وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء، والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل "لا"، وهي (ظ/26 ب) غير عاملة لعدم اختصاصها، فلذلك كان النصب بها أولى من الجزم. على أنها قد ضارعت "لم" لتقارب المعنى واللفظ، حتى قُدِّم عليها معمول فعلها، __________ (1) (ظ): "أن". (2) (ق): "لن". (3) في الأصول: "الأنصاري"، والتصويب من المصادر. (4) وقع في البيتين تحريف ونقص في الأصول، والتصويب من المصادر، وهما لجابر بن رألان الطائي، وفي رواية الثاني منهما اختلاف. انظر "النوادر": (ص / 264 - الشروق)، لأبي زيد، و"خزانة الأدب": (8/ 440) للبغدادي.

(1/165)


فقالوا: "زيدًا لن أضرب"، كما قالوا: "زيدًا لم أضرب". ومن خواصِّها تخليصها الفعل للاستقبال، بعد أن كان محتملًا للحال، فأغنت عن "السين" و"سوف"، وجُلُّ هذه النواصب تخلِّص الفعل للاستقبال (1). ومن خواصِّها: أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في حرف "لا" إذا قلت: "لا يقوم زيد أبدًا"، وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة (2) للمعاني التي هي (3) أرواحها, يتفرَّس الفطن فيها حقيقة المعنى، بطبعه وحسه، كما يتعرَّف الصادق الفراسةِ صفاتَ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته. وقلت يومًا لشيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه-: قال ابن جنِّي (4): مكثت بُرْهةً إذا ورد علىَّ لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجَرْسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه، فإذا هو كما ظننته أو قريبًا منه، فقال لي رحمه الله: "وهذا كثيرًا ما يقع لي". وتأمل حرف "لا" كيف تجدها: لامًا بعدها ألف، يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها، و"لن" بعكس ذلك، فتأمله، فإنه معنىً بديع. __________ (1) من قوله "بعد أن كان ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "مشاركة". وانظر (ص/ 70) فيما تقدم. (3) سقطت من (ظ ود). (4) هو: أبو الفتح عثمان بن جِنِّي الموصلي النحوي، من أئمة العربية خاصة التصريف ت (392). انظر: "إنباه الرواة": (2/ 335)، و"وفيات الأعيان": (3/ 246). وقد ذكر المؤلف نحو هذا عن شيخه في "جلاء الأفهام" (ص/ 147).

(1/166)


وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] بحرف "لا" في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم، فانسحب (1) على جميع الأزمنة، وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقتٍ من الأوقات أو زمنٍ من الأزمان، وقيل لهم: "تمنوا الموت"، فلا يتمنونه أبدًا. وحرف الشرط دلَّ على هذا المعنى، وحرف "لا" في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتِّساع معنى النفي فيها. وقال في سورة البقرة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ} فقصَّر (2) من سَعَة النفي وقرَّب، لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ}؛ لأن "إن" و"كان" هنا ليست من صِيَغ العموم؛ لأن "كان" ليست بدالَّةٍ على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ، والخبر عبارة عن مُضِيِّ الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث، فكأنه يقول عز وجل: إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة، وثبتت لكم في علم الله؛ فتمنوا الموت الآن، ثم قال في الجواب: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ} (ق/ 13 أ)، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعًا. وليس في قوله: {أَبَدَا} ما يناقض ما قلناه، فقد تكون "أبدًا" بعد فعل الحال؛ تقول: "زيد يقوم أبدًا". ومن أجلِ ما تقدم من قصور معنى النفي في "لن"، وطوله في "لا" يعلمُ الموفقُ قصور المعتزلة في فهم كلام الله حيث جعلوا "لن" __________ (1) (ق): "ما انسحب". (2) (ق): "فقضى".

(1/167)


تدل على النفي على الدوام. واحتجوا بقوله: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم وبين فهم كلام الله كما ينبغي، وهكذا كلُّ صاحب بدعة تجده محجوبًا عن فهم القرآن!. وتأمل قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] كيف نفى فعل الإدراك بـ "لا" الدالة على طول النفي ودوامه، فإنه لا يُدْرَكْ أبدًا، وإن رآه المؤمنون فأبصارُهم (1) لا تدركه، تعالى عن أن يحيط به مخلوق؛ وكيف نفي الرؤية بـ "لن" فقال: {لَن تَرَانِي}، لأن النفي بها لا يتأبَّد. وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ "لن" صريحًا بقوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فهذا تمنٍّ للموت، فلو اقتضت "لن" دوام: النفي تناقض الكلام كيف وهي مقرونةٌ بالتأبيد بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، ولكن ذلك لا ينافي تمنيه في النار؛ لأن التأبيد قد يُرَاد به التأبيد المقيد والتأبيد المطلق، فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة (2)، كقولك: "والله لا أكلمه أبدًا"، والمطلق كقولك: "والله لا أكفر بربي أبدًا". وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمنِّي الموت أبدَ الحياة الدنيا، ولم يتعرض للآخرةِ أصلًا، وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء لا يتمنون الموت، وهذا منتفٍ في الآخرة. فهكذا ينبغي أن يُفهَم كلام الله لا كفَهْمِ المحرِّفين له عن مواضعه. قال أبو القاسم السُّهيلي (3): على أني أقول: إن العرب إنما تنفي بـ "لن" ما كان مُمكنًا عند المخاطب مظنونًا أنْ سيكون؛ فتقول له: __________ (1) (ق): "بأبصارهم". (2) (ق) زيادة: "مقيد". (3) في "نتائج الفكر": (ص/133).

(1/168)


"لن (1) يكون"، لما (ظ/27 أ) ظُنَّ أن يكون؛ لأن "لن" فيها معنى "أن" (2)، وإذا كان الأمن عندهم على الشك لا على الظن، كأنه يقول: أيكون أم لا؟ قلت في النفي: [لا] (3) يكون، وهذا كله مقوٍّ لتركيبها من "لا" و"أن"، وتبييَّن لك وجه اختصاصها في القرآن بالمواضعِ إلى وقعت فيها دون "لا". فائدة (4) قولهم: "إذن أُكرمك"، قال السهيلي: هي عندي "إذا" الظرفية الشرطية، خُلِع منها معنى الاسمية كما فعلوا ذلك بـ "إذْ"، وبـ "كاف" الخطاب وبالضمائر المنفصلة، وكذلك فعلوا بـ "إذا" إلا أنهم زادوا فيها التنوين، فذهبت الألف، والقياس إذا وقفتَ عليها أن ترجع الألف لزوال العلَّة، وإنما نوَّنوها لما فصلوها عن الإضافة؛ إذ التنوين علامةُ الانفصال، كما فعلوا بـ "إذ" حين (5) فصلوها عن الإضافة إلى الجملة فقالوا: يومئذٍ (6)، فصار التنوين مُعَاقبًا للجملة. إلا أن "إذ" في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية [بدليل إضافة "يوم" و"حين" إليها، وإنما أخرجوها عن الاسميَّة] (7) في نحو قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] جعلها سيبويه هاهنا حرفًا بمنزلة "أن". __________ (1) في الأصول: "أن لن" والمثبت من "النتائج". (2) سقطت من (ق). (3) في الأصول: "لن"، والتصويب من "النتائج". (4) "نتائج الفِكْر": (ص/134). (5) "فعلوا بـ "إذ" حين" بياض في (ظ) وساقطة من (د). (6) كان "فقالوا: يومئذٍ" في (ظ ود): "فيه". (7) ما بين المعكوفين مستدرك من "النتائج" ساقط من الأصول.

(1/169)


فإن قيل: ليس شيءٌ عن هذه الأشياء التي صُيِّرت حروفًا بعد أن كانت أسماء إلَّا وقد بقي فيها معنىً عن (ق/37 ب) معانيها، كما بقي في "كاف" الخطاب معنى الخطاب، وفي "على" معني الاستعلاء فما بقي في "إذ" و"إذن" من معانيهما (1) في حال الاسمية؟. فالجواب: أنك إذا قلتَ: "سأفعل كدا إذا خرج زيد"، ففعلك مرتبط بالخروج مشروط به، وكذلك إذا قال لك القائل: "قد أكرمتُك" فقلت: "إذن أُحْسِن إليك"، ربطتَ إحسانَكَ بإكرامه وجعلتَه جزاءً له؛ فقد بقي فيها طرفٌ عن معنى الجزاء و (2) هي حرف، كما كان فيها معنى الجزاء وهي (3) اسم. وأما "إذ" من قوله تعالى: {إِذْ ظَلَمْتُمْ} ففيها معنى الاقتران بين الفعلين، كما كان فيها ذلك في حال الظرفية؛ تقول: "لأضربن زيدًا إذ شتمني"، فهي -وإن لم تكن ظرفًا- ففيها معنى الظرف، كأنك تُنَبِّهُهُ على أنك تجازيه على ما كان منه وقت الشتم، فإن لم يكن الضرب واقعًا في حاك الشتم، فله ردّ إليه وتنبيه عليه، فقد لاحَ لكَ قربُ ما بينها وبين "أنْ" التي هي للمفعول من أجله، ولذلك شبهها سيبويه بها في سَوَادِ كتابه (4). وعجبًا للفارسي حيث (5) كاب ذلك عنه وجعلها ظرفًا! ثم تحيَّل __________ (1) العبارة في الأصول: "في إذا إذًا من معانيها" والمثبت من "النتائج". (2) (ق): "أو". (3) (ظ ود): "وهو". (4) ذكر محقق "النتائج" إنه لم يعثر على هذا القول في "كتاب سيبويه". وقد نسبه السهيليُّ لسيبويه -أيضًا- في كتابه "الروض الأُنف": (1/ 286). (5) (ق): "كيف".

(1/170)


في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوف إليها. وأما "إذ"؛ فإذا كانت منوَّنة فإنها لا تكون إلا مضافًا إليها ما قبلها، لتعتمد على الظرف المضاف إليها، فلا يزول عنها معنى الظرفية، كما زال عن أختها حين نوَّنوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه. والأصل في هذا: أن "إذ" و"إذا" في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء، والقرب من الحروف؛ لعدم الاشتقاق، وقِلَّة حروف اللفظ، وعدم التمكن؛ وغير ذلك، فلولا إضافتهما (1) إلى الفعل الذي يبنى للزمان ويفتقر إلى الظروف، لما عُرِف فيهما معنى الاسم أبدًا؛ إذ لا تدلُّ واحدةٌ منهما على معنًى في نفسها، إنما جاءت لمعنى في غيرها، فإذا قطعت عن ذلك المعنى تمحَّض معنى الحرف فيها، إلا أن "إذ" (2) لما ذكرنا من إضافة ما قبلها من الظرف إليها، لم يفارقها معنى الاسم، وليست الإضافة إليها في الحقيقة، ولكن إلى الجملة التي عاقبها التنوين. وأما "إذن" فلما لم يكن فيها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الاسمية فيها؛ صارت حرفًا لقربها من حروف الشرط في المعنى، ولما صارت حرفًا مختصًّا بالفعل مخلصًا له للاستقبال كسائر النواصب للأفعال، نَصَبُوا الفعل بعده؛ إذ ليس واقعًا موقع الاسم فيستحق الرفع، ولا هو (3) غير واجب فيستحق الجزم، فلم يبق إلا النصب، ولما لم يكن العمل فيها أصليًّا لم تقوَ قوَّةَ أخواتها، فأُلغيت تارةً وأُعْمِلَت أخرى، وضَعُفَت عن عوامل الأفعال. __________ (1) (ق): "إضافتها". (2) (ق): "إذا" وهو خطأ. (3) سقطت من (ظ ود).

(1/171)


فإن قيل: فهلا فعلوا بها ما فعلوا بـ "إذ" (1) حين نوَّنوها، وحذفوا الجملة بعدها، فيضيفوا إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى "إذ" في نحو: "يومئذٍ" لأن الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبها التنوين؟. فالجواب: أن "إذ" قد اسْتُعمِلت مضافةً إلى الفعل [المستقبل] (2) في المعنى على وجهِ الحكاية للحال، كما قال (ق/ 38 أ) تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة: 165] ولم يستعملوا "إذا" مضافة إلى الماضي بوجهٍ ولا على حال، فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى "إذ" وهم يريدون الجملة بعدها عن إضافتها إلى "إذا"، مع أن "إذ" في الأصل حرفان، و"إذا" ثلاثة أحرف، فكان ما هو أقل حروفًا في اللفظ أولى بالزيادة فيه، وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه؛ لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد. وأقوى من هذا أن "إذن" فيها معنى الجزاء، وليس في "إذ" منه رائحة، فامتنع إضافة ظرف الزمان إلى "إذن"؛ لأن ذلك يُبْطِل ما فيها من معنى الجزاء؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو أُضِيْفَ "اليوم" (3) و"الحين" إليها لغلب عليهما حكمه لضعفها (4) عن درجة حرف الجزاء، فتأمله. فائدة بديعة (5) " لام كي والجحود" حرفان ناصِبان بإضمار "أن"، إلا أن "لام __________ (1) (ق): "إن". (2) من "النتائج". (3) (ظ ود): "إليه". (4) في الأصول بضمير المثنَّى في الجميع، والتصحيح من النتائج". (5) "نتائج الفِكْر": (ص/ 138).

(1/172)


كي" هي لام العلة, فلا يقع قبلها (1) إلا فعل يكون علة لما بعدها, فإن كان ذلك الفعل منفيًّا لم يخرجها عن أن تكون "لام كي"، كما ذهب إليه الصَّيْمَرِي (2)؛ لأن معنى العلة فيها باقٍ، وإنما الفرق بين "لام الجحود" و"لام كي" وذلك من ستة أوجه: أحدها: أن لام الجحود يكون قبلها كَوْنٌ منفيٌّ بشرط المضي؛ إما "ما كان" أو "لم يكن"، لا مستقبلًا، فلا تقول: "ما أكون لأزورك" (3)، وتكون زمانية ناقصة لا تامة، ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور، لا تقول: "ما كان زيد عندك ليذهب" ولا: " ... أمس ليخرج". فهذه أربعة فروق. والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض: أن "كان" الزمانية عبارة عن زمانٍ ماضٍ، فلا تكون عِلّةً لحادث (4)، ولا تتعدَّى إلى المفعول من أجله، ولا إلى الحال وظروف المكان, وفي تعدِّيها إلى ظروف الزمان نظرًا فهدا الذي منعها أن تقع قبلها لام العلة، أو يقع بعدها المجرور أو الظرف. وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو: أنَّ الفعل بعد "لام الجحود" لا يكون فاعله إلا عائدًا على اسم "كان"؛ لأن الفعل بعدها في موضع الخبر، فلا تقول: "ما كان زيدٌ ليذهب عَمْرو"، كما __________ (1) (ظ ود): "فيها". (2) هو: عبد الله بن علي بن إسحاق الضَّيْمري النحوي، له كتاب "التبصرة" اعتنى به أهل المغرب، وترجمته في المصادر مقتضبة جدًّا، ولم يعرف له تاريخ وفاة. انظر: "إنباه الرواة": (2/ 123)، و"إشارة التعيين": (ص / 168). (3) (ق): "لأزيدك". (4) (ق): "لما حدث".

(1/173)


تقول: "يا" (1) زيد ليذهب عَمْرو أو لتذهب أنت"، ولكن تقول: "ما كان ليذهب" و"ما كنت لأفعل". والفرق السادس: جواز إظهار "أن" بعد "لام كي"، ولا يجوز إظهارها بعد لام الجحود؛ لأنها جَرَت في كلامهم نفيًا للفعل المستقبل بـ "السين" أو "سوف"، فصارت لام الجحود بإزائهما: فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدهما (2). وفي هذه النكتة مَطْلع على فوائد من كتاب الله، ومرقاة إلى تدبُّره، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فجاء بلام الجحد حيث كان نفيًا لأمر متوقع، وسبب مخوف في المستقبل، ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33] فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال (3) لا يخص مُضِيًّا من استقبال. (ق/ 38 ب) ومثله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود: 117] ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} [القصص: 59] فالحظ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك. وأما "لام العاقبة" ويسمونها: "لام الصيرورة" في نحو: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8]، فهي في الحقيقة "لام كي"، ولكنها لم تتعلق بالخبر لقصد المخبر عنه وإرادته، ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة، وهو الله سبحانه، أي: فعل الله ذلك ليكون كذا __________ (1) كذا فى الأصول، وفي "النتائج": "جاء". (2) في الأصول بضمير المفرد، والمثبت من "النتائج". (3) (ظ ود): "الأقوال".

(1/174)


وكذا. وكذلك قولهم: "أَعْنق ليموت" (1)، لم يُعْنق لقصد الموت, ولم يتعلق اللام بالفعل، وإنما المعنى: قَدَّر اللهُ أنه يُعْنق ليموت, فهي متعلقة بالقدر (2) وفِعْل الله. ونظيره: "إنِّي أَنْسَى لأَسُنَّ" (3)، ومن رواه: "أُنَسَّى" بالتشديد فقد كشف قناع المعنى. وسمعتُ شيخَنا أبا العباس ابن تيمية يقول: يستحيل دخول "لام العاقبة" في فعل الله، فإنها حيث وردت في الكلام؛ فهي لجهل الفاعل بعاقبة فعله، كالتقاط آلِ فى عود لموسى، فإنهم لم يعلموا عاقبته، أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة (ظ/ 28 أ) نحو: "لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ" (4). فأمَّا في فعل من لا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة, ومن هو على كل شيءٍ قدير؛ فلا يكون قط إلا "لام كي" وهى لام التعليل. ولمثل هذه الفوائدِ التي لا تكادُ توجدُ في الكتب يُحْتَاج إلى مجالسةِ الشيوخ والعلماء!!. __________ (1) قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - للمنذر بن عمرو، كما في "طبقات ابن سعد": 3/ 567، و "الإصابة": 6/ 217. (2) (ظ ود): "بالمقدور". (3) رواه مالك في "الموطأ": (1/ 100) بلاغًا. (4) قطعة من حديث أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، من حديث مؤمّل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة، رَفَعَه .. الحديث، وفيه: "وإن مَلَكًا ببابٍ آخر ينادي: يا بني آدم لِدُوا للصوت وابنوا للخرابِ". قال السخاوى في "المقاصد الحسنة": (ص / 332): "وهو عند أحمد والنسائي في "الكبري" بدون الشاهد منه، وصححه ابنُ حِبان، ثم شيخُنا" اهـ. ثم ذكر له شواهد ضِعَافًا، وأخذه الشعراء فنظموا منه أبياتًا، ولأبي العتاهية قصيدة في "ديوانه": (ص/ 42 - 43) مطلعها: لِدوا للموتِ وابنوا للخرابِ ... فكُلُّكمُ يصِيْرُ إلى ذَهابِ

(1/175)


فائدة (1) كما أن "لن" لنفي المستقبل كان الأصل أن يكون "لا" لنفي الماضي، وقد اسْتعْمِلت فيه نحو: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11] ونحوه: وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا (2). ولكن عدلوا في الأكثر إلى نفي الماضي بـ "لم" لوجوه: منها: أنهم قد خصُّوا المستقبل بلن (3)، فأرادوا أن يخصوا الماضي بحرف، و"لا" لا تخص ماضيًا من مستقبل، ولا فعلًا: من اسم؛ فخصُّوا نفيَ الماضي بـ "لم". ومنها: أن "لا" يتوهم انفصالها مما بعدها، إذ قد تكون نافية لما قبلها، ويكون ما بعدها في حكم الوجوب، مثل: {لَا أُقْسِمُ} [البلد: 1]، حتى لقد قيل في قول عمر: (لا، نقضي ما تجانفنا لإثم) (4). إن "لا": __________ (1) "نَتائج الفكر": (ص/ 141). (2) اختلف في قائله؛ فقيل: لأبى حِراش الهذلي، وقيل: لأمية بن أبى الصلت، وتمامه: إنْ تعْفرِ اللهمَّ تَغْفِرْ جمًّا ... وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمَّاِ انظر: "المغني" شاهد رقم (403)، و"اللسان": (12/ 553). (3) (ق): "بأن". (4) أخرجه عبد الرزاق فى "المصنّف": (4/ 179)، وابن أبي شيبة: (2/ 287)، والبيهقي فى "الكبري": (4/ 217). كلهم من طرقٍ عن الأعمش، عن زيد بن وهب ... فى قصةٍ وفيها قول عمر: "والله لا نقضيه، وما تجانفنا لإثمٍ". وأشار البيهقي إلي أن هذه الرواية مما نُقِم على زيد بن وهب، وأنه قد أخطأ فيها، وأن المحفوظ من قول عمر هو القضاء. =

(1/176)


ردعٌ لما قبلها، و"نقضي" واجب لا منفي. وقال بعض الناس في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، تَرَآي نَارَاهما" (1): إن "لا" ردعٌ وما بعدها واجب، وهذا خطأ في الأمرين وتلبيس لا يجور حمل النصوص عليه. وكذلك {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1] أيضًا، بل القولُ فيها أحد قولين: إما أن يقال: نفي للقسم وهو ضعيف، وإما أن يقال: أُقْحِمت أول القسم إيذانًا بنفي المقسم عليه وتوكيدًا لنفيه، كقول الصِّدِّيق -رضي الله عنه-: "لاهَا اللهِ، لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ" (2) الحديث. ومما يدل على حرصهم على إيصال حرف النفي بما بعده؛ قطعًا لهذا التوهُّم: أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي بعد "لم" إلى لفظ المضارع؛ حِرْصًا على الاتصال (3)، وصرفًا للوهم عن ملاحظة الانفصال. فإن قيل: وأي شيءٍ في لفظ (ق/39 أ) المضارع مما يؤكد هذا __________ = وقوّى شيخ الإسلام في "الفتاوى": (20/ 572)، ثبوت قول عمر، ورجَّحه على الأمر بالقضاء. والتأويل المذكور فيه بُعد، ولم أجد في مصادر الأثر اللفظ المذكور. (1) أخرجه أبو داود رقم (2645)، والترمذي رقم (1604) وغيرهم من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا. وأخرجه النسائي: (8/ 36) وغيره عن خالد الواسطي ومَعْمر وهُشَيم، عن إسماعيل، عن قيسٍ مرسلًا لم يذكر جريرًا. وصحح الطريقَ المرسلةَ البخارىُّ -فيما نقله عنه الترمذي- وأبو حاتم -كما في "العلل" 1/ 315 - والترمذيُّ. (2) أخرجه البخاري رقم (4321)، ومسلم رقم (1751)، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة غزوة حُنين. (3) (ق) زيادة: "وحرصًا على النهي" وليست في (ظ ود والنتائج).

(1/177)


المعني؟ أَوَ ليسا سواء هو والماضي؟. قلنا: لا سواء، فاعلم أن الأفعالَ مضارعة للحروف، من حيثُ كانت عوامل في الأسماء كـ "هي"، ومن هناك استحقت البناء, وحقُّ العامل أن لا يكون مُهَيئًا لدخول عامل آخر عليه، قطعًا للتسلسل الباطل (1)، والفعل الماضي بهذه الصورة وهو على أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء، فليس يذهب الوهمُ عند النطقِ به، إلا إلى انقطاعه عما قبله، إلا بدليل يربطه، وقرينة تجمعه إليه، ولا يكون في موضع الحال ألبتَّةَ إلا مصاحبًا لقيد، ليجعلَ هذا الفعل فى موضع (2) الحال. فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفة من (3) النكرة نحو: "مررت برجل ذهبَ"؟. قيل: افتقارُ النكرة إلى الوصف، وفَرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر، هو الرابط بين الفعل وبينها، بخلاف الحال فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه. وأما كونه خبرًا للمبتدأ؛ فلشدة احتياج المبتدأ إلى خبره، جاز ذلك، حتى إنك إذا أدخلت "إن" على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر، إذا (4) كان في خبرها اللام, لما في اللام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها (5)، __________ (1) (ظ ود) ت: "الباطن"! وفي "النتائج": "التسلسل المستحيل عقلًا وأصلًا". وهو بمعنى الباطل. (2) (ق): "بمنزلة". (3) (ظ ود): "الصفتين". (4) (ظ ود): "إذ قد كان"، و"ق": "إذ" والمثبت من "النتائج". (5) (ق): "قبلها".

(1/178)


فاجتمع ذلك مع صيغة المضي، وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرًا لما قبلها، وليس ذلك في المضارع. وليس المضارع كالماضي؛ لأن مضارعته للاسم هيَّأته لدخول العوامل عليه، والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم، وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام، وصيَّرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ و"إنَّ" [و] لم يقطعه دخول "اللام" عن أن يكون خبرًا في باب "إنَّ"، كما قطع الماضي؛ من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام، كما تقدم. فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال؟. قيل: (ظ/ 28 ب) دخول الزوائد عليه (1) ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب؛ فما تضمن معنى الاسم أعرب، كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف. ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه (2) الأسماء، وصلح فيها من الوجوه مالا يصلح في الماضي. فائدة بديعة (3) " لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل، فحقُّا أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم قد (4) يوجد ذلك لحكمة، أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك؛ كيلا يلتبس بالنفي __________ (1) من (ق). (2) في "النتائج": "أشبه". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 145). (4) (ظ ود): "لم" وهو خطأ.

(1/179)


لعدم الجزم، ولكن إذا كانت "لا" في معنى الدعاء؛ جاز وقوع الفعل يعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوهٍ: منها: أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل (ق/39 ب) مع الدعاء في لفظ وأحد، فجاءوا بلفظ الفعل الحاصل في مَعْرِض الدعاء تفاؤلًا بالإجابة، فقالوا: "لا خَيَّبك الله". وأيضًا: فالداعي قد يُضَمِّن دعاءَه القصد إلى إعلام السامع وإخبار المخاطب بأنه داعٍ، فجاءوا بلفظ الخبر، إشعارًا بما تضمنه من معني الإخبار، نحو: "أعزَّك اللهُ وأكرمك"، و"لا رحم فلانًا"، جمعتَ بين الدعاء والإخبار بأنك (1) داعٍ. ويوضح ذلك أنك لا تقول ذلك في حال مناجاتك الله ودعائك لنفسك، لا تقول: "رحمتني ربِّ" و"رزقتني" و"غفرت لي"، كما: تقول للمخاطَب: "رحمكَ اللهُ ورزقكَ وغفرَ لك"، إذ لا أحد في حال مناجاتك يَقصد إخباره وإعلامه، وإنما أنت داعٍ وسائل محض. فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي؟. قلنا: للدعاء هيئة ترفع الالتباس، وذِكْر الله مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس، فتأَمَّله فإنه بديعٌ في النظر والقياس، فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معني الأمر والنهي. منها قول عمر -رضي الله عنه-: "صلي رجل في كذا وكذا من اللباس" (2)، وقولهم: "أنْجَزَ حُرٌّ مَا وَعَد" (3). __________ (1) (ظ ود): "فإنك". (2) أخرجه البخاري رقم (365). (3) يقال: أول من قالها: الحارثُ بن عَمْرو آكل المرار، ولها قصة. انظر: "مجمع الأمثال": (3/ 371).

(1/180)


وقولهم: "اتقَى اللهَ أمرؤٌ" (1). وهو كثيرًا, فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقًا لثبوته، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعًا ولابد، فلا يطلب من المخاطب إيجاده، بل يخبر عنه (2) لتحقّقه خبرًا صِرْفًا، كالإخبار عن سائر الموجودات. وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنًى من هذه، وهو: أَنَّ هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة، وكأنهم يريدون بقولهمِ: "أنجزَ حُرٌّ ما وَعَد"، أي: ثبتَ ذلك في المروءة واستقرَّ في الفِطر. وقول عمر -رضي الله عنه- "صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء ... " الحديث (3)، أي: هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقَّق من الشريعة، فالإشارة إلى هذه المعاني حَسَّنت صرفَه إلى صورة الخبر، وإن كان أمرًا، وهذا (4) لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة، لعمومِ هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها، فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء مُعَرَّفة تمحَّضَ فيها معنى الخير وزال معنى الأمر، فقلت: "اتقى اللهَ زيدٌ" و"أنجزَ عَمْرو ما وعد"، فصار خبرًا لا أمرًا. وهذا موضع المسألة المشهورة وهي: مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، و {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ونظائره، فمن سلك المسلكَ __________ (1) قاله الحارث بن هشام المخزومي. انظر: "الاستيعاب -بهامش الإصابة": (1/ 311). (2) (ظ ود): "عنه به". (3) تقدم. (4) (ظ ود): "زائدًا".

(1/181)


الأول؛ جعلَه خبرًا بمعنى الأمر، ومن سلك المسلك الثاني؛ قال: بل هو خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية، ولكن هو خبر عن حُكْم الله وشرعه ودينه ليس خبرًا عن الواقع، ليلزم ما ذكروه من الإشكال، وهو احتمال عدم وقوع مخبره، فإن هذا إنما (ق/ 40 أ)، يلزم من الخبر عن الواقع، وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حقٌّ (ظ/29 ب)، مطابق لخبره لا يقع خلافه أصلًا. وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنع مَا شِئْتَ" (1)، فإن هذا صورته صورة الأمر، ومعناه معنى الخبر المحض، أي: من كان لا يستحي فإنه يصنع ما يشتهي، ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى: صورة الأمر لفائدة بديعة، وهي: أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحَسَن وزاجر يزجره عن القبيح، ومن لم يكن له (2) من نفسه هذا الآمر لم تنفعه الأوامر، وهذا هو واعظ اللهِ في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي (3) - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن، فمن لم يكن له من نفسه __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3483)، وغيره من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه-. (2) من (ق). (3) وذلك في حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "ضرِب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا ... " وفيه: "وداعٍ يدعو من جوف الصراط ... " وفَسَّر هذا الداعي بأنه: "واعظ اللهِ في قلبِ كلِّ مَسلم". أخرجه أحمد: (4/ 182 - 183)، والترمذي رقم (2859)، والنسائي في "الكبري": (6/ 361) وغيرهم. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم في "المستدرك": (1/ 73)، وابنُ كثير في "التفسير": (1/ 9 - 30). وللحافظ ابن رجب رسالة مطبوعة في شرح هذا الحديث.

(1/182)


واعظ لم تنفعه المواعظ، فإذا فقد هذا الآمر الناهى بفقد الحياء، فهو مطيع لا محالةَ لداعى الغيِّ والشهوة طاعةً لا انفكاك له منها، فنُزِّل منزلة المأمور، وكأنه يقول: إذا لم تأتمر لأمر الحياء؛ فأنت مؤتمر لأمر الغي والسَّفَهِ، وأنت مطيعه لا محالة، وصانع ما شئت لا محالة، فأتى بصيغة الأمر تنبيهًا على هذا المعنى، ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض، فقيل: "إذا لم تَسْتح صنعتَ ما شئتَ"، لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف، فتأمَّله وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع، فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها. وأما وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر في باب الشرط، نحو "قم أُكرمك"، أي: إن تقم أكرمك، فقيل: حكمته أن صيغة الأمر تدل على الاستقبال، فعَدَلوا إليها إيثارًا للخِفَّة، وليست هذه العلة مطَّرِدة؛ فإن الأفعال المختصة بالمستقبل لا يحسن إقامة لفظ الأمر مقامَ أكثرِها، نحو: "سيقوم، وسوف يقوم، ولن يقوم، ولا تقوم (1)، وأريد أن يقوم"، ولكن أحسن مما ذكروه أن يقال في قوله: "قم أكرمك" فائدتان ومطلوبان (2)، أحدهما: جعل القيام سببًا للإكرام ومقتضيًا له اقتضاءَ الأسباب لمسبباتها، والثاني: كونه مطلوبًا (3) للآمر مرادًا له، وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل، فعدلَ عنه إلى لفظ الأمر تحقيقًا له، وهذا واضح جدًّا. وأَما وقوع المستقبل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي، مع أنَّ __________ (1) من (ق). (2) (ظ ود): "ومطلوبًا فى". (3) (ظ ود): "مطلق لها".

(1/183)


الموضع للمستقبل؛ فقد عُلِّل بنْحو هذه العلة، وأن الأَداة تدل (1) على الاستقبال فعدلوا إلى الماضي؛ لأنه أخفُّ، وهي -أيضًا- غير مُطَّردة ولا مستقلَّة، ولو لم ينقض عليهم إلا بسائر الأدوات التي لا يكون الفعل بعدها إلا مستقبلًا، ومع ذلك لا يقع (2) بلفظ الماضي. وأحسن مما ذكروه أن يقال: عَدَل عن المستقبل هنا إلي صيغة الماضي، إشارة إلى (ق/ 40 ب)، نكتة بديعة، وهي: تنزيل الشرط بالنسبة إلى الجزاء منزلةَ الفعل الماضي، فإن الشرط لا يكون إلَّا (3) سابقًا للجزاء متقدِّمًا عليه، فهو ماضٍ بالإضافة إليه. ألا ترى أنك إذا قلت: "إن اتقيتَ اللهَ أدخلكَ جنته"، فلا تكون إلا سابقة على دخول الجنة، فهو ماض بالإضافة (4) إلى الجزاء، فأتوا للفظ الماضي تأكيدًا للجزاء وتحقيقًا؛ لأن الثاني لا يقع إلا بعد تحقق الأول ودخوله في الوجود، وأنه لا يُكتفى فيه بمجرد العزم وتوطين النفس عليه الذي يكون (5) في المستقيل، بل لا سبيلَ إلى نيلِ الجزاء إلا بتقدُّم الشوط عليه وسَبْقِه له، فأتى بالماضي لهذه النكتة البديعة مع أَمْنهم اللبسَ بتحصين أداة الشرط لمعنى الاستقبال فيهما. يبقى أن يُقَال: فهذا تقرير حَسَن في فعل (6) الشرط، فما الذي حَسَّن وقوعَ الجزاء المستقبل من كلِّ وجهٍ بلفظ الماضي إذا قلت: __________ (1) (ظ ود): "وأن الإرادة ... " و (ظ ود): "ولا تدل". (2) بعده في (ق): "إلا". (3) من (ق). (4) (ق): "فهي ماضٍ بالنسبة". (5) من (ق). (6) (ق): "معنى"!.

(1/184)


"إن قمتَ قمتُ"؟. قيل: هذا سؤالٌ حسن (ظ/29 ب)، وجوابه: أنهم لما أبرموا (1) تلك الفائدة في فعل الشرط؛ قصدوا معها تحسين اللفظ، ومشاكلة أوله لآخره وازدواجِه واعتدال أجزائه، فأتوا بالجزاء ماضيًا لهذه الحكمة، فإن لفظتي الشَّرط والجزاء كالأخوين الشقيقين، وأنت تراهم يغيرون اللفظ عن جهته وما يستحقه لأجل المعادلة والمشاكلة، فيقولون: "أتيته بالغَدَايا والعَشَايا"؛ و"مأزورات غير مأجورات" (2)، ونظائره، ألا ترى كيف حَسُن: "إن تَزُرْني أَزُرْك"، و"إن زُرْتني زُرْتُك"، وقَبُحَ: "إن تَزُرْني زُرْتُك"، وتوسط: "إن (3) زُرتَني أَزُرْك"، فَحَسُنَ الأوَّلان للمشاكلة، وقَبُح الثالث للمنافرة، حتى منع منه (4) أكثرُ النحاة وأجازه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن مالك وغيره, وهو الصواب، لكثرة شواهده وصِحَّة قياسه على الصورة الواقعة، وادَّعى أنه أولى بالجواز منها، قال: لأن المستقبل في هذا الباب هو الأصل والماضي فرع عليه، فإذا أجزتم أن يكون الماضي أولًا والمستقبل بعده فجواز الإتيان بالمستقبل الذي هو الأصل أولى والماضي بعده أَوْلى. والتقرير الذي قدمناه من كون الشرط سابقًا على الجزاء فهو ماض بالنسبة إليه يدل على ترجيح قولهم: "وإن زرتني أَزُرْك"، أولى __________ (1) (ق): "أعربوا". (2) جاء في حديث أخرجه ابن ماجه رقم (1578)، والبيهقي في "الكبرى": (4/ 77)، وغيرهم من حديث علي -رضي الله عنه- في نساء تبعن جنازة، وفي سنده ضعف، وانظر "مصباح الزجاجة": (1/ 180)، و"كشف الخفاء": (1/ 117). (3) سقطت من (ظ ود). (4) سقطت من (ق).

(1/185)


بالجواز من: "إن تَزُرْني زُرْتُك"، والتقرير الذي قرره من كون (1) المستقبل هو الأصل: في هذا الباب والماضي دخيل عليه، فإذا قُدِّم الأصل كان أولى بالجوار يرجّح ما ذكره، فالترجيحان حق، ولا فرق بين الصورتين وكلاهما جائز، هذا هو الإنصاف في المسألة، والله أعلم. ولكن هنا دقيقة تشير إلى ترجيح قول الجماعة، وهي: أن الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والاعتماد عليه، فيكون هو مطلوب المعلق، وجعل الجزاء باعثًا ووسيلة إلى تحصيله، وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه (ق/ 41 أ) بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه، وظهور القصد المعنوي إليه أوجَبَ تأثير العمل اللفظي فيه، ليطابق المعنى اللفظ، فيجتمع التأثيران (2)؛ اللفظي والمعنوي. والذي يدلُّ على هذا: أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى، حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له. وإذا كان الكلام معتمدًا على الجزاء والقصد إليه، والشرط جُعِل تابعًا ووسيلة إليه؛ كان الإتيان فيه بلفظ الماضي حسًنا أو أحسن من المستقبل، فزِنْ بهده القاعدة ما يَرِدُ عليك من هذا الباب. فمنه: قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيًا والجزاء مستقبلًا؛ لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام، وعنايتهم كلها مصروفة إليه (3)، __________ (1) (ظ): "جوّز" و (د): "جواز"!. (2) (ق): "التأثيرات فيه". (3) (ظ ود): "إليهم" وصوّبت فى هامش (د).

(1/186)


وهممهم معلقة به، دون وقوع الأفعال بمشيئة الله، فإنهم لم يكونوا يشكُّون في ذلك ولا يرتابون. وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط، وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلًا -كما تقدم تقريره- وإما دال على الجزاء، وهو محذوف مقدَّر تأخيره، وعلى القولين فتقديم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدًا للقصد إليه. ويدل عليه -أيضًا-: تأكيده باللام المؤدية بالقسم المُضْمَر، كأنه قيل: "والله لتدخلن المسجد الحرام", فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعني به، ومثل هذا قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ونحوه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ومثله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وهذا أصل غير مُنْخَرِم، وفيه نكتة حسنة وهي: اعتماد الكلام في هذا النوع على القَسَم كما رأيت، فحَسُنَ الإتيان بلفظ الماضي, إذ القسم أولى به لتحققه، ولا يكون الإلغاء مُسْتشنَعًا فيه؛ لأنه مبني. ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع (1) بلفظ الماضى لِمَا ذكرناه من الفائدة؛ حَسُن وقوع المستقبل المنفي بـ "لم" بعدها نحو: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73] وهما جازمتانِ ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد، ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيًا في المعنى، وكانت متصلةً به حتى كأن صيغتَه صيغةُ الماضي، لقوَّة الدلالة عليه بـ "لم" جار وقوعه بعد "إن" وكان __________ (1) العبارة في (ق): "ولما كان الجزاء تبع ... ".

(1/187)


العمل والجزم بحرف "لم"؛ لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به، وكان المعنى في الاستقبال لحرف "إن"؛ لأنها أولى وأسبق، فكان اعتبارها في المعنى واعتبار "لم" في الجزم، ولا ينكر [إلغاء] (1) "إن" هنا؛ لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي، كما لا ينكر إلغاؤها قبله. وقد أجازوا في "إن" النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في "إن" التي (ق/ 41 ب) للشرط، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] ولو جعلت مكان "إن" هاهنا غيرها من حروف النفي؛ لم يحسن فيه مثل هذا؛ لأن الشرطية أصل للنافية, كأن (2) المجتهد في النفي إذا أراد توكيده يقول: "إن كان كذا وكذا فعَلَيَّ كذا، أو: فأنا كذا"، ثم كَثُر هذا في كلامهم حتى حُذِف الجواب وفُهِم المقصد فدخلت "إن" في باب النفي، والأصل ما ذكرناه، والله أعلم. فائدة بديعة في ذكر المفرد والجمع, وأسباب اختلاف العلامات الدالة على الجمع، واختصاص كلِّ محل بعلامته، ووقوع المفرد موقع الجمع (3) وعكسه، وأين يحسن مراعاة الأصل وأين يحسن العدول عنه؟ وهذا فصلٌ نافعٌ جدًّا يُطلعك على سرِّ هذه اللغة العظيمة القدر, المفضَّلة على سائر لغات الأمم. __________ (1) في الأصول: "الإلغاء" والمثبت من "النتائج". (2) (ق): "فإن". (3) (ظ ود): "الجملة".

(1/188)


اعلم أن الأصل هو المعنى المفرد، وأن يكون اللفظ الدال عليه مفردًا؛ لأَنَّ اللفظ قالب المعنى ولباسه يحتدي حذوه، والمناسبة الحقيقية ثابتة (1) بين اللفظ والمعنى طولًا وقصرًا، وخِفَّة وثقلًا، وكثرةً وقِلَّة، وحركة وسكونًا، وشدَّةً ولينًا، فإن كان المعنى مفردًا أفردوا لفظه، وإن كان مركبًا ركبوا اللفظ، وإن كان طويلًا طوَّلوه، كـ "العنطنط" و"العشنَّق" للطويل، فانظر إلى طول هذا اللفظ لطول معناه، وانظر إلى لفظ "بُحْتُر" وما فيه من الضم والاجتماع لما كان مسماه القصير المجتمع الخلق، وكذلك لفظة "الحديد" و"الحجر" و"الشدة" و"القوة" ونحوها تجد في ألفاظها ما يناسب مسمياتها، وكذلك لفظا "الحركة" و"السكون" مناسبتهما لمُسَمَّيَيْهِما معلومة بالحس، وكذلك لفظ "الدوران" و"النزوان" و"الغليان" وبابه في لفظها من تتابع الحركة ما يدل على تتابع حركة مسماها؛ وكذلك "الدجال" و"الجرَّاح" و"الضرَّاب" و"الأفَّاك" في تكرر الحرف المضاعَف منها ما يدل على تكرر المعنى. وكذلك "الغضبان" و"الظمآن" و"الحيران" وبابه، صِيْغ على هذا البناء الذي (2) يتسع النطق به ويمتلئ الفم بلفظه لامتلاء حامله من هذه المعاني، فكان الغضبان هو الممتلئ غضبًا، الذي قد أتسع غضبُه حتى ملأ قلبَه وجوارحَه، (ظ/ 30 ب) وكذلك بقيتها. ولا يتسع المقام لبسط هذا فإنه يطول ويَدِق جدًّا حتى تَكِعّ (3) عنه أكثر الأفهام وتنبو عنه للطافته، فإنه ينشأ من جوهر الحرف تارةً، __________ (1) في هامش (ظ): "معتبرة". (2) سقطت من (ق). (3) أي: تضعف وتجبن، وانظر ص / 325 السطر التاسع.

(1/189)


ومن صنفته، ومن اقترانه بما يناسبه، ومن تكرُّره، ومن حركته وسكونه، ومن تقديمه وتأخيره، ومن إثباته وحذفه، ومن قلبه وإعلاله، إلى غير ذلك من الموازنة بين الحركات، وتعديل الحروف، وتوخي المشاكَلَة والمخالفة، والخفة والثقل، والفصل والوصل، وهذا باب يقوم من تتبعه سِفْرٌ ضَخْم، وعسى الله أن يساعد على إبرازه بحوله وقوَّته. ورأيت لشيخنا أبي العباس ابن تيمية فيه فهمًا عجيبًا، كان إذا انبعث فيه (ق/42 أ) أتى بكلِّ غريبة، ولكن كان (1) حاله فيه كما كان كثيرًا يتمثَّل: تأَلَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فقلتُ لَهُ ... يَا أَيُّها البَرْقُ إنِّي عَنْكَ مَشْغُوْلُ (2) ولنذكر من هذا الباب مسألة واحدة وهي: حال اللفظ في إفراده وتغييره عند زيادة معناه بالتثنية والجمع دون سائر تغيراته. فنقول: لما كان المفرد هو الأصل، والتثنية والجمع تابعان له، جعل لهما في الاسم علامة تدل عليهما، وجعلت آخره قضاءً لحق الأصالة فيه والتبعية فيهما والفرعية، فالتزموا هذا في التثنية ولم ينخرم عليهم. وأما الجمع فإنهم ذهبوا به كلَّ مذهب وصرفوه كل مصرف، فمرة جعلوه على حدِّ التثنية وهو قياس الباب، كالتثنية والنسب والتأنيث وغيرها, وتارة (3) اجتلبوا له علامةً في وسطه كالألف في "جَعَافر"، والياء في "عَبِيد"، والواو في "فُلُوس"؛ وتارة جعلوا اختصار بعض حروف وإسقاطها علامة عليه، نحو: "عنكبوت وعَنَاكِب", __________ (1) ليست في (ق). (2) لم أعرف قائله، وقد ذكره المؤلف أيضًا في "مدارج السالكين": (2/ 805). (3) من (ظ).

(1/190)


فإنه لما ثَقُل عليهم المفرد، وطالت حروفه، وازداد ثقلًا بالجمع خفَّفوه بحذف (1) بعض حروفه، لئلا يجمعوا بين ثقلين، ولا يناقض هذا ما أصَّلوه من طول اللفظ لطول المعنى وقصره لقصره، فإن هذا بابٌ آخر من المعادلة والموازنة عارَضَ ذلك الأَصل، ومنع من طَرْدِه. ومنه (2) جمعهم "فعيل وفعول وفَعَال" على "فُعُل" كـ "رَغِيْف وعَمُوْد وقَذَال" على "رُغُف وعُمُد وقُذُل" لثقل المفرد بالمدة؛ فإن كان في واحِدِه تاء التأنيث فإنها تحذف في الجمع، فكرهوا أن يحذفوا المَدَّة فيجمعوا عليه بين نَقْصَين (3) فقلبوا المَدَّةَ ولم يحذفوها، كـ "رسالة ورسائل" و"صحيفة وصحائف"، فجبروا النقص بالفرق لا أنهم تناقضوا. وتارة يقتصرون على تغيير (4) بعض حركاته فيجعلونها علامة لجمعه، كـ "فَلَك وفُلْك" و"عَبْد وعُبُد", وتارة يجتلبون له لفظًا مستقلًّا من غير لفظ واحِدِه، كـ "خيل" و"أنام" و"قوم" و"رهط" ونحوه؛ وتارة يجعلون العلامة في التقدير والنية لا في اللفظ، كـ "فلك" للواحد والجمع، فإن ضمة الواحد في النية كضمة "قفل" (5) وضمة الجمع كضمة "رسل"؛ وكذلك: "هِجَان ودِلاصى وأسْمال وأعْشَار" مع أن غالب هذا الباب إنما يأتي في الصفات (6) لحصول التمييز والعلامة بموصوفاتها، فلا يقع ليس، ولا يكاد يجيء في غير __________ (1) (ق): "فحذفوا". (2) (ظ ود): "ومنهم". (3) (ظ ود): "نقيضين". (4) ليست في (ق). (5) (ق ود): "فعل". (6) (ظ ود): "في الباب".

(1/191)


الصفات إلا نادرًا جدًّا, ومع هذا فلابد أن يكون لمفرده (1) لفظ يُغَاير جمعه، ويكون فيه لغتان؛ لأنهم علموا أنه يثقل عليهم، أما في الجر والنصب؛ فلتوالي الكَسَرات، وأما في الرفع؛ فَلِثِقَل (2) الخروج من الكسرة إلى الضمَّة، فعدلوا إلى جمع تكسيره، ولا يرد هذا عليهم في "راحمين وراحمون" لفصل الألف الساكنة ومنعها من توالي الحركات، فهو كـ "مسلمين وقائمين"، وكذلك عَدَلوا عن جمع فعل المضاعف (ق/ 42 ب) من صفات العقلاء كـ "فظّ" و"برّ"، فلم يجمعوه جمع سلامة, ويقولوا: "برون" و"فظون"؛ لئلا يشتبه بـ "كلُّوب" و"سفُود"؛ لأنه بزِنَتهْ فكسروه وقالوا: "أبرار"، فلما جاؤوا إلى غير المضاعف كـ "صَعْب" جمعوه جمع تصحيح ولم يخافوا (ظ/ 31 أ) التباسًا؛ إذ ليس في الكلام "فَعْلول"، و"صعْفوق" نادِر. فتأمل هذا التفريق وهذا التصور الدال على أن أذهانهم قد فاقت أذهانَ الأمم، كما فاقت لغتهم لغاتِهِم. وتأمل كيف لم يجمعوا "شاعرًا" جَمْع سلامة مع استيفائه شروطه بل كسروه، فقالوا: "شعراء" إيذانًا منهم بأن واحِدَه على زِنَةِ "فَعِيل"، فجمعوه جَمْعَه كـ "رحيم ورُحَماء" لما كان مقصودهم المبالغة في وصفهم بالشعور (3). ثم انظر كيف لم ينطقوا بهذا الوجه (4) المقدَّر كراهية منهم لمجيئه بلفظ "شعير" وهو الحبُّ المعروف، فأتوا "بفاعل" (5)، ولما لم يكن __________ (1) (ق): "لمفرده جمع". (2) (ظ ود): "فينتقل"! (3) (ق): "بالشعر". (4) (ق): "الواحد". (5) (ق): "بلفظ فاعل".

(1/192)


هذا المانع في الجمع قالوا: "شعراء". فأما التثنية (1) فإنهم ألزموها حالًا واحدًا، فالتزموا فيها لفظ المفرد، ثم زادوا عليه علامة التثنية، وقد قدَّمنا أن ألف التثنية في الأسماء أصلها ألف الاثنين في "فعلا"، وذكرنا الدليل على ذلك، فجاءت الألف في التثنية في الأسماء كما كانت في "فعلا" علامة الاثنين، وكذلك الواو في جمع المذكر السالم علامة الجمع نظير "واو" فعلوا، وتقدم أنك لا تجد "الواو" علامةً للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال، أو ما هو في حكمها. ولما كانت الألف علامة الاثنين في ضمير مَنْ يعقل وغيره كانت علامة التثنية في العاقل وغيره، وكانت الألف أولى بضمير الاثنين لقرب التثنية من الواحد، وأرادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الاثنين، كما كان ذلك في الواحد؛ للقرب المذكور. ولما كانت "الواو" ضمير العاقلين خاصة في "فعلوا" خصوها بجمع العقلاء في نحو: "هم مسلمون" و"قائمون" (2)، ولما كان في الواو من الضم والجمع ما ليس في غيرها؛ خصُّوها بالدَّلالة على الجمع دون الألف. وسرُّ المسألة؛ أَنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد المجموع، وأنت معتمد الإخبار عن كل واحد منهم، سلم لفظ باء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه، فقلت: "فعلوا" و"هم فاعلون"، وأكثر ما يكون هذا فيمن يعقل؛ لأن جميع ما لا __________ (1) انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 152 - فما بعدها) بتصرف، وما تقدم (ص/ 145). (2) (ق) "ونائمون".

(1/193)


يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة، كالثُّلَّة والأُمَّة و [الجُمَّة] (1)، فلذلك تقول: "الثياب بيعت"، ولا تقول: "بيعوا". و"الجمال ذهبت"، ولا تقول: "ذهبوا" (2)؛ لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين آحادها. هذا هو الغالب فيما لا يعقل إلا ما أُجْري منه (3) مجرى العاقل. وجاءت جموع التكسير مُغيَّرًا (4) فيها بناء الواحد، جارية (ق/ 43 أ) في الإعراب مجراه حيث ضعفَ الاعتماد على كل واحد بعينه، وصار الخبر كأنه عن الجنس الكثير الجاري في لفظه مَجْرى الواحد؛ ولذلك جمعوا ما قلَّ عدده من المؤنَّث جمع السلامة، وإن كان مما لا (5) يعقل نحو: "الثمرات والسمرات"؛ إلا أنهم لم يجمعوا المذكر منه -وإن قل عدده- إلا جمع تكسير؛ لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير "ألف" فرقًا بينه وبين الواحد، وأما "التاء" فقد كانت موجودة (6) في الواحدة وفي وصفها، وإن كثر جَمَعُوه جمع تكسير كالمذكر فإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل الاعتماد في إسناد الخبر على أفراده، فما ظنك به في الاثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي هو علي حدها، لقربه منها، فلهذا لا تجد التثنية في __________ (1) في الأصول: "الجملة" والتصويب من "النتائج"، وقد تقدم نحو هذا التحريف وتصويبه (ص/ 144). والجمة: الجماعة. (2) العبارة في (ظ ود): "الثياب بيعت وذهبت" ولا تقول: "بيعوا وذهبوا" ". (3) من (ق). (4) (ظ ود): "معتبرًا". (5) (ظ ود): "مالا". (6) ليست فى (ق).

(1/194)


العاقل وغيره إلا على حدٍّ واحد، وكذلك ضمير الاثنين في الفعل. وإذا عُلِم هذا؛ فحق العلامة في تثنية الأسماء أن تكون على حدها في علامة الإضمار، وأن تكون ألفًا في كلِّ الأحوال. وكذلك فعلت طوائفُ من العرب، وهم: خَثْعم وطي وبنو الحارث بن كعب، وعليه جاء في قول مُحَققي النحاة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وأما أكثر العرب فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني والمقصور من حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد، والتثنية طارئة على الإفراد، وكرهوا زوال الألف؛ لاستحقاق التثنية لها، فتمسَّكوا بالأمرين، فجعلوا "الياء" علامة الجر وشركوا النصب معه لما علمت من تعليل النحاة، فكان الرفع أجدر بالألف، لا سيما وهي في (ظ/ 31 ب) الأصل علامة إضمار الفاعل، وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارعه وقام مقامه. وأما "الواو" فقد فهمت اختصاصها بالجمع واستحقاق الرفع لها مما (1) قررناه في "الألف"؛ ولكنهم حولوها إلى "الياء" في الجر؛ لما ذكرنا في ألف التثنية. ومتى انقلبت الواو ياء، أو [الياء واوًا]، فكأنها هي (2)؛ إذ لم يفارقها المد واللين، فكأنهما حرف واحد، والانقلاب فيهما تغير (3) حال لا تبديل، ولهذا تجدهم يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال، ويقولون في "تاء" تُراث وتُخمة وتُجاه: إنها بدل من "الواو". __________ (1) (ظ ود): "ما". (2) العبارة في (ظ ود): "ومتى انقلبت الواو ياء فكأنها إذ ... "، وتكررت في (ق): "أو الواو ياء" والصواب ما أثبت. (3) (ظ): "تعتبر"، و "النتائج": "تغيير".

(1/195)


فإن قيل: فإذا كان بعض العرب قد جعل التثنية بالألف في كل حال، فهلَّا جعلوا الجمع بالواو فى جميع أحواله؟. قِل: إِن الألف منفردة فى كثير من أحكامها عن الواو والياء، والياءُ (1) والواو أختان، فكأنهم لما قلبوها ياءً في النصب لم يبعدوا عن الواو، بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياءً بَعُدوا عنها. فإن قيل: فما بال "سنين" و"مئين" وبابها جُمع على حدِّ التثنية، وليس من صفات العاقلين ولا أسمائهم؟. قيل: إِن هذا (ق/: 43 ب) الجمع لا يوجد إلا فيما كَمُلتْ فيه أربعة شروط. أحدها: أن يكون: معتل اللام. الثاني: أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين. الثالث: أن يكون مؤنثًا. الرابع: أن لا يكون له مذكر. فخرج من هذا الضابط: "شَفَة" لأن محذوفها "هاء"، وكذا "شاة وعضة"، وخرج منه: "أَمة"؛ لأن لها مذكرًا (2) -وإن لم يكن على لفظها- فقالوا: في جمعها: "إِمْوَان" ولم يجمعوه جمع سِنِين؛ كيلا يظن أنه جمع المذكر إذ كان له مذكر، فجمعوا هذا الباب جمع سلامة من أجل أنه مؤنث، والمؤنث يجمع جمع سلامة وإن لم يكن على هذا اللفظ، فلما حصل فيه جمع السلامة بالقياس الصحيح __________ (1) ليست في (ق). (2) في جميع الأصول: "مذكر".

(1/196)


-وكانت عادَتُهم ردَّ اللام المحذوفة في (1) الجموع، وكانت اللام المحذوفة واوًا أو ياءً- أُظْهِرَ في الجمع السالم لها ياء أو واو لم يكن (2) في الواحد، وساق القياس إليها سَوْقًا لطيفًا حتى حَصَلت له بعد أخذها منه، فما أشبه حال هذا الاسم بحال من أخذ اللهُ منه شيئًا وعوَّضه خيرًا منه، وأين الواو والياء الدالة على جمع أُولي العلم من ياءٍ أو واوٍ لا تدل على معنًى ألبتةَ؟!. فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في الكتب والألسنة!!. ثم انظر كيف كسروا السين من "سِنين"؛ لئلا يلتبس بما هو على وزن "فعول" من أوزان المبالغة، فلو قالوا: "سَنون" -بفتح السين- لالتبس بفعول من سَنَّ يسنُّ، فكان كسر السين تحقيقًا للجمع؛ إذ ليس في الكلام اسم مفرد على وزن "فِعِيْل" و"فِعُول" (3) -بكسر الفاء-. فإن قيل: فما أنت صانع في الأرَضين؟. قيل: ليست الأرض في الأصل كأسماء الأجناس، مثل: "ماء" و"حجر" و"تمر"، ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر، فهي بمنزلة السُّفل والتَّحت، وبمنزلة ما يقابلها كالفوق والعُلو، ولكنها وُصِفَ بها هذا المكان المحسوس فجرت مجري (4): "امرأة زَوْر وضيف". ويدل على هذا قول الراجز: __________ (1) (ق): "على". (2) العبارة في (ق): "أو واوًا أو لم يكن"، وفي (د): " ... ولم ... ". (3) (ق): "فعيل". (4) من قوله: "مجري" إلى هنا مكرر في (ظ).

(1/197)


* ولم يُقَلِّب أَرْضَهَا البَيْطَارُ (1) * يصف قوائم الفرس، فأفرد اللفظ وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى. فإذا كانت بهذه (2) المنزلة؛ فلا معنى لجمعها، كما لا يجمع "الفوق والتحت والعُلو والسُّفل"، فإن قَصَد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعَيَّن قطعة محدودة منها، خرجت عن معنى "السُّفل" الذي هو في مقابلة "العُلو" حيث عين جزءًا محسوسًا منها، فجاز على هذا أن يُثَنى إذا ضممت إليه جزءًا آخر، فتقول: "رأيت أَرَضين"، ولا تقول للواحدة: "أَرْضَة"، كما تقول في واحد التَّمْر: "تَمْرة"؛ لأن الأرض ليسَ باسم جنسٍ كما تقدم. ولا يقال أيضًا: (ق/ 44 أ) أرضة من حيث قلت: ضَرْبة وخَرْجة، لأنها في (3) الأصل تجري مجرى السُّفل والتحت، ولا يتصور في العقول أن يقال: سفلة وتحتة، كما يتصور ذلك في بعض المصادر، فلما لم يمكنهم أن يجمعوا: أرضًا على أرضات، من حيث رفضوا: أَرْضَة، ولا أمكنهم أن يقولوا: آرُض، ولا: آراض من حيث لم يكن مثل أسماء الأجناس، كـ "صخر وكلب"، وكانوا قد عينوا جزءًا (4) محدودًا، فقالوا فيه: أرض، وفي تثنيته: أرضان، لم يُنكروا إذا أضافوا __________ (1) ذكره ابن السكيت في "إصلاح المنطق": (ص / 73) لحُمَيد الأرقط، وابن قتيبة في "أدب الكاتب": (ص/ 51) بلا نسبة وانظر حاشية المحقق. وتمامه: * ولا لِحَبْلَيْه بِها حَبَارُ *. (2) (ق): "عنده". (3) (ق): "هي". (4) (ظ ود): "مجزوءًا".

(1/198)


إلى الجزءين ثالثًا (1) (ظ/32 أ) ورابعًا أن يجمعوه على حدِّ التثنية، فقد تقدم السر في الجمع الذي على حدِّ التثنية، وأنه مقصود إلى آحاده على التعيين، فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده؛ كأسماء الأجناس لم يحتاجوا إلى الجمع، فإن لفظ: "أرض" يأتي على ذلك كلِّه؛ لأنها كلها بالإضافة إلى "السماء" تحت وسفل، فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى المصدر لفظًا ومعنى، وكأنه وصف لذاتها، لا عبارة عن عينها وحقيقتها؛ إذ يصلح أن يُعَبر به عن كلِّ ماله فوق، وهو بالإضافة إلى ما يقابله سُفل كما تقدم، فسماءُ كلِّ شيءٍ أعلاه، وأرضه أسفله، وتأمل كيف جاءت مجموعةً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طُوِّقَهُ مِنْ سَبعْ أَرَضِيْن" (2) لما اعتمد الكلام على ذات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها، دون الوصف لها بتحت أو سُفل في مقابلة: "فوق وعُلوّ" فتأمله. فإن قلت: فلمَ جمعوا السماء فقالوا: سموات، وهلَّا راعَوا فيها ما راعَوا في الأرض فإنها مقابلتها (3)؟ فما الفرق بينهما؟. قيل: بينهما فرقان؛ فرقٌ لفظي وفرقٌ معنوي. أما اللفظي: فإن "الأرض" على وزن ألفاظ المصادر الثلاثية (4)، وهو فَعْل كضَرْب، وأما "السماء" وإن كان نظيرُها في المصادر العلاء والجلاء فهي بأبنية الأسماء أَشْبه، وإنما الذي يماثل "الأرضَ" في __________ (1) (ظ): "بالياء"!. (2) أخرجه البخاري رقم (2452)، ومسلم رقم (1610) من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه-. (3) (ظ): "مقابلة". (4) (ظ ود): "الثلاثة".

(1/199)


معناها ووزنها السُّفل والتَّحْت، وهما لا يثنَّيان ولا يُجْمَعان، وفي مقابلتهما: الفَوْق والعلُو، وهما كذلك لا يجمعان، على أنه قد قيل: إن السموات ليس جمع سماء، وإنما هي جمع سماوة، وسماوةُ كلِّ شيء أعلاه، وأما جمع سماء فقياسُه: أَسْمِيَة، كأكْسِيَة وأَغْطِيَة، أو [سَماءَات في المسلَّم] (1). وليس هذا بشيء, فإن السماوة (2) هي: أعلى الشيء خاصة، ليست باسمٍ لشيءٍ عالٍ، وإنما هي اسم لجزئه العالي، وأما السماء: فاسم لهذا الشقف الرفيع بجملته، فالسموات جمعه لا جمع أجزاءٍ عالية منه، على أنه كله (3) عال. وأحسن من هذا الفرق أن يُقال: لو جمعوا أرضًا على قياس جموع التكسير، لقالوا: "آرُض" كـ "أَفْلُس"، أو آرَاصْ كأجْمال، أو أُرُوْض كفُلُوس، فاستثقلوا (ق /44 ب) هذا اللفظ؛ إذ ليس فيه من الفصاحة (4) والحُسْن والعذوبة ما في لفظ السماوات، وأنت تجد السمع يَنْبو عنه بقدر ما يستحسن لفظ السموات، ولفظ السموات يَلِج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته. ولفظ الأراضي لا يأذن له السمع إلا على كره، ولهدا تفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثةِ ألفاظ تدلُّ على التعدد كما قال تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] كلُّ هذا تفاديًا من أن يُقَال: أَرَاضٍ وآرُض. وأما الفرق المعنوي: فإن الكلام متى اعتمد به على السماء __________ (1) (ظ ود): "سماوات" والمثبتَ من "النتائج". (2) (ق): "السماء". (3) (ظ ود): "كل". (4) (ق): "الصناعة".

(1/200)


المحسوسة إلى هي السقف، وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف، صحَّ جمعُها جمع السلامة؛ لأنَّ العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى؛ لما تقدَّم من قربه من التثنية القريبة من الواحد، ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلاء والرفعة، جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: "قوم عَدْل (1) وزَوْر". وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل، دون أن يقصد ذواتها وأعدادها، وحيث جاءت مقصودًا بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على التعدد (2)، كقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. وفرق ثانٍ: وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها, بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء، فهي وإن تعددت وتكررت (3) فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل، فاختير لها اسم الجنس. وفرق ثالث: أن الأرض هي دار الدنيا إلى التي بالإضافة إلى الآخرة، كما يُدخِل الإنسان إصبعه في اليمِّ، فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة، والله -سبحانه- لم يذكر الدنيا إلا مقللًا لها محقِّرًا لشأنها. وأما السماوات فليست من الدنيا، هذا على أحد القولين في الدنيا فإنها اسم للمكان، فإن السموات مقر ملائكة الرب تعالى، ومحل دار جزائه، ومهبط ملائكته ووحيه، فإذا اعتمد التعبير عنها، عبر عنها بلفظ الجمع؛ إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق، __________ (1) (ظ ود): "عدول". (2) (ظ ود): "البعد"!. (3) (ظ ود): "وتكبرت".

(1/201)


وأما إذا أُريد الوصف الشامل للسموات (ظ/32 ب)، وهو معنى العلو والفوق أُفْرِد ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق، فتأَمل قولَه تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] كيف أُفْرِدت هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق، ولم يُرِد سماءً معينةً مخصوصة، ولما لم تفهم الجهميةُ هذا المعنى أخذوا في تحريف الآية عن مواضعنا. وكذا قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] بخلاف قوله في سبأ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه وأن له ما في السموات وما في الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر معه علمه وتعلّقه بمعلومات مُلكه (1) ومحله، وهو السموات كلها والأرض (2)، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إِرادةً للجنس. وتأمل كيف أتت مجموعةً في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] فإنها أتت مجموعةً هنا لحكمةٍ ظاهرة، وهي: تعلُّق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى إلاهيته، فالمعنى: وهو: الإله وهو المعبود في كل واحدةٍ واحدةٍ من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فَذِكْر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد. ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسنِّنَة فسَّر الآيةَ بما __________ (1) من قوله: "وأن له ... "، إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) ليست في (ق).

(1/202)


لا يليق بها (1)، فقال: الوَقْف التام على {السَّمَاوَتِ}، ثم يبتدئ بقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ}، وغلِطَ في فَهْم الآية، وإنما معناها ما أخبرتُكَ به، وهو قول محقِّقي أهل التفسير (2). وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] إرادة لهذين الجنسين، أي: رب كل ما علا وكل ما سَفل، فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم العام (3) الشامل لكلِّ ما يسمى سماءً، وكل ما يسمى أرضًا، وهو أمر حقيقيٌّ لا يتبدَّل ولا يتغير، وإن تبدلت عين (4) السماء والأرض، فانظر كيف جاءت مجموعةً في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] في جميع السور، لمَّا كان المراد الإخبار عن تسبيح سُكَّانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم (5) يكن بُدٌّ من جمع محلهم. ونظير هذا جمعها في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} [الأنبياء: 19] وكذلك جاءت في قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} [الإسراء: 44]، مجموعةً إخبارًا بأنها تسبِّح له بذواتها وأنفُسِها على اختلاف عددها، وأكَّد هذا المعنى بوصفها بالعدد، ولم يقتصر على السماوات فقط، بل قال: السبع. __________ (1) هذا اختيار ابن جرير في تفسيره (5/ 148)، وانظر ابن كثير (3/ 1284). (2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن": (6/ 251)، و"مجموع الفتاوى": (2/ 404)، و"أضواء البيان": (2/ 162 - 163). (3) ليست في (ظ ود). (4) (ق): "بين". (5) (ق): "إن لم".

(1/203)


وانظر كيف جاءت مفردة في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فالرزق: المطر، وما وعدنا به: الجنة، وكلاهما في هذه الجهة، لا أنهما في كل واحدة واحدة من السموات، فكان لفظ الإفراد أَلْيَق بها. ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] لمَّا كان المكان المراد نفي علم الغيب عن كلِّ من (1) هو في واحدة واحدة من السموات، أتى بها مجموعة. وتأمل كيف لم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها (ق/ 45 ب) إلا مفردة حيث وقعت، لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف. وهذا باب قد فتحه اللهُ لي ولك؛ فَلِجْهُ، وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه: جمعًا وإفرادا، وتقديمًا وتأخيرًا، إلى غير ذلك من أسراره، فلله الحمد والمنة لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه. فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] وبين قوله في سورة (2) سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24]. قيل: هذا من أدق هذه المواضع، وأغمضها (3)، وألطفها فرقًا، __________ (1) (ق): "شيء". (2) من قوله: سورة يونس ... " إلى هنا ساقط من (د). (3) (ق): "وأغمضها سورة".

(1/204)


فتدبر السياق تجده مقتضيًا (1) لما وقع، فإن الآيات التي في سورة يونس سيقت مساقَ الاحتجاج عليهم بما أقرُّوا به (ظ/133 أ) ولم يمكنهم إنكار (2)؛ من كون الرَّب -تعالى- هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبِّر أُمورهم وغيرها، ومخرج الحيِّ من الميت ومخرج الميتِ من الحي، فلما كانوا مقرين بهذا كلِّه حَسُن الاحتجاج به عليهم: إِنَّ فاعل هذا (3) هو الله الذي لا إله غيره، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له (4) شركاء لا يملكون شيئًا من هذا، ولا يستطيعون فِعْلَ شيءٍ منه؟! ولهذا قال -بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى-: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}، أي: لابدَّ أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه، فلابدَّ أن يكون المذكور مما يقرون به. والمخاطَبُون المحتجُّ عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قِبَل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من (5) سماءٍ إلى سماءٍ حتى تنتهي إليهم، ولم يَصِل علمهم إلى هذا؛ فأُفْرِدَت لفظ السماء هنا، فإنهم لا يمكنهم إنكار مجيء الرزقِ منها، لا سيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر؛ فمجيئه من السماء الحي هي السحاب، فإنه يُسَمَّى سماءً لعلوِّه. وقد أخبر سبحانه أنه يبسط السحابَ في السحاءِ بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]، والسحاب __________ (1) (ظ ود): "نقيضًا". (2) سقطت من (ق). (3) (د): "ذلك". (4) سقطت من (ظ ود). (5) من قوله: "قبل هذه ... " إلى هنا ساقط من (د).

(1/205)


إنما هو مبسوط في جهة العلوِّ لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس فلا يُلتفت إلى غيره، فلما انتظم هذا السياق (1) بذكر الاحتجاج عليهم؛ لم يصلح فيه إلا إفراد السماء؛ لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح والأبدان (2)، من الوحي الذي به (3) الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية، فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف (ق/146) والموارد الزبانية والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرِّزق، ولكن القوم لم يكونوا مقرِّين به، فخُوطِبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث يمكنهم إنكاره. وأما الآية التي في سبأ؛ فإنه لم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما يذكر من السموات؛ ولهذا أمرَ رسولَه بأن يتولَّى الجوابَ فيها، ولم يذكر عنهم أنهم هم المجيبون المقرون، فقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24] ولم يقل سيقولون الله، فأمر تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب: بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه، على اختلاف أنواعِه ومنافعه من السموات السبع، وأما الأرض؛ فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الآيتين، إذ يقر به كلُّ أحدِ؛ مؤمن وكافر، وبر وفاجر. ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعًا ومفردة؛ فحيث كانت في سياق الرحمة أتت (4) مجموعةً، وحيث وقعت في سياق __________ (1) ليست فى (ظ ود). (2) (ظ ود): "ولابُدّ"!. (3) (ق): "فيه". (4) (ق): "جاءت".

(1/206)


العذاب أتت مفردةً، سرُّ ذلك: أنَّ رياح الرحمة (1) مختلفة الصِّفات والمهابِّ والمنافع، وإذا هاجت منها ريحٌ أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سَوْرتها ويصدم حِدَّتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفع الحيوان والنبات، فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويردّ سَوْرتها، فكانت في الرحمة رياحًا (2). وأما في العذاب: فإنها تأتى من وجهٍ واحد وصِمام (3) واحد، لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرُها، حتى تنتهي إلى حيث أُمِرَت (ظ/33 ب)، لا يرد سَوْرتها ولا يكسر سرَّتها، فتمتثل ما أُمِرَت به وتصيب ما أُرسلت إليه. ولهذا وصف -سبحانه- الريحَ التي أرسلها على عادٍ بأنها عقيم، فقال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، وهي التي (4) لا تُلْقح ولا خير فيها، والتي تُعْقِم ما مَرَّت عليه. ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا قي قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد؛ لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا يريحٍ واحدة من وجه واحد تسيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت؛ فهو سبب الهلاك، فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح، وأكَّدَ هذا المعنى بوصفها بالطِّيْب دفعًا لتوهُّمِ أن تكون ريحًا عاصفة، بل هي مما يُفرح بها لِطِيْبها، فلَينزِّه الفَطنُ بصيرَتَه في هذه الرياض المونقة المعجبة __________ (1) سقطت من (ق)، ومن قوله: "أتت مجموعة ... " إلى هنا ساقط من (د). (2) (ظ): "ريحًا". (3) (ظ ود): "حمام"!. (4) ليست في (ق).

(1/207)


التي ترقص القلوب (ق/46 ب) لها فرحًا، ويغتِذي بها عن الطعام والشراب، فالحمد لله الفتَّاح العليم. فمثل هذا الفصل يُعَض عليه بالنواجذ. وتُثْنى عليه الخناصر، فإنه يشرف بك على أسرار -وعجائب تجتنيها من كلام الله، في الله الموفق للصواب. ومما يدخل في هذا الباب: جمع الظلمات وإفراد النور، وجمع سُبُل الباطل وإفراد سبيل الحقّ، وجمع الشمائل وإفراد اليمين. أما الأول: فكقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. وأما الثاني: فكقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وأما الثالث: فكقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48]. والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة، وسرُّ ذلك -والله أعلم-: أن طريق الحق واحد، وهو على الواحد الأحد كما قال تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر: 41]، قال مجاهد: الحق طريقه على الله ويرجع إليه (1)، كما يقال: طريقك عليَّ، ونظيره قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] القصد (2) في أصح القولين، أي: السبيلُ القَصْدُ الذي (3) يوصل إلى الله، وهي طريقٌ عليه، قال الشاعر: __________ (1) أخرجه ابن جرير: (7/ 517)، وابن أبي حاتم: (7/ 2264)، وابن المنذر: -كما فى "الدر المنثور": (4/ 184) -. (2) سقطت من (ظ ود). (3) سقطت من (ق).

(1/208)


فهنَّ المنَايَا أيُّ وادٍ سَلَكنَهُ ... عَلَيْها طَرِيْقي أو عَلَيَّ طَرِيْقُهَا (1) وقد قررتُ هذا المعنى وبينتُ شواهدَه من القرآن، وسرَّ كون الصراط المستقيم (2) على الله، وكونه تعالى على الصراط المستقيم كما في قول هود: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56] في كتاب: "التحفة المكية" (3). والمقصود أن طريقَ الحق واحد إذ مرَدُّه إلى الله الملك الحق، وطرق الباطل متشعِّبة متعددة (4)، فإنها لا ترجع إلى شيءٍ موجود ولا غايةَ لها توصل إليها، بل هي بمنزلة بُنَيَّات الطريق، وطريق الحق بمنزلة الطريق الموْصِل إلى المقصود، فهي وإن تنوَّعت؛ فأصلها طريق واحد. ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق (5) الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما؛ أُفرد النورُ وجُمعت الظلماتُ، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] (ظ/134) فوحَّد وليَّ الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد، وجَمع أولياء (6) الذين كفروا __________ (1) لم أعرف قائله. (2) ليست في (ق). (3) أشار المؤلف إلى كتابه هذا في عدة مواضع من هذا الكتاب، وفي كتاب "طريق الهجرتين": (ص/ 378)، وانظر: "ابن القيم حياته وآثاره": (ص/ 228)، ولا يُعلم من خبره شيء، لكن يبدو من إحالات المؤلف عليه أنه كتاب كبير كثير الفوائد. (4) (ق): "متعددة متسعة". (5) (ق): "الطريق". (6) سقطت من (ظ ود).

(1/209)


لتعددهم وكثرتهم. وجمع الظلمات وهي طوق الضلال والغي لكثرتها واختلافها، ووحَّد النورَ وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه. ولما كانت اليمين جهة الخير والفلاح وأهلها هم الناجون؛ أُفردت، ولما كانت الشمال (ق/ 47 أ) جهة أهل الباطل -وهم أصحاب الشمال- جمعت في قوله تعالى: {الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48]. فإن قيل: فهلَّا جاءت (1) كذلك في قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 41]، وما بالها جاءت مفردة (2)؟. قيل: جاءت مفردة؛ لأن المراد أهل هذه الجهة، ومصيرهم ومآلهم إلى جهة واحدة وهي: جهَة الشِّمال مستقرُّ أهل النار، والنار من (3) جهة الشِّمال، فلا يحسن مَجيئها مجموعةً؛ لأن الطرق الباطلة -وإن تعددت- فغايتها المردُّ إلى طريق الجحيم وهي جهة الشمال، وكذلك مجيئها مفردة في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) لما كان المراد: أن لكلِّ عبد قعيدين، قعيدًا عن يمينه وقعيدًا عن شماله، يحصيان عليه الخيرَ والشرَّ، فلكل عد من يختص بيمينه وشماله من الحَفَظَة، فلا معنى للجمع هاهنا، وهذا بخلاف قوله تعالى حكاية عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فإن الجمعَ هنا في مقابلة كثرة من يريد إعْواءَهم، فكأنه أقسم أن يأتي كلَّ واحد واحد من بين يديه ومن __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) سقطت من (ق). (3) (ق): "هي".

(1/210)


خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يحسُنُ هنا: "وعن يمينهم وعن شمالهم" بل الجمع هاهنا من (1) مقابلة الجملة بالجملة المقتضي توزيع الأفراد على الأفراد (2)، ونظيره: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. وقد قال بعض الناس: إن الشمائل إنما جُمعت في الظِّلال، وأُفرد اليمين؛ لأن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول، ثم يبدو كذلك ظِلاًّ واحدًا من جهة اليمين، ثم يأخذ في النقصان، وأما إذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئًا فشيئًا، والثاني منه غير الأول، فكلما (3) زاد منه شيءٌ فهو غير ما كان قبله، فصار كلُّ جزءٍ مه كأنه ظلٌّ، فحَسُن جمع الشمائل في مقابلة تعدُّد الظلال، وهذا معنًى حسن. ومن هذا المعنى (4) مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارةً مجموعَيْن، وتارة منثنَّيين، وتارة مفردين؛ لاختصاصِ كلِّ محلٍّ بما يقتضيه من ذلك، فالأول: كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] والثاني: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} [الرحمن: 17 - 18] والثالث: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 9]، فتأمّلُ هده الحكمةِ البالغة في تغاير هده المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب مواردها يُطْلِعُك على عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيلٌ من حكيم حميد. __________ (1) (ق): "في الجمع هاهنا في ... "، وفي (د): "في". (2) "على الإفراد" سقطت من (ظ ود). (3) (ظ ود): "فلما زاد منه شيئًا". (4) (ق): "الباب".

(1/211)


فحيث جُمِعَت؛ كان المراد بها مشارق الشمس ومغاربها (ق/47 ب) في أيَّام السنة، وهي متعددة، وحيث أُفْرِدا؛ كان المراد أفقي المشرق والمغرب، وحيث ثُنيا؛ كان المراد مشرقَي صعودها وهبوطها ومغربَيْهما (1)، فإنها تبتدئ صاعدةً حتى تنتهي إلى غايةِ أَوْجها وارتفاعها، فهذا مشرق صعودها وارتفاعها (2)، وينشأ منه فصلا الربيع والصيف، ثم: ترجع هابطة حتى ترجع إلى غاية خضيضها وانخفاضها، وهذا غاية هبوطها، وينشأ منه فصلا (3) الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقًا واحدًا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقًا (ظ/ 34 ب) واحدًا، ويقابلها مغرباها. فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ (4) في الإفراد والتثنية والجمع. وأما وَجْه اختصاص كلِّ موضع بما وقع فيه؛ فلم أرَ أحدًا تعرض له ولا فتح بابه، وهو بحمد الله بَيِّن من السياق، فتأمل وروده مثنًّى في سورة الرحمن، لما كان مَسَاق السورة مَسَاق المثاني المزدوجات، فذكر أولاً نوعَى الإيجاد وهما: الخلق والتعليم (5)، ثم ذكر سِرَاجَي العالم ومظهر نوره، وهما: الشمس والقمر، ثم ذكر نوعَي النبات؛ ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض، وهما: النجم والشجر، ثم ذكر نوعَي السماء المرفوعة والأرض [الموضوعة] (6)، __________ (1) (د): "ومغربها". (2) من (ق). (3) من قوله: "الربيع والصيف ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (4) من (ق). (5) (ظ ود): "التعظيم"!. (6) (ق): "نوعَي السماء: والأرض"، و"الموضوعة" ليست في (ظ ود) واستدركناها من "المنيرية".

(1/212)


وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه، ووسَّط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدلَ والظلمَ في الميزان، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما: الحبوب والثمار، ثم ذكر خلق نوعَي المكلفين وهما: نوع الإنسان ونوع الجانّ، ثم ذكر نوعَي المشرقَيْن ونوعَي المغربَيْن، ثم ذكر بعد ذلك البحرين الملح والعذب. فتأمل حُسْن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة وروده كذلك، وقدِّر موضعهما اللفظَ مفردًا ومجموعًا تجدِ السمعَ ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم. ثم تأمل ورودهما مفردين في سورة المزمن لما تقدمهما ذكر الليل والنهار، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سَبْحًا طويلاً، فلما تقدم ذِكْر الليل وما أمِرَ به فيه، وذِكْر النهار وما يكون منه فيه، عَقَّب ذلك بذكر المشرق والمغرب اللَّذَين هما مظهر الليل والنهار، فكان ورودهما مفرَدَيْن في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع؛ لأن ظهور الليل والنهار بهما واحد، فالنهار أبدًا يظهر من المشرق، والليل أبدًا يظهر من المغرب، ثم تأمل مجيئهما مجموعَيْن في سورة المعارج في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40 - 41]، لما كان هذا القَسَم في سياق سَعَة ربوبيته وإحاطة قدرته، والقسم (ق/148) عليه هو: إذهاب (1) هؤلاء والإتيان بخير منهم: ذَكَر المشارقَ والمغاربَ لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة، ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب، فمن فعل هذا كيف __________ (1) (ظ ود) "أرباب"!.

(1/213)


يُعْجِزه أن يبدِّل هؤلاء، وينقل إلى أمكنتهم خيرًا منهم؟!. وأيضًا: فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر فشهود، وقد جعل الله -تعالى- ذلك بحكمته سببًا لتبذُّل أجسام النبات وأحوالِ الحيوانات، وانتقالها من حالٍ إلى غيره، وتبدُّل الحَر بالبرد والبرد بالحر، والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف، إلى سائر تبدلُّ أحوال الحيوان والنيات (1) والرياح والأمطار والثلوج، وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها، كل (2) ذلك تقدير العزيز العليم، فكيف لا يقدر -مع ما يشهدونه من ذلك- على أن يبدل خيرًا منهم!! وأكد هذا المعنى (3) بقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 41]. فلا يليق بهذا الموضع: سوى لفظ (4) الجمع. ثم تأمل كيف جاءت -أيضًا- في سورة الصافات مجموعةً في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} [الصافات: 5] لما جاءت (ظ/ 35 أ) مع جملة المربوبات المتعددة، وهي السموات والأرض وما بينهما؛ كان الأحسن مجيئها مجموعةً لينتظم مع ما تقدَّم من الجمع والتعدد. ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال لذلك، فإن المشارق مظهر الأنوار، وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه (5) ومعاشه وانبساطه، فهو. __________ (1) (ق): "من النيات". (2) (ظ ود): "كان". (3) ليست في (ق). (4) (ظ ود): "لفظته". (5) (ق): "في".

(1/214)


إنشاء مشهود فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث. ثم ذكر تعجُّبَ نبيه من تكذيبهم واستبعادهم البعثَ بعد الموت، ثم قرَّر البعث (1) وحالهم فيه، فكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب، والله أعلم. فائدة (2) إنما ظهرت علامة التثنية والجمع في الفعل دون علامة الواحد؛ لأن الفعلَ يدل على فاعل مطلق، ولا يدل على تثنيةٍ ولا جمعٍ؛ لأنهما طارئان على الإفراد وهو الأصل، ففعل الواحد مستغنٍ عن علامة الإضمار لعلم السامع أن له فاعلاً، ولا كذلك في التثنية والجمع؛ لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنًى ولا مجموع (3). فإن قيل: فما معنى استتار الضمير في الفعل وهو حروف مركبة من حركات اللسان، فكيف يستتر فيها شيء أو يظهر؟. قيل: أكثر ألفاظ النحاة محمول على الاستعارة والتشبيه والتسامح؛ إذ مقصودهم (ق/48 ب) التقريب على المتعلمين. والتحقيق: أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم، ولفظ الفعل متضمِّن له دالٌّ عليه، واستغنى عن إظهاره لتقدم ذكره، وعُبَّر عنه بلفظٍ مضمر ولم يُعبَّر عنه بمحذوف؛ لأن المضمر هو المستتر (4)، فهو مضمر في النية مُخْفًى في الخَلَد، والإضمار هو الإخفاء. __________ (1) (ظ ود): "قدر الموت"، والمثبت من (ق) وهو الأصح. (2) انظر: "نتائج الفِكر": (ص/ 164). (3) في "النتائج" زيادة: "إلا بدليل". (4) تحرفت فى (ظ ود) إلى "المستمر".

(1/215)


فإن قيل: فهلا سموا ما حذفوه لفظًا وأرادوه نيَّةً: مضمرًا، مثل العائد في قولك: "الذي رأيت زيدٌ"، وما الفرق بينهما وبين: "زيد قام"؟. قيل: الضميرُ في: "زيد قام" لم ينطق به ثم حُذِف، ولكنه مضمر في الإرادة، ولا كذلك الضمير المحذوف للعلم به، لأنه قد لُفِظ به في النطق ثم حُذِف تخفيفًا، فلما كان قد لفظ به ثم قطع من اللفظ تخفيفًا عبر عنه بالحذف، والحذف هو: القطع من الشيء. فهذا هو الفرق بينهما. فائدة بديعة (1) لحاق علامة التثنية (2) والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب حرصًا على البيان وتوكيدًا للمعنى؛ إذ كانوا يسمون بالتثنية والجمع نحو: فلسطين وقِنَّسْرين، وحمدان وسلمان، مما يُشبه لفظه لفظ المثنى والجمع، فهذا ونحوه دعاهم إلى تقديم العلامة في قولهم: "أكلونى البراغيث"، وقد ورد فى الحديث: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ" (3)، وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين، وكذلك التاء في: "قامت هِند" ليست للفعل. [إذ الفعل] إنما هو حَدَث مذكَّر (4) لا يلحقه تأنيث إلا في نحو: "ضرْبَة وقَتْلَة"، والفعل لم يشتق من __________ (1) انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 166). (2) تصحفت في (ق) إلى "التأنيث". (3) أخرجه البخاري رقم، (555)، ومسلم رقم (632) عن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وانظر المسألة في "البحر المحيط": (3/ 34)، و"فتح الباري": (2/ 42). (4) (ظ ود): "إذ هو حيث يذكر"!.

(1/216)


المصدر [محدودًا] (1) وإنما يدل عليه مطلقًا، فالتاء إذا بمنزلة علامة التثنية والجمع، إلا أنها أَلْزم للفعل منها. وقد ذكر النحاة في ذلك فروقًا وعللاً مشهورة فراجعها، ولكن ينبغي أن تتنبه لأمور تجب مراعاتها. منها: أنهم قالوا: إن الاسم المؤنث إذا كان تأنيثه حقيقيًّا؛ فلابد من لحوق تاء التأنيث في الفعل، وإن كان مجازيًا كنتَ بالخيار، وزعموا أن التاء في: {*قَالَتِ الْأًعْرَابُ} [الحجرات: 14] (ظ/35 ب) ونحوه؛ لتأنيثِ الجماعة وهو غير حقيقي، وقد كان على هذا لحوق التاء في: {*وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 35] أولى؛ لأن تأنيثهن حقيقي. واتفقوا أن الفعلَ إذا تأخر عن فاعله المؤنث، فلابدَّ من إثبات التاء، وإن لم يكن التأنيثُ حقيقيًّا، ولم يذكروا فرقًا بين تقدُّم الفعل وتأخُّره. ومما يقال لهم: إذا (2) لحقت التاء لتأنيث الجماعة، فلِمَ، يجوز في جمع السلامة المذكر كما جازت في جمع التكسير؟. ومما يُقال لهم أيضًا: إذا كان لفظ الجماعة مؤنثًا، فلفظ الجمع مذكر، فلِمَ روعي لفظ التأنيث دون لفظ التذكير؟. فإن قلتم: أنت مخيَّر، فإن راعيتَ لفظ التأنيث أنَّثتَ، وإن راعيت لفظ (ق/ 49 أ) التذكرِ ذكَرتَ. قيل لهم: هذا باطل، فإن أحدًا من العرب لم يقل: الهنداتُ ذهبَ، [ولا: الجِمالُ انطلقَ، ولا: الأعراب تكلَّم] (3)، مراعاةً للفظ __________ (1) (ظ ود وق): "محددًا" المثبت من "النتائج". (2) (ظ ود): "إذا". (3) (ق وظ ود): "ولا الأعراب انطلق"، وكذا في المنيرية، والمثبت من "النتائج".

(1/217)


الجمع، فبطلت العلة. فهذه عللهم قد انتقضت كما ترى فاسمع الآن سرَّ المسألة وكَشْفَ قناعها: الأصل في هذا الباب أن الفعل متى اتصل: بفاعلة، ولم يحجز (1) بينهما حاجز، لحقت العلامة، ولا نبالي أكان التأنيث حقيقيًّا أم مجازيًّا، فتقول: "طابت الثمرة" و"جاءت هند"، إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسمٍ آخر مذكَّر، كالحوادث والحدثان، والأرض والمكان (2)، فلذلك جاء: * فإنَّ الحوادثَ أَودى بها (3) * فإن الحوادث في معنى الحدثان، وجاء: *ولا أَرض أَبْقَل إبقالها (4) * فإنه في معنى: ولا مكان أَبْقَل إبقالها. وإذا فصلت الفعلَ عن فاعله، فكلما بَعُد عنه قَوِيَ حذف العلامة، وكلما قَرُبَ قَوِيَ إثباتها، وإن توسَّط توسط، فـ "حضرَ القاضيَ اليومَ امرأةٌ" أحسنُ مِن "حَضَرَت". وفي القرآن: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]. __________ (1) (ظ ود): "يَجْر". (2) (ظ ود): "الملكان". (3) عجز بيت للأعشى. "ديوانه": (ص/ 221)، والرواية فيه: فإن تعهديني ولي لمة ... فإن الحوادث ألوى بها (4) عجز بيت لعاصر الطائي، انظر: "الخصائص": (2/ 411) وغيره، وصدره: *فلا مُزنة ودقت وَدْقها* ووقع في (ظ): "والأرض"!.

(1/218)


ومن هنا كان إذا تأخر الفعلُ عن الفاعل وجبَ ثبوت "التاء" طال الكلام أم قَصُر؛ لأن الفعل إذا تأخر كان فاعله مضمرًا متصلاً به اتصال الجزءِ بالكلِّ، فلم يكن بُدٌّ من ثبوت التاء لِفَرْط الاتصال، وإذا تقدَّم الفعلُ متصلاً بفاعله الظاهر، فليس مؤخر الاتصال كـ "هو" مع المضمر؛ لأن الفاعل الظاهر كلمة، والفعل كلمة أخرى، والفاعل المضمر والفعل كلمة واحدة؛ فكان (1) حذف "التاء" في "قامت (2) هند" و"طابت الثمرة" أقرب إلى الجواز منه في قولك: "الثمرة (3) طابت". فإن حَجَز بين الفعل وفاعله حاجز، كان حذف "التاء" حسنًا، وكلما كثرت الحواجز كان (4) حذفها أحسن. فإن كان الفاعل جمعًا مكسَّرًا دخلت التاء لتأنيث الجماعة (5)، وحُذِفت لتذكير اللفظ؛ لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه، ومجراه في (6) كثير من الكلام مجرى اسم الجنس. فإن كان الجمع مسلمًا فلابد من التذكير لسلامة لفظ الواحد، فلا تقول: قالت الكافرون، كما لا تقول: قالت الكافر (7)؛ لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطروء الجمع عليه. __________ (1) من قوله: "والفاعل المضمر ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) تحرفت في (ظ) إلى: "تأنيث"، وفي (د): "كان حذف التاء في تأنيث". (3) سقطت من (ق). (4) (ق): "ولما كثرت الحواجز فإن ... ". (5) سقطت من (ظ ود). (6) (ق): "في مجرى كثير". (7) "كما لا تقول: قالت الكافر" ساقط من (د).

(1/219)


فإن قيل: فلم [لا] (1) تقول: "الأعراب قال"، كما تقوله مقدَّمًا؟. قيل: ثبوت "التاء" إنَّما كان مراعاة لمعنى الجماعة؛ فإذا أردت: ذلك المعنى أَثْبَت "التاء"، وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير، وإن لم تُرِدْ معنى الجماعة حَذفتَ "التاء" إذا تقدم الفعل، واحتيج (2) إليها إذا تأخر؛ لأن ضمير الفاعلين لجماعة في المعنى وليسوا جمعًا؛ لأن الجمع مصدر جمعتُ أَجْمع، فمن قال: إن التذكير في: "ذهبَ الرجال" و"قامَ الهنداتُ" مراعاة لمعنى الجمع فقد أخطأ. وأما حذف التاء (3) من: {وَقَالَ نِسْوَهٌ}؛ فلأنه اسم جمع كرَهْط وقَوْم، ولولا أن فيه تاء (ظ/36 أ) التأنيث لقَبُحَت (4) التاء في فعله. ولكنه قد يجوز أن تقول: "قالت نِسوة" كما تقول: قالت فِتْيَة وصِبْيَة (5). فإن قلت: "النسوة" باللام كان دخول "التاء" في الفعل أحسن، كما كان ذلك في: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ}؛ لأن اللام للعهد، فكأنَّ الاسم قد تقدم ذكره، فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور، من أجل الألف واللام، فإنَّها ترد (ق/ 49 ب) على (6) معهود. فإن قلت: فإذا استوى ذكر "التاء" وتركها في الفعل المتقدم، وفاعله مؤنث غير حقيقي، فما الحكمة في اختصاصها في قصة __________ (1) مستدرك من "النتائج". (2) في الأصول و"النتائج": "ولم يحتج" واستفدنا التصحيح من محقق النتائج. (3) من قوله: "إذا تقدم الفعل .. " إلى هنا ساقط من (ق). (4) قي الأصول و"النتائج" و"لفتحت" والتصحيح من محقق النتائج. (5) تحرفت في (ظ ود) إلى: "قبيلة ونسوة". (6) (ظ ود): "إلى".

(1/220)


شعيب (1) بالفعل، وحَذْفها في قصة صالح من قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]. قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي؛ إذ كانت منتظمةً بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66] فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن (2) العذاب المذكور في الآية، فقوِيَ التذكير، بخلاف قصة شعيب؛ فإنه لم يذكر فيها ذلك، هذا جواب السُّهيلي (3). وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله، وهو: أنَّ الصيحة يراد بها المصدر، بمعنى: الصِّياح، فيحسُن فيها التذكير، ويُراد بها الواحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن. وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ. أحدها: الرجفة فى قوله فى الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78]. الثاني: الظلة بقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189]. الثالث: الصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94]، وجمع لهم بين الثلاثة، فإن الرَّجفةَ بدأت بهم، فأصْحَروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم، فصهرتهم (4) الشمسُ بِحرِّها __________ (1) في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94]. (2) (ق): "وذلك". (3) في "نتائج الفكر": (ص / 170). (4) (ق): "فضربتهم".

(1/221)


ورفعت لهم الظُّلَّة، فأُهْرِعُوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم منها العذاب، وفيه الصيحة فكان ذِكْر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصِّياح، وكان ذكر التاء أحسن (1)، والله أعلم. فإن قيل (2): فلم قلتم: إن "التاء" حرف ولم تجعلوها بمنزلة الواو والألف في: "قاما وقاموا"؟. قيل: لإجماع العرب على قولها: "الهندان قامتا" بالتاء والضمير، ولا يجور أن يكون للفعْل ضميران فاعلان. فإن قيل: فما الفرق بين قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] وبين قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]. قيل: الفرق من وجهين: لفظيّ ومعنويّ، أما اللفظي فهو: أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل قي قوله تعالى في {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} أكثر منها في قوله تعالى: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}، وقد تقدَّم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن. وأما المعنوي: فإِن "مَن" (3) في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} واقعة على الأمة والجماعة، وهي مؤنثة لفظًا ألا تراه يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] أي من تلك الأمم أمم (4) حقَّت __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) "النتائج": (ص/ 171). (3) سقطت من (ق). (4) سقطت من (ق).

(1/222)


عليه الضلالة، ولو قال بدل ذلك (ق/ 50 أ): ضلت، لتعينت "التاء"، و [معنى] (1) الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامين واحدًا كان إثبات "التاء" أحسن من تركها؛ لأنها ثابتة فيما هو في (2) معنى الكلام الآخر. وأما: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] فالفريق مذكَّر، ولو قال: فريقًا ضلوا، لكان بغير تاء. وقوله تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} في معناه فجاء (ظ/36 ب) بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية، تدع العربُ حكم اللفظ (3) الواجب له في قياس لغتها، إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم، ألا (4) تراهم يقولون: "هو أحسن الفتيان وأجمله"؛ لأنه في معنى: هو أحسن فتًى وأجمله (5). ونظيره تصحيحهم: حول وعور؛ لأنه في معنى: أحول وأعور، ونظائره كثرة جدًّا. فإذا حَسُنَ الحمل على المعنى فيما كان القياس أن لا يجوز (6)؛ فما ظنك به حيث يجوِّزه القياس والاستعمال!!. وأحسن من هذا أن تقول: إنهم أرادوا: "أحسن شيءٍ وأجمله"، فجعلوا مكان "شيء" قولهم: "الفتيان" تنبيهًا على أنه أحسن شيء من هذا الجنس، فلو اقتصروا على ذكر "شيءٍ"، لم يدل على الجنس المفضل عليه، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْناهُ على ولد في صِغَره وأرعاه __________ (1) زيادة يستقيم بها الكلام. (2) (ق): "من". (3) سقطت من (ق). (4) ليست في (ظ ود). (5) "لأنه في معنى: هو أحسن فتى وأجمله، سقطت من (ق). (6) (ظ): "لا يجوّزه".

(1/223)


في ذاتِ يَدِه" (1)، فهذا يدل على أن التقدير هناك: "أحسن شيءٍ وأجمله"، لا أنه: "أحسن فتى"؛ إذ لو كان التقدير: "أحسن فتى" لكان نظيره هنا: "أحنى امرأة على ولد"، فكان يقال: "أحناها وأرعاها"، فلما عَدَل إلى التذكير؛ دل على أنهم أرادوا (2): أحْنا شيءٍ من هذا الجنس وأَرْعاه. فائدة بديعة (3) قولك: "ضرب القوم بعضهم بعضًا"، هذه المسألة مما لم يدخل تحت ضبط النحاة ما يجب تقديمه من الفاعلين، فإن كليهما ظاهر إعرابه وتقديم الفاعل متعيِّن. وسرُّ ذلك مكان (4) الضمير المحذوف، فإن الأصل أن يقال: "ضرب القوم بعضهم بعضهم"؛ لأن حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهرًا أو مقدَّرًا، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل لم يجوزوا تأخير الفاعل، فيقولوا: "ضرب بعضًا بعضُهم"؛ لأن اهتمامهم بالفاعل قد قَوِيَ وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لابُدَّ منه؛ فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة، صارت الحاجةُ إليه مرَّتين. فإن قلت: فما المانع من إضافة "بعض" المفعول إلى الضمير فتقول: "ضرب القوم بعضهم بعضٌ"، أو: "ضربَ القوم بعض بعضَهم"؟ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3434)، ومسلم رقم (2527) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (2) (ق): "عليه أنه أراد". (3) "نتائج الفِكر": (ص/174). (4) في "المنيرية": "وهو".

(1/224)


قلتُ: الأصل أن يُذْكر الضمير فيهما (1) جميعًا، فلما أرادوا حذفه هن أحدهما تخفيفاً، كان حذفه مع المفعول -الذي هو كالفَضْلَة في الكلام- أولى من حذفه مع الفاعل الذي لابدَّ منه ولا غِنَى عنه، وليتصل بما يعود إليه ويقرب منه، نعم قد يُضاف إليه "بعض" وهو مفعول، إذا كان (ق/ 50 ب) البعض الآخر مجرورًا (2)، كقولك: خلطت القومَ بعضهم ببعض؛ لأن رتبة المفعول هاهنا التقديم على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم على المفعول، فحق (3) الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو أهم بالتقديم. فائدة (4) إذا قلت: "إنما يأكلُ زيدٌ الخبزَ"، حَقَّقت ما يتصل ومَحَّقْت ما ينفصل، هذه عبارة بعض النحاة، وهي عبارة أهل سمرقند يقولون في "إنما": وُضِعت لتحقيق المتصل وتمحيق (5) المنفصل، وتلخيص هذا الكلام: أنها نفي وإثبات، فأثبتَّ لزيدٍ أكْلَ الخبز المتصل به في الذكر ونفيت ما عداه، فمعناه: ما يأكل زيدٌ إلا الخبز، فإن قدَّمت المفعول فقلت: "إنما يأكل الخبزَ زيدٌ" انعكس المعنى والقصد. فائدة بديعة الوصلات في كلامهم التي وضعوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام: __________ (1) (ظ ود): "منهما". (2) من قوله: "وليتصل بما يعود ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) تحرفت في (ق) إلى "نحو". (4) "نتائج الفكر": (ص/ 175). (5) (ظ ود): "وتحقيق" وهو خطأ.

(1/225)


أحدها: حروف الجرِّ التي وضعوها ليتوصلوا بالأفعال إلى المجرور بها، ولولاها (ظ/ 37 أ)، لما نفذ الفعل إليها ولا باشرها. الثاني: حرف "ها" التي للتنبيه، وضِعَت ليتوصل بها إلى نداء ذي الألف واللام. الثالث: "ذو" وضعوه وصلة إلى وصلة النكرات بأسماء الأجناس غير المشتقة، كـ "رجل ذي مال". الرابع: "الذي" وضعوه وَصْلة إلى وصف المعارف بالجمل ولولاها لما جرت صفاتها عليها. الخامس: "الضمير" الذي جُعِل وَصْلة إلى ارتباط الجمل بالمفردات خبرًا وصفة وصلة وحالاً، فأتوا بالضمير (1) وصلة إلى جريان الجمل على هذه المفردات أجوالاً وأخبارًا، وصفاتٍ وصِلات. ولم يصفوا المعرفة بالجملة مع وجود هذه الوصلة المصححة، كما وصفوا بها النكرة لوجهين (2). أحدهما: أنَّ النكرة مفتقِرَة إلى الوصف والتبيين، فعُلِم أن الجملة بعدها تبيينٌ لها وتكملة: لفائدتها. الوجه الثاني: أَنَّ الجملة تتنزل منزلة النكرة؛ لأنها خبر، ولا يخبر المخاطب إلا بما يجهله لا بما يعرفه، فصلح أن يوصف بها النكرة، بخلاف المعرفة، فإنك لو قلتَ: "جاءني زيد قائم أبوه" (3)، على جهة الوصف، لَمَا ارتبط الكلام بعضه ببعض؛ لاستقلال كل __________ (1) (ق): "الضمة"!. (2) "نتائج الفكر": (ص/ 177). (3) "النتائج": "أبو قائم". وبعده فى (ظ): "على وجه ... ".

(1/226)


واحد منهما بنفسه، فجاءوا بالوصلة التي توصلوا بها إلى وصف النكرة باسم الجنس وهي: "ذو"، فقالوا: "جاءني زيد ذو قام أبوه"، وهذه لغة طيء وهي الأصل. ثم إن أكثر العرب لما رأوها اسمًا قد وصف بها المعرفة، أرادوا تعريفه ليتفق الوصف والموصوف في التعريف، فأدخلوا الألف واللام عليه، ثم ضاعفوا اللام، كيلا يَذْهب لفظها بالإدغام ويذهب ألف الوصل في الدَّرْج، فلا يظهر التعريف، فجاء منه هذا اللفظ تقديرًا: "الذو" فلما رأوا الاسم قد انفصل عن الإضافة حيث صار معرفة قلبوا "الواو" منه "ياءً"، إذ ليس في كلامهم "وأو" متطرِّفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب "ياء" كـ "أدلي وأحق"، فصار "الذي". وإنما صحَّت الواو في قولهم: "ذو"؛ لأنها كانت في حكم التوسط؛ إذ المضاف مع المضاف إليه كالشيء الواحد. وفي معنى "ذو" بمعنى (1) "الذي" طرف من معنى "ذا" التي للإشارة، لأن كلًّا منهما يَبِيْن بأسماء الأجناس، كقولك: "هذا الغلام وهذا الرجل"، فيتصل بها على وجه البيان، كما يتصل بها "ذو" على جهة الإضافة، ولذلك قالوا في المؤنث من الذي: "التي"، بالتاء، كما قالوا في المؤنث من "هذا": هاتا وهاتين (2). فإن قيل: فلِمَ أُعْرب "الذي" في حال التثنية؟. قيل: لأن الألف التي فيه هي بعينها (3) علامة الرفع في الأسماء المعربة، فدار الأمرُ بين ثلاثة أمور: __________ (1) (ظ ود): "وبمعنى". (2) كذا ولعلها: هاتي. (3) (ظ ود): "بعضها".

(1/227)


أحدها: أن يبنوه وفيه علامة الإعراب، وهو مُسْتَشنع وصار بمنزلة من تعطل عن التصرف وفيه آلته. الثاني: أن يسقطوها منه ليعطوه حظه من البناء فيبطل معني التثنية، فرأوا الثالث أسهل شيء عليهم، وهو إعرابه، فكان ترك مراعاة علة البناء أهون عليهم من إيطال معنى التثنية، ولهذه العِلَّة (1) بعينها أعربوا: «اثني عشره و"هذين» (2) ، وطَرْدُ هذا أن يكون «ياء» هذين مُعْربًا وهو الصحيح، وممن نص عليه السُّهَيْلي (3) وأَحْسَنَ ما شاء، فإن الألف لا يكون علامة بناء بخلاف الضمة فإنها تكون للبناء، كحيث ومنذ، فتأمَّل هذا الموضع. فإن قلت: هذا ينتقض عليك بالجمع فإنهم (4) بنوه - أعني : الذين - وهو على حدِّ التثنية (ظ / 37 ب) وفيه علامة الإعراب؟. قلت : الفرق بين الجمع والتثنية من وجهين: أحدهما: أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات ؛ نعم، وقد يكون الجمع اسماً واحدًا في اللفظ كقومٍ ورَهْط. الثاني : أن الجمع في حال (5) نصبه وخفضه يُضَارع لفظه لفظ الواحد، من حيث كان آخره ياء مكسورًا ما قبلها، فحملوا (6) الرفع الذي هو أقلُّ حالاته على النصب والخفض، وغلَّبوا عليه البناء، __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) سقطت من (ق). (3) "نتائج الفكر": (ص/ 179). (4) في الأصلين: «فإنه". (5) في حال، سقطت من (ظ ود). (6) (ظ و د): فجعلواه.

(1/228)


حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء. وليس كذلك التثنية، لأن ياءَها مفتوح ما قبلها (1)، فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد. وأما "النون" في "الذين" فلا اعتبار بها؛ لأنها ليست في الجمع ركنًا من أركان صيغته، لسقوطها في الإضافة وفي (2) الشعر، كما قال: * وإِنَّ الذي حَانَتْ بِفَلجٍ دِمَاؤهم (3) * هذا تعليل السُّهيلي (4). وعندي فيه علة ثانية وهي: أَن التثنية في "اللذين" خاصة من خواص الاسم، قاومت شَبَه الحرف، فتقابل المقتضيان فرجع إلى أصله (ق/ 51 ب) فأعرِب، بخلاف "الذين"، فإن الجمع وإن كان من خواص الأسماء؛ لكن هذه الخاصة ضعيفة في هذا الاسم؛ لنقصان دلالته مجموعًا عما يدل عليه مفردًا، فإن "الذي" يصلح للعاقل وغيره، و"الذين" لا يستعمل إلا للعقلاء خاصَّة، فنقصت دلالته فضعفت خاصية الجمع فيه فبقي موجب بنائه على قوَّته، وهذا بخلاف المثنَّى، فإنه يقال على العاقلين وغيرهما، فإنك تقول: "الرجلان اللذان لقيتهما" و"الثوبان اللذان لبستهما"، ولا تقول: "الثياب الذين لبستهم"، وعلى هذا التعليل فلا حاجة بنا إلى ركوب ما تعسَّفه -رحمه الله- من __________ (1) (ظ ود): "التثنية، تاءها مفتوحة"!. (2) (ظ ود): "من"، و"النتائج": "وفي ضرورة الشعر" .. (3) البيت لأشهب بن رميلة، وعجزه: * هم القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالدٍ * وهو من شواهد "الكتاب"، انظر: "الخزَانة": (6/ 25). (4) في "نتائج الفكر": (ص/179 - 180).

(1/229)


مضارعة الجمع للواحد وشَبَهه به، وتكلُّف الجواب عن تلك الإشكالات، والله أعلم. فائدة بديعة (1) قول النحاة: "إن "ما" الموصولة بمعنى "الذي""، إن أرادوا بها أنها بمعناها من كل وجهٍ فليس بحق، وإن أرادوا أنها بمعناها من بعض الوجوه فحق، والفرقُ بينهما: أن "ما" اسم مبهم في غاية الإبهام، حتى إنها تقع على كلِّ شيء، وتقع على ما ليس بشيء، ألا تراك تقول: "إن الله يعلم ما كان وما لم يكن"، ولفَرْط إبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى تُوْصَل بما يوضحها، وكل ما وُصِلَتْ يه يجوز أن يكون صلةٌ لـ "الذي"، فهو يوافق "الذي" في هذا الحكم، وتخالفها [في] أنها لا تكون (2) نعتًا لما قبلها ولا منعوتة؛ لأن صلتها تغنيها عن (3) النعت، -وأيضًا- فلو نُعِتت بنعتٍ زائد على الصلة لارتفع إبهامُها، وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلانُ حقيقتها، وإخراجها عن أصل موضوعها. وتفارق "الذي" -أيضًا- في امتناعها من التثنية والجمع، وذلك -أيضًا- لفرط إبهامها، فإذا ثبت الفرق بينهما؛ فاعلم أنه لا يجوز أن توجد إلا موصولة؛ لإبهامها، أو موصوفة، ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع؛ لأنها لا تخلو من الإبهام أبدًا، ولذلك كان في لفظها ألف آخرة، لِمَا في الألف من المدِّ والاتساع __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/180). (2) (ظ ود): "في إبهامها لا تكون"! والمثبت من (ق) و"النتائج" وما بين المعكوفين من الأخير. (3) (ظ ود): "بعينها غير".

(1/230)


في هواء (1) الفم، مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس. فإذا أوقعوها على نوعٍ بعينه، وخصوا به من يعقل وقصروها عليه، أبدلوا الألف نونًا ساكنة، فذهب امتداد الصوت، فصار قصرًا للَّفظِ موازنًا لقصر (2) المعنى. وإذا وكان أمرها كذلك [ووقعت على جنْسٍ من الأجناس] (3)، وجب أن يكون ضميرُها العائد عليها من الصلةَ التي لابد للصلة (ظ/ 38 أ) منه، ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة له، فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه في الإعراب والمعنى. فإذا وقعَتْ على ما هو فاعل في المعنى، كان ضميرها فاعلاً في المعنى واللفظ، (ق/ 52 أ)، نحو: "كرهت ما أصابك". فـ "ما" مفعولة لكرهت في اللفظ، وهي فاعلة لـ "أصاب" في المعنى، فالضمير الذي في "أصاب" فاعل في اللفظ والمعنى. وإذا وقعت على مفعول كان ضميرها مفعولاً لفظًا ومعنى، نحو: "سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته". فهي في المعنى مفعولة؛ لأنها عبارة عن الملبوس، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى، وكذلك إذا وقعت على المصدر (4)؛ كان ضميرها مفعولاً مطلقًا؛ لأن المصدر كذلك، وإن وقعت على الظرف؛ كان ضميرُها (5) مجرورًا بـ "في"؛ لأن الظرف كذلك في المعنى، إلا أنها لا تقع [من] (6) المصادر إلا __________ (1) (ظ): "هذا"!. (2) (ظ ود): "قصير اللفظ موازنًا لقصير". (3) ما بين المعكوفين من "النتائج": (ص/ 181). (4) (ظ ود): "اللفظ". (5) من قوله: "مفعولاً ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (6) (ظ ود): "على" و (ق): "إلا على" والمثبت من "النتائج".

(1/231)


على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها. فإن قيل: فكيف وقعت على من يعقل، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 3]، وأمثال ذلك؟. قيل: هي في هذا كُلِّه على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام، لم يُرَد بها ما يُراد بمَنْ مِن التعيين لما يعقل والاختصاص دون الشياع، ومن فَهِم حقيقةَ الكلام وكان له ذوق؛ عرفَ هذا واستبانَ له. أما قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فهذا كلام وَرَد في معرض التوبيخ والتبكيت للَّعِين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجودُ لما يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه؛ إذ لا ينبغي التكبر لمخلوق على مخلوقٍ (1) مثله، إنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول -سبحانه-: لمَ عصيتني وتكبَّرْت على ما لم تخلُقه وخلفَتُه أنا، وشرَّفتُه وأمرتُكَ بالسجودِ له؟! فهذا موضع "ما"؛ لأن معناها أبلغ ولفظها أعمُّ. وهو في الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقطع، فلو قال: ما منعك أن تسجدَ لمن خلقت؟ لكان استفهامًا مجوَّدًا من توبيخ وتبكيت، ولتُوُهِّم أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلَّة موجودة في ذاته وعينه، وليس المراد كذلك، وإنما المراد: توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له، ولهذا عَدَل عن اسم "آدم" العَلَم مع كونه أخص، وأتى بالاسم الموصول الدَّال على أن (2) جهة __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) (ظ): "على جهة".

(1/232)


التشريف المقتضية لإسجاده له كونه (1) خلقه بيديه، وأنت لو وضعتَ مكان "ما" (2) لفظة "من" لما رأيت هذا المعنى باديًا على صفحاتها، لتعينها وتخصيصها، بخلاف ما في لفظة "ما" في الإبهام الدال على أن المراد المعنى (3) المذكور في الصلة، وأن "ما" جيء بها وَصْلة إلى ذكر الصّلة فتأمَّل ذلك، فلا معنى إذًا للتعيين بالذكر؛ إذ لو أُريْد التعيين لكان بالاسم العَلَم أولى وأحرى. وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]؛ لأن (ق/52 ب) القَسَم تعظيم للمُقْسَم يه، واستحقاقه للتعظيم من حيث بنى وأظهر هذا الخلقَ العظيمَ الذي هو السماء، ومن حيث سواها بقدرته، وزينها بحكمته. فاستحق التعظيم وثبتت قدرته، فلو قال: "ومن بناها"، لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم به (4)، من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورًا على ذاته ونفسه دون الإيحاء إلى أفعاله الدالة على عظمته، المنبئة عن حكمته، المفصِحَة باستحقاقه للتعظيم من خليقته. وكذلك قولهم: "سبحان ما يسبحُ الرعد بحمده"؛ لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث [سبَّحته] (5) العظيمات من خلقه، لا من (ظ/38 ب) حيث كان يعلم، ولا تقل: "يعقل" في هذا الموضع. __________ (1) من قوله: "وأمره بالسجود ... " ساقط من د. (2) سقطت من (ق). (3) من قوله: "باديًا على ... " ساقط من (ظ ود). (4) من (ق). (5) في الأصول "يستحقّه"، والمثبت من "النتائج".

(1/233)


فإذا تأملت ما ذكرناه، استبان لك قصور من قال: إن "ما" مع الفعل في هذا كلِّه سوى الأول في (1) تأويل المصدر، وأَنه لم يَقْدر المعنى حق قدره، فلا لصناعةِ النحو وُفِّق، ولا لفهم التفسير رُزِق، وأنه تابع الحَزَّ وأخطأَ المَفصِل، وحامَ ولكن ما وَرَدَ المنهل. وأما قوله عز وجل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 2 - 3] فـ "ما" على بابها، لأنها واقعة على معبوده - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به؛ فقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} [الكافرون: 5] أي: أنتم لا (2) تعبدون معبودي، ومعبوده هو - صلى الله عليه وسلم - كان غارفًا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم. وقال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة، أي: لا تعبدون عبادتي، ويلزم من تبريتهم عن عبادته تبريهم (3) من المعبود؛ لأن العبادة متعلِّقة به، وليس هذا بشيء! إذ المقصود براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده -تعالى- فالمقصود المعبود لا العبادة. وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته - صلى الله عليه وسلم - حسدًا له، وأَنَفَةً من اتباعه، فهم لا يعبدون معبودة، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وحرصًا على مخالفته في العبادة، وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمغنى الرفيع إلا لفظ "ما"؛ لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية. __________ (1) (ظ ود): "فمن". (2) (ظ): "لا أنتم". (3) (ظ): "تبريهم عن عبادته تنزيههم".

(1/234)


وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قَصْد ازدواج الكلام [أصلٌ] (1) في البلاغة والفصاحة، مثل قوله تعالى: {نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فكذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 2] ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدَوَجَ مع هذا الكلام قوله تعالى: (ق/53 أ) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 5]، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في (2) الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا "من" كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ}، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: 31]، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} [يونس: 31] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] إلى أمثال ذلك. وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو: أن المقصود هنا ذِكْر المعبود الموصوف بكونه أهلاً للعبادة مستحقًّا لها، فأتى بـ "ما" الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة "من"؛ لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذِكْر الصِّلة تعريفًا لا أنه هو جِهَة العبادة، ففَرْقٌ بين أن (3) كونه -تعالى- أهلاً لأن يعبد تعريفٌ محض، أو وصف مقتضٍ لعبادته، فتأمله فإنه بديع جدًّا. وهذا معنى قول محققي النحاة: إن "ما" تأتي لصفات من يعلم، ونظيره: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لما كان المراد __________ (1) من "النتائج". (2) ليست في (ظ ود). (3) (ظ ود) زيادة: "يكون".

(1/235)


الوصف وأنه هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب، فتنكح المرأة الموصوفة به، أتى بـ "ما" دون "من "، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية. وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية زائدة (1) على ذلك وهي: تكرير الأفعال فى هذه السورة. ثم فائدة ثالثة وهي: (ظ/39 أ) كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي. ثم فائدة رابعة وهي: أنه جاء في نفي عبادة (2) معبودهم عنه بلفظ الفعل (3) المستقبل، ونجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل. ثم فائدة خامسة وهي: كون أداة النفي هنا "لا" دون "لن". ثم فائدة سادسة وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا: أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للخفي والإثبات، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله"، فلِمَ جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سرُّ ذلك؟ .. وفائدة سابعة وهي: ما حِكْمة تقديم نفي (4) عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟. __________ (1) من (ق). (2) (ق): "عبادة نفي" وكذا في السطر الآتي. (3) سقطت من (ق). (4) (ق): "أما حكم نفي".

(1/236)


وفائدة ثامنة وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] ولم يجئ: {يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟. وفائدة تاسعة وهي: هل في (ق/53 ب) قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] معنى زائد على النفي المتقدم؟ فإنه يدلّ على اختصاص كلٍّ بدينه ومعبوده، وقد فُهِم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟. وفائدة عاشرة وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم (1) والاختصاص. وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة. وفائدة حادية عشرة وهي: أَنَّ هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الإخبار: أحدهما: براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدًا. الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم، فهل هذا مُتَارَكَة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار؟ أم الآية باقة على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة؟. فهذه عشر مسائل فى هذه السورة قد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهى وقوع "ما" فيها بدلاً عن "من " (2) فنذكر المسائل التسع مُسْتمدين __________ (1) (ق): "التقديم". (2) (ظ ود): "بلا عن"!.

(1/237)


من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ فما كان من (1) صوابٍ فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فأما المسألة الثانية: وهي فائدة تَكْرَار الأفعال، فقيل فيه وجوه؛ أحدها: أن قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}، نفي للحال والمستقبل، وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) مقابله أي: لا تفعلون ذلك، وقوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) أي: لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي، فقال: {مَا عَبَدْتُمْ (4) فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}، مقابله، أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا. وعلى هذا فلا تَكْرَار أصلًا، وقد استوفت الآياتُ أقسام النفي ماضيًا وحالاً ومستقبلاً، عن عيادته وعبادتهم، بأوجز لفظ وأخصَرِه وأبيَنِهِ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها، فلنقتصر عليه ولا (2) نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي (3) قيلت في مواضعها، فعليك بها. وأما المسألة الثالثة وهي: تكرير الفعل (4) بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه (ظ/39 ب)، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم. ففي ذلك سرٌّ وهو: الإشارة والإيماء إلى عِصمة الله له عن الزيغ __________ (1) "كان من" سقطت من (ق). (2) سقطت من (ظ ود). (3) ليست في (ق). (4) سقطت من (ظ ود).

(1/238)


والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً ولا يبغي عنه حِوَلاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءَهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم بصَدَد أن يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره، فقال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، يعني: الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} أنا الآن -أيضًا- ثم قال: (ق/ 54 أ) {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} يعني: ولا أنا فيما يُسْتَقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون. وأشبهت "ما" هنا رائحةُ الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: "مهما عبدتم من شيءٍ فلا أعبده أنا". فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة فما أبعد الشرط منها؟!. قلنا: لم نقل أنها شرط نفسُها، ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه؟ لوقوعها على غير معَيَّن وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديًا على صفحاته. فإذا قلت لرجلٍ ما -تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل ما تفعل، ألستَ ترى معنى الشرط قائمًا قي كلامِكَ وقصدك؟ وأن روح هذا الكلام: مهما فعلتَ من شيءٍ فإني لا أفعله. وتأمل ذلك في "مَنْ"، مثل قوله تعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} [مريم: 29] كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى (1) وقع الفعل بعد "مَنْ" بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى: مَنْ كان في المهد __________ (1) (ق) "معنى الشرط فيه حين".

(1/239)


صبيًا فكيف نكلمه؟ في هذا هو المعنى الذي حامَ حوله من قال من المفسرين والمعربين: إن "كان" هنا (1) بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إله من بابه، بل ألقوه عُطْلاً من تقدير وتنزيل، وعزب عن (2) فهم غيرهم هذا للُطْفه ودقَّته، فقالوا: "كان" زائدة، والوجه ما أخبرتك به، فخده عَفْوًا، لك غُنمه (3) وعلى سِوَاك غرمه، هذا مع أن "مَن" (4) في الآية قد عمل فيها الفعل، وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}، وهذا كلُّه مفهومٌ من كلام فحول النحاة، كالزَّجَّاج (5) وغيره. فإذا ثبت هذا، فقد وضَحَت (6) الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) بخلاف قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}، لبعد "ما" فيها عن معنى الشرط؛ تنبيهًا من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين. وأما المسألة الرابعة وهي: أنه لم يأتِ النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارةً وباسم الفاعل أُخرى، فذلك -والله أعلم- لحكمة بديعة، وهى: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولاً بصيغة الفعل الدالة __________ (1) (ظ ود): "أنه كان نبيًّا". (2) من (ق). (3) (ظ): "عزمه". (4) (ظ): "هل على من"!. (5) هو: إبراهيم بن السَّريّ بن سهل، أبو إسحاق الزجَّاج النحوي ت (311). انظر: "معجم الأدباء": (1/ 130)، و"إنباه الرواة": (1/ 194). (6) (ظ ود): "صحت".

(1/240)


على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غيرِ اللهِ (ق/54 ب) لا تكون فعلًا لي ولا وصفًا، فأتى بنفيين لحنفيَّين مقصودَيْن (ظ/ 40 أ) بالنفي. وأما في حقهم؛ فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، أي: إن الوصف الثابت اللازم للعابد (1) لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتًا لكم وإنما يثبت لمن خص اللهَ وحدَه بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونُفِيَ الوصفُ؛ لأن من عبدَ غيرَ اللهِ، لم يكن ثابتاً على عبادة الله موصوفًا بها. فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه: عابدُ الله وعبدُه والمستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته وتبتَّل إليه تبتيلًا لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره؛ فليس عابدًا لله ولا عَبْدًا له، وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص، __________ (1) (ظ): "العائد".

(1/241)


التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن (1)، وهذا لا يفهمه كلُّ أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة. وأما المسألة الخامسة وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة "لا" دون "لن" (2)، فلِمَا تقدم تحقيقُه عن قربٍ: أن النفي بـ "لا" أبلغ منه بـ "لن"، وأنها أدل على دوام النفي وطوله من "لن"، وأنها للطول: والمد الذي في لفظها طال النفي بها وامتد (3)، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة، وأن "لن" إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدَّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق (4)، فالإتيان بـ "لا" مُتَعين هنا؟ والله أعلم. وأما المسألة السادسة وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض؛ فهذا هو خاصَّة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءةٍ من __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (2895)، وأحمد: (3/ 147)، وابن عدي في "الكامل": (3/ 333)، والبيهقي: في "الشُّعَب": (5/ 453) من طريق سلمة بن وَرْدان، عن أنس، وفيه: أن "قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن". وسلمة ضعيف الحديث، وهذا الحديث عن مناكيره، لكن حسنه الترمذي. وأخرجه الترمذي رقم (2893)، والبيهقي في "الشعب": (5/ 454) من طريق الحسن بن سَلْم العجلي، عن ثابت، عن أنس. قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ" ومثله قال أبو أحمد الحاكم كما في "التهذيب": (2/ 280). وله شاهد من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وفيه ضعف. انظر: "لمحات الأنوار": (3/ 1048) وما بعدها، و 1069 - 1079، للغافقي. "وتخريج الكشاف": (4/ 307) للزيلعي. (2) (ظ): "أن" في جميع المواضع وهو خطأ. (3) (ظ ود): "في نفيها طال النفي بها وأشد"!. (4) انظر ما تقدم: (ص/ 166 - 169).

(1/242)


الشرك، كما جاء في وصفها: "أنها بَرَاءةٌ مِنَ الشِّرْك" (1)، فمقصودُها الأعظم هو البراءة المطلقة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحًا فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} براءة محضة، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} إثبات أن له معبودًا يعبده وأنهم (2) بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قولَ إمام الحنفاء: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27]، وطابقت قول الفِتْية (3) الموحدين: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] فانتظمت حقيقةَ لا إله إلا الله، ولهذا (ق/55 أ) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في سنة الفجر وسنة المغرب (4)، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعَي التوحيد (5)، الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (5055)، والترمذي (3403)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (801)، وابن حبان "الإحسان": (3/ 69 - 70)، والحاكم: (2/ 538) وغيرهم من حديث نوفلٍ الأشجعي -والحديث صححه الحاكم وابن حبان، وله شواهد عن غير واحد من الصحابة. انظر: "لمحات الأنوار": (3/ 1071 - 1079). (2) (ظ ود): "وأنتم". (3) (ظ ود): "الفئة". (4) أما قراءتهما في سنة الفجر؛ فعند مسلم رقم (726) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وكذا عن جماعة من الصحابة في السنن وغيرها، انظر: "فتح الباري": (3/ 57). أما قراءتهما في سنة المغرب؛ فعند الترمذي (431)، وقال: غريب، وابن ماجه (1166) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وسنده فيه ضَعْف. (5) سقطت من (ظ).

(1/243)


المتضمِّن تنزيه الله عما لا يليق به مِن الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أَحَدٌ صَمَد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد (ظ/ 40 ب) الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمنت السورةُ إثبات ما يليق بجلالة من صفات الكمال ونفي ما لا يليقُ به من الشريك أصلًا وفرعًا في نظيرًا، فهذا توحيد العِلْم والاعتقاد. والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته عباده، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نَوْعَي التوحيد وأخلصتا له، فكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بهما النَّهار. في سُنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب (1). وفي "السنن" (2) أنه. كان يوتر بهما، فيكونا خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار (3)، ومن هنا تخريجُ جواب: المسألةِ السابعةِ وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتْبعها ببراءَتهم من معبوده فتأمله فإنه واضح (4). وأما المسألة الثامنة وهي: إثباته هنا بلفظ: "يا أيها الكافرون" دون: "يا أيها الذين كفروا"؛ فسرُّه -والله أعلم-: إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه؛ فهو حقيقٌ أن يتبرأَ اللهُ. __________ (1) انظر ما تقدم قريبًا. (2) أخرجه أبو داود رقم: (1424)، والترمذي رقم (463) وابن ماجه رقم (1173). من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الترمذي: حسن غريب، وقوَّاه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (3) انظر: "زاد المعاد": (1/ 316) نقَلَه فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر "مجموع الفتاوى": (17/ 107 - 108) بنحوه. (4) "فإنه واضح" ليست في (ظ ود).

(1/244)


منه، ويكون هو -أيضًا- بريئًا من الله، فحقيق بالموحِّد البراءة منه، فكان ذكره (1) في معرض البراءة التي هي غاية البعد (2) والمجانية بحقيقةِ حاله التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازمٌ لكم ثابتٌ لا تنتقلون عنه؛ فمجانبتكم والبراء (3) منكم ثابت دائم أبدًا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدَّال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر، وهذا واضح. وأما المسألة التاسعة وهي: ما هي الفائدة في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} وهل أفاد هذا معنًى زائدًا على ما تقدَّم؟. فيقال: في ذلك من الحكمة -والله أعلم- أنَّ النفيَ الأول أفاد البراءة، وأنه لا يُتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم، وهم -أيضًا- لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفادَ آخرُ السورة إثبات ما تضمنه ذلك الخفي مِنْ توحيده له، وأنه حظه ونصيبه وقسمه، فإن ما تضمنه الخفي من (4) جهتهم من الشرك والكفر هو حظهم وقسْمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم (ق/55 ب) هو وغيره أرضًا فقال له: "لا تدخل في حَدِّي ولا أدخل في حَدك، لك أرضك ولي أرضي"، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنّا اقتسمنا حِصَّتنا (5) بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان؛ فهو نصيبُنا وقَسْمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقَسْمكم __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) (ظ ود): "العبد"!. (3) (ظ ود): "البراءة". (4) من قوله: "توحيده له، .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (5) (ظ ود): "خِطتنا".

(1/245)


الذي تختصون به لا نشرككم فيه. فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه. وهذه المعاني ونحوها إذا تجلَّت للقلوب رافِلَةً قي حُللها فإنها تَسْبي القلوبَ وتأخذ بمجامِعِها، ومن لم يصادف من (1) قلبه حياة؛ فهي: * خَوْدٌ (2) تُرَفُّ إلى ضَرِيرٍ مُقعدِ * فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها، ونسأله تمام نِعْمته. وأما المسألة العاشرة وهي: تقديم قِسْمهم ونصيبهم على قَسْمه ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم، فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحولُ البلاغة وفرسائها، فإن السورةَ لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضيَ كلٌّ بقسمه، وكان المحِقُّ هو صاحب القسمة، وقد برز النصيبين وميَّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أَرْدَأ منه، وأنه هو قد استولى على القسم (ظ/ 41 أ) الأشرف (3) والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشِفاء، فرضيَ مُقاسِمة بالسمِّ، فإنَّه يقول له: لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك ولي قسمي. فتقديم ذكر قسمة هاهنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: "هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم"، فكان في تقديم ذِكر قسْمِه من التهكُّم به والنداء على سوء __________ (1) ليست في (ق). (2) الخَود: الشابة الحسناء. (3) ليست في (ظ).

(1/246)


اختاره وقُبْح ما رضيه لنفسه من الحُسْن والبيان ما لا تجده في ذكر تقديم قسم نفسه. والحاكم في هذا هو الذوقُ، والفَطِنُ يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجعُ فيه كثرةُ البيان. ووجهٌ ثانٍ وهو: أن مقصود السورة براءته - صلى الله عليه وسلم - من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبّها ومَغْزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملًا لبراءته ومحققًا لها (1)، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أولِ السورة، ثم جاء قوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ} مطابقًا لهذا المعنى، أي: لا أُشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه، بل هو دينٌ تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدًا، فطابقَ آخرُ السورةِ أوَّلَها، فتأمَّلْهُ. وأما المسألة الحادية عشرة وهي: أن هذا الإخبار (ق/56 أ) بأنَّ لهم دينَهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا (2) نسخ في الآية ولا تخصيص؟. فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف (3)؛ لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقرُّون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط مَحْض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نصٌّ محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، __________ (1) (ق): "لذاته وتحقيقًا". (2) (ظ ود): "لولا". (3) وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].

(1/247)


فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ (1) فيه. وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدَّم، ومنشأُ الغلطِ: ظنُّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ. وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتابَ لهم، فقالوا: هذا مخصوص، ومعاذَ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، بل لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكارِ عليهم وعيب دينهم وتقبيحِه والنهي عنه والتهديد لهم (2) والوعيد كل وقت وفي كل ناد. وقد سألوه أن يكفَّ عن ذكر آلهتهم، وعَيْب دينهم، ويتركونه وشأْنَه؛ فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟! معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدَّم، وأن ما هم عليه من الدين لا أوافقكم عليه أبدًا، فإنه دينٌ باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصُّل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدَّعى النسخ أو التخصيص؟ أفتَرَى إذا جُوهِدُوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة، لا يصح أن يقال لهم (3): لكم دينكم ولي دين. بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين (ظ/ 401 ب) والكافرين إلى أن يطهِّر الله منهم عبادَه وبلاده. __________ (1) من قوله: "في مضمونها ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من (ق). (3) من (ق).

(1/248)


وكذلك حكمٌ هذه البراءة بين أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاءَ به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته (1): لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان. فهذا ما فتح الله العظيم (2) به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة، المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها، من غير استعانة (ق/56 ب) بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانٍّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علَّمه الله وأَلهمه بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها، وعسى اللهُ المانّ بفضله الواسع العطاء، الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين (3) على تعليق تفسير على (4) هذا النمط، وهذا الأسلوب، وقد كتبتُ على مواضعَ متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته. * * * ولنذكر تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها، فقد ذكرنا منها الموصولة. ومن أقسامها المصدرية (5)، ومعنى وقوعها عليه: أنها إذا __________ (1) (ق): "وذريته". (2) (ق): "الكريم". (3) "أن يعين" ليست في (ظ ود). (4) سقطت من (ظ ود). (5) "نتائج الفكر": (ص/ 185 - 186).

(1/249)


دخلت على الفعل كان معها في تأويل المصدر، هكذا أطلق النحاة، وهنا أمور يجب التنبيه: عليها والتنبه لها: أحدها: الفرق بين المصدر الصريح والمصدر (1) المقدر مع "ما" والفرق بينهما أنك إذا قلت: "يعجبني صنعك"، فالإعجاب هنا واقع على نفس الحدث بقطع النظر عن زمانه ومكانه، وإذا قلت: "يعجبني ما صنعتَ"، فالإعجاب واقع على صنع ماضي، وكذلك "ما تصنع" واقع على مستقبل فلم تتحد دلالة "ما" والفعل والمصدر. الثانى: أنها لا تقع مع كلِّ فعلٍ في تأويل المصدر، وإن وقع المصدر في ذلك الموضع، فإنك إذا قلت: "يعجبني قيامك"، كان حسنًا، فلو قلت: "يعجبني ما تقوم"، لم يكن كلامًا حسنًا، وكذلك: "يعجبني ما تجلس"، أي: قيامُك وجلوسُك، ولو أتيت بالمصدر كان حسنًا، وكذلك إذا قلت: "يعجبني ما تذهب"، لم يكن في الجواز والاستعمال مثل "يعجبني ذهابُك". فقال أبو القاسم السهيلي -رحمه الله (2) -: "الأصل في هذا: أن "ما" لما كانت اسمًا مبهمًا، لم يصح وقوعها إلا على جنسٍ تختلف أنواعُه؛ فإن كان (3) المصدر مختلف الأنواع، جار أن تقع عليه ويُعَبَّر بها عنه، كقولك: "يعجبني ما صنعتَ، وما عملتَ، وما حكمتَ"؛ لاختلاف أنواع الصنع والفعل والحكم (4). __________ (1) من قوله: "هكذا أطلق ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) في "نتائج الفكر": (ص/ 186) بتصرُّف. (3) ليست في (ق). (4) (ظ ود): الاختلاف: الصنعة والعلم والحكم"، و"النتائج": وكذلك الصنع والفعل والعمل".

(1/250)


فإن قلت: "يعجيني ما جلستَ، وما انطلقَ زيد"، كان غثًّا من الكلام؛ لخروج "ما" عن الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع من المعاني؛ لأنه يكون التقدير حينئذٍ: "يُعجبني الجلوسُ الذي جلستَ، والقعود الذي قعدتَ"، فيكون آخر الكلام مُفسِّرًا لأوله رافعًا للإبهام، فلا معنى حينئذٍ لـ "ما". فأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [البقرة: 61]، فلأن المعصية تختلف أنواعُها. وقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77]؛ فهو كقولك (1): لأعاقبنك بما ضربتَ زيدًا، وبما شَتَمْت عَمْرًا، أَوْقَعْتَها على الذنب، والذنب مختلف الأنواع، ودلَّ ذِكْر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنك قلتَ: لأجزينك بالذنب (2) الذي هو (ق/ 57 أ)، ضَرْب زيدٍ أو شَتْم عَمْروٍ، فما على بابها (ظ/42 أ) غير خارجة عن إبهامها" (3). هذا كلامه، وليس كما زعم -رحمه الله-، فإنه لا يُشْتَرط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام، بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه، بل هو نوع واحد، فإن إخلافهم ما وعدَ الله كان نوعًا واحدً مُسْتمرًّا (4) معلومًا، وكذلك كذبهم. وأصرح من هذا كلِّه قولُه تعالى (5): {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ __________ (1) (ق وظ ود): "كقوله" والمثبت من "النتائج". (2) (ق): "لأخبرتك بالذي". (3) (ظ ود): "عن بابها". (4) (ق): "متميزًا". (5) "كله قوله تعالى" ليست في (ق).

(1/251)


الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79] فهذا مصدر معين خاص لا إبهامَ فيه بوجهٍ، وهو علم الكتاب ودَرْسه، وهو فَرْد من أفراد العمل والصنع، فهو كما منعه من الجلوس (1) والانطلاق، ولا فرق بينهما في إبهام ولا تعيين إذ كلاهما (2) مُعيَّن متميِّز غير مبهم، ونظيره: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] فاستكبارهم وقولهم على الله غيرَ الحقِّ مصدران مُعَيَّنان غير مبهمين، واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق، ولو أنك قلتَ في الموضع الذي منعه: "هذا بما جلست"، "وهذا بما انطلقت" كان حسنًا غير غثٍّ ولا مستكره وهو المصدر بعينه، فلم يكن الكلام غثًّا لخصوص المصدر، وإنما هو لخصوص التركيب، فإن كل (3) ما يُقدَّر امتناعُه واستكراهُه إذا صُغْته (4) في تركيبٍ: آخر زالت الكراهيةُ والغثاثةُ عنه، كما رأيتَ. والتحقيق أن قوله: "يعجبني ما تجلس وما ينطلق زيد"، إنما استكره وكان غثًّا؛ لأن "ما" المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبًا، ويصلح أحدُهما في الموضع الذي يصلُح فيه الآخر، وربما احتملهما الكلام احتمالاً واحدًا لا يميز (5) بينهما فيه إلا ينظر وتأمل. فإذا قلت: "يعجبني ما صنعت"؛ فهي صالحة لأن تكون مصدرية أو موصولة، وكذلك {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96] فتأمله تجده كذلك. __________ (1) في "المنيرية" زيادة: "والقعود". (2) (ق): "كلًّا منهما". (3) (ظ ود): "كان". (4) (ظ ود): "إذ" و (ق): "صنعته". (5) (ظ ود): "احتملها الكلام واحدًا يميز".

(1/252)


ولدخول إحداهما على الأخرى ظنَّ كثيرٌ من الناس أن قولَه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] أنها مصدرية. واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية وإنما هي موصولة، والمعنى: والله خلقكم وخلقَ الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله؟! ولو كانت مصدرية لكان الكلام آل (1) إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجةً عليهم؛ إذ (2) يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها؟! فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم؟!. والمقصود: أنه كثيرًا ما تدخل إحداهما على الأخرى، ويحتملهما الكلام سواء. وأنت لو قلت: أيعجبني الذي يجلس"؛ لكان غثًّا من المقال، إلا أن تأتي بموصوف يجرى هذا صفة له، فتقول: "يعجبني الجلوسُ الذي تَجْلس"، وكذلك إذا قلت: فيعجبني الذي ينطلق (ق/ 57 ب) زيد"، كان غثًّا، فإذا قلت: "يعجبني الانطلاق الذي ينطلق زيد"؛ كان حسنًا، فمن هنا اسْتُغِثَّ: "يعجبني ما يَنْطَلِق وما تَجْلِس" إذا أردت به المصدر (3). وأنت لو قلت: "آكل ما يأكل"؛ كانت موصولة، وكان الكلام حسنًا، فلو أردت بها المصدرية والمعنى: آكل أكلك؛ كان غثًّا حتى تأتي بضمِيْمَةٍ تدل على المصدر، فتقول: آكل كما يأكل، فعرفت أنه __________ (1) من (ق). (2) (ق): "أو". (3) (ق): "المصدرية".

(1/253)


لم يكن الاستكراه الذي أشار إليه من جهة الإبهام والتعيين؛ فتأمَّلْه. وأما: "طالما يقوم زيد، وقلَّما يأتي عَمْرو"، فـ "ما" هنا واقعة على الزمان، والفعلُ بعدها متعدٍّ إلى ضميره بحرف الجر، والتقدير: طالَ زمان يقوم فيه زيد، وقلَّ زمان يأتينا فيه عَمْرو، ثم (ظ/42 ب) حُذِف الضميرُ فسقط الحرفُ، هذا تقدير طائفة من النحاة، منهم السُّهَيلي (1) وغيره. ويحتمل عندي تقديرين آخرين هما أحسنُ من هذا: أحدهما: أن تكون مصدرية وقتية، والتقدير: "طالَ قيامُ زيد، وقلَّ إتيان عَمْرو". وإنما كان هذا أحسن، لأن حذفَ العائد من الصفة (2) قبيح، بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدًا على شيءٍ فإنه أسهل، وإذا جُعِلَت مصدرية؛ كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف. والتقدير الثالث: -وهو أحسنها- أن "ما" هاهنا مُهَيئة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة، وإنما أُتي بها لتكون مُهَيِّئة لدخول "طال " على الفعل، فإنك لو قلتَ: "طال يقوم زيد، وقلّ يجيء عَمْرو" لم يجز، فإذا أدخلت "ما" استقام الكلام، وهذا كما دخلت على "رُبَّ" مُهَيئة لدخولها على الفعل، نحو قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر: 2]، وكما دخلت على "إن" مُهَيئة لدخولها على الفعل نحو: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فإذا عرفتَ هذا؛ فقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا كَمَاْ __________ (1) في "نتائج الفكر": (ص/ 187). (2) (ق): "الصلة"!.

(1/254)


رَأيْتُمُوْني أُصَلِّي" (1) هو من هذا الباب، ودخلَتْ "ما" بين كاف التشبيه وبين الفعل مُهَيئة لدخولها عليه، فهي كافة للخافض ومُهَيئة له أن تقع بعد الفعل، وهذا قد خَفِي على أكثر (2) النحاة حتى ظن كثير منهم أن "ما" هاهنا مصدرية، وليس كما ظن؛ فإنه لم يقع التشبيه هنا بالرؤية، وأنت لو صرحت بالمصدر هنا؛ لم يكن كلامًا صحيحًا، فإنه لو قيل: صلوا كرؤيتكم صلاتي، لم يكن مطابقًا للمعنى المقصود، فلو قيل: إنها موصولة والعائد محذوف، والتقدير: صلوا كالتي رأيتموني أصلي، أي؛ كالصلوات التي رأيتموني أصليها؛ كان أقربَ من المصدرية على كراهته، فالصواب ما ذكرتُه لك. ونظير هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم - (ق/ 58 أ)، للصدِّيق: "كما أنت" (3)، فأنت مبتدأ والخبر محذوف، فلا مصدر هنا إذ لا فعل، فمن قال: إنها مصدرية فقط غَلِط، وإنما هى مُهَيئة لدخول الكاف على ضمير الرفع، والمعنى: كما أنت صانع أو كما أنت مُصَلٍّ، فَدُم على حالتك. ونظير ذلك -أيضًا- وقوعها بين "بعد" والفعل، نحو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117]، ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة، بل هى مهيئة لدخول "بعد" على فعل "كاد"؛ إذ لا يُصَاغ من "كاد" و"ما" مصدر إلا أن يتجشم له فعلٌ بمعناه يُسْبَك منها، ومن ذلك الفعل مصدر، وعلى ما قررناه لا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (631) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- وأصله في مسلم رقم (674). (2) (ق): "على كثير من". (3) أخرجه البخاري رقم (683)، ومسلم: (1/ 314 رقم 97) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

(1/255)


يحتاج (1) إلى ذلك، ويؤيد هذا قول الشاعر (2): أعَلاقَةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما ... أَفْنانُ رَأْسِك كالثَّغَامِ المُخْلِسِ أفلا تراها هاهنا حيث لا فعل ولا مصدر أصلًا (3)، فهي كقوله: "كما أنت" مهيئة لدخول "بعد" على الجملة الابتدائية؛ ولكن الخبر في البيت مذكور، وهو قي قوله: "كما أنت" محذوف. فإن قلت: فما بالهم لم يدخلوه في "قبل" كافة لها مهيئة لدخولها على الفعل: والجملة، فيقولون: "قبلما يقومُ زيد، وقبلما زيدٌ قائم". قلت: لا تكون "ما" كافة لأسماء الإضافة، وإنما تكون كافة للحروف وما ضارعها (4)، و"بعد" أَشدُّ مضارعة للحروف من "قبل"؛ لأن "قبل" كالمصدر في لفظها ومعناها، كما (5) تقول: "جئتُ قبل الجمعة"، تريد: الوقتَ الذي تستقبل في الجمعة (6)، فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابلة، كما قال الشاعر: * نَحُجُّ مَعًا قالت: أَعامًا وقابِله (7) * __________ (1) "لا يحتاج" سقطت من (ظ ود). (2) هو: المرار بن سعيد الفقعسي. والبيت من شواهد "الكتاب"، و"مغني اللبيب" رقم (515). (3) ليست في (ق). (4) من (ق). (5) من (ق). (6) "الجمعة" سقطت من (ظ ود)، و (ق): "فيه الجمعة". (7) صدره: * فقلت: امكثي حتى يسار لعلنا *. والبيت من شواهد: "الكتاب": (2/ 39) غير معروف القائل.

(1/256)


فإذا كان العامُ الذي بعد عامك يُسَمَّى: قابلًا، فعامك الذي أنت فيه (1) (ظ/43 أ) قبل، ولفظه من لفظى قابل، فقد بان لك من جهةِ اللفظ والمعنى أن "قل" مصدر في الأصل، والمصدرُ كسائر الأسماء لا يكَفُّ به، ولا يُهَيأ لدخول الجمل بعده، وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل، لا في شيءٍ من الأسماء. وأما "بعدُ"؛ فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ [البُعد] ومن معناه، فليس قربها من لفظ المصدر كقرب "قبل"، ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسمَ فاعل، فيقولون للعام الماضي: الباعد، كما قالوا للمستقبل: القابل. فإن قلت (2): فما تقول في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} [البقرة: 151] وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] وقوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} [القصص: 77]؛ فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلِّها، فهل هي كافة (3) مُهَيئة أو مصدرية؟. قلت: التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله، مُهَيئة لدخوله على الفعل، ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدريةً مَحْضة، ويدل على أن "ما" لا تقع مصدرية على حَدِّ "أنْ": أنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه "أنْ"، فإذا قلتَ: "أريد أن تقوم" كان مستقيمًا، فلو قلتَ: "أريدُ ما تقوم" (ق/58 ب) لم يستقِمْ، وكذلك: "أحب أن تأتيني"، لا تقول في (4) موضعه: "أحب ما تأتيني ". __________ (1) سقطت من (ق). (2) "فإن قلت "سقطت من (د). (3) سقطت من (ظ ود). (4) من (ق).

(1/257)


وسرُّ المسألة: أن المصدرية ملحوظٌ فيها معنى الذي، كما تقدَّم بخلاف "أن". فإن قلت فما تقول في: "كلما قمت أكرمتك" أمصدريَّة هنا، أو كافَّهٌ، أم نكرة؟. قلتُ: هي هاهنا نكرة، وهي ظرف زمان في المعنى، والتقدير: كلَّ وقتٍ تقوم فيه أُكرِمْك. فإن قلت: فهلَّا جعلتها كافة (1) لإضافة "كلٍّ" إلى الفعل، مُهَيئة لدخولها عليه؟. قلت: ما أحراها بذلك لولا ظهور الظرف (2) والوقت وقصده من الكلام، فلا يُمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود، ألا ترى أنك تقول: "كل وقت يَفْعل كذا أفعل كذا"، فإذا قلت: "كلما فعلْت فعلْتُ"، وجدت معنى الكلامين واحدًا، وهذا قول أئمة العربية وهو الحق. فصل (3) قال أبو القاسم السهيلي (4): "اعلم أن "ما" إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه: "عَمل أو صَنَع فعل"، وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري -سبحانه- فلا يصح وقوعُها إلا على مصدر؛ لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: "عملت جملًا، ولا __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) سقطت من (ق). (3) (د): "فائدة". (4) في "نتائج الفِكْر": (ص/ 189 - 192).

(1/258)


صنعت جبلًا، ولا حديدًا ولا حجرًا ولا ترابًا"، فإذا قلت: "أعجبني ما عملت، وما فعل زيد"، فإنما تعني الحَدَثَ، فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالَكُم، ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول؛ لأنهم زعموا: أن "ما" واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصنامًا، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكارًا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا؛ لأنه تقدم قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] فـ "ما" واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى؛ أما النحو؛ فقد تقدَّم أن "ما" لا تكون مع الفعل الخاص (1) مصدرًا. وأما المعنى؛ فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإِنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبتَ هذا وجب أن تكون الآية -التي هي ردّ عليهم وتفنيد لهم (2) - واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون (ظ/43 ب) حجارة منحوتة، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟!. هذا كله معنى قول المعتزلة، وشرح ما شبَّهوا به، والنظمُ على تأويلِ أهلِ الحقِّ أبدعُ، والحجةُ أَقْطَع (3). والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال؛ لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العبادِ لا تقع (ق/59 أ) على الجواهر والأجسام. __________ (1) (ق): "الحاضر"!. (2) في "النتائج" زيادة: "كذلك "ما" فيها". (3) في "النتائج" زيادة: "والمعنى لا يصح غيره".

(1/259)


فإن قيل: فقد تقول: عملتُ الصحفةَ (1)، وصنعتُ الجَفْنة، وكذلك الأصنام (2) معمولة على هذا؟. قلنا (3): لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس: العمل. وأما الجوهر المؤلَّف المركَّب فليس بمعمولٍ لنا، فقد رجعَ العملُ والفعل إلى الأحداث دون الجواهر. هذا إجماع مِنَّا ومنهم، فلا يصح (4) حملهم على غير ذلك. وأما ما زعموا من حُسْن النظم وإعجاز الكلام؛ فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم؛ لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة؛ لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يَخْلق وهم يُخْلَقون، فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي: من لا يخلق شيئًا وهم يُخْلقون، وتَدَعُون عبادةَ من خلقَكُم وأعمالَكُم التي تعملون، ولو لم يُضِفْ خلقَ الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم لما قامت له حُجة [عليهم] من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق لأجناس أُخَر، فيشركهم معه في الخلق -تعالى الله عن قول الزائغين- ولا لعًا (5) لعثرات المبطلين، فما أدحضَ حجَّتَهم! وما أوهى قواعد مذهبهم! وما أبين الحق لمن اتبعه! جعلنا الله من أتباعه وحزبه. __________ (1) (ق و"النتائج"): "الصفحة"، وانظر ما سيأتي على الصواب (ص / 266). (2) (ظ ود): "الأجسام". (3) (ق): "قلت". (4) (ظ ود): "يصلح". (5) لعًا: كلمة يدعى بها للعاثر، قال أبو عبيد: من دعائهم: لا لعًا لفلان، أي: لا أقامه الله. انظر: "اللسان": (15/ 250).

(1/260)


وهذا الذي ذكرناه هو الذي قاله أبو عبيد (1) في قول حذيفة: "إن الله يخلق صانع الخَزَم وصنعته" واستشهد بالآية، وخالفه القُتَبِي (2) في "إصلاح الغلط" (3)؛ فغلط أشدَّ الغلط ووافق المعتزلةَ في تأويلها، وإن لم يقل بِقِيلها" هذا آخر كلام أبي القاسم السهيلي -رحمه الله-. ولقد بالغ في رد مالا تحتمل الآية سواه، أو ما هو أولى بحملها وأَلْيقُه بها، ونحنُ وكلُّ محق مساعدوه على أن اللهَ خالق العباد وأعمالهم، وأن كلَّ حركة في الكون فالله خالقها، وعلى صِحَّة هذا المذهب أكثر من ألفِ دليلٍ من القرآن والسنة والمعقول والفطر (4)؛ ولكن لا ينبغي أن تحمل الآية على غير معناها اللائق بها، حِرْصًا على جعلها حجة عليهم، ففي سائر الأدلة غنية عن ذلك، على أنها حجة عليهم من وجه آخر، مع كون "ما" بمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى. والكلام -إن شاء الله- في الآية في مقامين: أحدهما: في سَلْب دلالتها على مذهب القدرية. والثاني: في إثبات دلالتها على مذهبِ أهلِ الحق خلاف قولهم. فهاهنا مقامان (5)؛ مقام إثبات ومقام سلب. فأما مقام السَّلْب: فزعمت القدرية أن الآية حجة لهم في كونهم خالقين لأعمالهم، قالوا: لأن الله -سبحانه- أضاف الأعمالَ إليهم، __________ (1) في "غريب الحديث": (4/ 126 - 127). والخَزَم: شيءٌ شبيه بالخوص. (2) ابن قتيبة تقدمت ترجمته ص/ 123. (3) (ص/126 - 127). (4) (ق): "النظر". (5) في الأصول: "مقامين".

(1/261)


وهذا يدل على أنهم هم المحْدِثون لها، وليس المراد هاهنا نفس الأعمال، بل الأصْنامَ المعمولة، فأخبر سبحانه أنه (ق/ 59 ب) خالقهم وخالق تلك الأصنام التي عملوها، والمراد مادتها، وهي التي وقع الخلقُ عليها. وأما صورتها وهي التي صارت بها أصنامًا، فإنها بأعمالهم، وقد أضافها إليهم، فتكون بإحداثهم وخَلْقهم، فهذا وَجْهُ احتجاجهم بالآية. وقابلهم بعض المثبتين للقدر، وأن اللهَ هو خالق أفعال العباد، فقالوا: الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة لله، فإن "ما" هاهنا مصدرية، والمعنى والله خلقَهُم وخلقَ أعمالهم، وقرروه (ظ/ 44 أ) بما ذكره أبو القاسم السهيلي وغيره، ولما أورد عليهم القدريةُ: كيف تكون "ما" مصدرية هنا؛ وأيُّ وجهٍ يبقى الاحتجاجُ عليهم إذا كان المعنى: والله خلقكُم وخلقَ عبادتكم، وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاجَ بأن يقولوا: فإذا كان اللهُ قد خلقَ عبادتنا للأصنام، فهي مرادة ٌله فكيف ينهانا عنها؟! وإذا كانت مخلوقة له مرادة فكيف يمكننا تركها؟! فهل (1) يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم للأصنام بأن الله خالق عبادتهم (2)؟. أجابهم المثبتون: بأن قالوا: لو تدبرتم سياق الآية ومقصودها لعرفتم صحةَ الاحتجاج، فإن اللهَ -سبحانه- أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئًا أصلًا، وترك عبادة من هو خالقٌ لذواتهم وأعمالهم، فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم، فكيف تَدَعُون عبادته وتعبدون __________ (1) (ق): "فكيف". (2) من قوله: "للأصنام ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/262)


من لا يخلق شيئًا! لا ذواتكم ولا أعمالكم؟! وهذا من أحسن الاحتجاج. وقد تكرَّر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئًا ويسووا (1) بينه وبين الخالق كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، إلى أمثال ذلك، فصحَّ الاحتجاج وقامت الحجةُ بخلق الأعمال مع خَلْق الذوات، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في الآية كما ترى. والصواب: أنها موصولة، وأنها لا تدلُّ على صحة مذهب القدرية، بل هي حجةٌ عليهم مع كونها موصولة، وهذا يتبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير، وهي: أن طريقةَ الحِجَاج والخطاب: أن يُجَرَّد القصد والعناية بحالِ ما يُحتج له وعليه، فإذا كان المستدل محتجًّا (2) على بطلان ما قد أدُّعي في شيءٍ وهو يخالف ذلك، فإنه يجرِّد العنايةَ إلى بيانِ بطلان تلك الدعوى، وأن ما ادُّعي له ذلك الوصف هو متصف بضدِّه لا متصف (3) به، فأما أن يُمْسك عنه ويَذْكر وصفَ غيره فلا. وإذا تقرَّر هذا؛ فالله -سبحانه- أنكر عليهم عبادتهم الأصنام، وبيَّن أنها لا تستحقُّ العبادةَ ولم يكن سياق الكلام (ق/ 60 أ) في معرض __________ (1) (ظ ود): "وسوى". (2) (ق): "المحتج مستدلًّا". (3) الأصول: "متصفًا".

(1/263)


الإنكار عليهم تَرْكَ عبادته، وإنَّما هو في معرض الإنكار عبادةَ من لا يستحق العبادة، فلو أنه قال: ألا (1) تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون؛ لتعينت المصدريةُ قطعًا، ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي؛ إذ يكون المعنى: كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدَكم وأوجدَ أعمالكم، فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق، فهذا وِزَان ما قرروه من كونها مصدرية، فأما سِيَاق الآية؛ فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة، فلابد أن يتبيَّن فيه معنًى ينافي كونه معبودًا، فبين هذا المعنى بكونه مخلوقًا له، ومن كان مخلوقًا من بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي له أن يُعْبَد ولا تليقُ به العبادة. وتأمل مطابقةَ هذا المعنى لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، كيف أنكر عليهم عبادةَ آلهة مخلوقة له -سبحانه- وهي غير خالقة. فهذا يبين المراد من قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، ونظيره قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] أي: هم عباد مخلوقون، كما أنتم كذلك، فكيف تعبدون المخلوق!؟. وتأمل طريقة القرآن -لو أراد المعنى الذي ذكروه- من (ظ/ 44 ب): حُسن تذكُّر (2) صفاته وانفراده بالحق، كقول صاحب يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها، ذكَر الموجب لذلك، وهي: كونه خالقًا لعابده فاطرًا له، وهذا إنعامٌ منه عليه فكيف يترك عبادته؟! ولو كان هذا هو __________ (1) (ظ): "لا"!. (2) من (ق).

(1/264)


المراد من قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) كان يقتضي أن يُقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم، فتأمله فإنه واضح. وقول أبي القاسم -رحمه الله- في تقرير حجة المعتزلة من الآية: إنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل من جهة النحو؛ ليس كذلك. أما قوله: إن "ما" لا تكون مع الفعل الخاص مصدرًا! فقد تقدَّم بطلانُه وأن (1) مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم، كقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) [آل عمران: 79] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] إلى أضعاف ذلك، فإن هذه كلها أفعال خاصة، وهي أخص من مطلق العمل، فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال؛ فمجيئها مصدرية مع العمل أولى. قولهم: إنهم لم يكونوا يعبدون النحتَ وإنما عبدوا المنحوت، حجة فاسدة؛ فإن الكلام في "ما" المصاحبة للفعل (3)، دون المصاحبة لفعل النحت، فإنها لا تحتمل غير الموصولة، ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك، فهذا تقريرٌ فاسد. وأما (ق 60/ ب) تقريره كونها مصدرية- أيضًا- بما ذكره فلا حجة له فيه. أما قوله: "أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام"، فيُقَال: ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام؛ أتعني به: أن أفعالهم __________ (1) (ظ ود): "إذ". (2) في "الأصول": "بما كنتم تتلون الكتاب"! والآية كما أثبت. (3) (ق): "للعمل".

(1/265)


لا تتعلق بإيجادها؟ أم تعني به: أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها؟ أم تعني به أعم من ذلك، وهو المشترك بين القسمين؟ فإن عنيتَ الأول، فمسلَّم، لكن لا يفيدك شيئًا، فإن كونها موصولة لا يستلزم ذلك، فإن كون الأصنام معمولة لهم لا يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم، بل هو على حدِّ قولهم. "عملتُ بيتًا، وعملت بابًا، وعملت حائطًا، وعملت ثوبًا"، وهذا إطلاق حقيقي ثابت عقلًا ولغةً وشرعًا وعرفًا لا يتطرق إليه ردٌّ، فهذا ككون الأصنام معمولة سواء. وإن عنيتَ: أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها؛ فباطل قطعًا. وإن عنيتَ القدرَ المشتركَ؟ فباطل -أيضًا- فإنه مشتملٌ على نفي حقٍّ وباطل، فنفي الباطلِ صحيح، ونفي الحقِّ باطل. ثم يقال -أيضًا-: إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجور أن يطلق فيه العمل الخاص، وشاهده في الآية: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} [الصافات: 95] فـ "ما" هاهنا موصولة فقد أوقع (1) فعلهم، وهو النحت على الجسم، وحينئذٍ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم، وبين إيقاع أفعالهم العامة عليه، لا بمعنى أنَّ ذاته مفعولة له، بل بمعنى (2) أن فعلهم هو الذي صار به صنمًا، واستحقَّ أن يُطلق عليه اسمه، كما أنه بفعلهم صار منحوتًا واستحق هذا الاسم، وهذا بَيِّن. وأما قوله بجواب النقض بـ: "عملتُ الصَّحْفةَ وصنعتُ الجفنةَ": أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس __________ (1) (ق): "وهذا وقع". (2) (ق وظ) "معنى"، والمثبت من (د).

(1/266)


العمل؛ فكذلك هي -أيضًا- معلق بالتصوير الذي صار الحَجَر به صنمًا منحوتًا سواء. [وأما] قوله: الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق؛ فقد (ظ/45 أ) تقدَّم جوابُه وأن الآية (1) وردت لبيان عدمِ استحقاقِ معبوديهم للعبادة؛ لأنها مخلوقة لله، وذكرنا شواهده من القرآن. فإن قيل: كان يكفي في (2) هذا أن يُقال: أتعبدون ما تنحتون والله خالقه، فلما عَدَل إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]؛ عُلم أنه أراد الاحتجاجَ عليهم في ترك عبادته -سبحانه- وهو خالقهم وخالق أفعالهم. قيل: في ذكر خلقه -سبحانه- لآلهتهم ولعابديها من بيانِ تقبيح حالهم، وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى، ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط، فإنه إذا كان الله -تعالى- هو الذي خلقكم وخلقَ معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم، فكيف يعبدُ العاقلُ من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة!؟ (ق/ 61 أ) وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم!. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد، فإنه إذا كان مثله كان عبدًا مخلوقًا، والمعبود ينبغي أن يكون ربًّا خالقًا، فهذا من أحسن الاحتجاجِ وأبينه، فقد أسفر لك من __________ (1) من قوله: "في بيان ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من (ق).

(1/267)


المعنى المقصود بالسياق (1) صُبْحُه، ووضح لك شرحُه، وانجلى بحمد الله الإشكال، وزال عن المعنى غطاءُ الإجمال، وبان أن ابنَ قتيبةَ في تفسير الآية وُفِّق للسداد، كما وُفِّق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد، ولا تستطِلْ هذا الفصل، فإنه يُحقق لك فصولًا لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعدَ وأصولًا لا تجدها فى عامة المصنفات. فإن قيل: فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون "ما" موصولة؟. قيل: نعم قد سبقَ الوعدُ بذلك، وقد حان (2) إنجازُه وآن إبرازُه. ووجه الاستدلال بها أعلى هذا التقدير أن (3) الله سبحانه أخبر: أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها، وهي إنما صارت أصنامًا بأعمالهم، فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم، فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها، أعني: مادَّتَها وصورَتَها، فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك؟ لزم أن يكون خالقًا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة، لأنه متولِّد عن نفس حركاتهم. فإذا كان الله خالقهم كانت أعمالهم التي تولَّد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له، وهذا أحسن استدلالًا وألطف من جعل "ما" مصدرية. ونظيره من الاستدلال سواء قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ __________ (1) سقطت من (ق). (2) (ق): "سبق بذلك وعد حان ... "!. (3) سقطت من (ظ).

(1/268)


فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس: 41، 42] وأصحُّ القولين (1) أن المثلَ المخلوقَ هنا هو السفن، وقد أخبر أنها مخلوقة له (2)، وهي إنما صارت سُفنًا بأعمال العباد. وأَبْعَدَ من قال: إن المثلَ هاهنا هو سفن البرِّ، وهي الإبل لوجهين: أحدهما: أنها لا تُسَمَّى مثلًا للسفن؛ لا لغةً ولا حقيقةً، فإن المَثَلَين: ما سدَّ أحدُهما مسدَّ الآخر، وحقيقة المماثلة: أن يكون بين فُلْك وفُلْك لا بين جَمَل وفُلْك. الثاني: أَنَّ قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] عَقِب ذلك دليلٌ على أن المراد الفلك التي إذا (3) ركبوها قَدَرنا على إغراقهم، فذَكَّوهم بنِعَمِه عليهم من (4) وجهين. أحدهما: ركوبهم إياها، والثاني: أن يُسَلِّمهم عند (ظ/ 45 ب) ركوبها من الغرق. ونظير هذا الاستدلال -أيضًا- قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ (ق/61 ب) ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] والسرابيل هي: الثياب التي يلبسونها، وهي مصنوعة لهم، وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها، وإنما صارت سرابيل بعملهم، ونظيره قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] والبيوت التي من جلود الأنعامِ هي: الخيام، وإنما صارت بيوتًا بعملهم. __________ (1) من (ق). (2) من (ق). (3) سقطت من (ق). (4) (ق): "نعمته عليهم بها ... "!

(1/269)


فإن قلت: المراد من هذا كلِّه المادة لا الصورة. قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها، وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها، وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال، والله أعلم. فائدة (1) الذي يدلُّ على أن الضمير من: "يكرمني" ونحوه "الياء" دون "النون" (2) معها وجوه: أحدها: القياس على ضمير المخاطب والغائب في: أكرمك وأكرمه. الثانى: أنَّ الضمير في قولك: "أني" وأخواته هو الياء وحدها؛ لسقوط النون اختيارًا في بعضها، وجوازًا في أكثرها، وسماعًا في بعضها، ولو كان الضمير هو الحرفين لم يسقطوا أحدهما. الثالث: إدخالهم هذه النون في بعض حروف الجر وهي: "مِن" و"عَن"، ولو كانت جزءًا من الضمير لا طردت في "إليّ" و"فيَّ" وسائر حروف الجر (3). فإن قلتَ: فما وجه اختصاصها ببعض الحروف والأسماء؟ والجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له من توهم الإضافة إلى "الياء"، فألحقوها علامة الانفصال، وهى في أكثر الكلام نون ساكنة، وهو التنوين، فإنه لا يوجد في الكلام إلا علامةً __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 194). (2) ليست في (ظ ود)، وفي "المنيرية": "ما". (3) (ق): "سائر الحروف الجارّة".

(1/270)


لانفصال الاسم، ولذلك ألحقوها في القوافي المعرفة باللام إيذانًا بتمام البيت وانفصاله مما بعده، نحو: العِتَابَنْ (1) والذُّرَّفَنْ (2)، ولذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين أرادوا فصل الاسم من العلامة كقولهم: أزيدٌ إنيه! وقول الأنصارية: أجُلَيْبيْبٌ إِنيْه (3). ووجه هذا: أنه أراد فصل الاسم عن العلامة (4) كي، يتوهم أنها من (5) تمام الاسم أو علامة جَمْع، ففصل بين الاسم وبينها بنون زائدة، وأدخل عليها ألفَ الوصل لسكونها، ثم حَرَّكها بالكسر لالتقاء الساكنين، فلما كان من أصلهم تخصيصُ النون بعلامةِ الانفصال (6)، وأرادوا فصلَ الفعل وما ضارَعَه عن الإضافة إلى "الياء" جاءوا بهذه النون الساكنة، ولولا سكونُ الياء لكانت ساكنة كالتنوين، ولكنهم كسروها لالتقاء الساكنين. فائدة (7) السرُّ في حذف الألف من "ما" الاستفهامية عند حرف الجر: __________ (1) فى قول جرير "ديوانه": (ص/ 58): أقلِّي اللومَ عاذِلَ والعِتابَنْ ... وقولي إنْ أصَبْتُ: لقد أَصابَنْ (2) في رجز العجاج، وتمامه: * يا صَاح ما هَاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ * انظر: "الكتاب": (2/ 299)، و"شرح المفصَّل": (9/ 33) لابن يعيش. (3) أخرجه أحمد: (4/ 422) من حديث أبي بَزرة الأسلمي -رضي الله عنه- وسنده صحيح. (4) من قوله: "كقولهم: أزيدٌ ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود) و "المنيرية". (5) من (ق). (6) بعدها في (ظ) كلمة لم أتبيَّنها، وفي المطبوعة: "واجبًا" وليست في (ق) ولا " النتائج"، وفي (د): "واديا". (7) "نتائج الفكر": (ص / 197).

(1/271)


أنهم أرادوا مشاكَلَة اللفظ للمعنى، فحذفوا الألف؛ لأن معنى قولهم: "فيم ترغب"؟ في أي شيء، و"إلام تذهب"؟ إلى أيّ شيء، و"حتَّام لا ترجع"؟ حتى أيِّ غايةٍ تستمر، ونحوه، فحذفوا الألف مع الجار (ق/ 62 أ) ولم يحذفوها: في حال النصب والرفع (1) كيلا تبقى الكلمة على حرفٍ واحد، فإذا اتصل بها حرف الجر أو اسم مضاف اعتمدَتْ عليه؛ لأن الخافضَ والمخفوضَ بمنزلة كلمةٍ واحدة. وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض، ولكن إذا حذفوا الخبر فيقولون: مه يا زيد؟ أي: ما الخبر؟ وما الأمر؟ فلما كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ، ولكن لابد من هاء السكت لتقف عليها. ومنه قولهم: "مَهْيَم" كان الأصل: ما هذا يا امرؤ؟ فاقتصروا من كلِّ كلمة على حرف، وهذا غاية الاختصار والحذف. والذي (ظ/146) شجعهم على ذلك: أَمْنهم من اللَّبْس لدلالة حال المسؤول والمسؤول عنه على المحذوف، فيفهم (2) المخاطب من قوله: "مَهْيَم". ما يفهم من تلك الكلمات الأربع. ونظير هذا قولهم: "أَيْشٍ"، في "أيِّ شيءٍ"، و"م الله" في و "أيمن الله". فائدة بديعة (3) قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 69] الشيعة (4): الفرقة التي شايعَ بعضها بعضًا، أي تابعه، ومنه __________ (1) (ق): "والجر" وهو خطأ. (2) (ظ ود): "فهم". (3) "نتائج الفكر": (ص/198). (4) سقطت من (ظ ود).

(1/272)


الأشياع، أي: الأتباع، فالفرق بين الشِّيْعَة والأشْياع: أن الأشياع هم التَّبَع، والشيعة القوم الذين تشايعوا، أي: تَبعَ بعضُهم بعضًا وغالب ما يُسْتَعمل في الذمّ، ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك، كهذه الآية وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54]. وذلك -والله أعلم- لما في لفظ "الشِّيْعة" من الشِّياع والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع؛ ولهذا لا يُطلق لفظ "الشِّيَع" إلا على فِرَق الضلال؛ لتفرقهم واختلافهم، والمعنى: لننزِعَنَّ من كلِّ فرقةٍ أشدهم عُتوًّا على الله وأعظمهم فسادًا فنلقيهم في النار، وفيه إشارة إلى أن العذاب يتوجه إلى السادات أولًا (1)، ثم تكون الأتباعُ تبعًا لهم فيه، كما كانوا تبعًا لهم في الدنيا. و {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} للنحاة فيه أقوال: أحدها: قول الخليل: إنه مبتدأ، وأشد خبره ولم يعمل "لننزعن" فيه؛ لأنه محكي، والتقدير: الذي يقال فيه: أيهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا، وعلى هذا فأيّ استفهامية. الثانى: قول يونس: إنه رُفِعَ على جهة التعليق للفعل السابق، كما لو قلتَ: علمت أَيّهم أخوك، فعلَّق الفعلَ عن الفعل كما تعلق أفعال القلوب. الثالث: قول سيبويه: إن "أي" هنا موصولة مبنية على الضم، والمسوِّغِّ لبنائها حذفُ صَدْر صِلَتها، وعنده أصل الكلام: أَيّهم هو أشد، فلما حذف صدر الصلة بُنِيَت على الضَّم تشبيهًا لها بالغايات __________ (1) ليست في (ق).

(1/273)


التي قد حذفت (1) مضافاته كـ "قبل" و"بعد"، وعلى كلِّ واحد من الأقوال إشكالات نذكرها ثم (ق/62 ب) نبين الصحيحَ إن شاءَ الله. فأما قول الخليل: فقيل يلزمه ستة أمور: أحدها: حَذْف الموصول. الثاني: حَذف الصلة. الثالث: حَذْف العائد؛ لأن تقديره: الذين يقال لهم: أيّهم (2) أشد، وهذا لا عهد لنا فيه باللغة. وأما ما يحذف من القول فإنه إنما يكون قولًا مجردًا عن كونه صلة لموصول نحو قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] أي: يقولون أو قائلين. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. الرابع: أنه إدْا قُدِّر المحذوفُ هكذا لم يستقِم الكلام، فإنه يصير: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الذين يقال فيهم: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، وهذا فاسد، فإن ذلك المنزوع لا يقال فيه: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، بل هو نفسه أشدّ أو مِن أَشدِّ الشيعة على الرحمن، فلا يقع عليه الاستفهام بعد نزعه، فتأمَّلْه. الخامس: أن الاستفهامَ لا يقعُ إلا بعد أفعال العلم والقول على الحكاية، ولا يقع بعد: غيره من الأفعال، تقول: "علمتُ أزيد عندك أم عَمْرو"، ولو قلت: "ضربتُ أزيد أم عَمْرو"، لم يجز، و"ننزِعَنَّ" ليس من أفعال العلم. __________ (1) (ق): "صدقت". (2) (ق): "يقال: أيهم".

(1/274)


فإذا قلت: "ضربتُ أيهم قام"، لم تكن إلا موصولة ولا يصح أن يقال: "ضربت الذي يقال فيه: أيهم قام"، وإنما توهم مثل ذلك لكون اللفظ صالحًا لجهة أخرى مستقيمة، فيتوهم مُتَوهِّم أن حَمْله على الجهة الأخرى (ظ/46 ب) يستقيم. والذي يدل عليه: أنه لو قَدَّرت موضعه استفهامًا صريحًا ليس له جهةٌ أخرى لم يَجُز. فلو قلت: "ضربت أزيد عندك أم عَمْرو"، لم يجز، بخلاف: "ضربت أيهم عندك"، فلو كان "أيهم" استفهامًا" لجاز الكلام مع الاستفهام الذىِ بمعناهما، وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم والقول؛ أما القول؛ فلأنه يُحْكى به كلُّ جملةٍ خبرية كانت أو إنشائية، وأما أفعال العلم! فإنما وقع بعدها الاستفهام لكون الاستفهام مُسْتَعْلَمًا به، فكأنك إذا قلتَ: "أريد عندك أم عمرو"، كان معناه: أَعْلِمْني. وإذا قلت: "علمتُ أريد عندك أم عَمْرو"، كان معناه: أعْلِمْني ما تطلب استعلامه، فلهذا صحَّ وقوع الاستفهام بعد العلم! لأنه استعلام، ثم حمل الحسبان (1) والظن عليهما لكونهما من بابه. ووجه آخر وهو: كثرة استعمال أفعال العلم، فجُعِل لها شأن ليس لغيرها. السادس: أن هل الحذف الذي قَدَّره في الآية، حَذْف لا يدل عليه سياق، فهو مجهول الوضع، وكلُّ حذف كان بهذه المنزلة كان تقديره من باب عِلْم الغيب. وأما قول (ق/ 63 أ) يونس، فإشكاله ظاهر، فإن التعليق إنما يكون في أفعال القلوب، نحو العلم والظن والحسبان (2) دون غيرها. ولا __________ (1) (ظ): "الحساب". (2) (ظ): "الحساب".

(1/275)


يجوز أن تقول: "ضربتُ أيهم قام"، على أن تكون "أيهم" استفهامًا، وقد عُلِّق الفعل عن العمل فيه. وأما قول سيبويه، فإشكاله أنه بناء خارجٌ عن النظائر، ولم يوجد في اللغة شاهد له. قال السهيلي (1): ما ذكره سيبويه لو استشهد عليه بشاهدٍ من نظمٍ أو نثر، أو وجدنا بعده في كلام فصيح شاهدًا له لم نعدل به قولًا، ولا رأينا لغيره عليه طَولًا؛ ولكنا لم نجدْ ما بُنيَ لمخالفته (2) غيره، لاسيما مثل هذه المخالفة؛ فإنا لا نسلم أنه حُذِف من الكلام شيءٌ. وإن قال: إنه حذف ولا بُد، والتقدير: أيهم هو أخوك؟. فيقال: لِمَ (3) لَمْ يبنوا في النكرة، فيقولوا: "مررتُ برجلُ أخوك، أو: رأيت رجلُ أبوك"، أي هو أخوك وأبوك، ولم خصوا "أيًّا" بهذا دون سائر الأسماء أن يحذف من صلته ثم يبني للحذف؟ ومتى وجدنا شيئًا من الجملة يُحْذف ثم يَبْنى الموصوف بالجملة من أجل ذلك الحذف؟ وذلك الحذف لا يجعله متضمنًا لمعنى الحرف ولا مضارعًا: له. وهذه علة البناء وقد عدمت في "أي". قال: والمختار قول الخليل، لكنه يحتاج إلى شرح، وذلك أنه لم يرد بالحكاية ما يسبق إلى الوهم (4) من تقدير معنى القول؛ ولكنه __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 198). (2) العبارة محرفة فى (ظ). (3) (ق): "له". (4) (ظ ود): "الفهم".

(1/276)


أراد حكاية لفظ الاستفهام الذي هو أصل في "أي" كما تحكيه بعد العلم إذا قلت: "قد علمتُ من أخوك"؟ و: "أقامَ زيد أم قَعَد"؟ فقد تركت الكلام على حاله قبل دخول الفعل، لبقاء معنى الاختصاص والتعيين في "أي" الذي كان موجودًا فيها وهي استفهام؛ لأن ذلك المعنى هو الذي وُضِعَت له استفهامًا كانت أو خبرًا، كما حكوا لفظ النداء في قولهم: "اللهم اغفر لي أيها الرجل" و"أرحمنا أيتها العصابة"، فنحكي لفظ هذا إشعارًا بالتعيين والاختصاص الموجود في حال النداء. وكذلك هذا، حكيت حاله في الاستفهام وإن ذهب الاستفهام، كما حكيتَ حاله في النداء وإن ذهبَ النداء (1)، لوجود معنى الاختصاص والتعيين فيه. قال: وقول يونس: "إن الفعل ملغًى" حق، وإن لم يكن من أفعال القلب، وعِلَّة إلغائه ما قدمناه من حكاية لفظ الاستفهام للاختصاص. فإذا أتممت لفظ الصِّلة (2) وقلت: "ضربت أيهم هو (3) أخوك"، زالت مضارعة الاستفهام، وغلبَ فيه معنى الخبر (ظ/ 47 أ) لوجود الصِّلة التامة بعده. قال: وأما قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] وإجماعهم على أنها منصوبة بـ "ينقلبون" لا بـ "سيعلم". وقد كان يتصوَّر فيها أن تكون منصوبة بـ "سيعلم" (ق/63 ب) على جهة الاستفهام، ولكن تكون موصولة، والجملة صِلَتها، والعائد محذوف. __________ (1) من قوله: "وكذلك هذا .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ظ ود): "العلة". (3) من (ق).

(1/277)


ولكن مَنَعَ من هذا أصلٌ أصَّلْناه، ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إذا عُنِي به المصدر، ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر، لم يجز؛ لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة، وهي: إيضاح الموصول وتبيينه، والمصدر لا يوضح فعله (1) المشتق من لفظه؛ لأنه كأنه هو لفظًا ومعنًى، إلا في المختلف الأنواع كما تقدم. قال: ووجه آخر أقوى من هذا، وهو: أن "أيًّا" لا تكون بمعنى "الذي" حتى تُضَاف إلى معرفة، فتقول: "لقيت أيهم في الدار"، إذ من المحال أن يكون بمعنى "الذي" وهو نكرة، و"الذي" لا يُنكَّر، وهذا أصل يُبْنَى عليه في "أَي". فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى "أَي" (2): وهو أن لفظ "ألف" و"ياء" مكرَّرة راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين والتمييز للشيء من غيره، فمنه: "إياة الشمس"، لضوئها؛ لأنه يبينها ويميزها من غيرها، ومنه: الآية: العلامة، ومنه: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم التي يتميَّزون بها عن غيرهم، ومنه: تأيَّيتَ بالمكان، أي: تَلَبَّثْتَ لتتبيَّنَ شيئًا أو تُميِّزه. ومنه قول امرئِ القيس: قِفْ بالدِّيَارِ وُقُوْفَ حَابِسْ ... وَتَأيَّ إِنَّكَ غَيْرُ يَائسْ (3) __________ (1) كذا في الأصول و"النتائج" والأولى: "بفعلها" كما أثبت محققه. (2) "نتائج الفكر": (ص 200 - 202). (3) البيت لامرئ القيس بن عابس الكندي، صحابى، انظره في "الشعر والشعراء": (ص/ 290)، و"الاستيعاب": (1/ 106 - بهامش الإصابة)، و"الإصابة" (1/ 64). وفيها: "غير آيِسْ".

(1/278)


وقال الكُمَيْت: * وتأيَّ إِنَّكَ غَيْرُ صَاغِرْ (1) * ومنه "إياكَ" في المضمرات، لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم، والمفعول إنما يتقدم على فعله قصدًا إلى تعيينه، وحرصًا على تمييزه (2) من غيره، وصرفًا للذِّهن عن الذهاب إلى غيره، ولذلك تقدم في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض الأوهام عن التعلق بغيره، ولهذا اختصت "أي" بنداء ما فيه "الألف واللام" تمييزًا له وتعيينًا، وكذلك (3): أَي زيد، ومنه: إياك المراءَ والأسدَ (4)، أي: مَيِّز نفسك وأَخْلصها عنه، ومنه: وقوع "أي" تفسيرًا، كقولك: "عندي عِهن"، أي: صُوْف. وأما وقوعها نعتًا لما قبلها، نحو: "مررت برجلٍ أَيُّ رجل"، فإنما تدرَّجْتَ إلى الصفةِ من (5) الاستفهام، كأن الأصل: أيُّ رجل هو؟ على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله التفخيم؛ لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة لوصفه، فكأنه مما __________ (1) وصدره كما في "ديوانه": (1/ 225): * قِفْ بالدِّيارِ وُقُوفَ زَائِرْ * وانظر: "الشعر والشعراء": (ص/ 290)، وقال: إنه كان يسرق الشعر، وهذا البيت مما سوقه من امرئ القيس وغيَّر القافية. (2) (ق): "تميزه" و "النتائج": "تبيينه". (3) العبارة في "النتائج": "ولذلك صُيّر بعض لفظها حرفًا من حروف النداء في قولك: ... ". (4) (ق): "المراد الأسد" ولعل ابن القيم أراد الشاهد: فإياك إياك المراء فإنه ... ، وقوله: والأسد، أي: وإياك الأسدَ. (5) (ق): "من الصفة إلى".

(1/279)


يُسْتَفهم عنه إذ (1) يُجْهَلُ كُنْهُه. فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوعٌ لما يجْهَل. لذلك جاء: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} [القارعة: 1 - 2] و {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة: 1 - 2] أي: إنها لا يُحَاطُ بوصفها، فلما ثبتَ هذا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قَرُبَ من الوصف، حتى أَدْخلوه في باب النعت، وأَجْرَوه في باب الإعراب عن ما (ق/64 أ) قبله. ومنه: * جَاءُوا بِمَذقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ * (2) أي: فإنه في لون الذئب، إن كنتَ رأيتَ الذئب. ومنه: "مررت بفارس هل رأيتَ الأسد"، وهذا التقدير أحسن من قول بعض النحويين: إنه معمول وصف مقدر، وهو قول محذوف أي: مقول (3) فيه: هل رأيتَ كذا، وما ذكرتُه لكَ أحسن وأَبْلَغ فتأمله. فائدة جليلة ما يجرى صفةً أو: خبرًا على الربِّ -تبارك وتعالى- أقسامٌ: أحدها: ما يرجع: إلى نفسِ الذات، كقولك: ذاتٌ، وموجودٌ، وشيءٌ. __________ (1) سقطت من (ط ود). (2) صدره: * حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ واخْتَلَطْ * واختلف في نِسبته، انظر "الإنصاف" شاهد رقم (66)، و "اللسان": (10/ 340). و"الكامل": (2/ 1054). والمَذْق: اللبن الممزوج بالحاء. (3) (ق): "مفعول".

(1/280)


الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية؛ كالعليم، والقدير، والسميع. الثالث: ما يرجع (ظ/ 47 ب) إلى أفعاله، نحو: الخالق والرزاق (1). الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العَدَم المحض؛ كالقدوس السلام. الخامس: ولم يذكره أكثر الناس، وهو: الاسم الدالُّ على جملة أوصافٍ عديدة لا تختص بصفة معينة، بل هو (2) دال على مَعَانٍ لا على معنًى مفرد، نحو: المجيد، العظيم، الصمد، فإنَّ المجيد: من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدلُّ على هذا، فإنه موضوع للسَّعَة والكثرة والزيادة، فمنه: "اسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ" (3)، وأمجد الناقة علفًا. ومنه: رب العَرْشِ المَجِيدِ، صفة للعرش لِسَعَته وعِظَمه وشَرَفِه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصَّلاة من الله على رسوله كما علمناه - صلى الله عليه وسلم - لأنه في مقام طلب المزيد والتعرُّض لسَعَة العطاء وكثرته ودوامِهِ، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: "اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"، ولا يحسن: "إنك أنت السميع البصير"، فهو راجع إلى المتَوَسَّل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. __________ (1) (د): "الرازق". (2) ليست في (ق). (3) المَرخ والعفار: نوع من الشجر، سريع الوَرْي، ويقال في المثل: "لكلُ شجر نارٌ، واسْتَمْجَد المرخُ والعَفَار". انظر: "القاموس": (ص/ 332، 568).

(1/281)


ومنه الحديث الذي في "المسند" (1) والترمذي (2): "أَلِظُّوا بيَاذَا الجَلالِ والإكْرَامِ" (3) ومنه: "اللهم إِني أسْأَلُكَ بأنَّ لَكَ الحمد لا إِله إِلا أَنْتَ المنَّانُ بَدِيْعُ السَّمواتِ والأَرْضِ يَاذَا الجَلالِ والإِكرَامِ" (4)، فهذا سؤالٌ له وتوسُّل إليه بحمده (5) وأنه الذي (6) لا إله إلا هو المنَّان، فهو توسُّل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول، وهذا بابٌ عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فتح لمن بَصَّرَهُ الله. ولنرجع إلى المقصود، وهو وصفه -تعالى- بالاسم المتضمِّن لصفات عديدة؛ فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال. وكذلك الصمد، قال ابن عباس (7): هو السيِّد الذي كَمُل في سؤدده. وقال أبو وائل: هو (ق/ 64 ب) السيد الذي انتهى سؤدده. وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد، وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السُّؤدد فقد صَمَد له كلُّ شيءٍ. __________ (1) (4/ 177) من حديث ربيعة بن عامر -رضي الله عنه-. (2) رقم (3525) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (3) وجاء الحديث من رواية أبي هريرة وابن عمر، والحديث يصحّ بمجموع طرقه، وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف": (3/ 395 - 396)، و "الكاف الشاف": (4/ 162 - مع الكشاف). (4) أخرجه أبو داود رقم (1495)، والنسائي: (3/ 52)، وأحمد: (158/ 3) وغيرهم، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. والحديث صححه: ابن حبان رقم (893)، والضياء في "المختارة": رقم (1885). (5) (ظ ود): "وبحمده". (6) ليست في (ق). (7) انظر: "تفسير الطبري" - (12/ 743 - 744)، و"الدر المنثور": (6/ 713).

(1/282)


وقال ابن الأنباري (1): "لا خلاف بين أهل اللغة، أن الصَّمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يَصْمُد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم". واشتقاقه يدلُّ على هذا، فإنه من الجمع والقصد فهو الذي اجتمع القصد نحوه، واجتمعت فيه صفاتُ السؤدد، وهذا أصله في اللغة (2) كما قال: ألا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرَي بَني أَسَدْ ... بعَمْروِ بنِ يَرْبوعٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ (3) والعرب تسمِّي أشرافَها: بالصمد؛ لاجتماع قَصْد القاصدين إليه، واجتماع صفات السِّيادة فيه. السادس: صفهَ تحصل من اقتران (4) أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدرٌ زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو (5) القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنيَّ صفة كمالٍ، والحمد كذلك، واجتماع الغِنَى مع الحَمْد كمالٌ آخر، فله ثناءٌ من غِناه، وثناءٌ من حَمْده، وثناءٌ من اجتماعهما. وكذلك: العفو القدير، والحميد المجيد (6)، والعزيز الحكيم؛ فتأمله فإنه من أشرف المعارف. وأما صفات السَّلْب المَحْض؛ فلا تدخل في أوصافه -تعالى- إلا أن تكون متضمِّنة لثبوتٍ؟؛ كـ "الأحد" المتضمن لانفراده بالرُّبوبية __________ (1) في كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس": (1/ 83). (2) "في اللغة" ليست في (ق). (3) نُسِب لغير واحد وانظر هامش "الزاهر" رقم (46). (4) (ق ود): "صفة في اقتران ... ". (5) (ق): "الغفور". (6) من قوله: "وهكذا عامة الصفات ... " إلى هنا ساقط من (د).

(1/283)


والآلهية، و"السلام" المتضمن (ظ/ 48 أ) لبراءته من كلِّ نقصٍ يُضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسُّلُوب؛ هو لتضمُّنها ثبوتًا كقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فإنه متضمِّن لكمال حياته وقيُّوميَّته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] متضمن لكمال قدرته. وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] متضمِّن لكمال علمه، وكذلك قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3] متضمِّن لكمال صَمَدِيته وغِناه، وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] متضمن (1) لتفرده بكماله وأَنه لا نظيرَ له، وكذلك قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمن لعظمته، وأنه جلَّ عن أن ُيُدْرَك بحيثُ يُحاط به، وهذا مُطَّرِد في كل ما وَصَفَ به نفسَه من السُّلُوب. ويجب أن يُعْلَم هنا أمور: أحدهما: أنَّ ما يدخل في باب الإخبار عنه -تعالى- أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه، فإن هذا (2) يُخْبر به عنه، ولا يَدْخل في أسمائه الحسنى وصفاته العُلى. الثاني: أنَّ الصِّفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص؛ لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يُطْلَقُ عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع، (ق / 65 أ) فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غَلِطَ من سمَّاه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعَّالُ لما يريدُ، __________ (1) (ظ ود): "متضمن علمه لتفرده". (2) من (ق).

(1/284)


فإن الإرادة والفعل والصُّنْع منقسمة، ولهذا إنما أطلقَ على نفسِه من ذلك أَكْمَلَه فِعْلًا وخَبَرًا. الثالث: أَنَّه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يُشْتَق له منه اسم مطلق، كما غَلِط فيه بعضُ المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى: المُضِل الفاتن الماكر -تعالى الله عن قوله- فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه -سبحانه- منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم. الرابع: أنَّ أسماءه الحسنى هى أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العَلَمية، بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي عَلَميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة فَنَافَتْها العَلَمية المختصة، بخلاف أوصافه -تعالى-. الخامس: أَنَّ الاسم من أسمائه له دلالات؛ دلالة على الذات والصفة بالمطابقة؛ ودلالة على أحدهما بالتضمُّن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم. السَّادس: أَنَّ أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبارٌ (1) من حيث الذات (2)، واعتبارٌ من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة. السابع: أنَّ ما يُطْلَق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفيٌّ، وما يُطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًا، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. فهذا فَصْل الخطاب في مسألة __________ (1) سقطت من (ظ). (2) (ق): "الصفات" ثم كتب فوقها: "الظاهرة الأسماء".

(1/285)


أسمائه؛ هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض (1) ما لم يرد به السمع. الثامن: أنَّ الاسم أذا أُطلِق عليه؛ جاز أن يُشْتق منه المصدر والفعل، فيُخْبر به عنه فعلًا ومصدرًا، نحو: السميع البصير القدير، يطلق عليه منه اسم (2) السمع والبصر والقدرة، ويُخْبر عنه بالأفعال، من ذلك نحو: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1]. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23] هذا إن كان الفعلُ متعديًا، فإن كان لازمًا لم يُخْبر عنه به، نحو: الحي، بل يُطْلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل (3)، فلا يقال: حيي. التاسع: أنَّ أفعال الربِّ -تعالى- صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة: عن أفعالهم، فالربُّ -تعالى- فِعَاله عن كماله. والمخلوق كمالُه عن فِعَاله، فاشْتُقَّت له الأسماء بعد (ظ/48 ب) أن كَملَ بالفعل. فالربُّ -تعالى- لم يزل كاملًا، فحصلت أفعالُه عن كماله؛ لأنه كاملٌ بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كمالِهِ كَمُل فَفَعَل، والمخلوق فَعَل فكَمُلَ الكمال اللائق به. العاشر: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكلِّ معلوم، فإن المعلومات سواه: إما أن تكون خلقا له -تعالى- أو أمرًا، إما عِلْم بما كوَّنه، أو عِلْم بما شَرَعَه، ومصدرُ (ق/65 ب) الخلقِ والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى __________ (1) ليست في (ق). (2) من (ق). (3) "دون الفعل" ليست في (ق ود).

(1/286)


بمقتضيه، فالأمر كلُّه مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حَسَن (1)، لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كلُّه مصلحَة وحِكْمة ورحمة ولطفٌ وإحسان، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العَدْل والحكمة، والمصلحة والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خَلْقِه ولا عَبَث، ولم يخلق خلْقَه باطلًا ولا سدًى ولا عَبَثًا، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سِواه تابعٌ لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به -تعالى- أصل للعلم بكلِّ ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمخلوق أحْصَى جميعَ العلوم؛ إذ إحصاءُ أسمائه أصل لإحصاء كلِّ معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللًا ولا تفاوتًا، لأن الخللَ الواقع فيما يأمر به العبدُ أو يفعله: إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته. وأما الرب -تعالى- فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خللٌ ولا تفاوت ولا تناقض. الحادي عشر: أن أسماءه كلَّها حُسْنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا، وقد تقدَّم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل، نحو: الخالق والرزَّاق والمحيي والمميت، وهذا يدلُّ على أن أفعاله كلَّها خيرات محضة لا شرَّ فيها، لأنه لو فعل الشر لا شْتُق له منه اسمٌ، ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، وهذا باطل، فالشرُّ ليس إليه، فكما لا __________ (1) (د): "مصدر حسن".

(1/287)


يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته = لا يدخل في أفعاله، فالشرُّ ليس إليه، لا يُضَاف إليه فعلًا ولا وصفًا وإنما يدخل في مفعولاته. وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأمل هذا فإنه خفيَ (1) على كثير من المتكلِّمين، وزلَّت فيه أقدام، وضَلَّت فيه أفهام، وهدى الله أهلَ الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الثانى عشر: في بيان (2) مراتب إحصاء أسمائه -تبارك وتعالى- التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قُطْب السعادة (3) ومدار النجاة والفلاح. المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها (4). المرتبة الثالثة: دعاؤه بها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (ق/66 أ) [الأعراف: 180]. وهو مرتبتان: أحدهما: دعاء ثناء وعبادة. والثاني: دعاء طلبٍ ومسألة. فلا يُثْنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، ولذلك لا يُسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي __________ (1) سقطت من (ظ ود)، وانظر في هذا البحث ما سيأتي: (2/ 719 - 721). (2) من (ظ). (3) "وهذا هو قطب السعادة" ساقط من (د)، و"هذا" ساقط من (ق). (4) (ق): "ومداركها".

(1/288)


وارحمني!! بل يُسئل في كلِّ مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسِّلًا إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية (ظ/49 أ) الرُّسُل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجدَها مطابقةً لهذا. وهذه العبارة أولى من عبارة من قال: يتخلق (1) بأسماء الله؟؛ فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي مُنْتَزعة من قول الفلاسفة بالتشبُّه بالإله (2) على قَدْر الطاقة. وأحسنُ منها عبارة أبى الحكم بن بَرَّجان، وهي: التعبد (3)، وأحسن منها: العبارةُ المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة: أشدها إنكارًا عبارة الفلاسفة، وهي: التشبُّه. وأحسن منها عبارة من قال: التخلُّق، وأحسن منها عبارة من قال: التعبُّد، وأحسن من الجميع: الدعاء، وهي لفظ القرآن. الثالث عشر: اختلف النظار في الأسماء التي تُطْلق على الله وعلى العباد، كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير (4) والملك ونحوها. __________ (1) (ق): "يتملّق"!. (2) (ظ ود): "الفلاسفة بالإله"، و (ق): "الفلاسفة الفلسفة التشبه ... " والصواب المثبت من "المنيرية". (3) العبارة في (ق) معرفة إلى: "لأن الحكم برزخان وهي البعيد"! وتحرفت "برجان" في (ظ ود) إلى "برهان"!. وابن بَرَّجان هو: أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي، أحد المتصوّفة ت (536). ترجمته في: "لسان الميزان": (4/ 13)، و "الأعلام": (4/ 6). (4) (ق): "والعزيز".

(1/289)


فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقة في العبد، مَجاز في الرب، وهذا قول غُلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادًا. الثاني مقابله وهو: أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد، وهذا قول أبي العباس النَّاشِئ (1). الثالث: أنها حقيقة فيهما. وهذا قول الأكثرين (2)، وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرَّب تعالى منها ما يليق بجلاله، وللعبد منها ما يليق يه. وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال، وإبطال باطلها وتصحيح صحيحها، فإن الغرض الإشارة: إلى أمور ينبغي معرفتها فى هذا الباب، ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سِفْرين أو أكثر. الرابع عشر: أنَّ الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: اعتبار من حيث هو، مع قَطْع النظر عن تقييده بالرَّبِّ أو العبد. الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به. الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مُقَيدًا به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته، كان ثابتًا للرب والعبد، وللربِّ منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به. __________ (1) هو: أبو العباس عبد الله بن محمد بن شِرْشِيْر الأنباري، من كبار المتكلمين ت (293). انظر: "تاريخ بغداد": (10/ 92)، و"السير": (14/ 40). (2) من (ق)، وفي "المنيرية": "أهل السنة"، وفى (د) بياض ثم كتب بخط حديث مغاير "أهل السنة".

(1/290)


وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات، والبصير (ق/ 66 ب) الذي يلزمه رؤية المُبْصَرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء، فإن شرط صحة إطلاقها: حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها. فما لزم هذه الأسماء لِذَاتها، فإثباته للرب -تعالى- لا محذورَ فيه بوجهٍ، بل تثبتُ له على وجه لا يماثل (1) فيه خلقَه ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحد في أسمائه وجَحَدَ صفات كماله. ومن أثبته له على وجهٍ يماثل فيه خلْقَه فقد شبَّهَه بخلقه، ومن شبَّه اللهَ بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجهٍ لا يماثل فيه خلقه، بل كما يليقُ بجلاله وعظمته؛ فقد بَرِئ من فَرْث التشبيه ودَمِ التعطيل (2)، وهذا طريق أهل السنة. وما لزم الصفةَ لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيه عن الله، كما يلزم حياة العبد من النوم والسِّنَةِ والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك. وكذلك ما يلزم إرادته من حركةِ نفسه في جلبِ ما ينتفع به ودفع ما يتضرَّر به. وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى مَا هو عال عليه، وكونه محمولًا به مفتقرًا إليه محاطًا به، كلُّ هذا يجب نفيه عن القدوس السلام -تبارك وتعالى-. وما لزم الصفة من جهة اختصاصه -تعالى- بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب (ظ/ 49 ب) والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها (3) لا __________ (1) (ظ ود): "يماثله". (2) في هامش (د) حاشية: هي: "يعني أن عقيدة أهل السنة تخرج لبنًا خالصًا من بين الدم والفرث، أي: من بين التعطيل والتشبيه. ذكر معناه مؤلفه في غير هذا". (3) (ق): "بنفيها".

(1/291)


يمكن إثباته للمخلوق، فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبْرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي خَلَصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة التشبيه، فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أثبتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلَى حقيقة، فخلصت من التعطيل، ونفيتَ عنها خصائصَ المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبَّر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب. الخامس عشر: أنَّ الصفة متى قامت بموصوفٍ لزمها أمور أربعة: أمران لفظيان وأمران معنويان. فاللفظيان: ثُبُوتي وسَلْبي، فالثبوتي: أن يُشتق للموصوف منها اسم، والسَّلْبي: أن يمتنع لاشتقاق لغيره. والمعنويان: ثبوتي وسلبي، فالثبوتي: أن يعود حكمها إلى الموصوف ويخبر بها عنه (1)، والسلبي: أنه لا يعود حكمُها إلى غيره، ولا يكون خَبَرًا عنه. وهذه قاعدة عظيمة في معرفة الأسماء والصفات، فلنذكر من ذلك مثالًا واحدًا وهى: صفة الكلام، فإنها إذا قامت بمحلٍّ كان هو المتكلِّم دون من لم تقم به، وأخبر عنه بها، وعاد حكمها إليه دون غيره، (ق/ 67 أ) فيقال: قال وأمر ونهى ونادى وناجى وأخير وخاطب وتكلم وكلَّم، ونحو ذلك، وامتنعت هذه الأحكام لغيره، فيستدل بهذه الأحكام والأسماء على قيام الصفة به وسلبها عن غيره وعلى عدم قيامِها به، وهذا هو أصل السنة الذي ردُّوا به على المعتزلة والجهميةَ، وهو __________ (1) (ظ ود): "أنه يعود حكمها ويخبر ... ".

(1/292)


من أصح الأصول طَرْدًا وعَكْسًا. السادس عشر: أنَّ الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تُحَد بعدد (1)، فإن لله -تعالى- أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل، كما في الحديث الصحيح: "أسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أَنزَلْتَه في كتَابِكَ، أو أسْتأْثَرْتَ بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ" (2) فجعل أسماءَه ثلاثة أقسَام: قِسْم: سَمَّى به نفسَه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه. وقسم: أنزل به كتابه فتعرَّفَ به إلى عباده. وقسم: استأثرَ به في علمِ غيبه، فلم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه، ولهدا قال: "استأثرْتَ بهِ" أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمِّي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه. __________ (1) (ق) "ولا تعدد". (2) أخرجه أحمد: (1/ 391)، وابن حبان: "الإحسان": (3/ 253) والحاكم: (1/ 509)، وأبو يعلى رقم (5297)، والطبراني في "الكبير": (10/ 210). من طريق أبي سلمة الجُهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود- رضي الله عنه، به. وأبو سلمة ذكره الحافظ في "التعجيل": (ص/ 490)، ونقل عن الأئمة أنه مجهول، واستظهر الشيخان: أحمد شاكر في "شرح المسند": (5/ 267) والألباني في "الصحيحة" رقم (198) أنه: موسى بن عبد الله الجهني، وهو ثقة، وتعقبهما المعلقون على "المسند - طبعة الرسالة": (6/ 247 - 248). والحديث ضعفه الدارقطني في "العلل" (5/ 201)، وصححه ابن حبان والحاكم.

(1/293)


ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: "فيفتحُ عليَّ من مَحامِدِه بما لا أُحْسِنُه الآن" (1) وتلك المحامد هي (2) بأسمائه وصفاته - تبارك وتعالى-. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثْنيْتَ على نَفْسِك" (3). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله تسعةً وتسعينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجنةَ" (4) فالكلامُ جملة واحدة. وقوله: "مَن أَحْصَاها دَخَلَ الجنْةَ" صفةٌ لا خبر مستقبل. والمعنى: له أسماء متعددة، مِن شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وهذا لا ينفي أن يكون له تعالى أسماء غيرها. وهذا كما تقول: لفلان مئة مملوكٍ. قد أعدهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون الغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه. السَّابع عشر: أن أسماءه -تعالى- منها ما يُطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره وهو غالب الأسماء، كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ (ظ/ 50 أ) أن يدعى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حكيم، يا غفور يا رحيم، وأن يفرد كلُّ اسم، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه به (5) يسوغ لك الإفراد والجمع. ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله؛ كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يُفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرونٌ بالمعطي __________ (1) أخرجه البخاري رقم (44 - ومواضع أخرى)، ومسلم رقم (193) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. ولفظه: "فأحمده بمجاهد لا أقدر عليها الآن". (2) تحتمل قراءتها في (ظ): "تفي". (3) أخرجه مسلم رقم (486) وغيره من حديث عائشة- رضي الله عنها -. (4) أخرجه البخاري رقم (2736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (5) (ظ ود): "وبه".

(1/294)


والنافع (1) والعفوِّ، فهو المعطي المانع، الضار النافع، العفوُّ المنتقم، المعزُّ المذلُّ؛ لأن (ق/ 67 ب) الكمال في اقتران كلِّ اسم من هذه بما يُقابله؛ لأنه يُرَاد به: أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم: عطاء ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وعَفْوًا وانتقامًا. وأما [أن] يُثْنى عليه بمجرَّد المنع والانتقام والإضرار؛ فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تجري الاسمان (2) منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فَصْل بعض (3) حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه. فلو قلت: يا مُذِل يا ضار يا مانع، أو أخبرتَ بذلك؛ لم تكن مُثنيًا عليه ولا حامدًا حتى تذكر مقابله. الثَّامن عشر: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا ولا نقصًا، وإن كانت [القِسْمة] (4) التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا وهو: ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين. والربُّ -تعالى- مُنزَّه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول، فصفاته كلها صفات كمالٍ مَحْض، فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة: على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدِّي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا __________ (1) (ظ): "المانع" خطأ، وكذا في الفقرة الثانية: "يا مانع". (2) (ظ ود): "الأسماء". (3) ليست في (ق)،. (4) في الأصول: "التسمية" والصواب ما أثبتُّ.

(1/295)


بمرادفٍ مَحْض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم. وإذا عرفت هذا؛ فله سبحانه من كلِّ صفةِ كمالٍ أحسنُ اسمٍ وأكمله وأتمه معنًى، في أبعده وأنزهه عن شائبة عيبٍ أو نقص، فله من صفة الإدراكات: الحليم الخبير، دون: العاقل الفقيه. والسميع البصير، دون: السامع والباصر والناظر. ومن صفات الإحسان: البَرُّ الرحيم الودود، دون: الرقيق والشفوق (1) ونحوهما. وكذلك: العَلِي العظيم، دون: الرفيع الشريف. وكذلك: الكريم، دون: السخى، والخالق البارئ المصوِّر، دون: الفاعل: الصانع المُشَكِّل، والغفور العفوُّ (2)، دون: الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم. غيرُه مقامَه، فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدل عما سمَّى به نفسَه إلى غيره، كما لا تتجاوز. ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إلى ما وصفه به المبطلون والمعطِّلون. التاسع عشر: أن من أسمائه الحسنى ما (3) يكون دالًّا على عِدَّة صفات، ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناولَ الاسم الدال على الصفة الواحدة لها كما تقدم بيانه، كاسْمِه: العظيم والمجيد والصمد، كما قال ابن عباس -فيما رواه عنه ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" (4) -: "الصمد: السيد الذي (ق/ 68 أ) قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد __________ (1) تحرفت في (ق): "المعشوق"، وفي أكثر النسخ "الرفيق" بالفاء. (2) (ق): "العفوّ الرءوف". (3) (ق): "مالا" وهو خطأ. (4) (10/ 3474).

(1/296)


كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عَظَمْته، (ظ/ 50 ب) والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في عِلْمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حِكْمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع شرفه وسؤدده، وهو الله سبحانه وتعالى. هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار" هذا لفظه. وهذا مما خَفِيَ على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحُسْنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحِط بهذا علمًا بخَسَ الاسمَ الأعظم حقَّه وهضمَه معناه، فتدبَّرْهُ. العشرون: وهي الجامعة لما تقدَّم من الوجوه، وهو معرفة الإلحاد قي أسمائه حتى يقع فيه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180] والإلحاد في أسمائه هو: العدولُ بها وبحقائقه (1) ومعانيها عن الحقِّ الثابتِ لها، وهو مأخوذ من الميل كما يدلُّ عليه مادته (ل ح د). فمنه: اللَّحْد، وهو الشَّقُّ في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط. ومنه: المُلْحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السِّكِّيْت (2): الملحد المائل عن الحق المُدْخِل فيه ما ليس منه. ومنه الملتَحَد، وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] أي: مَن تَعْدِل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتميل (3) إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عَدَلَ إليه. __________ (1) (ق): "بجهاتها". (2) لم أجد كلامه في "إصلاح المنطق"، وانظره في "اللسان ": (3/ 388). (3) (ق): "وتبتهل".

(1/297)


إذا عُرِف هذا؛ فالإلحاد في أسمائه -تبارك وتعالى- أنواع: أحدها (1): أن يسمى الأصنام بها كتسميتهمِ اللات من الإِلهية، والعُزَّى من العزيز. وتسميتهم الصنمَ إلهًا، وهذا إلحاد حقيقةً فإنهم عَدَلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة. الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له: أبًا، وتسمية الفلاسفة له: موجبًا بذاته، أو عِلَّة فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك. وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائض، كقول أخبث اليهود: إنه فقير. وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه. وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته ... ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية. وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة (2) لا تتضمَّن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم: السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد (3)، ويقولون: لا حياةَ له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها (ق/68 ب) عقلًا وشرعًا ولغة وفِطْرَة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله (4) وجحدوها وعطلوها، فكلاهما مُلْحِد في أسمائه. __________ (1) ليست في (ق). (2) (ق): " محدودة ". (3) سقطت من (ظ ود). (4) (ظ ود): "سلبوا كمالَه".

(1/298)


ثم الجهميةُ وفروخُهم متفاوتون في هذا الإلحاد؛ فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئًا مما وصف اللهُ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد أَلحد في ذلك، فليستقلّ أو ليستكثر. وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطِّلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبَّهوها بصفات خلقه، فجَمَعَهم الإلحادُ وتفرَّقت بهم طرقُه، وبرَّأ اللهُ أتباعَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وورثته القائمين بسنته عن ذلك كلِّه، فلم يصفوه إلا بما وصفَ به نفسَه، ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أُنزلت (ظ/ 51 أ) عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه (1)، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شبَّه حتى كأنه يعبدُ صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عَدَمًا. وأهلُ السنة وسطٌ في النِّحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في المِلَل، تُوْقَد مصابيحُ معارفهم من: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، فتسأل الله -تعالى- أن يهدينا لنوره ويسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى (2) مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب. فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به [الرب] (3) تبارك وتعالى، فعليكَ بمعرفتها ومراعاتها، __________ (1) "من التشبيه" ليست في (ق). (2) "الوصول إلى" سقطت من (ق). (3) من "المنيرية".

(1/299)


ثمَّ اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلبًا عاقلًا ولسانًا قائلًا ومحلًّا قابلًا؛ وإلَّا فالسكوت أولى بك، فجنابُ الربوبية أجلُّ وأعزُّ مما يخطر بالبال أو يعبِّر عنه المقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا. وعسى الله أن يُعين بفضله على تعليق "شرح الأسماء الحسنى"، مراعيًا فيه أحكام هذه القواعد بريئًا من الإلحاد في أسمائه وتعطيل صفاته، فهو المانُ بفضله، والله ذو الفضل العظيم (1). __________ (1) من قوله: "فهذه عشرون فائدة ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/300)


فائدة (1) المعنى المفرد لا يكون نعتًا، ونعني بالمفرد ما دَلَّ لفظُه على معنى واحد، نحو: عِلْم وقُدْرَة؛ لأنه لا (2) رابط بينه وبين المنعوت؛ لأنه اسم جنس على حاله. فإذا قلت: "ذو علم، وذو قدرة" كان الرابط: ذو. فإذا قلت: "عالم وقادر" كان الرابط: الضمير (3)، فكل نعت وإن كان مفردًا في لفظه فهو دال على مَعْلوْمَين (4): حاملٍ ومحمولٍ، فالحامل هو: الاسم المضمر، والمحمول هو: الصفة. وإنما أضْمِر في الصفة ولم يُضْمَر في المصدر وهو الصفة في الحقيقة؛ لأن هذا الوصف مشتق من الفعل، والفعل هو الذي يُضْمَر فيه دون المصدر؛ لأنه إنما صِيغْ من المصدر، ليُخْبَر به عن فاعل، فلابد له مما صِيغْ لأجله إما ظاهرًا وإما مضمرًا، ولا كذلك المصدر؛ لأنه اسم جنس فحكمه حكم سائر الأجناس، ولذلك يُنعت الاسم بالفعل لتحمله الضمير. فإن قلت: فأيهما هو الأصل في باب النعت؟. قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت، والفعل أصل لذلك الاسم في غير باب النعت. وإنما قلنا ذلك؛ لأن حكم النعت (ق/69 أ) أن __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 207). (2) سقطت من (ظ ود). (3) في "النتائج": "الضمير المستتر فيه العائد على ما قبله". (4) (ق): "معنيين".

(1/301)


يكون جاريًا على المنعوت في إعرابه؛ لأنه هو مع زيادة معنى، ولأن الفعل أصله أن يكون له صدر الكلام؛ لعمله في الاسم، وحقُّ العامل التقدُّم لاسيما إن قلنا: إن العامل في النعت هو العامل في المنعوت. وعلى هذا؛ لا يُتَصوَّر أن يكون الفعل أصلًا باب النعت (1)؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال. فعلى هذا؛ لا ينبغي أن يُنْعت النعت، فتقول: "مررتُ برجل عاقل كريم"، على أن يكون "كريم" صفة لعاقل بل لرجل؛ لأن النعت يُنبئ عن الاسم المضمر وعن الصفة، والمضمر: لا يُنعَت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دلَّ على الفعل والفاعل، والجملة لا تُنعَت، ولأنه يجري مجرى الفعل في رفعه الأسماء، والفعل لا يُنْعت. قاله ابنُ جني. وبَعْدُ! فلا يمتنع أن يُنْعت النعت إذا جَرَى النعت الأول مجرى الاسم الجامد، ولم يُرد له ما هو جارٍ على الفعل. (ظ/51 ب) فصل (2) ولمَا عُلِم من افتقاره إلى الضمير [فإنه] (3) لا يجوز إقامة النعت مقام (4) المنعوت لوجهين: أحدهما: احتماله الضمير؛ فإذا حذفت المنعوت لم يبق للضمير ما يعود عليه. __________ (1) من قوله: "هو العامل ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) "نتائج الفكر": (ص/ 208). (3) من "النتائج". (4) (ظ ود): "من".

(1/302)


الثاني: عموم الصفة، فلا بد من بيان الموصوف بها ما هو؟. فإن أجريتَ الصفة مجرى الاسم مثل: "جاءني الفقيه، و: جالست العالم "، خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء. وإن جئت بفعل يختص بنوع من الأسماء وأعملته في نوعٍ يختص بذلك النوع، كان حذفُ المنعوت حسنًا، كقولك: "أكلت طيِّبًا، ولبست ليِّنًا، وركبتُ فارهًا"، ونحوه: "أقمتُ طويلًا، وسِرت سريعًا"؛ لأن الفعل لدل على المصدر والزمان (1)، فجاز حذف المنعوت هاهنا لدلالة الفعل عليه. وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] لدلالة الذرية على الموصوف بالصفة. وإن كان في كلامك حكمٌ منوطٌ بصفة [اعتمدَ] (2) الكلامُ على تلك واستغنى عن ذكر (3) الموصوف، كقولك: مؤمن خير من كافر، و: غني أحْظَى من فقير، و: المؤمن لا يفعل كذا، و: {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، "والمؤمنُ يَأكُلُ في مِعًى وَاحِدٍ والكَافِرُ يَأكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ" (4)، وقولهم: وَأَبْيَضَ كالمِخْرَاق .... البيت (5). __________ (1) "النتائج": "وكثرة الزمان". (2) (ق): "احتمل" والمثبت من "النتائج". (3) من قوله: "الموصوف بالصفة ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (4) أخرجه البخاري رقم (5393)، ومسلم رقم (2060) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) وتمامه: * وأبيض كالمِخْراق بلَّيت حدَّه *. انظر: "لسان العرب": (10/ 76).

(1/303)


وقول الآخر: وأسْمَرَ خَطِّيٍّ ... (1). لأن الفخر والمدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف، فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام: * نعتٌ لا يجوز حذف منعوته، كقولك: لقيت سريعًا (2)، و: ركبت خفيفًا. * ونعت يجوز حذف منعوته (3) على قُبْحٍ، نحو: لقيتُ ضاحكًا، و: رأيتُ جاهلاً، فجوازه لاختصاص الصفة بنوع واحد من الأسماء. * وقسم يستوي فيه الأمران، نحو: أكلتُ طيبًا، و: ركبت فارهًا، و: لبست ليِّنًا، و: شربت عذبًا؛ لاختصاصِ الفعلِ بنوع من المفعولات. * وقسم يقبح فيه ذكر (ق/69 ب) الموصوف؛ لكونه حشوًا في الكلام، نحو: أكرم الشيخ، ووقِّر العالم، وأرفق بالضعيف، وارحم المسكين، وأعط الفقير، وأكرم البر، وجانب الفاجر، ونظائره؛ لتعليق الأحكام بالصفات واعتمادها عليها بالذكر. * وقسم لا يجوز فيه ألبتة ذكر الموصوف، كقولك: "دابة، وأبطح: وأجرع، وأبرق -للمكان- وأسود -للحية- وأدهم -للقيد- وأخيل. -للطائر-". فهذه في الأصول نعوتٌ، ولكنهم لا يجرونها (4) نعتًا على __________ (1) وتمامه: وأسمر خطِّيٍّ كأنّ سِنَانَه ... شِهابُ غضًى شيَّعته فَتَلَهَّبا انظر: "الأصمعيات": (ص/ 266) ونَسَبه إلى ربيعة بن مقروم الضبِّي. (2) (ق): "شريفًا". (3) من قوله: "كقولك: ... " إلى هنا ساقط من (د). (4) (ظ ود): "يجوزونها".

(1/304)


منعوت، فَنَقِفُ عندما وقفوا، ونترك القياسَ إذا تركوا. فائدة بديعة (1) إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه (2)، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: -وهو الأصل- أن تقول: "مررتُ برجلِ حسنٌ أبوه" بالرفع (3)؛ لأن الحُسْن ليس صفة له فيجري عليه، وإنما ذُكِرَت الجملة ليُمَيَّز بها بين الرجل وبين من ليس عنده أبٌ كأبيه، فلما تميز بالجملة من غيره صارت في موضع النعت. وتدرَّجوا من ذلك إلى أن قالوا: "حسنٍ أبوه"، بالجر (4)، وأجْرَوه نعتًا على الأول، وإن كان للأب (5)، من حيثُ تميز به وتخصص كما يتخصص بصفة نفسه. والوجه الثالث: "مررت برجل حسنِ الأب"، فيصير نعتًا للأول، ويضمر فيه ما يعود عليه، حتى كأن الحُسْنَ له، وإنما فعلوا ذلك مبالغة وتقريبًا للسبب، وحذفًا للمضاف وهو الأب، وإقامة المضاف إليه مُقامه وهو الهاء، فلما قام الضمير مَقامَ الاسم المرفوع صار ضميرًا مرفوعًا، فاستتر في الفعل، فقلت: "برجل حسن"، ثم أضفته إلى السبب (ظ/ 52 أ) الذي من أجله صار (6) حسنًا وهو الأب، ودخول الألف واللام على السبب إنما هي لبيان الجِنس. __________ (1) "نتائج الفِكر": (ص/ 210). (2) (ق ود): "كسبية"، و (ظ): "كسببه" والتصويب من "النتائج". (3) ليست في (ق). (4) هذا الوجه الثاني. (5) (ق ود): "الأب". (6) (ظ ود): "كان".

(1/305)


وهذا الوجه لا يجوز إلا في الموضع الذي يجوز (1) فيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذلك غير مُطَّرد الجواز، وإنما يجوزُ حيث يقصدون المبالغة وتفخيم الأمر، وإن بَعُد السبب كان الجواز أبعدَ، كقولك: "نابح [كلب الجار] (2)، وصاهل فرس العبد". وما امتنع في هذا الفصل، فإنه يجوز في الفصل الذي قبله، من حيث لم يقيموا فيه مضافًا مقام المضاف إليه (3). وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هذه الوجوه الثلاثة، من حيثُ اختلفَ اللفظ فيها؛ لأن الأصل أن يختلف لفظان إلا لاختلاف معنًى، ولا يُحْكَم باتحادِ المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل. فمعنى الوجه الأول: تمييز الاسم من غيره بالجملة التي بعده. ومعنى الوجه الثاني: تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو ذم. ومعنى الوجه الثالث: نقل الصفة (ق/ 70 أ) كلِّها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين السبب الذي صيره كذلك. وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببُه جدًّا، نحو: "عظيم القَدْر، وشريف الأب"؛ لأن شَرَف الأب شرفٌ له، وكذلك القَدْر والوجه، وهاهنا يَحْسُن حذفُ المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. فائدة (4) إن قيل: لِمَ اكتسبَ المضاف التعريفَ من المضاف إليه، ولم __________ (1) (ق): "لا يجوز" تحريف. (2) في النسخ: "الكلب". والمثبت من "النتائج". (3) كذا في النسخ و"النتائج" وأصلحه محققه إلى: " ... فيه مضافًا إليه مُقام المضاف". (4) "نتائج الفكر": (ص/ 216).

(1/306)


يكتسب المضافُ إليه التنكيرَ من المضاف؟ وهو مقدَّم عليه في اللفظ، لاسيما والتنكير أصل في الأسماء، والتعريف فرعٌ عليه؟. قِيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنهم قد غَلَّبوا حكم المعرفة على النكرة في غير هذا الموطن (1)، نحو: "هذا زيدٌ ورجلٌ ضاحِكَيْن"، على الحال. ولا يجوز: ضاحكان، على النعت، تغليبًا لحكم المعرفة؛ لأنهم رأوا الاسم المعرفة يدل على معنيين: الرجل وتعيينه، والشيء وتخصيصه من غيره، والنكرة لا تدل إلا على معنًى مفرد، فكان ما يدل على معنيين (2) أقوى مما يدل على معنًى واحد. وهذا أصل نافع (3) فَحَصِّلْهُ. الثاني: أن المضاف إليه بمنزلة آلة التعريف، فصار كالألف واللام. ألا ترى أنك إذا قلتَ: غلام زيد، فهو بمنزلة قولك: الغلام، لمن تعرفه بذلك. وكذلك إذا قلتَ: كتاب سيبويه، فهو بمنزلة قولك: الكتاب، وكذلك إذا قلتَ: سلطان المسلمين، بمنزلة قولك: السلطان، فتعريفه باللام في أَوَّله، وتعريفه بالإضافة من آخره. فإن قيل: فإذا اكتسب التعريفَ من المضاف إليه، فكان ينبغي أن يُعْطَى حكمه. قيل: وإن استفاد منه التعريف، لم يستفد منه خصوصية تعريفه، وإنما اكتسب منه تحريفًا آخر كما اكتسب من لام التعريف. ألا ترى أنه إذا أُضِيْف إلى المُضْمَر لم يكتسب منه الإضمار، وإذا أُضِيْف إلى __________ (1) (ظ ود): "الموضع". (2) من قوله: "الرجل وتعيينه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ق): "واحد"!.

(1/307)


المبهم لم يكتسب منه الإبهام، فلا الأولُ اقتبسَ من الثاني خصوصية تعريفه، ولا الثاني اقتبسَ من الأول تنكيْرَه، والمضاف إليه في ذلك كالآلة الدَّاخلة على الاسم. فائدة من كلام السهيلي (1) -رحمه الله-: "الكلام هو تعبير عما في نفس المتكلِّم من المعاني، فإذا أَضمر ذلك المعنى في نفسه -أي: أخفاه- ودل (ظ/52 ب) المخاطبَ عليه بلفظ خاص، سُمِّي ذلك اللفظ: ضميرًا، تسمية له باسم مدلوله. ولا يقال: فكان ينبغي أن يسمَّى كل لفظ ضميرًا على ما ذكرتم؛ لأن هنا مراتب ثلاثة: أحدها: المعنى المضمر، وهو (2) حقيقة الرجل مثلاً. والثاني: اللفظ المميز له عن غيره، وهو زيد وعَمْرو. والثالث: اللفظ المعبِّر عن هذا الاسم الذي إذا أُطْلِق كان المراد به ذلك الاسم، بخلاف قولك: زيد وعَمْرو (3)، فإنه ليس ثَمَّ إلا لفظ ومعنى، فخصُّوا (ق/ 70 ب) اسم الضمير (4) بما ذكرناه. والمضمرات في كلامهم نحو ستين ضميرًا وأحوالها معلومة، لكن ننبه على أسرارها من أحكام المضمرات. أعلم أن المتكلم لما استغنى عن اسمه الظاهر في حال الإخبار، لدلالة المشاهدة عليه، جعل مكانه لفظًا يومئ به إليه، وذلك اللفظ __________ (1) في "نتائج الفكر": (ص/218). (2) سقطت من (ظ ود). (3) من قوله: "والثالث: .... " إلى هنا ساقط من (د). (4) (ظ ود): "المصدر".

(1/308)


مؤلف من "همزة ونون"؟ أما الهمزة؛ فلأن مخرجها من الصدر، وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلِّم، إذ المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} (1) [ق: 16]، ألا تراه يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18] يعني: ما يلفظ المتكلِّم، فدل على أن المتكلم أقرب شيءٍ إلى حبل الوريد، فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك، وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه، فأولاها بدلك ما كان مَخْرَجه من جهته، وأقرب المواضع إلى مَحَلِّه، وليس إلا "الهمزة أو الهاء"، والهمزة (2) أحق بالمتكلم لقوَّتها بالجهر والشدة وضعف الهاء بالخفاء، فكان ما هو أجهر وأَقْوى أَوْلى بالتعبير عن اسم المتكلِّم الذي الكلام صفة له، وهو أحقُّ بالاتصاف به. وأما تآلفها مع النون؛ فلما كانت الهمزة بانفرادها لا تكون اسمًا منفصلاً، كان أولى ما وصلت به "النون" أو حروف المد واللين، إذ هي أمهات الزوائد، ولم تكن حروف المد مع "الهمزة" لذهابها عند التقاء الساكنين، نحو: أنا الرجل، فلو حُذِف الحرف الثاني لبقيت "الهمزة" في أكثر الكلام منفردة مع لام التعريف، فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام، فيختل أكثرُ الكلام، فكان أولى ما قرن به "النون"؛ لقربها من حروف المد واللين، ثم بيَّنوا النون -لخفائها- بالألف في حال السكت، أو بـ "ها" في لغة من قال: إنه. ثم لما كان المخاطب مشاركًا للمتكلم في معنى (3) الكلام؛ إذ __________ (1) سقطت الآية من (ظ ود). (2) سقطت من (ظ ود). (3) (ظ ود): "حال معنى".

(1/309)


الكلام مبدؤه من المتكلم ومنتهاه عند المخاطَب، ولولا المخاطَب ما كان كلام المتكلم لفظًا مسموعًا، ولا احتاج إلى التعبير عنه، فلما اشتركا في المقصود بالكلام وفائدته، اشتركا في اللفظ الدالِّ على الاسم الظاهر، وهو الألف والنون، وفُرِّقَ بينهما بالتاء خاصة. وخُصَّت "التاء" بالمخاطب لثبوتها علامة لضميره في: "قمت"، إلا أنها هنا اسم، وفي "أنت" حرف. فإن قلت: فهي علامةٌ لضمير المتكلم في "قمت" (1)، فلِمَ كان المخاطَب أَوْلى بها؟. قلت: الأصل في التاء للمخاطب، وإنما المتكلم دخيل عليه، ولما كان دخيلاً عليه خَصُّوه (2) بالضم؛ لأن فيه من الجمع والإشارة (ق/ 71 أ) إلى نفسه ما ليس في الفتحة، وخَصُّوا المخاطَب بالفتح؛ لأن في الفتحة من الإشارة إليه ما ليس في الضمة، وهذا معلوم في الحسِّ. وأما ضمير المتكلم المخفوض فإنما كان "ياءً"؛ لأن الاسم: الظاهر لما تُرِكَ لفظُه استغناءً، ولم يكن بُدٌّ من علامةٍ دالَّة عليه، كان أولى الحروف بذلك حرفًا من حروف الاسم المضمر (3)، وذلك: لا يمكن لاختلاف أسماءِ المتكلِّمين، وإنما أرادوا علامة تختص بكلِّ متكلِّم (ظ/53 أ) في حال الخفض، والأسماء مختلفة الألفاظ متفقة: في حال الإضافة إليها (4) في الكسرة التي هي علامة الخفض، إلا أن الكسرة لا تستقل بنفسها حتى تُمَكَّن فتكون "ياء"، فجعلوا "الياء". __________ (1) من قوله: "إلا أنها ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ق): "خصوها" و (ظ): "خصوصًا"، والمثبت من (النتائج ود). (3) كذا في النسخ و"النتائج" واستظهر محققه أن صوابها: "المُظْهَر". (4) الأصول: "إلى الياء".

(1/310)


علامة لكل متكلِّم مخفوض، ثم شركوا النصب مع الخَفْض في علامة الإضمار، لاستوائهما في المعنى، إلا أنهم زادوا نونًا في ضمير المنصوب، وقاية للفعل من الكسر. وأما ضمير المتكلم المتصل، فعلامتُه "التاء" المضمومة، وأما المتكلمون فعلامتهم "نا" في الأحوال كلِّها. وسِرُّه: أنهم لما تركوا الاسم الظاهر وأرادوا من الحروف ما يكون علامة [للمخاطَب] (1) عليه أخذوا من الاسم الظاهر ما يشترك جميع المتكلمين فيه في حال الجمع والتثنية، وهي "النون" التي في آخر اللفظ، وهي موجودة في التثنية والجمع رفعًا ونصبًا وجرًّا، فجعلوها علامة للمتكلمين جمعًا كانوا أو اثنين، وزادوا بعدها ألفًا كيلا تشبه التنوين أو النون الخفيفة، ولحكمة أخرى وهي القرب من لفظ "أنا"؛ لأنها ضمير (2) المتكلمين، "وأنا" ضمير متكلمٍ، فلم يسقط (3) من لفظ "أنا" إلا الهمزة التي هي أصل في المتكلِّم الواحد، وأما جمع المتكلِّم وتثنيته ففرع طارئ على الأصل، فلم تمكن (4) فيه الهمزة التي تقدم اختصاصها بالمتكلم، حتى خُصَّت به في "أفعل"، وخص المخاطب بالتاء في "تفعل"، لما ذكرناه. وأما ضمير المرفوع المتصل؛ فإنما خص بـ "التاء"؛ لأنهم حين __________ (1) من "النتائج". (2) (ظ ود): "من ضمير". (3) "فلم يسقط" ليست في (ظ ود). (4) "النتائج ود": "تكن".

(1/311)


أرادوا حرفًا يكون علامة على الاسم الظاهر المستغنى عن ذكره، كان أولى الحروف بذلك: حرفًا من الاسم، وهو يختلف كما تقدم، فأخذوا من الاسم ما لا تختلف الأسماء فيه في حال الرفع، وهى الضمة، وهي لا تستقلُّ بنفسها ما لم تكن واوًا، ثم رأوا الواو لا يمكن تَعَاقُب الحركات عليها؛ لثقلها وهم يحتاجون إلى الحركات في هذا الضمير، فرقًا بين المتكلِّم، والمخاطَب المؤنث، والمخاطَب المذكر، فجعلوا "التاء" مكان "الواو"؛ لقربها من مخرجها، ولأنها قد تبدل منها في كثير من الكلام؛ كـ "تُرَاث وتُخَمة". فاشترك ضمير المتكلم والمخاطب في "التاء"، كما اشتركا فى "الألف والنون" من "أنا" و"أنت"؛ لأنهما شريكان في الكلام، لأن الكلام من حيث: كان للمخاطَب (ق/ 71 ب) كان لفظًا، ومن حيث كان للمتكلِّم كان معنًى. ثم وقع الفرق بين ضميريهما بالحركة دون الحروف، لما تقدم. وأما ضمير المخاطَب نصبًا وجرًّا؛ فكان "كافًا" دون "الياء"؛ لأن الياء قد اختص بها المتكلِّم نصبًا وخفضًا، فلو أمكنت فيه الحركات أو وُجد ما يقوم مقامها في البدل كما كانت التاء مع الواو، لاشترك المخاطَب مع المتكلم في حال الخفض، كما اشترك معه في التاء في حال الرفع، فلما لم يكن ذلك ولم يكن بُدٌّ من حرف يكون علامةً إضمار كانت الكاف أحق بهذا الموطن؛ لأن المخاطبين وإن اختلفت أسماؤهم الظاهرة فكل واحدٍ منهم مُكَلَّم ومقصود بالكلام الذي هو اللفظ، ومن أجله احتيج إلى التعبير بالألفاظ عما في النفس، فجعلت الكاف (1) المبدوء بها في لفظ الكلام علامة إضمار المخاطب، ألا تراها لا تقع علامة إضمار له إلا بعد كلام كالفعل والفاعل، نحو: __________ (1) (ظ ود): "فجعل الكلام".

(1/312)


أكرمتك؛ لأنها كلام، والفعل وحده ليس كلامًا، فلذلك لم تكن علامة المضمر "كافًا" إلا بعد كلام من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر. فإن قيل: (ظ/53 ب) فالمتكلم أيضًا هو صاحب الكلام، فهو أحق بأن تكون الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة لاسمه (1)؟. قيل: "الكاف" لفظ فهي أحق بالمخاطب؛ لأن الكلام إنما لُفِظَ به من أَجْلِه. وأما ضمير الغائب المنفصِل (2) فـ "هاء" بعدها "واو"؛ لأن الغائب لما كان مذكورًا بالقلب، واستغنى عن اسمه الظاهِر بتقدمه، كانت الهاء التي مخرَجُها من الصَّدْر قريبًا من مَحلِّ الذكر، أولى بأن تكون عبارةً على مذكور بالقلب (3)، ولم تكن "الهمزة"؛ لأنها مجهورة شديدة، فكانت أولى بالمتكلم الذي هو أظهر، والهاء -لخفائها- أولى بالغائب الذي هو أخْفَى وأبطن. ثم وُصِلَت بالواو؛ لأنه لفظ يُرْمَز به إلى المخاطَب، ليُعْلَم ما في النفس من مذكور، والرمز بالشفتين، والواو مخرجها من هناك، فخُصَّت بذلك. ثم طردوا أصلهم في ضمير الغائب المنفرد فجعلوه في جميع أحواله "هاءً"؛ إلا في الرفع، وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا الفرقَ بين الحالات واقعًا باختلاف حال الضمير؛ لأنه إذا دخل عليها حرف الجر كسرت "الهاء" وانقلبت واوه ياءً، وإذا لم يدخل عليه بقيَ مضمومًا على أصله، وإذا كان في حال الرفع لم يكن له علامة في __________ (1) (ظ ود): "مأخوذة من اسمه". (2) (ظ ود): "المتصل". (3) من قوله: "واستغنى عن اسمه ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/313)


اللفظ؛ لأن الاسم الظاهر قبل الفعل عَلَم ظاهر يغني المخاطَب عن علامة إضمار في الفعل، بخلاف المتكلم والمخاطب؛ لأنك تقول في الغائب: زيدٌ قائم، فتجد الاسم الذي يعود عليه الضمير موجودًا ظاهرًا في اللفظ، ولا تقول في المتكلم: زيدٌ قمتُ، ولا في المخاطب: زيد (ق/ 72 أ) قمتَ، فلما اختلفت أحوال الضمير الغائب لسقوط علامته في الرفع، وتغير الهاء بدخول حروف الخفض، قام ذلك عندهم مقامَ علامات الإعراب في الظاهر، أو ما هو بمنزلتها في المضمر، كالتاء المبدلة من الواو، والياء [المنْبِئَة عن] (1) الكسرة، والكاف المختصة بالمفعول والمجرور الواقعين بعد الكلام التام، ولا يقع بعد: الكلام إلا منصوب أو مجرور، فكانت الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة على المنصوب والمجرور إذا كان مخاطبًا. وأما "نحن" فضمير منفصل للمتكلمين تثنيةً وجمعًا، وخصَّت بذلك لما لم يمكنهم التثنية والجمع في المتكلم المضمر؛ لأن حقيقةً التثنية ضمُّ شيءٍ إلى مثله في اللفظ، والجمع ضم شيء إلى أكثر منه مما يماثله في اللفظ؛ فإذا قلت: زيدان، فمعناه. زيد وزيد، و"أنتم"، معناه: أنت وأنت وأنت، والمتكلم لا يمكنه أن يأتى باسم مثنى أو مجموع في معناه؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: "أنا أنا (2) " فيضم إلى نفسه مثله في اللفظ، فلما عدم ذلك، ولم يكن بُدٌّ من لفظ يشير إلى ذلك المعنى، وإن لم يكنه في الحقيقة، جاءوا بكلمة تقع على الاثنين والجَمْع [لاشتراك التثنية والجمع] في هذا الموطن. ثم كانت. __________ (1) (ق): "المثبتة و"! والمثبت من "النتائج". (2) "أنا" الثانية سقطت: من (ق)، والاستدراك من "النتائج" وكذا ما سيأتي بين المعقوفات في هذه الفقرة.

(1/314)


الكلمة آخرها نونًا وفي أولها، إشارةً إلى الأصل المتقدم الذي لم يمكنهم الإتيان به، وهو تثنية "أنا"، التي هى بمنزلة عطف اللفظ على مثله، فإذا لم يُمكنهم ذلك في (1) اللفظ مثنًّى، كانت النون المكررة تنبيهًا عليه وتلويحًا عليه. وخُصَّت النونُ بذلك دون الهمزة؛ لما تقدم من اختصاص ضمير [الجمع] بالنون، وضمير المتكلِّم بالهمزة، ثم جعلوا بين النونين "حاءً" ساكنة لقربها من مخرج الألف الموجودة في ضمير المتكلم قبل النون وبعدها، ثم بنوها على الضم -دون الفتح والكسر- إشارةً إلى أنه ضمير مرفوع. وشاهِدُه ما قلناه في الباب (2) -من دلالة الحروف [لمقطعة] (3) على المعاني والرمز بها إليها- وقوعُ ذلك فى منثور كلامهم ومنظومه. فمنه: * قلتُ لها: قِفِي قالت: قاف (4) * ومنه: ألاتا؟ فيقول الآخر: ألافا. يعني: ألا ترتحل، فيقول: ألا فارتحل. ومنه: بالخيرِ خيرات وإن شرًّا فا ... ولا أريدُ الشرَّ إلا أن تا (5) __________ (1) ليست في "النتائج". (2) من قوله: "والرمز بالشفتين ... " ص/313، إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ق): "اللفظية". (4) وتمامه: * لا تَحْسَبِينا قد نَسيْنا الإيجاف *. وهو للوليد بن عقبة بن أَبي مُعيط، انظر "شرح شواهد الشافية": (4/ 271)، ومعنى قاف: أي: أقف. (5) الرجز للقيّم بن أوس، وهو من شواهد "الكتاب": (2/ 62) وانظر: "شرح شواهد الشافية": (4/ 264)، و "النوادر": (ص/ 126) لأبي زيد. والمعنى: إن شرٌّ فشر، ولا أُريد الشرَّ إلا أن تشاء.

(1/315)


وكقولهم: "مَهْيَم" في: ما هذا يا امرؤ؟ و"أَيْشٍ" في: أيُّ شيءٍ؟ و"م الله" في: أيمن اللهْ. ومن هذا الباب: خروف التهجِّي في أوائل السور. وقد رأيتُ لابن فْوْرَك (1) نحوًا من هذا في اسم الله، قال: الحكمة في وجود الألف في أوله: أَنها من أقصى مخارج الصوت قريبًا من القلب الذي هو محل المعرفة إليه، ثم الهاء في آخره مخرجها من هناك أيضًا؛ لأن المبتدأ منه والمعاد إليه (ق / 72 ب)، والإعادة أهونُ من الابتداء، وكذلك لفظ الهاء أهون (2) من لفظ الهمزة. هذا معنى كلامه، فلم نقُل ما قلناه في المضمرات إلا اقتضابًا من أصول أئمة النحاة (3) واستنباطًا من قواعد اللغة. فتأمَّل هذه الأسرار ولا يُزَهِّدَنَّك فيها نُبُوُّ (4) طباع أكثر الناس عنها، واشتغالهم (5) بظاهرٍ من الحياة الدنيا عن الفِكْرَ فيها والتنبيه عليها؛ فإني لم أفحص عن هذه الأسرارِ وخَفِيِّ التعليل في الظواهر والإضمار، إلا قصدًا للتفكُّر والاعتبار في حكمة من خَلَقْ الإنسانَ وعلَّمه البيان. فمتى لاحَ لكَ من هذه الأسرار سِرٌّ، وكَشَفَ لك عن __________ (1) هو: أبو بكر محمد بن الحسن بن فُوْرَك الأصبهاني المتكلِّم صاحب التصانيف ت (406). انظر: "وفيات الأعيان": (4/ 272)، و"السير": (17/ 214). (2) تحرفت في (ظ ود): "وكذلك لفظًا أهون". (3) في "النتائج": "إلا اقتضابًا من أصول السلف" فحذفها المؤلف وأثبت ما ترى، وفيه لفتة لا تخفى. (4) سقطت من (ق). (5) (ظ): "واستغناؤهم".

(1/316)


مكنونها فِكْرٌ؛ فاشكر الواهبَ للنُّعْمَى، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] فائدة بديعة (1) الاسم من "هذا" الذال وحدها دون الألف على أصح القولين، بدليل سقوط الألف في التثنية والمؤنث، وخُصَّت الذال بهذا الاسم؛ لأنها من طرف اللسان، والمبهم مشارٌ إليه، فالمتكلم يشير نحوه بلَفْظِه أو بيده، ويُشير مع ذلك بلسانه، فإن الجوارحَ خَدَمُ القلب، فإذا ذهبَ القلبُ (2) إلى شيءٍ ذهابًا معقولاً ذهبت الجوارحُ نحوه ذهابًا محسوسًا. والعمدة في الإشارة في مواطن التخاطب على اللسان، ولا يمكن إشارته إلا بحرف يكون مخرجه من عَذَبَةِ اللسان (3) التي هي آلة الإشارة دون سائر أجزائه، فأما "الذال" أو "الثاء"؛ فالثاء مهموسة رخوة، فالجمهور أو الشديد من الحروف أولى منها للبيان، والذال مجهوره فخُصَّت بالإشارة إلى الذكور (4)، وخُصَّت التاء بالإشارة إلى المؤنث؛ لأجل الفرق، وكانت "التاء" به أولى لهمسها وضعف المؤنث؛ ولأنها قد ثَبَتَت (5) علامة التأنيث في غير هذا الباب، ثم بَيَّنُوا حركةَ الذَّالِ بالألف (6)، كما فعلوا فى النون من "أنا"، وربما __________ (1) "نتائج الفِكْر": (ص/ 227). (2) (ظ ود): "الباب". (3) أي: طرفه. (4) (ظ ود): "النتائج": "المذكور"!. (5) (ق): "قلبت". (6) سقطت من (ق).

(1/317)


شَرَّكوا المؤنث مع المذكر في الذال فاكتفوا بالكسرة [والياء] (1) فرقًا بينهما، وربما اكتفوا بمجرَّد لفظ التاء في الفرق [بينهما] (2)، وربما جمعوا بين لفظ التاء والكسرة (ظ/ 54 أ)، حرصًا على البيان. وأما في المؤنث الغائب؛ فلابد من لفظ التاء مع الكسرة؛ لأنه أحوج إلى البيان، لدلالة المشاهدة على الحاضر، فتقول: "تيك"، وربما زادوا اللام توكيدًا -كما زادوها في المذكر الغائب- إلا أنهم سكنوها في المؤنث لئلا تتوالى الكَسَرات مع التاء، وذلك ثقيل عليهم، وكانت اللام أولى بهذا الموطن حين أرادوا الإشارة إلى البعيد، فكثرت الحروف حين كثرت مسافة هذه الإشارة، وقلَّلوها حين قَلَّت؛ لأن اللام قد وُجِدَت في كلامهم (ق/ 73 أ) توكيدًا، وهذا الموطن موطن توكيد، وقد وُجدت بمعنى الإضافة للشيء، وهذا الموطن شبيه بها؛ لأنك إذا أومأتَ إلى الغائب بالاسم المبهم، فأنت مُشيرٌ إلى من تخاطب ومقبل عليه لينظر إلى: من تشير، إما (3) بالعين وإما بالقلب؛ ولذلك جئتَ بكاف الخطاب فكأنك تقول له: لك أقول، ولك أرمز بهذا الاسم. ففي اللام طَرَف من هذا المعنى، كما كان ذلك في الكاف، وكما لم تكن الكاف هاهنا اسمًا مضمرًا، لم تكن اللام حرفِ جرٍّ، وإنما في كلِّ منهما طَرَف من المعنى دون جميعه؛ فلذلك خَلَعوا من الكاف (4) معنى الاسمية وأبقوا فيها معنى الخطاب، واللام كذلك إنما اجْتلبَت لطرفٍ من معناها الذي وُضِعَتْ له في باب الإضافة. __________ (1) من "النتائج". (2) محرفة في النسخ والمثبت من "المنيرية" وفى "النتائج": "فقالوا: هاتا هند". (3) (ق): "إليها"!. (4) (ظ ود): "المكان"!.

(1/318)


وأما دخول "ها" التنبيه؛ فلأن المخاطب يحتاج إلى تنبيهِهِ على الاسم الذي يُشير به إليه؛ لأن للإشارة قرائن حالٍ يحتاج إلى أن ينظر إليها، فالمتكلِّم كأنه آمر له بالالتفات إلى المشار إليه أو مُنَبِّهٌ له، فلذلك اختص هذا الموطن بالتنبيه، وقلما يتكلَّمون به في المبهم الغائب؛ لأن كاف الخطاب تُغني عنها، مع أن المخاطَب مأمورٌ بالالتفات بلحظِهِ إلى المبهم الحاضر، فكان التنبيه في أول الكلام أولى بهذا الموطن؛ لأنه بمنزلة الآمر الذي له صدر الكلام. وعندي أن حرف التنبيه بمنزلة حرف النداء وسائر حروف المعاني، لا يجوز أن تعمل معانيها في الأحوال ولا في الظروف، كما لا يعمل معنى الاستفهام والنفي في "هل" و"ما" في ذلك، ولا نعلمُ حرفًا يعمل معناه في الحال والظرف إلا "كأنَّ" وحدَها علامة (1) على أَنه فعل، فدع عنك ما شَغَبُوا به في مسائل الحال في هذا الباب، من قولهم: "هذا قائمًا زيد، وقائمًا هذا زيد"؛ فإنه لا يصلح من ذلك إلا تأخير الحال عن الاسم الذي هو "ذا"؛ لأن العامل فيها معنى الإشارة دون معنى التنبيه، وكلاهما معنوي. فإن قيل: لم جاز أن يعمل فيه معنى الإشارة دون معنى التنبيه وكلاهما معنوي (2)؟. قيل: معنى الإشارة يدل عليه قرائن الأحوال؛ من الإيماء باللحظ واللفظ الخارج من طرف اللسان وهيئة المتكلِّم، فقامت تلك الدلالة مقام التصريح بلفظ الإشارة؛ لأن (3) الدال على المعنى؛ إما لفظ وإما __________ (1) من (ق). (2) هذا السؤال ساقط من (ق). (3) سقطت من (ق).

(1/319)


إشارة وإما خَطٌّ، فقد جَرَت الإشارة مجرى اللفظ فلتعمل فيما عمل فيه اللفظ -وإن لم تقو قُوَّته- في جميع أحكام العمل. وأصح من هذا أن يقال: معنى الإشارة ليس هو العامل؛ إذ الاسم الذي هو "هذا" ليس بمشتق من أشار يشير، ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة لجاز أن تعمل علامات الإضمار؛ لأنها -أيضًا (1) - إيماءٌ وإشارةٌ إلى مذكور، وإنما العامل فعلٌ مُضْمَر تقديره: "انظر"؛ [وأُضْمِرَ] (2) لدلالة الحال عليه من التوجُّه واللفظ، (ق/ 73 ب) وقد (ظ/54 ب) قالوا: "لمن الدارُ مفتوحًا بابُها"، فأَعْمَلوا في الحال معنى "انظر" و "ابصر"، ودلَّ عليه التوجُّه من المتكلِّم بوجهه نحوها، وكذلك: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] وهو قوي في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه. وإذا ثبتَ هذا؛ فلا سبيل لتقديم الحال؛ لأن العامل المعنوي [لا يعمل] حتى (3) يدل عليه الدليلُ اللفظيُّ، أو التوجُّه، أو ما شاكَلَه. فائدة (4) العامل في النعت اهو العامل في المنعوت، وكأن سيبويه (5) إلى هذا ذهب حين مَنَع أن يجمع بين نعتي الاسمين إذا اتفق إعرابهما واختلف (6) عاملاهما، نحو: "جاء زيد وهذا عَمْرو العاقلان". وذهب قوم إلى أن العاملَ في النعت معنوي، وهو كونه في معنى __________ (1) "لأنها أيضًا" سقطت من (ظ ود). (2) في الأصول: "وأبصر"! والمثبت من "النتائج". (3) (ظ ود): "خفي"، وما بين المعكوفين من "النتائج". (4) "نتائج. الفكر": (ص/ 231). (5) في "الكتاب": (1/ 247). (6) (ق): "واتفق".

(1/320)


الاسم المنعوت، فإنما ارتفع أو انتصب من حيث كان هو الأول في المعنى، لا من حيثُ كان الفعل عاملاً فيه؛ وكيف يعمل فيه وهو لا يدل عليه، إنما يدلُّ على فاعل أو مفعول أو مصدر دلالةً واحدةً من جهة اللفظ. وأما الظروف فمن دليل آخر. قال السُّهَيْلي: "وإلى هذا أذهب، وليس فيه نقض لما منعه سيبويه من الجمع بين نعتي الاسمين المتفقين في الإعراب إذا اختلف العامل فيهما؛ لأن العاملَ في النعت -وإن كان معنويًّا (1) - فلولا العامل في المنعوت لما صحَّ رفع النعت ولا نصبه، فكأنَّ الفعل هو العامل في النعت، فامتنع اشتراك عاملين في معمولٍ واحد، وإن لم يكونا عاملين فيه في الحقيقة ولكنهما عاملان فيما هو هو في المعنى. وإنما قوي عندنا هذا القول الثاني لوجوه، منها: امتناع تقديم النعت على المنعوت، ولو كان الفعلُ عاملاً فيه لما امتنع أن يليه معموله، كما يليه المفعول تارة والفاعل أخرى، وكما يليه الحال والظرف، ولا يصح أن يليه ما عمل فيه غيره، لو قلت: "قام زيدًا ضارب"، تريدُ: ضارب زيدًا، أو: "ضربتُ عمرًا رجلاً ضاربًا"، تريد: ضربت رجلاً ضاربًا (2) عمرًا، لم يَجُز، فلا يلي العامل إلا ما عمل فيه، فلذلك لا يلي "كان" إلا ما عملت فيه، وكذلك نقول: خبر "إن" المرفوع ليس بمعمول لـ "إن"، وإنما هو على أصله في باب المبتدأ، ولولا ذلك لجاز أن يليها، وإنما وليها إذا كان مجرورًا؛ لأنها ممنوعة من العمل فيه بدخول حرف الجر، مع أن المجرور __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) "تريد ضربت رجلاً ضاربًا" سقطت من (د).

(1/321)


رتبته التأخير، فلم يبالوا بتقديمه في اللفظ إذ كان موضعه التأخير؛ ولأنَّ المجرورَ ليس هو بخبر على الحقيقة، وإنما هو متعلق بالخبر، والخبر مَنْويٌّ في موضعه، أعني بعد الاسم المنصوب بـ "إن". فإن قيل: ولعل (1) امتناع النعت من التقديم على المنعوت إنما هو من أجل الضمير الذي فيه، والضمير (ق/74 أ) حقه أن يترتَّب بعد الاسمِ الظاهر؟. قلنا: هذا ليس بمانع؛ لأن خبر المبتدأ حاملٌ للضمير، ويجوز تقديمه، ورب مضمرٍ يجوز تقديمه على الظاهر إذا كان موضعه التأخير. فإن قيل: ولعل امتناع تقديم النعت إنما وجبَ من أجلِ أنه تبيين للمنعوت وتكملة لفائدته، فصار كالصِّلة مع (2) الموصول. قلنا: هذا باطل، لأنَّ الاسم المنعوت يستقل به الكلام، ولا يَفْتقر إلى النعت افتقار الموصول إلى الصِّلة (3). ومما يبين لك أن الفعل العامل في الاسم لا يعمل في نعته: أنَّ (4) النعت صفة للمنعوت لازمة له قبل وجود الفعل وبعده، فلا تأثير للفعل. فيه، ولا تسلُّطَ له عليه، وإنما التأثير فيه للاسم المنعوت؛ إذ بسببه يُرْفَع ويُنْصَب، وإن لم يَجُز أن تكون الأسماءُ عواملَ في الحقيقة. وهذا بخلاف الحال (ظ/ 55 أ)؛ لأنها وإن كانت صفةً كالنعت، وفيها ضمير يعود إلى الاسم، فإنها ليست بصفةٍ لازمة للاسم كالنعت، __________ (1) (ق): "وأصل". (2) "النتائج": "من". (3) هذا الجواب ساقط من: (ظ ود). (4) (ق): "إذ".

(1/322)


وإنما هي صفة للاسم في حِيْن وجود الفعل خاصة، فالفعل بها أولى من الاسم، فعمل فيها دونه، فلما عمل فيها جاز تقديمها عليه، نحو: "ضاحكًا جاءَ زيدٌ"، و [تقديمها إليه، نحو] (1): "جاء ضاحكًا زيد"، وتأخيرها بعد الفاعل (2)؛ لأنها كالمفعول لعمل الفعل فيها. والنعت بخلاف هذا كله. وسنبين بعد هذا -إن شاء الله- فصلاً عجيبًا في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء: الفاعل، والمفعول به، والمصدر (3)، أو ما هو صفة لأحد هذه الثلاثة في حين وقوع الفعل، ويخرج من هذا الفصل ظرفا المكان والزمان، والنعوت، والأبدال والتوكيدات، وجميع الأسماء المعمول فيها، ونقيم هنالك البرهان القاطع على صِحَّة هذه الدَّعْوى. فائدة بديعة (4) حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها، ليتفق اللفظ. وأما نصب الصفة (5) على الحال فيضعف عندهم، لاختلاف اللفظ من غير ضرورة. ورد بعضُ محقِّقي النحاة (6) هذا القول بالقياس والسماع. قال: أما القياس؛ فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة __________ (1) الإكمال من "النتائج". (2) نحو: "جاء زيدٌ ضاحكًا". (3) "النتائج": "المفعول المطلق". (4) "نتائج الفكر": (ص/ 233). (5) سقطت من (ق). (6) هو: أبو الحسين بن الطراوة، شيخ السُّهَيلىِ، كما صرَّح به في "النتائج"، وقد تقدمت ترجمته.

(1/323)


والحال، كما إذا قلت: "جاءني زيدُ الكاتب، وكاتبًا"، وبينهما من الفرق ما تراه، فما المانع من الاختلاف كذلك في النكرة إذا قلت: "مررت برجلٍ كاتب، أو كاتبًا"؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى الحال من النكرة كما تدعو إلى الحال من المعرفة ولا فرق. وأما السماع؛ فأكثر من أن يُحْصَر، فمنه: "وصلَّى خَلْفَه رجالٌ قِيامًا" (1)، وأما نحو: "وقع أمرٌ فَجْأة"، فحال من مصدرِ "وقعَ" لا من "أمر"، وكذلك: "أقبل رجلٌ مَشْيًا" حال من "الإقبال". وهذا صحيحٌ؛ ولكن الأكثر ما قاله النحاة، إيثارًا لاتفاق اللفظ، ولتقارب ما بين المعنيين في النكرة، ولتباعد ما بينهما في المعرفة؛ (ق / 74 ب) لأن الصفة في النكرة مجهولة عند المخاطب حالاً كانت أو نعتًا، وهي في المعرفة بخلاف ذلك. ولو كانت الحال من النكرة ممتنعة لأجل تنكيرها لما اتفقت العرب على صحتها حالاً إذا تقدمت عليها كما أنشده سيبويه (2): * لميَّةَ مُوْحِشًا طَلَلُ (3) * وقوله: وتَحت العوالي والقَنَا مسْتكِنَّةً ... ظباءٌ أعارتها العيون الجَاذرُ (4) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1113)، ومسلم رقم (412). من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظ البخاري: "وصلَّى وراءه قومٌ قيامًا". (2) في "الكتاب": (1/ 276). (3) تمامه: * يَلُوْحُ كأْنَّه خَلَل*. والبيت لكُثيِّر عَزَّة، وانظر تخريجه فيما سيأتي (3/ 898). (4) البيت لذي الرُّمَّة "ديوانه": (2/ 1024) وفيه: (مستقِلَّة) بدل (مستكنة).

(1/324)


فإن قيل: فما حمل سيبويه وغيره على أن جعلوا "موحشًا" حالاً من "طلل"، و"قائمًا" حالاً من قولك: فيها قائمًا رجل، وهو لا يقول بقول الأخفش: إن رجلاً وطللاً فاعل بالاستقرار الذي تعلق به الجار (1)، فلو قال بهذا القول كان عذرًا له في جعلها حالاً منه، ولكن الاسم النكرة عنده مبتدأ وخبره في المجرور قبله، ولابد في خبر المبتدأ من ضمير يعود على المبتدأ تقدم الخبر أو تأخر، فلم لا تكون هذه الحال من ذلك الضمير ولا تكون من النكرة وما الذي دعاهم إلى هذا؟. قيل: هذا سؤال حسن جدًّا يجب التقصِّي عنه والاعتناء به، فقد كعَّ عنه أكثرُ الشارحين لـ "الكتاب" والمؤلفين في هذا الباب، وما رأيت أحدًا منهم أشار فيه إلى جواب مقنع وأكثرهم لم يتنبَّه للسؤال ولا تعرَّض له. والذي أقوله -وبالله التوفيق-: إن هذه المسألة في النحو (ظ/ 55 ب) بمنزلة مسائل الدَّور في الفقه، ونضرب فيه مثالاً فنقول: رجل شهد مع آخر في عبدٍ أنه حُر فَعَتَق العبد وقُبلت شهادته، ثم شهد ذلك الرجل مرةً أخرى فأريد تجريحه، فشهد العبد المُعْتق فيه بالجُرْحَة، فإن قبلت شهادته ثبتَ جرح الشاهد وبطل العتق، وإذا بطل العتق سقطت الشهادة، وإن سقطت شهادته لم يصح جرح الشاهد (2)، ودارت المسألة هكذا، وكلُّ فرعٍ يؤول إلى إسقاط أصله فهو أولى أن يسقطَ في نفسه، وكذلك مسألةَ هذا الفصل؛ فإنك إن جعلت الحال من قولك: "فيها قائمًا [رجل" من الضمير، لم يصح تقدير المضمر إلا مع تقدير فِعْل يتضمنه، ولا يصح تقدير فعل بعدَهُ مبتدأ؛ لأن __________ (1) (ق): "حال". (2) من قوله: "وبطل العتق ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/325)


معنى الابتداء يبطل ويصير المبتدأُ فاعلاً، وإذا صار فاعلاً بطل أن يكون في الفعل ضمير لتقدُّم الفعل على الفاعل، وإذا بطل وجود الضمير بطل وجود الحال منه، وهذا بديعٌ في النظر. فإن قيل: إن المجرور يُنْوَى به التأخير؛ لأن خبر المبتدأ حقه أن يكون مؤخَّرًا. قيل: وإذا نويت به التأخير لم يصح وجود الحال مقدمة على المبتدأ؛ لأنها لا تتقدم على عاملها إذا كان معنويًّا، فبطل كون الحال من شيءٍ غير الاسم النكرة الذي هو مبتدأ عند سيبويه وفاعل عند الأخفش، وهذا السؤال لا يلزم الإخفش على مذهبه، وإنما يلزم سيبويه ومن قال بقوله، ولولا الوَحْشَة من مخالفة الإمام أبي بشر لنصرتُ قولَ الأخفش نصرًا مؤزرًا وجلوتُ مَذْهَبَه في [مِنَصَّة] (1) التحقيق مُفَسَّرًا، ولكن النفس إلى مذهب سيبويه أَمْيَل". هذا كلام الفاضل (2)؛ وهو كما ترى كأنه سَيْل ينحطُّ من صَبَبٍ. قلت: والكلام معه في ثلاثة مقامات: أحدها: تحقيق مذهب الأخفش في أن قولك: "في الدار رجل"، ارتفاع رجل بالظرف لا بالابتداء (3). والمقام الثاني: أنَّ الحال من النكرة يمتنع أن يكون حالاً من الضمير في الظرف. والمقام الثالث: الكلام فيما ذكره من الدَّور في المسألة النحوية، وأنه ليس مطابقًا للدور في المسألة الفقهية. فأما المقام الأول: فاعلم أنَّ الأخفش مذهبه إذا تقدَّم الظرف على __________ (1) (ظ ود): "منصب" والمثبت من "النتائج". (2) يعني: العلامة السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 236). (3) (ظ ود): "بلانتقاء" وهو خطأ.

(1/326)


الاسم المرفوع نحو: "في الدار زيد" كان مرفوعًا ارتفاعَ الفاعلِ بفعله، ومذهبه -أيضًا-: أن المبتدأ إذا كان نكرة لا يسوغ الابتداء به إلا بتقديم الخبر عليه، وجبَ تقديمه عليه، نحو: "في الدار رجل"، فإنه (1) نصَّ على هذا وهذا، فلا ينبغي أن يبطل أحد كلاميه بالآخر، فـ "في الدار رجل" تقديم الظرف عنده واجبٌ وجوبَ تقديم الخبر على المبتدأ به، وعلى هذا فلا ضمير في الظرف بحال لو كان مذهبه أن المسألتين سواء في أن (2) الاسم مرفوع بالظرف، لم يلزم سيبويه أن يقول بقوله حتى يجعل الحال من النكرة، وذلك أن قولك: "في الدار رجل" ليس في الظرف ضمير، فإنه ليس بمشتق ولا يتحمل ضميرًا بوجه، أقصى ما يقال: إن عامله وهو الاستقرار يتضمن الضمير، وهذا لا يقتضي رجوع حكم الضمير إلى الظرف حتى ينصب عنه الحال، فإنه ليس واقعًا موقعه ولا بدلاً من اللفظ به. ألا ترى أنك لو صرحت بالعامل لم تستغنِ عن الظرف، فلو قلتَ: "زيد مستقر"، لم تستغن عن قولك: في الدار، فعلم أنه إنما حذف حذفًا مستقرًّا لمكان العلم به، وليس الظرف نائبًا عنه ولا واقعًا موقعه ليصح تحمله الضمير، فتأمله فإنه من بديع النحو، وإذا كان كذلك فلا (ظ/56 أ) ضمير في الظرف فينصب عنه الحال بوجه، فلم يبق معك ما يصح أن يكون صاحب الحال إلا تلك (3) النكرة الموجودة، فلهذا جعل الإمام أبو بشر وأئمة أصحابه الحال منها لا من غيرها. وأما المقام الثاني: فاعلم أن الظرفَ إذا تقدم وقدرتَ فيه الضمير __________ (1) (ظ ود): "فإن". (2) (ظ ود): "سواء فإن"! والمثبت من "المنيرية". (3) تحرفت في (ظ ود).

(1/327)


صار بمنزلة الفعل العامل، فإنه لا يتحمل الضمير إلا وهو بمنزلة الفعل أو ما أشبهه، وإذا صار بمنزلة الفعل وهو مقدَّم وجب أن يتجرَّد عن الضمير قضاءً لحق التشبيه بالفعل وقيامه مقامه، فتعدِّي الضميرَ فيه ينافي تقديره. فإن قيل: إنما قدرنا فيه الضمير الذي كان يستحقه وهو خبر، فلما قُدِّم وفيه ما يستحقه من الضمير، بخلاف ما إذا كان عاملاً محضًا؟. قيل: فهلاَّ قدرتَ مثل هذا في: زيد قام، أنه يجوز أن يقدم "قام"، وتقول: قام زيد، ويكون مبتدأ وخبرًا! فلما أجمع النحاةُ على امتناع ذلك وقالوا: لا يجوز تقديم الخبر هنا؛ لأنه لا يُعْرف هل المسألة من باب الابتداء والخبر، أو من باب الفعل والفاعل. وكذلك ينبغي في نائب الفعل من الظرف سواء فتأمله. وأما المقام الثالث: وهو ما (1) ذكره من الدور؛ فالدور أربعة أقسام: دَوْر حُكْمي، ودور عِلْمي، ودور مَعِي، ودور سَبْقي تقدُّمي. فالحكمي: توقف ثبوت حكمين كل منهما على الآخر من الجهة التي توقف الآخر منها، وأخص من هذه العبارة: توقف كلٍّ من الحكمين على الآخر من جهةٍ واحدة. والدور العلمي: توقف العلم بكل من المعلومين على العلم بالآخر. والإضافي المعي: تلازم شيئين في الوجود لا يكون أحدهما إلا مع الآخر. __________ (1) (ظ): "مما"، (د): "بما".

(1/328)


والدور السبقي التقدُّمي: توقف وجود كلِّ واحد منهما على سبق الآخر له، وهذا المحال. والإضافي واقع، والدَّوْرَان الآخران فيهما كلام ليس هذا موضعه. وإذا عُرِف هذا؛ فما ذكره من الصورتين الفقهية والنحوية ليس بدور؛ إذ ليس فيه توقف كل من الشيئين في ثبوته على الآخر، فإن قبول شهادةِ العبد موقوفة على قبول شهادة شاهد عِتْقه، وليست شهادة شاهد العتق موقوفة على شهادته، ولذلك تحمُّل الظرف للضمير موقوف على تقدير فعل يتضمنه، وتقدير الفعل غير موقوفٍ على تحمل الظرف للضمير فتأمله. وإنما هذا من باب ما يقتضي إثباته إلى إسقاطه، فهو من باب الفروع التي لا تعود على أصولها بالإبطال، وإذا بطلت أصولها بطلت هي، فهي موقوفة على صحة أصولها، وصحةُ أصولها لا تتوقف عليها، ولكن وجه الدور في هذا: أنها لو أُبْطِلت أصولُها لتوقف صحة أصولها على عدم إفسادها لها، وهى متوقفة على اقتضاءِ أصولها لها، فجاء الدور من هذا الوجه، وكذلك نظائره. فائدة (1) النعت إذا كان تمييزًا للمنعوت مثبتًا له، لم يقطع برفع ولا نصب؛ لأنه من تمامه، وإن كان غير تمييز له بل هي من أداة المدح أو الذم المحض، شاع قطعه تكررت النعوتُ أو لم تتكور، وإنما يُشترط تكرر النعوت إذا كانت للتمييز والتبيين، فيحصل الاتباع ببعضها ويسوغ قطع الباقي، فتفطَّن لهذه النكتة، والذي يدلك على (ظ/56 ب) ذلك __________ (1) "نتائج الفِكْر": (ص/ 237) بنحوه.

(1/329)


قولُ سيبويه: سمعت العربَ يقولون: "الحمد لله ربُّ العالمين"، فسألت عنها يونس، فزعم أنها عربية. وفائدة القطع من الأول أنهم إذا أرادوا تجديد مدح. أو ذمٍّ جدَّدوا الكلام؛ لأن تجديد غير اللفظ الأول دليل على تجدُّد المعنى، وكلما كَثُرت المعاني وتجدد المدح؛ كان أبلغ. فائدة بديعة (1) القاعدةُ: أن الشيءَ يُعْطف على نفسه؛ لأن حروف العطف بمنزلة تَكْرار العامل؛ لأنك إذا قلت: "قام زيد وعَمْرو"، فهي بمعنى: "قام زيد وقام عَمْرو"، والثاني غير الأول، فإذا وجدت مثل قولهم: "كذبًا ومينًا"؟ فهو لمعنًى زائد في اللفظ الثاني، وإنْ خَفِيَ عنك. ولهذا يبعد جدًّا أن يجيء في كلامهم: "جاءني عُمَر وأبو حفص"، و: "رضي الله عن أبي بكر وعَتِيْقٍ"، فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين، لا بين الشيء الواحد، فإذا كان في الاسم الثاني فائدة (2) زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرًا في العطف وتركه، فإن عطفتَ فمن حيث قصدتَ تَعْداد الصفات وهي متغايرة، وإن لم تعطف فمن حيث كان في كلٍّ منهما ضميرٌ هو الأول، فعلى الوجه الأول تقول: "زيد فقيه وكاتب" (3)، وعلى الثاني: "فقيه كاتب" (4)، كأنك عطفتَ بالواو الكتابةَ على الشعر، وحيث لم تعطف أتبعت الثاني الأول؛ لأنه هو __________ (1) المصدر نفسه: (ص/ 238). (2) (د): "في المنعوت فائدة". (3) (ظ ود): "فقيه كاتب"، و"النتائج": "شاعر وكاتب"، وهو الموافق للسياق بعده. (4) (ظ ود): "فقيه وكاتب"، و"النتائج": "شاعر وكاتب".

(1/330)


هو من حيث اتحد الحامل] (1) للصفات. وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى؛ فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف، نحو: "السميع العليم"، "العزيز الحكيم"، "الغفور الرحيم"، "الملك القدوس السلام" إلى آخرها، وجاءت (2) معطوفة في موضعين. أحدهما: في أربعة أسماء، وهى: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]. والثاني: في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل دوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 2 - 4] ونظيره: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 10 - 12] فأما ترك العطف في الغالب؛ فلتناسب معاني تلك الأسماء (ق / 75 أ) وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها عند (3) شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر (4)، وكذلك: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]. وأما تلك الأسماء الأربعة؛ فهي ألفاظ متباينة المعاني، متضادَّة الحقائق في أصل موضوعها، وهى متفقة المعاني متطابقة في حق __________ (1) إلى هنا ينتهي السقط في نسخة (ق)، وقد بدأ من قوله: "رجل من الضمير" ص/ 325. (2) (ق): "وكانت". (3) من (ق). (4) العبارة في (ق): "السميع انتقل الذهن منها إلى البصير".

(1/331)


الرب تعالى، لا يبقى منها معنى لغيره، بل هو أول كما أنه هو آخر، وظاهر كما أنه باطن. ولا يناقض بعضها بعضًا في حقِّه، فكان دخول الواو صَرْفًا لوهم المخاطب -قبل التفكر والنظر- عن توهم المحال. واجتماع (1) الأضداد؛ لأن الشيءَ لا يكون ظاهرًا باطنًا من وجهٍ واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين، فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة، هذا جواب السهيلي (2). وأحسن منه أن يقال: لما كانت هذه الألفاظ دالة على معانٍ متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تبايُنِها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات، إيذانًا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها. ووجه آخر وهو أحسن منهما (ظ/ 57 أ) وهو: أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره، فيكون في الكلام متضمِّنًا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير، وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه: إذا كان لرجل -مثلاً- أربع صفات هو: عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطَب لا يعلم ذلك أو لا يقر به، ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل، فإذا قلتَ: زيد عالم، وكأنَّ ذهنه استبعد ذلك، فتقول: وجواد، أي: وهو مع ذلك جواد، فإذا قدَّرتَ استبعاده لذلك، قلت: وشجاع، أي: وهو مع ذلك شجاع وغني، فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه، تدرأ به توهم الإنكار. وإذا عرفت هذا؛ فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في __________ (1) (ظ ود): "واحتمال". (2) في "نتائج الفِكْر": (ص/ 239).

(1/332)


موصوف واحد. فإذا قيل: هو الأول، ربما سَرَى الوهم إلى أن كونه أولاً يقتضي أن يكون الآخر غيره؛ لأن الأولية والآخرية من المتضايفات. وكذلك "الظاهر والباطن" إذا قيل: هو الظاهر ربما سَرَى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية، فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر لا غيره (1)، وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه، فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية (ق/75 ب) ودقيقها. والذي يوضح لك ذلك: أنه إذا كان للبلد مثلاً قاض وخطيب وأمير، فاجتمعت في رجل، حَسُنَ أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير، وكان للعطف هنا مَزِية ليست للنعت المجرَّد، فعَطْف الصفات هاهنا أحسن، قطعًا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره. وأما قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فعَطَف في الاسمين الأوَّلين دون الآخرين. فقال السهيلي (2): إنما حَسُن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال، وفعله سبحانه في غيره لا في نفسه، فدخل حرفُ العطفِ للمغايرة الصحيحة بين المعنيين، ولتنزلهما منزلةَ الجملتين؛ لأنه يريد تنبيهَ العبادِ على أنه يفعل هذا ويفعل هذا، ليرجُوْه ويؤمِّلوه. ثم قال: {شَدِيدِ الْعِقَابِ}، بغير واو؛ لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة، وهو معنى خارج عن صفات الأفعال، فصار بمنزلة قوله: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} وكذلك قوله: {ذِي الطَّوْلِ}؛ لأن لفظ "ذي" عبارة عن ذاته. __________ (1) من (ق). (2) في "نتائج الفِكْر": (ص/ 239).

(1/333)


هذا جوابه وهو كما ترى غير شافٍ ولا كافٍ، فإن شدة عقابه من صفات الأفعال، وطَوله من صفات الأفعال، ولفظة "ذي" فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل كقوله تعالى: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] بل لفظ الوصف بـ "غافر وقابل" أدل على الذات من (1) الوصف بـ "ذي"؛ لأنها بمعنى: صاحبِ كذا، فالوصف المشتق أدلُّ على الذات من الوصف بها، فلم يشفِ جوابُه -رحمه الله- بل زاد السؤال سؤالاً!!. فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قِسْم، فابتدأها بـ "العزيز العليم"، وهما اسمان مطلقان، وصفتان (2) من صفات ذاته وهما مجردان عن العاطِف. ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله فأدخل بينهما العاطف، ثم ذكر اسمين آخرين: بعدهما (3) وجرَّدهما من العاطف، فأما الأولان فتجريدهما من العاطف؛ لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله وهما (ظ/57 ب) متلازمان، فتجريدهما عن العطف هو الأصل، وهو موافق لسائر (4) ما في الكتاب العزيز من ذلك، كالعزيز العليم (5)، والسميع البصير، والغفور الرحيم (6). وأما {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}؛ فدخل العاطف بينهما، لأنهما __________ (1) "الذات من" سقطت: من (ظ)، و"على ذات" ساقطة من (د). (2) (ق): "نعم وصفيان". (3) بعدها في (ق) كلمة لم أتبينها ورسمها (عر)!. (4) (ظ ود): "لبيان". (5) (ق): "الحكيم". (6) "والسميع ... الرحيم" ليست فى (ظ ود) وفي (ق) زيادة "واو" بين "السميع البصير".

(1/334)


في معنى الجملتين، وإن كانا مفرَدَيْن لفظًا فهما يعطيان معنى: يغفرُ الذنبَ ويقبل التوب، أي: هذا شأْنُه ووصفُه فى كلِّ وقت، فأتى بالاسم الدال على أن (1) هذا وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك، فعطف أحدهما على الآخر، على نحو عَطْف الجملِ بعضِها على بعض، ولا (ق/ 76 أ) كذلك الاسمان الأولان، ولما لم يكن الفعل ملحوظًا في قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}؛ إذ لا يَحْسُن وقوع الفعل فيهما، وليس في لفظ "ذي" ما يُصَاغ منه فعل جَرَيا مجرى المفردين من كلِّ وجه، ولم يعطف أحدهما على الآخر، كما لم يعطف في العزيز العليم، فتأمَّلْه فإنه واضح. وأما العطف في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3] فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال وهي جملة، دخلت الواو عاطفةً جملة على جملة، وإن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد، فالفعل مرادٌ مقصود، والعطف يُصَيِّر كلَّ (2) جملة منها مستقلة مقصودةً بالذكر، بخلاف ما لو أتى بها في خبر موصول واحد، فقيل: "الذي جعل لكم الأرضَ مِهادًا، وأنزلَ من السماءِ ماءً، وخلقَ الأزواجَ كلَّها"، كانت كلها في حكم جملة واحدة، فلما غايَرَ بين الجمل بذكر الاسم الموصول مع كلِّ جملةٍ دلَّ على أن المقصود وصفه بكل جملةٍ جملةٍ (3) من هذه الجمل على حِدَّتها، وهذا قريب من باب قطع النعوت، والفائدة هنا كالفائدة ثَمَّ، وقد تقدمت الإشارة إليها فراجعها، بل قطع النعوت إنما كان لأجل هذه __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) (ظ ود): "على". (3) من قوله: "واحدة، فلما غاير ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/335)


الفائدة، فذلك المقدر في النعوت المقطوعة لهذا المحققِ في النعوتِ المعطوفة، والحمد لله على ما منَّ به وأنعم، فإنه ذو الطَّولِ والإحسان. تَتِمَّة (1): تأمَّل كيف وقع الوصف بشديد العقاب بين (2) صفتي رحمة قبله (3)، وصفة رحمة بعده. فقبله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وبعده: {ذِي الطَّوْلِ} ففي هذا تصديق الحديث الصحيح وشاهد له (4)، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَه فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي" (5) وفي لفظ: "سَبَقَتْ غَضَبِي" (6) وقد سَبَقت صفتا الرحمة هاهنا وغَلَبت. وتأمل كيف أفتتح الآية بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [غافر: 2] والتنزيل يستلزم عُلوَّ المنزَّل من عنده، لا تعقل العربُ من لغتها بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة (7) إلا ذلك. وقد أَخْبرَ أن تنزيل الكتاب منه. فهذا يدل على شيئين: أحدهما: علوه تبارك وتعالى على خلقه. والثاني: أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده (8) لا غيره، فإنه أخبر أنه منه، وهذا يقتضي أن يكون منه قولاً كما أنه منه تنزيلاً، فإن غيره لو كان هو المتكلِّم به لكان الكتاب من ذلك الغير، __________ (1) (د): "فائدة". (2) (ظ ود): "هي". (3) ليست في (ق). (4) "وشاهد له" ليست فى (ق). (5) أخرجه البخاري رقم (3194)، ومسلم رقم (2751) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (6) للبخاري رقم (7453)، ومسلم بعد الحديث السابق. (7) "السليمة الفطرة" ليست في (ق). (8) "من عنده" ليست في (ق).

(1/336)


فإن الكلام إنما يُضاف إلى المتكلِّم به. ومثل هذا: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، ومثله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، ومثله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] فاستمسك بحرف "من" في هذه المواضع فإنه يقطع شَغَب (1) المعتزلة والجهمية. وتأمل كيف قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ} ولم يقل: تنزيله، فتضمنت الآية إثبات علوه وكلامه (2) وثبوت الرسالة، ثم قال تعالى: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}، فتضمَّن هذان الاسمان صفتي القدرة والعلم، وخلق أعمال العباد، وحدوث كل ما سوى الله؛ لأنَّ القدر (3) هو قدرة (ظ/58 أ) الله كما قال أحمد بن حنبل، فتضمنت إثبات القَدَر، ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه، أو أن يشاء ما لا يكون، فكمال عِزَّته تُبطل ذلك. وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيءٍ، وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه؛ لأن كمالَ قدرته وعزته يبطل ذلك. ثم قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، والذنب مخالفة شرعه وأمره، فتضمن هذان الاسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله، ثم قال: {شَدِيدِ الْعِقَابِ}، وهذا جزاؤه للمذنبين، وذو الطول (4) جزاؤه __________ (1) (ق): "حُجج شغب". (2) (ق): "ومكانه". (3) (ظ ود): "القدرة". (4) من قوله: "هذان الاسمان ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/337)


للمحسنين، فتضمنت الثواب والعقاب. ثم قال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 3] فتضمن ذلك التوحيد والمعاد. فتضمنت الآيتان إثبات صفة: العلو، والكلام، والقدرة، والعلم، والشرع، والقَدَر، وحدوث العالم، والثواب، والعقاب، والتوحيد والمعاد (1)، وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يتضمن: الرسالة والنبوة، فهذه عشرة (2) قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة (3)، ولكن: * خَوْدٌ تُزَفُّ إلى ضَرِيْرٍ مُقْعَدِ * فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمَّن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها!! وهكذا سائر آيات القرآن: فما أشدَّها من حسرة وما أعظمها من غَبْنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه!! فالله المستعان (4). فائدة جليلة (5) العامل في المعطوف مقدر في معنى العامل في (6) المعطوف __________ (1) من قوله: "فتضمنت ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) ليسِت في (ظ ود)، لكن بإضافة "الشرع" وهي من (ق) تصبح إحدى عشرة قاعدة. (3) ليست في (ق). (4) ليست في (ق). (5) "نتائج الفِكر": (ص/ 249). (6) "العامل في" سقطت من (ظ ود).

(1/338)


عليه، وحرف العطف أغنى عن إعادته وناب منابه، وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع. أما القياس؛ فإن ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله، ولا يتعلق به إلا في باب المفعول معه؛ لأنه قد أخذ معموله ولا يقتضي ما بعد حرف العطف ولا يصح تسليطه عليه بوجه، فلا تقول: "ضربتُ وعَمْرًا"، فكيف يقال: إن عاملاً يعمل في شيءٍ لا يصح مباشرته إياه، وأيضًا: فالنعتُ هو المنعوت في المعنى ولا واسطة بينه وبين المنعوت، ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في المنعوت على القول الذي نصرناه سالفًا، وهو الصحيح، فكيف بالمعطوف (ق/ 77 أ) الذي هو غير المعطوف عليه من كلِّ وجه!؟. وأما السماع؛ فإظهار العامل قبل المعطوف في مثل قوله (1): بل بني (2) النجَّار إنَّ لنا ... فيهمُ قَتْلى وإنَّ تِرَهْ يريد: لنا فيهم قتلى وتِرَة، وهذا مطرد في سائر حروف العطف ما لم يمنع مانع كما منع في المعطوف على اسم لا يصح انفراده عنه، نحو: "اختصم زيد وعَمْرو"، و"جلستُ بين زيد وعَمْرو"، فإن الواو هنا تجمع بين الاسمين في العامل، فكأنك قلت: اختصم هذان، واجتمع الرجلان، في قولك: "اجتمع زيد وعمرو" (3). ومعرفة هذه الواو أصل يُبْنَى عليه فروع كثيرة، فمنها أنك تقول: "رأيت الذي قام زيد وأخوه"، على أن تكون الواو جامعة، وإن كانت عاطفة لم يجز؛ لأن __________ (1) ذكره ابن هشام في "السيرة": (1/ 23) ونسبَه لخالد بن عبد العُزَّى. (2) في النسخ: "بل بنو" والمثبت من "السيرة". (3) "فإن الواو ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/339)


التقدير يصير (1): "قام زيد وقام أخوه"، فخَلَت الصلةُ من العائد. ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة: 9] غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما، ولو قلت: "طلعَ الشمس والقمر"، لقَبُح ذلك كما يقبح: "قام هند وزيد"، إلا أن تريد الواو الجامعة لا العاطفة. وأما في الآية فلابد أن تكون الواو جامعة، ولفظ الفعل يقتضي ذلك. وأما "الفاء"؛ فهي موضوعة للتعقيب، وقد تكون للتسبيب والترتيب (ظ / 58 ب)، وهما راجعان إلى معنى التعقيب؛ لأن الثاني بعدهما أبدًا إنما يجيء في عَقب الأول فالتسبيب نحو: "ضربته فبكى"، والترتيب [نحو]: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] دخلت الفاء لترتيب اللفظ؛ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر؛ لأن الاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. ومن هذا: إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوه ... ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلكَ جَدُّهُ (2) دخلت "ثم" لترتيب الكلام، لا لترتيب المعنى في الوجود، وهذا معنى قول بعض النحاة: إِنها تأتي للترتيب في الخَبَر لا في المُخْبر. وعندي في الآية تقديران آخران أحسن من هذا: أحدُهما: أَنْ يكون المراد بالإهلاك إرادة الهلاك، وعبَّر بالفعل عن الإرادة، وهو كثير، فترتَّب مجيءُ البأسِ على الإرادة ترتُّب المراد على الإرادة. __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) البيت لأبي نُوَاس، "ديوانه": (ص/493) والرواية فيه: قل لمن سادَ ثم سادَ أبوه ... قبلَه، ثم قبلَ ذلك جدُّه

(1/340)


والثاني: -وهو ألطف- أن يكون الترتيب ترتيب تفصيل على جملة، فذكر الإهلاك، ثم فَصَلَه بنوعين: أحدهما: مجيء البأس بياتًا -أي: ليلاً- والثاني: مجيئه وقت القائلة، وخَصَّ هذين الوقتين؛ لأنهما وقت راحتهم وطمأنينتهم، فجاءَهم بأسُ اللهِ أَسْكَن ما كانوا وأَرْوَحَه، في وقت طمأنينتهم وسكونهم، على عادته -سبحانه- في أخذ الظالم في وقت بلوغ آماله (1)، وفرحه وركونه إلى ما هو فيه. وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24] والمقصود: أن الترتيب هنا ترتيب التفصيل على الجمل، وهو ترتب علمي لا خارجي، فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولاً، ثم يطلب تفصيله بعد ذلك، وأما (ق/ 77 ب) في الخارج فلم يقع إلا مُفَصَّلاً، فتأمَّل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس، حتى ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الإخبار، أي: أنا أخبرناكم بهذا قبل هذا. وأما قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] فعلى ما ذكرنا من التعبير عن إرادة الفعل بالفعل هذا هو المشهور. وفيه وجه ألطف من هذا، وهو: أن العربَ تعبِّر بالفعل عن ابتداء الشروع فيه تارة، وتعبر به (2) عن انتهائه تارة، فيقولون: فعلتُ عند الشروع، وفعلتُ عند الفراغ، وهذا استعمال حقيقيٌّ، وعلى هذا فيكون معنى "قرأت" في الآية ابتداء الفعل، أي: إذا شرعتَ وأخذتَ في القراءة فاستعد، فالاستعاذة مرتبة على الشروع الذي هو مبادئ __________ (1) (ظ ود) زيادة: "وكرمه". (2) (ق): " ... فيه وتعبّر به عن ... "، و (ظ ود): "فيه تارة وتعبر عن ... ".

(1/341)


الفعل ومقدمته وطليعته. ومنه قوله: "فَصَلَّى الصُّبْحَ حِيْنَ طَلَعَ الفَجْرُ" (1) أي: أخذ في الصلاة عند طلوعه. وأما قوله: "ثُمَّ صَلاَّهَا (2) مِن الغَدِ بَعْدَ أَنْ أسْفَرَ" (3)؛ فالصحيح أن المراد به الابتداء، وقالت طائفة: المراد به الانتهاء، منهم السهيلي (4) وغَلِطُوا في ذلك، والحديث صريح في أنه قدَّمها في اليوم الأول، وأخَّرها في اليوم الثاني ليبيِّن أوَّل الوقت وآخره. وقوله في حديث جبريل (5): "صَلَّى الظُّهْرَ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ"، هذا ابتداؤها ليس إلا. وقوله: "صَلَّى العَصْرَ حِيْنَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلُهُ"؛ فذلك مراد به الابتداء. وأما قوله: "وَصَلَّى الظُّهْرَ مِن الغَدِ حِيْنَ صَارَ ظِلُّ (6) الرَّجلِ مِثْلهُ"؟ ْفقيل: المراد به الفراغ منها، أي: فرغ منها في هذا الوقت، وقيل: __________ (1) أخرجه مسلم رقم (613) من حديث بُريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-. (2) (ظ ود): "فصلاها". (3) قطعة من الحديث المتقدم. (4) في "نتائج الفكر": (ص/ 251). (5) أخرجه أحمد: (1/ 333)، وأبو داود رقم (393)، والترمذي رقم (149) وغيرهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. والحديث قوَّاه ابن دقيق العيد، وصححه ابن عبد البر وغيره، وله شواهد من حديث جماعةٍ من الصحابة، انظر: "نصب الراية": (1/ 221 - 227)، و"التلخيص الحبير": (1/ 183). (6) من قوله: "كل شيءٍ ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/342)


المراد به الابتداء، أي: أخَّرها إلى هذا الوقت بيانًا لآخر الوقت، وعلى هذا فتمسك به (1) أصحاب مالك في مسألة الوقت المشترك، والكلام في هذه المسائل ليس هذا موضعه. فصل (2) وأما "حتى" فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية (ظ/59 أ) لما قبلها، وغايةُ كلِّ شيءٍ حَدُّه، ولذلك كان لفظُها كلفظِ الحدِّ فإنها: "حاءٌ" قَبْل تاءَين، كما أَنَّ "حاءَ" (3) الحدِّ قيل دالَيْن، والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر، فكانت لجَهْرها أولى بالاسم لقوَّته، والتاء لهمْسِها أولى بالحرفِ لضعفه، ومن حيث كانت "حتى" للغايةِ خفضوا بها كما يخفضون بـ "إلى" (4) التي للغاية. والفرقُ بينهما: أن "حتى" غاية لما قبلها وهو منه، وما بعد "إلى" ليس مما قبلها، بل عنده انتهى ما قبل الحرف، ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها. ولم تكن "إلى" عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها، بخلاف "حتى"، ومن ثَمَّ دخلت "حتَّى" في حروف العطف، ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذا كانت خافضة، لا تقول: "قام القوم حتاك"، كما لا تقول: "قاموا وك" (5)، ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يَجُز في العطف: "قام زيد حتى (ق/78 أ) عَمْرو"، ولا: "أكلت خبزًا حتَّى تمرًا"؛ لأن الثاني ليس بحدٍّ للأولِ ولا طَرَفٍ. __________ (1) سقطت من (ق). (2) "نتائج الفكر": (ص/ 252). (3) سقطت من (ق). (4) (ق): "إذا" وهو خطأ. (5) في "النتائج": "قام القوم وك".

(1/343)


تنبيه: ليس المراد من كون "حتى" لانتهاء الغاية، وأن ما بعدها طرفٌ (1) أن يكون متأخرًا في الفعل عما قبلها، فإذا قلت: "مات الناسُ حتى الأنبياء، وقَدِمَ الحاجُّ حتى المشاة"، لم يلزم تأخُّر موت الأنبياء عن الناس، وتأخُّر قدوم المشاة عن الحاجِّ. ولهذا قال بعض الناس: إن "حتى" مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين، أحدهما: أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه، فلا تقول: قَدِم الناس حتى الخيل، بخلاف الواو. الثاني: أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة، وأما أن يُفهم منها الغاية والحدُّ فلا، والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين، ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وطرفًا، فاعلم أن المراد به أن يكون غايةً في المعطوف. عليه لا في الفعل، فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقِلَّة والكثرة، وإذا فهمت هذا فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل، والمشاة غاية للحُجَّاج (2) في الضعف والعجز، وأنت إذا قلت: أكلتُ السمكةَ حتى رأسها، فالرأسُ غايةٌ لانتهاء السمكة، وليس المرادُ أنَّ غايةَ أكلك كان الرأس، بل يجوز أد يتقدم أكلك للرأس وهذا مما أغفله كثير من النحويين ولم يُنبًّهوا عليه. فائدة (3) "أو" وُضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه، من حيثُ كان الشكُّ ترددًا بين أمرين __________ (1) في "الأصول": "ظرفا"!. (2) (ق): "للناس". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 253).

(1/344)


من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، لا أنها وُضِعت للشكِّ؛ فقد تكون في الخبر (1) الذي لا شك فيه إذا أبهمتَ على المخاطب ولم تقصد أن تُبيِّن له، كقوله سبحانه: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]، أي: أنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم: هم مئة ألف أو يزيدون (2)، فـ "أو" على بابها دالَّة على أحد الشيئين؛ إما مئة ألف بمجردها، وإما مئة ألف مع زيادة، والمخبر في كل (3) هذا لا يشك. وقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ذهب الزجَّاج في هذه كالتي (4) في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] إلى أنها "أو" التي للإباحة، أي: أبيح للمخاطبين أن يُشَبِّهوا بهذا أو هذا، وهذا فاسد، فإن "أو" لم توضع للإباحة في شيءٍ من الكلام، ولكنها على بابها؛ أما قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}، فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في (ظ/59 ب) حالتين مختلفتين، فهم لا يخلون من أحدِ الحالين، فـ "أو" على بابها من الدلالة على أحد المعنيين. وهذا كما تقول: "زيد لا يخلو أن يكون في المسجد أو الدار"، ذكرتَ "أو"؛ لأنك أردت أحدَ الشيئين. وتأمل الآية مع ما قبلها، وأفهم المراد منها تجد الأمرَ كما ذكرتُ لكَ، وليس (ق / 78 ب) المعنى: أبحتُ لكم أن تُشَبِّهوهم بهذا وهذا. وأما قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، فإنه ذكرَ قلوبًا ولم يذكر قلبًا واحدًا، فهي على الجملة قاسية، وعلى التعيين؛ __________ (1) (ق): "للخبر" وكذا نسخ "النتائج". (2) من قوله: "أي: أنهم ... " إلى هنا ساقط من (د). (3) ليست في (ق). (4) (ظ ود): "ذهب فى هذه وكالتي ... " والمثبت من (ق)، وبنحوه في "النتائج".

(1/345)


لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون كالحجارة، وإما أن تكون أشدَّ قسوة، ومنها ما هو كالحجارة (1)، ومنها ما هو أشد قسوة منها. ومن هذا قول الشاعر: فقلتُ لهم (2): ثنتان، لابُدَّ منهما ... صُدُورُ رِماحٍ أُشْرِعَتْ أو سَلاسِلُ أي: لابد منهما في الجملة، ثم فَصَّل الاثنين بالرماح والسلاسل، فبعضهم له الرماح قتلاً (3)، وبعضهم له السلاسل أسرًا، فهذا على التفصيل والتعيين، والأول على الجملة، فالأمران واقعان جملة وتفصيلهما بما (4) بعد "أو". وقد يجوز في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، أن يكون مثل "مائة ألف أو يزيدون". وأما "أو" التي للتخيير فالأمر فيها ظاهر. وأما "أو" التي زعَموا أنها للإباحة، نحو: "جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين"، فلم توجد الإباحة من لفظ "أو" ولا من معناها، ولا تكون "أو" قط للإباحة وإنما أخذت من لفظ الأمر الذي هو للإباحة، ويدل على هذا: أن القائلين بأنها للإباحة يلزمهم أن يقولوا: إنها للوجوب إذا دخلت بين شيئين لابد من أحدهما، نحو قولك للمكفِّر: أطعم عشرةَ مساكين أو اكسهم، فالوجوب هنا لم يؤخذ من "أو" وإنما أخذ من الأمر، فكذا جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين. __________ (1) "ومنها ما هو كالحجارة" سقط من (د). (2) كذا، والبيت في "الأغاني": (13/ 47)، و"مغني اللبيب" رقم (96) والرواية فيهما: فقالوا لنا: ثنتان .. ، وهو لجعفر بن عُلْبَة الحارثي. (3) سقطت من (ق). (4) (ق): "وتفصيلاً وهما بما".

(1/346)


فصل (1) وأما "لكِنْ"؛ فقال السُّهيلي: "أصح القولين فيها أنها مركبة من "لا" و"إنَّ" و"كاف الخطاب" في قول الكوفيين. قال السهيلي: وما أراها إلا كاف التشبيه؛ لأن المعنى يدل عليها إذا قلت: "ذهب زيد لكنَّ عَمْرًا مقيم"، تريد: لا [كفعل] (2) عَمرو، فـ "لا" لتوكيد النفي عن الأول، و"إنَّ" لإيجاب الفعل الثاني، وهو المنفي عن الأول؛ لأنك ذكرتَ [الذهاب] (3) الذي هو ضده فدلَّ على انتفائه به. قلت: وفي هذا من التعسف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى، وأيُّ حاجة إلى هذا بل هي حرف بشرطٍ (4) موضوع للمعنى المفهوم منها، ولا تقع إلا بين كلامين متنافِيَين. ومن هنا قال: إنها رُكِّبت من: "لا والكاف وإن"، إلا أنهم لما حذفوا الهمزة المكسورة (5) كسروا الكاف إشعارًا بها، ولابدَّ بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجَبًا، شدَّدتَ نونها أو خفَّفتَ، فإن كان ما (6) قبلها منفيًّا اكتفيت بالاسم المفرد بعدها، إذا خُفِّفت النون منها، لِعِلْم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا الإيجاب، فلما اكتفت باسم مفرد -وكانت إذا خُفِّفت نونُها لا تعمل- صارت (ق/79 أ) كحروف العطف فألحقوها بها؛ لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 255). (2) من "النتائج" وتحرّفت في النسخ. (3) في الأصول: "الذاهب" والمثبت من "النتائج". (4) كذا في (ظ)، وفي (ق): "حروف ... " و (د) والمطبوعات: "حرف شرط"!. (5) في الأصول وبعض نسخ "النتائج": "المذكورة" والمثبت من إحدى نسخ النتائج. (6) (ظ ود): "ما في"!.

(1/347)


الدلالة، كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى، ليتفق اللفظ كما اتفق المعنى. فإن قيل: أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي، وهي في كل (1) حال لا تقع إلا بين كلامين متضادَّيْن، فلم قالوا: "ما قام زيد لكن عَمْرو"، اكتفاءً بدلالة النفي على نقيضه، وهو الوجوب (ظ/ 60 أ)، ولم يقولوا: "قام زيد لكن عمرو"، اكتفاءً بدلالة الوجوب على نقيضه من النفي؟. قيل: إن الفعل الموجب (2) قد يكون له معانٍ تضاده وتناقض وجوده، كالعِلْم فإنه يناقض وجوده الشك والظن والغفلة والموت، وأخصُّ أضدادِه به الجهل، فلو قلت: "قد علمت الخبر لكن زيد"، لم يُدْرَ ما أضفت إلى زيد، أظن أم شك أم غفلة أم جهل، فلم يكن بُدٌّ من جملة قائمة بنفسها ليعلم ما تريد، فإذا تقدَّم النفيُ نحو قولك: "ما علمتُ الخبرَ لكن زيد"، اكتفى باسم واحد؛ لِعِلم المخاطَب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجودُه؛ لأن النفي يشتمل على جميع الأضداد المنافية للعلم. فإن قيل: فلم إذا خففت "لكن" وجبَ إلغاؤها، بخلاف "أَنَّ" و"إِنَّ" و"كأن"، فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف، كما قال: *كَأَنْ ظَبْيةً تَعْطُو إِلى وَارِقِ السَّلَم (3) * __________ (1) ليست في (ظ ود). (2) (ق): "من الوجوب". (3) صدره: * ويومًا توافينا بوجهٍ مقسَّمٍ * ذكره في "اللسان": (12/ 482) ونسبه إلى كعب بن أرقم اليشكري.

(1/348)


قيل: زعم الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خُفِّفن، فلذلك ألزموا "لكن" إذا خُفِّفت الإلغاء، تنبيهًا على أن ذلك هو الأصل في جميع الباب، وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها، فيقال له: فلم خُصَّت "لكن" بذلك دون "أنَّ" و"إنَّ" و [كأنَّ] (1)؟ ولا جواب له عن هذا!. قال السهيلي (2): وإنما الجواب عن ذلك أنها لما رُكِّبت من "لا" و"إن" ثم حُذِفت الهمزة اكتفاء بكسر "الكاف" بقي عمل "إنَّ" لبقاء العلة الموجبة للعمل، وهي فتح آخرها، وبذلك ضارَعَت الفعل، فلما حُذِفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة للتركيب ولم يبقَ إلا النون الساكنة، وجبَ إبطال حكم العمل بذهاب طرفيها وارتفاع عِلة المضارعة للفعل، بخلاف أخواتها إذا خُفِّفن، فإن معظم لفظها باقٍ، فجاز أن يبقى حكمها، على أن الأستاذ أبا القاسم الرَّمَّاك (3) قد حكى رواية عن يونس أنه حكى الإعمال في "لكن" مع تخفيفها، وكان يستغرب هذه الرواية. * * * واعلم أن "لكن" لا تكون حرف عطف مع دخول "الواو" عليها؛ لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف، فمتى رأيت حرفًا من حروف __________ (1) من "النتائج". (2) في "نتائج الفكر": (ص/257). (3) هو: عبد الرحمن بن محمد أبو القاسم الأموي الإشبيلي المعروف بابن الرَّمَّاك ت (541). انظر: "بغية الملتمس": (ص/ 346)، و"بغية الوعاة": (2/ 86) ووصفه السُّهيلي بأنه كان إمامًا في هذه الصناعة.

(1/349)


العطف (1) مع الواو، فالوَاوُ هِيَ العاطفة دونه؛ فمن ذلك "إما"، إذا قلت: "إما زيد وإما عَمَرو"، وكذلك "لا" إذا قلتَ: "ما قام زيد (ق / 79 ب) ولا عَمْرو"، ودخلت "لا" لتوكيد النفي، ولئلا يتوهم أن "الواو" جامعة، وأنك نفيتَ قيامهما في وقت واحد. [فصل في لا العاطفة] ولا تكون "لا" (2) عاطفة إلا بعد إيجاب، وشرطٌ آخر، وهو أن يكون الكلام قبلها يتضمَّن بمفهومِ الخطاب نفيَ الفعل عما بعدها، كقولك: "جاءني رجلٌ لا امرأة، ورجل عالم لا جاهل"، ولو قلتَ: "مررتُ برجل لا زيد"، لم يَجُز، وكذلك: "مررتُ برجل لا عاقل"؛ لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني، وهي لا تدخل إلا لتوكيد نفيٍ، فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ "غير"، فتقول: "مررتُ برجل غير زيد"، و"برجل غيرِ عالمٍ"، ولا تقول: "برجلٍ غير امرأة"، ولا: "بطويل غير قصير"؛ لأن في مفهوم الخطاب ما يغنيك عن مفهوم النفي الذي في "غير"، وذلك المعنى الذي دل عليه المفهوم حين قلتَ: بطويل لا قصير. وأمَّا إذا كانا اسمين مُعَرَّفَين نحو: "مررت بزيد لا عَمْرو"، فجائز هنا دخول غير، لجمودِ الاسم العلم، فإنه ليس له مفهوم خطاب (ظ/60 ب) عند الأصوليين (3)، بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها، كرجل، فإنه: بمنزلة قولك: ذكر، ولذلك دلَّ بمفهومه على انتفاء (4) الخبر عن المرأة، ويجوز أيضًا: "مررتُ بزيد لا عَمْرو"؛ __________ (1) "فمتى رأيت حرفًا من حروف العطف" سقط من (ق). (2) سقطت من (ظ ود). (3) في "النتائج": "إلا الصيرفي من الشافعية". (4) في الأصول، ونسخ "النتائج": "انتقال" واستظهر محققه ما أثبتُّه.

(1/350)


لأنه اسم مخصوص بشخص فكأنه حين خَصَصْته بالذكر نفيتَ المرور عن عَمرو، ثم أكدتَ ذلك النفي بـ "لا". وأما الكلام المنفيّ فلا يعطف عليه بـ "لا"؛ لأن نفيكَ الفعل عن "زيد" إذا قلت: "ما قام زيد"، لا يُفهم منه نفيه عن "عَمْرو"، فيؤكَّد بـ "لا". فإن قلت: أُكِّدَ بها النفيُ المتقدِّم. قيل لك: وأيُّ شيءٍ يكونُ حينئذٍ (1) إعراب "عَمْرو"، وهو اسم مفرد، ولم يدخل عليه عاطف يعطفه على ما قبله؟ فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي [له] بخبر، فتقول: "ما قام زيد لا عَمْرو هو القائم"، وأما إن أردت تشريكهما في النفي فلابُدَّ من الواو، إما وحدها وإما مع "لا"، ولا تكون "الواو" عاطفة ومعها "لا". وأما قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} فإن معنى النفي موجود في "غير". فإن قيل: فهلاَّ قال: " [لا] (2) المَغْضُوب عَلَيْهِمْ وَلا الضَالِّينَ" (3). قيل: في ذكر "غير" بيان للفضيلة للذين أنعم عليهم، و [تخصيص] (4) لنفي صِفَة الضلال والغضب عنهم، وأنهم الذين أنعم عليهم (5) بالنبوة والهدى دون غيرهم، ولو قال: "لا المغضوب عليهم"، لم يكن في __________ (1) ليست في (ق). (2) من "النتائج". (3) من قوله: "فإن معنى ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) تحرفت في الأصول، والمثبت من "النتائج". (5) من قوله: "وتخصيص ... " إلى هنا ساقط من (د).

(1/351)


ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما تقول: "هذا غلام زيد لا عَمْرو"، أكدت نفيَ الإضافة عن عَمْرو، بخلاف قولك: "هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث"، فكأنك جَمَعتَ بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره، وبين نفي الصفة المذمومة عن الفقيه، فافهمه. فإن قيل: وأي شيء أكَّدَت "لا" حين أدخلتَ عليها الواو، وقد (ق/ 80 أ) قلت: إنها لا تؤكد النفي المتقدم، وإنما تؤكد نفيًا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف "ما"، كقولك: "جاءني عالم لا جاهل"؟. فالجواب: أنك حين قلت: " [ما] جاءني زيد"، لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عَمْرو كما تقدم، فلَما عُطِفت بالواو دلَّ الكلامُ على انتفاء الفعل عن عمرو، كما انتفى عن الأول لمقام الواو مقام تَكْرار حرف النفي (1)، فدخلت "لا" لتوكيد النفي (2) عن الثاني. فائدة بديعة "أم" تكون على ضربين؛ متصلة وهي المعادلة لهمزة الاستفهام، وإنما جعلوها معادلة للهمزة دون "هل" و" [متى] (3) " و"كيف"؛ لأن الهمزة هي أم الباب، والسؤال بها استفهام بسيط مطلق، غير مقيد بوقتٍ ولا حال، والسؤال بغيرها استفهام مركَّب مقيد؛ إما بوقت [كـ "متى"، وإما بمكان] (4) كـ "أين"، وإما بحال نحو "كيف"، وإما __________ (1) (ق): "مقام بل إن حرف ... "، و (ظ): "لقيام الواو مقام تكرار النفي". (2) (ق): "الفعل". (3) في الأصول: "من" والمثبت من "المنيرية". (4) ما بين المعكوفين من "المنيرية".

(1/352)


بنسبةٍ، نحو: "هل زيد عندك"؟ ولهذا لا يقال: "كيف زيد أم عَمرو"، ولا: "أين زيد أم عَمْرو". ولا: "من زيد أم عَمْرو" (1). وأيضًا؛ فلأنَّ الهمزة و"أم" يصطحبان كثيرًا، كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] ونحو قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} [النازعات: 27]. وأيضًا؛ فلأن اقتران "أم" بسائر أدوات النفي غير الهمزة يُفْسد معناها، فإنك إذا قلتَ: كيف زيد، فأنت سائل عن حاله، فإذا قلت: أم عَمْرو، كان خَلْفًا من الكلام، وكذلك إذا قلتَ: من عندك، فأنت سائل عن تعيينه، فإذا قلتَ: أم عَمْرو، فسد الكلام، وكذلك الباقي. وأيضًا؛ فإنما عادَلَت الهمزة دون غيرها؛ لأن الهمزة من بين حروف الاستفهام تكون للتقرير والإثبات، نحو: ألم أُحْسِن إليك؟، فإذا قلت: أعندك زيد أم عَمْرو، فأنت (ظ/61 أ) مُقِر بأن أحدهما عنده، ومثبت لذلك، وطالب تعيينه، فأتوا بالهمزة التي تكون للتقرير دون "هل" التي لا تكون لذلك، إنما يستقبل بها الاستفهام استقبالاً. وسرُّ المسألة: أن "أم" هذه مُشْرَبة معنى أي، فإذا قلت: "أزَيْد عندك أم عَمْرو"؟، كأنك قلت: "أيّ هذين عندك"، ولذلك يتعيَّن الجواب بأحدهما أو بنفيهما أو بإثباتهما. ولو قلت: "نعم" أو "لا"، كان خَلْفًا من الكلام، وهذا بخلاف "أو"، فإنك إذا قلتَ: "أزيد عندك أَو عَمْرو"، كنت سائلاً عن كون أحدهما عنده غير معين، فكأنك قلت: "أعندك أحدهما"، فيتعين الجواب بـ "نعم" أو "لا". وتفصيل ذلك: أن السؤال على أربع مراتب في هذا الباب، __________ (1) الجملة الأخيرة ليست في (ق).

(1/353)


الأول السؤال بالهمزة منفردة، نحو: "أعندك شيءٌ مما يُحتاج إليه"؟ فتقول: نعم، فتنتقل إلى المرتبة الثانية: بما (1)، فتقول: ما هو؟ فتقول: متاع، فتنتقل إلى المرتبة الثالثة: بأي، فتقول: إي متاع هو؟ فتقول: ثياب، فتنتقل إلى المرتبة الرابعة: فتقول: "أكتان هو أم قطن أم صوف"؟ وهذه أَخصُّ المراتب وأشدها طلبًا للتعيين، فلا يحسن الجواب إلا بالتعيين، وأشدها إبهاما السؤال الأول؛ لأنه لم يَدَّع فيه أن عنده شيئًا، ثم الثاني أقل إبهامًا منه؛ لأن فيه ادعاء شيءٍ عنده وطلب ماهيته، ثم الثالث أقل إبهامًا؛ وهو السؤال بأي؛ لأن فيه طلب تعيين ما عرف حقيقته، ثم السؤال الرابع بـ "أم" أخص من ذلك كله لأن فيه طلب تعيين فرد من أفراد قد عرفها وميزها، والثالث إنما فيه تعيين جنس عن غيره. ولا بد في "أم" هذه من ثلاثة أمور تكون بها متصلة: أحدها: أن تعادل بهمزة الاستفهام. الثاني: أن يكون السائل (2) عنده علم أحدها دون تعيينه. الثالث أن لا يكون بعدها جملة من مبتدأ وخبر، نحو قولك: أزيد عندك أم عندك عمرو، فقولك أم عندك عمرو، يقتضي أن تكون منفصلة، بخلاف ما إذا قلت "أزيد عندك أم عمرو"، فإذا وقعت الجملة بعدها فعلية لم تُخرجها عن الاتصال، نحو "أعطيت زيدًا أم حرمته". وسرُّ ذلك كله: أن السؤال قام عن تعيين أحد الأمرين أو الأمور (3)، __________ (1) من (ق). (2) (ق): "أن السائل يكون". (3) (ظ): "للأمر".

(1/354)


فإذا قلت: "أزيد عندك أم عمرو" كأنك قلتَ: أيهما عندك، وإذا قلت: "أزيد عندك أم عندك عمرو"، كان كل واحد منهما جملة مستقلة بنفسها، وأنت سائل هل عنده زيد أو لا؟ ثم استأنفت سؤالًا آخر: هل عنده عمرو أم لا؟ فتأمله فإنه من دقيق النحو وفقهه، ولذلك سُمِّيت متصلةً؛ لاتصال ما بعدها بما قبلها وكونه كلامًا واحدًا. وفي السؤال بها معادلة وتسوية؛ فأما المعادلة؛ فهي بين الاسمين أو الفعلين؛ لأنك جعلت الثاني عديل الأول في وقوع الألف على الأول، و"أم" على الثاني. وأما التسوية؛ فإن الشيئين المسؤول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل وعلى هذا فقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] هو على التقرير والتوبيخ، والمعنى: أي (1) المخلوقين أشد خلقًا وأعظم؟ ومثله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37]. فإن قيل: هذا ينقض ما أصَّلتموه، فإنكم ادعيتم أنها إنما يسئل [بها] عن تعيين ما عُلِم وقوعه، وهنا لا خير فيهِم ولا في قوم تُبَّع (2)؟. قيل: هذا لا ينقض ما ذكرناه بل يشده ويقويِّه، فإن مثل هذا الكلام يخرج خطابًا على تقرير دعوى المخاطب، وظنه أن هناك خيرًا، ثم يدعي أنه هو ذلك المفضل، فيخرج الكلام مخرج التقريع والتوبيخ على زعمه وظنه، أي: ليس الأمر كما زعمتم، وهذا كما تُعاقِب شخصًا على ذنب لم يفعله مثله ويدعي أنك لا تعاقبه، فتقول: أنت خير أم فلان؟ وقد عاقبتُه بهذا الذنب أي: ولست خيرًا منه. __________ (1) (ق): "أن"!. (2) هذا السؤال ساقط من (ق).

(1/355)


فصل (1) وأما "أم" التي للإضراب وهي المنقطعة، فإنها قد تكون "أم" (2) إضرابًا، ولكن ليس بمنزلة "بل" كما زعم بعضهم، ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم أدركك الشك، مثل قولهم: إنها لإِبلٌ أم شاء؟ كأنك أضربت عن اليقين ورجعت إلى الاستفهام حين أدركك الشك. ونظيره قول الزَّبَّاء: "عسى الغوير أَبؤْسا" (3)، فتكلمت بـ "عسى الغوير " ثم أدركها اليقين فختمت كلامها بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم "عسى"؛ لأن "عسى" لا يكون خبرها اسمًا [غير] (4) حدث، فكأنها لما قالت: عسى الغُويَر قالته متوقعة شرًّا تريد الإخبار بفعل مستقبل متوقَّع كما تقتضيه عسى (5)، ثم هجم عليها اليقين، فعدلت إلى الإخبار باسم حدث يقتضي جملة ثبوتية محقَّقة، فكأنها قالت: صار الغوير أبؤسا، فابتدأت كلامها على الشك والتوقع، ثم ختمته بما يقتضي اليقين والتحقُّق. فكذا "أم" إذا قلت: إنها لإبل، ابتدأت كلامك باليقين والجزم، ثم أدركك الشك في أثنائه، فأتيت بأم الدالة على الشك، فهو عكس طريقه "عسى الغوير أبؤسا" ولذلك قدرت بـ "بل" لدلالتها (6) على الإضراب، فإنك أضربت عن الخبر الأول إلى الاستفهام والشك، __________ (1) "نتائج الفِكْر": (ص / 260) بنحوه، بزيادة كبيرة من المؤلف. (2) سقطت من (ق). (3) مثل ذكره الميداني في "مجمع الأمثال": (2/ 341). (4) (ق): "عن" والمثبت من "النتائج". (5) من قوله: "اسمًا غير ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (6) (ق): "الدلالة ما".

(1/356)


فإنك أخبرت أولًا عما توهمته، ثم أدركَك الشكُّ فأضربتَ عن ذلك الإخبار، وإذا وقع بعد "أم" هذه الاسم المفرد، فلابدَّ من تقدير مبتدأ محذوف وهمزة استفهام، فإذا قلت: إنها لإبل أم شاء؟ كان تقديره: لا، بل أهي شاء؟ وليس الثاني خبرًا ثبوتيًّا كما توهمه بعضهم وهو من أقبح الغلط! والدليل عليه قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات: 156] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35] فهذا ونحوه يدلك على أن الكلام بعدها استفهام محض، وأنه لا يُقدّر بـ "بل" وحدها، ولا يُقَدَّر -أيضًا- بالهمزة وحدها؛ إذ لو قُدِّر بالهمزة وحدها لم يكن بينه وبين الأول علقة؛ لأن الأول خبر، و" أم" المقدرة بالهمزة وحدها لا تكون إلا بعد استفهام فتأمله. هذا شرح كلام النحاة وتقريره في هذا الحرف. والحقُّ أن يُقال: إنها على بابها وأصلها الأول من المعادلة والاستفهام حيث وقعت وإن لم يكن قبلها أداة استفهام في اللفظ، وتقديرها بـ "بل" والهمزة خارجٌ عن أصول اللغة العربية، فإن "أم" للاستفهام و "بل" للإضراب، ويا بعد ما بينهما!! والحروف لا يقوم بعضها مقام بعض على أصح الطريقين، وهي طريقة إمام الصناعة والمحققين من أتباعه، ولو قُدِّر قيام بعضها مقام بعض فهو فيما تقارب معناهما كمعنى "على" و"في" ومعنى "إلى" و"مع". ونظائر ذلك، وأما في مالا جامع بينهما؛ فلا (1). ومن هنا كان زعم من زعم أن "لا" قد __________ (1) (ق): "فكلا" و (د): "وكلا".

(1/357)


تأتي بمعنى الواو باطلًا، لبعد ما بين معنييهما، وكذلك " أو" بمعنى" الواو"، فأين معنى الجمع بين الشيئين إلى معنى الإثبات لأحدهما؟ وكذلك مسئلتنا، أين معنى "أم" من معنى "بل"؟ فاسمع الآن فقه المسألة وسرِّها: اعلم أن ورود "أم" هذه على قسمين: أحدهما: ما يتقدمه استفهام صريح بالهمزة، وحكمها ما تقدَّم، وهو الأصل فيها والآخِيَّةُ (1) التي يرجع إليها ما خرج عن ذلك. والثاني: ورودها مبتدأة مجرَّدةً من استفهام لفظي سابق عليها، نحو قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف: 9] وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} (2) [التوبة: 16]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} [المؤمنون: 69]، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} (3) [الطور: 39] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} [الروم: 35]، وهو كثير جدًّا تجد فيه "أم" مبتدأ بها ليس قبلها استفهام في اللفظ، وليس هذا استفهام استعلام، بل تقريع وتوبيخ وإنكار وليس بإخبار (4) فهو إذا متضمن لاستفهام سابق، مدلول عليه بقوة الكلام وسياقه، ودلت "أم" عليه؛ لأنها لا تكون إلا بعد تقدم استفهام، __________ (1) الآخيّة هي: عروة الحبل تشدّ إليها الدابة، والمعنى: أنها الأصل المرجوع والمحتكم إليه. انظر: "اللسان": (14/ 23 - 24). (2) الآية ليست في (ظ، د). (3) الآية ليست في (ق). (4) "وليس بإخبار" ليست في (ق).

(1/358)


كأنه يقول: "أيقولون: صادق أم يقولون: شاعر؟ " وكذلك: أم يقولون: تَقَوَّله، أي: أتصدقونه أم تقولون: تَقَوَّله؟! وكذلك {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ}، أي أبلغك خبرهم أم حسبت أنهم من آياتنا عجبًا. وتأمل كيف تجد هذا المعنى باديًا على صفحات قوله تعالى: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] كيف تجد المعنى: أحَضَرَ أم كان (1) من الغائبين. وهذا يظهر كلَّ الظهور فيما إذا كان الذي دخلت عليه "أم" له ضد، وقد حصل الترددُ بينهما، فإذا ذُكِرَ أحدهما استُغْني به عن ذكر الآخر؛ لأن الضد يخطر بالقلب وهلة (2) عند شعوره بضده. فإذا قلت: ما لي لا أرى زيدًا أم هو في الأموات؟ كان المعنى الذي لا معنى للكلام (3) سواه: أحيٌّ هو أم في الأموات. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] معناه: أهو خير مني أم أنا خير منه. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدَّر في قوة الكلام. فإذا قلت: لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك (4) كان معناه: أحسبت أني أعاقبك فأقدمت على العقوبة، أم حسبت أني لا أعاقبك (5) فجهلتها. وكذلك قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ __________ (1) من قوله: "على صفحات ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ظ ود): "وهو". (3) (ق): "لك". (4) العبارة في (ق): "لم فعلت أم حسبت أني لا ... ". (5) من قوله: "كان معناه ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/359)


جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد فتكونوا جاهلين، أم لم تحسبوا ذلك فتكونوا مفرِّطين. وكذلك إذا قلت: أم حسبت أن تنال العلم بغير جدٍّ واجتهاد معناه: أحسبت أن تناله بالبطالة والهوينا فأنت جاهل، أم لم تحسب ذلك فأنت مفرِّط. وكذلك: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 21] أي: أحسبوا هذا فهم مغترون (1)، أم لم يحسبوه فما لهم مقيمون على السيئات. وعلى هذا سائر ما يَرِد عليك من هذا الباب. وتأمل كيف يذكر -سبحانه- القِسْم الذي يظنونه ويزعمونه، فينكره عليهم وأنه مما لا ينبغي أن يكون، ويترك ذكر القسم الآخر الذي لا يذهبون إليه فتردد الكلامُ بين قسمين، فيصرح بإنكار أحدهما وهو الذي سيق الكلام (2) لإنكاره، ويكتفي منه بذكر الآخر، وهذه (3) طريقة بديعة عجيبة في القرآن نذكرها في باب الأمثال وغيرها، وهي من باب الاكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم لدلالته عليه، فأحدهما مذكور صريحًا والآخر ضمنًا. ولذلك أمثلة في القرآن يُحْذف منها الشيء للعلم بموضعه، فمنها قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} {وَإِذْ فَرَقْنَا} {وَإِذْ جَعَلْنَا}، وهو كثير جدًّا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في "إذ"؛ لأن الكلام في سياق تَعْداد النعم وتكرار الأقاصيص، فيشير بالواو العاطفة إليها، كأنها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد. ولما خفي هذا على بعض ظاهرية __________ (1) تحرفت في (ق) إلى: "مقرون". (2) من (ق). (3) في الأصول: "وهذا".

(1/360)


النحاة قال إن "إذ" زائدة هنا، وليس كذلك. ومن هذا الباب "الواو" المتضمِّنة معنى "رُبَّ"، فإنك تجدها في أول الكلام كثيرًا إشارة منهم إلى تَعْداد المذكور بعدها (1) من فخر أو مدح أو غير ذلك. فهذه كلها معان مضمرة في النفس، وهذه الحروف عاطفة عليها، وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود: "دَعْ ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك" (2). ومن هذا الباب حذف كثير من الجوابات في القرآن لدلالة "الواو" عليها لعلم المخاطب أن "الواو" عاطفة، ولا يُعْطف بها إلا على شيء كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وهو كثير (3) وهذا الباب واسع في اللغة. فهذا ما في هذه المسألة، وكان قد وقع لي هذا بعينه أيام (4) المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضربُ عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيته بعدُ لفاضلين من النحاة؛ أحدهما: حامَ حوله وما وَرَدَ، ولا أعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السهيلي -رحمه الله- فإنه كَشَفَه وصرَّح به (5)، وإذا لاحت الحقائق؛ فكن أسعد الناس بها وإن جفاها الأغمار!! والله الموفق للصواب. __________ (1) كذا بالأصول ونسخ "النتائج" واستظهر محققه أنها: "قبلها". (2) ورد بمعناه أحاديث مرفوعة عن جماعة من الصحابة، عن أبي أمامة، ووابصة ابن معبد، والنواس بن سمعان. (3) "وهو كثير" ليست في (ظ ود). (4) (ظ ود): "أمام". (5) في كتابه "نتائج الفِكر"، وقد تقدم العزو إليه.

(1/361)


فائدة بديعة (1) لا يجوز إضمار حرف العطف، خلافًا للفارسي ومن تبعه، لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم، فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يُسفر له عما في نفس مُكَلِّمه. وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والتمنِّي والترجي والتمني (2) وغيرهما، اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن؛ لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر، وهذا على ما قلته. فإن قيل: فكيف تصنعون بقول الشاعر: كَيْفَ أَصْبَحْتَ كَيْفَ أَمْسَيْتَ مِمَّا ... يُثْبِتُ الوُدَّ فِيْ فُؤادِ الكَرِيْمِ (3) أليس على إضمار حرف العطف، وأصله: كيف أصبحت وكيف أمسيت. ؟. قيل: ليس كذلك، وليس حرف العطف مرادًا هنا ألبتة، ولو كان مرادًا لانتقض الغرض الذي أراده الشاعر؛ لأنه لم يُرِد انحصار الوُد في هاتين الكلمتين من غير مواظبة عليهما، بل أراد [أن] تكرار هاتين الكلمتين دائمًا يُثبت المودة، ولولا حذف "الواو" لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة الكلام (4) ولا استمرار عليه، ولم يُرِد الشاعرُ ذلك، وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائر الباب، يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه، كما تقول: __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 263). (2) (ظ ود): "والنهي والزجر" وهو تحريف. (3) لا يعرف قائله، انظره في "الخصائص": (1/ 290) لابن جني. (4) من قوله: "عليهما، بل ... " إلى هنا ساقط من (د).

(1/362)


قرأت "ألفًا باءً"، جعلت هذه الحروف ترجمةً لسائر الباب (1) وعنوانًا للغرض المقصود. ولو قلتَ: قرأت "ألفًا وباءً"، لأشعرتَ بانقضاء المقروء حيث عطفتَ "الباء" على "الألف" دونَ ما بعدها (2) فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين. وأحسنُ من هذا أن يقال: دخول الواو هنا يفسد المعنى؛ لأن مراده هنا أن هذا اللفظ وحده يثبت الودّ، وهذا وحده يثبته بحسب اللقاء، فأيهما وجد مقتضيه وواظب عليه أثبت الودَّ ولو أدخل الواو لكان لا يثبت الودُّ إلا باللفظين معًا. ونظير هذا أن تقول: أطعم فلانًا شيئًا فيقول: ما أطعمه؟ فتقول: أطعمه تمرًا أقطًا زبيبًا لحمًا، لم تُرد جمع ذلك، بل أردت: أطعمه واحدًا من هذه أيها تيسَّر. ومنه الحديث الصحيح المرفوع (3): "تصدق رجلٌ من دِيْنَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ" (4)، ومنه قول عمر: "صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء في سراويلَ ورداء في تبَّان ورداء ... " الحديث (5)، يتعين ترك العطف في هذا كله لأنَّ المراد الجمع. فإن قيل: فما تقولون في قولهم: "اضرِب زيدًا عمرًا خالدًا"، أليس على حذف الواو؟ __________ (1) من قوله: "يريد الاستمرار ... " إلى هنا ساقط من (ظ، ود). (2) من قوله: "ولو قلت ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) "الصحيح" من (ق)، و"المرفوع" من (ظ ود). (4) قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم رقم (1017) وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-. (5) تقدم ص / 180.

(1/363)


قيل: ليس كذلك؛ إذ لو كان على تقدير الواو لاختص الأمر بالمذكورين ولم يعدهم إلى سواهم، وإنما المراد الإشارة بهم إلى غيرهم، ومنه قولهم: "بوَّبتُ [الكتاب] (1) بابًا بابًا، وقسمت المال درهمًا درهمًا"، ليس على إضمار حرف العطف، ولو كان كذلك لانحصر الأمر في "درهمين وبابين". وأما ما احتجُّوا به من قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]، فقالوا على إضمار الواو، والمعنى والتقدير: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت: لا أجد (2) والذي دعاهم إلى ذلك أن جواب "إذا" هو قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92]. والمعنى: إذا أتوك ولم يكن عندك ما تحملهم عليه تولَّوا يبكون، فيكون الواو في "قلت" مقدَّرة؛ لأنها معطوفة على فعل الشرط وهو "أتوك"، هذا تقرير احتجاجهم ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ جواب "إذا" في قوله: "قلت لا أجد"، والمعنى: إذا أتوك لتحملهم لم يكن عندك ما تحملهم عليه، فعبر عن هذا بقوله: {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] لنكتة بديعة، وهي الإشارة إلى تصديقهم له، وأنهم اكتفوا من علمهم بعدم الإمكان بمجرد إخباره لهم بقوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} بخلاف ما لو قيل: لم يجدوا عندك ما تحملهم عليه، فإنه يكون سبب (3) حزنهم خارجًا عن إخباره. وكذلك لو قيل: لم تجد ما تحملهم عليه، لم يؤدِّ هذا المعنى، فتأمله فإنه بديع. __________ (1) في الأصول: "الحساب"، والمثبت من "النتائج". (2) من قوله: "فقالوا على ... " إلى هنا ساقط من (ق ود). (3) (ظ ود): "تبيين".

(1/364)


فإن قيل: فبأيِّ شيءٍ يرتبط قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ}، وهذا عطف على ما قبله فإنه ليس بمستأنف؟ فالجواب: أن ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو، وتأمل مثل هذا في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2] كيف لم يعطف فعل القول بأداة عطف لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} فجرى مجرى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68 - 69] فلما كان مضاعفة العذاب بدلًا وتفسيرًا لـ "لأثام" لم يحسن عطفه عليه. وزعم بعض الناس (1) أن من هذا الباب قول عمر -رضي الله عنه- في الحديث الصحيح: "لا يَغُرَّنَّكَ هذه التي أَعْجَبَهَا حُسْنُها حبُّ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " (2) لها فقال: "المعنى أعجبها حُسنُها وحُبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها"، وليس الأمر كذلك، ولكن قوله: "حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (3) بدل من قوله: "هذه" وهو من بدل الاشتمال، والمعنى: "لا يغرنك حبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه التي قد أعجبها حسنها". ولا عطف هناك ولا حذف (4)، __________ (1) هو: أبو القاسم بن الأبرش، أحد شيوخ السُّهيلي، وقد أشار إلى قوله هذا في "النتائج": (ص/ 264)، ولم يُسمِّه، وانظر: "الأمالي": (ص/ 101). (2) أخرجه البخاري رقم (2468)، ومسلم رقم (1479) من حديث عمر- رضي الله عنه-. (3) من قوله: "لها" فقال ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (4) أجاب الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (9/ 193)، بأنه قد ثبت في بعض الروايات حرف العطف -الواو- فيتأيد كلام الأبرش.

(1/365)


وهذا واضح بحمد الله. فائدة بديعة (1) "كل" لفظ دال على الإحاطة بالشيء، وكأنه من لفظ الإكليل والكَلَالَة والكِلَّة (2) مما هو في معنى الإحاطة بالشيء، وهو اسم واحد في لفظه جمعٌ في معناه؛ ولو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمعُ؛ لأن التوكيد تكرار للمؤكَّد فلا يكون إلا مثله، إن كان جمعًا فجمع، وإن كان واحدا فواحد. وحقه أن يكون مضافًا إلى اسم منكر شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة، فإن أضفته إلى معرفةٍ، كقولك: "كل إخوتك ذاهب"، قَبُح إلا في الابتداء؛ لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبرُه بلفظ الإفراد، تنبيهًا على أن أصله أن يضاف إلى نكرة؛ لأن النكرة شائعة في الجنس، وهو أيضا يطلب جنسًا يحيط به، فإما أن تقول (3): كلُّ واحدٍ من إخوتك ذاهب، فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل، وهو إضافته إلى اسم مفرد نكرة. فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة مُعَرَّفة، كقولك: رأيتُ كل إخوتك، وضربتُ كلَّ القوم، لم يكن في الحُسن بمنزلة ما قبله؛ لأنك لم تُضِفْه إلى جنس، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم: كلهم ذاهب، وكل القوم __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 276). (2) "الكلالة" سقطت من (ظ ود). والإكليل هو: التاج، والكلالة: من لا والد له ولا ولد، والكِلَّة: ستر رقيق يخاط كالبيت. (3) كذا بالأصول ومخطوطات "النتائج"، ولعل صواب العبارة: "فكأنما تقول".

(1/366)


عاقل، فإن أضفته إلى جنس مُعَرَّف باللام، نحو قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} حَسُنَ ذلك؛ لأن اللام للجنس لا للعهد، ولو كانت للعهد لَقَبُحَ كما لو (1) قلتَ: خذ من كلِّ الثمرات التي عندك؛ لأنها إذا كانت جملة معَرَّفة معهودة، وأردت معنى الإحاطة فيها، فالأحسن أن تأتىِ بالكلام على أصله، فتؤكد المعرفة بـ "كل"، فتقول: خد من الثمرات التي عندك كلها؛ لأنك لم تضطر إلى (2) إخراجها عن (3) التوكيد كما اضطُرِرْتَ في النكرة حين قلتَ: لقيتُ كلَّ رجل؛ لأن النكرة لا تؤكد، وهي -أيضًا- شائعة في الجنسِ كما تقدَّم. فإن قيل: فإذا استوى الأمران، كقولك: كُلْ من كل الثمرات، وكُلْ من الثمرات كلِّها، فلم اختص أحدُ النظمين بالقرآن في موضع دون موضع؟. قيل: هذا لا يلزم؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ فصيح، ولكن (4) لابُدَّ من فائدة في الاختصاص. أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، ف "مِنْ" هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف، إنما يُريد الثمرات بأنفسِها، إلا أنه أخرج منها شيئًا، وأدخل "من" لبيان الجنس كلِّه، ولو قال: أخرجنا به من الثمراتِ كلِّها، لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف، وأن مفعول {فَأَخْرَجْنَا} فيما بعد، ولم يُتوهَّم ذلك مع تقديم "كل" لعلم __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) (ظ ود) و "النتائج": "عن". (3) (ق): "إلى". (4) ليست في (ق).

(1/367)


المخاطبين (1) أن "كلًّا" إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت -وكانت توكيدًا- اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسًا شائعًا كان أو معهودًا معروفًا. وأما قوله تعالى: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] ولم يقل: من الثمرات كلها، ففيها الحكمة التي في الآية قبلها، ومزيد فائدة وهو أنه [قد] (2) تقدمها في النظم قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ} [النحل: 67]، فلو قال بعدها: "كلي من الثمرات كلها"، لذهب الوهم إلى (3) أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا، أعني {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ}؛ لأن [الألف و] اللام إنما تنصرف إلى المعهود، فكان الابتداء بـ "كل" أحصن للمعنى، وأجمع للجنس، وأرفع للبس، وأبدعَ في النظم، فتأمله. وإذا قُطعت عن الإضافة وأُخبر عنها؛ فحقُّها أن تكون ابتداءً، ويكون خبرها جمعًا، ولابدَّ من مذكورين قبلها؛ لأنها إن لم يُذكر قبلها جملة ولا أُضِيْف إلى جملة (4) بَطل معنى الإحاطة فيها، ولم يُعقل لها معنى. وإنما وجب أن يكون خبرها جمعًا؛ لأنها اسم في معنى الجمع فتقول: "كل ذاهبون" إذا تقدم ذكر قوم؛ لأنك معتمد في المعنى عليهم، وإن كنت مخبرًا عن "كل"، فصارت بمنزلة قولك: الرهط ذاهبون، والنفر منطلقون، لأن الرهط والنفر اسمان مفردان، ولكنهما في معنى الجمع والشاهدُ لما قلناه قوله سبحانه وتعالى: __________ (1) "لعلم المخاطبين" سقطت من (د). (2) من "النتائج"، و (ق): "إذا". (3) من نص الآية إلى هنا ساقط من (ق). (4) "ولا أضيفت إلى جملة، ساقط من (ق).

(1/368)


{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54]، وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ، لم تجد خبرها إلا مفردًا، للحكمة التي قدمناها قَبْلُ، وهي: أن الأصلَ إضافتُها إلى النكرة المفردة، فتقول: كلُّ إخوتك ذاهب، أي كلُّ واحد منهم ذاهب، ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلتَ: كلٌ ذاهبون؛ لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها، وعلى ما في معناها من معنى الجمع، واعتمادها إذا أضفتها على الاسم المفرد، إما لفظًا وإما تقديرًا؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُم مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِه" (1) ولم يقل: "راعون ومسئولون ". ومنه: "كلُّكم سَيَرْوَى" (2). ومنه قول عمر: "أو كلكم يجد ثوبين" (3)، ولم يقل تجدون، ومثله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وقال تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] فجمع، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93]. فإن قيل: فقد ورد في القرآن {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} وهذا يناقض ما أَصَّلتم. قيل: إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره؛ أما قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}؛ فلأن __________ (1) أخرجه البخاري رقم (893)، ومسلم رقم (1829) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (2) قطعة من حديث طويل يرويه أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أخرجه مسلم رقم (681). (3) تقدم ص / 180.

(1/369)


قبلها ذكر فريقين مختلفين، ذكر مؤمنين وظالمين، فلو قال: "يعملون"، وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على المراد، كأنه يقول: كل فريق (1) فهو يعمل على شاكلته. وأما قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ}؛ فلأنه ذكر قرونًا وأممًا، وختم ذكرهم بذكر قوم تُبَّع، فلو قال: كلٌ كذبوا. و" كل" إذا أفردت إنما تعتمد (2) على أقرب المذكورين إليها، فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تُبَّع خاصة؛ أنهم كذبوا الرسل، فلما قال: {كُلٌّ كَذَّبَ} علم أنه يريد كل فريق منهم (3) لأن إفراد الخبر عن "كل" حيث (4) وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم. ومثله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285]. وأما قولنا في "كل" إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة، فإنما نريد أنها مبتدأة يخبر عنها أو مبتدأة باللفظ منصوبةً بفعل بعدها لا قبلها، أو مجرورة يتعلَّق خافضها بما بعدها نحو: {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]، وقول الشاعر (5): *بكُلٍّ تَدَاوَيْنا ... * ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت مفردة، كقولك: "ضربتُ كُلًّا" و"مررتُ بكلٍّ" وإن لم يقبح: "كلَّا ضربت"، و"بكل مررت"، __________ (1) (ظ ود): "فهو". (2) (ظ ود): "تعمل". (3) العبارة في "النتائج": " ... أنه يريد كل قرن منهم كذّب". (4) سقطت من (ظ ود). (5) هو: عبد الله بن الدمينة، والبيت في "ديوانه": (ص / 82). وتمامه: بكلٍّ تَدَاوَيْنَا فلَمْ يَشْفِ مَا بِنا ... على أَنَّ قُرْبَ الدار خيرٌ مِن البُعْدِ

(1/370)


من أجل أن تقديم العامل عليها يقطعها عن المذكور قبلها في اللفظ؛ لأن العامل اللفظي له صدر الكلام، وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيءٌ تعتمدُ عليه قبلها ولا بعدها، فقَبحَ ذلك. وأما إذا كان العامل معنويًّا، نحو: "كلّ ذاهبون"، فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين؛ لأنه لا وجود له في اللفظ، فإذا قلتَ: "ضربتُ زيدًا وعَمرًا وخالدًا "، و"شتمتُ كُلاّ"، و"ضربتُ كُلاّ"، لم يجز ولم يعد بخبر لما قدمناه. إذا عرفت هذا؛ فقولك: "كلُّ إخوتك ضربت"، سواء رفعت أو نصبت يقتضي وقوع الضرب بكلِّ واحد منهم، وإذا قلت: "كل إخوتك ضربني"، يقتضي -أيضًا- أنَّ كلَّ واحد واحد منهم ضربك. فلو قلت: "كل إخوتك ضربوني، وكل القوم جاؤوني"، احتمل ذلك، واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجئ؛ لأنك أخبرتَ عن جملتهم بخبر واحد واقع عن الكلية (1)، بخلاف قولك: "كل إخوتك جاءنى"، فإنما هو إخبار عن كل واحد واحد (2) منهم، وأن الإخبار بالمجيء، عم جميعهم، فتأمل على هذا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] كيف أفردَ الخبرَ؛ لأنه لم يُرِد اجتماعهم فيه. وقال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فجمع لما أريد الاجتماع في المجيء، وهذا أحسن مما تقدَّم من الفرق، فتأمله. ولا يرد على هذا قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ __________ (1) (ظ ود): "الكلمة"، و"المنيرية": "الجملة". (2) "واحد" الثانية سقطت من (ق ود)

(1/371)


قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، بل هو تحقيق له وشاهد، لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض لا يختص بها بعضهم عن بعض، ولا يختص بزمان دون زمان، وهي عبودية القهر. فالقنوت هنا قنوت قهر وذل لا قنوت طاعة ومحبة، وهذا بخلاف قوله تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فإنه أفرد لما لم يجتمعوا في الفناء. ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " (1)، فإن الله يسأل كلَّ راعٍ بمفرده. ومما جاء مجموعًا لاجتماع الخبر قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] وما أفرد لعدم اجتماع الخبر قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 12 - 14] فأفرد لمَّا لم يجتمعوا في التكذيب. ونظيره في سورة ق: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدٍ} [ق: 14] وتأمَّل كيف كشف قناعَ هذا المعنى وأوضحه كلَّ الإيضاح بقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 95]، كيف أفرد "آتيه" لما كان المقصود الإشارة إلى أنهم -وإن أتوه جميعًا- فكلُّ واحد منهم منفرد عن كل فريق من صاحب أو قريب أو رفيق، بل هو وحده منفرد، فكأنه إنما أتاه وحدَه، وإن أتاه مع غيره؛ لانقطاع تبعيته للغير وانفراده بشأن نفسه، فهذا عندي أحسن من الفرق بالإضافة وقطعها. والفرقُ بذلك فَرْقُ السُّهيليِّ، فتأمل الفرقين، واستَقْرِ الأمثلة والشواهدَ. __________ (1) تقدَّم ص / 369.

(1/372)


فصل (1) وأما مسألة: "كلُّ ذلك لم يكن"، و "لم يكن كل ذلك"، و "لم أصنع كلَّه"، و"كلُّه لم أصنعه"؛ فقد أطالوا فيها القولَ وفرَّقوا بين دلالتي الجملة الفعلية والاسمية، وقالوا: إذا قلتَ: "كل ذلك لم يكن"، و"كله لم أصنعه"؛ فهو نفي للكل بنفي كلِّ فردٍ من أفراده فيناقض الإيجاب الجزئي وإذا قلت: "لم أصنع الكلَّ" و "لم يكن كل ذلك"؛ فهو نفي للكُلِّية دون التعرُّض لنفي الأفراد، فلا يناقضه الإيجاب الجزئي، ولا بد من تقرير مقدمة تُبْنى عليها هذه المسألة وأمثالها، وهي: أن الخبرَ لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ، بل يجوز أن يكون أعم منه ومساويًا له؛ إذ لو كان أخص منه لكان ثابتًا لبعض أفراده، ولم يكن خبرًا عن جملته، فإن الأخص إنما يثبت لبعض أفراد الأعم. وأما إذا كان أعم منه، فإنه لا يمتنع؛ لأنه يكون ثابتًا بجملة أفراد المبتدأ وغيرها، وهذا غير ممتنع. فإذا عرف ذلك، فإذا كان المبتدأ لفظة "كل" الدال على الإحاطة والشمول، وجب أن يكون الخبر المثبت حاصلًا لكلِّ فردٍ من أفراد "كل"، والخبر المنفي مثبتًا عن كلِّ فرد من أفراده، سواء أضفت "كلَّا" أو قطعتها عن الإضافة، فإن الإضافة فيها مَنْويَّة معنىً وإن سقطت لفظًا، فإذا قلت: "كلهم ذهب" و"كلكم سَيَروَي" أو: "كل ذهب" و "كل سَيَروَى" (2) عمَّ الحكمُ أفرادَ المبتدأ، فإذا كان الحكم (3) سلبًا، نحو: "كلُّهم لم يأتِ، وكلُّ __________ (1) (د): "فائدة". (2) "كل ذهب وكل سيروى" سقطت من (ق). (3) " أفراد المبتدأ، فإذا كان الحكم" ساقط من (د).

(1/373)


لم يقم" (1)، ولهذا يصح مقابلته بالإيجاب الجزئي، نحو (2): قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل: "أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: - "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، فقال ذو اليدين: بلى، قد كان بعض ذلك" (3). ومن هذا ما أنشده سيبويه (4): قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيارِ تَدَّعي .. عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُهُ لم أَصْنَعِ أنشده برفع "كل" واستقبَحَه لحذف الضمير العائد من الخبر، وغير سيبويه يمنعه مطلقًا وينشدُ البيت منصوبًا، فيقول كلَّه لم أصنع، والصواب: إنشادُه بالرفع محافظةً على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدَّح به عند أم الخيار، ولو كان منصوبًا لم يحصل له مقصوده من التَّمدُّح بأنه لم يفعل ذلك الذنب ولا شيئًا منه، بل يكون المعنى: لم أفعل كلَّ الذنب بل بعضه، وهذا ينافي غَرَضَه. ويشهد لصحة قول سيبويه: قراءة ابن عامر (5) في سورة الحديد: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، فهذا يدلُّ على أن حذف العائد جائز وأنه غير قبيح. ومن هذا على أحد القولين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من {يَسْتَعْجِلُ}، وتقديره: يستعجله منه __________ (1) كأن الكلام بقية، فلعلَّ هناك سقط. (2) "الجزئي" سقطت من (ق)، و "نحو" من (ظ ود). (3) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) في "الكتاب": (1/ 44، 69) وهو لأبي النجم العجلي. (5) (ظ ود): "ابن عباس" والصواب ما في (ق) فابن عامر وحده قرأ برفع "كل"، انظر: "المبسوط في القراءات العشر": (ص/ 362) للأصبهاني.

(1/374)


المجرمون، وكما يحذف من الصِّلة والصفة والحال إذا دلَّ عليه دليل، ودعوى قُبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها. وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر. والمقصود: أن إنشادَ البيت بالنصب محافظةً على عدم الحذف إخلالٌ (1) شديدٌ بالمعنى. وأما إذا تقدم النفي وقلت: "لم أصنع كله ولم أضرب كلهم"، فكأنك لم تتعرَّض للنفي عن كل فردٍ فردٍ، وإنما نفيت فعل الجميع ولم تنفِ فعل البعض، ألا ترى أن قولك: "لم أصنع الكلَّ" مناقض لقولك: "صنعتُ الكلَّ"، والإيجاب الكلِّي يناقضه السلب الجزئي، ألا ترى إلى قولهم: "لم أُرِد كلَّ هذا" فيما إذا فعل ما يريده وغيره، فتقول: "لم أُرِد كلَّ هذا" ولا يصح أن تقول: "كلُّ هذا لم أرده"، فتأمله، فهذا تقرير هذه المسألة، وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعِبْ القليل الفائدة. فصل (2) واعلم أن "كلًّا "من ألفاظ الغَيبة، فإذا أضفته إلى المخاطبين، جاز لك أن تُعِيدَ الضَّميرَ عليه بلفظ الغَيبة مراعاةً للفظه، وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاةً لمعناه، فتقول: كلُّكم فعلتم، وكلُّكم (3) فَعَلوا. فإن قلت: "أنتم كلُّكم فعلتم"، أو "أنتم (4) كلُّكم بينكم درهم"، فإن جعلت "أنتم" مبتدأ، و "كلكم" تأكيدًا، قلت: أنتم كلكم فعلتم __________ (1) في الأصول: "وإخلال". (2) (د): "فائدة". (3) "فعلتم، وكلكم" ساقط من (د). (4) (ظ ود): "أرأيتم".

(1/375)


وبينكم درهم، لتطابق المبتدإ، وإن جعلت "كلكم" مبتدأ ثانيًا جاز لك وجهان: أحدهما: أن تقول "فعلوا وبينهم درهم"، مراعاة للفظ كُلُّ، وأن تقول: "فعلتم وبينكم درهم"، حَمْلًا على المعنى؛ لأن "كُلًا" في المعنى للمخاطبين. فائدة (1) اختلف الكوفيون والبصريون في "كلا" و "كلتا"؛ فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الاثنين، فيجوز عَوْد الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر، ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل، وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم. ولهم حجج؛ منها: أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة، والمثنَّى ليس كذلك، وأما انقلابها ياء مع المضمر (2) فلا يدل على أنها ألف تثنية كألف "على وإلى ولدى". هذا قول الخليل وسيبويه (3) واحتجوا -أيضًا- بقولهم: "كِلاهما ذاهب"، دون "ذاهبان"، وسيبويه لم يحتج بهذه الحجة لما تقدم من أنك إذا أضفت (4) لفظ "كل" أفردت خبره، مع كونه دالًا على الجمع حملًا على المعنى؛ لأن قولك: "كُلُّكُم راع" بمنزلة كل واحد منكم راع، فكذا قولك: كلاكما قائم، أي: كلُّ واحد منكما قائم. فإن قيل: بل أفرد الخبر عن "كُل وكِلا"؛ لأنهما اسمان مفردان. __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 281). (2) (ظ ود): "الضمير". (3) انظر: "الكتاب": (2/ 104 - 105). (4) (ق): "أضفت كلًا".

(1/376)


قيل: هذا يبطل بتوكيد الجمع والتثنية بهما، وكما لا يُنعت الجمع والمثنى بالواحد، فكذلك لا يؤكد به بطريق الأولى؛ لأن التوكيد تَكْرار للمؤكد بعينه، بخلاف النَّعت فإنه غيره (1) بوجه. والمعول عليه لمن نصر مذهب سيبويه على الحجة الأولى، على ما فيها وعلى معارضتها بتوكيد الاثنين، و"كلا" والمثنى لا يؤكد بالمفرد كما قررناه. فإن قيل: الجواب عن هذا أن "كلا" اسم للمثنى، فحسن التوكيد به وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله، وهو المقصود من الكلام فلا يضر إفراد اللفظ. قيل: هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدًا ومعناه جمعًا؛ نحو: كل، وأسماء الجموع كرهط وقوم؛ لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف، فمذكر ومؤنث ومُسَلَّم ومكسر، على اختلاف ضروبه، وما لفظه على لفظ واحِدِه، كما تقدَّم بيانه، فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردًا ومعناه جمعًا، وأما التثنية فلم تختلف قط، بل لزمت طريقة واحدة أين وقعت، فبعيد جدًّا بل ممتنع أن يكون منها اسم مفرد معناه مثنى، وليس معكم إلا القياس على الجمع. وقد وضحَ الفرقُ بينهما، فتعيَّن أن تكون "كلا" لفظًا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر؛ لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه، لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول؛ واحد لأن "كلا" هو نفس ما يضاف إليه، بخلاف قولك: "ثوبا الرجلين، وفرسا الزيدين"، فلو قلت: "مررت __________ (1) (ظ): "عنه" و "المنيرية": "عينه"، وسقطن من (د).

(1/377)


بكلي الرجلين"، جمعتَ بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأنهما لا ينفصلان أبدًا، ولا تنفك "كِلا" هذه عن الإضافة بحال، ألا ترى كيف رفضوا: "ضربت رأسي الزيدين"، وقالوا: رؤوسهما، لمَّا رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرًا، وكذلك القلوب من قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة، فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا تنفك عنه؛ فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف في جميع الأحوال (1) وكان هذا أحسن من إلزام طيِّيء وخَثْعَم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألفَ في كلِّ حال (2) نحو: الزيدان والعمران، فإذا أضافوه إلى الضمير (3) قلبوا ألفه في النصب والجر؛ لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب ولا يثنَّى بالياء، ولكنه أبدًا بالألف، فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى، وإن كان سيبويه المعظَّم المقدَّم في الصناعة فمأخوذ من قوله ومتروك. ومما يدل على صحة هذا القول أن "كِلا" يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ "كُل"، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه، وأما اللام فمحذوفة كما حُذِفت في كثير من الأسماء، فمن ادعى أن "لام" الفعل "واو"، وأنه (4) من غير لفظ "كل" فليس له دليل يعضده، ولا اشتقاق يشهد له. __________ (1) (ظ ود): "على كل حال". (2) (ق): "الأحوال". (3) في "النتائج": "المضمر". (4) (ق): "وأدواته" وهو تحريف.

(1/378)


فإن قيل: فلِمَ رجعَ الضمير إليها بلفظ الإفراد إذا كانت مثناة؟. قيل: لما تقدم من رجوع الضمير على "كل" كذلك، إيذانًا بأن الخبر عن كل واحد واحد، فكأنك قلتَ: كل واحد من الرجلين قام. وفيه نكتة بديعة، وهي: أن عَوْد الضمير بلفظ الإفراد أحسن؛ لأنه يتضمَّن صدور الفعل عن كل واحد، منفردًا به ومشاركًا للآخر. فإن قيل: فلم كُسِرت الكاف من "كِلا" وهي من "كل" مضمومة؟. قيل: هذا لا يلزمهم؛ لأنهم لم (1) يقولوا: إنها لفظة "كل" بعينها، ولهم أن يقولوا: كُسِرت تنبيهًا على معنى الاثنين، كما يبتدأ لفظ (2) الاثنين بالكسر، ولهذا كسروا العين من "عِشرين" إشعارًا بتثنية "عشر". ومما يدل على صحة هذا القول -أيضًا- أن "كِلتا" بمنزلة قولك: "ثِنتا"، ولا خلاف أن ألف "ثنتا" ألف تثنية، فكذلك ألف "كِلتا". ومن ادعى أد الأصل فيهما "كلواهما" فقد ادعى ما تستبعده العقول، ولا يقوم عليه برهان. ومما يدل -أيضًا- على صحته: أنك تقول في التوكيد: "مررتُ بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم"، فتؤكد بالعدد، فاقتضى القياس أن تقول -أيضًا- في التثنية كذلك: "مررت بأخويك (3) اثنيهما"، فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه، وإذا كان كذلك فهو مثنى مثله. فإن قيل: فإنك تقول: "كلا أخويك جاء"، ولا تقول: "أثنا أخويك جاء"، فدل على أنه ليس في معناه؟. __________ (1) سقطت من (ق). (2) (ق): "يفيد اللفظ". (3) من قوله: "ثلاثتهم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/379)


قيل: العدد الذي يؤكد به إنما يكون تأكيدًا مؤخرًا تابعا لما قبله، فأما إذا قُدِّم لم يجز ذلك؛ لأنه في معنى الوصف، والوصف لا يُقدَّم على الموصوف، فلا تقول: "ثلاثة إخوتك جاءوني"، وهذا بخلاف "كل وكِلا وكِلتا"؛ لأن فيها معنى الإحاطة، فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده، فَحَسُن تقديمهما في حال الإخبار عنهما، وتأخيرهما في حال التوكيد، فهذا قوة (1) هذا المذهب كما ترى. فائدة (2) لا يؤكَّد بـ "أجمع" الفرد مما يعقل؛ ولا ما حقيقته لا تتبعَّض، وهذا إنما يؤكد به ما يتبعَّض كجماعة من يعقل فجرى مجرى "كل". فإن قيل: فقد تقول: رأيت زيدًا أجمع، إذا رأيته بارزًا من طاق ونحوه. قيل: ليس هذا توكيدًا في الحقيقة لزيد؛ لأنك لا تريد حقيقتَه و"ذاتَه وإنما تريد به ما تُدْرك العينُ منه. و"أجمع" هذه اسم معرفة بالإضافة، وإن لم يكن مضافًا في اللفظ؛ لأن معنى: قبضتُ المَال أجمع، أي كلَّه، فلما كان مضافًا في المعنى تعرَّف ووكِّد به المعرفة، وإنما استغنوا عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه، ولم يستغن عن لفظ المضاف [إليه] مع "كل" إذا قلت: قبضتُ المالَ كلَّه؛ لأن "كلا" تكون توكيدًا وغير توكيد، وتتقدم في أول الكلام، نحو "كلكم ذاهب" فصار بمنزلة "نفسه" و"عينه"؛ لأن كل واحد منهما يكون توكيدًا وغير توكيد، فإذا أكدته __________ (1) (ظ ود): "في". (2) "نتائج الفكر": (ص/ 286).

(1/380)


لم يكن بُدٌّ من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يُعْلم أنه توكيد، وليس كذلك "أجمع"؛ لأنه لا يجيء إلا تابعًا لما قبله، فاكتفى بالاسم الظاهر المؤكد (1) واستغنى به عن التصريح بضميره، كما فعل بـ "سحر" حين أردته ليوم بعينه، فإنه عُرِّف بمعنى الإضافة، وأستغني عن التصريح بالمضاف إليه اتكالًا على ذكر اليوم قبله. فإذا قيل: وَلمَ لَمْ تُقَدَّم "أجمع" كما قُدِّم "كل"؟. فالجواب (2): أن فيه معنى الصفة؛ لأنه مشتق من "جمعت" فلم يقع إلَّا تابعا (3)، بخلاف "كل". ومن أحكامه أنه، يُثنَّى و، يُجمع على لفظه؛ أما امتناع تثنيته، فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض (4)، فلو ثنيته لم يكن في قولك: "أجمعان" توكيد لمعنى التثنية، كما في "كليهما "؛ لأن التوكيد تكرار لمعنى المؤكَّد (5)، إذا قلت: درهمان، أفدت أنهما اثنان، فإذا قلت: كلاهما، كأنك قلت: اثناهما، ولا يستقيم ذلك في: "أجمعان"؛ لأنه بمنزلة من يقول: أَجْمع وأَجْمع، كالزيدان بمنزلة: زيد وزيد، فلم يفدك "أجمعان" تكرار معنى التثنية، وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف "كلاهما"؛ فإنه ليس بمنزلة قولك: كل وكل، وكذلك "اثناهما" المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيهما: اثن واثن، فإنما هي تثنية لا تنحلُّ ولا تنفرد، فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها، فلا __________ (1) من قوله: "حتى يعلم ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ظ): "قيل: الجواب"، (د): "ولكل جواب". (3) (ظ ود): "فلم يكن يقع تابعًا"! (4) "النتائج": "لتوكيد الاسم المفرد الذي يتبعَّض"، وسقطت "يتبعض" من (ظ ود). (5) (ظ ود): "المعنى المذكور".

(1/381)


ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه، لئلاَّ يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو، وهذه عِلَّة امتناع الجمع فيه؛ لأنك لو جمعته كان جمعًا لواحد من لفظه، ولا يؤكِّد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد. فإن قيل: هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين، فإن واحِدَه أجمع وأكتع؟ قيل: سيأتي جوابه، وإن شئت قلت: إن أجمع في معنى "كل"، و"كل" لا يُثنى ولا يجمع، إنما يُثَنَّى ويجمع الضمير الذي يضاف إليه "كل". وأما قولهم في تأنيثه: جمعاء؛ فلأنه أقرب إلى باب "أحمر" و"حمراء" من باب "أفضل" و"فُضْلى"، فلذلك لم يقولوا في تأنيثه: "جُمْعى (1) " كـ "كُبْرى"، ودليل ذلك أنه لا يدخله الألف واللام، ولا يُضاف صريحًا، فكان أقرب إلى باب "أفعل" و" فعلاء" وإن خالفه في غير هذا. وأما "أجمعون وأكتعون" فليس بجمع لـ "أجمع وأكتع"، ولا واحد له من لفظه، وإنما هو لفظ وضع لتأكيد الجمع بوزن: ياسمين، وبمنزلة: "أبَينون" تصغير "الأبناء" فإنه جمع مُسَلّم ولا [واحد] (2) له من لفظه (3). والدليل على ذلك: أنه لو كان واحد "أجمعين" أجمع، لما قالوا في المؤنث جُمَع، لأن "فُعَل" -بفتح العين- لا يكون واحده __________ (1) من قوله: "فلأنه أقرب ... " إلى هنا ساقطة من (د). (2) (ق): "حد"، والتصويب من "النتائج". (3) من قوله: "وإنما هو لفظ ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/382)


فعلاء. و"جمعاء" التي هي مؤنث أجمع لو جُمِعَت لقيل: جمعاوات، أو جُمْع -بوزن حُمْر- وأما فُعَل بوزن كٌبَر فجمع لفُعْلى (1). وإنما جاء "أجمعون" على بناء "أكرمون وأرذلون"؛ لأن فيه طرفًا من معنى التفضيل كما في: "الأكرمين والأرذلين"، وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها، فإن كَثُر العدد احتج إلى كثرة التوكيد، حرصًا على التحقيق ورفعًا للمجاز، فإذا قلت: جاء القوم كلُّهم، وكان العدد كثيرًا، تُوُهِّم أنه قد شذ منهم البعض، فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول، فقالوا: أجمعون أكتعون، فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله، دخله معنى التفضيل، ومن حيث دخله معنى التفضيل (2) جُمِع جَمْع السلامة، كما يجمع "أفعل" الذي فيه ذلك المعنى جمع السلامة كأفضلون، ويجمع مؤنثه على "فُعَل" كما يجمع مؤنث ما فيه (3) من التفضيل. وأما "أجمع" الذي هو توكيد الاسم الواحد فليس فيه من معنى التفضيل شيء، فكان كباب "أَحْمر"، ولذلك استغنى أن يقال: "كلاهما أجمعان"، كما يقال: "كُلُّهم أجمعون "؛ لأن التثنية أدنى من أن يُحْتاج في (4) توكيدها إلى هذا المعنى، فثبت أن "أجمعون" لا واحد له من لفظه؛ لأنه توكيد لجمع من يعقل، وأنت لا تقول فيمن يعقل: جاءني زيد أجمع (5)، فكيف يكون: "جاءني الزيدون __________ (1) الأصول: "الفعل" والتصويب من "النتائج". (2) "ومن حيث دخله معنى التفضيل" ساقط من (ق). (3) (ظ ود): "كما يجمع ما فيه من التفضيل". (4) (ظ ود): "إلى". (5) (ظ ود) من قوله: "فثبت أن ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(1/383)


أجمعون" جمعًا له، وهو غير مستعمل في الإفراد؟. وسرُّ هذا ما تقدم وهو: أنهم لا يؤكدون مع الجمع والتثنية إلا بلفظ لا واحد له، ليكون توكيدًا على الحقيقة؛ لأن كلا جمع ينحل (1) لفظه إلى الواحد فهو عارض في معنى الجمع، فكيف يؤكد به معنى الجمع، والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام، فوجب أن يكون مما يثبت لفظًا ومعنى. وأما حذف التنوين من "جُمَع" فكحذفه من "سَحَر"؛ لأنه مضاف في المعنى. فإن قيل: ونون الجمع محذوفةٌ في الإضافة أيضًا فَهَلَّا حُذِفت من أجمعين؛ لأنه مضاف في المعنى؟. قيل: الإضافة المعنوية لا تَقْوى على (2) حذف النون المتحركة التي هي كالعِوَض من الحركة والتنوين، ألا ترى أن نون الجمع تثبت مع الألف واللام وفي الوقف، والتنوينُ بخلافِ ذلك فقويت الإضافة المعنوية على حذفه تقوَ على حذف النون إلا الإضافةُ اللفظية. فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية، والعامل اللفظي أقوى من المعنوي؟ قيل: اللفظي لا يكون إلا متضمِّنًا لمعناه، فإذا اجتمعا معًا كان أقوى من المعنى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف، وهذا ظاهرٌ لمن عدل وأنصف. __________ (1) (ق): "على"! (2) سقطت من (ق).

(1/384)


فائدة بديعة (1) "العينُ" يُرَاد بها حقيقة الشيء المدرَكة بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان، وليست اللفظة على أصول موضوعها؛ لأن أصلها أن تكون مصدرًا وصفةً لمن قامت به، ثم عُبِّر عن حقيقة الشيء بالعين، كما عُبِّر عن الوحش بالصيد، وإنما الصيدُ في أصل موضوعه مصدرٌ من "صاد يصيد"، ومن هاهنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري -سبحانه وتعالى-؛ لأن نفسه -سبحانه- غير مُدْرَكة بالعيان في حقنا اليوم، وأما عين القِبلة وعين الذهب وعين الميزان، فراجعةٌ إلى هذا المعنى. وأما العين [الجارية] (2) فمشبَّهة بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها وأما عين الإنسان فمُسَماة بما أصله أن يكون صفة ومصدرًا؛ لأن العين في أصل الوضع مصدر، كالدَّيْن والزَّيْن والبَيْن والأَيْن وما جاء على بنائه (3). ألا تراهم يقولون: "رجل عَيُون وعاين" ويقولون: "عِنْته": أصبته بالعين، و"عاينته": رأيته بالعين، وفرقوا بين المعنيين، وكأن عاينته من الرؤية أولى من عِنْته؛ لأنه بمنزلة المفاعلة والمقابلة، فقد تقابلتما وتعاينتما، بخلاف "عِنْته" فإنك تنفرد بإصابته العين من حيث لا يشعر. ومما يدلك على أنها مصدر في الأصل: قوله تعالى: {عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] كما قال: {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 291). (2) في النسخ: "الجارحة"، والتصويب من "النتائج". (3) "وما جاء على بنائه" ليست في (ظ ود).

(2/393)


و {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] فالعلم والحق مصدران مضافان إلى اليقين فكذلك العين، هكذا قال السُّهيليُّ. وفيه نظر؛ لأن إضافة عين إلى اليقين من باب قولهم: نفسُ الشيءِ وذاته، فعين اليقين نفس اليقين. والعين التي هي عضو سُمِّيت عينًا؛ لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هل العين، وهذا من باب قولهم: "امرأة ضيفٌ وعدلٌ" تسمية للفاعل باسم المصدر، والعين التي هي حقيقة الشيء ونفسه من باب تسمية المفعول، بالمصدر كصَيْدٍ. قال السهيلي (1): إذا علمت هذا فاعلم أنَّ العين أضيفت إلى الباري تعالى كقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] حقيقة لا مجازًا، كما توهم أكثر الناس، لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجازُ في تسمية العضو بها، وكلُّ شيء يوهم الكفرَ والتجسيمَ فلا يضاف إلى الباري -سبحانه- لا حقيقةً ولا مجازًا. ألا ترى كيف كفر الرومية من النصارى (2) حيث قالوا في عيسى: إنه ولدٌ، على المجاز لا على الحقيقة، فكفروا ولم يدروا (3). ألا ترى كيف لم يضفِ سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحَدَقة حقيقة ولا مجازًا، نعم ولا لفظ الإبصار؛ لأنه لا يُعْطي معنى البصر والرؤية مجرَّدًا، ولكنه يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما. قلت: كأنه رحمه الله غفل عن وصفه بالسميع والبصير، وغفل عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لأَحْرَقَتْ سبُحُاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَه __________ (1) "النتائج": (ص/292). (2) "من النصارى" ليست في (ق). (3) كذا، وفي "النتائج": "ولم يُعذَروا".

(2/394)


بَصَرُه مِنْ خَلْقِهِ" (1). وأما إلزامه التحديق والملاحظة ونحوها، فهو كإلزام المعتزلة نظيره في الرؤية، فهو منقول من هناك حرفًا بحرف. وجوابه من وجوه: أحدها: ما تعنى بالتحديق والملاحظة؟ معنى البصر والإدراك، أو قدرًا زائدًا عليهما غير ممتنع وصف الرَّبِّ به؟ أو معنى زائدًا يمتنع وصفه به؛ فإن عنيتَ الأولين؛ منعنا انتفاء اللازم، وإن عنيت الثالث؛ منعنا الملازمة، ولا سبيل إلى إثباتها بحال. الثاني: أنَّ هذا التحديق والملاحظة إنما تلزم الصفة من جهة إضافتها إلى المخلوق لا تلزمها مضافة إلى الرب تعالى، وهذا كسائر خصائص صفات المخلوقين التي تطرَّقت الجهميةُ بها إلى نفي صفات الرب، وهذا من جهلهم وتلبيسهم، فإن خصائص صفات المخلوقين لا تلزم الصفة مضافةً إلى الربِّ تعالى، كما لا يلزم خصائص وجودهم وذواتهم، وهذا مقرَّر في موضعه. وهذا الأصل الذي فارق به أهل السنة طائفتي الضلال من المشبِّهة والمعطِّلة فعليكَ بمراعاته. الثالث: قوله: "لا يعطي الإبصار معنى البصر والرؤية مجرَّدًا" كلامٌ لا حاصل تحته ولا تحقيق، فإنه قد تقرر عقلًا (2) ونقلا أن لله تعالى صفة البصر ثابتة له كصفة السمع، فإن كان لفظ الإبصار لا يُعطى الرؤية مجرَّدة، فكذلك لفظ السمع، وإن أعطى السمعُ إدراك المسموعات مجرَّدًا، فكذلك البصر، فالتفريق بينهما تحكُّم مَحْض. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (179) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. (2) تحرفت في (ظ) إلى: "قولًا"، و (د): "قولًا وعقلًا".

(2/395)


ثم نعود إلى كلامه قال: "وكذلك لا يُضاف إليه -سبحانه- من آلات الإدراك الأُذن ونحوها؛ لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي محلها (1)، فلم ينقل لفظها إلى الصفة، أعني: السمع، مجازًا ولا حقيقةً إلا أشياء وردت على جهة المثل مما يُعْرف بأدنى نظر أنها أمثال مضروبة، نحو: "الحَجَرُ الأَسْوَد يَمِينُ اللهِ في الأَرْضِ" (2). و"مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمن" (3) مما عرفت العربُ المرادَ به بأَوَّلِ وَهْلة". قال: "وأما اليَدُ فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر، عبارة عن صفةٍ لموصوف" قال: يَدَيتُ عَلى ابنِ حَصْحاص (4) بن عمرو ... بأسفل ذِي الجِذَاة يَدَ الكريمِ (5) فيديتُ: فعل مأخوذ من مصدر لا محالة، والمصدر صفة لموصوف، __________ (1) (ق): "عليها "، و"النتائج": "آلة لها". (2) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (1/ 342)، والخطيب في "تاريخه": (6/ 328) من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفي سنده إسحاق بِشْر الكاهلي، وهو ممن يضع الحديث. وأخرجه الأزرقي في "تاريخ مكة ": (1/ 323 - 324)، موقوفًا على ابن عباس بلفظ: "الركن يمين الله في الأرض"، ورجاله ثقات. وانظر: "كشف الخفاء": (1/ 417 - 418)، و"الضعيفة" رقم (223). (3) أخرجه الترمذي رقم (2140)، وابن ماجه رقم (3834)، من حديث أنسٍ - رضي الله عنه - وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" (تحفة الأحوذي 6/ 350) وفي نسخة: "حديث حسن" وله شواهد عن جماعة من الصحابة. (4) كذا بالأصول ومخطوطات "النتائج"، وفي "اللسان": (15/ 421): "حَسْحاس ابن وهب". (5) البيت من مقطوعة في حماسة أبي تمام: (1/ 111)، والنقائض: (2/ 667)، والرواية: "ابن حسحاس بن وهب". والبيت لمعقل بن عامر الحضرمي.

(2/396)


ولذلك مَدَح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله تعالى: {أُولِي الأَيْدِي وَالأبْصَارِ} [ص: 45] ولم يمدحهم بالجوارح؛ لأن المدح لا يتعلَّق إلا بالصفات لا بالجواهر". قلت: المرادُ بالأيدي والأبصار هنا القوة في أمر الله والبَصَر بدينه، فأراد أنهم من أهل القُوى في أمره والبصائر في دينه، فليست من يَدَيتُ إليه يدًا (1)، فتأمله. قال (2): وإذا ثبت هذا فصحَّ قول أبي الحسن الأشعري (3): إن اليد من قوله: "خلق آدم بيده" (4)، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] صفة ورد بها الشرع، ولم يقل: إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه، ولا في معنى النعمة، ولا قَطَع بشيءٍ من التأويلات تحرُّزًا منه عن مخالفة السلف، وقَطَع بأنها صفةٌ تحرُّزًا عن مذهب المشبِّهةِ. فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يَفْهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة لا يفهم معناه؟. قلنا: ليس الأمر كذلك، بل كان معناها مفهوما عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها، ولا خاف على نفسه تَوَهَّم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه. __________ (1) ليست في (ق). (2) أي: السهيلي في "النتائج": (ص/ 293). (3) في"الإبانة": (ص/ 106). (4) قطعة من حديث أخرجه أحمد: (1/ 44 - 45)، وأبو داود رقم (4703)، والترمذي رقم (3075) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وحسَّنه الترمذي، وليس فيه قوله: "بيده".

(2/397)


وكذلك الكفار لو كانت [اليد] عندهم لا تُعْقَل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض، واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمتَ أنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدًا كأيدينا، وعينًا كأعينا؟! ولما لم يُنْقل ذلك عن مؤمن ولا كافر عُلِمَ أن الأمر كان فيها عندهم جليًّا لا خفيًّا، وأنها صفة سُمِّيت الجارحة بها مجازًا، ثم استمرَّ المجازُ فيها حتى نُسِيت الحقيقة، ورُبَّ مجاز كَثُر واستُعْمِل حتى نُسِي أصلُه وتُرِكت حقيقته. والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة، إلا أنها أخص منها معنى، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فكل شيءٍ أحبه الله فقد أراده، وليس كلُّ شيءٍ أراده أحبه، وكذلك كلُّ شيء حادث فهو واقع بالقدرة، وليس كل واقع بالقدرة واقعًا باليد، فاليد أخص من معنى (1) القدرة، ولذلك كان فيها تشريف لآدم. قلت: أما قوله: "ليس كلُّ شيء أراده فقد أحبه"، فهذا صحيح، وهو آخر قولي أبي الحسن الأشعري (2)، وقول المحققين من أصحابه، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول كما هو مقرر في موضعه. وأما قوله: "كلُّ شيءٍ أحبَّه فقد أرادَه"، فإن كان المراد أنه أراده بمعنى رضيه وأراده دينًا فحقٌّ، وإن كان المراد أنه أراده كونًا فغير لازم، فإنه سبحانه يحب طاعةَ عباده كلهم ولم يردها، ويحب التوبة من كل عاص ولم يُرِدْه، ويحب إيمان كل كافر ولم يرد (3) ذلك كله تكوينًا، إذ لو أراده لوقع، فالمحبة والإرادة غير متلازمين، فإنه يريد __________ (1) في "النتائج": "أخص معنًى من". (2) (ظ ود): "أحد قولي الأشعري". (3) "يرده، ويحب إيمان كل كافر، ولم" سقطت من (ظ ود).

(2/398)


كونًا ما لا يحبه، ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها، ولو أرادها لوقعت، وهذا مقرَّر في غير هذا الموضع. قال (1): ومن فوائد هذه المسألة أن يسئل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] بحرف "على"، وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] بـ "الباء"، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وما الفرق؟ فالفرق: أنَّ الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيًّا وإبداء ما كان مكتومًا؛ فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يُغْذَون ويصنعون سرًّا، فلما أراد أن يُصنع موسى ويُغْذَى ويُربَّى على حال أمنٍ وظهور [أمر] (2)، لا تحت خوف واستسرار، دخلت "على" في اللفظ تنبيهًا على المعنى؛ لأنها تعطي معنى (3) الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وإبداء، فكأنه يقول سبحانه: "ولتصنع على أمن لا تحت خوف" وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة. وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) [القمر: 14] فإنه إنما يريد: برعاية منا وحفظ، ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم، فلم يحتج في الكلام إلى معنى "على" بخلاف ما تقدم". هذا كلامُه، ولم يتعرض -رحمه الله- لوجه الإفراد هناك والجمع هنا، وهو من ألطف معاني الآية؛ والفرق بينهما يظهر من الاختصاص الذي خصَّ به موسى في قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] __________ (1) أي: السهيلي في "النتائج": (ص/ 295). (2) في النسخ: "أمن" والتصويب من "النتائج". (3) ليست في (ظ ود). (4) في (ظ ود) زيادة الآية: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].

(2/399)


فاقتضى هذا الاختصاصُ الاختصاصَ الآخر في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص. وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] فليس فيه من الاختصاص ما في صُنْع موسى على عينه -سبحانه- واصطناعه إياه لنفسه، وما يسنده -سبحانه- إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد (1) يريد به ملائكته، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف: 3] ونظائره فتأمله. قال: "وأما "النفس" فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الموجود دون معنًى زائد، وقد استُعْمِل -أيضًا- من لفظها: النفاسةُ والشيء النفيس، فصَلُحَت للتعبير عنه -سبحانه- بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية. وأما "الذات" فقد استهوى أكثر الناس -ولا سيما المتكلِّمين- القولُ فيها، أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات الباري هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته، ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: في قصة إبراهيم: "ثَلاثُ كَذَباتٍ كُلُّهُنَّ في ذَاتِ اللهِ" (2) وقول خبيب (3): __________ (1) ليست في (ق). (2) أخرجه البخاري رقم (2217 و 3357)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (3) هو: خُبيب بن عدي الأنصاري -رضي الله عنه- كان ممن أُسِر يوم الرَّجيع، ثم صلبته قريش، فقال قبل ذلك قصيدته المشهورة، ومنها: وذلك في ذاتِ الإلَهِ وإن يَشَأْ ... يُبارِك على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ انظر " صحيح البخاري" رقم (3045)، و" السيرة النبوية": (2/ 176).

(2/400)


* وذلكَ في ذاتِ الإلهِ ... * قال: "وليست هذه اللفظة إذا استقرَيْتَها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال: "عبد ذاتَ الله" و "احْذَر ذات الله" كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف "في" الجارَّة، وحرف "في" للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس الباري -تعالى-، إذا قلت: "جاهدت في (1) الله"، و "أحببتك في الله" محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء، وإنما هو على حذف المضاف، أي: في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه، كأنك قلتَ: هذا [محسوب] (2) في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته (3). وأما أن تَدَع اللفظ على ظاهرة فمحالٌ. وإذا ثبت هذا فقوله: "في ذات الله" أو: "في ذات الإله"، إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله (4)، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنَّث. ألا ترى أن فيها "تاء" التأنيث، وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تّشّرَّف بالإضافة إلى الله -عز وجل- لا عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى قول النابغة الذبياني (5): __________ (1): (ق): "في ذات". (2): (ق): "محبوب" والمثبت من "النتائج". (3): من قوله: "فيكون الحرف ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (4): (ق): "للإله"، و"النتائج": "الله". (5) "ديوانه": (ص/ 56)، وعجزه: * قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب *

(2/401)


* مجَلَّتُهم ذَاتُ الإلهِ ودِيْنُهم * فقد بان غلطُ من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيفت إليه" (1). وهذا من كلامه من المرَقِّصات، فإنه أحسن فيه ما شاء. وأصل هذه اللفظة هو تأنيث "ذو" بمعنى صاحب، فذات صاحبة كذا في الأصل، ولهذا لا يقال: ذات الشيء، إلا لما له صفاتٌ ونُعوت تُضَاف إليه، فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن بَرْهان وغيره (2) على الأصوليين قولهم: الذات، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال: الذو، في "ذو"، وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم: أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها (3) استعمال النفس والحقيقة عرَّفوها باللام وجرَّدوها، ومن هنا غلَّطَهم السهيليُّ، فإن هذا الاستعمال والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول: ذات (4) الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته، __________ (1) هنا انتهى النقل من "النتائج" وحدذ المصنِّف سطرين من آخره؛ لما فيها من عقيدة باطلة، وهذا من تصفية المؤلف لكلام السُّهيلي الذي أشرنا إليه في المقدمة. (2) "منهم ابن برهان وغيره" ليست في (ظ ود)، وتحرَّفت "ابن برهان" في "المنيرية" إلى: "هان"!. وابن بَرهان -بفتح الباء- هو: عبد الواحد بن علي أبو القاسم الأسدي العُكبَري النحوي ت (456)، انظر: "بغية الوعاة": (2/ 120 - 121). (3) (ق): "فاستعملوها". (4) تحرفت في (ظ ود) إلى: "رأيت".

(2/402)


وهذا كجنب الشيء إذا قالوا: "هذا في جنب الله"، لا يريدون إلا فيما يُنسَب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا ألبتَّةَ. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظنَّ من ظن أنَّ هذا هو المراد من قوله: "ثَلاثُ كَذَباتٍ في ذاتِ اللِه". وقوله: *وذلك في ذات الإله * فغلط واستحقَّ التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ألا ترى أنه لا يحْسُن أن يقال هاهنا: "فرطت في نفسِ اللهِ وحقيقته"، ويحسن أن يقال: "فرط في ذات الله"، كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله (1)، وصبر في ذات الله. فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة (2)، التي يُثنى على مثلها الخناصر، والله الموفق المعين (3). فائدة (4) ما الفائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها، فإن كانت الفائدةُ في النكرة فَلِمَ ذُكِرَت المعرفة، وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة؟. __________ (1) من قوله: "ويحسن أن يقال ... " إلى هنا تكرر في (ظ ود). (2) ليست في (ظ ود). (3) وانظر: "مجموع الفتاوي": (3/ 334 - 335، 6/ 341 - 342)، و "درء التعارض": (4/ 141 - 142، 5/ 54). (4) "نتائج الفكر": (ص/ 298).

(2/403)


قيل: هذا فيه نكتة بديعة، وهي: أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتُذْكر، ويكون الكلام في معرض أمر (1) معين من الجنس مدحًا أو ذمًا، فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختصَّ الحكم به، ولو ذُكِرَت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين، فلما أُرِيد الجنس أتى بالنكرة ووُصِفَت إشعارًا بتعليق الحكم بالوصف، ولما أتي بالمعرفة كان تنبيهًا على دخول ذلك المعيَّن قطعًا. ومثال ذلك قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15 - 16] فإن الآية كما قيل: نزلت في أبي جَهْل، ثم تعلق حكمها بكلِّ من اتصفَ به فقال: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} (2) تعيينًا، {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} تعدية وتعميمًا، ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة؛ لتحصل الفائدة المذكورة والتبيينُ المراد. وأما قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} [النحل: 73] ففيها قولان: أحدهما: أن "شيئًا" بدل من "رزقًا" و"رزقًا" أبين من "شيئًا"؛ لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، وجاز هذا من أجل تقدُّم النفي؛ لأن النكرةَ إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكرَ الاسم العام الذي هو أنكر النكرات، ووقعت الفائدة به من أجل النفي، صَلُحَ أن يكون بدلًا من "رزق". ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكن إخلالًا بالكلام. __________ (1) (ق): "ذكر"، (د): "ليكن في". (2) من قوله: "ناصية كاذبة ... " إلى هنا ساقط من (ق ود).

(2/404)


والقول الثاني: أن "شيئًا" هنا مفعول المصدر الذي هو "الرزق" وتقديره: لا يملكون أن يرزقوا شيئًا، وهذا قول الأكثرين؛ إلا أنه يرد عليهم أن الرزق هنا اسم لا مصدر؛ لأنه بوزن الذَّبح والطَّحن للمذبوح والمطحون، ولو أُرِيْد المصدر لجاء بالفتح، نحو قول الشاعر (1) يخاطب عمر بن عبد العزيز: واْقْصِدْ إلى الخيرِ ولا تَوَقَّهْ ... وارْزُقْ عِيالَ المسلمينَ رَزْقَهْ وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على "فِعْل" بكسر أوائلها، كالفِسْق ويُطلق على المصدر والاسم بلفظ واحد، كالنِّسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن. والبيت لا نسلِّم أن راءه مفتوحة وإنما هي مكسورة، وهذا اللائق بحال عُمَر بن عبد العزيز والشاعر، فإنه طلبَ منه أن يرزق عيالَ المسلمين رِزْقَ الله الذي هو المال المرزوق، لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر، هذا مما لا يخاطب به أحد ولا يقصده عاقل، والله أعلم. * * * __________ (1) هو: عويف القوافي. والبيت من قصيدة يذكر بها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- انظر: "الكامل": (2/ 659) للمبرد، و"الأغاني": (19/ 224).

(2/405)


فائدة بديعة (1) قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] فيها عشرون مسألة: أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدلُ يُقْصَد به بيان الاسم الأول؟ الثانية: ما فائدةُ تعريف: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} باللام، وهلَّا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. الثالثة: ما معنى {الصِّرَاطَ}؟ ومن أي شيءٍ (2) اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فِعَالٍ؟ ولم ذُكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ، وفي (3) سورة الأحقاف ذُكِر بلفظ الطريق فقال: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ [الأحقاف: 30]. الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] بهذا اللفظ، ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول: "صراط النبيين والصديقين" فَلِمَ عَدَل إلى لفظِ المبهم دون المفسر؟. __________ (1) المسائل رقم (1 - 5) و (12، 13، 15، 16) من: "نتائج الفكر": (ص/ 300 - 306) مع إضافات وتعقُّبات مهمة لا يُستغنى عنها. (2) (ق): "أين". (3) (ق): "إلا".

(2/406)


الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ "الذين" (1) مع صلتها دون أن يقال: المنعم عليهم وهو أخصر (2)، كما قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وما الفرق؟. السادسة: لم فرَّقَ بين المُنعَم عليهم والمغضوب عليهم، فقال تعالى في أهل النعمة: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وفي أهل الغضب: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، بحذف الفاعل؟ السابعة: لِمَ قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} فعدّى الفعلَ بنفسه ولم يُعَدِّه بـ "إلى" كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87]. الثامنة: أن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] يقتضي (3) أن نعمته مختصَّة بالأولين دون المغضوب عليهم والضالين، وهذا حُجَّة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر، فهل هذا استدلال صحيح أم لا؟. التاسعة: أن يقال: لِمَ وصفهم بلفظ "غير" وهلا قال تعالى: "لا المغضوب عليهم" كما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، وهذا كما تقول: مررتُ بزيد لا عَمْرو، وبالعاقل لا الأحمق. العاشرة: كيف جرت [غير] (4) صفة على الموصوف وهي لا تتعرَّف __________ (1) (ظ ود): "والذي". (2) "وهو أخصر" في " (ق) في نهاية الفقرة. (3) سقطت من (ق). (4) من "المنيرية".

(2/407)


بالإضافة، وليس المحل محل عطف بيان؛ إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك، إذ المقصود في باب البدل هو الثاني، والأوَّلُ توطئة، وفي باب الصفات المقصود الأول، والثاني بيان، وهذا شأن هذا الموضع، فإن المقصود ذكر المُنْعَم عليهم ووصفهم بمغايرتهم نوعَي (1) الغضب والضلال. الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل، فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطَّرح، فكيف جاء {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدلًا منه، وما فائدة البدل هاهنا؟ الثانية عشرة: أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذيُّ والإمامُ أحمد وأبو حاتم، تفسير المغضوب عليهم بأنهم: اليهود، والنصارى بأنهم: الضالون (2)، فما وجه هذا التقسيم والاختصاص، وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه؟. الثالثة عشرة: لم قدَّم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين؟. الرابعة عشرة: لِمَ أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة __________ (1) (ظ ود): "معنى". (2) أخرجه الترمذي رقم (2954)، وأحمد: (4/ 378 - 379)، وابن حبان "الإحسان": (16/ 183 - 184) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبَيْش عن عدي بن حاتم في حديث طويل. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حَرْب" وصححه ابن حبان. وسماك متكلم فيه، إلا أن الراوي عن شعبة بن الحجاج وهو لا يروي إلا صحيح حديث شيوخه. وفيه عبَّاد بن حُبيش، مجهول، ذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 142)، ولا يروي عنه غير سِماك.

(2/408)


من "فَعِل" ولم يأت في أهل الضلال بذلك، فيقال: "المُضلِّين" بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من "فَعَل"؟. الخامسة عشرة: ما فائدة العطف بـ "لا" هنا، ولو قيل: "المغضوب عليهم والضالين" لم يختل الكلام وكان أوجز؟. السادسة عشرة: إذ قد عُطِف بها فبابُ العطف بها مع الواو النفيُ، نحو: ما قام زيد ولا عَمْرو، وكقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 91 - 92] وأما بدون الواو؛ فبابها الإيجاب، نحو: مررت بزيد لا عَمْرو، فهذه ستّ عشرة مسألة في ذلك. السابعة عشرة: هل الهدايةُ هنا هدايةُ التعريف والبيان، أو هداية التوفيق والإلهام؟. الثامنة عشرة: كلُّ مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرًا لازمًا لا يقوم غيره مقامه ولابدَّ منه، وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته، فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يُطْلب تحصيل الحاصل؟. التاسعة عشرة: ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في "اهدنا"، والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها، ولا يليق به ضمير الجمع، ولهذا يقول: "ربِّ اغفر لي وارحمني وتُب عَلَيَّ"؟. العشرون: ما حقيقةُ الصراط المستقيم الذي يتصورها العبد وقت (1) سؤاله؟ __________ (1) (ق): "عند".

(2/409)


فهذه أربع مسائل حقُّها أن تُقَدَّم أولًا؛ ولكن جرَّ الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الستة عشر. فالجواب بعون الله وتعليمه، أنه لا علم لأحدٍ من عباده إلا ما علمه، ولا قوة له إلا بإعانته. أما المسألة الأولى: وهي فائدة البدل في (1) الدعاء: أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد والدعاء، وحَقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به؛ إذ "الدعاء مُخُّ العبادة" والمخُّ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، ووجبَ أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء، فمن ثَمَّ جاء لفظ الطلب للهداية، والرغبة فيها مَشُوبًا بالخير تصريحًا من الداعي بمعتقده، وتوسُّلًا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه، فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده: أن صراطه الحق هو الصراط المستقيم، وأنه صراط الذين اختصَّهم بنعمته وحَبَاهم بكرامته. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2)، والمخالفون للحقِّ يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضًا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبيَّن لهم ليمرِّن اللسان على ما اعتقده الجنان. ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبارُ بفائدتين جليلتين؛ إحداهما: فائدة الخبر، والثانية: فائدة لازم الخبر. فأما فائدة الخبر فهي: الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط __________ (1) (ظ ود): "من". (2) من قوله: "وأنه صراط ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/410)


المستقيم (1) الذي نَصَبه لأهل نعمته وكرامته. وأما فائدة لازم الخبر: فإقرارُ الداعي بذلك وتصديقُه وتوسُّلُه بهذا الإقرار إلى ربه، فهذه أربع فوائد (2): الدعاء بالهداية إليه، والخبرُ عنه بذلك، والإقرارُ والتصديق بشأنه، والتوسلُ إلى المدعو إليه بهذا التصديق؛ وفيه فائدة خامسة وهي: أن الداعي إنما أُمِر بذلك لحاجته إليه، وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبُّر ما يَطلبه وتصور معناه، فذكرَ له من أوصافِهِ ما إذا تصور في خَلَدِه وقام بقلبه كان أشدَّ طلبًا له وأعظمَ رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له، فتأمل هذه النكت البديعة!! فصلٌ (3) وأما المسألة الثانية: وهي تعريف "الصراط" باللام هنا، فاعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوفٍ اقتضت أنه أحقُّ بتلك الصفة من غيره، ألا ترى أن قولك: "جالس فقيهًا أو عالمًا"، ليس كقولك: "جالس الفقيه أو العالم"، ولا قولك: "أكلت طيِّبًا"، كقولك: "أكلت الطيِّب"، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت الحق، ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ"، ثم قال: "ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ والنار حقٌّ" (4) فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المُحْدَثة وأدخلها على اسم الرب تعالى، ووعده وكلامه. __________ (1) ليست في (ق). (2) (ظ ود): "قواعد". (3) "فصل" ليست في (د) عند جميع المسائل الآتية. (4) أخرجه البخاري رقم (1120)، ومسلم رقم (769) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وفي رواية البخاري: "وقولك حق".

(2/411)


فإذا عرفتَ هذا؛ فلو قال: "اهدنا صراطًا مستقيمًا" لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى: صراطٍ مَّا مستقيمٍ على الإطلاق، وليس المراد ذلك، بل المراد الهداية إلى الصراط المعيَّن الذي نصَبه الله لأهل نعمته، وجعله طريقًا إلى رضوانه وجنته، وهو دينه الذي لا دين له سواه، فالمطلوب أمرٌ معين في الخارج والذهن، لا شيءٌ مُطْلق مُنَكَّر، واللام هنا للعهد العلمي الذهني، وهو أنه طلب الهداية إلى معهود قد قام في القلوب معرفته، والتصديق به، وتميزه عن سائر طرق الضلال، فلم يكن بُدٌّ من التعريف. فإن قيل: فلِمَ جاء منكَّرًا في قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]، وقوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} [الأنعام: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]. فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو: أنها ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله -تعالى- عن هدايته إلى صراطٍ مستقيم وهداية رسوله إليه، ولم يكن للمخاطبين عهد به، ولم يكن معروفًا لهم، فلم يجئ معرَّفًا بلام العهد المشيرة إلى معروفٍ في ذهن المخاطَب قائم في خَلَده، ولا تقدَّمه في اللفظ مَعْهود تكون اللام مصروفة إليه، وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين، أعني: أن يكون لها معهود ذِهنيّ (1) أو ذِكْريّ لفظيّ؛ وإذ لا وأحد منهما في هذه المواضع، فالتنكير هو الأصل، وهذا بخلاف __________ (1) سقطت من (ظ).

(2/412)


قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}؛ فإنه لما تقرَّر عند المخاطَبين أن لله صراطًا مستقيمًا هدى إليه أنبياءه ورسلَه، وكان المخاطَبُ -سبحانه- المسؤول منه هدايته عالمًا به، دخلت اللام عليه، فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}. وقال أبو القاسم السُّهَيلي (1): إن قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] نزلت في صُلح الحديبية، وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح، ورأوا أن الرأي خلاف، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عليه هذه الآية، فلم يُرِد صراطًا مستقيمًا في الدين، وإنما أراد صراطًا في الرأي والحرب والمكيدة. وقوله -تبارك وتعالى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم، ولو قال في هذا الموطن: "إلى الصراط المستقيم"، لجعل للكفر والضلال حَظًّا من الاستقامة؛ إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة (2) أحق بدلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما [قُرِنَ] (3) به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طَرَف منه. وغيرُ خافٍ ما في هذين الجوابين من الضعفِ والوهنِ؛ أما قوله: "إن المراد بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} في الحرب والمكيدة"؛ فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتنَّ اللهُ به على رسوله، وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا __________ (1) في "نتائج الفكر": (ص/ 303). (2) (ق، ظ): "الموصولة" و (د): "الموصلة"، والمثبت من "النتائج". (3) في الأصول: "قرب" والتصويب أفاده محقق "النتائج".

(2/413)


وما فيها (1)، ومتى سمَّى اللهُ الحربَ والمكيدةَ "صراطا مستقيمًا"؟! وهل فسر هذه الآية أحدٌ من السلف أو الخلف بذلك؟! بل الصراطُ المستقيمُ ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمرِه أن يخبر بأن الله هداه إليه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]، ثم فسَّره بقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: 161] ونصب "دِيْنًا". هُنا على البدل من الجار والمجرور، أيْ هداني دِيْنًا قِيَمًا، أَفَتَرَاه يمكنه هاهنا أن يقول: إنه الحرب والمكيدة! فهذا جواب فاسد جدًّا!!. وتأمل ما جمع الله سبحانه (2) لرسوله في آية الفتح من أنواع (3) العطايا، وذلك خمسة أشياء؛ أحدها: الفتح المبين، والثاني: مغفرة: ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، والثالث: هدايته الصراط (4) المستقيم، والرابع: إتمامْ نعمته عليه، والخامس: إعطاؤه النصر العزيز. وجَمَع. له سبحانه بين الهدى والنصر؛ لأنَّ هذين الأصلين بهما كمال: السعادة والفلاح، فإنَّ الهدى هو: العلم بالله ودينه والعمل: بمرضاته وطاعته، فهو العلمُ النافعُ والعملُ الصالح، والنصر و [هو]: القدرة التامَّة على تنفيذ دينه؛ بالحجة والبيان، والسيف والسِّنان، فهو النصر بالحجة واليد، قَهْرُ قلوبِ المخالفين له بالحجة، وقَهْرُ أبدانهم باليد. __________ (1) أخرجه البخاري رقم: (4833) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ولفظه: "لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ". (2) "الله سبحانه" ليست في (ق). (3) ليست في (ق). (4) سقطت من (ظ).

(2/414)


وهو -سبحانه- كثيرًا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1) [التوبة: 33] في موضعين في سورة براءة، وفي سورة الصف، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فهذا الهدى (2)، ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، فهذا النصر، فذَكَر الكتابَ الهادي والحديدَ الناصر. وقال تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 1 - 4]، فذكر إنزال الكتابَ الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحقِّ والباطل. وسرُّ اقتران النصر بالهدى: أن كلًّا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانًا كما قال تعالي: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، فذكَر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان، وهو يوم بدر، وهو اليوم الذي فرَّق اللهُ فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الأنبياء: 48] فالفرقان: نصره له على فرعون وقومه، والضياء والذِّكر: التوراة، هذا هو معنى الآية، ولم يُصِب من قال: إن الواو زائدة، وأن "ضياءً" منصوب على الحال، كما بيَّنا فسادَه فى "الأمالي المكية"، فتبيَّن أن __________ (1) هذه الآية ليست في (ظ ود). (2) (ق): "الذي".

(2/415)


آيةَ الفتح تضمنت الأصلين (1): الهدى والنصر، وأنه لا يصح فيها غير ذلك ألبتةَ. وأما جوابه الثاني: عن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] بأنه لو عُرِّف لجعلَ للكفر والضلال حظًّا من الاستقامة"، فما أدري من أينَ جاءَ له هذا الفهم، مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع -رحمه الله-!!. وما هي إلا كبوة جواد ونَبْوة صارم!! أفترى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} [الصافات: 117 - 118] يُفْهَم منه أن لغيره حظًّا من الاستقامة!؟ وما ثَمَّ غيره إلا طرق الضلال، وإنما الصراط المستقيم واحد، وهو ما هدى الله إليه أنبياءه ورسله أجمعين، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم. وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال: إنه يفهم منه أن لغيره. حظًّا من الاستقامة!؟ بل يقال تعريفه ينفي أن يكون لغيره حظًّا من الاستقامة، فإن التعريف في قوَّة الحصر، فكأنه قيل: الذي لا صراطَ مستقيم سواه، وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة، فتأمله هنا وفي نظائره. فصل وأما المسألة الثالثة: وهى اشتقاق الصراط؛ فالمشهور أنه من "صرطتُ الشيءَ أصْرطه" إذا بلعته بلعًا سهلًا، فسمى الطريق: صراطًا؛ لأنه يسترط المارَّة فيه. والصراط ما جمعَ خمسةَ أوصاف: أن يكون طريقًا مستقيمًا، سهلًا، مسلوكًا، واسعًا، موصلًا إلى المقصود، فلا تسمي العربُ الطريقَ المعوج: صراطًا، ولا الصعب المشق، ولا __________ (1) ليست فى (ظ ود).

(2/416)


المسدود غير الموصل، ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال [جرير] (1): أَميرُ المؤمنينَ على صِرَاطٍ ... إذا اعْوَجَّ الموارِدُ مُسْتَقِيمِ وبنوا الصراط على زِنَة "فِعَال"؛ لأنه مشتمل على سالكه اشتمالَ الحَلْق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء، كاللِّحاف والخِمار والرِّداء والغِطاء والفِراش والكِتاب، إلى سائر الباب، وهذا الوزن (2) يأتي لثلاثة معان (3) أحدها: المصدر، كالقِتال والضِّراب، والثاني: المفعول، نحو: الكِتاب والبِناء والغِراسَ (4)، والثالث: أن يُقْصَد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها، كالخِمار والغِطاء والسِّداد، لما يُخمَّر به ويُغطَّى ويُسدّ به، فهذا آلة محضة، والمفعول هو الشيء المخمَّر والمغطَّى والمسدود، ومن هذا القسم الثالث "إله" بمعنى مألوه. وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة، فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نُكتة بديعة، وهي: أنهم قَدَّموا قبله ذكر موسى، وأن الكتاب الذي سمعوه __________ (1) من "المنيرية"، انظر "ديوانه": (ص/ 411)، من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك. (2) من قوله: "كثير في ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ق): "أمور". (4) (ق): "الفراش والبناء".

(2/417)


مصدقًا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره، فكان فيه كالنيابة (1) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لقومه: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي: لم أكن أولَ رسولٍ بُعث إلى أهل الأرض، بل قد تقدمت قبلي رسل من الله إلى الأمم، وإنما بُعِثت مصدقًا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان، فقال مؤمنوا الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] أي: إلى سبيل مطروقٍ قد مرَّت عليه الرسل قبله، وأنه ليس بِبِدْع كما قال في أول السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لَفظ "الطريق"؛ لأنه "فَعِيل" بمعنى "مفعول"، أي: مطروق مَشَت عليه الرسل والأنبياء قبلُ، فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه، فذكر الطريق هاهنا إذًا أولى؛ لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه، والله أعلم. ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السُّهيلي (2) فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ. فصل وأما المسألة الرابعة: وهى إضافته إلى الموصول المبهم: دون أن يقول: صراط النبيين والمرسلين، فقيه ثلاث فوائد: أحدها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، بأنَّ استحقاقَ كونهم من المنْعَم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فبه صاروا من أهل النِّعمة، وهذا كما يُعَلَّق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد (3) __________ (1) (ظ ود): "كالنبأ". (2) في "النتائج": (ص/ 304). (3) سقطت من (ظ ود).

(2/418)


لما فيه من الإعلام (1) باستحقاق ما عُلِّق عليها من الحكم بها، وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274] {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأحقاف: 13] وهذا الباب مُطَّرد؛ فالإتيان بالاسم موصولًا أولى على هذا المعنى من ذِكْر الاسم الخاص. الفائدة الثانية: فيه إشارة إلى (2) نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هُدِيَ إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعر بسؤاله الهداية إليه، [و] طلب الإنعام من الله عليه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه، والثاني يتضمن (3) الطلب والإرادة أن تكون منهم. الفائدة الثالثة: أنَّ الآية عامة في جميع طبقات المُنْعَم عليهم، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراطِ جميع المُنْعَم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة: أنَّ المسؤولَ الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلُّ من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤول، ولو عَرَف الداعي قدرَ هذا السؤال لجعله هِجِّيْرَاه وقَرَنَه بأنفاسه، فإنه لم يدعِ شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمَّنه، ولما كان بهذه المثابة فَرَضه الله على جميع عباده فرضًا متكرِّرًا في اليوم __________ (1) (ظ ود): "الإنعام". (2) (ظ ود): "إلى أن". (3) من قوله: "الإخبار ... " ساقط من (ظ ود).

(2/419)


والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثَمَّ (1) يعلم تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها (2). فصل وأما المسألة الخامسة: وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، ولم يقل: المُنْعَم عليهم، كما قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد، وفيه فوائد عديدة: أحدها: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن، وهي: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فيَذْكر فاعلَها منسوبةً إليه ولا يَبْني الفعلَ معها للمفعول، فإذا جاء إلى أفعال العدل والجزاء والعقوبة: حَذَف الفاعل وبَنَى الفعلَ معها للمفعول = أدبًا في الخطاب، وإضافةً إلى الله أشرف قِسْمَي أفعاله، فمنه هذه الآية؛ فإنه لما ذكر النعمةَ فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضبَ حذفَ الفاعل وبَنَى الفعل للمفعول، فقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وقال في الإحسان: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 78 - 80] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله، ولما جاء إلى ذكر المرض، قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: أمرضني، وقال: {فَهُوَ يَشْفِينِ (80) ومنه قوله تعالى حكايةً عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ __________ (1) (ق): "ومن هنا". (2) "يقوم مقامها" ليست في (ق).

(2/420)


رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الربِّ، وحذفوا فاعِلَ إرادة الشر، وبنوا الفعل للمفعول، ومنه قول الخضر -عليه السلام- في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فأضاف العيبَ إلى نفسه. وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فحذفَ الفاعلَ وبناه للمفعول، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، لأن في ذكر الرَّفَث ما يَحْسُن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل، ومنه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير} [المائدة: 3] وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى آخرها. ومنه -وهو ألطف من هذا وأدق معنى- قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وتأمل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] كيف صرَّح بفاعل التحريم في هذا الموضع، وقال في حق المؤمنين: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المُنْعِم بها، وأصل الشكر ذِكْر المْنعِم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمِّن لذكره -تعالى- الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذِكْره وإضافة النعمةِ إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم (1) لو قاله، فتضمَّن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر __________ (1) ليست في (ظ ود).

(2/421)


والذكر، المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراطِ للهِ وحده، وهو المنعِم بالهداية دون أن يشركه أحدٌ في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن تضاف إليه بوصف الإفراد، فيقال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، أي: أنت وحدَك المنعِم المحسِن المتفضِّل بهذه النعمة، وأما الغضب؛ فإن الله -سبحانه- غَضِب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم مِوافقةً لغضبِ ربهمِ عليهم، فموافقته تعالى تقتضي أن يُغْضَب على من غَضِبَ عليه، ويُرْضى عمن رضي عنه، فيُغْضَب لغضبه ويُرْضَى لرضاه، وهذا: حقيقة العبودية، واليهود قد غضبَ اللهُ عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لما كان للمؤمنين نصيبٌ من غضبهم على من غضبَ اللهُ عليه، بخلاف الإنعام فإنه لله وحدَه، فتأمل هذه النكتة البديعة. الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة؛ فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم، وإذا ثبت هذا فالألف واللام في "المغضوب" -وإن كانت بمعنى "الذين"- فليست مثل "الذين" في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسَمَّى، فإن قولك: "الذين فعلوا"، معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك: "الضاربون والمضروبون"، ليس فيه ما في قولك: الذين ضَربوا أو ضُربوا، فتأمل ذلك. فـ "الذين أنعمتَ عليهم" إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقَصْد ذَوَاتهم، بخلاف

(2/422)


"المغضوب عليهم"، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، والمعوَّل عليه من الأجوبة ما تقدَّم. فصل وأما المسألة السابعة: وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف "إلى"، فجوابها: أن فِعْل الهداية يتعدَّى بنفسه تارة، وبحرف "إلى" تارةً، وبـ "اللام" تارة، والثلاثة في القرآن، فمن المُعَدَّى بنفسه: هذه الآية، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] ومن المعدى بـ "إلى"، قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] ومن المعدَّى باللام قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. والفرق بين هذه (1) المواضع تدقُّ جدًّا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدةً تشير إلى الفرق، وهي: أن الفعل المُعَدَّى بالحروف المتعدِّدة لابد أن يكون له مع كلِّ حَرْف معنًى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو: رغبتُ فيه ورغبتُ عنه، وعدلتُ إليه وعدلتُ عنه، ومِلْتُ إليه وعنه، وسعيتُ إليه وبه، وإن تقارب (2) معنى الأدوات عَسُرَ الفرق، نحو: قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهريَّة النحاةِ يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل __________ (1) تحرفت في (ظ ود). (2) (ظ ود): "تفاوت"

(2/423)


يجعلون (1) للفعل معنًى مع الحرف ومعنًى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيُشْرِبون الفعل المتعدي به معناه، وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حُذَّاق أصحابه؛ يضمِّنون الفعلَ معنى الفعل لا يقيمون الحرفَ مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فِطْنةً ولطافةً في الذهن. وهذا نحو قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فإنهم يُضَمِّنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليلٌ على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمُّن، والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غايةِ الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها. ومنه قوله (2) في السحاب: "شَرِبن بماء البحر ... "، أي: رَوِيْن به ثم ترفَّعن وصعدن. وهذا أحسن من أن يُقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الرِّيِّ، وأن يقال: يروى بها؛ لأنه لا يدل: على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه، وعلى الرِّي بِحَرف (3) الباء، فتأمله. ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ} [الحج: 25] وفعل الإرادة لا يتعدى: بـ "الباء"، ولكن ضمِّن معنى "يَهُم فيه بكذا"، __________ (1) من قوله: "أحد الحرفين ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه: شربن بماء البحر ثم ترفَّعَت ... متى لُجَج خُضر لهنَّ نئيجُ وهو من شواهد "المغني" رقم (628)، وانظر "الخزانة": (7/ 97)، وتحرفت العبارة في (ظ ود): شربن ماء البحر حتى روين ثم ... ". (3) (ظ ود): "بخلاف".

(2/424)


وهو أبلغ من الإرادة، فإن الهم مَبدأ الإرادة، فكان في ذكر "الباء" إشارة إلى استحقاق العذاب بمبدأ الإرادة (1) وإن لم تكن جازمة، وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه، ويكفي المثالان المذكوران. فإذا عرفت هذا؛ ففعل الهداية متى عُدِّيَ بـ "إلى" تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، فأتى بحرف الغاية، ومتى عُدِّيَ بـ "اللام" تضمَّن التخصيص بالشيء المطلوب، فأتى بـ "اللام" الدالة على الاختصاص والتعيين، فإذا قلت: هَدَيْته لكذا، أفهم (2) معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته، ونحو هذا، وإذا تعدَّى بنفسه تضمَّن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعريف والبيان والإلهام. فالقائل إذا قال: "اهدنا الصراط المستقيم"، هو طالب من الله أن يعرِّفه إياه ويبيِّنه له ويُلْهمه إياه ويقدِّره عليه، فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه، فجرَّد الفعلَ من الحرف، وأتى به مجردًا مُعدًّى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها، ولو عُدِّيَ بحرف تعيَّن معناه وتخصَّص بحسب معنى الحرف، فتأمَّلْه فإنه من دقائق اللغة وأسرارها. فصل وأما المسألة الثامنة، وهي: أنه خص أهل الهداية بالنعمة (3) دون غيرهم، فهذه مسألةٌ اختلفَ الناسُ فيها وطال الحِجَاج من الطرفين، وهى: أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟ فمن نافٍ يحتج بهذه الآية وبقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ __________ (1) من قوله: "فإن الهم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ق): "أوهم". (3) (ظ ود) ": "سعادة الهداية".

(2/425)


وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]، فخصَّ هؤلاء بالإنعام، فدلَّ على أن غيرهم غير مُنْعَم عليهم، وبقوله لعباده المؤمنين: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة، فأيُّ نعمةٍ على من خُلِقَ للعذاب الأبدي. ومن مثبت يحتجُّ بقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وبقوله لليهود: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47]، وهذا خطاب لهم في حالِ كُفْرهم، وبقوله: في سورة النعم وهي سورة النحل التي عَدَّد فيها نِعَمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} [النحل: 81 - 83] وهذا نصٌّ صريح: لا يحتمل صرفًا. واحتجوا بأن البَرَّ والفاجر، والمؤمن (1) والكافر كلُّهم يعيش في نعمة الله. وكلُّ أحد مُقِر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته، وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابَرَ وجَحَد حقَّ الله تعالى وكفر بنعمته (2). وفَصْل الخطاب في المسألة: أن النعمة المطلقة مختصَّة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها (3) سواهم، ومُطْلق النعمة عام للخليقة كلِّهم برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فالنعمة المطلقة التامة هي: المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مُشْتَركة، ومطلق النعمة: عامٌّ __________ (1) سقطت من (ظ). (2) من قوله: "وهذا معلوم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ق): "ويشركهم فيما".

(2/426)


مشترك، فإذا أراد النافي سَلْبَ النعمة المطلقة أصاب، وإن أراد سلب مطلق النعمة أخطأ، وإن أراد المثبِت إثبات النعمة المطلقة للكافر أخطأ، وإن أراد إثبات مطلق النعمةَ أصاب، وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع، ويتبين أن كلَّ واحد من الفريقين معه خطأ وصواب، والله الموفق. وأما قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم، ولهذا يعدِّدها عليهم واحدة واحدة؛ بأن أنجاهم من آل فرعون، وبأن فَرَق بهم البحر، وبأن وعد موسى أربعين ليلة فضلُّوا بعده، ثم تاب عليهم وعفا عنهم، وبأن ظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، إلى غير ذلك من نِعَمه التي يُعدِّدها عليهم، وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم، فأمرهم أن يذكروها لِيَدْعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله (1)، والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته، فكانت نعمته على آبائهم نعمةً منه عليهم تستدعي منهم شكرًا، فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي، وتكذيبكم له، ومعاداتكم إياه، وهذا لا يدل (2) على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم، والله أعلم. فصل وأما المسألة التاسعة: وهي أنه قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، ولم يقل: لا المغضوب عليهم، فيقال: لا ريب أن "لا" __________ (1) (ق ود): "برسوله". (2) (ق): "وغير هذا يدل".

(2/427)


يعطف بها (1) بعد الإيجاب، كما تقول: جاءني زيد لا عَمْرو، وجاءني العالم لا الجاهل، وأما "غير" فهي تابع لما قبلها، وهى صفةٌ ليس إلَّا، كما سيأتي. وإخراج الكلام هاهنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يُعلم إذا عُرِف فَرْق ما بين العطف في هذا الموضع وبين الوصف، فتقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف، وقيل: "صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم"، لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما هو (2) مقتضى العطف، فإنك إذا قلتَ: جاءني العالم لا الجاهل، لم يكن في نفي العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم، وأما الإتيان بلفظ "غير" فهي صفة لما قبلها، فأفاد الكلام معها، وصفهم بشيئين؛ أحدهما: أنهم مُنْعم عليهم، والثاني: أنهم غيرُ مغضوبٍ عليهم، فأفاد ما يفيدُ العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم، فإنه يتضمَّن صفتين: صفة ثبوتية وفي: كونهم مُنْعَمًا عليهم (3)، وصفة سلبية وهي: كونهم غير مستحقين لوصف الغضب، وأنهم مغايرون لأهله. ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المُنْعَم عليهم ولم تكن منصوبةً على الاستثناء؛ لأنها يزول منها معنى الوصفية المقصود. وفيه فائدة أخرى: وهى: أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المُنْعَم عليهم دون أهل الإسلام، فكأنه قيل لهم: المُنْعَم عليهم غيركم لا أنتم، وقيل للمسلمين: المغضوب عليهم __________ (1) (ق): "بعدها". (2) سقطت من (ق). (3) من قوله: "ومدحهم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/428)


غيركم لا أنتم، فالإتيان بلفظة "غير" في هذا السياق أحسنُ وأدلُّ على إثبات المغايرة المطلوبة، فتأمله، وتأمل كيف قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ولم يقل: اليهود والنصارى (1) مع أنهم هم الموصوفون بذلك، تجريدًا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم (2)، ولم يكونوا منهم بسبيل؛ لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضالٍ، فتباركَ من أودعَ كلامَه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيلٌ من حكيم حميد!. فصل وأما المسألة العاشرة: وهى جريان "غير" صفة على المعرفة، وهي لا تتعرَّف بالإضافة، ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن "غيرًا" هنا بدل لا صفة، وبدل النكرة من المعرفة جائز، وهذا فاسد من وجوه ثلاثة: أحدها: أن باب البدل المقصود فيه الثاني، والأول تَوْطِئة له ومِهَاد أمامه، وهو المقصود بالذكر، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] المقصود: هو أهل الاستطاعة خاصة، وذِكْر الناس قبلهم توطئة، وقولك: "أعجبني زيدٌ عِلْمُه"، إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرتَ صاحبَه توطئةً لذكره، وكذا قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] المقصود (3): إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر (4)، وهذا ظاهر جدًّا في بدل __________ (1) "ولم يقل: اليهود والنصارى" سقطت من (ظ ود). (2) ليست في (ظ ود). (3) ليست في (ق). (4) "لا عن نفس الشهر" ليست في (ظ ود).

(2/429)


البعض وبدل الاشتمال، ويراعى (1) في بدل الكلِّ من الكلِّ، ولهذا سُمِّيَ بدلًا إيذانًا بأنه المقصود، فقوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 15 - 16] المقصود: السَّفع بالناصية الكاذبة الخاطئة، وذكر المبدل منه توطئة لها. وإذا عُرِف هذا؛ فالمقصود هنا ذِكْر المُنْعَم عليهم وإضافة الصراط إليهم، ومن تمام هذا المقصود وتكميله: الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم، فجاء ذكر غير المغضوب عليهم مكمِّلًا لهذا المعنى ومتمِّمًا ومحقِّقًا؛ لأن أصحاب الصراط المسؤول هدايته هم أهل النعمة، فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقَّق، وفائدته فائدة الوصف المبيِّن للموصوف المكمِّل له، وهذا واضح. الوجه الثاني: أن البدلَ يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتَبْيينه، ولهذا كان في تقدير تَكْرار الفاعل (2)، وهو المقصود بالذكر كما تقدم، فهو الأول بعينه ذاتًا ووصفًا، وإنما ذكر بوصفٍ آخر مقصودٍ بالذكر، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مُخِلًّا بالكلام، ألا ترى أنك لو قلتَ في غير القرآن: لله حجُّ البيت على من استطاع إليه السبيل، لكان كلامًا (3) مستقيمًا لا خلل فيه، ولو قلت في دعائك: ربِّ اهدني صراط من أنعمتَ عليه من عبادك، لكان مستقيمًا، وإذا كان كذلك فلو قُدِّر الاقتصار على "غير" وما في حيِّزها هنا؛ لاختلَّ الكلام وذهب معظم المقصود __________ (1) (ظ ود): "ومما يجيء". (2) (ظ ود): "العامِل". (3) (ظ ود): "كاملًا" وسقطت "خلل" بعدها.

(2/430)


منه؛ إذ المقصود إضافة الصراط إلى "الذين أنعم الله عليهم"، لا إضافته إلى لفظ "غير المغضوب عليهم"، بل أتى بلفظ "غير" زيادةً في وصفهم والثناء عليهم، فتأمله. الوجه الثالث: أن "غيرًا" لا يُعْقل ورودها بدلًا، وإنما ترد استثناءً أو صفة أو حالًا. وسر ذلك: أنها لم (1) توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها، ولهذا قلما يقال: "جاءني غير زيد، ومررتُ بغير عَمْرو"، والبدل لابد أن يكون مستقلًّا بنفسه كما تبين أنه المقصود، ونكتة الفرق: أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلتَ الأولَ سُلَّمًا ومِرْقاةً إليه، فهو موضعُ قصدك ومحطُّ إرادتك، وفي باب الصفة بخلاف ذلك، إنما أنت قاصد إلى الموصوف موضح له بصفته، فاجعل هذه النكتة معيارًا على باب البدل والوصف، ثم زن بها "غير المغضوب عليهم" هل يصح أن يكون بدلًا أو وصفًا؟. الجواب الثاني: أنَّ "غيرًا" هاهنا صحَّ جريانه صفة على المعرفة؛ لأنها موصولة، والموصول مبهم غير معيَّن، ففيه رائحة من النكرة لإبهامه (2)، فإنه غير دالٍّ على معيَّن، فصلح وصفه بـ "غير" لقُرْبِه من النكرة، وهذا جواب صاحب "الكشَّاف" (3) قال: "فإن قلت: كيف صحَّ أن يقع "غير" صفة للمعرفة وهو لا يتعرَّف وإن أُضيفَ إلى المعارف؟ قلت: "الذين أنعمت عليهم" لا تَوْقيت فيه، فهو كقوله: __________ (1) (ظ): "لو"، (د): "لا". (2) (ق): "لانتهائه". (3) (1/ 11).

(2/431)


وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيْني" (1) ومعنى قوله: "لا تَوْقيت فيه" أي: لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس، فجرى مجرى النكرة، واستشهاده بالبيت معناه: أنَّ الفعل نكرة وهو "يسبني"، وقد أوقعه صفةً للئيم المعرفة باللام، لكونه غير معين، فهو في قوَّة النكرة، فجاز أن يُنعت بالنكرة، فكأنه قال: على لئيمٍ يسبني، وهذا استدلال ضعيف، فإن قوله: "يسبني" حال منه لا وصف، والعامل فيه فعل المرور، والمعنى: أمرُّ على اللئيم سابًّا لي، أي: أمرُّ عليه في هذه الحال، فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه. الجواب الثالث: -وهو الصحيح- أن "غيرًا" هاهنا قد تعرَّفت بالإضافة، فإن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها وعمومها في كلِّ مغايرٍ للمذكور، فلا يحصل بها تعيين، ولهذا تجري صفة على النكرة، فتقول: "رجلٌ غيرُك يقول كذا ويفعل (2) كذا"، فتجري صفةً. للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة، ومعلوم أن هذا الإبهام يزول بوقوعها بين متضادَّين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني، فيتعين بالإضافة، ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال: نَحْنُ بَنُو عَمْروِ الهِجَان الأَزْهَرِ ... النَّسَبُ المَعْرُوفُ غَيْرُ المُنْكَرِ (3) __________ (1) قال في "مشاهد الإنصاف": (4/ 126 - بذيل الكشاف): "لرجلٍ من بني سلول". وهو من شواهد "الكتاب"، وانظر "الخزانة": (1/ 357)، و"الكامل": (2/ 983). ونسبه في "الأصمعيات": (ص / 126) لشمر بن عمرو الحنفي. وفي (ظ ود): " ... ثم أقول: ما ... ". (2) ليست في (ق). (3) البيت في "فصل المقال شرح كتاب الأمثال": (1/ 136) للبكري.

(2/432)


أفلا تراه أجرى "غيرُ المنكرِ" صفة على النسب، كما أجرى عليه "المعروف"؛ لأنهما صفتان معينتان، فلا إبهام في "غير"؛ لأن مقابلها "المعروف" وهو معرفة، وضده "المنكر" متميِّز متعيِّن كتعيُّن المعروف، أعني: تعيين الجنس. وهكذا قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فالمنْعَم عليهم هم غير المغضوب عليهم، فإذا كان الأول معرفة كانت "غير" معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم، فاكتسبت منه التعريف. وينبغي أن تتفطن هاهنا لنكتة لطيفة في "غير" تكشفُ لك حقيقة أمرها، وأين تكون معرفة وأين تكون (1) نكرة؛ وهي: أن "غيرًا" هي نفس ما تكون تابعة له وضِدّ ما هي مضافة إليه، فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادَف على مرادفه، فإن المعروف هو تفسير "غير المنكر"، والمُنْعَم عليهم هم "غير المغضوب عليهم"، هذا حقيقة اللفظ، فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة، وإن أضيفت كما إذا قلت: "رجل غيرك فعل كذا وكذا"، وإذا كان متبوعها معرفةً لم تكن إلا معرفة، كما إذا قلت: "المحسن غيرُ المسيء محبوب معَظَّم عند الناس"، و"البَرُّ غير الفاجر مهيب"، و"العادل غير الظالم مجاب الدعوة"، فهذا لا تكون فيه "غير" إلا معرفة، ومن ادعى فيها التنكير هنا غَلِط وقال مالا دليلَ عليه؛ إذ لا إبهام فيها بحال، فتأمله. فإن قلت: عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر، وهي: أنها __________ (1) "معرفة وأين تكون" سقطت من (ظ ود).

(2/433)


بمعنى مغاير ابسم فاعل من "غَايَر"، كـ "مِثْل" بمعنى مماثل، و"شِبْه" بمعنى مُشَابه، وأسماء الفاعلين لا تتعرَّف بالإضافة وكذا ما نَاب عنها. قلتُ: اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة (1) إذا أضيف: إلى معموله؛ لأن الإضافة في تقدير الانفصال، نحو: "هذا ضاربٌ زيدًا غدًا"، وليست "غير" بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في: المفعول حتى يقال: الإضافة في تقدير الانفصال، بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات، ألا ترى أن قولك: "غيرك" بمنزلة قولك: "سِواك"، ولا فرق بينهما، والله أعلم. فصل وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل، مع أن الأول في نِيَّةِ الطَّرْح؟. فالجواب: أن قولهم: "الأول في البدل في نية الطرح" (2) كلامٌ لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه، بل البدل نوعان؛ نوع يكون الأول فيه في نية الطرح، وهو بدل البعض من الكلِّ وبدل الاشتمال؛ لأن المقصود هو الثاني لا الأول، وقد تقدم. ونوعٌ لا يُنْوى فيه طرح الأول، وهو بدل الكل من الكل، بل يكون الثاني فيه بمنزلة التكرير والتوكيد، وتقوية النسبة، مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه في الفائدة المتجدِّدة الزائدة على الأول، فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار __________ (1) من قوله: "وكذا ما ناب" إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "الاطراح".

(2/434)


بحصول وصف المبدل للمبدل منه، فإنه لما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}، فكأنَّ الذهن طلب [معرفة ما إذا كان] (1) هذا الصراط مخِتصًّا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله تعالى، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا كما إذا دللت رجلًا على طريقٍ لا يعرفها، وأردتَ توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها، فأنت تقول له: هذه هي الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيدًا وتَقْوِية، فتقول: وهي الطريق التي يسلكها الناسُ والمسافرون وأهلُ النجاة. أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين (2) قدرًا زائدًا على وصفك لها بأنها: طريق مُوْصِلة وقريبة، سهلة مستقيمة، فإن النفوس مجبولة على التأسِّي والمتابعة، فإذا ذُكِرَ لها من تتأسى به في سلوكها أَنِسَت واقتحمتها فتأمله. فصل وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير "المغضوب عليهم" باليهود، و"الضالين" بالنصارى (3) مع تلازم وَصْفي الغضب والضلال؟. فالجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإنَّ كلَّ مغضوبٍ عليه ضالّ وكل ضال مغضوب عليه، لكى ذَكَرَ كلَّ طائفةٍ بأشْهر وصفيها وأحقِّهما به __________ (1) الزيادة من "المنيرية". (2) (ق): "الهادين". (3) (ق): "والنصارى بالضالين".

(2/435)


وألصقه بها، فإن ذلك هو الوصف الغالب عليها، وهذا مُطابق لوصف الله اليهودَ بالغضب في القرآن، والنصارى بالضلال، فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع. أما: اليهود؛ فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} [البقرة: 90] وفي تَكْرار هذا الغضب هنا أقوال: أحدها: أنه غَضَب متكرِّر في مقابلة تكرُّر كفرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والبغي عليه ومحاربته، فاستحقوا بكفرهم غضبًا، وبالبغي والحرب. والصدِّ عنه غضبًا آخر. ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] فالعذاب الأول بكفرهم، والعذاب الذي زادهم إياه بصدِّهم الناسَ عن (1) سبيله. القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء، والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح (2). والقول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والصحيح في الآية: أن التَّكْرار هنا ليس المراد به التثنية التي تَشْفع الواحد، بل المراد غضبٌ بعد غضبٍ، بحسب تكرُّر كفرهم، وإفسادهم، وقتلهم الأنبياء، وكفرهم بالمسيح، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعاداتهم لرسل الله، __________ (1) من قوله في الآية: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... } إلى هنا ساقط من (ق ود). (2) القول الثاني سقط من (د).

(2/436)


إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبًا على حِدَته. وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (1) [الملك: 3 - 4] أي كرَّةً بعد كرَّة، لا مرتين فقط. وقَصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] أظهرِ، ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة، وتحريفَهمِ وتبديلَهم يستدعي غضبًا، وتكذيْبَهم الأنبياء يستدعي غضبًا آخر، وقتلَهم إياهم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبهم المسيحَ، وطلبَهم قتلَه، ورميهم أُمَّه بالبهتان العظيم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبَهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستدعي غضبًا، ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبًا، وصدَّهم عن أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبًا، فهم الأمَّةُ الغضبية أعاذنا الله من غضبه، فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر، فكانوا أحق بهذا الاسم (2) والوصف من النصارى. وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] فهذا غضبٌ مشفوع باللعنة والمسخ وهو من أشدَّ ما يكون من الغضب. وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80]. __________ (1) في الأصول: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} وأكملنا الآية لدلالة السياق. (2) ليست في (ق).

(2/437)


وأما وصف النصارى بالضلال؛ ففي (1) قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77] فهذا خطاب للنصارى؛ لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 72 - 77] فوصفهم بأنهم قد ضلُّوا أولًا ثم أضلوا كثيرًا، لهم أتباعهم، فهذا قبل مبعث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلُّوا أتباعهم، فلما: بُعِث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ازدادوا ضلالًا آخر بتكذيبهم له. وكفرهم به، فتضاعف الضلالُ في حقِّهم، هذا. قولُ طائفةٍ، منهم الزمخشري (2) وغيره، وهو ضعيف!! فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع، فوصفهم بثلاث صفات؛ أحدها: أنهم قد ضلُّوا من قبلهم؛ والثاني: أنهم أضلُّوا أتباعهم، والثالث: أفهم ضلوا عن سواء السبيل، فهذه صفات (3) لأسلافهم الذين (4) نهى هؤلاء عن اتباع. أهوائهم، فلا يصح أن يكون وصفًا للموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم هم المنهيُّون أنفسهم لا المنهى عنهم، فتأمله. وإنما سِرُّ الآية: أنها اقتضت تكرر الضلال في النصارى ضلالًا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحقِّ، وهي نظير الآية التي تقدمت في تَكَرر الغضب في حق اليهود، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من __________ (1) (ق): "وهي". (2) في "الكشاف": (1/ 357). (3) من قوله: "أحدها ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) (ق): "للأسلاف الذي".

(2/438)


اليهود. ووجه تكرر هذا الضلال: أن الضَّال قد يضل عن نَفس (1) مقصُوْدِه، فيكون ضالًّا (2) فيه، فيقصد ما لا ينبغي أن يُقْصَد، ويعبد من لا ينبغي أن يُعْبَد (3)، وقد يُصيب مقصودًا حقًّا لكن يضل في طريقِ طلبِه والسبيلِ الموصلة إليه، فالأول: ضلال في الغاية. والثاني: ضلالَ في الوسيلة، ثم إذا دَعَا غيرَه إلى ذلك فقد أضلَّه. وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة: فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه، وزعموا أن إلههم بَشَر يأكل ويشرب ويبكي، وأنه قُتِل وصُلِب وصُفِع، فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به. وضلوا عن السبيل الموصلة إليه، فلا اهتدوا إلى المطلوب، ولا إلى الطريق الموصل إليه. ودعوا أتباعَهم إلى ذلك، فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرًا، فكانوا أدخلَ في الضلالِ من اليهود. فوُصِفُوا بأخصِّ الوصفين. والذي يحقق ذلك: أن اليهود إنما أُتوا من فساد (4) الإرادة والحسد، وإيثار ما كان لهم على قومهم من السُّحْت والرياسة فخافوا أن يَذْهب بالإسلام، فلم يؤتوا من عدم العلم بالحقِّ، فإنهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله كما يعرفون أبناءَهم، ولهذا لم يوبِّخهم الله -تعالى- ويقرِّعهم إلا بإرادتهم الفاسدة من الكِبْر والحسد وإيثار __________ (1) (ظ ود): "أن الضلال قد نفس"!. (2) (ق): "ضلال". (3) (ق ود): "ويعبد ما لا ينبغي له أن يعبده". و"له" من (ق) وحدها. (4) (ق): "نفس".

(2/439)


السحت والبغي وقتل الأنبياء، ووبَّخَ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق، فالشقاءُ والكفر ينشأ من عدمِ معرفةِ الحقِّ تارةً، ومن عدمِ إرادتِهِ والعملِ [به] أُخْرى، ويتركَّبُ منهما، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا؛ وكفر النصارى نشأَ من جهلهم بالحقِّ وضلالهم فيه، فإذا تبيَّن لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمةَ الغضبية وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين. ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبدُ أحوجَ شيء إلى أن يسأل الله -تعالى- كلَّ وقتٍ أن يهديه الصراط المستقيم: تعريفًا وبيانًا (1)، وإرشادًا وإلهامًا، وتوفيقًا وإعانة، فيعلمه ويعرفه؛ ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة "المغضوب عليهم" الذين عَدَلوا عنه على عَمْد وعِلْم، و"الضالين" الذين عدلوا عنه عن جَهْلٍ وضلال. وكان السلف يقولون (2): "من فسدَ من علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فَسَد من عُبَّادنا ففيه شَبَه من النصارى"، وهذا كما قالوه؛ فإن من فَسَد من العلماء فاستعملَ أخلاق اليهود من تحريف الكَلِم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه، وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقِسْط __________ (1) (ق): "وثباتًا". (2) قاله سفيان بن عُيينة، انظر "البداية والنهاية": (14/ 821) وذكره ابن تيمية في كتبه كثيرًا معزوًّا إلى ابن عيينة وغيره.

(2/440)


من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكِبْر والليّ والكتمان والتحريف (1) والتحيُّل على محارم الله، وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شَبَهُه باليهود ظاهر. وأما من فَسَد من العُبَّاد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله، وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلةَ الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوعٍ من الحُلول أو الاتحاد فشَبَهُه بالنصارى ظاهر. فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشَّبَهَين غايةَ البعد، ومن تصوَّر الشَّبَهَيْن والوَصْفين وعلم أحوالَ الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنَّفَس؛ لأن غاية ما يُقَدَّر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفَوْته شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يهدينا الصراطَ المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين، إِنه قريبٌ مجيبٌ. فصل وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم "المغضوب عليهم" على "الضالين"؛ فلوجوه عديدة: أحدها: أنهم مقدَّمون عليهم بالزمان. الثاني: أنهم كانوا هم الذين يَلُون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه، __________ (1) ليست في (ق).

(2/441)


ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور. الثالث: أن اليهود أغلظ كفرًا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة، فإن كفرهم عن عِناد وبَغْي كما تقدم، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أهم وأحق بالتقديم، وليس عقوبة من جَهِل كعقوبة من عَلِم وعاند. الرابع: -وهو أحسنها- أنه تقدم ذِكْر المُنْعَم عليهم، والغضبُ ضد الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يُذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم "الضالين"، فقولك: "الناس مُنْعَم عليه ومغضوب عليه فكن من المُنْعَم عليهم"، أحسن من قولك: "مُنْعَم عليه وضال". فصل وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي (1) الضالين باسم الفاعل، فجوابها ظاهر؛ فإن أهل الغضب من غَضِب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوبٌ عليهم، وأما أهل الضلال؛ فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا (2) الضلال واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال: ولا المُضَلِّين، مبنيًّا للمفعول، لما في رائحته من إقامة عذرهم، وأنهم لم __________ (1) (ق): "ودون". (2) (ق): "وأبرزوا".

(2/442)


يكتسبوا الضلالَ من أنفُسِهم (1) بل فُعِلَ فيهم، ولا مُسْتراح في هذا للقدرية، فإنّا نقول: إنهم هم الذين ضلوا، وإن كان الله أضلهم، بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلًا إلا على جهَة المجاز لا الحقيقة، فتضمنت الآية الردَّ عليهم كما تضمن قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} الرد على القدرية، ففي الآية إبطال قول الطائفتين، والشهادةُ لأهل الحق أنهم هم المصيبون، وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا، والقدرةِ لإضافة أفعالِ العبادِ إليهم عملًا وكسبًا، وهو مُتَعَلَّق الأمر والنهي (2)، كما أن الأول مُتَعَلَّق الخلق والقدرة (3)، فاقتضت الآيةُ إثبات الشَّرْع والقَدَر والمعاد والنبوَّة، فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمُنْعَم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا، وهداية أتباعهم إنما يكون على أيديهم، فاقتضت إثبات النبوة بأقربِ طريقٍ وأبينها وأدلِّها على عموم الحاجة وشدَّة الضرورة إليها، وأنَه لا سبيل للعبد أن يكون من المُنْعَم عليهم إلا بهداية الله له، ولا تُنال هذه الهداية إلَّا على أيدي الرُّسل، وأن هذه الهداية لها ثمرة، وهي: النعمة التامة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرة، وهي: الغضب المقتضي للشَّقاءِ الأبدي، فتأمل كيف اشتملت هذه الآية -مع وجازتها واختصارها- على أهمِّ مطالب الدين وأجلِّها، والله الهادي إلى سواء السبيل. فصل وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة "لا" بين المعطوف __________ (1) "الضلال" من (ظ ود)، و"أنفسهم" من (ق). (2) في "المنيرية": "العمل". (3) من قوله: "لإضافة أفعال ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/443)


والمعطوف عليه؟ ففي ذلك أربع فوائد: أحدها: أن ذِكْرها تأكيد للنفي الذي تضمَّنه "غير"، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عُطِفَ عليها بـ "لا" مع "الواو" فهو في قوة: "لا المغضوب عليهم ولا الضالين"، أو: "غير المغضوب عليهم وغير الضالين". الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلِّ نوع بمفرده، فلو لم يذكر "لا" وقيل: "غير المغضوب عليهم والضَّالين"، أَوْهَمَ أن المراد ما غايَر المجموعَ المركبَ من النوعين لا ما غايَر كلَّ نوع بمفرده، فإذا قيل: "ولا الضالين"، كان صريحًا في أن المراد: صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيدٌ وعَمْرو، فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كلِّ واحد منهما بمفرده، فإذا قلت: "ما قام زيد ولا عَمْرو"، كان صريحًا في تسليط النفي على كلِّ واحدٍ منهما بمفرده (1). الفائدة الثالثة (2): رفع توهم أن "الضالين" وصف للمغضوب عليهم، وأنهما صنف واحد وُصِفُوا بالغضب والضلال، ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضِها على بعض، نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} [المؤمنون: 1 - 3] إلى آخرها، فإن هذه صفات للمؤمنين، ومثل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3] ونظائره، __________ (1) من قوله: "بمفرده فإذا ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) لم يذكر المؤلف الفائدة الرابعة.

(2/444)


فلما دخلت "لا" عُلِم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر، وكانت "لا" أولى بهذا المعنى من "غير" لوجوه؛ أحدها: أنها أقل حروفًا، الثاني: التفادي من تَكْرار اللفظ، الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ "غير" مرتين من غير فَصْل إلا بكلمةٍ مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان، الرابع: أن "لا" إنما يُعْطَف بها بعد النفي، فالإتيان بها مُؤْذِن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم، كما نُفِيَ عنهم الضلال، و"غيرُ" وإن أفهمت هذا فـ "لا" أدخلُ في النفي منها، وقد عُرِف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة، وهي: أن "لا" إنما يُعْطَف بها في النفي. فصل وأما المسألة السابعة عشرة: وهى أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات؛ فاعلم أن أنواع الهداية أربعة: أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، المذكورة في قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه ت 50] أي: أعطى كلَّ شيء صورتَه التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كلَّ عضو شكلَه وهيأتَه، وأعطى كل موجود خلقَه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه الهداية تعمُّ هِداية (1) الحيوان المتحرِّك بإرادته إلى جَلْب ما ينفعه ودَفْع ما يضره، وهداية الجماد المسخَّر لما خُلِق له، فله هداية تليق به، كما أن لكلِّ نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وصورها (2)، وكذلك لكل عضو هدايةٌ تليقُ به، __________ (1) "تعم هداية" سقطت من (ظ ود). (2) (ق): "وضروبها".

(2/445)


فهدى الرِّجْلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيَّات، وكلَّ عضو لما خُلِقَ له، وهدى الزوجين من كلِّ حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه. ومراتب هدايته -سبحانه- لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين. وهدى النَّحْل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذلَّلة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة (1) البناء. ومن تأمل بعضَ هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسرِ نظر، وأوَّلِ وهلة، وأحسنِ طريق وأخصرِها، وأبعدِها من كلِّ شبهة، فإن من لم يُهْمِل هذه الحيوانات سُدًى ولم يتركها مُعَطَّلة، بل هداها (2) إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يتركَ النوعَ الإنساني -الذي هو خلاصة الوجود الذي كرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه- مهملًا وسُدًى معطَّلًا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته، بل يتركه معَطَّلًا لا يأمره ولا ينهاه، ولا يُثيبه ولا يعاقبه، وهل هذا إلا منافٍ لحكمته، ونسبةٌ له إلى ما لا يليق بجلاله؟! ولهذا أنكر ذلك على (3) من زعمه ونزَّه نفسه عنه، وبيَّنْ أنه يستحيل نِسْبة ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه، __________ (1) سقطت من (ق). (2) "بل هداها" سقطت من (د). (3) (ق): "أنكره على".

(2/446)


فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116] فنزَّه نفسَه عن هذا الحسبان، فدلَّ على أنه مستقر بطلانه في الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل، وأنه مما تظاهر عليه العقلُ والشرعُ، كما هو أصحُّ الطريقين في ذلك، ومن فهم هذا فهم سِرَّ (1) اقتران قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38] بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)} [الأنعام: 37] وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأن من لم يُهْمل أمرَ كلِّ دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه، بل جعلها أُممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم؟! فهذه أحدُ أنواع الهداية وأعمُّها. النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لِنَجْدَي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام، فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينتفي الهدى معها، كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أي: بيَّنا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا. ومنها قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام، وهى الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلَّف عنها، وهى المذكورة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ __________ (1) (ظ ود): "عُسر" وهو خطأ.

(2/447)


وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وفي قوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِل فلا هَادِيَ لَه" (1)، وفي قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فنفى عنه هذه الهداية وأثبتَ له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. النوع الرابع: غاية هذه الهداية، وهى الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقال تعالى عن أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22 - 23]. إذا عُرِفَ هذا؛ فالهداية المسؤولة في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم"، إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة (2) خاصة، فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام. فإن قيل: كيف يَطْلب التعريف والبيان (3) وهو حاصل له؛ وكذلك الإلهام والتوفيق؟. قيل: هذه هى المسألة الثامنة عشرة: وقد أجاب عنها من أجاب __________ (1) قطعة من حديث خطبة الحاجة، وقد جاءت من حديث ستة من الصحابة. انظر تخريجها في رسالة مفردة للشيخ الألباني - رحمه الله-: (ص/ 12 - 30). (2) سقطت من (ظ ود). (3) من قوله: "والإرشاد ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/448)


بأن المراد. التثبيتُ ودوامُ الهداية، ولقد أجاب وما أجاب! وذكرَ فرعًا لا قوام له بدون أصله، وثمرةً لا وجود لها بدون حاملها! ونحن نبين بحمد الله أن الأمر فوق ما أجاب به وأعظم من ذلك بحول الله. فاعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور، وهو محتاج إليها حاجة لا غِنَى له عنها. الأمر الأول: معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبًا للرب تعالى مَرْضِيًّا له فيؤثره، وكونه مبغوضًا (1) له مسخوطًا له فيجتنبه، فإن نَقَضَ هذا العلم والمعرفة شيءٌ نَقَضَ الهداية التامةِ بحسبِه. الأمر الثاني: أن يكون مريدًا لجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازمًا عليه، ومريدًا لترك جميع ما نهى الله عنه، عازمًا على تركه بعد خُطُوره (2) بالبال مفصَّلًا، وعازمًا على تركه من حيث الجملة مجملًا، فإن نَقَص من إرادته لذلك شيء نَقَصَ من الهدى التام بحسب ما نَقَص من الإرادة. الأمر الثالث: أن يكون قائمًا به فعلًا وتركًا، فإن نَقَص من فعله شيء نَقَص من هداه بحسبه. فهذه ثلاثةٌ هي أصولٌ في الهداية، ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها: أحدها: أمورٌ هُدِيَ إليها جملةً ولم يَهْتد إلى تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها. الثاني: أمور هُدِيَ إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام __________ (1) في (ظ): "مغضوبًا" ومحرفة في "د". (2) (ق): "حضوره".

(2/449)


الهداية فيها لتكمل له هدايتها (1). الثالث: الأمور التي هُدِيَ إليها تفصيلًا من جميع وجوهها، فهو محتاج إلى الاستمرار على الهداية والدوام عليها. فهذه ستة أصول تتعلق بما يُعْزم على فعله وتركه، ويتعلق بالماضي [أمر سابع] (2)، وهو: أمورٌ وقعت منه على غير (3) جهة الاستقامة، فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها، وإذا كان كذلك فإنما يقال: كيف يَسألُ الهدايةَ وهى موجودة له، ثم يُجَاب عن ذلك: بأن المراد التثبيت والدوام عليها. إذا كانت هذه المراتب الست حاصلة له بالفعل، فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال (4) تثبيت ودوام، فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه، ومالا يريده من رشده أكثر مما يريده، ولا سبيلَ له إلى فعله: إلا بأن يخلق الله فاعِليته، فالمسؤول هو أصلُ الهداية على الدوام تعليمًا وتوفيقًا، وخَلْقًا للإرادة فيه، وإقدارًا له وخلقًا لفاعليته وتثبيتًا. له على ذلك، فعُلِمَ أنه ليس أعظم ضرورةً منه إلى سؤال الهداية: أصلها وتفصيلها، علمًا وعملًا، والتثبيت عليها، والدوام إلى الممات. وسِرُّ ذلك: أن العبدَ مفتَقِرٌ إلى الهداية في كلِّ نَفَسٍ، في جميع ما يأتيه ويذره، أصلًا وتفصيلًا وتثبيتًا، ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام، فليس له أنفع ولا هُوَ إلى شيءٍ أحوج من سؤال الهداية، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبِّت قلوبَنا على دينه. __________ (1) "لتكمل له هدايتها" ليست في (ق). (2) (ق وظ): "أمرًا شائعًا" و (د): "أمرًا سابعًا". (3) سقطت من (ق). (4) ليست في (ق).

(2/450)


فصل وأما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ضمير جمع؛ فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كلَّ عضو من أعضاء العبد، وكلَّ حاسَّةٍ ظاهرة وباطنة مفتقِرَة إلى هداية خاصة به، فأتى بصيغة الجمع تنزيلًا لكلِّ عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه. وعرضتُ هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحَه- فاستركَّه واستضْعَفَه جدًّا ولم يرضه (1)، وهو كما قال، فإن الإنسان اسم للجملة لا لكلِّ جزءٍ من أجزائه وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال: "اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني"، سائلٌ من الله ما يحصل لجملته ظاهِرِه وباطِنِه، فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألةً تخصه يُفْرِد لها لفظة. فالصواب أن يقال: هذا مطابق لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب -تعالى- وإقرار بالفاقة إلى عبودية واستعانته وهدايته، فأتى فيه بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مُقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظَّم شأنه: "نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك"، فيكون هذا أحسن وأعظم موقعًا عند الملك من أن يقول: "أنا عبدك ومملوكك"، ولهذا لو قال: "أنا وحدي مملوكك"، استدعى مَقْته، فإذا قال: "أنا وكل من في البلد __________ (1) من (ق).

(2/451)


مماليكك وعبيدك (1) وجُنْد لك"؛ كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدًّا وأنا واحد منهم، فكلُّنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك، فقد تضمَّن ذلك من الثناء على الرب بِسَعَة مجده، وكثرة عبيده، وكثرة سائليه. الهداية ما لا يتضمنه لفظَ الإفراد، فتأمله. وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201] ونحو دعاء آخر البقرة، وآخر آل عمران وأولها، وهو أكثر أدعية القرآن. فصل وأما المسألة العشرون: وهي ما هو الصراط المستقيم؟. فنذكر فيه قولًا وجيزًا، فإن الناس قد تنوَّعت عباراتهم: فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقتُه شيءٌ واحد، وهو: طريق الله الذي يرتضيه لعباده، موصلًا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطُّرُق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلًا لعباده إليه (2)، وهو: إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدًا في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول. وهذا معنى قول بعض العارفين: "إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين؛ صِدْق محبته وحُسْن معاملته"، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأيُّ شيءٍ فُسِّر به الصراط __________ (1) (ق وظ): "وعبيد" والمثبت من (د). (2) العبارة في (ظ ود) فيها سقط واضطراب، والمثبت من (ق) مع بعض الإصلاح.

(2/452)


فهو داخل في هذين الأصلين، ونُكْتَةُ ذلك وعَقْدُه: أن تحبه بقلبك كلِّه وتُرْضيه بجهدك كلِّه، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بالتحقُّق بشهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بالتحقُّق بشهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعثَ اللهُ به رسلَه والقيام به. فَقُل ما شئتَ من العبارات التي هذا أحسنها وقُطْب رَحَاها، وهي معنى قول من قال: "علومٌ وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مِشْكاة النبوة"، ومعنى قول من قال: "متابعة رسول الله ظاهرًا وباطنًا عِلمًا وعَمَلًا"، ومعنى قول من قال: "الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره" (1). وأما ما عدا هذا (2) من الأقوال، كقول من قال: "الصلوات الخمس"، وقول من قال: "حب أبي بكر وعمر"، وقول من قال: "هو أركان الإسلام الخمس التي بُنِيَ عليها"، فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع، لا تفسير مُطابق له، بل هى جزء من أجزائه، وحقيقَتُهُ الجامعةُ ما تقدَّم (3)، والله أعلم. فائدة (4) في ذكر بدل البعض من الكل، وبدل المصدر من الاسم، وهما __________ (1) انظر هذه الأقوال وغيرها في "تفسير الطبري": (1/ 103 - 105)، و"الدر المنثور": (1/ 40 - 41). (2) (ق): "عداها". (3) وانظر "مجموع الفتاوى": (13/ 336). (4) "نتائج الفكر": (ص / 307).

(2/453)


جميعًا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من: الشيء، وهما لعين واحدة، إلا أن البدلَ في هذين الموضعين لابُد من إضافته إلى ضمير المبدل منه، بخلاف بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة. أما اتفاقهما (1) في المعنى؛ فإِنك إذا قلتَ: "رأيتُ القومَ أكثرهم أو "نصفهمِ"، فإنما تكلَّمتَ بالعموم وأنت تريدُ الخصوص، وهو كثير شائع، فأردتَ: رأيت بعض القوم، وجعلت "أكثرهم" أو "نصفهم" تبيينًا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسمُ المبدلُ مضافًا إلى القوم، فقد آل الكلامُ إلى أنك أبدلت شيئًا من شيء وهما لعين واحدة. وكذلك بدل المصدر من الاسم؛ لأن الاسم من حيث كان جوهرًا لا يتعلَّق به المدح والذم، والإعجاب والحب والبغض، إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به، فإذا قلتَ: "نفعني عبد الله" عُلِم أن الذي نفعك منه صفةٌ وفعل من صفاته وأفعاله لا ذاته، ثم بيَّنت ذلك الوصف والفعل، فقلت: "علمه أو إرشاده: أو رُؤيته" فأضفتَ ذلكَ إلى ضميرِ الاسمِ كما كان الاسم المبدلُ منه مضافًا إليه في المعنى، فصار التقدير: "نفعني صفةُ زيد أو خَصْلةٌ من خصاله"، ثم بينتَها بقولك: "علمه أو إحسانه أو لقاؤه"، فآل المعنى إلى بدل الشيءِ من الشيءِ، وهما لعينٍ واحدة. وإذا تقرر هذا فلا يصحُّ في بدل الاشتمال أن يكون الثاني جوهرًا؛ لأنه لا يبدل جوهر من عَرَض، ولابد من إضافته إلى ضمير __________ (1) في الأصول: "اتفاقهم".

(2/454)


الاسم؛ لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير، والعجب من الفارسيِّ يقول في قوله تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)} [البروج: 5] أنها بدل من (الأخدود) بدل الاشتمال، والنار جوهر قائم بنفسه، ثم ليست مضافة إلى ضمير (الأخدود)، وليس فيها شرط من شرائط الاشتمال! وذَهَل أبو علي عن هذا، وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال: "قتل أصحاب الأخدودِ، أخدودِ النار ذات الوقود"، فيكون من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، كما قال الشاعر (1): * رَضِيْعَي لِبَانٍ ثَدْىِ أُمٍّ تَحَالَفا * على رواية الجر في "ثدي أم" أراد: لبان ثدي، فحذف المضاف. فائدة بديعة (2) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. {حِجُّ الْبَيْتِ} مبتدأ، وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله: {عَلَى النَّاسِ} لأنه وجوب، والوجوب يقتضي "على"، ويجوز أن يكون في قوله: {وَلِلَّهِ} لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير، __________ (1) هو: الأعشى ميمون قيس، "ديوانه": (ص/ 225). وعجزه: * بأَسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نتفرَّق * (2) "النتائج": (ص/ 309).

(2/455)


وكان الأحق (1) أن يكون {وَلِلَّهِ}، ويرجح الوجه الأول بأن يقال: قوله: "حج البيت على الناس" أكثر استعمالًا في باب الوجوب من أن يقال: حج البيت لله، إي: حقٌّ واجب لله، فتأمله. وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول -وليس بخبر- فائدتان: إحداهما: أنه اسم للمُوْجِب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثةَ أمور مرتبة بحسب الوقائع (2): أحدها: الموجِب لهذا الفرض فبُدئ بذكره. والثاني: مؤدى الواجب وهو المفتَرَض عليه، وهم الناس. والثالث: النسبة والحق المتعلق به إيجابًا وبهم وجوبًا وأداءً وهو الحج. والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان اسمًا لله سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيمًا لحرمةِ هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفًا من تضييعه؛ إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره. وأما قوله "من" فهي بدل، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: "أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلًا"، وهذا القول يضعف من وجوهٍ: منها: أَنَّ الحج فرض عين، ولو كان معنى الآية ما [ذكروه] لأفهم فرض الكفاية؛ لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذِممُ غيرهم؛ لأن المعنى يؤول إلى: ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم، __________ (1) (ق): "فكان الأحسن". (2) (د): "الواقع".

(2/456)


فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبًا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض عَيْن على كلِّ أحدٍ، حجَّ المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله -سبحانه- عَذَر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه، وليس حجُّ المستطيعين بمُسْقِطٍ للفرض عن العاجزين. وإن أردت زيادة إيضاح، فإذا قلتَ: "وجبٌ على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد"، فإذا جاهدَتْ تلك الطائفةُ انقطعَ تعلق الوجوب عن غيرهم. وإذا قلتَ: "واجبٌ على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع"، كان الوجوب متعلقًا بالجميع، وعُذْر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال: "ولله حج البيت على المستطيعين"، هذه النكتة البديعة، فتأملها. الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل -إذا وُجِدَ- أولى من إضافته إلى المفعول، ولا يُعْدل عن هذا الأصل إلا بدلَيل منقول، فلو كان "مَنْ" هو الفاعل لأضيف المصدر إليه، فكان يقال: "ولله على الناس حجُّ من استطاع"، وحَمْله على باب: "يعجبني ضَرْب زيدًا عمرو"، مما يُفْصَل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حَمْلٌ على المكثور (1) المرجوح، وهي قراءة ابن عامر: {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (2) [الأنعام: 137]، فلا يُصَار إليه. __________ (1) (ق): "المكتوب". (2) انظر: "النشر": (2/ 263 - 265) لابن الجزري.

(2/457)


وإذا ثبت أن "من" بدل بعض من كل، وجبَ أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس، كأنه قيل: "من استطاع منهم"، وحَذْف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يَحْسُن، وحَسَّنَه هاهنا أمور: منها: أن "من" واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه، فارتبطت به. ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت الصِّلة أعم لقبح حذف الضمير العائد. ومثال ذلك: إذا قلتَ: "رأيت إخوتكَ من ذهب إلى السوق"، تريدُ: من ذهب منهم؛ لكان قبيحًا؛ لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة، وكذلك لو قلت: "البس الثيابَ ما حَسُن وجَمُل" (1)، تريد: منها، ولم تذكر الضمير؛ لكان أبعد في الجواز؛ لأن لفظ "ما" أعم من [لفظ] الثياب (2)، و [حق] باب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعمَّ وأضفته إلى ضمير، أو قيدته بضمير يعود إلى الأول، ارتفع العموم وبقي الخصوص. ومما حَسَّنَ حذف الضمير (3) في هذه الآية -أيضًا مع ما تقدم- طولُ الكلام بالصلة والموصول. وأما المجرور من قوله "إليه" فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع حال من "سبيل"، كأنه نعتُ نكرةٍ قُدِّمَ عليها؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل. __________ (1) "النتائج": "وكمل". (2) في الأصول: "لأن لفظ ما أحسن أعم من الثياب" والمثبت من "النتائج". (3) (ق): "المضاف".

(2/458)


والثاني: أن يكون متعلقًا بسبيل. فإن قيل: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟. قيل: "السبيل" لما كان هاهنا عبارة عن الموصِّل إلى البيت من قوة وزاد ونحوهما، كان فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور به، واقتضى حُسْن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير؛ لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدِّمون في كلامهم ما هم به أهمُّ، وببيانه أعنى. هذا تعبير السُّهيلي (1)، وهو بعيدٌ جدًّا! بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليقُ بالآية سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله: {عَلَى النَّاسِ}، أي: يجب لله على الناس الحج، فهو حق وواجب لله. وأما تعليقه بـ "السبيل" أو جعله حالًا منها ففي غايةِ البُعْد، فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما يقول: لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة والصيام (2). ومن فوائد الآية وأسرارها: أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم، نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وفي الحج أتى بهذا النظم (3) الدال على __________ (1) في "نتائج الفكر": (ص/ 311). (2) من (ق). وتكررت "الصلاة" في (ظ ود). (3) (ق): "اللفظ".

(2/459)


تأكد الوجوب من عشرة أوجه: أحدها: أنه قدَّم اسمه -تعالى- وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثمَّ ذَكَر من أوجبه عليهم بصيغةِ العموم الداخلة عليها حرف "على"، ثم أبدلَ منه أهل الاستطاعة، ثم نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قُوْتٍ أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمَّى سبيلًا، ثم أتْبعَ ذلك بأعظم التهديد بالكفر، فقال: {وَمَنْ كَفَرَ}، أي: بعدم التزام هذا الواجب وتركه، ثم عَظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد، ولا حاجةَ به إلى حجِّ أحد، وإنما في ذِكْر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقتِهِ له، وسخطه عليه، وإعراضه بوجهه عنه ما هو من (1) أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكَّد ذلك بذكر اسم "العالمين" عمومًا، ولم يقل: فإن الله غني عنه؛ لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلهم فله الغِنَى الكامل التام من كلِّ وجهٍ عن كل أحدٍ بكل اعتبار. فكان أدل على عِظَم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه. فم أكَّد هذا المعنى بأداة "إن" الدالة على التوكيد. فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم. وتأمَّل سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين. مرَّة بإسناده إلى عموم الناس، ومرةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد، ولهذا كان في نية تَكْرار العامل وإعادته. ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد __________ (1) ليست في (ق).

(2/460)


الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحُلتين اعتناء به وتأكيدًا لشأنه. ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذِكْر محاسن البيت وعِظَم شأنه بما يدعو النفوسَ إلى قصده وحجِّه، وإن لم يطلب ذلك منها، فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] فوصفه بخمس صفات: أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وَضْعًا في الأرض. الثاني: أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق. الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى. الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية. الخامس: الأمن الحاصل (1) لداخله. وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصدِه ما يبعث النفوسَ على حجِّه، وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أَتْبَع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدلك على الاعتناء منه -سبحانه- بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا. وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسَهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، __________ (1) من (ق).

(2/461)


فهو المثابة للمحبين، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبدًا، كلما أزدادوا له زيارة (ظ/ 81 أ) ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوِصَال يشْفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل: أطوفُ به والنفسُ بعد مَشُوقة ... إليه وهل بعد الطوافِ داني وألثمُ منه الركنَ أطلبُ بَرْدَ ما ... بقلبيَ من شوقٍ ومن هيمان فوالله ما أزدادُ إلا صَبَابةً ... ولا القلبُ إلا كثرةَ الخفقانِ فيا جنةَ المأوى ويا غايةَ المنى ... ويا مُنْيَتي من دون كلِّ أمان أبَتْ غَلَباتُ الشوقِ إلا تقرُّبًا ... إليك فما لي بالبعاد يدان وما كان صَدِّي عنك صدّ ملالةٍ ... ولي شاهد من مقْلَتي ولساني دعوتُ اصطباري عنك بعدك والبُكا ... فلبَّى البُكا والصبر عنك عصاني وقد زعموا أَن المحبَّ إذا نأى ... سَيَبْلى هواه بعد طوكِ زمانِ ولو كان هذا الزعم حقًّا لكان ذا ... دواء الهوى فى الناس كلّ أوان بلى إنه يبلى التصبُّر والهوى ... على حاله لم يُبْلِه المَلَوان وهذا محبٌّ قادَهُ الشوقُ والهوى ... بغير زمامٍ قائد وعنان أتاك على بُعْد المزار ولو وَنَت ... مطيَّته جاءت به القدَمان فائدة بديعة (1) قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] من __________ (1) "نتائج الفكر" (ص/ 312).

(2/462)


باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلِمَ قدِّم الشهر (ق/106 ب) وقد قلتم: إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهم وهم به أَعْنَى؟. قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر الحرام، وتَشْنيع أعدائهم عليهم بانتهاكه وانتهاك حرمته، فكان اغتمامُهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حُرمة الشهر فلذلك قُدِّم في الذِّكر، وكان تقديمه مطابقاً لما ذكرنا من القاعدة. فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلاَّ اكتفى بضميره، فقال: "قل: هو كبير"، وأنت إذا قلتَ: سألته عن زيد أهو في الدار؛ كان أوجزَ من أن تقول: "أزيد في الدار". قيل: في إعادته بلفظ الظاهر نكْتة بديعة، وهي تعليِق الحكم الخبري باسم القتال فيه عمومًا، ولو أتى بالمضمر فقال: "هو كبير"، لتوهم اختصاص الحكم يذلك القتال المسؤول عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عام في كلِّ قتال وقعَ في شهرٍ حَرَام. ونظير هذه الفائدة: قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الوضوء بماء البحر -فقال: "هُوَ الطَّهوْرُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ" (1) فأعاد لفظ "الماء" ولم يقتصر على قوله: "نعم توضؤوا به" لئلاَّ يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص، فعدل عن قوله: "نعم توضؤوا" (2) __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (83)، والترمذي رقم (69)، والنسائي: (1/ 50)، وابن ماجه رقم (386)، وغيرهم. والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وتكلّم فيه غير واحد. (2) من قوله: "به، لئلا ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/463)


إلى جواب عامٍّ يقتضي تعليق الحكم والطهورية بنفس مائة من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الآية، وبطل توهُّم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع. فكذلك (ظ/ 81 ب) في الآية لما قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، فجعلَ الخبر بـ"كبير" واقعًا على "قتال فيه" فتعلَّق الحكمُ به على العموم، ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك. وقريب من هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170] ولم يقل: أجرهم، تعليقًا لهذا الحكم بالوصف، وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدلُّ على الوصف المذكور. وقريبٌ منه -وهو ألطف معنى- قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ولم يقل: "فيه" تعليقًا لحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} ولم يقل (1): الحيض أذى، لأنه جاءَ به على الأصل (2)؛ ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذِكْره بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسن من ذِكْره مضمرًا، ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضًا، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى}، فإنه إخبارْ بالواقع، والمخاْطَبون يعلمون أن جهةَ كونه أذَى هو نفس كونه حَيْضاً، بخلاف (ق/ 107 أ)، تعليق الحكم به فإنه إنما يُعلم بالشرع فتأمله. __________ (1) من قوله: "فيه تعليقًا .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ظ ود): "إذ الآية جارية على الأصل".

(2/464)


فائدة (1) إنما امتنع الحال من المضاف إليه (2)؛ لأن الحال يشبه الظرف والمفعول فلابد لها من عامل، ومعنى الإضافة أضعف من لامها، ولامها لا تعمل في ظرف ولا مفعول، فمعناها أولى بعدم العمل. فإن قلت: فاجعل العامل فيها (3) هو العامل في المضاف. قلت: هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها، فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف (4)؛ لكانت حالاً منه دون المضاف إليه، فتستحيل المسألة، فأما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل، نحو قولك: "هذا ضاربُ هند قائمة"، و"أعجبني خروجُها راكبة"، جاز انتصاب الحال من المضاف إليه؛ لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حالٌ منه، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: 128] وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ} [التغابن: 10] فإن ما في "مثوى" و"صاحب" من معنى الفعل يُصَحِّح عمله فى الحال، بخلاف قولك: "رأيت غلامَ هند راكبة"، فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل. وقد يجوز انتصاب الحال عن المضاف إليه إذا كان المضاف جزءه أو يُنزَّل منزلة جُزئه، نحو: "رأيت وجهَ هند قائمة"؛ لأن __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 315). (2) (ظ ود): "والمضاف"!. (3) (ظ): "هنا"، (د): "فاجعل فيها". (4) من قوله: "قلت: ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/465)


البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له، فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها، لتنزُّله منزلته، وسريانُ حكمِ البعض إلى الكلِّ لا يُنكَر لغةً ولا شرعًا ولا عقلاً، فاللغة: نحو هذا، ونحو قوله: "ذهبت بعض أصابعه"، و"شرقت صدر القناة"، و"تواضَعَتْ سُور المدينة"، وهو كثير. وأما الشرع: فكَسَريان العِتْق في الشقص المشترك، وأما العقل: فإن الارتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لإحدهما ما يثبت للآخر، وعلى هذا جاء قول الشاعر (1): * كأن حواميه مدبراً * وقول حبيب (2): * والعِلمُ في شهُبِ الأرْماحِ لامِعَةً * فائدة بديعة (3) إن قيل: كيف يضمرون الناصب في مثل: * لليسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني (4) * __________ (1) هو النابغة الجعدي: كما في "الخزانة": (3/ 161)، و"أمالى ابن الشجري": (1/ 24)، وعجزه: "وإن كان لم يخضب". (2) هو: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، "ديوانه": (1/ 96)، وعجزه: * بينَ الخميسينِ لا في السبعةِ الشُّهُبِ * (3) "نتائج الفكر": (ص/ 317). (4) من شواهد الكتاب: (ا/ 264)، ونسبه في "الخزانة": (8/ 503) لميسون بنت بحدل الكلبية، وعجزه: * أَحبّ إلىَّ من لُبسِ الشُّفوفِ *

(2/466)


وبابه، ولا يجوَّزون إضمار الخافض ولا الجازم، ولا إضمار نواصب الأسماء (1)، وعواملُ الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال؟. قيل: نحن لا نجيز إضمار "أن" الناصبة إلا بإحدى شرائط، إما مع الواو العاطفة (ظ/82 أ) على مصدر، نحو. * تَقَضِّى لُباناتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ (2) * و: * للُبْس عباءَةٍ وتقرَّ عيني * ألا ترى أنك لو جعلتَ مكان "اللبس" و"التَّقضِّي" اسماً غير مصدر، فقلتَ: يعجبني زيد ويذهبَ عمرو، لم يجز؛ وإنما جاز هذا مع المصدر؛ لأن الفعلَ المنصوبَ بـ "أن" مشتق من المصدر ودالٌّ عليه بلفظه، فكأنك عطفتَ مصدرًا على مصدر. فإن قيل: (ق/ 107 ب) فكان ينبغي أن يُسْتَغنى بمجرد لفظ الفعل عن ذكر المصدر وإضمار "أن"، فيقال: ألبس عباءةً وتقرّ عيني، وأَقضِي لُباناتٍ ويسأمَ سائم؟. قيل: هذا سؤالٌ حسن يستدعى جوابًا قويًّا، وقد أجيب عنه: بأن الأول لو جُعِل فعلاً مضارعًا لكاد مرفوعًا، فإذا عُطِف عليه الثاني شاركه في إعرابه وعامِلِه، ورافِعُ المضارع ضعيف لا يَقْوى على العمل في الفعلين، فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد. __________ (1) (ظ ود): "الأفعال"!. (2) للأعشى، "ديوانه": (ص/77)، وصدره: * لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتُه *

(2/467)


ولا يخفى فساد هذا الجواب، فإنه منتقض بالطَّم والرِّم مما يعطف فيه المضارع على مثله، كقولك: "زيد يذهب ويركب"، و: "إنما يذهب ويخرج زيد"، وأمثال ذلك. فالجواب الصحيح أن يقال: المراد ما في المصدر من الدَّلالة على ثبوت نفسِ الحدث، وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان، فلو أتى بالفعل المقيد بالزمان لفات الغرض، ألا ترى أن قولها: "للُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني"، المراد به حصول نفس اللبس مع كونها (1) تقر عينُها كلَّ وقت شيئاً بعد شيء، فقرةُ العين مطلوبٌ تجدُّدها بحسب تجدد الأوقات، وليس هذا مرادًا في لبس العباءة، وكذا قولك: "أكْلُ الشعير وأكُفَّ وجهي عن الناس أحب إِليَّ منْ أَكل البر وأبذلَ وجهي لهم"، أفلا ترى أنه يُفضل (2) أكل الشعير على أكل البر، ويدوم له كَف وجهه عن الناس، كما أن تِلك فضَّلت لُبْس العباءة على لبس الشُّفوف وتدوم لها قُرة العَين. فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان. ولما كانت "أن" والفعل تقع موقع المصدر ويؤوَّلانِ به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الاسم، نحو قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] -أي: صيامكم (3) - أُوِّلَ المصدر بـ "أن" والفعل في صِحَّة عَطْف الفعل عليه، وهذا من باب المقابلة والموازنة، وقد جاء عطفُ الفعل على الاسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، و {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]، __________ (1) (ق): "بكونها". (2) (ق ود): "تفضيل نفس". (3) "أي: صيامكم "ليست في (ق).

(2/468)


ومنه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 45 - 46]} لأن الاسم المعطوف عليه لما كان حاملاً للضمير صارَ بمنزلة الفعل، ولو كان مصدرًا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار "أن"؛ لأن المصادر لا تتحمل الضمائر. فإن قيل: فلم جاز عطفُ الفعل على الاسم الحامل للضمير ولم يعطف الاسم على الفعل، فتقول: مررتُ برجلٍ يقعد وقائم، كما تقول: قائم ويقعد. قيل: هذا سؤالٌ قوي، ولما رأى بعض النحاة أنه لا فرق بينهما أجاز ذلك وهو الزجاج، فإنه (ق/ 108 أ) أجازه في "معاني القرآن" (1)، والصحيحُ: أنه قبيح. والفرقُ بينهما أنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رَدَدت الفرع إلى الأصل؛ لأن الاسم أصل الفعل والفعل متفرِّع عنه، فجاز عطف الفعل عليه! لأنه ثان والثواني فروع على الأوائل. وإذا عطفتَ الاسمَ على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعاً وجعلته ثانيًا، وهو أحق (ظ/ 82 ب) بأن يكون مقدَّمًا لأصالته. وسرُّ المسألة؛ أن عَطْف الفعل على الاسم في محل قوله: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}، و: "مررتُ برجل قائم ويقعد"؛ لأن الاسم مُعْتمد على ما قبله، وإذا كان اسم الفاعل معتمدًا عَمِل عَمَل الفعل وجرى مجراه، والاعتماد أن يكون نعتاً أو خبرًا أو حالاً، والذي بعد "الواو" ليس بمعتمد، فلو عكستَ المسألة وقلت: "يصففن وقابضات"، و"يقوم وقاعد"؛ قَبُح، لأن ما بعد "الواو" اسم محض وليس بمعتمد، فيجري مَجْرى الفعل (2). __________ (1) (1/ 412). (2) (ق): "وليس بمعتمد فجرى مجرى الفعل" وبقية الكلام ساقط.

(2/469)


فائدة (1) لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره، جاء مصدره مُثْقَلاً بالحركات؛ إذ الثقل (2) من صفة ما لزم محله ولم ينتقل منه إلى غيره، والخِفَّة من صفة المنتقل من محله إلى غيره، فكان خِفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازيًا للمعنى، فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظًا ومعنى، وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف: لفظًا ومعنى. ومن هاهنا يرجح قول سيبويه (3) أن: "دخلت الدار" غير متعدٍّ؛ لأن مصدره دخول، فهو كالخروج والقعود وبابه، إلا أن الفعلَ منه لم يجيء على "فَعُل"؛ لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه، فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة ثقَّلوه بضم العين، كظَرُف وكَرُم، فهذا الباب ألزم للفاعل من باب "قَعَد ودَخَل"، فكان أثقلَ منه لفظًا، وباب "قَعَد وخَرَج" ألزم للفاعل من الفعل المتعدي، كـ "ضَرَب" فكان أثقل منه مصدراً، وإن اتفقا في لفظ الفعل. ولزم مصدر "فَعُل" الذي هو طَبْع وخَصْلة وزن "الفَعَال"؛ كالجَمَال والكَمَال والبَهَاء والسَّناءْ والجَلال والعَلاء، هذا إذا كان المعنى عامًّا مشتملاً على خصال ولا يختص بخَصْلة واحدة، فإن اختصَّ المعنى بخَصْلة واحدة صار كالمحدود ولزمته هاء (4) التأنيث؛ لأنها تدل على نهاية ما دخلت عليه كالضّرْبة من الضرب، وحذفُها __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 321). (2) في الأصول: "المثقل"وهو تحريف، والتصحيح من محقق "النتائج". (3) في "الكتاب": (1/ 15 - 16). (4) في الأصول: "تاء". والمثبت من "النتائج".

(2/470)


في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدلُّ على انتفاء النهاية، ألا ترى أن الضربَ يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية وكذلك التمر والبرُّ (ق / 108 ب)، وإنما استحقت الهاء ذلك؛ لأن مخرجها من منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات (1)، ولذلك قالوا: عَلَّامة ونَسَّابة، أي: غايةٌ في هذا الوصف، فإذا عرفت هذا، فالجَمال والكَمال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه "الهاء" المخصوصة بالتحديد والنهاية، وقولك: "مَلُحَ ملاحة، وفَصُح فصاحة"، على وزنه إلا في التاء لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال، وكذلك الملاحة، فحُدِّدت بالتاء؛ لأنها ليست بجنس عام كالكَمال والجَمال، فصارت كباب "الضَّرْبة والتَّمْرة" من "الضَّرْب والتَّمْر" (2). ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان (3) وقد قالت له امرأته (4): "إنك لجميل"، فقال: أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رِدَاؤه وبُرْنُسه، ولكن قولي: "إنك لمليح ظريف"، فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال، فبان صحة ما قلناه. وعلى هذا قالوا: "الحلاوة والأصالة والرجاحة والرزانة والمهابة"، وفي ضد ذلك: "السَّفَاهة والوَضَاعة والحَمَاقة والرَّذَالة"؛ لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السَّفال الذي هو في مقابلة العلاء __________ (1) من قوله: "وكذلك التمر والبر ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ق): "والهمزة من ... والهمز". (3) أحد خطاء العرب وفصحائها، عاش إلى خلافة السفَّاح وكان من جُلسائه، وكلامه مجموع في كتب، انظر: "الأعلام": (2/ 297). (4) الخبر في "البيان والتبيُّن": (1/ 393) للجاحظ، وفي بعض نسخه: "امرأة" ولعله الأصوب، ففد ذكروا أنه كان عَزَبًا.

(2/471)


والكمال، لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته. وهذا هو الأصل في هذا الباب، فمتى شذَّ عنه منه شيء فلمانع وحكمة أخرى كقولهم: "شَرُف الرجل شَرَفًا"، ولم يقولوا: "شَرَافًا"، لأنَّ الشرف رفعة في آبائه وهو شيء خارج عنه، بخلاف كَمُل كَمَالاً، وجَمُل جمالاً، فإن جماله وكماله وصف قائم به، وهذا لأن "شَرُف" مستعار من شرف الأرض (ظ/83 أ) وهو ما ارتفع منها، فاستعير للرجل الرفيع في قومه، كأن آباءه الذين ذُكِر بهم وارتفع بسببهم شَرَفٌ له. وكذلك قولهم في هذا الباب: "الحَسَب"؛ لأنه من باب "القَبَض والنَّقَض والقَنَص" لا من (1) باب المصادر؛ لأن الحَسَب ما يحسبه الإنسان ويعده لنفسه من الخصال الحميدة والأخلاق الشريفة، واستحق الاسم الشامل في هذا الباب اسم "الفَعَال" بفتح الفاء والعين وبعدهما ألف وهي فتح، ليكون اللفظ بتوالي الفتح (2) فيه موازيًا لانفتاح المعنى واتساعه، وكذلك اطرد في الجمع الكثير نحو: "مَفَاعِل وفعائل" وبابه، واطرد في باب "تفاعل"، نحو: "تقاتل وتخاصم وتمارض وتغافل (3) وتناوم"؛ لأنَّه إظهار للأمر ونشر له (4). ومن هذا الباب: "حَلُم" فإنه مما يوافقه في وجهٍ ويخالفه في وجه؛ لأنه يدل على ثبات الصفة، فوافقَ "شَرُف وكَرُم" في الضم وخالفه في المصدر (ق/109 أ) لمخالفتهِ له في المعنى؛ لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الانتقام والمعاقبة ولا يقتضي انفتاحًا __________ (1) (ق): "لأن". (2) العبارة محرفة فى (ظ ود). (3) من قوله: "وفعائل ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (4) تحرفت في (ق ود).

(2/472)


ولا انتشارًا، فقالوا: "حَلُمَ"؛ لأنه من بناء الخصال والطبائع وقالوا: "حُلَماء"، لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الانتقام، فتأمله. ومن هذا الباب: "كَبُر وصَغُر" موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر، لأن الكِبَر والصِّغَر عبارة عن اجتماع أجزاء الجسم في قلة أو كثرة، وليس من الصفات والأحداث المنتشرة؛ وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك (1). فائدة (2) فِعْل المطَاوَعَة هو: الواقع مسببًا عن (3) سبب اقتضاه، نحو: كسرته فانكسر، فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا تتوالى الحركات، ثم وُصِل إليها بهمزة الوصل. وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازية للمعاني الزائدة على معنى الكلمة؛ فإن كان المعنى الزائد مُتَرتِّبًا قبل المعنى الأصلي، كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في "انفعل" وكحروف المضارعة في بابها، وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرًا، كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية (4) آخرًا، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع. ومن هذا الباب: "تَفَعْلَل وتَفَاعَل وتَفَعَّل". أما "تفعلل" فلا __________ (1) من قوله: "أو كثرة ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) "نتائج الفكر": (ص/ 324). (3) (ق): "في". (4) من قوله: "كالنون في انفعل ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/473)


يتعدَّى ألبتة؛ لأن "التاء" فيه بمثابة النون في "انفعل"، إلا أنهم خْصُّوا الرُّباعي بالتاء، وخصّوا الثلاثي بالنون فَرْقًا بينهما، ولم تكن، "التاء" هاهنا ساكنة كالنون، لسكون عين الفعل، فلم يلزم فيها من توالي الحركات ما لزم هناك. وأما "تفاعَل" فقد توجد متعدِّية؛ لأنها لا يراد بها المطاوعة كما أريد بـ "تفعلل"، وإنما هو فِعْل دخلته "التاء" زيادة على فاعل المتعدية، فصار حُكمه -إن كان متعديًا إلى مفعولين قبل دخول "التاء"، أن يتعدَّى بعد دخول "التاء" إلى مفعول، نحو: "نازعتُ زيدًا الحديث"، ثم تقول: "ما (1) تنازعنا الحديث"، وإن كان متعديًا إلى مفعول لم يتعدَّ بعد دخول "التاء" إلى شيءٍ، نحو: "خاصمتُ زيدًا، وتخاصمنا". وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل، فإنها تزيده واحدًا أبدًا وإن كان لازمًا صَيَّرته متعديًا إلى مفعول، وإن كان متعديًا: إلى واحد صيرته متعديًا إلى اثنين. وأما "احمرَّ واحمارّ" ففعل مشتق من الاسم، كانتعل من النعل، وتمسكَن من الِمسْكين، وتَمدْرع وتَمَنْدل وتَمَنْطق. وزعم الخطابيُّ (2) أن معنى "احمرَّ" مخالف لمعنى "احمارَّ" وبابه، وذهبَ إلى أن "افعل" يقال فيما لم يخالطه لون آخر، و"افعالّ" يقال لما خالطه لون آخر. وهو ثقة في نقله، والقياس (ق/109 ب) يقتضي ما ذَكَر؛ لأن الألف لم تُزَد في أضعاف حروف __________ (1) من "النتائج": وليست في (ذ)، وفي (ظ وق): "لا". (2) انظر "غريب الحديث": (1/ 241 - 242) له.

(2/474)


الكلمة إلا لدخول معنى (1) زائد بين أضعاف معناها. والذي قاله (ظ/83 ب) غيره أحسن من هذا وهو أن "احمرَّ"، يقال لحا أحمرَّ وَهْلة نحو: "احمرَّ الثوبُ" ونحوه. وأما "احمارَّ" فيقال لما يبدو فيه اللون شيئًا بعد شيء على التدريج، نحو: "احمارَّ البُسْر واصفارَّ"، ويدخل "افعلَّ" في هذا على "افعالَّ"، فيقال: "أحمرَّ البسر" إذا تكامل لون الحمرة فيه، و"احمارَّ" إذا ابتدا صاعدًا إلى كماله. فائدة (2) اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب "كسا" هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي؛ والثاني قول سيبويه (3) وهو الصحيح، فإنك لا تقول: "آكلت زيدًا الخبز"، ولا، "آخذته الدراهم"، ولا "أطلقت زيدًا امرأته"، و"أعتقته عبدَه"، ولكن ينبغي التفطن لضابطٍ حَسَن، وهو أن تنظر إلى كلِّ فِعل حَصَل منه في الفاعل صفةٌ ما فهو الذي يجوز فيه النقل؛ لأنك إذا قلت: أفعلته، فإنما معناه: جعلتَه على هذه الصفة. وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيًا، نحو: قعد وأقعدتُه، وطال وأطلتُه. وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعِل منه صفة في نفسه (4) ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله، مثل: "طَعِم زيد __________ (1) (ق): "إلا لمعنى". (2) "نتائج الفكر": (ص/ 327). (3) انظر "الكتاب": (2/ 233). (4) "في نفسه"سقطت من (ق).

(2/475)


الخبز وأطعمته"، وكذلك: "جَرِع الماءَ وأجرعته"، وكذلك: بلع وشم وسمع (1)؛ وذلك لأنها كلها يحصل للفاعل منها صفة في نفسه عير خارجة عنه، ولذلك جاءت أو أكثرها على فَعِل -بكسر العين- مشابهة لباب: فَزِع وجَذِر وحَزِن ومَرِض، إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى [فيه] (2)، ولذلك كانت حركة العين كسرًا، لأن الكسرة خفض للصوت أخفاء له، فَشَاكَل اللفظ المعنى، ومن هذا: "لبس الثوب وألبسته إياه"؛ لأن الفعل -كان كان متعديًا- فحاصل معناه في نفس الفاعل، كأنه لم يفعل بالثوب شيئًا، وإنما فعل بلابسه، ولذلك جاء على فعل مقابلة "عَرِي"، وقالوا: كَسَوْته الثوب، ولم يقولوا: أكسيته إياه، وإن كان اللازم منه: كسِي، ومنه: * واقعُدْ فإنك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي (3) * فهذا من "كسِي يكسى" لا من "كسا يكسو"، وسرُّ ذلك: أن الكُسْوة سَتْر للعورة، فجاءً على وزن: "سَتَرته وحَجَبته"، فعدَّوْه بتغيير الحركة لا بزيادة الهمزة. وأما "أَكَل وأَخَذ وضَرَب" فلا تُنْقَل؛ لأن الفعل واقع بالمفعول، ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة، فلا تقول: "أضربت زيدًا عَمرًا"، (ق/110 أ) ولا: "أقتلتُه خالدًا"؛ لأنك لم تجعله على صفة في نفسك كما تقدم. __________ (1) في (د)، زيادة: "وفاق". (2) من "النتائج". (3) عجز بيت للحُطيئة، "ديوانه": (ص/ 117)، وصدره: * دع المكارمَ لا ترحَل لبُغْيَتِها *

(2/476)


وأما "أعطيته" فمنقول من "عطا يعطو" إذا أشار للتناول، وليس معناه الأخذ والتناول؛ ألا تراهم يقولون: "عَاطٍ بغيرِ أنواط" (1)، أي: يشير إلى التناول من غير شيء، فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل بشيء، فلذلك نُقل كما نُقِل المتعدي لقربه منه، فقالوا: أعطيته، أي: جعلته عاطيًا. وأما "أنلت" فمنقول من "نال" المتعدية، وهي بمنزلة "عطا يعطو" لا تنبئ إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به. ألا ترى إلى قوله سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} [الحج: 37] ولو كان فعلاً مؤثرًا في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو منبئٌ عن الوصول فقط. وأما "آتيتُ المالَ زيدًا"؛ فمنقول من "أتى"؛ لأنها غير مؤثِّرة فى المفعول، وقد حصل منها في الفاعل صفة. فإن قيل: يلزمك أن تجيز: "آتيت زيدًا عَمرًا أو المدينة"، أي؛ جعلته يأتيهما؟. قلت: بينهما فرق (2) وهو أن إتيان المال كَسْب وتمليك، فلما اقترن به هذا المعنى صار كقولك: "أكسبته مالاً" أو "ملكته (3) إياه"، وليس كذلك: (ظ/ 84 أ) "آتى زيدٌ عَمرًا". وأما "شَرِبَ زيدٌ الماء"، فلم يقولوا فيه: "أشربته الماء"؛ لأنه بمثابة الأكل والأخذ، ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء __________ (1) مثل، يُضَرب لمن يدعي الشيءَ وهو لا يملكه، انظر: "مجمع الأمثال": (2/ 354). (2) (ظ ود): "فرقان". (3) في الأصول: "ملكته" والمثبت من "النتائج".

(2/477)


على "فَعِل" كبَلِع، ولكنه ليس مثله، إلا أن تريد: أن الماء خالط أجزاءَ الشارب له وحصل من الشرب صفة في الشارب، فيجوز حينئذ، نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] [البقرة: 93] وعلى هذا يقال: "أشربت الدهنَ الخبزَ"؛ لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء، فتأمله. وأما "ذَكَرَ زيدٌ عمرًا" فإن كان من ذِكْر اللسان لم ينقل، لأنه بمنزلة: شَتَم ولَطَم، وإن كان من ذِكر القلب نُقِل، فقلت: "أذكرته الحديث"، بمنزلة: أفهمته وأعلمته، أي: جعلتُه على هذه الصفة. فائدة (1) "اخترت" أصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر وهو "مِنْ"، لأنه يتضمن إحْراجَ شيءٍ من شيء. وجاء محذوفًا في قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد، كأنه نَخل قومَه وميَّزَهم وسَبَرَهم، ونحو ذلك، فمن هاهنا -والله أعلم- أسْقِط حرفُ الجر كما سقط من "أمرتك الخير"، أي: ألزمتك وكلفتك؛ لأن الأمر إلزام وتكليف، ومنه: "تمرون الديار"، أي: تقطعونها وتجاوزونها، ومنه: "رحُبَتْك الدار"، أي: وَسِعَتْك. فائدة (2) الاختيار تقديم المجرور في باب "اخترت" (3)، وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر، فتقول: "اخترت مِن الرجالِ زيدًا"، ويجوز __________ (1) نتائج الفكر": (ص/330). (2) المصدر نفسه. (3) إذا لم يسقط حرف الجر.

(2/478)


فيه التأخير، فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورًا به في الأصل، فيقبح أن تقول: "اخترتُ (ق/ 110 ب) زيدًا الرجال"، و"اخترتُ عشرةَ الرجال"، أي: من الرجال، لما يوهِم من كون المجرور في موضع النعتِ للعشرة، وأنه ليس في موضع المفعول الثاني، -وأيضًا- فإن "الرجال" معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به، كلما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك: "في الدار رجل"، لكون المجرور معرفة، وكأنه المخْبَر عنه، فإذا حذفتَ حرفَ الجر لم يكن بُد من التقديم للاسم الذي كان مجرورًا، نحو: اخترتُ الرجالَ عشرة. والحكمة في ذلك أن المعنى الذي من أجله حُذفَ حرفُ الجر هو معنى غير لفظ، فلم يقو على حذف حرف الجر (1) إلا مع اتصاله به وقربه منه. ووجه ثانٍ: وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعَّض ثم ولي الفعل الذي هو "اخترت" توهم أنه مختار منه أيضًا؛ لأن كل ما يتبعَّض يجوز فيه أن يختار منه وأن يختار (2)، فألزموه التأخير وقدَّموا الاسمَ المختار منه، وكان أولى بذلك لما سبق من القول؛ فإن كان مما لا يتبعَّض نحو: زيد وعَمرو، فربما جاز على قِلَّة من الكلام، نحو قوله: * ومنَّا الذي اخْتِيْرَ الرِّجالَ سَماحَةً (3) * __________ (1) من قوله: "هو معنى ... " ساقط من (ظ ود). (2) في الأصول "يختاره" والمثبت من "النتائج". (3) للفرزدق، "ديوانه" (2/ 516)، وعجزه: * وخيرًا إذا هبَّ الرياح الزعازع *

(2/479)


وليس هذا كقولك: "اخترتُ فرسًا الخيلَ"؛ لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعَّض مثله ويُخْتار منه، و"زيدٌ" من حيث كان جسمًا يتبعَّض، ومن حيث كان عَلَمًا على شيءٍ بعينه لا يتبعَّض، فتأمل هذا الموضع. فائدة بديعة (1) قولهم: "استغفر زيدٌ ربَّه ذنْبَه" فيه ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثاني: "استغفره من ذنبه". والثالث: "استغفره لذنبه"، وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر، وأنه هل الأصل حرف الجر وسقوطه داخل عليه، أو الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وتعديته بالحرف مضمن؛ هذا مما ينبغي تحقيقه؛ فقال السهيلي: "الأصل فيه سقوط حرف الجر، وأن يكون "الذنب" نفسه مفعولاً بـ "استغفر" غير مُتعدٍّ بحرف الجر؛ لأنه من غفرتَ الشيءَ إذا غطيتَه وسترتَه، مع أن الاسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر". ثم أورد على (ظ/84 ب) نفسه سؤالاً فقال: "فإن قيل: فإن كان سقوط [حرف] (2) الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون "مِن" زائدة كما قال الكسائي. وقد قال سيبويه (3) والزجاجي (4): إن الأصل حرف الجر يم حُذِف فنُصِبَ الفعل". وأجاب: "بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 332). (2) من (د). (3) انظر: "الكتاب": (1/ 17). (4) في "الجمل": (ص/ 40).

(2/480)


نحو: "غفر". وأما "استغفر" ففي ضمن الكلام ما لا بد [له] من (1) حرف الجر، لأنك لا تطلب غَفْرًا مجردًا من معنى التوبة والخروج من الذنب، (ق/ 111 أ) وإنما تريد بالاستغفار خروجًا من الذنب وتطهيرًا منه، فلزمت "من" في هذا الكلام لهذا المعنى، فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها تعدى الفعلُ فنصبَ، وكان بمنزلة: "أمرتك الخيرَ". فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ} [نوح: 4]، و [{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ}] (2) [الأحقاف: 31]؟. قلنا: هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنوب، فدخلت "من" لتُؤذِن بهذا المعنى، ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيثُ يُذْكَر الفاعلُ (3) الذي هو المذنب، نحو قوله: {لَكُم}؛ لأنه المُنْقَذ المُخْرَج من الذنوب بالإيمان، ولو قلت: "يغفر من ذنوبكم" دون أن تذكر الاسم المجرور لم يَحْسُن إلا على معنى التبعيض؛ لأن الفعل الذي كان في ضمن (4) الكلام وهو الإنقاذ، قد ذَهَب بِذَهاب الاسم الذي هو واقع عليه. فإن قلت: فقد قال {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [البقرة: 147] وفي سورة الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] فما __________ (1) (ق): "ما لابد منه حرف"، و (ظ ود): "ما لابد منه من ... " والمثبت من "النتائج". (2) ما بين المعكوفين من "النتائج"، ومكانه في النسخ: "يغفر لكم خطاياكم" ولا دلالة فيها. (3) في الأصول: "الفاعل والمفعول"! والمثبت من "النتائج". (4) (ق): "ضمير".

(2/481)


الحكمة في سقوطها هنا؟ وما الفرق؟. قلت: هذا إخبارٌ عن المؤمنين الدين قد سَبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم (1) ثم وُعِدُوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب، وهي غير محيطة بهم كإحاطة (2) الكفر المهلك للكافر، فلم يتضمَّن الغفران معنى الاستنقاذ؛ إذ ليس ثَمَّ إحاطةٌ من الذنب بالمذنب، وإنما يتضمَّن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب؛ لأن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات، بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطابٌ للمشركين وأمرٌ لهم بما ينقذهم ويخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب، وهو الكفر، ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مَهْلَكة قد أحاطت بهم، وأنه لا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب، وأما المؤمنون فقد أنقدوا. وأما قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] فهي في موضع "من" التي للتبعيض؛ لأن الآية في سياق ثواب الصدقة، فإنه قال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] والصدقة لا تُذْهِب جميع الذنوب. ومن هذا النحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يمينِهِ وَلْيأْتِ الذي هُوَ خَيْر" (3) فأدخل "عن" في الكلام إيْذانًا بمعنى الخروج عن اليمين، __________ (1) سقطت من (ق). (2) في الأصول: محبطة كإحباط، والمثبت من "النتائج". (3) أخرجه مسلم برقم (1650) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2/482)


لما ذكر الفاعل وهو الخارج، فكأنه قال: فليخرج بالكفارة عن يمينه، ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] لم يذكر "عن" وأضافَ "الكفارةَ" إلى "الأيمان" إضافةَ المصدر إلى المفعول، وإن كانت "الأيمان" لا تكفر وإنما يكفر الحنث والإثم، ولكن الكفارة (ق / 111 ب) حَلٌّ لعقد اليمين، فمن هنالك أُضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل إلى العقد؛ إذ اليمين عقد والكفارة حل له، والله أعلم. فائدة (1) قولك: "ألبست زيدًا الثوب"، ليس الثوب منتصبًا بـ "ألبست"، كما هو السابق إلى الأوهام، لما تقدَّم من أنك لا تنقل الفعل عن (ظ/85 أ) الفاعل ويصير الفاعل مفعولاً، حتى يكون الفعل حاصلاً في الفاعل (2)، ولكن المفعول الثانى منتصب بما تضمنه "ألبست" من معنى لبس، فهو منتصب بما كان منتصبًا به قبل دخول الهمزة والنقل، وذلك أنهم اعتقدوا طرحَها حين كانت زائدة، كما فعلوا في تصغير "حُمَيد وزُهَير" (3). ومنه قولهم: "أحببت حبًّا"، فجاؤوا بـ "حبيب" على اعتقاد طرح الهمزة وهي لُغَيَّة. ومنه "أورسَ النبتُ فهو وارسٌ" (4) على تقدير "وَرَسْته". ومنه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]} فجاء المصدر على "نبَت". ومما يوضح هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا: "أطال الصلاة وأقامها"، __________ (1) "نتائج الفكر": (ص / 334). (2) من قوله: "ويصير الفاعل ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) تصغير: "أحمد وأزهر". (4) تحرّفت العبارة في الأصول، والتصويب من "النتائج".

(2/483)


مراعاةً لإعلاله قبل دخول الهمزة، ولهذا حيث نقلوه في التعجب فاعتقدوا إثبات الهمزة لم يُعَدُّوه إلى مفعول ثان، بل قالوا: "ما أضرب زيدًا لعمرو"، باللام؛ لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب [منه] (1)، وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم يُنْقل (2)، ومن ثَمَّ صحَّحوه في التعجب، فقالوا: "ما أقومه وأطوله"! حيث لم يعتقدوا سقوط "الهمزة"، كما صححوا الفعل من "استحوذ"، و"اسْتَنْوَق الجمل" حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة غير عارضة، والله أعلم. فائدة (3) حذف "الياء" من "أمرتك الخير"، ونحوه إنما يكون بشرطين: أحدهما: اتصال الفحل بالمجرور، فإن تباعد منه لم يكن بُد من "الياء"، نحو: "أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير" (4)؛ لأن المغنى الذي من أجله حُذِفت "الباء" معنًى وليس بلفظ وهو تضمُّنها معني "كلفتك"، فلم يقوَ على الحذف إلا مع القرب من الاسم، كما كان ذلك في "اخترت". ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال بالصِّلة، وكذلك: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا (ظ/ 85 ب) تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} [البقرة: 61] على أحد القولين، أي: يُخرج لنا من بقل الأرض وقثائها. وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ} توطئة وتمهيد. والقول الثاني: أنها متعلقة بقوله: {تُنْبِت} أي مما تنبت __________ (1) من "النتائج" و"المنيرية". (2) "النتائج": "لم يتعد". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 336). (4) في الأصول: "الخير".

(2/484)


من هذا الجنس، فـ "مِن" الأولى لابتداء الغاية، والثاني لبيان الجنس، وهذا الثاني أظهر، فإذا أُعيدَ حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول فإثبات الحرف من نحو: "أمرتك الخير" إذا طال الاسم أجدر. الشرط الثاني: أن (ق/112 أ) يكون المأمور به حَدثًا. فإن قلت: "أمرتك بزيد" لم يحذف، لأن الأمر في الحقيقة ليس به وإنما هو على غيره، كأنك قلتَ: "أمرتك بضربه أو إكرامه". وأما: "نهيتك عن الشر"، فلا يحذف الحرف منه؛ لأنه ليس في الكلام ما يتضمَّن الفعل الناصب؛ لأن النهي عنه كَفٌّ وزَجْر وإبعاد، وهذه المعاني التي يتضمنها نَهْي تَطْلب من الحرف ما يطلبه نَهَى، بخلاف أَمَر؛ لأن "كَلَّف وأَلْزَم" (1) تطلب "الباء". فائدة بديعة (2) قولهم: "عرفتُ "، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه، حتى يظهر للذهن منفرداً عن (3) غيره، وهذه المادة تقتضي العلو والظهور، كعُرْف الشيء لأعلاه، ومنه الأعراف، ومنه (4) عرف الديك. وأما "علمتُ" فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة، ومعنى التركيب فيها: إضافة الصفة إلى المحل، وذلك أنك تعرف زيدًا على حِدَته، وتعرف معنى القيام على حِدَته، ثم تضيف القيام إلى زيد، فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب، وهو متعلَّق العلم. __________ (1) (ق): "وأكرم". (2) "نتائج الفكر": (ص/ 338). (3) (ق): "مستفرد منه". (4) "الأعراف ومنه" سقطت من (ظ ود).

(2/485)


فإذا قلت: "علمتُ" فمطلوبها ثلاثة معان محلُّ، وصفةٌ، وإضافةُ الصحفة إلى المحل؛ وهي ثلاث معلومات متميزة (1)، إذا عرفت هذا؛ فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله -سبحانه- إلا العلم لا المعرفة؛ لأن علمه متعلِّق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلُّقًا واحدًا، بخلاف علم المُحْدَثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم بشيء آخر. وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلمٍ واحد، وأن علمه بصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو عين علمه بكذبِ مسيلمة، والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول، وأن العلومَ متكثَّرة متغايرة بتكثُّر المعلومات وتغايرها، فلكلِّ معلومٍ علمٌ يخصه، ولإبطال قول أولئك وذِكْر الأدلة الراجحة (2) على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به، وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه -سبحانه وتعالى- وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلي الإفراد والتركيب في متَعلَّق العلم، وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها، فإنها في مجاري استعمالها إنما تُسْتَعمل فيما سبق تصوره خفاءٌ من نسيان أو ذهول أو عزوب عن القلب، فإذا تصوره وحَصَل في الذهن قيل: عرفه (3). أو وصف له صمته ولم يره، فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل: عرفه، ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينتَ أنه هو، قلتَ: عرفته، وكذلك (4). عرفتُ (ق/ 112 ب) اللفظةَ، وعرفتُ الديار، وعرفتُ المنزل، وعرفتُ الطريق. __________ (1) من (ق)، وفي "النتائج": "متلازمة". (2) (ق): "الدالة". (3) هذه الجملة في (ق) بعد سطر، ومكانها هنا أنسب. (4) (ق): "قل: عرفه، وقيل: ... ".

(2/486)


وسر المسألة: أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه، فالمعرفة تمييز له وتعيين، ومن هذا قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته، وجاء: "كما يعرفون أبناءهم" من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر، فتأمله، وقد بسطنا هذا في "كتاب التحفة المكية"، وذُكِر فيها من الأسرار (ظ/86 أ) والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنَّف. وأما ما زعموا من قولهم: إن "علمت" قد يكون بمعنى "عرفتُ" واستشهادهم بنحو قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] وبقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فالذي دعاهم إلى ذلك: أنهم رأوا "علمت" قد تعدت إلى مفعول واحد، وهذا (1) هو حقيقة العرفان (2) = فاستشهاد ظاهر، على أنه قد قال بعض الناس (3): إن تعدِّي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلى مفعول واحدٍ، لا يخرجها عن كونها علمًا على الحقيقة، فإنه لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدِّي "عرفت"، ولكن على (4) جهة الحذف والاختصار، فقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم، وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم، وما تقدَّم من الكلام يدلك على ذلك. وكذلك قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ __________ (1) (ق): "ومن هذا". (2) (ق): "الفرقان". (3) هو السُّهَيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 339) وسيأتي في النص "قال"، والمقصود هو السهيلي. (4) من قوله: "أنه قد قال ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/487)


دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمون أنهم أعداء لهم، فيتعلَّق العِلم بالصفة المضافة إلى الموصوف، لا بعينه وذاته. قال: هذا، وإنما مثل من يقول: إنّ "علمت" بمعنى "عرفت" من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ، كَمَثَل من يقول: إن "سألت" يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: "سألتُ الحائط وسألتُ الدر"، ويحتج بقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم. وليس ما قاله هؤلاء بقوي، فإن الله -سبحانه- نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين، هذا صريحُ اللفظ، وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم، فهو - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين، وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم، وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم، فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه. والظاهر بل المتعين أنه - صلى الله عليه وسلم - لو عرف أشخاصَهم لعرفهم بسيماهم وفي لَحْن القول، (ق/113 أ)، ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوتَه وعداوةَ الله عز وجل، والذي يزيد هذا وضوحًا الآية الأخرى، فإن قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60] فيهم قولان: أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله، وعلى هذا: فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة، ولا يمكن أن يقال (1): إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك __________ (1) "أن يقال" سقطت من (ظ ود).

(2/488)


جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس. والقول الثاني: أنهم المنافقون، وعلى هذا فقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصِهم لا على معرفة نفاقِهم؛ لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين، يعلمون نفاقَهم ولا يشكون فيه، فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به، وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب، فيكون كقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فتأمله (1). ويزيده وضوحًا؛ أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب "أعطى" و"كسا"؛ للعلة المذكورة هناك، وهي تعلُّق هذه الأفعال بالنسبة، فلابد من ذكر النسبتين، بخلاف باب "أعطى" فإنه لم يتعلق بنسبة، فيصح الاقتصار فيه على أحد مفعوليه، وهذا واضح كما تراه، والله أعلم. وأما تنظيرهم بـ "سألت الحائطَ والدار" فيا بعدما بينهما! فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو (2) كثير في كلامهم جدًّا، على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالاً بلسان المقال صريحًا، كما يقول الرجل للدار الخَرِبَة: "ليتَ شِعْري ما فعل أهلك"؛ و"ليت شعري ما صَيَّرك إلى هذه الحال"؛ وليس هذا (ظ/86 ب) سؤال استعلام، بل سؤال تعجُّب وتفجُّع وتحزُّن. وأما قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فالقرية إن كانت هنا اسمًا للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن والكلام، فلا مجازَ __________ (1) (ق): "فتدبره". (2) سقطت كلمتان من (ظ ود).

(2/489)


ولا حذفَ، وإن كان المراد بها المسكن؛ فعلى حَذْف المضاف، فأين التسوية والتنظير؟!. تنبيه (1): قولهم: "علمت" و"ظننتُ" يتعدَّى إلى مفعولين، ليس هنا مفعولان في الحقيقة، وإنما هو المبتدأ والخبر، وهو حديث: إما معلوم وإما مظنون، فكان حق الاسم الأول أن يرتفعَ بالابتداء. والثاني بالخبر، ويُلْغى الفعلُ، لأنه لا تأثير له في الاسم، إنما التأثير لـ "عرفت" الواقعة على الاسم المفرد تعيينًا وتمييزاً، ولكنهم أرادوا تشبُّث "علمت" بالجملة التي هي الحديث، كيلا يتوهَّم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله؛ لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله، وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديثَ معلوم، فكان إعمال "علمت" فيه (ق/113 ب) ونصبُه. له إظهارًا لتشبُّثِها، ولم يكن عملها في أحدِ الاسمين أولى من الآخر، فعملت فيهما معاً (2). وكذلك "ظننت"، لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونًا وإما معلومًا، فإن كان مشكوكًا فيه أو مجهولاً عنده، لم يسعه الحدث به (3)، فمن ثَمَّ لم يُعْمِلوا "شككت" ولا "جَهِلت" فيما عملت فيه "ظننت"؛ لأن الشكَّ تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما، بخلاف الظن فإنك معتمدٌ على أحد الأمرين، وأما العلم؛ فأنت فيه قاطع بأحدهما، ومن ثَمَّ تعدى الشك بحرف "في" لأنه مستعار من "شككتُ الحائطَ بالمسمار"، وشكُّ الحائط إيلاجٌ فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين، كما أن الشكَّ في الحديث تردد فيه في __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 9 33)، وفي (د): "تتمة". (2) (ظ ود): "جميعًا". (3) "النتائج": "لم يَسُغ له الحديث".

(2/490)


غير ترجيح لأحد الجانبين. ونظير إعمالهم "علمت" وأخواتها في المبتدإ والخبر اللذين هما بمعنى الحديث، إعمالهم "كان" وأخواتها في الجملة، وإنما "كان" أصلها أن ترفع فاعلاً واحدًا، نحو: "كان الأمر"، أي: حدثَ، فلما خلعوا منها معنى الحَدَث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان، ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحديث الذي هو "زيد قائم"، أي: زمان هذا الحديث ماضٍ أو مستقبل، أعملوها في الجملة ليظهر تشبُّثها بها، ولئلا يتوهم انقطاعها عنها؛ لأن الجملة قائمة بنفسها، و"كان" كلمة يُوْقَف عليها أو تكون خبرًا عما قبلها، فكان عملها في الجملة دليلًا على تشبُّثِها بها، وأنها خبر عن هذا الحديث، ولم تكن لتنصب الاسمين؛ لأن أصلها أن ترفع ما بعدها، ولم تكن لترفعهما معًا فلا يظهر عملها، فلذلك رفعَتْ أحدهما ونصبْتَ الآخر. نعم، ومنهم من يقول: "كان زيد قائم"، فيجعل الحديث هو الفاعل بـ "كان" فيكون معمولها معنويًّا لا لفظيًّا، كأنك قلتَ: "كان هذا الحديث"، و [إن] أضمرت الشأنَ والحديث، ودلَّت عليه فى قرينةُ الحال فالمسألة على حالها؛ لأن الجملة حينئذٍ بدل من ذلك المضمر؛ لأنها في معنى الحديث، وذلك الحديث هو الأمر المضمر؛ فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث، معمول "علمتُ وظننتُ" إذا أُلْغِيَت، نحو: "زيد ظننت قائم"، كأنك قلت: "ظننت هذا الحديث"، فلم تُعْمِلها لفظًا إنما أعملتها معنًى. ومن هذا الباب إعمالهم "إنَّ" وأخواتها، وإنما دخلت لمعانٍ في

(2/491)


الجملة والحديث، ألا ترى أنها كلماتٌ يصحُّ (1) الوقف عليهنّ؛ لأن حروفهنّ ثلاثة فصاعدًا، كما قال (2): * ............. فقلت: إنه * وقال آخر (3): * ليتَ شِعْري وأينَ مِنِّيَ لَيْتُ * وقال حَبِيب (4): * عَسى وطنٌ يَدْنو بِهم ولَعَلَّما * وإذا (ظ/ 87 أ) كان (ق/14 أ)، هذا حكمها فلو رُفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، لم يظهر تشبُّثها بالحديث الذي دخلت لمعنًى فيه، فكان إعمالها في الاسم المبتدإ إظهارًا لتشبُّثها بالجملة كيلا يُتَوهَّم انقطاعها عنها، وكان عملها نصبًا، لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظَ بها لنصبت، نحو "أؤكد" و"أترجَّى" و"أتمنَّى"، وليست هذه المعاني مضافةً إلى الاسم المخبر عنه؛ ولكن الحديثَ هو المؤكَّد والمُتَمَنَّى والمُتَرَجَّى، فكان عملها نصبًا بها، وبقي الاسم الآخر __________ (1) (ظ ود): "أنها كلمة إن يصح ... "!. (2) من شواهد "الكتاب": (1/ 474 - 475) والبيت: ويقلنَ: شَيْبٌ قد علا ... كَ وقد كبرتَ. فقلتُ: إنَّه (3) البيت لأبي زبيد الطائي، "ديوانه": (ص/ 24)، وهو من شواهد "الكتاب": (2/ 32)، وانظر: "الخزانة": (7/ 319)، وعجزه: * إن ليتًا وإن لوًّا عناءُ * (4) حبيب بن أوس الطائي، "ديوانه": (2/ 121)، وعجزه: * وإن تعبت الأيام فيهم فربَّما *

(2/492)


مرفوعًا (1) لم يعمل فيه، حيث لم تكن أفعالاً، كـ "علمت وظننت" فتعمل (2) في الجملة كلها. وأيضًا أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول، يدلك على أنها لم تعمل في الاسم الثاني أنه لا يليها؛ لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره، فلو عملت فيه لوليها، كما يلي "كان" خبرها، ويلي الفعل مفعوله. نعم، ومن العرب من أعملها قي الاسمين جميعًا، وهو قَوِيٌّ في القياس؛ لأنها دخلت لمعان في الجملة فليس أحدُ الاسمين أولى بأن تعمل فيه من الآخر، قال (3): إِنَّ العَجُوز خبَّةَ جَرُوزًا ... تأكلُ كُلَّ ليلةٍ قَفِيْزا وقال (4): كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادمةً أو قَلَمًا مُحَرَّفا وليس هذا من باب حَذْف فعل التشبيه كما قال بعضهم، فإن هذا لغة قائمة بنفسها. واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حالا ولا ظرف، ولا يتعلق بها مجرور، لأنها معانٍ في نفس المتكلم، كالاستفهام والنفي __________ (1) (ق): "نصبًا"!. (2) (ق): "فتقول". (3) الرجز في "نوادر أبي زيد": (ص/ 172)، وقائله مجهول، وهو من شواهد "الهمع"، انظر "الدرر اللوامع": (2/ 167). (4) هو: محمد بن ذؤيب العماني الراجز، وقيل: لأبي نخيلة، وهو من شواهد "المغني" و"الأشموني"، انظر: "الخزانة": (10/ 237).

(2/493)


وسائر المعاني التي جعلت الحروف أمارات لها، وليس لها وجود في اللفظ. فإذا قلت. هل زيدٌ قائم؛ فمعناه: أستفهِمُ عن هذا الحديث، وكذلك "لا" معناها: أنْفِي، وكذلك "ليس"، وكذلك لما أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة لم ينصبوا بها الاسم الأول كما نصبوا بإن، حيث لم يكن معناها يقتضي نصبًا إذا لفظ به، كما يقتضي معنى "إنّ" و"لعل"إذا لُفِظ به. وأما "كأَنَّ" للتشبيه، فمفارِقَةٌ لأخواتها من جهة أنها تدل على التشبيه، وهو معنى في نفس المتكلم واقعٌ على الاسم الذي: بعدها، فكأنك تخبر عن الاسم أنه مُشْبه غيره، فصار معنى التشبيه مسندًا إلى الاسم بعدها، كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها، فمن ثَمَّ عَمِلت في الحال والظرف، تقول: "كأن زيدًا يوم الجمعة أميرًا"، فيعمل التشبيه في الظرف. ومن ذلك قوله (1): كأَنَّه خارجًا مِن جَنْبْ صَفحَتِهِ ... سَفُّود شَرْبٍ نَسٌوه عند مُفْتأَدِ ومن ثَمَّ وقعت في موضع الحال والنعت كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء، تقول: "مررت برجل كأنه أسد"، و"جاءني رجل كأنه أمير" وليس ذلك في أخواتها، لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال، بل لها صدر الكلام كما لحروفِ الشرط (ق/114 ب) والاستفهام؛ لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت مما قبلها، وإنما كانت "كأن" مخالفةً لأخواتها من وجه وموافقة من وجه، من حيث كانت مركبة من "كاف" التشبيه، و"أن" التي للتوكيد، فكان أصلها: "إن زيدًا الأسد"، أي: مثل الأسد، ثم أرادوا أن يبينوا أَنه ليس هو __________ (1) البيت للنابغة، "ديوانه": (ص/ 11).

(2/494)


بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكَّد بأن، لتؤذِنَ أن الحديثَ مشبه به. وحُكْم "إن" إذا أدخل عليها عاملٌ أن تفتح الهمزة منها، فصار اللفظ بها: "كأنَّ زيدًا الأسد". فلِما في الكلمة من التشبيه المخبر به عن "زيد"، صار "زيد" بمنزلة مَن أُخْبِر عنه بالفعل، فوقع موقع النعت والحال، وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات، ومن حيث كان في الكلمة معنى "إن" دَخَلت في هذا الباب (ظ/87 ب) ووقع في خبرها الفعل نحو قولك: "كأن زيدًا يقوم"، والجملة نحو: "كأن زيدًا أبوه أمير"، [لو] لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يَجُز هذا؛ لأن الاسم لا يُشَبَّه بفعل ولا بجملة، ولكنه حديث مؤكَّد بـ "إن" و"الكاف" تدل على أن خبرًا أشبه من خبر، وذلك الخبر المُشَبَّه هو الذي [دلَّ] (1) عليه زيد، فكأنَّ المعنى: "زيد قائم وكأنه قاعد"، و"زيدٌ أبوه وَضيع وكأنَّ أباه أمير"، فشبَّهْت حديثًا بحديث. والذي يؤكِّد الحديث: "إن" والذي يدل على التشبيه: "الكاف"، فلم يكن بُدُّ من اجتماعهما. فصل (2) وكلُّ هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها لفظًا أو معنى. أما اللفظ؛ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد، وهذه الحروف عوامل. وأما المعنى، فلا تقول: "سرني زيد قائم"، أي: سرَّني هذا الحديث، ولا: "كرهت زيدٌ قائم"، أي: كرهت هذا __________ (1) ما بين المعكوفات من "النتائج". (2) "نتائج الفكر" (ص/ 345).

(2/495)


الحديث، كما يكون ذلك في "كان" و"ليس"؛ لأنهما ليستا بفعلٍ مَحْض، فجاز أن تقول: "كان زيد قائم"، أي: كان هذا الحديث. ولم يجز في "سرني" ولا "بلغني"، فإن أدخلتَ "ليت" أو "لعل" أو "إن" المكسورة لم يجز أيضًا؛ لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها (1) فعل مُعْمَل (2) ولا مُلْغى، فإن جئت بـ "أن" المفتوحة قلت: "بلغني أن زيدًا منطلق"، فأعملْتَ الفعل في معمول معنويٍّ وهو الحديث؛ لأن الجملةَ الملفوظ بها حديث في المعنى، وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه "إنَّ" ولابد له من معمول، فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث، حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه "أن"، وكذلك: "كرهت أن زيدًا منطلق"، المفعول هو الحديث، وهو معنًى لا لفظ. فإذا قيل: ولم لا جعلوا لـ "أنَّ" المفتوحة (3) صَدْر الكلام كما جعلوا لـ "ليت" و"لعل" (ق/115 أ) ولجميع الحروف الداخلة على الجمل؟. قيل: ليس في "إن" معنى زائد على الجملة أكثر من التوكيد، وتوكيد الشيء بمثابة تَكْراره لا بمثابة معنًى زائدً فيه، فصحَّ أن يكون الحديث المؤكَّد بها معمولاً لما قبلها، حيث مَنَعَتْ هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها، فتسلَّط العامل الذي قبلها على الحديث، ولم يكن له مانع [في] (4) صدر الكلام يقطعه عنه، كما __________ (1) في بعض نسخ النتائج: "قبلها". (2) في الأصول: "يعمل"، والمثبت من "النتائج". (3) (ق): "المكسورة" وهو خطأ. (4) من "المنيرية"، وسقط: من (د): "له مانع من".

(2/496)


كان ذلك في غيرها. فإن كسرْتَ همزتَها كان الكسر فيها إشعارًا بتجريد المعنى الذي هو التوكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها، فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى، إلا أنهم إذا أرادوا توطئة الجملة (1) لأَنْ يعمل الفعل الذي قبلها في معناها، وأن يُصَيِّروها في معنى الحديث، فتحوا الهمزة، وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجِّي والتمنِّي كسروا الهمزة ليؤذنوا بالابتداء والانقطاع مما قبل، وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام، لأنه معنى كسائر المعاني؛ وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره. وكان الكَسْر بهذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفتح، والثِّقَل أولى أن يُعْتَمد عليه ويُصَدَّر الكلام به، والفتح أولى بما جاء بعد كلام لخفته، وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجَمامه (2)، مع أنّ المفتوحة قد تلي (3) الضم والكسر، كقولك: "لأنك، وبأنك، وعلمتُ أنك"، فلو كُسِرت لَتَوالَى الثِّقَل. فإن قيل: فما المانع أن تكون هي وما بعدها في موضع المبتدإ، كما كانت في موضع الفاعل والمفعول والمجرور؛ أليس (ظ/88 أ) قد صُيِّرت الجملةُ في معنى (4) الحديث، فهلاَّ تقول: "إنك منطلق معْجب لي؟ "، وما الفرق بينها وبين "أن" التي هي وما بعدها في تأويَل الاسم، نحو: "أن تقوم خير من أن تجلس"، فلم تكون تلك __________ (1) من قوله: "للعمل في ... " إلى هنا ساقط من (د). (2) "طه وجمامه" سقطت من (ق). (3) بالأصول: "تليها"، والتصحيح من محقق النتائج. (4) (ق): "موضع".

(2/497)


في موضع المبتدإ، ولا تكون هذه كذلك؟. قيل: إن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي، والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عُقِل، وهذه الجملة المؤكَّدة بـ "أن" إنما يصح أن تكون معمولاً لعامل لفظي؛ لأن العامل معنى والمعمول فيه أيضًا (1)، فهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي، فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة فى موضع المبتدإ لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول، ومن ثَمَّ لم تدخل كليها عوامل الابتداء من "كان" وأخواتها، و"إن" وأخواتها؛ لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة في حرف يُصَيِّر الجملة معنى الحديث (2) المعمول فيه، فلا تقول: "كان أنك منطلق"، لا حاجة إلى "أن" مع عمل هذه الحروف الجملة. وجواب آخر، وهو أنهم لو جَعَلوها فى موضع المبتدإ لم يسبق إلى الذهن (ق/: 115 ب) إلا الاعتماد على مُجَرَّد التوكيد دون توطئة الجملة للإخبار عنها، فكانت تُكْسَر همزتها، وقد تقدَّم أنَّ الكسرَ إشعارٌ بالانقطاع عما قبل، واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد، فلم يُتَصور فتحُها في الابتداء إلا بتقديم عاملٍ لفظي يدل على المراد بفتحها؛ لأن العامل اللفظي يطلبُ معمولَه، فإن وجدَه لفظًا غير ممنوعٍ منه، وإلا تسلَّط على المعنى، والابتداء بخلاف هذا. فإن قيل: فلم قالوا "علمت أن زيدًا منطلق" و"ظننت أنه __________ (1) بالأصول و"النتائج": "لأن المعمول ... "، وأصلحه محققه كما أثبتنا. (2) (ق): "الحرف".

(2/498)


ذاهب"، هلَّا اكتفَوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث، كما أكتفوا في باب "كان" و"إنَّ"، فقالوا: "كان زيد قائمًا"، ولم يقولوا: "كان إن زيدًا قائمًا"؟. قيل: الفرق بينهما أن هذه أفعال تدلُّ على الحَدَث والزمان، وليست بمنزلة "كان" و"ليس" (1)، ولا بمنزلة "إن" و"ليت"، فجرت مجرى "كرهت" و"أحببت"، فلذلك قالوا: علمت أنك مُنْطلق، كما قالوا: أحببت أنك مُنْطلق، إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال؛ لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به، فمن ثَمَّ قالوا: "علمت زيدًا منطلقًا" و"زيد علمتُ منطلق"، ولم يقولوا: "كرهت زيدًا أخاك"؛ لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما مُتَعلّقها الأسماء، إلا أن تفنعها "أنَّ" (2) من العمل في الأسماء، فتصير متعلقةً بالحديث، فافهمه. فصل (3) فإن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكَّد بـ "أنَّ" من قولك: "لو أنك ذاهب فعلت"، لاسيما و"لو" لا يقع بعدها إلا الفعل، ولا فِعْلَ هاهنا؛ فما (4) موضع "أنَّ" وما بعدها؟. فالجواب: أنَّ "أنَّ" في معنى التأكيد، وهو تحقيق وتثبيت، فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به "لو"، حتى كأنه فِعْل __________ (1) ليست في (ق). (2) سقطت من (ظ ود). (3) "نتائج الفكر": (ص/ 348). (4) (ق): "في"

(2/499)


وَلِيَها، ثم عمل ذلك المعنى في الحديث، كأنك قلت: "لو ثبتَ أنك منطلق"، فصارت "أنَّ" كأنها من جهة اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ (1)، ومن جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث. فإن قيل: ألم يتقدَّم أنه لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي؟. قيل: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسدُّ مسدَّ العامل اللفظي، فأما هاهنا فـ "لو" لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له، تقوم مقامَ اللفظ بالعامل الذي هو التحقيق والتثبيت الذي دلت عليه "أن" بمعناها، ومن ثَمَّ عَمِلَ حرفُ النفي المركب مع "لو" (ظ/88 ب) من قولك: "لولا زيد"، عَمل الفعل (2)، فصارَ زيد فاعلاً لذلك المعنى، حتى كأنك قلت: "لو عُدِم زيد وفُقد وغاب لكان كذا وكذا". ولولا مقارنة "لو" لهذا الحرف لما جاز (3) هذا؛ لأن الحروف لا تعمل معانيها في الأسماء أصلاً. فالعامل (ق/116 أ) في هذا الاسم الذي بعد "لولا" كالعامل في هذا الاسم الذي هو الحديث من قولك: "لو أنك ذاهبٌ لفعلت كذا". وأما اختصاص "لا" بالتركيب معها في باب: "لولا زيد لزرتك" (4)، فلأن "لا" قد تكون منفردة تغني عن الفعل، إذا قيل لك: هل قام زيد؟ فتقول: لا، فقد: أخبرت عنه بالقعود. وإذا قيل لك: هل قعد؟ قلت: لا، فكأنك مخبر بالقيام، وليس شيءٌ من حروف النفي يُكْتفى به في الجواب حتى يكونَ بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف، فمن ثَمَّ __________ (1) "في الاسم الذي هو لفظ" سقطت من (ق). (2) "الأصول": المصدر، والمثبت من "النتائج". (3) (ق): "كان". (4) "لزرتك" سقطت من (ق).

(2/500)


صَلُح الاعتماد عليه في هذا الباب، وساغَ تركيِبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل، فصارت الكلمةُ بأسرها بمنزلة حرف وفعل، وصار "زيدٌ" بعدها بمنزلة الفاعل. ولذلك قال سيبويه: "إنه مبني على "لولا"، وهذا هو الحق؛ لا ما يَهْذُون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف لا يظهر، وخامِلٌ لا يُذكر. هذا الفصل كله كلام السُّهيلي (1) إلى آخره. فائدة (2) قول سيبويه (3): "لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول من باب: "أعْلَمت". تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن (4) الاقتصار عليه، قالوا: لأنه هو الفاعل في المعنى، فإنه هو الذي علم ما أعلمته به من كون زيد قائمًا. قالوا: والفاعل يجوز الاقتصار عليه لتمام الكلام به، فهكذا ما في معناه، بخلاف المفعول الأول من باب "علمت"، فإنه ليس فاعلاً لفظًا ولا معنى، هذا تقرير قولهم. وقول إمامِ النحويين هو الصواب (5)، ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد. وممن أنكر هذا التأويل السهيلي، وقال: "عندي أن كلام سيبويه محمول على الظاهر؛ لأنك لا تريد بقولك: "أعلمت زيدًا"، أي: جعلته عالمًا على الإطلاق، هذا محال، إنما تريد: أعلمته بهذا الحديث، فلابد إذا من ذكر الحديث الذي أعلمتَه به. فإن قيل: فهل يجوز: أظْنَنْتُ زيدًا عَمْرًا قائمًا؟. __________ (1) في "النتائج" كما تقدم. (2) "نتائج الفكر": (ص/ 350). (3) في "الكتاب": (1/ 19). (4) (ق): "لا يجوز" وهو خطأ. (5) "الصواب" سقطت من (ق).

(2/501)


قيل: الصحيح امتناعه؛ لأن الظن إن (1) كان بعد علمِ ضروري فمحال أن ينقلب ظنًّا وإن كان بعد علمٍ نظري لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان والذُّهول عن ركن من أركان النظر (2)، وهذا ليس من فعلكَ أنت به، فلا تقول: "أَظْنَنْتُه بعد أن كان عالمًا". وإن كان قبل الظن شاكَّا أو جاهلًا أو غافلاً لم يتصور أيضًا أن تقول: "أَظْنَنْته"؛ لأن الظن لا يكون (3) عن دليل يوقفه عليه، أو خبر صادق يخبره به، كما يكون العلم؛ لأن الدليل لا يقتضي ظنًّا، ولا يقتضي أيضًا شبهةً كما بَيَّنه الأصوليون، فثبتَ أن الظن لا تفعله أنت به، ولا تفعل شيئًا من أسبابه، فلم يجز: "أَظْنَنْته"، أىِ: جعلته ظانًّا، وكذلك يمتنع (ق / 116 ب): "أشْكَكْته" أي: جعلته شاكًّا، ولكنهم يقولون: شَكَّكْتُه، إذا حدَّثتَه بحديثٍ يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك". هذا كلام السُّهيلي، وليس الأمر كما قال! ولا فرقَ بين "أَعْلَمته وأَظْنَنْته" إلا من جهة السماع. وأما الجواب عما ذكره، فيقال: ما المانع أن يكون "أَظْنَنْته" أي: جعلته ظانًّا بعد أن كان جاهلاً أو شاكًّا بما ذكرتُه له من الأمارات والأدلة الظنية، وقولك: "إن الظنَّ لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبره (ظ/89 أ) به"، دعوى مجرَّدة بل ظاهرة البطلان، فإن الظن هو الرُّجْحان، فإذا ذكرت له أمارة ظاهرة لا توجب اليقين أفادته الرُّجْحان وهو الظن، وهذا كما إذا أخبرك من يُثير خبرُه لك ظنًّا راجحًا ولا ينتهي إلى قَطْع، كالشاهد وغيره، فدعوى أن الظن: لا __________ (1) (ق): "إنما". (2) (ق): "الظن". (3) (ظ ود): "لا يكون إلَّا".

(2/502)


يكون عن دليل دعوى باطلة، وإن أردت أنه لا يكون عن دليل قاطع لم يفدك شيئًا، فإنه يكون عن أمارة تحصِّل له الظن، ولا يلزم من كون الدليل لا يقتضي الظنَّ ألاَّ تقتضيه الأمارة. وقوله: "فثبت أن الظنَّ لا تفعله أنتَ ولا تفعلُ شيئًا من أسبابه". يقال: وكذلك العلم لم تفعله أنت به ولا شيئًا من أسبابه، إن أردتَ أنك لم تُحْدِثْه فيه، وإن أردت: أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل، فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له، وهذا أظهر من أن يُحْتاج إلى تقريره، ويدل عليه قولهم: "شَكَّكْته"، فإن معناه: أحدثت له شَكًّا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شَكَّه. فائدة (1) كلُّ فعل يقتضي مفعولاً ويطلبه (2) ولا يصل إليه بنفسه، توصَّلوا إليه بأداة وهي حرف الجر، ثم إنهم قد يحذفون الحرفَ، لتضمُّن الفعل معنى فِعْلٍ متعد بنفسه كما تقدم. لكنّ هاهنا دقيقة ينبغي التفطُّن لها، وهي: أنه قد يتعدَّى الفعل بنفسه إلى مفعول وإلى آخر بحرف الجر ثم يحذف المفعول الذي وصل إليه بنفسه لعلم السامع به، ويبقى الذي وصل إليه بحرف الجر (3)، كما قالوا "نصحت لزيد"، و"كِلْت له"، و"وزنت له"، و"شكرت له"، المفعول في هذا كله محذوف والفعل واصل إلى __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 352). (2) سقطت من (ق). (3) من قوله: "ثم يحذف ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/503)


الآخر بحرف الجر، ولا يسمع قولهم: "أربعة أفعال تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجو أخرى"، ويذكرون هذه، فإنه كلامٌ مجرَّد: عن تحقيق، بل المفعول في الحقيقة محذوف، فإذا قولك: "نصحت"، مأخوذ من: "نصح الخياط الثوب" إذا أصلَحَه وضمَّ بعضَه إلى بعض، ثم استعير في الرأي، فقالوا: "نصحت له"، أي: نصحت له رأيه، أي: أخلصته له وأصلحته. والتوبةُ النَّصُوح إنما هي من هذا، فإن الذنب يمزق الدين، فالتوبة النصوح بمنزلة نَصْح الخياط (ق 117 أ)، الثوبَ، إذا أصلحه وضمَّ أجزاءَه، ويقولون: "نصحتُ ريدًا" فيسقطون الحرف؛ لأن النصيحة إرشاد، فكأنك قلت: "أرشدته"، وكذلك: "شكرت"، إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له، من "شَكِرَ بطنُه" إذا امتلأ، فالأصل: "شكرتُ لزيدٍ إحسانَه وفعلَه"، ثم تَحْذف المفعول فتقول: "شكرت لزيد"، ثم تحذف الحرف؛ لأن شكرت متضمنة لحَمدت أو مَدَحت. وأما: "كِلْتُ لزيد، ووزَنْتُ له"، فمفعولهما غير زيد؛ لأن مطلوبهما ما يُكال أو يُوْزَن، فالأصل دخول اللام، ثم قد يُحذَف لزيادة فائدة، لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمعاوضة إلا مع حرف اللام؛ فإن قلت: "كِلْت لزيد"، أخبرت بكيل الطعام خاصة، وإذا قلت: "كِلْت زيدًا"، فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل، كأنك قلت: "بايعته بالكيل والوزن". قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: بايعوهم كيلًا ووزنًا. وأما قوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] فإنما دخلت "على" لتؤذِن أنَّ الكيل على البائع للمشتري، ودخلت "التاء" في "اكتالوا"،

(2/504)


لأن افتعل (1) في هذا الباب كله للأخذ؛ لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذِن بمعنى زائد على معنى الكلمة، لأن الآخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري (ظ/89 ب) ونحو ذلك، يدخل فعله من التناول والاحتراز إلى نفسه، والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعلي المعْطي والبائع، ولهذا قال سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [يعني: من الحسنات] (2) {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] يعني: من السيئات، لأن الذنوب يُوْصَل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى، والحسنة تنال بهبة من الله من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدوٍّ، فهذا الفرق بينهما على (3) ما قاله السُّهيلي (4)؟. وفيه فرقٌ أحسن من هذا، وهو: أن الاكتساب يستدعي (5) التعمُّل والمحاولة والمعاناة، فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمُّله. وأما الكسب؛ فيحصل بأدنى ملابسة حتى بِالهَمَّ بالحسنة ونحو ذلك، فخصَّ الشرَّ بالاكتساب والخيرَ بأعم منه، ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح "إذا هَمَّ عبْدي بحَسَنةٍ فاكْتُبوها وإنْ هَمَّ بسَيئةٍ فلا تكْتُبوها" (6)، وأما حديث الواسَطة (7) وعدمها فضعيف؛ لأن الخير أيضًا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق، __________ (1) "النتائج": "الفعل". (2) ما بين المعكوفين من "النتائج". (3) (ق): "هذا". (4) في "النتائج": (ص/ 352 - 353). (5) (ق): "يقتضي". (6) أخرجه البخاري رقم (7501) ومسلم رقم (128) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (7) يعني ما تقدم من كلام السهيلي من اكتساب السيئات بواسطة الشهوة والشيطان.

(2/505)


فهذا في مقابلة وسائط الشر، فالفرق ما ذكرناه، والله أعلم. فصل (1) وأما "سَمِع الله لمن حمده" فقال السّهيلي: مفعول "سَمِع" محذوف؛ لأن السمع متعلِّق بالأقوال والأصوات (ق/ 117 ب) دون غيرها، فاللام على بابها، إلا أنها تُؤذِن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاد والدلالة على المعنى الزائد وهي الاستجابة لمن حمده، وهذا مثل قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ليست "اللام" لام المفعول كما زعموا، ولا هي زائدة، ولكن "رَدِف" فعل متعدٍّ ومعموله (2) غير هذا الاسم، كما كان مفعول "سمع" غير المجرور، ومعنى "رَدِف" تَبع وجاءَ على الأثر، فلو حَمَلْته على الاسم المجرور، لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى: رَدِف لكم استعجالكم وقولكم؛ لأنهم قالوا: {مَتَى هذَا الوَعْدُ} [النمل: 71] ثم حُذف المفعول الذي هو القول والاستعجال اتكالًا على فهم السامع، ودلت "اللام" على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولًا، وآذنت أيضًا بفائدة أخرى وهي معنى: عَجل لكم، فهي متعلقة بهذا المعنى، فصار معنى الكلام: قُل: عسَى أن يكون عَجِل لكم بعض الذي تستعجلون، فرَدِف قولكم واستعجالكم، فدلَّتَ: "رَدِف" على أنهم قالوا واستعجلوا، ودلت "اللام" على المعنى الآخر، فانتظم الكلام أحسن نظام، واجتمع الإيجاز مع (3) التمام. __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 353). (2) "النتائج": "مفعولها". (3) (ظ): "معنى".

(2/506)


قلت: فِعْل السمع يُرَاد به أربعة معان: أحدها: سَمْع إدراك ومتعلَّقه الأصوات. الثاني: سمع فَهْم وعَقْل ومتعلَّقه المعاني. الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل. الرابع: سَمْع قبول وانقياد (1). فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمران: 181]، ومن الثاني قوله: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ليس المراد به سمع مجرَّد الكلام (2)، بل سَمْع الفهم والعقل، ومنه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، ومن الثالث: "سمع الله لمن حمده"، وفي الدعاء المأثور: "اللهم اسمع" (3)، أي: أجب وأعط ما سألتك، ومن الرابع قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42] أي: قائلون له منقادون غير منكرين له. ومنه على أصح القولين: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي: قابلون ومنقادون، وقيل: عيون وجواسيس، وليس بشيءٍ، فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين، فيحتاج إلى الجواسيس والعيون، وهذه الآية إنما هي في حَقّ المنافقين (ظ/95 أ)، وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم، فلم يكونوا محتاجين إلى عيونٍ وجواسيس. وإذا عُرِفَ هذا فسمع الإدراك يتعدَّى بنفسه، وسمع القَبول يتعدَّى باللام تارة وبمن أخرى، وهذا __________ (1) (ظ ود): "وإيثار". (2) سقطت من (ق). (3) لعل المراد ما أخرجه أبو داود رقم (1508)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (101)، وأحمد في "المسند": (4/ 369) في حديث طويل وفيه: " ... ذا الجلال والإكرام اسْمَع وَاسْتَجب ... " من حديث زيد بن أرقم -رضى الله عنه- وفي سنده داود الطُّفَاوي مُتكلَّم فيه.

(2/507)


بحسب المعنى؛ فإذا كان السِّياق يقتضي القبول عُدِّي بـ "من"، وإذا كان (ق/118 أ) يقتضي الانقياد عُدِّي باللام، وأما سَمْع الإجابة فيُعَدَّى باللام، نحو: سمع الله لمن حمده، لتضمُّنه معنى استجابَ له، ولا حَذْف هناك وإنما هو مضمن، وأما سَمْع الفهم فيتعدَّى بنفسه، لأن مضمونَه يتعدَّى بنفسه. فصل (1) ومما يتعلق بهذا قولهم: "قرأتُ الكتابَ واللوح" ونحوهما مما يتعدَّى بنفسه، وأما: "قرأتُ بأم القرآن" و"قرأت بسورة كذا"، كقوله [صلى الله عليه وسلم]: "لا صلاةَ لمنْ لَم يَقْرأ بفاتحةِ الكتابِ" (2)، ففيه نكتة بديعة قلَّ من يتفطَّنُ لها، وهي أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه فقلت: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصاركَ عليها لتخصيصها بالذِّكر، وأما إذا عُدِّيَ بـ "الباء"، فمعناه: لا صلاة لمن لم يأت بهذه السورة في قراءته أو في صلاته، أي: في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يعطي الاقتصار عليها، بل يُشْعر بقراءة غيرها معها، وتأمَّل قولَه في الحديث: "كان يَقْرأ في الفَجْر بالسِّتين إلى المِئَة" (3) كيف تجد المعنى أنه يقرأُ فيما يَقْرأُ به بعد الفاتحة بهذا العدد، وكذلك قوله: "قرأ بالأعراف" (4)، إنما هي __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/345). (2) أخرجه البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. (3) أخرجه البخاري رقم (541)، ومسلم: (1/ 447 رقم 237) من حديث أبي بَرْزة الأسلمي -رضي الله عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (764) من حديث زيد بن ثابت قال: "سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بِطوْلَى الطولَيَيْن" أي: في المغرب. =

(2/508)


بعد الفاتحة، وكذلك قرأ في الفجر بسورة {ق} (1)، ونحو هذا، وتأمل كيف لم يأت بالباءِ في قوله: "قرأ سورةَ النَّجْمِ فسَجَدَ وسَجَدَ معه المسلِمُوْنَ والمشركونَ" (2) فقال: قرأ سورة النجم، ولم يقل: بها؛ لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها، وكذلك قوله: قرأَ عَلَى الجنِّ سورةَ الرحمن (3) ولم يقل: بسورة الرحمن، وكذلك: "قرأ على أُبَيٍّ سورةَ: {لَم يَكُنِ} (4) ولم يقل: بسورة {لَم يَكُنِ}، ولم تأت الباء إلا في قراءةٍ في الصلاة كما ذكرتُ لك، وإن شئتَ قلت: هو مضمَّن معنى: صلَّى بسورة كذا وقامَ بسورة كذا، وعلى هذا فيصحُّ هذا الإطلاق وإن أتى بها وحدها، وهذا أحسن من الأول، وعلى هذا فلا يقال: قرأ بسورةِ كذا، إذا قرأها خارجَ الصلاة، وألفاظ الحديث تتنزَّل على هذا، فتدبَّرْها. فصل (5) وأما {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79] فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر من معنى الأمر بالإكتفاء، لأنك إذا قلت: "كفى الله"، أو __________ = ووقع تفسيرها بـ "الأعراف" في "سنن أبى داود" رقم (812)، والنسائي: (2/ 170) وغيرهما. (1) أخرجه مسلم رقم (458) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (1067)، ومسلم رقم (576) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه-. (3) أخرجه الترمذي رقم (3291) من حديث جابر -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد" أهـ ثم ذكر عن الإمام أحمد والبخاري ما يدلّ على نكارة الحديث. (4) أخرجه مسلم رقم (799) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (5) "نتائج الفكر": (ص/ 355).

(2/509)


"كفاك (1) زيد" فإنما تريد أن يكتفي هو به، فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر، فدخلت الباء لهذا السبب، فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هى كقولك: حسبكَ بزيد، ألا ترى أن "حسبك" مبتدأ وله خبر، ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول: "حسبك يَنَم الناس"، فينم جُزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام، حكى هذا سيبويه (2) عن العرب. فائدة (3) تعدِّي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أنحاء؛ أحدها: أن يكون مفعولاً مطلقًا لبيان النوع. الثانى: أن يكون توكيدًا. الحديث: أن يكون حالاً. قال (ق/18 ب) سيبويه (4): "وإنما تذكره لتبِّين أي فعل فعلت أو توكيدًا". وأَما الحال: فنحو: "جاء زيد مشيًا وسعيًا"، تريد: ماشيًا وساعيًا، وفيه قولان؛ أحدهما: هذا. والثاني: أن الحال محذوف، و"مشيًا" معمولها، أي: يمشي مشيًا، وقد تقول: "مشيت مشيًا وقعدت قاعدًا"، تجعلها حالاً مؤكِّدة، وقد تقول: مشيت مشيًا بطيئًا ومسرعًا، فلك فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون المصدر حالاً فيكون من باب قوله تعالى: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} (5) [الأحقاف: 12] وهي الحال الموطأة؛ لأن الصفة في وطَّأت الاسم الجامد أن يكون حالًا، فإن اللسان __________ (1) (ظ ود): "كفاك الله ... ". (2) فى "الكتاب": (1/ 452 - 465). (3) "نتائج الفكر": (ص / 356). (4) في "الكتاب": (1/ 117) بنحوه. (5) من قوله: "وقد تقول ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/510)


اسم جامد، فلما وُصِف بالمشتق وطَّأته الصفة أن يكون حالاً، فإن (ظ/90 ب) حَذفتَ الاسم وبقيت الصفة وحدَها لم يكن في الحال إشكال، نحو: "سِرْت شديدًا". ويُبَيِّن ما قلناه أن قولك: "سرتُ شديدًا" هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل، فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال. ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولاً مطلقًا أو حالاً، ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدًا له؛ لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد. والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه، والعامل فيه إذا كان مفعولاً مطلقًا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هو ما يتضمَّنه من معنى "فعل" الذي هو فاءٌ وعَينٌ ولامٌ، لأنك إذا قلت: ضربت ضربًا، فالضرب ليس بمضروب، ولكنك حين قلت: "ضربت" تضمن "ضربت" (1) معنى "فعلت"؛ لأن كُلَّ ضرْبٍ فعل، وليس كل فعل ضربًا، فصار هذا بمنزلة تضمُّن الإنسان الحيوانَ، وإذا كان كذلك؛ "فضربًا" منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت، حتى كأنك قلت: "فعلت ضربًا". ولا يكون المصدر مفعولاً مطلقًا حتى يكون منعوتًا أو في حكم المنعوت، وإنما يكون توكيدًا للفعل؛ لأن الفعل يدلُّ عليه دلالةً مطلقةً ولا يدل عليه محدَّدًا ولا منعوتًا، وقد يكون مفعولاً مطلقًا، وليس ثَمَّ نعتٌ في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت، كأنك تريد: "ضربًا مَّا"، فلا يكون حينئذٍ توكيدًا، إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى __________ (1) ليست في (ظ).

(2/511)


زائد على معناه، لأن التوكيد تَكْرار محض. وقد احتج بعضُ أهل السنة (1) على القائلين من المعتزلة بأن تكلم الله -تعالى وتقدَّس- لموسى -عليه السلام- مجاز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] فأكَّد الفعلَ بالمصدر، ولا يصح المجاز مع التوكيد. قال السهيلي (2): فذاكرت بهذا شيخَنا أبا الحسين (3)، فقال: هذا حسن، لولا أن سيبويه أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولاً مطلقًا، وإن لم يكن منعوتًا في اللفظ، فيحتمل على (ق / 119 أ)، هذا أن يريد (4): "تكليمًا مّا"، فلا يكون في الآية حجة قاطعة، والحِجَاج عليهم كثيرة. قلتُ (5): وهذا ليس بشيء والآيةُ صريحة فى أن المرادَ بها تكليمٌ أخص من الإيحاء، فإنه ذَكَر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده، وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك، ثم خص موسى باسم خاصٍّ وفعل خاص وهو "كلم تكليمًا"، ورفع توهُّم إرادة التكليم العام (6) عن الفعل بتأكيده بالمصدر، وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم، ولو كان المراد "تكليمًا مَّا"، لكان مساويًا لما تقدَّم من __________ (1) بيَّنه السُّهَيلي في كتابه، وهو: "القُتَبِي" وهو: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) سبقت ترجمته. وكلامه هذا في كتابه: "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 111) إذ قال تعليقا على الآية: "فوكَّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز" اهـ. (2) "نتائج الفكر": (ص / 357). (3) أي: ابن الطراوة، وسبقت ترجمته. (4) (ق): "يكون". (5) الكلام الآن لابن القيم. (6) من قوله: "المشترك ثم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/512)


الوحي أو دونه، وهو باطل!. وأيضًا: فإن التأكيد في مثل هذا السِّياق صريحٌ في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلاً ومصدرًا، ووصفه بما يُشعِر بالتقليل مضاد للسياق، فتأمله. وأيضًا: فإن الله -سبحانه- قال لموسى: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] فلو كان التكليم (1) الذي حصل له "تكليمًا مّا" كان مشاركًا لسائر الأنبياء فيه، فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى. وأيضًا: فإن وَصْف المصدر هاهنا مُؤَذِن بقلَّته وأنَّ "نوعًا ما" من أنواع التكليم حصل له، وهذا محال هاهنا، فإن الإلهام "تكليم مَّا"، ولهذا سماه الله تعالى وحيًا، والوحى "تكليم مَّا" فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] ونظائره. وقال عُبَادة بن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلِّم به الربُّ عبده في منامِه" (2). فكلُّ هذه الأنواع تسمَّى "تكليمًا ما". وقد خصَّ -سبحانه وتعالى- موسى واصطفاه على البشر بكلامه له. وأيضًا: فإن الله سبحانه حيثُ ذكرَ موسى ذكرَ تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الاسم العام، كقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ (ط/ 91 أ) لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] بل ذَكَرَ تكليمه له بأخصَّ من ذلك وهو تكليم خاص، كقوله: __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) أخرجه الطبراني -كما في "المجمع": (7/ 174) - والضياء في "المختارة": (8/ 275) مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الهيثمي: "في سنده من لم أعرفه" اهـ.

(2/513)


{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52] فناداه وناجاه، والنداء والنجاء أخصُّ من التكليم، لأنه تكليمٌ خاص، فالنداءُ تكليم: من البعد يسمعه (1) المنادى، والنِّجاءُ تكليم من القرب. وأيضًا: فإنه قد اجتمع في هذه الآية ما يمتنع معه حملُها على ما ذكره، وهو أنه ذكر الوحيَ المشتركَ، ثم ذكرَ عموم الأنبياء بعد محمد ونوح، ثم ذكر موسى بعَيْنه بعد ذِكْر النبيين عمومًا، ثم ذكرَ خصوص تكليمه، ثم أَكَّدَه بالمصدر، وكل من له أدنى ذوقٍ في الألفاظ ودلالتها على المعانى (2)، يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيصَ موسى بتكليم لم يحصل لغيره، وأنه ليس "تكليمًا ما"، فما ذكره أبو (ق / 119 ب) الحسين غيرُ حسنٍ، بل باطل قطعًا!! والذي غرَّه ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها، وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدرٍ كان هذا شأنه، وإنما ذكر أن هذا مما (3) يسوغُ في الجملة، فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحدٌ: إنه موصوف محذوف يدل على تقليله، كما إذا قيل: "صدَّقت الرسول تصديقًا وآمنت به إيمانًا"، أوْ قل: "قاتَلَ فلانٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالاً ونصَره نصرًا"، و"بين الرسولُ لأمته تبيينًا وأرشدهم إرشاداً وهداهم هدى"، فهل يقول سيبويه أو أحد: إن هذا يجور أن يكون موصوفًا؟! والمراد: "تصديقًا مَّا وإيمانًا مَّا وتبيينًا: مَا وهدًى مَّا"!؟، فهكذا الآية والله الموفق للصواب. __________ (1) (ق): "بما يسمعه". (2) من (ق). (3) ليست في (ق).

(2/514)


قال السهيلي (1): "وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدًا للفعل، والتوكيد لا يعمل فيه المؤكَّد، إذ هو [هو] (2) في المعنى، فما العامل فيه؟. فسكتَ قليلاً ثم قال: ما سألني عنه أحدٌ قبلك، وأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسمًا، لأنه لو كان اسمًا لكان منصوبًا بفعلت المتضمَّنة فيه. ثمَ عرضتُ كلامَه على نفسي وتأملت "الكتاب"، فإذا هو قد ذَهَل عما لوَّح إليه سيبويه في باب المصادر، بل صرَّح، وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوبا بفعل هو التوكيد على الحقيقة، واخْتُزل ذلك الفعل، وسدَ المصدر الذي هو معموله مسدَّه، كما سدَّت "إياك" و"رُوَيْدًا" مسدَّ العامل فيهما، فصار التقدير: "ضربتُ ضربتُ ضربًا"، فـ "ضربتُ" الثانيةَ هي التوكيدُ على الحقيقة، وقد سدَّ "ضربًا" مسدَّها، وهو معمولها، وإنما يُقَدَّر عملُها فيه على أنه مفعول مطلق لا توكيد، هذا معنى قول صاحب "الكتاب" مع زيادة في الشرح، ومن تأمله هناك وجده كذلك. والذي أقولُ به الآن قول الشيخ أبي الحسين؛ لأن الفعل المختزل معنى، والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكَّد بالألفاظ (3)، وقولك: "ضربت، فعل مشتق من المصدر، فهو يدل عليه، فكأنك قلت: "فعلت الضربَ"، فضربت يتضمَّن (المصدر) (4) ولذلك تضمره، فتقول: "من كذبَ فهو شر له"، وتقيده بالحال، نحو: "قمنا سريعًا"، فسريعًا حال من __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 358). والمسؤول ابن الطراوة. (2) من "المنيرية". (3) (ق): "يوكِّدها الألفاظ". (4) في "النتائج": "يتضمَّن الضرب المفعول".

(2/515)


القيام، فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكني عنه [بهو] جازَ أيضًا أن تؤكده بـ "ضربًا"، كأنك: قلت: "ضربًا ضربا"، ونصب "ضربًا" المتضمن "ضربًا" (1) المصرَّح به، وبه يعمل في الثاني بمعنى "فعلت"، كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت: "ضريت ضربًا شديدًا"، أي: فعلت ضربًا شديدًا، (ق/120 أ)، وليس المؤكد كذلك، إنما ينتصب كما ينتصب "زيداً" الثاني في قولك: "ضربت (2) زيذاً زيدًا" مكررًا، انتصبَ من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرتَ له فعلاً (ظ/91 ت)، فتأمله". تم كلامه. ثم قال (3): فصلٌ فيما يؤكَّد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكَّد قد أشرنا إلى أن الفعل (4) قسمان: خاص وعام، فالعام: "فعلت" و"عملت"، و"فعلت" أعمّ؛ لأن "عملت" عبارة عن حركات الجوارح الظاهرة مع دءوب، ولذلك جاء على وزن "فَعِل" كتَعِب ونَصب، ومن ثَمَّ لم تجدها يخبر بها عن الله -سبحانه- إلا أن يَرِدَ بها سمع، فيُحمل على المجاز المحض، ويلتمس له التأويل. قلت (5): وقد ورد قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ __________ (1) (ق): "ضربك ... "، و (ظ ود) سقط منها: "المتضمن ضربًا". (2) من قوله: "ضربًا شديدًا ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) "نتائج الفكر": (ص / 360). (4) (ق): "الفعل المؤكد". (5) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.

(2/516)


أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] وقد تقدم (1) له كلام أن اليدَ صفة أخصّ من القدرة والنعمة، كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري -رحمه الله-، ونصر هو ذلك المذهب وارتضاه، وعلى هذا فلا تأويل في الآية، بل هي على حقيقتها على قوله، وأما الدَّءوب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك كله متعالٍ عنه. وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين، بل الصفة المضافة إليه لا يلحقه فيها شي من خصائصهم، فإثباتها له كذلك لا يحتاج معه إلى تأويل، فإن الله ليسَ كمثله شيءٌ، وقد تقدَّم أن خصائصَ المخلوقين غير داخلة في الاسم العامِّ، فضلاً عن دخولها في الاسم الخاص المضاف إلى الربِّ، وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الربِّ تعالى صرفًا للفظ عن حقيقته. ومن اعتقدَ دخولَها في الاسم المضاف إلى الربِّ ثم توسَّل بذلك إلى نفي (2) الصفة عنه، فقد جمعَ بين التشبيه والتعطيل، وأما من لم يُدْخلها في مسمَّى اللفظ الخاص، ولا أثبتها للموصوف فقوله مَحْض التنزيه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه، فتأمل هذه النكتة وَلْتكن منك على ذُكْر في باب الأسماء والصفات، فإنها تُزيل عنك الاضطراب والشبهة، والله الموفق للصواب. عاد كلامُه، قال: "إذا ثبت هذا "ففعلت" وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة لا تؤكَّد بمصدر؛ لأنها في الأفعال بمنزلة شيءٍ وجسم في الأسماء، فلا يؤكَد؛ لأنه لم يثبت له حقيقة (3) معينة __________ (1) (2/ 397 - 398). (2) (ق): "نفي بدل". (3) "له حقيقة" سقطت من (د).

(2/517)


عند المخاطب، وإنما يؤكد ما ثبتت حقيقته، والمخاطَب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد "فعلت"، فلو قلت له: "فعلتُ فعلتُ"، وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد، (ق/120 ب) ما كان الكلام إلا غير مفيد! وكذلك لو قال: "فعلتُ فِعلاً" على التوكيد؛ لأن المصدر الذي كنتَ تؤكد به -لو أكدت- قياسُه أن يكون مفتوح "الفاء" لأنه ثلاثي، والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه، كما أن فعله كذلك". قلتُ (1): هذا ليس على إطلاقه، فإن "فعلت" إذا أُريد بها الفعل العام الذي لم تتحصل حقيقتُه عند المخاطَب امتنعْ تأكيدُها، بل مثل هذا لا يقع في (2) التخاطُب، وأما إذا أُريدَ بها فعل خاص قد تحصَّلت حقيقته وتميزت عندهما، كما إذا قال له: "أنت فعلت هذا"، وأشار إلى فعل معين، فإنه إذا أكد الفعل وقال: "فعلتُ فعلت"، كان الكلام مفيدًا أبلغ فائدة، وهذا إنما جاء من حيث كانت "فعلت" مرادًا بها الحديث الخاص. وأكثر ما يجيء "فعلت": في الخطاب كذلك، فتأمله. قال (3): "إذا ثبت: هذا؛ فلا يقع بعد "فعلت" إلا مفعول مطلق، إما من لفظها فيكون عامًّا، نحو: "فعلت فِعلاً حَسَنًا"، ومن ثَمَّ جاء مكسور الفاء لأنه كالطَّحْن والذِّبْح، ليس بمصدر اشْتُق منه الفعل، يل هو مشتق من "فعلت". وإما أن يكون خاصًا نحو: "فعلت ضربًا"، "فضربًا" أيضًا مفعول مطلق من غير لفظ "فَعل" فصار "فعلت فِعلاً" __________ (1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-. (2) (ق ود): "ألا في". (3) أي: السهيلي -رحمه الله-.

(2/518)


كطحنت (ظ / 92 أ)، طِحْنًا، و"فعلت ضربًا" كطحنتُ دقيقًا. فإن قيل: ألم يجيزوا في "ضربت ضربًا" و"قتلتُ قتلًا" أن يكون مفعولًا مطلقًا، فلِمَ لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولاً مطلقًا، ومفتوحًا إذا كان مصدراً مؤكَّدَا؟. قيل: "حدِّث حديثين امرأةً" (1)، ألم يقدم في أول الفصل أنه لا يعمل في "ضربًا" إذا كاد مفعولا مطلقًا إلا معنى "فعلت" لا لفظ "ضربت"، فلو عمل فيه لفظ "ضربت" لقلت: "ضِربًا" بالكسر، كطِحْن، وهو محال، لأن الضرب لا يضرب، ولكنك إذا اشْتَقَقْت له اسما من "فعلت" التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت: هو فِعْل، وإن اشْتَقَقْتَ له اسمًا من "ضربت" التي لا يعملُ لفظُها فيه، لم يجز أن يجعلها كالطِّحْن والذِّبْح؛ لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه، فثبت من هذا كله أن "فَعَلت" و"عملت" استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها، لأنها لا تتعدَّى إلا إلى حدث، وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها، فيجتمع اللفظ والمعنى، ويكون أقوى عند المخاطَب من (2) المصدر الذي يشتَق منه الفعل، ولذلك لم يقولوا: "صنعت صنْعًا" "بفتح الصاد، ولا: "عَملت عَمْلاً" بسكون الميم، ولا "فَعَلت فَعْلا" بفتح الفاء، استغناء عن المصادر (ق/ 21 أ)، بالمفعولات المطلقة؛ لأن العملَ مثل: القَنَص والنَّفَض، والصُّنع مثل: الدهن والخُبْز، والفِعْل مثل: الطِّحن، وكلها (3) بمعنى المفعول، لا بمعنى المصدر الذي اشتُق منه الفعل. __________ (1) انظر: "مجمع الأمثال": (1/ 342). (2) (ق): "و". (3) "النتائج": "فكأنها".

(2/519)


وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدَّى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يُخْبر بها عن خالقها، وإنما يتعدَّى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة، نحو: "ضربت زيدًا"، فهو مضروب على الإطلاق، وإن اشتققت له من لفظ "فعلت" مفعول به، أي: فعِلَ به الضرب ولم يفْعَل هو جاز. وأما: "حَلمت في النوم حُلْمًا" فهو بمنزلة: "فعلت وصنعت" في اليقظة؛ لأن جميع أفعال النوم تشتمل عليها "حَلَمت"، وكأنَّ جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها "فعلت"، فمن ثمَّ لم يقلوا: "حَلْمًا" بوزن "ضَرْبًا"؛ لأن "حلمت" مغنية عن المصدر كما كانت "فعلت" مغنية عنه، وإنما مطلوبُ المخاطب معرفةُ المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا: "حلْما"، ولذلك جمعوه على: "أحلام وحُلوم"؛ لأن الأسماء هي التي تُجْمع وتثنى، وأما الفعل، أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر (1) فلا تُجمع ولا تُثنى، وقولهم: إنما جمِعت الحلومُ والأشغال لاختلاف الأنواع، يل يقال لهم: [وهل] (2) اختلفت الأنواع: إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟ ألا ترى أن "الشُّغل" على وزن "فعْل" كالدُّهن، فهو عبارة عما يَشتغل المرء به (3)، فهو اسم مشتقٌّ من الفعل وليس الفعل مشتقًا منه، إنَّما هو مشتق من "الشغَل"، والشَّغْل هو المصدر، كما أن "الجعْل والجُعْل" كذلك. فعلى هذا ليس "الأشغال" و"الأحلام" بجمع المصدر، وإنما هو جمع اسم، والمصدر على الحقيقة لا يجمع؛ لأن المصادر كلها جنس __________ (1) من قوله: "كما كانت .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) في الأصول: "ولم" والمثبت من "النتائج". (3) الأصول "عنه" والمثبت من "النتائج".

(2/520)


واحد، من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها، ولولا "هاء" التأنيث في الحركة ما ساغ جمعُها، فلو نطقت العربُ بمصدر "حَلَمت" الذي اسْتغني عنه بالحُلْم، وبمصدر "شكرت" الذي استغنى [عنه] (1) بالشكر لما جاز جمعه؛ لأن اختلاف الأنواع ليس راجعًا إليه، وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق. ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنْعِم من ثناء أو فعل، وكذلك نقيضه -وهو الكفر- عبارة عما يُقابَل به المنْعِم (2) من جَحْد وقبْح فعل، فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل، إلا أن "الكفر" يتعدَّى بالباء لتضمُّنه معنى التكذيب، و"شكرت" (ق 121/ ب) يتعدَّى باللام، التي هى لام الإضافة؛ لأن المشكورَ في الحقيقة هى النعمة، وهي مضافة إلى المنعم، (ظ/92 ب) وكذلك المكفور في الحقيقة هى النعمة، ولكن كفرها تكذيب وجَحْد، فلذلك قالوا: "كفر بالله" و"كفر نعمتَه" و"شكر له" و"شكر نعمتَه". وإذا ثبتَ أن الشكرَ من قولك: "شكرت شُكرًا" مفعول مطلق، وهو مختلف الأنواع؛ لأن مكافأة النعم تختلف، جار أن يُجمع كما جمع "الحُلْم والشُّغل"، فيحْمل قوله -سبحانه- حكاية عن المخلصين من عباده: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9] أن يكون جمعًا لـ "شكر"، وليس كالقعود والجلوس؛ لأنه متعد، ومصدر المتعدي لا يجيءُ على "الفعول" (3). __________ (1) سقطت من (ظ ود)، و (ق): "به". (2) (ق) "المنعم عليه" وهو خطأ. (3) (ظ ود): "لا يجيء مصادرها على المفعول"!.

(2/521)


قلت (1): الصحيح أنه مصدر جاءَ على "الفعول"، لأن مقابله وهو الكفر والجَحد والنفار تجيء مصادرها على "الفعول" (2)، نحو: كُفُور وجُحُود ونفُور، ويبعد كلَّ البعد أن يراد بالكفور جمع الكُفْر، والكفر، يُعْهد جمعه في القرآن قطّ ولا في الاستعمال، فلا يعرف في التخاطب: "أكفار وكفور"، وإنما المعروف الكفر، والكُفْران والكفوْرُ، مصادرُ ليس (3) إلا، فحسَّن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله، وهو كثير في اللغة، وقد تقدَّم الإشارة إليه، وحتى لو كان الشكور سائغًا استعماله جمعًا (4)، واحتمل الجمع والمصدر، لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع؛ لأن اللهَ تعالى وصفهم بالإخلاص، وأنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه، ولم يريدوا من المطعَمِين جزاء ولا شكورًا، ولا يليق بهذا الموضع أن يقولوا: لا نريد منكم أنواعًا من الشكر وأصنافًا منه، بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا: لا نريد منكم شُكراً أصلاً، فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم، وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي (5) الأنواع، فتأمله فإنه ظاهر، فلا يليق بالآية إلا المصدر، وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62] إنما هو مصدر، وليس بالمعهود البيِّن جمع الشُّكر علي الشُّكُور واستعماله كذلك، كما لم يُعْهد ذلك في الكفور. عاد كلامه (6) قال: "ويزيدُ هذا وضوحًا قولهم: "أحببت حبًّا"، __________ (1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-. (2) من قوله: "قلت ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) سقطت من (ق). (4) سقطت من (ق). (5) تحرّفت في (ق). (6) "النتائج": (ص / 364).

(2/522)


فالحب ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك جاء على ورنه مضمومَ الأول، ومن ثَمَّ جُمِع كما جُمِع الشغل، قال: ثلاثةُ أحباب؛ فحبُّ عَلاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّق، وحبٌّ هو القتل (1) فقد انكشف لك بقولهم: "أحببتُ حبًّا" ولم (ق/122 أ)، يقولوا: "إحبابًا" استغناءً بالمفعول المطلق الذي هو أَفْيَد عند المخاطب من "الإحباب"، أَنَّ "حلمت حُلْمًا"، و"شكرت شكراً"، و"كفرَ كُفرًا"، و"صَنَع صنعًا"، كلّها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول وناصبة له نَصْب المفعول المطلق. وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك؛ لأنها أعم من "أحببت"؛ إذ الشكرُ واقعٌ على أشياءَ مختلفة، وكذلك الكفر والشغل والحُلم، وكلما كان الفعل أعم وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى، وكان "فَعَل ويَفْعل" مغْنيًا عن، ولولا كشْف الشاعر لاختلاف أنواع "الحب" ما كِدْنا نعرف ما فيه من العموم، ولكنه لما فيه من العموم، وأنه في معنى "الشغل" صار "أحببت" كشغلت، وصار الحب كالشغل. ولو قال: "إحبابًا" لكان بمنزلة: "شَغَلت شَغلاً" بفتح الشين، ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال نحو: الإكرام، وعلى وزن الانفعال، والافتعال، [والتفعيل] (2) ونحوها، إلا أن يكون محدودا كالتَّمْرة من التمر. وأما جمعه لاختلاف الأنواع فلا اختلاف أنواع فيه، إنما اختلاف __________ (1) البيت في "اللسان": (10/ 347) بلا نسبة. (2) في الأصول: "والفعل"، والمثبت من "النتائج".

(2/523)


الأنواع فيما كان اسمًا مشتقًّا من الفعل اسْتُغنيَ به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر، وذلك لا تجده في الثلاثي إلا على وزن "فُعْل" أو "فَعَل" (ظ/ 93 أ) أو "فِعْل" ألا ترى أنهم، يجمعون ["الفَرَق" و"الحَذَر"، ولا شيئًا من ذلك الباب] (1) نحو: "الرَّمَد (2) والخَدَر والخَفَش والبَرَص والعَمَى، وبابه". قلت (3): فِعْل الحب فيه لغتان "فَعَل وأفْعل" وقد أنشدَ في "الصحاح" (4) بيتين علي اللغتين وهما: أُحِبُّ أبا مروانَ من أَجلِ تمرهِ ... وأعلمُ أن الحبَّ بالمرءِ أرفقُ ووالله لولا تمرُهُ ما حَبَبْتُه ... وكان عِياضٌ منه أدنى ومشرقُ هكذا أنشده المبرّد (5)، والذي في "الصحاح": * ولا كان أَدْنى مِن عبيد ومشرقِ * بالإقواء (6)، والبيتان لغيلان بن شجاع النهشلي وهو عربيٌّ فصيح، وإذا ثبتَ أنهما لغتان في "أحببته حبًّا فأنا له محِب وهو محبوب" على تداخل اللغتين، فأتوا في المصدر بمصدر الثلاثي كالشُّكر والشُّغل، واستعملوا من الفعلين الرباعي في غالب كلامهم، حتى كأنهم هجروا الثلاثي، وأتوا بمصدره حتى كأنهم هجروا الرباعي، فلما جاؤوا إلى __________ (1) ما بين المعكوفين من "النتائج". (2) (ظ ود): "نحو: الحذر والرمد ... ". (3) الكلام لابن القيم -رحمه الله-، وانظر "روضة المحبين": (ص/ 18). (4) (1/ 105). (5) في "الكامل": (1/ 438)، وانظر: "الخزانة" ت (9/ 429). (6) الإقواءة تغير حركة الرَّوِيّ.

(2/524)


اسم الفاعل أتوا بالاسم من الرُّباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي، فقالوا: "محب"، ولم يقولوا: "حابٌّ" أصلاً، وجاؤوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي في الأكثر، فقالوا: (ق/ 22 أب) "محبوب"، ولم يقولوا: مُحَب إلا نادرًا كما قال (1): ولقد نزلتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مِني بمنزلةِ المُحَب المُكْرمِ فهذا من "أحببت" كما أن المحبوب من "حببت"، ثم استعملوا لفظ الحبيب في المحبوب أكثر من استعمالهم إياه في المُحِب مع أنه يُطلق عليهما، فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة (2): وإن الكثيبَ الفردَ من جانبِ الحِمَى ... إليَّ وإنْ لم آتِهِ لحبيبُ أى: لمحبوب. ومن مجيئه للفاعل، قول المُخَبَّل (3): أَتهجر ليلى للفراقِ حَبِيْبَها ... وما كان نَفْسًا بالفراق تطِيْب فهذا بمعنى: محبها، وربما قالوا للحبيب: حِب، مثل: خِدْن، فخِدْن وخَدِين مثل: حبّ وحَبيب. وإذا ثبت هذا فقوله رحمه الله: "الحب ليس بمصدر لأَحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب"؛ ليس الأمر كما قال! بل هىِ مصدر للثلاثي أَجْرَوه على الفعل الرباعي __________ (1) البيت لعنترة في معلقته، "ديوانه": (ص/ 15). (2) (ق): "ابن الزبير" وهو خطأ. والبيت ضمن قصيدة بائية في "حماسة أبى تمام": (2/ 113). (3) في المطبوعة: المجنون، والبيت في "الخصائص": (2/ 384)، و"شرح شواهد الإيضاح" للقيسي (1/ 249)، و"لسان العرب" مادة حبب، و"شرح الكافية" لابن مالك: (2/ 778).

(2/525)


استغناء به عن مصدره، وهذا لكثرة ولوع (1) أنفسهم بالحب وألسنتهم به استعملوا منه أخفَّ المصدرين استغناء به عن أثقلهما. وأما مجيئه بالضم: دون الفتح، فَلِسِرٍّ في ذلك، وهو قوة هذا المغنى وتمتكُّه من نفس المحِبِّ وقهره وإذلاله إياه، حتى إنه ليذل الشجاع الذي لا يذل لأحد فينقهر لمحبوبه ويستأسر له، كما هو معروف في أشعارهم ونثرهم، وكما يدل عليه الوجود، فلما كان بهذه المثابة أَعْطوه أقوى الحركات وهى الضمة، فإن حركة الحب أقوى الحركات فأعطوا أقوى حركات المتحرك أقوى الحركات اللفظة؛ ليتشاكل اللفظُ والمعنى، فلهذا عَدَلوا عن قياسِ مصدره وهو الحب إلى صَمِّه. وأيضًا: فإنهم كرهوا أن يجيئوا بمصدره على لفظ "الحب" الذي هو اسم جنس للحبة (2)، ولم يكن بُد من عدولهم إما إلى الضم أو إلى الكسر، وكان الضم أولى لوجهين؛ أحدهما: قوته وقوة الحب. الثاني: أن في الضمة من الجمع ما يوازي ما في معنى الحب من جمع الهِمَّة والإرادة على المحبوب، فكأنهم دلَّوا السامعَ بلفظه وحركته وقوته على معناه. وتأمل كيف أتوا في هذا المسمى بحرفين: أحدهما: الحاء التي هى من أقصى الحلق، فهي مَبْدأ الصوت ومخرجها قريبٌ من مخرج الهمزة من أصل الصدر الذي هو (ق/123 أ) معدن الحب وقراره. __________ (1) (ق): "وقوع". (2) (ظ): "للمحبة"، و (ق): "المحبة" والصواب ما أثبته.

(2/526)


ثم قرنوها بـ "الباء" (1) التي هى من الشفَتَين، وهى آخر مخارج الصوت ونهايته، فجمع الحرفان بدايةَ الصوت ونهايته، كما اشتمل معنى الحبِّ على بداية الحركة ونهايتها، فإن بداية حركةِ المحب من جهة محبوبه، ونهايتها الوصول (2) إليه، فاختاروا له حرفين هما بداية الصوتِ ونهايته، فتأمل هذه النكت البديعة تجدها ألطف من النسيم، ولا تَعْلَق إلا في هو يناسبها لطافةً وَرِقَّة. فقل لكثيفِ الطبعِ وَيْحك ليسَ ذا ... بِعشِّكَ فادْرجُ (3) سالمًا غيرَ غانِمِ واشتقاقه في الأصل من الملازمة والثبات من قولهم: "أحبَّ البعير فهو محب" إذا برك (4) فلم يَثُر، فقال (5): حُلْتَ عليه بالقَطِيْعِ ضَرْبًا ... ضربَ بعير السُّوءِ إِذْ أحَبَّا فلما كان المُحِب ملازمًا لذكر محبوبه، ثابتَ القلب على حُبه [مقيمًا] (6) عليه، لا يروم عنه انتقالًا ولا يبغي عنه زوالًا، قد اتخذ له في سويداء قلبه وطنًا وجعله له سكنًا: تزولُ الجبال الراسياتُ وقَلْبُه ... على العهدِ لا يلوي ولا يتغيرُ فلذلك أَعْطَوه هذا الاسم الدال على الثبات واللزوم، ولما جاؤوا __________ (1) وهو الحرف الثاني. (2) (ظ ود): "إلى الوصول". (3) من أمثال العرب قولهم: "ليس هذا بعشك فادرجى" يُضرب لمن يرفع نفسَه فوق قدره. انظر: "مجمع الأمثال": (2/ 181). (4) (ق): "نزل". (5) هو: أبو محمد الفقعسي، كما في "اللسان": (1/ 292) وفيه: "بالقفيل" وهو السوط، والقطيع" السوط -أيضًا-. (6) في (ظ وق): "متيمًا" والمثبت من (د).

(2/527)


إلى المحبوب أعطوه في غالب استعمالهم لفظ: "فَعِيل" الدال على أن هذا الوصف، وهو كونه متعلق الحب أمر ثابت له لذاته، وإن لم يُحب فهو حبيب، سواء أَحبَّه غيره أم لا، وهذا (1) الوزن موضوع في الأصل لهذا المعنى كـ "شريف" وإن لم يشرفه غيره، وهو من بناء الأوصاف الثابتة اللازمة، كطويل وقصير وكريم وعظيم وحَليم وجميل وبابه، وهذا بخلاف "مفعول"، فإن حقيقته لمن تعلق به الفعل ليس إلا كـ "مضروب" لمن وقع عليه الضرب، "ومَقْتول ومَأكول" وبابه، فهجروا في أكثر كلامهم لفظ "محبوب" لما يُؤْذِن من أنه الذي تعلَّق به الحبُّ فقط، واختاروا له لفظ "حَبيب" الدال على أنه حبيب في نفسه، تعلَّقَ به الحبُّ أم لا، ثم جاؤوا إلى من قام به الحب فأعطوه لفظة "مُحِب" دون "حابٍّ" لوجهين: أحدهما: أن الأصل هو الرباعي والنطق به أكثر، فجاءَ على الأصل. الثاني: أن حروفه أكثر من حروف "حابّ"، والمحل محل تكثير لا محل تقليل (2). فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي رَوْضة: أُنُف مَنَحَ العزيزُ الوهاب فَهمَها وله الحمد والمنة، وقد ذكرنا من هذا وأمثاله في كتاب "التحفة المكية" ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقَّه من الاستحسان والحدث، ولله الفضل والمنة. وأما جَمْع الشاعر له على: "ثلاثة أحباب"؛ فلا يخرجه عن كونه __________ (1) من قوله: "الوصف، وهو ... " ساقط من (د). (2) "والمحل محل تكثير لا محل تقليل" ساقط من (ق).

(2/528)


مصدراً؛ لأنه أراد أن الحب ثلاثة أنواع وثلاثة ضُروب، وهذا تقسيم للمصدر نفسه، وهو تقسيم صحيح، فإن للحب بداية وتوسطًا ونهاية، فدو الشاعر الأقسام الثلاثة، فحُبُّ البداية هو: حب العلاقة وسمِّيَ علاقة لتعلّق القلب بالمحبوب، قال الشاعر (1): أعلاقة أمَّ الوليدِ بعدما ... أفنان رأسكِ كالثَّغامِ المُخْلس والحب المتوسِّط، هو: حُبُّ التملُّق وهو التذلُّل والتواضع للمحبوب، والانكسار له، وتتبع مواقع رضاه، وإيقاعها على ألطف الوجوه، فهذا هو التملُّق، وهو إنما يكون بعد تعلُّق القلب به. والحب الثالث: هو الذي يأسر (2) القلبَ ويصطلم العقلَ ويُذْهِب اللبَّ ويمنع القرارَ. وهذه المحبة تنقطع دونها العبارة، وتمتنع إليها الإشارة، ولي فيها من أبياتٍ (3): وما هي إلا الموت أو هو دونَها ... وفيها المنايا يَنْقلبن أَمَانيا فقد بان لك أن الشاعرَ إنما أرادَ جَمْع الحب الذي هو المصدر باعتبار أنواعه وضروبه. ولنقطع الكلامَ في هذه المسألة، فمن لم يَشْبع من هذه الكلمات ففي "كتاب التحفة" أضعاف ذلك، والله الموفق. عاد كلامه (4) قال: "فإن قيل: فقد قالوا: "سَقَم وأسقام"، والسَّقَم مصدر لسَقِمَ، فهذا جمعٌ لاختلافِ الأنواع؛ ألا، لأنه اسم كما ذكرت. __________ (1) هو: المرار بن سعيد الفقعسي، والبيت من شواهد "الكتاب": (1/ 60)، وانظر: "الخزانة": (10/ 230، 11/ 232). (2) (ظ): "باشر" وأهملت في (د). (3) لم أقف على شئ منها في كتبه الأخرى. (4) أي السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 365).

(2/529)


قيل: هذه غفلة! أليس قد قالوا: "سُقْم" بضمِّ السين، فهو عبارة عن الداء الذي به يسقم الإنسان، فصار كالدُّهن والشغل، وهو: في ذاته مختلف الأنواع، فجُمع. وأمَّا المرض فقد يكون عبارة عن السُّقم والعِلة، فيُجْمع على "أمراض"، وقد يكون مصدرا، كقولك: مرض، فلا يجمع. فإن قيل: تفريقك بين الأمرين (1) دعوى، فما دليلها؟. قلنا: قولك: "عَرق يعرق عرقًا" لا يخفى على أحد أنه مصدر عرق، والعَرَق الذي هو جسم سائل مائع سائل من الجسد، لا يخْفى على أحدٍ أنه غير "العَرَق" الذي هو المصدر، وإن كان اللفظ واحدًا، فكذلك "المرض" يكون عبارة عن المصدر وعبارة (2) عن "السقم" والعلَّة، فعلى هذا تقول: "تصبَّب زيدٌ عرقًا" فيكون له إعرابان؛ تمييز -إذا أردت المائع-، ومفعول من أجله أو مصدر مؤكِّد -إذا أردت المصدر- وكذلك: "دميت إصبعي دمًا" إذا (3) أردت المصدر فهو [الدَّمَى] (4) محل العَمَى، وإن أردت الشيء المائع فهو "دم" مثل: "يد"، وقد يُسمَّى المائع بالمصدر، قال (5): فَلَسْنا على الأعقابِ تَدْمى كُلُوْمُنا ... ولكنْ عَلى أقدامنا تَقْطُر الدّما فهذا (ق/124 أ) مقصور كالعصا، وعليه قول الآخر: __________ (1) من قوله: "السُّقم والعنة ... " إلي هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "ويكون عبارة". (3) "دما" ليست في (ق) وفيها: "إذا"، و (د): "وأما إذا". (4) سقطت من الأصول، والاستدراك من "النتائج". (5) البَيت لحُصَين بن حمام المرِّي، انظر "حماسة أبى تمام": (1/ 114)، ووقع فى الأصول: "على أعقابنا .. " وهو خطأ.

(2/530)


*جَرَى الدمَيان بالخَبَر اليقينِ (1) * فصل (2) ومن حيث امتنع أن يؤكَّد الفعل العام بالمصدر لشيوعه -كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها، وأنها لم تَثبت لها عينٌ- لم يَجُز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة، لا تقول: من فعل كان شرَّا له، بخلاف: من كذب كان شرًّا له؛ لأن "كذب" فعل خاصُّ فجاز الإخبار عما تضمَّنه من المصدر، ومن لمَّ لم يقولوا: "فعلت سريعًا" ولا: "عملت طويلاً"، كما قالوا: "سرت سريعا" و"جلست (3) طويلاً" على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة. فإن قلت: اجعله نعتا للمفعولِ المطلق، كأنك قلت: "فعلت فعلا سريعا"، و"عملت عملاً كثيرًا". قيل: لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط مذكورة في موضعها، فليس قولهم: "سرت سريعا" نعتًا لمصدر نكرة محذوفة، إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه، فقد استقام الميسم (4) للناظر في فصول هذه المسألة، واستتبَّ القياس فيها من كل وجه. فإن قيل: فما قولكم في "عَلِمت عِلمًا"، أليس هو مصدرًا لعلمت، __________ (1) عجز بيتٍ لعلي بن بدال بن سليم، وصدره: * فلو أنَّا على جُحْرِ ذُبحْنا * من انظر: "الخزانة": (7/ 482)، والبيت في "الأغاني": (24/ 254) بلا نسبة. (2) "نتائج الفكر": (ص/ 367). (3) (ق): "فعلت"، و (د): "حصلت". (4) باليا: العلامة. وبالنون -المنسم- أي: الطريق، وأصله خُفّ البعير.

(2/531)


فلِمَ جاء .. مكسور الأول كالطِّحْن والذِّبْح؟. قيل: العلم يكون عبارةٌ عن المعلوم، كما تقول: "قرأتُ العلم"، وعبارة عن المصدر نفسه الذي اشتُقَّ منه "علمت"، إلا أن ذلك المصدرَ مفعولٌ لعلمت؛ لأنه معلوم بنفس العلم، لأنك إذا عَلِمت الشيءَ فقدْ علمته، وعلمتَ أنك علمته بعلم واحد؛ فقد صار العلم معلوما بنفسه، فلذلك جاء على وزن "الطِّحْن والذبْح"، وليس له نظير في الكلام إلا قليل، لا أعلم فعلا يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا العلم والكلام؛ لأنك تقول للمخاطَب: "تكلم" فيقول: "قد تكلمت"، فيكون صادقًا وإن لم ينطق قبل ذلك. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي لما قال له: يا ابنَ عبد المطلب: "قد أجَبْتك" (1)، فكان "قد أجبتك" جوابا وخبرا عن الجواب، فتناول القول نفسه؛ ولذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] لأن "قل" أمر يتناول ما بعدَه ويتناول نفسه، فمن ثمَّ جاء مصدر "القول" على "القِيل"، كما جاء مصدر "علمت" على "العلم". وجاء أيضًا على "القال" وهو على وزن "القَبَض"؛ لأن القولَ قد يكون مقولاً (2) بنفسه، وجاء أيضًا على الأصل مفتوحَ الأول، وأما "العلم" فلم يجئ إلا مكسورًا مصدرا كان أو مفعولاً؛ لأنه لا يكون أبدًا إلا معلومًا بنفسه، و"القول" بخلاف ذلك، قد يتناول نفسه في بعض الكلام، وقد لا يتناول إلا المفعول (3)، وهو الأغلب. __________ (1) في حديث أخرجه البخاري رقم (63)، ومسلم رقم (12) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (2) (ق): "مفعولا"!. (3) في بعض نسخ "النتائج": "المقول".

(2/532)


وأما "الفكر" فليس باسمٍ عند سيبويه، ولذلك مَنَع من جمعه، فقال (1): "لا يُجْمع الفكر على أفكار"، حَمَله على المصادر التي لا تجمع. وقد استهوى الخطباءَ والقصاصَ خلافُ هذا، وهو كالعلم لقُرْبه منه في معناه، ومشاركته له في محلِّه، وأما "الذكر" فبمنزلة العلم؛ لأنه نوع (2) منه. فصل (3) فيما يحدد من المصادر بالهاء، وفيه بقايا من الفصل الأول. قد تقدمَ أنَّ الفعلَ لا يدل على مَصدره إلا مطلقًا غير محدود ولا منعوت، وأنك إذا قلت: "ضربته (4) ضربة"، فإنما هي مفعول مُطْلق لا توكيد؛ لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثَمَّ لا تقول: "سِيْر بزيد سريعة حسنة"، تريد: سِيرةً كذلك، ولا "قعدت طويلةً"؛ لأن الفعل لا يدل بلفظه على المَرَّة الواحدة، ومن ثمَّ بطل ما أجاره النحَّاس (5) وغيرُه من قوله: "زيد ظننتها منطلق"، تريد: "الظِّنة"، لأن الفعل لا يدل عليها. وإذا ثبتَ هذا فالتحديدُ في المصادر ليس يطَّرد في جميعها، ولكن فيما كان مها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديدُ غالبًا؛ __________ (1) في "الكتاب": (2/ 200). (2) (ق): "ممنوع"!. (3) "نتائج الفكر": (ص/ 369 - 374)، وفي (د): "فائدة". (4) "النتائج": "ضربت". (5) هو: أحمد بن محمد أبو جعفر المصري، العلامة النحوي، صاحب "إعراب القرآن" وغيره، ت (338)، انظر: "إناه الرواة": (1/ 101)، و "بغية الوعاة": (1/ 362).

(2/533)


لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد منه (1) والجنس بـ "هاء التأنيث"، نحو: تمرة وتمر، ونخلة ونخل، وكذلك تقول: ضَرْبة وضَرْب. وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو: عَلِم وحَذِر وفَرق ووَجِل، أو ما كان طبعًا نحو: ظَرف وشَرُف، لا يقال في شيءٍ من هَذا: فَعلَةٌ، لا يقال: فَهم فهْمة، ولا: ظَرُف ظَرْفة. وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقِلَّة نحو: طال وقَصر، وكبرَ وصَغْر، وقل وكَثر، لا تقول فيه: فَعْلَة. وأما قولهم: "الكَبْرَة في الهَرَم"، فعبارة عن الصِّفة وليست بواحدة من الكبر، وكذلك الكثرة ليست كالضربة من الضرب؛ لأنك لا تقول: كَثُر كَثرًا. وأما: "حمدًا"؛ فما أحسبه يقال في تحديده: حَمْدة، كما يقال: مَدْحة، والفرق بينهما أن "حِمد" يتضمَّن الثناء مع العلم بما يثني به، فإن تجردَ عن العلم كان مدحًا ولم يكن حمدًا، فكلُّ حَمْد فدح دون العكس، ومن حيث كان يتضمَّن العلم بخصال (2) المحمود جاء فعله على "حَمِد" بالكسر موازنَا لـ "علم"، ولم يجئ كذلك "مدح"، فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه (ظ /195)، ومن ثَمَّ لم نجد في الكتاب ولا في السنة "حَمِد ربنا فلانًا"، وتقول: مدحَ الله فلانًا وأثنى علي فلان، ولا: تقول: حَمِد إلا لنفسه، ولذلك قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بلام الجنس المفيدة للاستغراق، فالحمد كلُّه له إما __________ (1) "النتائج" و (د): "فيه" (2) (ق): "بحال".

(2/534)


مُلْكًا وإما استحقاقًا، فَحَمْده لنفسه استحقاق، وحمدُ العباد له؛ وحمد بعضهم لبعض ملك له؛ فلو حَمِدَ هو غيرَه لم يَسُغ أن يقال في ذلك الحمد: ملك له؛ لأن الحمد كلامه؛ ولم يَسُغ أن يضاف إليه على جهة الاستحقاق وقد تعلَّقَ بغيره. فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما عَلِم، فلِمَ لا يجوز أن يُسمى حمدًا؟. قيل: لا يُسَمى حمدًا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال، وذلك معدوم في غيره سبحانه، فإذا مَدَح فإنما يمدح بخصلة هى ناقصة في حق العبد، وهو أعلمُ بنقصانها، وإذا حَمِد نفسَه حَمِدَ بما عَلِمَ من كمال صفاته. قلت (1): ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحًا، فإن كلَّ واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه، فلا يكون مادحًا ولا حامدًا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح، فكيف يصح قوله: "إن تجرد عن العلم لأن مَدْحًا"، بل إن لجرَّد عن العلم كان كلاما بغير علم، فإن طابقَ فصِدْق وإلا فكَذِب. وقول: "ومن ثَمَّ لم يجئ في الكتاب والسنة: حمد ربنا فلانًا"، يقال: وأين جاء فيهما: "مدح الله فلانًا"، وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد، وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل قباء: "ما هَذا الطهوْر الذي أَثْنى الله عليكمْ بِه " (2)؟، __________ (1) التعليق لابن القيم -رحمه الله-. (2) أخرجه أحمد: (3/ 422)، وابن ماجه رقم (355)، وابن خزيمة رقم (83) =

(2/535)


فإذا كان قد أثنى عليهم، والثناءُ حَمْد متكرِّر، فما يمنع حمده لمن شاء من عباده؟!. ثم الصحيح في تسمية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - محمدًا: أنَّه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون. وأما من قال: الذي يحمده أهلُ السماء و (1) الأرض. فلا ينافي حمد الله تعالى، بل حمد أهل السموات والأرض له بعد حمد الله له، فلما حمده الله حمده أهل السموات وأهل الأرض (2). وبالجملة؛ لما (3) كان الحمد ثناءً خاصًّا على المحمود، لم يمتنع أن يحمدَ اللهُ من يشاءُ من خَلْقه كما يثني عليه، فالصواب في الفَرْق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردا من حب وإرادة، أو مقرونا بحبه وإرادته، فإن كان الأول؛ فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد، فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حُبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرا يتضمَّن الإنشاء، بخلاف المدح فإنه خبر مجرَّد، فالقائل إذا قال: "الحمد لله"، أو قال: "ربنا لكَ الحمد" تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه -تعالى- باسمٍ جامع محيط متضمن لكلِّ فردٍ من أفراد __________ = والحاكم: (1/ 155)، والدارقطني: (1/ 62) وغيرهم من حديث جماعةِ من الصحابة. وفي سنده مقال، ويصح بشواهده، وصححه ابن خزيمة والحاكم وحسّنه الزيلعى في "نصب الراية": (1/ 219). (1) (ظ ود): "أهل السماوات وأهل ... ". (2) من قوله: "فلا ينافي .... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ظ ود): "فإذا".

(2/536)


الحمد المحققَة والمقدَّرة؛ وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد. ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تقوم حقيقتُه إلا به فسره من فسَّره بالرضى والمحبة، وهو تفسير له بجزء مدلوله، بل هو رضاء ومحبة مقارنة للثناء عليه، ولهذا السر -والله أعلم- جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز، فقيل: "حَمد" لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من "فَهم وحذر وسقم" ونحوه، بخلاف الأخبار المجرَّد عن ذلك وهو المدح، فإنه جاء على وزن "فَعَل"، فقالوا: مَدَحه، لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع، فتأمل هذه النكتة البديعة، وتأمل الإنشاء الثابت في قولك: "ربنا لك الحمد"، وقولك: "الحمد لله"، كيف تجده تحت هذه الألفاظ، ولذلك لا يقال موضعها: "المدح لله"، ولا: "ربنا لك المدح" (1)، وسِرّه ما ذكرت لك من الإِخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه. فإن قلت: فهذا ينقض قولكم: إنه لا يمتنع أن يحمدَ اللهُ تعالى من شاء من خلقه، فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيءٌ ولا يستحق التعظيم غيره، فكيف يعَظِّم أحدًا من عباده؟. قلت المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب، ولكن يضاف إلى كلِّ ذاتِ بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات، فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه، وكذلك محبة الرسول تستلزم __________ (1) (ق): "الحمد"!.

(2/537)


توقيره وتَعْزيره (1) وإجلاله، وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل، وأما محبة الرب عبدَه فإنها تستلزم إعزاره لعبده، وإكرامه إياه، والتنويه بذكره، وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه، فهذا المعنى ثابت في محبته وحمدِه لعبدِه، سُمِّي تعظيمًا وإجلالا أو لم يسَمَّ. ألا ترى أن محبته -سبحانه- لرسله كيف اقتضت أن نوَّه بذكرهم في أهل السماء والأرض، ورفع ذكرَهم على ذِكر غيرهم، وغضب على من لم يحبهم ويوقوهم ويُجلهم، وأحلَّ به أنواعَ العقوبات في الدنيا والآخرة؟! وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم، أو لا ترى كيف أمر عاده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله وسلامه عليه؟! أفليس هذا تعظيمًا لهم وإعزازا وإكراما وتكريمًا (2)؟!. فإِن قيل: فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح، واسْتَبان صبح المعنى وأسفر وجهه، فما الفرق بينه (3) وبين الثناء والمجد؟. قل: قد تعدينا طَوْرَنا فيما نحن بصدده، ولكن نذر الفرق تكميلا لفائدة، فنذكر تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة -أعني: الحمد والمدح والثناء والمجد- فنقول: الإخبار عن محاسن الغير له ثلاثة اعتبارات؛ اعتبار من حيث المُخْبَر به. واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخَبَر .. واعتبار من حيث __________ (1) ليست في (ق) (2) ليست في (ق) (3) "بينه و" سقطت من (ق).

(2/538)


حال المُخْبِر. فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد، فإن المخْبَر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها، أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها (1)، فإن كان الأول؛ فهو المجد، وإن كان الثاني؛ فهو الحمد، وهذا لأن لفظ "مجد" في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة، فمنه قولهم: "أمجد الدابةَ عَلَفًا"، أي: أَوْسعها عَلَفًا، ومنه: مَجُد الرجل فهو ماجد، إذا كَثر خيره وإحسانه إلىَ الناس قال الشاعر (2): أنتَ تكون ماجدٌ نبيلُ ... إذا تهبُّ شمْال بليلُ ومنه قولهم: "في كلِّ شَجَرِ نارٌ، واسْتَمْجَد المَرْخُ والعَفَارُ" (3)، أي: كثرت النار فيهما. ومن حيث (4) اعتبار الخبر نفسه ينشأُ التقسيم إلى الثناء والحمد، فإن الخبر عن المحاسن إمَّا مُتكرِّر (5) أَوْ لا، فإن تكرَّر فهو الثناء، وإن لم يتكرر فهو الحمد، فإن الثناءَ مأخوذٌ من الثني وهو العطف، وردُّ الشيءِ بعضه على بعض، ومنه: ثنيتُ الثوبَ، ومنه: التثنية في الاسم، فالمثْنِي مُكرِّر لمحاسن من يُثْني عليه مرةً بعد مرة. __________ (1) من قوله: "أو من ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) هى: فاطمة بنت أسد، والبيت من شواهد ابن مالك في "شرح الكافية": (1/ 413) وذكره البغدادي في "الخزانة": (9/ 225 - 226) ضمن أبيات. (3) أنظر: "مجمع الأمثال": (2/ 445 - 446). والمَرْخ والعَفَار نوع من الشجر يُسْرع الاشتعال، والمثل يضرب في تفضيل بعض الشي على بعض. (4) (ق): "ومنه". (5) (ق): "إما أن يقع شكرًا ... ".

(2/539)


ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأُ التقسيم إلى المدح والحمد، فإن المخبر عن محاسن الغير؛ إما أن يقترن بإخباره حُب له وإجلال أَوْ لا، فإن اقترن به الحب فهو الحمد، وإلا فهو المدح، فَحَصِّلْ هذه الأقسام ومَيِّزْها، ثم تأمَّل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمَينَ}، فيقول الله: "حَمِدَني عبدني"، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: "أثنى عَليَّ عبدي" لأنه كرَّر حمده. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: "مَجدَني عبدي" (1) فإنه وصَفَه بالمُلْك والعَظَمة والجلال. فاحْمدِ اللهَ على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عَفوًا لم تسهر فيها عينُك، ولم يسافر فيها فكرُك عن وطنه، ولم تتجرَّد في تحصيلها عن مألوفاتك، بل هى عرائس معانٍ تُجلى عليك وتُزف إليك، فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك، لك غُنْمها وعليه غُرْمها. فصل فلنرجع إلى كلامه (2) قال: "وكل ما حدِّد من المصادر تجوز تثنيته وجمعُه، وما لم يُحَدد فعلى الأصل الذي تقدَّم لا يثنى ولا يجْمَع، وقولهم: "إلا أن تختلف أنواعه"، لا تختلف أنواعه إلا إذا كان عبارة عن مفعولٍ مطلق اشْتُقَّ من لفظ الفعل لا عن مصدر اشْتُق الفعلُ منه، ولذلك تجده على ورد "فَعِل" بالكسر، وعلى ورد "فُعْل"، نحو: "شُغْل"، وعلى وزن "فَعَل" (3) نحو: "عَمل"، والذي __________ (1) أخرجه مسلم رقم (395) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (2) في "نتائج الفكر": (ص/ 371). (3) "نحو "شُغل على وزن فَعَل" ساقط من (ظ ود).

(2/540)


هو مصدر حقيقةً ما تجده على وزن "فَعْل"، نحو: "ضَرْب وقَتْلُ"، وأما "الشَّرب" بالفتح والضم والكسر، فـ "الشَّرْب" بالفتح، هو المصدر، و"الشُّرب" بالضم عبارة عن المشروب أو عن الحَدَث الذي هو مفعول مطلق في الأصل، وربما اتُّسِعَ فيه فأجْريَ مَجْرى المصدر الذي اشْتق الفعل منه، كما قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55] بالضم والفتح". قلت (1): هذه كَبْوة من جواد، ونَبْوة من صارم، فإن "الشُّرب" بالضم هو المصدر، وأما المشروب فهو "الشِّرب" بكسر الشين، قال تعالى في الناقة: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155] فهذا هو المشروب، كما تقول: قِسْم من الماء وحَظ ونصيب تشربه في يومها (2)، ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم، وهذا هو القياس في الباب كالذّبْح بمعنى المذبوح، والطحن للمطحون، والحِبّ للمحبوب، والحِمل للمحمول، والقِسْم للمقسوم، والعِرْس للزوجة التي قد عرس بها، ونظائره كثيرة جدًّا. وأما "الشَّرب" بالفتح؛ فقياسه أن يكون جمع شارب، كصاحب وصَحْب، وتاجر وتجْر، وهو يُسْتعمل كذلك، وإطلاق لفظ الجمع عليه جريا على عادتهم، والصواب أنه اسم جَمْع، فإن "فَعْلاً" ليس من صيغ الجموع واستعمل أيضا مصدرًا، وقد قرئت الآية بالوجوه الثلاثة (3)، فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر، ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب، وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين (4)، وهو __________ (1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-. (2) (ق): "نوبتها". (3) انظر "تفسير القرطبي": (14/ 88)، و"روح المعاني": (9/ 114). (4) (ق): "المفعولين".

(2/541)


المقصود بالذكر، شَبَّه شربهم من الحميم بشرب الإبل العِطَاش التي قد أصابها الهيام، وهو داء تشرب منه ولا تَروَى، وهو جمع أَهيَم، وأصله "هيْم" بضم الهاء كأحمر وحُمر، ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا: "هِيْم". وأما قراءة الكسر فوجْهُها أنه شَبَّه مشروبهم بمشروب الإبل الهِيْم في كثرته وعدم الرِّي به، والله أعلم. عاد كلامه، قال: "فإن قيل: فإن الفهم والعقل والوهم والظن، مصادر وليست مما ذكرتَ، وقد جُمِعتْ، فقالوا: أفهام وأوهام وعقول؟. قيل: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد أجريت مَجْرى الأسماء، حيث صارت عبارة عن صِفات لازمة وعن حاسَّة باطنة (1) كالبصر؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "عَقَلت البعير عَقْلًا"، لم يَجُز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به المعنى الذي اسْتُعير له -وهو عقل الإنسان- جاز جمعه؛ إذ صار للإنسان كأنه حاسة [باطنة] (2) كالبصر، ألا ترى أن "البصر" حيثما ورد في القرآن مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن "فَعَل" كالأسماء، ولأنه يراد به الحاسة، وقد يجوز في السمع -على ضعف- أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر، كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون (3) ذلك إلا بشرط، وهو أن تكون الأفهام أو الأسماع ونحوها مضافة إلى جَمْع، نحو: "أفهام القوم" و"أسماع الزيدين"، ولو كان __________ (1) (ظ ود): "ناطقة". (2) في الأصول: "ناطقة" والمثبت من "النتائج ". (3) (ق): "يجوز".

(2/542)


هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جازَ أن تقول: "عرفت أفهامَ القوم في هذه المسألة"، و"عرفت علومهم"؛ لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعِلْم زيد وعلم عَمرو، إذا تعلَّقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلمه بشيء آخر مختلفان لاختلاف المعلومَيْن. والمقصود: أنَّ الأفهام والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي (1) عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد، وتجيء مفردةً عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب والنحو، وغيرهما، لا يقال فيه: "عرفت أفهام زيد بالعلوم"، ولكن تقول: [عرفت] فهم زيد، بالإفراد مع اختلاف متعلَّقه، واختلاف متعلَّقه يوجب اختلافه. وإذا ثبت هذا؛ فلم يجمع "الفَهْم" على "أَفْهام" إلا من حيث كان بمنزلة حاسة باطِنة للإنسان، فإذا أُضِيف إلى أكثرين (2) جُمع، وإذا أضيف إلى واحِدٍ لم يُجْمع؛ لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدرًا، فربَّ مصدر أخري مجرى الأسماء، كـ "ضَيْف وضيوف" (3)، وعَدْل وعدول، وصَيْد وصيود. وأما "رؤية العين" فليست الهاء فيها للتحديد، بل [هي] لتأنيث الصفة؛ كالكُدْرة (4) والصّفرة والحُمْرة، وكان الأصل فيها "رأيًا"، __________ (1) (ق): "وهي هذا". (2) (ق): "كثيرين"، و"النتائج": "أناسي كثيرة". (3) (ظ ود): "ضيفان". (4) في الأصول ونسخ "النتائج": "القدرة"! والمثبت هو الصواب.

(2/543)


ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافا إلى العين، نحو قوله تعالى: {رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] فإذا لم تُضَف استُعمل في الرأي المعقول، واستُعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق. وأما "الظن" فمصدر لا يُثنَّى ولا يُجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة، نحو قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 10] أي: تظنون أشياء كاذبة، فالظنون -على هذا- مفعول مطلق، لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل. والله أعلم. فائدة (1) "سحَر" على قسمين: أحدهما: يُرَاد به سَحَر يوم بعينه معرفةً كان اليومُ أو نكرة، وهو في هذا ظرف غير منوَّن بشرط أن يكون اليوم ظرفا لا فاعلا ولا مفعولا، وفيه وجهان: أحدهما: أن تعريفه لما فيه من معنى الإضافة، فإنك تريد: سَحَر ذلك اليوم، فحذف التنوين منه كما حذف في "أَجْمَع" و"أَكْتع" لما كان مضافا في المعنى. والوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه أن تعريفه باللام المقدرة، كأنك حين ذكرتَ يوما قبله وجعلته ظرفا، ثم ذكرت "سحر" فكأنك أردت: السَّحَر الذي من ذلك اليوم، فاستغنيت عن "الألف واللام" يذكر اليوم. وهذا القول أصح للفرق الذي (2) بين "سحر" (ظ/97 أ) وبين __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 375). (2) ليست في (ق).

(2/544)


"أجمع"، فإن "أجمع" توكيد بمنزلة: "كله" و"نفسه"، فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكَّد، واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد؛ لأن "الجمع" لا يكون إلا تابعا له، ولا يكون مخبرا عنه بحال، وليس كذلك "السحر"؛ لأنه بمنزلة "الفرس" و"الجمل" فإن أضفتَه لم يكن بدٌّ من إظهار المضاف إليه، وإنما هو معرف باللام، كما قال سيبويه. وهذا كله لما كان اليوم ظرفا لا مفعولا، فلو قلت: كرهت يوم السبت سحرَهُ، كان بدلا كما تقول: أكلت الشاة رأْسَها. فإن قيل: فهلا قلتم: إنه يدل إذا كان ما قبله ظرفًا أيضًا؛ لأنه بعض اليوم، فيكون بدل البعض من الكل، كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولاً؟. قيل: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح، ويكون الفعلُ مخصوصا بالبدل بعدما كان عمومًا في المبْدَل منه، فإذا قلت: "أكلتُ السمكةَ رأسَها"، لم يتناول الأكل إلا رأسها، وخرج سائرها من أن يكون مأكولا، وليس كذلك: "خرجت يومَ الجمعة سحر"؛ لأن الظرفَ مقدر بـ "في" وجَعْل "سحر" ظرفا لا يخرج اليومَ عن أن يكون ظرفا أيضًا، بل يبقى على حاله؛ لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه، فالكلام معتمد عليه، كما كان قبل ذكر "سحر". نعم، وما هو أوسع من اليوم في المعنى، نحو: الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم، وما هو أوسع من العام كالزمان، كلّ وأحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في "سحر". [وتخصيصك سَحَر] (1) بالذكر لا يخرج شيئا منها أن يكون ظرفا __________ (1) ما بين المعكوفين من "النتائج".

(2/545)


للفعل، فلذلك اعتمد الكلام على اليوم، واستغنى به عن تجديد آلة التعريف، بخلاف: "كرهت يوم السبت سحره" (1) أو "السحر منه"، لابُدَّ (2) من البدل فيه. فقد بان الفرق، وبانت عِلَّة ارتفاع التنوين؛ لأنه لا يجامع "الألف واللام" ولا معناها، وإن كان في حكم المضاف -كما زعم بعضهم- فلذلك -أيضًا- امتنع تنوينه. وأما مانع تصرُّفه وتمكنه، فإنك لما أردته ليوم هو ظرف، فلو تمكن خرج عن أن يكون من (3) ذلك اليوم؛ لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم، فإذا قلت: "سِيْر بزيد يوم الجمعة سحرُ"، وجعلته مفعولاً على سَعَة الكلام، لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم، فإن أردت هذا المعنى فقل: "سِيْر بزيد يوم الجمعة سحر" أو "السحر منه" حتى يرتبط به؛ لأنك لا تقدر "الألف واللام" من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما. وأما إذا كان اسما متمكنًا كسائر الأسماء، فلابُدَّ من تعريفه بما تعرف به الأسماء، أو تجعله نكرةَ فلا يكون من ذلك اليوم. فإن قلت: فقد أجازوا: "سِيْر بزيد يومُ الجمعة سحرَ" برفع "اليوم" ونصب "سحر"، فلم لا يجوز أيضًا: "يومَ الجمعة سحرُ" بنصب "اليوم" ورفع "سحر"؟. قيل: لأن اليوم -وإن اتّسِعَ فيه- فهو ظرف في معناه، وهو __________ (1) (ق وظ): "سحرًا"، و (د): "سحر" والمثبت من "النتائج". (2) في الأصول: "يدل" والمثبت من "النتائج". (3) سقطت من (ق).

(2/546)


يشتمل على "السحر". ولا يشتمل "السحر" عليه، فلا يجوز إذا أن يتعرف "السحر" تعريفًا معنويًا حتى يكون ظرفا بمنزلةِ اليومِ الذي هو منه، ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفا مُغْنِيًا عن آلة التعريف. فصل (1) وأما "ضحوة" و"عشية" و"مساء"، ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منوَّنة، وإن أردتَها ليوم بعينه، وهى موافقة له في عدم التصرف والتمكُن. والفرق بينهما: أن هذه أسماء فيها معنى الوصف؛ لأنها مشتقة مما تُوصَف به الأوقاتُ التي هى ساعات اليوم، فالعشي من العِشَاء، والضحوة من قولك: "فرس أضحى" و"ليلة إِضحيان" تُرِيد البياضَ، والصباح من "الأصبح"، وهو لون بين لونين (2)، فإذا قلت: خرجث اليوم عشيًّا وظلامًا، وضحَى وبصرا -حكاه سيبويه (3) - فإنما تريد: خرجتُ اليومَ في ساعة وصفها كذا، أو خرجت وقتًا مظلما أو مبصرا أو نحو ذلك، فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هى أجزاء اليوم وساعاته؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "خرجت اليوم ساعة منه"، أو: "مشيتُ اليوم وقتا منه"، لم يكن إلا منوّنا، إلا أن "ساعة ووقتًا" غير معين، "وضحوة وعشية" قد تخصصا بالصفة، ولكنه لم يتعرَّف، وإن كان ليومٍ بعينه؛ لأنه غير معرف بـ "الألف واللام"، كما كان "سحر"؛ لأن "سحر" اسم جامد يتعرَّف كالأسماء ويُخْبَر عنه، وأما نعته فلا يكون كذلك؛ لأن النعتَ لا يكون فاعلا ولا مفعولاً، ولا يُقَام مقام __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 377). (2) سقطت من (ق). (3) "الكتاب": (1/ 115).

(2/547)


المنعوت إلا على شُروط مخصوصة. فإن قلت: أليس هذه الأوقات معروفة عند المخاطَب من حيث كانت ليوم بعينه، فلِمَ لا تكون معرفة كما كان "سحر" إذا كان ليوم بعينه؟. قيل: لم يتعرَّف "سحر" بشيءٍ إلا بمعنى "الألف واللام" لا من حيث كان ليوم بعينه، فقد تعرِّف المخاطَبَ الشيءَ بصفتِهِ كما تعرف بآلة التعريف، فتقول: "رأيت رجلًا من صفته كذا وكذا"، حتي يعرفه المخاطب، فيسري إليه التعريف، وهو مع ذلك نكرة، وكذلك "ضحوة وعشية"، وإنما اسْتغني عن ذكر المنعوت بهذه الصفات لتقدّم ذكر اليوم الذي هو مشتمل: على الأوقات الموصوفة بهذه المعانى، كما استُغْني عن ذكر المنعوت إذا قلت: "زيد قائم"، ولاشك أن المعنى: "زيد رجلٌ قائم"، ولكن ترك ذكر الرجل لأنه "زيد"، وكذلك: "جاءني زيد صالحًا"، أي (1): رجلاً صالحًا، ولكن زيدًا هو الرجل فأغناك عن ذكره، وكذلك ما نحن (2) بسبيله من هذه الأسماء التي هي في نفسها أوصاف لأوقات أَعنى ذكر اليوم -الذي هي له- عن ذكرها لاشتمالها عليه، ولم أيكن ذلك في "سحر"، ومن ثمَّ أيضًا لم تتمكن، فتقول: "سِيْر عليه يوم الجمعة ضحوةً وعشيةً"، لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويُبْطِل منها معنى الصفة، فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له، وينضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدَّمت في فصل "سحر". وكذلك كل ما كان من الظروف نعتًا في الأصل، __________ (1) من قوله: "قائم، ولاشك .. " ساقط من (ق). (2) (ق) وبعض نسخ "النتائج": "لَحِق".

(2/548)


نحو: "ذا [صباح] (1) " و"ذاتَ مَرَّة" و"أقمتُ طويلًا" و"جلست قريبا"، لا يتمكن ولا يخرج عن الظرف. ويلحق بهذا الفصل: "نهارًا" إذا قلت: "خرجتُ اليومَ نهارًا"؛ لأنَّه مشتقٌّ مِن: "أَنْهِرِ الدَّمَ بما شِئْت" (2) يريد الانتشار والسعة، ومنه: "النهر" من الماء؛ لأنه بالإضافة إلى موضع تفجره كالنهار بالإضافة إلى فجوه؛ لأن [النهار] (3) ما ينتشر (4) ويتسع، فما تفجَّر من الماء والنهر، بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء، واليوم أوسع من النهار في معناه، فصار قولك: "خرجتُ اليوم نهارًا" كقولك: "خرجتُ اليومَ (5) " ظهرًا وعشيًّا"، معنى الاشتقاق فيها كلها بَيِّن، فجَرَت مجرى الأوصاف النكرات في تنوينها وعدم تمكنها. قلت: ولما كان النهار أوسع من النهر، خُصَّ بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر. فصل (6) وأما "غُدْوَة" و"بُكْرة" فهما اسمان عَلَمان، وعدم التنوين فيهما __________ (1) في الأصول: "حاج"! والمثبت من "النتائج". (2) أخرجه أبو داود رقم (2428)، والنسائي (7/ 225)، وابن ماجه رقم (3177) من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه-. وفي سنده سِماك بن حرب متكلم فيه، ومرِّي بن قطري، قال الحافظ؛ "مقبول". (3) في الأصول: "النهر" والمثبت من "النتائج". (4) (ق): "ما يتفجر وينتشر .. ". (5) "نهارًا كقولك: خرجت اليوم" سقطت من (ق). (6) "نتائج الفكر": (ص / 380).

(2/549)


للتعريف والتأنيث، والذي أخرجهما عن باب "ضحوة" و"عشية" -وإن كان فيهما معنى الغدوِّ والبكور- كما كان في أخواتهما معاني الفعل أنهما قد بُنِيا بناءً لا تكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعَلَمية، كما غيِّر "عُمَارة" و"عُمَر" (1) وأشباههما، وكما غُيِّر "الدَّبَران" (2)، وفيه معنى الدبور، إيذانا بالعلمية وتحقيقا لمعناها، ألا ترى أن "ضحوة" على ورد "صَعبة" من النعوت، و"ضربة" من المصادر، والمصادر يُنْعتَ بها، و"ضُحًى" على وزن "هُدًى" وعلى وزن "حُطَم" من النعت، وكذلك سائر تلك الأسماء، و"غدوة" و"بكرة" بخلاف ذلك، قد غُيِّرتا عن لفظ الغُدو والبكور تغييرًا بيِّنًا ففارقتا الفصلَ المتقدِّم. فإن قيل: فلعلَّ امتناع التنوين فيهما بمثابة امتناعه في "سحر" ليومٍ بعينه. قيل: كلامُ العرب يدل على خلاف ذلك؛ لأنهم لا يكادون يقولون: "خرجت اليوم في الغدوة"، ولا: "الغُدْوة خير من أول الليل"، كما يقال: "السحرُ خير من أول الليل"، فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه، و"غدوة" و"بكرة" من اليوم بمنزلة "رَجَب" و"صَفَر" من العام، فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتهما، وأنهما بمنزلة أسماء الشهور (3) الأعلام وأسماء الأيام الأعلام، نحو: السبت والجمعة. وإذا ثبت هذا فَهُما اسمان متمكِّنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل __________ (1) فى الأصول: "عمرو" وهو خطأ. (2) من منازل القمر، انظر: "اللسان": (4/ 271). (3) (ق): "الأشهر".

(2/550)


إذا قلت: "سِيْر بزيد يومَ الجمعة غُدْوةُ"، فلا يحتاج إلى إضافة ولا لام تعريف، وتقول "سِيْر به يومُ الجمعة غدوةَ"، على الظرفِ فيهما جميعًا؛ لأنها بعض اليوم، كما تقول: "سِرت العامَ رجَبًا كلَّه"، وتقول: أيضًا: "سير به يومُ الجمعة غدوةُ" برفعهما، كأنها بدل من (1) اليوم، ولا تحتاج أيضًا إلى الضمير كما تحتاج في بدل البعض من الكل؛ لأنها ظرف في المعنى. ولو قلت: "كُرِه يومُ السبت غدوةُ" على البدل، لم يكن بدٌّ من إضافة "غُدوة" إلى ضمير المبدل منه؛ لأن اليوم ليس بظرف، فيكون كقولك: "كرهت يومَ الخميسِ سحَرَه"، إذا أردت البدلَ، لأن المكروه هو السحر دون (ق / 129 ب) سائر اليوم، وإنما يُسْتغنى عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفا على حاله؛ لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل، كان جميع اليوم ظرفا لذلك الفعل. واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم عَلَم، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه، وكان الظرف مفعولاً على سَعَة الكلام، فإذا قلت: "سِرتُ غدوةَ"، فالسير وقع في الوقتِ كله، وكذلك: "سِرت السبتَ والجمعة، وصفر والمحرم"، كله مفعول (2) على سَعَة الكلام لا ظرف للفعل؛ لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معانٍ أُخَر، فإن أردتَ أن تجعل شيئًا منها ظرفًا، ذكرتَ لفظَ الزمان وأضفتَه إليها، كقولك: "سِرتُ يومَ السبت" و"شهر المحرم"، فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعَه إلا بدليل، والشهر ظرف وكذلك اليوم. __________ (1) سقطت من (ق). (2) سقطت من (ق).

(2/551)


قال سيبويه (1): "ومما لا يكون الفعل إلا واقعا به كله: "سرت المحرم وصفر""، هذا معنى كلامه. وإذا ثبت هذا؛ فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها (ظ/98 ب) لعامٍ بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه، فإن لم يكن ذلك صار الاسم نكرة، تقول: "صمتُ رمضان ورمضانا آخر"، و"صمت الجمعةَ وجمعة أخرى"، إنما أردت جمعةَ أسبوعِك ورمضان عامِك، وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرا واحدا، كما تكون النكرة من قولك: "ضربت رجلا"، إنما تريد واحدا، وإذا كان معرفةً يكون ما (2) يدل على التمادي وتوالي الأعوام، لم يكن حينئذ واحدًا، كقولك: "المؤمن يصوم رمضان"، فهو معرفة لأنك لا تريده لعام (3) بعينهِ؛ إذ المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذِكْرُ الإيمان قرينةٌ تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدلُّ على هذا لم يكن محمله إلا على العام الذي أنت فيه (4). وإذا ثبت هذا؛ فانظر إلى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وفي الحديث: "مَنْ صامَ رَمَضان" (5) و"إذا دَخَلَ رمَضان" (6)، بدود لفظ الشهر. ومُحال أن يكون فعل ذلك __________ (1) "الكتاب": (1/ 110). (2) كذا بالأصول، واستظهر محقق "النتائج" أنها: "مقترنة بما". (3) (ظ ود): "لعام واحد". (4) بعده في "النتائج": "أو عام تقدم له ذكر". (5) أخرجه البخاري رقم (1901)، ومسلم رقم (760) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (6) أخرجه البخاري رقم (3103)، ومسلم رقم (1079) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.

(2/552)


إيجازاً واختصاراً، لأن القرآن أبلغ إيجازًا وأبين إعجازاً، ومُحال أيضا أن يدع - صلى الله عليه وسلم -، لفظ القرآن مع تحرِّيه لألفاظه، وما عُلِم من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين. وقد ارتبك الناسُ في هذا الباب فكرهَتْ طائفة أن يقولوا: "صمتُ رمضانَ"، بل "شهر رمضان"، واستهوى ذلك (ق / 130 أ) الكُتَّاب، واعتلَّ بعضهم في ذلك برواية مَنْحولةٍ إلى ابن عباس: "رمضانُ اسمٌ مِن أسماءِ الله" (1)، قالوا: ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول: إن رمضان هن الرَّمْضاء، وهو الحر، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن. وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسائي لِعِلْمه وحِذْقه، فقال في "السنن" (2): باب جواز أن يُقال: دخل رمضان أو صمت رمضان، وكذلك فعل البخاري (3)، وأوردَ الحديثَ المتقدم: "مَنْ صَامَ رَمَضانَ". وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدَّم أن __________ (1) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (7/ 53)، والبيهقي في "الكبرى": (4/ 201) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وضعّفه ابن عدي بأبي مَعشر الراوي عن أبي هريرة، قال الحافظ في "الفتح": (4/ 135): "وقد رُوي عن أبي معشر عن محمد بن كعب وهو أشبه، وروي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين" اهـ. ورجح أبو حاتم في "العلل": (1/ 249) أنه من قول أبي هريرة، ولم أجده من رواية ابن عباس. (2) (4/ 130) وفيه: "الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان". (3) مع "الفتح": (4/ 135) وبوَّب: "باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعًا".

(2/553)


الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعَها، ولا يكون ظرفا مقدرًا بـ "في" حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم، الذي أصله أن يكون ظرفا، وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية. وإذا ثبت هذا؛ فقوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فيه (1) فائدتان أو أكثر: أحدهما: أنه لو قال: "رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، لاقتضي اللفظ وقوع الإنزال على جميعِهِ، كما تقدَّم من قول سيبويه، وهذا خلاف المعنى؛ لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر؟، فكان ذكر الشهر (2) الذي هو غير عَلَم موافقا للمعنى، كما تقول: "سِرت في شهر كذا"، فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر. والفائدة الأخرى: أنه لو قال {رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، لكان حكم المدح والتعظيم مقصورًا على شهرٍ بعينه؛ إذ قد تقدَّم أن هذا الاسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدلُّ على توالي الأعلام التي هو فيها، لم يكن محمله إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبلَه. فكان ذكْر الشهر -الذي هو الهلال في الحقيقة- كما قال الشاعر (3): * والشَّهْر مِثلُ قُلامَةِ الظُّفْرِ * __________ (1) سقطت من (ق). (2) "فكان ذكر الشهر" سقطت من (ق). (3) ذكره الخطابي في "غريب الحديث": (1/ 130) بلا نسبة، وصدره: * ابدأْن مِن نَجْدِ عَلَى ثقةٍ *

(2/554)


يريد: الهلال، مقتضيًا لتعليق الحكم الذي هو (ظ/99 أ) التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم، متى كان في أيِّ عام كان، مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن؛ لأنه لم يرد لعام بعينه؛ ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل، وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين، ولو قلت: "رمضان حج فيه زيد"، تريد: فيما سلف، لقيل لك (1): أيُّ رمضان كان؟ ولزمك أن تقول: "حجَّ في رمضان من الرمضانات" (2)، حتى تريد عاما بعينه كما سبق. (ق / 130 ب) وفائدة ثالثة: في ذكر الشهر، وهو التبيين في الأيام المعدودات (3)، لأن الأيام تتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تبين بلفظ "رمضان"، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضًا عَلَم فلا ينبغي أن تبين به الأيام المعدودات، حتى يذكَر الشهر الذي هو في معناها ثم تُضَاف إليه. وأما قوله [- صلى الله عليه وسلم -]: "من صام رمضان"، ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي تناول الصيام لجميع الشهر، فلو قال: "من صام أو قام شَهر رمضان" لصار ظرفًا مقدراً بـ "في"، ولم يتناول القيام والصيام جميعه، فرمضان في الحديث مفعول على السَّعَة مثل قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2]؛ لأنه لو كان ظرفًا لم يحتج إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا (2)}. __________ (1) (ق): "بعد ذلك". (2) لعل المقصود بـ "رمضان) -مجردًا عن لفظة: الشهر- السنة والعام، كما تطلق الجمعة ويراد بها الأسبوع. (3) سقطت من (ق).

(2/555)


فإن قيل: فينبغي إن يكون قوله: "من صام (1) رمضان" مقصورا على العام الذي هو فيه، لما لَقدَّم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة عَلَمًا إذا أردته لعامك أو لعامٍ بعينه. قيل: قوله: "مَنْ صَام رمضان"، على العموم؛ خطابٌ لكل قرن ولأهل كل عام، فصار بمنزلةِ قولك: "من صام كلَّ عام رمضان"، كما تقول: "إن جئتني كلَّ يوم سحرا أعطيتك"، فقد [اقترنت به] (2) قرينة تدل على التمادي وتنوب مَنَاب ذكر "كلِّ عام"؛ وقد اتضح الفرقُ بين الحديثين والآية. فإذا فهمت فَرْقَ ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تَعْدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها فما قدرتها حقَّ قدرها، والله المستعان على واجب شكرها. هذا نص كلام السُّهيلي بحروفه، ثمَّ قال: "فصل (3) الفعل، يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظُه، كالمصدر والفاعل والمفعول به، أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو: "سرت سريعًا"، و"جاء: زيد ضاحكًا"؛ لأن الحالَ هي صاحبُ الحال في المعنى. وكذلك النعتُ والتوكيدُ والبدل؛ كلُّ واحد من هذه هو الاسم الأول في المعني، فلم يعمل الفعلُ إلا فيما دلَّ عليه لفظه؛ لأنك إذا قلت: "ضرَب" اقتضى هذا اللفظ "ضربًا" و"ضاربًا" و"مضروبًا"، وأقوى دلالته على المصدر؛ لأنه هو الفعل في المعنى، __________ (1) بالأصول: "قام"، والمثبت من "النتائج" بدليل ما بعده. (2) معرفة في الأصول، والإصلاح من "النتائج". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 387).

(2/556)


ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد أو تبيين النوع منه، وإلا فلفظ الفعل مُغْنٍ عنه، ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين: أحدهما: أنه يدلُّ على الفاعل بعمومه وخصوصه، نحو: "فَعَل زيد"، و"عَمِل عَمْرو". وأما الخصوص فنحو: "ضربَ زيد عَمْرًا"، ولا تقول: "فعل زيد عَمْرا"، إلا أن يكون الله هو الفاعل سبحانه. والوجه (ق / 131 أ) الآخر: أن الفعل هو حركة الفاعل، والحركة لا تقوم بنفسها، وإنما هي متصلة بمحلها، فوجبَ أن يكون الفعلُ متصلا بفاعله لا بمفعوله، ومن ثمَّ [قالوا "ضربت"، فجعلوا ضمير الفاعِل كبعض حروف الفعل، ومن ثم] (1) قالوا: "ضرْب زيد لعمرو"، و"ضرْب زيدٍ عَمْرًا"، فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير لام أخرى، ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلا؛ لأن اللام تؤذن بالانفصال (ظ/99 ب)، ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظًا، كما لا ينفصل عنه معنى". قلت (2): وفي صِحَّة قوله: "ضرْب زيد لعَمْرو" نظر، والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضَعُف الفعل بالتأخير، نحو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف: 43] أو كان اسمًا نحو: "أنا ضارب لزيد"، أو: "يعجبني ضربُك لزيد"، لضعف العامل (3) في هذه المواضع دُعِّم باللام، ولا يكادون يقولون: "شربت للماء"، __________ (1) ما بين المعكوفين ساقط من الأصول، والاستدراك من "النتائج". (2) الكلام لابن القيم -رحمه الله-. (3) (ق): "لضعفت العوامل".

(2/557)


و"أكلت للخبز" (1). قال: "فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينًا، ولا على المفعول معينا، وإنما يدل عليهما مطلقًا؛ لأنك إذا قلت: "ضرب" لم يدل على "زيد" بعينه، وإنما يدل على "ضارب"، وكذلك "المضروب". وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول: "ضرَبَ ضاربٌ مضروبًا"، بهذا اللفظ، لأن لفظ "زيد" لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه. قيل: الأمر كما ذكرت، ولكن لا فائدةَ عند المخاطب في الضارب المطلق، ولا في المفعول المطلق؛ لأن لفظ الفعل قد تضمنهما، فوضعَ الاسم المعين مكان الاسم المطلق تبيينا له، فعَملَ فيه الفعل، لأنه هو هو (2) في المعنى، وليس بغيره". قلت (3): الواضع لم يضع هذه الألفاظ في أصل الخطاب مقتضية فاعلا مطلقا ومفعولا مطلقًا، وإنما جاء اقتضاءُ المطلقِ من العقل لا من الوَضْع، والواضع إنما وضعها مقتضيات لمعيَّن من فاعل ومفعول طالبة له، فما لم يقترن بها المعيَّن كان اقتضاؤها وطلبها بحاله؛ لأن الإخبار والطلب إنما يقعان على المعيَّنِ. فإن قيل: فلو كانت قد وُضِعت مقتضيةً لمعيَّن لم يصح إضافتها إلى غيره، فلما صحَّ نسبتها وإضافتها إلى كلِّ معيَّن عُلِم أنها وضعت مقتضية للمطلق. قيل: الفرقُ بين المعيَّن على سبيل البدل، والمعيَّن على سبيل __________ (1) (ق): "الماء ... الخبز". (2) "هو" الثانية ليست في (ظ ود). (3) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.

(2/558)


التعيين بحيث لا يقوم غيره مقامه. والسؤال إنما يلزم أَنْ لو قيل: إنها مقتضية للثاني. أما إذا كانت مقتضية لمعيَّن من المعيَّنات على سبيل البدل لم يلزم ذلك السؤال، والله أعلم. قال: "وإذا ثبت ما قلناه، فما عدا هذه الأشياء فلا يصل إليه الفعل (ق/ 131 ب) إلا بواسطة حرف، نحو: "المفعول معه" و"الظرف المكاني"، نحو: "قمت في الدار"؛ لأنه لا يدلُّ عليه بلفظه، وأما ظرف (1) الزمان، فكذلك أيضا؛ لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا بِبِنْيته، وإنما يدلُّ بِبِنْيته على اختلاف أنواع الحَدَث، وبلفظه على الحدث (2) نفسه، وهكذا قال سيبويه في أول "الكتاب" (3)، وإن تسامحَ في موضعٍ آخر (4). وأما الزمان؛ فهو حركة الفلك، فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الاتفاق والمصاحبة، إلا أنهم قالوا: "فعلت اليوم"؛ لأن اليومَ ونحوه أسماء وُضعتْ للزمان يَتَورخَّ بها الفعل الواقع فيها، فإذا سمعها المخاطب علم المراد بها، واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار. فإن أَضْمَرتها لم يكفِ لفظ الإضمار، ولا أَغْنى عن الحرف، لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره، فقلت: يومَ الجمعة خرجت فيه، وقد تقول: خرجت في يوم الجمعة، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتأريخ فقد يُخْبر عنها (5)، كما يُخْبر عن __________ (1) (ظ ود): "لفظ". (2) (ق): "الحديث" في الموضعين. (3) (1/ 2). (4) (1/ 15)، كما تقدمت الإشارة إليه في أول هذا الكتاب. (5) بعده في "النتائج": "فتقول: ذهب اليوم".

(2/559)


المكان، إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى؛ لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعَمرو، وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثَمَّ قالوا: "سرت اليوم" و"سرت في اليوم"، ولم يقولوا: "جلستُ الدارَ" (1) فصل (2) فإن كان الظرف مشتقا من فعل، (ظ/ 100 أ) تعدَّى إليه الفعل (3) بنفسه؛ لأنه في معنى الصفة لا تتمكن ولا يُخْبر عنها، وذلك: كـ "قبل" و"بعدُ" و"قريبا منك"؛ لأن في "قَبْل" معنى المقابلة، وهي من لفظ "قَبَل"، و"بَعْدُ" من لفظ "بَعُدَ"، وهذا المعنى هو من صفة المصدر؛ لأنك إذا قلت: "جلست قبل جلوس زيد"، فما (4) في "قبل" من معنى المقابلة فهو في (5) صفة جلوسك، ولم يمتنع الإخبار عن "قبل" و"بعد" من حيث كان غير محدود، لأن الزمان والدهر قد يُخْبر عنهما وهما غير محدودين. تقول: "قمت في الدهر مرةً"، وإنما امتنع: "قمتُ في قبلك"، للعلة التي ذكرناها. ومن هذا النحو ما تقدم في فصل "غدْوة" و"عَشيَّة" من امتناع تلك الأسماء من التمكن، لما فيها من معنى الوصف (6)، نحو: "خرجت بَصَرًا وظلامًا" و"عشية وضحى"، وإن كنا قد قدَّمنا أن هذه __________ (1) "جلست الدار" ليست في (ظ ود). وبعدها في "النتائج": "بغير حرف الوعاء". (2) "نتائج الفكر": (ص/ 389). (3) (ق): "المفعول ". (4) (ق): "فما كان". (5) كذا في الأصول، وأصلحها محقق "النتائج" إلى: "من". (6) بعدها في "النتائج": "وما فيها من معنى الوصف راجع إلى الاسم الذي هو: الفاعل". وانظر ما تقدم (2/ 549).

(2/560)


المعاني أوصاف للأوقات، فليس بمناقض لما قلناه آنفا؛ لأن الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجارا، وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفَلَك، والحركة لا توصف بصفة معنوية؛ لأن العَرَض لا يكون حاملا لوصف. ومن هذا الفصل (1): "خرجت ذات يوم" و"ذات مرة"؛ لأن "ذات" (ق/132 أ) في أصل وضعها وصف للخرجة ونحوها، كأنك قلت: "خرجت خرجةً ذات يوم"، أي: لم يكن إلا في يوم واحد، فمن ثَمَ لم يجز فيها إلا النصب، ولم يَجُز دخول الجار عليها، وكذلك: "ذا صباح" و"ذا مساء" في غير لغة خَثْعَم. فإن قيل: فلِمَ أعربها النحويون ظرفا إذا كانت في الأصل مصدرًا؟. قيل: لأنك إذا قلت: "ذات يوم"، عُلِم أنك تريد يومًا واحدًا، وقد اخْتُزِل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات، فمن ثَمَّ أعربوه ظرفا، وسر المسألة (2) في اللغة ما تقدم. وأما "مرة" فإن أردت بها فَعْلَة واحدة من مرور الزمان؛ فهي ظرف زمان، وإن أردت بها فَعْلة واحدة من (3) المصدر، مثل قولك: "لقيته مرة"، أي: لَقْيَة، فهي مصدر، وعبَّرتَ عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررتَ به ولم تُقِم عنده، فإذا جعلتَ المرة ظرفًا، فاللفظ حقيقة؛ لأنها من مرور الزمان، وإذا جعلتها مصدرًا فاللفظ مجاز إلا أن تقول: مررت مرة، فيكون حينئذ حقيقة. __________ (1) (ق): "الوصف ". (2) (ظ ود والنتائج): "وسرُّه في اللغة". (3) "نتائج الفكر": (ص/ 391).

(2/561)


فصل (1) ومن هذا القبيل: جلستُ خلفك وأمامك، وفوقُ وتحت، [وإزاءَ وتِلْقاء وحِذَاء، وكذلك: قربك وعندك؛ لأن] (2) عندك في معنى القرب، لأَنها من لفظ "العَنَد"، قال الواجز (3): وكلُّ شيءٍ قد يحبُّ ولَدَه ... حتَّى الحُبَارَى فتطير عَنَدَه أي: إلى جنبه، وهذه الألفاظ غير خافٍ أنها مأخوذة في لفظ الفعل، فخلف من "خَلَفت"، وقُدَّام من "تقدمت"، وفَوْق من "فُقْت"، وأمام من "أَمَمْتُ"، أي: قصدت، وكذلك سائرها، إلا أنهم: لم يستعملوا فعلاً من "تَحت"، ولكنها مصدر في الأصل أُمِيْت فعلُه. وإذا كان الأمر فيها كلها كذلك، فقد صارت كـ "قبلُ" و"بَعْدُ" في الزمان، [وكعشيٍّ] وقريب، وصار فيها كلِّها معنى الوصف، فلذلك عَمِل الفعلُ فيها بنفسه، كما يعمل فيما هو وَصْف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به؛ لأن الوصف هو الموصوف في المعنى، فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أو ما هو في معناها؛ لأنها لا تدل بلفظها إلا عليها، كما تقدم، فقد بان لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها، ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام كما قالوه؛ لأنه لا فرقَ بينها وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها؛ إذ (ظ/100 ب) لا يدل الفعل بلفظه على مُبْهَمِها ولا على محدودها ولا على حركة فَلَك، __________ (1) من قوله: "مرور الزمان ... " إلي هنا ساقط من (د). (2) ما بين المعكوفين من "النتائج". (3) انظر: "غريب الحديث": (1/ 439) للخطابي، و "المستقصى": (2/ 227) و"اللسان": (3/ 308).

(2/562)


وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مُطْلَقًا وعلى المفعول (ق/ 132 ب) به كذلك. فإنَّ قيل: فأين لفظ الفعل في "مِيْل" و"فَرْسخ"؛ وأي معنى للوصف فيه، والفعل قد تعدَّى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة؟. قيل: المراد بالمِيْل والفرسخ تبيين مقدار المشي، لا تبيين مقدار الأرض، فصار المِيْل عبارةً عن عِدة خطًا، فكأنك قلت: "سِرْت خُطًا عِدَّتها كيت وكيت"، فلم يتعدَّ الفعلُ في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدَّر بعدد معلوم، كقولك (1): "ضربت ألف ضربة" و"مشيت ألف خطوة"، ألا ترى أن المِيْل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مئة خطوة، والفرسخ أَضْعاف ذلك ثلاث مرات، فلم ينكسر ما أصَّلْناه من أن الفعل لا يتعدَّى إلا إلى ما ذكرنا، وإنما سموا هذا المقدار من الخُطَى والأذْرُع "مِيْلاً"؛ لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث (2) كل فرسخ نصبًا كهيئة المِيل الذي يُكْتَحل به، إلا أنه كبير، ثم يكتبون في رأسه عددَ ما مَشَوه ومقدارَ ما تخطَّوه. وذكرَ قاسم بن ثابت (3) أن هشام بن عبد الملك مرَّ في بعض أسفاره بميل، فأمر أعرابيًا أن ينظر في المِيْل كم فيه مكتوبًا، وكان الأعرابي أُميًّا، فنظر فيه ثم رجع إليه (4)، فقال: "فيه مِحْجن، وحَلْقة، وثلاثة __________ (1) (ق): "كأنك قلت". (2) سقطت من (ق ود). (3) هوة قاسم بن ثابت بن حزم السَّرَفسطي أبو محمد، من العلماء بالفقه والحديث واللغة، صاحب "الدلائل" في الغريب، توفي شابًا سنة (302)، انظر: "الديباج المذهب": (ص/ 223)، و"السير": (14/ 563). (4) (ق): "نظر إليه".

(2/563)


كأطباء (1) الكَلْبة، وهامة كهامة القَطَا"، فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال. فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي، وهو مصدر، فمن ثَمَّ عمل فيها الفعل، ومن ثَمَّ عمل في المكان، نحو: "جلست مكان زيد"، لأنه مَفْعل من الكَون، فهو في أصل وضعه مصدر عبِّر به عن الموضع، والموضع أيضًا من لفظ الوضع، فلا يعمل الفعل في شيءٍ من هذا القبيل بغير حرف. والذي قلناه في مكان، أنه من الكَون هو قول الخليل في "كتاب العين" (2) إلا أنهم شبهوا "الميم" بالحرف الأصلي للزومها، فقالوا: في الجمع: "أمكنة"، حتى كأنه على وزن "فَعَال"، وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة، شبَّهوا الزائد بالأصلي، نحو: "تمدرع" و"تمسكن". وأما: "جلست يمينك وشمالك"، فليس من هذا الفصل، ولكنه مما حُذِفَ منه الجار لعلم السامع، أرادوا: "عن يمينك وعن شمالك"، أي: الناحيتين (3)، ثم حُذِف الجار فتعدَّى الفعل فنَصَب، فهو من باب: "أمرتك الخيرَ"، وإنما حُذِف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب؛ لأنك إذا قلت: "جلست عن يمينك"، فمعنى الكلام: قابلت يمينك وحاذيته، ونحو ذلك. فصل (4) ومن هذا الباب تعدِّي الفعل إلى الحال بنفسه، ونعني بالحال __________ (1) الطُّبْي: حلمات الضرع، وجمعه: أَطْباء. "القاموس": (ص/1684). (2) (5/ 410). (3) "النتائج": "الجارحتين". (4) "نتائج الفكر": (ص/ 394).

(2/564)


صفة الفاعل التي فيها ضميره، أو صفة المفعول، أو صفة (ق/133 أ) المصدر الذي عَمِل فيها؛ لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف؛ وذلك نحو: "سرتُ سريعًا" و"جاء ضاحكًا"، و"ضربته قائمًا"، فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالاً؛ لأن الحال غير الاسم الذي يدل عليه الفعل؛ ألا تري أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف، نحو: "جاء زيد في حال ضَحِك"، ولا تقول: "جاء زيد حالَ ضحك"؛ لأن الحال غير "زيد"، ولذلك لا تقول: "جاء زيد ضَحِكًا"؛ لأنه غيره، وغير المجيء، فلا يعمل "جاء" فيه إلا بواسطة؛ فإذا قلت: "ضاحكًا" عمل فيه؛ لأن الضاحك هو (ظ/ 101 أ) زيد. وإذا قلت: "جاء مشيًا"، عمل فيه أيضًا، لا من حيث كان صفة لزيد؛ لأنه لا ضمير فيه يعود على "زيد"، ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو "المجيء"، فعمل فيه "جاء" كما يعمل في المصدر. وأما عمله في المفعول من أجله، فإنه لم يعمل فيه بلفظه عندي؛ ولكنه دلَّ على فعل باطن من أفعال النفس والقلب (1)، أثارَ هذا الفعل الظاهر، وصار ذلك الفعل الباطن عاملاً في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة، والفعل الظاهر دالٌّ عليه، ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبًا إلا بثلاثة شرائط: * أن يكون مصدرًا. * وأن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة. __________ (1) تحرفت في (ظ ود): "ولا قلت".

(2/565)


* وأن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره. لْحو: "جاء زيد خوفًا منك ورغبةً"، ولو قلت: "جاء قراءةً للعلم" و"قتلاً للكافر"؛ لم يجز؛ لأنها أفعال ظاهرة، فقد بانَ لكَ أن المجيءَ إنما يُظْهِر ما كان باطنًا خفيًّا، حتى كأنك قلت: جاء زيدٌ مُظْهرًا بمجيئه الخوف أو الرغبة أو الحرص أو أشباه ذلك، فهذه الأفعال الظاهرة تبدي تلك الأفعال الباطنة، فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما تتضمنها (1)، فإنَّ جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرناه، لم يصل الفعل إليه إلا بحرف، نحو: "جئت لكذا" أو "من أجل كذا"، والله أعلم. قلت (2): ما أدري أيُّ ضرورة به إلي هذا التعسُّفْ والتكلُّف الظاهر الذي لا يصح لفظًا ولا معنى!! أما اللفظ فإن هذا لو كان معمولاً لعامل مُقدَّر، وهو قولك: يظهر الخوف والمحبة، ونحوه لتلفظوا به ولو مرَّة في كلامهم، فإنه لا دليل عليه من سِياق ولا قرينة، ولا هو مقتضى الكلام فيصح إضماره، فدعوى إضماره ممتنعة. وأما فساده من جهة المعنى فمن وجوه عديدة: منها: أَن المتكلِّم لا يخطُر (ق/133 ب) بباله هذا المعنى بحال، فلا يخطر ببال القائل: "زُرْتك محبة لك": زرتك مُظْهِرًا لمحبتك، ولا بقوله: "تركت هذا خوفًا من الله": تركته مُظْهِرًا خوفي من الله، وهذا أظهر مِن أن يُحْتاج إلى تقديره. الثاني: أنه إذا كان التقدير ما ذكر خرَجَ الكلام عن حقيقته ومقصوده؛ __________ (1) "النتائج": "تنصبها". (2) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.

(2/566)


إذ لا يبقى فيه دليل على أنه هو علة الفعل الباعثة عليه، فإنه إذا قال: "خرجتُ مُظْهِرًا ابتغاء مرضات الله" مثلًا، لم يدل ذلك على أن الباعثَ له على الخروج ابتغاء مرضات الله؛ لأن قوله: "مظهرًا (1) كذا" حال، أي: خرجتُ في هذه الحال، فأين مسألة الحال من مسألة المفعول لأجله (2)؟!. الثالث: أن المفعول له هو علة الفعل، وهي إِمَّا علة فاعلية أو غائية، وكلاهما ينتصب على المفعولية، تقول: "فعلت ذلك خَوْفًا، وقعدت (3) عن الحرب جُنبًا، وأمسكَ عن الإنفاق شُحًّا"، فهذه أسبابٌ حاملة على الفعل والترك لا أنها (4) هي الغايات المقصودة منه، وتقول: "ضربته تأديبًا، وزرته إكرامًا، وحبسته صِيَانة"، فهذه غايات مطلوبة من الفعل. إذا ثبت هذا؛ فالمعلِّل إذا ذكر الفعل طلب المخاطَب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الاختيارية شاهداً وغائبًا، فإذا ذكر الباعث أو الغاية، وهو المراد من الفعل كان مخبرًا بأن هذا هو مقصوده وغايته، والباعث له على الفعل، فكان اقتضاء الفعل اللفظي له كاقتضاء الفعل الذي هو حَدَث له، فصحَّ نصبُه له (5) كما كان واقعًا لأجله، وهذا بحمد (ظ/101 ب) الله واضح، فتأمله (6). __________ (1) من قوله: "مثلاً لم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (2): "من أجله". (3) (ق): "فعلت ذاك خوفًا وقعد ... ". (4) (ق): "لأنها". (5) ليست في (ق). (6) من (ق).

(2/567)


فصل قال (1): "إذا كانت الحال صفةً لازمةً للاسم، كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها، وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل صلح (2) أن تكون حالاً، لأنها مشتقة من التحول، فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، ولذلك (3) لا تكون إلا مشتقة من فعل؛ لأن الفعل حركة غير ثابتة، وقد تجيء غير مشتقة، لكن في معنى المشتق، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأحيانًا يَتَمَثَّلُ لي الملَكُ رَجُلاً" (4)، أي: يتحوَّل عن حاله ويعود متصورًا في صورة الرجل، فقوله: "رجلاً" في قوة: "متصوراً بهذه الصورة"، وأما قولهم: "جاءني زيد رجلاً صالحًا"، فالصفة وطَّأت الاسم للحال، ولولا "صالحًا" ما كان "رجل" حالاً، وكذلك قوله تعالى: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} " [الأحقاف: 12]. قلت (5): وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة: (ق/ 134 أ)، مقيدة، ومقدَّرة، ومؤكَدة وموطِّئة. "فإنَّ قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد في الموطئة؟ وهلا اكتُفي بالمشتق فيها؟. قيل: في ذكر الاسم موصوفًا بالصفة في هذا الموطن، دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها، وأنها مستمرة له، وليس كقولك: "جاءني __________ (1) أي السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/396). (2) (ظ ود): "صح". (3) (النتائج): "وكذلك". (4) قطعة من حديث صفة الوحي، أخرجه البخاري رقم (2)، ومسلم رقم (6) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (5) التعليق لابن القيم ثم يعود الكلام للسُّهيلي.

(2/568)


زيد صالحًا"، لأن "صالحًا" ليس فيه غير لفظ الفعل، والفعلُ غير دائم. وفي قولك: "رجلاً صالحًا"، لفظ "رجل" وهو دائم، فلذلك ذُكِر. فإنَّ قيل: كيف يصح في: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أن يكون حالاً وليست وصفا منتقلاً، ولهدا لو قلت: "جاءني زيدُ قرشيًّا أو عربيًّا"، لم يَجُز؟. قيل: قوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من الضمير في {مُصَدِّقٌ} لا من {كِتَابٌ}، لأنه نكرة والعامل في الحال ما في {مُصَدِّقٌ} من معنى الفعل، فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال، والاسم -الذي هو صاحب الحال- قديم، وقد كان غير موصوفٍ بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل، وإنما كان عربيًّا حين أُنزِل على محمد -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا له ولما بين يديه من الكتاب، فقد أوضحت فيه معنى الحال، وبَرِحَ الإشكال. قلت (1): كلا، بل زدت الإشكال إشكالاً! وليس معنى الآية ما ذهبت إليه! وإنما: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من "كتاب"، وصحَّ انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وُصِف، والنكرة إذا وُصِفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة، كما يصح أن يُبْتدأ بها. وأما قوله: "إن المعنى مصدق لك"، فلا ريبَ أنه مصدق له، ولكن المراد من الآية: أنه مصدق لما تقدَّم من كتب الله -تعالى- كما قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، وقال: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 1 - 3]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ __________ (1) التعليق الطويل لابن القيم -رحمه الله- وفيه الرد على السُّهيلي إذ اختار قول الكلَّابية.

(2/569)


مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، [أفلا ترى كيف اطَّردَ فى القرآن وصف الكتاب بأنه مصدِّق لما بين يديه] (1)، وباتفاق الناس أن المراد: مصدِّق لما تقَدَّمه من الكتب، وبهذه الطريق يكون مصدِّقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكون أبلغ فى الدليل على صِدْقه من أن يقال: هذا كتاب مصدِّق لك، فإنه إذا طابق الكتبَ المتقدمة وصدَّقها وشَهِد بصحَّة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأةٍ ولا اقتباس منها، دلَّ على أن الذي جاء به رسولٌ (2) (ظ/102 أ) صادقٌ، كما أن الذي جاء بها كذلك، وأن مَخْرَجَها من مشكاة واحدة. ولهدا قال النَّجاشي حين قُرِئ عليه القرآن: "إنَّ هذا والذي جاءَ به موسى يخرجُ من مِشكَاةٍ واحدة" (3)، يعني: فإذا كان موسى صادقًا وكتابه حق فهذا كذلك؛ إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدةٍ ويكون (ق/134 ب) أحدهما (4) باطلًا محضًا والآخر حقًّا محضًا، فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر. فالقرآن صدَّقَ الكتبَ المتقدمة، وهي بشَرت به وبمن جاءَ به، فقام الدليلُ على صدقه من الوجهين معًا، من جهة بشارة من تقدَّمه به، ومن جهة تصديقه لما تقدمه ومطابقته له، فتأمله. ولهذا كثيراً ما يتكرر هذا المعنى فى القرآن؛ إذ فى ضمنه الاحتجاج على أهل الكتابَيْن بصحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الطريق، __________ (1) ما بينهما ساقط من (ق)، وبعده في (ظ ود): "قال" والصواب حذفها. (2) (ظ ود): "رسول الله". (3) أخرجه أحمد في "المسند": (1/ 201 - 203) في حديث طويل وسنده قوي، وصححه أحمد شاكر في "شرح المسند": (3/ 180). (4) سقطت من (ق).

(2/570)


وهي حُجَّة -أيضًا- على غيرهم بطريق اللزوم؛ لأنه إذا جاء بمثل ما جاؤوا به من غير أن يتعلَّم منهم حرفًا واحدًا دلَّ على أنه من عند الله، وحتى لو أنكروا رسالةَ من تقدَّم لكان في مجيئه بمثل [ما] جاؤوا به (1) إثباتٌ لرسالته ورسالة من تقدمه، ودليل على صحة الكتابين وصدق الرسولين؛ لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن يُنَال بالتعليم أصلاً ولا البعض منه، فجاءَ على يدي أمِّيٍّ لم يقرأ كتابًا ولا خطَّه بيمينه، ولا عاشرَ أحدًا من أهل الكتاب، بل نشأ بينكم وأنتم تشاهدون حاله حضرًا وسفرًا وظعنَا وإقامة، فهذا من أكبر الأدلَّة على أن ما جاء به ليس من عند البشر، ولا في قدرتهم. وهذا برهان بيِّن أبين من برهان الشمس، وقد تضمَّن ما جاءَ به تصديق من تقدَّمه، وتضمَّن ما تقدَّمَه البشارة به، فتطابقت حُجَج الله وبيِّناته على صدق أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة وثبت الحقُ وقامت (2) الحُجَّة، فلم يبق لكافرٍ إلا العناد المحض أو الإعراض والصَّدُّ. وقوله: "إن الاسم الذي هو صاحب الحال قديم، وكان غير موصوف بهده الصفة حين أُنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود"، هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكُلاَّبية عن جميع طوائف أهل (3) الأرض، من أن معاني التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن (4) وسائر كتب الله معنى واحد، فالعين لا اختلافَ فيها ولا تعدُّد، وإنما تتعدد وتتكرَّر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد، __________ (1) من قوله: "من غير ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) "الحق وقامت" من (ق). (3) ليست في (ق). (4) (ق ود): "الفرقان".

(2/571)


فإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا وهو نفس التوراة، وإن عُبِّر عنه بالعِبْرية كان توراة وهو نفس القرآن، وإن عُبِّر عنه بالسِّريانية كان إنجيلًا، وهو -أيضًا- نفس القرآن ونفس التوراة، وكذلك سائر الكتب!!. وهذا قول يقوم على بطلانه تسعون (1) برهانًا لا تندفع، ذَكَرها شيخُ الإسلام في "الأجوبة المصرية" (2) وكيف تكون معاني التوراة والإنجيل هي (3) نفس معاني القرآن، وأنت تجدها إذا عُرِّبت لا تدانيه ولا تقاربه فَضْلًا (ق/ 135 أ) عن أن تكون هي إياه، وكيف يقال: إن الله تعالى أَنزلَ هذا القرآنَ على داود وسليمان وعيسى بعينه بغير هذه العبارات؟! أم كيف يقال: إن معاني كتب الله تعالى كلها معنى واحد يختلف التعبير عنها دون المعنى المعبَّر عنه؟! وهل هذا إلا دعوى يشهد الحس ببطلانها! أم كيف يقال: إن التوراة إذا عُبِّر عنها بالعربية صارت قرآنًا، مع تميُّز القرآن عن سائر الكلام بمعانيه (ظ/ 102 ب) وألفاظه تميُّزًا ظاهرًا لا يرتاب فيه أحد. وبالجملة؛ فهذا الجواب منه بناء على ذلك الأصل. والجواب الصحيح أن يقال: الحال المؤكِّدة لا يشترط فيها الاشتقاق والانتقال، بل التنقُّل مما ينافي مقصودها، فإنما أُتي بها لتأكيد __________ (1) (ق): "سبعون". (2) لعل المقصود كتاب "التسعينية" الشيخ الإسلام، طبع ضمن "الفتاوي الكبري" ثم طبع في ثلاثة مجلدات، رسالة علمية. وإليه أشار ابن القيم في نونيته: وكذاك تسعينية فيها له ... ردٌّ على من قال بالنفساني تسعونَ وجهًا بيَّنت بطلانَه ... أعني كلامَ النفس ذا الوجدن ولشيخ الإسلام كتاب آخر بعنوان: "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية" وهو كبير، انظر "الجامع لسيرة ابن تيمية": (ص/256، 294، 353). (3) (ظ ود): "على".

(2/572)


ما تقدمها وتقريره، فلا معنى لوصف الاشتقاق والانتقال (1) فيها أصلاً، وتسميتها "حالاً" تعبير نحوي اصطلاحي، وإلا فالعرب لم تقل: هذه حال، حتى يُقال: كيف سميتموها حالاً وهي وصف لازم، وإنما النحاة سموها: حالاً، فيالله العجب! أتكون تسميتهم الحادثة الاصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والاشتقاق!! فلو سمَّاها مسمٍّ بغير هذا الاسم، وقال: هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة، أكان يلزمه هذا السؤال؟ فقد بانَ لكَ ضعف ما اعتمده من الجواب، وبالله التوفيق. عاد كلامه، قال (2): "وأما قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فقد حكموا أنها حال مؤكدة، ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل؛ لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى، وذلك نحو: "قم قائمًا"، و"أنا زيد معروفاً"، هذه هي الحال المؤكدة فى الحقيقة. وأما: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فليست بحال مؤكِّدة؛ لأنه قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق؛ إذ ليس من شرط الحق [أن يكون مصدقًا] (3) لفلان ولا مكذبًا له، بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقًا لغيره، ولكن {مُصَدِّقًا} هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} جملة في معنى الحال أيضًا. والمعنى: كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال؛ أعني: مصدِّقًا لما معكم، كما تقول: "لا تشتم (4) زيدا وهو أمير محسنًا إليك"؛ فالجملة حال، __________ (1) من قوله: "بل التنفُّل ... " ساقط من (ظ ود). (2) "النتائج": (ص/ 397). (3) من "النتائج". (4) كذا في الأصول و"النتائج"، ولو قال: "أتشتم" لَوَافق المعنى في الآية والتمثيل بعدها.

(2/573)


و"محسنًا" حال بعدها، والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الخال على قولك: "محسنا" و (مصدقًا) أنك لو أخَّرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في "محسن" و (مصدق). (ق/135 ب) ألا ترى أنك لو قلت: "أتشتم زيدًا محسنًا إليك وهو أمير"، لدهب الوهم إلى أنك تريد: محسنًا إليك في هذه الحال، فلما قدَّمْتَها اتضح المراد وارتفع اللبس. ووجه آخر يطَّرد في هذه الآية، وفي الأخرى التي في سورة فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] وهو أن يكون {مُصَدِّقًا} هاهنا حالاً يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها "الألف واللام"؛ لأن "الألف واللام" قد تُنبئ عما تنبئ عنه أسماء الإشارة، حكى سيبويه (1): "لمن الدارُ مفتوحًا بابُها"، فقولك: "مفتوحًا بابها" (2) حال لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به "لمن"؛ لأن ذلك خلاف المعنى المقصود، وتصحيح المعنى: "لمن هذه الدار مفتوحًا بابها"، فاستغنى بذكر "الألف واللام" وعلم المخاطب أنه مشير وتنبَّه المخاطب بالإشارة إلى النظر، وصار ذلك المعنى [المنبَّه] (3) عليه عاملاً في الحال. وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] كأنه يقول: "هو ذلك الحق (4) مصدقًا"، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة، فلما أشار: نبَّهت الإشارةُ على العامل في الحال، كما إذا __________ (1) فى "الكتاب": (2/ 12 - 16). (2) "فقولك: مفتوحًا بابها" سقطت من (ق). (3) تحرفت فى الأصول، والمثبت من "النتائج" (4) العبارة في (ظ ود): "ذلك هو الحق"، و"ق ": "ذلك الحق هو"، والمثبت من "النتائج".

(2/574)


قلت: "هذا زيد قائمًا"، نبهت الإشارة (1) المخاطب على النظر، فكأنك قلت: "انظر إلى زيد قائمًا"، لأن الاسم الذي هو "ذا" [ليس] (2) هو العامل، ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال، وذلك المعنى (ظ/ 103 أ)، هو "انظر". ومما أغنت فيه "الألف واللام" عن الإشارة قولهم: "اليومَ قمتُ"، و"الساعةَ جئت"، و"الليلةَ فعلتُ"، و"الآن قعدتُ"، اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة. قلت (3): ليس المراد بقول النحاة: "حال مؤكدة" ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع (4). فالتأكيد المبوَّب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة، وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه، وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه، وهذا كقولهم: "زيد أبوك عطوفاً"، فإنه كونه عطوفاً ليس معنى كونه أباه، ولكن ذِكْر أبوته تشعر بما يلازمها من العَطْف، وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] فإنَّ ما لين يديه (5) حقٌ، والحق يلازمه تصديق بعضه بعضًا. وقوله: "ليس من شرط الحق أن يكون مصدِّقًا لفلان"، يقال: ليس هذا بنظير لمسألتنا، بل الحقُّ يلزمه لزومًا لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضًا، فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقًا. فهذا __________ (1) من قوله: "على العامل ... " إلي هنا ساقط من (د). (2) زيادة ليستقيم السياق. (3) التعليق لابن القيم -رحمه الله-. (4) (ق): "الموانع". (5) "فإنَّ ما بين يديه" سقط من (ق).

(2/575)


(ق/136 أ) معنى قولهم: "إنها حال مؤكدة" فافهمه. والمعنى: أنه لا يكون إلا على هذه الصفة، وهي مقررة لمضمون الجملة، فإن كونه مصدقًا للحق المعلوم الثابت، مقرِّرٌ ومؤكِّدٌ ومبينٌ لكونه حقًا في نفسه. وأما قوله: "إنها حال من المجرور في قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:] والمعنى: يكفرون به مصدقًا لما معهم"، فهذا المعنى وإن كان صحيحًا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى، وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن، فكيف يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] والكلام والنظم واحد!!. وأيضًا فالمعنى مع جَعْل (1) {مُصَدِّقًا} حالاً من قوله: {هُوَ الْحَقُّ} أبلغ وأكمل منه إذا جُعِل حالاً من المجرور، فإنه إذا جُعِل حالاً من المجرور يكون الإنكار قد توجَّه عليهم في كفرهم به، حالَ كونه مصدقًا لما معهم، وحالَ كونه حقًّا، فيكونان حالًا من المجرور، أي: يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال، وإذا جعِل حالاً من مضمون قوله: {هُوَ الْحَقُّ}، كان المعنى: يكفرون به حال كونه حقًّا مصدِّقًا لما معهم، فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به، وهو اجتماع كونه حقًا في نفسه وتصديقه لما معهم، فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح، وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل: يكفرون به حالَ كونه حقًا، وحالَ كونه مصدقًا لما معهم. فتأمله فإنه بديع جدًّا، فصحَّ قولُ النحاة والمفسرين في الآية، والله أعلم. __________ (1) (ق): "جعل الحق".

(2/576)


فائدة (1) قولهم: "هذا بُسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا"، فيها عشرة أسئلة. أحدها: ما جِهة انتصابِ "بُسرًا ورُطبًا"، أعلى الحال أم على خبر كان؟. الثاني: إذا كانا حالين، فما هو صاحبهما؟. الثالث: ما العامل في الحالين، هل هو أفعل التفضيل، أم اسم الإشارة، أو غير ذلك؟. الرابع: أنكم إذا جعلتم العاملَ أفعل التفضيل، لزمَ تقديم معمول أفعل التفضيل عليه، والاتفاق واقع على امتناع: "زيد منك أحسن"، وإذا لم يتقدم "منك" لم يتقدم الحال. الخامس: متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين، ومتى لا يجوز، وما (ظ/103 ب) ضابط ذلك؟. السادس: هل يجور التقديم والتأخير في الحالين جميعًا أم لا؟. السابع: كيف تصورت الحال في غير المشتق؟. الثامن: إلى أيِّ شيءِ وقعت الإشارة (ق/136 ب) بقولهم: "هذا ... "؟. __________ (1) في "نتائج الفكر" للسهيلي: (ص/399 - 405) سبعة أسئلة، وزاد المصنف هنا ثلاثة أسئلة وأرقامها (1، 4، 10) وزاد أجوبةَ السُّهَيلي -كعادته- تحريرًا وتكميلًا، ومن أجله قال ما قال في آخر هذه الأجوبة. ثم نقلَ هذه الأسئلة العشرة مع اختصار أجوبتها، ونسْبتها لنفسه -الجلالُ السيوطي في "الأشباه والنظائر النحوية": (4/ 336 - 342)، وسمَّاها: "تحفة النجبا في قولهم: هذا بُسرًا أطيب منه رطبا".

(2/577)


التاسع: هلا قلتم: إن بسرًا ورطبًا منصوب على خبر "كان" وتخلَّصتم من هذا كلِّه؟. العاشر: هل يُشترط في هذه المسألة أن يكون الاسمان المنصوبان اسمين لشيء واحد باعتبار صفتين، أو يجوز أن يقع بين شيئين مختلفين، نحو: هذا بُسرًا أطيبُ منه عِنَبًا؟. * فالجواب عن هذه المسائل. أما السؤال الأول: فجهة انتصابه على الحال (1) في أصحَّ القولين، وهو اختيار سيبويه ومحقِّقي أصحابِه، خلافًا لمن زعمَ أنه خبر "كان"، وسيأتي إبطاله فى جواب السؤال التاسع، وإنما جعله سيبويه حالاً؛ لأن المعنى عليه، فإن: المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين (2) من أحواله، ولولا ذلك لما صح تفضيل الشيءِ على نفسِه، فالتفضيل إنما صحَّ باعتبار الحالين فيه، فكان جهة انتصابهما علي الحال لوجود شروط الحال، وسيأتي الكلام على شرط الاشتقاق، فلما كان هذا الباب لا يُذْكر إلا لتفضيل شيءٍ فى زمانٍ أو على حالٍ، على نفسه في زمان أو على خبرٍ على حال أخرى؛ وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال، أو كونه خبرًا "لكان"، وسيأتي بطلان الثاني = فيتعين أن يكون حالاً. فإنَّ قلت: فهلا جعلته تمييزاً؟. قلت: يأبى ذلك أنه ليس من قِسْميَ التمييز، فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الاسم، ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة، __________ (1) "على الحال" سقطت من (ق). (2) (ق): "حالة".

(2/578)


فلا يصح أن يكون تمييزًا. فصل (1) وأما السؤال الثاني: وهو ما هو صاحب الحال هاهنا، فجوابه أنه الاسم المضمر في "أُطْيب" الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره، "فبُسْرًا" حال من ذلك الضمير، و"رُطَبًا" حال من الضمير المجرور بمن، وإن (2) كان المجرور بمن هو المرفوع المستتر في "أَطْيب" من جهة المعنى، ولكنه ينزَّل منزلةَ الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلتَ: "زيد قائمًا أخطب من عَمْرو قاعدًا"، لكان "قاعدًا" حال من الاسم المخفوض بمن -وهو عمرو- فكذلك "رطبًا" حال من الاسم المجرور بـ "من". هذا قول جماعةٍ من البصريين، وقال أبو علي الفارسي: صاحب الحالين الضمير المستكِنّ في "كان" المقدَّرة التامة، وأصل المسألة: هذا إذا كان، أي وجد بسرًا أطيب منه إذا كان، أي وجد رطبًا، فبسرًا (3) ورطبًا حالان من الضمير المستكِنّ في "كان". وهذان القولان مبنيان على المسألة الثالثة: وهو ما هو العامل في هذه الحال؟ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ما في "أطيب" من معنى الفعل؛ لأنك تريد أن طيبه في حال البُسْرية يزيد على طِيْبه في حال الرُّطبية، فالطيب أمر واقع في هذه الحال. __________ (1) "فصل" في جميع الأسئلة العشرة ليس في (د). (2) (ق): "وإذا". (3) (ق): "بُسرًا ورُطبًا".

(2/579)


والقول الثاني: أن العامل فيها "كان" التامَّة المقدَّرة، وهذا اختيار أبي علي. والقول الثالث: (ق/137 أ) أن العاملَ فيها ما في اسم الإشارة من [معنى] (1) الفعل، أي: أُشير إليه بُسْرًا. والقول الرابع: أنه ما في حرف التنبيه من معنى الفعل. والمختار القول الأول: أن العامل فيها ما في "أطيب" من معني الفعل (2)، وإنما اخترناه لوجوه: أحدها: أنهم متفقون (3) على جواز: "زيد قائمًا أحسن منه راكبًا"، و"ثمرة نخلتي (ظ/ 104 أ) بُسرًا أطيب منها رُطَبًا"، والمعنى في هذا كالمعنى في الأول سواء، وهو تفضيل الشيءِ على نفسه باعتبار حالين، فانتفى اسم الإشارة وحرف التنبيه، ودار الأمر بين القولين الباقين: أن يكون العامل "كان" مقدَّرة أو "أطيب"، والقول بإضمار "كان" ضعيفٌ، فإنها لا تُضْمَر إلا حيث كان في الكلام دليل عليها، نحو قولهم: "إنْ خيرًا فخيبر"، وبابه؛ لأن الكلام هناك لا يتم إلا بإضمارها بخلاف هذا. وأيضًا فإن "كان" الزمانية ليس المقصود منها الحدث، وإنما هي عبارة عن الزمانِ، والزمانُ لا يُضْمَر، وإنما يُضْمَر الحدَث إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وليس في الكلام ما يدلُّ على الزمانٍ الذي يقيَّد به الحَدَث، إلا أن يلفظ به، فإن لم يلفظ به لم يُعْقل. __________ (1) من "النتائج" و"الأشباه والنظائر". (2) من "أن العامل ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ق): "يقولون"!.

(2/580)


فإن قلت: فمن هاهنا قالوا: إن "كان" هاهنا تامة غير ناقصة، بل قد خلعوا منها الدلالة على الزمان، وجرَّدوها لنفس الحَدَث. قلت: هذا كلام من لم يحصِّل معنى "كان" التامة والناقصة كما ينبغي، فإن كان الناقصة والتامة يرجعانِ إلى أصل واحد، ولا يجوز إضمار واحد منهما، وكشف ذلك يطُوْل، لكن نشير إلى بعضه، وهو: أن القائل إذا قال: "كان برد وكان مطر"، فهو بمنزلةِ: "وَقَع وحَدَث" وغيرهما من الأفعال اللازمة والزمان [جزء] (1) مدلول الفعل، فلا يجوز أن يخلعه ويجرّد عنه وإنما الذي خلِع من "كان" التامة اقتضاؤها خبرًا يُقارن زمانَها، وبقيت تقتضيه مرفوعًا يقارن زمانها كما كان يقارنه الخبر فلا فرقَ بينهما أصلاً، فإن الزمان الذي كان الخبر يقترن به هو بعينه الزمان الذي اقترن به مرفوعها، وينزل مرفوعها في تمامها به منزلةَ خيرها إذا كانت ناقصة، فتأمل هذا السر الذي أغفله كثيرٌ من النحاة!. ويُبْطل هذا المذهب أيضًا شيءٌ آخر، وهو: كثرة الإضمار، فإن القائل به يضمر ثلاثة أشياء: "إذا" والفعل والضمير، وهذا تعدٍّ لطور الإضمار وقول بما لا دليلَ عليه. الوجه الثاني: من وجوه الترجيح أنَّ العاملَ في الحال لو كان معنى الإشارة؛ لكانت الإشارة إلى الحال لا إلى الجوهر وهذا باطل، فإنه إنما يُشير إلى ذات الجوهر، ولهذا يصح إشارته إليه وإن لم يكن على تلك الحال، كلما إذا أشار إلى تمر يابس، وقال: "هذا بُسرًا أطيبُ منه رطبًا"، فإنه يصح، ولو كان العامل في الحال (ق/137 ب) __________ (1) في الأصول: "خبر"، والمثبت هو الصواب.

(2/581)


هو الإشارة لم تصح المسألة. الوجه الثالث: أنه لو كان العامل معنى الإشارة لوجب أن يكون الخبر عن الذات مطلقًا؛ لأن تقييد المشار إليه باعتبار الإشارة إذا كان مبتدأً لا يوجب تقييد (1) خبره إذا أخبرتَ عنه، ولهذا تقول: "هذا ضاحكًا أبي"، فالإخبار عنه بالأبوَّة غير مقيد بحال ضحكه بل التقييد للإشارة فقط، والإخبار بالأبوة وقعَ مطلقًا عن الذات، فاعْتَصِمْ بهذا الموضع، فإنه ينفعك في كثير من المواضع، وإذا عُرِف هذا وجب أن يكون الخبر بـ "أطيب" وقعَ عن المشار إليه مطلقًا. الوجه الرابع: أن العامل لو لم يكن هو "أطيب" لم تكن الأطيبية مقيدة بالبُسْرية، بل تكون مُطْلقة، وإذا لم تكن مقيَّدة فسد المعني، لأن الغرض تقييد الأطيبية (ظ/ 104 ب) بالبُسرية مفضَّلة على الرُّطَبية، وهذا معنى العامل، وإذا ثبت أن الأطيبية مقيدة بالبسرية وجبَ أن يكون "بُسرًا" معمولاً في "أطيب". فإن قلت: فلأجل هذا قدرنا الظرف المقيد حتى يستقيم المعني، وقلنا: تقديره: "هذا إذا كان بسرًا أطيب منه إذا كان رطبًا"، أي: هذا في وقت بُسْريته أطيب منه في وقت رُطَبيته. قلت: هذا يحتاج إليه إذا لم يكن في اللفظ ما يغني عنه ويقوم مقامه، فأما إذا كان مَعَنا ما يغني عنه، فلا وجهَ لتكلُّف إضماره وتقديره. فإن قلت: لو كان العامل هو "أطيب" لزم منه المحال، لأنه يستلزم تقييده بحالين مختلفين، وهذا ممتنع. __________ (1) (ظ ود): "تقديم".

(2/582)


قلت: الجواب عن هذا: أن العامل في الحالين وصاحبهما متعدِّد ليس متحدًا، أما العامل في الحال الأولى، فهو ما في "أطيب" من معنى الفعل؛ لأنك إذا قلت: "هذا أطيبُ من هذا" تريدُ: أنه طاب وزاد طِيْبُه عليه، والطيبُ أمرٌ ثابت له في حال البُسْرية. قال سيبويه (1): "هذا باب ما يُنْصَب من الأسماء على أنها أحوال وقعت فيها الأمور". وأما الحال الثانية وهي "رطبًا" فالعامل فيها معنى الفعل الذي هو متعلَّق الجار في قولك: "منه"، فإنَّ "منه" متعلِّق بمعنى غير الطيب؛ لأن "طاب يطيب" لا يتعدى بمن، ولكن صِيْغة الفعل (2) تقتضي التفضيل بين شيئين مشتركين في صفةٍ واحدة، إلا أن أحدهما متميز من الآخر منفصل منه بزيادة في تلك الصفة، فمعنى التميز والانفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر، وهو الذي يعمل في الحال الثانية، كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك: "زيد في الدار قائمًا" في الحال التي هي "قائمًا". فإنَّ قلت: فهلاَّ أَعْمَلْت فيهما جميعًا ما في "أطيب" من معنى الطيب (3). قلت: يستلزمه (4) المحال المذكور؛ لأن الفعل الواحد لا (ق/ 138 أ) يقع في حالين كما لا يقع في ظرفين، لا تقول: "زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس"، ولا: "جالس خلفك أمامك"، فإذا قلت: __________ (1) "الكتاب": (1/ 199) بنحوه. (2) كذا في الأصول و"النتائج"، وأصلحها محققه إلى: "أفعل". (3) "من معنى الطيب" سقطت من (ظ ود). (4) (ظ ود): "لاستلزامه".

(2/583)


"زيد يوم الجمعة أطيب منه يوم الخميس"، جازَ؛ لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني؛ لأنك فضَّلْتَ حين قلت: "أطيب" أو "أصح" أو "أقوم" صحةً وقيامًا على صِحَّةٍ أُخرى وقيام آخر، وفضلت حالاً من حالٍ بمزية وزيادة، وكذلك حين قلت: "هذَا بُسْرًا أطيب منه رطبًا"، ولا يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين، إلا أن يتداخلا، ويصح الجمع بينهما، نحو قولك. "زيد مسافر يومَ الخميس ضَحْوةً"، لأن الضحوة داخلة في اليوم، وكذلك: "سِرْت راكبًا مسرعًا" لدخول الإسراع في السير وتضْمُّنِه له، ولو قلت: "سِرْت مسرعًا مبطئًا"، لم يجز؛ لاستحالة الجمع بينهما إلا على تقدير الواو، أي: مسرعًا تارة ومبطئًا أخرى، وكذلك: "بسرًا ورطبًا" يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد، لأنهما غير متداخِلَيْن هذا هو الجواب الصحيح عندي. وأجاب طائفةٌ بأن قالوا: أفعل التفضيل في قوة فعلين؛ لأن معناه: حَسُن وزاد حُسْنه، وطاب (1) وزادَ طِيْبه، وإذا كان في قوة فعلين، فهو عامل في "بُسرًا" باعتبار حَسُن وطاب، وفي "رطبًا" باعتبار زادَ، حتى لو فككت (2) ذلك لقلت: هذا زادَ بُسْرًا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبًا، (ظ/105 أ) فاستقام المعنى المطلوب، وهذا جواب حَسَن، والأول أمتن، فتأملهما. فصل وأما السؤال الرابع: وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه، __________ (1) "وطاب" ليست في (ق). (2) (ق): "ملكت".

(2/584)


فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: لا نسلم امتناع تقديم معموله عليه، وقولكم الاتفاق واقع على امتناع: "زيد منك أحسن"، غير صحيح، لا اتفاق في ذلك، بل قد جَوَّر بعض النحاة ذلك واستدل عليه بقول الشاعر (1): * جَنَى النحلِ أو ما زوَّدَتْ منه أَطْيبُ * قال هؤلاء: وأفعل التفضيل لما كان في قوة فعلين جاز تقديم معموله عليه. قالوا: وتقديمه أقوى من قولك: "أنا لك محب"، و"فيك راغب"، و"عندك مقيم"، ولاستقصاء الحجج في هذه المسألة موضع آخر. الوجه الثاني: سلَّمنا امتناع تقديم معموله عليه، ولا يقال: "زيد منك أحسن"، فهذا الأمر يختص بقولهم: "منك" لا يتعدى إلى الحال والظرف، وذلك لأن "منك" في معنى المضاف إليه، بدليل أن قولهم: "زيد أحسن منك"، بمنزلة: "زيد أحسن الناس" في قيام أحدهما مقام الآخر، وأنهم لا يجمعون بينهما، فلما قام المضاف إليه مقامه، لكونه (ق/ 138 ب) المفضل عليه في المعنى، كرهوا تقديمه على المضاف لأنه خلاف لغتهم، فلا يلزم من امتناع تقديم معمولٍ هو كالمضاف إليه امتناع تقديم معمول ليس كهو، وهذا بين. وجواب ثالث: وهو أنهم إذا فضلوا الشيءَ على نفسه باعتبار حالين فلا بد من تقدُّم أحدهما على العامل، وإن كان مما لا يسوغ __________ (1) هو: الفرزدق، "ديوانه": (ص/ 32)، وصدره: * وقالت لنا أهلًا وسهلاً وزوَّدت *

(2/585)


تقديمه لو لم يكن كذلك، فإذا فضلوا ذاتين باعتبار حالين، قدَّموا أحمدهما على العامل وأخَّروا الآخر عنه، فقالوا: "زيد قائمًا أحسن منه (1) قاعدًا"، وكذلك في التشبيه أيضًا يقولون: "زيد قائمًا كعَمْرو قاعدًا"، وإذا جاز تقديم هذا المعمول على "الكاف" التي هي أبعد في العمل من باب أحسن، فتقديم (2) معمول "أحسن" أجدر، والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه "التمرة" في حال كونها "بُسرًا" عبيها في حال كونها "رطبًا". فصل وأما السؤال الخامس: وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين؟ فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم، وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى، نحو: "جاء زيد راكبًا مسرعًا"، وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمَّن أحدُهما الآخر، نحو: "سِرْتُ يوم الخميس بُكرة". فصل وأما السؤال السادس: وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا؟. فالجواب عنه: أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك، لأن العامل فيها لفظي، وهو ما في "أطيب" من معنى الفعل، فلك أن تقول: "هذا بسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا"، وأن تقول: "هذا أطيب بسرًا منه رطبًا"، وهو الأصل. __________ (1) كذا فى الأصول، ولعله: من عَمرو. (2) (ق): "فيقول".

(2/586)


فإن قلت: إذا كان هذا هو الأصل، فلِمَ مثلَّ سيبويه (1) بها مقدمة، وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها؟. قلت: كأنه أراد تأكيد معنى الحال فيها؛ لأنه ترجم عن (2) الحال، فلو أخرها لأشبهت التمييز؛ لأنك إذا قلت: "هذا الرجل أطيب بسرًا من فلان "، فبسرًا -لا محالة- تمييز، وإذا قدمت "بسرًا" على "أطيب من كذا" فبسرًا -لا محالة- حال، ولا يصح أن يُخْبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيءٍ سوى التمر وما هو في معناه. فإذا قلت: "هذا [أطيب] بسرًا"، احتمل الكلام قيل تمامه وقبل النظر (ظ / 105 ب) في قرائن أحواله أن يكون "بُسرًا" تمييزًا، وأن يكون حالاً، وبينهما في المعنى فرقٌ عظيم، فاقتضى تَحْصِين المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها، ولو أخرت لجاز. وأما الحال الثانية: فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها لأنه معنوي، (ق / 139 أ) والعامل المعنوي لا يُتَصور تقديم معموله عليه؛ لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير، قلت فيه: مقدَّم في اللفظ مؤخَّر في المعنى، فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى (3)، فإذا لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم (4) يتصور تقديم المعمول عليه؛ لأنه لابد من تأخير المعمول على عامله في المعنى، فلا يوجد إلا بعدَه وعامله متقدِّم عليه، لأنه مَنْويّ غير ملفوظ به، فلا __________ (1) فى "الكتاب": (1/ 199). (2) (ق): "على". (3) ليست في (ق). (4) من قوله: "مؤخر في ... " إلى هنا ساقط من (د).

(2/587)


تذهب النية والوهم إلى غير موضعه، بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعني القلب، فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه (1)، لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه، وهو التقديم. فصل وأما السؤال السابع: وهو كيف (2) يتصور الحال في غير المشتق؟. فاعلم أنه ليس لاشتراط الاشتقاق حجة، ولا يقوم على هذا الشرط دليل، ولهذا كان الحُذَّاق من النحاة على أنه لا يشترط، بل كلُّ ما دلَّ على هيئةٍ صحَّ أن يقع حالاً، فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول، ولهذا سميت حالاً كما قال: لَوْ لم تَحُلْ ما سُمِّيَتْ حالا ... وكلُّ ما حالَ فَقَد زالا فإذا كان صاحبُ الحال قد أوقع الفعلَ فى صفةٍ غير لازمةٍ للفعل، فلا تُبال أكانت مشتقة أم غير مشتقة؛ فقد جاء فى الحديث: "يتمثَّلُ لي الملكُ رَجُلاً" (3) فوقع "رجلاً" هنا حالاً؛ لأن صورة الرجليَّة طارئة على الملَك فى حال التمثُّل، وليست لازمة للملَك إلا في وقت وقوع الفعل: منه وهو التمثل، فهي إذًا حال؛ لأنه قد تحول: إليها، ومثله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] ومثله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]، ومثله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا} [مريم: 17]، ويقولون: "مررتُ بهذا العودِ شَجَرًا ثم مررتُ به رَمَادًا"، و"هذا زيد أسدًا"، وتأويل هذا كلَّه بأنه معمول الحال، والتقدير: يُشْبِه، بعيدٌ __________ (1) من قوله: "بخلاف اللفظي .... " إلى هنا ساقط من (د). (2) (ق): "كيف لم". (3) تقدم تخريجه 2/ 568.

(2/588)


جدًّا، وكذا تأويل ذلك كله (1) بمشتقّ تعسُّف ظاهر، والتحقيقُ ما تقدَّم، وأنها كلها أحوال، وإن كانت جامدة؛ لأنها صفات يتحول الفاعل إليها، وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فِعْلية، بل منها نفسيَّة ومعنويَّة وعدمِيَّة، وهي صفة النفي، وإضافية وفعلية، ولا يكون من جميعها حالاً إلا ما كان الفعلُ واقعًا فيه وجاز خُلُوه عنها، فأما ما كان لازمًا للاسم مما لا يجوز خلوه (ق/139 ب) عنه، فلا يكون حالاً منتصبة بالفعل، نحو قولك: قرشي، وعربى، وحبشي، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، فكلُّ هذه لا يُتَصوَّر وقوعها أحوالاً؛ لأنها لا تتحوَّل. فصل وأما السؤال الثامن: وهو إلى أيِّ شيءٍ وقعت الإشارة بقولك: هذا؟. فالجواب: أن متعلَّق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال، وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بَلَحًا، ثم يكون سَيَابًا، ثم جَدَالاً (2)، ثم بُسرًا إلى أن يكون رُطَبًا، فمتعلَّق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف، فالإشارة إلى شيءٍ ثالث غير البسر والرطب، وهو حامل البسريَّة والرطبيَّة (ظ/ 106 أ)، وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم: إنها إلى البلح أو الطلع أو الجَدَال، كلُّ ذلك تمثيل، والتحقيقُ: أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدلك على هذا أنك تقول: "زيد قائمًا أخطب __________ (1) ليست في (ق). (2) (ق): "خلالاً"! وانظر "المخصَّص": (11/ 120 - 121) لابن سِيْده.

(2/589)


منه قاعدًا"، وقال عبد الله بن سلام لعثمان: "أنا خارجًا أنفع لك مني داخلًا"، فلا إشارةَ ولا مُشَار هنا، وإنما هو إخبار عن الاسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود، ولا يصحُّ أن يكون متعلَّق الإشارة صفة البُسرية ولا الجوهر يقيد تلك الصفة، لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر يُقيدها، لم يصح تقييده بحال الرُّطبية، فتأمله، فلم يبق إلا أن تكون الإشارة (1) إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال، وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلَّق الإشارة في هذا هو العامل في "بسرًا"، فإن العامل فيها إما ما تضمنه "أطيب" من الفعل، وإما "كان" المقدَّرة، وكلاهما لا يصح تعلُّق الإشارة به. فصل وأما السؤال التاسع: وهو قوله: هلا قلتم: إنه منصوب على أنه خبر كان؟. فجوابه: أن "كان" لو أُضْمِرت لأضمر ثلاثة أشياء: الظرف الذي هو "إذا" وفعل "كان": ومرفوعها، وهذا لا نظير له إلا حيث يدلُّ عليه الدليل، وقد تقدم ذلك، وقد منع سيبويه من إضمار "كان" فقال (2): "لو قلت: عبدَ الله المقتولَ، تُرِيد: [كن] (3) عبدَ الله المقتول، لم يَجُز"، وقد تقدم ما يدل على (4) امتناع إضمار "كان"، فلا نطوِّل بإعادته، وإذا لم يجز إضمار كان على (5) انفرادها فكيف يجوز إضمار __________ (1) من قوله: "صفة البُسْرية ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) في "الكتاب": (1/ 133). (3) في الأصول: كان، والتصويب من "الكتاب". (4) "ما يدل على" سقطت: من (ق). (5) (ق): "في".

(2/590)


"إذ" و"إذا" معها!! وأنت لو قلت: "آتيك جاء زيد" تريد: إذا جاء زيد، كان خَلْفًا من الكلام بإجماع، وإذا كان كذلك كان الإضمار من هذا الموطن أبعد؛ لأنه لا (ق/ 140 أ) يُدرى هاهنا "إذ" تريد أم "إذا"؟ وفي قولك "سآتيك" لا يحتمل إلا أحدهما، بخلاف قولك: "زيد قائمًا أخطب منه قاعدًا"، وإذا بَعُد كل البعد إضمار الظرف هاهنا فاضماره مع "كان" أبعد، ومن قدَّره (1) من النحاة، فإنما أشارَ إلى شرح المعنى بضرب من التقريب. فإنَّ قيل: الذي يدلُّ على أنه لابُد من إضمار "كان": أن هذا الكلام لا يُذكر إلا لتفضيل شيءٍ في زمان من أزمانه على نفسه في زمان آخر، ويجوز أن يكون الزمان المفضَّل فيه ماضيًا وأن يكون مستقبلًا، ولابدَّ من إضمار ما يدل على المراد منهما، فيضمر للماضي "إذ" (2)، وللمستقبل "إذا"، و"إذ" (3) و"إذا" يطلبان الفعل، وأعم الأفعال وأشملها فعل الكَوْن الشامل لكلِّ كائن، ولهذا كثيرًا ما يضمرونه، فلابدَّ من فعل يُضاف إليه الظرف، لاستحالة أن تقول: "هذا إذ بُسرًا أطيب منه إذ رطبًا"، فتعين إضمار "كان" لتصحيح الكلام. قيل: هذا السؤال إنما يلزم إذا أضمرنا الظرف، وإما إذا لم نُضْمره لم نحتج إلى"كان ويكون". وأما قولكم: إنه يفضل الشيءَ على نفسِه باعتبار زمانين، و"إذ وإذا" للزمان؛ فجوابه: أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غُنْية عن ذِكْر الزمان وتقدير إضماره. __________ (1) (ق): "قلده"!. (2) (ق): "فيضمن إذا". (3) ليست في (ق) وكذا التي في آخر الفقرة.

(2/591)


ألا ترى أنك إذا قلت: "هذا في حال بُسريَّته أطيب منه في حال رُطَبيته"، استقام الكلام، ولا "إذ" هنا ولا "إذا" لدلالة الحال على مقصود المتكلم من التفضيل (1) باعتبار الوقتين، وكذلك تقوك: "هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته"، ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين، من غير ذكر ظرف ولا تقديره، فافهمه. فصل وأما (ظ/106 ب) السؤال العاشر: وهو أنه هل يشترط اتحاد المفضَّل والمفضَّل عليه بالحقيقة؟. فجوابها: أن وضعها كذلك، ولا يجوز أن يقال: "هذا بُسرًا أطيب منه عنبًا"؛ لأن وضع هذا الباب لتفضيل الشيءِ على نفسه باعتبارين وفي زمانين. قال الأخفش: كلُّ ما لا يتحول إلى شيء فهو رفع، نحو: "هذا بُسر أطيب منه عنب"، فـ "أطيب" مبتدأ و"عنب" خبره، وفي هذا التركيب إشكال، وتوجيهه: أن الكلامَ. جملتان إحداهما: قولك: "هذا بسر". والثانية: قولك: "أطيب منه عنب"، والمعنى: "العنب أطيب منه"، فأفدت خبرين؛ أحدهما: أنه بسر، والثاني: أن العنب أطيب منه، ولو قلت: هذا البسر أطيب منه عنب، لاتضحت المسألة (ق/140 ب) وانكشف معناها، والله أعلم. فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث، علَّقتها صيداً لسوانح الخاطر (2) فيها خشيةَ أن لا يعود، فلْيُسامح الناظرُ فيها، __________ (1) تحرفت في (ظ ود). (2) (ق): "الخواطر".

(2/592)


فإنها عُلِّقت على حين بُعْدي من كتبي، وعدم تمكُّني من مراجعتها، وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر، والله المستعان (1). * * * __________ (1) "والله المستعان" ليست في (ق)، وانظر التعليق في (2/ 577).

(2/593)


مسألة: "سلام عليكم ورحمة الله" في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالاً: السؤال الأول: ما معنى السلام وحقيقته؟. [السؤال] الثانى: هل هو مصدر أو اسم؟. السؤال الثالث: هل قول المسلِّم: "سلام عليكم" خير أو إنشاء وطلب؟. السؤال الرابع: ما معنى السلام (1) المطلوب عند التحيَّة، وإذا كان دعاء وطلبًا، فما الحكمة في طلبه عند التلاقي والمكاتبة دون غيره من المعاني؟. السؤال الخامس: إذا كان من السلامة، فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدَّى بـ "على"، فلا: يقال: سلامة عليك، وسلِمت عليك بكسر اللام، وإنما يقال: سلام لك، كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 91]. السؤال السادس: ما الحكمة في الابتداء بالنكرة في السلام، مع كون الخبر جارًّا ومجرورًا؛ وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو: "في الدار رجل". السؤال السابع: لمَ أختصَّ المسلِّم بهذا النظم، والرادُّ بتقديم الجار والمجرور علي السلام (2)، وهلا كان رده بتقديم السلام __________ (1) (ظ ود): "السؤال". (2) (ظ ود): "المسلم".

(2/594)


مطابقًا (1) لابتدائه؟. السؤال الثامن: ما الحكمة في كون سلام المبتدئ بلفظ النكرة، وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة؛ وكذلك ما الحكمة في ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة وقي آخرها بالمعرفة، فيقال أولاً: سلام عليكم، وفي انتهاء المكاتبة: والسلام عليكم، وهل هذا التعريف (2) لأجل العهد وتقدُّم السلام، أو لحكمة سوى ذلك؟. السؤال التاسع: ما الفائدة في دخول الواو العاطفة في السلام الآخر، فيقول أولاً: سلامٌ عليكم، وفى الانتهاء: والسلامُ عليكم، وعلى أيِّ شيءٍ هذا العطف؟. السؤال العاشر: ما السرُّ في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم -عليه السلام-، وهل هو كما تقول النحاةُ: إن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة اسمية دالة على ثبوت، وتضمُّن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على الحدوث؟ أم (3) لسر غير ذلك؟. السؤال الحادي عشر: ما السرُّ في نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ورفعه من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55]، وما الفرق (ظ/ 107 أ) بين الموضعين؟. السؤال الثاني عشر: ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله؟ __________ (1) (ظ ود): "مطلقًا". (2) (ظ ود): "التفريق". (3) ليست في (ق).

(2/595)


والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلَّم عليه، فكيف يتصور هذا المعنى في حقِّ الله تعالى؛ وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها. السؤال الثالث عشر: إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم، فما الحكمة في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرة، وشرعَ لعباده أن يسلموا على رسوله (1) بلفظ: المعرفة، فيقولون: "السلامُ عليكَ أيها النبيُّ ورحمة اللهِ وبركاته"، وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين. السؤال الرابع عشر: ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15]، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة بقوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ} [مريم: 33]، وأيُّ السلامين أتم وأعم. السؤال الخامس عشر: ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ ... } (2)، الآية [مريم: 33] مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات، فلو أتى به مطلقًا أَمَا كان أعم؟ فإنَّ هذا التقييد خصَّ السلامَ بهذه الأيام خاصة. السؤال السادس عشر: ما الحكمة في تسليم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على من اتَّبَعَ الهدي في كتاب: هِرَقل (3) بلفظ النكرة، وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة كما جاء في القرآن، وهلاَّ كان سلام النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بلفظ المعرفة ليطابق القرآن، وما الفرق بينهما؟. السؤال السابع عشر: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ __________ (1) (ق): "عليه". (2) الآية ليست في (ق ود). (3) سيأتي تخريجه (2/ 655).

(2/596)


الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] هل هذا سلام من الله تعالى فيكون الكلام قد تضمَّن جملتين طلبيتين، وهي الأمر بقوله (1): {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، وخبرية وهي: سلامه تعالى على عباده، وعلى هذا فيكون من باب عطف الخبر على الطلب. أو هو أمر من الله بالسلام عليهم، وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين؛ أحدهما: قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، والثاني: قوله {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، ويكون كلاهما معمولاً لفعل القول، وأيُّ المعنيين أليق بالآية؟. السؤال الثامن عشر: روى أبو داود في "سننه" (2) من حديث أبي جرَيٍّ (3) الهجَيْمي قال: "أتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: عليكَ السلام يا رسول الله فقال: "لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ، فإنَّ عَلَيْكَ السَلام تَحيّةُ الموْتَى" قال الترمذي (4): "حديث صحيح"، وقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- في السلام على الأموات فعلاً وأمرًا: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْم مؤمنِينَ" (5)، فما وجه هذا الحديث؟ وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة؟. السؤال التاسع عشر: ما وجه دخول الواو (ق / 141 ب)، في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا سَلَّمَ عَلَيكُمْ أهلُ الكِتَابِ فَقْوْلُوا: وَعَلَيْكمْ" (6) وقد __________ (1) (ق): "بقول: الحمد لله". (2) رقم (4084). (3) تحرفت فى (ق)، إلى "جرير"، واسمه: جابر بن سُلَيم. (4) فى "الجامع" رقم (2722)، وفيه: "حسن صحيح"، وانظر ما سيأتي 2/ 630. (5) تقدم تخريجه 1/ 84. (6) أخرجه البخاري رقم (6258)، ومسلم رقم (2163) وغيرهم من حديث أنس -رضي الله عنه-.

(2/597)


استشكل كثيرٌ من الناس أمرَ هذه الواو حتى أنكر بعض الحذَّاق (1) أن تكون ثابتة، قال: لأن: الواو في مثل هذا تقتضي تقريرَ الأول وتصديقه، كما إذا قلت: "زيد كاتب" فقال المخاطَب: وفقيه، فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف "فقيه"، فكيف دخلت في هذا الموضع وما وجهها؟. السؤال العشرون: ما السر في اقتران الرحمة والبركة بالسلام دون غيرهما من الصفات كالمغفرة والبر والإحسان ونحوها؟. السؤال الحادي والعشرون: لِمَ كانت نهاية السلام عند قوله (2): "وبركاته" (ظ/107 ب)، ولم تُشْرَع الزيادة عليه؟. السؤال الثاني والعشرون: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى، وتجريد السلام عن هذه الإضافة، ولم لا أُضْيفت كلها أو جُرِّدت كلها؟. السؤال الثالث والعشرون: ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة، وجمع البركة، وهلَّا جُمِعت كلها أو أفردت كلها (3)؟. السؤال الرابع والعشرون (4): ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمصدر، دون الصلاة في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، ولم يقل: صلوا صلاة؟. السؤال الخامس والعشرون: ما الحكمة في تقديم السلام عليه في __________ (1) (ظ ود): "بعضهم من الحُذَّاق". (2) سقطت من (ق). (3) "وهلا ... " ليست في (ظ). (4) من قوله: "ما الحكمة ... " إلى هنا ساقط من (د).

(2/598)


الصلاة على الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بالصلاة عليه أولاً، ثم أُتبِعَت بالسلام لتصح (1) البداءة بما بدأ اللهُ به من تقديمِ الصلاةِ على السلام؟. السؤال السادس والعشرون: ما الحكمة في كون السلام عليه في الصلاة بصيغة خطاب المواجهة، وأما الصلاة عليه فجاءت بصيغة الغيبة لذكره باسم العلم؟. السؤال السابع والعشرون: -وهو ما جرَّ إليه طَرْدُ الكلام- ما الحكمةُ في كون الثناء على الله ورد بصيغة الغيبة في قولنا: "التحيات لله"، مع أنه سبحانه هو المناجَى المخاطَب الذي يسمع كلامَنا ويرى مكانَنا، وجاء السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيغة الخطاب مع أن الحال كان يقتضي العكس، فما الحكمةُ في ذلك؟. السؤال الثامن والعشرون: -وهو خاتمة الأسئلة- ما السرُّ في كون السلام خاتمة الصلاة وهلاَّ كان في ابتدائها، وإذا كان كذلك؛ فما السر في مجيئه معَرَّفًا وهلاَّ جاء منكَّرًا؟. * * * أما السؤال الأول: وهو ما حقيقة هذه اللفظة؟. فحقيقتُها البراءةُ والخلاص والنجاة من الشرِّ والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفُها، فمن ذلك قولك: "سلَّمك الله"، و"سَلِم فلانٌ من الشر"، ومنه دعاءُ المؤمنين على الصراط: "ربِّ سَلِّم اللهم سَلِّم" (2)، __________ (1) (ق): "ليقع". (2) تقدم تخريجه (1/ 294)، وهو حديث الشفاعة الطويل.

(2/599)


ومنه: "سَلِمَ الشيءُ (ق/142 أ) لفلان"، أي: خَلَص له وحده، فخلص من ضرر الشركة فيه، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] أي: خالصًا له وحدَه لا يملكه معه غيره. ومنه: السّلْم، ضد الحرب، قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] لأن كل واحد من المتحاربين يَخلص ويَسْلم من أذى الآخر، ولهذا يبنى منه على المفاعلة، فيقال: المسالمة، مثل المشاركة. ومنه: القلب السليم، وهو النقي من الغِلّ والدَّغل والعيب (1)، وحقيقته: الذي قد سلِم لله وحده فخَلَص من دغل الشرك وغِلِّتَه، ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صِدق حبه وحسن معاملته، فهذا هو الذي ضَمِن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته، ومنه أُخِذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسَلِم لربه وخَلَصْ له، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاءُ متشاكسون، ولهذا ضربَ سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به. ومنه: السَّلَم للسَّلَفِ (2)، وحقيقته: العِوَض المُسْلَم فيه، لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه، ثم سُمِّي العقد: سَلَمًا، وحقيقته ما ذكرناه. فإنَّ قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ (ظ / 108 أ): سليمًا. قل: ليس هذا بنقضٍ له، بل طرد لما قلناه، فإنهم سموه: سليمًا __________ (1) "الغل"، من (ظ ود)، و"العيب" من (ق). (2) (ق): "السلام" ثم كتب في حاشيتها: "السلم ظ" يعني: الظاهر، وهو الصواب، وتحرّفت في (ظ ود) إلى "السلم للكشف"!.

(2/600)


باعتبار ما يهمه ويطلبه ويرجو أن يؤول إليه حالُه من السلامة، فليس عنده أهم من السلامة، ولا هو أشد طلبًا منه لغيرها، فسُمِّيَ سليمًا لذلك، وهذا من جنس تسميتهم المَهْلَكة: مَفَازَة؛ لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها، أي: نجاته، فسُمِّيت: "مفازة" لأنه يطلب الفوز منها (1)، وهذا أحسن من قولهم: إنما سُمِّيت: مفازة، وسُمِّي اللديغ: سليمًا = تفاؤلاً، وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه، فهو أعم وأحسن. فإن قيل: فكيف يمكنكم رد السُّلَّم إلى هذا الأصل؟. قيل: ذلك ظاهر، فإن الصاعدَ إلى مكان مرتفع لما كان متعرِّضا للهُوِيِّ والسقوط، طالبًا للسلامة راجيًا لها، سُميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه: سُلَّمًا، لتضمنها سلامته، إذ لو صَعِد بتكلُّف (2) من غير سُلَّم لكان عَطَبه متوقعًا، فصح أن السُّلَّم من هذا المعنى. ومنه تسمية الجنة: دار السلام، وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها، فإن تحيتهم فيها "سلام". الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر، والثلاثة متلازمة، وإن كان الثالث أظهرها، فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها، لأُضِيْفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، وكان يقال: دار الرحمن، أو: دار (ق/ 142 ب) الله أو دار المَلِك، ونحو ذلك، فإذا __________ (1) من قوله: "أي نجاته ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من قوله: "لما كان متعرِّضًا ... " إلى هنا مكانه في (ق) آخر الورقة (143/ أ)، والصواب ما في (ظ ود).

(2/601)


عهدت إضافتها إليه، ثم جاء "دار السلام" حملت على المعهود وأيضًا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلِها. أما الأول فنحو: دار القرار، دار الخُلْد، جنة المأوى، جنات النعيم، جنات الفردوس. وأما الثاني: فنحو: دار المتقين ولم يُعهَد إضافتها إلى اسم من: أسماء الله في القرآن، فالأوْلَى حمل الإضافة على المعهود في القرآن. وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين، أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة، وما يُضاف إلى (1) الجنة يكون إلا مختصًّا بها، كالخُلْد والقرار والبقاء. الثانى: أن غير التحية من أوصافها أكمل، مثل كونها دائمة، وباقية، ودار خلْد، والتحيةُ فيها عارضة عند التلاقي والتزاور (2)، بخلاف السلامة من: كلِّ عيبٍ ونقص وشر، فإنها من أكمل أوصافها المقصودة علي الدوام، التى لا يتم النعيم فيها إلا به، فإضافتها إليه أولى، وهذا ظاهر. فصل. وإذا عُرف هذا؛ فإطلاق السلام على الله تعالى اسمًا من أسمائه هو أولى من هذا كله، وأحق بهذا (3) الاسم من كلِّ مسمًّى به، لسلامته -سبحانه- من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سلام سبحانه في ذاتِهِ عن كلِّ عيب ونقص (4) يتخيله وهم، وسلامٌ في صفاته منْ كلِّ __________ (1) (ق): "إليه". (2) من "الثاني ... " إلى هنا سقط من (ظ). (3) (ق): "من هذا". (4) "من كل وجه ... " إلى هنا سقطت من (ق) وتكررت فى (ظ).

(2/602)


عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحقُّ من كل وجه وبكل اعتبار، فعُلِمَ أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه. وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزَّه به نفسه ونزهه به رسوله، (ظ/108 ب) فهو السلامُ من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء، والسَّمِي والمماثل، والسلام من الشريك، وكذلك إذا نظرتَ إلى أفراد صفات كماله، وجدت كل صفة سلامًا مما يضاد كمالها، فحياته سَلام (1) من الموت ومن السِّنَة والنوم، وكذلك قيُّوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شئ عنه أو عروض نسيان أو حاجةٍ إلى تذكُّر وتفكُّر، وإرادته سلام من خروجها على الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صِدْقًا وعدلاً، وغِناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجهٍ ما، بل كلُّ ما سواه محتاج إليه، وهو غنيّ عن كل ما سواه، وملكُه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاود مُظَاهِر أو شافع عنده بدود إذنه، وإلاهيته سلام من كل مشارك له (ق/143 أ)، فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحِلمه وعَفْوه وصَفْحه ومغفرته وتجاوزه سلامٌ من أن تكون عن حاجة منه أو ذُلٍّ أو مُصَانعة كما يكون من غيره، بل هو مَحْض جُوْده وإحسانه وكرمه. وكذلك عذابه وانتقامه وشدةُ بَطْشه وسرعة عقابه سَلامٌ من أن يكون ظلمًا أو تشفِّيًا أو غِلْظة وقسوة، بل هو مَحْض حكمته وعدله __________ (1) سقطت من (ق).

(2/603)


ووضعه الأشياءَ مواضعها، وهو مما يستحق عليه الحمدَ والثناءَ كما يستحقه على إحسانه وثوابه ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع (1) العقوبة لكان مناقضًا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من حمده وحكمته وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته. وقضاؤه وقدره سَلام من العبثِ والجَوْر والظلم، ومِنْ تَوَهُّمِ وقوعِهِ على خلاف الحكمة البالغة، وشرعُه ودينُه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب، وخلاف مصلحة العباد ورحمتِهِم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بلَ شرعه كلُّه حكمة ورحمة ومصلحة وعدل. وكذلك عطاؤه سَلام من كونه معَاوَضة أو لحاجةٍ إلى المعْطَى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه (2) إحسان محض لا لمعاوضةٍ ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز. واستواؤه وعُلُوُّه على عرشه سَلام من أن يكون محتاجًا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه، وحَمَلَته محتاجون إليه، فهو الغنيُّ عن العرش وعن حَمَلَته، وعن كلِّ ما سواه، فهو استواءٌ وعلُوٌّ لا يشوْبه حَصْر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره، ولا (3) إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عَرْش ولم يكن به حاجة إليه، وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجات مُلْكه وقَهْره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره __________ (1) (ق): "مكان". (2) "سلام من ... " إلى هنا سقط من (ظ ود). (3) "غيره ولا" سقطت من (ق).

(2/604)


بوجهٍ ما، ونزولُه كل ليلة إلي سماءِ الدنيا سلام مما يضاد علوَه، وسَلام مما يضاد غِناه وكماله، وسَلام من كلِّ ما يتوهَّم معطِّل أو مشبِّه، وسَلام من أن يصير تحت شيءٍ أو محصورًا في شيء -تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه-. وسمعُه وبصرُه سَلامٌ من كلِّ ما يتخيَّله مشبِّه أو يتقوَّله (ق/143 ب)، معطِّل. وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذُلٍّ كما يوالي المخلوقُ المخلوقَ، بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبرٍّ، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]، فلم (ظ/109 أ) ينفِ أن يكون له ولي مطلقًا، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُل (1). وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سَلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق، من كونها محبة حاجة إليه أو تملُّق له، أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتموَّله المعطلون فيها، وكذلك ما أضافه إلي نفسه من اليد والوجه (2)، فإنه سَلام عما يتخيله مشبِّه أو يتقوله معطِّل. فتأمل كيف تضمن اسمه "السلام" كل ما ينزه عنه تبارك وتعالى، وكم ممن يحفظ هذا الاسم ولا يدري ما تضمَّنه من هذه الأسرار والمعاني، والله المستعان (3) المسؤول أن يوفق لتعليقِ على الأسماء الحسنى على هذا النَّمط إنه قريب مجيب، ولنقطع هاهنا الكلام على السؤال الأول. __________ (1) "فلم ينف ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ظ ود) "الرحمة". (3) ليست في (ق).

(2/605)


فصل (1) وأما السؤال الثاني: وهو هل السلام مصدر أو اسم؟. فالجواب: أن السلامَ الذي هو التحية اسم مصدر من "سلَّم"، ومصدره الجارىِ عليه "تسليم"، كـ "علَّم تعليمًا"، و"فهَّمَ تفهيمًا"، و"كلَّم تكليمًا"، والسلام من "سلَّم"، كالكلام من "كلَّم". فإن قيل: وما الفرق بين المصدر والاسم؟. قلنا: بينهما فرقان، لفظيٌّ ومعنويٌّ. أما اللفظي: فإن المصدرَ هو الجاري على فعله الذي هو قياسه، كالإفعال من "أفعل" والتفعيل من "فعَّل" والانفعال من "انفعل"، والتفعلل من "تفعْلَل "وبابه. وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه لقيل: "تسليم وتكليم". وأما الفرق المعنويُّ: فهو أن المصدر دالٌّ على الحَدَث وفاعله، فإذا قلت: تكليم وتسليم وتعليم (2)، ونحو ذلك، دلَّ على الحدث ومن قدَّم به، فيدل التسليم على السلام والمسلم، وكذلك التكليم التعليم وأما اسم المصدر فإنَّما يدلُّ على الحدث وحدَه، فالسلام والكلام لا يدل (3) لفظُه على مُسَلِّم ولا مُكَلِّم، بخلاف التكليم والتسليم. وسرُّ هذا الفرق أن المصدر فى قولك: "سلَّم تسليمًا" و"كلَّم __________ (1) كلمة "فصل" من هنا إلى السؤال الثاني عشر ليست في (د)، ثم ثبتت إلى آخر الأسئلة. (2) ليست في (ق). (3) (ظ ود): "يدرك".

(2/606)


تكليمًا" بمنزلة تكرار الفعل، فكأنك قلت: "سلَّم سلَّم" و"تكلَّم تكلَّم"، والفعل لا يخلو عن فاعله أبدًا. وأما اسم المصدر؛ فإنهم جرَّدوه لمجرد الدلالة على الحدث، وهذه النكتة من أسرار العربية، فهذا السلام الذي هو التحيَّة. وأما "السلام" الذي هو اسم من أسماء الله؛ ففيه قولان: أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر، وإطلاقه عليه كإطلاق "العدل" عليه، والمعنى: أنه (ق/ 144 أ) ذو السلام وذو العدل، على حذف المضاف. والثاني: أنَّ المصدرَ بمعنى الفاعل هنا، أي: السالم (1) كما سُمِّيت ليلة القدر: "سلامًا"، أىِ: سالمة من كلِّ شرٍّ، بل هي خير لا شرَّ فيها. وأحسن من القولين وأَقْيَس في العربية: أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى، كالعدل، وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبًا عليه مكرَّرًا منه، كقولهم: رجل صَوْم وعَدْل وزَوْر، وبابه. وأما "السلام" الذي هو بمعنى السلامة، فهو مصدر نفسه، وهو مثل الجلال والجلالة، فإذا حذفت "التاء" كان المراد نفس المصدر، وإذا أتيت (2) بالتاء كان فيه إيذان (3) بالتحديد بالمرة من المصدر، كالحبِّ والحبَّة، فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه [تاء] (4) التحديد. والسلامةُ والجلالة والملاحةُ والفصاحةُ __________ (1) (ق): "السلام"!. (2) (ق): "أُتي". (3) في الأصول: "إيذانًا"!. (4) تحرفت في الأصول.

(2/607)


كلُّها تدلُّ على الخصلة الواحدة. ألا ترى أن الملاحة خَصْلة من خصال الكمال، والجلالة خَصْلة من خصال الجلال، ولهذا لم يقولوا: كَمَالة، كما قالوا: مَلاحة وفَصَاحة؛ لأن "الكمال" اسم جامع لصفات الشرف والفضل، فلو قالوا: كمالة، لنقضوا الغرض المقصود من اسم "الكمال"، فتأمَّلْه. وعلى هذا جاء: "الحَلاوة والأصَالة والرَّزانة والرَّجَاحة"؛ لأنها خصلة (1) من مطلق الكمال والجمال محددة، فجاؤوا فيها بـ "التاء" الدالة على التحديد، وعكسه: "الحماقة والرَّقاعة والنَّذالة والسفاهة"، فإنها خصال محددة من مطلق العيب والنقص، فجاؤوا في الجنس الذى يشمل الأنواع بغير "تاء"، وجاؤوا في أنواعه وأفراده بـ "التاء"، وقد تقدَّم تقرير هذا المعنى وإيضاحه (2)، فلا حاجةَ إلى إعادته. فتأمَّل الآن كيف جاء "السلام" (3) مجرَّدًا عن "التاء" إيذانًا بحصول المسمى التام؛ إذ لا يحصل المقصود إلا به، فإنه لو سلم من آفةٍ ووقعَ في آفة، لم يكن قد حصل له السلام، فوضح أن السلام لم يحرج عن المصدريَّة في جميع وجوهه. فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر، ولم يجئ على أصل المصدر؟. قيل: هذا السرُّ بديع، وهو أن المقصود حصول (4) مُسَمَّى السلامة __________ (1) (ق): "خِصال". (2) (ظ ود): "وأيضًا"! وانظر ما تقدم (2/ 470 - 472). (3) (ق): "الإسلام". (4) ليست في (ق).

(2/608)


للمسلَّم عليه على الإطلاق، من غير تقييد بفاعل، فلما كان المراد مطلق السلامة من غير لعرّض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرَّد الفعل، ولم يأتوا بالمصدر الدالِّ على الفعل والفاعل معًا، فتأمله. فصل وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم: "سلام عليكم" هل هو إنشاء أم خبر (1)؟ فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تُناقض جهةَ الإنشائية، وهذا موضعٌ بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح، فنقول: الكلام له نسبتان، نسبة إلى المتَكلِّم به نفسِه (2)، ونسبة إلى المتكلَّم فيه إما طلبًا وإما خبرًا، وله نسبة ثالثة إلى المخاطَب، لا يتعلَّقُ بها هذا الغرض، وإنما يتعلق تحقيقه بالنِّسبتين الأوليين، فباعتبار تينك النسبتين ينشأ التقسيم إلى الخبر والإنشاء، ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان، فله بنسبته إلى قَصْد المتكلِّم وإرادته لثبوتِ مضمونِه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلَّم فيه والإعلام بتحقُّقه في الخارج وصف الإخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع، وتفترقان في موضع، فكلُّ موضع كان المعنى فيه حاصلاً بقصد المتكلِّم وإرادته فقط، فإنه لا يُجامع فيه الخبرُ الإنشاءَ، نحو قوله: بعتك كذا، ووهبتكه، وأعتقت، وطلقت، فإنَّ هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلِّم وقصدِه، فهي إنشاآت، وخبريتها من جهة أخرى، وهي تضمنها إخبار المتكلِّم __________ (1) (ق): "أم طلب أم خبر". (2) (ق): "التكلم نفسه".

(2/609)


عن ثبوت هذه النِّسبة في ذهنه؛ لكن ليست هذه هى الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر، وكل موضع كان المعنى حاصلاً فيه من غير جهة المتكلِّم، وليس للمتكلّم فيه إلا دعاؤه بحصوله ومحبته، فالخبرُ فيه لا يناقض الإنشاء، وهذا نحو: "سلامٌ عليكم"، فإن السلامة المطلوبة (1) لم تحصل بفعل المسلِّم، وليس للمسلِّم إلا الدعاء بها ومحبتها، فإذا قال: "سلامٌ عليكم"، تضمَّن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنِّيها، وكذلك: "ويل له" قال سيبويه: هو دعاء وخبر، ولم يفهم كثير من الناس قولَ سيبويه على وجهه، بل حرَّفوه عما أراده به، وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبَّر هذه النكتة التي لا تجدها محرَّرةً في غير هذا الموضع هكذا (ظ/110 أ)، بل تجدهم يُطلقون تقسيم الكلام إلى خبير وإنشاء من غير تحرير وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما .. وقد عرفت بهذا أن قولهم: "سلام عليكم"، و"ويل له"، وما أشبه هذا، أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو: اللهم سلمة. فصل وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية؟. ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أن المعنى: اسم السلام عليكم، و"السلام" هنا هو الله عز وجل ومعنى الكلام: نزلت بركةُ اسمه عليكم، وحلت عليكم، ونحو هذا، واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم "السلام" دون غيره من الأسماء، لما يأتى في جواب السؤال الذي بعده، __________ (1) (ظ ود) "السلام المطلق به" وهو تحريف.

(2/610)


واحتجَّ أصحابُ هذا القول بحجج، منها: ما ثبت في "الصحيح" (1) أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على الله قبل (2) عباده، السلام على جبريل، السلام على فلان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقولوا: السَّلامُ على اللهِ فإنَّ اللهَ هو السلام، ولكنْ قُولوا: السلامُ عَلَيْك أيُّها النبيّ ورحمة اللهِ وبركاته، السلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالحين"، فنهاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: "السلام على الله"؛ لأن السلام على المسلَّم عليه دعاء له وطلب أن يَسْلَم، والله تعالى هو المطلوبُ منه لا المطلوبُ له، وهو المدعوّ لا المدعوّ له، فيستحيل أن يُسَلَّم عليه، بل هو المسلِّمُ على عباده كما سلَّم عليهم في كتابه حيث يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات: 180 - 181]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]، {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79] {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]، وقال في يحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] وقال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} [هود: 48] ويسلِّم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) (3) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 57 - 58] فـ "قولاً" منصوب على المصدر، وفعله ما تضمَّنه "سلام" من القول؛ لأن السلام قول. وفي "مسند الإمام أحمد" (4) و"سنن ابن ماجه" (5) من حديث __________ (1) البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. (2) كذا فى أكثر الروايات، وفي رواية للبخاري "من"، انظر "الفتح": (2/ 363). (3) الآية ساقطة من (د). (4) لم أجده في "المسند"، وقد عزاه المصنف إلى المسند في حاشيته على أبي داود: (7/ 113) أيضًا. (5) رقم (184).

(2/611)


محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَا أهْلُ الجنَّةِ في نَعيْمهِمْ إذ سَطَعَ لَهم نُوْرٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَرَفَعُوا رُؤوسَهُم فَإذَا الجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ قَدْ أشْرَف عَلَيهِم مِنْ فَوْقِهم وقال: يَا أَهْلَ الجنةِ سَلامٌ عَلَيْكم ثُمَّ قَرَأ قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] ثُمَّ يَتَوارَى عنهم فَتَبْقَى رَحْمَتُه وبَرَكَتُه عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ" (1). وفي "سنن ابن ماجة" (2) مرفوعًا: "أوَّل مَنْ يُسلِّم عَلَيه الحقُّ يومَ القَيَامَةِ عُمَر"، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى، ومحالٌ أن تكون هذه تحية منهم له فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه وقد نُهوا عن ذلك في الدنيا، وإنما هذا تحية منه لهم والتحية هنا مضافة إلى المفعول، فهي التحية التي يُحَيَّون بها لا التحية التي يحيونه هم بها ولولا قوله تعالى في (ق/145 ب) سورة يس: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة، كما قال الله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم وهم في منازلهم من الجنة يدخلون مُسَلِّمين عليهم وأما التحية المذكورة في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] فتلك تحية لهم [وقت] (3) اللقاء، كما __________ (1) وأخرجه البزار "الكشف: 3/ 67"، والآجري في الشريعة": رقم (615)، وغيرهم كما في "الدر المنثور": (5/ 501). وفي سنده الفضل بن عيسى الرقاشي، منكر الحديث، وبه ضعفه الهيثمي في "المجمع": (7/ 98)، والبصيري في مصباح الزجاجة": (1/ 46). (2) رقم (104) والحاكم: (3/ 84)، وابن عدي: (7/ 65) عن أُبي بن كعب، وضعفه البوصيري في "الزوائد": (1/ 46)، وابن القيم في "حاشية علي أبي داود": (7/ 30). (3) في الأصول: "وقيل" والمثبت من "المنبرية".

(2/612)


يُحيى الحبيبُ حبيبَه إذا لقيه، فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ!؟. يَكْفِي الذي غَابَ عنك غَيْبَتُهُ ... فذاك ذَنْبٌ عِقَابهُ فِيْهِ والمقصود: أنَّ اللهَ تعالى يُطْلَب منه السلام، فلا يمتنع في حقه أن يسلِّم على عباده ولا يُطلب له ذلك، فلذلك لا يُسَلَّم عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ هو السَّلام" (1) صريحٌ في كون السلام اسمًا من أسمائه. قالوا: فإذا قال المسلِّم: "سلام عليكم"، كان معناه: اسم السلام عليكم. ومن حُججهم ما رواه أبو داود (2) من حديث ابن عمر أن رجلًا سلَّمَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يَردَّ عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمَّم وردَّ عليه، وقال: "إني كرهتُ أنْ أذكرَ اللهَ إلا على طُهْر"، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن "السلام" ذِكر الله، وإنما يكون ذكرًا له إذا تضمن اسمًا من أسمائه. ومن حججهم أيضًا: أن الكفار من أهل الكتاب لا يُبْدَؤون بالسلام، فلا يقال لهم: سلامُ عليكم. ومعلوم أنه لا يكره أن يقال لأحدهم: سلَّمَكَ الله، وما ذاك إلا لأن السلام اسم من أسماء الله، فلا يسوغ أن يُطْلَب للكافر حصول بركة ذلك الاسم عليه. فهذه __________ (1) تقدم 2/ 611. (2) رقم (330)، والنسائي: (1/ 35 - 36)، والطيالسي رقم (1851) من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع عن ابن عمر بنحوه، وفي لفظه نكارة، ذكره أبو داود عن الإمام أحمد. وله شاهد من حديث المهاجر بن قنفذ، أخرجه أبو داود رقم (17)، والنسائي: (1/ 37)، وابن ماجه رقم (350)، والحاكم: (1/ 167)، وابن خزيمة رقم (206)، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (834).

(2/613)


حججٌ كما ترى قوية ظاهرة. القول الثاني: أن السَّلام مصدر بمعنى السلامة، وهم المطلوب المدعوّ به عند التحية. ومن حُجَّة أصحاب هذا القول أنه يُنكَّر بلا ألف ولام (1)، بل يقول المسلِّم: "سلام عليكم"، ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك، بل كان يطلق عليه معرَّفًا، كما يُطلق علي سائر أسمائه الحسنى، فيقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى مُعيَّن فضلًا عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى. ومن حُجَجهم أيضًا: إن عطفَ الرحمة والبركة عليه في قوله: "سلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، يدل على أن المراد به المصدر، ولهذا عطف عليه مصدرين مثله. ومن حُجَجهم أيضًا: أنه لو كان السلام (ق/146 أ) هنا اسمًا من أسماء الله، لم يستقم الكلام إلا بإضمار وتقدير يكون به مُقيدًا، ويكون المعنى بركة اسم السلام عليكم، فإن الاسم نفسه ليس عليهم، ولو قلت: اسم الله عليك، كان معناه: بركة هذا الاسم عليك، ونحو ذلك من التقدير، ومعلوم أن هذا التقدير خلاف الأصل، ولا دليل عليه. ومن حُجَجهم أيضًا: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان (2) بالسلامة خبرًا ودعاءً، كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا ولهذا كان السلام أمانًا، لتضمُّنِه معنى __________ (1) "ولام" ليست في (ق). (2) (ق): الإيذان منه".

(2/614)


السلامة، وأَمْن كل واحد من المسلِّم والرَّاد عليه من صاحبه. قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وحُذِفت تاؤه؛ لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه، و"التاء" تفيد التحديد كما تقدَّم. وفَصْلُ الخطاب في هذه المسألة أن يُقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصوابُ في مجموعهما، وإنما يتبيَّن ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارًا، وهي: أن مِن دعاءِ الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله (1) متوسل إليه به، فإذا قال: "ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إِنك أنت التواب الغفور"، فقد سأله أمرين، وتوسَّل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه، وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ظ/ 111 أ) لعائشة -رضي الله عنها- وقد سألته ما تدعو به إن وأفقت ليلة القدر؛ "قولي: اللهم إنَّك عَفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني" (2)، وكذلك قوله للصديق -رضي الله عنه- وقد سأله أن يعلِّمه دعاءً يدعو به: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفرْ لى مغفرةً من عندكَ وارحمني إنَّك أنتَ الغفورُ الرَّحيم" (3)، وهذا كثير جدًّا، فلا نطول بإيراد شواهده. __________ (1) (ظ ود): "مستشفع إليه ... ". وانظر ما تقدم (1/ 281، 289). (2) أخرجه الترمذي رقم (3513)، وابن ماجه رقم (3850)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (872)، وأحمد في "المسند": (6/ 171) وغير موضع، والحاكم في "المستدرك": (1/ 530). قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (3) أخرجه البخاري رقم (834)، ومسلم رقم (2705).

(2/615)


وإذا ثبت هذا؛ فالمقام لما كان مقامَ طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل، أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله، وهو السلام الذي يطلب منه السلامة فتضمن لفظ "السلام" معنيين؛ أحدهما: ذكر الله كما في حديث ابن عمر (1) والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلِّم، فقد تضمَّن "سلام عليكم" اسمًا من أسماء الله تعالى وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة. (ق/146 ب) وقريب من هذا (2) ما رُوِيَ عن بعض السلف (3) أنه قال في "آمين": أنه اسم من أسماء الله تعالى، وأنكرَ كثيرٌ من الناس هذا القول، وقالوا: ليس في أسمائه "آمين"، ولم يفهموا معنى كلامه، فإنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى، فإن معناها استجِبْ وأعط ما سألناك (4)، فهي متضمنة لاسمه مع دلالتها على الطلب، وهذا التضمن في "سلام عليكم" أظهر، لأن "السلام" من أسمائه تعالى، فهذا كشف سر المسألة, والله أعلم. فصل إذا عُرِفَ هذا؛ فالحكمة في طلبه عند اللقاء دون غيره من الدعاء: أن عادة الناس الجارية بينهم أن يُحَيّي بعضُهم بعضًا عند __________ (1) المتقدم. (2) (ق): "منها". (3) جاء تفسيره بذلك عن عدد من السلف منهم أبو هريرة ومجاهد وهلال بن يِسَاف وحكيم بن جُبَير. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (2/ 188)، وعبد الرزاق: (2/ 99)، وانظر "الدر المنثور": (1/ 45) و"تفسير ابن كثير": (1/ 33). (4) (ق): "سألتك".

(2/616)


لقائه (1)، وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظٌ وأمورٌ اصطلحوا عليها، وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية: "أنعم صباحًا" و"انعموا صباحًا"، فيأتون بلفظة "أنعموا" من النَّعمة -بفتح النون- وهي طِيْب العيش والحياة، ويَصِلُونها بقولهم: "صباحًا"! لأن الصباح أول النهار، فإذا حَصَلت فيه النَّعمة استصحبَ حكمها واستمرت اليوم كلَّه، فخصُّوها بأوله إيذانًا بتعجيلها وعدم تأخيرها إلى أن يَتَعَالَى النهار، وكذلك يقولون: "أنعموا مساءً"، فإن الزمان هو صباح ومساء، فالصباح من أوَّل النهار إلى بعد انتصافه، والمساء من بعد انتصافه إلى الليل، ولهذا لِقول الناس: "صبَّحك الله بخيرٍ ومسَّاك الله بخير"، فهذا هو معنى "أنعم صباحًا ومساء" إلا أن فيه ذكر الله. وكانت الفرسُ يقولون في تحيتهم: "هزار سال بيمائي" (2) أي: تعيش ألف سنة، وكل أمة لهم تحية من هذا الجنس أو ما أشبهه، ولهم تحية يخصُّون بها ملوكَهم من هيئات خاصَّة عند دخولهم عليهم؛ كالسجود ونحوه، وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السُّوْقة، وكلُّ ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها، ولهذا سُمِّيت تحية، وهى "تفعلة" من الحياة كـ "تكرمة" من الكرامة، لكن أُدْغِم المثلان فصار "تحية"، فشرع الملك القدوسُ السلامُ -تبارك وتعالى- لأهل الإسلام تحيتهم بينهم "سلام عليكم"، وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو مُحَال وكذب، نحو قولهم: تعيش ألف سنة، وما هو قاصر المعنى مثل قولهم: "انعم صباحًا"، __________ (1) (ق): "اللقاء". (2) تحرفت في الأصول، ومعنى "هزار سال": ألف سنه، و"بيمائي": تقطع أو تعيش، وانظر: "اللسان": (12/ 217).

(2/617)


ومنها ما لا ينبغي إلا لله، مثل: السجود، فكانت التحية بالسلام أَوْلى من ذلك كلِّه، لتضمنها السلامةَ التي لا حياةَ ولا فلاحَ إلا بها، فهي الأصل المقدَّم على كلِّ شيءٍ. ومقصود (ق / 147 أ): العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين، بسلامته من الشروط (ظ / 111 ب)، وحصول الخير كله، والسلامة من الشر مُقَدَّمة على حصول الخير، وهي الأصل، ولهذا إنما يهتم الإنسان، بل كُلُّ حيوان بسلامته أولًا ثم غنيمته ثانيًا، على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير، فإنه لو فاته حَصَل له الهلاك والعَطَب أو النقص والضعف، ففوات الخير يَمْنع حصولَ السلامة المطلقة، فتضمَّنت السلامة نجاتَه من كلِّ شرٍّ (1) ودوره بالخير، فانتظمت الأصلين اللذين لا تتم الحياةُ إلا بهما، مع كونها مشتقة من تسمه "السلام" ومتضمنة له، وحُذِفت "التاء" منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا "السلامة" الواحدة، ولما كانت الجنة دار السلامة من كلِّ عيب وسرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمت من كلِّ ما ينْغِّص (2) العيشَ والحياة، كانت تحيةُ أهلها فيها "سلام"، والربُّ يحييهم فيها بالسلام، والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ بابٍ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 24] فهذا سرٌّ التحية بالسلام. عند اللقاء. وأما عند المكاتبة؛ فلما كان المتراسلان كل منهما غائبًا عن الآخر، ورسوله إليه وكتابه يقوم مقام خطابه له، استعمل في مكاتبته له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه، لقيام الكتاب مقام الخطاب. __________ (1) (د): "سوء". (2) (ق): "ينقص".

(2/618)


فصل وأما السؤال الخامس: وهو تَعْدية هذا المعنى بـ "على". فجوابه بذكر مقدمة، وهي: ما معنى قوله: "سلمت"؟ فإذا عُرِف معناها عُرِف أن حرف "على" أليق به، فاعلم أن لفظ "سلمت عليه" و"صليت عليه" و"لعنت فلانًا" موضوعها ألفاظ هي جُمَل طلبية، وليس موضوعها معاني مفردة فقولك: "سلمت" موضوعه: قلت: "السلام عليك" وموضوع "صليت عليه" قلت: "اللهم صل عليه" أو "دعوت له"، وموضوع "لعنته، قلت: "اللهم العنه". ونظير هذا "سبحت الله" قلت: "سبحان الله"، ونظيره -وإن كان مشتقًا من لفظ الجملة- "هلَّل" إذا قال "لا إله إلا الله"، و"حَمْدَل" إذا قال: "الحمد لله"، و "حوقل" إذا قال "لا حول ولا قوة إلا بالله"، و"حيعل" إذا قال: "حيَّ على الصلاة"، و"بَسْمل" إذا قال: "بسم الله" قال (1): وَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيلَى غَداةَ لَقِيْتُها ... أَلا حَبَّذَا ذَاكَ الحبيبُ المبَسْمِلُ وإذا ثبت هذا؛ فقولك: "سلَّمت عليه"، أي: ألقيت عليه هذا اللفظ وأوقعته عليه إيذانًا باشتمال معناه عليه. كاشتمال لباسه عليه، وكان حرف "على" أليق الحروف (2) به، فتأمله. وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ (ق/147 ب) الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90، 91]، فليس هذا بسلام تحية، ولو __________ (1) البيت لعمر بن أبى ربيعة، "ديوانه": (ص / 320)، وذكر أنه منسوب إليه. (2) ليست في (ق).

(2/619)


كان تحية لقال: "فسلام عليه" كما قال: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله، فذكر أنهم ثلاثة أقسام؛ مقرَّب له الرَّوْح والريحان وجنة النعيم، ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة، ووعد المقرَّب بالغنيمة والفوز، وإن كان كل واحد منهما سالمًا غانمًا. وظالمٌ بتكذيبه وضلاله فأَوْعَدَه بنُزُلٍ من حميم وتَصلِية جحيم، فلما لم يكن المقام مقام تحية، وإنما هو مقام إخبار عن حاله، ذكرَ ما يحصل له من السلامة. فإن قيل: فهذا فرق صحيح؛ لكن ما معنى (ظ/112 أ) اللام في قوله: "لك"، ومن هو المخاطَب بهذا الخطاب؛ وما معنى حرف "من" في قوله: مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؟ فهذه ثلاثة أسئلة في الآية. قيل: قد وفَّينا -بحمد الله- بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود، وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودِنا، ولكن نجيب عنها إكمالًا للفائدة بحول الله وقوته وإن كنا لم نرَ أحدًا من المفسِّرين شَفَى في هذا الموضع [الغليل] (1) ولا كشفَ حقيقة المعنى واللفظ، بل منهم من يقول: المعنى فمسلم (2) لك إنك من أصحاب اليمين، ومنهم من يقول غير ذلك، مما هو حَوْم على معناها من غير ورود. فاعلم أن المدعوّ به من الخير والشر مُضَاف إلى صاحبه بلام __________ (1) من "المنيرية". (2) كذا في (ظ ود والمنيرية) و (ق): "فسلام".

(2/620)


الإضافة الدالة على حصوله له، ومن ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25]، ولم يقل: "عليهم اللعنة" إيذانًا بحصول معناها وثبوته لهم، وكذلك قوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18] ويقول في ضِدِّ هذا: لك الرحمة، ولك التحية، ولك السلام، ومنه هذه الآية: {فَسَلَامٌ لَكَ} [الواقعة: 91] أي: ثبتَ لك السلام وحصل لك. وعلى هذا؛ فالخطاب لكل من هو من هذا الضَّرب، فهو خطاب للجنس، أي: فسلامٌ لك يا مَن هو من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئًا لك يا من هو منهم، ولهذا -والله أعلم- أتى بحرف "من" في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91] والجار والمجرور في موضع حال، أي: سلامٌ لك كائنًا من أصحاب اليمين (1)، كما تقول: هنيئًا لك من اتباع (2) رسول الله وحزبه أي: كائنًا منهم، والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال، كما تقول: أحببتكَ من أهل الدين والعلم، أي: كائنًا منهم (3)، فهذا معنى هذه الآية، وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير؛ فقد حامَ عليه منهم من حامَ، وما وردَ ولا كشف المعنى ولا أوضحَه فراجع ما قالوه، والله الموفق المانُّ بفضله. (ق/148 أ) فصل وأما السؤال السادس: وهو ما الحكمة في الابتداء بالنكرة هاهنا، __________ (1) من قوله: "الجار والمجرور .. " ساقط من (ق). (2) (ق): "أصحاب". (3) من قوله: "الجار والمجرور ... " ساقط من (ق).

(2/621)


مع أن (1) الأصل تقديم الخبر عليها؛ فهذا سؤالٌ قد تضمن سؤالين؛ أحدهما: حكمة الابتداء بالنكرة في هذا الموضع. الثاني: أنه إذ قد ابتدئ بها فهلَّا قدَّمَ الخبرَ على المبتدإ، لأنه قياس الباب، نحو: "في الدار رجل"؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إن النحاة قالوا: إذا كان في النكرة معنى الدعاء مثل: "سلام لك (2) وويل له" جاز الابتداء بها؛ لأن الدعاء معنى من معاني الكلام، فقد تخصصت النكرةُ بنوع من التخصيص فجاز الابتداء بها، وهذا كلام لا حقيقةَ تحتَه، فإن الخبر أيضًا نوع من أنواع الكلام، ومع هذا فلا تكون جهة الخبر مسوِّغة للابتداء بالنكرة، فكيف تكون جهة الدعاء مسوغة للابتداء بها؟ وما الفرقُ بين كون الدُّعاء نوعًا، والخبر نوعًا، والطلب نوعًا؛ وهلا يُفيد ذلك تعيين مسمَّى النكرة [حتى] يصلح الإخبار عنها؟ فإن المانع من الإخبار عنها ما فيها من الشّياع والإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطَب في ذهنِه حتى يستفيد نسبة الإسناد الخبري إليها، ولا فرقَ في ذلك بين كون الكلام دعاءً أو خبرًا وقول من قال: إن الابتداء بالنكرة إنما (ظ/112 ب) امتنع حيث لا يفيد، نحو: "رجل في الدنيا" و "رجل مات" ونحو ذلك، فإذا أفادت جازَ الابتداءُ بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعدد = أحسنُ (3) من تقييد ذلك بكون الكلام دعاء أو في قوة الكلام آخر، وغير ذلك [من] الضوابط المذكورة، وهذه طريقةُ إمام النحو سيبويه فإنه في "كتابه" لم يجعل __________ (1) (ق): "كون". (2) (ق): "عليك". (3) متعلق بقوله: "وقول من قال".

(2/622)


للابتداءِ بها ضابطًا ولا حصره بعدد، بل جعل مناط الصحة الفائدة، وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه، وكل من تكلَّف ضابطًا، فإنه تَرِدُ عليه ألفاظ خارجة عنه، فإما أن يتمحَّل لردها إلى ذلك الضابط، وإما أن يفردها بضوابط أُخَر، حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطًا، وربما زاد غيره عليها! وكلُّ هذا تكلُّف لا حاجة إليه واسترحتَ من: "شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَاب" (1) وبابه. فإن قلت: فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم؟. قلت: اسمع الآن قاعدةً جامعة في هذا الباب، لا يكاد يشذ عنها شيء منه: أصل المبتدأ أن يكون معرفةً أو مخصوصًا بضرب من ضروب التخصيص، بوجهٍ تحصل الفائدة من الإخبار عنه، فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها، فلا يُخْبر عنه إلا أن يكون الخبر (ق/148 ب) مجرورًا مفيدًا معرفة مقدَّمًا عليه بهذه الشروط الأربعة؛ لأنه إذا تقدَّم وكان معرفة صار كأن الحديث عنه، وكأن المبتدأ المؤخر خبر (2) عنه. ومثال ذلك إذا قلت: "عَلَى زيدٍ دَيْن" فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك: "زيد مديان أو مَدِين"، فمحطُّ الفائدة هو الدين، وهو المستفاد من الإخبار، فلا تنحس في قيود الأوضاع، وتقول: "على زيد" جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ؟ فأنت تراه هو المُخْبَر عنه في __________ (1) من أمال العرب، انظر "مجمع الأمثال": (2/ 172)، والمعنى: ما أهرَّ ذا نابٍ إلا شرٌّ، وأهرَّ: من الهرير وهو صوت السَّبُع، وذا ناب: هو السبع. والمثل محرف في الأصول. (2) ليست في (ق).

(2/623)


الحقيقة، وليس المقصود الإخبار عن الدَّين بل عن زيد بأنه مِدْيان، وإن كَثُف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر، وإن لم يكن الخبر مفيدًا لم تفد المسألة شيئًا وكان لا فرقَ بين تقديم الخبر وتأخيره، كما إذا قلت: "في الدنيا رجل" كان في عدم الفائدة بمنزلة قولك: "رجل في الدنيا"، فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديمٍ ولا تأخير، وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد، ومثل هذا قولك: "في الدار امرأة"، فإنه كلام مفيد؛ لأنه بمنزلة قولك: "الدار فيها امرأة"، فأخبرتَ عن الدار بحصولِ المرأة فيها في اللفظ والمعنى، فإنك لم تُرِد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار، ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المُخْبر عنه أولًا ثم أسندت إليه الخبر، وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة وأنها اشتملت على امرأة، فهذا القدر هي الذي حَسَّن الإخبار عن النكرة هاهنا، فإنها ليس خبرًا عنها في الحقيقة، وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدِّمة، فهذا حقيقةُ الكلام، وأما تقديُره الإعْرابيُّ النحويُّ فهو: أن المجرور خبر مقدَّم والنكرة مرفوعة بالابتداء. فإن قلت: فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ فلا تقول: "امرأة في الدار" و"دَيْن على زيد"؟. قلت: لأن النكرة تطلب الوصف طلبًا حثيثًا، فيسبق (ظ/113 أ) الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبرٌ عنها؛ إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصفِ لها، فيبقى الذهن متطلِّعًا إلى ورود الخبر عليه، وقد سبق إلى سمعه ولكن لم يتيقن أنه الخبر، بل يجوز أن يكون وصفًا فلا تحصل به الفائدة، بل يبقى في أَلَمِ الانتظار للخبر والترقُّب له، فإذا قدَّمت الجارَّ والمجرور عليها استحال أن

(2/624)


يكون وصفًا لها؛ لأنه لا يتقدَّم موصوفَه، فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدَّم هو الخبر، والحديث عن النكرةِ (ق/149 أ)، وهو محط الفائدة. إذا عرفت هذا؛ فمن التخصصات المسوِّغة للابتداء بها أن تكون موصوفة، نحو: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] أو عامة، نحو: "ما أحدٌ خيرٌ من رسول الله"، و "هل أحدٌ عندك". ومن ذلك: أن تقعَ في سِيَاق التفضيل، نحو قول عمر: "تمرةٌ خير من جرادة" (1)، فإن التفضيل (2) نوع من التخصيص بالعموم، إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس؛ بل المراد: أن هذا الجنس خير من هذا الجنس، وأتى بالتاء الدالة على الوحدة، إيذانًا بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد من أفراد الجنس، ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] "فإنه قدَّرَه: طاعة أمثل (3)، وقول معروف أَشْبه وأَجْدر بكم، وهذا أحسن من قول بعضهم: أن المسوِّغ للابتداء بها هاهنا العطف عليها؛ لأن المعطوف عليها موصوف، فيصح الابتداء به، وإنما كان قول سيبويه أحسن؛ لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها، ولو قلت: "طاعة أمثل" لساغَ ذلك وإن لم يُعْطف عليها. ومنه: وقوع النكرة في سياق تفصيلٍ بعد إجمال، كما إذا قلت: "اقْسِم هذه الثياب بين هؤلاء؛ فثوب لزيد، وثوب لعَمْرو، وثوب لبكر"، فإن النكرة هاهنا تخصَّصت وتعيَّنت وزال إبهامها وشياعها في __________ (1) أخرجه عبد الرزاق: (4/ 410)، وابن أبي شيبة: (3/ 425). (2) من قوله: "نحو قول ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) "الكتاب": (1/ 141).

(2/625)


جنس الثياب بل تخصصت بتلك الثياب المعيَّنة؛ فكأنك قلت: ثوب منها لزيد، وثوب منها لعَمرو، وهذا تقييد وتخصيص. ومنه: الابتداء بالنكرة إذا لم يكن الكلام خبرًا محضًا، بل فيه معنى التزكية والمدح، فمن ذلك قولهم: "أَمْتٌ في الحَجَر لا فيك" (1)، لأنهم لم يقولوا: "أَمْتٌ في الحجر" وسكتوا حتى قرنوه بقولهم: "لا فيك"، فصار معنى الكلام: "نِسْبة الأَمْت إلى الحجر أقرب من نسبته إليك، والأَمْت بالحجر أَلْيَق به منك"؛ لأنهم أرادوا تزكية المخاطَب ونفي العيب عنه، ولم يريدوا الإخبار عن "أمت" بأنه في الحجر، بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطَب معًا، إلا أن نفيه عن المخاطَب أوكد، وإذا دخلَ الحديثُ معنى النفي فلا غَرْوَ أن يبتدأ بالنكرة لما فيه من العموم والفائدة. ومن هذا قولهم: "شَرٌ أَهَرَّ ذَا نَاب" (2) وفيه تقديران؛ أحدهما: أنه على الوصف، أي شرٌّ عظيم أو شرٌّ مَخُوف أَهَرَّه. والثاني: أنه في معنى كلام آخر وهو: ما أَهَرَ ذا نابٍ إلَّا شرٌّ، أو: إنما أَهَرَّه شَرٌّ. ولا ريبَ في صحة المسألة على وجه الفاعلية، فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه. ومنه (ق/149 ب) قولهم: "شرٌّ ما جاءَ به"؛ لأن معنى الكلام: ما جاء به (3) إلَّا شرٌّ، فأدت "ما" الزائدة هنا معنى (4) شيئين: النفي __________ (1) انظر: "اللسان": (5/ 2). (2) انظر ما تقدم (2/ 623). (3) "لأن معنى الكلام: ما جاء به" ساقط من (د). (4) ليست في (ق).

(2/626)


والإيجاب، كما (ظ/113 ب) أدته في قولك: "إنما جاءَ به شرٌّ" وفي قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} [البقرة: 88] أي: ما يؤمنون إلا قليلًا، وقليلًا ما يذكرون. وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13] أي: ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، ونحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أي: ما لنت لهم إلا برحمة من الله ولا يُسْمع قول من يقول من النحاة: أن "ما" زائدة في هذه المواضع، فإنه صادر عن عدم تأمُّل. فإن قيل: فمن أين لكم أفادت "ما" هذه المعنيَيْنِ المذكورَيْن؛ النفي والإيجاب، وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لمتُفد إلا معنًى واحدًا وهو النفي، فإذا لم يكن النفي صريحًا فيها، كيف تُفِيد معنيين؟!. قيل: نحن لم ندَّع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجرَّدها، ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفَّة بها في الكلام. أما قولهم: "شرٌّ ما جاءَ به"، فلما انتظمت مع الاسم النكرة -والنكرةُ لا يُبْتَدأُ بها- فلما قصد إلى تقديمها عُلِم أن فائدة الخبر مخصوصة بها، وأكد ذلك التخصيص بـ "ما" وانتفى الأمر عن غير هذا الاسم المبتدأ، ولم يكن إلَّا له، حتى صار المخاطَب يفهم من هذا ما يفهم من قوله: "ما جاء به إلَّا شر"، واستغنوا هنا (1) بـ "ما" ما هذه عن "ما" النافية، وبالابتداء بالنكرة عن "إلا". وأما قولك "إنما زيد قائم" فقد انتظمت بـ" أن" وامتزجت معها وصارتا كلمة واحدة و"أن" تعطى الإيجابَ الذي تعطيه "إلا" وما __________ (1) (ق): "عنها".

(2/627)


تعطي النفي، ولذلك جاز: "إنما يقوم أنا"، و "أنا" لا تكون فاعله إلا إذا فُصلت من الفعل بـ "إلَّا"، تقول: "ما يقوم إلا أنا" ولا تقول: "يقوم أنا"، فإذا قلت: "إنما قام أنا" (1)، صرتَ كأنكَ قلت: لفظت بـ"ما" مع "إلا" قال (2): أُدَافِعُ عَنْ أَعْرَاضِ قَوْمي وإِنَّما ... يُدَافِعُ عَنْ أَعْرَاضِهم أَنا أو مِثْلي فإذا عرفتَ أن زيادتها مع "أن" واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجرِّ من قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ} [آل عمران: 159] و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13]، وتأمَّل كيف تجد الفرقَ بين هذا التركيب وبين أن يقال: "فبرحمة من الله" و"فبنقضهم ميثاقهم" وإنك تفهم من تركيب الآية: ما لنت لهم إلا برحمةٍ من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، وكذلك قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، دلَّت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقّه (ق/150 أ) التأخير من المعمول، وارتباط ما به مع تقديم (3)، كما قُرر في قولهم: "شرٌّ ما (4) جاء به"، وقد بسطنا هذا في "كتاب الفتح المكي"، وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرفٌ زائد، وتكلَّمنا على كلِّ ما ذكر في ذلك، وبيَّنا أنَّ كلَّ لفظةٍ لها فائدة متجددة زائدة (5) على أصل التركيب، ولا يُنْكَر __________ (1) من قوله: "لا تكون فاعلة ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود)، و (ق): "وإنما قمت"، والمثبت من "المنيرية". (2) البيت للفرزدق، "ديوانه" (ص/ 546) من قصيدة يهجو بها جريرًا. (3) (ظ ود): "ما به مع تقديمه" و (د): "من" بدلًا من "مع". (4) محرفة في الأصول. (5) (ق): "مجددة لا زائدة ... "!.

(2/628)


جَرَيان القلم إلى هذه الغاية، وإن لم يكن من غرضنا، فإنها أهمّ من بعضِ ما نحن فيه وبصدده (1). فلنرجع إلى المقصود، فنقول: الذي صحَّحَ الابتداء بالنكرة في "سلام عليكم": أنَّ المسلِّم لما كان داعيًا، وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء، صارَ هو المقصود المهتمّ به، وتنزَّل منزلةَ قولك: "أَسأل اللهَ سلامًا عليكم"، أو "أطلب من الله سلامًا عليك"، فالسلام نفى مطلوبك ومقصودك، ألا ترى أنك لو قلتَ: "أسأل الله عليك سلامًا" لم يجز، وهذا في قوَّته ومعناه فتأمله، فإنه بديع جدًّا. فإن قلتَ: فإذا كان في قوَّته، فهَلاَّ كان منصوبًا، مثل: "سقيًا ورعيًا"؛ لأنه في معنى: "سقاك الله"، و"رعاك رعيًا"؟. قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين (ظ / 114 أ) سلام إبراهيم وسلام ضيفه إن شاء الله. وأيضًا فالذي حَسَّن الابتداء بالنكرة هنا: أنها في حكم الموصوفة؛ لأن المسلِّم إذا قال: "سلامٌ عليكم"، فإنما مراده: سلامٌ مني عليك، كما قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48]، ألا ترى أن مقصود المسلِّم إعلام من سلَّمَ عليه بأن التحيةَ والسلامَ منه نفسه، لما في ذلك من حُصُول مقصود السلام من التَّحَابّ والتوادّ والتعاطف، فقد عرفتَ جواب السؤالين: لِمَ ابتُدِئَ بالنكرةِ، ولِمَ قُدِّمت على الخبر، بخلاف الباب في مثل ذلك، والله أعلم. فصل وأما السؤال السابع، وهو أنه لِمَ كان في جانب المسلِّم تقديم __________ (1) (ق): "ما نحن بصدده".

(2/629)


السلام، وفي جانب الرَّاد تقديم المسلّم عليه؟ فالجواب عنه: أنَّ في ذلك فوائد عديدة: أحدها: الفرق بين الرد والابتداء، فإنه لو قال له في الرد: السلام عليكم أو سلام عليكم، لم يعرف أهذا ردٌّ لسلامِهِ عليه أم ابتداء تحيةٍ منه، فإذا قال: عليك السلام، عرف أنه قد ردَّ عليه تحيَّتَه، ومطلوبُ المسلِّم من المسلَّم عليه أن يردَّ عليه سلامَه، ليس مقصوده أن يبتدئه بسلام كما ابتدأه به، ولهذا السر -والله أعلم- نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلم عليه بقوله: "عليك السلام" عن ذلك، فقال: "لا تَقُلْ: عليكَ السلام فإن عليْكَ السلام تَحِيَّة المَوْتَى" (1)، وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه (2). أفلا ترى كيف نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) عن ابتداء السلام بصيغة الردِّ التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام، وليس (ق/ 150 ب) في قوله: "فإنَّها تحيةُ الموتى" ما يدل على أن المشروع أن تُحيي الموتى كذلك كما سنذكره إن شاء الله، وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرقَ بين سلام المبتدئ وسلام الرّادّ، خصُّوا المبتدئَ بتقديم السلام لأنه هو المقصود، وخصُّوا الرادَّ بتقديم الجارِّ والمجرور. الفائدة الثانية: وهي أن سلامَ الرادّ يجري مجرى الجواب، ولهذا يُكْتَفى فيه بالكلمة المفردة الدالّة على أختها، فلو قال: "وعليك " __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (4084)، والترمذي رقم (2722)، وأحمد في "المسند": (5/ 63) من حديث أبي جُرَيّ الهُجَيمي، (قال الترمذي): "حسن صحيح"، وصححه الحافظ ابن حجر في "الفتح": (11/ 5). (2) (2/ 660). (3) من قوله: "المسلّم عليه ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(2/630)


لكان متضمِّنًا للرد كما هو المشروع في الردِّ على أهل الكتاب، مع أنا مأمورون أن نردّ على من حيَّانا بتحية (1) مثل تحيته، وهذا من باب العدل الواجب لكلِّ أحد، فدلَّ على أن قول الرادّ "وعليك" مماثل لقول المسلم: "سلام عليك"، لكن أعتمد في حق المسلم إعادةَ اللفظ الأوَّل بعينه، تحقيقًا للمماثلة، ودفعًا لتوهُّم المسلِّم عدم ردّ تحيته عليه، لاحتمال أن يردّ عليك شيئا آخر. وأما أهل الكتاب؛ فلمَّا كانوا يحرِّفون السلام، ولا يعْدِلون فيه، وربما سلَّموا سلامًا صحيحًا غير محرَّف، ويشتبه الأمر في ذلك على الراد، نُدِب إلى اللفظ المفرد المتضمِّن لردِّه عليهم نظير ما قالوه، ولم تُشْرع له الجملة التامة، لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا، ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل الإسلام، ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم، لأجلِ تحريفِ الكافرِ له، وإما أن يرد سلامًا صحيحًا غير محرَّف مع كون المُسَلِّم محرِّفًا للسلام، فلا يستحق الردَّ الصحيح، فكان العدول إلى المفرد، وهو "عليك" هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله. فتأمل هذه الفائدة البديعة. والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك: (ظ / 114 ب) "وعليك"، وإنما كُمِّل تكميلًا للعدل وقطعًا للتوهُّم. الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدَّم: أن المسلّم لما تضمَّن سلامه الدعاء للمسلَّم عليه بوقوع السلامة عليه وحلولها عليه، وكان الردُّ متضمِّنًا لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به، فإنه إذا قال: "وعليك السلام" كان معناه وعليكَ من ذلك مثل ما طلبتَ لي، __________ (1) (ق): "فنجيبه".

(2/631)


كما إذا قال: "غفرَ الله لك"، فإنك تقول: "ولك يغفر"، ويكون هذا أحسن من قولك: "وغفر لك"، وكذا إذا قال: "رحمة الله عليك" تقول: "وعليك"، وإذا قال: "عفا الله عنك" تقول: "وعنك"، وكذلك نظائره؛ لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعوّ له للدَّاعي في ذلك الدعاء، لا إلى إنشاء دعاء مثل دعائه، فكأنه قال: ولك أيضًا، وعنك أيضًا، أي: وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه (ق / 151 أ)، لا أنفردُ به عنكَ ولا أختصُّ به دونك. ولا ريبَ أن هذا المعنى يستدعي. تقديم المشارك المساوي فتأمله. فصلٌ (1) وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة؛ فتقول: "سلام عليكم" فيقول الرادُّ: "وعليك السلام "؟. فهذا سؤال متضمن لمسألتين: إحداهما: هذه. والثانية: اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها، والجواب عنهما بذكر أصلٍ نُمَهِّده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام، وهو: أن السلام دعاءٌ وطلب، وهُم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة، إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول: "ويل له"، ومن الثاني: "خيبة له" و"جدعًا" و"عقرًا" و"تربًا" و" جَنْدلًا"، هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له: "سقيًا" و"رعيًا" و"كرامة" و"مسرَّة"، فجاءَ "سلام عليكم" بلفظ النكرة كما جاءت سائر ألفاظ الدعاء. وسرُّ ذلك: أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا __________ (1) النص في هذا الفصل مضطرب في نسخة (ظ ود) إلى "الفائدة الثالثة".

(2/632)


ترى أن "سقيًا ورعيًا وخيبة" جرى مجرى: "سقاك الله" و"رعاك" و"خيَّبَك"، وكذلك: "سلام عليك" جارٍ مجرى: "سلَّمكَ الله"، والفعل نكرة، فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرة مثله. وأما تعريف السلام في جانب الرادّ؛ فنذكر -أيضًا- أصلًا يُعْرَف (1) به سره وحكمته، وهو: أن "الألف واللام" إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربع فوائد: أحدها: الإشعار بذكر الله تعالى؛ لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره. الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلَّم عليه؛ لأنك متى ذكرت اسمًا من أسمائه، فقد تعرَّضت (2) به وتوسَّلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشْتُقَّ منه ذلك الاسم. الفائدة الثالثة (3): أن "الألف واللام" يلحقها معنى العموم في مضمونها، والشمول فيه في بعض المواضع. الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول: "ناولني الكتابَ" و"اسقني الماءَ" و"أعطني الثوبَ"، لِما هو حاضر بين يديك، فإنك تستغني بها عن قولك: "هذا"، فهي مؤدِّية معنى الإشارة. وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع؛ فقول الراد: و"عليك السلام"، __________ (1) (ق): "ثم يعرف". (2) (ظ ود): "يوسف". (3) (ظ ود): "الثانية" وما بعدها "الثالثة" وهو من الاضطراب المشار إليه في قليل.

(2/633)


بالتعريف متضمِّن للدلالة على أن مقصوده من الردِّ مثل ما ابتدئ به: وهو هو بعينه، (ظ/115 أ) فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عيك وواقع عليك، فلو أتى بالرد منكَّرًا لم يكن فيه إشعارًا بذلك؛ لأن المعرَّف وإن تعدد ذكره (ق / 151 ب) واتحد لفظه، فهو شيءٌ واحد، بخلاف المنكَّر، ومن فَهِم هذا فَهِم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْن" (1) فإنه أشارة إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6] فالعُسْر وإن تكرر مرتين فتكرَّرَ بلفظ المعرفة فهو واحد، واليُسْر تكرَّر بلفظ النكرة فهو يُسْران، فالعُسْر محفوف بيسْرَين، يُسر قبله ويُسْر بعده، فلن يغلب عُسْر يُسْرَين. وفائدة ثانية: وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة: مقام فَضْل، ومقام عَدْل، ومقام ظُلْم، فالفضل: أن يرد عليه أحسن من تحيَّته، والعدل: أن يردَّ عليه نظيرها، والظلم: أن تبخسه حقَّه وتنقصه منها، فاختير للراد أكمل (2) اللفظتين، وهو المعرَّف بالأداة التي تكون: للاستغراق والعموم كثيرًا ليتمكَّن من الإتيان بمقام الفضل. __________ (1) أخرجه ابن مردويه من حديث جابر مرفوعًا بسندٍ ضعيف، وأخرجه سعيد بن: منصور، وعبد الرزاق في "تفسيره": (2/ 380)، وابن جرير: (12/ 628)، من حديث ابن مسعود، وسنده ضعيف أيضًا. وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير": (2/ 385)، والطبري: (12/ 628)، والحاكم في "المستدرك": (2/ 528)، عن الحسن مرسلًا، وهو صحيح إلى الحسن. وقد روي من طرقٍ أخرى موقوفًا ومرسلًا. انظر: "فتح الباري": (8/ 582 - 583)، و"تعليق التعليق": (4/ 372)، و"الدر المنثور": (6/ 616 - 617)، و"كشف الخفاء": (2/ 195). (2) (ق): "أجمل".

(2/634)


وفائدة ثالثة: وهي أنه قد تقدَّم أن المناسب في حقِّه تقديم المسلَّم عليه على السلام، فلو نكَّره وقال: "عليك سلام" لصار بمنزلة قولك: "عليك دَيْن" و"في الدار رجل"، فخرجه مخرج الخبر المحض، وإِذا صار خبرًا بطل معنى التحية؛ لأن معناها الدعاء والطلب، فليس بمسلم من قال: "عليك سلام"، إنما المسلِّم من قال: "سلام عليك"، فعرّف سلام الراد بـ "اللام" إشعارًا بالدعاء للمخاطَب، وأنه رادٌّ عليه التحيَّة، طالبٌ له السلامةَ من اسم "السلام"، والله أعلم. فصل وأما المسألة الثانية: وهي ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة واختتامها بالمعرفة، فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء، فإن المكاتبة (1) قائمة مقام النطق. وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد: أحدهما: أن السلام الأول قد وقع الأُنْسُ بينهما به، وهو مُؤْذِن بسلامه عليه خصوصًا، فكأنه قال: "سلام مني عليك" كما تقدم، وهذا أيضًا من فوائد تنكير السلام الابتدائي، للإيذان (2) بأنه سلامٌ مخصوص من المسلِّم، فلما استقرَّ ذلك وعلم في صدر الكتاب؛ كان الأحسن أن يسلِّم عليه سلامًا هو أعم من الأول، لئلَّا يبقى تكرارًا محضًا، بل يأتي (3) بلفظٍ يجمع سلامَه وسلامَ غيره، فيكون قد جمع له بين السلامَيْن الخاص منه والعام منه ومن غيره. ولهذه الفائدة __________ (1) (ق): "الكتابة". (2) ساقط من (ق). (3) (ق): "يبقى".

(2/635)


استحسنوا أن يكون قول الكاتب: "وفلانٌ يُقرئك السلام وفلان" في آخر المكاتبة بعد "والسلام عليك" لهذا الغرض. الفائدة الثانية: أنه: قد تقدَّم أن السلام المعرَّف اسم من أسماء الله، وقد افتتح الكاتب رسالَته بذكرِ الله (1)، فناسبَ أن يختمها باسمٍ من أسمائه وهو "السلام" ليكون اسمه تعالى في أوَّل الكتاب وآخره، وهذه فائدة بديعة (2). الفائدة الثالثة: بديعة جدًّا، وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا، وهي: أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب: "والسلام علكهم ورحمة الله" فيها وجهان: أحدهما قول ابن قتيبة: إنها عطف على السلام المبدوء يه، فكأنه قال: "والسلام المتقدم عليكم". والقول الثاني: أنها لعطفِ فصولِ الكتاب بعضه على بعض، فهي عطف لجملة السلام: على ما قبلها من الجمل (3)، كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول، وهذا أحسنُ من قولِ ابن قتيبة لوجوه؛ منها: أن الكلام بين السلامَيْن قد طال، فَعَطْفُ آخره -بعد طوله- على أوله قبيح غير مفهوم من السياق. الثاني: أنه إذا حمله على ذلك، كان السلام الثاني هو الأول بعينه، فلم يُفد فائدة متجدِّدة، وفي ذلك شحٌّ بسلام متجدد وإخلال بمقاصد المتكاتبيْن من تَعْدَاد الجمل والفصول؛ واقتضاءِ كلِّ جملة لفائدةٍ غير الفائَدة المتقدِّمة، __________ (1) (ق): "الكتاب برسالته بذكر اسمه تعالى". (2) من قوله: "وهو السلام ... " إلى هنا ساقط من (ق) (3) "من الجمل" ليست في (ق).

(2/636)


حتى إن قارئ الكتاب كلما جملةً منه تطلَّعت نوازعُ قلبه إلى استفادة ما بعدها، فإذا كررت (1) له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسُه، فكان اللائق بهذا المقصود أن يُجدِّد له سلامًا غير الأول، يسرُّه به كما سرَّه بالأول، وهو السلام العامُّ الشامل. ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه وختمها، أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرفة، فقال: "والسلام عليكم"، أي: وبعد هذا كله السلام عليكم، وقد تقدَّم أن السلامَ إذا انبنى على اسم مجرور قبله، وكان سلامَ رَدٍّ لا ابتدَاء، فانه يكون معرَّفا نحو: "وعليك السلام"، ولما كان سلام الكاتب هاهنا ليس سلامَ ردّق، قُدِّمَ السلام على المجرور، فقال: "والسلامُ عليكم"، وأتى بـ "اللام" لتفيد تجديد سلامٍ آخر، والله أعلم. وهذه فصاحةٌ غريبة (2)، وحكمة سلفية، موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم، وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وقد فرغنا من جواب السؤال التاسع المتعلِّق بواو العطف. فصل وأما السؤال العاشر: وهو السرّ في نصب "سلام" ضيف إبراهيم من الملائكة، ورَفْع سلامه. فالجواب: أنك قد عرفت قول النُّحاة فيه: أن سلامِ الملائكة تضمَّن جملة فعلية؛ لأن نصب "السلام" يدلُّ على "سلّمُنا عليكَ __________ (1) (ق): "ذكرت". (2) كذا في الأصول ولعلها: "عربية".

(2/637)


سلامًا"، وسلامُ إبراهيم تضمَّن جملة اسمية؛ لأن رفعه يدلُّ على أن المعنى: "سلام عليكم"، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد، فكان سلامُه عليهم أكمل من سلامِهِم عليه، وكان، له من مقامات الرَّدِّ ما يليقُ بمنصبه - صلى الله عليه وسلم - وهو مقام الفضل؛ إذ حيَّاهم بأحسن من تحيتهم. هذا تقرير ما قالوه. وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو: أنه لم يقصد حكايةَ سلام الملائكة فنصبَ قولَه: "سلامًا" انتصاب مفعول القوال (1) المفرد، كأنه قيل: قالوا قولًا سلامًا، وقالوا: سَدَادًا وصوابًا، ونحو ذلك، فإن القَوْل: إنما تُحْكَى به الجمل، وأما المفرد فلا يكون محكيًّا به، بل منصوب به انتصابَ المفعول به، ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ليس المراد: أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب، إنما معناه: قالوا قولًا سلامًا، مثل: سَدَادًا وصوابًا، وسُمِّيَ القولُ سلامًا (2)؛ لأنه يؤدِّي معنى السلام ويتضمنه، من رَفْع الوَحْشة وحصول الاستئناس. وحكي عن إبراهيم لفظ سلامِهِ، فأتى به على لفظه مرفوعًا بالابتداء مَحْكيًّا بالقول، ولولا قصد الحكاية لقال: "سلامًا" بالنَّصب؛ لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعا (3) فعلى الحكاية ليس إلا، فحصل من الفرق بين الكلامَيْن في حكايةِ سلامِ إبراهيمَ ورفعِه ونصب ذلك إشارة إلى معنى لطيفٍ جدًّا، وهو: أن قوله: "سلامَ عليكم" من دين __________ (1) (ظ ود): "الفعل". (2) من قوله: "ليس المراد ... " إلى هنا ساقط من (د). (3) من قوله: "بالابتداء محكيًّا ... " إلى هنا ساقط من (د).

(2/638)


الإسلام المتلقَّى عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء، وأنه من مِلَّة إبراهيم التي أمرنا الله تعالى باتباعها (1)، فحكى لنا قولَه؛ ليحصل لنا الاقتداء به والاتباع [له]، ولم يحكِ قولَ أضيافه، وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل والكيفية، والله أعلم. فزِنْ هذا الجواب والذي قبلَه بميزان غير عائل (2) يظهر لك أقواهما، وبالله التوفيق. فصل وأما السؤال الحادي عشر: وهو نَصْب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ورفعه في قوله حكايةً عن مؤمني أهلِ الكتاب: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]. فالجواب عنه: أن الله -سبحانه- مدحَ عبادَه الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63] فـ "سلامًا" هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه، أي: قالوا قولًا سلامًا، أي: سَدَادًا وصوابًا وسليمًا من الفُحْش والخَنَا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع "السلام" هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمَّن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلَّموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهلَ بجهل مثلِه، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن، __________ (1) (ظ ود): "أمر الله بها وباتاعها". (2) في "المنيرية": "جائر" وكلاهما بمعنى.

(2/639)


التي لا يُلَقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم، وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى. وتأمل كيفَ جمعت الآيةُ وصفَهم في حركتي الأرجل والألْسُن، بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها (1)، فقال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي: سكينة ووقارًا، والهَوْن -بفتح الهاء-: من الشيء الهَيِّن، وهو مصدر "هان هونًا" أي: سَهُل، ومنه قولهم: "يمشي على هِيْنته"، ولا أحسبها إلا مُوَلَّدة: ومع هذا فهي قياس اللفظة، فإنها: على بناءِ الحالة والهيئة، فهي فِعْلَة من الهَوْن، وأصلها: هِوْنته، فقلبت واوها ياءً لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف. وأما الهوْن -بالضم- فهو: الهوان، فأعْطَوا حركةَ الضم القوية للمعنى الشديد، وهو "الهوان" وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو "الهوْن"، فوصف مشيهم بأنه مَشْيُ حلم ووقار وسكينة، لا مشيُ جهلٍ وعُنْف وتبختر، ووصف نُطقهم بأنه سلام، فهو نُطق حِلْم وسكينةٍ ووقارٍ، لا نطقُ جهل وفُحْش وخَنَا وغِلْظة، فلهذا جمع بين المشي والنطق فى الآية، فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه "سلام عليكم"، فتأمله (2). وأما قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]، فإنها وصفٌ لطائفةٍ من مؤمني أهل الكتاب، قَدِموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ فآمنوا __________ (1) "وأحكمها" ليست في (ق)، وبعدها في (ظ): "وأوفاها" و (د): "وأجلها وأوفاها". (2) بعده في (ق) عبد لا مدلول لها، مكررة عما سبق.

(2/640)


به، فعيَّرهم المشركون، وقالوا: قَبُحْتُم من وفدٍ بعثكم قومُكم لتعْلَموا خبرَ الرجل، ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم (1). فأخبر عنهم -سبحانه- بأنهم خاطبوهم خطابَ متاركةٍ وإعراضٍ وهجرٍ جميل، فقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]، وكان رفع "السلام" متعيِّنًا؛ لأنه حكاية ما قد وقع، ونصب "السلام" في آية الفرقان متعيِّنًا؛ لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأوْلَى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل، فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة، والله المحمود وحدَه على ما منَّ به وأنعم. وهي المواهبُ مِن ربِّ العبادِ فما ... يُقال: لولا، ولا: هَلاَّ، ولا: فَلِما فصل وأما السؤال الثانى عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله، والسلام هو طلب ودعاء، فكيف يُتصوَّر من الله؟. فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به ولا يهمل أمره، وقلَّ من يُدْرك سره إلا من رزقه الله فهمًا خاصًّا وعناية، وليس هذا من بابَة (2) أبناء الزمان، الذين غاية فاضلهم نقلاً أن يحكي قيلًا وقالًا! وغاية فاضلهم بحثًا أن يبدي احتمالًا أو يُبرر إشكالًا! وأما تحقيق العلم كما ينبغي: فَلِلْحُرُوبِ أُناسٌ يُعرفون (3) بِها ... وَللدَّواوِينِ كُتَابٌ وَحُسَّابُ __________ (1) ذكره ابن إسحاق في "السيرة": (1/ 391). (2) (ظ ود): " باب"، والمنيرية: "شأن" والمثبت من (ق). (3) (ظ ود): "قائمون".

(2/641)


وقد كان الأولى بنا الإمساك، وكف عِنان القلم، وأن نجريَ معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه، وأن لا نجلوَ عرائس المعاني على ضَرِير، ولا (1) نزف خَوْدَها إلى عِنِّيْن؛ ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طُلاَّب، وعروس لها خطَّاب، فستصير إلى أهلها وتُهْدى إلى بعلها، ولا تستطِل الخَطَابة فإنها نَفْثةُ مصدور. فلنرجع إلى المقصود فنقول: لا ريبَ أن الطلب يتضمن أمورًا ثلاثة؛ طالبًا ومطلوبًا؛ ومطلوبًا منه، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهرٌ، إذا كان الطالب يطلب شيئًا من غيره، كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيرَه وينهاه ويستفهمه (2)، وأما إذا كان طالبًا من نفسه، فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب، والمطلوب منه هو الطالب نفسه. فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه، وهما حقيقتان متغايرتان، فكما يتحد المطلوب والمطلوب منه، ولا المطلوب والطالب، فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه، فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه؟. قيل: هذا هو الذي أوجبَ غموضَ المسألة وإشكالَها، ولابد من كشفه وبيانه، فنقول: الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يزيد من غيره أن يفعل شيئًا، فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله، والطلبُ النفسيُّ وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها والإرادة كالجنس له، فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب من نفسه، __________ (1) "لا" ليست في (ق). (2) من قوله: "كما هو الطلب ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/642)


وللفرق بين الطلب والإرادة، وما قيل في ذلك مكانٌ عير هذا. والمقصود (1) أن طلب الحيِّ من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحدٍ من نفسه. وأيضًا فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمرًا لنفسه ناهيًا لنفسه قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقال: {وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى} [النازعات: 40] وقال الشاعر (2): لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مِثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ ابدأ بنفسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّها ... فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حَكِيْمُ وهذا أكثر من إيراد شواهده، فإذا كان معقولًا أن الإنسانَ يأمرُ نفسَه وينهاها، فالأمر والنهي طلب، مع أنَّ (3) فوقه آمرًا وناهيًا، فكيف يستحيل ممن لا آمرَ فوقَه ولا ناهٍ أن يطلبَ من نفسه فِعْل ما يحبه وتركَ ما يبغضه (4)؟. وإذا عُرِف هذا؛ عُرِف سرُّ سلامه -تباركَ وتعالى- على أنبيائه ورسله، وأنه طلب من نفسه لهم السلامة، فإن لم يتَّسِع لهذا ذهنك فسأزيدكَ إيضاحًا وبيانًا، وهو: أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسِه الرحمةَ، وهذا إيجابٌ منه على نفسِه، فهو الموجِبُ، وهو متعلَّق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجبَ بنفسِه على نفسه. وقد أكَّد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى بما يوضحه كلَّ الإيضاح ويكشف حقيقته (5) __________ (1) (ق): "المطلوب". (2) نسبها في (الأغاني): (12/ 88)، و"فصل الخطاب": (1/ 93) إلى المتوكل الليثي. ونسبت في بعض المصادر إلى غيره. (3) الأصول: "كون" والمثبت من "المنيرية". (4) من قوله: "أن يطلب ... " إلى هنا ليس في (ق). (5) من قوله: "وقد أكد ... "إلى هنا ليس فى (ق).

(2/643)


بقوله في الحديث الصحيح: "لما قَضى اللهُ الخلْقَ كتبَ بيدِهِ على نفسِه في كتابٍ فهو عندَه موضوعٌ فوقَ العَرْشِ: إنَّ رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي"، وفي لفظٍ: "سَبَقَتْ غَضَبِي" (1)، فتأمل كيف أكّدَ هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة وصفة اليد ومحلِّ الكتابة، وأنه كتاب، وذكر مستقرّ الكتَاب، وأنه عندَه فوقَ العرش، فهذا إيجاب مؤكَّد بأنواع من التأكيد، وهو إيجاب منه على نفسِه، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، فهذا حقٌّ أحقَّه على نفسِه، فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ "الحق" ولفظ "على" (2). ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لمعاذ: "أَتَدْرِي ما حقُّ اللهِ على عبادِه"؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "حقُّه عليهِم أنْ يعْبدُوه ولا يُشْرِكُوا به شيئًا. أَتَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ عَلَى اللَّهِ إذا فَعَلُوا ذلِكَ"؟ قلت: اللهُ ورسُولُه أَعْلَم، قال: "حقُّهُمْ عَلَيْهِ أنْ لا يُعَذِّبهم بالنارِ" (3)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث: "مَنْ فَعَل كذا وكذا كان حقًّا على الله أن يفعل به كذا وكذا" في الوعد والوعيد، فهذا الحقُّ هو الذي أحقَّه على نفسِه. ومنه الحديثُ الذي في "المسند" (4) من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قولِ الماشي إلى الصلاة: "أسألكَ بحقِّ ممشايَ هذا وبحق السَّائلينَ عليكَ" (5)، فهذا حقٌّ للسائلين عليه __________ (1) تقدم تخريجه (1/ 336). (2) (ظ ود): "لفظه". (3) أخرجه البخاري رقم (128)، ومسلم رقم (30). (4) (3/ 21). (5) وأخرجه ابن ماجه رقم (778)، وضعَّفه ابن تيمية في "الاقتضاء: 2/ 323"، والبوصيري في "الزوائد": (1/ 166)، وانظر "الضعيفة" رقم (24).

(2/644)


هو أحقَّه على نفسِه، لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقُّوه، بل أحق على نفسه أن يجيبَ من سأله، كما أحقَّ على نفسِه في حديث معاذ أن لا يعذِّب من عبدَه، فحقُّ السائلين عليه أن يجيبَهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، والحقَّان هو الذي أحقَّهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون، فإنه سبحانه: مَا للعبادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ... كَلَّا وَلا سَعْي لَدَيْهِ ضَائِعُ إِنْ عُذِّبوا فَبِعدْلِهِ أَوْ نُعِّموا ... فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكريمُ الوَاسِعُ ومنه قوله تعالى: {حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فهذا الوعد هو الحق الذي أحقَّه على نفسه وأوجبه. ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} [إبراهيم: 13] وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص: 84، 85]، وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 195]، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، إلى أمثال ذلك مما أخبر أنه يفعله إخبارًا مؤكَّدًا بالقَسَم، والقسمُ في مثل هذا يقتضي الحضَّ والمنعَ بخلاف القَسَم على ما فعله تعالى مثل قوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1 - 3]، والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون، فإنه توكيد للخبر، وهو من باب القسم المتضمن للتصديق، ولهذا تقول الفقهاء: اليمين ما اقتضى حضًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، فالقسم الذي يقتضي الحضَّ

(2/645)


والمنعَ هو من باب الطلب؛ لأن الحضَّ والمنع طلبٌ. ومن هذا ما أخبرَ به أنه لابدَّ أن يفعله لسبق كلماته به؛ كقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 119]، وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 110]، فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسَبْقِ كلمته به فلا يتغير. ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرَّمه على نفسِه، كقوله تعالى فيما يرويه عنه رسوله: "يا عِبَادي إِنى حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسي وجعلتُه بينكُمْ مُحَرَّمًا" (1)، فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب، ولا يُلْتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، الذي يَجْزم الناظر (2) في سِيَاق هذه المواضع ومقصودها [ببُعْد] المراد منها (3)، كقول بعضهم: إن معنى الإيجاب والكتابة في ذَلك كلِّه هو إخباره به، ومعنى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، أخبرَ بها عن نفسه، وقوله: "حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسي" أي: أحْبرتُ أنه لا يكون، ونحو ذلك مما يتيقن المرءُ أنه ليس هو المراد بالتحريم، بل الإخبار هاهنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه، فمتعلَّق الخبر هو التحريم والإيجاب، ولا يجوز إلغاءُ متعلَّق الخبر، فإنه يتضمَّن إبطال الخبر. ولهذا إذا قال القائل: "أوجبتُ على نفسي صومًا"، فإن متعلَّقه وجوب الصومِ على نفسِه، فإذا قيل: (ق / 155 أ) إن معناه: "أخبرتُ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2577) من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-. (2) (ق): "النظر". (3) العبارة محرفة في الأصول، وهي في "المنيرية": "فإن الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها به ويجزم بِبُعد المراد منها".

(2/646)


بأني أصوم" كان ذلك إلغاءً إبطالًا لمقصودِ الخبر، فتأمله. وإذا كان معقولًا من الإنسان أنه يوجب على نفسِه ويحرِّم، ويأمرها وينهاها، مع كونه تحتَ أمرِ غيرِه ونهيه، فالأمر الناهي الذي ليس فوقَه آمر ولا نَاهٍ، كيف يمتنع في حقِّه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه، وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بُغْضَه لما حرَّمه، وكراهته له، وإرادة أن لا يفعله، فإن محبَّتَه للفعل تقتضىِ وقوعَه منه، وكَرَاهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه، وهذا غير ما يحبه -سبحانه- من أفعال عباده ويكرهه، فإن محبَّة ذلك مهم لا تستلزم وقوعَه، وكَرَاهته مهم لا تمنع وقوعه، ففرقٌ بينَ فعله هو سبحانه، وبين فِعْل عبادِه الذي هو مفعوله (1) مع كراهته (2) وبغضه له، ويتخلَّف مع محبته له ورضاه به، بخلاف فعله هو سبحانه، فهذا نوع وذاك نوع، فتدبَّر هذا الموضع الذي هو مَزَلَّة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصمه الله وهداه إلى صراط مستقيم (3). وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل ومانعةً من وقوعه، وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل ولا تمنع وقوعه. ونكتة هذه المسألة: هو الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه، وما لا يريد أن يفعله، وبين ما يحبه من (4) عبده أن يفعله العبد أو لا يفعله، ومن حقَّق هذا المقام زالت عنه شُبُهات ارتبَكَت فيها طوائفُ __________ (1) "هو مفعوله" في المنيرية: "يقع". (2) من قوله: "وبين فعل ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ق): " ... بعصمته وهداه إلى صراطه المستقيم". (4) (ق): "ما يحب ... ".

(2/647)


من النُّظَّار والمتكلمين، والله الهادي إلى سواء السبيل. واعلم أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف: فطائفة: منعت أن يجب عليه شيء أو يحرم عليه شيء بإيجابه ولا تحريمه، وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال (1) القدرية النُّفاة، وقابلوهم أعظمَ مقابلةٍ، نفوا لأجلها الحِكَمَ والأسبابَ والتعليل وأن يكون العبد فاعلًا أو مختارًا. الطائفة الثانية: بإزاء هؤلاء أوجبوا على الربِّ -تعالى- وحرَّموا أشياءَ بعقولهم جعلوها (2) شريعةً له، يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها، وأوجبوا عليه من (ظ/ 118 أ) جنس ما يجب على العباد، وحرَّموا عليه من جنس ما يحرم عليهم، ولذلك كانوا مشبِّهَةَ الأفعال، والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين: تعطيل صفاته وجَحْد نعوت كماله، والتشبيه له (ق/ 155 ب) بخلقه فيما أوجبوه عليه وحرَّموه، فشبَّهوا في أفعاله وعطلوا في صِفَاتِ كماله، فجحدوا بعض ما وصفَ به نفسَه من صفات الكمال، وسموه "توحيدًا"! وشبَّهوه بخلقه فيما يحسُن منهم ويَقْبُح من الأفعال، وسمَّوا ذلك: "عدلًا"، وقالوا: نحنُ أهلُ العدل والتوحيد، فعَدْلهم: إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها، وتوحيدهم: إلحادهم في أسمائه الحسنى، وتحريف معانيها عما هي عليه، فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلًا، وعدلهم شركًا، وهذا مقرَّرٌ في موضعه. __________ (1) (ق): "قول"، والعبارة محرفة في (ظ). (2) سقطت من (ق).

(2/648)


والمقصود أن هذه الطائفة مشبِّهة في الأفعال مُعَطّلة في الصفات، وهدى الله الأمةَ الوَسَط لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، فلم يقيسوه بخلقه، ولم يشبهوه بهم في شيءٍ من صفاته ولا أفعاله، ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك، ولم يوجبوا عليه شيئًا، ولم يحرِّموا عليه شيئًا (1)، بل أخبروا عنه بما أخبر به عن نفسه في إيجاب ما أوجبه وأحقَّه على نفسه، وتحريم ما حرمه على نفسه، وشهدت قلوبُهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحِكَم (2) والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء، فإن العباد لا يحصون ثناءً عليه أبدًا، بل هو كما أثنى على نفسه. وهذا كله بيِّن بحمدِ الله عند أهل العلم والإيمان، مستمرٌّ في فِطَرهم، ثابت في قلوبهم، يشهدون انحرافَ المنحرفين في الطرفين، وهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل هم إلى الله ورسوله متحيِّزون، وإلى محض سنته منتسبون، يدينون دين الحق أنى توجَّهت ركائبُه ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه، لا تستفزّهم بَدَوات آراء المختلفين، ولا تُزَلزلهم شُبُهات المبطلين، فهم الحُكَّام على أربابِ المقالات، والمميزون لما فيها من الحق والشبهات، يردُّون على كل [قائلٍ] باطِلَه، ويوافقونه فيما معه من الحق، فهم في الحقِّ سِلْمه وفي الباطل حَرْبُه، لا يميلون مع طائفةٍ على طائفة، ولا يجحدون حقَّها لما قالته من باطل سواه، بل هم ممتثلون قولَ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]. __________ (1) "ولم يحرموا عليه شيئًا" ساقط من (د). (2) من قوله: "في إيجاب ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/649)


فإذا كان قد نهى عبادَه أن يحملهم بغضهم لأعدائهم على أن لا يعدلوا عليهم، مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيفَ يسوغُ لمن يدِّعي الإيمانَ أن يحمله بغضُه لطائفةٍ منتسبةٍ إلى الرسول تصيبُ وتخطئ على أن لا يعدلَ فيهم، بل يجرِّد لهم العداوة (ق/ 156 أ) وأنواع الأذي، ولعله لا يدرى أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملًا ودعوةً إلى الله على بصيرة، وصَبْرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامةً لحجةِ الله، ومعذرةً لمن خالفهم بالجهل (1)، لا كمن نصبَ مقالةً (2) صادرةً عن آراءِ الرجال، فَدَعَا إليها، وعاقَبَ عليها، وعادَى من خالفها بالعصبية وحمية الجاهلية، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به، وليكن هذا تمام الكلام من هذا السؤال، فقد تعدَّينا به طَوْرَه، وإن لم نقدُرْه قَدْرَه. فصل وأما السؤال الثالث عشر: وهو ما السر في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرةِ، وشرَعَ لعباده إن يسلِّموا على رسوله بلفظ المعرفة، وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين؟. فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام (ظ / 118 ب) ابتداءً بلفظ النكرة، ونزيدُ هنا فائدةً أُخرى، وهي: أنه قد تقدم أن في دخول "اللام" في بالسلام أربع فوائد، وهذا المقام مستغنٍ عنها؛ لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى، فلم يقصد تبرُّكًا بذكر الاسم كما يقصده العبد، فإن التبرك استدعاء البركة واستجلابها، والعبد هو __________ (1) (ق): "بالجميل". (2) (ظ ود والمنيرية): "معالمه".

(2/650)


الذي يقصد لذلك، ولا قَصَدَ أيضًا تعرُّضًا وطلبًا على ما (1) يقصده العبد. ولا (2) قَصَد العموم، وهو أيضًا غير لائق هنا؛ لأن سلامًا منه سبحانه كافٍ من كل سلام، ومُغْنِ عن كلِّ تحية، ومقرِّب من كلِّ أُمنية، فأدنى سلام منه -ولا أدنى هناك (3) - يستغرق الوصفَ، ويتم النعمةَ، ويدفع البؤسَ، ويطيب الحياةَ، ويقطع موادَ العَطَبِ والهلاك، فلم يكن لذكر "الألف واللام" هناك معنًى. وتأمل قولَه تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] كيف جاءَ بـ "الرضوان" مبتدأ منكرًا مخبرًا عنه بأنه أكبر من كلِّ ما وُعِدُوا به، فأيسر شيءٍ من رضوانه أكبر من الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته، ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عَدْن، ويمنيهم: أيّ شيءٍ يريدون؟ "فيقولون: ربّنا وأَيّ شيءٍ نريدُ أفضلَ مما أعطيتنا، فيقول تبارك وتعالى: إنَّ لكم عِنْدي أفضلَ من ذلكَ أُحِلُّ عليكم رِضْواني فلا أسْخَطُ عليكم بَعْدَه أبدًا" (4). وقد بانَ بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده، وبين سلام العباد عليهم، فإن سلام العبادِ لمَّا كان متضمِّنًا لفوائد "الألف واللام" التي تقدَّمت من قَصْد التبرك باسمه السلام، والإشارة إلى طلب السلام وسؤالها (ق / 156 ب) من الله باسمه "السلام"، وقصد عموم __________ (1) (ق): "على ضد ما". (2) غير محررة في النسخ، ولعل صوابها ما أثبتّ، وهو من "المنيرية" وانظر (2/ 633). (3) (ق): "مثال". (4) أخرجه البخاري رقم (6549)، ومسلم رقم (2829) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

(2/651)


السلام، كان الأحسن في حقِّ المُسَلِّم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: "السلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاته"، وإن كان قد ورد: "سلام عليك"، فالمعرفة أكثر وأَصَحّ وأَتَمّ معنًى، فلا ينبغي العدول عنه، ويُشَحّ في هذا المقام بـ "الألف واللام"، والله أعلم. فصل وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر وهو: ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة؟ لا ما يقوله من لا تحصيلَ له: إنّ سلامَ يحيى جَرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فَنُكِّر، وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر: المكاتبة فَعُرِّف، فإن السورةَ كالقصةِ الواحدة، ولا يخفى فساد هذا الفرق، فإنهما سلامان متغايران من مُسَلِّمَين: أحدهما: سلامُ الله تعالى على عباده. والثاني: سلامُ العبد على نفسه. فكيفَ يُبْنى أحدهما على الآخر!؛ وكذلك قول من قال: إن الثاني عُرِّف لتقدم ذكره في اللفظ، فكانت "الألف واللام" فيه للعهد، وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكونَ المسيح أشار إلى السلام الذي سلَّمه الله على يحيى، فأراد: أن لي من السلام في (1) هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له، والله أعلم. فصل وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في __________ (1) (ظ ود): "في مثل".

(2/652)


قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟. فسِرُّه -والله أعلم-: أن طلبَ السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظانُّ العَطَب (1) ومواطن الوَحْشَة، وكلَّما كان الموضع مظِنَّة ذلك، تأكَّد طلب السلامة وتعلقت بها الهمة، فذُكِرَت هذه المواطنُ الثلاثة؛ لأن السلامةَ فيها آكد، (ظ / 119 أ) وطلبها أهم، والنفسُ عليها أَحْرَص؛ لأن العبدَ فيها قد انتقل من دارٍ كان مستقرًّا فيها مُوَطِّن النفس على صحبتها وسكناها، إلى دار هو فيها معرض للآفات والمِحَن والبلاء، فإن الجنين من حين خرجَ إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأنكادِها (2)، كما أفصحَ الشاعرُ بهذا المعنى حيث يقول (3): تأمل بكاءَ الطِّفلِ عندَ خروجِه ... إلى هذه الدُّنيا إذا هو يولدُ تجدْ تحتَهُ سِرًّا عَجِيبًا كأنه ... بكلِّ الذي يَلْقاه منها مُهَدَّدُ وإلا فما يُبْكِيه منها وإِنَّها ... لأوسعُ مما كانَ فيه وَأَرْغَدُ ولهذا من حين خرجَ ابتدرته طَعْنَةُ الشيطانِ في خاصرته فبكى لذلك (4)، ولما (ق/ 157 أ) حصل له من الوَحْشة بفراق وطنه الأول، وهو الذى أدركه الأطباء والطبائعيون، وأما ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس في صناعتهم ما يدلُّ عليه، كما ليس فيها ما يخفيه، فكان طلب __________ (1) (ق): "الفضل"! و (ظ ود): "مكان العطب". (2) (ظ): "وأفكارها". (3) رُويت أبيات نحو هذه لابن الرومي في "ديوانه": (ص/ 393)، ورويت لغيره أيضًا. (4) ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- البخاري رقم (3286)، ومسلم رقم (2366).

(2/653)


السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور. الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت، ونسبةُ الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريبًا وتمثيلًا، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر، وطلب السلامة -أيضًا- عند انتقاله إلي تلك الدار من أهم الأمور. الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث اللهُ الأحياءَ، ولا نسبةَ لما قبله من الدور إليه، وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله، فإن عَطَبه لا يُسْتدرك، وعَثْرته لا تُقَال، وسَقَمه لا يداوى، وفَقْره لا يُسَد، فتأمل كيف خصَّ هذه المواطن الثلاثة بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها، واعْرِف قدرَ القرآن وما تضمَّنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاءِ عُشر معشارها، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأُنس وذهاب الوَحْشة، ثم نَزِّل ذلك على الوَحْشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة؛ عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند مُعَاينته هَوْل المطلع إذا قَدِمْ على الله وحيدًا مجرَّدًا عن كلِّ مُؤْنس إلا ما قدَّمه من صالح عمله، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم، ليصيرَ إلى إحدى الدارَيْن التي خُلِق لها، واسْتُعْمِل بعمل أهلها، فأيُّ موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه (1). فصل وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - __________ (1) "ولطفه وجوده وإحسانه" ليست في (ق).

(2/654)


على من اتبعَ الهدى في كتابه إلى هِرَقل بلفظ النكرة، وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة؟. فالجواب عنه: أن تسليم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تسليمٌ ابتدائي، ولهذا صَدَّر به الكتاب حيث قال: "مِنْ محمد رسولِ الله إلى هِرَقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبَعَ الهدى" (1)، ففي تنكيره ما في تنكير سلامَ الخِطَاب من الحكمة، وقد تقدم (ظ/ 119 ب) بيانها. وأما قول موسى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [طه: 47]، فليسَ بسلام تحية، فإنه لم يبتدئ به فى فرعون، بل هو خبَرٌ مَحْض، فإن من أتبع الهدى فلهم السلامُ المطلق دون من خالفه، فإنه قال له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (ق/157 ب) وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} [طه: 47، 48]. أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداءِ الكلام ولا خاتمته، وإنما وقعَ متوسِّطًا بين الكلامَيْن إخبارًا محضًا عن وقوع السلامة وحلولها على من أتبع الهدى، ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جُبلَت النفوسُ على حُبِّه وإيثاره من السلامة، وأنه إن اتبع الهدى الذي جَاء [به] فهو من أهل السلام، والله أعلم. وتأمَّل حُسْن سياقِ هذه الجُمَل، وترتيب هذا الخطاب، ولُطْف هذا القول اللين الذي يَسْلب القلوب حُسْنه وحلاوتُه مع جلالته وعَظَمته، كيف أبتدأ الخطابَ بقوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47]، وفي ضمن ذلك: إنّا لم نأتك لننازعك مُلْكك ولا لنَشْركك فيه، بل نحن عبدان مأموران (2) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6260) من حديث أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه-. (2) ليست فى (ق).

(2/655)


مرسلان من ربك إليك، وفي إضافة اسم الرب إليه هاهنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله، كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه: أنا رسول مولاك إليك وأستاذك، وإن كان أستاذهما معًا، ولكن ينبهه بإضافته إليه على السَّمعِ والطاعةِ له، ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل، ويخلِّيَ بينهم وبينهما ولا يعَذِّبهم، ومن طلبَ من غيرِه تَرْك العدوان والظلم، وتعذيبَ من لا يستحق العذاب، فلم يطلب منه شَطَطًا، ولم يُرْهقه من أمره عسرًا، بل طلب منه غاية النصف. ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات؛ أحدها: قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47]، فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقوُّل والافتراء بما جئناك به من البرهان (1) والدلالة الواضحة، فقد قامت الحجة. ثم بعد ذلك للمرْسَل إليه حالتان، إما أن يسمع ويطيع، فيكون من أهل الهدى، والسلامُ على من اتبع الهدى، وإما أن يكذِّب ويتولَّى، فالعذابُ على من كذَّب وتولى، فجمعت الآيةُ طلبَ الإنصاف، وإقامة الحجة، وبيان ما يستحقه السامع المطيع، وما يستحقه المكذِّب المتولِّي بألطف خطاب، وألْيَن (2) قول، وأبلغ ترغيب وترهيب. فصل وأما السؤال السابع عشر وهو: أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، هل السلام من الله؟ فيكون __________ (1) (ق): "الإيمان". (2) (ظ ود): "وأَلْيّق".

(2/656)


المأمور به الحمد، والوقفُ التامُّ عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعًا؟. فالجواب عنه: أن الكلامَ يحتمل الأمرين، ويشهد لكل منهما (ق/ 158 أ) ضَرْب من الترجيح، فيرجَّح كونه داخلًا في جملة القول بأمور: منها: اتصاله به وعَطْفه عليه من غير فاصل، وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعًا على كلِّ واحد منهما، هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع، ولهذا إذا قلت: "قل (1) الحمد لله وسبحان الله"، فإن التسبيح هنا داخل في المقول (2). ومنها: أنه إذا كان معطوفًا على المقول كان عطف خبيرٍ (3) على خبر وهو الأصل، ولو كان (ظ / 120 أ) منقطعًا عنه كان عطفًا على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب. ومنها: أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ} [النمل: 59] ظاهر في أن المسلِّم هو القائل: "الحمد لله"، ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغَيبة، ولم يقل: "سلام على عبادي". ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى، كقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالمِينَ (79)} [الصافات: 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]، {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 120]، __________ (1) ليست في (ظ). (2) (ق): "القول" وكذا ما بعدها. (3) ليست في (ق).

(2/657)


{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]. ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله سبحانه يقرن (1) بين تسبيحِه لنفسه وسلامِه عليهم، وبين حَمْده لنفسه وسلامِه عليهم. أما الأول؛ فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات: 180، 181] فذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه (2) على رسله. وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سِرٌّ عظيم من أسرار القرآن، يتضمَّن الردَّ على كلِّ مُبْطل ومُبْتدع، فإنه نزَّهَ نفسَه تنزيهًا مطلقًا، كما نزَّه نفسَه عما يقول خلقه فيه، ثم سلَّم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كلِّ ما يقول المكذِّبون لهم المخالفون لهم، وإذا سَلِموا من كلِّ ما رماهم به أعداؤهم، لزم سلامة كلِّ مَا جاؤوا به من الكذب والفسادِ، وأعظمُ ما جاؤوا به التوحيد، ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصفَ به نفسَه على ألسنتهم. وإذا سَلِم دْلك من الكَذِب والمحال والفساد؛ فهو الحق المَحْض، وما خالفه هو الباطل والكذب المحال (3)، وهذا المغنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] فإنه يتضمَّن حمده بما له من نُعُوت الكمال، وأوصاف الجلال، والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسلِه من كلِّ عيب ونقص وكذب، وذلك يتضمَّن سلامةَ ما جاؤوا به من كلِّ باطلٍ، فتأمل هذا السِّرَّ في اقتران السلام على رسله بحمدِه وتسبيحِه. فهذا __________ (1) (ق ود): "يفرق"!. (2) (ظ وق): "سلام"، والمثبت من (د) وهو أصح. (3) من قوله: "والفساد .... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/658)


يشهد (1) لكون السلام هنا من الله تعالى، كما هو في آخر (الصافات). وأما عَطْف الخبر على الطلب فما أكثره! فمنه قوله (ق / 158 ب) تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} [الأنبياء: 112]، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون: 118]، وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]، ونظائره كثيرة جدًّا. وفَصْل الخطاب في ذلك أن يقال: الآيةُ تتضمن الأمرين جميعًا وتنتظمهما انتظامًا واحدًا، فإن الرسول هو المبلِّغ عن الله كلامَه وليس له فيه إلا البلاغ، والكلامُ كلام الربِّ تبارك وتعالى، فهو الذي حمد نفسه، وسلَّم على عباده، وأمر رسولَه بتبليغ ذلك، فإذا قال الرسول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، كان قد حَمِد اللهَ، وسلَّم على عباده بما حمد به نفسه، وسلم به هو على عباده (2)، فهو سلامٌ من الله ابتداءً، ومن المبلِّغ بلاغًا، ومن العباد اقتداء وطاعة، فنحن نقول كما أمرنا ربنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، ونظيرُ هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] فهو توحيدٌ (ظ/ 120 ب) منه لنفسه، وأمرٌ للمخاطَب بتوحيده، فإذا قال العبد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، كان قد (3) وحَّدَ اللهَ بما وحَّدَ به نفسَه، وأتى بلفظ "قل" تحقيقًا لهذا المعنى، وأنه مبلِّغٌ مَحْض، قائل لما أُمِرَ بقوله، والله أعلم. __________ (1) سقطت من (ظ ود). (2) من قوله في الآية: {الَّذِينَ اصْطَفَى ... } إلى هنا ساقط من (ق). (3) "كان قد" سقطت من (ق).

(2/659)


وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله: "أعوذ برب الناس" (1)، فإن الله لا يستعيذ من أحدٍ وذلك عليه محال، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فإنه خبر عن توحيده، وهو -سبحانه- يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد، فتأمَّل هذه النكتة البديعة، والله المستعان (2). فصل وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من قال له: "عليك السلام" عن ذلك، وقال: "لا تقُلْ عليكَ السلامُ، فإن عليكَ السلامُ تحيةُ المَوْتَى" (3)، فما أكثرَ من ذهبَ عن الصواب في معناه وخَفِيَ عليه مقصودُه وسرُّه، فتعسَّف ضروبًا من التأويلات المستنكرة الباردة، وردَّ بعضُهم الحديثَ، وقال: قد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في تحية الموتى: "السَّلامُ عَلَيْكُم دارَ قومٍ مُؤْمِنِين" (4)، قالوا: وهذا أصحّ من حديث النهي، وقد تضمَّن تقديم ذلك لفظ "السلام" فوجبَ المصير إليه، وتوهَّمت طائفةٌ أن السنةَ في سلام الموتى أن يُقال: "عليكم السلام" فرقًا بين السلام على الأحياء والأموات. وهؤلاء كلُّهم إنما أُتوا مِن عدم فهمهم لمقصودِ الحديث (5)، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيكَ السلامُ تحيةُ المَوْتَى"، ليس تشريعًا منه وإخبارًا عن __________ (1) (ق): {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}. (2) ليست في (ق). (3) تقدم 2/ 630. (4) تقدم 1/ 84. (5) انظر "معالم السنن" و"تهذيب السنن" للمصنف: (6/ 48 - 50).

(2/660)


أمرٍ شرعي، وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراءِ والناس، فإنهم كانوا يقدِّمون اسمَ الميِّت على الدُّعاء، كما قال (ق/ 159 أ) قائلهم (1): عليكَ سلامُ اللهِ قَيْسُ ينَ عَاصِمٍ ... ورحمتُه مَا شاءَ أنْ يَتَرَحَّما وقول الآخر الذي رثى عُمر بن الخطاب (2): عَليكَ سلامٌ مِنْ أميرٍ وباركَتْ ... يا اللهِ في ذاكَ الأدِيْمِ المُمَزَّق وهذا أكثر -في أشعارهم- من أن نذكره هاهنا، والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلًا عن كونه سُنَّة، بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدلُّ على عدم مشروعيته، وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلَّم عليه في السلام على الأحياءِ وعلى الأموات، فكما لا يُقال في السلام على الأحياء: "عليكم السلام"، فكذلك لا يقال في سلام الأموات، كما دلَّت السنة الصحيحة على الأمرين، وكأن الذي تخيَّله القومُ من الفرق أنَّ المسلِّم على غيره لما كان يتوقع الجواب، وأن يقال له: "وعليك السلام"، بدؤوا باسم السلام على المدعوِّ له توقُعًا لقوله: "وعليك السلام"، وأما الميت فلما لم يتوقَّعوا منه ذلك، قدموا المدعوَّ له على الدعاء، فقالوا: "عليك السلام". وهذا الفرقُ لو صحَّ كان دليلًا على التسوية بين الأحياء والأموات __________ (1) هو عَبْدَة بن الطبيب، من أبياتٍ يرثى بها قيس بن عاصم، انظر: "حماسة أبى تمام": (1/ 387). (2) البيت للشمَّاخ بن ضرار، "ديوانه": (ص/ 448)، و"حماسة أبى تمام": (1/ 540).

(2/661)


في السلام، فإن المسلِّم على أخيه الميت يتوقَّع الجوابَ أيضاً. قال ابن عبد البر (1): ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما مِنْ رجل يمرُّ بقبرِ أخِيْه كان يعرفُه في الدنيا فيسلِّم عَلَيه إلا ردَّ الله كل عَلَيه روْحَه حتى (ظ/121 أ) يرد عليه السلام" (2)، وبالجملةِ، فهذا الخيال قد أبطلته السنةُ الصحيحة. وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها، وهي: أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلَّم عليهم؛ لأنه دعاء بخير، والأحسنُ في دعاء الخير أن يقدم الدعاء به على المدعوِّ له، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]. وأما الدّعاء بالشر: فيُقدم فيه المدعو عليه على المدعو به غالبًا، كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78]، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]، وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} [الشورى: 16]. __________ (1) أخرجه ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس، ولم أر تصحيحه للحديث، وأنظر التعليق الآتي. (2) أخرجه الخطيب فى: "تاريخ بغداد": (6/ 137)، وابن عساكر فى "تاريخ دمشق": (27/ 65)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية": (2/ 911)، والذهبي في "السير": (12/ 590) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وضعفه ابن حبان وابن الجوزي والذهبي. وأخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار": (1/ 185) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ونقل المصنفُ والعراقيُّ- كما فى فيض القدير: 5/ 487 - عن ابن عبد البر أنه صححه.

(2/662)


وسرُّ ذلك -والله أعلم-: أن في الدعاء بالخير قدموا اسمَ الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس وتطلبه، ويَلَذ للسمع لفظه، فَيَبْدَه السَّمعَ ذِكْر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلبُ بتصوره، فيفتح له القلب والسمعُ، فيبقى السامع كالمنتظر لمن (ق / 159 ب) يحصل هذا، وعلى من يحل، فيأتي باسمه، فيقول: "عليك أو لك" (1)، فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحابّ والتوادّ والتراحم، الذي هو المقصود بالسلام. وأما في الدعاء عليه؛ ففي تقديم المدعو عليه إيذانٌ باختصاصه بدلك الدعاء وأنه عليه وحده، كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون، بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه، وكلّ ما عمَّ به الدَّاعي كان أفضل. وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضلِ السماءِ على الأرض، وذكَرَ في ذلك حديثاً مرفوعًا عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يدعو فقال: "يا عَلي عُمَّ فإنَّ فَضْلَ العموْمِ على الخصُوصِ كفَضْلِ السماءِ على الأرْضِ" (2). وفيه فائدة ثانية -أيضًا- وهي: أنه في الدعاء عليه (3) إذا قال له: "عليك" أنفتحَ سمعُه وتشوفْ قلبُه إلى أيِّ شيء يكون عليه، فإذا ذكر له أاسم المدعو به صادفَ قلبه فارغًا متشوِّفًا لمعرفته، فكان أبلغَ فى نِكَايته، ومن فهمَ هذا فهمَ السر في حذف "الواو" في قوله تعالى: __________ (1) (ظ ود): "لي". (2) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (ص/ 115)، والبيهقي في "الكبرى": (3/ 130) من مرسل عَمرو بن شعيب، بنحوه. (3) ليست في (ق).

(2/663)


{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، ففاجأهم وبَغتَهم عذابُها وما أعدَّ اللهُ فيها، فهم بمنزلة من وقفَ على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر، إلا أنه متوقع منه شرا عظيمًا، ففُتِح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه، وهذا كما تجد في الدنيا من يُسَاق إلى السجن، فإنه يُساق إليه وبابه مغلوق، حتى إذا جاءه فتحَ الباب في وجهه، ففاجأته روعته وألمه، بخلاف ما لو فُتِحَ له قبل مجيئه. وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة، وكان من تمام إكرام المدعوِّ الزائر أن يُفتح له بابُ الدار، فيجيء فيلقاه مفتوحًا، فلا يَلْحقه ألم الانتظار، فقال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وحُذف الجوابُ تفخيمًا لأمره، وتعظيمًا لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد. وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة "الواو"، ومن دعوى كونها واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية، فإن هذا لو صحَّ فإنما يكون إذا كانت (ظ / 121 ب) الثمانية سوقة في اللفظ واحدًا بعد واحد، فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العددَ من الثمانية بـ"الواو"، وهاهنا لا ذِكْر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها، فتأمله. على أن في كون "الواو" تجيء للثمانية كلام آخر (ق/160 أ) قد ذكرناه في "الفتح المكِّي" وبينا المواضعَ التي ادعِى فيها أن "الواو" للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل (1)؟. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بأن سيِّد الخلائق - صلى الله عليه وسلم - يأتي بابَ __________ (1) سيأتي في هذا الكتاب: (3/ 915) تفصيل القول في واو الثمانية.

(2/664)


الجنة فيلقاه مغلقًا حتى يستفتحه (1). قلنا: هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق، أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه، فلو جاءها وصادفها مفتوحة، فدخلها هو وأهلها، لم يعلم الداخلون أن فتحَها كان على يديه، وأنه هو الذي استفتحها لهم، ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة أو حِصْن وعجزوا ولم يمكنهم فتحه، حتى جاء رجلٌ ففتحه لهم أحوجَ ما كانوا إلى فتحِه، كان في ذلك من ظهور سيادته عليهم، وفضله وشرف ما لو (2) جاء هو وهم فوجدوه مفتوحًا. وقد خرجنا عن المقصود وما أَبْعَدْنا، ولا تستطِلْ هذه النكت (3)، فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق، والله المانُّ بفضله وكرمه. فصل وأما السؤال التاسع عشر وهو: دخول "الواو" في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سَلَّم عليكُمْ أهْلُ الكتاب فقُوْلُوا: وعليكُمْ" (4)، فقد استَشْكَلها كثيرٌ من الناس كما ذُكِر في السؤال، وقالوا: الصواب حذفُها، وأن يقال: "عليكم". قال الخطَّابي (5): "يرويه عامة المحدثين بـ"الواو" وابنُ عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف "الواو" صار __________ (1) أخرجه مسلم رقم (197)، من حديث أنس -رضى الله عنه-. (2) (ق): "ما لم"، ولو قيل: "ما [لم يكن] لو .. " لكان أجود. (3) (ق): "هذا الفصل في النكت"، و"كرمه" التي في آخر الفقرة ليست في (ق). (4) تقدم تخريجه 2/ 597. (5) في "معالم السنن": (8/ 75 - بهامش مختصر المنذري). وانظر تعليق ابن القيم هناك، فهو بنحو ما قال هنا.

(2/665)


قولهم الذي قالوا بعينه مردودًا عليهم، وبإدخال "الواو" يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما: قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين". قلتُ: معنى ما أشار إليه الخطابي: أن "الواو" في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة وزيادة الثانية عليها، كما إذا قلت: "زيدٌ كاتب"، فقال المخاطب "وشاعر"، فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر، وكذلك إذا قلت لرجل: "فلان محب لك"، فقلت: و"مُحْسن إليَّ". ومن هنا استنبط السُّهيلي في "الروض" (1) أن عِدَّة أصحاب الكهف سبعة، قال: لأن الله تعالى عطفَ عليهم الكلب بحرف "الواو" فقال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، ولم يذكر "الواو" فيما قبل ذلك من كلامهم، و"الواو" تقتضي تقرير الجملة الأولى، وما استنبطه حسَن؛ غير أن إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلاً في جملة قولهم، بل يكون (ق/160 ب) قد حكى سبحانه أنهم قالوا: "سبعة"، ثم أخبر تعالى أن ثامنهم كلبهم، فحينئذٍ يكون ذلك تقريرًا لما قالوه وإخبارًا بكون الكلب ثامنًا، وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملةِ قولهم، وأنهم قالوا هذا وهذا، لم يظهر ما قاله ولا تقتضي الواو في ذلك تقريرًا ولا تصديقًا، فتأمَّلْه. وأما قوله: "المحدثون يروونه بالواو"، فهذا الحديث رواه عبد الله (2) ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "إنَّ اليهودَ إذا سَلَّمَ عَلَيكُم أحدُهم فإنما __________ (1) "الروض الأنف": (2/ 56). (2) "عبد الله" ليست في (ق).

(2/666)


يقول: السَّامُ عليكم، فقولوا: وعليكم، (1)، قال أبو داود (2): "وكذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار. ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار، وقال فيه: وعليكم". انتهى كلامه. وأخرجه الترمذي (ظ/ 122 أ)، والنسائي كذلك، ورواه مسلم (3) وفي بعض طرقه: "فقل: عليك"، ولم يذكر "الواو". وحديث مالك الذي ذكره أبو داود أخرجه البخاري في "صحيحه" (4)، وحديث سفيان الثوري متفق عليه (5)، كلها بالواو. وأما ما أشار إليه الخطابي من حديث ابن عيينة؛ فرواه النسائي في "سننه" (6) بإسقاط الواو (7). وإذا عُرف هذا؛ فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذورًا البتة، وذلك لأن التحية التي يحيُّون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه؛ لأن السَّام معناه: الحوت، فإذا حيوا به المُسْلم فردُّه عليهم كان من باب القصاص والعدل، وكان مضمون ردَّه: أنا لسنا نموت دونكم، بل وأنعم -أيضًا- تموتون، فما تمنيتموه لنا حالٌ بكم واقعٌ عليكم. __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (5206)، والترمذي رقم (1603)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (378، 380) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عُمر به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". (2) "السنن": (5/ 385). (3) رقم (2164). (4) رقم (6257). (5) أخرجه البخاري رقم (6928)، ومسلم رقم (2164). (6) في "عمل اليوم والليلة" رقم (381) من حديث عائشة -رضي الله عنها -. (7) هذا بنحوه من "مختصر المنذري": (8/ 75 - 76).

(2/667)


وأحسن من هذا أن يقال: ليس في دخول الواو تقرير لمضحون تحيتهم، بل فيه ردها وتقريرها لهم، أي: ونحن أيضًا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءَهم قد وقع، فإذا رَدَّ عليهم المجيبُ بقوله: "وعليكم"، كان في إدخال الواو سِرّ لطيف، وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به، هو بعينه مردودٌ عليكم لا تحية غيره، فإدخال "الواو" مفيدٌ لهذه الفائدة الجليلة. وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال: "غفر الله لك"، فقال له: "ولك"، المعنى: أن هذه الدعوة بعينها مني لك، ولو قلت: "غفر الله لك": فقال: "لك"؟ لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه، فتأمله فإنه بديع جدًّا. وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في "الصحيح" و"السنن". فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجدَ شيئاً فَلْيلْحِقْه بالهامش (ق/ 161 أ)، يَشكُرِ اللهُ وعبادُه له سَعْيَه، فإن المقصودَ الوصولُ إلى الصواب، فإذا ظهر؛ وضِعَ ما عداه تحت الأرجل، وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا (1) في كتاب "تهذيب السنن" (2)، وأدلّه أعلم (3). فصل وأما السؤال العشرون وهو: ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام؟. __________ (1) "بما أمكننا" ليست في (ق). (2) (8/ 75 - 77 - بهامش مختصر المنذري). (3) زيادة من (ق).

(2/668)


فالجواب عنه أن يقال: لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء: أحدها: سلامته من الشر، ومن كل ما يضاد حياته وعيشه. والثاني: حصولُ الخير له. والثالث: دوامه وثباته له. فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعُه بالحياة، فشُرِعَت التحية متضمنة للثلاثة، فقوله: "سلام عليكم" يتضمن السلامة من الشر، وقوله: "ورَحْمَةُ الله" يتضمن حصول الخير. وقوله: "وبركاته" يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة، وهو كثرة الخير واستمراره. ومن هاهنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور -تبارك وتعالى- باسمه الرحيم في عامة القرآن. ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد، بل هي متضمنة لكل مطالبه، وكلّ المطالب دونها وسائل إليها وأسباب لتحصيلها؛ جاءَ لفظ التحية دالاً عليها بالمطابقة تارة، وهو "كمالها"، وتارة دالاً عليها بالتضمن، وتارة دالاً عليها باللزوم، فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذُكِرَت بلفظها، ودلالته عليها بالتضمُّن إذا ذُكِر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث، ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على لفظ السلام وحدَه، فإنه يستلزم حصول الخير وثباته؛ إذ لو عُدِم لم تحصل (ظ / 122 ب) السلامة المطلقة، فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره. وقد عوف بهذا فضلُ هذه التحية وكمالُها على سائر تحيات الأمم، ولهذا اختارها الله لعباده وجعلَها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام. وقد بانَ لك أنها من محاسن الإسلام وكماله، فإذا كان

(2/669)


هذا في فرْع من فروع الإسلام، وهو التحية التي يعرفها الخاصُّ والعام، فما ظَنُّكَ بسائر محاسنِ الإسلام وجلالته وعظمته وبَهْجته التي شهدت بها العقول والفِطَر، حتى إنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالَّة على نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكمال دينه وفضله وشرف على جميع الأديان، (ق/ 161 ب) وأن معجزته في نفسِ دعوته، فلو اقتصر عليها كانت آيةً وبرهانا على صِدْقه، وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة، بل دينُه وشريعته ودعوتُه وسيرتُه من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته، حتى إن إيمانهم به إنما هو مُسْتند إلى ذلك، والآيات فى حقِّهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة. ومن فَهِمَ هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طرباً، ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها. وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أَمْر (1) من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمَّن ذكْر بعض محاسن الشريعة، وما فيها من الحِكم البالغة، والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب -تعالى- وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه -سبحانه- لم يرحمهم في الدنيا (2) برحمة ولم يحسن إليهم إحسانَا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القَيِّم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظ "المنَّة عليهم" إلا في سياق ذكرها؛ كقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي __________ (1): "وعون من ... ". (2) "في الدنيا" ليست في (ظ ود).

(2/670)


ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164] وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، فهي مَحْض الإحسان إليهم، والرأفة بهم، وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة، لا أنها محض التكليف والامتحان الخالي عن العواقب الحميدة والغايات التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة، فهي لغاياتها المجربة المطلوبة (1) بمنزلة الأكل للشبع، والشرب للرِّي، والجماع لطلب الولد، وغير ذلك من الأسباب التي رُبطَت بها مسبباتها بمقَتضى الحكمة والعِزَّة، فلذلك نُصبَ هذا الصراطَ المستقيم وسيلة وطريقًا إلى الفوز الأكبر والسعادة، ولا سبيلَ إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق، كما سبيلَ إلى دخول الجَنَّة إلا بالعبور على الصراط، فالشريعةُ هي حياة القلوب، وبَهْجة النفوس، ولذة الأرواح، والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد (ق/ 162 أ) الثاني كوقوعه في الأسباب المفْضية إلى الغايات المطلوبة، لا أنه مقصود لذاته، فضلاً (ظ / 123 أ) عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع، وأعطه حقه من الفِكْر في مصادرها ومواردها، يَفْتَح لك بابًا واسعًا من العلم والإيمان، فتكون من الراسخين في العلم، من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. وكما أنها آية شاهدة له على ما وصفَ به نفسَه من صفات الكمال؛ فهي آية شاهدةٌ لرسوله بأنه رسولُه حقًّا، وأنه أعرفُ الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقربهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يُؤْتَ عبدٌ مثل ما أُوْتي، فَوالَهْفاه (2) __________ (1) (ق): "وهي لغاياتها المطلوبة المحبوبة". (2) (ق): "فوا أَسفاه".

(2/671)


على مساعدٍ على سلوكِ هذه الطريق، واستفتاحِ هذا الباب، والإفضاء إلى ما وراءَه ولو بشَطْر كلمة؛ بل والهفاه على من لا يتصدَّى لقطع الطريق، والصَّدِّ عن هذا المطلب العظيم، ويَدَع المَطِي وَجَادَّتها، ويعطي القَوْسَ باريها، ولكن إذا عَظمَ المطلوب قلَّ المساعد وكَثرُ المعارض والمعاند، وإذا كان الاعتماد على مجرَّد مواهب اللهِ وفضله، ويعينه (1) ما يتحمله المتحمل من أجله، فلا [يَثْنِكَ شَنآنُ] (2) من صدَّ عن السبيل وصَدَف، ولا تنقطع مع من عَجَزَ عن مواصلة السُّرى ووقف، فإنما هى مُهْجة واحدة، فانظر فيما تجعل تَلَفها، وعلى من تحتسب خَلَفها. أنتَ القتيلُ بكلِّ (3) مَنْ أَحْبَبْتَه ... فانظرْ لنفسِكَ في الهوى مَنْ تَصْطَفِي (4) وأنفق أنفاسك فيما شئتَ، فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك، وصائرة لا سواها إليك، وبين العبد وبين السعادة والفلاح صَبْر ساعةٍ لله، وتحمُّل مَلامة في سبيل الله. ومَا هِيَ إلا ساعَةٌ ثم تنقضي ... ويَذهبُ هذا كُلُّهْ ويزولُ وقد أطلنا ولكن ما أمللنا، فإن قلبًا فيه أدنى حياة يهتزُّ إذا ذُكِر الله ورسوله، ويود أن لو كان المتكلِّم كلُّه أَلْسِنةً تالية، وأن السامعَ كله آذان واعية، ومن لم يجد قلبه ثَمَّ، فليشتغل بما يُناسِبُه، فكُلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، وكل يعمل على شاكِلته. __________ (1) كذا في الأصول، و"المنيرية": "يغنيه"، ومعناها غير ظاهر، ولعلها: "وفضله [يهون] ما ... ". (2) غير مُحررة في الأصول، والمثبت من "المنيرية". (3) (ق): "بحب"، والرواية في "الديوان": "بأي". (4) البيت لابن الفارض، "ديوانه": (ص/ 90).

(2/672)


وكلُّ امرئٍ يَهْفو إلى مَنْ يحِبُّه ... وكلُّ امرئٍ يَصْبُو إِلى ما ينَاسِبه (1) فصل وقد عرفتَ بهذا جواب السؤال الحادي والعشرين، وأن كمال التحيةِ عند ذكر البركات، إذ قد استوعَبَت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشرِّ، وحصول الخير، وثباته وكثرته ودوامه، فلا معنى للزِّيادة عليها، ولهذا جاءَ في الأثر المعروف: "انتهى السلامُ إلى: وبَرَكاته" (2). فصل وأما السؤال الثاني والعشرون، وهو: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى، وتجريد السلام عن الإضافة؟. فجوابه: أن السلامَ (ق 162/ ب) لما كان اسمًا من أسماء الله تعالى، استغنى بذكره مطلقًا عن الإضافة إلى المسمى، وأما الرحمة والبركة فلو لم يُضافا إلى الله لم يُعلم رحمة مَنْ ولا بركة مَنْ تطلب. فلو قيل: "عليكم ورحمته وبركته" لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطْلَب الرحمة والبركة منه، فقيل: "ورحمة الله وبركاته"، وجواب ثانٍ وهو: أن السلام يُرَاد به قول المسلم: "سلام عليكم"، __________ (1) ذكره ابن القيم أيضًا في "مدارج السالكين": (2/ 386) بلا نسبة. (2) أخرجه مالك في "الموطأ": (2/ 959) عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وجاء نحوه عن ابن عمر وعمر عند البيهقي في "الشعب" -كما في "فتح الباري": (11/ 8) - وقال الحافظ عن الثاني: "رجاله ثقات". ورواه الطبراني في "الأوسط": (1/ 239) من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الهيثمي في "المجمع": (8/ 37): "رجاله رجال الصحيح".

(2/673)


وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويُرَاد به حقيقة السلامة المطلوبة من "السلام" سبحانه وتعالى، وهذا يُضاف إلى الله، فيُضاف هذا المصدر إلى الطالب الذَّاكر تارة وإلى المطلوب منه تارة، فأُطْلِق ولم يضف (1). وأما الرحمة والبركة فلا تُضاف إلا إلى الله وحدَه، ولهذا لا يقال: "رحمتي وبركتي عليكم"، ويقال: "سلامٌ مني عليكم" (2)، "وسلام من فلان على فلان". وسرُّ ذلك: أن لفظ السلام اسم للجملة القولية، بخلاف الرحمة والبركة، فإنهما (ظ/123 ب) اسمان لمعنييهما دون لفظيهما فتأمَّله فإنه بديع. وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرَّد السلامة، فإن السلامة (3) تبعيد عن الشر، وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل، فإنه هو المقصود لذاته، والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنةِ من النعيم أَكمل (4) من مجرَّد سلامتهم من النار، فأُضيفَ إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظًا، وأُطْلِق الآخر وفهمت (5) إضافته إليه معنًى من العطف وقرينة الحال، فجاءَ اللفظُ على أَتمِّ نظامٍ وأحسنِ سياق. فصل وأما السؤال الثالث والعشرون وهو: ما الحكمة في إفراد السلام __________ (1) (ق)."يلفظ". (2) (ق): "على فلان". (3) "فإن السلامة" سقطت من (ق). (4) من قوله: "فانه هو .... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (5) (ق): "ولو تمت".

(2/674)


والرحمة وجمع البركة؟. فجوابه: أن السلامَ إما مصدر مَحْض فهو شيءٌ واحدٌ فلا معنى لجمعه، وإما اسم من أسماء الله فيستحيل أيضًا جمعه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه. وأما الرحمة؛ فمصدر أيضًا بمعنى التعطُف والحنان فلا تُجْمع أيضًا، والتاء فيها بمنزلتها في "الخلة والمحبة والرأفة والرقة"، ليست للتحديد بمنزلتها في "ضربة وتمرة"، فكما لا يقال: "رقات ولا خلات ولا رأفات"، لا يقال: "رحمات"، وهنا دخول الجمع يُشعر بالتحديد والتقييد بعددٍ، وإفراده يُشْعر بالمسمى مطلقًا من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر (1) معنى من الجمع، وهذا بديع جدًا أن يكون مدلول الفرد أكثر من مدلول الجمع، ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ} [الأنعام: 149] أعمَّ وأتمَّ معنى من أن يقال: "فلله الحُجَج البوالغ"، وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أتمّ معنًى من أن (ق/163 أ)، يقال: وإن تعدُّوا نِعَم الله لا تحصوها. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] أتمّ معنًى من أن يقال: "حسنات". وكذا قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]، ونظائره كثيرة جدًّا، وسنذكر سِرَّ هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما البركة؛ فإنها لما كان (2) مسماها كثرة الخير واستمراره شيئًا بعد شيء، كلما انقضى منه فرد خَلَفه فردٌ آخر، فهو خير مستمرٌّ __________ (1) (ق): "أكبر وأكمل". (2) (ق ود): "كانت" ثم سقط منهما من قوله: "مسمّاها ... " إلى " .... الإفراد".

(2/675)


يتعاقب الأفراد أن على الدوام شيئًا بعد شيءٍ، كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] فأفردَ الرحمةَ وجمعَ البركةَ، وكذلك في السلام في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". فصل واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله -تبارك وتعالى- نوعان: أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله. والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها. فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: "احْتَجَّتِ الجنةُ والنَّارُ" فذكر الحديث، وفيه: "فقال للجنةِ: إنَّما أنْتِ رَحْمتي أرْحم بكِ منْ أشَاءُ" (1)، فهذه رحمة: مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى، وسماها رحمةً؛ لأنها خُلِقت بالرحمة وللرحمة، وخُصَّ بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرّحماء، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خلقَ الله الرَّحمةَ يومَ خَلَقها مائةَ رحمة كلُّ رحمة منها طِبَاق ما بينَ السَّماء والأرض" (2) ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2846 و 2847)، من حديث أبى هريرة وأبى سعيد -رضي الله عنهما-. (2) أحرجه مسلم رقم (2753 - وما بعده) من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ولفظه: "إن الله خلَق يوم خَلَق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طِباق ما بين السماء والأرض ... " الحديث. والحديث بنحوه أخرجه البخارى رقم (6000) ومسلم رقم (2752) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.

(2/676)


رَحْمَةً} [هود: 9] ومنه تسميته -تعالى- المطرَ رحمةً بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وعلى هذا فلا يمتنع الدُّعاء المشهور بين الناس قديمًا وحديثاً، وهو قول الداعي: "اللهمَّ اجْمَعْنا في مسْتقَرِّ رَحْمَتِك"، وذكره البخاريّ في كتاب "الأدب المفرد" (1) له عن بعض السلف (2)، وحكى فيه الكراهة قال: لأن مستمرَّ رحمته ذاتُه، وهذا بناء على أن الرحمة هنا صفة، وليس مراد الداعي ذلك؛ بل مرادُه الرحمةُ المخلوقةُ التي هى الجنة. ولكن الدين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدًّا (ظ/ 112 أ)، وهو: أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها، لم يَحْسُن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يَحْسُن أن يُقال: "اجمعنا في مستقرِّ جنتك"، فإن الجنة نفسها هى دارُ القرار وهى المستقر نفسُه، كما قال تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 76]، فكيف يضاف المستقر إليها، والمُسْتَقَر هو المكان الذي يَسْتَقِر فيه الشيء، ولا يصحّ أن يَطْلُب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله. ولهذا قال: "مستقر رحمته ذاتُه"، فالصواب أن هذا لا يمتنع، وحتى لو قال صريحاً: "اجمعنا في مستقرِّ جنتك" لم يمتنع، وذلك أن المستقر (ق 163/ ب) أعمّ من أن يكون رحمة أو عذاباً، فإذا أُضيفَ إلى أحدِ أنواعه أُضِيْف إلى ما يُبيّنه ويميزه من غيره، كأنه قيل: في المستقرِّ الذي هو رحمتك، لا في المستقرِّ الآخر. ونظير هذا أن يقول: "اجلس في مستقر المسجد"، أي: المستقر __________ (1) (ص/ 236). (2) هو أبو رجاء العطاردي.

(2/677)


الذي هو (1) المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا (2) مستكرهة. وأيضًا فإن الجنة وإن سُمِّيت رحمة، لم يمتنع أن يسمَّى ما فيها من أنواع النعيم رحمة. ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي يطلب أن يجمعَه اللهُ ومن يحب فى المكان الذي تستقرُّ فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة، وهذا ظاهر جدًّا فلا يمتنع الدعاءُ بوجه، والله أعلم (3). وهذا بخلاف قول الداعي: "يا حَيُّ يا قَيُّوْمُ برَحْمَتِكَ أَسْتَغيثُ" (4)، فإن الرحمةَ هنا صفته تبارك وتعالى، وهي متعلَّق الاستغاثة، فإنه لا يُسْتغاث بمخلوق، ولهذا كان هذا الدعاءُ من أدعيةِ الكرب لما تضمَّنه من التوحيد والاستغاثة برحمة أرحم الراحمين، متوسِّلاً إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، وهو اسم: الحيّ القيُّوم. فإن الحياةَ مستلزمةٌ لجميع صفات الكمال، ولا يتخلَّف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكملَ حياة وأتمها استلزم إثباتُها إثباتَ كلِّ كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا __________ (1) من قوله: "رحمتك لا .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ق): "أو". (3) وهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر "الاختيارات": (ص/ 460)، وانظر ما سيأتي عند المصنف: (4/ 1418)، و"معجم المناهي اللفظية": (ص/604). (4) لفظ حديث أخرجه الترمذي رقم (3524)، والحاكم: (1/ 730)، والضياء في "المختارة": (6/ 300). وغيرهم من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وله شاهد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه الحاكم: (1/ 509)، وصحَّحهما الحاكم.

(2/678)


الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفةَ السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة (1) والكلام وسائر صفات الكمال. وأما القيوم؛ فهو متضمن كمالَ غِناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه، وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته، فانتظمَ هذان الاسمان صفاتِ الكمال والغنى التام والقدرة التامة. فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته، فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن تكون في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات. والمقصود: أن الرحمةَ المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كنا أن المستعيذ بعزته في قوله: "أعُوذُ بعِزتك" (2) مستعيذ بعزته التي هي صفته، لا بعزته التي خلقها يُعِزَ بها عبادَه المؤمنين. وهذا كله يقرر قولَ أهل السنة أن قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعود بكَلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ" (3) يدل على أن كلماته -تبارك وتعالى- غير مَخلوقة، فإنه لا يسْتعاذ بمخلوق. وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] فهذه رحمة الصفة التىِ وسعتْ كلَّ شيء، كنا قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (4) [الأعراف: 156]، وسَعَتُها عمومُ تعلقها بكلِّ شئ، كما أن سَعَة علمه __________ (1) (ظ ود): "القوة". (2) سيأتي تخريجه 2/ 709. (3) سيأتي تخريجه 2/ 709. (4) الآية ليست في (ق).

(2/679)


تعالى عموم تعلقه بكلِّ معلوم. فصل وأما البركة فكذلك: نوعان أيضًا: أحدهما: بركةٌ هي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها "بارك"، ويتعدَّى بنفسه تارة، وبأداةِ "على" تارة، وأداةِ "في" تارة، والمفعول منها "مبارك" وهو ما جُعِل كذلك (ظ/124 ب)، فكان مباركًا يجعله تعالى. والنوع الثاني: بركة تضاف (1) إليه إضافة الرحمة والعِزَّة، والفعل منها "تبارك"، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] فمن (2) بارك الله فيه وعليه فهو المبارك. وأما صيغة "تبارك" فمختصَّة به تعالى كما أَطلَقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (64)} [غافر: 64]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ} [الفرقان: 61] __________ (1) (ظ ود): "من اتصاف"!. (2) (ف): "فما".

(2/680)


أفلا تراها كيف اطَّردت في القرآن جارية عليه مختصَّةَ به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناءِ السَّعَة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بخاء "تبارك" على بناء "تعالى" الذي هو دال على كمال العلوِّ ونهايته، فكذلك "تبارك" دال على كمال بركته وعظمها وسَعَتها. وهذا معنى قول من قال من السلف: "تبارك: تعاظم". وقال آخر: معناه أن تجيء البركات من قِبلِه، فالبركة كلُّها منه. وقال غيره: كثرَ خيره وإحسانُه إلى خلقه. وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم. وقيل: تزايد عن كلّ شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. ومن هنا قيل: معناه: تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس، والقدس (1) الطهارة. وقيل: تبارك أي: باسمه يُبارَك في كلِّ شيء. وقيل: تبارك ارتفع، والمبارك المرتفع، ذكره البغوي (2). وقيل: تبارك أي البركة تكتَسَب وتنال بذكره. وقال ابن عباس: جاءَ بكلِّ بركة. وقيل: معناه ثبتَ ودامَ بما لم يزل ولا يزال، ذكره البغوي -أيضًا-. وحقيقةُ اللفظة: أن البركة (ق / 164 ب] كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلاً منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدَّس وتعاظم. ومثل هذه الألفاظ ليس (3) معناها أنه جعل غيره عالًا ولا قدوسًا ولا عظيمًا، وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نُسِبت إليه فهو المتعالي المتقدس في نفسه، فكذلك "تبارك" لا __________ (1) (ق): "والطهر". (2) في "معالم التنزيل": (2/ 165). (3) سقطت من (ق) فتغير المعنى.

(2/681)


يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظًا ومعنى، هذا لازم وهذا متعد، فعلمتَ أن من فسَّر "تبارك" بمعني: ألقى البركةَ وباركَ في غيره لم يُصِب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركًا، فتبارك من باب مَجُد، والمَجْد: كثرة صفات الجلال والكمال والسَّعه والفضل، وبارك من باب أَعْطى وأنعَمِ، ولما كان المتعدِّي في ذلك يستلزم اللازم من غير عَكْس فَسَّرَ من فسَّرَ من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين، فقال: مجيء البركة كلِّها من عنده، أو البركة كلّها من قِبَلِه، وهذا فرع على تباركه في نفسه. وقد أشبعنا القولَ في هذا في كتاب "الفتح المكي"، وبينا هناك أن البركة كلَّها له تعالى ومنه، فهو المتبارك (1)، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه مباركًا، ورسوله مباركًا، وبيته مباركًا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة؛ فلَيْلَة القَدْر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة (2)، وتدبر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في "صحيحه" (3) عند انصرافه من الصلاة: "اللهمَّ (ظ/125 أ) أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ تَبارَك يا ذا الجَلالِ والإكرَام"، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نَوْعي الثناء، أعني: ثناء التنزيه والتسبيح، وثناءَ الحمد والتمجيد بأبلغ لفظٍ وأوجزه وأتمه معنى، فأخبر أنه السلامُ ومنه السلام، (فالسلام): له وصفاً وملكًا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن __________ (1) (د): "المبارك"، و (ق) زيادة؛ "المبارك". (2) انظر "فضائل الشام": (ص/ 91 - 93) لابن رجب الحنبلي. (3) رقم (591).

(2/682)


صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام، وكذا (الحمد) كله له وصفًا وملكًا، فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاءُ من عبادِه محمودًا فيهبه حمدًا من عنده، وكذلك (العِزَّة) كلها له وصفًا ومُلْكًا، وهو العزيز الذي لا شيءَ أعز منه، ومن عز من عباده (1) فبإعزازه له. وكذلك (الرحمة) كلها له وصفًا وملكًا. وكذلك (ق / 165 أ) البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاءَ من خَلْقه وعليه فيصير بذلك مباركًا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [غافر: 64]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85]. وهذا بِسَاط؛ وإنما غاية معارف العلماء الدُّنو من أول (2) حواشيه وأطرافه، وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاهًا: "لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثنيتَ على نَفْسِك" (3)، وقال في حديث الشفاعة الطويل: "فأَخِرُّ ساجِدًا لربي فيفتح عليَّ مِنْ مَحامِدِه بما لا أحْسِنُه الآنَ" (4)، وفي دعاء الهمِّ والغم: "أسألكَ بكلِّ اسم هو لكَ سَمَّيتَ به نفسَكَ أو أنْزَلْته في كتابك أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقِك أو اسْتأثرتَ به في عِلْم الغيبِ عِنْدَك" (5)، فدلَ على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده (6) دون خلقِه، لا يعلمها مَلك مقرَّب ولا نبى مُرْسَل. وحسبنا الإقرار بالعَجْز __________ (1) من قوله: "وكذلك العزة ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) (ق): "أهل". (3) تقدم 1/ 294. (4) تقدم 1/ 294. (5) تقدم 1/ 293. (6) (ق): "في غيبه".

(2/683)


والوقوف عند ما أَذِن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وبالله التوفيق. فصل وأما السؤال الرابع والعشرون وهو: ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)[الأحزاب: 56]. فجوابه: أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام، وإن اختلفت جهة التأكيد، فإنه سبحانه أخبر في أول الآية (1) بصلاته عليه، وصلاة ملائكته عليه مؤكِّدًا لهذا الإخبار بحرف "إن" مخبرًا عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه، وهذا يفيد العمومَ والاستغراق. فإذا استشعَرَت النفوس أن شأنه - صلى الله عليه وسلم - عند الله وعند ملائكته هذا الشأن، بادرت إلى الصلاة عليه وإن لما تُؤمَر بها، بل يكفي [تنبيهها] (2) والإشارة إليها بأدنى إشارة، فإذا أمِرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر، بل إذا جاء مطلق الأمر بادرَتْ وسارعَتْ إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر، ولما خلا السلام عن هذا المعنى، وجاءَ في حيِّز الأمر المجود دون الخبر حَسُن تأكيده بالمصدر، ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته، ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره (3)، كما حصل التكرير في الصلاة خبرًا وطلبًا، فكذلك حصل التكرير في السلام فعلاً ومصدرًا، __________ (1) (ق): "في الأول". (2) (ق): "تفسيرها"، و (ظ ود): "تنبيها" والمثبت من "المنيرية". (3) (ق): "تقريره".

(2/684)


فتأمله فإنه بديع جدًا، والله (ق / 165 ب) أعلم. وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب "تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام" (1) وأتينا فيه من الفوائد بما يُساوي أدناها رِحلة مما لا يوجد في غيره، ولله الحمد، فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة. فصل وأما السؤال الخامس والعشرون وهو: ما الحكمة في تقديم السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قبل الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بما يدأ الله به في الآية؟. فهذا سؤال -أيضًا- له شأن، لا ينبغي الإضراب عنه صفحًا وتمشيته، (ظ / 125 ب) والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان شديد التحري لتقديم ما قدَّمه الله والبداءة بما بدأ به، فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال: "نَبْدَأ بما بَدَأ الله به" (2) وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء، ولم يخل بذلكَ مرَّة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارقَ الدنيا، لم يقدِّم منه مؤخَّرًا ولم يؤخر منه مقدَّمًا قط، ولا يقدر أحد ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف (3)، ومع هذا __________ (1) وهو كتاب "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم -". (2) تقدم 1/ 122. (3) لكن أخرج أحمد في "المنسد": (4/ 132)، ومن طريقه أبو داود رقم (122) عن المقدام بن معد يكرب في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تأخير المضمضة والاستنشاق بعد غسل الذراعين. وإسناده جيد، وقواه غير واحد، انظر "نيل الأوطار": (1/ 170)، و"تمام المنة": (ص/ 88). =

(2/685)


فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة، وذلك لسر من أسرار الصلاة، نشيرُ إليه بحسب الحال إشارة، وهو: أن الصلاة قد اشتملت علي عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب، فلكلِّ عضوٍ منها نصيبُه من العبودية، فجميع أعضاء المصلِّي وجوارحه متحرِّكة في الصلاة عبودية لله وذلًّا له وخضوعًا، فلما أكمل المصلِّي هذه العبودية، وانتهت حركاته، خُتِمَت بالجلوس بين يدي الربِّ -تعالى- جلوس تذلُّلٍ وانكسار وخضوع لعظمته عزَّ وجل، كما يجلس العبدُ الذليلُ بين يدي سيِّدِه، وكان جلوس الصلاة أخشعَ ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعًا وتذللًا، فأذن للعيد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء، وهو "التحيات لله والصلوات والطيبات"، وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم، وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم، والله تعالى أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه، فجمع العبدُ في قوله: "التحيات والصلوات والطيبات" أنواعَ الثناء (1) على الله، وأخبرَ أن ذلك له وصفا ومُلْكًا، وكذلك "الصلوات" كلها لله، فهو الذي يُصَلَّى له وحده لا لغيره، وكذلك "الطيبات" كلها من الكلمات والأفعال كلها له، فكلماته طيبات وأفعاله كذلك، وهو طيب، يصعد إليه إلا طيب، والكَلِم الطيب إليه يصعد، فكانت الطيبات (2) كلها له ومنه وإليه، له ملكًا ووصفًا، (ق/ 166 أ) ومنه مجيئها وابتداؤها، وإليه مصعدها ومنتهاها، والصلاة مشتملة (3) __________ = وذكر الحافظ في "الدراية": (1/ 29) عدة أحاديث فيها عدم الترتيب. (1) من قوله: "من كل أحد ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من قوله: "وأفعاله كذلك ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ق): "تشتمل".

(2/686)


على عمل صالح وكَلِم طيب، والكَلِم الطَّيب إليه يصعد، وَالعَمَل الصَّالح يَرْفَعُهُ، فناسَبَ ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقتَ رفعها إلى الله تعالي، فلما أتى بهذا الثناء على الرب -تعالى- التفت إلى شأن الرسول الذي حَصَل هذا الخير على يديه، فسلَّم عليه أتمَّ سلام معَرَّف باللام التي للاستغراق، مقرونًا بالرحمة والبركة، هذا هو أصح شيءٍ في السلام عليه، فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام. ثم انتقلَ إلي السلام على نفسه وعلى سائر عبادِ الله الصالحين، وبدأ بنفسه؛ لأنها أهم والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام، وهو التشهد بشهادة الحق التي هى أول الأمر وآخره، وعندها كمل الثناء والتشهد. ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب، فالتشهد يجمع نوعي الدعاء؛ دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة، والأول أشرف النوعين لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظُّ العبد ومصلحته، وفي الأثر: "مَنْ شَغلَه ذِكْري عن مَسْألتي أعْطَيته أفضلَ ما أعْطِيْ السَّائلِيْن" (1)، لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعان، وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل المصلي إلى النوع الثاني، وهو دعاء الطلب والمسألة، فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (2926) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والدارمى: (3/ 533) من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفيه عطية العوفي ضعيف. وجاء من حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد": (ص/ 161)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، ورد على ابن الجوزي إيراده في "الموضوعات"، انظر "تنزيه الشريعة": (2/ 323). وروي من حديث جابر وحذيفة -رضي الله عنهم-.

(2/687)


له، وهو طلب الصلاة من الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من أجلِّ أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرناه في كتاب "تعظيم شأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1)، وفيه أيضًا أن الداعي جعله مقدمة (ظ/126 أ) بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى في قوله: "ثمَّ ليتخيَّر مِن الدُّعاءِ أعْجَبَه إِلَيْه" (2)، وكذلك في حديث فَضَالة بن عُبيد: "إِذا دَعا أحدُكم فَلْيبدأ بحَمْدِ اللهِ والثناءِ عليه، ثمَّ ليصلِّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ لِيَدْعُ" (3)، فتأمل كيفَ جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقًا لهذا منتظمًا له أحسن انتظام، فحديث فضالةَ هذا هو الذي كشفَ لنا المعنى وأوضحه وبينه، فصلوات الله وسلامه على من أكملَ به لنا دينه، وأتمَّ برسالته علينا نعمته، وجعله رحمةً للعالمين وحسرة على الكافرين. فصل وأما السؤال السادس والعشرون وهو: ما الحكمة (ق/ 166 ب) في كون السلام عليه وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة؟. فجوابه يظهر مما تقدم: فإن الصلاةَ عليه طلبٌ وسؤال من الله أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: "اللهم صل عليك"، وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطَب تنزيلاً له __________ (1) "جلاء الأفهام": (ص / 246 - 254). (2) أخرجه مسلم رقم (402) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (3) أخرجه أبو داود رقم (1481)، والترمذي رقم (3477)، والنسائي: (3/ 44)، وابن حبان "الإحسان": (5/ 290)، والحاكم: (1/ 230) بنحوه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم.

(2/688)


منزلة المواجه، لحكمةٍ بديعةِ جدًّا، وهي: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان أحبَّ إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودًا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا (1) شخصه، كما قال القائل: مِثالُكَ في عَيْني وذِكْرُك في فَمِي ... ومَثواكَ في قَلْبي فأينَ تَغِيبُ (2)! ومن كان بهده الحال فهو الحاضر حقًا، وغيره وإن كان حاضرًا للعيان فهو غائب عن الجَنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه، أولى من سلام الغيبة، تنزيلاً له منزلةَ المواجِهِ المُعَايِن لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه، كما قيل لو شُقَّ عن قلبي يُرَى وسطه ذكرك. والتوحيد في شطر "لا إله إلا الله محمد رسول الله،، ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني، لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بُعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، ومن كَثُفَت طباعُه فهو عن هذا كله بمعزل، وأنه ليبلغ الحبُّ ببعضِ أهله أن يرى محبوبَه في القرب إليه (3) بمنزلة روحِه التي لا شيءَ أدنى إليه منها، كما قيل: __________ (1) سقطت من (ق). (2) ذكره ابن القيم في "روضة المحبين": (ص/ 21)، والأبشيهي في "المستطرف": (1/ 74) بلا نسبة؛ لكن أوله: "خيالك ... ". (3) (ق): "والبعد".

(2/689)


يا مُقِيمًا مَدى (1) الزَّمان بقلبي ... وبعيدًا عن ناظِريْ وعِيَانى أنتَ رُوْحِي إن كنتُ لستُ أراها ... فهي أَدنى إليَّ مِن كلِّ داني (2) وقال آخر: يا ثاويًا بينَ الجَوَانِحِ والحَشا ... مِنِّي وإن بَعُدَتْ عَلَيَّ دِيَارُه (3) وإنه ليلطُف شأن المحبة حتى يرَى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه. ولي من أبيات تُلِم بذلك: وأدنى إلى الصبِّ من نفسِه ... وإن كان من عينه نائيا ومن كان مَعْ حِبه هكذا ... فأنى يكون له ساليا ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المُحِب (4) بمحبوبه عن نفسه (ق/167 أ) فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه، ومن هاهنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارِد وضعف التمييز، فحكَّم صاحبها فيها الحالَ على العلم، وجعل الحُكْم له، وعَزَل علمه من البين (5)، وحَكَّمَ المحفوظون فيها حاكمَ العلمِ على سلطانِ الحال (ظ / 126 ب)، وعلموا أنَّ كلَّ حالٍ لا يكون العلم حاكمًا عليه، فإنه لا ينبغي أن يُغتر به ولا يُسْكن إليه، إلا كما يُساكن المغلوب المقهور __________ (1) (ق): "طول". (2) ذكره ابن القيم -أيضًا- في "روضة المحبين": (ص/ 21) بلا نسبة، لكن أوله: "يا مقيمًا في خاطري وجناني". (3) ذكره ابن القيم في "روضة المحبين": (ص/ 21) بلا نسبة. (4) (ق): "المحبوب". (5) (ق): "التبين".

(2/690)


لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمَّل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعاملة، فلم تُطْفِئ عواصفُ أحوالهم نور علمهم (1)، ولم يقصر بهم علمهم عن الترقِّي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء حُكام على الطائفتين. ومن عَدَاهُم فمحجوب بعلم لا نفوذَ له فيه أو مغرورٌ بحال لا علمَ له بصحيحِه من فاسِدِه، والله المسؤول من فضله إنه قريب مجيب. فالكامل من يحَكم العلمَ على الحال فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيحَ من الفاسد، لا من يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال مِعْيارًا عليه وميزانًا، فما وافقَ حالَه من العلم قبلَه، وما خالَفه ردَّه ونفاه، فهذا أضلُّ الضلال في هذا الباب، بل الواجب تحكيم العلمِ والرجوع إلى حُكْمه، وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم، وحرَّضوا على العلم أعظمَ تحريف، لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فصل وأما السؤال السابع والعشرون وهو: ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغَيبة مع كون -سبحانه- هو المخاطَب الذي يناجيه العبد، والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟. فجوابه: أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير، إلا أن يتقدم ذكر الاسم (2) الظاهر __________ (1) (ق): "أعمالهم". (2) ليس في (ق).

(2/691)


فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلِّى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) وقوله في الركوع: "سبحان ربى العظيم"، وفي السجود: "سبحان ربى الأعلى"، وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمَّنتا معانيها من صفات الكمال ونعوت (ق 167/ ب) الجلال، فأتى بالاسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثني به ولأجله عليه -تعالى- ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك، ولهذا إذا كان لابدَّ من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة علي جميع الأسماء والصفات، نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: "اللهم ربنا لك الحمد"، وربما اقتصر على ذِكر الربِّ تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى، فتأمله فإنه لطيف المَنْزَع جدًّا. وتأمَّل كيف صدر الدعاء المتضمِّن للثناء والطلب بلفظ "اللهم" كما في سيد (1) الاستغفار: "اللهمَّ أنتَ رَبي لا إله إلا أنتَ خَلَقتني وأنا عبدك ... " (2) الحديث، وجاءَ الدعاءُ المجرد مصدَّرًا بلفظ "الرب" نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147]، وقول آدم -عليه السلام-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقول موسى -عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقول نوح -عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين: "رب اغفرْ لي ربِّ اغفر لي" (3). __________ (1) ليست في (ق). (2) أخرجه البخاري رقم (6306) وغيره عن حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-. (3) أخرجه أبو داود رقم (874)، والنسائي: (2/ 231)، وابن ماجه رقم (897) =

(2/692)


وسرُّ ذلك: أن (1) الله تعالى يُسأل بربوبيته المتضمِّنة قدرته وإحسانه وتربيته عبدَه وإصلاح أمره، ويُثنى عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العُلى والأسماء الحسنى. وتدبَّر طريقة القرآن تجدْها كما ذكرتُ لك. فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة، وهو في القرآن -حيث وقع- لا يكاد يجيء إلا مُصَدَّرًا باسم الرب. وأما الثناء -فحيث وقع- فمصدَّرٌ بالأسماء الحسنى، وأعظم ما يصَدَّر به اسم الله جل جلاله نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حيث جاءَ، ونحو: {سُبْحَانَ رَبِّكَ}، وجاء: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180]، ونحوه: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر: 1] حيثُ وقعت، ونحو (ظ/ 127 أ): {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (54)} [الأعراف: 54] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، ونظائره. وجاءَ في دعاءِ المسيح: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]، فذكَرَ الأمرين ولم يجئ في القرآن سواه، ولا رأيتُ أحدًا تعرَّض لهذا ولا نبَّه عليه. وتحته سِرٌّ عجيبٌ دالٌّ على كمال معرفة المسيح عليه السلام بربه وتعظيمه له، فإن هذا السؤال (2) كان عقيب سؤال قومِه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] فخوَّفهم بالله وأعلمهم أن (ق / 168 أ)، هذا مما لا يليق أن __________ = وغيرهم من حديث حذيفة -رضي الله عنه-. (1) (ق): "إن شاء". (2) (ق): "الدعاء".

(2/693)


يُسأل عنه وأن الإيمان يرده، فلما ألحُّوا عليه في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يُجَابوا إلى ما سألوا، بدأ السؤالَ باسم "اللهم" الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته، ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المُثني الحامد الذاكر لأسماء ربه المُثنى عليه بها. وأن المقصود منه بهذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يُثْني على الربِّ بذلك ويمجده به ويذكر آلاءَه ويظهر شواهدَ قدْرته وربوبيته، ويكون برهانًا على صِدْق رسوله، فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يَحْسُن معه الطلب، ويكون كالعُذْر فيه، فأتى بالاسمين: اسم الله الذي يثنى عليه به، واسم الرب الذي يُدْعَى ويُسئل به لما كان المقامُ مقامَ الأمرين. فتأمل هذا السرَّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمُك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه اللهُ من يشاء في كتابه، وله الحمد. وأما السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الخطاب؛ فقد ذكرنا سِرَّه في الوجه الذي قبل هذا، فالعهد به قريب. فصل وأما السؤال الثامن والعشرون فقد تضمن سؤالين؛ أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة؟ والثانى: لِمَ كان مُعَرَّفًا؟. والجواب: أما اختتام الصلاة به؛ فإنه قد جعل الله لكل عبادةٍ تحليلاً منها، فالتحلُّل (1) من الحجِّ بالرمي وما بعدَه، وكذلك التحلُّل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجَعَل السلامَ تحليلاً من الصلاة كما __________ (1) "منها فالتحلل" سقطت من (ظ).

(2/694)


قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحرِيْمها التكبير وتحلِيْلها التسْلِيم" (1) تحريمها هنا هو: بابها الذي يُدْخل منه إليها، وتحليلها: بابها الذي يُخْرج به منها، فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم (2) باب الخروج، لحكمة بديعة (3) بالغة، يفهمها من عَقَل عن الله وألزمَ نفسَه بتأمُّل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراجِ حكمِه وأسراره وبدائعه، وتعرَّبَ عن عالم العادة والإلْف، فلم يَقْنع بمجرَّد الأشباح حتَّى يعلم ما يقوم به من الأرواح، فإن الله تعالى لم يشرع شيئًا سدى ولا خِلوًا من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحِكَم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما وراءَه، فيسجد القلب خضوعًا وإذعانًا. فنقول وبالله التوفيق: لما كان المصلي قد تخلَّى عن الشواغل، (ق / 168 ب) وقطعَ جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيَّأ للدخول على الله -عز وجل- ومناجاته، شُرع له أن يدخل عليه دخولَ العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشُرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى، وهو قول: "الله أكبر"، فإن في هذا اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بـ "من" ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصوابُ أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه ولا تنعَقِد الصلاة إلا به، كما هو مذهب أهل __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (61)، والترمذي رقم (3)، وابن ماجه رقم (275)، وغيرهم من حديث عليٍّ -رضي الله عنه-. والحديث قوَّاه الترمذي وابن السكن والحاكم وغيرهم. (2) من قوله: "تحريمها هنا ... " إلى هنا ساقط من (د). (3) ليست في (ق).

(2/695)


المدينة وأهل الحديث. فجَعَل هذا اللفظَ، واستشعارَ معناه، والمقصودَ به: بابَ الصلاة الذي يَدخل العبد على ربه منه، فإنه إذا استشعرَ بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغَل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفَيًا (ظ/127 ب)، لمعنى "الله أكبر" ولا مؤدِّيًا لحقِّ هذا اللفظ، ولا أتى البيت من بابه، بل الباب عنه مسدود. وهذا بإجماع السلف: أنه لا يثاب العبد من صلاته إلا ما عَقَل منها وحَضره بقلبه. وما أحسن ما قال أبو الفرج ابن الجوزي في بعض وَعْظه (1): "حضورُ القلب أول منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلته انتقلْتَ إلى بادية المعنى (2)، فإذا رَحَلت عنها أنَخْت بباب المناجاة، فكان أولُ قِرَى ضيفِ اليقظةِ كَشْفَ الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة (3) من لا خرج إلى البادية، بعد تَبعث قلبك في كل وادٍ، فربما تفجأك الصلاةُ في ليس قلبك (4) عندك، فتبْعَث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب"- والمقصود أنه قبِيح بالعبد أن يقول بلسانه: "الله أكبر" وقد امتلأَ قلبه بغير الله، فهو قِبْلة قَلْبِه (5) فى الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضى حق: "الله أكبر" وأتى البيتَ من بابه، لدخل وانصرف بأنواع: التحف والخيرات، فهذا الباب الذي يدخل منه __________ (1) في كتاب "المدهش": (ص/ 454). (2) كذا فى الأصول، وفى "المدهش": "العمل". (3) إلى هنا الكلام متوافق مع ما في "المدهش" وبقية الكلام ليس فيه. (4) ليست في (ق). (5) أي: غير الله مستولٍ على قلبه، وفي (ق): "فهو وقلبه".

(2/696)


المصلي وهو التحريم. وأما الباب الذي يخرج منه، فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى، فيكون مفْتَتِحًا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتمًا لها باسمه، فيكون ذاكرًا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه وآخرها باسمه (1)، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه، مع ما في اسم "السلام" من الخاصية والحكمة (ق/169 أ)، المناسبة لانصراف المصلِّي من بين يدي الله، فإن المصلِّي ما دام في صلاته بين يدي ربه، فهو في حِماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره، بل هو في حِمى من جميع الآفات والشرور، فإذا انصرف من بين يديه -تبارك وتعالى- ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كلِّ جانب، وجاءه الشيطان بمصايده وجنده، فهو متعرِّض لأنواع البلاء والمِحَن، فإذا انصرفَ من بين يدي الله مصحوبًا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقتِ الصلاةِ الأخرى. وكان من تمام النعمةِ عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه. فتدبَّر هذا السرَّ الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيًا، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناءِ الزمان؟!، والحمد في ذلك لله وحده. فكما أن المنعم به هو الله وحده، فالمحمود عليه هو الله وحده. وقد عُرف بهذا جواب السؤال الثاني، وهو مجيء السلام هنا مُعَرَّفًا ليكون دالاً على اسمه "السلام". وليكن هذا آخر الكلام في مسألة "سلام عليكم"، فلولا قَصْد الاختصار لجاءت مجلَّدَاً ضخمًا. هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل __________ (1) "فأولها باسمه وآخرها باسمه" سقطت من (ق).

(2/697)


المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله، فإنها مملوءة منها، فمن أرادها فليأخذها من هناك، والحمد لله رب العالمين (1).

(2/698)


[تفسيرُ المُعَوِّذتيْن] روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث قيس بن أبي حازم، عن عُقْبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تَرَ آيات أنزِلتِ الليلةَ لَم يُرَ مِثلُهُنَّ قَطُّ: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "". وفي لفظ آخر (2) من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، عن عُقْبة (3) أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا أخْبِركَ بأَفْضَلِ ما تَعَوذ به المتعوِّذُوْن"؟ قلت: بلى، قال: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". (ظ/128 أ)، وفي الترمذي (4): حدثنا قُتيبة، نا ابن لَهِيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن علي بن رَبَاح، عن عُقْبة بن عامر، قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أقرأ بالمعوّذَتين في دُبُر كلِّ صلاةِ" قال: "هذا حديث غريب" (5). وفي الترمذي والنسائي و"سنن أبي داود" عن عبد الله بن حبيب، قال: خَرجْنا في ليلةِ مَطَرِ وظلْمَة نطلبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليصلي لنا، فأدركناه، فقال: "قل"، فلم أقل شيئًا، ثم قال: "قل"، فلم أقل شيئًا، ثم قال: __________ (1) رقم (814). (2) أخرجه أحمد: (3/ 417، 4/ 144)، والنسائي: (8/ 251) وفي سنده من لا يُعرف، لكنه يصح بشواهده الكثيرة، وانظر "السلسلة الصحيحة" رقم (1104). (3) كذا هنا ومثله في الموضع الأول في "المسند"! والحديث معروف من رواية التيمي عن القاسم أبي عبد الرحمن أو أبي عبد الله عن عقبة. (4) رقم (2903)، وأخرجه -أيضًا- أبو داود رقم (1522)، والنسائي: (3/ 68) من غير طريق ابن لهيعة. (5) وكذا في "تحفة الأشراف": (7/ 312)، وفي المطبوعة: "حديث حسن غريب".

(2/699)


"قُلْ"، قلت يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (ق / 169 ب) المعَوِّذتين حِيْنَ تُمسِي وحِيْنَ تُصْيح ثلاثَ مراتٍ تكفيكَ مِنْ كلِّ شيءٍ" (1). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح (2). وفي الترمذي (3) أيضًا من حديث الجُرَيْري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذ من الجان وعَيْنِ الإنسان حتَّى نَزلتِ المعوِّذَتان، فلما نزلتا أخَذ بهما وتركَ ما سِواهما" (4). ثم قال: "وفي الباب عن أنس، وهذا حديث حسن غريب" (5). وفي "الصحيحين" (6) عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أَوى إلى فراشه نفثَ في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين جميعًا، ثم يمسح بهما وجْهَه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعلَ ذلكَ به". قلت: هكذا رواه يونس، عن الزهري، عن عروة (7)، عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري. ورواه مالكٌ، عن الزهري، عن عروة عنها: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (5082)، والترمذي رقم (3575)، والنسائي: (8/ 250). (2) لفظه: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" اهـ. (3) رقم (2058). (4) وأخرجه -أيضًا- النسائي: (8/ 271)، وابن ماجه رقم (3511) ْ. (5) في (ظ ود) و"المنيرية": "حديث غريب"، والمثبت من (ق) والترمذي و "تحفة الأشراف": (3/ 459). (6) البخاري رقم (5748)، ومسلم: (4/ 1723 رقم 51). (7) "عن عروة" سقطت من (ق).

(2/700)


إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات ويَنْفُث، فلما اشتدَّ وجَعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها" (1). وكذلك قال مَعْمر، عن الزهري، عن عروة، عنها: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينفُثُ على نفسه في مرضه الذي قُبِض فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقلَ كنتُ أنا أنفثُ عليه بهنَّ وأمسحُ بيده نفسه لبركتها" فسألتُ ابنَ شهاب كيف كان ينفُث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. ذكره البخاري (2) أيضًا. وهذا هو الصواب: أن عائشةَ كانت تفعل ذلك، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك، وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه = فلا، ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى، فظنَّ أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمرها، وفرْقٌ بين الأمرين، ولا يلزم من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقرها على رقيته أن يكون مسترقيًا، فليس أحدهما بمعنى الآخر، ولعلَّ الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده، فيكون هو الراقي لنفسه، ويدُه لما ضَعُفت عن التنفُل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه، ويكون هذا غير (4) قراءتها هي عليه ومسحها على بدنه، فكانت تفعل هذا وهذا، والذي أمرها به إنما هو بِنَقْل يده لا رقيته، والله أعلم. والمقصودُ الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدَّة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحدٌ قط، __________ (1) رواه البخاري رقم (5016)، ومسلم: (4/ 1723). (2) رقم (5735 و 5751)، ومسلم: (4/ 1723). (3) من هنا إلى "وأقرها" الثانية ساقط من (ظ ود). (4) (ق): "عين" وهو خطأ.

(2/701)


وأن لهما تأثيرَاً خاصَّا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجةَ العبدِ إلى الاستعاذة بهاتين (ق/ 170 أ) السورتين أعظمُ من حاجته إلى النفَس والطعام والشراب واللباس. فنقول -والله المستعان-: قد اشتملت السورتان على ثلاثةِ أصول، وهي أصول الاستعاذة (1): أحدها: نفس الاستعاذة. والثاني: المستعاذ به. والثالث: المستعاذ منه. فبمعرفة ذلك تُعْرَف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين، فلنعقد لهما ثلاثة فصول؛ الفصل الأول: في الاستعاذة، والثاني: في المستعاذ به، والثالث: في المستعاذ منه. __________ (1) "وهي أصول الاستعاذة" ساقطة من (ق).

(2/702)


الفصل الأول اعلم أن لفظ "عاذ" وما تصرف منها تدل على التحرُّز (ظ / 128 ب) والتحصّن والالتجاء (1)، وحقيقة معناها: الهروب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: "مَعَاذًا"، كما يسمى "ملجأ ووَزَرًا". وفي الحديث: أن ابنةَ الجَوْن لما أدخِلت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها، قالت: أعوذُ باللهِ منكَ، فقال لها: "لقد عذْتِ بِمَعَاذٍ الحَقِي بأهْلِكِ" (2). فمعنى "أَعوذُ": ألتجئ وأعتصِم وأتحرز، وفي أصله قولان؛ أحدهما: أنه مأخوذ من الستر. والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة. فأما من قال: إنه مأخوذ من الستر، قال: العرب تقول للنبت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها: "عُوَّذ" بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظِلها سموه "عُوَّذا"، فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه، واستجنَّ به منه. ومن قال: هو من (3) لزوم المجاورة، قال: العرب تقول للحْمِ إذا لَصِق بالعظم فلم يتخلص منه "عُوذ"؛ لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائد قد استمسك بالمعَاذ (4)، واعتصم به ولزمه. __________ (1) (ظ): "والنجاة"، (د): "التخلص والنجاة". (2) أخرجه البخاري رقم (5255) من حديث أبي أُسيد الساعدي -رضي الله عنه-. (3) من (ق). (4) كذا في الأصول: "المعاذ"، وفي "المنيرية": "المستعاذ به".

(2/703)


والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معًا، فإن المستعيذ مستتر بمعَاذه متمسِّك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا شَهَر عدوه (1) سيفًا [(2) وقصده به، فهربَ منه فعرضَ له أبوه في طريق هربه، فإنه يُلقي نفسَه عليه ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائد قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكَه إلى ربِّه ومالكه، وفرَّ إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه. وبعد؛ فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة. ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تَقْصُر عن وصف ذلك، ولا تُدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفتَ لذَّة الوقاع لِعِنينٍ لم تُخلَق له شهوةٌ أصلاً، فلو قربتها وشبَّهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خُلِقَت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق. وأصل هذا الفعل: "أَعْوُذ" بتسكين العين وضم الواو، ثم أُعِلَّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو، فقالوا: "أَعُوْذ" على أصل هذا الباب، ثم طَرَدوا إعلالَه فقالوا في اسم الفاعل: "عائذ"، وأصله: "عاوذ"، فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة، كما __________ (1) (ظ ود): "عنده"، و"المنيرية": "أشهر عليه عدوه". (2) من هنا إلى قوله ص/ 707: "أنشأه" ساقط من (ق).

(2/704)


قالوا: "قائم وخائف"، وقالوا في المصدر "عياذًا بالله"، وأصله "عِواذًا" كـ "لِواذ"، فقلبوا الواو ياء للكسرة قبلها، ولم تحصنها حركتها؛ لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل، وقالوا "مستعيذ"، وأصله: "مستعوِذ" كـ "مستخْرِج"، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلَها، قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب (1). فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] ولم تدخل في الماضي والمضارع، يل الأكثر أن يقال: "أعوذ بالله"، و"عذْت بالله"، دون "أستعيد" و"استعذت"؟. قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: "أَسْتَعيذ بالله"، أي: أطلب العياذَ به، كما إذا قلت: "أَسْتَخير الله"، أي: أطلبُ خِيرتَه، و"أَسْتَغفره" أي: أطلب مغفرته، و"أَسْتَقِيله" أي: أطلب إقالته، فدخلت في الفعل إيذانًا لطلب هذا المعنى من المعاذ، فإذا قال المأمور: "أعوذ بالله"، فقد امتثل ما طُلِب منه؛ لأنه طَلَب منه الالتجاء والاعتصام، وفَرْق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ (ظ/129 أ) هاربًا ملتجئًا معتصمًا بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك، فتأمله. وهذا بخلاف ما إذا قيل: "اسْتَغْفِرِ الله"، فقال: "أَستَغْفر الله"، فإنه طلب منه أن يطلب المغفرةَ من الله، فإذا قال: "أسْتَغْفِر الله" كان ممتثلاً؛ لأن المعنى أطلب من الله أن يغفر لي. وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين، فيقول: "أَسْتَعيد بالله"، أي: أطلب منه أن يعيذني، ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام __________ (1) كذا العبارة وفيها اضطراب، ولعلها: "ثم قلبت الواو ياءً للكسرة قبلها".

(2/705)


والالتجاء والهرب إليه فالأول: مخبر عن حالِه وعِياذِه بربه، وخبرُه يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه. والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أكمل. ولهذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في امتثال هذا الأمر: "أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم"، و"أعُوذ بكَلِمَات اللهِ التَّامات" (1) - و"أعُوْذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقدْرَتهِ" (2) دون "أسْتَعيذ"، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "أَسْتَعيذ"، فتأمل هذه الحكمة البديعة. فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ومعلوم أنه إذا قيل: "قل الحمد لله"، و"قل سبحان الله"، فإن امتثاله أن يقول: "الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: "قل سبحان الله"؟. قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أُبَيُّ بن كعب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه وأجابه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري في "صحيحه" (3): حدثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عاصم وعَبْدَة، عن زرٍّ، قال: "سألت أُبيَّ بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسولَ اللُّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "قِيْلَ لي فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال (4): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا عَبْدة بن أبي لُبَابة، __________ (1) أحرجه مسلم رقم (2708) من حديث خولة بت حكيم السلمية - رضي الله عنها -. (2) أخرجه مسلم رقم (2202) من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- بلفظ: "أعوذ بقدرة الله"، وأخرجه أحمد (29/ 435 رقم 17907)، وأبو داود رقم (3891)، والترمذي رقم (2080) بلفظ المؤلف. (3) رقم (4976). (4) أي: البخاري رقم (4977).

(2/706)


عن زِرِّ بن حُبَيش، وحدثنا عاصم عن زِرٍّ، قال: "سألت أُبى ابن كعب، قلت: أبا المنذر إن أخاك ابنَ مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "قِيْلَ لي، فقلتُ: قُل" (1) فنحن نقول كما قال رسول الله". قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: "قيل لي: قل"، أو: قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي. وتحت هذا من السر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه] من قِبل نفسِه، بل هو المبلَغ له عن الله. وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} فكان مقْتضَى البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - (2) بقوله: "قيل لي فقلت" أي: فلستُ مبتدئًا بل أنا مبلِّغ أقولُ كما يقال لي، وأبلّغ كلامَ ربى كما أنزله إليَّ. فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ، وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القول العزيز (3) وهذا النظمُ كلامُه ابتدأَ هم به! ففي هذا الحديث أَبْيَن الرد لهذا القول، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغ القولَ الذي أُمِر (ق/ 170 ب) بتبليغِه على وجهِه ولفظِه، حتى إنه لما قيل له: "قل" قال هو: "قل"؛ لأنه مبلغ محض، وما على الرسول إلا البلاغ. __________ (1) كذا في (ق وظ)، وفي (د) والرواية التي شرح عليها الحافظ: "قيل لي: قل، فقلت". وكلام المؤلف يقضي بأن النص ليس فيه "قل". (2) (ظ ود): "أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". (3) (ظ ود): "القرآن العربي".

(2/707)


الفصل الثاني في المستعاذ به، وهو اللهُ وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المُستعِيذينَ، ويعصِمُهم ويمنعُهُم من شرِّ ما استعاذوا من شَرِّه. وقد (ظ 129/ ب) أخبر اللهُ تعالى في كتابه عمن استعاذَ بخلقه، أن استعاذَتَهُ زادته طغيانًا ورهقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، جاء في التفسير (1): أنه كان الرجلُ من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قَفْر، قال: أعوذ بسَيِّدِ هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه، فيبيت في أمنٍ وجوار منهم حتى يصبح، أيْ: فزاد الإنسَ الجنُّ باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي: طغيانًا (2) وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنسَ والجنَّ. والرَّهَقُ في كلام العرب: الإثم وغِشْيان المحارم (3)، فزادهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظوراً من الكِبْر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنسَ والجنَّ. واحتج أهل السُّنَة على المعتزلة في أن كلمات الله غيرُ مخلوقة __________ (1) جاء ذلك عن جماعة من السلف، انظر تفسير الطبري": (12/ 263). (2) بعدها في (ق): "وغيًّا وإثمًا .. ). (3) انظر "القاموس": (ص/1148).

(2/708)


بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بها (1) بقوله: "أعُوذُ بكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ" (2) وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق أبدًا (3). ونظير ذلك قوله: "أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبتَكَ" (4)، فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق. وكذلك قوله: "أعُوذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرتهِ" (5)، وقوله: "أعُوذُ بِنوُرِ وَجْهِكَ الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ" (6)، وما استعاذَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مخلوق، فإنه لا يستعيذُ إلا بالله أو بصفةٍ من صفاته. وجاءت الاستعاذةُ في هاتين السورتين باسم الرَّبِّ والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولابد من أن يكونَ ما وصف به نفسَه -سبحانه- في هاتينِ السورتينِ يناسبُ (7) الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفعَ الشَّرِّ المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله -سبحانه- يُدْعى بأسمائه الحسنى، فيُسألُ لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه (8). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هاتين السورتين: إنه "مما تعَوَّذَ المتَعَوِّذُونَ __________ (1) من (ق). (2) تقدم ص/706. (3) ليس في (ق). (4) تقدم 1/ 294. (5) تقدم ص/706. (6) قطعة من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عودته من الطائف أخرجه ابن إسحاق "سيرة ابن هشام": (2/ 419) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، والضياء في "المختارة": (9/ 181) وغيره، عن عبد الله بن جعفر الطيار مرسلاً -أيضًا-. (7) سقطت من (ظ ود). (8) انظر ما تقدم في هذا الكتاب: (1/ 281، 289، وغِيرها)، و "المدارج": (1/ 482).

(2/709)


بِمِثْلِهِما" (1)، فلابد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة فنقول: الفصل الثالث فى أنواع الشرور (ق/ 171 أ) المستعاذ منها فى هاتين السورتينِ الشَّرّ الذي يُصيبُ: العبدَ، لا يخلو من قسمين: إما ذنوبٌ منه يعاقَب عليها، فيكون وقوعُ ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشرُّ هو الذنوبَ وموجباتها، وهو أعظمُ الشَّرَّيْنِ وأدْوَمُهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه، وإما شرٌّ واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّفٌ أو غير مكلف، والمكلف إما نظيرُه وهو الإنسان، أو ليس نظيرَهُ وهو الجِنِّيُّ، وغيرُ المكلف مثل الهوَامِّ وذوات الحُمى (2) وغيرها. فتضمنَت هاتان السورتان الاستعاذةَ من هذه الشرور كلِّها، بأوجز لفظ وأجمعِهِ وأَدَلِّهِ على المراد وأعمَّه استعاذةً، بحيث لم يبقَ شرٌّ من الشُّرور إلا دخلَ تحتَ الشَّر المستعاذ منه فيهما. فإنَّ سورة الفلق تضمَّنت الاستعاذةَ من أمور أربعة: أحدها: شرُّ المخلوقات التي لها شرّ عمومًا. الثاني: شرُّ الغاسق إذا وَقَبَ. الثالث: شَرّ النَّفَّاثَات في العُقَد. الرابع: شرُّ الحاسد إذا حَسَدَ. فنتكلَّمُ على هذه الشُّرور الأربعة، ومواقعها، واتصالها بالعبد، والتحرُّز منها قبل __________ (1) تقدم ص/ 699. (2) الحُمَّة: سُمُّ كل شيء يلدغ أو يلسع، ويجمع على: حمات وحُمَى. "اللسان": (14/ 201).

(2/710)


وقوعها، وبماذا تُدفع بعد وقوعها. وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشَرِّ ما هو وما حقيقته؟ (1) فنقول: الشَّرُّ يقالُ على شيئين: على الألم وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرورُ هي (ظ/ 130 أ) الآلام وأسبابُها، فالمعاصي وِالكفرُ والشِّركُ وأنواع الظلم هى شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولَذة لكنها شرورٌ، لأنها أسبابُ الآلام ومفضيَةٌ إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبَّباتِها، فترتُّب الألم عليها كترتّب الموتِ على تناولُ السُّموم القاتلة، وترتبه على الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي نصِبَت (2) مفضيةً إلى مسبَّباتها ولابُدَّ، ما لم يمنعْ السببيةَ مانع، أو يعارضْ السببَ ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضدِّه، كما يعارض سببَ المعاصي قُوة الإيمان وعَظَمة الحسنات الماحيةِ وكثرَتها، فيزيد في كمِّيتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفعُ الأقوى الأضعفَ، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادَّة كأسباب الصِّحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة. والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لَذَّة مَّا، هى شرٌّ، وإن نالت بها النفس مَسَرَّة عاجلة، وهى بمنزلة طعام لذيد شهيٍّ لكنه مسمومٌ، إذا تناوله الآكل لَذَّ له أكله (3) وطاب له مَسَاغُهُ، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، (ف/ 171 ب) فهكذا المعاصي والذنوب ولابدَّ، حتى لو لم __________ (1) "وما حقيقته" ليست في (ق). (2) (ظ ود): "تصيبه". (3) (ظ ود): "لذَّ أكله".

(2/711)


يخبر الشارعُ بذلك لكان الواقعُ والتجربةُ الخاصَّةُ والعامةُ من أكبر شهوده. وهل زالت عن أحدٍ قطُّ نعمةٌ إلا بشؤم معصيته, فإنَّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيِّرُها عنه حتى يكونَ هو السَّاعيَ في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11]. ومن تأمَّل ما قصَّ الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمَه عنهم, وجد سبب ذلك جميعَه إنما هو مخالفةُ أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب كما قيل: إذا كنتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَها ... فإنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ (1) فما حُفِظت نعمةُ الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحَطَبِ اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له, والمقصود أن هذه الأسباب شرورٌ ولا بُدَّ. وأما كون مسبباتها شرورًا؛ فلأنها آلامٌ نفسية وبدنية فيجتمعُ على صاحبها مع شدَّة الألم الحسي ألَمُ الرُّوح بالهموم والغموم, والأحزان والحسرات. ولو تفطَّنَ العاقلُ اللّبيبُ لهذا حقَّ التَّفَطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب ولكن قد ضَرَبَ على قلبه حجابَ الغفلة ليقضيَ __________ (1) ذكره في "نفح الطيب": (2/ 174).

(2/712)


الله أمرًا كان مفعولاً. فلو تَيَقَّظَ حقَّ التَّيَقُّظِ لتقطَّعَتْ نفسُه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظِّه العاجل والآجل من الله, وإنما يظهرُ له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم, والإشراف والاطِّلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24] و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]. ولما كان الشرُّ هو الآلامَ وأسبابها, كانت استعاذاتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعُها مدارها على هذين الأصلين, فكل ما استعاذَ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو: إما مؤلمٌ وإما سبَبٌ إليه. فكان يتعوَّذُ في آخر الصلاة من أربع, وأَمَر بالاستعاذة منهن, وهي: "عذاب القبر, وعذاب النار", فهذان أعظم المؤلمات, و"فتنة المحيا والممات, وفتنة المسيح الدجال" (1). وهذان سبب العذاب المؤلم, فالفتنةُ سبب العذاب, وذَكَر الفتنةَ خصوصًا وعمومًا, وذكر نوعي الفتنة, فإن الفتنة إما في الحياة وإما بعد الموت, ففتنةُ الحياة قد يَتَراخى عنها العذاب مدَّة, وأما فتنة الموت فَيَتَّصلُ بها العذابُ من غير تراخٍ, فعادت الاستعاذةُ إلى الألم والعذاب وأسبابهما, وهذا من آكَدِ أدعية الصلاة حتى أوجب بعضُ السَّلف والخَلَف الإعادةَ على من لم يَدْعُ به في التَّشَهُّد الأخير, وأوجبه ابنُ حزم في كل تشهد فإن لم يأتِ به بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (2). ومن ذلك قوله: "اللَّهُمَّ إني أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1377) , ومسلم رقم (588) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) انظر "المحلى": (3/ 271).

(2/713)


والكَسَل والجُبْنِ والبُخْلِ وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ الرِّجَالِ" (1)، فاستعاذ من ثمانية أَشياء كل اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان، [وهما] من آلام الرُّوح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهمَّ تَوَقُّعُ الشر في المستقبل، والحزن التَّألُّم على حصول المكروه فِي الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألُّمٌ وعذابْ يَرِدُ على الروح، فإنْ تَعَلَّقَ بالماضي سُمِّي حزنًا، وإن تعَلَّق بالمستقبل سُمِّي همًّا. والعجز والكسل قرينان، وهما منْ أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدمَ القدرة، والكسلُ يستلزمُ عدم إرادته، فتتألمُ الرُّوح لفواته بحسب تعلُّقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل. والجبنُ والبخل قرينانِ؛ لأنهما عدمُ النفع بالمال والبَدَن، وهما من أسباب الألم، لأن الجبان تفوتُهُ محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تُنال إلَّا [بالبَذْل والشجاعة] (2) فالبخل يحولُ بينه وبينها أيضًا، فهذان الخُلُقان من أعظم أسباب الآلام. وضَلَع الدَّيْن وقَهْر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس معذبان لها؛ أحدُهما قهر بحق وهو ضَلَع الدَّيْن. والثاني قهر بباطل هُو غَلَبَةُ الرجال، وأيضًا فضَلَعُ: الديْن قهرٌ بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر (3) بغير اختياره. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2893) ومسلم رقم (2706) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (2) (ق): "بالشجاعة والإقدام" مع تكرار، و (ظ ود): "بالبذل والسخاء". (3) (ق): "فهي".

(2/714)


ومن ذلك تعوُّذُه - صلى الله عليه وسلم -: "مِنَ المَأثَمِ وَالمَغْرَمِ" (1) فإنهما يسببان الألم العاجل والآجل (2) , ومن ذلك قوله: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ, وبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ" (3) , فالسخط سبب الألمِ, والعقوبة هي الألم, فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها. فصل والشرُّ المستعاذُ منه نوعان: أحدهُما: موجود يُطلب رفعه. والثاني معدومٌ يطلبُ بقاؤه على العدم وأن لا يوجد. كما أن الخير المطلق نوعان: أحدهما موجودٌ فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه. والثاني معدومٌ فيطلب وجوده وحصوله. فهذه أربعةُ هي أمهات مطالب السَّائلين من ربِّ العالمَين, وعليها مدارُ طَلَبَاتِهِم, وقد جاءت هذه المطالبُ الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً (4) عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن __________ (1) أخرجه البخاري رقم (832) , ومسلم رقم (589) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (2) من (ق). (3) تقدم 1/ 294. (4) (ق): "في الآية".

(2/715)


الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه. ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار (193)} , فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود وهو الإيمان, حتى يتوفاهم عليه, فهذانِ قسمان. ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه. ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلبٌ أن لا يقعَ (1) بهم الشَّرُّ المعدومُ, وهو خزيُ يوم القيامة, فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظام, مرتبةً أحسن ترتيبٍ, قُدِّمَ فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة, ودوامُ الإسلام إلى الموت, ثم أُتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما: أن يُعطوا ما وُعِدُوه على ألسنة رسله, وأن لا يُخْزِيَهُم يوم القيامة. إذا عُرِف هذا؛ فقوله - صلى الله عليه وسلم - في تشهُّد الخطبة: "وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنا, ومِنْ سيئاتِ أَعْمَالِنَا" (2) , يتناوَلُ الاستعاذةَ من شرِّ النفس الذي هو معدومٌ لكنه فيها بالقوَّة, فيسأل دفعه وأن لا يوجد. وأما قوله: "مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا"؛ ففيه قولان: أحدهما: أنه استعاذةٌ من الأعمال السيئة التي قد وُجِدتْ, فيكون الحديثُ قد تناولَ نوعَي الاستعاذة من الشَّرِّ المعدوم الذي لم يوجدْ, ومن الشر الموجود فطلب دَفْع الأول ورَفْع الثاني. __________ (1) كذا في الأصول, وفي "المنيرية": "يوقع". (2) تقدم 2/ 448.

(2/716)


والقول الثاني: إن سيئاتِ الأعمال هي: عقوباتُها وموجباتُها السيئة التي تسوءُ صاحبَها، وعلى هذا يكونُ مِن استعاذةِ الدفع أيضًا لكنه (1) دفعُ المسبب، والأول دفع السبب، فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه، وعلى الأوّل يكون إضافةُ السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه، فإن الأعمال جنسٌ وسببُها (2) نوعٌ منها. وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبَّب إلى سَبَبِهِ، والمعلول إلى علته, كأنه قال: من عقوبة عملي، والقَولانِ محتملانِ، فتأمل أيَّهُمَا ألْيَقُ بالحديث وأولى به، فإنّ مع كلِّ واحد منهما نوعًا من الترجيح. فيترجَّحُ الأولُ: بأن منشأ الأعمال السيئة من شرِّ النفس، فشرُّ النفس يولِّدُ الأعمالَ السَّيِّئَةَ فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة, وهذان جِمَاعُ الشَّرِّ وأسباب كلِّ ألم، فمتى عوفي منها عُوفِيَ من الشَّرِّ بحذافيره (3). ويترجَّحُ الثاني: بأن سيئاتِ الأعمال هي العقوباتُ التي تسوءُ العامل، وأسبابها شرُّ النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها، والقولانِ في الحقيقة متلازمان، والاستعاذة من أحدهما تستلزمُ الاستعاذةَ من الآخر. فصل ولما كان الشَّرُّ له سببٌ هو مصدرُه, وموردٌ هو منتهاه، وكان __________ (1) من (ق). (2) "المنيرية": "وسيئاتها". (3) من قوله: "التي تحدث ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/717)


السببُ إما من ذات العبد. وإما من خارج، ومورده ومنتهاه، إما نفسه وإما غيره = كان هنا أربعة أمور: شرٌّ مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى، وشرٌّ مصدره من غيره وهو السبب فيه، ويعودُ على نفسه تارة في على غيره أخرى. جمع النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصِّدِّيقَ أن يقولَه إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْب والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ نَفْسي، وَشَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، وأَنْ أقْترِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلى مُسْلِمٍ" (1) فذكر مصدَرَي الشَّرِّ وهما النفسُ والشيطانُ، وذكر مَوْرِدَيْهِ ونهايتيه، وهما: عودُه على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديثُ مصادرَ الشَّرِّ ومواردَهُ في أوجز لفظٍ وأخصرِه وأجمعِه وأبينِه. فصل فإذا عُرِفَ هذا فلْنَتَكَلَّمْ على الشُّرور المستعاذ منها في هاتين السورتين: الشَّرُّ الأوَّل: العامِ في قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} و (ما)، هاهُنا موصولة ليس إلَّا، والشَّرُّ مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خَلْق الرَّبِّ تعالى الذي هو فعلُه وتكوينُه، فإنه لا شرَّ فيه بوجهٍ ما، فإن الشَّرَّ لا يدخل في شيءٍ من صفاته ولا في أفعاله، كما لا __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، وابن حبان. "الإحسان": (3/ 242)، والحاكم: (1/ 513) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "حسن صحيح" وصححه ابن حبان والحاكم والذهبى.

(2/718)


يلحقُ ذاتَهُ تبارك وتعالى، فإن ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمالُ المطلَقُ والجلالُ التَّامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما. وكذلك أفعالُه كلُّها خيراتٌ محضة لا شرَّ فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه لاشْتُقَّ له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدَّس عن ذلك، وما يفعلُه من العدل بعباده وعقوبة من يستحقُّ العقوبةَ منهم هو خيرٌ محض، إذ هو محضُ العدل والحكمة، وإنما يكون شرًّا بالنسبة إليهم، فالشَّرُّ وقع في تعلُّقه بهم وقيامه بهم (1)، لا في فعله القائم به تعالى، ونحنُ لا نُنكرُ أن الشَّرَّ يكونُ في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ. ولكن هنا أمرانِ ينبغي أن يكونا منك على بالٍ. أحدهما: أن ما هو شرٌّ أو متضمِّنٌ للشر فإنه لا يكونُ إلَّا مفعولاً منفصلًا، لا يكونُ وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله. الثاني: أن كونه شرًّا هو أمر نسبيٌّ إضافيٌّ، فهو خيرٌ من جهة تعلُّق فعل الرَّبِّ وتكوينه به، وشرٌّ من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان، هو من أحدهما خيرٌ، وهو الوجه الذي نُسِبَ منه إلى الخالق -سبحانه وتعالى- خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطْلَعَ من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثرُ الناس تضيقُ عقولُهم عن مبادئ معرفتها، فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله -سبحانه- هو الغنيُّ __________ (1) (ق): "وقيامهم به".

(2/719)


الحميدُ, وفاعل الشر لا يفعله إلَّا لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيلُ صدورُ الشَّرِّ من الغني الحميد فعلًا، وإن كان هو الخالقَ للخير والشَّرِّ، فقد عرفتَ أن كونه شرًّا هو أمرٌ إضافيٌّ، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه. فلا تغفلْ عن هذا الموضع، فإنه يفتحُ لك بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ ومحبته، ويزيل عنك شُبُهَات حارتْ فيها عقولُ أكثر الفضلاء. وقد بسطت هذا في كتاب "التحفة المكية"، وكتاب "الفتح القدسي" (1). وغيرهما. وإذا أشكل عليك هذا فأنا أُوضِّحه لك بأمثلة: أحدُها: أن السَّارقَ إذا قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَطْعُها شرٌّ بالنسبة إليه، وخيرٌ محض بالنسبة إلى عموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضَّرر عنهم، وخيرٌ بالنسبة إلى مُتَوَلِّي القطع أمرًا وحكمًا؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرِّ بهم، فهُو محمودٌ على حكمه بذلك، وأمرِه به، مشكورٌ عليه، يستحقُّ عليه الحمدَ من عباده والثَّناء عليه والمحبَّة. وكذلك الحكم يقتل من يصولُ عليهم في دمائهم وحُرُماتهم، وجَلْد من يصولُ عليهم في أعراضهم، فإذا كان هذا عقوبةَ من يصولُ عليهم في دنياهم فكيف عقوبةُ من يصولُ عليهم في (2) أديانهم ويحولُ بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به [(3) رسلَهُ، وجعل __________ (1) تقدم الكلام عليهما. (2) (ظ ود): "على أديانهم". (3) سقطت (الورقة 174) من (ق) وهي من قوله: "رسله ... " إلى قوله: "فما أحوج القلوب" ص/ 724.

(2/720)


سعادةَ العباد في معاشهم ومعادهم منوطةً به؟!. أفليس في عقوبة هذا الصَّائل خيرٌ محضٌ وحكمةٌ وعدلٌ وإحسان إلى العبيد؟! وهي شرٌّ بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشرُّ ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نُسِبَ إلى الربِّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عينُ الخير والحكمة، فلا يغْلُظْ حجابُك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسِّرّ الذي يُطْلعكَ على مسألة القَدَر، ويفتحُ لك الطريقَ إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البَرُّ الرحيم الودودُ المحسنُ، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمتُهُ رحمتَهُ، بل يضعُ رحمتَهُ وبِرَّهُ وإحسانَهُ موضِعَهُ، ويضعُ عقوبَتَهُ وعدلَه وانتقامَه وبأسَهُ موضعَه، وكلاهما مقتضى عِزَّتِهِ وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضعَ رضاه ورحمته موضعَ العقوبة والغضب، ولا يضعُ غضبَه وعقوبتَه موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفتُ إلى قول من غَلُظ حجابُه عن الله تعالى: إن الأمرين بالنسبة إليه على حدٍّ سواء، ولا فرْقَ أصلًا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره، كيف تجدُه كفيلاً بالرَّدِّ على هذه المقالة، وإنكارها أشدَّ الإنكار، وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35 - 36] وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28] فأنكر سبحانه على من

(2/721)


ظن هذا الظن ونزَّه نفسه عنه، فدل على أنه مستقرٌّ فِي الفِطَر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعِزَّته وإلاهيته، لا إله إلَّا هو، تعالى عما يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا. وقد فطرَ اللهُ عقولَ عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضعِ الرحمة والإحسان، ومكافأة الصُّنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضعَ العقوبة موضعَ ذلك استنكرته فِطَرُهُمْ وعقولُهم أشدَّ الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيءُ إلى العالمَ بأنواع الإساءة في كلِّ شيءٍ من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمَه غايَةَ الإكرام ورفعه وكرَّمه، فإن الفِطَر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهدُ على سَفَه من فعله. هذه فطرةُ الله التي فَطَر الناسَ عليها، فما للعقول والفِطَر لا تشهدُ حكمتَه البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أَوْلى المحالّ بها: وأحقِّها بالعقوبة؛ وأنها لو أوليت النِّعَمَ لم تحسنْ بها ولم تَلِقْ, ولظهرت مناقضةُ الحكمة، كما قال الشاعر: نِعْمَةُ اللهِ لا تُعَابُ ولَكِنْ ... ربَّما استُقْبِحَتْ علي أَقْوامِ فهكذا نعمُ الله لا تليقُ ولا تَحْسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائه الصَّادِّين عن سبيله، السَّاعين في خلاف مرضاته، الذين يَرْضَوْنَ إذا غضب، ويغضبُون إذا رَضِيَ، ويعطِّلون ما حكم به، ويَسْعَوْن في أن تكون الدعوةُ لغيره، والحكمُ لغيره، والطاعةُ لغيره، فهم مضادُّون في كلِّ ما يُريدُ، يحبُّون ما يُبغِضُه ويدعون إليه، ويُبغضون ما يُحِبُّه وينفرون عنه، ويوالون أعداءَهُ وأبغضَ الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى

(2/722)


رسوله، كلما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55] وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 55]. فتأمل ما تحتَ هذا الخطابِ الذي يسلبُ الأرواحَ حلاوةً وعقابًا (1) وجلالة وتهديدًا، كيف صدّره بإخبارنا أنه أمر إبليسَ بالسجود لأبينا، فأبى ذلك، فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنتُه وطردتُه؛ إذ (2) لم يسجدْ لأبيكم، وجعلته عدوًّا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني، أفَلَيْس هذا من أعظم الغَبْن وأشدِّ الحسرة عليكم؟ ويوم القيامة يقول تعالى: أليس عدلاً مني أن أوَلِّيَ كلَّ رجل منكم ما كان يَتَوَلَّى في دار الدنيا، فليعْلمَنَّ أولياءُ الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائِهم وبقي أولياءُ الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلَّى لهم، ويقول: "أَلا تَذْهَبُونَ حَيْثُ ذَهَبَ النَّاسُ؛ فَيَقُولونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ أَحْوَجَ ما كُنَّا إِلَيْهِمْ، وإِنَّما نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الّذِي كُنّا نَتَوَلاَّهُ وَنَعْبُدُهُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَلامَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِها؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم إِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ، فَيَتَجلَّى لَهُمْ وَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَيَخِرُّون لَهُ سُجَّدًا" (3). فيا قرَّةَ عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فَرَحَهُمْ إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقُوا مع مولاهم الحق، فسيعلمُ المشركون به الصَّادُّون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءَهُ، إنْ أولياءُهُ إلَّا المُتَّقُون، ولكن أكثرهم لا يعلمون. __________ (1) كذا، ولعلها: عتابًا. (2) (ظ ود): "إن". (3) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (7439)، ومسلم رقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- بنحوه.

(2/723)


ولا تستطِلْ هذا البَسْطَ، فما أحوجَ القلوب] إلى معرفته وتعقُّله، ونزولها منه منازلَها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النَّبييِّن والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا. فصل إذا عُرِفَ هذا عُرِف معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِليْكَ" (1)، وأنَّ معناه أجلُّ وأعظم من قول من قال: "والشَرُّ لا يُتَقرَّبُ به إليك"، وقول من قال: "والشرُّ لا يصعَدُ إليكَ" وأن هذا الذي قالوه إنما يتضمَّن تنزيهَه: عن صعود الشرِّ إليه والتقرب به إليه، لا يتضمَّن تنزيهَهُ في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشَّرِّ، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدَّق (2)، فإنه يتضمَّنُ تنزيهَه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشَّرِّ إليه بوجهٍ ما، لا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، ولا في أسمائه، وإن دخل في مخلوقاته، كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1 - 2]. وتأملْ طريقَة القرآن في إضافة الشَّرِّ تارة إلى سببه ومن قام به، كقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254] وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة: 108]، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]، وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]، وهو فِي القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشارِه، وإنما المقصودُ التمثيلُ. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (771) من حديث علي -رضي الله عنه-. (2) (ق): "المصدوق".

(2/724)


وتارة بحَذْف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرَّحوا بمريد الرشد. ونظيره في الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] , فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه, والضلال منسوبًا إلى من قام به, والغضب محذوفًا فاعله. ومثله قول الخَضر في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وفي الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]. ومثله قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فنسب هذا التَّزيينَ المحبوبَ إليه, وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فحذف الفاعلَ المُزَيِّن. ومثله قول الخليل - صلى الله عليه وسلم - {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78 - 82] فنسب إلى ربِّه كل كمال من هذه الأفعال, ونسبَ إلى نفسه النقصَ منها وهو المرضُ والخطيئةُ. وهذا كثير في القرآن الكريم, ذكرنا منه أمثلةً كثيرةً في كتاب "الفوائد المكية" وبيّنا هناك السِّرَّ في مجيء: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] والفرق بين الموضعين, وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعًا في سياق المدح,

(2/725)


وحيثُ حذَفَه كان من أوتيه واقعًا في سياق الذَّمِّ أو منقسمًا, وذلك من أسرار القرآن الكريم. ومثله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] , وقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14] وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169] فهذا خلف سوءٍ (1) , وبالجملة فالذي يضافُ إلى الله تعالى كلُّه خيرٌ وحكمة ومصلحة وعدل, والشرُّ ليس إليه. فصل وقد دخل في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره, إنسيًّا كان أو جنيًّا, أو هامَّةً أو دابَّةً, أو ريحًا أو صاعقةً, أو أيَّ نوع كان من أنواع البلاء. فإن قلت فهل في (ما) هاهنا عموم؟ قلت فيها عمومٌ تقييديٌ وصفيٌ لا عمومٌ إطلاقيٌ, والمعنى: من شرِّ كلِّ مخلوق فيه شرٌّ, فعمومها من هذا الوجه, وليس المرادُ الاستعاذة من شرِّ كلِّ ما خلقه الله تعالى, فإن الجنةَ وما فيها ليس فيها شرٌّ, وكذلك الملائكةُ والأنبياءُ فإنهم خيرٌ محضٌ, والخير كلُّه حصل على أيديهم, فالاستعاذة من {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} تعمُّ شرَّ كلِ مخلوق فيه شرٌّ, وكل شرٍّ في الدنيا والآخرة, وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوامِّ, وشر النار والهواء, وغير ذلك. __________ (1) "فهذا خلف سوءٍ" من (ق).

(2/726)


وفي "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ نَزَلَ مَنْزلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ لم يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ" رواه مسلم (1). روى أبو داود في "سننه" (2) عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ, أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ ما فِيكِ وَشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ ما يَدِبُّ عَلَيْكِ، أَعُوذُ باللهِ مِنْ أَسَدٍ وأَسْوَد، ومنْ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ، ومن سَاكِنِ البلَدِ، ومِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ" (3). وفي الحديث الآخر: "أعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ الّتِى لا يُجَاوِزُهُا بَرٌّ ولا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ ما خَلَق وذَرَأَ وبَرَأَ، وَمنْ شَرِّ ما يَنَزِلُ مِنَ السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فيها، ومنْ شَرِّ مَا ذَرَأ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنهْا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَمنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلاَّ طارقًا يَطْرُق بخيرٍ يا رَحْمنُ" (4). فصل الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب فهذا خاصٌّ بعد __________ (1) رقم (2708) من حديث خولة بنت حكيم السُّلَميّة - رضي الله عنها -. (2) رقم (2603). (3) وأخرجه أحمد: (10/ 301 رقم 6161)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (563)، وابن خزيمة رقم (2572)، والحاكم: (2/ 100) وغيرهم. والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم؛ لكن فيه الزبير بن الولد لم يوثقه معتبر، وقد تفرَّد بهذا الحديث. (4) أخرجه أحمد: (24/ 200 رقم 15460)، وأبو يعلى رقم (6844) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي التيَّاح عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي بنحوه. وقد تفرّد به جعفر، وهو ممن ينفرد بالمناكير.

(2/727)


عام، وقد قال أكثرُ المفسرين: إنه الليل. قال عبد الله بن عباس: الليلُ إذا أقبلَ بظلمته من الشَّرق، ودخل في كلِّ شيء وأظلمَ (1)، والغَسَقُ: الظُّلْمَةُ. يقال: غَسَقَ اللَّيْلُ، وأغْسَقَ: إذا أظلم، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. وكذلك قال الحسنُ ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل، والوُقوب: الدخولُ، وهو دخولُ اللَّيل بغروب الشمس، وقال مقاتل: يعني ظُلْمَةَ اللَّيل إذا دخل سوادُه في ضوء النهار. وفي تسمية الليل غاسِقًا قولٌ آخرُ: إنه من البَرْد، والليل أبردُ من النهار، والغَسَق: البَرْدُ، وعليه حَمَل ابن عباسٍ قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} [ص: 57] وقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 24 - 25] قال: هو الزمهريرُ يحرقُهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برْدُهُ (2). ولا تنافيَ بين القولين: فإن الليلَ باردٌ مظلم، فمن ذكر بردَهُ فقط أو ظلمته فقط، اقتصر على أحد وصفيه، والظلمةُ فِي الآية أنسبُ لمكان الاستعاذة، فإن: الشَّرَّ الذي ينشأ بسبب (3) الظلمةَ أوْلى بالاستعاذة من البَرْد الذي في الليل، ولهذا استعاذ بربِّ الفلق الذي هو الصبْحُ والنور، من شرِّ الغاسق الذي هو الظُّلمة، فناسبَ الوصفُ المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة، كما سنزيدُه تقريرًا عن قريب إن شاء الله. __________ (1) انظر: "تفسير الطبري": (12/ 748 - 749). (2) انظر "تفسير الطبري": (10/ 599)، و"الدر المنثور": (5/ 594) آية (ص)، و"الطبري": (12/ 407)، و"الدر": (6/ 503) آية (النبأ). (3) (ظ ود). "يناسب".

(2/728)


فإن قيل: فما تقولونَ فيما رواه التِّرمذي (1) من حديث ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سَلَمَةَ، عن عائشة قالت: "أخذَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فنظر إلى القمر فقال: "يا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ منْ شَرِّ هَذا، فَإِنَّ هَذا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ" (2). قال التِّرْمِذِيُّ: "هَذا حديث حسن صحيح"، وهذا أولى من كلِّ تفسير فيتعيَّنُ المصرُ إليه؟. قيل: هذا التفسيرُ حقٌّ، ولا يناقضُ التفسيرَ الأوَّلَ بل يوافقُهُ ويشهدُ بصحَّتِهِ، فإنَّ الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فالقمر هو آيةُ الليلِ وسلطانُه، فهو أيضًا: غاسقٌ إذا وَقَبَ، كما أن اللَّيلَ غاسِقٌ إذا وقب، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب، وهذا خبر صدق، وهو أصدقُ الخبر، ولم ينفِ عن اللَّيل اسمَ الغاسق إذا وَقَبَ، وتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالذِّكر لا ينفي شمولَ الاسم لغيره. ونظير هذا قوله في المسجد الذي أُسِّس على التَّقْوى، وقد سُئِل عنه فقال: "هُوَ مَسْجِدِي هذا" (3) ومعلومٌ أن هذا لا ينفي كونَ مسجدِ قُباءٍ مؤسَّسًا على التقوى، [بل ثبت أن مسجده أحق بالدخول في هذا الاسم، وأنه أحق بأن يكون مؤسسًا على التقوى] (4) من ذاك. __________ (1) (ق): "في جامعه". (2) أخرجه الترمذي رقم (3366)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (305)، وأحمد (6/ 61 ومواضع أخرى)، والحاكم (2/ 540) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. والحديث قال فيه الترمذي "حسن صحيح"، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ في "الفتح": (8/ 613). (3) أخرجه مسلم رقم (1398) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (4) ما بين المعكوفين من (ق).

(2/729)


ونظيره أيضًا: قوله في عَلِيٍّ وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم أجمعين -: "اللَّهُمَّ هؤلاءِ أَهْلُ بَيْتي" (1)، فإن هذا لا ينفي: دخول غيرهم من أهل: بيته فِي لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخل فِي لفظ أهل بيته. ونظير هذا قوله: "لَيْسَ المِسْكِينُ بِهذا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلكِنَّ المِسْكِينَ الّذِي لا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلا يُفْطَنُ لهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ" (2) وهذا لا ينفي اسم المسْكَنة عن الطوَّاف، بل يحفي اختصاصَ الاسم به، ويبيِّن أن تناولَ المسكين لغير السَّائل أولى من تناوله له. ونظيرُ هذا قوله: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنّ الشَّدِيدَ الّذِيْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَب" (3) فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرعُ الرجالَ، ولكن يقتَضي أن ثبوتَه للذي يملكُ نفسَه عند الغضب أولى، ونظيره [الغَسَقُ] (4) والوُقُوبُ وأمثالُ ذلك، فكذلك قوله فِي __________ (1) أخرجه أحمد: (28/ 195 رقم 16988)، وابن حبان "الإحسان": (15/ 432) , والحاكم: (2/ 416)، والبيهقي: (2/ 152)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-. والحديث صححه ابن حبان والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط مسلم. وللحديث شاهد من حديث أم سلمة أخرجه أحمد: (6/ 292)، والحاكم: (2/ 416). (2) أخرجه البخاري رقم (1476)، ومسلم رقم (1039) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (3) أخرجه البخاري رقم (6114)، ومسلم رقم (2609) من حديث أبي هريرة - رضى الله عنه -. (4) في الأصول: "المغلس" والمثبت من "المنيرية".

(2/730)


القمر: "هَذا هُوَ الغَاسِق إذا وَقَبَ", لا ينفي أن يكون الليلُ غاسقًا، بل كلاهما غَاسِقٌ، [والنبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى آية الليل وسلطانه والمفسرون ذكروا الليلَ نفسَه، والله أعلم] (1). فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضُهم أن المرادَ به القمرُ إذا خَسَف واسوَدَّ؟ وقوله: "وقب" أي: دَخَل في الخُسوف أو غاب خاسفًا؟ (2). قيل: هذا القولُ ضعيفٌ، ولا نعلمُ به سَلَفًا، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أشار إلى القمر وقال: "هذا الغاسِقُ إذا وَقَب" لم يكن خاسفًا إذ ذاك، وإنما كان وهو مستنيرٌ، ولو كان خاسفًا لذكرته عائشة، وإنما قالت: نظر إلى القمر وقال: "هذا هو الغاسِقُ " (3)، ولو كان خاسفًا لم يصِحَّ أن يحذفَ ذلك الوصف منه، فإنَّ ما أُطْلِق عليه اسم الغاسق باعتبار صفةٍ لا يجوزُ أن يطلقَ عليه بدونها لما فيه من التلبيس. وأيضًا: فإن اللغة لا تساعد على هذا، فلا نعلمُ أحدًا قال: الغاسقُ هو القمرُ في حال خسوفه. وأيضًا: فإنى الوُقُوب لا يقولُ أحدٌ من أهل اللغة: إنه الخسوفُ، وإنما هو الدُّخول من قولهم: "وَقَبَتِ العَيْنُ" إذا غارت. و"رَكِيَّةٌ وَقْبَاءُ": غارَ ماؤها فدخل في أعماق التُّراب. ومنه الوَقْبُ: للثُّقْب الذي يدخل فيه المِحْوَرُ، وتقول العربُ: وَقَبَ يَقِبُ وقوبًا: إذا دَخَلَ. فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهبَ إليه بعضُهم: أن __________ (1) الزيادة بين المعكوفات من (ق). (2) (ق) زيادة: "مظلمًا". (3) تقدم قريبًا.

(2/731)


الغاسق هو الثُرَيَّا إذا سقطت، فإن الأسقامَ تكثُرُ عند سقوطها وغروبها وترتفِعُ عند طلوعها؟. قيل: إن أراد صاحبُ هذا القول اختصاصَ الغاسق بالنجم إذا غَرَبَ فباطلٌ، وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجهٍ ما، فهذا يحتملُ أن يدلَّ اللفظُ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه، وأما أن يختصَّ اللفظُ به فباطل. فصل والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر إذا وقب هو: أن الليل إذا أقبلَ فهو محلُّ سلطان الأرواح الشِّرِّيرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين، وفى "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال: "فَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ واحْبِسُوا مَوَاشِيَكُمْ حَتّى تَذْهَب فَحْمَةُ العِشَاءِ" (1). وفى حديث آخر: "فَإِنَّ اللهَ يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ" (2)، والليلُ هو محلُّ الظلام، وفيه تتسلَّطُ شياطينُ الإنس والجن ما لا تتسلَّطُ بالنهار، فإن النهار نورٌ, والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة والمظالم وعلى أهل الظلمة. وروي أن سائلاً سأل مُسَيْلَمَةَ: كيف يأتيك الذي يأتيكَ؟ فقال: في __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3280 و 3316 وغيرها)، ومسلم رقم (2012 و 2013) من حديث جابر -رضي الله عنه- بنحوه. وقوله في الحديث: "فاكفتوا" قال الحافظ: "بهمزةِ وصلٍ وكسر الفاء ويجوز ضمها، بعدها مثناة، أي: ضمُّوهم إليكم" اهـ من "فتح الباري": (6/ 410). (2) أخرجه أحمد: (22/ 188 رقم 14283)، وأبو داود رقم (5104) وغيرهما من حديث جابرٍ أيضًا.

(2/732)


ظلماءَ حِنْدِس، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك؟ فقال "في مثْلِ ضوْءِ النَّهارِ" (1) , فاستدلَّ بهذا على نُبُوَّته, وأنَّ الذي يأتيه مَلَكٌ من عند الله, وأن الذي يأتي مُسَيْلَمَةَ شيطانٌ, ولهذا كان سلطانُ السحر وعِظَم تأثيره إنما هو باللَّيل دون النهار, فالسِّحْرُ اللَّيْلِيُّ عندَهم هو السِّحْرُ القويُّ التأثيرُ, ولهذا كانت القلوبُ المظلمةُ هي محالَّ الشياطين وبيوتَهم ومأواهم, والشياطينُ تجولُ فيها وتتحكَّمُ كما يتحكَّمُ ساكنُ البيت فيه, وكلما كان القلبُ أظلم كان للشيطانِ أطوَعَ, وهو فيه أثبَتُ وأمكنُ. فصل ومن هاهنا تعلم السِّرَّ في الاستعاذة بربِّ الفلق في هذا الموضعِ, فإن الفلقَ الصُّبْحُ الذي هو مبدأُ ظهور النور, وهو الذي يطردُ جيش الظلام وعَسْكر المفسدين في الليل, فيأوي كلُّ خبيث وكلُّ مفسدٍ وكلُّ لصٍّ وكلُّ قاطع طريق إلى سَرَبٍ أو كِنٍّ أو غارٍ, وتأوي الهوامُّ إلى جِحَرتها (2) , والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنَتِها ومحالِّها. فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برَبِّ النور الذي يقهَرُ الظُّلْمَة ويُزيلها ويقهرُ عسكرَها وجيشَها, ولهذا يخبر سبحانه في __________ (1) لم أجده، لكن أخرج أحمد: (1/ 312)، والطبراي بنحوه -كما في المجمع: 8/ 258 - عن ابن عباس، وابن سعد في "الطبقات": (1/ 195) عن عروة مرسلاً بسندٍ صحيح في حديث بدء الوحي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: "إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا ... ". قال الهيثمي عن سند أحمد: "ورجاله رجال الصحيح". (2) (ظ ود): "أجحرتها"، والمثبت من (ق) وهو جمع "جُحْر" ويجمع على: "جِحَرة وأجحار" في انظر "اللسان": (4/ 117).

(2/733)


كلِّ كتاب (1) أنه يخرجُ عبادَهُ من الظُّلُماتِ إلى النُّور, ويدَعُ الكفارَ في ظلمات كفرهم قال تعالى الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] , وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] وقال في أعمار الكفار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40]. وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]. فالإيمان كلُّه نور, ومآله إلى نور, ومستقرُّه في القلب المضيء المستنير, والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة, والكفر والشرك كله ظلمة, ومآله إلى الظلمات, ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة. فتأملْ الاستعاذة بربِّ الفلق من شرِّ الظُّلْمة ومن شرِّ ما يحدثُ فيها وَنَزِّولْ هذا المعنى على الواقع يشهدْ به: أن القرآن بل هاتانِ السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صِدْق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومضادَّةِ لما جاء به الشَّياطينُ من كل وجه, وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين, وما ينبغي لهم, وما يستطيعون فما فعلوه, ولا يليقُ __________ (1) "فى كل كتاب" ليست في (ق).

(2/734)


بهم، ولا يتأتَّى منهم، ولا يقدرونَ عليه. وفي هذا أبْيَنُ جواب وأشفاه لما يوردهُ أعداءُ الرسول عليه من الأسئلة الباطلة, التي قصَّرَ المُتَكَلِّمون غايةَ التقصير في دفعها, وما شَفَوا في جوابها, وإنما اللهُ سبحانه هو الذي شَفَى وكفى في جوابها فلم يُحْوِجْنا إلى متكلِّمٍ ولا إلى أصوليٍّ ولا نَظَّار, فله الحمد والمنة لا نحصي ثناءً عليه. فصل واعلم أن الخَلْقَ كُلَّهُ فَلَقٌ, وذلك أن "فَلَقًا" فَعَلٌ بمعنى: مفعول, كَقبَض وسَلَب وقَنَص, بمعنى: مَقْبُوض ومُسْتَلَب ومُقْتَنَص (1) , واللهُ عز وجل فالقُ الإصباح, وفالقُ الحب والنوى, وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون, والسَّحاب عن المطر, والأرحام عن الأجِنَّة, والظلام عن الإصباح, ويسمى الصبحُ المتصدِّعُ عن الظلمة: فَلَقًا وفَرَقًا, يقال: أبينُ (2) من فَرَقِ الصُّبح وفَلَقِهِ. وكما أن في خَلْقه فَلَقًا وفَرَقًا, فكذلك أمره كلُّه فرقانٌ, يفرِّقُ به بين الحقِّ والباطل, فيفرق ظلام الباطل بالحق, كما يفرق ظلامَ الليل بالإصباح, ولهذا سمى كتابه: "الفرقان", ونصرَه: "فرقانًا" لتضمُّنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فَلْقُه البحرَ لموسى وسماه: فلقًا وفرقًا (3). فظهرت حكمةُ الاستعاذة بربِّ الفلق في هذه المواضع وظهر __________ (1) في "المنيرية": "ومسلوب ومقنوص". (2) (ظ ود): "هو أبيض". (3) من (ق).

(2/735)


بهذا إعجازُ القرآن وعَظَمَتُه وجلالته، وأن العِبَاد لا يَقْدُرون قَدْره, وأنه: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] فصل الشرُّ الثالث: شر النفاثات في العقد, وهذا الشَّرُّ هو شر السحر, فإن النَّفَّاثات في العُقَد هن: السواحِرُ اللاتي يعقدْنَ الخيوطَ, وينفثْنَ على كلِّ عقدة, حتى ينعقدَ ما يُرِدنَ من السِّحر, والنفث هو: النفخ مع رِيقٍ, وهو دونَ التَّفْل, وهو مرتبةٌ بينهما, والنفثُ: فعلُ الساحر, فإذا تكيَّفَتْ نفسُه بالخبث والشر الذي يريدهُ بالمسحور ويستعينُ عليه بالأرواح الخبيثة نفخَ (1) في تلك العُقَد نفخًا معه ريقٌ فيخرج من نَفْسِه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى, مقترنٌ بالرِّيق الممازج لذلك, وقد تَسَاعَدَ هو والرُّوح الشيطانية على أذى المسحور, فيقع فيه السِّحْرُ بإذن الله الكونيّ القَدَري لا الأمريّ الشرعي. فإن قيل: فالسحرُ يكونُ من الذكور والإناث, فَلِمَ خصَّ الاستعاذةَ من الإناث دونَ الذكور؟ قيل في جوابه: إن هذا خَرَج على السَّبب الواقع, وهو أن بنات لَبِيد بن الأعصم سَحَرْنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. هذا جوابُ أبي عبيدة وغيره (2)، وليس هذا بسديد فإن الذي سَحَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لبِيدُ بنُ أعصَمَ كما جاء في "الصحيح". والجوابُ المحقَّقُ: أنَّ النَّفَّاثات هنا هنَّ الأرواحُ والأنفس النفَّاثات لا النساءُ النَّفَّاثَاتُ, لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة __________ (1) (ظ ود): "نفث". (2) انظر: "زاد المسير": (9/ 275)، و"فتح القدير": (5/ 521).

(2/736)


والأرواح الشريرة، وسلطانُه إنما يظهرُ منها، فلهذا ذكرت النَّفَّاثَات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم. ففي "الصحيح" (1) عن هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طُبَّ، حتى إنه لَيُخَيَّلُ إليه أنه صَنَع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربَّه، ثم قال: "أشَعَرتِ أنَّ الله قَدْ أفْتَانِي فيما اسْتَفْتَيتُهُ فِيهِ"، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جَاءَنِى رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيّ، فَقَالَ أَحَدُهُما لِصَاحِبهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ الآخَرُ: مَطبُوبٌ، قالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قال: لَبيدُ بنُ الأَعْصَم. قالَ لَهُ: فَبمَاذا؟ قَال: في مُشْطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعة ذَكرٍ، قال: فأيْنَ هُوَ؟ قال: في ذَرْوَانَ بئرٍ في بَنِي زُرَيقٍ". قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال: "واللهِ لكأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، ولَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشيَّاطِينِ"، قال: فقلت له: يا رسول الله هلا أخرجته؟ قال: "أمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا" فأمَرَ بها فدُفِنَتْ. قال البخاري: وقال الليث وسفيان بن عيينة، عن هشام: في مشط ومُشَاقة، ويقال: إن المُشاطة ما يخرجُ من الشعر إذا مُشِطَ، والمشاقة من مشاقة الكَتّان. قلت: هكذا في هذه الرواية إنه لم يُخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه، وقد روى البخاري (2) من حديث سفيانَ بن عُيَيْنَةَ قال: __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3268 و 5763 وغيرها) ومسلم رقم (2189) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (2) رقم (5765).

(2/737)


أول من حدثنا به ابنُ جُريْج يقول: حدثني آل عُرْوَة، عن عُرْوة فسألت هشامًا عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة: "كان رسول الله سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهنَّ، قال سفيان: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحر إذا كان كذا، فقال: "يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال الّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُل؟ قَالَ: مَطبُوبٌ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بنِي زُرَيْقٍ حَليفٌ لِيَهُودَ وَكَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشَاطةٍ قَالَ: وَأَينَ؟ قَال: في جُفِّ طَلْعة ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفةٍ بِئْرِ ذَرْوَانَ"، قال: فأتى البئر حتى استخرَجَهُ، فقال: "هَذهِ البئْرُ الّتي أُرِيتُها، وَكَأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينَ، قَالَ: فاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْت: أَفَلا؟ أَيْ: تَنَشَّرْت، فقال: أمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا". ففي هذا الحديث أنه استخرجه، وترجم البخاريُّ عليه: "بابٌ هل يُسْتخرج السحرُ؟ ". وقال قتادة: قلت لسعيد بن المُسَيَّب: رجل به طِبٌّ ويؤخذُ عن امرأته، أيحلُّ عنه وينشرُ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاحَ، فأما ما ينفعُ النَّاسَ فلم يُنْهَ عنه (1). فهذان الحديثانِ قد يُظَنُّ في الظاهر تعارُضُهُما, فإن حديث __________ (1) علّقه البخاري فِي "الصحيح - الفتح": (10/ 243) مجزومًا به, وقال الحافظ: "وصله أبو بكر الأثرم في "كتاب السنن، من طريق أبان العطار عن قتادة"، قال الحافظ في "تغليق التعليق": (5/ 49) "وإسناده صحيح".

(2/738)


عيسى، عن هشام, عن أبيه الأوَّل فيه أنه لم يستخرجْه، وحديث ابن جُرَيْج، عن هشام فيه أنه استخرجه، ولا تَنَافِيَ بينهما، فإنه استخرجه من البئرِ حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شُفِيَ. وقول عائشة رضي الله عنها: هلا استخرجْتَهُ؟ أي: هلاَّ أخرجْتَهُ للناس حتى يَرَوْهُ ويعاينوه, فأخبرها بالمانع له من ذلك, وهو أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَسكتوا عن ذلك, فيقعُ الإنكارُ ويغضَبُ للساحر قومُهُ, فيحدث الشَّرُّ, وقد حصل المقصودُ بالشفاء والمعافاة فأمر بها فَدُفِنَتْ, ولم يستخرجها للناس, فالاستخراج الواقع غير الذي سألتْ عنه عائشة, والذي يدلُّ عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء إلى البئر ليستخرجَها منه ولم يجيء إليه لينظرَ إليها ثم ينصرف, إذ لا غرض له في ذلك, والله أعلم (1). وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث, متلقًى بالقبول بينهم, لا يختلفونَ في صحته, وقد اعْتاصَ على كثير من أهل الكلام وغيرهم, وأنكروه أشدَّ الإنكار, وقابلوه بالتكذيب, وصنّف بعضهم فيه مصنّفًا مفردًا حَمَل فيه على هشام, وكان غاية ما أحسن القول فيه, أن قال: "غَلِط واشتبه عليه الأمرُ, ولم يكنْ من هذا شيء", قال: "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ أن يُسْحَرَ فإن يكونه مسحورًا تصديقا لقول (2) الكفار: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} [الإسراء: 47] قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى - عليه السلام -: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101]. وقال قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ __________ (1) انظر الجمع بين الروايتين في "شرح ابن بطال": (9/ 444 - 445)، و"فتح الباري": (10/ 245 - 246). (2) (ظ ود): "لأمر".

(2/739)


الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153]، وقال قوم شعيب له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) قالوا: فالأنبياء لا يجوزُ عليهم أن يُسْحَرُوا، فإن ذلك ينادي حمايةَ الله لهم وعصمتهم من الشياطين". وهذا الذي قاله هؤلاء مودودٌ عند أهل العلم، فإن هشامًا من أوثقِ النَّاس وأعلمهم, ولم يقدحْ فيه أحدٌ من الأئمة بما يوجبُ رَدَّ حديثه, فما لِلْمُتَكَلِّمِينَ وما لهذا الشأن؟! وقد رواه غيرُ هشام عن عائشة - رضي الله عنها -. وقد اتفق أصحابُ "الصحيحين" على تصحيح هذا الحديث, ولم يتكلَّمْ فيه أحدٌ من أهل الحديث بكلمة واحدة, والقصةُ مشهورةُ عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء, وهؤلاء أعلمُ بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيامه من المتكلِّمين. قال أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ (1): "حدثنا أبو معاويةَ, عن الأعمش, عن يزيد بن حيَّان, عن زَيْدِ ابن الأرقم, قال: سحر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من اليهود, فاشتكى لذلك أيامًا, قال فأتاه جبريلُ, فقال: إن رجلًا من اليهود سَحَرَكَ, وعقد لذلك (2) عُقَدًا, فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا فاستخرجها, فجاء بها, فجعل كلما حلَّ عقدةً وجد لذلك خِفَّةً, فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما أُنشِطَ من عِقالٍ, فما ذكر ذلك لليهوديِّ ولا رآه في وجهه قطُّ" (3). __________ (1) في "المصنَّف": (5/ 40 - 41). (2) (ق ود): "لك". (3) وأخرجه أحمد في "مسنده": (4/ 367)، والنسائي: (7/ 112) , وعَبْد بن حُميد "المنتخب" رقم (271)، والطبراني في "الكبير": (5/ 180) كلهم من طريق أبي معاوية به. =

(2/740)


وقال ابن عباس وعائشة: كان غلامٌ من اليهود يخدُمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدنت إليه اليهود, فلم يزالوا حتى أخذ مُشَاطةَ رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -, وعِدَّةَ أسنان من مُشْطه, فأعطاها اليهودَ فسحروه فيها, وتولى ذلك لَبِيد بن الأعصم رجلٌ من اليهود فنزلت هاتانِ السورتان فيه (1). قال البغويُّ (2): وقيل كانت مغروزةً بالإبرة, فأنزل الله عز وجل هاتينِ السورتينِ وهما إحْدى عشرة آيةً: سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات, فكلما قرأ آية انحلَّت عقدةٌ, حتى انحلت العُقَدُ كلُّها, فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما أُنْشِطَ من عِقَالٍ (3). قال: وروى أنه لَبِثَ فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام, __________ = ورواه الحاكم: (4/ 360) من حديث زيد بإسنادٍ آخر وصححه على شرط الشيخين، وانظر: "الفتح": (10/ 239)، وقال الهيثمي في "المجمع": (6/ 284): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح". (1) ذكره البغوي في "تفسيره": (4/ 546) بلا إسناد، أخذًا من الثعلبي؛ إذ تفسيره مختصر منه، وعزاه للثعلبي ابن كثير في "تفسيره": (8/ 3910 - 3911) مطوَّلًا، وقال عقبه: "هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم" اهـ. (2) في "تفسيره": (4/ 546 - 547). (3) قال الحافظ في "الفتح": (10/ 236): "وقد وقع في حديث ابن عباسٍ فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل" بسندٍ ضعيف في آخر قصه السحر الذي سُحِر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس، وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرج ابن سعد (الطبقات 2/ 199) بسندٍ آخر منقطع عن ابن عباس: أن عليًّا وعمارًا لما بعثهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة" اهـ. وانظر: "التلخيص الحبير": (4/ 40). وكذا جاء ذكر هذه العقد في رواية عَمْرة عن عائشة، لكنها أيضًا ضعيفة انظر "الفتح": (10/ 241، 246).

(2/741)


فنزلت المعوذتان (1). قالوا: والسِّحر الذي أصابه - صلى الله عليه وسلم - كان مرضًا من الأمراض عارضًا شفاه الله منه, ولا نقصَ في ذلك ولا عيب بوجهٍ ما, فإن المرضَ يجوزُ على الأنبياء, وكذلك الإغماءُ فقد أُغْمِيَ عليه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه (2) , ووقع حين انفكتْ قدمُه (3) , وجُحِشَ شِقُّهُ (4) , وهذا من البلاء الذي يزيدهُ اللهُ به رفعةً في درجاته ونيل كرامته, وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ, فابتلوا من أممهم بما ابْتُلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس, فليس بِبدْعٍ أن يُبْتَلَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجَّه, وابتليَ بالذي ألقى على ظهره السَّلَى وهو ساجد, وغير ذلك, فلا نقصَ عليهم ولا عارَ في ذلك, بل هذا من كمالهم وعُلوٌّ درجاتهم عند الله. قالوا: وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي سعيد الخُدْري أن جبريل أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ " فقال: "نَعَمْ", فقال: "بِاسمِ الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤْذِيكَ, مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ, اللهُ يَشْفِيكَ, بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ" (5) فعوّذه جبريلُ من شرِّ __________ (1) قال الحافظ في "الفتح": (10/ 237): "وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة" وفي رواية وهيب (كذا! وصوابه: معمر، أما رواية وهيب 6/ 96 فليس فيها تحديد المدة) عن هشام عند أحمد (6/ 63): "ستة أشهر"، ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه ... " اهـ. (2) أخرجه البخاري رقم (198)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) أخرجه البخاري رقم (1911) من حديث أنسٍ بن مالك -رضي الله عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (378)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -أيضًا-. (5) أخرجه مسلم رقم (2186) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

(2/742)


كل نفس وعين حاسد لمَّا اشتكى، فدَلَّ على أن هذا التعويذَ مُزِيلٌ لِشكَايته - صلى الله عليه وسلم -, وإلا فلا يُعَوِّذُه من شيء وشِكَايته من غيره. قالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها فلا حجةَ لكم فيها, أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] وقوله قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153] فقيل: المراد به من له سَحَرٌ, وهي الرِّئَةُ, أي: أنه بَشَرٌ مثلُهم يأكلُ ويشربُ, ليس بِمَلَكٍ, ليس المرادُ به السِّحْرَ, وهذا جواب غير مَرْضيٍّ, وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بأنه مسحور, ولا يُعْرف هذا في لغة من اللغات (1) , وحيث أرادوا هذا المعنى أتَوْا بصريح لفظ البشر فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} , {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} , {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}. وأما المسحور, فلم يريدوا به: ذا السَّحْر وهي: الرئة وأيُّ مناسبةٍ لذكر الرئة في هذا الموضع؟! ثم كيف يقول فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101] أَفَتُراه ما علم أنَّ له سَحْرًا وأنه بشرٌ, ثم كيف يجيبُهُ موسى بقوله {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء: 102] ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدَّقه موسى وقال نعم أنا بشرٌ أرسلني اللهُ إليك, كما قالت الرسلُ لقومهم لما قالوا لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فقالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم ينكروا ذلك, فهذا الجوابُ في غاية الضَّعف. وأجابت طائفةٌ منهم ابنُ جرير (2) وغيره, بأن المسحور هنا هو __________ (1) (ق): "من لغات الأمم". (2) كما في "تفسيره": (8/ 158) قال: "وقد يجوز أن يكون مرادًا به: إني لأظنك =

(2/743)


مُعَلَّمُ السِّحر الذي قد علَّمه إيَّاه غيرُهُ، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي: عَلِم بالسحر (1) , وهذا جيِّد إن ساعدت عليه اللغة, وهو: أن من عَلِم السحر, يقال له: مسحور, ولا يكاد هذا يُعرف في الاستعمال, ولا في اللغة, وإنما المسحور من سحره غيرُه كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه, وأما من عَلِمَ السحر فإنما (2) يقال له: ساحر, بمعنى: أنه عالمٌ بالسحر, وإن لم يَسْحَرْه غيره, كما قال قوم فرعون لموسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)} [الشعراء: 34] ففرعون قذفه بكونه مسحورًا, وقومه قذفوه بكونه ساحرًا. فالصَّواب هو الجوابُ الثالث, وهو جواب صاحب "الكشاف" (3) وغيره: أن المسحور على بابه, وهوَ مَنْ سُحِرَ حتى جُنَّ, فقالوا: مسحورٌ, مثل مجنون زائل العقل لا يعقلُ ما يقولُ, فإنَّ المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ: هو الذي فسد عقلُه بحيث لا يدري ما يقولُ فهو كالمجنون, ولهذا قالوا فيه {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} فأمّا من أُصِيب في بَدَنه بمرض من الأمراض يُصابُ به الناسُ فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان, وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءَهم من اتِّبَاعهم, وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يعلمونَ ما يقولون بمنزلة المجانين, ولهذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} [الإسراء: 48] __________ = يا موسى ساحرًا، فوضع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن ... والعرب قد تخرج فاعلًا بلفظ مفعول كثيرًا" اهـ. (1) في "المنيرية": "عالم بالسحر". (2) (ظ): "فإنه". (3) (2/ 377).

(2/744)


مثَّلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة، والمسحور أخرى، فضلُّوا في جميع ذلك ضلالَ من يطلبُ في تِيْهه وتحيُّره (1) طريقًا يسلكه فلا يقدر عليه, فإنه أي طريق أخذَها فهي طريقُ ضلال وحيرة, فهو متحيِّر في أمره لا يهتدي سبيلًا, ولا يقدرُ على سلوكها فهذا (2) حالُ أعداءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه حتى ضربوا له أمثالًا بَرَّأَهُ الله منها, وهو أبعدُ خَلْقِ الله منها, وقد علم كلُّ عاقلٍ أنها كَذِبٌ وافتراءٌ وبهتانٌ. وأما قولكم: "إن سحر الأنبياء يُنافي حمايةَ الله لهم وصيانته لهم [أن يُسْحَروا", فجوابه: أن ما يصيبهم من أذى أعدائهم لهم, وأذاهم إياهم لا ينافي حماية الله وصيانة لهم] (3)؛ فإنه سبحانه كما يَحْميهم ويصونُهم ويحفظُهم ويتولاَّهُم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته, وليتسلَّى بهم من بعدهم من أُمَمِهم وخُلفائِهم إذا أُوذوا من النَّاس, فرأوا ما جرى على الرُّسُل والأنبياء, صبروا ورَضُوا وتأسَّوْا بهم, ولِتمتلِيءَ صاعُ الكفار فيستوجبون ما أُعِدَّ لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة, فيمحقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم (4) , فيعَجِّل تطهيرَ الأرض منهم, فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائِه ورسله بأذى قومهم, وله الحكمةُ البالغةُ والنعمةُ السابغةُ, لا إلهَ غيرهُ, ولا رَبَّ سواه. فصل وقد دلَّ قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} , __________ (1) (ق): "في تيهٍ وغيره". (2) (ظ): "فكهذا". (3) ما بين المعكوفين ساقط من (ظ ود) والمطبوعات, ومستدرك من (ق). (4) (ق): "وعدوانهم".

(2/745)


وحديثُ عائشة - رضي الله عنها - المذكور على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفةٌ من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، وقالوا: إنه لا تأثيرَ للسحر ألبَتَّةَ لا في مرض ولا قتل ولا حَلٍّ ولا عقد قالوا: وإنما ذلك تخيلُ لأعين الناظرين, لا حقيقةَ له سوى ذلك. وهذا خلافُ ما تواترت به الآثارُ (1) عن الصحابة والسَّلَف, واتفق عليه الفقهاءُ وأهل التفسير والحديث, وأربابُ القلوب من أهل التَّصَوُّف, وما يعرفُهُ عامَّةُ العقلاء. والسحرُ الذي يؤثر مرضّا وثقلًا, وحلًّا وعقدًا, وحبًّا وبغضًا ونزيفًا, وغير ذلك من الآثار موجودٌ تعرِفُهُ عامة الناس, وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيبَ به منه. وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} دليل على أن هذا النفث يضرُّ المسحور في حال غيبته عنه, ولو كان الضررُ لا يحصُلُ إلا بمباشرة البَدَن ظاهرًا -كما يقولُه هؤلاء- لم يكنْ للنَّفثِ ولا للنفَّاثات شرٌّ يستعاذ منه. وأيضًا: فإذا جاز على الساحر أن يَسْحَرَ جميعَ أعينِ النَّاظرين -مع كثرتهم- حتى يَرَوا الشيءَ بخلاف ما هو به -مع أن هذا تَغَيُّرٌ في إحساسهم (2) - فما الذي يحيلُ تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقُواهم وطِباعهم؟! وما الفرقُ بين التَّغيير الواقع في الرُّؤية والتَّغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبَدَن؟!. __________ (1) (ق): "الأخبار". (2) (ق): "أجسامهم".

(2/746)


فإذا غيَّرَ إحساسَه حتى صار يرى السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا, والمُتَّصِلَ منفصلًا, والميِّتَ حَيًّا, فما المُحِيلُ لأن يغيرَ صفات نفسِهِ حتى يجعلَ المحبوبَ إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا وغير ذلك من التأثيرات؟. وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} [الأعراف: 116] فبيَّن سبحانه أن أعينهم سُحِرَتْ, وذلك إما أن يكونَ لتغيير حصل في المرئي, وهو الحبال والعِصِي, مثل أن يكون السَّحَرَةُ استعانت بأرواح حَرَّكَتْها, وهي الشياطينُ, فظنُّوا أنها تحرَّكت بأنفسها, وهذا كما إذا جرَّ من لا يراه حصيرًا أو بساطًا فترى الحصير والبساط ينجرُّ, ولا ترى الجارَّ له, مع أنه هو الذي يجرُّه, فهكذا حالُ الحِبالُ والعِصِيّ التبستها الشياطينُ فقَلَّبتها كتقلُّب الحَيَّة فظنَّ الرائي أنها تقلَّبَتْ بأنفسِها, والشياطينُ هم الذين يقلِّبونها. وإما أن يكونَ التغيُّرُ حَدَثَ في الرائي حتى رأي الحبال والعِصِيَّ تَتَحَرَّكُ وهي ساكنةٌ في أنفسها, ولا ريبَ أن الساحر يفعلُ هذا وهذا, فتارة يتصرَّفُ في نفس الرَّائي وإحساسه حتى يُرِىه الشيءَ بخلاف ما هو به, وتارة يتصرَّف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرَّف فيها (1). وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحِبال والعِصِيِّ ما أوجب حركتَهَا ومشْيَها مثل الزئبق وغيره حتى سَعَتْ, فهذا باطلٌ من وجوه كثيرة, فإنه لو كان كذلك لم يكنْ هذا خيالًا بل حركة حقيقية, ولم يكنْ ذلك سَحْرًا لأعينِ النَّاسِ, ولا يسمَّى ذلك سِحْرًا, بل صناعة من الصناعات المشتركة, وقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ __________ (1) (ق): "يؤثر فيه".

(2/747)


وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} [طه: 66] ولو كانت تحركت بنوع حيلة -كما يقوله المنكرون- لم يكن هذا من السحر في شيء, ومثل هذا لا يخفى, وأيضًا: لو كان ذلك بحيلة -كما قال هؤلاء- لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزِّئبق وبيان ذلك المحال, ولم يحتجْ إلى إلقاء العصا لابتلاعها, وأيضًا: فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة, بل يكفي فيها حُذَّاق الصُّنَّاع, ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والأجر (1) , وأيضًا: فإنه لا يقالُ في ذلك: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} , فإن الصناعات يشتركُ الناس في تعلُّمها وتعليمها, وبالجملة فبطلانُ هذا أظهرُ من أن يتكلف رده فلنرجعْ إلى المقصود. فصل الشرُّ الرابع: شرُّ الحاسد إذا حسد, وقد دلَّ القرآنُ والسُّنَّةُ على أن نفسَ حسد الحاسد يؤذي المحسود, فنفس حسده شرٌّ يَتَّصِلُ بالمحسود من نفسه وعينه, وإن لم يؤذِهِ بيده ولا لسانه, فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} , فحقَّق الشرَّ منه عند صدور الحسد. والقرآنُ ليس فيه لفظة مهملة, ومعلوم أن الحاسد لا يسمَّى حاسدًا إلا إذا قام به الحسد, كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك, ولكن قد يكون الرَّجُلُ في طبيعته الحسد, وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه, فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نارُ الحسد من قلبه إليه, ووجهتْ إليه سهام الحسد من قَلْبه (2) , فيتأذَّى المحسودُ بمجرد __________ (1) (ظ ود): "والإجزاء". (2) (ظ): "قِبَله" ولها وجه.

(2/748)


ذلك، فإن لم يستعذْ باللهِ ويتحصَّنْ به, ويكون له أورادٌ من الأذكار والدَّعوات والتَّوَجُّه إلى الله والإقبال عليه, بحيثُ يدفعُ عنه من شرِّه بمقدار توجهه وإقباله على الله, وإلا ناله شر الحاسد ولابدَّ, فقوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ (5)} بيان؛ لأن شرَّهُ إنما يتحقَّقُ إذا حصل منه الحسدُ بالفعل. وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ الصحيح رُقْيَةُ جبريلَ - عليه السلام - النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وفيها: "بسم الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شيءٍ يُؤْذِيكَ, مِنْ شَرِّ كلِّ نَفْسٍ أو عَيْنِ حَاسِدٍ, الله يَشْفِيكَ" (1) , فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد, ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظرَ لاهٍ ساهٍ عنه, كما ينظرُ إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثِّرْ فيه شيئًا؛ وإنما إذا نظر إليه نَظَرَ من قد تكيَّفَتْ نفسُه الخبيثةُ, واتسمَّت واحْتَدَّتْ, فصارت نفسًا غضبيةً خبيثةً حاسدة أثَّرت بها (2) تلك النظرةُ, فأثَّرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه وقوَّة نفس الحاسد, فربَّما أَعْطَبَهُ وأهلكَه, بمنزلةِ من فوَّق سهمًا نحو رَجُلٍ عُرْيَان فأصاب منه مقتلًا, وربما صرعه وأمرضَهُ, والتَّجارِبُ عند الخاصَّةِ والعامَّةِ بهذا أكثرُ من أن تُذْكَرَ. وهذه العينُ إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة, وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا غضِبَت (3) واحتدَّت, فإنها تتكيَّفُ بكيفيَّة الغضب والخبث فتُحْدِثُ فيها تلك الكيفيةُ السُّمَّ فتؤثر في الملسوع, وربما قَوِيَتْ تلك الكيفيةُ واشتدَّتْ في نوعٍ منها حتى __________ (1) تقدم ص / 742. (2) (ق): "فاقترفت بها". (3) (ظ ود) والمطبوعات: "عضَّت"، وما في (ق) أصحّ معنًى.

(2/749)


تُؤَثِّرَ بمجرد نظرة فتطمسُ البصر وتسقطُ الحَبَلَ, كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبتر وذي الطُّفْيَتَيْن منها, وقال: "اقْتُلُوهُمُا, فإنَّهُما يَطْمِسَانِ (1) البَصَرَ ويُسْقِطَانِ الحَبَلَ" (2). فإذا كان هذا في الحيَّات, فما الظَّنُّ في النفوس الشِّريرة الغَضَبِيَّة الحاسدة إذا تكيَّفت بكيفيَّتِها الغضبيّة واتسمَّت وتوجَّهت إلى المحسود بكيفيَّتها؟! فللهِ كم من قتيل, وكم من سَلِيب, وكم من معافيً عاد مضنيً على فراشه يقول طبيبُه: لا أعلمُ داءَه ما هو = فصدقَ!! ليس هذا الدَّاءُ من علم الطبائع, هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها. وهذا علمٌ لا يعرفُهُ إلاَّ خواصُّ النَّاسِ, والمحجوبونَ مُنكرونَ له, ولا يعلمُ تأثيرَ ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلّا من له نصيبٌ من ذوق, وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى؟ وهل الإنفعالُ والتأثُرُ وحدوث ما يحدثُ عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلاَّ للأرواحِ, والأجسامُ آلتُها, بمنزلة آلة الصانع, فالصنعةُ في الحقيقة له, والآلاتُ وسائطُ في وصول أثره إلى الصنع. ومن له أدنى فِطْنة, وتأمَّلَ أحوالَ العالم ولطُفَتْ رُوْحُه, وشاهدتْ أحوالَ الأرواح وتأثيراتها, وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها, كلُّ ذلك بتقدير العزيز العليم, خالق الأسبابِ والمسببات = رأى (3) __________ (1) (ظ): "يلتمسان" وهو موافق لرواية مسلم: "يلتمس البصر". (2) أخرجه البخاري رقم (3297)، ومسلم رقم (2233) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بنحوه، وفي "الصحيحين": "يستسقطان الحَبَل". وذو الطُّفْيَتين والأبتر: جِنْس من الحيَّاتْ الخبيثة. (3) تعلق بقوله: "ومن له أدنى فطنة ... ".

(2/750)


عجائبَ في الكون، وآياتِ دالَّةً على وحدانِيَّةِ الله وعظمته وربوبيَّتِهِ, وأَنَّ ثَمَّ عالمًا آخَرَ تجري عليه أحكامٌ أُخَرُ تُشْهَدُ آثارُها, وأسبابُها غُيَّبٌ عن الأبصار, فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين الذي أتقنَ ما صنع, وأحسنَ كلَّ شيء خَلَقَهُ!! ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح, بل هو أعظمُ وأوسعُ وعجائبه أبهرُ وآياتُه أعجبُ!!. وتأمل هذا الهيكلَ الإنسانيَّ إذا فارقَتْهُ الرُّوحُ كيف يصيرُ بمنزلة الخَشَبة أو القطعة من اللحم, فأين ذهبت تلك العلوم (1) والمعارف والعقل, وتلك الصنائعُ الغريبة وتلك الأفعالُ العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات؟ كيف ذهبت كلُّها مع الرُّوح وبقي الهيكل سواء هو والتُّراب؟ وهل يخاطبُكَ من الإنسان أو يراك أو يحبك, أو يواليك أو يعاديك, ويخِفُّ عليك ويَثْقُلُ ويؤنِسُكَ ويوحِشُكَ, إلا ذلك الأمرُ الذي وراء الهيكل المشاهَدِ بالبَصَر. فربَّ رجلٍ عظيم الهَيُولَي (2) كبيرِ الجثة, خفيفٌ على قلبك حُلْوٌ عندك, وآخرُ لطيفُ الخِلْقة صغير الجثة, أثقلُ على قلبك من جَبَل, وما ذاك إلا للطافة رُوح ذاك وخِفَّتها وحلاوتها, وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها, وبالجملة فالعُلَقُ والوُصَلُ التي بين الأشخاص والمنافرات والبُعد إنما هي للأرواح أصلًا, والأشباح تبعًا. فصل والعائنُ والحاسد يشتركان في شيء, ويفترقان في شيء, فيشترِكانِ __________ (1) (ق) زيادة: "والأرواح". (2) الهيوْلَى، لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة، انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف": (ص/ 745).

(2/751)


في أن كلَّ واحد منهما تتكيَّفُ نفسُه وتتوجَّهُ نحو من يريدُ أذاه، فالعائنُ تتكيَّفُ (1) نفسُه عند مقابلة المَعِينِ ومُعَايَنَتِهِ. والحاسد يحصلُ له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا. ويفترقان في أن العائن قد يُصيبُ من لا يحسدهُ من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكادُ يَنْفَكُّ من حسد صاحبه. وربما أصابتْ عينُهُ نفسَه، فإن رؤيته للشيء رؤيةَ تعجُّبٍ وتحديقٍ، مع تكيُّف نفسِه بتلك الكيفية تؤثرُ في المَعِين (2). وقد قال غير واحد من المفسرين (3) في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] إنه الإصابةُ بالعَيْن، فأرادوا أن يُصِيبوا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مِثْلَهُ ولا مِثْلَ حُجَّته (4). وكان طائفةٌ منهم تمرُّ به الناقةُ والبقرةُ السمينةُ فَيَعينُها، ثم يقول لخادمه: خُذِ المِكْتَلَ والدِّرهم وَآتِنا بشيء من لحمها، فما تبرحُ حتى تقعَ فتُنْحَرَ. وقال الكلبيُّ (5): كان رجل من العرب يمكثُ يَوْمين أو ثلاثة لا يأكلُ، ثم يرفعُ جانب خِبَائِهِ فتمرُّ به الإبلُ فيقول: لم أرَ كاليوم إبلاً ولا غَنَمًا أحسنَ من هذه، فما تذهبُ إلا قليلًا حتى يسقطَ منها طائفة، فسأل الكفارُ هذا الرجلَ أن يُصيبَ رسول الله بالعين ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله تعالى رسولَه وحفظَه، وأنزل __________ (1) هذه وما قبلها في (ق): «تتكشّف». (2) وانظر: «زاد المعاد»: (4/ 164 - فما بعدها). (3) انظر «تفسير الطبري»: (12/ 203 - 204) عن ابن عباس وغيره. (4) (ق): «حُججه» وكذا في «تفسير البغوي». (5) نقله عنه البغوي في «تفسيره»: (4/ 384).

(2/752)


عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] هذا قول طائفة. وقالت طائفة أخرى -منهم ابن قتيبة (1) -: ليس المرادُ أنهم يُصِيبونك بالعين كما يُصيبُ العَائِنُ بعينه ما يعجِبُهُ, وإنما أرادَ أنهم ينظرونَ إليك إذا قرأتَ القرآنَ الكريم نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء يكادُ يسقِطُكَ. قال الزَّجَّاجُ (2): يعني من شِدَّة العداوة يكادون بنظرهم نظرَ البُغَضَاء أن يصرعوك, وهذا مستعملٌ في الكلام, يقول القائل: نظر إليَّ نظرةً قد كان يصرعُني منها. قال: ويدلُّ على صحَّة هذا المعنى أنه قَرَن هذا النَّظَرَ بسماع القرآن الكريم, وهم كانوا يكرهون ذلك أشدَّ الكراهة, فيُحِدُّون إليه النَّظَرَ بالبغضاء. قلت: النظرُ الذي يُؤَثِّرُ في المنظور قد يكون سبَبُهُ شِدَّةَ العداوة والحسد, فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد, ويقوى تأثيرُ النفس عند المقابلة, فإن العدوَّ إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسُه عنه, فإذا عاينَه قُبلًا اجتمعت الهِمَّةُ عليه, وتوجَّهتِ النفسُ بكُلِّيَّتِها إليه, فيتأثَّرُ بنظره, حتى إن من النَّاسِ من يَسْقُطُ, ومنهم من يُحَمُّ, ومنهم من يُحْمَلُ إلى بيته, وقد شاهدَ الناسُ من ذلك كثيرًا. وقد يكون سبَبَهُ الإعجابُ, وهو الذي يسمُّونه بإصابة العين, وهو أن الناظرَ يرى الشيءَ رؤيةَ إعجابٍ به أو استعظامٍ, فتتكيَّفُ __________ (1) في "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 170)، والمؤلف ينقل من "تفسير البغوي": (4/ 384). (2) نقله في "اللسان": (10/ 145).

(2/753)


رُوْحُهُ بكيفيَّة خاصَّة تؤثِّرُ في المَعِين، وهذا هو الذي يعرفُه الناسُ من رؤيةِ المعين, فإنهم يستحسنونَ الشيءَ, ويعجبونَ منه فيصابُ بذلك. قال عبد الرزاق: بن مَعْمر, عن همَّام بن مُنَبِّه (1) قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة, قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَيْنُ حَقٌّ" ونهى عن الوَشْم (2). وروى سفيان, عن عَمْرو بن دينار, عن عُرْوَة عن عامر, عن عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَة, أن أسماءَ بنتَ عُمَيْس قالت: يا رسول الله إن ابني جعفرٍ تصيبُهمِ العينُ, أفَنَسْتَرْقِي لهُم؟ قال: "نَعَمْ, فَلَوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ" (3). فالكفار كانوا ينظرون إليه نظرَ حاسد شديد العدواة, فهو نظرٌ يكادُ يُزْلقُهُ لولا حفظُ الله وعصمته, فهذا أشدُّ من نظر العائن, بل هو جنسٌ من نظر العائن, فمن قال: إنه من الإصابة بالعَيْنِ, أراد هذا المعنى, ومن قال: ليسَ به (4) , أراد أن نَظَرَهُم لم يكن نَظَرَ استحسان وإعجاب, فالقولان (5) حق. __________ (1) تحرفت في (ظ ود): والمطبوعات إلى: "هشام بن قتيبة"!. (2) أخرجه همام في "صحيفته" رقم (131)، وعبد الرزاق في "المصنف": (11/ 18) , والبخاري رقم (5740)، ومسلم رقم (2187). (3) أخرجه أحمد: (6/ 438)، والترمذي رقم (2059)، وابن ماجه رقم (3510)، والنسائي في "الكبرى": (4/ 365) وغيرهم من حديث أسماء. بنت عميس - رضي الله عنها -. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وله شواهد. (4) (ق): "منهم"، و (ظ ود): "فيه" والمثبت أصح. (5) (ظ ود) والمطبوعات: "فالقرآن" والتصويب من (ق).

(2/754)


وقد روى التِّرْمِذِيُّ من حديث أبي سعيد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَعَوَّذُ من عَيْنِ الإنسانِ" (1) فلولا أن للعينِ شَرًّا يتعوَّذْ منها. وفي التِّرْمِذي من حديث عليِّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس (2) التميمي, حدثني أبي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا شَيْءَ فَي الهَامِ, والعَيْنُ حَقٌّ" (3). وفيه أيضًا: من حديث وُهَيْب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كَانَ شَيءٌ سَابِقَ القَدَرِ لَسَبَقَتْة العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلُوا" (4)، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عَمْرو، وهذا حديث صحيح (5). والمقصود أن العائن حاسد خاصٌّ، وهو أضرُّ من الحاسد، ولهذا -والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دود العائن؛ __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (2058)، والنسائي: (8/ 271) وفي "الكبرى": (4/ 441)، وابن ماجه رقم (3511)، والضياء في "المختارة". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصحَّحه الضياء. (2) تحرفت في (ق) إلى: "جبير في حابس" و (ظ ود): "حابس بن حبة"! والتصويب من المصادر، واختلف في ضبط "حية" فقيل بالياء -آخر الحروف- وقيل بالموحَّدة ذكره ابن أبي عاصم، وخطؤوه فيه وصوّبوا الأول انظر "توضيح المشتبه": (3/ 78)، و"الإصابة": (2/ 201). (3) أخرجه أحمد: (27/ 181 رقم 16627)، والترمذي رقم (2061)، والبخاري في "الأدب المفرد": (ص/ 269) وغيرهم. قال الترمذي: "حديث غريب" يُشير بذلك إلى ضعفه، لكن للحديث شواهد صحيحة يتقوّى بها من حديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -. (4) أخرجه مسلم رقم (2188)، والترمذي رقم (2062). (5) هذا كلام الترمذي عقب الحديث المتقدم، وحديث ابن عَمْرو أخرجه أحمد: (11/ 641 رقم 7070) وفي سنده ضعف.

(2/755)


لأنه أعمُّ، فكلُّ عائنٍ حاسدٌ ولابُدَّ, وليس كلُّ حاسدٍ عائْنًا, فإذا استعاذ من شرِّ الحسد دخل فيه العين, وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته. وأصل الحَسَدِ هو بُغضُ نعمةِ الله على المحسود وتمنِّي زوالها, فالحاسدُ عدوُّ النعم, وهذا الشَّرُّ هو من نفس الحاسد وطبعها, ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها, بل هو من خُبثها وشرِّها, بخلاف السحر, فإنه إنما يكونُ باكتساب أمور أخرى, واستعانة بالأرواحِ الشَّيطانية, فلهذا -والله أعلم- قَرَن في السُّورة بين شَرِّ الحاسد وشرِّ الساحر؛ لأن الاستعاذة من شرِّ هذين تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يأتي من شياطين الإنس والجن, فالحَسَدُ من شياطين الإنس والجن, والسحرُ من النوعين. وبقي قِسْمٌ ينفردُ به شياطينُ الجن, وهو الوسوسةُ في القلب, فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى, فالحاسدُ والساحرُ يؤذيان المحسودَ والمسحورَ بلا عملٍ منه, بل هو أذىً من أمرٍ خارجٍ عنه, ففرَّق بينهما في الذكر في سورة الفلق. والوسواسُ إنما يؤذي العبدَ من داخله بواسطةِ مساكنته له, وقبوله منه, ولهذا يعاقَبُ العبدُ على الشر الذي يؤذيه به الشَّيْطان من الوساوس التي (1) تقترنُ بها الأفعالُ والعزمُ الجازم؛ لأن ذلك سعيه وإرادته, بخلاف شرِّ الحاسد والساحر فإنه لا يُعَاقَبُ عليه؛ إذ لا يضافُ إلى كسبه ولا إرادته, فلهذا أفرد شرّ الشيطان في سورة, وقرن __________ (1) (ق): "الوسواس الذي".

(2/756)


بين شرِّ الساحر والحاسد في سورة، وكثيرًا ما يجتمعُ الشران شر الحسد والسحر في النفوس الخبيثة (1) للمناسبة. ولهذا اليهودُ أسحر الناس وأحسدُهُمْ، فإنهم لشِدَّة خُبْئِهِمْ فيهم من السِّحر والحسد ما ليس في غيرهم، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا، فقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102]. وللكلامِ على أسرار هذه الآية وأحكامها، وما تضمَّنَتْه من القواعد، والرَّدِّ على من أنكر السحر، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات، الذي أنكر من أنكرَ السحرَ خشية الالتباس، وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما = موضعٌ غير هذا؟ إذ المقصودُ الكلامُ على أسرار هاتين السورتين، وشدَّة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا يقومُ غيرُهما مقامَهُما. وأما وصفُهم (2) بالحسد؛ فكثير في القرآن، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ __________ (1) (ظ ود): "وكثيرًا ما يجتمع القرآن الحسد والسحر للمناسبة"! والمثبت من (ق). (2) أي اليهود.

(2/757)


أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. والشيطان يقارنُ الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما، ولكنَّ الحاسدَ تُعِينُهُ الشياطينُ بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيهٌ بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلبُ ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم, كما أن إبليس حسد آدم لشَرَفَه وفضله, وأبى أن يسجدَ له حَسَدًا, فالحاسد من جند إبليس, وأما الساحرُ فهو يطلبُ من الشيطان أن يُعِينَهُ ويستعينه (1) , وربما يعبدُهُ من دون الله تعالى حتى يقضيَ له حاجَتَهُ, وربما يسجد له. وفي كتب السحر و"السِّرِّ المكتوم" (2) من هذا عجائب, ولهذا كلما كان الساحرُ أكفرَ وأخبثَ وأشدَّ معاداةً لله ولرسوله ولعباده المؤمنين؛ كان سحرُه أقوى وأنْفَذَ, ولهذا كان سِحْرُ عُبَّاد الأصنام أقوى من سِحْر أهل الكتاب, وسحر اليهود أقوى من سِحْر المُنْتَسِبين إلى الإسلام, وهم الذين سحروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الموطأ" (3) عن كعب قال: "كلماتٌ أحفظُهُنٌ من التَّوراة لولاها لجعلتْني يهودُ حمارًا: أعوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذي لا شيءَ أعظمُ منه, وبكلمات الله التَّامَّاتِ التي لا يُجاوِزهُنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ, __________ (1) (ق): "ويستعين به". (2) "السر المكتوم في مخاطبة النجوم" لأبي بكر الرازي المتكلم (606) , والكتاب في عبادة الكواكب في الأصنام وعمل السحر، وقيل: إنه منسوب إليه. انظر: "مجموع الفتاوى": (13/ 180)، و"بيان تلبيس الجهمية": (1/ 447)، و"كشف الظنون": (ص/ 989)، و"طبقات الشافعية الكبرى": (8/ 87). (3) (2/ 951 - 952).

(2/758)


وبأسماء الله الحُسنى، ما عَلِمْتُ منها وما لم أعْلَمْ، منْ شَرِّ ما خَلَقَ وذَرَأَ وبَرَأَ". والمقصودُ أنَّ السَّاحرَ والحاسد كل منهما قصده الشَّرُّ, لكن الحاسد بطبعه ونفْسِه وبغضه للمحسود, والشيطان يقترنُ به ويُعينه ويزيِّنُ له حَسَدَهُ ويأمرُه بموجبه, والساحرُ بعلمه (1) وكسبه وشِرْكه واستعانته بالشياطين. فصل وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} يعمُّ الحاسدَ من الجنِّ والإنس, فإن الشيطانَ وحزبَهُ يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله, كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته, كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. ولكنَّ الوسواس أخصُّ بشياطين الجن, والحسدُ أخصُّ بشياطين الإنس, والوَسْواس يعمُّهما كما سيأتي بيانهما, والحسدُ يعمُّهما أيضًا, فكلا الشيطانين حاسدٌ مُوَسْوِسٌ, فالاستعاذةُ من شرِّ الحاسد تتناولُهما جميعًا. فقد اشتملت السورةُ على الاستعاذة من كلِّ شَرٍّ في العالم, وتضمَّنت شرورًا أربعة يستعاذً منها: شرًّا عامًّا وهو شرُّ ما خَلَق, وشرُّ الغاسق إذا وقب, فهذا نوعان. ثم ذكر شرَّ الساحر والحاسد, وهي نوعان أيضًا؛ لأنهما من شرِّ النفس الشريرة, وأحدهما يستعينُ بالشيطان ويعبدُه وهو السَّاحرُ, __________ (1) (ق): "بعمله".

(2/759)


وقلَّما يتأتَّىْ السحرُ بدون نوع (1) عبادة للشيطان، وتقرُّبٍ إليه؛ إما بذبح باسمه، أو بذبح يُقْصَدُ به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من من أنواع الشرك والفسوق. والساحرُ وإن لم يُسَمِّ هذا عبادة للشيطان فهو عبادةٌ له, وإن سمَّاه بما سمَّاه به, فإن الشرك والكفر هو شركٌ وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه, فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له هذا خضوعٌ وتقبيل الأرض بالجبهة كما أُقَبِّلها بالنِّعم, أو هذا إكرامٌ, لم يخرجْ بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله فَلْيُسَمِّهِ بما شاء. وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه, واستعاذ (2) به وتقرَّب إليه بما يحبُّ فقد عَبَدَهُ, وإن لم يُسَمِّ ذلك عبادةً بل يُسَمِّيه استخدامًا ما, وصَدَق هو استخدام (3) من الشيطان له, فيصيرُ من خَدَم الشيطان وعابديه, وبذلك يخدمُهُ الشيطان, لكن خدمة الشيطان له ليست خدمةَ عبادة, فإن الشيطان لا يخضعُ له ويعبدُهُ كما يفعلُ هو به. والمقصودُ أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سمَّاه استخدامًا, قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [يس: 60] وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40 - 41] فهؤلاء وأشباهُهم عبَّاد الجنِّ والشياطين, وهم أولياؤُهم في الدنيا __________ (1) (ق): "بنوع" وهو خطأ. (2) (ق): "واستعان". (3) "ما, وصدق هو استخدام" سقطت من (ق).

(2/760)


والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشيرُ، فهذا أحدُ النوعين. والنوع الثاني: من يُعِينُهُ الشيطانُ وإن لم يستعِنْ به، وهو الحاسدُ؛ لأنه نائبُهُ وخليفتُهُ؛ لأنَّ كِلَيْهما عدوُّ نِعَمِ الله تعالى ومنغِّصُها (1) على عباده. فصل وتأمل تقييدَهُ -سبحانه- شرَّ الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ (5)}؛ لأن الرجل قد يكون عندَهُ حَسَدُ ولكن يُخفيه ولا يُرَتِّبُ عليه أذىً (2) بوجهٍ ما, لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده, بل يجدُ في قلبه شيئًا من ذلك, ولا يعامِلُ (3) أخاه إلا بما يُحِبُّ اللهُ, فهذا لا يكاد يخلو منه أحدٌ, إلا مَنْ عَصمَهُ اللهُ. وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساكَ إخوةَ يوسُفَ (4). لكن الفرقَ بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعُها ولا يأتمرُ بها, بل يعصِيها طاعةً لله وخوفًا وحياءً منه وإجلالًا له أن يكرَهَ نِعَمَه على عباده, فيرى ذلك مخالفةً لله وبغضًا لما يُحِبُّ اللهُ ومحبةً لما يبغضُه, فهو يجاهدُ نفسَه على دفع ذلك, ويُلْزِمُها بالدُّعاء للمحسود, وتمنِّي زيادةِ الخير له, بخلاف ما إذا حقق ذلك وحَسَد, ورتَّب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح, فهذا الحسدُ المذمومُ هو كلُّه حسد تمنِّي الزوال. __________ (1) (د): "ومبغضها". (2) (ق): "ولا يرتّب عليه أذى أخيه ... ". (3) (ظ ود): "يعاجل". (4) أخرجه هناد بن السَّري في "الزهد": (2/ 642).

(2/761)


وللحسد ثلاثُ مراتبَ: إحداها: هذه. الثانية: تمنِّي استصحاب عدم النِّعمة، فهو يكرهُ أن يُحْدِثَ اللهُ لعبده نعمةً، بل يُحبُّ أن يبقى على حاله؛ من جهله أو فقره أو ضعفه أو شَتات قلبه عن الله أو قِلَّة دينه، فهو يتمنَّى دوامَ ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسدٌ على شيء مقدَّرٍ، والأول حسَدٌ على شيء محقَّق؛ وكلاهما حاسدٌ عدوُّ نعمة الله وعدوُّ عبادِه، وممقوتٌ عند الله تعالى وعند الناس، ولا يسودُ أبدًا ولا يَرْأَس، فإن الناس لا يُسَوِّدُون عليهم إلا من يريدُ الإحسان إليهم. فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يُسَوِّدُونهم باختيارهم أبدًا إلا قهرًا، يَعُدُّونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم اللهُ بها، فهم يُبغضونه وهو يُبْغِضُهم. والحسد الثالث: حسد الغبطة، وهو تمنِّي أن يكونَ له مثلُ حال المحسود من غير أن تزولَ النعمةُ عنه، فهذا لا بأس به ولا يُعَابُ صاحبُه، بل هذا قريبٌ من المنافسة، وقد قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. وفي الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا حَسَدَ إلا في اثْنتَيْن: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وَسَلَّطهُ علي هَلَكَتِهِ في الحَق، ورَجُلٌ آتاه اللهُ الحِكْمَةَ فهو يعصي بِهَا، ويعَلِّمها النَّاسَ" (1)، فهذا حَسَد غِبْطة، الحاملُ لصاحبه عليه كِبَر نفسه، وحُبُّ خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول فى __________ (1) أخرجه البخاري رقم (73)، ومسلم رقم (816) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

(2/762)


جملتهم، وأن يكونَ عن سُبَّاقِهِم وعِلْيَتِهم ومُصَلِّيهم لا عن فَسَاكِلِهِم (1)، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يضبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخلُ في الآية بوجهٍ ما. فهذه السورةُ من أكبر أدوية المحسود، فإنها تتضمَّنُ التَّوكُّلَ على الله والالتجاءَ إليه والاستعاذةَ به من شرِّ حاسد النعمة، فهو مستعيذٌ بولى النعم وموليها [من شرِّ لِصِّها وعدوها] (2) كأنه يقول: يا منْ أولاني نعمتَه وأسْداها إليَّ، أنا عائذٌ بك من شرِّ من يريدُ أن يستلبَها مني، ويُزيلها عني [فلا يعيذني منه سواك، فهو مستجير بمن أنعم عليه من عدوِّ نعمته، والله تعالى يُجير ولا يجار عليه] (3) وهو حسْبُ من توَكَّلَ عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف، ويجيرُ المستجير، وهو نِعْمَ المولى ونعم النصير، فمن تولَّاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه = تولَّاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه وأتَّقاهُ آمَنَهُ من كل ما (4) يخافُ ويحذرُ، وجلب إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته، فإن الله تعالى بالغ أمره، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدْرًا لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّرُ، ومن لم يَخَفْهُ أخافه من كل شيء، وما خاف أحدٌ غيْرَ الله إلا __________ (1) المُصَلِّي ما يسبق من الفرس، وتأتي بعد المجلّي، أما الفساكل فجمع فُسْكُل، وهو: ما يجيء آخر الحلية من الخيل. انظر: "القاموس": (ص/ 1681,1346). (2) من (ق). (3) الزيادة من (ق). (4) (ظ ود): "مما".

(2/763)


لنقص خوف من الله، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 98 - 100] وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم بأوليائه، ويعظِّمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفرِدوني بالمخافة أكْفِكمْ إيَّاهم. فصل (1) ويندفع شرُّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب: أحدها: التَّعَوُّذ بالله تعالى من شرِّه، والتَّحصُّن به، واللَّجَأ إليه، وهو المقصود بهذه السورة، والله تعالى سميع لاستعاذته (2)، عليمٌ بما يبستعيذُ منه، والسمعُ هنا المرادُ به سمع (3) الإجابة لا السمع العام، فهو مثل قوله: "سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَهُ". وقول الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}. ومرَّةً يقرنُهُ بالعلم، ومَرَّةً بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ بربه (4) من عدوٍّ يعلم أن الله تعالى يراهُ، ويعلم كيدَهُ وشرَّهُ، فأخبر. الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي: مجيب عليمٌ بكيد عدُوِّه يراه ويُبصِرُه لينبسطَ أملُ المستعيد ويُقْبِلَ قلبه (5) على الدعاء. __________ (1) من هنا يبدأ الجؤء الموجود من النسخة العمرية وكُتِب عليه: "الجزء الثاني من بدائع الفوائد" ورمزنا له بـ "ع". وفي أوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة". وكتب في هامش (ظ) في هذا الموضع: "أول الجزء الثاني من البدائع". (2) ليست في (ق). (3) ليست فِي (ع)، و (ظ ود): "سموع". (4) (ظ ود): "به". (5): "بقلبه".

(2/764)


وتأملْ حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلمُ وجوده ولا نراه بلفظ: (السميع العليم) في (الأعراف) و (حم السجدة)، وجاءت الاستعاذةُ من شرِّ الإنس الذين يؤنَسُون ويُرَوْن بالأبصار بلفظ: (السميع البصير) في سورة (حم المؤمن) فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال مُعَايَنة تُرَى بالبصر. وأما نزْغُ الشَّيطان؛ فوساوسُ وخَطَراتٌ يُلقيها في القلب، يتعلَّقُ بها العلم، فأمَر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسَّميع البصير في باب ما يُرى بالبصر ويُدركُ بالرُّؤية، والله أعلم. السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمرِه ونفِيه، فمن أتقى الله تولى الله حفظه، ولم يَكِلْه إلى غيره (1)، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال النبى - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ" (2)، فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامَه أينما توجَّه، ومن __________ (1) في هامش (ق) حاشية بخط العلامة ابن علان الصديقي نصُّها: "لكاتبه الفقير الحقير محمد على ابن علان البكري الصديقي الشافعي: ... اتق اللهَ لا تخف من فلانٍ ... ما فلانٌ -مع التُّقى- بفلانِ وأدْرِ أن المقضِيَّ حَتْم وما لم ... يقضِهِ الله لا يكن بزمانِ (2) أخرجه الترمذي رقم (2516)، وأحمد: (4/ 410 رقم 2669) وغيرهم من طرقٍ كثيرة عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الحافظ ابن رجب في "نور الاقتباس": (ص/ 31): "وأجود أسانيده من رواية حَنَش عن ابن عباس، وهو إسناد حسن لا بأس به" اهـ. ونحوه في "جامع العلوم والحكم": (1/ 460 - 461).

(2/765)


كان الله حافِظَهُ وأمامَهُ فممن يخافُ ومَنْ يحذرُ؟. السبب الثالث: الصَّبْر على عدوه، وأن لا يقابلَهُ ولا يشكوه، ولا يحدِّثُ نفسَه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حَاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتَّوَكّل على الله، ولا يَسْتَطِلْ تأخيرَهُ وبغيَهُ، فإنه كلما بغى عليه كان بغيُهُ جندًا وقوَّةً للمبغي عليه (1) المحسودِ، يقاتلُ به الباغي نفسه وهو لا يشعرُ، فبغيه سهامٌ يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغيُّ عليه ذلك لسَرَّه بغيُهُ عليه، ولكن لضعفِ بصيرته لا يرى إلا صورةَ البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] فإذا كان اللهُ قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقَّهُ أولًا، فكيف بمن لم يستوفِ شيئًا من حقِّه؟ بل بُغِيَ عليه وهو صابر!؟ وما من الذنوب ذنبٌ أسرعُ عقوبةً من البغي وقطيعة الرَّحِم، وقد سبقت سُنَّةُ الله: أنه لو بَغَى جبلٌ على جبل جَعَلَ الباغِيَ منهما دَكًّا (2). السبب الرابع: التوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، والتوكل من (3) أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدْوانهم، وهو من (4) أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبُهُ، أي: كافيه، ومن كان اللهُ كافِيَهُ وواقِيَهُ، فلا. __________ (1) ليست فِي (ع). (2) في هامش (ق)، ما نصه: "كما قال: فلو بغى جبلٌ يومًا على جبلٍ ... لاندك منه أعاليه وأسفَلُه" اهـ أقول: انظر البيت في "الإيضاح لعلوم البلاغة": (ص/ 387) للقزويني. (3) من الآية إلى هنا ليست فى (ق)، وبدلًا منها: "وهو". (4) ليست في (ع).

(2/766)


مطمعَ فيه لعدوه (1)، ولا يضرُّه إلا أذىً لا بدَّ منه؛ كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يَضُرَّهُ بما يبلغُ منه مرادَه؛ فلا يكون أبدًا، وفَرْق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاءٌ له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يُتَشَّفى به منه. قال بعض السلف: جعل اللهُ -تعالى- لكل عمل جزاءً من جنسه (2)، وجعل جزاءَ التَّوَكُّل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نُؤتِهِ كذا وكذا من الأجْرِ، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسَه سبحانه كافِيَ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكَلَ العبدُ على الله تعالى حقَّ توكُّلِهِ، وكادَتْه السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك، وكفاه ونصره (3). وقد ذكرنا حقيقةَ التَّوَكُّل وفوائده وعِظَمَ منفعته وشدَّةَ حاجة العبد إليه في كتاب: "الفتح القدسي"، وذكرنا هناك فسادَ من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوامِّ، وأَبْطَلنا قولَه من وجوهٍ كثيرة، وبيّنا أنه من أجلِّ (4) مقامات العارفين، وأنه كلَّما علا مقامُ العبد كانت حاجته إلى التَّوَكُّل أعظمَ وأشدَّ، وأنه على قَدْر إيمان العبد يكون توكُّلُهُ، وإنما المقصود هنا ذكرُ الأسباب التي يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن، والسَّاحر والباغي. السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن __________ (1) (ق) زيادة: " أبدًا". (2) (ظ ود): "نفسه". (3) انظر: "مدارج السالكين: (2/ 133). (4) من قوله: "فساد من ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/767)


يقصدَ أِن يمحوَهُ (1) في باله كما خطر [له] (2) فلا يَلْتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرِّه، فإن هذا بمنزلة من يطلبُهُ عدوُّه ليُمْسِكَهُ ويؤذيه، فإذا لم يتعرَّضْ له ولا تماسك هو وإيَّاه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلَّقَ كل منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ. وهكذا الأرواحُ سواءٌ، فإذا علّق روحَه به وشبَّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلِّقةٌ به يقَظَةً ومنامًا لا يَفتُرُ عنه، وهو: يتمنَّى أن يتماسكَ الرُّوحان ويتشبَّثا، فإذا تعلَّقتْ كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرار ودام الشرُّ حتى: يهلِكَ أحدُهما. فإذا جَبَذَ روحَه عنه، وصانها عن الفكر فيه والتَّعَلُّق به، وأن يُخْطِره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفعُ له وأولى يه، بقي الحاسد الباغي يأكلُ بعضُه بعضًا، فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجدْ ما تأكلُهُ أكَلَ (3) بعضُها بعضًا. وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحابُ النفوس الشريفة والهمم العَلِيَّة، وبين الكَيِّس الفَطِن وبينه حتى يذوقَ حلاوتَهُ وطيبَهُ ونعيمَهُ، كأنه (4) يرى من أعظم عذاب القلب والرُّوح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به، ولا يرى شيئًا آلَمَ لروحه من ذلك، ولا يصدِّق بهذا إلا النفوسُ المطمئنة: الوادعة اللَّيِّنة (5) التي رضيتْ بوكالة الله لها، __________ (1) (ع): "محوه". (2) (ظ ود): "إليه"، وسقطت من (ق وع). (3) (ق وظ ود): "أكلت". (4) (ع): "فإنه". (5) "الوادعة اللينة" ليست فى (ع).

(2/768)


وعلمتْ أن نصرَه لها خيرٌ من انتصارها هي لنفسها، فوثِقتْ بالله وسكَنَتْ إليه واطمأنَّتْ به، وعلِمَتْ أن ضمانَه حقٌّ ووعده صدقٌ، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلًا، فعلمت أن نصرَه لها أقوى وأثبتُ وأدومُ وأعظمُ فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصرِ مخلوقٍ مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بـ: السبب السادس: وهو الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبَّته وتَرَضِّيه والإنابة إليه في محلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدبُّ فيها دبيبَ تلك الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرَها ويُذْهِبَها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسُه وأمانِيُّهُ كلُّها في محابِّ الرَّبِّ والتقرُّب إليه، وتملُّقه وتَرَضِّيه واستعطافه وذكره، كما يذكر المحبُّ التَّامُّ المحبة (1) لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأتْ جوانحُهُ من حبه، فلا يستطيعُ قلبُه انصرافًا عن ذكره، ولا روحُه انصرافًا عن محبَّتِهِ، فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيتَ أفكاره وقلبه معمورًا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريقِ إلى الانتقام منه والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتَّسَعُ له إلا قلبٌ خرابٌ لم تسكنْ فيه محبَّة الله وإجلالُه وطلبُ مرضاته؛ بل إذا مسَّه طيفٌ من ذلك واجتاز ببابه (2) من خارج ناداه حرس قلبه: إيَّاك وحِمى المَلِك، اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حَلَّ فيها ونزل بها، مالَك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليَزَكَ (3) وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور. __________ (1) "التام المحبة" ليست في (ظ ود). (2) (ق): "بذاته". (3) كلمة فارسية، معناها: طليعة الجيش. انظر: "معجم المصطلحات والألقاب التاريخية": (ص / 446).

(2/769)


قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100]، وقال في حق الصديق يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. فما أعظمَ سعادةَ مَنْ دخل هذا الحِصْنَ وصار داخلَ اليَزَك، لقد أوى إلى حصْن لا خوفَ على مَن تحصَّن به، ولا ضيْعَةَ على من أوَي إليه، ولا مَطْمعَ للعدو في الدُّنُوِّ منه (1) و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سَلَّطت عليه أعداءَه، فإن الله: تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق -وهم أصحاب نبيه- دونه - صلى الله عليه وسلم -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فما سُلِّط على العبد مَنْ يؤذيه إلا بذنب يعلمُه أو لا يعلمُه، وما لا يعلمُهُ العبدُ من ذنوبه أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساهُ مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره. وفي الدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ أَنْ أُشْرِكَ بكَ وَأَنا أعْلَمُ، ْ وَأسْتَغْفِرُك لِمَا لا أعْلَمُ" (2)، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغَفار منه __________ (1) (ظ ود): "إليه". (2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد": (ص / 214)، وأبو يعلى: (1/ 60 - 61)، =

(2/770)


مما لا يعلمُهُ أضعافُ أضعافِ ما يعلَمُهُ، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذٍ إلّا بذنبٍ. ولقي بعضَ السَّلَفِ رجلٌ فأغلظ له ونال منه، فقال له: قِفْ حتى أدخلَ البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرَّع إليه، وتابَ وأنابَ إلى ربِّه، ثم خرج إليه فقال له: ما صنعتَ؟ فقال: تبتُ إلى الله من الذنبِ الذي سَلَّطَكَ به عَلَيَّ. وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شرٌّ من الذنوبُ ومُوجباتُها، فإذا عُوفي من الذنوب عوفِيَ من مُوجباتها، فليس للعبد إذا بُغِيَ عليه وأُوذي، وتسلَّطَ عليه خصومُهُ شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته: أن يعكسَ فِكْره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نزل به، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولَّى نُصْرَتَهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعدَه من عبدٍ، وما أبْركَها من نازلة نزلتْ به، وما أحسنَ أثرَها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطيَ لما مَنَعَ، فما كلُّ أحدٍ يُوَفَّقُ لهذا، لا معرفةَ به، ولا إرادةً له، ولا قُدْرَةً عليه، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله. السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنَّ لذلك تأثيرًا عجيبًا في دَفْع البلاء، ودفع العين، وشرِّ الحاسد، ولو لم يكنْ في هذا إلا تجاربُ الأُمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما يكادُ العينُ والحسد والأذى يتسلَّطُ على محسنٍ متصدِّقِ، وإن أصابه في شيءٌ ذلك كان __________ = والضياء في "المختارة": (1/ 150) من حديث أبي بكر -رضي الله عنه-. قال الضياء: "وسنده ضعيف".

(2/771)


معاملًا فِيه باللُّطفِ والمعونة والتأييد، وكانت له فِيه العاقبةُ الحميدةُ. فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ في خَفَارة إحسانه وصَدَقته، عليه من الله جُنَّةٌ واقيةٌ وحِصنٌ حصينٌ، وبالجملة؛ فالشكرُ حارس النعمة من كلِّ ما يكونُ سببًا لزوالها. ومن أقوى الأسباب حَسَد الحاسد والعائن، فإنه لا يفْتُرُ ولا يَنِي ولا يبردُ قلبهُ حتى تزولَ النعمةُ عن المحسود، فحينئذ يبردُ أنينُه وتنطفئُ نارُهُ -لا أطفأها اللهُ- فما حرس العيدُ نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عَرَّضها للزَّوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كُفرانُ النعمة، وهو باب إلى كُفران المنعم. فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ يستخدمُ جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جندٌ ولا عسكرٌ وله عدوٌّ فإنه يوشِكُ أن يَظْفَرَ به عدُوُّهُ، وإن تأخرت مدَّةُ الظَّفَرِ، والله المستعان. السبب التاسع: -وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشَقِّها عليها، ولا يوفَّقُ له إلا من عَظُمَ حظُّه من الله- وهو: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذىً وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددتَ إليه إحسانًا وله نَصِيحةً وعليه شفقة، وما أظنُّك تصدِّق بأن هذا يكون: فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قولَه عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (1) [فصلت: 34 - 36]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا __________ (1) هذه الآية ليست في (ع)، وكذا سقطت ونصف التي بعدها من (ق).

(2/772)


صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} [القصص: 54]. وتأمَّلْ حال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي حكى عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم - (1) أنه ضربه قومُه حتى أَدْمَوْه، فجعل يسلُتُ الدَّمَ عنه، ويقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (2) كيف جمع في هذه الكلمات أربَعَ مقاماتٍ من الإحسان، قابَلَ بها إساءَتهم العظيمةَ إليه: أحدها: عفوه عنهم. والثاني: استغفاره لهم. الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: "اغفرْ لِقَوْمِي"، كما يقولُ الرجلُ لمن يشفعُ عندَهُ فيمن يَتَّصِلُ به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فَهَبْهُ لي. واسمع الآن ما الذي يسهِّل هذا على النفس ويطيِّبُه لها وينعِّمها به: اعلمْ أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عَوَاقِبَها وترجوه أن يعفوَ عنها ويغفرَها لك ويَهَبَها لك، ومع هذا لا يقتصرُ على مجرَّد العفو والمسامحة حتى ينعمَ عليك ويكرمَكَ ويجلبَ إليك من المنافع والإحسان فوقَ ما تُؤَمِّلُه، فإذا كنت ترجو هذا من ربِّك أن يقابلَ به إساءَتك، فما أولاك وأجدرَكَ أن تعاملَ به خَلْقَهُ وتقابلَ به (3) إساءَتَهم، ليعامِلَكَ اللهُ هذه المعاملة، فإن الجزاءَ من جنس العمل، __________ (1) "الذي حكى عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم -" سقطت من (ق)، وفي (ع) بدلًا من "نبينا": "النبي". (2) أخرجه البخاري رقم (3477)، ومسلم رقم (1792) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. (3) (ع): "بهم".

(2/773)


فكما تعملُ مع الناس في إساءتهم في حقِّك يفعلُ اللهُ معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذلك أو اعْفُ، وأَحْسِنْ أو اترُكْ، فكما تَدِين تُدانُ، وكما تفعل مع عباده يُفْعَلُ معك. فمن تصوَّرَ هذا المعنى وشَغَلَ به فكرَهُ، وإن عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعونته ومعِيَّته الخاصَّة، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للذي شكى إليه قرابَتَهُ وأنه يحْسِن إليهم وهم يسيئونَ إليه، فقال: "لا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْت عَلَى ذلِكَ" (1)، هذا مع ما يتعجَّلُّهُ من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلُّهم معه علي خصمه، فإنَّ كل من سمع أنه يحسنُ إلى ذلك الغير وهو مُسِيءٌ إليه، وَجَدَ قلبَه ودعاءَه وهمَّتَه مع المحسن على المسيء، وذلك أمرٌ فطريٌّ فطر اللهُ عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفُهم ولا يعرفونه، وألا يريدون منه إقطاعًا ولا خبزًا، هذا مع أنه لا بُدَّ له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملِكَهُ بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويَدل له ويَبْقى من أحب الناس إليه، وإما أن يُفَتِّتَ كَبدَهُ ويقطعَ دابرهُ إن أقام على إساءته إليه، فإنه يُذيقه (2) بإحسانهَ أضعافَ ما ينالُ منه بانتقامه، ومن جرَّب هذا عَرَفَهُ حَق المعرفة، والله هو الموفقُ المعين، بيده الخير كلُّه، لا إله غيره (3)، وهو المسؤولُ أن يستعمِلَنا وإخواننا في ذلك بمَنِّه وكرمه. وفي الجملة؛ ففي: هذا المقام من الفوائد ما يزيدُ على مئة منفعةٍ للعبد عاجلة وآجلة، سنذكرها فِي موضع آخرَ إن شاء الله تعالى. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2558) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (2) كذا في (ظ ود)، وفى (ع وق): "يذبحه". (3) (ق): "إلا هو".

(2/774)


السبب العاشر: -وهو الجامعُ لذلك كُلِّه وعليه مدارُ هذه الأسباب- وهو: تجريدُ التوحيد والتَّرَحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم. والعلم بأن هذه آلاتٌ بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محرِّكها وفاطرها وبارئها، ولا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه، فهو الذي يمسّ (1) عبدَه بها، وهو الذي يصرفُها عنه وحدَه لا أحد سواه، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ (107)} [يونس: 107]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أنْ يَنْفَعُوك (2) لم يَنْفَعُوك إلا بشيءٍ كَتَبهُ اللهُ لك، ولو اجْتَمَعُوا على أن يَضرُّوكَ لمْ يَضُرُّوكَ إلا بشيءٍ كَتَبه اللهُ عَلَيْكَ" (3)، فإذا جرَّدَ العبدُ التوحيدَ فقد خرج من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّهُ أهونَ عليه عن أن يخافَه مع الله تعالى، بل يفردُ اللهَ بالمخافة، وقد أمَّنه منه، وخرج عن قلبه (4) اهتمامُه به واشتغالُه به وفكره فيه، وتجرَّدَ لله محبَّةً وخشيةً وإنابةً وتوِكُّلًا واشتغالَهُ به عن غيره، فيرى أنَّ إعمالَهُ فكْرَهُ في أمر عدوِّهِ وخوفهُ منه واشتغالَهُ به من نقص توحيده، وإلا فلو جرَّدَ توحيدَه لكان له فيه شغلٌ شاغلٌ، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإن اللهَ يدفعُ (5) عن الذين آمنوا، فإن كان __________ (1) كذا في (ق وع)، و (ظ ود): "يحيى" وكتب في هامش (د): "لعله يمتحن". (2) (ع) زيادة: "بشيء". (3) تقدم تخريجه ص / 765. (4) من قوله: "خوف ما سواه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (5) كذا في جميع النسخ.

(2/775)


مؤمنًا فاللهُ يدفعُ عنه ولا بُدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كَمُلَ إيمانُهُ كان دفعُ الله عنه أتَمَّ دَفْعٍ، وإنْ مَزَجَ مُزِج له، وإن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعضُ السلف: من أقبل على الله بكُلِّيَّته أقبل اللهُ عليه جملةً، ومن أعرض عن الله بكلِّيته أعرض الله عنه جملةً، ومن كان مرةَ ومرةً فاللهُ له مرةً ومرةً. فالتوحيد حِصنُ إليه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنينَ، قال بعض السلف (1): من خاف الله خاف كلُّ شيء، ومن لم يَخَفِ اللهَ أخافه من كلِّ شيء. فهذه عشرةُ أسباب يندفعُ بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفعُ من التَّوَجُّه إلى الله وإقبالِهِ عليه وتَوَكُّلِهِ عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيرَه، بل يكون خوْفه منه وحدَه ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحدَه (2) فلا يعلقُ قلبَه بغيره، ولا يستغيثُ بسواه، ولا يرجو إلا إيَّاه ومتى علَّق قلبَه بغيره ورجاه وخافه وُكِلَ إليه وخُذِلَ من جهته، فمن: خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خُذِل من جهتِه (3) وحُرِمَ خَيْرَهُ، هذه سُنَّةُ الله فِي خلقة: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62]. فصل فقد عرفتَ بعص ما اشتملت عليه هذه السُّورةُ من القواعد النَّافعة المهمَّة، التي لا غِنى للعبد عنها في دينه ودنياه، ودلَّت على أن __________ (1) هو يوسف بن أسباط، انظر "الحلية": (8/ 240). (2) من قوله: "وثقته به .. " إلى هنا ساقط من (ق). (3) من قوله: "فمن خاف ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(2/776)


نفوسَ الحاسدين وأعيُنَهم لها تأثيرٌ، وعلى أن الأرواحَ الشيطانيَّةَ لها تأثيرٌ بواسطة السحر والنفثِ في العقد، وقد افترق العالمُ في هذا المقام أربَعَ فِرَقٍ: ففرقة: أنكرت تأثيرَ هذا وهذا (1)، وهم فرقتان: فرقةٌ اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجِنِّ، وأنكرت تأثيرهما أَلْبتةَ، وهذا قلُ طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقُوى والتأثيرات، وفرقة أنكرت وجودَهما بالكلية، وقالت: لا وجودَ لنفس الآدمِيِّ سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط، ولا وجود للجِنِّ والشياطين سوى أعراض قائمة به، وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائَعيين وغيرهم من الملاحدة المُنتسبين إلى الإسلام، وهو قولُ شذوذٍ من أهل الكلام الذين ذمَّهم السَّلَفُ وشهدوا عليهم بالبدعة والضَّلالة. الفرقة الثانية: أنكرتْ وجودَ النفس الإنسانية المفارقة للبَدَن، وأقرَّت بوجود الجنِّ والشياطين، وهذا قولُ كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم. الفرقة الثالثة: بالعكس أقرَّت بوجود النَّفس النَّاطقة المفارقة للبَدَن، وأنكرت وجودَ الجن والشياطين، وزعمتْ أنها غير خارجة عن قُوى النفس وصِفَاتها، وهذا قولُ كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم. وهؤلاء يقولون: إن ما يوجدُ في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة، فهي من تأثيرات النفس، ويجعلون السِّحر والكهَانة كلَّهُ من تأثير النَّفس وحدها بغير واسطة شيطانٍ منفصل، وابنُ سينا وأتباعه على هذا القول، حتى إنهم يجعلونَ معجزاتِ الرسل من هذا __________ (1) "هذا" الآية سقطت من (ع).

(2/777)


الباب، ويقولون (1): إنما هي من تأثيرات النَّفْس في هَيُولَى العالم، وهؤلاء كفَّارٌ بإجماع أهل المِلَل، ليسوا من اتباع الرُّسُل جملةً. الفرقة الرابعة: وهم أتباعُ الرسل وأهل الحق أقَرُّوا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن، وأقرُّو بوجود الجن والشياطين، وأثبتوا ما أثبتَهُ اللهُ تعالى من صفاتهما وشرهما، واستعاذوا بالله تعالى منه، وعلموا أنه لا يُعيذُهم منه ولا يُجيرُهم إلا الله تعالى، فهؤلاء أهلُ الحق، ومن عداهم مفْرِطٌ فِي الباطَل أو معه باطلٌ وحقُّ، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فهذا ما يَسَّرَ اللهُ تعالى من الكلام على سورة (الفلق). * * * __________ (1) من (ع) فقط.

(2/778)


وأما سورة (الناس)؛ فقد تضمَّنَتْ -أيضًا- استعاذة ومستعاذًا به ومستعاذًا (1) منه، فالاستعاذةُ قد (2) تقدَّمت. وأما المستعاذُ به فهو الله تعالى: {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}، فذكر ربوبيَّته للنَّاس، وملكَه إياهم، وإلاهيتَه لهم، ولا بُدَّ من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم، فنذكر أولًا معنى هذه الإضافات الثلاث، ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة. الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمِّنة لخلفهم وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه، ودفع الشَّرِّ عنهم وحفظهم مما يفسدُهم، هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمَّن قدْرتَهُ التامَّة ورحمته الواسعة، وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كُرباتهم. الإضافة الثانية: إضافة الملك فهو مَلِكُهم المُتَصَرِّفُ فيهم، وهم عبيدُه ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبِّرُ لهم كما يشاءُ، النافذُ القدرة فيهم، الذي له السلطانُ التَّامُّ (3) عليهم، فهو مَلِكُهم الحق الذي إليه مَفْزَعُهُم عند الشَّدائد والنَّوائب، وهو مُسْتَغَاثُهم ومَعَاذُهم ومَلْجَؤُهم، فلا صلاحَ لهم ولا قيامَ إلا به وبتدبيره، فليس لهم مَلِكٌ غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدوُّ، ويستنصرون (4) به إذا نزل العدوُّ بساحتهم. __________ (1) "به ومستعاذًا" سقطت من (ظ ود)، و"به" وحدها سقطت من (ق). (2) من (ع). (3) ليست في (ظ ود). (4) (ظ): "ويستصرخون".

(2/779)


الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية فهو إلههُم الحقُّ، ومعبودُهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبودَ لهم غيره. فكما أنه وحدَه هو ربُّهم ومليكهُم لم يشركْه في ربوبيَّته ولا فِي ملكه لهم (1) أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودُهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيّته، كما لا شريكَ معه فى ربوبيته ومُلْكِه. وهذه طريقةُ القرآن الكريم يحتجُّ عليهم بإقرارهم بهذا التَّوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وإذا كان وحدَه هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مَفْزَعَ لنا فى الشَّدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبودَ لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخافَ ولا يزجى ولا يُحَبَّ سواه، وفي يُذَلَّ لغيره، ولا يُخْضَعَ لسواه، ولا يُتَوَكَّلَ إلا عليه؛ لأن من ترجوه ونخافُهُ وتدعوه وتتوكَّل عليه إما أن يكون مُربِّيَكَ: والقَيِّمَ بأمورِك ومتوليَ شأنِك، وهو ربُّك فلا ربَّ لك سواه، أو تكونَ مملوكه وعبدَه الحقَّ، فهو ملكُ الناس حقًّا، وكلُّهم عبيدُه ومماليكُه. أو يكون معبودَك وإلهَك الذي لا تستغني عنه طَرْفةَ عينٍ، بل حاجتُكَ إليه أعظمُ من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإلهُ الحقُّ، إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجأوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم، ووليُّهم ومتولِّي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبدُ عند النوازل (2) ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟! فظهرت. __________ (1) من (ع وق). (2) (ق): "إلى ربه".

(2/780)


مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوةً وأشدهم ضررًا وأبلغهم كيدًا. ثم إنه سبحانه كرَّر الاسمَ الظَّاهرَ ولم يوقع المُضْمَرَ موقعَهُ، فيقولُ: ربُّ الناس وملكهم وإلههم، تحقيقًا لهذَا المعنى وتقويةً له، فأعاد ذكرَهم عند كلِّ اسم من أسمائه، ولم يعطفْ بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة. والمقصود الاستعاذةُ بمجموع هذه الصِّفات حتى كأنها صفةٌ واحدةٌ، وقدم الربوبيَّةَ لعمومها وشمولها لكلِّ مربوب، وأخَّرَ الإلهيَّةَ لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إلهُ مَنْ عَبَدَهُ ووحَّده، واتخذه دونَ غيره إلهًا، فمن لم يعبدْه ويوحِّده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن تَرَكَ إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره، ووسَّط صفةَ الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرِّف بقوله وأمره، فهو المطاعُ إذا أمر، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلاهَهُم الحق من كمال ملكه، فى بربوبيَّتهُ تستلزمُ ملكَه وتقتضيه، وملكُهُ يستلزمُ إلهيته ويقتضيها، فهو الرَّبُّ الحق، الملك الحق، الإله الحقُّ، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، استعبدهم بإلاهيته، فتأمَّل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمَّنَتْها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}، وقد اشتملت هذه الإضافاتُ الثلاثُ على جميع قواعد الإيمان، وتضمَّنَتْ معاني أسمائه الحسنى. أما تضمُّنها لمعاني أسمائه الحسنى؛ فإن الرَّبَّ هو: القادرُ الخالقُ البارئ المصوِّر الحيُّ القَيُّومُ العليمُ السميعُ البصيرُ المحسِنُ المُنعِمُ الجَوَادُ المُعطي المانعُ الضَّارُّ النافعُ المُقَدِّم المُؤَخِّر،

(2/781)


الذي يُضِلُّ من يشاءُ ويهدي من يشاءُ، ويُسعد من يشاءُ ويُشقِي من يشاء ويعرُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى. وأما الملك؛ فهو الآمر الناهي المعزُّ المذِلُّ الذي يصرف أمورَ عباده كما يحِبُّ، ويقلبهم كما يشاءُ، وله من معنى الملك ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى؛ كالعزيز الجبار المتكبِّر الحَكَم العَدْل الخافض الرافع المُعِز المُذِل العظيم الجَلِيل الكبير الحَسِيب المجيد الوالي (1) المُتَعالي مالك الملك المقسِط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء: العائدة إلى الملك. وأما الإله؛ فهو الجامعُ لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فِيدخلُ فِي هذا الاسم جميعُ الأسماء الحسنى، ولهذا كان القولُ الصحيح أن "الله" أصلُه "الإله" كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم (2)، وأن اسم الله تبارك وتعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، فقد تضمَّنت (3) هذه الأسماءُ الثلاثةُ جميعَ معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرًا بأن يُعَاذَ ويُحْفَظ ويُمْنَعَ من الوسواس الخنَّاس ولا يُسَلَّطَ عليه. وأسرارُ كلام الله أجلُّ وأعظمُ من أن تدركهَا عقولُ البشر، وإنما غايةُ أولي العلمَ الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وإن بادِيَه إلى الخافي اليسير. __________ (1) (ع): "الولى" (2) انظر ما تقدم من هذا الكتاب (1/ 39 - 40). (3) (ق): "شملت".

(2/782)


فصل وهذه السورة مشتملةٌ على الاستعاذة من الشر الذي هو سببُ الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشرُّ الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة (الفلق) تضمّنت الاستعاذة من الشَّرِّ الذي هو ظلمُ الغير له بالسحر والحسد، وهو شرٌّ من خارج، وسورة (الناس) تضمَّنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شرٌّ من داخل. فالشر الأول: لا يدخلُ تحت التكليف، ولا يُطْلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه، والشر الثاني في سورة (الناس): يدخل تحتَ التكليف، ويتعلَّق به النهيُ، فهذا شرُّ المعايب، والأول شرُّ المصائب، والشر كله يرجعُ إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما، فسورة (الفلق) تتضمَّنُ الاستعاذة من شر المصيبات (1)، وسورة (الناس) تتضمَّنُ الاستعاذةَ من شرِّ العيوب التي أصلُها كلها الوسوسةُ. فصل إذا عُرِف هذا فالوَسْواس: فَعْلالٌ (2)، من وَسْوَسَ، وأصل الوَسْوَسَةِ: الحَرَكَةُ، أو الصَّوتُ الخَفِيُّ الذي لا يُحَسُّ فيُحْتَرَزَ منه، فالوَسْوَاسُ: الإلقاءُ الخَفِيُّ في النفس، إما بصوتِ خفِىٍّ لا يسمعُه إلا من ألقِيَ إليه، وإما بغير صوت كما يُوَسْوِسُ الشيطانُ إلى العبد، ومن هذا "وَسْوَسَةُ الحَلْي"، وهو حركتُهُ الخَفِيَّةُ في الأذن، والظاهر -واللهُ أعلم- أنها سُمِّيَتْ: "وسوسةَ الحَلْي" (3) لقربها، وشدَّة مجاورتها __________ (1) (ظ ود): "المصايب". (2) (ق وظ ود): "فعلان". (3) "الحلي" من (ع) فقط.

(2/783)


لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن، فقيل "وَسْوَسة الحَلْي"؛ لأنه صوت مجاورٌ للأذن، كوسوسة الكلام الذي يُلقِيه الشيطانُ في أذن مَنْ يوسْوِسُ له. ولما كانت الوسوسةُ كلامًا يكرِّرُه الموسوِسُ ويؤكِّدُه عند من يُلقيه إليه كرَّروا لفظها: بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وَسوَسَ وَسْوَسَةً، فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه. ونظير هذا ما تقدَّم (1) من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدَّوَران والغَلَيَان والنَّزَوَان، وبابه، ونظير ذلك: "زلْزَلَ ودَكْدَكَ وقَلْقَلَ وكَبْكَبَ الشَّيءَ"؛ لأن الزَّلْزَلة: حركةٌ متكرِّرةٌ، وكذلك: "الدَّكْدَكة والقَلْقَلة"، وكذلك كبْكَبَ الشيءَ: إذا كبَّه في مكانٍ بعيد، فهو يكبُّ فيه كبًّا بعد كبٍّ، كقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء: 94] ومثلُه رَضرَضَهُ: إذا كرَّر رَضَّهُ مرَّةً بعد مرة، ومثله ذَرْذَرَهُ: إذا ذرَّه شيئًا بعد شيء، ومثله: صَرْصَرَ البابُ: إذا تكرَّرَ صريرهُ، ومثله: مطْمَطَ الكلامَ: إذا مطَّهُ شيئًا بعد شيء، ومثله: كَفْكَفَ الشيءَ: إذا كرَّر كَفَّه، وهو كثير. وقد عُلِمَ بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرُّباعي المكرر، فإذا قلت: (ذرَّ الشيء، وصَرَّ البابُ، وكَفَّ الثوبَ، ورضَّ الحبَّ) لم يَدُلَّ على تكرار الفعل بخلاف ذَرْذَرَه وصَرْصَرَ ورَضْرَضَ، ونحوه، فتأمله فإنه مطابق لقاعدة العربية فِي الحذو بالألفاظ حذوَ المعاني (2)، __________ (1) (1/ 189) من هذا الكتاب. (2) (ع): "لحذف بالألفاظ: حذف ... ".

(2/784)


وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته. وكذلك قولهم: عَجَّ العِجْلُ (1): إذا صَوَّتَ، فإن تابع صوتَه قالوا: عَجعَجَ، وكذلك: ثَجَّ الماء: إذا ضُبَّ، فإن تكرر ذلك قيل: ثَجْثَجَ، والمقصود أن المُوَسْوِسَ لما كان يكرِّر وَسْوَسَتَهُ ويتابعها قيل: وَسْوَسَ. فصل إذا عُرِفَ هذا فاختلف النُّحاةُ في لفظ (الوَسْوَاس) هل هو وصفٌ أو مصدرٌ؟ على قولين، ونحن نذكر حُجَّةَ (2) كُلَّ قول ثم نُبَيِّنُ الصحبحَ من القولينِ بعون الله تعالى وفضله: فأما من ذهبَ إلى أنه مصدر، فاحتجَّ بأن الفعل منه: فَعْلَلَ، والوصف من: فَعْلَلَ إنما هو: "ففَعْلِلٌ" كمُدَحْرِج ومُسَرْهِف ومُبَيْطِر ومُسَيْطِر، وكذلك هو من: فَعَلَ بوزن: "مَفْعِّل" كَمَقْطِّع ومَخْرِّج، وبابه، فلو كان الوَسْوَاسُ صِفَةً لقيل: موَسْوِس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زَلْزَلَ: مُزَلْزِلٌ، لا زَلْزَال، وكذلك من دَكْدَكَ: مُدَكْدِكٌ، وهو مطَّرِد، فَدَلَّ على أن الوَسْوَاس مصدرٌ وُصِفَ به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف تقديرُه: ذو الوَسْوَاس. قالوا: والدليل عليه أيضًا قول الشاعر (3): * تَسْمَعُ للحَلْيِ بها وَسْوَاسًا * __________ (1) (ق): "الفحل". (2) (ع): "حجةً على ... ". (3) هو الأعشى، من معلقته، والبيت: تسمع للحَلْي وسواسًا إذا انصرفتْ ... كما اسْتَعانَ بِرِبحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ "ديوانه": (ص/ 300).

(2/785)


فإذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء. قال أصحاب القول الآخر (1): الدليلُ على أنه وصف أن "فَعْلَلَ" ضَرْبَانِ: أحدهما: صحيح لا تكرارَ فيه؛ كَدَحْرَجَ وسَرْهَفَ (2) وبَيْطَرَ (3)، وقياس مصدر هذه: "الفَعْلَلَة"، كالَدَحْرَجَة والسَّرْهَفَة والبَيْطَرَة، و"الفِعْلال" -بكسر الفاء- كالسِّرهاف والدِّحْراج، والوصف منه "مفَعْلِلٌ" كمدَحْرِج ومبيْطِر. والثاني: "فَعْلَل" الثنائي المكرر؛ كزَلْزَلَ ودَكْدَكَ ووَسْوَس، وهذا فرعٌ على "فَعْلَلَ" المجرد عن التَّكرار؛ لأن الأصل السلامةُ من التَّكرار، ومصدر هذا النوع والوصف منه مساوٍ لمصدر الأول ووصفه، فمصدره يأتي على "الفعللة"؛ كالوَسْوَسَةِ وَالزَّلْزَلَةِ، و"الفِعْلال" كالزِّلْزَال، وأَقْيَس المصدرين وأولاهما بنوعي فَعْلَلَ: "الفِعْلال" لأمرين: أحدهما: أن "فَعْلَلَ" مشاكل لـ "أفْعَلَ" في عدد الحروف، وفتح الأول والثالث والرابعِ وسكون الثاني، فجُعِل "إفعال" مصدرْ "أفعل"، و"فِعْلال" مصدر "فَعْلك"، ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفِعْلان، فكان "الفِعْلالُ" أولى بهذا الوزن من "الفعللة". الثاني: أن أصل المصدر أن يخالفَ وزنه وزن فعله، ومخالفة "فِعْلال" لـ "فَعْلَلَ" أشدُّ من مخالفة "فَعْلَلَة" له، فكان "فِعْلال" أحقَّ بالمصدرية من "فَعْلَلَة"، أو تساويا في الاطِّراد مع أن "فَعْلَلَة" أرجحُ في الاستعمال وأكثرُ، هذا هو الأصل. __________ (1) النص من هنا إلى ص/789 من كلام ابن مالك، نقله السيوطي في "الأشباه والنظائر": (4/ 51 - 54). (2) السَّرْهفة: نعمة الغذاء. انظر "اللسان": (9/ 151). (3) أصل البَطْر: الشق، ومنه أخذ البَيْطار وهو: معالج الدواب. انظر: "اللسان": (4/ 69).

(2/786)


وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء، فقالوا: "وَسْوَسِ الشيطان وَسْوَاسًا"، و"وَعْوعَ الكلبُ وَعْوَاعًا" إذا عوى، و"عَظْعَظ السَّهْمُ (1) عَظْعَاظًا"، والجاري على القياس: "فِعْلالٌ" بكسر الفاء، أو "فَعْلَلَة"، وهذا المفتوح نادر؛ لأن الرُّباعي الصحيحَ أصلٌ للمتكرِّر، ولم يأتِ مصدر الصحيح مع كونه أصلًا إلاّ على "فَعْلَلَة وفِعْلال" بالكسر، فلم يحسُن بالرباعي المكرّر لفرعيته أن يكونَ مصدَرُه إلا كذلك، لأن الفرعِ لا يخالف أصلَه، بل يحتذي فيه حذوَه، وهذا يقتضي أن لا يكونَ مصدرُه على "فَعْلال" بالفتح، فإن شذَّ حُفِظ ولم يُزَدْ عليه. قالوا: وأيضًا فإن "فَعْلالًا" المفتوح الفاء قد كثر وقوعُه صفةً مصوغةً من "فَعْلَلَ" المكرر ليكون فيه نظير "فَعَّال" من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنًا، فاقتضى ذلك أن لا يكون لـ "فَعْلال" من المصدرية نصيبٌ، كما لم يكن لـ "فَعال" فيها نصيبٌ، فلذلك اسْتندروا وقوع: (وَسْوَاس ووَعْوَاع وعَظْعَاظ) مصادر، وإنما حقُّها أن تكون صفاتٍ دالَّةً على المبالغة في مصادر هذه الأفعال. قالوا: وإذا ثبت هذا فحقُّ ما وقع منها محتملًا للمصدرية والوصفية أن يُحمل على الوصفية، حَمْلًا على الأكثر الغالب وتجنبًا للشَّاذِّ، فمن زعم أن (الوَسْوَاس) مصدر مضاف إليه (ذو، تقديرًا، فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب، ويدلُّ على فساد ما ذهب إليه أمران: __________ (1) المعظعظ من السهام هو الذي يضطرب ويلتوي، "اللسان": (7/ 447). وذكر في "اللسان" أن عَظْعَاظًا -بفتح العين- محكية عن كراع وهي نادرة، والأشهر: عِظْعاظًا.

(2/787)


أحدهما: أن كلَّ مصدر أضيف إليه (ذو) تقديرًا فتجرُّدُهُ للمصدرية أكثرُ من الوصف به، كَرِضى وَصَوْم وفِطْر، و"فَعْلال" المفتوح لم يثبُتْ تجرُّدُه للمصدرية إلا فِي ثلاثة ألفاظ فقط (وَسْوَاسْ ووَعْوَاع وعَظْعَاظ)، على أن منع المصدرية في هذا ممكنٌ؛ لأن غاية ما يمكنُ أن يُستدَلَّ به على المصدرية قولهم: وَسْوَس إليه الشيطان وَسْواسًا، وهذا لا: يتعيَّنُ للمصدرية؛ لاحتمال أن يُرَادَ به الوصفية وينتصب: "وَسْواسًا" على الحال، ويكون حالًا مؤكِّدة، فإن الحال قد يؤكَّدُ بها عاملُها الموافق لها لفظًا ومعنًى، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79] {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}، نعم إنما تتعيَّن مصدرية (الوَسْوَاس) إذا سُمِع: "أعوذ بالله من وَسْوَاس الشيطان"، ونحو ذلك مما يكون الوَسْوَاس فيه مضافًا إلى فاعله، كما سُمع ذلك في (الوَسْوَسَة) ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده؟! فبذلك يتعيّن أن يكون (الوَسْوَاس) مصدرًا لا بانتصابِه (1) بعد الفعل. الوجه الثاني: -من دلِيل فساد من زعم أن وسواسًا مصدرٌ مضافٌ إليه (ذو) تقديرًا-: أنَّ المصدر المضاف إليه (ذو) تقديرًا لا يؤنَّثُ ولا يُثنَّى ولا يُجمعُ، بل يلزمُ طريقةً واحدةً، ليعلمَ أصالته في المصدرية وأنه عارض: الوصفية، فيقال: امرأة صَوْمٌ، وامرأتان صَوْمٌ، ونساءٌ صَوْم، لأن المعنى: ذاتُ صَوْم، وذواتا صَوْم، وذوات صَوْمِ، و"فَعْلال" الموصوف به ليس كذلك، بل يثنَّى ويُجْمَعُ ويؤَنَّثُ فتقول: رجل ثَرْثار، وامرأة ثَرْثَارة، ورجالٌ ثَرْثارنَ. __________ (1) من (د) و (ظ وق): "لانتصابه".

(2/788)


وفي الحديث: "أبْغَضُكُمْ إلىَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُون" (1) وقالوا: ريحٌ زَفْزَافةٌ، أي: تُحَرِّكُ الأشجار، وريح سَفْسَافة، أي: تنخِّلُ التُّرابَ، ودِرْعٌ فَضْفاضَةٌ، أىِ: مُتَّسِعَة. والفعل من ذلك كله: "فَعْلَلَ"، والمصدر: "فَعْللَةٌ وفِعْلال" بالكسر، ولم ينقلْ في شيء من ذلك: "فَعْلالٌ" بالفتح. وكذلك قالوا: تَمْتَامٌ، وفَأْفَاءٌ، ولَضْلاضٌ، أي: ماهرٌ فى الدِّلالة، وفَجْفَاجٌ: كثيرُ الكلام، وهَزهارٌ، أي: ضَحَّاكٌ، وكَهْكاهٌ ووطْواطٌ، أي: ضعيفٌ، وحَشحَاشٌ وعَسْعاسٌ، أي: خفيف (2)، وهو كثير ومصدره كله "الفَعْلَلَة" والوصف "فَعْلال" بالفتح. ومثله: هَفْهَافٌ أي: خَمِيصٌ، ومثله: دَحْدَاحٌ أي: قَصير، ومثله: بَجْبَاج أي: جَسِيم، وتَخْتَاخٌ أي: ألْكَن، وسَمْسَامٌ أي: سريع، وشيءٌ خَشْخَاش أي: مُصَوِّتٌ، وقَعْقَاعٌ مثله، وأسد قَضْقَاضٌ أي: كاسِر، وحيَّةٌ نَضْنَاضٌ: تُحَرِّكُ لسانها. فقد رأيت "فَعْلالًا" في هذا كله وصفًا لا مصدرًا، فما بال الوَسْوَاس أُخْرِج عن نظائره وقياس بابه؛ فثبت أن وَسْوَاسًا وصفٌ لا مصدر؛ كَثَرْثَار وتَمْتَام ودَحْدَاح، وبابه. ويدلُّ عليه وجهٌ آخر وهو: أنه وصَفَه بما يستحيلُ أن يكون مصدرًا، بل هو متعيِّنُ الوصفيَّة وهو الخَنَّاس، فالوسواس والخَنَّاس __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (2018) من حديث جابر -رضي الله عنه- قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وله شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد: (29/ 267 رقم 17732)، وابن حبان "الإحسان ": (2/ 231)، وغيرهم، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا. وله شواهد أخرى يتقوَّى بها من حديث عبد الله بن عَمْرو وابن مسعود -رضي الله عنهم-. (2) "وعَسْعاس، أي: خفيف" سقطت من (ظ ود).

(2/789)


وصفانِ لموصوف (1) محذوف وهو الشيطانُ، وحَسَّنَ حذفَ الموصوف هاهنا غلبةُ الوصف حتي صار كالعَلَم عليه، والموصوف إنما يَقْبُحُ حذفُهُ إذا كان الوصفُ مشتركًا فيقعُ اللَّبْسُ؛ كالطَّويل والقبيح والحَسَن، ونحوه، فيتعيَّن ذكرُ الموصوف ليعلم أن الصِّفة له لا لغيره، فأما إذا غلب الوصفُ واختصَّ ولم يعرضْ فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم، ويحسُنُ حذف الموصوف؛ كالمسلم والكافى والبَرِّ والفاجر والقاصي والداني (2) والشاهد والوالي والأمير (3) ونحو ذلك، فحَذْف الموصوف هنا أحسن من ذكره، وهذا التفصيلُ أولى من إطلاق مَنْ منَعَ حذْفَ الموصوفِ ولم يفَصِّلْ. ومما يدلُّ على أن الوسواس وصفٌ لا مصدرٌ: أن الوصفيَّة أغلبُ على "فَعْلال" من المصدرية كما تقدَّم، فلو أريد المصدرُ لأتي بـ: (ذو) المضافة إليه، ليزولَ اللَّبْسُ وتَتَعَيَّنَ المصدريَّةُ، فإن اللَّفظ إذا احتمل الأمرين على السواء، فلا بدَّ من قرينةٍ تدُلُّ على تعيينِ أحدهما، فكيف والوصفيةُ أغلبُ عليه من المصدرية!؟. وهذا بخلاف صَوْم وفِطْر وبابهما، فإنها مصادرُ لا تلتبسُ يالأوصاف، فإذا جرت أوصافًا عُلِم أنها على حذف مضافٍ أو تنزيلًا للمصدر منزلةَ الوصف مبالغةً على الطريقتين في ذلك، فتعيَّنَ أن الوَسْواسَ هو الشَّيطَانُ نفسه، وأنَّه ذاتٌ لا مصدرٌ، والله أعلم. __________ (1) (ق): "المصدر". (2) (ع): "العاصي"، و"الداني" من (ظ ود). (3) ليست في (ظ ود).

(2/790)


فصل وأما الخنَّاسُ: فهو "فَعَّال" من: خنَسَ يَخْنِسُ: إذا تَوَارى واخْتَفَى. ومنه قول أبي هريرة: "لَقِيَني النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق المدينة وأنا جُنُبٌ فانخَنَسْتُ منه" (1). وحقيقة اللَّفظ اختفاءٌ بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء؛ ولهذا وُصِفت بها الكواكبُ في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} [التكوير: 15]، قال قتادة: هي النجوم تبدو باللَّيل وتخنِسُ بالنَّهار فتختفي ولا تُرَى. وكذلك قال عليٌّ رضي الله عنه: هي الكواكبُ تخنس بالنهار فلا (2) تُرى. وقالت طائفة: الخُنَّسُ: هي الرَّاجعةُ، التي ترجِعُ كلَّ ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعةُ السَّيَّارة، قالوا: وأصل الخُنُوس: الرُّجُوعُ إلى وراء (3). والخَنَّاسُ هو مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخُّر، فإن العبدَ إذا غَفَلَ عن ذكر الله جَثَمَ على قلبه الشيطانُ، وانبسط عليه، وَبَذَرَ فيه أنواعَ الوساوس التي هي أصلُ الذنوب كلها، فإذا ذكر العبدُ ربَّهُ واستعاذ به انخنَسَ وانقبض كما ينخِنسُ الشيءُ يَتَوَارَى، وذلك الانخناسُ والانقباضُ هو -أيضًا- تَجَمُّعٌ ورجوع وتَأَخُّرٌ عن القلب إلى خارج، فهو تأخُّر ورجوعٌ معه اختفاءٌ. وخَنَسَ وانْخَنَسَ يدُلُّ على الأمرين معًا. قال قتادة: الخَنَّاسُ له __________ (1) أخرجه البخاري رقم (283) ومسلم رقم (371). (2) (ظ ود): "تخنس فلا ... ". (3) انظر أقوال السلف في "تفسير الطبري": (12/ 467 - 469)، و"الدر المنثور": (6/ 529).

(2/791)


خُرْطُوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَسَ (1). ويقالُ: رأسُه كرأس الحيَّة وهو واضعٌ رأسَهُ على ثَمَرَة القلب يُمَنِّيه ويحدِّثُهُ، فإذا ذكر الله تعالى خَنَسَ، وإذا لم يَذْكرْه عادَ ووضَعَ رأسَهُ يوسوِسُ إليه ويُمَنِّيهِ (2). وجيء من هذا الفعل بوزن: "فعَّال" الذي للمبالغة دون الخَانِس والمُنْخَنِس إيذانًا بشدة هروبه ورجوعه وعِظَم نفوره عندَ ذكر الله، وأن ذلك دأبُهُ ودَيْدَنُهُ، لا أنه يعرِضُ له عند ذكر الله أحيانًا، بل إذا ذُكِرَ اللهُ -عز وجل- هَرَبَ وانخنسَ وتأخَّرَ، فإنَّ ذِكْرَ اللهِ هو مِقْمَعَتُهُ التي يُقمعُ بها، كما يُقمعُ المفسدُ والشِّرِّيرُ بالمقامع التي تَرْدَعُهُ؛ من سِياطٍ وحديدٍ وعِصِيٍّ، ونحوها. فذِكْر اللهِ تعالى يقمعُ الشيطانَ ويؤلمُهُ ويؤذيه، كالسِّياط والمقامع التي تؤذي من يُضْرَبُ بها. ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلًا ضئيلًا مضنًى مما يعذبهُ المؤمنُ ويقمعُه به من ذكر الله وطاعته. وفِي أثرٍ عن بعض السلف: "إن المؤمن يُنْضِي شيطانَه، كما __________ (1) ذكره البغوي في "تفسيره": (4/ 548) بدون إسناد، وهو بنحوه مروي: عن معاوية أخرجه ابن أبي داود في "ذم الوسوسة" -كما في "الدر: 6/ 721"، ورُوِيَ مرفوعًا من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- أخرجه أبو يعلى وابنُ شاهين والبيهقي في "الشعب"- كما في "الدر: 6/ 721"، قال الحافظ في "الفتح": (8/ 614): "وإسناده ضعيف"، وروي عن ابن عباسِ وغيره نحوه. (2) نقله المؤلف من "تفسير البغوي": (4/ 548)، وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابنُ المنذر عن عروة بن رُويم أن عيسى بن مريم دعا ربَّه أنْ يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلَّى له ذلك ... فذكره، انظر: "فتح الباري": (8/ 614)، و"الدر المنثور": (6/ 722).

(2/792)


يُنْضِي الرَّجلُ بعيرَهُ في السَّفَر" (1)؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياطَ الذِّكر والتَّوجُّه والاستغفار والطاعة، فشيطانُه معه في عذاب شديد، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحةٍ ودَعَة، ولهذا يكون قويًّا (2) عاتيًا شديدًا. فمن لم يعذبْ شيطانَه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيدِه واستغفارِه وطاعته، عذبه شيطانُه في الآخرة بعذاب النار، فلا بُدَّ لكل أحدٍ أن يُعَذِّبَ شيطانَه أو يُعَذِّبُه شيطانُه. وتأمل كيف جاء بناءُ الوسواس مكرَّرًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا، حتى يعزمَ عليها العبد، وجاء بناء "الخناس" على وزن "الفَعَّال" الذي يتكرَّر منه نوع الفعل؛ لأنه كلَّما ذكر الله انخنسَ، ثم إذا غفل العبدُ عاوده بالوسوسة، فجاء بناءُ اللفظين مطابقًا لمعنييها. فصل وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5] صفةٌ ثالثة للشيطان، فذكر وسوستَه أولًا، ثم ذكر محلَّها ثانيًا، وأنها في صدور الناس، وقد جعل اللهُ للشّيطان دخولًا في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدَّمِ، وقد وُكِلَ بالعبد فلا يفارقُه إلى الممات. __________ (1) جاء هذا في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبى هريرة، أخرجه أحمد: (14/ 504 رقم 8940)، وابن أبى الدنيا في "مكايد الشيطان" والحكيم الترمذي -كما في "الجامع الصغير- مع الفيض": 2/ 385 - وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف. (2) ليست في (ع).

(2/793)


وفي "الصحيحين" (1) من حديث الزُّهْري، عن علي بن حسين، عن صَفِيَّة بنت حُيَيّ، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا فأتيتُه أزوره ليلًا، فحدَّثتُه، ثم قمت فانقلبتُ، فقام معي ليقلِبَني -وكان مسكنُها في دار أُسامة بن زيد- فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكُما إنَّها صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فقالا: سبحانَ اللهِ يا رسول: الله! فقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري من الإنسانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإني خَشِيْتُ أن يَقْذَفَ في قلوبِكُما سواءً" -أو قال: "شيئًا"-. وفي "الصحيح" أيضًا عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نُوْدِيَ بالصَّلاةِ أدْبرَ الشَّيْطَان وله ضُرَاطٌ، فإذا قُضِي أقْبَلَ، فإذا ثُوِّبَ بها أَدْبَرَ، فإذا قُضِيَ أقْبَل حتى يَخْطرَ بين الإنسانِ وقلبه، فيقول: اذْكُرْ كذا اذْكُرْ كذا، حتَّى لا يَدْرِي أثَلاثا صَلَّى أم أربعًا، فَإذا لم يَدْر أثلاثا صَلَّى أم أرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتى السَّهْوِ" (2). ومن وسوسته: ما ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي الشَّيْطانُ أحَدَكمْ فيقولُ مَنْ خَلَقَ كذا؟ مَنْ خَلَقَ كذا؟ حتى يقولَ: مَنْ خَلَقَ الله؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلكَ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ ولْيَنْتَهِ" (3). وفي "الصحيح" (4) أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله إن أحَدَنا ليجدُ فى نفسه ما لأَنْ يَخِرَّ من السماء إلى الأرض أحَبُّ إليه من أن __________ (1) أخرجه البخاري رقم: (2035)، ومسلم رقم (2175). (2) أخرجه البخاري رقم: (608)، ومسلم رقم (389). (3) أخرجه البخاري رقم (3276)، ومسلم رقم (134). (4) ليس هو فى الصحيحين ولا أحدهما، وسنده على شرطهما.

(2/794)


يَتكَلَّمَ به، قال: "الحمْدُ للهِ الذي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ" (1). ومن وسوسته أيضًا: أن يَشغل (2) القلب بحديثه حتى يُنسِيَهُ ما يريدُ أن يفعلَه، ولهذا يضافُ النسيانُ إليه إضافتَه إلى سَبَبه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]. وتأمَّلْ حكمةَ القرآن الكريم وجلالَتَهُ كيف أوْقَعَ الاستعاذةَ من شَرِّ الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوسُ في صدور الناس، ولم يقلْ: من شرِّ وسوسته؛ لتعمَّ الاستعاذةُ شرَّه جميعَه، فإن قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} [الناس: 4]، يعم كلَّ شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدِّها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمِّها فسادًا، وهى الوسوسة التي هى مبادئُ الإرادة، فإن القلبَ يكونُ فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوسُ إليه، ويُخْطِرُ الذنبَ بباله، فيصوِّرُهُ لنفسه ويُمَنِّيه، ويُشَهِّيه فيصير شهوة، ويُزَيِّنُها له ويُحَسِّنُها ويُخَيِّلُها له في خيالٍ تميلُ نفسه إليه، فيصيرُ إرادة ثم لا يزالُ يُمَثِّلُ ويُخَيِّلُ، ويُمَنِّي ويُشَهِّي، ويُنَسِّي علمه بضررها، ويَطْوي عنه سُوءَ عاقبتها، فيحُوْلُ بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورةَ المعصية والتذاذَه بها فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادةُ عزيمةً جازمةً، فيشتدُّ الحرصُ عليها من القلب، فيبعثُ الجنودَ في الطَّلَب، فيبعثُ الشيطانُ معهم مَدَدًا لهم وعونًا، فإن فَتَروا حرَّكهم، وإن وَنَوْا (3) أزعجهم، كما قال تعالى: __________ (1) أخرجه أحمد: (4/ 10 رقم 2097)، وأبو داود رقم (5112)، وابن حبان "الإحسان": (1/ 360) وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (2) (ع): "يشتغل". (3) أي: ضعفوا.

(2/795)


{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83] أي: تُزْعِجهم إلى المعاصي: إزعاجًا، كلَّما فتروا أو وَنَوْا أزعجتهم الشياطينُ، وأَزَّتْهُم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقودُه إلى الذنب وتنظمُ شمل الاجتماع بألطف حيلة، وأتمِّ مَكِيدة. قد رضي لنفسه بالقيادة لفَجَرة بني آدم، وهو الذي استكبر وأبى أن يَسْجُدَ لأبيهم. فلا بتلك النَّخوة والكبر (1)، ولا برضاه أن يصيرَ قوَّادًا لكل من عصى الله! كما قال بعضُهم (2): عجبتُ من إبليسَ فِي تِيهِهِ ... وقبحِ ما أظهَرَ مِنْ نَخْوَتِهْ تَاهَ على آدَمَ في سجْدَةٍ ... وصارَ قوَّادًا لِذرِّيَّتهْ فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصَفَه بها لتكون الاستعاذةُ من شرها أهمَّ من كل مستعاذ منه، وإلا فشرُّه بغير الوسوسة حاصل أيضًا. فمن شرِّه: أنه لصٌّ سارقٌ لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذكرِ اسمُ الله تعالى عليه، فله فيه حظٌّ بالسَّرقة والخَطْف، وكذلك يبيتُ في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى، فيأكلُ طعامَ الإنس بغير إذنهم، ويبيتُ في بيوتهم بغير أمرهم، فيدخل سارقًا ويخرج مغِيْرًا. ويدلُّ على عوراتهم، فيأمر العبدَ بالمعصية، ثم يلقي فِي قلوب الناس (3) يَقظَةً ومنامًا: أنه فعل كذا وكذا. ومن هذا: أن العبدَ يفعل الذنبَ لا يطَّلِع عليه أحدٌ من الناس، __________ (1) "والكبر" ليست في (ظ ود). (2) أنشدهما الجاحظ في "البيان والتبيُّن": (3/ 152) بلا نسبةٍ، مع اختلاف يسير. (3) (ظ ود): "أعدائه".

(2/796)


فيصبحُ والناسُ يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطانَ زيَّنَة له، وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به، فالرَّبُّ تعالى يسترُه، والشيطانُ (1) يَجْهَدُ في كشف ستره وفضيحته (2)، فيغترُّ العبدُ ويقول: هذا ذنبٌ لم يَرَهُ إلا اللهُ تعالى، ولم يشعرْ بأنَّ عدُوَّهُ ساعٍ في إذاعته وفضيحته، وَقلَّ من يتفطَّنُ (3) من الناس لهذه الدقيقة. ومن شره: أنه إذا نام العبدُ عقد على رأسه عُقَدًا تمْنَعهُ من اليَقَظَة، كما في "صحيح البخاري" (4) عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيةِ رَأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كلِّ عُقْدَه مَكَانَها عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإِن اسْتَيْقَظَ فَذَكرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيبَ النَّفْسِ، وَإلَّا أصْبَحَ خَبِيثَ النَفْسِ كَسْلانَ". ومن شره: أنه يبولُ في أُذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذُكِر عنده رجل نام ليلة حتى أصبحَ، قال: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَان فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ" رواه البخاري (5). ومن شره: أنه قد قعد لابن آدم بطرق الخير كلِّها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشَّيْطَانُ مُرْصِدٌ عليه، يمنعُه بجَهْدِه أن يسلُكَهُ، __________ (1) من قوله: "زينه له ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) ليست في (ع). (3) (ع): "ينظر". (4) رقم (1142)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (776). (5) رقم (1144)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (774).

(2/797)


فإن خالفَه وسلكَه ثَبَّطَهُ فيه وعوَّقَهُ، وشوَّشَ عليه بالمُعارضات والقواطع، فإن عَمِله وفرغ منه، قيَّضَ له ما يُبْطِلُ أثَرَه وَيَرُدُّهُ على حافِرَته. ويكفي من شرِّه: أنه أقسمَ بالله ليقعُدَنَّ لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم لَيَأتِيَّنهُمْ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أَيْمانهم وعن شمائلهم، ولقد بلغ شرَّه أن أعملَ المكيدة، وبالغ فى الحِيلة، حتى أخرجَ آدَمَ من الجنة، ثم لم يَكْفِهِ ذلك حتى استقطعَ من أولاده شرطة للنَّار من كلِّ ألف تسع مئة وتسعة وتسعين (1)، ثم: لم يكفِهِ ذلك حتى أعملَ الحيلةَ في إبطال دعوة الله من الأرض، وقصد أن تكون الدعوةُ له، وأن: يُعْبَدَ من دون الله فهو ساعٍ بأقصى جَهْده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض. ويكفي من شَرِّه: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومُهُ بالمَنْجَنِيق فى النَّار، فردَّ اللهُ تعالى كيدَهُ عليه، وجعل النارَ على خليله بَرْدًا وسلامًا، وتصدَّى للمسيح - صلى الله عليه وسلم - حتى أراد اليهود قتلَه وصلبَه، فرد الله كَيْدَهُ، وصان المسيحَ ورفعه إليه، وتصدَّى لزكريا ويحيى حتى قُتِلا، واستثار (2) فرعون حتى زَيَّنَ له الفسادَ العظيم في الأرض ودعوى أنه ربُّهم الأعلى، وتصدَّى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وظاهر الكفار على قتلة بجَهْده، والله تعالى يكبتُهُ ويَرُدُّهُ خاسئًا، وتفلَّتَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهاب من نار يُريد أن يَرمِيَهُ به وهو فى الصلاة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - __________ (1) في جميع الأصول: "تسعون". والحديث في هذا المعنى أخرجه البخاري رقم (3348)، ومسلم رقم (222). (2) (ع): "واستتاب"، و (ق): "واستبان"، ولعل الصواب ما أثبت.

(2/798)


يقول: "ألْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ" (1)، وأعان اليهودَ على سحرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم-. فإذا كان هذا شأنَهُ وهِمَّتَهُ في الشَّرِّ، فكيف الخلاصُ منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته! ولا يمكن حصرُ أجناس شَرِّه فضلًا عن آحادِها، إذ كلُّ شرٍّ في العالم فهو السبَبُ فيه، ولكن ينحصرُ شرُّهُ في ستة أجناس، لا يزالُ بابن آدم حتى ينالَ منه واحدًا منها أو أكثر: * الشر الأول: شرُّ الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم بَرَد أنينُهُ، واستراح من تعبه معه، وهو أوَّلُ ما يُريده من العبد، فلا يزالُ به حتى ينالَهُ منه، فإذا نال ذلك منه صَيَّرَهُ من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليسَ ونوَّابه. * فإن يَئِسَ منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلامُ في بطن أُمه، نقله إلى المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضرَرَها في نفس الدين وهو ضرر متعدَّ، وهىِ ذنبٌ لا يتابُ منه، وهي مخالفةٌ لدعوة الرُّسُل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، وهي باب الكفر والشرك، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقيَ أيضًا نائِبَهُ وداعيًا من دعاتِهِ. * فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبدُ ممن سَبَقَتْ له من الله موهبةُ السُنَّة ومعاداة أهل البدَع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشَّرِّ، وهي الكبائرُ على اختَلاف أنواعها، فهو أشدُّ (2) حرصًا على أن يوقعَه فيها، ولا سيِّما إن كان عالمًا متبوعًا، فهو حريصٌ على ذلك لينفِّرَ الناس عنه، ثم يشيعُ من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستَنِيبُ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (542) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (2) (ع وق): "أشد شيءٍ ... ".

(2/799)


منهم من يشيعُها ويذيعُها تديُّنًا وتقرُّبًا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليسَ ولا يشعرُ، فإن الذين يُحِبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبُّوا إشاعَتَها وإذاعَتَها (1)، فكيف إذا تولَّوْا هم إشاعَتَها وإذاعَتَها [لا] نصيحة (2) منهم، ولكن طاعةً (3) لإبليس ونيابةً عنه؟! كل ذلك لينفِّرَ الناسَ عنه، وعن الانتفاع به، وذنوب هذا ولو بلغت عَنان السَّماء أهونُ عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلمٌ منه لنفسه، إذا استغفرَ اللهَ وتابَ إليه قبل اللهُ وتوبَتَهُ، وبدَّلَ سيئاتِهِ حسنات، وأما ذنوبُ أولئك فظلم للمؤمنين وتَتَبُّعٌ لعورتهم وقصدٌ لفضيحتهم، والله -سبحانه- بالمرصاد لا تخفى عليه كمائنُ الصدور ودسائسُ النفوس. * فإنْ أعْجَزَ الشيطانَ عن هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الرابعة وهي: الصَّغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكُمْ ومُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب، فإنَّ مَثَلَ ذلك مَثَلُ قَوْمٍ نزلوا بفَلاةٍ من الأرض ... " (4)، وذكر حديثًا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعُود __________ (1) من (ع) فقط. (2) زيادة يستقيم بها النص. (3) ملحقة في هامش (ق). (4) أخرجه أحمد: (5/ 331) وغيره من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- ولفظه: "إيَّاكم ومُحَقَّرَات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ وجاء ذا بعود حتى انضجوا خبزتهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يُؤخَذ بها صاحبها تُهْلِكه". قال الحافظ فى "الفتح": (11/ 337): "إسناده حسن". وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد: (6/ 367 رقم 3818). وفى سنده ضعف، ولفظه أقرب إلى ما ذكره المؤلِّف.

(2/800)


حَطَب حتى أوقدوا نارًا عظيمة فطبخوا واشْتَوَوْا، ولا يزال يُسَهِّلُ عليه أمرَ الصغائر حتى يستهينَ بها، فيكون صاحبُ الكبيرة الخائفُ منها أحسنَ حالًا منه. * فإن أعجزه العبدُ من هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الخامسة، وهي إشغالُه بالمُبَاحات التي لا ثوابَ فيها ولا عِقَابَ، بل عقابها فَواتُ (1) الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها. * فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظًا لوقته شحيحًا به، يعلم مقدارَ أنفاسِهِ وانقطاعها وما يقابلُها من النعيم والعذاب، نقلَه إلى المرتبة السادسة، وهو: أن يشغَلَهُ بالعمل المفضول عما هو أفضل مه، ليزيحَ عنه الفضيلة (2) ويفوّته ثواب العمل الفاضل، فيأمرُهُ بفعل الخير المفضول، ويحضُّه عليه، ويحسّنه له، إذا تضمَّن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقلَّ من يَتنْبَّهُ لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًّا ومحرِّكًا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكادُ يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمرُ بخير، ويرى أن هذا خيرٌ، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذورٌ، ولم يصلْ علمُه إلى أن الشيطان يأمره بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما لِيَتَوَصَّلَ بها إلى باب واحد من الشَّرِّ، وإما ليُفَوِّتَ بها خيرًا أعظمَ من تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضلَ. وهذا لا يتوصلُ إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفهُ في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشدَّة عنايته بمراتب الأعمال __________ (1) (ظ ود): "عاقبتها فوت". (2) (ع وق): "عليه" وتحتمل في قراءة "ليزيح". "ليربح".

(2/801)


عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحةً لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصَّتهم وعامَّتهم، ولا يعرفُ هذا إلا مَن كان من ورثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم، والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده. * فإذا أعجزه العبدُ من هذه المراتب السِّتِّ وأعيا عليه سَلَّطَ عليه حزبَهُ من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير له والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليُشَوِّشَ عليه قلبَهُ ويشغل بحربه فكره، وليمنعَ الناسَ من الانتفاع به، فِيبقى سعْيُهُ في تسليط المُبْطِلبنَ من شياطين الإنس والجن عليه، لا يَفْتُرُ ولا بَنِي، فحينئذٍ يلبَسُ المؤمن لأُمَةَ الحرب ولا يضعُها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِرَ أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمَّل هذا الفصلَ وتدبَّرْ موقِعَهُ (1) وعظيمَ منفعته، واجعلْه ميزانًا لك تَزِنُ به الناسَ وتَزِنُ به الأعمال، فإنه يُطْلِعكَ على حقائق الوجود ومراتب الخلق، واللهُ المستعان، وعليه التُّكْلان، ولو لم يكنْ في هذا التعليق إلا هذا الفصلُ لكان نافعًا لمن تدبَّرَهُ ووعاه. فصل وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) ولم يقل: في قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب (2) وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمعُ فِي الصدر ثم تَلجُ في القلب، فهو بمنزلة __________ (1) (ظ ود): "موضعه". (2) زيادة في (ظ ود): "فهو بمنزلة الدهليز".

(2/802)


الدِّهْليز له، ومن القلب تخرجُ الأوامرُ والإرادات إلى الصدر ثم تتفرَّقُ على الجنود. ومن فهم هذا فهم قولَه تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيتِه، فيُلْقي ما يريدُ إلقاءه في القلب، فهو موسوِسٌ في الصدر، ووسوسته (1) واصلةٌ إلى القلب، ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى: أنه ألقى إليه ذلك وأوصلَهُ إليه، فدخل في قلبه. فصل وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} اختلف المُفَسِّرونَ في هذا الجارِّ والمجرور: بمَ يتعلَّقُ؟. فقال الفَرَّاءُ (2) وجماعة: هو بيانٌ للناسِ المُوَسْوَس في صدورهم، والمعنى: يوَسوِسُ في صدور الناس الذين هم من الجَن والإنس، أي المُوَسوَس في صدورهم قسمان: إنس وجن. فالوسواسُ يُوَسوِسُ للجنِّيِّ كما يوسوسُ للإنسي، وعلى هذا القول فيكون "منَ الجنة والناس": نصبًا على الحال؛ لأنه مجرورٌ بعد معرفة على قول البصريين، وعلى قول الكوفيين نصبًا بالخروج من المعرفة، هذه عبارتهم، ومعناها: أنه لما لم يصلحُ أن يكون نعتًا للمعرفة انقطع عنها، فكان موضعُهُ نصبًا، والبصريون __________ (1) (ظ ود): "في الصدور وسوسةً". (2) في "معاني القرآن": (3/ 302).

(2/803)


يقدِّرونه حالًا، أي: كائِنِيْنَ من الجِنَّة والنَّاس، وهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا لوجوه: أحدها: أنَّه لم يَقمْ دليلٌ على أن الجِنِّيَّ يوسوسُ في صدور الجنِّ، ويدخلُ فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإَنسي، فأيُّ دليل يدُلُّ على هذا حتى يصِحَّ حملُ الآية عليه؟. الثاني: أنه فاسدٌ من جهة اللفظ أيضًا، فإنه قال: (الذي يوسوسُ في صدور الناس)، فكيف يبينُ الناس بالناس؟ فإن معنى الكلام على قوله: يوسوِسُ في صدور الناس (1) الذين هم -أو كائنين- من الجنة والناس، أفيجوزُ أن يقالَ: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوزُ، ولا هو استعمالٌ فصَيحٌ!. الثالث: أن يكونَ قد قسم الناسَ إلى قسمين: جِنَّة وناس، وهذا غيرُ صحيح، فإن الشيء لا يكون قَسِيمَ نفسِهِ. الرابع: أن الجنَّةَ لا يطلقُ عليهم اسمُ الناس بوجه، لا أصلًا ولا اشتقاقًا ولا استعمالًا، ولفظهما يأبى ذلك، فإن الجنَّ إنما سمُّوا جنًّا من الاجتنان، وهو الاستتارُ، فهم مستترون عن أعين البشر، فَسمُّوا جنًّا لذلك، من قولهم: جَنَّهُ الليلُ وأجنَّه: إذا سَتَرَهُ، وأجَنَّ المَيِّتَ: إذَا سَتَرَهُ في الأرض. قال: ولا تَبْكِ مَيْتًا بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بَكْرٍ يريد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. ومنه: الجَنِينُ لاستتاره في بطنِ أُمِّهِ، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي __________ (1) من قوله: "فكيف يبين ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(2/804)


بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] ومنه: المِجَنُّ لاستتار المُحَارِبِ به من سلاح خصمِهِ، ومنه: الجَنَّةُ لاستتار داخلها بالأشجار، ومنه: الجُنَّةُ بالضمِّ: لِمَا يَقِي الإنسانَ من السِّهام والسِّلاح، ومنه: المجنون لاستتار عقلِه. وأما "الناسُ" فبينهُ وبينَ الإنس مناسبةٌ فى اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط، وهو: عَقْد (1) تقاليب الكلمة على معنى واحد (2)، والإنس والإنسان مشتقٌ من الإيناس وهو الرؤية والإحساس، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] أي: رآها، ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أي: أحسستموه ورأيتموه، فالإنسان سمِّيَ إنسانًا لأنه يُؤْنَسُ أي: يُرَى بالعين. والناس فيه قولان: أحدهما: أنه مقلوب من أنس وهو بعيد، والأصل عدم القلب. والثاني: -وهو الصحيح- أنه من النَّوْس وهو الحَرَكة المتتابعة، فسُمِّيَ النَّاسُ ناسًا للحركة الظاهرة والباطنة، كما يسمَّى الرجلُ: حارثًا وهمَّامًا، وهما أصدقُ الأسماء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)؛ لأن كل أحدٍ له همٌّ وإرادةٌ هي مَبْدأ، وحرثٌ وعملٌ هو مُنتهى، فكلُّ أحدٍ حارثٌ وهَمَّام، والحَرْثُ والهّمُّ، حركتا الظاهر والباطن، وهو حقيقة __________ (1) (ظ ود): "عند". (2) ويسميه ابن جنِّي الاشتقاق الأكبر، انظر "الخصائص": (2/ 134 - 139). (3) فيما أخرجه أحمد: (31/ 377 رقم 19032)، وأبو داود رقم (4950)، والبخاري في "الأدب المفرد": (ص/ 243)، والنسائي: (6/ 218 - 219) وغيرهم من حديث أبي وهب الجُشمي -رضي الله عنه- وضعَّفه أبو حاتم في "العلل": (2/ 312 - 313).

(2/805)


النَّوْس، وأصل نَاسَ: (نوَسَ) تحركت الواو وقبلها فتحة فصارت ألفًا، هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق "الناس". وأما قول بعضهم: إنه من النِّسيان، وسُمِّي الإنسانُ إنسانًا لنسيانه، وكذلك الناس سُمُّوا ناسًا لنسيانهم؛ فليس هذا القولُ بشيءٍ! وأين النسيانُ الذي مادَّته (ن س ي) إلى الناس الذي مادَّتُهُ (ن وس)؟ وكذلك أين هو من الأُنس الذي مادته (أن س)؟ وأما إنسانٌ فهو "فِعْلان" من (أن س)؟ والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوزُ فيه غيرُ هذا ألبتَّةَ، إذ ليس في كلامهم أَنْسَنَ (1) حتى يكونَ إنْسَانٌ إفعالًا منه، ولا يجوزُ أن يكون الألفُ والنونُ في أوَّله زائدتينِ، إذ ليس في كلامهم "انْفَعْلٌ" فيتعيَّن أنه "فِعْلانٌ" من الإنس، ولو كان مشتقًّا من (نَسِيَ) لكان نِسْيانًا لا إنسانًا. فإن قلت: فهلاَّ جعلته "إفْعِلالًا"، وأصله: إِنْسِيَان كـ "ليلة إِضْحِيَان"، ثم حذفتَ الياء تخفيفًا فصار إنسانًا؟ قلت: يأبى ذلك: عدمُ "إفْعِلال" فى كلامهم، وحذفُ الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له، وذلك كلُّه فاسد، على أن (الناس) قد قيلَ: إن أصله (الأُنَاسُ) فحُذفت الهمزة، فقيل: (النَّاسُ)، واستدل يقول الشاعر (2): إنَّ المَنَايا يَطَّلِعْـ ... نَ على الأُنَاسِ الغَافِلينا ولا ريب أن (أُناسًا) فُعَالٌ، ولا يجوزُ فيه غير ذلك ألبَتَّةَ، فإن __________ (1) (ق وظ ود): "أنس". (2) هو: ذو جدن الحميري، انظر: "الخزانة": (2/ 280)، و"الخصائص": (3/ 151) وفيها: "الآمنينا".

(2/806)


كان أصلُ ناس أُناسًا (1)، فهو أقوى الأدلة على أنه من (أن س) ويكون الناسُ كالإنسان سواء في الاشتقاق، ويكون وزن ناس على هذا القول: (عال)؛ لأن المحذوفَ فاؤهُ، وعلى القول الأول يكونُ وزنه: "فَعْلٌ"؛ لأنه من النَّوْس، وعلى القول الضعيف يكون وزنه "فَلْع"، لأنه من (نَسِي)، فقلبت لامُه إلى موضع العين فصار ناسًا ووزنه "فَلْعًا". والمقصودُ أن الناسَ اسم لبني آدم، فلا يدخلُ الجنُ في مسمَّاهم، فلا يِصحُّ أن يكونَ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيانًا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} هذا واضحٌ لا خفاءَ به. فإن قيل: لا محذورَ فى ذلك، فقد أُطْلِق على الجن اسم الرجال، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فإذا أطلق عليهم اسم الرجال، لم يمتنع أن يُطْلَق عليهم اسم الناس. قلت؛ هذا هو الذي غَرَّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية. وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعًا مقيَّدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزمُ من هذا أن يقعَ اسمُ الناس والرجال عليهم مطلقًا، وأنت إذا قلت: "إنسانٌ من حجارة"، أو "رجلٌ من خشب"، ونحو ذلك، لم يلزمْ من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب. وأيضًا: فلا يلزمُ من إطلاق اسم الرجل على الجنِّي أن يُطلقَ عليه اسم الناس، وذلك لأن الناسَ والجِنَّةَ متقابلان، وكذلك الإنس __________ (1) (ع وظ ود): "إنسانا".

(2/807)


والجن، فالله تعالى يقابلُ بين اللفظين، كقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33] وهو كثير في القرآن، وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} (1) [الناس: 6] يقتضي أنهما متقابلان، فلا يدخلُ أحدُهما في الآخر، بخلاف الرجال والجنِّ فإنهما لم يستعملا متقابلينِ، فلا: يقال: الجنُّ والرجال، كما يقال: الجن والإنس، وحينئذٍ فالآية أبْيَنُ حُجَّةٍ عليهَم في أن الجنِّ لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قَابَلَ بين الجنة والناس، فعُلِم أن أحدَهما لا يدخلُ فِي الآخر، فالصَّواب القولُ الثاني، وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيان للذي يوسوسُ، وأنهما نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فالجِنِّيُّ يوسْوِسُ في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوسُ إلى الإنسي. فالموسوِسُ نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فإن الوسوسة هي الإلقاءُ الخفيُّ في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاءُ الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأُذُن، والجِنِّيُّ لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل فِي ابن آدمْ ويجري منه مجرى الدم. على أن الجنيَّ قد يتمثَّلُ له ويوسوسُ إليه في أذنه كالإنسيِّ، كما: في "البخاري" عن عُرْوَةَ، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ المَلائِكةَ تُحَدِّثُ فِي العَنَانِ، -والعَنَانُ: الغَمَامُ- بالأمْرِ يَكُونُ فِي الأرْضِ، فَتَسْتَمعُ الشَّيَاطينُ الكَلِمَةَ فَتَقُرُّها فِي أُذُنِ الكَاهِنِ كَمَا تَقُرُّ القَارُورَةُ فَيَريدُونَ مَعَها مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ" (2) فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن. __________ (1) من قوله: "وهو كثير ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) أخرجه البخارى رقم (3210 و 3288)، ومسلم رقم (2228). وقوله: "من عند أنفسهم" ليست في (ق وع).

(2/808)


ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكُهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] فالشيطانُ يوحي إلى الإنسي باطلَه، ويوحيه الإنسيُّ إلى إِنسي مثلِه، فشياطين الإنس والجن (1) تشترك في الوحي الشيطاني وتشترك فى الوسوسة، وعلى هذا فتزولُ تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحابُ القول الأول. وتدلُّ الآيةُ على الاستعاذة من شرِّ نوعي الشياطين: شياطين الإنس والجن. وعلى القول الأول (2) إنما تكون الاستعاذةُ من شرِّ شياطين الجن فقط، فتأمله فإنه بديعٌ جدًّا. فهذا ما منَّ الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين، وله الحمد والمنّة، وعسى أن يساعد بتفسير على هذا النَّمَط، فما ذلك على الله بعزيز، والحمد لله رب العالمين، ونختم الكلام على السورتين بذكر: قاعدةٍ نافعةٍ فيما يعتصمُ به العبدُ من الشيطان ويستدفعُ به شره ويحترز به منه وذلك في عشرة أسباب: أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]، __________ (1) من قوله: "يوحي بعضهم ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) قوله: "وتدل الآية ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/809)


وفي موضع آخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (1) [الأعراف: 200]، وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام. وتأمل سرَّ القرآن الكريم كيف أكَّدَ الوصفَ بالسميع العليم بذكر صيغة "هو": الدَّالِّ على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرَّفْ الوصف بالألف واللام في سورة (حم) لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركَه في سورة (الأعراف) لاستغناء المقام عنه، فإن الأمر بالاستعاذة في سورة (حم) وقع بعد الأمر بأشقِّ الأشياءِ على النفس، وهو مقابلةُ إساءة المسيءِ بالإحسان إليه، وهذا أمرٌ لا يقدرُ عليه إلا الصابرونَ، ولا يُلَقَّاه إلا ذو حَظٍّ عظيم، كما قال الله تعالى. والشيطانُ لا يدعُ العبدَ يفعل هذا، بل يُرِيه أن هذا ذُلٌّ وعَجْزٌ، ويسلِّطُ عليه عَدُوَّهُ، فيدعوه إلى الانتقام ويُزَيِّنُه له، فإن عَجَزَ عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيءَ إليه ولا يُحْسِنَ، فلا يُؤثِر الإحسانَ إلى المسيء إلا من خالفَه وآثَر الله تعالى وما عندَهُ على حظِّه العاجل، فكان المقام مَقام تأكيد وتحريض، فقال فِيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}. وأما في سورة (الأعراف) فإنه أمره أن يُعْرِضَ عن الجاهلين، وليسَ فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض، وهذا سهلٌ على النُّفوس غير مُسْتعصٍ (2) عليها، فليس حرصُ الشيطان وسعيُه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ __________ (1) في (ق) تقدمت هذه الآية على التي قبلها. (2) (ق): "مستصعبٍ".

(2/810)


الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}، وقد تقدَّم (1) ذكرُ الفرق بين هذين الموضعين، وبين قوله في (حم) المؤمن: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]. وفي "صحيح البخاري" عن عَدِيِّ بن ثابت، عن سليمان بن صُرَد قال: كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يَسْتَبَّان، فأحدُهما احمرَّ وجهُه وانتفخت أوداجُهُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أني لأعْلَمُ كَلِمَةً لو قَالَها ذَهَبَ عنهُ ما يَجِدُ، لو قَالَ أعوذ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عنهُ ما يَجِدُ" (2). الحرز الثاني: قراءةُ هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما تَعَوَّذَ المُتَعَوَّذُونَ بمِثْلِهِمَا" (3)، وقد تقدم أنه كان يتعوَّذ بهما كلَّ ليلة عند النوم (4)، وأمرَ عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة (5). وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مَنْ قَرَأَهُما مَعَ سُورَةِ الإخْلاصِ ثَلاثًا حِينَ يُمْسِي وثَلاثًا حِينَ يُصْبحُ كَفَتْهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ" (6). الحرز الثالث: قراءةُ آية الكرسي: ففي "الصحيح" من حديث محمد بن سِيرين، عن أبى هريرة قال: وَكَّلَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتى آتٍ فجعلَ يحثُو من الطَّعام فأخذتُهُ __________ (1) 2/ 765. (2) أخرجه البخاري رقم (3282)، ومسلم رقم (2610) من حديث سليمان بن صُرَد -رضي الله عنه-. وقوله: "الرجيم" من (ق) فقط. (3) تقدم 2/ 699. (4) تقدم 2/ 700. (5) تقدم 2/ 699. (6) تقدم ص/ 700. ووقع في (ع): "من كل سوء".

(2/811)


فقلت: لأرْفَعَنَّكَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث ... ففال: إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأْ آيةَ الكرسي، فإنه (1) لن يزالَ عليكَ مِنَ اللهِ حافظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتى تُصْبِحَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَكَ، وَهو كَذُوبٌ، ذَاكَ الشَّيْطَانُ" (2). وسنذكر -إن شاء الله تعالى- السرَّ الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده. الحرز الرابع: قراءةُ سورة البقرة، ففي الصحيح من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَجْعَلُوا: بُيُوتَكُم قُبُورًا، وإنَّ البَيْتَ الذي تُقْرَأُ فيه البَقَرَةُ لا يَدْخلُهُ الشّيْطَانُ" (3). الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود (4) الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قرَأ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" (5). وفي الترمذي عن النُّعمان بن بَشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله كتَبَ كتَابًا قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقَ بألفي عام، أنْزَلَ منه آيتَيْن خَتَمَ بهما سُورَةَ البقَرَةِ، فَلا يقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فيقْرَبَهَا شَيْطَانٌ" (6). __________ (1) من (ق). (2) أخرجه البخاري رقم (2311) معلقًا مجزومًا به. (3) أخرجه مسلم رقم (780) بنحوه. ووقع في (ظ ود): "من حديث سهل عن عبد الله عن ... ". (4) (ظ ود): "أبي موسى" وهو خطأ. (5) أخرجه البخاري رقم (4008)، ومسلم رقم (807 و 808). (6) أخرجه أحمد: (30/ 363 رقم 18414)، والترمذي رقم (2882)، والنسائي =

(2/812)


الحرز السادس: أول سورة (حم) المؤمن إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} مع آية الكرسي: ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن ابن أبي بكر ابن أبي مُلَيْكَةَ (1)، عن زُرَارةَ بن مُصْعَب، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ حم المُؤمنَ إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} وآيَةَ الكُرْسِيّ حِينَ يصْبحُ حُفِظَ بهما حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأهُما حِينَ يُمْسِي حُفظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبحَ" (2). وعبد الرحمن المُليْكيُّ وإن كان قدْ تكُلِّمَ فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته. الحرز السابع: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" مائةَ مرَّة، ففي "الصحيحين" (3) من حديث سُمَيٍّ مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ لا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مائةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مِئة حَسَنةٍ، وَمحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وكانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيطانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ __________ = في "عمل اليوم والليلة" رقم (967)، والحاكم: (1/ 562) وغيرهم. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: "حسن غريب". (1) (ظ ود): "ابن أبي ليلى"! وهو خطأ. (2) أخرجه الترمذي رقم (2879) وقال: "حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي من قِبَل حفظه ... ". ورواه الدارقطني في غرائب مالك -كما في "اللسان": (1/ 44) - من حديث ابن عمر، وقال: هو باطل. (3) أخرجه البخاري رقم (3293)، ومسلم رقم (2691).

(2/813)


إلاّ رَجُلٌ (1) عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ". فهذا حِرْز عظيم: النفع، جليل الفائدة، يسير سَهْل على من يسره الله تعالى عليه. الحرز الثامن: -وهو من أنفع الحُروز من الشيطان- كثرةُ ذكر الله عز وجلّ، ففي التِّرمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ أمَرَ يَحْيَى بنَ زَكَريّا بخَمْسِ كلِمَاتٍ أنْ يَعْمَلَ بِها وَيأْمُرَ بنَي إِسْرَائِيلَ أنْ يَعْمَلُوا بِها، وَإنَّهُ كادَ يُبْطِئَ بِها، فَقَالَ عِيسَى: إنَّ اللهَ أمَرَكَ بِخَمْسِ كلمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِها وتَأْمُرَ بنِي إِسْرائيلَ أن يَعْمَلُوا بِهَا، فإمَّا أنْ يأْمرَهُمْ وَإِمّا أَنْ آمرَهُمْ. فَقَالَ يَحْيَى: أخْشَى إِنْ سَبقَتَني بِهَاْ أنْ يخْسَفَ بي، أوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بيْتِ المَقْدِسِ فامْتَلأ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أمَرَنِي بخمْسِ كَلِمَاتٍ أنْ أعْمَلَ بِهِنَّ وَأمَرَكُمْ أن تَعَمَلُوا بِهِنَّ: أوَّلُهنَّ أنْ تَعبدوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أشْرَكَ بِالله, كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بذْهَبٍ أوْ وَرِقٍ فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي، وَهَذا عَمَلِي وَأدِّ إِليّ، فَكَانَ يَعْمَل ويُؤَدِّي إِلى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِك؟. وَإِنَّ اللهَ أمَرَكُمْ بالصَّلاةِ، فَإذَا صَلَّيتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإنَّ اللهَ يَنْصُبُ وجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لمْ يَلْتَفِتْ. وَأمَرَكمْ بالصِّيَام، فَإِنَّ مَثَلَ ذلِكَ كمَثلِ رَجُلٍ فِي عِصَابةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمَ يَعْجَبُ أو يُعْجِبُه رِيحُهَا، وَإنَّ رِيحَ الصَّائِم أطْيبُ عِنْ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. __________ (1) (ع وق): "أحد".

(2/814)


وَأمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإنَّ مثَلَ ذَلِكَ كَمَثل رَجُلٍ أسَرَهُ العَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبوا عُنُقَه فَقَالَ: أنَا أفْدِيهِ مِنكُمْ بالقَلِيل وَالكَثِيرِ فَفَدَى نَفْسَهُ مِنهمْ. وأمَرَكُمْ أنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فإن مَثلَ ذلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ في أثَرِهِ سِرَاعًا، حَتّى أتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفسَهُ مِنهمْ كَذَلِكَ العَبْدُ لا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إلاّ بِذِكرِ الله". قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَأنَا آمُرُكُمْ بخَمْسٍ اللهُ أمَرَنِي بِهِنَّ، السَّمْعِ، والطَّاعَةِ، والجِهَادِ, والهِجْرَةِ، والجَمَاعَةِ، فإنَّ مَنْ فارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإسلام مِنْ عُنُقِهِ إلاّ أنْ يُراجِعَ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِليَّة فَإنَّهُ مِنْ جُثَى جَهَنمَ"، فقالَ رجل: يا رسول الله: وإنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قال: "وَإنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المؤمنِينَ عِبادَ اللهِ" (1). قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن غريب صحيح". وقال البخاري: الحارثُ الأشْعَرِيُّ له صحبة وله غير هذا الحديث. فقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن العبدَ لا يحرزُ نفسَه من الشيطان إلا بذكر الله، وهذا بعينه هو الذي دلَّت عليه سورةُ __________ (1) أخرجه أحمد: (28/ 404 رقم 17170)، والترمذي رقم (2863)، وابن خزيمة رقم (1895)، وابن حبان "الإحسان": (14/ 124)، والحاكم: (1/ 421)، وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب" ثم ذكر كلام البخاري الذي نقله المصنف. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. ووقع في (ع،: "رِبَق" على الجمع، والجُثا: جمع جُثوة بضم الجيم وهو الشيء المجموع. انظر "النهاية فى غريب الحديث": (1/ 239).

(2/815)


{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}، فإنه وصف الشيطانَ فيها بأنه الخناس، والخَنَّاسُ (1) الذي إذا ذكر العبدُ اللهَ انخنسَ وتجمَّعَ وانقَبَضَ، وإذا غَفَل عن ذكر الله التقم القلب، وألقى إليه الوساوسَ التي هي مبادئ الشَّرِّ كُلِّه، فما أحرزَ العبدُ نفسَهُ من الشَّيطان بمثل ذكر الله عز وجل. الحرز التاسع: الوضوء والصلاة: وهذا من أعظم ما يتحرَّز به منه, ولا سيَّما عند ثَوَران (2) قوَّة الغضب والشهوة، فإنها نارٌ تغلي في قلب ابن آدم، كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَلا وإنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأيْتُمْ إلَى حُمْرَةِ عَيْنيهِ وانْتِفَاخِ أوْداجِهِ، فَمَنْ أحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأرْضِ" (3). وفي أثر آخر: "إنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وإنَّمَا تُطْفَأْ النَّارُ بالمَاءِ" (4)، فما أطفأْ (5) العبدُ جمرةَ الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاةَ، فإنها نارٌ والوضوء يُطفِئُها، والصَّلاةُ إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثَرَ ذلك كُلِّه، وهذا أمرٌ تجرِبته تُغْني عن إقامة الدليل عليه. الحرز العاشر: إمساكُ فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة __________ (1) (ظ ود): "الخانس". (2) (ظ ود): "توارد". (3) أخرجه أحمد: (18/ 132 رقم 11587)، والترمذي رقم (2191)، وغيرهم قال الترمذي: "حسن" -كما في "تحفة الأشراف" (3/ 468) - لكن فيه: علي ابن زيد بن جدعان فيه ضَعْف. (4) أخرجه أحمد: (29/ 505 رقم 17985)، وأبو داود رقم (4784) وغيرهم من حديث عطية السعدي -رضي الله عنه-. وفي سنده ضعف. (5) (ق وظ ود): "طغى".

(2/816)


الناس، فإنَّ الشيطانَ إنما يتسلَّطُ على ابن آدَمَ وينالُ منه غَرَضهُ من هذه الأبواب الأربعة، فإن فضولَ النظر يدعوه إلى الاستحسانِ، ووقوع صورةِ المنظور إليه في القلب، والاشتغالِ به، والفكرةِ في الظَّفَرِ به، فمبدأُ الفتنة من فضول النظر، كما في "المسند" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُوٌم مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ للهِ أوْرَثَهُ اللهُ حَلاوَةً يَجِدُها في قَلْبهِ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ" (1)، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. فالحوادث العِظَام إنما كلُّها من (2) فضول النظر، فكم نظرة أعقبت حَسَرات لا حَسْرة، كما قال الشاعر (3): كلُّ الحوادثِ مَبْدَاها من النَّظَرِ ... ومُعْظمُ النَّار من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحِبها ... فَتْكَ السِّهام بلا قَوْس ولا وَتَرِ وقال الآخر (4): وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَكَ رائدًا ... لقلبِكَ يومًا أتعبتْكَ المناظرُ __________ (1) أخرجه الحاكم: (4/ 313)، والقضاعي في "مسند الشهاب": (1/ 195) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-. ولم أجده في "المسند" بهذا اللفظ، ولكن فيه (5/ 264) من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف ما يوافق شطره الأخير. وصححه الحاكم، وتعقبه المنذري في "الترغيب: 3/ 23" بأن فيه عبد الرحمن ابن إسحاق الواسطي واهٍ. وأخرجه الطبراني في "الكبير": (10/ 173) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وضعفه الهيثمي في "المجمع": (8/ 66). (2) "إنما كلها من" ليست في (ظ ود) ووقع في (ع): "جعلها" بدلًا من "كلها". (3) ذكره المؤلف في "روضة المحبين": (ص / 97)، و"الداء والدواء": (ص / 224) بلا نسبة مع زيادة بيتين. وقد وقع في ترتيب الأبيات وقائليها اضطراب في نسخة (ع). (4) البيتان بلا نسبة في "حماسة أبي تمام": (2/ 15)، وذكرها المؤلف في "روضة المحبين": (ص/97) على لسان جارية في حكاية للأصمعي.

(2/817)


رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضِهِ أنتَ صابِرُ وقال المتنبي (1): وأنا الذي اجْتَلَبَ المَنِيَّةَ طَرْفُةُ ... فمَنِ المُطَالبُ والقَتِيلُ القَاتِلُ ولي من أبيات (2): يا راميًا بسِهام اللَّحظ مجتهدًا ... أنت القتيلُ بما تَرْمي فلا تُصِبِ وباعثَ الطَّرْف يرتادُ الشِّفَاءَ له ... توَفِّه إنَّه يَرْتَدُّ بالعَطَبِ ترجو الشفاءَ بأحداقٍ بها مَرَضٌ ... فهل سمعت ببُرْءٍ جاءَ من عَطَبِ ومُفْنِيًا نفسَه في إثْرِ أقبحِهِمْ ... وصفًا للطخ جمال فيه مستلبِ وواهبًا عُمْرَه في مثل ذا سفهًا ... لو كنتَ تعرفُ قدْر العمر لم تَهَبِ (3) وبائعًا طيبَ عيشٍ ما له خَطَرٌ ... بطيْف عيش من الآلام منتهبِ غُبِنْتَ واللهِ غُبْنًا فاحشًا فلو اسـ ... ـتَرْجَعْتَ ذا العقدَ لم تُغْبَنْ ولم تَخبِ وواردًا صفوَ عيش كلُّه كَدَرٌ .. أمامَكُ الوِرْدُ صفوًا ليس بالكذب وحاطبَ اللَّيلِ في الظَّلماء منتصبًا ... لكلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَب شاب الصِّبا والتَّصابي بَعْدُ لم يَشِبِ ... وضاعَ وقتُك بين اللَّهوِ واللَّعِبِ وشمسُ عمرك قد حان الغروبُ لها ... والفيء في الأفق الشرقيِّ لم يغبِ وفاز بالوصلِ من قد فازَ وانْقشعَتْ ... عن أفقه ظُلُماتُ اللَّيلِ والسُّحُب __________ (1) "ديوانه -مع الشرح المنسوب للعكبري": (3/ 250). (2) ذكرها المؤلف في "الفوائد": (ص/ 145 - 146) دون الأول، مع اختلاف في بعضها، وذكر منها بيتين في "الروضة": (ص/ 97) معزوَّة إليه. (3) هذا البيت وما قبله متأخران في (ق) على قوله: "وبائعًا طيب ... ".

(2/818)


كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلتْ ... ورسْلُ ربِّك قد وافتْكَ في الطَّلَبِ ما في الديار وقد سارتْ ركائِبُ مَنْ ... تهواه للصَّبِّ من سكنى ولا أَرَبِ فأَفْرِش الخدَّ ذيَّاك التُّرَابَ وقل ... ما قاله صاحبُ الأشواق في الحِقَبِ ما رَبْعُ مَيَّةَ محفوفًا يطيف به ... غَيْلان أشهى له من رَبْعِكَ الخرِب ولا الخدودُ وإن أُدْمِينَ من ضَرَج ... أشهى إلى ناظرِي من خدِّكَ التَّرِبِ (1) منازلًا كان يهواها ويألفُها ... أيامَ كان منالُ (2) الوصل عن كَثَبِ وكلما جليت تلك الرُّبوعُ له ... يهوي إليها هُوِيَّ الماءِ في صَبَبِ أحيا له الشَّوْقُ تَذْكارَ العهودِ بها ... فلو دعا القلبُ للسُّلْوانِ لم يُجِبِ هذا وكم منزلٍ في الأرض يألفُهُ ... وما له في سواها الدَّهْرَ مِنْ رَغَبِ ما في الخيام أخو وجدٍ يريحُك إن ... بَثَثْتَهُ بعضَ شأن الحبِّ فاغتربِ وأَسْرِ في غَمَرَات الليلِ مهتديًا ... بنفحةِ الطِّيب لا بالنَّار والحَطَبِ وعادِ كلَّ أخي جُبْن ومَعْجَزَةٍ ... وحارب النفسَ لا تُلْقِيكَ في الحَرَبِ وخذ لنفسِكَ نورًا تستضيءُ به ... يوم اقتسام الورى الأنوارَ بالرُّتَبِ فالجسرُ ذو ظلماتٍ ليسَ تقطعُهُ ... إلا بنور يُنَجِّي العبدَ في الكُرَبِ والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء (3). وأما فضول الكلام؛ فإنها تفتحُ للعبدِ أبوابًا من الشر، كلها مداخل __________ (1) هذا والذي قبله لأبي تمام "ديوانه": (1/ 99) ضمَّنهما المؤلف. (2) (ظ ود): "مناك". (3) (ق): "كل بلاء".

(2/819)


للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسُدُّ عنه تلك الأبوابَ كلَّها، وكم منْ حرب جرَّتها كلمةٌ واحدة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "وَهَلْ يكُبُّ النّاسَ عَلَي مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ ألْسِنتَهِمْ" (1). وفي التِّرمذي أن رجلًا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَا يُدْرِيكَ فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخلَ بِمَا لا يَنْقُصُهُ" (2). وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر، وهما أوسعُ مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يَمَلَّانِ ولا يسأمان، بخلاف شَهْوة البطن، فإنه إذا امتلأ لم يَبْقَ فيه إرادةٌ للطعام، وأما العين واللِّسان فلو تُرِكا لم يفتُرا من النظر والكلام، فجنايتُهما مُتَّسِعَةُ الأطراف، كثيرةُ الشُّعَبِ، عظيمةُ الآفات، وكان السلف يحذِّرون من فضول النظر، كما يحَذِّرون من فضول الكلام (3)، وكانوا يقولون: "ما شيءٌ أحوجَ إلى طول السَّجن من اللِّسانٍ" (4). وأما فضولُ الطعام، فهو داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشَرِّ، فإنه يحَرِّكُ الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبُك بهذين شرًّا! فكم مِنْ مَعصيةٍ جلبها الشبعُ وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال __________ (1) أخرجه أحمد: (5/ 231)، والترمذي رقم (2616)، وابن ماجه رقم (3973)، والحاكم: (2/ 413) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم. (2) أخرجه الترمذي رقم: (2316)، وأبو نعيم في "الحلية": (5/ 56) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "غريب" مشيرًا إلى ضعفه. (3) "كما يحذرون عن فضول الكلام" ليست في (ظ ود). (4) جاء هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه هنَّاد في "الزهد": (2/ 532)، والطبراني في "الكبير": (9/ 149)، وأبو نعيم في "الحلية": (1/ 134).

(2/820)


دونها، فمن وقِيَ شرَّ بطْنِهِ فقد وُقِيَ شرًّا عظيمًا، والشيطانُ أعظمُ ما يتحكَّم من الإنسان إذا مَلأَ بطنَه من الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار: "ضَيِّقوا مجارِيَ الشيطان بالصَّوْم"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ" (1)، ولو لم يكَنْ في التملِّي من الطَّعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غَفَل القلبُ عن الذكر ساعةً واحدةً جثم عليه الشيطانُ ووعدَهُ ومنَّاه وشهَّاه، وهام به في كل وادٍ، فإن النفسَ إذا شبعتْ تَحَرَّكَتْ وجالت وطافت على أبواب الشَّهَوَاتِ، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت. وأما فضولُ المخالطةِ؛ فهي الدّاء العُضَالُ الجالبُ لكلِّ شرٍّ، وكم سلبت المخالطةُ والمعاشرةُ من نعمة، وكم زرعتْ من عداوة، وكم غرستْ في القلب من حَزَازات، تزولُ الجبالُ الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذَ من المخالطة (2) بمقدار الحاجة، ويجعلَ الناسَ فيها أربعةَ أقسام، متى خلط أحدَ الأقسام بالآخر، ولم يميِّزْ بينهما دخل عليه الشر: أحدهما: مَنْ مخالَطَتُهُ كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم واللَّيلةِ، فإذا أخذ حاجَتَهُ منه ترك الخلطة (3)، ثم إذا احتاجَ إليه خالطه __________ (1) أخرجه أحمد: (28/ 424 رقم 17187)، والترمذي رقم (2380)، وابن ماجه رقم (3349)، والحاكم: (4/ 331)، وابن حبان "الإحسان": (12/ 41) وغيرهم من حديث المقدام بن معدي كَرِب، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، وحسَّنه الحافظ في "الفتح": (9/ 438). (2) من قوله: "فيه خسارة ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (3) (ع): "المخالطة".

(2/821)


هكذا على الدّوام، وهذا الضَّرْبُ أعزُّ من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضَّرْبُ في مخالطتهم الربحُ كلُّه. القسم الثاني: مَنْ مخالطتهُ كالدَّواء يُحْتَاجُ إليهْ عندَ المرضِ، فما دمتَ صحيحًا فلا حاجةَ لك في خلطته، وهم مَنْ لا يُسْتغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيتَ حاجَتك من مخالطة هذا الضَّرْب بقيَتْ مخالَطَتُهم من: القسم الثالث: وهم مَنْ مخالطته كالدَّاء على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالدَّاء العُضَال، والمرض المزمن، وهو من لا تربحُ عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بدَّ من أن تخسرَ عليه الدِّين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكَّنَت مخالطتُه واتصلت فهي مرض الموت المَخوْف. ومنهم: مَنْ مخالطته كوجع الضرس يشتدَّ ضَرَبانه عليك، فإذا فارقَكَ سكن الألمُ. ومنهم: مَنْ مخالطته حُمَّى الرُّوح وهو الثَّقيلُ البغيضُ العَثِل (1)، الذي لا يُحْسِنُ أن يتكلَّمَ فيفيدَك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرف نفسَهُ فَيَضَعَها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعِصِيِّ __________ (1) (ظ ود وق): "العقل"، والمثبت من (ع) والعَثل والعَئِل الكثير من كل شيءٍ، وقد عَثِل عَثَلًا، والعِثْوَلُ من الرجال: الجافي الغليظ، ورجل عِثْول أي: عَيي فدْم ثقيل مُسترخٍ. انظر "اللسان": (11/ 424).

(2/822)


تنزلُ على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وفرحه به، فهو يُحْدِثُ من فيه كلما تحدَّث, ويظنُّ أنه مِسْكٌ يطيبُ به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرَّحَى العظيمة التي لا يُطاق حملُها ولا جَرُّها على الأرض. ويُذْكر عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: ما جَلَسَ إلى جانبي ثقيلٌ إلا وجدتُ الجانبَ الذي هو فيه أنزلَ من الجانبَ الآخر. ورأيت يومًا عند شيخنا (1) -قدَّس اللهُ رُوحَه- رجلاً من هذا الضَّرب، والشيخ يحتملُهُ (2)، وقد ضعُفَتِ القوى عن حمله، فالتفتَ إليَّ وقال: مُجالسة الثقيل حمَّى الرِّبْع, ثم قال: لكن قد أدْمَنَتْ أرواحُنا على الحُمَّى, فصارت لها عادةً أو كما قال. وبالجملة؛ فمخالطة كلِّ مخالف حمَّى للرُّوح فعَرَضِيَّه ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد أن يُبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بُدُّ من معاشرته ومخالطته، فليعاشرْه بالمعروف حتى يجعلَ الله له فرجًا ومخرجًا. القسم الرابع: من مخالطته الهُلْكُ كُلُّه، ومخالطته (3) بمنزلة أكل السُّم، فإن اتَّفقَ لآكله ترياقٌ، وإلا فأحسنَ اللهُ فيه العزاءَ, وما أكثرَ هذا الضَّرْبَ في الناس -لا كثَّرهم اللهُ- وهم أهلُ البدع والضلالة، والصَّادُّون عن سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الدّاعون إلى خلافها، الذين يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا, فيجعلون البدعةَ سُنَّةً، __________ (1) أي: ابن تيمية. (2) (ظ ود): "يحمله". (3) من قوله: "فليعاشره ... " إلى هنا سقط من (ق).

(2/823)


والسُّنَّةَ بِدْعَةً، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، إن جرَّدت التوحيدَ بينهم قالوا: تنقَّصْتَ جنَابَ الأولياء والصالحين، وإن جَرَّدْتَ المتابعةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: أهدرتَ الأئمةَ المتبوعينَ. وإن وصفت الله بما وصفَ به نفسَه، وبما وصفه به رسولُهْ من غير غُلُوٍّ ولا تقصيرٍ قالوا: أنت من المُشَبِّهين, وإن أَمَرتَ بما أَمَرَ اللهُ به ورسولُه من المعروف ونهيتَ عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر، قالوا: أنت من المُفَتِّنِينَ. وإن اتبعتَ السُّنَّة وتركتَ ما خالفها قالوا: أنتَ من أهل البدَع المُضِلِّين. وإن انقطعتَ إلى الله تعالى وخَلَّيْتَ بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنتَ من المُلَبِّسِين، وإن تركتَ ما أنتَ عليه، واتبعتَ أهواءَهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرينَ، وعندهم من المنافقين. فالحزمُ كلُّ الحزمِ التماسُ مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغلَ بإعتابهم ولا باستعتابهم، ولا تبالِ بذَمِّهم ولا بُغضهم، فإنه عينُ كَمَالِكَ، كما قال المتنبي (1):. وإذا أتتكَ مَذَمَّتِي مِنْ ناقصٍ ... فهي الشَّهَادَةُ لي بأنيَ كاملُ وقال آخر (2): وقد زادني حُبًّا لنفسيَ أنَّني ... بغيضٌ إلى كلِّ امْرِئٍ غيرِ طائلِ فمن كان بوَّابَ قلبه وحارسَه من هذه المداخل الأربعة التي هي __________ (1) "ديوانه -مع شرحه المنسوب للعكبري": (3/ 260) - ولم تقع تسمية الشاعر إلا في (ق). (2) هو: الطِّرِمَّاح الطائي، انظر "حماسة أبي تمام": (1/ 130).

(2/824)


أصلُ بلاء العالم، وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعملَ ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرِّزه من الشيطان؛ فقد أخذ بنصيبه من التوفيق، وسَدَّ على نفسه أبوابَ جهنَّم، وفتح عليها أبواب الرحمة، وانعمر ظاهره وباطنه، ويوشكُ أن يحمَدَ (1) عند الممات عاقبةَ هذا الدواء، فعند الممات يحمَدُ القومُ التُّقى و (في الصباح يحْمَدُ القومُ السُّرَى)، والله الموفق لا ربَّ غيرُهُ، ولا إلهَ سواه. * * * __________ (1) (ع): "يجد".

(2/825)


فصل (1) قوله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55 - 56]. هاتان الآيتان مشتملتانِ على آداب نوعي الدُّعاء: دعاءِ (2) العبادة ودعاءِ المسألة، فإنَّ الدعاءَ في القرآن يُرادُ به هذا تارة وهذا تارةً، ويرادُ به مجموعهما، وهما متلازمان، فإن دعاءَ المسألة هو طلب ما ينفع الدَّاعيَ، وطلب كشف ما يضرُّه أو دَفْعه (3). وكُلُّ من يملكُ الضُّرَّ والنفع حقًّا (4) فإنه هو المعبودُ حقًّا، والمعبودُ لا بُدَّ وأن يكونَ مالكًا للنفع والضُّرِّ. ولهذا أنكر اللهُ تعالى على من عَبَدَ من دونِه ما لا يملكُ (5) ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القرآن، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 156]، وقوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]، وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا __________ (1) من (ع)، و (ق): "فوائد قوله ... ". وهذا الفصل في تفسير الآيتين إلى آخره، منقول من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مع إضافات يسيرة من المؤلف، انظر "مجموع الفتاوى": (15/ 10 - 28). (2) "الدعاء: دعاء" سقط من (ق). (3) (ع): "يدفعه". (4) ليست في (ظ). (5) (ع): "لا يملك" و (ق): "لا يملك له".

(3/835)


يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 66 - 67]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} [الشعراء: 69 - 73]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]، فنفى -سبحانه- عن هؤلاء المعبودين من دونه النفعَ والضرَّ، القاصر والمتعدي، فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثيرٌ بَيِّن = أن المعبودَ لا بُدَّ أن يكون مالكًا للنَّفع والضُّرِّ، فهو يُدْعَى للنفع والضر دعاءَ المسألة، ويُدعى خوفًا ورجاءً دعاءَ العبادة، فعُلِم أن النوعين متلازمانِ، فكلُّ دعاء عبادة مستلزمٌ لدعاء المسألة، وكلُّ دعاءِ مسألة متضمن لدعاء العبادة، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] يتناول نوعَي الدعاء، وبكلٍّ منهما فُسِّرتْ الآية، قيل: أُعْطِيه إذا سألني، وقيل: أُثِيبه إذا عبدني، والقولان متلازمانِ، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمالٌ له في حقيقته الواحدة المتضمِّنة للأمرين جميعًا، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ عظيم النفع، قَلَّ مَنْ يفطَنُ له. وأكثر ألفاظ القرآن الدّالَّة على معنيين فصاعدًا هي من هذا القبيل، ومثال ذلك قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]

(3/836)


فُسِّر الدلوك بالزوال، وفُسِّرَ بالغروب، وحُكيت قولان في كتب التفسير (1)، وليسا بقولين، بل اللفظ يتناولُهُما معًا، فإن الدُّلوكِ هو المَيْل، ودلوكُ الشمس مَيْلُها، ولهذا الميل مَبْدأ ومُنْتَهى، فمبدَؤه الزَّوال ومنتهاه الغُروب، فاللَّفظ متناولٌ لهما بهذا الاعتبار، لا بتناولِ المشتركِ لمعنييه، ولا اللفظ لحقيقته ومجازه. ومثالُه -أيضًا- ما تقدَّم (2) من تفسير (الغاسق) باللَّيل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولُهما لتلازمهما، فإنَّ القمرَ آيةُ الليل، ونظائرهُ كثيرةٌ. ومن ذلك: قوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرفان: 77]، قيل: لولا دعاؤُكم إياه، وقيل: دعاؤُه (3) إيَّاكم إلى عبادته، فيكون المصدر مضافًا إلى المفعول، وعلى (4) الأول مضافًا إلى الفاعل، وهو الأرجحُ من القولينِ، وعلى هذا فالمُرادُ به نوعا الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهرُ، أي: ما يعبأُ بكم لولا أنكم تعبدونه، وعبادتُهُ تستلزمُ مسألَتَهُ، فالنوعانِ داخلان فيه. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فالدعاءُ هاهنا يتضمَّنُ النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهرُ، ولهذا عقَّبه بقوله (5): {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}، وفُسِّر الدعاء في الآية بهذا وبهذا، __________ (1) انظر "تفسير الطبري": (8/ 122 - 125). (2) (2/ 729). (3) العبارة مضطربة في النسخ، والمثبت من (ع). (4) (ق وظ ود): "ومحل". (5) من قوله: "فالدعاء ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(3/837)


وقد روى سفيان، عن منصور، عن ذر، عن يُسَيْع الكِنْدي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: "إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبادةُ"، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] , وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت: 48] وكلُّ موضعٍ ذُكِرَ فيه دُعاء المشركين لأصنامِهم وآلهتِهم، فالمُرادُ به دعاءُ العبادةَ المتضمِّن دعاءَ المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهرُ لوجوه ثلاثة: أحدها: أنهم قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فاعترفوا بأن دعاءهم إيَّاهم هو عبادتهم لهم. الثاني: أن الله تعالى فَسَّر هذا الدُّعاء في مواضعَ أُخَرَ بأنه العبادةُ، كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)} [الشعراء: 92 - 93]، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1 - 2]، وهو كثير في القرآن، فدعاؤُهم لآلهتهم هو عبادتُهم لها. __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (1479)، والترمذي رقم (2969)، وابن ماجه رقم (3828)، وابن حبان "الإحسان": (3/ 172)، والحاكم: (1/ 491)، وغيرهم. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان والحاكم، وقال الحافظ في "الفتح": (1/ 64): "سنده جيِّد".

(3/838)


الثالث: أنهم إنما كانوا يعبُدُونها ويتقرَّبون بها إلى الله، فإذا جاءتهم الحاجاتُ والكُرباتُ والشدائدُ دَعَوُا اللهَ وحدَه وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعضَ حوائجهم، ويطلبون منها، فكان دعاؤُهم لها دعاءَ عبادةٍ ودعاءَ مسألة. وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] هو دعاءُ العبادة، والمعنى: اعبدوه وحدَه وأخلصوا عبادَتَهُ، لا تعبُدوا معه غيرَهُ. وأما قول إبراهيمَ الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)} [إبراهيم: 39] فالمرادُ بالسمع هنا السمع الخاص، وهو سمعُ الإجابة والقبول (1) لا السَّمع العام، لأنه سميعٌ لكلِّ مسموع، وإذا كان كذلك فالدّعاء هنا يتناولُ دعاءَ الثنَّاء (2) ودعاءَ الطَّلَب، وسَمْع الرَّب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب، فهو سميعٌ لهذا ولهذا. وأما قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} [مريم: 4] فقد قيل: إنه دعاءُ المسألة، والمعنى: أنك عَوَّدتني إجابتكَ وإسعافَك، ولم تُشْقِني بالرَّدِّ والحِرْمان، فهو توسُّلٌ إليه تعالى بما سلف من إجابته له وإحسانه إليه، كما حُكي أن رجلًا سأل رجلًا وقال: أنا الذي أحسنتَ إليَّ وقْتَ كذا وكذا، فقال: مرحبًا بمَنْ تَوَسَّلَ إلينا بنا، وقضى حاجَتَه (3). وهذا ظاهر هاهنا، ويدلُّ عليه: أنه قدَّم ذلك أمام طلبه الولدَ وجعله وسيلةً إلى ربه، فطلب منه أن يُجْرِيَه على عادته التى عوَّده؛ من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله. __________ (1) ليست في (ق). (2) (ظ ود): "العبادة". (3) ذكر نحوًا منها ابن خلكان في "وفيات الأعيان": (2/ 122)، والأبْشيهي في "المستطرف": (2/ 109) على الحسن بن سهل.

(3/839)


أما قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] فهذا الدعاء المشهور أنه (1) دعاء المسألة، وهو سبب النزول، قالوا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربَّه فيقول مرة: "يا الله" ومرة: "يا رحمنُ"، فظن الجاهلون من المشركينَ أنه يدعوْ إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ. قال ابن عباس: سمع المشركون النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو في سجوده: "يا رَحْمنُ يا رَحِيمُ"، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله هذه الآية: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (2). وقيل: إن الدعاء هاهنا بمعنى التَّسمية كقولهم: "دعَوْتُ ولدي سَعِيدًا وادْعُهُ بعَبْدِ الله" ونحوه، والمعنى: سمُّوا الله أو سمُّوا الرحمن، فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية، وهذا قول الزمخشريِّ (3). والذي حمله على هذا قوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فإنَّ المرادَ بتعدُّدِ معنى "أيِّ" وعمومِها هاهنا تعدُّدُ الأسماء ليس إلا، والمعنى: أيُّ اسم سمَّيتموه به من أسماء الله تعالى، إما الله وإما الرحمن، فله الأسماءُ الحسنى، أي: فللمُسمَّى سبحانه الأسماءُ الحسنى، والضمير في "فله" يعودُ إلى المُسمَّى. فهذا الذي أوجبَ له __________ (1) من (ع)، و (ق): "بأنه"، و (ظ ود): "وأنه". (2) أخرجه الطبري: (8/ 165)، وابن مردويه -كما في "الفتح": (13/ 372) - عنه. قال الحافظ: بسندٍ ضعيف. وأخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد": (ص / 100) وابن مردويه -كما في الفتح: 13/ 372 - عن عائشة -رضي الله عنها- نحوه. وأخرجه الطبرى: (8/ 165) عن مكحول مرسلًا. (3) في "الكشاف": (2/ 378).

(3/840)


أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التَّسمية، وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المُراد بالدّعاء في الآية، وليس هو عينَ المراد، بل المُرادُ بالدعاء معناه المعهود المُطَّرِد في القرآن، وهو دعاءُ السؤال ودعاء الثَّناء، ولكنه متضمِّنٌ معنى التَّسمية، فليس المُرادُ مجرَّدَ التسمية الخالية عن العبادة والطَّلَب، بل التَّسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في (تَدْعو) معنى (تُسَمُّوا)، فتأمَّلْه. والمعنى: أيًّا ما تُسَمُّوا في ثنائكم ودعائكم (1) وسؤالكم، والله أعلم. وأما قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 28] فهذا دعاء العبادة المتضمِّن للسؤال رغبةً ورهبةً، والمعنى: إنا كنا من قبل نخلِصُ له العبادةَ، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذابَ السَّمُوم، لا بمجرَّد السُّؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانَهُ يسأله من في السَّموات ومن في الأرض. والفوز والنجاةُ إنما هي بإخلاص العيادة لا بمجرَّد السُّؤال والطَّلَب. وكذلك قولُ الفِتْية أصحابِ الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف: 14] أي: لن نعبدَ غيرَه، وكذلك قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصافات: 125]. وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)} [القصص: 64] فهذا من دعاء المسألة، يُبَكِّتُهم الله عز وجل، ويُخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءَهم لا __________ (1) من (ظ ود).

(3/841)


يستجيبون لدعوتهم (1)، وليس المُرادُ: اعبدوهم، وهو نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: 52]. وهذا التقريرُ نافعٌ في مسألة الصلاة، وأنها هل نُقِلت عن مسمَّاها في اللّغة فصارت حقيقةً شرعيةً منقولةً، أو استُعْمِلت في هذه العبادة مجازًا، للعلاقة بينها وبين المسمَّى اللُّغوي، أو هي باقية على الوضع اللُّغوي وضُمَّ إليها أركانٌ وشرائطُ، وعلى ما قررناه لا حاجةَ إلى شيءٍ من ذلك، فإن المُصلِّي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفكُّ عن دعاء عبادةٍ وثناء، أو دعاءِ طلب ومسألة، وهو في الحالين داعٍ، فما خرجتِ الصلاةُ عن حقيقة الدُّعاء، فتأمَّلْه. إذا عُرِفَ هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] يتناول نوعَي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمِّنٌ لدعاء العبادة، ولهذا أَمَر بإخفائه وإسراره، قال الحسن: "بين دعوة السِّرِّ ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمونَ يجتهدونَ في الدُّعاء، وما يُسمعُ لهم صوتٌ، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وأن الله تعالى ذَكَر عبدًا صالحًا ورضي بفعلِهِ فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} " (2) [مريم: 3]. وفي إخفاء الدُّعاء فوائدُ عديدة: أحدها: أنه أعظمُ إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ __________ (1) (ظ ود): "لهم دعوتهم". (2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد": (ص/45)، والطبري: (5/ 514). وسنده حسن.

(3/842)


دعاءَه الخَفِيَّ، وليس كالذي قال: "إن الله يسمَعُ إن جَهَرْنا، ولا يسمعُ إن أخفينا" (1). وثانيها: أنه أعظمُ في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تُخاطبُ الملوِكُ ولا تُسألُ برفع الأصوات، وإنما تُخفضُ عندَهم الأصواتُ, ويُخْفى عندَهم الكلامُ بمقدار ما يسمعوه، ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوهُ، ولله المثلُ الأعلى، فإذا كان يسمعُ الدّعاء الخَفِيَّ فلا يليقُ بالأدب بين يديه إلاّ خفض الصوت به. وثالثها: أنه أبلغُ في التَّضَرُّع والخُشوع الذي هو رُوحُ الدعاء وَلُبُّهُ ومقصودُهُ، فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسألُ مسألةَ مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلَّت جوارحُه، وخشع صوتُه، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته (2) وضراعته، إلى أن ينكسر لسانُه، فلا يُطاوعه بالنطق, فقلبُه سائل طالب مبتهل (3)، ولسانُه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحال لا يتأتَّى معها رفع (4) الصوت بالدُّعاء أصلًا. ورابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص. وخامسها: أنه أبلغُ في جمعِيَّة القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رَفْع الصوت يُفَرِّقه ويشتِّته، فكلما خفضَ صوتَه كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعوِّ سبحانه وتعالى. __________ (1) في حديث الثلاثة الذين اجتمعوا عند البيت، أخرجه البخاري رقم (4817) , ومسلم رقم (2775) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. (2) (ظ ود): "كسره". ويمكن أن تقرأ: "يبلغ به ذله ومسكنته، وكسره وضراعته". (3) (ظ ود): "وقلبه يسأل طالبًا مبتهلًا". و"طالبًا" ليست في (ع). (4) (ظ ود): "وهذه الحالة لا تأتي مع رفع .. ".

(3/843)


وسادسها -وهو من النكت السرِيَّة البديعة جدًّا-: أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألةَ: أقربَ شيءٍ إليه، فيسأله مسألةَ مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد. ولهذا أثنى الله سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}، فكلما استحضرَ القلبُ قربَ الله تعالى منه، وأنه أقربُ إليه من كلِّ قريبٍ، وتصوَّر ذلك = أخفى دعاءَه ما أمكنه، ولم يَتَأَتَّ له رفعُ الصوتِ به، بل يراه غيرَ مستحسن، كما أن من خاطبَ جليسًا له يسمع خَفِيَّ كلامه، فبالغ في رفع الصوتِ استهجن ذلك منه -ولله المثل الأعلى سبحانه (1) - وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح، لما رفِع الصحابةُ أصواتَهم بالتكبير وهم معه في السفر، فقال: "ارْبعوا عَلى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أَقْرَبَ إلىَ أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُق راحِلتِهِ" (2)، وقد قال: تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وقد جاء أن سببَ نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله رَبُّنا قريبٌ فَنُنَاجِيَهُ، أم بعيدٌ فنُنَادِيَهُ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) [البقرة: 186]. __________ (1) من قوله: "ولم يتأت .... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) أخرجه البخاري رقم (2992)، ومسلم رقم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. (3) أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة": (1/ 277)، وسفيان بن عيينة في "تفسيره" - كما في الدر المنثور: 1/ 352 - عن أُبي، بسندٍ منقطع. =

(3/844)


وهذا يدلُّ على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت، فإنهم عن هذا سألوا، فأُجيبوا بأنَّ ربَّهم تبارك وتعالى قريبٌ لا يحتاجُ في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يُسْأَلُ مسألةَ القريب المُنَاجَى لا مسألةَ البعيد المنَادَى، وهذا القربُ من الدَّاعي هو قربٌ خاصٌ ليس قُرْبًا عامًّا من كلِّ أحدٍ، فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابده، وأقرب ما يكون العبدُ من رَبِّه وهو ساجِدٌ (1)، وهو أخصُّ من قربِ الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يُثْبِتْ أكثرُ المتكلمينَ سواه، بل هو قُرْبٌ خاصٌّ من الدَّاعى والعابد، كمَا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - راويًا عن ربِّه تبارك وتعالى: "مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا" (2)، فهذا قربُهُ من عابدِه. وأما قربُهُ من داعيه وسائلِهِ، فكما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فيه الإشارةُ (3) والإعلامُ بهذا القُرْب. وأما قربُهُ -تبارك وتعالى- من مُحِبِّهِ فنوعٌ آخَرُ، وبناءٌ آخر (4)، وشأنٌ آخر، كما قد ذكرناه في كتاب "التحفة المكية"، على أن العبارةَ تَنْبو عنه، ولا تحصلُ في القلب حقيقةُ معناه أبدًا، لكن بحسب قوَّة المحبَّةِ وضعفِها يكونُ تصديق العبد بهذا القرب، وإيَّاكَ __________ = وأخرجه ابن جرير: (2/ 164)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ -كما في الدر: 1/ 352 - من طريق الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ... الحديث. والصلتُ ضعيف. (1) أخرجه مسلم رقم (482) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) أخرجه مسلم رقم (2687) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-. (3) (ظ ود): "الإرشاد". (4) "وبناء آخر" ليست في (ظ ود).

(3/845)


ثم إيَّاكَ أن تعبِّرَ عنه بغير العبارة النبوِية، أوْ يَقَعَ في قلبِك غيرُ معناها ومرادها، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبُوتِها. وقد ضعُفَ تمييزُ خلائِقَ في هذا المقام، وساء تعبيرُهم، فوقعوا في أنواع من الطَّامَّاتِ والشطح، وقابلهم من غَلُظ حجابُه فأنكر محبَّةَ العبدِ لربِّه جملةً، وقربَهُ منه، وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق، فهو عنده المحبوب القريب ليس إلاّ (1). وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب "التحفة" أكثر من مائة طريق (2)، والمقصود هاهنا الكلام على هذه الآية. وسابعها: أنَّه أَدْعَى إلى دوام الطلب والسؤال، فإنَّ اللِّسان لا يَمَلُّ والجوارحُ لا تتعبُ، بخلاف ما إذا رفع صوتَهُ به، فإنه قد يَكِلُّ لسانُه وتضعفُ بعضُ قواه، وهذا نظيرُ من يقرأُ ويُكَرِّر رافعًا صوتَهُ، فإنه (3) لا يطولُ له ذلك بخلاف من يخفضُ صوتَه. وثامنها: أن إخفاءَ الدُّعاء أبعد له من القواطع والمشَوِّشاتِ والمُضعِّفَاتِ، فإن الدَّاعِيَ إدْا أخفى دعاءَهُ لم يَدْرِ به أحدٌ، فلا يحصلُ هناك تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جَهَرَ به تفطَّنتْ له الأرواحُ الشِّرِّيرةُ (4) والباطوليَّةُ (5) والخبيثة من الجِنِّ والإنس، فشوَّشت عليه ولا بُدَّ، ومانَعَتْهُ وعارضتْه، ولو لم يكن إلا أن تعلُّقَها به يفَرِّقُ عليه __________ (1) وانظر: "مدارج السالكين": (2/ 107). (2) وانظر: "مدارج السالكين": (3/ 20)، و"روضة المحبين" مفرد في المحبّة. (3) من قوله: "فإنه قد ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) (ظ ود): "البشرية". (5) المنسوبة إلى الباطل، وهي نسبة غريبة استعملها ابن القيم في مواضع من كتبة، انظر: "مفتاح دار السعادة": (1/ 197، 547) و"تهذيب السنن": (1/ 416 - بهامش المختصر).

(3/846)


هِمَّتَه فيضعفُ أثرَ الدعاءِ، ومن له تجرِبَةٌ يعرفُ هذا، فإذا أَسَرَّ الدعاءَ وأخفاه أَمِنَ هذه المفسدةَ. وتاسعها: أن أعظمَ النِّعَمِ: الإقبالُ على الله، والتَّعَبُّد له، والانقطاعُ إليه، والتَّبتُّل إليه، ولكلِّ نعمةٍ حاسدٌ على قَدْرِها دقَّتْ أو جَلَّتْ، ولا نعمةَ أعظمُ من هذه النعمة، فأَنفُسُ الحاسدينَ المنقطعينَ متعلِّقَةٌ بها، وليس للمحسودِ أسلمُ من إخفاء نعمتِهِ عن الحاسد، وأن لا يقصدَ إظهارَها له. وقد قال يعقوب ليوسف: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 5] وكم من صاحب قلب وجمعية وحال معِ الله قد تحدَّثَ بها وأخبر بها، فسلبه إيَّاها الأغيارُ، فأصبح يقلِّبُ كفَّيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخُ بحفظ السِّرِّ مع الله، وأن لا يُطْلِعوا عليه أحدًا، ويتكتَّمون به غايةَ التَّكَتُّم، كما أنشد بعضُهم في ذلك: من سَارَرُوه فأبدى (1) السِّرَّ مجتهدًا ... لم يأمَنْوه على الأسرارِ ما عاشا وأبعدوه فلم يظفرْ بِقُرْبِهمُ ... وأبدلوه مكانَ الأُنْسِ إيحَاشا لا يأمنونَ مُذِيعًا بَعْضَ سِرِّهِمُ ... حاشا وِدادِهِمُ من ذلكمْ حاشا والقومُ أعظمُ شيءٍ كِتمانًا لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبَّته، والأنس به، وجمعيَّة القلبِ عليه، ولا سيَّما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكَّن أحدُهم وقوِيَ وثبتَتْ أصولُ تلك الشجرة الطيِّبة، التي أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء في قلبه، بحيث لا يُخشى __________ (1) (ظ): "فأفشى".

(3/847)


عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حالَه وشأنه مع الله لِيُقْتَدَى به ويُؤْتَمَّ به لم يُبَالِ. وهذا بابٌ عظيمُ النفع إنما يعرفُهُ أهله. وإذا كان الدُّعاء المأمورُ بإخفائه يتضمَّن دعاءَ الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله، فهو عن أعظم الكنوز التي هي أحقُّ بالإخفاء والسِّتْر عن أعين الحاسدين، وهذه فائدةٌ شريفة نافعة. وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعوِّ سبحانه، متضمِّنٌ للطَّلَب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذِكْر وزيادة، كما أن الذكر يسمَّى دعاءً لتضمُّنه الطَّلَبَ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمدُ للهِ" (1) فسمَّى "الحمدُ لله" دعاءً، وهو ثناء محضٌ؛ لأن الحمد يتضمَّنُ الحبَّ والثناء، والحبُّ أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامدُ طالب لمحبوبه، فهو أحقُّ أن يسمَّى داعيًا من السائل الطالب من ربِّه حاجةً ما، فتأمَّلْ هذا الموضعَ ولا تحتاج إلى ما قيل: إن الذاكرَ متعرِّضٌ للنوال، وإن لم يكن مصرِّحًا بالسؤال، فهو داعٍ بما تضمَّنَهُ ثناؤُه من التَّعَرُّض، كما قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (2): أَأَذْكُرُ حاجَتِي أمْ قدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ إنَّ شِيْمَتَكَ الحَيَاءُ إذا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا (3) ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّناءُ __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (3383)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (837)، وابن ماجه رقم (3800)، وابن حبان "الإحسان": (3/ 126)، والحاكم: (1/ 498) وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: "حسن غريب" كما في "التحفة": (2/ 190)، وصححه ابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي. (2) البيتان في "حماسة أبي تمام": (2/ 395). (3) في "الحماسة": (2/ 396): "خيرًا".

(3/848)


وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفسُ الحمد والثناء متضمِّنٌ لأعظم الطَّلَب، وهو طلب المحب، فهو دعاءٌ حقيقة، بل أحقُّ أن يسمَّى دعاءً من غيره من أنواع الطَّلَب الذي هو دونه، والمقصود أنَّ كلَّ واحد من الدُّعاء والذكر يتضمَّنُ الآخرَ ويدخلُ فيه، وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] فأمر تعالى نَبيَّهُ أن يذكَرَهُ في نفسه. قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح (1). وقد تقدم (2) حديث أبي موسى: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: "يا أيّها النَّاسُ ارْبَعُوا على أنفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنما تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أقْرَبَ إلى أحدِكُمْ من عُنُق راحلتِهِ". وتأمل كيف قال في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}، وفي آية الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فذكر التَّضَرُّعَ فيهما معًا وهو التَّذَلُل والتَّمَسْكُن والانكسار، وهو روح الذِّكر والدُّعاء. وخصَّ الدُّعاءَ بالخِفْية لِمَا ذكرنا من الحكم وغيرها (3)، وخصَّ __________ (1) أسنده عنهما ابن جرير: (6/ 165). (2) (3/ 844). (3) في هامش (ع) حاشية طويلة نصُّها: "قال الشيخ تقي الدين فى "المقترح": أخبرنا بسنده روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الذكر الخفيّ" قال جماعة من أهل الحديث: هذا إشارة إلى ذكر الله تعالى سِرًّا. قال أرباب التصوّف: ذلك خفيّ بالنسبة إلى السامع لا بالنسبة إلى الذاكر، فشرطه أن يتمكن الذكر من القلب حتى يتمكن إلى حالة يستغرق عن الذكر، فيكون خفيًا بالنسبة إليه. وفيه اشكال، ويحتمل احتمالًا آخر وهو: الفكر والاستدلال بعجائب المصنوعات على مبدعها، والله أعلم بالمراد". =

(3/849)


الذكر بالخِيفة لحاجة الذاكر (1) إلى الخوف، فإن الذكرَ يستلزمُ المحبَّة ويثمرُها ولا بُدَّ، فمن أكثرَ من ذكر الله تعالى أثمرَ له ذلك محبته، والمحبَّةُ ما لم تَقْترن بالخوف فإنها لا تنفعُ صاحِبها بل قد تضرُّه؛ لأنها توجبُ الإدلالَ والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهَّال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادةُ القلب وإقبالُه على الله ومحبَّته له، وتألُّهُه له (2)، فإذا حصلَ المقصودُ فالاشتغالُ بالوسيلة باطلٌ. ولقد حدثني رجلٌ: إنه أنكر على رجلٍ من هؤلاء في خَلْوَةٍ (3) له ترك فيها حضور الجُمُعَةِ، فقال له الشيخُ: أليس الفقهاءُ يقولون: إذا __________ = ثم كتب بعدها: "قال رحمه الله: مقصودنا الآن: أن ذكر الله باللسان دون الجَنان أصوات وأجراس، والكثرة فيه وسواس، بل اللسان خادم، أجرى اللَه عادته أن يرق القلب ويصلح عند مداومة العارف الذكر به فأمرنا به، ولكن لا ينبغي أن يكون القلب غافلًا غير عارف، والمعرفة لا تحصل إلا بالذكر، ولهذا قرنه بذكر الآيات، فقال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}، وهذا يدل ظاهرًا على أن كل ذكر يحصل من غير فكر في الآيات سلوك المضيعة والمتاهات" انتهى. أقول: لعل الشيخ تقي الدين صاحب شرح المقترح هو: مظفّر بن عبد الله بن علي تقي الدين المصري المعروف بالمقترح لحفظه إياه ت (612). انظر: "طبقات الشافعية": (8/ 372)، و"المقترح في المصطلح" كتاب في الجدل كثر اشتغال الفقهاء به للبروي، وشرحه الشيخ تقي الدين. انظر: "وفيات الأعيان": (4/ 225)، و"كشف الظنون": (ص/1793). والحديث الذي ذكره أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-. (1) (ع): "الراكب". (2) و"تألهه له" ليست في (ق). (3) (ظ ود): "أنكر على هؤلاء خلوة".

(3/850)


خافَ على شيءٍ من مالهِ فإن الجُمُعَةَ تسقطُ عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلبُ المُريدِ أعزُّ عليه من ضَيَاعِ عشرة دراهِمَ -أو كما قال- وهو إذا خرج ضاع قلبُه، فحِفْظُه لقلبِه عذرٌ مُسْقِطٌ للجمعة في حقِّه، فقال له: هذا غُرورٌ، بل الواجبُ عليه الخروجُ إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله، فالشيخُ المُرَبِّي العارف يأمر المُريدَ بأن يخرجَ إلى الأمر ويُراعي حفظَ قلبه، أو كما قال. فتأمَّل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملةً، فإنَّ من سلك هذا المسلكَ انسلخَ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحَيَّة من قِشْرها، وهو يظنُّ أنه من خاصَّة الخاصَّة. وسبب هذا عَدَمُ اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته (1)، ولهذا قال بعضُ السَّلَف: "مَنْ عَبَدَ اللهَ تعالى بالحُبِّ وحدَه فهو زنديقٌ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حَرُوري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مُرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ (2). وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فابتغاءُ الوسيلة هو محبَّتُه الدَّاعيةُ إلى التَّقَرُّب إليه، ثم ذكر بعدَها الرجاء والخوف، فهذه طريقةُ عباده وأوليائه، وربما آل الأمرُ بمن عَبَدَهُ بالحب المجرد إلى استحلال المحرَّمات، ويقول: المُحِبُّ لا يَضُرُّه ذنبٌ. __________ (1) من قوله: "وهو يظن .... " إلى هنا سقط من (ق). (2) نسبه ابن تيمية إلى بعض السلف -أيضًا- كما في "مجموع الفتاوى": (10/ 81، 207 وغيرها) وكذا ابن أبي العز في "شرح الطحاوية": (ص/ 458)، وابن رجب في "التخويف من النار": (ص/ 17).

(3/851)


وصنَّف بعضُهم في ذلك مصنفًا، وذكر فيه أثرًا مكذوبًا: "إذا أحَبَّ اللهُ العبدَ لم تَضْرَّهُ الذُّنوبُ" (1) , وهذا كذِبٌ قطعًا مُنَافٍ للإسلام، فالذنوبُ تضُرُّ بالذَّات لكل أحدٍ كضَرَرِ السُّمِّ للبَدَن. ولو قدر أنّ هذا الكلامَ صحَّ عن بعض الشيوخ -وأما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمعاذَ الله من ذلك- فله مَحْمَلٌ، وهو أنه إذا أحبَّه لم يدعْه حبُّه إياه إلى (2) أن يُصِرَّ على ذنب؛ لأن الإصرارَ على الذنب مُنَافٍ لكونه محبًّا (3) لله، وإذا لم يُصِرَّ على الذنب بل بادر إلى التَّوبةَ النَّصوح منه، فإنه يمحو أثَرَهُ ولا يَضرُّهُ الذنبُ، وكلما أذنب وتاب إلى الله زالَ عنه أثرُ الذنب وضررُه، فهذا المعنى صحيحٌ، والمقصودُ أن تجريدَ الحُبِّ والذكر عن الخوف يوقعُ في هذه المعاطب. فإذا اقترن بالخوف جَمَعه على الطريق، وردَّهُ إليها كلما شَرَدَ، كأن (4) الخوفَ سوطٌ يضربُ به مَطِيَّتَهُ لئلا تخرج عن الدَّرْب، والرجاءُ حادٍ يحدوها يُطِيْبُ لها السيرَ، والحبُّ قائدُها وزِمامُها الذي يسوقها، فإذا لم يكن للمَطِيَّةِ سوطٌ ولا عصا يردُّها إذا حادتْ (5) عن الطريق وتُرِكَت تركبُ التعاسيفَ، خرجتْ (6) عن الطريق وضلَّتْ عنها، فما حُفِظَتْ حدودُ الله ومحارمُه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه __________ (1) لم أجده، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (11/ 256) ولم يعزه حديثًا ولا أثرًا، لكن نسبه لقائل مجهول، وذكر تخريج العبارة الذي ذكره ابن القيم هنا. (2) من (ق). (3) (ق وع): "محبوبًا". (4) (ع): "فإن". (5) (ع): "جارت". (6) (ق): "حردت" أي: مالت وخرجت.

(3/852)


ومحبته، فمتى خلا القلبُ عن هذه الثلاثة فسد فسادًا لا يُرجى صلاحُه أبدًا، ومتى ضعُفَ فيه شيءٌ من هذه ضعُفَ إيمانُه بحسبه. فتأملْ أسرارَ القرآن وحكمَتَهُ في اقتران الخِيفة بالذِّكر والخُفْية بالدُّعاء، مع دِلالته على اقتران الخِيفة بالدُّعاء والخُفْية بالذكر أيضًا، فإنه قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205]، فلم يحتجْ بعدها أن يقول: خُفية، وقال في الدعاء: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، فلم يحتج أن يقول في الأول: ادعوا ربكم تضرُّعًا وخيفة، فانتظمتْ كلُّ واحدة من الآيتين للخِيفة والخُفْية والتَّضَرُّع أحسنَ انتظام، ودلَّتْ على ذلك أكملَ دلالةٍ. وذَكَر الطمعَ الذي هو الرَّجاءُ في آية الدُّعاء؛ لأن الدعاءَ مبنيٌّ عليه، فإن الداعيَ ما لم يطمعْ في سؤاله ومطلوبه لِم تتحرك نفسُه لطلبه، إذ طلبُ ما لا يُطْمَعُ فيه ممتنع، وذكَر الخوفَ في آية الذكر؛ لشدَّة حاجةِ الخائفِ إليه كما تقدَّمَ، فذكر في كلِّ آية ما هو اللائقُ (1) بها والأوْلَى بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزلَ كلامَهُ شفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين. فصل وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55] قيل: المراد أنه لا يحبُّ المعتدينَ (2) في الدَّعاء، كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك، وقد روى أبو داود في "سننه" (3) من __________ (1) (ع): "الأليق". (2) "قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين" سقطت من (ق). (3) رقم (96).

(3/853)


حديث حماد بنَ سَلَمة، عن سعيد الجُرَيْري، عن أبي نَعَامَة، أن عبدَ الله بن مغَفَّلٍ سمع ابنَه يقولْ اللَّهُمَّ إني أسألُك القصرَ الأبيضَ عن يمين الجنة إذا دخلتُها، فقال: يا بُني سلِ اللهَ الجنةَ وتعوَّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّهُ سَيَكُونُ في هذهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الطُّهورِ والدُّعَاءِ" (1). وعلى هذا فالاعتداءُ في الدُّعاء تارةً بأن يسألَ ما لا يجوزُ له سؤاله من الإعانة على المُحَرَّمات، وتارةً بأن يسألَ ما لا يفعلُه الله، مثلَ أن يسألَهُ تخليدَه إلى يوم القيامة، أو يسألَه أن يرفعَ عنه لوازم البشريَّة من الحاجة إلى الطعام والشَّراب، أو يسألَه أن يُطْلِعَهُ على غيبه، أو يسألَهُ أن يجعلَهُ من المعصومينَ، أو يسأله أن يَهَبَ له ولدًا من غير زوجةٍ ولا أَمةٍ، ونحو ذلك مما سؤالُه اعتداءٌ، فكلُّ سؤالٍ يُناقضُ حكمةَ الله أو يتضمَّنُ مناقضةَ شرعِهِ وأمرِهِ، أو يتضمَّنُ خلافَ ما أخبرَ به، فهو اعتداءٌ لا يحبُّه الله ولا يحبُّ سائِلَهُ، وفُسِّرَ الاعتداءُ برفع الصوت أيضًا في الدعاء، قال ابن جُرَيج: من الاعتداء رفعُ الصوت والنداء بالدُّعاء والصياح (2). وبعدُ؛ فالآية أعمُّ من ذلك كلِّه، وإن كان الاعتداءُ في الدُّعاء مرادًا بها، فهو من جملة المُراد، والله لا يحب المعتدين في كلِّ شيء، دعاءً كان أو غيرَه، كما قال تعالى {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ __________ (1) وأخرجه أحمد: (27/ 351 رقم 16796) وابن ماجه رقم (3864)، وابن حبان "الإحسان": (15/ 166)، والحاكم: (1/ 162)، وغيرهم. وصححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن كثير في "التفسير": (3/ 1440): "إسناد حسن لا بأس به". (2) أسنده عنه ابن جرير: (6/ 165).

(3/854)


لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، وعلى هذا فيكون قد أمرَ بدعائه وعبادته وأخبرَ أنه لا يحِبُّ أهلَ العُدوان، وهم الذين يدعونَ معه غيرَه، فهؤلاء أعظمُ المعتدينَ عُدوانًا، فإن أعظمَ العُدوان الشِّرْك, وهو وضعُ العبادة في غير موضعها، فهذا العُدوان لا بُدَّ أن يكونَ داخلًا في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]. ومن العُدوان أن يدعوَهُ غيرَ مُتَضَرِّع، بل دعاءَ مدِلٍّ، كالمستغني بما عندَهُ، المُدِلِّ على ربِّه به، وهذا من أعظم الاعتداء المُنافي لدعاء الضَّارع الذليل الفقير المِسكين مِنْ كُلِّ جهة في مجموع حالاته، فما لم يسألْ مسألةَ مسكينٍ متضرِّعٍ خائفٍ فهو معتدٍ. ومن الاعتداء أن تعبدَهُ بما لم يشرعْهُ، وتُثني عليه بما لم يُثْنِ به على نفسه ولا أَذِنَ فيه، فإن هذا اعتداءٌ في دعاء الثّنَاء والعبادة، وهو نظيرُ الاعتداء في دعاء المسألة والطَّلَب، وعلى هذا فتكون الآية دالَّةً على شيئين: أحدهما: محبوبٌ للرَّبِّ تعالى، مُرْضٍ له، وهو الدُّعاء تَضَرُّعًا وخُفية. والثاني: مكروهٌ له مبغوض مسخوطٌ وهو الاعتداء، فأمر بما يحِبُّهُ وندبَ إليه، وحذَّر مما يُبْغِضُه وزَجَر عنه بما هو من (1) أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحبُّ فَاعلَه، ومن لم يحبَّهُ الله فأيّ خير يناله، وفي قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} عقب قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، دليل على أن من لم يدعُهُ تضرُّعًا وخُفْيَةً فهو من المُعتدينَ الذين لا يُحِبُّهم، فقسمتِ الآيةُ الناسَ إلى __________ (1) من (ع).

(3/855)


قسمين: داعٍ لله تَضَرُّعًا وخُفْية، ومُعْتدٍّ (1) بترك ذلك. فصل وقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، قال أكثرُ المفسرين: لا تُفسدوا فيها بالمعاصي والدُّعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إيَّاها ببعث الرُّسُل وبيان الشريعة والدُّعاء إلى طاعة الله، فإن عبادةَ غير الله، والدَّعوة إلى غيره، والشِّرك به هو أعظمُ (2) فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشِّرك به ومخالفة أمره، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي} [الروم: 41] وقال عطيّة: في الآية: "ولا تعصُوا في الأرض، فيُمْسِكَ الله المطر، ويُهْلِكَ الحرثَ بمعاصيكم" (3)، وقال غيرُ واحد من السَّلَف: "إذا قحط المطر فإن الدَّوابَّ تلعِنُ عُصاةَ بني آدم وتقول: اللَّهُمَّ العنْهم فبسببهم أجدبتِ الأرضُ، وقحط المطرُ" (4). وبالجملة فالشِّرْكْ والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسوله = هو أعظمُ الفساد في الأرض ولا صلاحَ لها ولا لأهلها إلاّ بأن يكون: الله وحدَه هو المعبودَ، والدَّعوة له لا لغيره، والطاعةُ والاتِّباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجبُ طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شرعِه فلا سَمْعَ له ولا طاعةَ, فالله تعالى أصلحَ الأرضَ برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده، __________ (1) (ظ): "متعد". (2) من قوله: "طاعة الله ..... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) ذكره البغوي في "تفسيره": (2/ 166). (4) أخرجه الطبري: (2/ 59) عن مجاهد بنحوه، وذكره البغوي في "تفسيره": (1/ 134).

(3/856)


ونهى عبادَه عن إفسادها بالشِّرك به وبمخالفة رسوله. ومن تدَّبَر أحوال العالم وجدَ كلَّ صلاحٍ في الأرض فسببُهُ توحيد الله وعبادتُهُ وطاعة رسوله، وكل شرٍّ في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدُوٍّ وغير ذلك، فسببهُ (1) مخالفةُ رسوله والدَّعوة إلى غير الله ورسوله. ومن تدبَّرَ حقَّ التَّدَبُّرِ، وتأمَّلَ أحوالَ العالم منذ قامَ إلى الآنَ، وإلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها = وجَدَ هذا الأمرَ كذلك في خاصَّة نفسه، وفي حقِّ غيره عمومًا وخصوصًا، ولا قوَّة إلا بالله. فصل وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، إنما كرر الأمر (2) بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع، فأمر أولًا بدعائه تضرعًا وخفية، ثم أمر بأن يكونَ الدُّعاءُ أيضًا خوفًا وطمعًا، وفصَل بين الجملتين بجملتين: أحدهما: خبرية ومتضمِّنة للنَّهْي، وهي قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]. والثانية: طلبية، وهي قوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، والجملتانِ مقرِّرتانِ مُقويتان (3) للجملة الأولى مُؤَكِّدتانِ لمضمونِها. ثم لما تمَّ تقريرها وبيان ما يضادّها ويناقضها أمر بدعائه خوفًا __________ (1) سقطت من (ع). (2) (ظ ود): "ذكر". (3) (ظ ود): "مقرونتان" بدلًا من "مقررتان مقويتان".

(3/857)


وطمعًا، ثم قرَّرَ ذلك، وأكد مضمونه بجملة خبرية، وهي قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، فتعَلُّق هذه: الجملة (1) بقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} كتعلق قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}. ولما كان قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} مشتملًا على جميع مقامات الإيمان والإحسان, وهي: الحب والخوف والرجاء عقَّبها بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، أي: إنما ينال من دعاه خوفًا وطمعًا، فهو المحسِنُ والرحمة قريبٌ منه؛ لأن مدارَ الإحسان على هذه الأصول الثلاثة. ولما كان دعاءُ التَّضَرُّع والخُفية يقابلُه الاعتداء بعدم التَّضَرُّع (2) والخُفية، عَقَّب ذلك بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}. وانتصابُ قوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} و {خَوْفًا وَطَمَعًا}، قيل: هو على الحال، أي: ادعوه متَضَرِّعِنَ مُخْتَفِين خائفينَ طامعينَ، وهذا هو الذي يُرَجِّحه السُّهَيْلِيُّ وغيره (3). وقيل: هو نصبٌ على المفعول به، وهذا قولُ كثير من النُّحاة، وقيل: هو نصبٌ على المصدر، وفيه على هذا تقديران؛ أحدهُما: أنهْ منصوبٌ بفعل مقدَّر من لفظ المصدر، والمعنى: تَضَرَّعوا إليه تَضَرُّعًا واخفوا خُفْيَةً، والثاني: أنه منصوبٌ بالفعلِ المذكور نفسه؛ لأنه في معنى المصدر، فإن الدَّاعي متَضرِّعٌ طامعٌ في حصول مطلوبه خائفٌ من فواتِهِ، فكأنه قال: تَضَرَّعوا تضرُّعًا. __________ (1) من قوله: "بجملة خبرية ... " إلى هنا ساقط من (ظ ود). (2) "يقابله الاعتداء بعدم التضرع" سقطت من (ع). (3) انظر: "مشكل إعراب القرآن": (ص/ 279)، و"الكشاف": (2/ 65).

(3/858)


والصحيحُ في هذا: أنه منصوبٌ على الحال، والمعنى عليه، فإن المعنى: ادعوا ربَّكُمْ متضرِّعين إليه خائفينَ طامعينَ (1). ويكونُ وقوعُ المصدر موقعَ الاسم على حد قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، وقولهم: رجل عَدْل، ورجل صَوْمٌ، قال الشاعر (2): * فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ * وهو أحسن من أن يقال: ادعوه مُتَضَرِّعينَ خائفينَ وأَبْلَغُ، والذي حسَّنه أن المأمور به هنا شيئان: الدعاء الموصوف المقيَّد بصفة معيَّنة، وهي صفة التَّضَرُّع والخوف والطمع، فالمقصودُ تقييد المأمور به بتلك الصفة، وتقييد الموصوف الذي هو صاحِبُها بها، فأتى بالحالِ على لفظ المصدر لصلاحِيَّتِهِ لأن يكون صفةً للفاعل وصفةً للفعل المأمور به. فتأمَّل هذه النكتةَ، فإنك إذا قلت: اذكر ربَّك تَضَرُّعًا، فإنك تريد: اذكره متَضَرِّعًا إليه، واذكره ذكر تضرُّع، فأنت مريدٌ للأمرين معًا، ولذلك إذا قلتْ ادْعُهُ طَمعًا، أي: ادعُهُ دعاءَ طمع (3)، وادعُهُ طامعًا في فضله، وكذلك إذا قلت: ادعُهُ رغْبَةً ورهْبَةً، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] كان المرادُ: ادعُهُ راغبًا وراهبًا، وادعُه دعاءَ رغبة ورهبة. فتأمَّلْ هذا الباب تجدْه كذلك، فأتى فيه بالمصدر الدَّالِّ على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييدَ صاحب __________ (1) (ظ ود): "مطيعين". (2) عجز بيت للخنساء من قصيدة ترثيِ أخاها صخرًا "الديوان": (ص/ 383). وصدره: * ترتَعُ ما رَتَعت حتى إذا ادَّكَرَتْ * (3) من قوله: "إليه واذكره ... " ساقط من (ظ ود).

(3/859)


الحال بالحال، ومما يدُلُّك على هذا أنك تجدُ مثلِ هذا صالحًا وقوعُه جوابًا لـ (كيف)، فإذا قيل: كيفَ أدعوه؟ قيل: تَضرُّعًا وخُفْيةً، وتجد اقتضاءَ (كيف) لهذا أشدَّ من اقتضاء: (لِمَ) (1)، ولو كان مفعولًا له لكان جوابًا لـ: (لِمَ)، ولا تحسنُ هنا، ألا ترى أن المعنى ليس عليه، فإنه لا يصِحُّ أن يقال: لمَ أدعوه؟ فيقول: تضرُّعًا وخُفية، وهذا واضحٌ، ولا هو انتصابٌ على المصدر المبيِّن للنَّوع الذي لا يتقيَّدُ به الفاعلُ لما ذكرنا من صلاحيَّته، جوابًا لـ (كيف). وبالجملة؛ فالمصدريَّة في هذا الباب لا تُنافي الحالَ، بل الإتيانُ بالحال هاهنا بلفظ المصدر يُفيد ما يُفيده المصدرُ مع زيادة فائدة الحال، فهو أتمُّ معنىً ولا تنَافِيَ بينهما، والله أعلم. فصل وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فعلَ هذا المأمور به هو الإحسانُ المطلوبُ منكم، ومطلوبُكم أنتم من الله هو رحمته (2)، ورحمتُه قريبٌ من المحسنين، الذين فعلوا ما أُمِروا به من دعائه خوفًا وطمعًا، فقربُ (3) مطلوبكم منكم وهو الرَّحمةُ، بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان، الذي هو في الحقيقة إحسانٌ إلى أنفسكم، فإن الله تعالى هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، له دلالة ٌبمنطوقه، __________ (1) وقع في (ع) في جميع المواضع: "كم" وفي الموضع: الثاني وحده وقع "كم" فى (ق وع وظ) وهو خطأ. (2) هذه الجملة سقطت من (ق). (3) (ق وظ ود): "يقرب".

(3/860)


ودلالةٌ بإيمائه وتعليله، ودلالة بمفهومه؛ فدلالتُه بمنطوقه (1) على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القربَ مستحقٌّ بالإحسان، فهو السببُ في قربِ الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين، فهذه ثلاثُ دلالات لهذه الجملة. وإنما اختصَّ أهلُ الإحسان بقرب الرحمة منهم؛ لأنها إحسانٌ من الله أرحم الراحمين، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحْسَنَ إليهم برحمته. وأما من لم يكنْ من أهل الإحسان فإنه لما بَعدَ عن الإحسان بعدَتْ عنه الرحمةُ بُعدًا ببعدٍ، وقُربًا بقرب، فمن تقرَّب بالإحسان تقرَّب اللهُ إليه برحمته، ومن تباعَدَ عن الإحسان، تباعَدَ اللهُ عنه برحمته، واللهُ سبحانه يحبُّ المحسنينَ، ويبْغِضُ من ليس من المُحسنينَ، ومن أحبَّه الله فرحمته أقربُ شيءٍ منه، ومن أبغضَهُ فرحمته أبعدُ شيءٍ منه. والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظمُ الإحسان الإيمان والتوحيدُ (2) والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتَّوَكُّل عليه، وأن يعبدَ اللهَ كأنه يراهُ إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً، فهذا هو مقامُ الإحسان، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: "أنْ تَعْبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَرَاهُ" (3)، وإذا كان هذا هو الإحسانَ فرحمةُ الله قريبٌ من صاحبه، فإن الله إنما يرحمُ أهل توحيده المؤمنين به. __________ (1) من قوله: "ودلالة بإيمائه ... " إلى هنا سقط من (ع). (2) "الإيمان" سقطت من (ق)، و"التوحيد" مقدمة في (ع). (3) أخرجه البخاري رقم (50)، ومسلم رقم (9) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ومسلم رقم (8) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

(3/861)


وإنما كتب رحْمَتَهُ للذين يَتَّقون ويؤتونَ الزَّكاةَ، والذين هم بآياته مؤمنونَ (1)، والذين يَتَّبِعون رسولَهُ، فهؤلاء هم أهلُ الرحمةِ، كما أنهم هم المُحسنونَ. وكما أحسنوا جُوزوا بالإحسان، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] يعني: هل جزاءُ من أحسن عبادَةَ ربِّه إلّا أن يُحْسِنَ ربُّه إليه؟. قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إلا الجنَّةُ (2). وقد ذكر ابنُ أبي شيبة وغيرُه من حديث الزُّبير بن عَدِي، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ثم قال: "هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "يَقولُ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إلاّ الجَنَةُ" (3). فصل (4) وأما الإخبار عن الرَّحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله: (قريبٌ) وهو __________ (1) (ظ وع): "بآياتنا يؤمنون". (2) ذكره البغوي في "تفسيره": (4/ 276). (3) أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول": (2/ 266)، والبغوي في "تفسيره": (2/ 276)، والديلمي في "مسند الفردوس": (4/ 337) وابن النجار في "تاريخه" كما في "الدر المنثور": (6/ 207). وفي سنده بشر بن الحسين الأصبهاني الراوي عن الزبير بن عدي متهم بالكذب، بل اتهمه أبو حاتم بالكذب على الزبير. انظر "الميزان": (2/ 26) وغيره. (4) انظر للمسألة: "الإنصاف في مسائل الخلاف": (2/ 758 - 782) لابن الأنباري، وساق السيوطي في "الأشباه والنظائر": (3/ 173 - 187) ملخَّص مناظرة بين ابن مالك ومجد الدين الروذراوي في هذه الآية. وساق بعدها (3/ 187 - 195) رسالة لابن هشام في هذه الآية.

(3/862)


مذكَّر، ففيه اثنا عَشَرَ مسلكًا نذكرها، ونبيِّنُ ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب: المسلك الأول: أن فَعِيلًا على ضَرْبين: أحدهما: يأتي بمعنى فاعل، كقَدِير وسَمِيع وعليم. والثاني: يأتي بمعنى مفعول، كقَتِيل وجَرِيح، وكفٍّ خَضِيب، وطَرْف كَحِيل، وشعر دَهِين، كله بمعنى مفعول. فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة، وشَرِيف وشَرِيفة، وصَبِيح وصَبِيحة، ووضيء ووضيئة (1)، ومَلِيح ومَلِيحة، وطويل وطويلة، ونحوه. وإذا أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن (2) يصحب الموصوف، كرجل قَتِيل وامرأة قَتِيل، أو يفرد عنه، فإن صحبَ الموصوف استوى فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، كـ"رجُلٍ قَتِيلٍ وامرَأَةٍ قَتِيلٍ" وإن لم يصحبِ الموصوفَ، فإنه يؤنَّثُ إذا جرى على المؤنَّث نحو "قَتِيلَةُ بني فُلانٍ"، ومنه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... } إلى قوله: {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3]، هذا حكم فعيل. وفعولٌ قريب منه لفظًا ومعنى، فإنهما مشتبهان في الوزن والدّلالة على المبالغة وورودهما بمعنى فاعل ومفعول. ولما كان (فعِيلٌ) أخفَّ استُغْنِيَ به عن (فاعل) في المضاعَف، كـ "جَلِيل وعَزِيز وذَلِيل"، كراهِيَةً منهم لثقل التضعيف إذا قالوا: __________ (1) (ظ): "وصَبي وصَبيَّة". (2) (ظ) زيادة: "يكون".

(3/863)


"جالِل وعازِز وذالِل"، فأتوا بفَعِيل مفصولًا فيه بين المِثْلَين بالياء الساكنة، ولمْ يأتوا في هذا بفعول؛ لأن فعيلًا أخف منه، ولِخفَّتِهِ أيضًا اطَّرد بناؤُه من "فَعُلَ" كشريف وظريف، وجميل ونَبِيل، وليس لـ "فعوِل" بناءٌ يطَّرِدُ منْه، ولخفَّته أيضًا كان في أسماء اللهَ تعالى أكْثَرُ من "فَعُول" فإن الرحيم والقَدير والحَسيب والجَليل والرَّقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرَّؤوف والغَفور والشَّكور والصَّبور والوَدود والعَفُوُّ، ولا يُعرفُ إلا هذه الألفاظ الستة. وإذا ثبتَ التشابُهُ بين "فَعِيل وفَعُول" فيما ذكرنا، وكانوا قد خَصُّوا "فعولًا" الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث، وشرَّكوا بينهما في لفظ المذكر، فقالوا: "رجل صبورٌ وشَكور"، و"امرأة صَبُورٌ وشكور" ونظائرهما، وأما "عدوٌّ وعدوَّةٌ" فشاذٌّ. فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كـ: "رَجُلٍ مَلُولَةٍ وفَروقَةٍ" وامرأة كذلك: وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كـ: "حَلُوبة ورَكُوبة". فإذا تقرَّر ذلك فـ "قريب" في الآية هو فعيل بمعنى فاعل، وليس المرادُ أنه بمعنى قارب، بل بمعنى اسم الفاعل العام، فكان حقَّه أن يكون بالتاء، ولكنهم أجْرَوْه مجرى: فَعِيل بمعنى مفعول، فلم يُلحقوه التاء، كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء، كما قالوا: "خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وفَعْلَة ذَمِيمَةٌ"، بمعنى: محمُودة ومَذْمُومة، فحملًا على: "جَمِيِلة وشَرِيفة" في لحاق التاء فحملوا "قريبًا" على: "امرأة قتِيلٍ وكفٍّ خَضِيب وعين كَحِيل" في عدم لحاق التاء، حمْلًا لكل من البابينِ على الآخر. ونظيره قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس: 78]

(3/864)


فحمل رَمِيمًا وهي بمعنى فاعل على "امرأة قتيلٍ" وبابه، فهذا المسلكُ هو من أقوى مسالك النُّحاة، وعليه يعتمدونَ، وقد اعترضَ عليه بثلاثة اعتراضات: أحدها: أن ذلك يستلزمُ التَّسْوِيَةَ بين اللاَّزم والمتعدِّىِ، فإن "فَعيلًا" بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدي، و"فَعِيلًا" بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم؛ لأنه غالبُ ما يأتي من "فَعُل" المضموم العين, فلو جرى على أحدهما حكم الآخر، لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدِّي وهو ممتنعٌ. الاعتراض الثاني: أنّ هذا إنِ ادُّعِيَ على وجه العموم فباطل، وإن ادُّعِيَ على سبيل الخُصوص فما الضابطُ وما الفرقُ بين ما يسوغُ فيه هذا الاستعمالُ وما لا يسوغُ؟. الاعتراض الثالث: أن العربَ قد نَطَقَتْ في "فَعِيل" بالتاء وهو بمعنى مفعول، وجرَّدَتْهُ من التاء وهو بمعنى فاعل، قال جرير (1) يرثي خالدة (2): نِعْمَ القَرِينُ وكنتِ عِلْقَ مَضِنَّةٍ ... وأرى بِنَعْفِ بُلَيَّةَ الأحجارُ فجرَّدَ "القرين" من التاء وهو بمعنى فاعل، وقال (3): فسَقَاكِ حيثُ حَلَلْتِ غيْرَ فَقِيْدةٍ ... هَزِجُ الرَّوَاحِ ودِيمَةٌ لا تُقْلِعُ فقرن "فقيدة" بالتاء، وهو فعيل، بمعنى مفعول أي: غير مفقودة. __________ (1) "ديوانه": (ص/ 154). (2) (ع): "خالته" و (ق): "والده" والمثبت من (ظ) وهو الصواب، وهي زوجته وأم ابنه حَزْرة. والنعف: أعلى الوادي، وبُلَيَّة: اسم موضع. (3) أي: جرير, "ديوانه": (ص/ 268).

(3/865)


وقال الفرزدق (1): فَدَاوَيْتُهُ عَامَيْنِ وهي قَريبةٌ ... أَرَاها وتَدْنو لي مِرارًا وأَرْشُفُ ويقولون: "امرأَةٌ فَتِينٌ وسَرِيحٌ وهَرِيتٌ" (2)، فجرَّدوه من التاء وهو بمعنى فاعل، وقالوا: "امْرَأَةٌ فَروكٌ، وهَلُوكٌ، ورَشُوفٌ، وأَنُوفٌ، وَرَصوفٌ" (3)، فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور، وقالوا: "امْرأَةٌ عَرُوبٌ" (4)، فجردوه أيضًا، ثم قالوا: "امرَأَةٌ مَلُولَةٌ وفُرُوقَةٌ"، فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضًا، ودعوى أن التاء هاهنا للمبالغة لا دليل عليها، فقد رأيتَ اشتراكَ فَعُول وفَعِيل في الاقتران بالتاء والتجرُّد منها، فدعوى أصالةِ المجرَّد منهما، وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها، ومع مقابِلِها قياسُ اللغة في اقتران المؤنَّث وتجريد المذكَّر. وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}، فهو على وَفْق قياس العربية، فإن العظامَ جمع عَظْم، وهو مذكَّر، ولكن جمعه جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز أن يُرَاعَى فيه تأنيثُ الجماعة، وباعتباره قال: (وهي)، ولم يقلْ: (وهو)، ويُرَاعى فيه معنى الواحد، وباعتباره قال: "رَمِيم"، كما يقال: "عظمٌ رَمِيم"، مع أن رَمِيمًا يطلقُ على (5) المذكر مفردًا __________ (1) "ديوانه": (ص/ 432). (2) فَتِين من الفتنة، والسريح: المطلقة التي لا زوج لها، والهريت: المرأة المفضاة. انظر "القاموس". (3) الفروك: المبغضة لزوجها، والهلوك: الفاجرة أو الحسنة التبعُّل، من الأضداد، والرشوف: طيبة الفم، والأنوف: طيبة رائحة الأنف، ورصوف: ضيِّقة المكان. (4) العروب: المتحببة إلى زوجها. (5) (ق وظ) زيادة: "جمع".

(3/866)


وجمعًا، قال جرير (1): آلُ المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ ... أَمْسَوا رَمِيمًا فلا أَصْلٌ ولا طَرَفُ فهذا الاعتراضُ على هذا المسلكِ. فصل المسلك الثاني: أن "قريبًا" في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر (2): أرى رجلاً منهم أَسِيفًا كأنَّما ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفًا مُخَضَّبا فكفٌّ مؤنَّثٌ، ولكن تأوَّلَه بمعنى عُضْو وطَرَف، فذكر صفتَه، فكذلك تُتأوَّلُ الرحمة وهى مؤنثة بالإحسان، فيذكر خبرها. قالوا: وتأويلُ الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكفِّ بعضوٍ لوجهين: أحدهما: أن الرحمةَ معنًى قائمٌ بالرَّاحم، والإحسان هو بِرُّ المرحوم، ومعنى القُرْب في البر من المحسنين أظهرُ منه في الرحمة. الثاني: أن ملاحظة الإحسان في الرَّحمة الموصوفة بالقُرْب من المحسنين، هو مقابل الإحسان (3) الذي صدر منهم، وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قُوَّةً، واللفظُ جزالةً، حتى كأنه قال: إن إحسان الله قريبٌ من أهل الإحسان، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] فذكر "قريبًا" ليفهم منه أنه صفةٌ __________ (1) "ديوانه": (ص / 308)، وفيه: "أمسو رمادًا". (2) هو: الأعشى "ديوانه": (ص/ 60). (3) من قوله."في الرحمة الموصوفة ... " إلى هنا سقط من (ظ)، وفي (ع): "بالرحمة ... هو مقابلة للإحسان".

(3/867)


لمذكَّر، وهو الإحسانُ، فيفهم المقابلة المطلوبة. قالوا: ومن تأويل المؤنث بمذكَّر ما أنشده الفَرَّاء (1): وَقَائِعُ في مُضَرٍ تِسْعَةٌ ... وفي وائِلٍ كانَتِ العاشِرَهْ فتأوَّلَ الوقائعَ وهي مؤنَّثَةٌ بأيام الحرب المذكَّرة، فأَنَّث العَدَدَ الجاري عليها، فقال: تسعة، ولولا هذا التأويل لقال: تِسْعٌ؛ لأن الوقائع مؤنثة، قالوا: وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال: "جاءَتْهُ كِتابي"، أي: صَحِيفتي، وفي قول الشاعر (2): يا أيُّها الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بني أسَدٍ ما هذهِ الصَّوْتُ أي: ما هذه (3) الصيحَة؟ مع أنه حَمْل أصلٍ على فرع، فَلأَنْ يجوزَ تأويل مؤنث بمذكر، لكونه حَمْل فرع على أصل أولى وأحرى، وهذا وجهٌ جيد، وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين: أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه، لجاز أن يقال: "كَلَّمَتْنِي زَيدٌ، وَأَكْرَمَتْنِي عَمْرٌو، وكَلَّمَنِي هِنْدٌ، وأكْرَمَنِي زَيْنَبُ" تأويلًا لزيْدٍ وعمْرٍو بالنفس والجثة، وتأويلاً لهندٍ وزينبَ بالشخص والشَّبَح، وهذا باطلٌ (4). وهذا الاعتراضُ غيرُ لازم، فإنهم لم يدَّعواْ اطّرادَ ذلك، وإنما ادَّعوا أنه مما يَسُوغ أن يستعملَ، وفَرْق، بين ما يَسُوغُ في بعض الأحيان __________ (1) أنشده ابن الأنباري في "الإنصاف": (2/ 769) بلا نسبةٍ. (2) هو: رُوَيشد بن كثير الطائي، كما في "حماسة أبي تمام": (1/ 102). (3) "ما هذه" من (ع) فقط. (4) من قوله: "زينب، تأويلًا ... " سقط من (ق) وبياض في (ظ).

(3/868)


وبين ما يَطَّرِد كرفع الفاعل ونصب المفعول، وهم لم يدَّعوا أنه من القسم الثاني. ثم إن هذا الاعتراضَ مردودٌ بكلِّ ما يسوغُ استعمالُه بمُسَوِّغٍ وهو غير مُطَّرِد، وهو أكثرُ من أن يذكر هاهنا، ولا ينكرُه نحْوِيٌّ أصلًا، وهل هذا إلا اعتراضٌ (1) على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات؟! وأهلُ العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك، فلو أنهم قالوا: يجوزُ تأويلُ كلِّ مؤنَّث بمذكَّر يوافقه وبالعكس لصحَّ النقض، وإنما قالوا: يسُوغ أحيانًا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمَّنُها (2) التأويل، كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرَّحمة بالإحسان. الاعتراض الثاني: أن حَمْل الرحمة على الإحسان؛ إما أن يكونَ حملًا على حقيقته أو مجازه، وهما ممتنعان، فإن الرحمة والإحسان مُتَغَايرَانِ، لا يلزمُ من أحدهما وجود الآخر؛ لأن الرحمة قد توجدُ وافرةً في حقِّ من لا يتمكَّنُ من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها (3)، وقد يوجدُ الإحسان ممَّن لا رحمةَ في طباعه كالمَلِك القاسي، فإنه قد يُحسِنُ إلى بعض أعدائِهِ وغيرهم لمصلحة مُلْكِهِ مع أنه لا رحمةَ عندَهُ، وإذا تبَيَّنَ انفكاكُ أحدهما عن الآخر لم يَجُزْ إطلاقُه عليه لا حقيقةً ولا مجازًا. أما الحقيقةُ فظاهرٌ، وأما المجازُ فإن شرطهُ خطورُ (4) المعنى المجاري بالبال ليَصِحَّ انتقالُ الذهن إليه، فإذا كان منفكًّا عن الحقيقة __________ (1) (ق وظ): "الاعتراض"!. (2) (ق وع): "يتضمنه". (3) (ظ): "كالوالد العاجز ونحوه" و (ق): "كالوالدة العاجز". (4) (ع): "حضور".

(3/869)


لم يخطرْ بالبال (1)، وهذا الاعتراضُ أفسدُ من الذي قبلَه، وهو من باب التَّعَنُّت والمناكدة. وأين هذا من قول أكثر المتكلمين -ولعل هذا المعترض منهم-: إنه لا معنى للرحمة غالبًا إلا الإحسانُ المحضُ، وأما الرِّقَّةُ والحِنَّة (2) التي في الشاهد فلا يوصفُ الله تعالى بها، وإنما رحمتُه مجرَّدُ إحسانه، ومع أنَّا لا نرتضي هذا القولَ، بل نثبتُ لله تعالى الرحمةَ حقيقةً، كما أثبتها لنفسه منزَّهَةً مبرَّأَةً عن خواصِّ صفاتِ المخلوقين، كما نقوله في سائر صفاته، من إرادتِهِ وسمعِهِ وبصرِهِ وعلمِهِ وحياتِهِ وسائرِ صفات كماله، فلم نذكره إلا لِنُبَيَّنَ فسادَ اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقوله من المُتَكَلِّمينَ. ثم نقول: الرحمةُ لا تنفكُّ عن إرادة الإحسان، فهي مستلزمةٌ للإحسان أو إرادته استلزامَ الخاصِّ للعام، فكما يستحيلُ وجودُ الخاص بدون العام، فكذلك الرحمة بدون الإحسانِ أو إرادتِه يستحيلُ وجودُها. وأما قضيّةُ الأم العاجزة فإنها وإن لم (3) تقدِر على الإحسان بالفعل فهي محسِنةٌ بالإرادة، فرحمتها لا تنفكُّ عن إرادتها التامَّة للإحسان، التي يقترنُ بها مقدورها إمَّا بدُعاء وإمَّا بإيثار بما تقدر عليه، ونحو ذلك، فتخلُّف بعض الإحسان التي لا تقدرُ عليه عن رحمتها لا يخرجُ رحمتَها عن استلزامها للإحسان المقدور، وهذا واضحٌ. وأما المَلِكُ القاسي إذا أحسَنَ فإن إحسانه لا يكون رحمةً، فهذا __________ (1) (ظ): "بالذهن". (2) الحِنَّة: هي رقة القلب. "اللسان": (13/ 129). (3) (ظ): "وإن لم تكن ... ".

(3/870)


لأن الإحسانَ أعمُّ من الرحمة، والأعمُّ لا يستلزمُ الأخصَّ، وهم لم يدَّعوا ذلك فلا يلزمهم، وأيضًا فإن الإحسان قد يقالُ: إنه يستلزمُ الرحمةَ، وما فعلى المَلِكُ المذكور فليس بإحسان في الحقيقة، وإن كانت صورتُهُ صورةَ الإحسان، وبالجملة؛ فالعنتُ والمناكدةُ على هذا الاعتراض أَبْيَنُ من أن (ق/ 213 ب) يتُكَلَّفَ معه رَدّهُ وإبْطَالُه. فصل المسلك الثالث: أن (قريبًا) في الآية من باب حذف المُضَاف وإقامة المُضَاف إليه مقامَه، مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: "إنَّ مكانَ رحمة الله (1) قريبٌ من المُحسنينَ"، ثم حذفَ المكان وأعطى الرحمة إعرابَهُ وتذكيرَهُ. ومن ذلك قولٌ الشاعر -حسَّان (2) -. يَسْقُون من وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... برَدَىَ يُصَفَّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ فقال: يُصَفَّقُ بالياء، وبَرَدَى: مؤنَث؛ لأنه أراد ماءَ بردى، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ بيديه ذهبًا وحريرًا فقال-: "هذان حَرَامٌ على ذكورِ أمتِي" (3)، فقال: "حَرَامٌ" بالإفراد والمخبَرُ عنه مثنَّى، كأنه قال: "استعمالُ هذينِ حَرَامٌ"، وهذا المسلك ضعيفٌ جدًّا؛ لأن حذفَ المُضاف وإقامة المضاف إليه مقامَه، يُسوغُ ادِّعاؤه مطلقًا، وإلا لالتبسَ الخطاب وفَسَد التَّفاهم وتعطَّلَتِ الأدلَّةُ، إذ ما من لفظِ __________ (1) ظ: "الرحمة". (2) "ديوانه": (1/ 74). (3) أخرجه أحمد: (2/ 164 رقم 750)، وأبو داود رقم (4057)، والنسائي: (8/ 160)، وابن ماجه رقم (3595) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو صحيح بشواهده الكثيرة.

(3/871)


أمرٍ أو نهي أو خبرٍ يتضمِّن مأمورًا به (1) ومنهيًّا عنه ومخبَرًا، إلا ويمكنُ على هذا أن يُقَدَّر له لفظ (2) مضاف يُخرجه عن تعلُّق الأمر والنهي والخبرية. فيقول الملحدُ في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أ، أي: معرفة حج البيت، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي: معرفة الصيام، وإذا فُتِحَ هذا الباب فسَدَ التَّخَاطُبُ وتعطَّلَتِ الأدلَّةُ، وإنما يضمَرُ المضافُ حيث يتعيَّنُ ولا يصِحُّ الكلامُ إلا بتقديره للضرورة، كما إذا قيل: "أكَلْتُ الشَّاةَ" فإن المفهوم من ذلك: "أكَلْت لَحْمَها"، فحَذف المضاف لا يُلْبس، وكذلك إذا قلت: "أكَلَ فُلانٌ كَبدَ فُلانٍ": إذا أكل مالَهُ، فإِن المفهوم: أكل ثَمَرَةَ كَبدِه، فحَذْف المضاف هنا لا يُلْبس (3)، ونظائره كثيرة. وليس منه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وإن كان أكثر الأصوليين يمثِّلون به، فإن القوية اسمٌ للسكان في مسكن مجتمع، فإنما تطلقُ القريةُ باعتبار الأمرين، كالكأسِ: لمأ فيه الشَّراب. والذَّنُوب: للدَّلْوِ الملآنِ ماءً، والنهرِ (4). والخِوان: للمائدةِ إذا كان عليها طعامٌ ونظائره. ثم إنهم لكثرة استعمالهم هذه اللَّفظةَ ودورانِها في كلامهم أطلقوها على السُّكَّان تارَةً، وعلى المسكن تارة، بحسب سياق الكلام وبساطه (5)، وإنما يفعلونَ هذا حيث لا لَبْسَ فيه (6)، فلا إضمارَ (ظ /561 ب) في __________ (1) من (ع). (2) (ق وع): "لفظه". (3) من قوله: "وكذلك إذا ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) "النهر" ليست في (ق). (5) معناها هو مضى السياق، واستعملها ابن القيم في "البدائع": (3/ 1130) أيضًا. (6) من (ع).

(3/872)


ذلك ولا حَذْف، فتأمَّلْ هذا الموضعَ الذي خَفِيَ على القومِ مع وضوحه. وإذا عُرِف هذا فقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ليس في اللَّفظ ما يدُلُّ على إرادة (ق /214 أ)، موضع ولا مكانٍ أصلًا، فلا يجوزُ دعوى إضماره، بل دعوى إضماره خطأ قطعًا؛ لأنه يتضمَّنُ الإخبارَ بأن المتكلِّم أرَاد المحذوفَ ولم ينصبْ على إرادته دليلًا لا صريحًا ولا لزومًا، فدعوى المُدَّعي أنه أراده (1) دعوى باطلةٌ. وأما قوله: "بَرَدَى يُصَفَّقُ" فليس أيضًا من باب حذف المُضاف، بل أراد "ببَرَدَى" النهر وهو مُذَكَّرٌ، فوصفه بصفة المذكَّر فقال: يُصَفَّقُ (2)، فلم يُذَكَّرَ بناء على حذف مضاف، وإنما ذُكَر بناءً على أن بَرَدَى المُرادُ به النهرُ. فإن قلتَ: فلابُدَّ من حذف مضاف؛ لأنهم إنما يَسقُونَ ماءَ بَرَدَى لا نفسَ النهر. قلتُ: هذا وإن كان مرادَ الشاعر فلم يلزمْ منه صحَّةُ ما ادَّعاه من أنه ذكر "يُصَفَّقُ" باعتبار الماء المحذوف، فإن تذكيره إنما يكونُ باعتبار إرادة النهر وهو مذكَّرٌ، فلا يدلُّ على ما ادَّعَوْه. وأما قولة - صلى الله عليه وسلم -: "هذانِ حَرامٌ"؛ ففي إفراد الخبر سِرٌ بديعٌ جدًّا، وهو التنبيهُ والإشارةُ على أن كلَّ واحدٍ منهما بمفرده موصوفٌ بأنه حرامٌ، فلو ثَنَّى الخبر لم يكن فيه تنبيهٌ على هذا المعنى، فلهذا أفْرَدَ الخبر، فكأنه قال: "كلُّ واحدٍ من هذين حرامٌ"، فدلَّ إفرادُ الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحدٍ واحدٍ بمفرده، فتأمَّلْه فإنه من بديع __________ (1) من قوله: "إرادته ... " إلى هنا سقط من (ع). (2) من قوله: "فليس أيضًا ... " إلى هنا سقط من (ق).

(3/873)


اللُّغة، وقد تقدَّم بيانهُ في هذا التعليق في مسألة (كِلا وكِلْتا) (1)، وإن قولهم: "كلاهما قائمٌ" بالإفراد لا يدُلُّ على أن (كلا) مفردٌ كما ذهب إليه البصريون، بل هو مثنّى حقيقة، وإنما أفردوا الخبرَ للدلالة على أن الإخبار عن كلِّ واحد منهما بالقيام، وقد قرَّرنا ذلك هناك بما فيه كفاية. فصل المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصِّفَة مقامَهُ، كأنه قال: "إن رحمةَ الله شيءٌ قريبٌ من المحسنين"، أو "لطفٌ قريبٌ"، أو "بِرٌّ قريبٌ"، ونحو ذلك، وحَذْف الموصوف كثير، فمنه قول الشاعر (2): فامت تُبَكِّيْه على قَبْرِهِ ... مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يا عامرُ تَرَكْتَنِي في الدَّار ذا عُرْبَةٍ ... قَدْ ذلَّ من ليس له ناصِرُ المعنى: تَرَكتَنِي شَخْصًا أو إنسانًا ذا غُرْبَةٍ، ولولا ذلك لقالت: تَرَكْتَنِي ذَاتَ غُرْبَةٍ. ومنه قول الآخر (3): فلو أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي ... فِرَاقَكِ لم أبخَلْ وأنتِ صَدِيقُ أراد: وأنت شخصٌ أو إنسان صديقٌ، وعلى هذا المسلك حَمَل سيبويه قولَهم للمرأة: حَائِضٌ وطَامِث وطَالِقٌ، فقال: "كأنهم قالوا: __________ (1) انظر: (1/ 376). (2) أنشده ابن الأنباري في "الإنصاف": (2/ 507) وابن منظور في "اللسان": (4/ 608) بلا نسبة. (3) أنشده الفراء كما ذكر ابن منظور في "اللسان": (13/ 30) بلا نسبةٍ، وهو من شواهد الزمخشري في "المفصل": (ص/ 395)، وابن هشام في "المغني" رقم (38)، وابن عقيل رقم (105).

(3/874)


شيء حائِضٌ وشيء طامِثٌ" (1) وهذا المسلك -أيضًا- ضعيف لثلاثة أوجه: أحدها: أن حذفَ الموصوف وإقامةَ الصِّفة مقامَهُ إنما يحسُنُ بشرطين: أن تكونَ الصِّفَةُ خاصَّةً يُعْلَمُ ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره. الثاني: أن تكونَ الصِّفَةُ قد غلب استعمالها مفردةً على الموصوف (2)، كالبَرِّ والفاجر والعالم والجاهل والمتِّقي والرسول والنبي، ونحو ذلك مما غلب استعمالُ الصِّفَة فيه مجرَّدَةً عن الموصوف، فلا يكاد يجيءُ ذكر الموصوف معها، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14] وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} [الحجر: 45] وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254] وهو كثير جدًّا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسُنُ الاقتصار على الصِّفَة، فلا يحسُنُ أن تقول: "جاءَني طَويلٌ ورأيْتُ جميلًا أو قَبيحًا" وأنت تريد: "جَاءَنِي رجُلٌ طَويلٌ، وَرأيْتُ رَجُلًا جَمِيلًا أو قبيحًا" ولا تقول: "سَكَنْتُ في قَرِيبٍ" تريد: "في مكانٍ قريبٍ" مع دلالة السكنى على المكان. الثاني: أن الشيءَ أعمُّ المعلومات، فإنه يشملُ الواجب والممكنَ، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلامُ بها فصيحًا بليغًا، فضلًا عن أن يكونَ بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، فأيُّ فَصَاحةٍ وبَلَاغةٍ في قول القائل في "حائِضٌ وطامِثٌ وطالِقٌ": __________ (1) "الكتاب": (3/ 383). (2) من قوله: "بعينه لا ... " إلى هنا سقط من (ظ).

(3/875)


"شيءٌ حائِضٌ وشيءٌ طامث وشيءٌ طالقٌ"، وهو لو صرَّح (ظ / 157 أ)، بهذا لاستهجَنَهُ السامعُ، فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمَّنُ فائدةً أصلًا؟! إذ كونه شيئًا أمرٌ معلومٌ عامٌّ لا يدُلُّ على مَدْح ولا ذمٍّ، ولا كمال ولا نقصان. وينبغي أن يُتَفَطَّنَ هاهنا لأمر لابُدَّ منه، وهو أنه لا يجوزُ أن يُحْمَلَ كلام الله عز وجل ويُفَسر بمجرد الاحتمال النَّحْوي الإعرابي الذي يحتملُه تركيبُ الكلام (1)، ويكونُ به الكلام له معنًى ما، فإنَّ هذا مقامٌ (2) غَلِطَ فيه أكثرُ المعربين للقرآن، فإنهم يفسِّرون الآية ويعربونها بما يحتملُهِ تركيب تلك الجملة، ويُفْهَم من ذلك الترِكيبِ أي معنًى اتَّفَقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطع السامعُ بأن مرادَ القرآن غيْرُهُ، وإن احتملَ ذلكَ التركيبُ هذا المعنى في سياقٍ آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزمُ أن يحتملَهُ القرآن. مثل قول (ق/215 أ) بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] بالجرِّ (3): إنه قَسَمٌ (4). ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]: إن المسجدَ مجرور بالعطف على الضمير المجرور في (به) (5). __________ (1) وانظر "مجموع الفتاوى": (15/ 94)، و"قواعد التفسير": (1/ 235) للسبت. (2) (ق): "مقام عظيم". (3) وهي قراءة حمزة. (4) ذكره القُشَيري عن بعضهم وقال: "وهذا تكلُّف"، وأجاب القرطبي بأنه، لا تكلف فيه. انظر "الجامع لأحكام القرآن": (5/ 5). (5) انظر "الجامع لأحكام القرآن": (3/ 31 - 32)، و"البحر المحيط": (2/ 155 - 156) لأبي حيان.

(3/876)


ومثلُ قول بعضهم في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُم وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]: إن (المقيمين) مجرور بواو القسم (1). ونظائر ذلك أضعافُ أضعافِ ما ذكرناه، وأَوْهَى بكثير، بل للقرآنِ عرفٌ خاصٌ ومَعَانٍ معهودةٌ لا يناسبُهُ تفسيره بغيرها، ولا يجوزُ تفسيره بغير عُرْفه والمعهودِ من معانيه، فإنَّ نسبةَ معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ، بل أعظم، فكما أن ألفاظَهُ ملوكُ الألفاظ وأجلُّها وأفصحُها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي تعجَزُ عنها قدر العالمين، فكذلك معانيه أجلُّ المعاني (2) وأعظمُها وأفخمُها، فلا يجوزُ تفسيرُه بغيرها من المعاني التي لا تَلِيقُ به، بل غيرُها أعظمُ منها وأجلُّ وأفخمُ، فلا يجوز حملهُ على المعاني القاصرة، بمجرَّدِ الاحتمال النَّحْوي الإعرابي، فتدبَّرْ هذه القاعدةَ، ولْتَكُنْ منك على بال، فإنك تنتفعُ بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزَيْفها، وتقطعُ أنها ليست مُرَادَ المتكلم تعالى بكلامه، وسنزيد هذا إن شاء الله بيانًا وبسطًا في الكلام على أصول التفسير، فهذا أصلٌ من أصوله بل من (3) أهمِّ أصولِهِ. الوجه الثالث: أن "طالِقًا وحائضًا وطامِثًا" إنما حُذِفَتْ تاؤُه لعدم الحاجة إليها، فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكَّر والمؤنث في محل اللَّبْس، فإذا كانت الصِّفَة خاصَّة بالمؤنَّث فلا لَبْس، فلا حاجة إلى التاء، هذا هو الصَّوَابُ في ذلك، وهو المذهبُ الكوفيُّ. فإن قلت: هذا خلافُ مذهب سيبويه. __________ (1) لم أر من ذكر هذا القول. (2) من قوله "وأفصحها ... " إلى هنا سقط من (ظ). (3) من (ع).

(3/877)


قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصِّل بردِّ موجب الدليل الصحيح لكونه خلافَ قول عالم معيَّن، هذه طريقةُ الخفافيش، فأما أهلُ: البصائر فإنهم لا يردُّون الدليلَ وموجبه يقول مُعَيَّنٍ أبدًا، وقليلٌ ما هم. ولا ريْبَ أن أبا بشر (1) -رحمه الله- ضَرَبَ في هذا العلمِ بالقِدْح المُعَلَّى، وأَحْرَزَ من قَصَبَات سَبْقِهِ، واستولى من أمدِهِ (2) على ما لم يَسْتَوْلِ عليه غيرُهُ، فهو المُصَلِّي في هذا المضمار، ولكن لا يوجبُ ذلك أن يُعْتَقَدَ أنه أحاطَ بجميع كلامِ العرب، وأنه لا حقَّ إلا ما قالَهُ، وكم (ق/215 ب) لسيبويه من نَصٍّ قد خالفه جمهورُ أصحابه فيه، والمُبَرِّزونَ منهم، ولو ذهبنا نذكرُ ذلك لطال الكلام به. ولا تنسَ قولَه في باب الصِّفة المُشَبَّهَةِ (3): "مَرَرْتُ برَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهُهُ" بإضافة حسن إلى الوجه، والوجه إلى الضمير، ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك، فسيبويه رحمه اللهُ ممن يُؤْخَذُ من قوله ويترك، وأما أن نعتقدَ صحَّة قوله في كلِّ شيءٍ فكلاَّ، وسنفردُ إن شاء الله كتابًا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه، وبيان الراجح من ذلك، وباللهِ التوفيق والتَّأْييد. فإن قلت: يكفي في رد ما اخترتموه في "حَائِض وطامِث وطَالِق" من المذهب الكوفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] فهذا وصف يختصُّ به الإناث، وقد جاء بالتاء. __________ (1) يعني: سيبويه. (2) (ع): "أصله"، والأمد: الغاية. (3) "الكتاب": (1/ 194 - 195).

(3/878)


قلت: ليس في هذا -ولله الحمد- ردٌّ لهذا المذهب ولا إبطال له، فإن دخولَ (ظ / 157 ب) التاء هاهنا يتضمَّنُ فائدةً لا تحصلُ بدونها فتعيَّنَ الإتيانُ بها، وهي: أن المراد بالمرضعة فاعِلَةُ الرَّضَاع، فالمرادُ الفعل لا مجرد الوصف، ولو أُرِيْدَ الوصفُ المجرَّد بكونها من أهل الإرضاع لقيل: "مُرْضِعٌ" كحَائِض وطَامِث. ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْبلُ الله صَلاةَ حَائِضٍ إلاّ بِخِمَارٍ" (1) فإن المرادَ به الموصوفة بكونها من أهل الحَيْض لا من يجري دمُها، فالحائضُ والمُرْضِعُ وَصْف عامّ، يقالُ (2) على من لها ذلك وصفًا، وإن لم يكنْ قائِمٌا بها، ويقال على مَنْ قام بها الفعلُ، فأُدْخِلت التاءُ هاهنا إيذانًا بأن المُرَادَ: مَنْ تفعل الرَّضَاع، فإنها تذهلُ عمَّا تُرْضِعُهُ لشدَّة قوله زلزلة الساعة، وأكَّدَ هذا المعنى بقوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} فعُلِم أن المُرادَ: المُرضِعَةُ التي تُرْضِعُ بالفعل لا بالقوَّة والتَّهَيُّؤ، وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا. فصل المسلك الخامس: أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه، إذا كان صالحًا للحذف والاستغناء عنه بالثاني، كقول الشاعر (3): لمَّا أتى خَبَر الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُورُ المَدِينَةِ والجَبِالُ الخُشَّعُ __________ (1) أخرجه أحمد: (6/ 150)، وأبو داود رقم (641)، والترمذي رقم (377)، وابن ماجه رقم (655)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 612)، والحاكم: (1/ 251). والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم على شرط مسلم. وأعله الدارقطني بالوقف. انظر: "نصب الراية": (1/ 295). (2) (ق وظ): "فقال". (3) البيت لجرير "ديوانه" (ص / 270).

(3/879)


وقال الآخر (1): مَشَيْنَ كما اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَها مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ وقال الآخر: بَغْيُ النُّفُوسِ مُعِيدَةٌ نَعْمَاءَهَا ... نِقَمًا، وإنْ عَمِهَتْ، وطالَ غُرُورُها فأنَّثَ الأوَّلُ: "السُّورَ" المضاف إلى المدينة، والثاني: "المَرَّ" المُضَافَ إلى الرِّياح، (ق/216 أ) والثالثُ: "البَغْيَ" المُضاف إلى النفوس، لتأنيث المُضاف إليه مع أن التذكير أصلٌ والتأنيث فرع، فحُمِل الأصل على الفرع، فَلأَنْ يجوزَ تذكيرُ المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى؛ لأنه حَمْل للفرعِ (2) على الأصل. ومنْ الأول أيضًا قول الشاعر (3): وتَشْرَقُ بالأَمْرِ الذي قد أَذَعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ منَ الدَّمِ فأنث "الصَّدْرَ" لإضافته إلى القناة. وأنشدني بعضُ أصحابنا لأبي محمد بن حزم، في هذا المعنى بإسناد لا يحضرُني: تجنَّب صديقًا مثل ما، واحذرِ لذي ... تراه كعَمْرو بين عُرْبِ وأعجمِ فإن صديقَ السَّوْءِ يُرْدِي وشاهدي ... كما شَرِقَتْ صدْرُ القناةِ من الدَّمِ __________ (1) البيت لذي الرمة "ديوانه": (2/ 754)، والرواية فيه: *رويدًا كما اهتزت ..... * (2) (ع وظ): "حَمَل الفرعَ". (3) البيت للأعشى "ديوانه": (ص/183).

(3/880)


ومنه قول النابغة الذبياني (1): حتى اسْتَغَاثَتْ بأهلِ المِلْحِ ضَاحِيَةً ... يَرْكُضْنَ قد قَلِقَتْ عقد الأطانيبِ ومنه قول لبيد (2): فمضى وقَدَّمَها وكانَتْ عادَةً ... منهُ إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُهَا وهذا المسلكُ وإن كان قد ارتضاه غيرُ واحد من الفضلاء فليس بقَويٍّ؛ لأنه إنما يُعْرَفُ مجيئهُ في الشعر، ولا يُعرفُ في الكلام الفصيح منه إلا النَّادر، كقولهم: "ذَهبَتْ بعضُ أَصابِعِهِ" والذي قوَّاه هاهنا شدَّةُ اتِّصال المُضاف بالمضاف إليه، وكونُه جزؤُه حقيقة، فكأنه قال: "ذَهبَتْ إصْبَعٌ أو إصْبَعَانِ مِنْ أصَابعِهِ"، وحَمْل القرآن على المكثور الذي خلافُهُ أفصحُ منه ليس بسهل. فصل المسلك السادس: إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر؛ لكونه تَبعًا له ومعنًى من معانيه، فإذا ذُكر أغنى عن ذكره؛ لأنه يُفهم منه. ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: 4] فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها، ومنه في أحدِ الوجوه قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرضُوهُ} [التوبة: 62]، المعنى: واللهُ أحقُّ أن يُرضوه __________ (1) "ديوانه": (ص/ 50) لكن الرواية فيه: حتى استغاثت بأهل الملح ما طَعِمَت ... في منزلٍ طَعْم نومِ غيرَ تأويبِ (2) من معلقته انظر "شرح المعلقات": (ص/ 550) لابن الأنباري.

(3/881)


ورسولهُ كذلك، فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله، إذ إرضاؤُه هو أرضاءُ رسولِهِ، فلم يحتجْ أن يقول: يرضوهما، فعلى هذا يكون الأصل في الآية: "إنَّ الله قَرِيبٌ من المُحْسِنينَ، وإن رحمةَ اللهِ قريبةٌ من المُحْسِنين"، فاستغنى بخبرِ المحذوف عن خبر الموجود، وسَوَّغَ ذلك ظهورُ المعنى، وهذا المسلكُ مسلكٌ حَسَنٌ إذا كُسِي تعبيرًا أحسنَ من هذا، وهو مسلكٌ لطيفٌ المَنْزِع دقيقٌ على الأفهام، وهو من أسرار القرآن. والذي ينبغي أن يعَبَّرَ عنه به: أن الرحمة صِفَةٌ من صِفَات الرب تبارك وتعالى، والصِّفَةُ قائمة بالموصوف (ظ / 158 أ) لا تفارِقُهُ؛ لأن الصفة لا تفارقُ موصوفَها، فإذا كانت قريبةً من المُحسنين (ق / 216 ب) فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قربُ رحمته منه تَبَعٌ لقُرْبه هو تبارك وتعالى من المُحسنينَ. وقد تقدَّم في أوَّل الآية أن الله تبارك وتعالى قريبٌ من أهل الإحسان بإثابته، ومن أهل سؤاله بإجابته، وذكرنا شواهدَ ذلك، وأن الإحسانَ يقتضي قربَ الرَّبِّ من عبده، كما أن العبدَ قرُبَ من ربِّه بالإحسان، وأن من تَقَرَّبَ منه شِبرًا تقرَّب اللهُ منه ذراعًا، ومن تَقَرَّبَ منه ذراعًا تَقَرَّبَ منه باعًا، فالربُّ تبارك وتعالى قريبٌ من المحسنين، ورحمتُه قريبةٌ منهم، وقربُهُ يستلزمُ قربَ رحمته، ففي حذف التاء هاهنا تنبيهٌ على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريبٌ من المحسنين، وذلك يستلزمُ القُربين: قربَه وقربَ رحمته، ولو قال: "إن رحمةَ الله قريبةٌ من المحسنين"، لم يدُلَّ على قربه تعالى منهم؛ لأن قربَهُ تعالى أخصُّ من قرب رحمته، والأعمُّ لا يستلزمُ الأخصَّ، بخلاف قربه، فإنه لما أكان أخصَّ استلزمَ الأعمَّ، وهو قرب رحمته،

(3/882)


فلا تستهِنْ بهذا المسلك، فإنَّ له شأنًا، وهو متضمِّنٌ لسِرٍّ بديع من أسرار الكتاب، وما أظنُّ صاحبَ هذا المسلكِ قَصَدَ هذا المعنىَ ولا أَلَمَّ به، وإنما أراد أن الإخبار عن قُرْبِه تعالى من المحسنين كافٍ عن الإخبار عن (1) قُرْب رحمته منهم. فهو مسلك سابع في الآية، وهو المختار، وهو من أَلْيَقِ ما قيلَ فيها، وإن شئتَ قلت: فُرْبُهُ تبارك وتعالى من المحسنين، وقُرْب رحمته منهم متلازمانِ، لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخر، فإذا كانت رحمتُه قريبةً منهم فهو أيضًا قريبٌ منهم، وإذا كان المعنيانِ متلازمينِ صحَّ إرادةُ كلِّ واحد منهما (2)، فكان في بيان قُرْبه سبحانه من المُحسنينَ من التَّحريض على الإحسان، واستدعائه من النفوس، وترغيبها فيه [غايةُ] (3) حظٍّ لها وأشرفُه وأجلُّه على الإطلاق، وهو أفضلُ عطاءٍ أُعْطِيَهُ العبدُ، وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غايةُ الأماني، ونهاية الآمال، وقرَّة العيون، وحياة القلوب، وسعادة العبد كلها، فكان في العدولِ عن "قريبة" إلى "قريب" من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلَّفُ بعده إلا من غَلَبَتْ عليه شقاوَتُهُ، ولا قُوَّة إلا بالله تعالى. فصل المسلك الثامن: أن الرحمة مصدرٌ، (ق/217 أ) والمصادر كما لا تثنَّى ولا تجمع، فحقها أن لا تؤنث، وهذا المسلك ضعيف جدًّا، __________ (1) (ع وظ): "من". (2) من قوله: "فهو أيضًا ... " إلى هنا ساقط من (ع). (3) في النسخ: "بعامة" وغير بينّة في (ع) والمثبت من "المنيرية".

(3/883)


فإنَّ الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وقوله فيما حكى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ، أَوْ سَبَقَتْ غَضَبِي" (1)، ولو كان حذفُ "التاء" من الرحمة لكونها مصدرًا، والمصادرُ لا حظَّ للتأنيث فيها، لم يَعُدْ عليها الضمير إلا مذكَّرًا، وكذلك ما كان من المصادر بالتاء، كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها، وفي بطلان ذلك دليلٌ على بطلان هذا المسلك. فصل المسلك التاسع: أن "القريب" يراد به شيئان: أحدهما: النَّسَب في القرابة، فهذا بالتاء، تقول: "فُلانَةٌ قَريبةٌ لي". والثاني: قرب المكان وهذا بلا "تاء"، تقول: "جَلَسَتْ (2) فُلانَةٌ قَرِيبًا منِّي"، ولا تقول: "قَريبةً مني" وهذا مسلك الفَرَّاء وجماعة، وهو أيضًا ضعيفٌ، فإن هذا إنما هو إذا كان لفظُ القريب ظرفًا فإنه يذكَّر كما قال، تقول: "جَلَسَتِ المَرْأَةُ مني قَرِيبًا" فأما إذا كان اسمًا محضًا فلا. فصل (3) المسلك العاشر: أن تأنيثَ الرحمة لما كان غيرَ حقيقيٍّ سَاغَ فيه حذف "التاء"، كما تقول "طَلَعَ الشَّمْسُ وَطَلَعتْ"، وهذا المسلكُ. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3694)، ومسلم رقم (2751) من حديث أبى هريرة - رضى الله عنه -. (2) من (ظ). (3) سقط من (ق وظ).

(3/884)


أيضًا فاسدُ، فإن هذا إنما يكون إذا أُسْنِد الفعل (ظ / 158 ب) إلى ظاهر المؤنث. فأما إذا أُسْنِد إلى (1) ضميره فلابُدَّ من التاء كقولك: "الشَّمْسُ طَلَعَتْ"، وتقول: "الشَّمْسُ طَالِعةٌ" ولا تقول: "طالع"؛ لأن في الصفة ضميرها، فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء. فصل (2) المسلك الحادي عشر: أن "قريبًا" مصدرٌ لا وصفٌ، وهو بمنزلة النقيض، فجُرِّد من "التاء"؛ لأنك إذا أخبرتَ عن المؤنث بالمصدر لم تَلْحَقْهُ "التاءُ"، ولهذا تقول: "امْرَأَةٌ عَدْلٌ" ولا تقول: "عَدْلَةٌ" و"امرأةٌ صَوْمٌ، وصَلاةٌ، وصِدْقٌ، وبِرٌّ" ونظائره، وهذا المسلكُ من أفسد ما قيل عن "القريب"، فإن "القريب" (3) لا يُعْرَفُ استعمالُه مصدرًا أبدًا، وإنما هو وصف، والمصدرُ هو القُرْب لا القريب. [فصل] المسلك الثاني عشر: أن "فَعِيلًا وفَعُولًا" مطلقًا يستوي فيهما المذكَّرُ والمؤنث، حقيقيًّا كان أو غير حقيقي، كما قال امرؤُ القيسِ (4): بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَةٌ رَخْصَةٌ ... كَخُرْعُوبَةِ البَانَةِ المُنْفَطِرْ __________ (1) (ع): "إليه". (2) سقط من (ق وظ) (3) "فإن القريب" من (ع). (4) "ديوانه": (ص/ 157). البَرَهْرَهة: الرقيقة الجلد، والرؤدة والرَّخصة: الناعمة اللينة، وخرعوبة البانة: القضيب الغض الطري.

(3/885)


فَتُوْرُ القيام قطيعُ الكلام ... تَفْتَرُّ عن ذي غُروبٍ خَصرْ وقال أيضًا (1): له الوَيْلُ إن أمسى ولا أمُّ هاشمٍ ... قريبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابنةُ يَشْكُرا وقال جرير (2): أَتَنْفَعُكَ الحَيَاةُ وأُمُّ عمرٍو ... قَرِيبٌ لا تَزُورُ ولا تُزَارُ وقال جرير أيضًا (3): كأْن لم نُحَارِبْ يا بُثَيْنُ لو انَّهَا ... تَكَشَّفُ غُمَّاهَا، وأَنْتِ صَدِيقُ وقال أيضًا (4). دَعَوْنَ الهَوَى ثم ارْتَهَنَّ قُلوبَنَا ... بِأَسهمِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صديقُ قالوا: وشواهدُ ذلك كثيرةٌ، وفي هذا المسلك غُنْيَةٌ عن تلك التَّعَسُّفات والتَّأويلات. وهذا المسلكُ ضعيفٌ أيضًا، وممَّن ردَّه أبو عبد الله بن مالك فقال (5): هذا القولُ ضعيف؛ لأن قائِلَهُ إما أن يُريدَ أن "فَعِيلًا" في هذا الموضع وغيره يستحِقُّ ما يستحِقُّه "فَعُولٌ" من الجَرْي على المذكَّر والمؤنَّث بلفظٍ واحد، وإما أن يريدَ أن "فَعِيلًا" في هذا __________ (1) "ديوانه": (ص/68). (2) "ديوانه": (ص/ 182). (3) كذا في الأصول، والصواب أن البيت لجميل بن معمر، انظر "ديوانه": (ص/144). (4) "ديوان جرير": (ص/ 315)، والرواية فيه: دعونَ الهوى ثمَّ ارتمينَ قلوبنا ............. (5) في رسالته في تذكير (قريب) من هذه الآية، منشورة في (مجلة الإكليل، السنة السابعة 1409) تحقيق الحموز.

(3/886)


الموضع خاصَّةً محمول على "فَعُول". فالأوَّلُ مردودٌ؛ لإجماع أهل العربية على التزام التاء في "ظريفة وشريفة" وأشباههما وَزْنًا ودلالة، ولذلك احتاج علماؤُهم أن يقولوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، وقوله: {وَلَم أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]: أن أصل "بَغُوي" على فَعول، فلذلك لم تلحقه التاءُ، ثم أُعِلَّ بإبدال الواو ياء، والضمة كسرة، فصار لفظُه كلفظ "فَعِيل"، ولو كان فَعِيلًا أصلًا للحقته التاءُ، فقيل: "لم أكُ بغيَّةً". والثانى أيضًا مردودٌ؛ لأن لـ "فَعِيل" على "فَعُول" من المزايا ما لا يليقُ به أن يكون تَبَعًا له، بل العكس أولى أن يكونَ "فعولٌ" تبعًا لـ"فَعِيل"؛ ولأنه يتضمَّن حَمْل "فَعِيل" على "فَعُول" وهما مختلفان لفظًا ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأنَّ "قريبًا" لا مُبَالغةَ فيه، لأنه يوصفُ به كلُّ ذي قُرْب وإن قلَّ، و"فَعُول" لابدّ فيه من المبالغة. وأيضًا فإن الدَّالَّ على المبالغة لابُدَّ أن يكونَ له بِنَيَةٌ لا مبالغَةَ فيها، ثم يُقْصدُ به المبالغةَ، فتُغيَّر بنيته كـ "ضَارِب وضَرُوب، وعَالِم وعَلِيم"، و"قريبٌ" ليس كذلك، فلا مبالغةَ فيه. وأما بيت امرئ القيس فلا حجَّة فيه لوجوه: أحدها: أنه نادرٌ فلا حكمَ له، فلا كَثُرَتْ صُوَرُهُ، ولا جاءَ على الأصل، كـ "اسْتَحْوَذَ، واسْتَنْوق البعيرُ، وأغْيَمَتِ السَّمَاءُ، واعْوَرَّ واحْوَلَّ" وما كان كذلك فلا حكمَ له. الثاني: أن يكونَ أراد قطيعةَ القيام، ثم حذف التاء للإضافة، فإنها تجوزُ بحذفها عند الفراء وغيره، وعليه حمل قوله تعالى:

(3/887)


{وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] أي: إقامتها؛ لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظُ الإقامة، ولا يقال: "إقام" دون إضافة، كما لا يقال: (ق/218 أ) "إرادُ" في إرَادَة، ولا: "إقَالُ" في إقالة؛ لأنهم جعلوا هذه التاء عِوَضًا عن ألف "إفعال" أو عينه؛ لأن أصل: "إقَامَة: إقْوَام" فنقلت حركة العين إلى "الفاء فانقلبت ألفًا، فالتقتْ ألِفان، فحُذِفت إحداهما، فجاءوا بالتاء عوضًا، فلزمتْ إلاّ مع الإضافة، فإن حذفها جائزٌ عند قوم قياسًا، وعند آخرين سماعًا، ومثلها في اللَّزوم تاء: "عِدَة وزِنَة" وأصلهما "وَعَدَ ووَزَنَ"، فحُذِفت الواو، وجُعِلَتِ التاء عِوَضًا منها فلزمتْ. وقد تُحْذَفُ للإضافة (ظ / 159 أ) كقول الشاعر (1): إنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ وانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الذي وَعَدوا أي: أخلفوك عِدَة الأمر، فحذف التاء، وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء (2): {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] بالهاء أي: عُدَّتَهُ فحذف التاء (3). الثالث: أن يكونَ "فَعيل" في قوله: "قَطِيع القيامٍ" بمعنى مفعول؛ لأن صاحبَ "المحكم" (4) حكى أنه يقالَ: قَطْعَهُ وأقْطَعَهُ: إذا بَكَّتَهُ، وقُطِعَ هو فهو قَطِيع القول، فقَطِيع على هذا بمعنى مَقْطُوع، أي: مُبَكَّتٌ، فحَذْف التاء على هذا التَّوجيه ليس مخالفًا للقِياس، وإن __________ (1) هو: العباس بن الفضل، ذكره الجوهري في "الصحاح": (2/ 551)، منسوبًا لزهير وهو من شواهد ابن عقيل: (4/ 285) في شرحه. (2) قال ابن جني: سُمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، انظر: "المحتسب": (1/ 293)، و"روح المعاني": (10/ 111). (3) من قوله: "وعلى هذه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) (1/ 90).

(3/888)


جعل قَطِيعًا مبنيًّا على: قَطُع، كسريع من سَرُع، فحقُّه على ذلك أن يلحقَهُ التاءُ عند جَرْيه على المؤنَّث، إلا أنه شُبِّهَ بفعيل الذي بمعنى مفعول، فأُجْريَ مجراه. فهذا تمامُ اثني عشر مسلكًا في هذه الآية، أصحُّها المسلكُ المركَّبُ من السادس والسابع، وباقيها (1) ضعيفٌ وواهٍ ومحتمل. والمبتدئُ والمقلِّدُ لا يدركُ هذه الدقائق، والفاضل المنصف لا يخفى عليه قَوِتُّها من ضعيفها، وَلْيكنْ هذا آخِرَ الكلام على الآية، والله أعلم. فائدة (2) خبرُ المبتدإ إما مفرد وإما جملة، فإن كان جملةً؛ فإما أن تكونَ هي نفس المبتدإ أو غيره، فإن كانت نفس المبتدإ لم تحْتَجْ إلى رابط يربطُها به، إذ لا رابطَ أقوى من اتحادهما نحو قولي (3): "الحمد لله". وإن كانت غيرَ المبتدإ (4)؛ فلابدَّ فيها من رابط يربطُها بالمبتدإ لئلا يُتَوَهَّمَ استقلالُها وانقطاعُها عن المبتدإ؛ لأن الجملة كلامٌ قائمٌ تامٌّ بنفسه، وذلك الرابط لا يتعيَّنُ أن يكونَ ضميرًا، بل يجوزُ أن يكونَ ضميرًا، وهو الأكثرُ، واسم إشارة كقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ} __________ (1) (ق): "وباقيها فيها"، و (ظ): "وباقيها فيه". (2) (ق): "فصل"، وليست في (ع) والمثبت من (ظ)، وهذه الفائدة بنحوها في "نتائج الفكر": (ص/418 - 420) للسهيلي. (3) (ق وظ): "قولك". (4) "وإن كانت غير المبتدأ" سقطت من (ق).

(3/889)


أَصحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 10] .. ونظائره كثيرة. أو اسمًا ظاهرًا قائمًا مقامَ المُضْمَر، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]. وقد يُستغنى عن الضمير إذا عُلم الرابطُ (1) وعدم الاستقلال بالسياق، وباب هذا التفصيل بعد الجملة، ففيه يقعُ الاستغناءُ عن الضمير (2) كثيرًا كقولك: "المَالُ لِهؤُلاءِ: لِزَيْدٍ درْهَمٌ، ولِعَمْرٍو دِرْهْمَانِ، ولخَالدٍ (ق/ 218 ب) ثَلاثَةٌ"، ومثله: "النَّاسُ واحِدٌ في الجَنَّةِ، ووَاحِدٌ في النَّارِ"، ولا حاجة بنا إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره: "لِزَيْدٍ منه درْهَمٌ، وواحِدٌ منهم في الجَنَّةِ"، فإنَّ تفصيل المبتدإ بالجملة بعدَه رابطٌ أغنى عن الضمير فتأمَّلْهُ. ومثلُه: "السَّمْنُ مَنَوَان بدِرْهَمٍ"، وهذا (3) بخلاف قولك: "زَيْدٌ عَمْروٌ مُسَافِرٌ" فإنه لا رابطَ بينهما بوجه، فلذلك يحتاجُ أن يقولَ: "في حاجته" ونحو ذلك ليفيدَ الإخبار. هذا حكمُ الجملة. وأمَّا المفرد؛ فقد اشتهر على ألسنة النُّحاة: أنه إنْ كان مشتقًّا فلابُدَّ من ضمير يربطُه بالمبتدإ، وإن كان جامدًا لم يَحَتَجْ إلى ضمير، وبعضُهم يَتكَلَّفُ تأويلَه بالمشتقِّ. وهذا موضع لابُدَّ من تحريره، فنقول: الخبر المفرد لما كان نفسَ المبتدإ كان اتِّحَادُهما أعظمَ رابطٍ يمكنُ، فلا وجهَ لاشتراط الرَّابط بعد هذا أصلًا، فإن المخاطَب يعرفُ أن الخبرَ مسندٌ إلى المبتدإ -وأنه هو نفسُه، ومن هنا يُعْلمُ غلط المنطقيِّين في قولهم: "إنه لابُدَّ من الرَّابط، __________ (1) (ع): "الربط". (2) من قوله: "إذا علم ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) من قوله: "منهم في الجنة ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/890)


إما مضمَرًا وإما مظهَرًا" وهذا كلامُ مَنْ هو بعيد من تصوُّر المعاني وارتباطها بالألفاظ، ولا تَسْتنكِرْ (1) هذه العبارةَ في حقِّ المنطقيينَ فإنهم من أفسدِ الناس تَصَوُّرًا، ولا يُصَدِّقُ بهذا إلا مَنْ عَرَف قوانينَ القوم، وعَرَفَ ما فيها من التَّخبيط والفساد. وأما إن كان الخبرُ اسمًا مشتقًّا مفردًا فلابُدَّ فيه من الضمير، ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدإ بل الجالبُ له أن المشتقَّ كالفعل في المعنى، فلابُدَّ له من فاعل ظاهر أو مضمر. فإن قيل: وما الذي يدُلُّ على أن في الفعل ضميرًا حتى يكونَ في ثانيه ضمير؟. فإذا قلت: "زَيْدٌ قَائم" فإن هذا اللَّفظ (ظ / 159 ب) لا ضميرَ فيه يُسمع، فدعوى تحمُّله للضمير دعوى محضة. قيل: الذي يدلُّ على أن فيه الضمير: تأكيدُهم له وعطفُهم عليه وإبدالُهم منه، كقولك في التأكيد: "إنَّ زَيْدًا سَيَقُومُ نَفْسُهُ" برفع "نفس"، وفي العطف كقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ} [المسد: 3، 4] فـ "امرأتُه" رُفِعَ عطفًا على الضمير في "سَيَصْلى"، وفي البدل قولك: "إنَّ زَيْدًا يُعْجِبُنِي عِلْمُهُ"، على أن يكونَ "علمُه" بَدَلَ اشتمال لا فاعل، فإذا كان المشتَقُّ مفرَدًا كان الضميرُ الذي فيه اسمًا، فعلًا كان أو اسمًا، نحو: "زَيْدٌ ذَهبَ (2) وزيْدٌ ذَاهِبٌ". وأما في التثنية والجمع؛ فلا يكونُ ضميرًا إلا في الأفعال، نحو: "يَذْهَبَانِ ويَذْهَبُونَ" وأما في الأسماء؛ فإنه لا يكون فيها إذا ظهر، إلا علامةً لا ضميرًا، نحو: "ذاهبانِ (ق/219 أ) وذَاهِبُونَ" فهما في الاسم __________ (1) (ق): "تستكثر". (2) (ق): "يذهب".

(3/891)


حرفان، وفي الفعل اسمان، برهانُ ذلكْ انقلابُهما في الاسم "ياء" في التثنية والجمع، كما ينقلبان فيما لا يتحمل ضميرًا كالـ "زَّيْدَيْنِ والزَّيْدِينَ" ولو كانا ضميرًا كـ "هما" في الفعل لبقِيا على لفظ واحد، كما تقول في الفعل: "هؤُلاءِ رِجَالٌ يَذْهَبُونَ"، و"مَرَرْتُ بِرِجَالٍ يَذْهَبُون"، و"رَأَيْتُ رِجَالًا يَذْهَبُونَ"، وكذلك في التثنية سواء، فلا يتغيَّر لفظ "الواو"؛ لأنها فاعلٌ، وليست علامةَ إعراب الفعل، فثبتَ بهذا صحَّةُ دعوى النُّحاة على العرب: أن الضميرَ المستتر في الاسم المشتقِّ لا يظهرُ في تثنيةٍ ولا جمع، وأن الضميرَ المستترَ في الفعل يظهرُ في التَّثنية والجمع. ولولا الدليلُ الذي ذكرناه لما عُرِفَ هذا أبدًا؛ لأن العرب لم تُشَافِهْنا بهذا مشافهةً، ولا أفصحتْ عن هذا القَدْر في هذا ونحوه، إلا باستقراء كلامها والتَّتَبُّع لأنحائها ومقاصدها المُوصل إلى غرائب هذه اللُّغة وأسرارها وحِكَمِها. فإن قيل: فقد عَرَفنا صِحَّةَ ذلك، فما هي الحكمةُ التي من أجلها فرَّقوا بين المَوْطِنَيْنِ فجعلوها ضمائرَ في الأفعال، وحروفًا في الأسماء؟. قيل: في ذلك حكمةٌ بديعةٌ، وهي: أن الأسماءَ لما كان أصلها الإعراب كانت أحوجَ إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار. والأفعال أصلُها البناءُ، ولم يكنْ لها بُدٌّ من الفاعل ضَرورة، فكانت أحوجَ إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب، مع أن هذهِ العلامةَ في الأسماء علامةُ تثنية وجَمْع، وحَرْف إعراب أيضًا، والأفعالُ لا تُثَّنى ولا تُجمع إذ هي مشتَقَّةٌ من المصدر، وهو لا يُثَّنْى ولا يُجمعُ؛ لأنه يدُلُّ على القليل والكثير يلفظ واحد، هذه عِلَّةُ النُّحاة.

(3/892)


وفيه علَّةٌ أخرى أصَحُّ من هذه وألطفُ وأدَقُّ، قد تَقَدَّمَتْ في أول هذا التعليق (1). وإذ ثبت أن الأفعال لا تُثَّنى ولا تُجمع، وعلامة التَّثْنِيَةِ والجمع حروفُ إعراب، فلا يكونُ "الواو والألف" إلا علامةَ إضمار، ولا يكونُ في الأسماء -وإن احتملتِ الضمائرَ- إلا علامةُ تثنية وجمع و (2) حروف إعراب على قول سيبويه (3)، أي: محل الإعراب، أو هى الإعراب نفسها على قول قُطْرُب وغيره، بمنزلة الحَرَكات في المفرد، أو دليل إعراب على قول (4) الأخفش وأبي العباس المُبَرِّد (5). فصل (6) هذا حكم الخبر إذا كان مفردًا أو جملة، فأما إذا (ق/219 ب) كان واقعًا موقعَ الخبر، وليس هو نفسُهُ خبرًا، كالظَّرْف والمجرور، فإنه وأقعٌ موقِعَ مُشْتَقٍّ متَحَمِّلٍ للضَّمير، وهو إما مفردٌ وإما جملة. وأكثر النُّحاة يقدَّرُونه بمفرد مشتَقٍّ، نظرًا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، فتقديرُه كذلك موافقٌ للأصل، وأيضًا فإنما قُدِّرَ لضَرورة صِحَّة الكلام، فإن الظرفَ والمجرورَ ليس هو نفس المبتدأ، وما قُدِّرَ للضَّرُورة لا يُتَعَدَّى به ما تقتضيه الضَّرورةُ، وهي تزولُ بالمفرد، فتقديرُ الجملة مستغنى عنه مع أنه خلافُ الأصلِ. __________ (1) (1/ 47 - 51). وانظر المسألة العاشرة في "نتائج الفكر". (2) "النتائج": "أو". (3) "الكتاب" (1/ 13). (4) سقطت من (ع). (5) انظر: "المقتضب": (2/ 153). (6) انظر أصل المسألة في "نتائج الفكر": (ص/ 421 - 425).

(3/893)


وأيضًا: فإنه قُدِّر للتَّعلُّق، وهذا التَّعلُّق يكفي فيه المفردُ، وأيضًا فإنه يقعُ في موضع لا يصحُّ فيه تقدير الجملة، كقولك: "أمَّا عِنْدَكَ فَزَيْدٌ، وأمَّا في الدَّار فعَمْرٌو" فإن "أمَّا" لا يليها إلا اسمٌ مفرد، فإذا تعيَّنَ المفردُ هاهنا، يرجحُ في (ظ/ 160 أ) الباقي، ليجريَ البابُ على سَنَن واحد، ولا ينتقض هذا بوقوعه في صِلَةِ الموصول، كقولك: "جَاءَنِي الَّذي في الدَّارِ"، إذ يتعيَّنُ تقديرُ الجملة؛ لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر، لا في التقدير في سائر الأبواب، كالصِّلَة والصِّفَة والحال، ولا يلزمُ من تعين الجملة في التَّقدير في الصِّلَة تعيُّنُها ولا ترجيحها في باب المبتدإ. وسأل أبو الفتح ابن جِنِّي أبا عليٍّ (1) عن هذه المسألة، فلم يراجعه بجواب شافٍ أكثرَ من أن قال له: تقدير الاسم هاهنا أولي؛ لأن خبرَ المبتدأ في أغلبِ أحواله اسم. وكَشْفُ الغطاء عن هذه المسألة أن يقالَ: الجار هنا لا يُتَصَوَّر تعلُّقه بفعل محض؛ إذ الفعل المحضُ ما دَلَّ على حَدَث وزمان، ودلالته على الزمان بِبِنْيته، فإذا لم يكن له وجود في اللَّفظ، لم يكن له بنيَةٌ تَدُلُّ على الزَّمَان، مع أن الجارَّ لا تعلُّقَ له بالزَّمانِ، ولا يَدُلُّ عليَه، إنما هو في أصل وضعِهِ لتقييد الحَدَث وجرِّه إلى الاسم على وجهٍ مَّا من الإضافة، فلا تعلُّقَ له إلا بالحَدَث، والحدث الذي هو المصدرُ لا يمكن تقديرُه هاهنا لأنه خبرُ المبتدإ، والمبتدأُ ليس هو الحَدَثَ، فَبَطَلَ أن يكون التقدير: "زَيْدٌ اسْتِقْرارُ (2) في الدَّارِ"، وبطَلَ -أيضًا بما تقدَّم- أن يكون التقدير: "زَيْدٌ اسْتَقَرَّ في الدَّارِ"، ألا ترى __________ (1) أي: الفارسي شيخه. (2) (ق): "استقر"!.

(3/894)


أنه يقبُحُ أن يقال: "زَيْدٌ في الدَّارِ أمْسِ، أو: أوَّلَ مِنْ أَمْسِ". وإذا بطل القسمان -أعني إضمار المصدر والفعل- لم يبق إلا القسم الثالث وهو: إضمار اسم الفاعل فتصِحّ (1) الفائدتانِ: إحداهما: (ق / 220 أ)، أن يكون خبرًا عن المبتدإ، ويُضمرُ فيه ما يعودُ عليه، إذ لا يمكنُ ذلك في المصدر. والثانية: أن يصِحَّ تَعَلُّق الجارِّ به، إذ مطلوبه الحَدَث، واسم الفاعل متضمِّنٌ للحَدَث لا للزمان. إذا (2) عُرِف هذا فلا يَصِحُّ ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل، وإن كان في موضعِ خبر أو نعت (3)، وإنما يرتفعُ بالابتداء كما يرتفعُ في قولك: "قَائِم زَيْدٌ" بالابتداء لا بـ "قائم" خلافًا للأخفش، فإذا قلت: "في الدَّارِ زيْدٌ"، فارتفاع "زَيْد" بالابتداء لا بالاستقرار (4). فإن قلت: أليس إذا قلت: "زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ" و"رَأَيْتُ رَجُلًا قَائِمًا أَبُوه" و"مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ" فيرتفع الاسمَ بـ "قائم" إذا كان معتمدًا على مبتدإ أو مَنعوت أو ذي حال، وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي، نحو: "أَقَائِمٌ زيْدٌ" و"مَا قَائِمٌ زَيْدٌ". قيل: اسم الفاعل مشتقٌّ، وفيه لفظ الفعل ومعناه، فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرتَ، التي يَقْوَى بها معنى __________ (1) (ظ): "فتتضح". (2) هنا في "النتائج": (ص/422) بداية فصلٍ جديد. (3) (ع): "ارتفعت". (4) انظر "شرح المفصَّل": (6/ 79) لابن يعيش.

(3/895)


الفعل، عَمِلَ عَمَلَ الفعل، بخلاف: "قَائِمٌ زيْدٌ" فإنه لا قرينةَ معه تقتضي أن يعملَ عَملَ الفعل، فحُمِل على أصلِهِ من الابتداء والخبر. فإن قبل: فهلاَّ قلت: إن الظرفَ والمجرورَ إذا اعتُمِدَ كما يُعْتَمدُ اسم الفاعل، أنه يرفع: الاسم كما هو مَعْزِيٌّ إلى سيبويه، فإذا قلتَ: "زَيْدٌ في الدَّارِ أَبُوه" كان "أبوه" مرفوعًا بالظرف، كما إذا قلت: "زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ". قلتُ: قد توهَّم قوم أن هذا مذهبُ سيبويهْ، وأنَّكَ إذا قلت: "مَرَرْتُ بِرَجُلٍ معه صَقْرٌ" أنَّ "صقرًا" مرفوعٌ بالظرف لاعتماده على الموصوف، وكنا نظنُّ: ذلك زمانًا حتى تَبَيَّنَ أن هذا ليس بمذهبه، وأنه غَلَطٌ عليه، وقد بيَّن أبو سعيد السِّيرافي مرادَ سيبويه من كلامه، وشَرَح وجْهَ الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعْه في كتابه (1). والفرقُ بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدَّم: أن اسم الفاعل: مشتقٌّ وفيه لفظ الفعل: ومعناه، فإذا اعتُمِد أو اقترنَتْ به قرينةٌ، قَوِيَ جانب الفعليَّة فيه فعَمِلَ عَمَلَ الفعل، وأما الظرفُ فلا لفظَ للفعل فيه، إنما هو معنًى يتعلَّقُ به الفعلُ وبدُلُّ عليه، ولم يكنْ في قوَّة القرينة التي يعتمدُ عليها أن تجعلَه كالفعل، كما لم يكنْ في قُوَّته إذا كان ملفوظًا به دون قرينة أن يكونَ كالفعل، فإذا اجتمعَ (ظ / 160 ب) الاعتمادُ المُقَوِّي لمعنى الفعل مع اللَّفظ المشتقِّ من الفعل عَمِلَ الاسمُ حينئذٍ عَمَلَ الفعلِ. ووجه آخر (ق / 220 ب)، من الفرقِ بين المسألتينِ: أنك إذا قلت: "مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ" فالقيامُ -لا مَحَالَةَ- مسنَدٌ إلى الأب في __________ (1) شرح السيرافى على كتاب سيبويه طبع جزء منه ولم يطبع كاملًا.

(3/896)


المعنى، وهو في اللَّفظ جار (1) على "رجل"، والكلامُ له لفظ ومعنى، فـ "قائمٌ" في اللفظ جارٍ على ما قبلَهُ وفي المعنى مسنَدٌ إلى ما بعدَهُ، وأما الظرف والمجرور فليس كذلك، إنما هو معنى يتعلَّقُ به الجار، وذلك المعنى مسنَدٌ إلى الاسم المرفوع وخبَرٌ عنه، فصحَّ أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه، والجملةُ في موضع نعتٍ أو خبر. فإن قيل: فيلزمكم إذا قدَّمتم الظرفَ في موضع الخبر، وقدَّرتم فيه ضميرًا يعودُ على المبتدإ، أن تُجيزوا: "في الدَّارِ نَفْسُهُ زَيْدٌ"، و"فيها أَجْمَعُونَ إِخْوَتُكَ"، وهذا لا يُجَوِّزُهُ أحدٌ، وفي هذا حُجَّةٌ للأخفش، ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف. قيل: إنما قَبُحَ توكيد المضمَر إذا كان الظرفُ خبرًا مقدَّمًا؛ لأن الظرفَ في الحقيقة ليس هو الحاملَ للضمير، إنما هو متعلِّقٌ بالاسم الحامل للضمير، وذلك الاسم غيرُ موجود في اللَّفظ حتى يقالَ: إنه مقدَّمٌ في اللفظ مؤخَّرٌ في المعنى، وإذا لم يكن ملفوظًا به فهو في المعنى والرُّتبة بعد المبتدإ، والمجرورُ المقدَّمُ قبل المبتدإ دالٌّ عليه، والدالُّ (2) على الشيء غيرُ الشيء، فلذلك قَبُحَ: "فيها أجْمَعُونَ الزَّيْدُونَ" (1)؛ لأن التوكيد لا يتقدَّم على المؤكد، ولذلك صحَّ تقديمُ خبرِ "إن" على اسمها إذا كان ظرفُا، لأن الظرف ليس هو الخيرَ في الحقيقة، إنما هو متعلِّقٌ بالخبر، والخبر منوِيٌّ في موضعه مقدَّرٌ في مكانه؛ ولذلك لم ينكسرْ أصلُ الخليل في منعه تقديمَ خبر المبتدإ مع كثرة هذا النحو في الكلام، أعني: "في الدَّارِ زَيْدٌ" ولذلك عَدَل __________ (1) (ق): "جار ومجرور"! ثم سقط من هنا إلى قوله: "ما بعده". (2) "عليه، والدال" سقطت من (ق).

(3/897)


سيبويه في قولهم: "فيها قَائِمًا رَجُلٌ"، و: "لِمَيَّة مُوحِشًا طَلَلُ" (1) إلى أن جَعَل الحالَ من النكرة، ولم يجعلْها حالًا من الضمير الذي في الخبر؛ لأن الخبر مؤخَّر في النية، وهو العامل فى الحال وهو منوِيٌّ (2)، والحال لا يتقدَّمُ على العامل المَنْوِيِّ، فهذا كلُّه مما يبيِّنُ أن الظرفَ والمجرور ليس هو الخبرَ في الحقيقة، ولا الحاملَ للضمير، ولا العاملَ في شيءٍ من الأشياء، لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل. ومن جهة المفعول أن "الدَّار" إذا انفردت بلفظها، لم يَصِحَّ أن تكون خَبَرًا عن "زيْد"، ولا عاملة ولا حاملة للضمير، وكذلك "في" و"من" وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيءٌ من ذلك، فقد وضَحَ أن الخبرَ غيرُها، وأنها واقعةٌ موقِعَه، والله أعلم. فإن قيل: فما تقول فيما حكاه الزَّجَّاجي (3) عن بعض النُّحاة أنك إذا قلت: "قَائِم زيْدٌ" أن "قائمًا" مبتدأ و"زيد" فاعل به سدَّ مسَدَّ الخبر؟. قيل: هذا وإن كان قد جَوَّزَهُ بعضُ (ق/221 أ) النُّحاة فهو فاسدٌ في القياس؛ لأن أسمَ الفاعل اسمٌ محضٌ، واشتقاقُه من الفعل لا يوجبُ له عمل الفعل كـ "مَسْجِد ومَرْقَد ومِرْوَحَة ومِغْرَفة"، ولكن إنما يعَملُ __________ (1) صدر بيت منسوب لكُثَيِّر عزَّة "ديوانه": (2/ 210)، وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب": (2/ 123). وعجزه: *يلوح كأنه خلل* (2) (ق) و"النتائج": "معنوي" وكذا ما بعدها. (3) في "الجمل": (ص 49 - 50)، وهو: عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي النحوي صاحب "الجمل" وغيره ت (339). والزجاجي: نسبةً إلى شيخه الذي تخرج به: أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزجاج ت (321). انظر: "بغية الوعاة": (2/ 77)، (1/ 411 - 413).

(3/898)


إذا تقدَّم ما يطلبُ الفعل، أو كان في موضع لا تدخلُ عليه العواملُ اللَّفظيةُ نحو: النعت والخبر والحال، فيقْوَى حينئذٍ معنى الفعل فيه، ويعضدُ هذا من السماع أنهم لم يحكوا: "قَائِمٌ الزَّيْدَانِ"، و"ذَاهِبٌ إخْوَتُكَ" عن العرب، إلاّ على الشرط الذي ذكرنا، ولو وَجَد الأخفشُ ومن قال بقوله سماعًا لاحتجُّوا به على الخليل وسيبويه، فإذا لم يكنْ مسموعًا وكان بالقياس مدفوعًا؛ فأَحْرِ به أن يكونَ باطلًا ممنوعًا!!. فإن قلت: فما تصنعُ في قول الشاعر (1): خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فلا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذا الطَّيْرُ مَرَّتِ فهذا صريح في أن "خبير" مبتدأ، و"بنو لهب" فاعل به. وفي قول الآخر (2): فَخَيْرٌ نحنُ عندَ النَّاسِ مِنْكُم ... إذا الدَّاعِي المُثَوِّبُ قَالَ: يَالا قلت: أما البيتُ الأوَّلُ فعلى شذوذه ونُدْرته لا يُعْرَفُ قائلُه، ولم يُعْرَفْ أن متقدِّمي النُّحاة وأئمَّتَهم استشهدوا به، وما كان كذلك فإنه لا يُحتجُّ به باتفاق، على أنه لو صَحَّ أن قائله حُجَّةٌ عند العرب، لاحتملَ أن يكون المبتدأُ محذوفًا مضافًا إلى بني لِهْب، وأصلُه: "كُلُّ بَني لِهْبٍ خَبِيرٌ" و"كلُّ" يخبَرُ عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق (3)، ثم __________ (1) هذا الشاهد منسوب لرجلٍ من طيء ولم يُعيَّن كما ذكر المؤلف، وقد أنشده ابن هشام في عدد من كتبه، وابن عقيل في شرحه: رقم (42). (2) هو: زهير بن مسعود الضبي. انظر: "نوادر أبي زيد": (ص / 21)، و"الخصائص": (1/ 276 و 2/ 375) وأنشده ابن عقيل في شرحه: (1/ 194). (3) (1/ 376).

(3/899)


حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامَه فاستحقَّ إعرابَه. ويدلُّ على إرادة العموم عجزُ البيت وهو قوله: ... فلا تَكُ مُلغَيا ... مقالةَ لِهْبِيٍّ ... أفلا ترى كيف يُعطي هذا الكلامُ أن كلَّ واحدٍ من بني لِهْبٍ خَبِيرٌ فلا تَلْغِ مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ (1). وكذلك البيت الثاني فلا متعلّق فيه أصلًا؛ لأن أفعلَ التفضيل إذا وقع خَبَرًا عن غيرِه، وكان مقترِنًا بمن كان مفردًا على كلِّ حال، نحو: "الزَّيْدُونَ خَيْرٌ مِنَ العَمْرِينَ" (2). فصل (3) إذا ثبت هذا؛ فيجوزُ في اسم الفاعل إذا اعْتُمِد على ما قبلَه، أو: كان معه قرينةٌ مقتضيةٌ للفعل وبعده اسم مرفوع وجهانِ: أحدها: أن يكون خَبَرًا مقدَّمًا، والاسمُ بعدَهُ مبتدأٌ، وأن يكونَ مبتدأً والمرفوعُ بعدَه فاعلٌ به (4). نحو: "أَقَائِمٌ زيدٌ"، و"ما قَائِمٌ عَمْروٌ" ونحوه، إلا أن يمنعَ مانعٌ من ذلك، وذلك في ثلاث مسائل: أحدها: قولك: "زَيْدٌ قَائِمٌ أَخوَاهُ" فإنَّ هذا يتعيَّنُ فيه أن يكونَ __________ (1) وأجاب ابن هشام في "شرح القطر": (ص / 273) بأنّا نحمله على التقديم والتأخير، فـ "بنو لهب" مبتدأ، و"خبير" خبره؛ لأن فعيلًا قد يستعمل للجماعة، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. (2) وانظر ما أجاب به في "مغني اللبيب": (1/ 219). (3) ليست في (ق)، وانظر "نتائج الفكر": (ص/425 - 426) مع زيادات هنا مهمة. (4) من (ق).

(3/900)


"أَخَوَاهُ" فاعلًا بِـ "قَائِم"، ولا يجوزُ أن يكون "أخواه" مبتدأً و"قائم" الخبر؛ لعدم المطابقة. الثانية: قولُك: "زَيْدٌ قَائِمَانِ أَخَوَاهُ"، فإنَّ هذا يتعتَّنُ فيه على الأفصح أن يكون مبتدأً وخبرًا، ولو كان من باب الفعل والفاعل لقلت: "قَائِم أَخَوَاهُ" كما تقول: "قَامَ أَخوَاهُ". الثالثة: قولك: "زَيْدٌ قَائِمٌ أنْتَ إليه"، و"زَيْدٌ قَائِمٌ هُوَ" إذا كان الفاعلُ ضميرًا منفصلًا، فإنَّ هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبرًا؛ لأن الضميرَ المنفصلَ لا يكونُ فاعلًا مع اتِّصاله بعامله، إنما يكون فاعلًا إذا لم يمكن اتِّصاله نحو: "ما قَائِمٌ (1) إلا أنْتَ" ونحو: "الضَّارِبُهُ هو". فإذا عرفتَ هذا؛ فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المبعث: "أَوَ مُخْرجِيَّ هُم" (2)؛ "مُخْرِجِيَّ" يتعينُ أن يكون خبرًا مقدَّمًا، و"هم" مبتدأ (3)؛ لأنَّ الرواية اتَّفَقَتْ على تشديد "مُخْرِجِيَّ" (4) وكان أصلَه: "مُخْرِجُونَ لِي" فحذف اللام وأُضيف "مُخْرِجُونَ" إلى الياء، فسقطت نون الجمع؛ لأنها تسقط للإضافة فصار: "مُخْرِجُوْي" (5)، فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكنٌ، فقُلِبَت الواو ياءً فصار (6) مِثْلان، فأُدْغِم أحدهما في الآخر فجاء: "مُخْرِجِيَّ". ومثله: "ضَارِبيَّ ومُكْرِميَّ"، ولو أن الصِّفَةُ هاهنا رافعةٌ للضمير __________ (1) (ع وق): "قام". (2) أخرجه البخاري رقم (3)، ومسلم رقم (160) من حديث عائشة - رضي الله عنها-. (3) وانظر "فتح الباري": (1/ 36). (4) من قوله: "هم، مخرجيّ ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (5) (ع): "مخرجون لي" و (ق): "مخرجوني" وكلاهما تحريف. (6) (ق): "فصارا".

(3/901)


لكانت مفردةً، وكان يُقَالُ: "أو مُخْرِجيْ هُم"؟ بالتخفيف، كما تقول: "أَضَاربِي إِخْوَتُكَ"؟ ولو جعلتَه مبتدأً وخَبرًا لقلت: "أَضَارِبيَّ" بالتشديد، والله أعلم. فإن قلت: "ما هُم بمُخْرِجيَّ" تعيَّن التشديد ليس إلا؛ لأن الفاعل لا يتقدَّمُ، فلو خفَّفْتَ لكانت المسألة في باب الفعل والفاعل. والفاعلُ لا يتقدَّمُ عاملَه، كان أخَّرْتَ الضميرَ جاز لك الوجهانِ كما تقدم. فصل (1) قولهم: "ظروفُ الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث" (2) ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل يُعْرَف من العلة في منع ذلك، والعلَّةُ: أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث، وكانوا محتاجينَ إلى تقييد حوادثهم وتأريخها بأزمنة تقارنُها معلومة عند المتكلِّم والمخاطب، كما يقدرونها بالأماكن التي تقعُ فيها، جعل (3) اللهُ سبحانه وتعالى حَرَكات الشَّمس والقمر، وما يحدثُ بسببهما من الليل والنَّهار والشهور والأعوام، معيارًا يَعْلَم به العِبَادُ مقاديرَ حوادثِ أفعالها وتأريخها ومعيارها، لشدَّة حاجتهم إلى ذلك في الآجال، كالعِدَد والإجارات والسَّلَم والديون المؤجَّلة، ومعرفة مواقيت الحجِّ والصِّيام وغيرها، فصارت حركةُ الشمس والقمر تأريخًا وتقييدًا ومعيارًا للأفعال والحياة والموت والمولد، وغير ذلك. فالزمانُ إذًا عبارةٌ عن مقارنة حادثٍ لحادث، مقارنة الحادث __________ (1) ليست في (ظ)، و (ق): "فائدة". وانظر: "نتائج الفكر": (ص/426 - 428). (2) انظر "الجمل": (ص/ 50)، و"اللمع": (1/ 28)، و"الإنصاف": (1/ 61). (3) (ظ وع): "جعله".

(3/902)


(ق/222 أ) من الحركة العُلْوية (1) للحادث من حركات العباد ومعيارًا له (2)، ولهذا سمَّاه النُّحاة ظرفًا؛ لأنه مكيالٌ ومِعْيَارٌ يعلم به مقدار الحركة (3) والفعل وتقدُّمه وتأخره، وقربه وبعده، وطوله وقصره، وانقطاعه ودوامه. فإذا أخبرتَ أن فعلَكَ قارَنَ ذلك الحادثَ المعلومَ من حركة الشمس والقمر، يُوَقَّتُ له ويُقَيَّدُ به فسمِّي وقتًا، وهو في الأصل مصدرُ: وقَّتُّ الشَّيءَ أُوَقِّتُهُ (4): إذا حدَّدته وقَدَّرْته، حتى لو أمكن أن يقيَّدَ ويؤرَّخ بما يقارنُ الفعل من (ظ / 161 ب)، الحوادث غير الزمان استَغْنى عن الزمان، نحو: "قُمْتُ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمِيرِ"، و"عِنْدَ قُدُوْمِ الحَاجِّ"، و"عنْدَ مَوْتِ فُلانٍ"، لكن ذلك لا يشتركُ علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضانَ ونحوه، ولا يطَّرد مع أنه أيضًا توقيتٌ وتاريخ بالزمان في الحقيقة، فإن قولك: "عِنْدَ خُرُوج الأَمِيرِ وقُدُومِ الحَاجِّ" إنما تريدُ يه هذه الأوقاتَ والأزمنةَ، ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين (5) إنما هى أجزاءُ الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك. وإذا عُرِف هذا فلا معنى لقولك: "زَيْدٌ اليَوْمَ وعَمْروٌ غَدًا"؛ لأن __________ (1) (ق): "المعلومة"!. (2) وانظر في تعريفه: "بيان تلبيس الجهمية": (1/ 562)، و"مدارج السالكين": (3/ 133). (3) من قوله: "العلوية للحادث ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) يقال: وقَّتَ الشيءَ يُوَقِّته، ووَقَتَه تَقِتُه، من باب وعَدَ يَعِد، انظر: "اللسان": (2/ 107). (5) (ع): "المتخاطبين".

(3/903)


الجُثَثَ ليست بأحداث فتحتاجَ إلى تقييدها بما يقارنُها وإلى تأريخها بما يحدث معها، فما ليس بَحَدَث فلا معنى لتقييده بالحَدَث الذي هو الزمان. وعلى هذا فإذا أردتَ حدوثَ الجثة ووجودها، فهو أيضًا حادثٌ، فيجوزُ أن يخبرَ عنه بالزمان إذا كان الزمانُ يَسَعُ مُدَّتَها، تقول: "نحن في المائة الثامنة"، و"كان الأَوْزاعي في المائة الثانية"، و"الإمام أحمد في المائة الثالثة"، ونحو هذا. وعلى هذا فإذا قلت: "اللَّيْلَةَ الهِلالُ" صَحَّ، ولا حاجة بك إلى تكلُّف إضمار "الليلة طلوع الهلال"، فإن المرادَ حدوثُ هلال ذلك الشهر، فَجَرى مَجْرى الأحداث، وكذلك تقول: "الوَرْدُ في أَيَّارَ" وتقول: "الرُّطَبُ في شَهْرِ كَذَا وكَذَا" ومنه قول الشاعر (1): أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَخوُونَهُ ... يُلْقِحُه قَوْمُ وتَنْتِجُونَهُ ومثله قولك: "البَدْرُ لَيْلَةُ أرْبَعَ عَشْرَةَ" ولا حاجةَ إلى تكلُّف: "طلوع البدر"، بل لا يصِحُّ هذا التقدير؛ لأن السائل إذا سألك: "أَيُّ وَقْتٍ البَدْرُ" فإنه لم يسألْك عن الطُّلوع، إذ هو لا يجهلُه، وإنما يسألُك عن ذات البدر ونفسه، فقولك: "هو لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ" تريد به، أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرًا لا ليلةَ طلوعه، فتأمَّلْه. وعلى هذا فلا يسوغُ هذا الاستعمالُ حتى يكونَ الزَّمانُ يسَعُ ما قيَّدْتَهُ به من الحَدَث (ق/222 ب) والجثة التي في معناه، فلو كان الزَّمانُ أضيقَ من ذلك لم يَجُزِ التقييدُ به؛ لأن الوقت لا يكون أقلَّ من __________ (1) نسبه البغدادي في "الخزانة": (1/ 407) لقيس بن حُصين الحارثي، وهو من شواهد سيبويه: (1/ 65)، وأنشده ابن الأنباري في "الإنصاف": (1/ 62).

(3/904)


المؤقَّت، فلا تقول: "نَحْنُ في يَوْم السَّبْتِ" وإن صحَّ أن تقول: "نحن في المِائَةِ الثَّامِنَةِ" ولا تقول: "الَحجَّاجُ في يوم الخَمِيسِ" وتقول: "الحجَّاجُ في زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ" والله أعلم. فصلٌ (1) قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193] مما أشكل إعرابُه على فحول العربية، واختلفت أقوالهم في ذلك. فقال صاحب "الكشاف" (2): "سواء اسم بمعنى الاستواء، وُصِف به كما يوصفُ بالمصادر، ومنه قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكم} [آل عمران: 64]، وقوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 10] بمعنى: مُسْتَوِيَةٌ، وارتفاعُه على أنه خبرٌ لـ "إِنَّ" و"أَنْذَرْتَهُمْ أم لم تُنْذِرْهُم" في موضع رفع (3) على الفاعلية، كأنَّه قيل: "إنَّ الذين كفروا مُسْتَوٍ عليهم إنذارُك وعَدَمُهُ"، كما تقول: "إنَّ زيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابنُ عَمِّهِ"، أو (4) يكون: "أنْذَرْتَهم أم لم تُنْذِرْهم" في موضع الابتداء، و"سواءٌ" خبرًا مقدَّمًا، بمعنى: "سواء عليهم إنذارك وعدمه"، والجملةُ خبر لـ"إنَّ". __________ (1) ليست في (ظ)، و (ق): "فائدة" بدلًا من "قوله عز وجل"، وانظر: "نتائج الفكر": (ص/ 428 - وما بعدها). (2) (1/ 25 - 26). (3) في "الكشاف": "المرتفع به". (4) في الأصول: "و" والمثبت من "الكشاف".

(3/905)


قال: "فإن قلتَ: الفعلُ أبدًا خبرٌ لا مخبَرٌ عنه، فكيف صحَّ الإخبارُ عنه في هذا الكلام؟. قلتُ: هو من جنس الكلامِ المهجورِ فيه جانبُ اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلَونَ في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلًا بيِّنًا، من ذلك قولهم: "لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ" معناه: لا يكنْ منكَ أكلُ السمكِ وشربُ اللَبن، وإن كان ظاهرُ اللفظ على ما لا يَصحُّ من عَطْفِ الاسم على الفعل، و"الهمزة وأَمْ" مجردتان بمعنى (1) الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسًا. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام، كما جرى على حرف النِّداء في قولك: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَة"، يعني: أن هذا جرى على صُورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على سورة النِّداء ولا نداء، ومعنى الاستواء: استواؤهما في علم المُستفهم عنهما؛ لأنه قد عَلِمَ أن أحد (ظ / 162 أ) الأمرين كائنٌ؛ إما الإنذارُ وإما عدمُهُ، ولكن لا بعينه، وكلاهما معلومٌ بعلم غير معيَّن. قلت: هذا قولُه وقولُ طائفة من النحاة، وقد اعْتُرِض على ما ذكره بأنه يلزمُ القائل به أن يجيز: "سَوَاءٌ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ" دون أن تقول: "عَلَيَّ أو عَلَيْكَ"، وأنه يجيزُ: "سِيَّانِ أَذَهَبَ زَيْدٌ أمْ جَلَسَ" و"متفقان أقَامَ زَيْدٌ أم (ق/223 أ)، قَعَدَ"، وما كان نَحْوَ هذا مما لا يجوزُ في الكلام ولا روي عن أحد؛ لأن التقدير الذي قدَّروه منطبقٌ على هذا. وقالت طائفةٌ أخرى (2): "سَوَاءٌ" هاهنا مبتدأ، والجملة الاستفهامية __________ (1) "الكشاف": "لمعنى". (2) انظر: "الحجة": (1/ 200) لأبي علي الفارسي.

(3/906)


في موضع الخبر، وإنما قالوا هذا، وإن كان "سواء" نَكِرةً؛ لأن الجُمَل لا تكون في موضع المبتدإ أبدًا، ولا في موضع الفاعلِ، وأُوْرِد عليهم: أن الجملةَ إذا وقعتْ خبرًا فلابُدَّ فيها من ضَمير يعودُ على المبتدأ، فأين الضمير العائد على "سواء" هاهنا؟ فأجابوا عن هذا: بأنَّ "سَوَاءٌ" وإن كان مبتدأً في اللّفظِ فهو في المعنى خبرٌ؛ لأن المعنى: "سَوَاءٌ عَلَيْهم الإنْذَار وتركُهُ"، قالوا: ولا يلزمُ أن يعودَ من المبتدأ ضميرٌ على الخبر، فلما كان "سواءٌ" خبرًا في المعنى دون اللفظ رُوْعي المعنى. ونظير هذا قولهم: "ضَرْبي زَيْدًا قائِمًا"، فإنه لم يعُدْ على "ضربي" ضميرٌ من الحال التي سدَّت مَسَدَّ الخبر؛ لأنّ معناه: "أَضْرِبُ زَيْدًا أو ضَرَبْتُ زَيْدًا" والفعلُ لا يعودُ عليه ضميرٌ، فكذلك ما هو في معناه وقوَّته. ونظيره أيضًا: "أقائم أَخُوكَ"؛ لأن: "أخوك" وإن سدَّ مسَدَّ الخبر، فإنه فاعلٌ في المعنى، و"قائِمٌ" معناه معنى الفعل الرافع للفاعل (1)، فرُوْعيت هذه المعانى في هذه المواضع وهُجِر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وبقي حكم الابتداء مقتضيًا للرَّفع لفظًا، والمبتدأ متضمِّنٌ لمعنى يخالف معنى الابتداء، فحُكم لذلك المعنى فلم يعُدْ على اللفظ ضمير، وحُكِم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع. فهذا قول هذه الطائفة الأخرى، واعترض عليه -بعد الاعتراف بحُسْنه وقوَّته-: بأن العرب لم تَنْطِقْ بمثل هذا في "سواء" حتى قَرَنَتْهُ بالضمير المجرور بـ "على" نحو: "سَوَاءٌ علَيْهم وسَوَاءٌ عليكم وسواء __________ (1) (ع وق): "للفعل".

(3/907)


عَلَيَّ" فإن طَرَدوا ما أصَّلوه في "سَوَاء"، سواء (1) قُرِن بـ "على" أم لم يُقْرَن فليس كذلك، وإن خصُّوه بالمقرون بـ "على" فلم يُبَيِّنُوا سِرَّ اختصاصه بذلك. وقالت طائفةٌ ثالثةٌ -منهم السُّهَيْليُّ (2) وهذا لفظُه-: "لما كانتِ العربُ لا تقول: "سِيَّانِ أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ" ولا: "مِثْلانِ" ولا "شِبْهَان"، ولا يقولون ذلك إلا في "سواء" مع المجرور بـ"عَلَى" وجبَ البحثُ عن السِّرِّ في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام، وعن المُساواة بَيْنَ أيِّ شيءٍ هي؟ وفي أيِّ الصِّفات هي من الاسمين الموصوفين بالتَّساوي؟ فوجدنا معنى الكلام ومقصودَهُ إنما هو تَسَاوٍ في عدم المبالاة بقيامٍ أو قعود إو إنذار أو ترك إنذار، ولو أرادوا المساواةَ في صِفَة موجودةً في الذات لقالوا: "سَوَاءٌ الإقَامَة والشُّخُوصُ" كما يقولون: "سَوَاءٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو"، و"سِيَّانِ" و"مِثْلانِ" يعني (ق/223 ب) استهواءَهما في صفة لذاتهما، فإذا أردتَ أن تسوِّيَ بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما، وأنهما قد هانا عليك، وخفَّا عليك (3)، قلت: "سَوَاءٌ عَلَيَّ أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ"، كما تقول: "لا أُبَالِي أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ"؛ لأن المبالاة فعل من أفعال القلب، وأفعال القلب تُلْغَى إذا وقعتْ بعدها الجملُ المستفْهَم عنها أو المؤكَّدة باللام، تقول: "لا أَدْرِي أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَد"، و"قَدْ عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زيْدٌ"، ولكن لا تُلْغى هذه الأفعال القلبية حتى يُذْكَر فاعلها في اللفظ أو في المعنى، فتكون حينئذٍ في موضع المفعول بالعلم. __________ (1) من (ظ). (2) في "نتائج الفكر" كما تقدم. (3) "وخفا عليك" سقطت من (ق).

(3/908)


ثم قال: فصل (1) فإذا ثَبَتَ هذا فـ "سواء" مبتدأ في اللفظ، و"عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ أو عَلَيْهِمْ" مجرورٌ في اللفظ، وهو فاعل في المعنى المضمون من (2) مقصود الكلام، إذْ قولك: "سَوَاءٌ عَلَيَّ" في معنى: "لا أُبَالِي"، وفي "أُبَالي" فاعل، وذلك الضمير الفاعلُ هو المجرورُ بـ "على" في المعنى؛ لأن الأمرينِ إنما استويا عليك في عدم المبالاة، فإذا لم تبالٍ بهما لم تَلْتَفِتْ بقلبك إليهما، (ظ/162 ب)، وإذا لم تلتفتْ فكأنك قلت: "لا أَدْرِي أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ". فلما صارتِ الجملةُ الاستفهاميةُ في معنى المفعول لفعل (3) من أفعال القَلْب، لم يلزمْ أن يكونَ فيها ضميرٌ يعود على ما قبلَها؛ إذ ليس قبلَها في الحقيقة إلا معنى فعل يعملُ فيها، وكيف يعودُ من المفعول ضميرٌ على عامله؟! ولولا قولك: "عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ" ما قَوِي ذلك المعنى، ولا عمل في الجملة، ولكن لما تعلَّقَ الجارُّ به صار في حكم المنطوق به، وصار المجرورُ هو الفاعلَ في المعنى، كالفاعل في: "عَلِمْتُ، ودَرَيْتُ، وبَالَيْتُ". ألا ترى كيف صار المجرورُ في قولهم: "له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ" بمنزلة الفاعل في يصوت، حتى كأنك نطقت بـ: "يُصَوِّتُ" فنصبت "صوتَ غراب لذلك". __________ (1) "نتائج الفكر": (ص/ 430). و (ق): "فائدة". (2) "النتائج": "المتضمن في". (3) "النتائج": "بفعل".

(3/909)


وإذ قلت: "عليهِ نَوْحٌ نوحَ الحَمَامِ" رفعت: "نوحَ الحَمَام"؛ لأن الضمير المخفوض بـ "على" ليس هو الفاعل الذي ينوحُ، كما كان في قولك: "له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ"، وكذلك المجرور في "سَوَاءٌ عَلَيْهِم" هو الفاعل الذي في قولك: "لا يُبَالُون ولا يَلْتَفِتُونَ"، إذ المساواةُ إنما هي في عدم المبالاة والالتفات، والمتكلِّمُ لا يريدُ غيرَ هذا بوجه، فصار الفاعلُ مذكورًا والمبالاةُ مفعولةً مقصودةً (1)، فوقعت الجملةُ الاستفهاميةُ مفعولًا لها". قال: "ونظير هذه المسألة -حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ- قوله تعالى. {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] فـ "بدا": فعل ماض، فلابُدَّ له من فاعل، والجملةُ المؤكَّدةُ باللام لا تكونُ في موضع فاعل أبدًا، وإنما تكونُ في موضع المفعول بـ"علمت" [أو "علموا" فهي هاهنا في موضع المفعول،] (2) وإن لم يكن (ق / 224 أ) في اللفظ: "علموا" ففي اللَّفظ ما هو في معناه؛ لأن قوله: "بَدَا": ظَهرَ للقلب لا للعين. وإذا ظهر الشيءُ للقلب وقد عُلِمَ، والمجرور من قوله: "لهم" هو الفاعلُ، فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدَّمًا على الجملة المؤكَّدة باللام، صارت الجملة مفعولًا لذلك العلم، كما تقول: "عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ"، ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلهما أفعال القلب ملغاةً، فكذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}، وقعت (3) الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله، كما تقدَّم بيانُ ذلك __________ (1) "النتائج": "معقولة متصوَّرة". (2) ما بينهما من "النتائج". (3) (ظ): "رفعت".

(3/910)


حين قدرناه بقولك: "لا يُبَالُونَ" فالواو في: "يُبَالُونَ" هو الفاعل، والضمير في "عليهم" هو الفاعل في المعنى. ألا ترى كيف اخْتُصَّ بـ "على" من بين حروف الجر؛ لأن المعنى إذا كان يرجعُ إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمرانِ، وصارا أخفَّ شيء على من لا يُبَاليهما ويلتفتُ إليهما، فتأملْه تجدْ المعانيَ صحيحةً، والفوائدَ كثيرةً مزدحمةً تحتَ هذا اللَّفظ الوجيز. فلذلك نبَتْ عنه كثيرٌ من الأفهام حتى تناقضتْ عليهم الأصولُ التي أَصَّلوها، واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي أُلْزِمُوها (1)، مع ما غابَ عنهم من فوائدِ هذه الآيات وإعجازها وسَمَانة (2) هذه الكلمات على إيجازها. ثم قال: "فصل (3) فإن قيل: ما بالُ الاستفهامٍ في هذه الجملة والكلام خبرٌ محضٌ؟. قلنا: الاستفهامُ مع "أمْ" يُعطي معنى التَّسوية، فإذا قلت: "أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ"؟ فقد سوَّيت بينهما في علمك. فهذا جوابٌ فيه مَقْنَعٌ. وأما التحقيق في الجواب فأَن تقول: ألفُ الاستفهام لم يُخْلَعْ منها ما وُضعت له، ولا عزلت عنه، وإنما معناه: "عَلِمْتُ أقَامُ زَيْدٌ أم قَعَدَ"، أي: علمتُ ما كنتُ أقول فيه هذا القول، وأستفهم عنه بهذا __________ (1) (ع وظ): "التزموها". (2) (ع): "وسمات". (3) بياض في (ق)، وانظر: "النتائج": (ص/432).

(3/911)


اللفظ، فحكيت الكلام كما كان، ليعلم المخاطب أنّ ما كان مستفهَمًا عنه معلومٌ، كما تقول: "قَامَ زَيْدٌ" فترفعه لأنه فاعل، ثم تقول: "ما قَامَ زَيْدٌ" فيبقى الكلامُ كما كان (1)، وتبقى الجملة محكيَّةً على لفظها لتدُلَّ على أنَّ (2) ما كان خبرًا متوهَّمًا عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي، ولهذا نظائرُ يطولُ ذكرُها. فكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، لما لم يُبالوا بالإنذار ولا نفعهم، ولا دخل في قلوبهم منه شيءٌ صار في حكم المستفهَمْ عنه، أكان أم لم يكن، فلا تسمَّى الألفُ ألفَ التَّسوية كما فعل بعضُهم، ولكن ألف الاستفهام، بالمعنى الذي وضعتْ له ولم تَزُل عنه". ثم قال (3) "فإن قيل: فلمَ جاء بلفظ الماضي (ق/224 ب) أعني {أَأَنْذَرْتَهُمْ} وكذلك {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193]، و"أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ"؟ ولم يجيءْ بلفظ الحال ولا المستقبل؟. فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرطُ يقعُ [بعده] (4). المستقبل بلفظ الماضي، تقول: "إنْ قَامَ زَيْدٌ غَدًا قُمْتُ"، وها هنا يتقدَّر ذلك المعنى، كأنك قلت: "إنْ قَامَ زيدٌ أو قعدَ لم أبالِهِ" __________ (1) من قوله: "ليعلم المخاطب ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) في الأصول: "أنه" والتصويب من "النتائج". (3) في "النتائج" هنا: "فصلٌ". (4) الأصول: "بعد".

(3/912)


و"لا ينتفعُ القوم إنْ أنذرتَهم أم لم تُنْذِرْهم" فلذلك جاءَ بلفظ الماضي. وقد قال الفارسيُّ قولًا غير هذا (1)؛ ولكنه قريبٌ منه في اللَّفظ، قال: إن ألف الاستفهام تضارعُ "إن" التي للجزاء؛ لأن الاستفهامَ غيرُ واجب، كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عُدِمَ المشروطُ، وهذه العبارة فاسدةٌ من وجوه يطولُ ذكرها، ولو رأى المعنى الذي قدمناه لكان أشبَهَ. على أنه عندي مدخول أيضًا؛ لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصَّة دونَ الحال والماضي، وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهمْ}، و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لا تختصُّ بالاستقبال، بل المساواة في عدم المبالاة موجودةٌ في كلِّ حال، بل هي أظهرُ في فعل الحال، ولا يقعُ بعد حرف الشرط فعل حالٍ بوجه. والتحقيقُ في الجواب أن نقولَ: قد أَصَّلنا في "نتائج الفكر" (2) أصلًا، وهو أن الفعل لم يُشْتَقَّ من المصدر مضافًا إلا ليدُلَّ على كون الاسم مخبَرًا عنه -أعني الفاعل الذي كان المصدرُ مضافًا إليه- ولم (3) تختلف أبنيتُه بعدما اشتقَّ عن المصدر إلا لاختلاف أحوال الحَدَث عن مُضِيٍّ أو استقبال، فإن كان قصدُ المتكلِّم أن لا يُقَيِّدُ الحَدَثَ بزمان دونَ زمان، ولا بحالِ استقبال دونَ حالِ مُضِي فليجعلُه (4) مطلقًا بلفظ الماضي الذي لا زوائدَ فيه، ليكونَ أخَفَّ على اللسان وأقربَ إلى لفظ الحَدَث المشتقِّ منه، ألا ترى أنهم يقولون: "لا أَفْعَلُهُ ما لاحَ بَرْقٌ وما طَارَ طَائِرٌ"، بلفظ الماضي خاصَّة لما أرادوا مدَّةً مطلقة غيرَ __________ (1) انظر "الحجة": (1/ 202 - 203) للفارسي. (2) انظر المسألة رقم (10) في "النتائج": (ص/ 66). (3) في الأصول: "لم" بدون الواو، والمثبت عن "النتائج". (4) في الأصول: "بل يجعله" والمثبت من "النتائج".

(3/913)


مقيَّدة، وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوْح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوزوا لفظَ الماضي؛ لأنهم لا يريدون استقبالًا ولا حالًا على الخُصوص. فإن قلت: ولا يُريدونَ أيضًا ماضيًا، فكيف جاء بلفظ الماضي؟. قلنا: قد قرن معه: لا أُكَلِّمُهُ ولا أفعلُه، فدلَّ على أن قوله: "ما لاحَ بَرْقٌ" لا يريدُ به لَوْحًا قد انقضى وانقطع، إنما يريدُ مقارنة الفعل المنفي (ق/225 أ) للفعل الآخر في المدَّة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله: "ما لاحَ بَرْقٌ" إلا معنى اللَّوْح خاصَّة، غير أنه تُرك لفظ المصدر ليكون البرقُ مخبرًا عنه كما تقدم، فمتى أردت هذا ولم تُرِدْ تقييدًا بزمان فلفظ الماضي أحقُّ (1) وأولى. وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه به، فاشتقَّ من الإنذار الفعل ليدلَّ على أن المخاطَب فاعلُ الإنذار، وترك الفعل بلفظ الماضي؛ لأنه مطلقٌ في الزمان كُلِّه، وأن القومَ لم يُبالوا بهذا ولا يبالون ولا هم في حال مبالاة، فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى، إذ ليس المرادُ تقييدَ الفعل بوقت ولا تخصيصَه بحال. فإن قلت: لفظ الماضي يخصِّصُه بالانقطاع. قطنا: "حَدِّثْ حديثينِ امرأةً" (2)، وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} من ثبوت هذه الصِّفة فيهم وحصولها في الحال وفي المال، فلا تقول: "سَوَاءٌ ثَوْبَاكَ أو غُلامَاكَ"، __________ (1) (ق) و"النتائج": "أخف". (2) انظر "مجمع الأمثال": (1/ 192).

(3/914)


إذا كان الاستواءُ فيما مضى، وهما الآن مختلفان، فهذه القرينةُ تنفي الانقطاعَ الذي يُتَوَهَّمُ في لفظ المُضِيِّ، كما كان لفظ الحال في قولك: "لا أُكَلِّمُهُ ما دَامَتِ السَّمواتُ والأرْضُ"، ينفي الانقطاعَ المتوهَّمَ في "دام"، وإذا انتفى الانقطاعُ، وانتفتِ الزوائدُ الأربعُ، بقي الحَدَيث (1) مطلقًا غيْرَ مقيّد في المسألتين جميعًا، فتأمَّلْ هذا تَجِدْه صحيحًا. فصل (2) الكلام على واو الثمانية قولهم: إن الواوَ تأتي للثَّمانية، ليس عليه دليلٌ مستقيمٌ، وقد ذكروا ذلك في مواضعَ فَلْنَتَكَلَّمْ عليها واحدًا واحدًا: الموضع الأول: قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] فقيل الواو في "والناهون" واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذُكِر في الآية وجوهًا أُخَرَ: منها: أن هذا من التَّفَنُّنِ في الكلام أن (3) يُعْطَفَ بعضُه، ويتركَ عطفُ بعضٍ. ومنها: أن الصَّفات التي قبل هاتين (ظ / 163 ب)، الصفتين صفاتٌ لازمةٌ متعلِّقَةٌ بالعامل، وهاتان الصفتان مُتَعَدِّيتان متعلِّقتان بالغير فَقُطِعَتا عما قبلَهما بالعطف. __________ (1) الأصول: "الحدث" والمثبت من "النتائج". (2) انظر ما تقدم في الكتاب (2/ 664)، وإحالة المؤلف في استيفاء الكلام على واو الثمانية على كتابه "الفتح المكيّ"، وانظر "حادي الأرواح": (ص/ 49). (3) ليست في (ع).

(3/915)


ومنها: أن المُرَادَ التنبيهُ على أن الموصوفين بالصِّفات المتقدِّمة هم (الآمرون بالمعروف والناهونَ عن المنكر). وكلُّ هذه الأجوبة غيرُ سديدة، وأحسنُ ما يقال فيها: (ق / 225 ب) إن الصِّفاتِ إذا ذُكِرتْ في مَقامِ التَّعداد، فتارة يتوسَّطُ بينها حرفُ العطف لتغايُرها في نفسها، وللإيذان بأن المُرادَ ذكرُ كُلِّ صفة بمفردها، وتارةً لا يتوسَّطُها العاطفُ لاتحاد موصوفها وتلازُمِها في نفسها، وللإيذان بأنها فى تلازُمها كالصفة الواحدة، وتارةً يتوسَّطُ العاطفُ بين بعضها ويُحذفُ مع بعض ٍبحسْب هذين المقامين. فإذا كان المقامُ مقامَ تَعداد الصِّفات، من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسُنَ إسقاطُ حرف العطف، وإن أريدَ الجمعُ بين الصِّفاتْ أو التَّنبيه على تغايُرها حسُنَ إدخالُ حرف العطف. فمثال الأول: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} وقول: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} [التحريم: 5]. ومثال الثاني: قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وتأمَّل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 1 - 3] فأتى بالواو في الوصفين الأولَين، وحذفها في الوصفين الأخيرين؛ لأن غفرانَ الذنب وقبولَ التَّوْب قد يُظَنُّ أنهما مجريانِ مجرى الوصف الواحد لتلازُمِهِما، فمَنْ غفر الذنبَ قبِلَ التوب، فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدلُّ على أنهما صفتانِ وفِعلانِ مُتغايرانِ ومفهومانِ مختلفانِ لكلِّ منهما حُكْمُهُ: أحدهما: يتعلَّق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.

(3/916)


والثاني: يتعلَّقُ بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرُّجوع إليه، وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة. وحَسَّنَ العطفَ هاهنا هذا التَّغايُرُ الظاهرُ، وكلَّما كان التغايرُ أَبْيَنَ كان العطفُ أحسنَ؛ ولهذا جاء العطفُ في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وترك في وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر 23] وقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] وأما: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فترك العطف بينهما لنكتة بديعة، وهي الدلالة على اجتماع هذينِ الأمرينِ في ذاته سبحانه، وأنه حال كونِه شديدَ العقاب، فهو ذو الطَّوْل، فطَوْله لا يُنافي شدَّةَ عقابه بل هما مجتمعانِ له، بخلاف الأول والآخر، فإن الأوَّليَّة لا تجامعُ الآخريَّة، ولهذا فسَّرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قبلَكَ شَيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ" (1) فأوَّلِيَّتُهُ أزليَّتُهُ، وآخريَّتُهُ أبَدِيَّتُهُ. فإن قلت: فما تصنعُ بقوله: (ق/226 أ) {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فإن ظهوره تعالى ثابتٌ مع بطونه، فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فسَّر الظاهرَ بأنه الذي ليس فوقَه شيء، والباطنَ بأنه الذي ليس دونَه شيء، وهذا العُلُوُّ والفوقيَّةُ مجامع لهذا القرب والدُّنُوِّ والإحاطة. قلت: هذا سؤالٌ حَسَن، والذي حسَّنَ دخولَ "الواو" هاهنا: أن هذه الصِّفات متقابلةٌ مُتَضَادَّةٌ، وقد عُطِف الثانى منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصِّفَتَانِ الأخْرَيَانِ كالُأولَيَيْنِ في المُقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأوَّلِ، فكما حَسُن العطفُ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2713) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(3/917)


بين الأوليين حسن بين الأخريين. فإذا عُرِفَ (1) هذا؛ فالآيةُ التي نحن فيها يَتَّضِحُ بما ذكرناه معنى العطف وتركُه فيها؛ لأن كلَّ صفةٍ لم تُعْطفْ على ما قبلَها فيها كان فيه تنبيهٌ على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتجْ إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمانِ مستمدَّانِ من مادَّةٍ واحدة، حسُنَ العطفُ ليَبِيْنَ أنَّ كلَّ وصف منهما قائمٌ على حِدَتِهِ مطلوبٌ بتعيينه، لا يُكتفى فيه بحصول الوصفِ الآخر، بل لابدَّ أن يظهر أمرُه بالمعروف بصريحه، ونهيه عن المنكر بصريحه، (ظ / 164 أ) وأيضًا فحَسَّنَ العطفَ هاهنا ما تقدَّمَ من التَّضَادِّ، فلما كان الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر ضِدَّيْنِ؛ أحدُهما طلب الإيجاد، والآخرُ طلبُ الإعدام كانا كالنَّوْعين المُتَغَايِرَيْنِ المُتَضَادَّيْنِ، فحَسُن لذلك العطف. الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]، إلى قوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}، فقيل: هذه واو الثمانية لمجيئِها بعد الوصف السابع. وليس كذلك، ودخولُ "الواو" هاهنا متعيِّنٌ؛ لأن الأوصاف التي قبلَها المرادُ اجتماعُها في النساء، وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكنُ اجتماعُهما، فتعيَّنَ العطف؛ لأن المقصودَ أنه يُزَوِّجُهُ بالنَّوعينِ: الثَّيِّباتِ والأبكار. الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] قيل: إدخال "الواو" هاهنا لأجل الثمانية، وهذا يحتملُ __________ (1) (ق): "عطف".

(3/918)


أمرين؛ أحدهما هذا، والثاني أن يكون دخول "الواو" هاهنا إيذانًا بتمام كلامهم عند قولهم: (سَبْعَة) ثم ابتدأ قوله: (ق/226 ب) {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، وذلك يتضمَّن تقريرَ قولهم: (سَبْعَةٌ) كما إذا قال لك "زَيْدٌ فَقِيهٌ"، فقلت: "ونَحْوِيٌّ" وهذا اختيار السهيلي (1). وقد تقدَّم الكلام عليه (2)، وأن هذا إنما يَتِمُّ إذا كان قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس داخلًا في المحكيِّ بالقول، والظاهر خلافه، والله أعلم. الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فأتى بـ"الواو" لما كانتْ أبوابُ الجنَّة ثمانيةً، وقال في النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، لما كانتْ سبعةً، وهذا في غاية البُعد، ولا دلالةَ في اللَّفظ على الثمانية حتى تدخل "الواو" لأجلِها، بل هذا من باب حذف الجوابِ لنكتة بديعة، وهي: أن تَفتيحَ أبواب النار كان حالَ موافاة أهلها، ففتحتْ في وجوههم؛ لأنه أبلغ في مفاجَأة المكروه. وأما الجنَّةُ فلما كانت دارَ الكرامة وهي مأدبةُ (3) الله، وكان الكريمُ إذا دعا أضيافَهُ إلى داره شرع لهم أبوابَها ثم استدعاهم إليها مُفَتَّحَةَ الأبوابِ، أتى بـ "الواو" العاطفة هاهنا الدَّالَّة على أنهم جاءوها بعدما فُتحتْ أبوابُها (4)، وحَذَفَ الجوابَ تفخيمًا لشأنه وتعظيمًا لقدْره، كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشْبَعْنا الكلامَ على هذا فيما تقدَّمَ والله أعلم. __________ (1) كما في "نتائج الفكر": (ص/ 264). (2) 2/ 666. (3) (ق وظ): "مائدة". (4) انظر: "الفصول المفيدة في الواو المزيدة": (ص/ 158 - 159).

(3/919)


فصل (1) مذهب سيبويه أن (لولا) إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو: "لَوْلاهُ" و"لَوْلاكَ" كان مجرورًا (2)، وخالفه الأخفش، وقال الأخفشُ والكوفيُّونَ: هذه الضمائر مما وقع المضمَرُ المتَّصِلُ موقعَ المنفصل، كما وقع المنفصل موقعَ المُتَّصِلِ في قولهم: "ما أنَا كأنْتَ ولا أَنْتَ كأَنا" وقد وقع المتَّصِلُ موقعَ المنفصل في قوله: وما نُبَالي إذا ما كُنْتِ جارتَنَا ... أنْ لا يُجَاوِرَنا إلاَّكِ دَيَّارُ (3) وقال المُبَرِّد يقول الكوفيين: فأما حجَّةُ سيبويهْ فهي الاستعمال، قال الشاعر (4): وكم مَوْطِنٍ لَوْلايَ طِحْت كَمَا هَوَى ... بأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوِي وقال الآخر (5): * لوْلاكِ في ذا العَامِ لَمْ أَحْجُجِ * __________ (1) انظر للمسألة: "الإنصاف في مسائل الخلاف": (2/ 687 - 695) لابن الأنباري. (2) "الكتاب": (1/ 388). (3) لا يُعرف قائله، وأنشده ابن جني في "الخصائص": (1/ 307)، وابن هشام في "المعني": (1/ 577). و"الأوضح": (1/ 83). (4) هو: يزيد بن الحكم الثقفي، من قصيدة له، والبيت من شواهد سيبويه في "الكتاب": (1/ 388)، وابن جني في "الخصائص": (2/ 259)، وابن الأنباري في "الإنصاف": (2/ 691). (5) هو: عمر بن أبي ربيعة، "ديوانه - الملحقات": (ص/487). والبيت في "المفصَّل": (ص/ 175)، و"الإنصاف": (ص/ 693) وصدره: * أوْمَت بِعَيْنيها من الهَوْدَجِ *

(3/920)


وقال آخر (1): * ولَوْلاكَ لَمْ يَعْرِضْ لأحْسَابِنَا حَسَنْ * واحتجَّ سيبويه على أن الضميرَ هنا مجرور بأَنَّ هذه الضمائر التي هي (الهاء والكاف والياء) إما أن تكونَ ضمائرَ نصب أو ضمائرَ جرٍّ، ومُحالٌ أن تكونَ ضمائرَ رَفع، ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب؛ لأن الحروف إذا اتَّصَلَ بها ياء المُتكلم وكانت في موضع نصب اتَّصَلَ بها نون الوقاية، نحو: "إنى وإنني وكأَنى وكأنني" فإن أدَّى ذلك إلى اجتماع مِثْلين جاز حذف نون الوقاية، فيقال: "إنى وكأنِّي ولكنِّي "، فلو كانت "الياءُ" ضميرَ نصب لقالوا: "لولانى" كما قالوا. "ليتني" ولم يأتِ ذلك، فتعيَّنَ أن تكود ضميرَ جرٍّ، فإذا ثبتَ هذا في (الياء) فكذلك في (الكاف والهاء). وأما الكوفيون فاحتجُّوا بأن الظاهرَ لا يقعُ بعد هذه الحروف إلاّ مرفوعًا، فكذلك المضمَرُ، وقد وُجد ذلك في المنفصل، فيكون المُتَّصِلُ كذلك، ولكن هذه الضمائرَ المتَّصِلة وقعتْ موقعَ الضمائر المنفصلة، كما يقعُ المنفصل موقعَ المتَّصل، فهما يتعاقبانِ ويتعاوَضانِ، فقالوا: "ما أنا كَأنْتَ "، فأوقعوا ضميرَ الرفع موقعَ ضمير الجر، فلذلك قالوا: "لَوْلاك " فأوقعوا ضميرَ الجرِّ موقعَ ضميرِ الرَّفع، فالتغيير وقع فى الصِّفة، لا في الإعراب، قالوا: وقد ثبت أنَّ (لولا) لا تعملُ في الظّاهر، فكيف تعمل في المضمَر؟. __________ (1) هو -فيما قيل-: عَمرو بن العاص -رضي الله عنه- والبيت في "الإنصاف ": (2/ 693)، و"شرح ابن عقيل ": (3/ 7) وصدره: * أنُطمع فينا من أراق دِمَاءَنا *

(3/921)


وأجاب البصريون عن هذا: بأنَّ الأصلَ أن الضمائرَ لا يقعُ بعضُها موقعَ بعض ألا للضَّرورة في الشِّعر، وبأنه يستلزمُ مخالفةَ الأصل من وجهينِ: أحدهما: إيقاعُ المتَّصل موقع (1) المنفصلِ. والثاني: إيقاعُ المجرور موقعَ المرفوع، وهذا تغييرٌ مرتين، فالتغييرُ في (لولا) (2) بكونها حرف جرٍّ في هذا الموضع أسهلُ، قالوا: وأما عملُها في المضْمَر خاصَّةً فليس بمستنْكَرٍ عملُ العامل في بعض الأسماء دون بعض، فهذه "لَدُنْ" لا تعمل إلا في "غُدْوَةٍ" وحدها، فإذا كان العاملُ يعملُ في بعض الظاهرات دونَ بعض، وهي جنسٌ واحد، فَلأَنْ يعملَ في المضمَر دونَ الظاهر وهما جنسانِ أولى، وقد ردَّ بعضُ النحاة هذا الاستعمالَ جملةً وقال: هو لحنٌ، واختلف على المُبَرِّد، فقيل: إن هذا مذهبُهُ، وقيل: إن مذهبَهُ قولُ الكوفيين. والله أعلم. فصل (3) اختلف في المستثنى، من أيِّ شيءٍ هو مخرَجٌ؟. فذهب الكسائىُّ إلى أنه مخرَجٌ من المستثنى منه، وهو المحكومُ عليه فقط. فإذا قلت: "جَاءَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا" فزيد مخرَجٌ من القوم، فكأنك أخبرتَ عن القومِ الذين ليس فيهم (4) بالمجيء، وأما هو فلم تخبرْ عنه بشيء، بل سَلَبْتَ الإخبارَ عنه، لا أنك أخبرتَ عنه بسلب __________ (1) (ع): "موضع ". (2) "في لولا" ليست في (ع). (3) من (ع) وحدها. (4) (ظ) زيادة: "زيد".

(3/922)


المجيء؛ والفرقُ بين الأمرين واضحٌ، وعلى قوله فالإسناد (1) وقعَ بعدَ الإخراج. وذهب الفَرَّاء إلى أنه مخرَجٌ من الحُكم نفسِهِ. وذهب الأكثرون إلى أنه مخرَج منهما معًا، فله اعتباران؛ أحدُهما: كونُه مستثنى، وبهذا الاعتبار هو مخرَجٌ من الاسم المستثنى منه، والثاني: كونه محكومًا عليه بضِدِّ حكم المستثنى منه، وبهذا الاعتبار هو مخرَج من (2) حكمه. والتحقيقُ في ذلك أنه مخرَجٌ من الاسم المقيَّد بالحكم، فهو خرَج من اسم مقيَّد لا مطلَق. ونذكرُ ما احْتَجَّ به لهذه المذاهب، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة: 34] ووجهُ الاستدلال: أن الاستثناءَ لو كان مخرَجًا من الحكم لكان قوله: "أبَى" تكرارًا؛ لأنه قد علم بالاستثناء، وأجيبَ عن هذا بأنه تأكيدٌ، واعْتُرِض على هذا الجواب بأن المعانيَ المستفادةَ من الحروف لا تُؤَكَّدُ، فلا يقال: "مَا قَامَ زَيْدٌ نفيًا" و"هلْ قَامَ عَمروٌ استفهامًا" و"لكن قَامَ زَيْدٌ استدراكًا" ونحوه؛ لأن الحرف وُضِعَ على الاختصار، ولهذا عُدِلَ عن الفعل إليه، فتأكيدُه بالفعل ينافي المقصودَ بوضعه. والتحقيقُ في الجواب: أن "أَبَى" أفاد معنىً زائدًا وهو: أن عدم __________ (1) (ق): "فالاستثناء". (2) من قوله: "الاسم المستثنى ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/923)


سجوده استند إلى إبائه، وهو أمرٌ وُجُودي اتَّصف به , نشأ عنه الذنبُ، فلم يكن تركُ سجوده لعَجْزٍ ولا لسَهْوٍ ولا لغفلةٍ، بل كان إباءً واستكبارًا. ومعلومٌ أن هذا لا يُفْهَم من مجرَّد الاستثناء، وإنما المفهوم منه عدم سجوده، وأما الحاملُ على عدم السجود فلا يدلُّ الاستثناء عليه فصرَّح بذكره. ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)} [الأعراف: 11] فإنَّ نفىَ كونه من السَّاجدين أخصُّ من نفي السُّجود عنه؛ لأن نفي الكون يقتضي نفى الأهليَّةِ والاستعداد، فهو أبلغُ في الذَّمِّ من أن يقال: "لم يَسْجُدْ". ثم الذي يدلُّ على بُطلان هذا المذهب وجوهٌ: منها: أنه لو كان ما بعدَ "إلاّ" مسكوتًا عن حكمِهِ لم يكن قولُنا: لا إله إلاّ الله توحيدًا واللازم باطلُ, فالملزومُ مثلُه, والمقدِّمتانِ ظاهرتان. ومنها: أن الاستثناء المنقطع لا يُتَصور الإخراجُ فيه من الاسم لعدم دخولِه فيه , فكذلك المتَّصلُ. ومنها: أنه لو كان الإخراجُ من الاسم وحده لما صحَّ الاستثناء من مضمون الجملة كقولك: "زَيْدٌ أَخوكَ إلاّ أنَّهُ ناءٍ عَنْكَ"، و"عَمْرٌو صّديقُكَ إلاَّ أنَّهُ يُوادُّ عَدُوَّكَ" ونحو هذا. ومنها: أنه لا يوجدُ في كلام العرب: "قامَ القومُ إلاّ زَيدًا فإنَّهُ قَامَ" ولو كان الإخراجُ من الاسم وحدَه والمستثنى مسكوتٌ عنه لجاز

(3/924)


إثباتُ القيام له؛ كما جاز نفيُهُ عنه، فإن السكوتَ عن حكمه لا يفيدُ نفيَ القيام عنه ولا إثباته، فلا يكونُ واحدٌ منهما مناقضًا للاستثناء. واحتجَّ الفَرَّاءُ بأن المُنقطعَ مخرَجٌ من الحُكم لا من الاسمِ، وكذلك البابُ كلُّه، وأجيبَ عن ذلك بأن المستثنى داخلٌ مع الاسمِ المحكوم عليه تقديرًا, إذ يقدَّرُ الأوَّلُ شاملاً بوجه ليصِحَّ الاستثناءُ، ولمن نصر قول الكسائي أيضًا أن يُجِيبَ له بهذا الجواب. وإذا تبين بطلانُ المذهبين صحَّ مذهبُ الجمهور: أن الإخراج من الاسم والحكم معًا، فالاسم المستثنى مخرَجٌ من المستثنى منه، وحكمُه مخرَجٌ من حكمه، ومن الممتنع إخراجُ الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحتَهُ في الحكم, فإنه لا يُعقل الإخراجُ حينئذٍ ألْبتةَ, فإنه لو شاركه في حكمه لدخلَ معه في الحكم والاسم جميعًا، فكان استثناؤُه غيرَ معقول، ولا يقالُ, إن معنى الاستثناء أن المتكلِّمَ تاركٌ للإخبار عنه بنفىٍ أو إثباتٍ، مع احتمال كلِّ واحدٍ منهما، لأنَّا نقولُ: هذا باطلٌ من وجوه عديدة: منها: أنَّكَ إذا قلتَ: "ما قَامَ إلا زَيْدٌ" "مَا ضَرَبْتُ إلاّ عَمْرًا" و"مَا مَرَرْتُ إلاّ بِزَيْدٍ"، ونحوه من الاستثناءات المفرَغات لم يَشُكَّ أحدٌ في أنك أثبتَّ هذه الأحكامَ لما بعد "إلاّ" كما أنك سلبتها عن غيره، بل إثباتُها للمستثنى أقوى من سلبها عن غيره (1). ويلزمُ من قال: إن حكم المستثنى مسكوتٌ عنه، أن لا يفهمَ من هذا إثباتَ القيام والضَّرب والمرور لزيدٍ، وهو باطلٌ قطعًا. ومنها: أنه لو كان مسكوتًا عنه لم يدخلِ الرجلُ في الإسلام __________ (1) من قوله: " بل إثباتها ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/925)


بقوله: "لا إلهَ إلاّ الله"، لأنه على هذا التقدير الباطل لم يُثبِت الإلهيَّةَ لله، وهذه أعظمُ كلمةٍ تضمَّنت بالوضع نفيَ الإلهيَّة عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاصِ، فدلالتها على إثبات إلاهيَّته أعظمُ من دلالة قولنا: "الله إلهٌ"، ولا يستريبُ أحدٌ في هذا ألْبتَّة. ومنها: أنه لو ادُّعِيَ عليه بمائَةِ دِرهَمٍ، فقال: "له عِنْدي مِائَةٌ إلاّ ثلاثَة دَراهِمَ "، فإنه نافٍ لثبوت المستثنى في ذِمَّته، ولو كان ساكتًا عنه لكان قد أقرَّ بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض، وهذا لم يقلْهُ عاقلٌ، ولو كان حكم المستثنى السُّكوتَ لكان هذا ناكلاً (1). ومنها: أن المفهوم من هذا عندَ أهل التخَاطُب نَفيُ الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه، ولا فرقَ عندَهم بين فهم هذا النَّفي وذلك الإثبات ألْبتة، وذلك جارٍ عندَهم مجرى فهم الأمر والنهي والنَّفي والاستفهام وسائر معانى الكلام، فلا يفهمُ سامعٌ من قول الله عز وجل: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أنه أخبر عن لبْثِهِ تسع مائة عام وخمسين عامًا، وسَكَتَ عن خمسين فلم يُخْبِرْ عنها بشيء، ولا يفهمُ أحدٌ قطّ إلا أن الخمسينَ لم يَلْبَثْها فيهم. وكذلك قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82, 83] لا يفهم منها إلا أن المخْلَصينَ لا يتمَكَّنُ من إغوائهم، وكذلك سائر الاستثناءات. ومنها: أن القائل إذا قال: "قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا" لم يكن كلامه صدقًا إلا بقيامِهم وعدم قيام زيد، ولهذا من أراد تكذيبه قال له: "كَذَبْتَ بلْ قامَ زَيْدٌ"، ولو كان زيدٌ مسكوتًا عنه لم يكن هذا تكذيبًا __________ (1) (ق وظ): "باطلاً".

(3/926)


له، والعقلاءُ قاطبةً يعدونه تكذيبًا، ويعدُّون خبَرَهُ كاذبًا، حيث يعدُّون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كَذِبًا (1). إذا عُرِفَ هذا؛ فَبِهِ يَنْحَلُّ الإشكال الذي أورده بعضُ المتأخرين على الاستثناء، وقال: الاستثناء مشْكِل التَّعَقُّلِ، قال: لأنك إذا قلت: "جاءَ القَوْم إلا زيْدًا" فإما أن يكون زيدٌ داخلاً في القوم أو لا، فإن كان غيرَ داخل لم يستقمِ الاستثناءُ لأنه إخراجٌ، وإخراجُ ما لم يدخلْ غير معقول، وإن كان داخلاً فيهم لم يستقمْ إخراجه للتناقض, لأنك تحكمُ عليه بحكمين متناقضين. ولهذه الشبهة قال القاضي (2) وموافقوه: "إن عشرة إلا ثلاثة" مرادفٌ لسبعة، فهما اسمان رُكِّبا مع الحرف وجُعِلا بإزاء هذا العدد، فإن أراد القاضي أن المفهومَ منهما واحدٌ فصحيحٌ، وإن أراد التركيبَ النَّحْوِيَّ فباطلٌ. والجواب عن هذا الإشكال: أنه لا يُحكم بالنِّسب إلا بعد كمال ذكر المفردات، فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج، فالقائلُ إذا قال: "قامَ القَوْمُ إلا زيْدًا" فهاهنا خمسة أمور: أحدها: القيامُ بمفرده. الثاني: القَوْمُ بمفرده. الثالث: زَيْدٌ بمفرده. الرابع: النسبة بين المفردَين. __________ (1) هذه الجملة ساقطة من (ق) ومكانها: "وإن كان قبل الحكم عليه "!. (2) لعله: أبو يعلى ابن الفرَّاء الحنبلي.

(3/927)


الخامس: الأدلة الدَّالَّة على سلب النسبة عن زيد. فـ "زيدٌ" دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد، وخرج منهم على تقدير الإسناد، ثم أُسْندَ بعد إخراجِه, فدخولُه وخروجُه باعتبارين غير متنافيين، فإنه دخلَ باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة، فهو من القوم غيرِ المحكوم عليهم، وليس من القوم المقيَّدين بالحُكم عليهم، هذا إيضاحُ هذا الإشكال وحَلُّه، واللهُ الموفِّقُ. فصل المستثنى إذا جُعِل تابعًا لما قبلَه، فمذهب البصريين أنه بَدَلٌ، وقد نصَّ عليه سيبويه (1)، ومذهب الكوفيين أنه عطفٌ، فأما القول بالبَدَلِ فعليه إشكالان (2): أحدهما: أنه لو كان بَدَلاً لكان بَدَلَ بعضٍ، إذ يمتنع أن يكون بَدَلَ كُلٍّ من كُل، وبدل البعض لابُدَّ فيه من ضمير يعود على المبدَل منه، نحو: "قَبَضتُ المَالَ نصفهُ". الثاني: أن حكمَ البَدَل حكمُ المبدَل منه؛ لأنه تابع يشارك متبوعَه في حكمه، وحكم المستثنى هاهنا مخالفٌ لحكم المستثنى منه، فكيف يكون بَدَلاً. وأجيب عن الأوَّل بأن "إلاَّ" وما بعدَها من تمام الكلام: الأوَّل، و"إلاَّ" قرينةٌ مُفْهمة أن الثاني قد كان تناولَهُ (3) الأوَّلُ، فمعلوم أنه بعضُ الأول، فلا يحتاجُ فيه إلى رابط بخلاف: "قَبَضْتُ المَالَ نِصْفَهُ". __________ (1) في "الكتاب": (2/ 311). (2) (ع): "إشكالات". (3) (ع): "يتناوله "، و (ق): "تداوله".

(3/928)


وأُجيب عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء قسم على حِدَتِهِ، ليس من تلك الأبدال التي تثبت (1) في غير الاستثناء. وأُجيبَ عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء إنما المُراعَى فيه وقوعُه مكان المبدَل منه، فإذا قلت: "ما قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدٌ" فـ "إِلاَّ زَيْدٌ" هو البَدَل، وهو الذي يقعُ موقعَ "أحدٍ"، فليس "زيدٌ" وحدَه بَدَلاً من "أحد"، فـ"إلا زيْد" هو الأحد الذي نَفَيْت عنه القيامَ، فقولُك: "إِلاَّ زَيْدٌ" هو بيان الأحد (2) الذي عَنَيْتَ، وعلى هذا فالبَدَلُ في الاستثناء أشبهُ ببَدَل الشيء من الشيء، من بَدَلِ البعضِ من الكلِّ. وأما الإشكالُ الثاني فقال السِّيرافيُّ مجيبًا عنه: هو بَدَلٌ منه في عمل العامل فيه، وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البَدَلِيَّة؛ لأن مذهب البَدَل فيه أن يجعل الأوَّل كأنه لم يُذْكَر، والثاني في موضعه. وقد تتخالفُ الصِّفةُ والموصوفُ نفيًا وإثباتًا، نحو: "مررتُ بِرَجُلٍ لا كَرِيمٍ ولا لَبيبِ ". ومعنى هذا الجواب: أنه إنما يشترطُ في البَدَل أن يحلَّ محل الأوَّلِ في العامل خاصَّة، وأما أن يكون حكمُهما واحدًا فلا. وأما القولُ الكوفيُّ: إنه عطف، فإنهم جعلوا "إلاَّ" من حروف العطف في هذا الباب خاصَّة، والحاملُ لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة. قال ثعلب: كيف يكون بَدَلاً وهو موجبٌ ومتبوعه منفىٌّ، والعطفُ __________ (1) غير بيّنة في (ظ)، وفي (ع): "تبينت" والمثبت من (ق). (2) كذا في (ق وظ)، وفي (ع): "مقويتان للأخذ ... "!.

(3/929)


توجدُ فيه المخالفةُ فى المعنى كالمعطوف بـ "بَلْ" و"لكِنْ "، وهذا ممكنٌ خالٍ من التكَلُّف، ولا يقال: إنه يستلزم الاشتراك في الحروف، وهو مذهب ضعيفٌ؛ لأنا نقول: ليس هذا من الاشتراك في الحروف، فإن "إلاَّ" للإخراج على بابها، وإنما سمّوا هذا النوعَ من الإخراج عطفًا على نحو تسميتهم الإخراجَ بـ"بَلْ " و"لكن" عطفًا، والاشتراك المردود قول من يقول: إن "إلاَّ" تكون بمعنى الواو، لكن قد رُدَّ قولُهم بالعطف بأن "إلاَّ" لو كانت عاطفةً لم تباشر العاملَ في نحو: "مَا قَامَ إلاَّ زيْدٌ"؛ لأن حروف العطف لا تلي العواملَ, ويجابُ عن هذا بأن "إلا" التي باشرتِ العاملَ ليست هي العاطفة, فليس هاهنا عطفٌ ولا بدلٌ ألبَتَّةَ، وإنما الكلامُ فيما إذا كان ما بعد "إلاَّ" تابعًا لما قبلها. قال ابن مالك (1): ولمقوِّى العطف أن يقول: تخالفُ الصِّفة والموصوف كَلا تَخَالُف، لأنَّ نفي الصِّفتين إثباتٌ لضِدَّيهما، فإذا قلت: "مرَرْتُ بِرَجُلٍ لا كرِيم ولا شجاع" فكأنك قلت: "بَخيل جَبَان" وليس كذلك تخالف المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ جَعْلَ "زيْدٍ" بدلاً من "أحد" إذا قيل: "ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ" يلزمُ منه عدم النَّظير، إذ لا بَدَلَ في غير محل النّزاع إلا وتَعَلُّقُ العاملِ به مُسَاوٍ لتَعَلُّقِهِ بالمبْدَل منه, والأمرُ في "ما قَامَ أَحَدٌ إلاّ زَيْدٌ" بخلاف ذلك، فيضعفُ كونه بَدَلاً، إذ ليس في الأبدال ما يشبهه، وإن جُعِل معطوفًا لم يلزمْ من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظيرَ المعطوف بـ"لا" و"بَلْ " و"لكِنْ " فكان جعلُه معطوفًا أولى من جعله بَدَلاً. قلت: ويقوِّي العطفَ أيضًا أنك تقول: "لا أحَدَ في الدَّارِ إلاّ __________ (1) لم أعثر على كلامه.

(3/930)


عَبْدُ الله "، فـ "عبدُ الله" لا يصحُّ أن يكون بدَلاً من "أحدٍ"، فإنه لا يَحِلُّ مَحَلَّة. فإن قيل: هذا جائزٌ على توهُّم "ما فيها أحدٌ إلا عَبْدُ اللهِ" إذ المعنى واحدٌ، فأمكنَ أن يَحِلَّ أحدُهما محلَّ الآخرِ، قيل: هذا كاسمه وَهْم، والحقائقُ لا تُبنى على الأوهام. وأجاب ابنُ عُصفور عن هذا بأن قال: لا يلزمُ أن يَحِلَّ "عبدُ الله" محِلَّ "أحدٍ" الواقع بعد "لا" لأنَّ المُبْدَلَ إنما يلزمُ أن يكونَ على نِيَّةِ تكْرار العاملِ، وقد حصل ذلك كلُّه (1) في هذه المسألة وأمثالها، ألا ترى أن "عبدَ الله" بَدَلٌ من موضع "لا أحَدَ"، فيلزمُ أن يكونَ العاملُ فيه الابتداءَ، كما أن العاملَ في موضع "لا أحَدَ" الابتداء، بلاشكٍّ أنَّك إذا أبدلْتَهُ منه كان مبتدأً في التقدير وخبرُه محذوف، وكذلك حرفُ النَّفيِ لدلالة ما قَبْلَه عليه، والتقدير: "لا أحَدَ فِيها لا فِيها إلاّ عَبْدُ اللهِ " ثم حذف واختص. وهذا الجوابُ غيرُ قَوِيٍّ؛ إذ لو كان الأمرُ كما زعم لصحَّ البدل مع الإيجاب، نحو: "قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدٌ" لصحَّة تقدير العامل في الثاني، وهم قد منعوا ذلك وعَلَّلوه بعدم صِحَّة حلول الثاني مَحَلَّ الأوَّل، فدلَّ على أنه مشترطٌ. فصل (2) قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] __________ (1) من (ق). (2) ليس في (ع).

(3/931)


قال الزمخشري (1): هو استثناء منقطعٌ جاء على لغة تميم، لأن الله تعالى وإن صحَّ الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، فإنما ذلك على المجاز؛ لأنه مقدَّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإنَّ الإخبار عنه بأنه في السماء أو في الأرض ليس مجازًا، وإنما هو حقيقة، ولا يَصِحُّ حملُ اللَّفظِ فى حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز. قلت: وقولُه "على لغة تميم" يريدُ أن من لغتهم: أن الاستثناءَ المنقطعَ يجوزُ إتباعُهُ كالمتَّصِل إن صحَّ الاستغناءُ به عن المستثنى منه، وقد صحَّ هاهنا، إذ يَصِحُّ أن يقالَ: لا يعلمُ الغيبَ إلا الله. قال ابن مالك (2): والصحيحُ عندي أن الاستثناءَ في الآية متَّصِلٌ، وفي متعلقه بفعل غير (استقر) من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كـ: "ذكَرَ ويذْكُرُ" ونحوه، فكأنه قيل: "لا يعلمُ مَنْ يُذكَرُ فى السَّماواتِ والأرض الغيبَ إلا الله". قال: ويجوزُ تعليقُ "في" بـ "اسْتَقَرَّ" مستندًا (3) إلى مضاف حُذِف، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، والأصل: "لا يعلمُ من استَقَرَّ ذكره في السَّماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله" ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر (4) لكونه مرفوعًا. هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد، وليس عندي ممتنعًا لقولهم: " القَلَم أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ" و" الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأيْدِي ثَلاثَةٌ: يَدُ اللهِ، ويَدُ __________ (1) انظر "الكشاف": (3/ 149). (2) انظر الصفحة السابقة. (3) (ق, ظ): "مسندًا". (4) (ق): "الضمير".

(3/932)


المُعْطِي، ويَدُ السَّائلِ" (1) " تم كلامُه. فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية، وأنت ترى ما فيه من التكَلُّف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه، بل الأمرُ فيها أوضحُ من ذلك (2). والصوابُ: أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وليس في الآية استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن "من في السَّماوات والأرض" هاهنا أبلغُ صيغ العمومِ، وليس المُراد بها مُعَيَّنًا، فهي في قوَّة "أحد" المنفي بقولك: "لا يَعْلمُ أَحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله"، وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقًا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مُؤدٍّ معنى: "لا يَعْلَمُ أحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله" (3). وإنما نشأ الوهمُ مِن ظَنِّهم أن الظرفَ هاهنا للتَّخصِيص والتَّقييد، وليس كذلك، بل هو لتحقيق الاستغراق والإحاطة، فهو نظيرُ الصِّفة في قوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فإنها ليست للتخصيص والتَّقييد، بل لتحقيق الطَّيران المدلول عليه بـ"طائر"، فهكذا قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي. __________ (1) أخرجه أحمد: (7/ 295 رقم 4261)، وابن خزيمة رقم (2435) والحاكم: (1/ 408) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وأخرجه أحمد: (25/ 225 رقم 15890)، وأبو داود رقم (1649) والحاكم: (1/ 408) -كلاهما من طريق أحمد- من حديث مالك بن نضلة -رضي الله عنه- بنحوه. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. (2) وذكر كلامهما ابن هشام فى "المغني": (2/ 449 - 450) ثم قال: "وفى الآية وجه آخر، وهو أن يُقدِّر "من" مفعولاً به، و" الغيب" بدل اشتمال، و"الله" فاعل، والاستثناء مفرَّغ" اهـ. (3) من قوله: "وأتى في هذا ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/933)


ومن تأمَّلَ الآية عَلِم أنه لم يقصدْ بها إلاّ ذلك، وقد قيل: إنه لا يمتنعُ أن يطلقَ عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقَه على نفسه، وأطلقَه عليه رسولُهُ، قالوا: ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاقُ مجازًا بل له منه الحقيقة التي تليقُ بجلاله ولا يشابهُهُ فيها شيءٌ من مخلوقاته، وهذا كما يطلق عليه أنه سميعٌ بصيرٌ عليمٌ قديرٌ حيٌّ مريدٌ حقيقةً، ويطلقُ ذلك على خلقِهِ حقيقةً، والحقيقَةُ المختصَّةُ به لا تُماثِلُ الحقيقةَ التي لخَلْقِهِ، فتناوُلُ الإطلاقِ بطريق الحقيقة لهما لا يستلزمُ تماثُلاً حتى يُفَرَّ من نفيه إلى المجاز. وأما قوله: "إن الظرفَ متعلّقٌ بفعل غير "استقر"، من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كـ "ذَكَرَ ويَذْكُرُ" إلى آخره". فيقال: حذف عامل الظَّرف لا يجوزُ إلا إذا كان كونًا عامًا أو استقرارًا عامًا، فإذا كان استقرارًا أو كَوْنًا خاصًّا مُقَيَّدًا لم يَجُز حذفُهُ، وعلى هذا جاء مصرَّحًا به في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] لأن المُرَادَ به الاستقرارُ الذي هو الثبات واللُّزومُ، لا مطلق الحصول عنده، فكيف يسوغُ ادّعاء [حذفِ] (1) عامل الظرفِ في موضع ليس بمعهودٍ حذفُه فيه؟! وأبعدُ من هذا التقدير: ما ذكره في التقدير الثاني أن عاملَ الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغني به عن المُضاف إليه، والتقديرُ: "استقرَّ ذكرُه "، فإن هذا لا نظيرَ له، وهو حذفٌ لا دليلَ عليه، والمضافُ يجوز أن يُستغنى به عن المُضاف إليه (2) بشرطينِ: أن يكون مذكورًا، وأن يكونَ معلومَ الوضع مدلولاً عليه لئلا يلزمَ اللَّبْسُ. __________ (1) من (ظ). (2) من قوله: "والتقدير: استقر ... " إلى هنا ساقط من (ق)، وهو انتقال نظر.

(3/934)


وأما ادعاءُ إضافة شيءٍ محذوف إلى شيء محذوف، ثم يضافُ المُضاف إليه إلى شيءٍ آخر محذوف، من غير دلالة في اللَّفظ عليه، فهذا مما يُصَانُ عنه الكلام الفصيح فضلاً عن كلام ربِّ العالمينَ!. وأما قولُه: "على أنه لا يمتنعُ إرادةُ الحقيقة والمجاز معًا" واستدلالُه على ذلك بقولهم: "القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ "، فلا حُجَّةَ فيه! لأن اللَّسانينِ اسم مثنَّى، فهو قائمٌ مقامَ النُّطق باسمين أُريدَ بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز، وكذلك: "الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وكذلك "الأَيْدِي ثَلاثَةٌ". وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فالاستدلال به أبعدُ من هذا كلِّه، فإنَّ الصلاةَ على النبى - صلى الله عليه وسلم - من الله وملائكته حقيقةٌ بلا رَيْب، والحقيقةُ المضافة إلى الله من ذلك لا تُماثِلُ الحقيقةَ المُضافةَ إلى الملائكة، كما إذا قيل: "الله ورسولُهُ والمؤمنونَ يعلمونَ أن القرآنَ كلامُ الله "، لم يَجُزْ أن يُقَالَ: إن هذا استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان العِلْمُ المضافُ إلى الله غيرَ مماثِل للعِلْم المُضافِ إلى الرسول والمؤمنين، فتأمَّلْ هذه النُّكَت البديعة. ولله الحمد والمنّة. فصل المعروفُ عند النُّحاة أن الاستثناءَ المنقطعَ هو: أن لا يكونَ المستثنى داخلاً في المُستثنى منه، وربما عبَّروا عنه بأن لا يكونَ المستثنى من جنس المستثنى منه، وهذا يحتمل شيئينِ: أحدهما: أن لا يكون المستثنى فردًا من أفراد المستثنى منه. والثاني: أن لا يكونَ داخلاً في ماهِيَّتِهِ ومُسَمَّاه، فنحو: "جَاءَ

(3/935)


القَوْمُ إلاَّ فَرَسًا" منقطعٌ اتفاقًا، و"جَاءوا إلاَّ زَيْدًا" متَّصل، و"رأَيْتُ زَيدًا إلاَّ وَجْهَهُ" منقطعٌ على الاعتبار الأوَّل؛ لأن الوجهَ ليس فردًا من أفراد المستثنى منه، ولكن لا أعلمُ أحدًا من النُّحاة يقولُ ذلك، ويلزمُ من ذلك أن يكون استثناءُ كلِّ جزءٍ من كُلٍّ منقطعًا. ونحو قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} منقطع على التفسير الأول لعدم دخولِ الموتة الأولى في المستثنى منه، ومتَّصل على التفسير الثانى؛ لأنها من جنس الموت في الجملة. وفي الاستثناء المنقطع عبارةٌ أخرى، وهي: أن يكون منقطعًا مما قبلَه، إما في العمل، وإما في تناوله له، فالمنقطع تناولاً: "جَاءَ القَوْمُ إلا حِمَارًا" والمنقطع عملاً نحو قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} [الغاشية: 22 - 24] فهذا استثناء منقطِعٌ بجملة، كذا قاله ابن خروف (1) وغيره، وجعلوا "مَنْ" مبتدأ و"يُعَذِّبُه" خبره، ودخلت الفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط. وجعل الفرَّاء من هذا قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 249] على قراءة الرَّفع (2)، وقدَّره: "إلا قليلٌ منهم لم يشربوا"، وقواه ابن خروف واستحسنه. ومن هذا قولهم: "ما للشَّيَاطِين مِنْ سِلاحٍ أبْلَغَ في الصَّالحِينَ مِنَ ْالنِّسَاءِ إلاَّ المُتزوِّجون، أُولئكَ المطَهَّرُون المُبرَّؤونَ مِنَ الخَنَاء". __________ (1) هو: أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن خروف الإشبيلي النحوي ت (610) انظر "السير": (22/ 26). (2) وهي قراءة أُبي والأعمش، "البحر المحيط": (2/ 275).

(3/936)


وقيل: إنّ من هذا قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] في قراءة الرفع (1)، ويكون "امرأتُك" مبتدأ وخبره ما بعده. وهذا التوجيهُ أولى من أن يجعلَ الاستثناء في قراءة من نَصَبَ من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وفي قراءة من رفع من قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} , ويكون الاستثناءُ على هذا من (2): "فَأَسرِ بأهْلِكَ "، رفعًا ونصبًا، وإنما قلنا: إنه أوْلى؛ لأنَّ المعنى عليه، فإن الله تعالى أمرَه أن يَسْرِيَ بأهلِه إلا امرأته. ولو كان الاستثناء من الالتفات؛ لكان قد نهى المُسْرَى بهم عن الالتفات وأذِنَ فيه لامرأته، وهذا ممتنعٌ لوجهين: أحدُهما: أنه لم يأمرْه أن يَسْرِيَ بامرأتِهِ، ولا دخلت في أهله الذين وُعِد بنجاتهم. والثاني: أنه لم يكَلِّفْهُمْ بعدم الالتفات، ويأذَنَ فيه للمرأة. إذا عُرِفَ هذا؛ فاختلف النُّحاة: هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثنى منه بوجه أو ليس ذلك بشرط؟. فكثيرٌ من النُّحاة لم يشترط فيه ذلك، واشترطه آخرون، قال ابن السَرَّاج (3): "إذا كان الاستثناء منقطعًا فلابدَّ من أن يكونَ الكلامُ الذي قبل "إلاَّ" قد دلَّ على ما يُستثنى [منه] ". فعلى الأوَّل لا يُحتاج __________ (1) وهى قراءة ابن كثير وأبى عَمرو، انظر: "المبسوط": لابن مِهران. (2) من قوله: "من قوله: فأسر ... " إلى هنا ساقط من (ق)، و"من" سقطت من (ع). (3) في "الأصول": (1/ 291).

(3/937)


إلى تقدير، وعلى الثاني فلابُدَّ من تقدير الرَّدِّ، ولنذكر لذلك أمثلة: المثال الأول: قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فمَنْ لم يشترطِ التقديرَ أجراه مجرى المُفْرَّغ، والمعنى: "ما عندَهم، أو: ما لَهُمْ إلاَّ اتِّباع الظَّنِّ "، وليس اتِّباعُ الظَّنِّ متعلِّقًا بالعلم أصلاً. ومن اشترطَ التقديرَ قال (1): المعنى: "ما لَهُمْ مِنْ شعورٍ إلاَّ إتِّباع الظَّنِّ "، والظن وإن لم يدخلْ في العلم تحقيقًا فهو داخل فيه تقديرًا، إذ هو مستحضرٌ بذكره، وقائمٌ مقامَهُ في كثير من المواضع، فكان في اللّفظ إشعار به صَحَّ به دخولُه وإخراجُه. وهذا بعد تقريره (2) فيه ما فيه، فإن المستثنى هو اتِّباع الظَّنِّ لا الظَّنُّ نفسُه، فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقًا ولا تقديرًا، فالأحسن فيه عندي أن يكونَ التقديرُ: "ما لَهمْ به مِنْ عِلْم فَيَتَّبعُونَهُ ويأتمُّون (3) به، إن يتَّبعُونَ إلاَّ الظَّنَّ" فليس اتباع الظن مستثنى من العلم، وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم، والمراد به وهو اتِّباعه، فتأمله. هذا على تقدير اشتراط التَّنَاول لفظًا أو تقديرًا، وأما إذا لم يشترط -وهو الأظهرُ- فتكونُ فائدةُ الاستثناء هاهنا كفائدة الاستدراك، ويكون الكلامُ قد تضمَّنَ نفيَ العلم عنهم وإثبات ضدِّه لهم، وهو الظَنُّ الذي لا يُغني من العلم شيئًا (4). __________ (1) (ع): "فإن ". (2) (ع): "تقديره ". (3) (ظ): "وينمون" و (ق): " ويلقون "!. (4) (ق): "وهذا الظن الذى لا يغني من الحق شيئًا".

(3/938)


ومثله قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] ليس المُرَادُ به نفيَ الحكم الجازم وإثبات الحكم الرَّاجح، بل المرادُ نفيُ العلمِ وإثباتُ ضِدِّه، وهو الشَكُّ الذي لا يُغني عن صاحبه شيئًا، وستزيد الأمثلة هذا وضوحًا (1). المثال الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] فهذا استثناءٌ منقطعٌ؛ لأن أَتباعَهُ الغَاوِينَ لم يدخلوا في عبادِه المضافين إليه، وإن دخلوا في مُطلق العِباد، فإن الإضافةَ فيها معنى التَّخصيص والتَّشريف، كما لم تدخل الخانات والحمامات في بيوت الله، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى آخر الآيات، وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فعبادُه المضافونَ إليه هم الذين آمنوا، وعلى ربَهم يتوكَّلون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99] {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} [الزخرف: 68 - 69]. ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فعباده هاهنا الذين يغفرُ ذنوبهم جميعًا هم المؤمنون التائبون، والانقطاع في هذا قول ابن خروف وهو الصَّوابُ. وقال الزمخشريُّ (2): هو مُتَّصِلٌ، وجعل لفظ العباد عامًّا، وقد عرفتَ غَلَطَهُ، وعلى تقدير الانقطاع فإن لم يُقَدَّرْ دخولُه في الأول __________ (1) (ظ): "والمذكور من الأمثلة يزيد هذا وضوحًا". (2) "الكشاف": (2/ 314).

(3/939)


فظاهر، وإن قدَّرْنا دخولَه فقالوا: تقديرُه: "إن عبَادِي ليسَ لك عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، ولا على غَيْرِهِمْ، إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ" ولا يخفى التَّكَلُّفُ الظاهرُ عليه، فالأحسن أن يُقال: لما ذكر العباد وأضافهم إليه، والإضافةُ يحتملُ أن تكونَ إلى ربوبيَّتِهِ العامَّة، فتكونُ إضافة ملك، وأن تكون إلى إلهيته فتكون إضافةَ اختصاص ومحبَّة. والغاوونَ داخلون فى العباد عند التعميم والإطلاق، لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فالأوَّلُ متناوِلٌ له بوجه فصحَّ إخراجُه. المثال الثالث: قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] على أصحِّ الوجوه في الآية، فإنه تعالى لما ذَكَر العاصمَ استدعى معصومًا مفهومًا من السياق، فكأنه قيل: لا مَعْصُومَ اليومَ مِن أَمْرِهِ إلا مَنْ رَحِمَهُ، فإنه لما قال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بقي الذهنُ طالبًا للمعصوم، فكأنه قيل: فمن الذي يُعصَمُ؛ فأجيب: "لا يُعصمُ إلا من رَحَمَهُ اللهُ"، ودلَّ هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كلِّ عاصمٍ سواه، وعلى نفي كلِّ معصوم سوى من رحمه الله، فدلّ الاستثناءُ على أمرين: على المَعصوم مَن هو، وعلى عاصمه (1) وهو ذو الرَّحمة، وهذا من أبلغِ الكلام وأفصحِه وأوجزِه، ولا يُلتفتُ إلى ما قيل فى الآية بعد ذلك، وقد قالوا فيها ثلاثةَ أقاويل أُخَر: أحدها: أن "عاصمًا" بمعنى معصوم، كـ {مَاءٍ دَافِقٍ (6)} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} والمعنى: "لا معصومَ إلا من رَحِمَهُ الله". وهذا فاسدٌ؛ لأن كلَّ واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوعٌ لمعناه الخاصِّ به، __________ (1) (ظ): "العاصم".

(3/940)


فلا يشاركُهُ فيه المعنى الآخرُ، وليس الماءُ الدافقُ بمعنى المدفوق، بل هو فاعلٌ على بابه، كما يقال: "مَاءٌ جَارٍ" فـ"دافقٌ " كـ"جارٍ " فما الموجب للتكلُّف البارد؟! وأما "عيشة راضية"، فهي عند سيبويه على النسب، كـ" تامِرٍ ولابِنٍ" أي: ذات رضى، وعند غيره كـ "نهارٍ صَائِمٍ وليْلٍ قَائِمٍ" على المبالغة. والقول الثاني: إنَّ: "مَنْ رَحِمَ" فاعلٌ لا مفعول، والمعنى: "لا يَعْصِمُ اليومَ مِنْ أمْرِ الله إلا الراحمُ، فهو (1) استثناءُ فاعل من فاعل، وهذا وإن كان أقلَّ تكلُّفًا، فهو أيضًا ضعيف جدًّا، وجزالة الكلام وبلاغتُه تأباه بأوّل نظر. والقول الثالث: إن في الكلام مضافًا محذوفًا قام المضافُ إليه مقامَهُ، والتقدير: "لا معصومَ عاصمٍ اليومَ مِنْ أمر الله إلا مَنْ رحِمَهُ الله" وهذا من أنكر الأقوال وأشدِّها منافاة للفصاحة والبلاغة (2)، ولو صرّح به لكان مستغثًّا!. المثال الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فهذا من الاستثناء السَّابق زمان المستثنى فيه زمان المستثنى منه، فهو غيرُ داخل فيه، فمن لم يشترطِ الدُّخولَ فلا يقدِّر شيئًا، ومن قال: لابُدَّ من دخوله قَدَّر دخولَهُ في مضمون الجملة الطَّلَبيَّة بالنَّهي، لأن مضمونَ قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الإثم والمؤاخذة، أي أنَّ الناكِحَ ما نكحَ أبُوهُ آثِمٌ مُؤَاخَذٌ، إلا ما قد سَلَفَ قبلَ النَّهيِ وإقامَةِ الحُجَّة، فإنه لا __________ (1) (ق وظ): "فهذا". (2) (ظ): "مناقضة للفصحاء والبلغاء".

(3/941)


تتعلَّقُ به المؤاخذةُ. وأحسن من هذا -عندي- أن يقال: لما نهى -سبحانه- عن نِكاح مَنْكوحاتِ الآباءِ، أفادَ ذلك أن وَطْئَهنَّ بعد التحريم لا يكون نكاحًا أَلْبتة، بل لا يكون إلا سفاحًا, فلا يترتب عليه أحكامُ النكاح من ثُبوت الفراش ولحوق النسب، بل الوَلَدُ فيه يكونُ وَلَدَ زنْيَةٍ، وليس هذا حكمَ ما سلف قبل التحريم, فإن الفراشَ كان ثابتًا فيه، والنسب لاحق، فأفاد الاستثناءُ فائدةً جليلةً عظيمةً، وهي: أن وَلَدَ مَنْ نكَحَ ما نكح (1) أبُوه قبلَ التحريم ثابتُ النسبِ، وليس ولدَ زِنا، والله أعلم. المثال الخامس: قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] ومعلوم أن التقاة ليستْ بموالاة، ولكن لما نهاهم عن مُوالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتَهم والبراءةَ منهم ومجاهَرَتَهُم بالعداوة في كلِّ حال، إلاَّ إذا خافوا من شرِّهم، فأباح لهم التَّقيَّةَ، وليست التَّقِيَّةُ موالاةً لهم. والدخولُ هاهنا ظاهر، فهو إخراجٌ من مُتَوَهَّمٍ غيرِ مُرادٍ. المثال السادس: قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} (2) فهذا من المنقطع لا بالاعتبار الذي ذكره ابنُ خروف؛ من كون المستثنى جملةً مستقلةً، بل باعتبار آخر, وهو: أنه ليس المرادُ إثباتَ المسيطرية (3) على الكفار, فإن اللهَ __________ (1) "ما نكح" ليست فى (ع). (2) الآية الثالثة من (ع) وحدها. (3) كذا بالأصول.

(3/942)


سبحانه بعثَهُ نذيرًا مبلغًا لرسالات ربِّهِ، فَمَنْ أطاعه فله الجَنَّة، ومن عصاه فله النَّارُ، قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} [يونس: 108] قال المفسِّرونَ: المعنى: أنك لم تُرْسَلْ مُسَلَّطًا (1) عليهم، قاهِرًا لهم جبَّارًا كالملوك، بل أنت عبدي ورسولي المُبِّلِّغُ رسالاتي، فمن أطاعَكَ فله الجنَّةُ، ومَنْ عصاك فله النَّارُ، ويوضحُ هذا أن المخاطبينَ بهذا الخطاب هم الكفَّارُ، فلا يَصِحُّ أن يكونوا هم المُسْتَثنيْنَ. المثال السابع: قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 - 26] وهذا فيه نفيٌ لسماع اللَّغو والتأثيم وإثبات لضده، وهو السَّلامُ المُنافي لهما، فالمقصودُ به نفيُ شيء وإثباتُ ضدِّه، وعلى هذا فلا حاجةَ إلى تكلُّفِ دخوله تحتَ المستثنى منه؛ لأنه يتضمَّنُ زوالَ هذه الفائدةِ من الكلام، ومن ردَّه (2) إلى الأوَّل قال: لما نفى عنهم سماعَ اللَّغو والتأثيمِ وهما مما يقال، فكأن النفسَ تشوّفَتْ إلى أنه هل يسمعُ فيها شيء غيره، فقال: "إلا قيلاً سلامًا سلامًا" فعاد المعنى إلى: "لا يسمعونَ فيها شيئًا {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} "، وأنت إذا تأملتَ هذين التقديرينِ رأيتَ الأوّل أصوبَ، فإنه نَفَى سماعَ شيء وأثبتَ ضِدَّهُ، وعلى الثانى نفى سماعَ كلِّ شيء إلا السَّلام، وليس المعنى عليه، فإنهم يسمعون السَّلامَ وغيْرَهُ فتأمله. __________ (1) (ق): "سلطانًا"، و"الملوك" بعدها ليست في (ق). (2) (ع): "قدر"، و (ق): "قد رده ".

(3/943)


المثال الثامن: قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وهذا من الاستثناءِ السابق زمانُه زمان المستثنى منه، ولمّا كانت الموتَةُ الأولى من جنس الموت المنفي، زعم بعضُهم أنه مُتَّصِلٌ، وقال بعضهم: "إلاَّ" بمعنى: "بَعْدَ"، والمعنى: لا يَذُوقون بعدَ المَوْتَةِ الأولى مَوْتًا في الجَنَّةِ، وهذا معنى حسنٌ جدًّا يفتقرُ إلى مساعدة اللَّفظ عليه، ويُوضحُه أنه ليس المرادُ إخراج الموتةِ الأولى من الموتِ المنفي، ولا ثَمَّ شيءٌ مُتَوَهَّمٌ يُحتاجُ لأجله إلى الاستثناء، وإنما المُراد الإخبار بأنهم بعد موتَتِهم الأولى التي كَتبَها الله عليهم لا يذوقون غيْرَها. وعلى هذا فيقالُ: لما كان ما بعدَ "إلاَّ" حكمه مخالفٌ لحكم ما قبلَها، والحياةُ الدائمة في الجنَّة إنّما تكونُ بعد الموتة الأولى، كانت أداةُ "إلاَّ" مفهمةً هذه البَعْدِيَّة، وقد أُمِن اللَّبْس لعدم دخولها في الموت المَنفي في الجنة، فتجرَّدَتْ لهذا المعنى، فهذا من أحسنِ ما يُقَالُ فْي الآية، فتأمله. المثال التاسع: قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 23 - 25] فهذا على عَدَم تقدير التّنَاول يكونُ فيه نفى الشئ وإثباتُ ضِدِّه، وهو أظهرُ، وعلى تقدير التّناول لما نفى ذوْق البَرْد والشَّرَاب، فربما تُوهِّمَ أنهم لا يذوقون غيرهما فقال: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} فيكون الاستثناءُ من عامل (1) مقدَّرٍ. المثال العاشر: قوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل: 10 - 11] فعلى تقدير عدم الدُّخول، نفى __________ (1) (ع): "تمامٍ "، و (ظ): "عام ".

(3/944)


الخوفَ عن المُرسلين وأثبته لمن ظَلَمَ ثم تاب، وعلى تقدير الدخول يكون المعنى: "ولا غيرهم إلا من ظلم". وأما قول بعض الناس: إنَّ "إلاّ" بمعنى الواو، والمعنى: "ولا مَنْ ظلمَ " فَخَبْطٌ منه، فإن هذا يرفع الأمانَ عن اللُّغة ويُوقِعُ اللَّبْسَ في الخطاب، و"الواو"، و"إلاّ" متنافيان، فأحدُهُما يثبتُ للثاني نظيرَ حكم الَأول، والآخر (1) ينفي عن الثاني ذلك، فدعوى تَعاقبهما دعوى باطلة لغةً وعرفًا، والقاعدةُ: أن الحروف لا ينوبُ بعضُها عن بعض خوفًا من اللَّبْسِ وذهاب المعنى الذي قُصِدَ بالحرف، وإنما يُضَمَّنُ الفعل ويُشْرَبُ معنى فعلٍ آخَرَ يقتضي ذلك الحرفَ، فيكونُ ذكرُ الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائمًا (2) مقامَ ذكر الفعلين، وهذا من بديع اللغة وكمالها، ولو قُدِّر تعاقُب الحروف، ونيابة بعضها عن بعض، فإنما يكونُ ذلك إذا كان المعنى مكشوفًا واللَّبْسُ مأمونًا، فيكون من باب التفنّن في الخِطاب والتَّوَسّع فيه، فإما أن يُدَّعَى ذلك من غير قرينة في اللَّفظ فلا يَصِحُّ، وسنُشْبعُ الكلامَ على هذا في فصل مفرد إن شاء الله تعالى. والذي حملَهم على دعوى ذلك أنهم لما رَأَوا الخوفَ مُنتفيًا عن المذكور بعد "إلاّ" ظنُّوا أنها بمعنى الواو لكون المعنى عليه، وغلِطوا في ذلك، فإن الخوفَ ثابت له حالَ ظلمِهِ وحالَ تبديلِهِ الحُسْنَ بعدَ السُّوءِ؛ أما حالُ ظلمِهِ فظاهِرٌ، وأما حالُ التَّبديل فلأَنَّه يخافُ أنه لم يَقُمْ بالواجب، وأنه لم يقبلْ منه ما أتى به، كما في التِّرمذي عن __________ (1) (ع وظ): "الأخرى". (2) في الأصول: "قائم" بالرفع!.

(3/945)


عائشةَ قالت: "قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] هو الرجلُ يزني ويسرقُ ويخافُ؟ قال: "لا يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ هُوَ الرَّجُل يَصُومُ وَيُصَّلِّي وَيَخَافُ أنْ لا يُقْبلَ مِنْهُ" (1) فمن ظَلَمَ ثمَّ تابَ فهو أولى بالخَوْفِ، وإنْ لمْ يكنْ عليه خَوْف. وقد يجيء الانقطاعُ في هذا الاستثناء من وجهٍ آخَرَ، وهو أن ما بعد "إلاَّ" جملة مستقلّةٌ بنفسها، فهي منقطعة مما قبلَها لانقطاع (2) ألجُمَل بعضِها عن بعض، فيُسَمَّى منقطعًا بهذا الاعتبار كما تقدم نظيرُه، والله اعلم. المثال الحادي عشر: قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} [الانشقاق: 22 - 25] فهذا يبعُدُ تقدير دخوله فيما تقدَّم قبلَه جدًّا، وإنما هو أخبارٌ عن مآل الفريقين (3)، فلما بشَّر الكافرينَ بالعذاب بشَّر المؤمنينَ بالأجر غيرِ الممنون، فهذا من باب المثاني الذى يذكرُ فيه الشئ وضِدُّه , كقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14] فليس هناك مقدَّرٌ يخرج منه هذا المستثنى, والله أعلم. __________ (1) أخرجه الترمذى رقم (3175) , وابن ماجة رقم (4198) وأحمد: (6/ 159 و 205) والحاكم فى "المستدرك": (2/ 393) وصحح إسناده! إلا أن الراوى عن عائشة -وهو عبد الرحمن بن سعيد بن وهب- لم يلقها, قاله أبو حاتم كما فى "المراسيل": (ص/ 127) لابنه. وللحديث شاهد من حديث أبى هريرة أخرجه الطبرانى فى "الأوسط": (4/ 198). (2) (ع): "انقطاع الجمل", و (ظ): "مما قبلها داخلة فى انقطاع ... ". (3) (ق): "عما للفريقين".

(3/946)


المثال الثانى عشر: قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37] فمن آمنَ ليس داخلاً في الأموال والأولاد، ولكنَّه من الكلام المحمول على المعنى؛ لأنه تعالى أخبَرَ أن أموالَ العبادِ وأولادَهم لا تُقَرِّبُهمْ إليه، وذلك يتضمَّنُ أن أربابَها ليسوا هم القريبين (1) إليه، فاستثنى منهم من آمَنَ وعَمِل صالحًا، أي: لا قريبَ عندَه إلا مَنْ آمن وعَمِل صالحًا، سواء كان له مالٌ ووَلَدٌ، أو لم يكنْ له، والانقطاعُ فيه أظهرُ، فإنه تعالى نفى قرْبَ الناس إليه بأموالهم وأولادهم، وأثبتَ قُربَهُمْ عندَه بإِيمانهم وعملِهِم الصالح، فتقديرُ "لكِنْ" هاهنا أظهرُ من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء. وإذا تأمَّلْتَ الكلامَ العَرَبيَّ رأيت كثيرًا منه واردًا على المعنى لوضوحِهِ، فلو وَرَدَ على قياس اللَّفظ مع وضوح المعنى لكان عِيًّا، وبهذه القاعدة تزولُ عنك إشكالاتٌ كثيرةٌ، ولا تحتاجُ إلى تكلُّف التَّقديرات، التي إنما عَدَلَ عنها المتكلِّمُ لما في ذِكْرها من التكَلُّفِ، فقدَّر المُتكَلِّفون لنطقه ما فَرَّ منه، وألزموه بما رَغِبَ عنه، وهذا كثيرٌ في تقديرات النُّحاة التي لا تخطرُ ببال المتكلِّم أصلاً، ولا تقع في تراكيب الفصحاء، ولو سمعوها لاستهجنوها، وسنعقدُ -إن شاء الله- لهذا فصلاً مستقلاً (2). المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] وتقديرُ الدُّخول في هذا أظهر؛ إذ المعنى: "لن يَنَالوا مِنْكمْ إلا أَذىً، وأما الضَّرَرُ فإنهم لن ينالوه منكم، وإن تَصْبِروا وَتتقوا __________ (1) (ظ): "من المقربين". (2) (ظ): "وسنعقد لها إن شاء الله تعالى فصلاً مستقلاً".

(3/947)


لا يَصرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا"، فنفى لحوقَ ضَررِ كيدِهم بهم، مع أنهم لا يَسْلَمون من أذىً يلحقُهم بكيدهم، ولو أنه بالإرهاب والكلام وإلجائهم إلى محاربَتِهم وما ينالُهم بها من الأذى والتعب، ولكن ليس ذلك بضارٍّ لهم، ففرَّق بين الأذى والضَرَر. المثال الرابع عشر: قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] المشهور "ظُلِمَ" مبني للمفعول، وعلى هذا ففي الاستثناء قولان: أحدهما: أنه منقطعٌ، أي: "لكنْ مَنْ ظُلِمَ "، فإنه إذا شكا ظالمه وجهر بظلمه له لم يكنْ آثمًا، وتقدير الدُّخول في الأول على هذا القول ظاهر، فإنَّ مضمونَ "لا يُحِبُّ كذا" أنه يُبْغِضُهُ ويُبْغِضُ فاعلهُ، إلا من ظُلِمَ فإن جَهْرَهُ وشكايتهُ لظالمه حلالٌ له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقوبتهُ" (1). فعِرْضُهُ: شِكَايَةُ صاحب الحق له، وقولُه: ظَلَمَني ومَطلنِي ومَنعَني حقِّي، وعقوبته: ضَرْبُ الإمامِ له حتى يؤدِّيَ ما عليه في أصحِّ القولين في مذهب أحمد، وهو مذهبُ (2) مالك، وقيل: هو حبسه. وقيل: هو استثناءٌ مُتَصِل، والجهرُ بالسوء هو جهره بالدُّعاء، أن يكشفَ اللهُ عنه ويأخذ له حَقَّهُ، أو يشكو ذلك إلى الإمام ليأخذ له بحقِّه. __________ (1) أخرجه أحمد: (29/ 465 رقم 19746)، وأبو داود رقم (3628)، والنسائي: (7/ 316)، وابن ماجه رقم (2427)، وابن حبان "الإحسان": (11/ 486)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من حديث الشريد بن سويد - رضى الله عنه -. والحديث صححه ابن حبان والحاكم، وحسَّنه الحافظ في "الفتح ": (5/ 76). (2) "أحمد، وهو مذهب" سقطت من (ق).

(3/948)


وعلى هذا التقدير فيجوزُ فيه الرَّفعُ بدلاً من "أَحَد" المدلول عليه بالجهر، أي: "لا يُحِبُّ الله أن يَجْهَرَ أحَدٌ بالسُّوء إلا المظْلومُ" ويجوزُ فيه النصبُ بَدَلاً من الجهر، والمعنى: "إلاَّ جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ". وقُرِئ: "مَنْ ظَلَمَ" (1) بالفتح، وعلى هذه القراءة فمنقطع ليس إلا، أي: "لكنِ الظالِمُ يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القَوْل". المثال الخامس عشر: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فهذا استثناء منقطعٌ تضمَّنَ نفيَ الأكل بالباطل، وإباحةَ الأكل بالتِّجارة الحقِّ، ومن قدَّر دخولَه في الأوَّل قدَّر مستثنىً منه عامًّا، أي: "لا تأكلُوا أموالَكمْ بَيْنَكم بسبب من الأسباب، إلا أن تكونَ تِجَارةً" أو يقدَّرُ: بـ "البَاطلِ ولا بغيرِهِ إلا بالتجَارة"، ولا يخفى التكَلُّف على هذا التقدير بل هو فاسدٌ، إذ المُرادُ بالنهي الأكل (2) بالباطل وحدَه، وقُرِئَ برفعِ التجارة ونصبها، فالرَّفعُ على التَّمام، والنَّصب على أنها خبرُ كان النَّاقصة، وفي اسمها على هذا وجهان: أحدهما: التقدير: إلا أن يَكونَ سببُ الأكل أو المعاملة تجارةً (3). والثاني: إلا أن تكونَ الأموالُ (4) تجارةً (5). __________ (1) وهب قراءة زيد بن أسلم وابن أبى إسحاق. انظر: "الجامع لأحكام القرآن": (6/ 3). (2) (ق): "لا تأكل". (3) فحُذِف المضاف وأقيم المضاف إليه مكانه. (4) كذا في (ع)، و (ق): "المعاملة"، و (ظ): "أموال الناس". (5) فيكون اسمها مضمرًا فيها.

(3/949)


المثال السادس عشر: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وهذا من أشكل مواضع الاستثناء، لأنَّ مملوكَتَهُ إذا كانت محصَنَةً إحصانَ التَّزويجِ فهي حرامٌ عليه، والإحصان هنا إحصانُ التَّزويج بلا ريْب، إذ لا يَصِحُّ أن يُرادَ به: إحصانُ العِفَّة، ولا إحصان الحُرِيَّة, ولا إحصان الإسلام، فهو إحصانُ التَّزويج قطعًا، فكيف يُستثنى من المحرَّمات به المملوكة؟! فقال كثير من الناس: الاستثناء هاهنا منقطع، والمعنى: "لكنْ ما مَلَكَتْ أيمانكم فهو لَكم حَلالٌ". ورُدَّ هذا بأنه استثناءٌ من مُوْجب، والانقطاعُ إنما يقع حيث يقعُ التفريغُ، ورُدَّ هذا الرَّد بأن الانقطَاعَ يقعُ في الموْجب وغيره، قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الانشقاق: 24 - 25]. وقالت طائفةٌ: الاستثناءُ على بابه متَّصِل، وما مَلَكَتْ أيماننا مستثنى من المُزَوَّجات، ثم اختلفوا: فقالت طائفة من الصَّحابة، منهم ابن عباس وغيره وبعض التابعين: إنه إذا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثم باعَها، كان بيعُها طلاقًا، وتَحِلُّ للسَّيد لأنها ملكُ يمينه، واحتجَّ لهم بالآية، ورُدَّ هذا المذهب بأمور: أحدها: أنه لو كان صحيحًا؛ لكان وطؤُها حلالاً لسيِّدها إذا زَوَّجها؛ لأنها ملك يمينه، فكما اجتمعَ ملكُ سيِّدها لها وحِلُّها للزوج، فكذلك يجتمعُ ملك مشتريها لها وحِلُّها للزَّوج، وتناول اللفظ لهما واحد. الثاني: أن المشتريَ خليفَةُ البائعِ، فانتقل إليه بعقد الشِّراء ما كان

(3/950)


يملكُه بائعُها, وهو كان يملك رقَبَتَها مسلوبة منفعةِ البُضع ما دامت مُزَوَّجَةً، ونُقِلَ إلى المشتري ما كان يملكهُ، فملكها (1) المشتري مسلوبةَ منفعةِ البُضع، فإذا فارقها زوجها رجع إليه البُضع، كما كان يرجِعُ إلى بائعها كذلك، فهذا مَحْض الفقه والقياس. الثالث: أنه قد ثبت في "الصحيحين" (2) أن عائشة رضي الله عنها اشترت بَرِيرَةَ وكانت مُزَوَّجَةً فعتقَتْها وخَيَّرَها النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولو بَطلَ النكاح بالشِّراء لم يخيِّرْها، وهذا مما أَخذ الأئمة الأربعة وغيرهم فيه برواية ابن عباس وتركوا رأيَهُ، فإنه راوي الحديث، وهو ممن يقول: بيعُ الأمَةِ طَلاقُها. وقالت طائفة أخرى: الآية مختصَّة بالسَّبايا، قال أبو سعيد الخُدْري: نزلت في سبايا أوْطَاس (3). قالوا: فأباح الله تعالى للمسلمين وطءَ ما ملكوه من السَّبي، وإن كنَّ محصَنَاتٍ، ثم اختلف هؤلاء: متى يُبَاحُ وطءُ المَسْبيَّة؛ فقال الشافعي وأبو الخطَّاب (4) وغيرُهما: يُبَاحُ وطؤُها إذا تم استبراؤها، سواء كان زوجُها موجودًا أو مفقودًا، واحتجُّوا بثلاث حُجَج: أحدها: أن الله سبحانه أباح وَطْءَ المَسْبِيَّات بمُلك اليمين مستثنيا لهن من المحْصَنات. الثانية: ما رواه مسلم في "صحيحه" (5) من حديث أبي سعيد __________ (1) (ق): "المشتري بملكه فيما ملكها". (2) البخاري رقم (2536)، ومسلم رقم (1504). (3) أخرجه مسلم رقم (1456). (4) الكلوذاني الحنبلي ت (510). (5) تقدم.

(3/951)


الخُدْري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنَيْن بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقي عدُوًّا فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سَبَايا، فكأن ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرَّجوا من غِشْيانهنْ من أجل أزواجهنَّ من المُشركينَ، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فهنَّ لكم حلالٌ إذا انقضتْ عِدَّتُهُن. وفي التِّرمْذي (1) عن أبي سعيد: أَصَبْنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواجٌ في قومهنَّ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فنزلت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا صريح في إباحتهنَّ، وإن كنَّ ذواتِ أزواجٍ. وفى التِّرمذي (2) و"مسند أحمد" (3) من حديث العِرْبَاض بن سَارِيَةَ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ وطْءَ السَّبايا حتى يضعنَ ما في بطونهن"، فهذا التحريمُ إلى غاية, وهي: وَضْعُ الحمل، فلابُدَّ أن يحصلَ الحِلُّ بعد الغاية، ولو كان وجودُ أزواجهنَّ مانعًا من الوطء لكان له غايتان؛ إحداهما: عدمُ الزوج. والثانية: وضعُ الحمْل، وهو خلاف ظاهر الحديث. قالوا: ولأن ملك الكافر الحربي البُضْعَ، لم يبقِ له حُرْمَةٌ ولا عِصْمة؛ إذ قد ملك المسلمون عليه ما كان يملكُهُ، فملكوا رقبةَ زوجته، فكيف يقال ببقاء (4) العِصمة فى ملك البُضع، لا سيَّما والمسلم يستحق __________ (1) رقم (1132) وقال عَقِبه: "هذا حديث حسن". (2) رقم (1564) واستغربه. (3) (28/ 384 رقم 17153). وفى سند حديث العرباض مقال، لكن له شواهد يقوّى بها تقدم بعضها. (4) (ع): "بقاء".

(3/952)


ملك رقبته وأولاده وسائرَ أملاكه، فما بال ملكِ البُضع وحدَه باقيًا على العِصمة؟! فهذا لا نصَّ ولا قياس ولا معنى، قالوا: فقد أذِنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فى وطء السَّبايا بعد انقضاءِ عِدَّتِهنَّ مُطْلقًا، ولو كان بقاءُ الزوج مانعًا لم يأذَنْ فى وطْئِهِنَّ إلا بعدَ العلم بموته، وهذا المذهبُ كما تراه قوَّة وصحَّة. وقال أصحابنا -القاضي وغيره-: إنما يباح وطؤُها إذا سُبيت وحدَها، فلو سُبيتْ مع زوجها فهما على نكاحهما ولا يباح وطؤهَا، قالوا: لأنها إذا (1) سُبيتْ وحدَها فبقاء الزوج مجهولٌ، والمجهول كالمعدوم، فنُزِّلت منزلةَ من لا زوجَ لها، فحَلَّ وطؤُها، ولا كذلك إذا كان زوجُها معها. ثم أوردوا على أنفسهم سؤالاً وهو: إذا سُبيتْ وحدَها وعُلِمَ بقاءُ زوجها فى دار الحرب؛ وهذا سؤال لا محيدَ لهَم عنه ولا يُنجيهم منه إلاّ قولُهم بالحِلّ، وإن عُلِمَ بقاء الزوج استنادًا إلى زوال عِصمة النكاح بالسِّباء، فإنهم إذا أجابوا بالتزام التحريم، خالفوا النصوص خلافًا بيِّنًا، وإن أجابوا بالحِل مع تحقيق بقاء الزوج نقضوا أصلَهم، حيث أسندوا الحِلَّ إلى كون المسبِية خالية من الأزواج تنزيلاً للمجهول منزلةَ المعدوم. فقول أبي الخطاب أفقهُ وأصحُّ وعليه تتنزَّلُ الآية والأحاديث، ويظهرُ به أنَّ الاستثناءَ متَّصِلٌ، وأن الله تعالى أباحَ من المحصَناتِ مَنْ سباها المسلمون. فإن قيل: فعلى ما قرَّرتموه يزول الإحصان بالسِّباء، فلا تدخلُ __________ (1) من قوله: " سبيت مع ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(3/953)


في المحصنات، فيجيء الانقطاعُ في الاستثناء. قيل: لما كانت محصنة قبل السِّباء، صحَّ شمول الاسم: لها فأخرجت بالاستثناء. فإن قيل: فما تقولون في الأمَة المزوَّجة إذا بيعتْ فإنها محصَنَةٌ قد ملكتْ نفسَها (1)، فهل هي مخصوصةٌ من هذا العموم أو غير داخلة فيه؟. قيل: هاهنا مسلكان للناس: أحدهما: أنها خُصَّت من العموم بالأدِلَّة الدَّالة على أن البيعَ لا يفسخُ النِّكاح، وأن الفرج لا يكون حلالاً لشخصين في وقت واحد. والمسلك الثاني: أنها لم تدخلْ في المستثنى منه؛ لأن السَّيَد إذا زَوَّجَها فقد أخرج منفعة البُضْع عن ملكه، فإذا باعها فقد انتقلَ إلى المشتري ما كان للبائع، فملكها المشترى مسلوبةً منفعةَ البُضْع، فلم تدخل هذه المنفعةُ في ملكه بعقد البيع، فلم تتناوَلْها الآيةُ، وهذا المسلك ألطفُ وأدقُّ من الأول، والله أعلم. * * ** __________ (1) من (ق).

(3/954)


فوائد شتى منقولة من خط القاضى أبي يعلى -رحمه الله تعالى- فائدة إسماعيل بن سعيد (1) عن أحمد: لا يجهرُ بالقراءة في صلاة الاستسقاء، ويصلِّي صلاةَ النَّاس، ليس فيها تكبيرٌ مثل تكبير العيدين. وعنه محمد بن الحكم (2) والكَوْسج (3) والمرُّوْذِي (4): يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زيد (5)، قال أبو حفص (6): يحتملُ أن هذا القولَ هو المتأخرُ لأنه قد قيل: إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديمٌ. فائدة قال أحمد: لا تعجبُني صلاةُ الخوفِ ركعةً لما روى أبو عياش __________ (1) أبو إسحاق الشالنجى من أصحاب الإمام أحمد ت (230) عنده مسائل كثيرة حسنة مُشبعة. "طبقات الحنابلة": (1/ 273). (2) أبو بكر الأحول، من خواص أصحاب أحمد، ومات قبله سنة (223). "طبقات الحنابلة": (2/ 295). (3) هو: إسحاق بن منصور أبو يعقوب ت (251) ومسائله طبع أكثرها. "طبقات الحنابلة": (1/ 303). (4) هو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المرُّوذي -نسبة إلى مَرْو الرُّوْذ- وهو المقدَّم من أصحاب أحمد، ولازمه حتى مات وتولى إغماضه وغسله ت (275). "طبقات الحنابلة": (1/ 137). (5) "أن النبى - صلى الله عليه وسلم - خرج يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو, وحوّل رداءَه، ثم صلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة" أخرجه البخاري رقم (1022)، ومسلم رقم (893) وليس في رواية مسلم ذِكْر للجهر بالقراءة. (6) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم أبو حفص البَرْمكي ت (387) , له تصانيف وفتيا واسعة. "طبقات الحنابلة": (3/ 273).

(3/955)


الزُّرَقِيُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بعُسْفان ويوم بنى سُلَيْم (1)، وكذا روى جابر (2) وابن عباس (3) وابن أبي حَثْمَة (4) في ذات الرقاع، وكذلك أبو هريرة (5) في عام نجد أنه صلى ركعتين، وكذا روت عائشة (6) وابنُ عُمر (7) وأبو موسى (8) (9). فائدة ابن بختان (10) عن أحمد في القوم إذا أرادوا الغارة فخشوا أن يُبادِرَهُم العدُوُّ يصلُّونَ على دوابِّهم، أو يؤخرون الصَّلاةَ إلى طلوع الشَّمس؟ قال: أيّ ذلك شاءوا فعلوا، والحجَّةُ فيه تأخير النبى - صلى الله عليه وسلم - أربع صَلَوات يومَ الخندق (11). __________ (1) أخرجه أحمد: (27/ 120 رقم 16580)، وأبو داود رقم (1236)، والنسائي: (3/ 176)، وابن حبان "الإحسان": (7/ 128) والحاكم: (1/ 337). وصححه ابن حبان والحاكم، وجوَّد إسناده الحافظ في "الإصابة": (4/ 143). (2) أخرجه البخاري رقم (4136)، ومسلم رقم (843). (3) أخرجه البخاري رقم (944). (4) أخرجه البخاري رقم (4131)، ومسلم رقم (841). (5) أخرجه أبو داود رقم: (1240)، والترمذي رقم (3035)، والنسائى: (3/ 173 - 174). (6) أخرجه أبو داود رقم (1242). (7) أخرجه البخاري رقم (943)، ومسلم (839). (8) أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف": (2/ 215) من فعله. (9) وانظر "المغني": (3/ 315). (10) هو: يعقوب بن إسحاق بن بختان أبو يوسف، من أصحاب أحمد. "طبقات الحنابلة": (2/ 554)، وتحرف الاسم في (ق وظ) إلى: "حبان ولحيان"!. (11) أخرجه أحمد: (6/ 17 رقم 3555)، والترمذي رقم (179) والنسائي: =

(3/956)


وعنه أبو طالب (1): إن كانوا منهزمينَ يصلُّون رُكبانًا، يومِئُونَ ولا يُؤَخِّروُنَ الصَّلاةَ على ما صلَّى النبِي - صلى الله عليه وسلم -، هذه الآيةُ نزلتْ بعدما صلَّى النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -، والحجَّةُ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (2) [البقرة: 239]. فائدة نقل محمد بن الحكم (3) عن أحمد في رجل صلَّى ركعتينِ من فرض، ثم أقيمتِ الصَّلاةُ. قال: إن شاءَ دَخَلَ مع الإمام، فإذا صلَّى معه ركعتينِ سَلَّم، وأَعْجَبُ إليَ أن يقطعَ الصَّلاةَ ويدخلَ مع الإمام، قال القاضي: وظاهرُ هذا: الدخولُ من غير تحريمة، غير أنه اختار القطعَ والدخولَ بتحريمةٍ. فائدة أبو طالب: سألتُ أحمد عن الرجل يدخلُ المسجدَ يظنُّ أنهم قد صلُّوا، فيصلِّي ركعتين، ثم تُقَامُ الصَّلاةُ. قال: قد اختلفوا فيها؛ بعضٌ قال: يمضِي لا يَدْخُلُ فرضٌ في فرضٍ، وبعضُهم قال: يُسَلِّمُ. قلت: ما تقولُ؟ قال: ما يُبالي كيف، قلت: يُسَلِّمُ ويدخلُ معه؟ قال: نعم. __________ = (2/ 17) وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وفيه انقطاع، وله شواهد يتقوَّى بها. (1) هو: أحمد بن حميد أبو طالب المُشكاني من خواص أصحاب أحمد ت (244). "طبقات الحنابلة": (1/ 81). (2) الآية ساقطة من (ظ). (3) (ق): "عبد الحكم" وهو خطأ وقد تكرر في (ق).

(3/957)


قال القاضي: وظاهرُ هذا أنه منع من الدخول لأنه قال: يستأنفُ، فإذا قلنا: لا يدخل معه فهل يمضي في صلاتِهِ أو يقطعُ؟. على روايتين: محمد بن الحكم عنه: إن شاءَ دخلَ معه وأعجبُ إليَّ أن يَقْطَعَ، وأبو طالب: يُسَلَّمُ ويدخل معه، والثانية: يمضي. فعنه أبو الحارث (1) -وقد سُئلَ عن رجل دخل في مسجد فافتتحَ صلاة مكتوبة، وهو يرى أن قد صلّوا، فلما صلَّى ركعة أو ركعَتينِ أقيمتِ الصَّلاةُ - قال: يُتم الصَّلاةَ التي افتتحها، ثم إن شاء صلَّى مع القوم، وإن شاء لم يدخلْ معهم. قال أبو حفص: وكذا يقولُ فيمن افتتحَ تطوُّعًا ثم أقيمتِ الصَّلاةُ: إنه لا يقطعُها ولكن يتمُّها، ووجهه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ " (2) فوجب أن لا يخرجَ منها بغير التَّسليم الذي بعد التَّمام. ابن مسعود: من دَخلَ فى صلاة فلا يَقطَعْ حتى يَفْرُغَ. ووجه الأخرى، وأنه يخرجُ منها: أن صلاة الجماعة واجبةٌ، فإن قلنا: يمضي في صلاتِه، فَفَرَغ، ثم أدركَ الجماعةَ في المسجد، فهل يدخلُ معهم، أو يكونُ مخيَّرًا فى الدُّخول والانصراف؟ على روايتين: __________ (1) هو: أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، من أصحاب الإمام أحمد له عنه مسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة": (1/ 177). (2) أخرجه أحمد: (2/ 292 رقم 1006)، وأبو داود رقم (61)، والترمذى رقم (3)، وابن ماجه رقم (275) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "هذا الحديث أصحُّ شيءٍ في هذا الباب وأحسن" وصحح الحديث جمع من الأئمة، وله شاهد من حديث أبي سعيد.

(3/958)


إحداهما: يُخيَّرُ، وهو المنصوصُ في رواية أبي الحارث، والأخرى: يجبُ أن يُصَلِّيَ معهم إذا حضرَ في مسجدٍ أهلُه يصلُّون، وهو الأكثر في مذهبه، وبه وردت السّنَّةُ. فإن أحرم بتَطَوّعُ، ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ، فهل يقطعُها ويدخل في الجماعة أو يتِمها؟ على روايتين، ولا فرقَ بين ركعتي الفجر وغيرها، كاختلاف قَوْليه فيمن انفردَ بصلاةِ فريضة، ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ. فإنْ دخل في تطوُّعٍ ثم ذكر أن عليه فريضةً، فعنه: يُعجِبُني أن ينصرفَ عن شَفْع ثم يقضي الفريضة. قال أبو حفص: ويُخَرَّجُ عنه في هذه المسألة رواية أخرى، كما ذكرنا فيمن دخلَ في تَطَوُّع ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ، ووجهُهُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلْيُصَلِّهَا إذا ذَكرَها" (1). فائدة (2) قال أبو الحارث: سئل أحمدُ عن العَشاءِ إذا وُضِعَ وأقيمتِ الصَّلاةُ، قال: قد جاءت أحاديثُ، وكان القومُ في مجاعَةٍ، فأما اليومَ فلو قامَ رَجَوْت، وقال في روايةِ جماعةٍ: يبدأُ بالطَّعام. فإن قلنا: يبدأُ بالطعام، فهل يتناولُ منه شيئًا أو يُتمُّ عشاءَه؟ حنبل (3) عنه: إذا كان الرجل قد أكلَ من طعامه لقمة أو نحو __________ (1) أخرجه البخاري رقم (597)، ومسلم رقم (684) من حديث أنسِ -رضي الله عنه-. (2) "فائدة" من (ظ). (3) هو: حنبل بن إسحاق بن حنبل أبو علي الشيباني، أحد أصحاب الإمام أحمد =

(3/959)


ذلك، فلا بأس أن يقوم إلى الصَّلاة فيصلِّيَ ثم يرجعُ إلى العَشاء لأن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دُعِيَ إلى الصلاة، وقد كان يحتزُّ من كتِف الشَّاة فأَلقى السكينَ وقام (1). أحمد بن الحسين (2): سألت أحمد: إذا حضر العَشَاءُ، وأقيمتِ الصلاةُ، قال: ابدأ بالعَشَاء. قلت: أنالُ منه شيئًا ثم أخرجُ إلى الصَّلاةِ (3)؛ قال: لا بل تَعَشَّ. قلت: أخافُ أن تفوتَني الصلاةُ جماعةً، قال: إن الرجلَ إذا تناولَ منه شيئًا ثم تركَه، فكان في نفسه شُغُلٌ من ترْكه الطَّعام إذا لم ينَلْ منه حاجَتَهُ، قلت: فيأتي على ما يُريد من الطعام ثم يُصَلِّي؛ قال: نعم، وإن خاف أن تفوتَه الصَّلاة ما دام في وقت. حَرْب (4): قلت لأحمد: الرجل يصلِّي بحضرة الطَّعام، قال: إن كان قد أكل بعضه فأُقيمتِ الصَّلاةُ، فإنه يُتمُّ أكلَهُ، وإن كان لم يأكُلْ فأحبُّ إلىَّ أن يُصلِّيَ، قال القاضي: وظاهرُ هذا الفرقُ بين أن يكون __________ = وابن عمه ت (273). "طبقات الحنابلة": (1/ 383). (1) أخرجه البخاري رقم: (208)، ومسلم رقم (355) من حديث عمرو بن أمية الضمرى. (2) هو: أحمد بن الحسين بن حسَّان السُّرَّمري، روى عن أحمد أشياء. "طبقات الحنابلة" ت (1/ 80). (3) من قوله: "إذا حضر ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) هو: حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أخذ عن الإمام، وله عنه مسائل جيدة ت (280). "طبقات الحنابلة": (1/ 388) و"مسائله " ذكر زهير الشاويش أن عنده نسخة منها؛ ثم عثر بعضهم على قطعة منها وقدَّمها رسالة علمية بجامعة أم القرى, ثم عُثر على نسخة كاملة منها. في مكتبة خاصة، وهي نسخة جيدة قديمة، رأيتُ صورة منها، وقد قدم الشيخ عبد الباري الثبيتي رسالة علمية بالمدينة "جمع مسائل حرب الكرماني عن أحمد" ونوقشت.

(3/960)


ابتدأ فيستوفي طعامَهُ، وبين أن لا يبدأ فيؤخِّرَهُ (1). فائدة إذا أقيمت الصَّلاةُ والإمامُ غيرُ حاضر، مثل أن يكون لم يخرجْ من بيته بعدُ، أو هو المؤذن، وهو في المنارة؛ فعلى روايتين: روى جماعة: لا يقوموا حتى يَرَوْهُ للحديث (2). وروى الأثرم (3) وغيره: أنه جائزٌ للمأمومين أن يقوموا قبل أن يَرَوا الإمامَ لحديث أبي هريرة: أُقيمتِ الصلاةُ وصَفَّ النّاسُ صفوفَهم وخرجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقام مَقَامَهُ ثم أومَأ إليهم بيدِهِ: "أن مَكَانَكُم " (4)، ولم يُنكرْ عليهم، فدلَّ على جوازه (5). وروى جعفر بن محمد (6) والمرُّوْذيُ وغيرهما عنه: أنه وسَّع العملَ بالحديثين جميعًا، فإن شاءوا قاموا قبل أن يَرَوْهُ، وإن شاءوا لم يقوموا حتى يَرَوْه. فائدة قال أحمد في رواية أبي طالب: إن انتظرَ الإمام المؤذِّنَ، فلا بأس __________ (1) انظر مسائل عبد الله رقم (396). (2) يعنى حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت" أخرجه البخاري رقم (637)، ومسلم رقم (604). (3) هو: أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم أبو بكر، له مسائل كثيرة عن الإمام ت (بعد 260). "طبقات الحنابلة": (1/ 162). (4) أخرجه البخاري رقم (275)، ومسلم رقم (605). (5) وانظر "الفتح": (2/ 141). (6) لم أعرف من هو؛ لأن جماعة من أصحاب أحمد كل واحد منهم يقال له جعفر بن محمد، انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 333 - 342).

(3/961)


قد فعل ذلك عمر، وإن لم ينتظرْه فلا بأس. ووجهه: قول بلال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْبِقْني بآمِين " (1)، فدلَّ على أنه لم يَنتظِرْه. فائدة (2) عبد الله (3) والكوْسَجُ قالا: كان أبو عبد الله يضَعُ نعليه بين يديه، ولا يجعلُهما بين رجليه، يعني: في الصَّلاة، إمامًا كان أو غيرَ إمام. قال عبد الله: قال (4) أبي: يُصَلِّي الفريضةَ والتَّطَوُّع ونعلُه بين يديه. ونقل حنبل وأحمد بن علي (5): يجعلُهما عن يساره. وجْهُ الأولى: أنه لا يؤذي بهما أحدًا، وقد أشار إلى ذلك فى الحديث (6). ووجهُ الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم الفتح بمكَّةَ فوضَعَ نعليه عن يَساره (7). __________ (1) أخرجه أحمد: (6/ 15)، وأبو داود رقم (937)، وأعله أبو حاتم بالإرسال "العلل ": (1/ 116). والصحيح أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال كما أخرجه الحاكم: (1/ 219)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 23, 56). (2) "فائدة" ليست في (ع). (3) هو: عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل ت (290). "طبقات الحنابلة": (2/ 5 - 20). (4) (ظ): "كان"، ولكلِّ وجه يصح. (5) هو: أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس النخشبي الأبَّار ت (290). "طبقات الحنابلة": (1/ 127) ومن تلاميذ الإمام آخر يُسمَّى: أحمد بن علي له رواية عن الإمام. (6) أخرجه أبو داود رقم (654 و 655)، والحاكم: (1/ 260، وصححه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (7) أخرجه أحمد: (24/ 113 رقم 15392)، وأبو داود رقم (648) , والنسائى: =

(3/962)


فائدة قال في رواية علي بن سعيد (1) -في الرجل الجاهل يقومُ خلفَ الإمام، فيجيءُ من هو أعلمُ بالسُّنَّة منه، فيؤخرُه أو يدفعُهُ ويقومُ في مقامِهِ-: لا أرى ذلك، فذُكر له حديثُ قيس بن عُبَادٍ حين أخَّرَهُ أُبَىُّ ابن كعب (2)؛ فقال: إنما كان غلامًا (3). قال القاضي: إنما لم يَجُزْ تأخيرُه؛ لأنه كبيرٌ قد سبق إلى ذلك الموضِع. وأجاب أحمدُ عن حديث أُبىٍّ بأن قَيْسًا كان غلامًا. قلت: وقد يؤخذُ من كلام أحمد جوازُ تأخير الصَّبِيِّ، وصلاةُ الرجل مكانَهُ، وقد قال أحمد في رواية الميمونى (4): يلي الإمامَ الشيوخُ وأصحابُ القرآن ويؤخَّرُ الغلامُ والصِّبيانُ. وقال في رواية أبى طالب - في الصَّفِّ يكون طويلاً فيكون في آخره صَبِيٌّ، فيجيء رجلٌ فيقوم خلف الصبي-: لا بأسَ هو مُتَصِلٌ بالصَّفِّ. قال بعض أصحابنا: وهذا يدُل على أنه إذا كان في الصَّفِّ خَلَلٌ __________ = (2/ 74)، وابن ماجه رقم (1431) وغيرهم من حديث عبد الله بن السائب - رضي الله عنه-. وسنده صحيح. (1) هو: علي بن سعيد بن جرير أبو الحسن النسوي، له عن أبي عبد الله جزءان مسائل ت (257). "طبقات الحنابلة": (2/ 126). (2) أخرجه أحمد: (35/ 186 رقم 21264)، وعبد الرزاق رقم (2460)، والنسائي: (2/ 88)، ابن خزيمة رقم (1573) وابن حبان "الإحسان": (5/ 558) وغيرهم، وهو حديث صحيح. (3) وعليه بوَّب ابن حبان. (4) هو: عبد الملك بن عبد الحميد بن مِهران الميموني الرَّقي أبو الحسن، من خواص أصحاب الإمام ت (274). "طبقات الحنابلة": (2/ 92).

(3/963)


مقامَ رجُلٍ لا يُبطِلُ الموقفَ؛ لأن الصبيَّ لا يصافُّ الرجلَ، وقد حكم باتصاله بالصَّفِّ، فإن كان قد امتلأ الصفُّ، وفيه صبيٌّ، فجاء رجلٌ، فللرجل إذا جاء أن يؤخِّرَهُ ويقومَ مقامَهُ لأنه أولى بالتَّقدِمَةِ. فائدة قال المرُّوْذي (1): كان أبو عبد الله يقومُ خلفَ الإمام، فجاء يومًا، وقد تجافَى النَّاسُ أن يُصَليَ أحدٌ فى ذلك الموضع، فاعتزل وقامَ في طرف الصَّفِّ، وقال: قد نهى أن يتَّخِذَ الرجل مُصَلاه مثل مَرْبَض البعيرِ (2). فائدة قال أحمد فى رواية ابنه عبد الله (3): لو أن جاهلاً صلَّى برجل فجعله عن يساره؛ كان مخالفًا للسُّنة، وردَّ إليها وجازتْ صلاتُه -في رواية جعفر بن محمد في الرجُل يقيمُ الصَّلاةَ وليس معه إلا غلامٌ: لا يَؤُمُّهُ في الفريضة، وإنما أمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عباس في تطوُّع صلاة الليل (4). وكذلك حديث أنس إنما هو تطوّعٌ (5). وروى هذه __________ (1) "فائدة" ليست في (ع) ثم العبارة فيها: "قال أحمد قال المرّوْذي ". (2) أخرجه أحمد: (24/ 292 رقم 15532)، وأبو داود رقم (862)، والنسائي: (2/ 214)، وابن ماجه رقم (1429) وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن شبل -رضى الله عنه- وفى سنده ضعف. وإن صححه الحاكم في "المستدرك ": (1/ 229)!. (3) لم أجده في الرواية المطبوعة. (4) أخرجه البخاري رقم (117)، ومسلم رقم (763) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-. (5) أخرجه البخاري رقم (727)، ومسلم رقم (658).

(3/964)


أيضًا عنه حَرْب وابن سِنْدي (1). قال بعض أصحابنا: وَجْه ذلك أنه لا يصِحُّ أن يكونَ إمامًا في هذه الصلاة، فلم تنعقد به، كالمرأة والعبد في صلاة الجمعة، ولا يلزم إذا صلَّى بامرأة أن تنعقدَ الجماعة؛ لأنها تَصِحُّ أن تكونَ إمامةً فيها في حقّ النساء. فائدة (2) اختلف أصحابنا في علَّة منع البالغ من مصَافَّة الصَّبيِّ؛ فقال أبو حفص: يُخشى أن لا يكونَ مُتَطَهرًا، يعني: فيصيرُ (3) البالغ فذًّا. وقال غيرُه: لمَّا لم يَجُزْ أن يَؤُمَّهُ لم يَجُزْ أن يُصَافَّهُ كالمرأة، وعكسُه صلاة النافلة لما جاز أن يَؤمَّهُ, جاز أن يُصَافَّهُ. وإذا ثبت ذلك؛ فالإمامُ مخيَّرٌ بين أن يقفَ في وسطهما، الرجلُ عن يمينهِ والصَّبيُّ عن يساره، وبين أن يقفا جميعًا عن يمينه إن كانت الصَّلاة فرضًا، وإن كانت نافلةً جاز أن يقفا خَلْفَهُ، نصَّ عليه، فقال: إذا كان رجل وغلام لم يُدْرِكْ في صلاة الفريضة فيقوم الرجل وسطهم بينهما كما فعل ابن مسعود في الفريضة، قيل له: حديث أنس: "أمَّنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - واليتيم" (4) قال: ذلك في التطوُّع. قال أبو حفصٍ: واحتجَّ أبو عبد الله في أن الرجل يقفُ على يمين __________ (1) هو: حُبَيش بن سِنْدي، من كبار أصحاب الإمام، له عنه مسائل. "طبقات الحنابلة": (1/ 390). (2) "فائدة" ليست في (ع). (3) (ق): "فيكون". (4) تقدم قريبًا.

(3/965)


الإمام، والغلامُ عن يساره، بما رواه (1): حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال: دخلت أنا وعمي عَلْقَمةُ على عبد الله بن مسعود بالهَاجرة، قال: فأقام الصَّلاةَ الظُّهْر، فَقمنا خلْفَهُ، فأخذ بيدي ويدِ عمي، ثم جعل أحدَنا عن يمينه والآخرَ عن يَساره، ثم قام بيننا، فصَفَّنا صفًا واحدًا، ثم قال: هكذا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصنَع إذا كانوا ثلاثة. وحجَّتُهُ في التَّطَوع من أنهما يقفان خلفَ الإمام: ما رواه أحمد (2): حدثنا عبد الرزَّاق، عن مالك، أخبرني إسحاق بن عبد الله ابن أبي طَلْحة، عن أنس، فذكر الحديث، وفيه: "فقمتُ أنا واليتيمُ وراءَه". قال أبو حفص: على أن حديث أنس لم يقطعْ به أبو عبد الله، قال في رواية عبد الله (3): كان قلبي لا يجسُرُ على حديث إسحاق؛ لأن حديث موسى -يعني خلافَهُ- ليس فيه ذكر اليتيم، إنما فيه أنَّ أنسًا قام عن يمين النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد (4)، حدثنا حجَّاج بن محمد، قال: حدثنا شعبةُ قال: سمعت عبد الله بن المختار، عن موسى بن أنس، يحدث عن أنس: أنه كان هو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمُّهُ وخالَتُهُ [فصلّى بهم، فجعل أنسًا عن __________ (1) في "المسند": (7/ 395 رقم 4386) وإسناده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وأخرجه مسلم رقم (534) وغيره من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة به. (2) فى "المسند": (20/ 113 رقم 12680)، وسنده صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين. (3) رقم (543)، وفيها: "لأن حديث شعبة ... ". (4) في "المسند": (25/ 322 رقم 13019). وأخرجه مسلم رقم (660).

(3/966)


يمينه، وأمه وخالته] (1) خَلْفَهما. قال شُعْبة: وكان عبد الله بن المختار أشَبَّ مني. فائدة الأفضلُ إذا كانا رجلينِ أن يُصَلِّيا خلْفَه، نصَّ عليه، لحديث جابر وجبَّار (2). فأما ما ذهب إليه ابن مسعود إذا كانوا ثلاثة يقوم وسطَهُم، فإن أبا عبد الله قال: لم يبلغْ عبدَ الله هذه الأخبارُ. وقدْ سَهَّل أبو عبد الله في ذلك قال: وأرجو أن يكون الإمام في الثلاثة واسعًا، وأحبّ إلىَّ أن يتقدَّمَ، كما فعل عمر. وروى عنه المرُّوْذيّ في الرجل يجيءُ والإمام في التّشَهُّدِ وإلى لِزْقِه (3) رجلٌ هل يقومُ معه أو يجذبه؛ قال: أعجبُ إلىَّ أن يتقدَّمَ الإمامُ ويجذبَ الرجلَ. قال أبو حفص: قوله: "يتقدَّم الإمام" لِيَقِلَّ تأَخرُ المأموم، ويقرُبُ الإمامُ من السُّتْرَةِ، وقد أجاز جذب الرجلِ لِيُصِحَّ مقامَهُ معه خَلْفَ الإمام. وأكثرُ الروايات عنه أنه كرِهَ أن يجذبَ رجلاً؛ لأنه يؤخِّرهُ عن موقفه، وإن (4) اختار هو ذلك. وقال في رواية أبي طالب: إذا صلَّى الإمام مع رجل، وجلسَ وجَاءَ رجلٌ، فلْيَجْلِسْ عن يساره حتى يقومَ؛ لأن تأخيرَ الجالس يثقُلُ __________ (1) ما بين المعكوفين ساقط من جميع الأصول، والاستدراك من "المسند". (2) أخرجه مسلم رقم (3010) في حديث جابر الطويل. (3) (ق): "وإن ألزقه"!. (4) الأصول: فإن، ولعل الصواب ما أثبت.

(3/967)


عليه، وكون المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه رجلٌ موسع. فائدة اختلف قول أحمد في صلاة المأمومين على علُو؛ فنقل عنه صالحٌ أنه أجاز ذلك على الضَّرورة، إذا كان موضعًا ضيقًا. وقال في الرجل يُصلّي فوق البيت بصلاة الإمام: إن كان في موضع ضيِّق يوم الجمعة، كما فعل أنس. ونقل حَرب وحَنبل وأبو الحارث الجوازَ مطلقًا: أن يصلىَ المأمومُ وهو يسمعُ قراءةَ الإمام في دار أو فوق سطح أو فى الرَّحَبة، أو رجل منزلُه مع المسجد يُصَلي على سطحه بصلاة الإمام، أو على سطح المسجد بصلاة الإمامِ أسفلَ، وذكَر الآثارَ بذلك عن أبى هريرة رضي الله عنه وابن عمرَ وابن عباس (1). واختلف قوله إذا كان بينهم نَهرٌ أو طريقٌ أو حائطٌ، فنقل حربٌ عنه أنه أجاز للمرأة أن تُصَلِّي فوقَ بيتٍ بصلاة الإمامِ، وبينها وبين الإمام طريق، ولفظه: أرجو أن لا يكونَ به بأسٌ، وذَكر حديثَ أنس أنه كان يفعل ذلك (2). فقيل: إذا كان وحدَه؟ قال: لا، مَن صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وحدَهُ أعادَ. __________ (1) انظر الآثار في ذلك فى "مصنف عبد الرزاق": (3/ 81 - 83)، و"مصنف ابن أبي شيبة": (2/ 35 - 36). (2) أخرج عبد الرزاق: (3/ 83) والبيهقي: (3/ 111): أن أنس بن مالك صلى الجمعة في دار حميد بن عبد الرحمن بصلاة الوليد بن عبد الملك وبينهما طريق. وأخرج ابن أبي شيبة: (2/ 35): أن أنسًا كان يجمع مع الإمام وهو فى دار نافع بن عبد الحارث -بيت مشرف على المسجد له باب إلى المسجد- فكان يجمع فيه ويأتم بالإمام.

(3/968)


ونقل أبو طالب المنعَ -فقال في الرجل يُصَلِّي فوق سطح بصلاة الإمام- قال: إذا كان بينهَما طريقٌ أو نَهَرٌ فلا، قيل: أنس صلَّى، قال: أنسٌ صلَّى يومَ الجمعة في غُرْفَةٍ بعدما كَبِرَ، ويوم الجمعة لا يكونُ طريقٌ، يمتلئُ من الناسِ. ونقل ابنُ الحَكَم جواز ذلك للضرورة، قال: إذا كان موضِعَ ضَرورة أجزأَ عنه، يُروَى عن أنس، فأما التراويحُ فتجوز فوقَ سطحٍ، وإن كان بينَهما طريقٌ نصَّ عليه، وقال: ذلك تَطوُّع. قال أبو حفص: ويومَ الجمعة جائز أن يُصَلِّيَ النَّاسُ في (ق/39؛ أ) طاقاتِ باب خُرَاسانَ وخارج الطاقات، نصَّ عليه. قال أبو حفص: إذا فعلَ الرجل مثل فعل أبي بَكْرَةَ (1) مع العلم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بَكْرَةَ، فروايتان: إحداهما: يعيدُ، وعنه أنه أجاز للرجل أن يُكَبِّرَ ويركَعَ فيما دونَ الصَّفِّ، ثم يمشي حتى يدخلَ في الصف (2)، إذا علم أنه لا يُدْرِكُ، فقال في رجل كَبَّر قبل أن يدخلَ في الصَّفِّ وركَعَ ثم مشى حتى دخل في الصَّفِّ فقال: يجوز له ذلك، قد رُوِيَ (3) أن أبا بَكْرَةَ ركع دونَ الصَّفِّ، ولم يأمرْه أن يُعِيدَ. وقد رُوِيَ أيضًا عن ابن مسعود وزيد أنهما ركعا دون الصَّفِّ (4). وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: أرى إذا عَلِمَ أنه يدركُ الركوع __________ (1) في صلاته خلف الصف، أخرجه البخاري رقم (783). (2) "ثم يمشي حتى يدخل في الصف" سقطت من (ق). (3) (ع): " فروى". (4) أخرج الأثرين ابن أبي شيبة: (1/ 229)، وعبد الرزاق: (2/ 282 - 283)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 90).

(3/969)


لم يركعْ دونَ الصَّفِّ، وإذا علم أنه لا يدركُ ركَعَ، واثنان أحَبُّ إليَّ أن يُكَبِّرا جميعًا، ويَدِبَّا إلى الصَّفّ (1). قال أبو حفص: ووَجْه هذه: ما روى عبد الله بن أحمد: حدثنا زكريا بنُ يحيى، حدثنا إبراهيمُ بن سعد الزُّهْرىُّ، عن قَبيصَةَ بن ذُؤَيْب، قال: رأيتُ زيدَ بن ثابت يدخلُ المسجدَ والقوم ركوعٌ فيركعُ ثم يَدِبُّ حتى يَصلَ إلى الصَّفِّ، وعن ابن مسعود مثله (2). ابن جُرَيْج, عنْ عطاء، أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول للناس: إذا دخلَ أحدُكُم المسجد والناس ركوعٌ فليرْكَعْ حين يدخلُ، ثم لْيَدِبَّ راكعًا حتى يدخل في الصَّفِّ فإن ذلك من السّنة، قال عطاء: وقد رأيتُه هو يفعلُ ذلك (3). قال أبو حفص البرمكيُّ: وقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بَكرَةَ: "لا تَعُد"، نهيٌ عن شدة السَّعْي (4)، بدليل قول ابن الزبيرِ: فإنَّ (5) ذلك من السُّنة. فائدة قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم (6) -في رجل مكفوف __________ (1) "مسائل ابن هانئ": (1/ 46)، وفيها: "ويدنوا إلى الصف". (2) تقدم (3/ 969). (3) أخرجه عبد الرزاق -مختصرًا-: (2/ 284)، وابن خزيمة رقم (1571)، والحاكم: (1/ 214) وصححه. (4) وقال الشافعي -رحمه الله-: "قوله: "لا تعد" يشبه قوله: "لا تأتوا للصلاة تسعون" يعني -والله أعلم- ليس عليك أن تركع حتى تصل إلى موقفك لما في ذلك من التعب، كما ليس عليك أن تسعى إذا سمعت الإقامة" اهـ نقله البيهقي في "الكبرى": (2/ 90). (5) من قوله: "للناس: إذا ... " إلى هنا ساقط من (ق). (6) هو: إسحاق بن إبراهيم بن هانئٍ النَّيسابوري أبو يعقوب، له مسائل عن أبى =

(3/970)


دخل في الصَّفِّ، فلما أراد أن يركَعَ الْتَزَقَ الذين كانوا معه في الصَّفِّ بصَفِّ آخر، وبقيَ هو وحدهَ-: يُعِيْدُ (1). وقال في رواية مهنَّأَ (2) في رجل صلَّى يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصَّفِّ، ثم زحموه فصلَّى الركعةَ الأخرى خلفَ الصفِّ وحده: يُعِيدُ الركعة التي صلَّى وحدَهُ. قال في رواية الحسن بن محمد (3): إذا ركعَ ركعةً وسجدَ، ثم دخل في الصَّفِّ، يُعِيدُ الركعةَ التي صلاَّها، ولا يعيدُ الصَّلاةَ كُلَّها. وقال في رواية مهنأ -في رجل ركع ركعة وسجدتين دونَ الصَّفِّ، ثم جاء الناسُ فقاموا إلى جنبه في الثلاث (ظ/171 ب) رَكَعات-: يعيدُ الصَّلاة كلَّها، ثم قال: لو ركع ركعةً وحدَها ولم يسجدِ السجدتينِ لم يكنْ عليه إعادة؛ لأن أبا بَكْرَةَ ركعَ دون الصَّفِّ ولم يسجدْ. قال أبو حفص: اختلف قولُ أبي عبد الله في رجل يصلِّي خلف الصَّفِّ ركعةً كاملةً، ثم يدخل الصفَّ أو ينضافُ إليه قومٌ، هل يُعيدُ تلك الركعةَ وحدَها أو الصَّلاة كلَّها؟. قال أبو حفص: والأصحُّ عندي أنه يعيدُ ما صلَّى خلْف الصَّفِّ __________ = عبد الله مشهورة ت (275). "طبقات الحنابلة": (1/ 284). (1) "مسائل ابن هانئ": (1/ 86). (2) هو مهنَّا -بهمزة في آخره والعامة تتركها- ابن يحيى الشامى السُّلَمي أبو عبد الله من كبار أصحاب الإمام. "طبقات الحنابلة": (2/ 432)، و"توضيح المشتبه": (8/ 297). (3) هو: الحسن بن محمد الأنماطي البغدادي، له مسائل صالحة عن أبي عبد الله. ويمكن أن يكون السجستاني. انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 371).

(3/971)


حسْبُ، فيعيدُ الركعةَ (1) أو الركعتين، ولا يُعيد ما صلّى (ق/239 ب) مع غيره. قال: لأنَّ تكبيرة الإحرام لم تَفْسُدْ؛ لأنة لا يختلفُ قولهْ أنه إذا كبَّر وحدَه أنها صحيحة. قال القاضي: وتحريرُ (2) قول أبي حفص: أنه صلَّى بعضَ الصلاة منفردًا فلم تبطل جميعُها، كالتكبيرة والرُّكوع من غير سجود، ووجهُ: البُطلان: أن القياس يقتضي بُطلانَ الصلاة في التكبيرةِ والرُّكوع؛ لأن ما يفسدُ جميعَ الصَّلاة يُفسِدُ بعضَها كالحَدَث (3)؛ وإنما أجار أحمد: ذلك القَدْر لحديث أبي بَكْرَة. قال أحمد: إذا صلَّى بين الصَّفَّين وحدَه يُعَيدها؛ لأنه فذٌّ، وإن كان بين الصَّفَّين. وقال في الرجل ينتهي إلى الصَّفِّ الأول وقد تمَّ: يدخلُ بين رجلين إذا علم أنه لا يَشُقُّ عليهم، وذلك أنهم قد أُمِروا أن لا يكون بينهم خَلَلٌ، ويكرهُ أن يَمُدَّ رجلاً من الصَّفِّ إليه، نصَّ عليه، قال: أما أنا فأستقبحُ أن يَمُدَّ رجلاً، يدخلُ مع القوم، أو يُنْتَزع (4) رجلٌ من الصَّفِّ فيركع معه. قال بعض أصحابنا: ويقرُبُ من هذه المسألة أنه يُبَاحُ تَخَطِّي رقابِ النَّاسِ إذا تركوا قدَّامَه فرجةً في رواية. وقال في رواية المرُّوْذيِّ: إذا جاءَ وليس يُمكنُهُ الدخولُ في الصَّفِّ، هل يمَدُّ رجلاً __________ (1) من قوله: "وحدها أو ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) (ق): "يجوز" و (ظ): "تجويز". (3) (ع): "الحديث". (4) (ق وظ): "ينزع".

(3/972)


يصلي معه؟ قال: لا، ولكن يزاحِمُ الصَّفَّ ويدخُلُ. قال أبو حفص: وقد ذكرنا عن أحمدَ جواز جَرِّ الرَّجُل في رواية المرُّوْذي، فإن صحَّ النقلُ كان في المسألة روايتان (1)، روي عن أبي أيوبَ قال: تحريكُ الرَّجُلِ من الصَّفِّ ظلمٌ. قلت: وفي "المُدَوَّنة" (2) قال مالكٌ: هو خطأٌ منهما. وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيميّة يُنْكِرُه أيضًا ويقول: يُصلِّي خلفَ الصَّفِّ فذًّا، ولا يجذبُ غيرَه، قال: وتصحّ صلاتُه في هذه الحالة فذًّا، لأن غايةَ المُصَافَّةِ أن تكونَ واجبةً فتسقط بالعُذْر (3). فائدة قال مهنَّاٌ: رأيتُ أحمدَ إذا قام إلى الصلاة يفرِّجُ بين قدميه، وإذا انحدرَ للسُّجود ضمَّ قَدَمَيْهِ. قال القاضي: إنما قلنا: يُفَرِّجُ بين قدميه، لما روى حَرْب: ثنا أبو حفص، ثنا أبو (4) عاصم، عن ابن جُريْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا تقاربَ ولا تباعُدَ (5). وكيع، عن عُيَيْنةَ بن عبد الرحمن بن جَوْشن (6)، قال: قال: كنت __________ (1) انظر "الإنصاف" (2/ 289). (2) (1/ 102) بنحوه. (3) انظر "مجموع الفتاوى": (20/ 558 - 559). (4) (ق): "روى ابن حرب ثنا أبو الأحوص، ثنا ابن عاصم"!. (5) لم أجده، وذكره الموفَّق بن قدامة في "المغني": (2/ 396) ولم يَعْزه. وانظر ما أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 110) في صفة وقوف ابن عمر. (6) وقع هذا السند محرفًا في النسخ، وصوَّبناه من المصادر.

(3/973)


مع أبي في المسجد -يعني مسجدَ البصرة- فنظر إلى رجلٍ قائمًا يُصَلِّي، قد صفَّ بين قدميه، وأَلْزَقَ إحداهُما بالأخرى، فقال أبي: لقد أدركتُ في المسجد ثمانيةَ عَشَرَ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رَأَيْتُ أحدًا منهم صنَعُ هكذا (1) قطُّ. ولأنه أمكنُ للقيام في الصَّلاة، وضَمُّ القدمين عند الانحدار للسُّجود أمكنُ للانحدار. قال في رواية (ق/ 240 أ) حرب وقد سأله: الرجلُ يصُفَّنَّ بين قدميه أحبُّ إليك، أو يعتمدُ على هذه مَرَّةً وعلى هذه مرّةً؟. قال: يُرَاوِحُ بين قدميه أحبُّ إليَّ، يعتمدُ على هذه مَرَّةً، وعلى هذه مَرَّةً؛ لما روى الأعمشُ، عن المِنهال، عن أبي عُبَيْدَةَ قال: رأى عبدُ الله رجلاً يُصَلي صافًّا بين قدميه، فقال: لو رَاوَحَ هذا بين قدمه كان أفضلَ (2). ولأنه أَرْوَح للمُصَلِّي، وقد رفع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَشَقَّة عن المصلِّي بقوله: "أَبْرِدُوا بالصَّلاةِ (3)، وكان يتوقَّى بالثَّوب في الصَّلاة حرَّ الأرض وبَرْدَها (4). __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 109) بالإسناد نفسه. (2) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 109) بالإسناد نفسه. (3) أخرجه البخاري رقم (533)، ومسلم رقم (615) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (4) أخرج البخاري رقم (385)، ومسلم رقم (620) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- قال: "كنا نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدُنا أن يمكَّن جبهتَه من الأرض، بسط ثوبَه، فسجدَ عليه". وأخرج الإمام أحمد: (4/ 164 رقم 2320) وغيره: عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في ثوبٍ واحدٍ متوشِّحًا به، يتقّي بفضوله حرَّ الأرض وبَرْدَها. وفي سنده مقال.

(3/974)


وقال حنبل: رأيته يُرَاوحُ بين قدميه في الصلاة التَّطَوُّع؛ فإذا كانت المكتوبةُ قام منتصِبًا لا يتحرَّكُ منه شيء. * وقال أحمد بن الحسن الترمذي (1): رأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاةَ رفع يديهِ قريبًا من شَحْمة أذنيهَ ونشرَ أصابِعَهُ. وقال أبو داود (2): سمعت أحمد بن حنبل سُئِلَ: تذهبُ إلى نشر الأصابع إذا كَبَّرْتَ؟ قال: لا. قال أبو حفص: لعلَّ أبا عبد الله أرادَ بالنَّشْرِ الذي لم يذهبْ إليه التَّفْرِيقَ الذي كان يقولُ به أوَّلاً، والنَّشْرُ الذي ذهبَ إليه آخرًا هو مَدُّ اليَدَيْنِ وقد قال صالح (3): سألتُ أبي عن رفع اليدين في التَّكبيرة الأولى فقال: يا بنىَّ كنتُ أذهبُ إلى حديث أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كَبَّرَ نشَرَ أصَابعَهُ (4)، فظننتُ أنه التَّفريقُ، فكنت أفرِّقُ أصابعي، فسألت أهلَ العربية فقالوا: هو الضَّمُّ، وهذا النَّشْرُ: ومدَّ أبي أصابِعَهُ مدًّا مضمومةً، وهذا التَّفريقُ: وفرَّق بين أصابِعِه. قال أحمد (5): حدثنا محمد بن عبد الله بن الزُّبير، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن (ظ/172 أ) عَمْرو بن عطاء، عن محمد بن __________ (1) هو: أحمد بن الحسن الترمذي أبو الحسن، نقل عن الإمام مسائل كثيرة ت (بعد 242). "طبقات الحنابلة": (1/ 76). ووقع في النسخ: "أحمد بن الحسين" والتصويب من المصادر. (2) "مسائل أبي داود": (ص/ 30). (3) لم أعثر عليه في "مسائل صالح". (4) أخرجه الترمذي رقم (239) وضعَّفه، وكذا ضعفه أبو داود في "مسائله لأحمد": (ص/ 383 - ط ابن تيمية)، وأبو حاتم في "العلل": (1/ 160). (5) في "المسند": (16/ 295 رقم 10391) وغيره وسنده صحيح.

(3/975)


عبد الرحمن بن ثَوْبانَ، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة رَفَعَ يَدَيْهِ مدًّا. وروى يحيى بن اليَمان، عن ابن أبي ذئبٍ، عن سعيد بن سَمْعانَ، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتحَ الصلاةَ فَرَّج بين أصابِعِهِ (1). وقد ضعَّفه أحمد فقال أحمد بن أَصْرمَ (2): إن أبا عبد الله سُئِل عن ابن سمْعانَ الحديث فقال: ليس بشيء، والحديثُ عندَه حديثُ أبي هريرة أنه كان يرفع يديه مدًّا (3). قال أحمد في رواية الفضل بن زياد (4) -وقد سأله عن رجل بُلِيَ بأرض يُنْكِرُون فيها رفعَ اليدين في الصلاة، وينسبُونه إلى النَّقص-: يجوزُ له تركُ الرَّفع؛ قال: لا يتركُ ذلك، يُداريهم (5). إنما قال: يُدارِيهم؛ لأنه لا طاقةَ (ق/240 ب) له بهم، وأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالرِّفق. قال: في رواية ابن مُشَيْش (6): رفعُ اليدين في الصلاة من السُّنَّة. وهذا يدلُّ علي أنَّ الهيئاتِ في الصّلاة يُطلقُ عليها اسم السُّنَّة. __________ (1) تقدم تخريجه. (2) هو: أحمد بن أصرم بن خزيمة أبو العباس المزني ت (285). "طبقات الحنابلة": (1/ 48). (3) انظر "مسائل أبي داود - الفقهية": (ص/384). (4) هو: الفضل بن زياد أبو العباس القطان البغدادي، من خواص أصحاب الإمام وكان يصلّي به. "طبقات الحنابلة": (2/ 188). (5) وجاءت هذه الرواية -أيضًا- عند صالح في "مسائله" رقم (161، لكن فيها "وينسبونه إلى الرفض" بدل "النقص". (6) هو: محمد بن موسى بن مُشَيْش البغدادي، من كبار أصحاب الإمام. "طبقات الحنابلة": (2/ 365).

(3/976)


قال أبو حفص: فأما حديث أحمد بن يونُسَ، عن أبي بكر بن عياش، عن حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه كان لا يرفعُ يديه، فإن أبا عبد الله قيل له: إن مجاهدًا قال: ما رأيتُ ابن عمر رفعَ يديه إلا في افتتاح الصَّلاة، قال: هذا خطأٌ نافعٌ وسالمٌ أعلمُ بحديث ابنِ عمر، وإن كان مجاهدٌ أقدمَ، فنافعٌ أعلمُ منه (1). قال بعضُ أصحابنا: وهذا من أحمد يدلُّ على أصلينِ؛ أحدهما: أن روايةَ الأعلم مقدَّمةٌ على رواية غيره. والثاني: أن رواية مَنْ يختصُّ بالصُّحبة أولى من غيره. فائدة اختلف قولُ أحمد في رفع اليدينِ فيما عدا المواضع الثلاثة؛ فأكثرُ الروايات عنه أنه لم يَرَ الرفعَ عند الانحدار إلى السجود، ولا بينَ السجدتين، ولا عند القيامِ من الرَّكعتين، ولا فيما عدا المواضع الثلاثةِ في حديث ابن عمر (2). ونقل عنه ابنُ أصرم، وقد سئل عن رفع اليدين فقال: في كلِّ خفضٍ ورفعٍ. قال ابن أصرم: ورأيتُ أبا عبد الله يرفعُ يديهِ في الصَّلاة في كل خَفْض ورَفعْ. ونقل عنه جعفر بن محمد وقد سُئِلَ عن رفع اليدينِ فقال: يرفع يديه في كلِّ موضعٍ إلاَّ بينَ السَّجدتينِ. __________ (1) انظر "مسائل ابن هانئ": (1/ 49 - 50). (2) الذي أخرجه البخاري رقم (735)، ومسلم رقم (390).

(3/977)


ونقل عنه المزُوْدْيُّ: لا يعجبُني أد يرفعَ يديه بين السّجدتين (1)، فإن فعلَ فهو جائزٌ. عَمْرو بن مرة (2)، عن أبي البَخْتَرِي، عن عبد الرحمن اليَحْصُبي، عن وائل بن حُجْر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير (3). وقد حكى أحمدُ لفظَ هذا الحديث في موضع آخَرَ أنه كان يرفعُ يديه كلما كبر (4). قال أبو حفص: وظاهر هذا الحديث يأتي على جميع الصَّلاة في كل خَفْض ورفع. أحمد (5)، عن ابن فُضَيْل، عن عاصم بن كُلَيْب، عن محارب بن دِثَار، عن ابن عُمَرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نهض من الركعتين رفع يديه. __________ (1) من قوله: "ونقل عنه ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) قال الإمام أحمد: (31/ 141 رقم 18848): حدثنا وكيع، حدثنا شعبة، عن عَمْرو بن مرة ... بالإسناد نفسه. (3) في سنده اليحْصُبي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان، وأصل حديث وائل بن حجر صحيح أخرجه مسلم رقم (401). (4) أخرجه أحمد: (31/ 153 رقم 18861)، ولفظه: " ... وكان يرفع يديه كلما كبَّر ورَفَعَ وَوَضَع بين السجدتين ... " من حديث وائل -رضي الله عنه- وسنده ضعيف، لانقطاعه، فعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، ولضعف أشعث بن سَوَّار الراوي عن عبد الجبار. لكن أخرجه أبو داود رقم (723)، وابن حبان "الإحسان ": (5/ 173، بسندٍ صحيح، وانظر "التمهيد": (9/ 227)، في تصحيح حديث ابن عمر في ترك الرفع بين السجدتين على حديث وائل هذا. (5) في "المسند": (10/ 405 رقم 6328) وغيره، وسنده جيد.

(3/978)


قال أحمد: لا بأس بحديثه، يعني عاصم بن كليب. رِفْدَةُ بن قُضَاعة، عن الأَوْزَاعي، عن عبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر اللَّيثي، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة (1). قال أحمد ويحيى بن معين: ليس بصحيح ولا يعرف عُبَيْد بن عُمَيْر يُحدِّث عن أبيه شيئًا ولا عن جده. وقال أحمد: لا أعرف رِفْدَةَ (2). وجهُ (ق/ 141 أ) الثالثة: حديث ابن عمر: "ولا يرفعُ بين السَّجدتين" بعد ذكر المواضع الثلاثة. * واختلف قولُه في حدِّ الرفع، فعنه: أنه اختار إلى منكبيه، وعنه: إلى فروع أذنيه. وجهُ الأولى: حديث ابن عمر. وَجْه الثانية: حديث مالك بن الحُوَيْرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يَدَيْه إلى فروع أذنيه (3). وكيع، عن فِطْر، عن عبد الجبّار بن وائل، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين افتتح الصَّلاة حتى جاوزت إبهاماه شحمةَ أذنيه (4). __________ (1) أخرجه ابن ماجه رقم (861). وانظر "المجروحين": (1/ 304). (2) نقل هذا النص مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال": (4/ 395) عن رواية مهنَّأ عن أحمد ويحيى. (3) أخرجه مسلم رقم (391). (4) أخرجه أحمد: (31/ 142 رقم 18849) وغيره بالإسناد نفسه، لكن عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه. لكن لفظ الحديث: "حتى حاذت إبهامه ... " وليس فيه "جاوزت".

(3/979)


وكيع، في أبيه، عن يزيدَ بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البَرَاء بن عازِب، قال: كأني أنظر إلى إبهامَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حاذتا شحمةَ أُذُنَيْهِ في الصَّلاة (1). قال أبو حفص: الأمر عند أبي عبد الله واسعٌ إلى أيِّ موضع رَفَع، ما لم يُجاوزِ الأذنينِ ولم يُقَصِّر عن المَنْكِبَيْنِ. الحسن بن محمد الأنماطي (2): رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسَهُ من الركوع لا يرفعُ يديه حتى يستتِمَّ قائمًا. والحُجَّة فيه: حديث أبي حُمَيْد فيقول: سمع الله لمن حَمِدَه، ثم يرفعُ يديه (3). أبو داود (4): قلت لأحمد: افتتح الصَّلاةَ ولم يرفعْ يديه أيعيدُ؟. قال: لا. حُجَّته (ظ/172 ب): أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعَلِّمْهُ الأعرابي (5)، ولا (6) نعلمُ أحدًا قالَ بالإعادَةِ إلاّ محمد بن سيرين، فإن أحمد ذكر عنه أنه __________ (1) أخرجه أحمد: (30/ 615 قم 18674)، وأبو داود رقم (749) بنحوه. وفي سنده يزيد بن أبي زياد ضعيف الحديث. (2) وقع في النسخ: "الحسين"، والتصويب من مصادر الترجمة، انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 371). (3) أخرجه أبو داود رقم (730)، والترمذي رقم (304)، والنسائي: (3/ 2) وغيرهم وأصله في البخاري رقم (828). (4) "مسائل أبي داود": (ص/ 46). (5) أخرجه البخاري رقم (793)، ومسلم رقم (397) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في حديث المسيء صلاته. (6) (ق): "ولم".

(3/980)


قال: يَقضي. * أختلف قوله في صفة وضع اليد على اليد؛ فعنه أحمد بن أصرم المزني وغيرُه؛ أنه يقبضُ بيمينه على رُسْغ يساره. وعنه أبو طالب: يضعُ يَدَهُ اليُمنى وضعًا بعضُها على ظهر كفِّه اليسرى وبعضها على ذراعه الأيسر. للأولى: حديث وائل: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضَعُ يده اليُمنى على اليُسْرى قريبًا من الرُّسْغ" (1). وفي حديث: "ثم ضرَب بيميِنهِ على شِماله فَأَمْسَكَها" (2). وللثانية: ما روى أنس: أنه وَضَعَ يمينَه على شماله على هذا الوصف (3). وفي حديث وائل من طريق زائدة، عن عاصم بن كُلَيب، قال: ثم وَضَع يَدَهُ اليُمنى على ظهر كفِّه والرُّسغ والساعد (4). * واختلف في موضع الوضع؛ فعنه: فوقَ السُّرَّة، وعنه: تحتها، وعنه أبو طالب: سألت أحمد أين يضع يده إذا كان يصلي؟ قال: على السُّرَّة أو أسفل، وكلُّ ذلك واسعٌ عنده، إن وضعَ فَوْقَ السُّرَّةِ أو __________ (1) أخرجه أحمد (31/ 166 رقم 18873)، والدارمى: (1/ 312)، والطبراني في "الكبير": (22/ 25). وفي سنده عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، لكن له شواهد يصحّ بها. (2) أخرجه بهذا اللفظ ابنُ خزيمة في "صحيحه" رقم (478) والطبراني في "الأوسط": (2/ 198) من حديث وائل بن حُجْر. (3) أخرجه البيهقي: (2/ 30)، وأبو الشيخ كما في "الدر": (6/ 689) وليس فيه تفصيل لصفة الوضع. (4) أخرجه أحمد: (31/ 160 رقم 18870)، وأبو داود رقم (727)، والنسائي: (2/ 126) وغيرهم.

(3/981)


عَلَيْها أو تحتَها (1). علي -رضي الله عنه-: من السُّنَّة في الصَّلاة وضعُ الأَكُفِّ على الأَكُفِّ تحت السُّرَّة (2). عمرو بن مالك، عن أبى الجَوْزاء، عن ابن عباس (3) مثل تفسير علي، إلا أنه غيرُ صحيح، والصحيح حديث علي. قال في (ق/ 241 ب) رواية المُزَني (4): أسفل السُّرَّة بقليل، ويكرهُ أن يجعلَها على الصَّدر (5)، وذلك لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التكفير (6)، __________ (1) انظر "مسائل أبي داود": (ص/ 48)، و"المغني": (2/ 141) وقال الترمذي في "جامعه": (2/ 33) -بعد أن ذكر الاتفاق على وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة-: "ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السُّرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السُّرّة، وكلُّ ذلك واسع عندهم" اهـ. (2) أخرجه أحمد "زوائد المسند": (2/ 222 رقم 875)، وأبو داود رقم (756)، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد السوائي، عن أبي جُحَيفة به. وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف -ضعَّفه أحمد وغيره- وزياد مجهول. (3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن شاهين وابن مردوية والبيهقي -2/ 31 - كما في "الدر": (6/ 689) في تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} قال: "وضع اليمنى على الشمال عند التحريم في الصلاة" ليس فيه ذكر للسُّرَّة. وفى سنده رَوْح بن المسيب ضعيف، وعَمرو بن مالك النّكري متكلَّم فيه. (4) هو: أحمد بن أصرم، تقدمت ترجمته. (5) ومثله فى "مسائل أبي داود": (ص/ 48). (6) لم أره مسندًا، وذكره ابن أبي يعلى في "الطبقات": (1/ 16) عن عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي معشر قال: "يُكره التكفير في الصلاة" قال أبي: التكفير أن يضع يمينه عند صدره في الصلاة". وذكره أبو موسى المديني في "المجموع المغيث": (3/ 57) بلا إسناد، وقال: "التكفير: انحناء أهل الذمة لرئيسهم ... وهو الانحناء الشديد، ووضع اليد على اليد، كما يفعل أهل الذمة .... ".

(3/982)


وهو موضع اليد على الصدر (1). مؤمَّل، عن سفيان، عن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن وائل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يَدَهُ على صدره (2). فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد، عن سفيان، لم يذكر ذلك (3)، ورواه شعبة وعبد الواحد (4) لم يذكرا خَالَفا (5) سفيان. * قال في رواية صالح (6) والكَوْسج إذا التفت في الصلاة: قد أساءَ، وما علمتُ أني سمعت فيه حديثاً، أي: أنه يُعيدُ. وقال في رواية أبي طالب: الالتفاتُ في الصَّلاة لا يَقطعُ، إنما كُرِهَ ذلك لأنه يتركُ الخشوعَ والإقبالَ على صلاته، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ" (7) الحديث، فلو كُلِّفَ الإعادةَ شَقَّ، إذ المُصلِّي لا يكادُ يسلمُ من اختلاسه. * قال في رواية حنبل: كان ابنُ مسعود وأصحابُه لا يعرفون __________ (1) انظر في معناه ما سلف. (2) أخرجه من طريق مؤمَّل الطحاوي في "شرح معاني الآثار": (1/ 196)، وابن خزيمة رقم (479) والبيهقي: (2/ 30)، ومؤمل متكلّم فيه. (3) أخرجه أحمد: (31/ 163 - 164 رقم 18871). وتابع عبدَ الله بن الوليد في عدم ذكر هذه الزيادة عن سفيان محمدُ بن يوسف الفريابي عند الطبراني: (22/ رقم 78، وعبدُ الرزاق عند أحمد (31/ 150 رقم 18858). (4) أخرجهما أحمد: (31/ 142، 148 رقمي 18850، 18855). (5) (ق): "احال"! و (ظ) بياض، والمثبت من (ع) والمعنى ظاهر. (6) لم أجده في الرواية المطبوعة. (7) أخرجه البخاري رقم (751)، ومسلم رقم (3291) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(3/983)


الافتتاحَ، يُكَبِّرون، ولو فعل هذا رجلٌ أجزأَه، وأهلُ المدينة لا يعرفون الافتتاحَ. وحجَّتُهُ في سقوط وجوب الافتتاح ما رُوي عن ابن مسعود، ولأنَّ في الأخبار ضعفًا. قلتُ: ابنُ مسعود كان يذهب في الصَّلاة إلى أشياءَ خالَفَهُ فيها سائر الصحابة؛ فمنها: تركُ الرَّفع فيما عدا الافتتاح. ومنها: التَّطبيقُ في الرُّكوع. ومنها: قيامُ إمامِ الثلاثة في وَسَطِهِم. ومنها: تركُ الافتتاح. وأحمد لم يضعِّف أحاديث الافتتاح، ولا أسقطَ وجوبَه من أجل ضعفها، ولا من أجل ترك ابن مسعود له، وإنما لم يوجبْه لعدم الأمر به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قمْتَ إلى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثم اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (1)، ولم يأْمُرْه بالاستفتاحِ. روى حنبل عنه: إذا أراد أن يبتدئَ الصلاةَ يُكَبِّرُ، ثم يستفتحُ استفتاحَ عمرَ (2)، ثم يتعوَّذُ: "أعوذ بالله السَّميع العليم، من الشَّيطان الرجيم، إن الله هو السَّميع العليمُ"، ثم يقرأُ ويبدأُ ببسم الله الرحمن الرحيم، هذا كلُّه يخافِتُ به، فإن جَهَرَ بها فهو سهوٌ، يسجُدُ سجدتي السَّهو إذا جهر بها. قال أبو حفص: ليس السجودُ واجبًا. حَرْب عنه: لا يقرأُ الإمام إلا بعدَ سكتة، حتى يقرأَ مَنْ خَلْفَه فاتحةَ الكتاب. __________ (1) تقدم، وهو حديث المسيء صلاته. (2) انظر "مسائل أبى داود": (ص/ 46)، و"مسائل عبد الله" رقم (332، 334).

(3/984)


عبد الله عنه يقول: أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم، إنَ الله هو السميعُ العليم، هذا أعجبُ إليَّ (1). وكذا نقل المرُّوْذي، ثم قال: والأمر سهلٌ. والأصل فيه قوله تعالى: (ق/ 242 أ) {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ... } [الأعراف: 200]، وفي هذا جَمْع بين الأمرين. وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قصة عائشة قال: "أعُوذُ باللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} " (2). روى أحمد بن إبراهيم بن هشام (3)، عن أبي عبد الله أنه سئل عن: "بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب؟ فقال: نعم هي أحل آياتها. قال أبو حفص: ليستْ هذه الروايةُ في كتاب الخَلاَّل لكنها في سماعنا. * وروى عنه (ظ/173 أ) أبو طالب: إذا نسي أن يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" يسجدُ سجدتي السَّهْو؟ قال: لا (4). قال أبو حفص: هذا على إحدى الروايتين إذا تَرَكَهَا عند قراءة السورة. __________ (1) انظر "مسائل عبد الله": رقم (334). (2) أخرجه البخاري رقم (2661) ومسلم رقم (2770) في حديث الإفك. (3) كذا، ولعله أحمد بن إبراهيم الكوفي، ترجمته في "طبقات الحنابلة": (1/ 47)، بدليل أن القاضي أبا يعلى نقل هذه الرواية عنه في "الروايتين والوجهين": (1/ 118). (4) انظر "مسائل ابن هانئ": (1/ 52).

(3/985)


* وروى عنه الفضل وأبو الحارث (1) وقد سئل عن الجهر بـ: (آمين)، قال: اجهَرْ بها فإنها سُنَّةٌ ذهبت من الناس، وهذا يدُلُّ على أن الهيئة (2) سُنَّةٌ عند أحمد؛ لأن الجهرَ هيئةٌ في الكلام. وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (3): "آمينَ" أمرٌ من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَمَّنَ القَارئُ فَأَمِّنُوا" (4)، وهذا يدلُّ على أن المندوبَ مأمور به عند أحمد. وروى عنه حنبلٌ: يجهرُ بها في المكتوبة وغيرها لعموم الأخبار. ابن منصور (5)، عن أحمد، وقد سأله عن قول أبي هريرة: "لا تسبقني بآمين" (6) قال: يتَّئِد حتى يجيءَ المؤَذِّنُ، لفضل التأمين. وروى عنه الأثرمُ وقد سُئِل: إذا كان خلفَ الإمام فقرأ (7) خلفَه فيما يجهرُ فيه أيقول: آمين؟ قال: لا أدري ولا أعلمُ به بأسًا (8). * اختلف قوله، إذا لم يقرأْ أوَّلَ الصَّلاة هل يَقضي؛ فروى عنه __________ (1،) هو: أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، له عن الإمام مسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة: (1/ 177). (2) (ظ): "المنتدب إليه". (3) "مسائل ابن هانئ": (1/ 45). (4) أخرجه بهذا اللفظ: البيهقي: (2/ 55)، والحميدي فى "مسنده": (2/ 417) وبلفظ: "إذا أمّن الإمام فأمِّنوا" البخاري رقم (780)، ومسلم رقم (410). من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (5) "المسائل": (1/ 253 - 254 - الطهارة والصلاة). (6) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 96) ومن طريقه ابن حزم في "المحلّى": (3/ 264)، وابن أبي شيبة: (2/ 188). (7) (ع): "يقرأ". (8) انظر "مسائل عبد الله": رقم (358).

(3/986)


عبدُ الله ابنُه: إنْ تركَ القراءةَ في الأُولَيَيْنِ قرأ في الآخرتين، وسجد سجدتي السهو بعد (1) السلام، وإن ترك القراءة في الثلاث، ثم ذكر وهو في الرابعة فسدت صلاتُه، واستأنفَ الصلاةَ. وروى عنه إسماعيل بن سعيد فيمن ترك القراءةَ في الركعة من صلاةِ الغداة، أو في ركعتين من الظُّهر عمدًا أو سهوًا لا يعتدُّ بتلك الركعة، التي لم يقرأ فيها، ويبني على صلاته ويقرأُ. وروى عنه ابن مُشَيْش في إمام صلَّى بقومٍ الظُّهْرَ، فلما فرغ ذكر أنه لم يقرأْ: يعيدُ ويعيدون. وهو الصحيح. وجه الأولة ما روى أحمد: حدثنا وكيعٌ، حدثنا عِكْرِمة بن عمّار، عن ضَمْضَمِ بن جَوْس الهِفَّاني عن عبد الله بن حَنْظَلة بن الرَّاهب قال: صلى بنا عمر المغرب، فنسي أن يقرأَ في الركعة الأولى، فلما قامَ في الثانية قرأَ بفاتحةِ الكتاب مرَّتينِ وسورتينِ، فلما قضى الصَّلاة سجد (ق/242 ب) سجدتينِ (2). ووجه الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" (3)، والركعة الواحدةُ صلاة. وروى محمد بن أبي عَدِيّ، عن الشَّعْبيِ قال: قال الأشعري: صلَّى بنا عمرُ فدخلَ ولم يقرأْ شيئًا، قال: فابْتَغيت (4) حتى __________ (1) (ظ): "قبل". (2) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 359) من طريق وكيع به، والبيهقي: (2/ 382)، ولم أجده في "مسند أحمد". (3) أخرجه البخاري رقم (756) ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. (4) غير محررة في النسخ، وانظر "مسائل صالح": (ص/ 174).

(3/987)


أتيتُ الأطناب، فقلت: يا أميرَ المؤمنينَ إنكَ لم تقرأْ شيئًا، فقال: لقد رأيتني أجهز عِيرًا: بكذا وأفعل كذا، قال: فأمَرَ المُؤذِّنِينَ فأذّنوا. وأقاموا فأعاد بنا الصلاة (1). قال القاضي: إذا قلنا: يعيدُ فإنه يعيدُ الأذان، قال أحمد في رواية إسماعيلَ بن سعيد وقد سأله: هل يعيدونَ الأذان والإقامةَ إذا كانوا على ذلك؛ قال: نعم. ووجهه حديث عُمَرَ، ولأن فيه إعلامَ النَّاسِ ليجتمعوا للإعادة. * وروى عنه أحمد بن الحسن التِّرمذي، وقد سئل عن حديث عُمَرَ أنه صلّى بالناس وهو جُنُبٌ فأعاد ولم يُعيدوا (2)، قال: هكذا نقول. قلت: فإن لم يقرأ الإمامُ الجُنُبُ والذي على غير طُهْر، ومن خَلْفه؟ قال: يُعيدُ ويُعيدونَ. انتهى. قلت: والفرقُ بين ترك القراءة وترك الطَّهارة أن القراءةَ يتحمَّلُها الإمامُ عن المأمون، (ظ/173 ب) فإذا لم يقرأْ لم يكنْ ثَمَّ تَحَمُّلٌ: والطَّهارةُ لا يتحمَّلُها الإمامُ عن المأموم، فلا يتعدَّى حكمُها إلى المأموم بخلاف القراءة، فإن حكمَها يتعدَّى إليه. فإن قيل: فكيف يحمِلُ الجُنُبُ القراءةَ عن المأموم، وليس من أهل التَحَمُّل؟. قيل: لما كان معذورًا بنِسيانه حَدَثَهُ نُزِّلَ في حقِّ المأموم منزلةَ الطَّاهر، فلا يُعيدُ المأمومُ، وفي حق نفسه تلزمُهُ الإعادةُ، وهذا __________ (1) أخرجه أحمد من هذا الطريق في "مسائل صالح": (ص/ 174)، وعبد الرزاق: (2/ 125)، والبيهقي: (2/ 382) من مرسل الشعبي والنخعي. (2) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 348)، والبيهقى: (2/ 399).

(3/988)


بخلاف المتعمِّد للصَّلاة محدِثًا أو جُنُبًا، فإنه لما لم يكن معذورًا نُزِّلَ فعلُه بالنسبة إلى المأموم منزلةَ العَبَث الذي لا يُعْتَدُّ به. وأيضًا لما كان هذا يكثُرُ مع السهو، لم يتعدَّ بطلانُ صلاته إلى المأموم رفعًا (1) للمشقَّة والحَرَج. ولما كان يَنْدر مع التَّعَمُّد تعدَّى فسادُ صلاته إليهم. * واختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة، فروى حربٌ عنه فيمن نَسِي أن يقرأَ بفاتحة الكتاب، وقرأ قرآنًا قال: وما بأسٌ بذلك، أليس قد قرأ القرآن؟! قال: وسمعتهُ مرةً أخرى يقول: كلُّ ركعة لا يقرأُ فيها بفاتحة الكتاب فإنها ليست بجائزةٍ، وعلى صاحبِها أن يُعِيدَها. قال الخَلاَّلُ: الذي رواه حرب قد رجع عنه أبو عبد الله، وبيَّنَ عنه خَلْقٌ كثير أنه لا يجزئُهُ إلا أنْ يَقْرَأَ في كلِّ ركعة. للثانية: ما روى مالك، عن وهب بن كَيْسان، عن جابر قال: مَنْ صلَّى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصلِّ إلاّ وراء إمام (2). وروى عنه أبو طالب: من نَسِيَ أوَّلَ ركعة، ثم ذكر في آخر ركعة أنه لم يقرأ، لا يعتدُّ بالركعة التي لم يقرأْ (ق/243 أ) فيها، ويُصَلِّي ركعةً أخرى مكانَ تلك الرَّكعة، فإن ذكرها وقد سلَّم وتكلَّم أعاد الصَّلاةَ. * اختلفَ قولُه في قراءة القرآن في الفرائض على التَّأْليف على سبيل الدَّرْس، فروى عنه ابنُه عبد الله أنه قال: سألت أبي عن الرَّجُل __________ (1) (ق): "دفعًا". (2) أخرجه مالك في "الموطأ": (1/ 84)، والطحاوي في "معاني الآثار": (1/ 218)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 160) موقوفًا على جابر، ورُوِي مرفوعًا عند الطحاوي والموقوف أصح وانظر "مسائل عبد الله" رقم (344).

(3/989)


يقرأُ القرآنَ كُلَّهُ في الصَّلاة الفريضة؟ قال: لا أعلمُ أحدًا فعلَ هذا. وقد رُوي عن عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه أنه كان يقرأُ بعض القرآن سُوَرًا على التأليف (1). وروى عنه حربٌ في الرجل يقرأُ على التأليف في الصَّلاة اليومَ سورةَ الرَّعد وغدا التي تَلِيها، ونحو ذلك؟. قال: ليس في هذا شيءٌ، إلا أنه يُروى عن عثمان أنه فعلَ ذلك في المفصَّل وحدها. وروى عنه مهنَّأ أنة رخَّص أن يقرأ في الفرائض حيث يَنتهي. سَلْم بن قُتَيْبَةَ، عن سهيل بن أبي حزم (2)، عن ثابت، عن أنس، قال: كانوا يقرأون في الفريضة من أول القرآن إلى آخره (3). وروى المرُّوْذيُّ أن أحمد سُئِلَ عن حديث أنس هذا فقال: هذا. حديثٌ منكر (4). * روى حنبل عنه: إذا كان المسجدُ على قارعَةِ الطَّريق، أو طريقًا يسلُكُ، فالتخفيف أعجبُ إليَّ، وإن كان مسجدًا معتزلاً أهلُهُ: فيه ويرضون بذلك فلا أرى به بأسًا، وأرجو إن شاءَ الله. * وروى عنه أبو الحارث: إذا قرأَ بفاتحة الكتاب وهو يحسِنُ غيرَها: إن كانْ عامدًا: فلا أُحِبُّ له ذلك، وإن كان سَاهِيًا فلا بأس، صلاتُهُ تَامَّةٌ. __________ (1) "مسائل عبد الله" رقم (293). (2) تحرفت في النسخ إلى: "سهل بن أبي حذيفة". (3) أخرجه الطبراني في "الأوسط": (8/ 123)، وفيه سهيل بن أبي حزم ضعيف. وذكر الإمام أنه منكر. (4) انظر "المغني": (2/ 280).

(3/990)


وعنه محمد بن الحكم: هو عندي مسيءٌ إذا عمل ذلك. قلت: يريدُ الاقتصارَ على الفاتحة، وكلامُهُ يدُلُّ على أَحَدِ أمرين: إما أن تكون السُّورَةُ واجبةً، وإما أن يكونَ تاركُ سُنَّةِ الصَّلاةِ مسيئًا. وروى الفضلُ بن زياد عنه وقد سُئِلَ: الرجلُ يقرأُ في المكتوبة في كلِّ ركعة بالحمد وسورة؟ قال: قد كان عمَرُ يفعلُ، قيل: فتراه أنتَ؟ قال: لا، قد فَعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ هذا، اقرأ في الأولَيَيْن. انتهى. وروي عن علي وجابر قالا: في الرَّكعتين الأُخْرَيين بفاتحة الكتاب. وروى أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرَّجُل يصلَّي بالنَّاس المكتوبةَ، فيقرأُ في الأربع كلِّها بالحمد وسورة؟ قال: لا ينبغي أن يفعلَ، قلت: سهى؛ قال: يسجدُ سجدتين. وروى عنه أحمد بن هاشم (1)، وقد سئل عن رجل قرأ في الرَّكعتين الأُخْرَيَيْنِ بالحمد وسورة ناسيًا هل عليه سجدَتا السَّهو؟ قال: لا، وكذلكَ قال مهنَّأ والميموني. وروى عنه أبو الحارث في إمام صلَّى بقوم، فقرأ بفاتحة الكتاب (ق/ 243 ب)، ثم قرأَ بعضَ السورة ولم يُتِمَّها ثم ركع: لا بأس. ثم قال أحمد: ثنا عبد الله بن إدريسَ، ثنا يزيدُ بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أَبْزَى، قال: صلَّيْتُ خلف عُمَرَ فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ... } وقع عليه البكاءُ فَرَكَعَ، ثم قرأ سورة النجم فسَجَدَ فيها ثم قام فقرأ: __________ (1) هو: أحمد بن هاشم بن الحكم الأنطاكي، روى عن أحمد مسائل حسانًا. "طبقات الحنابلة": (1/ 206).

(3/991)


{إِذَا زُلْزِلَتِ} (1). وروى عنه صالح (2) وقد سأله عن رجل (3) يصلِّي فيبدأ من أوسط (ظ/ 174 أ) السورة أو من آخرها، قال: أما آخر السورة فأرجو، وأما من وسطها فلا. وروى عنه أحمد بن هاشم (4) الأَنْطَاكِيُّ: هل يُجْزِيءُ مع قراءة الحمد آيةٌ؛ قال: إن كانت مثلَ آية الدَّيْن وآية الكرسي. وروى عنه محمد بن حبيب (5): يكرَهُ أن يقرأَ الرجلُ في صلاة الفجر بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {أَرَأَيْتَ} إلا أن يكون في سفر. محمدُ بن حَبيب (6)، حدثنا عمرو الناقدُ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن مِسْعَر ومالك بن مِغْوَل، عن الحَكَم، عن عمرو بن ميمون، عن عمر أنه صلى بهم الفجر فى طريق مكة: فقرأ بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (7). __________ (1) أخرجه الطحاوي فى "معانى الآثار": (1/ 181، 348)، وسقط من إسناده ذكر "ابن أبزى". وانظر "المغنى": (2/ 279)، وأخرجه عبد الرزاق: (2/ 116) من طريق حصين بن سبرة عن عمر. (2) لم أجده في مسائله. (3) (ظ): "رجلٌ عن رجلٍ". (4) في الأصول: "هشام" والتصويب من مصادر الترجمة، وتقدم قريبًا. (5) هو: محمد بن حبيب أبو عبد الله البزار، روى عن أبي عبد الله مسائل ت (291) "طبقات الحنابلة": (2/ 291). (6) من قوله: "يكره أن ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (7) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 322)، وعبد الرزاق: (2/ 119)، عن عمرو بن ميمون به.

(3/992)


الميمونيُّ: صلَّى بنا أبو عبد الله الفجرَ فقرأ في الأولى بـ (المدثر) وفي الثانية بـ (الفجر)، وكنا نصلي خلف أبي عبد الله بغَلَس فيقرأ بنا في الأولى: (تبارك) ونحوها، ويقرأ في الثانية: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}. وروى عنه أحمد بن الحسين بن حسَّان في إمامٍ يقصِّر في الركعة الأولى ويطوِّلُ في الأخيرة: لا ينبغي هذا، يطوِّلُ في الأولى ويقصِّرُ في الآخرة. قال أبو حفص: وقد روى عن أنس أنه قرأ في الرَّكعة الأولى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، وهذا يدلُّ على جواز الإطالة في الثانية، وليس ما ذكره بقَوِيٍّ. * * * ومن خط القاضي مما قال: انتقيتُه من "كتاب الصيام" لأبي حفص البرمكي، قال: ونقلته من خطه (1): نقل عبدُ الله (2): سألت أبي عمن صامَ رمضانَ وهو ينوي به تطوعًا؛ قال: يفعلُ هذا إنسانٌ من أهل الإسلام؟! لا يُجْزِئُهُ حتى يَنْوِيَ، لو أن رجلاً قام يصلِّي أربعَ رَكَعَاتٍ، لا ينوي بها صلاةَ فريضةٍ أكان يُجْزِئُهُ؟! ثم قال: لا تُجْزِئُهُ صلاةُ فريضةٍ حتى ينْوِيَها. قال أبو حفص: وقد قال الشَّافعيُّ (3): ولو عقد رجلٌ على أن __________ (1) العبارة في (ق): "لأبي حفص البرمكي، قال: ونقلته من خطه"، وفي (ظ) مثل ما هو مثبت إلى قوله: "أبي حفص" لكن قال: "العكبري". (2) "المسائل" رقم (875). (3) بنحوه في "الأم": (2/ 96).

(3/993)


غدًا عندَه من رمضان في يوم الشَّكِّ، ثم بان أنه مِنْ رمضان أجزأه. قال: وهذا موافقٌ لما قال أبو عبد الله في الغَيْم. قال عبدُ الله (1): قلت لأبي: إذا صام شعبانَ كُلَّه؟ قال: لا بأس أن (ق/ 244 أ) يصومَ اليومَ الذي يشُكُّ فيه إذا لم يَنْوِ أنه من رمضانَ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَصِلُ شعبانَ برمضان (2)، فقد دخل ذلك اليومُ في صومِهِ. قال أبو حفص: مرادُ أبي عبد الله في هذه المسألة: إذا كان الشَّكُّ في الصَّحو، لما تقدَّمَ من مذهبه في الغَيْم. * * * ومن خط القاضي أيضًا مما ذَكَر أنه انتقاه من كتاب "حكم الوالدين في مال ولدهما" جَمْع أبى حفص البرمكي (3) قال: اختلف قولُ أبي عبد الله في عِتْق الأب جاريةَ ابِنهِ قبلَ قبضِها، فروى عنه بكر بن محمد (4) أنه قال: ويعتقُ الأبُ في ملكِ الابنِ؟ هو في ملك الابنِ حتى يعتق الأبُ، أو يأخذُ فيكون للأبِ ما أَخَذَ. وعنه المرُّوْذيُّ: ولو أن لابنه جاريةً فأعتقها كان جائزًا، وعنه بكر بن محمد: إذا كانت للابنِ (5) جاريةٌ فأراد عِتْقَها قبضَها ثم أعتقَها، ولا __________ (1) "المسائل" رقم (843) إلى قوله: "من رمضان". (2) أخرجه أحمد: (6/ 300)، وأبو داود رقم (2336)، وابن ماجه رقم (1648) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-. (3) هذا العنوان بياض في (ق). (4) هو: بكر بن محمد النسائي أبو أحمد، له عن أبي عبد الله مسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة": (1/ 318). (5) (ع وق): "للأب" والمثبت (ظ).

(3/994)


يعتقُ من مال ابنه إلا أن يقبِضَها، وكذا روى عنه عبد الله وغيره (1). قلت: الروايتانِ مأخذُهُما أن مَن مَلَكَ أن يملكَ فتصرَّفَ قبل تَمَلُّكه هل يَنْفُذ تَصَرُّفُهُ؛ فيه قولان، وعلى هذا يُخَرَّجُ تَصَرُّفُ الزَّوج في نصفِ الصَّدَاق، إذا طلَّق بعدَ الإقباض وقبلَ الدخول، وتصرُّف الموصى له، إذا تصرَّف بعد الموتِ، وقبلَ القبولِ، على أن الذي تقتضيه قواعدُ أحمد وأصولُه صحَّةُ التَّصَرُّفِ، ويجعلُ هذا قَبولاً واسترجاعًا للصَّداق قد قارن التّصرُّف. ومن منع صحَّتَهُ قال: إن غايةَ هذا التَّصَرُّف أن يكونَ دالاًّ على الرُّجوع والقَبول الذي هو سببُ الملك، ولم يتقدَّم على التَّصَرُّفِ، والملكُ لابدَّ أن يكونَ سابقًا للتَّصَرُّف، فكما لا يتأخرُ عنه لا يقارِنُهُ. ولمن نَصَرَ الأوَّلَ أن يجيبَ عن هذا بأن المحذورَ أن يرد العقدُ على ما لا يملكُه ولا يكون مأذونًا له في التَّصرُّفِ فيه، فإذا قارن العقدَ سببُ التَّمَلُّك لم يردَّ العقد إلا على مملوك، وقولكم: لابدَّ أن يتقدَّمَ المُلْكُ العقدَ، دعوى محل (2) النِّزاع، فمنازعوكم يجَوِّزونَ مقارنةَ العقدِ لسبب التَّملك. وهذه المسألةُ تشبهُ مسألةَ حصول الرَّجعة بالوِطء، فإنه بشروعِه في الوطء تحصلُ الرَّجعة، وإن لم يتقدَّمْ على الوِطء، فما وَطِئَ إلا مَنِ ارتجعها، وإن كانت رجعتُه مقارنَةً لوِطئها، فتأمَّلْهُ فإنه من أسرار الفقه. ونظيرُ هذه المسألة مسألةُ الجارية الموهوبة للولد سواء، قال __________ (1) انظر "مسائل عبد الله" رقم (1640)، و"مسائل ابن هانئ": (2/ 11). (2) (ق): "على".

(3/995)


أحمد في رواية أبي طالب: إذا (ظ/ 174 ب) وهبَ لابنه جاريةً وقبضها الابنُ لم يَجُزْ للأب عِتْقُها حتى يرجعَ فيها ويَرُدَّها إليه. قال (ق/ 244 ب) أبو حفص البرمكي: ويخرَّجُ في هذه المسألة روايةٌ أخرى بصحَّة العِتْقِ (1)، والأصح الأوَّل. قال إسحاق بن إبراهيم (2): سألتُ أبا عبد الله عن جارية وَهَبَها رجلٌ لابنه، ثم قبضَها الابنُ من الأب، فأعتقها الأبُ بعدما قبضَها الابنُ؟ قال: الجاريةُ للابن، وأعتق الأبُ ما ليسَ له. قلت: فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنْتَ ومَالكَ لأَبيكَ" (3)؛ قال: مَنْ قال: إِن عِتْقَ الأب جائز يذهبُ إلى هذا، فأما الحسن وابن أبي ليلى فإنهما يقولان: عِتْقُهُ عليه جائزٌ، ولا أذهبُ إليه. قلتُ: أيْشٍ الحُجَّةُ في هذا؟ قال: لا يجوزُ عتقُه على ما وَهَبَهُ الابْنَ وحازه (4). * اختلف في قبض الأب صداقَ ابنِتِه؛ فروى عنه مهنَّأ: لا يُبَرَّأُ الزوجُ بذلك، وروى: عنه المرُّوْذيُّ وأبو طالب: أنه يبرأ، وأصلُ __________ (1) (ع): "العقد". (2) "مسائل ابن هانئ": (2/ 12). (3) جاء هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن عَمْرو، أخرجه أحمد: (11/ 261 رقم 6678) والبيهقي: (7/ 480) وسنده حسن، وهو صحيح بطرقه وشواهده الكثيرة. (4) (ق وظ والمسائل): "وأجازه" والمثبت من (ع) وهو المناسب بدليل بقية جواب الإمام في المسائل وهو: "وله أن يأخذ من مال ولده ما شاء، وليس لولده أن يمنعه إذا أراد أن يأخذ، إلا أن يكون يُسرف، فله أن يعطيه القوت، ولا أرى أن يعتق على الابن إذا حاز الجارية" اهـ.

(3/996)


الروايتين عند بعض أصحابنا: إبراءُ الأب عن الصَّداق، فإن فيه روايتين، فإن قلنا: يصح إبراؤُه صحَّ قبضُه وَإلاَّ فلا كالأجنبي. قلت: وعندي أن الروايتين في القبض غيرُ مبنيتين على روايتي (1) الإبراء، بل لما مَلَك الأبُ الولايةَ على ابنته في هذا العقد مَلَكَ قَبْضَ عِوَضِهِ، فلما مَلَك تزويجَها، وهو كإقباضِ البُضْع (2) وتمكين الزوج منه، مَلَكَ قبضَ الصَّداق، وهذه هى العادةُ بين الناس. والرواية الأخرى: لا يقبض لها إلا بإذنها، فلا يبرأُ الزوجُ بإقباضِهِ، كما لا يتصرَّفُ في مالها إلا بإذنِها، والله أعلم. * روى المرُّوْذي عنه في الرجل يستقرض من مال أولاده، ثم يوصي بما أخد من ذلك، قال: ذلك إليه فإن فعل فلا بأس. وهذه الرواية تدلُّ على أن الدَّيْنَ يثبتُ في ذِمَّته، وإن لم يملكِ الابنُ المطالبة به؛ إذ لولا ثبوتُهُ في الذِّمَّة لم يملكِ الوصيةَ به، وكانت وصيَّتُه لوارث. وقد روى عنه أبو الحارث في رجلٍ له على أبيه دَيْن، فمات الأبُ، قال: يَبْطُلُ دَيْنُ الابنِ. قلت: وهذه الرواية عندي تحتملُ أمرينِ: أحدهما: بطلانُه وسقوطُه جملةً، وهو الظاهرُ. والثاني: بطلانُ المطالبةِ به، فلا يختصُّ به من التَّرِكة، ثم يقسما (3) الباقي، فلو __________ (1) (ق وظ): "رواية". (2) ليست في (ع). (3) (ظ): "يقسم".

(3/997)


أوصى له به من غير مطالبة، فله أخذُه يقدم به من التَّرِكة. موافقًا لنَصِّه الآخر في رواية المرُّوْذي، والله أعلم. فإن قيل: لو اشتغلت الذِّمَّةُ به لوجبت الوصِيَّةُ به كسائر الديون. قلت: لما كان للأب من الاختصاص في مال ولده ما ليس لغيره، فيملكُ أن يتملَّكَ عليه عَيْنَ ماله، فلذلك يملك أن يُسْقِطَهُ من ذِمَّة (1) نفسِهِ، وأن يُوَفِّيَهُ إيَّاه، (ق/ 245 أ) فتأمَّلْهُ. * اختلفتِ الروايةُ عن أحمد فيما أخذه الأبُ من مال الولد ومات ووجده الابنُ بعيِنهِ، هل يكون له أخذُه؛ على روايتين نقلهما أبو طالب في "مسائِلِهِ" واحتجَّ بجواز الأخذ بقول عمر. قال أبو حفص: ولأنّا قد بينَّا أن الحقَّ في ذمَّته، ولا يمتنعُ أن يسقطَ الرجوعُ إذا كان ديْنًا ويملكُ إذا كان عَيْنًا كالمفلس بثمن المبيع، ووجه الأخرى: أن الأبَ قد حازه، فسقط الرجوعُ كما لو أتلفه. روى عنه أبو الحارث: كلما أحرزه الأبُ من مال ولده فهو له رضِيَ أو كَرِهَ، يأخذُ ما شاء من قليل وكثير، والأمُّ لا تأخذُ إنما قال: "أنْتَ ومالُكَ لأَبِيكَ" (2) ولم يقل: لأمِّك. * وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (3): لا يَحِلُّ لها، يعني الأم أن تَتَصَدَّق بشيء من غير: علمِهِ. قال أحمد: أما الذي سمعنا أن المرأة تتصدَّق من بيت زوجها __________ (1) (ق وظ): "ذمته". (2) تقدم 3/ 996. (3) "المسائل": (2/ 11).

(3/998)


ما كان من رطب والشيءَ الذي تَطْعَمُه، فأما الرجل فلا أحبُّ له أن يتصدق بشيءٍ إلا بإذنها. * وروى عنه حنبل في الرجل يقعُ على جارية أبيه أو ابنه أو أمِّه (1): لا أراهُ يلزقُ به الولدُ؛ لأنه عاهر، إلا أن يُحِلَّها له. قال أبو حفص: يحتملُ أن يريدُ يقوله: "يُحِلُّها له"، أي: بالهِبة، ويحتملُ أن يريدُ حِلَّ فرجِها؛ لأنه إذا أحلَّ فَرْجها فوَطِئَها لَحِقِةُ الولدُ لأجل الشُّبْهة، ألا ترى أنَّا ندرأُ عن المحصَنِ الرَّجْمَ في هذا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال في رواية بكر بن محمد في رجلٍ له جاريةٌ يطؤُها، فوثبَ عليها ابنُه فوطِئها، فحمَلَتْ منه، وولدَتْ: هي أَمَةٌ تُبَاعُ؛ لأنه بمنزلة الغريب، وهو أشدُّ عقوبةً من الغريب، لا يثبتُ له نَسَبٌ، ولكن لو أعتقه الأبُ. قولُه: "وهو أشدُّ عقوبة" لوجهين: أحدهما: وطؤه موطوءةَ أبيه، والثاني: أنها محرَّمةٌ عليه على التأبيد، وإنما اختارَ (2) عتقَهُ؛ لأنه من ماء ولده مخلوق، ولم يوجِبْه لعدم ثبوت النَّسَبِ. * عبد الله ابنه (3): إذا دَفَع إلى (ظ/ 175 أ) ابنه مالاً يعملُ به، فذهب الابنُ فاشترى جاريةً وأعتقها وتزوَّجِ بها: مضى عتقُها، وله أن يرجعَ على ابنه بالمُلْكِ (4)، ويلحقَ به الوَلَدَ، وليس له الرُّجوعُ في الجارية. __________ (1) "أو ابنة" من (ع)، و"أو أمه" من (ق وظ). (2) (ق): "أجاز". (3) "المسائل" رقم (1648). (4) يعني: بالمال الذي دفعه أولاً. وهو كذلك في (ق والمسائل).

(3/999)


حنبل عنه: قال: أرى أن من تصدق على ابنه بصَدَقَةٍ، فقبضها الابن أو كان في حِجْر أبيه، فأشهد على صَدَقَتِهِ، فليس له أن ينقضَ (1) شيئًا من ذلك؛ لأنه لا يُرْجَعُ في شيءٍ من الصدقة. وعنه المرُّوْذيُّ: إذا وهب لابنه جاريةً فأراد أن يشترِيَها، فإن كان وَهَبَها (ق/245 ب) علي جهة المنفعة فلا بأسَ أن يأخذَها بما تَقَوَّمَ، وإذا جعلَ الجاريةَ لله، أو في السَّبيل، أو أعطاها ابنه (2)، لم يعجبني أن يشترِيَها. أبو حفص: إذا وهبها على جهة المنفعة دونَ الصَّدقة جاز أن يشترِيَها؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الرجوعَ في هبة الولد (3)، وإن جَعَل الجاريةَ صدقةً على ابنته وقصد الدَّارَ الآخِرَةَ، لم يَجُزْ له الرجوع لا بثمن ولا بغيره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "لا تَعدْ في صَدَقَتِكَ" (4). قال أبو حفص: وتحصيلُ المذهب أنه لا يجوزُ الرجوعُ فيما دفع إلى غير الولد هبةً كان أو صدقة، ويرجِعُ فيما وهبه لابنه، ولا يرجعُ فيما كان على جهة الصَّدَقة. وروى عه مهنَّأ: إذا تصدَّقَ الرجلُ بشيءٍ من ماله على بعض ولده ويدعُ بعضًا. __________ (1) (ع): "يقبض". (2) (ع) غير بينه ولعلها: "بنيه". (3) في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623). (4) أخرجه البخاري رقم (1490)، ومسلم رقم (1621) من حديث عمر -رضي الله عنه-.

(3/1000)


قال أبو حفص: لا فرق بين العَطِيَّة للمنفعة وبين الصَّدَقة للأجْر؛ لأنَّ كلاهما عطيَّةٌ، وإنما يختلفُ حكمُهُما في رجوع الوالد. * اختلف قولُه في قِسْمَةِ الرجلِ مالَه بين ولده في حياته؛ فروى عنه حنبلٌ: إن شاء قَسَمَ، وإن شاء لم يقسمْ، إذا لم يُفَضِّلْ. وروى عنه محمد بن الحكم: أَحَبُّ إليَّ أن لا يقسمَ مالَه، يَدَعُهُ على فرائضِ الله لعلَّه يُولَدُ له. علي بن سعيد عن أحمد: إذا زوَّج بعض ولده وجهَّزه، وله ولدٌ سواهم، وهم عنده، يُنْفِقُ عليهم ويَكسوهم، فإن كان نفقتُهُ عليهم مما يُجْحِفُ بماله، ينبغي له أن يُوَاسِيَهُمْ، وإن لم يجحِفْ بماله، وإنما هي نفقةٌ فلا يكونُ عليه شيء. قال أبو حفص: قوله: "يُجحِفُ بماله"، يعني: يُنْفِقُ فوقَ الحاجةِ، ينبغي أن يُعطي الذين خرجوا من نفقتِه بإزاء ذلك؛ لأن ما زاد على النفقة يجري مجرى النَّحْل. وروى عنه أحمد بن الحسين في امرأةٍ جعلت مالها لأحدِ بنيها إن هو حَجَّ بها دونَ إخوته: تُعْطِيه أُجْرَتَهُ، وتسوِّي بين الوَلَد. وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (1) في الأب يقول: وهبتُ جاريتي هذه لابنتي: إذا كان ذلك في صحَّةٍ منه، وأشهَدَ عليه، كان قبضُهُ لها قَبْضًا. وهذه الرواية تدلُّ على أن هبةَ الأب لابِنهِ الصَّغير يجزي فيها الإيجابُ؛ لأنه اعتبر في ذلك القبضَ. __________ (1) "المسائل": (2/ 53).

(3/1001)


وروى عنه يوسف بن موسى (1) في الرجل يكون له الولدُ البارُّ الصالحُ، وآخرُ غيرُ بارٍّ: لا يُنِيلُ البَارَّ دون الآخر. قال أبو حفص: لأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُفَرِّقْ، ولأنه كالبَارِّ الميراث. وروى عنه حنبلٌ: للشَّاهد أن لا يشهد إذا جاء مثل هذا، وعَرَف فيه (2) الحَيْف في الوصية، وروى عنه الحكم: (ق/ 246 أ) لا يشهدُ إذا فَضَّل بين وَلَدِهِ. وروى عنه الفضل بن زياد في رجل كانت له بنتٌ وأخٌ وله عشرة آلاف درهم: لم يُجِزْ له أن يصالِحَ الأخ منها على ألفي درهم، ليس هذا بشيء. قال أبو حفص: لأنه هضمٌ للحقِّ فبَطَلَ، ولأنه إنما يستحقُّ بعد الموت، فهو كإجازة الشَّريك لشَرِيكه بيعَ نصيِبهِ، ثم له المطالبة بالشُّفْعة. قلت: هذا القياسُ غيرُ صحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّم على الشَّرِيك البيع قبل استئذان شريكه، فقال: "لا يَحِلُّ له أن يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَة، فإن بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بالشُّفْعَةِ" (3)، فدلَّ على أنه إذا أذِنَ في البيع ولم يُرِدْ أخذ الشِّقْص (4) سقطت شُفْعَتُهُ، وعلى موجبِ __________ (1) هو: يوسف بن موسى بن راشد أبو يعقوب القطان، نقل عن الإمام أشياء ت (253). "طبقات الحنابلة": (2/ 567). وآخر من تلاميذ الإمام يقال له: يوسف بن موسى العطار. (2/ 566). (2) "وعَرَف فيه" ليست في (ع). (3) أخرجه البخاري رقم (2257)، ومسلم رقم (1608) واللفظ له من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما-. (4) أي: النصيب.

(3/1002)


النَّصِّ، فسببُ الشُّفعة إرادةُ البيع واستئذانُ الشريك، فإذا طلبه الشَّريك وجب على شريكه بيعُهُ إيَّاه، هذا مقتضى النَّصِّ خالفه من خَالَفَهُ. وأما إسقاطُ الميراث فإسقاطُ أمر موهومٍ لا يُدْرَى أيحصلُ أم لا؟ ولعلَّه أن يموتَ هو قبلَه فهو جارٍ مجرى إسقاط حقِّه من الغنيمة (1) قبل الجهاد وتحرُّك العدوِّ ألْبَتَّةَ، وإسقاطُ حقِّهِ بما لعلَّ المُوصِي أن يوصيَ له به، وأمثالُ ذلك مما لا عبرةَ به، والله أعلم. فصلٌ (2) إذا مات ولم يُسَوِّ، فهل يُرَدُّ؟ فيه روايتانِ منصوصتانِ؛ رواية ابنه عبد الله و [ابن] عمه حنبل وأبي طالبْ أنه يُرَدُّ، وأصحابُنا إنما نسبوا ذلك إلى أنه قول أبي حفص، ولا ريبَ أنه اختيارُه في هذا الكتاب، ونقله نصًّا عن أحمد مِن رواية من سمَّينا، وهو الأقيسُ. (ظ/ 175 ب) نقل عنه حَرْبٌ في مجوسيٍّ كان له ولدٌ فنَحَل بعضَ ولده مالاً دونَ بعض (3)، وكان للمنحولِ ابنٌ فماتَ، وترك ابنَهُ، كيف حالُهُ في هذا المال الذي ورِثَ عن أبيه، وكان الجدُّ نَحَلَهُ؟ قال: لا بأس يأكلُهُ؛ لأنَّ هذا كله في الشِّرك. قال أبو حفص: هذا يجِيءُ على القولينِ جميعًا، أما على القول الذي يمضيه بالموت فهو مثله، وأما على القول بالرَّدِّ بعد الموت فَلأَنَّهُ نَحَلَهُ في حال الشِّرْك وهو مقبوضٌ فيه، فهو كما يثبت قبضَ __________ (1) كذا في (ق وظ)، و (ع): "القسمة". (2) (ق): "فائدة". (3) "دون بعض" ليست في (ع).

(3/1003)


المهر إذا كان خمرًا أو خِريرًا وإن كان مردودًا في الإسلام. آخرُ ما انتقاه القاضي من الكتاب المذكور. * * * ومما انتقاه من كتاب "أحكام أهل الملل" لأبى حفص أيضًا (1): * أبو طالب عنه وسأله: أَيُستعمل (2) اليهوديُّ والنَّصرانيُّ في أعمال المسلمين مثل الخَرَاج؟ قال: لا يُستعانُ بهم في شيءٍ. وذكَرَ أبو حفص الحديث إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِيْنَ بِمُشْرِكٍ" (3). قال: (ق/246 ب) وروى أبو معاوية: حدثنا أبو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عن الزِّنْباع، عن أبي الدِّهقانة قال: قيل لعُمَرَ إن هاهنا رجلاً من أهل الحِيرةِ له علمٌ بالدِّيوانِ، أفتتخِذَه كاتبًا؟ فقال عمرُ: لقد اتَّخَذْتُ إذًا بطانةً مِنْ دونِ المؤمنينَ (4). وكيع: حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك بن حرب، عن عِيَاض الأشعري، عن أبي موسى، قال: قلت لعُمَرَ: إن لي كاتبًا نصرانيًا، فقال: ما لَكَ قاتلَكَ اللهُ أما سمعتَ اللهَ يقولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] وذكر الحديث (5). __________ (1) هذا العنوان بياض في (ق). (2) (ظ والمطبوعات): "إسماعيل"!. (3) أخرجه مسلم رقم (1817) من حديث عائشة - رضي الله عنها-. (4) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 259)، والطبري في "التاريخ": (2/ 566)، وابن أبي حاتم: (3/ 743)، من طرقٍ عن أبي حيان به، رواية وكيع عند الطبري. (5) أخرجه البيهقي في "الكبرى": (9/ 204)، وفي "الشعب": (7/ 43)، وغيره من طرقٍ عن سِماكٍ به.

(3/1004)


* قال أبو حفص: احتجَّ أبو عبد الله في جَبْر الكافر على الإسلام بذكر الشهادتين، وإن لم يقلْ: أنا بريءٌ من الكفر الذي كنتُ فيه = بقوله لعمه: "أدْعُوكَ إِلَى كَلِمَةٍ أَشْهدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ" (1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغلام اليهودي: "يَا غُلامُ قُلْ: لا إلهَ إلاّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ" (2). وقال: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُو لا إلهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصِمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ" (3). فإن قال: لم أُرِدِ الإسلام، فهل تُضْرَبُ عنقُهُ أم لا؟ اختلفَ قولُه في ذلك، فروى عنه حرب: تُضْرَبُ عنقُه. وروى عنه مهنَّأ في يهوديٍ أو نصرانيٍّ أو مجوسيٍّ قال: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسول الله، وقال: لم أنوِ الإسلامَ = يُجْبَرُ على الإسلام، فإن أبى يُحْبَسُ، فقلت: يقتلُ؟ قال: لا، ولكن يُحْبَسُ. وجه الأولى (4): أنه قد أتى بصريح الإسلام، والاعتبار في الإسلام بالظَّاهر. ووجه الثانية: أنه يحتملُ ما قاله وإن لم يقصدِ الإيمانَ، __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1360)، ومسلم رقم (24) من حديث المسيب بن حزن -رضي الله عنهما-. (2) أخرجه البخاري رقم (1356) بلفظ: "يا غلام أسلم ... "، وبذكر الشهادة أخرجه أحمد: (20/ 187 رقم 12792 وغيره) وابن حبان "الإحسان": (7/ 227)، والبيهقي: (3/ 383) وغيرهم من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (3) أخرجه البخاري رقم (25) ومسلم رقم (22) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-. (4) (ظ): "الأوَّلة".

(3/1005)


فجاز أن يُجعلَ ذلك شبهةً في سقوط القتلِ، والقتلُ يسقطَ بالشبهة، بدليل ما لو أُعطِيَ الأمانُ لواحد من أهلِ الحِصْنِ واشتَبَهَ علينا. * * * ومما انتقاه من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس ابن مالك: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على كُوْر العِمَامَة (1). وبإسناده إليه يرفَعُه: "إذا سَمِعْتَ النِّدَاءَ، فَأجِبْ وعَلَيْكَ السَّكِينَةَ، فإنْ أَصَبْتَ فُرْجةً، وإلاّ فَلا تُضَيِّقْ على أخِيكَ، واقْرَأْ ما تُسْمعُ أُذُنَيْكَ، ولا تُؤْذِ جَارَكَ، وصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ" (2). وبإسناده إلى ابن عمر يرفعه: "لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ في المَسْجِدِ الَّذي يَلِيهِ ولا يَتَّبَعِ المَسَاجِدَ" (3). وبإسناده عن أبي هريرة يرفعه: "إذا دَخَلَ أحدُكُمُ المَسْجِدَ فَوَجَدَ __________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 187)، ونقل عن أبيه أنه منكر، وانظر "الدراية": (ص/ 145) للحافظ، وقال ابن القيم في "الزاد": (1/ 231): "ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن" اهـ. (2) أخرجه ابن عساكر في "التاريخ": (21/ 171)، وابن الأعرابي في "المعجم": (3/ 893)، وغيرهم، وهو حديث ضعيف، انظر "السلسلة الضعيفة" رقم (2569)، و"فيض القدير": (1/ 379). (3) أخرجه الطبراني في "الكبير": (12/ 379)، والعقيلي في "الضعفاء": (3/ 432)، وابن عدي في "الكامل": (6/ 458). قال الهيثمي في "المجمع": (2/ 24) عن إسناد الطبراني: "رجاله موثقون إلا شيخ الطبراني ... ولم أجد من ترجمه. وقواه الألباني في "السلسلة" رقم (2200).

(3/1006)


النَّاسَ سُجُودًا فَلْيَسْجُدْ، ولا يَقِفْ كما يَقِفُ اليَهُودُ" (1). وروى ابن بطَّة بإسناده إلى أبي أُمامَةَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازةً وهو سابع سبعة، فأمرهم رسول الله (ق/247 أ) - صلى الله عليه وسلم - أن يصفُّوا ثلاثة صفوفٍ خلْفَه، فصف ثلاثة واثنين وواحدًا صفًّا خلفَ صفٍّ، فصلى على الميت ثم انصرف (2). وبإسناده عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب يرفعه: "مَنْ كَتَمَ على غَالٍّ فَهُو غَالٌّ مِثْلُهُ" (3). وبإسناده عن عائشة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشعر فقال: "هو كَلامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وقَبِيحُهُ قَبِيحٌ" (4). وبإسناده عن جابر بن سَمُرَةَ يرفعه: "لأَن يُؤَدِّبَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ خَيْرٌ له مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ كُلِّ يَوْمٍ على مِسْكِينٍ" (5). __________ (1) لم أجده. (2) أخرجه الطبراني في "الكبير": (8/ 224) بنحوه، قال الهيثمي (3/ 32): "فيه ابن لهيعة، وفيه كلام". (3) أخرجه أبو داود رقم (2716)، والطبراني في "الكبير": (7/ 302)، وفي سنده مقال، وانظر: "نصب الراية": (2/ 375). (4) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (4/ 278)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية": (1/ 137) من حديثها، وأخرجه ابن الجوزي في "العلل": (1/ 138)، والمزي في "تهذيب الكمال": (17/ 85) من حديث ابن عَمْرو -رضي الله عنهما- ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ. (5) أخرجه أحمد: (34/ 459 رقم 20900)، والترمذي رقم (1951) والحاكم: (4/ 263) وغيرهم من طرق عن ناصح عن سِماك به. قال الترمذي: "غريب"، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك": "ناصح هالك". ولفظ أحمد والحاكم: "بنصف صاع".

(3/1007)


وبإسناده عن عائشة ترفعه: "أَعْلِنوا النِّكَاحَ واجْعَلُوه في المَسَاجِدِ، ولْيُولِمْ أَحَدُكُمْ ولَوْ بِشَاةٍ" (1). وبإسناده عن (2) إبراهيم الحربي قال: الناسُ كلهم عندي عدولٌ إلا منْ عَدَّلَه القاضي. قلت: ويروى عن ابن المبارك أنه قال: النَّاسُ كلُّهم عدولٌ إلا العدولَ، سمعته من شيخنا (3). وبإسناده عن يحيى القطان: لم يكن يشهدُ عند الحكَّام إلا القَسَّامُ والذَّرَّاعُ، (ظ/ 176 أ) فأما المستورونُ وأهل العِلم فلم يكونوا يشهدون. وبإسناده: قال رجلٌ لابن المبارك: يا أبا عبدَ الرحمن، مَن السَّفَلُ؟ قال: الذين يَلْبَسُون القَلَانِسَ ويأتونَ مجالسَ الحُكَّامِ. وبإسناده عن أنس بن مالك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتِي على النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعو فيه المُؤمنُ للعَامَّةِ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وجلَّ: ادْعُ لِخاصَّةِ نَفْسِكَ أسْتَجِبْ لَكَ، فأمَّا العَامَّةُ فإنِّي عَلَيْهِمْ سَاخِطٌ" (4). __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (1089) والبيهقي: (7/ 290)، وابن عدي في "الكامل": (5/ 240) وغيرهم، وفيه عيسى بن ميمون ضعيف جدًّا، والحديث من مناكيره. انظر: "العلل المتناهية": (2/ 627)، ولقوله: "أعلنوا النكاح" شواهد يتقوَّى بها، أخرج ابن حبان "الإحسان": (9/ 374)، والحاكم (2/ 183) من حديث ابن الزبير ما يشهد له. (2) من قوله: "عائشة ترفعه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) يعني: ابن تيمية. (4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (6/ 175)، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث صالح -المري- تفرَّد به داود -ابن المخبّر" اهـ. وداود متروك وصالح ضعيف.

(3/1008)


وبإسناده عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصَّيْداوي قال: قال أحمد بن حنبل: إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدُلُّكُمْ على ما إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ" (1). وبإسناده عن همَّام أنَّ ابن مسعود كان يقول: لأَنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بغيرِهِ صادِقًا (2). وليتَ القاضيَ ذكَرَ (3) أسانيدَ هذه الأحاديثِ، وكتبْتُها لأكشِفَ حالَها (4). * * * __________ (1) أخرجه مسلم رقم (54)، وأحمد: (16/ 381 رقم 10650) واللفظ له من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (2) أخرجه ابن أبى شيبة: (3/ 79)، وعبد الرزاق: (8/ 469)، والطبراني في "الكبير": (9/ 183)، قال الهيثمي في "المجمع": (4/ 177) عن سند الطبراني: "رجاله رجال الصحيح". (3) (ق): "كتب". (4) وقد كتبنا في هذا التعليق شيئًا من أسانيدها، وكشفنا عن حالها. والحمد لله.

(3/1009)


ومن خط القاضي أيضًا حكى على قدامة بن مظعون (1) وعَمْرو بن مَعْدي كَرِبَ (2) أنهما كانا يقولان: الخمرُ مُبَاحَةٌ (3)، ويحتجَّان بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قالا: قد آمنَّا وعملنا الصالحات فلا جناح علينا فيما طَعِمنا (4). فلم تكفِّرْهما الصحابة بهذا القول، وبَيَّنوا لهما الحكمَ في ذلك؛ لأنه لم يكنْ قد ظهرتْ أحكامُ الشريعة في ذلك الوقت ظهورًا عامًّا، ولو قال بعض المسلمين في وقتنا هذا لكفَّرناه؛ لأنه قد ظهر تحريمُ ذلك (5). (ق/ 247 ب) وسببُ نزول هذه الآية ما قاله الحسنُ: لما: نَزَلَ تحريمُ الخمرِ، قالوا: كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهي في بطونِهم وقد __________ (1) (ع وق): "عثمان بن مظعون"، ثم عُدِّلت في (ق) من بعض المطالعين علي ما يظهر، والمثبت من (ظ) وهو الصحيح، وفي هامش (ق) ما نصه تعليقًا "المحكيّ عنه هذا القول قدامة بن مظعون لا عثمان كما هو مشهور، فإن عثمان توفي قبل تحريم الخمر، فلعلّه خطأ من الكاتب، على أن قدامة رجع عن هذا القول كما هو مشهور عند جميع الأمة، والله سبحانه وتعالى أعلم" اهـ كاتبه الفقير محمد بن عبد الله بن حميد. (2) لم أر تسميته فيمن: تأوّل هذه الآية إلا في "المغني" لابن قدامة: (12/ 493)، فلعله ممن تأول ذلك في جماعة من أهل الشام في إمرة يزيد بن أبي سفيان، انظر "مصنف عبد الرزاق": (9/ 244). (3) تكررت في (ظ) وتحتمل قراءتها: "متاحة مباحة". (4) أخرجه الحاكم: (4/ 141)، والبيهقي: (8/ 320)، والطحاوي في "شرح المعاني": (3/ 154) وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس. (5) وانظر "مجموع الفتاوى": (7/ 610).

(3/1010)


أخبر اللهُ أنها رجسٌ، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) [المائدة: 93]. وكذلك قد قيل في مانعي الزكاة: إنهم على ضَرْبين؛ منهم من حُكِم بكفره، وهم من آمن بِمُسَيْلَمَةَ وطُلَيْحة والعَنْسي. ومنهم من لم يُحْكمْ بكفره وهم من لم يؤمنوا بهم لكن منعوا الزكاة، وتأوَّلوا أنها كانت واجبةً عليهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلَّي عليهم، وكانت صلاتُه سكنًا لهم، قالوا: وليست صلاةُ ابنِ أبي قحافة سَكَنًا لنا، فلم يُحْكَمْ بكفرهم؛ لأنه لم يكنْ قد انتشرتْ أحكامُ الإسلام، ولو منعها مانعٌ في وقتنا حُكِم بكفره. * * * ومن خطه أيضًا من تعاليقه * عذاب القبر حق، وقد قيل: لابدَّ من انقطاعه لأنه من عذاب الدنيا، والدنيا وما فيها فانٍ (2) منقطع، فلابُدَّ أن يلحقَهم الفناءُ والبلاءُ، ولا يُعْرَف مقدار مدَّة ذلك. * يجوز أن يحشُرَ اللهُ العبادَ يوم القيامة عُرَاة (3) في وقت خروجهم من قبورهم يومَ البعثِ، ثم يكسو اللهُ المؤمنَ حُلَلَ الجنَانِ، ويجعل على الكافر والعصاةِ سرابيلَ القَطِران، والتَّعَبُّدُ فيَ الآخرة بترك التَّكَشُّفِ زائلٌ. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5582)، ومسلم رقم (1980) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (2) (ق): "فإنه". (3) من قوله: "الفاء والبلاء ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1011)


* المحشر : هل هو في أرض من أراضي الجنة؟ أو في أرض من أراضي الدُّنيا؛ أوفي موضع لا من الجنَّة ولا من النَّار؟ فقد قيل: أوَّلُ حشر النَّاس عند قيامهم من قبورهم في هذه الأرض التي ماتوا ودفنوا فيها، ثم يُحَوَّلون إلى الأرض التي تسمى: السَّاهرة، فهذا معنى قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: 14]، والسَّاهرة: هي التي يحاسَبُون عليها (1)، فإذا فَرَغوا من الحساب، جازوا (2) على الصراط، وتميز بين المُجرمينَ والمؤمنينَ، ضُرِبَ بينهم بسُور، فكان ما وراءَ السُّور مما يلي الجنة: من أرض الجنة، وصار ما دونَ السُّور مما يلي النَّار من أرض جهنم، وموضع الحساب يصير من جهنم. * قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6] المراد الأمر في الدنيا؛ لأن الآخرة ليس فيها أمرٌ ولا نهيٌ على: الملائكة ولا غيرهم؛ لأن التَّعَبُّدَ زائلٌ، وفي البخاري (3) عن علي: "اليومَ عَمَلٌ ولا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ". قلت: هذا وهمٌ منه رحمه الله تعالى، فإنَّ الله تعالى يأمُر الملائكة يومَ القيامة بأخذ الكفار والمجرمينَ إلى النَّار وسَوْقهم إليها وتعذيبهم فيها، ويأمر عبادَهُ بالسُّجود له، فيَخرُّون (ق/248 أ) سُجَّدًا، إلا من منعه الله من السُّجود، ويأمر المؤمنينَ فيعبرونَ الصَّراطَ، ويأمر خَزَنَةَ الجنَّة بفتحها لهم، ويأمر خَزَنَةَ النار بفتحها لأهلها، ويأمرُ ملائكةَ السموات بالنزول إلى الأرض، ويأمر بشأن البعث كلِّه وما بعده، فالأمر يومئذ لله ولا يُعصى الله في ذلك اليوم طَرْفَةَ عينٍ، وأوامرُه __________ (1) انظر الأقوال فيها في "زاد المسير": (4/ 395). (2) (ق وظ): "وجازوا". (3) "الفتح": (11/ 239) معلقًا، ووصله ابن أبي شيبة: (7/ 100) وغيره.

(3/1012)


ذلك اليومِ للثَّوابِ والعقاب، والشفاعةُ للملائكة والأنبياء وغيرهم، لا تضبطُها قدرةُ الخَلْق، فكيف يُقالُ: ليس في الآخرة أمرٌ ولا نهيٌ حتى يقالَ: (لا يعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهم) في الدنيا؟! أَفترى اللهَ عزَّ وجلَّ لا يأمرُهم يوم القيامةِ في أهل النَّار بشيءٍ فلا يَعْصُونه فيه، نعم ليست الآخرةُ فى دارَ حَرْثٍ وإنما هي دارُ حَصَادٍ، وأوامرُ الربِّ ونواهيه ثابتةٌ في الدَّارين، وكذلك أوامر التَّكليف ثابتةٌ في البرزخ ويوم القيامة، وحكاه أبو الحسن الأشعري في "مقالاته" (1) عن أهل السنّة في تكليف من لم تبلغْه الدعوةُ في الدنيا أنه يُكَلَّف يومَ القيامة. فقولُ القائل: الآخرةُ (ظ/176 ب) ليست دارَ تكليفٍ ولا دار أمرٍ ونهي قولٌ باطل، ودعوى فاسدة، والله الموفق. * قال: ذكر بعضهم أنه يجور أن يقول: أنا مؤمن، ولا يقول: أنا وَلِيٌّ. وفَرَّق بينهما، فإن الله تعالى أمرَ من ظهر منه الإيمان أن يسمَّى مؤمنًا، قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية، ولم يأمُرْ من ظهر منه ذلك أن يسمَّى وَلِيًّا. ولا فَرْقَ بينهما فإن الله قد وصف الوَليَّ بصفة المؤمن، فقال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] وهذه صفة المؤمن؛ ثم لا يجوزُ أن يصفَ نقسَه بأنه وَلِيٌّ، كذلك (2) المؤمن؛ ولأنه إنما يكونُ وليًّا بتولِّيه لطاعات الله وقيامه بها كالمؤمن. قلت: هذا حجَّةُ من منع قول القائل: "أنا مؤمنٌ" بدون الاستثناء، كما لا يقولُ: "أنا وَلِيٌّ"، ومن فرَّق بينهما أجاب: بأنه لا يمكنُه العلمُ __________ (1) لم أجده في المطبوع. (2) (ظ): "وكذلك".

(3/1013)


بأنه وليٌّ؛ لأن الولاية هي القربُ من الله عز وجل، فوليُّ الله هو القريبُ منه المختصُّ به، والولاءُ هو في اللغة القربُ، ولهذا القُرْب علاماتٌ وأدِلَّةٌ، وله أسبابٌ وشروط وموجبات، وله موانعُ وآفاتٌ وقواطعُ، فلا يعلمُ العبدُ هل هو وليٌّ لله أم لا. وأما الإيمانُ؛ فهو أن يؤمنَ بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، ويلتزمُ أداء فرائضه، وترك محارمه، وهذا يمكنُ أن يعلمَه من نفسه، بل ويعلمُهُ غيرُه منه. والذي يظهرُ لي من ذلك أن ولايةَ الله تعالى نوعان: عامَّة وخاصَّة، فالعامَّة: ولايةُ كلِّ مؤمن، فمن كان مؤمنًا لله (1) تقيًّا (ق/ 248 ب) كان وليًّا له، وفيه من الولاية بقدْر إيمانه وتقواه، ولا يمتنعُ في هذه الولاية أن يقول: "أنا وليٌّ لله إنْ شَاءَ اللهُ"، كما يقول: "أنا مؤمنٌ إنْ شاءَ اللهُ". والولايةُ الخاصَّةُ: إن علم من نفسِه أنه قائمٌ لله بجميع حقوقه، مؤْثِرٌ له على كلِّ ما سواه في جميع حالاته، قد صارت مراضي الله ومحابُّهُ هي همَّهُ ومتعلقَ خواطِرِهِ، يصبحُ ويمسي وهمُّه مرضاة ربِّه، وإن سخِطَ الخلقُ، فهذا إذا قال: "أنا وليُّ لله" كانَ صادِقًا. وقد ذهب المحققونَ في مسألة: "أنا مُؤْمِنٌ" إلى هذا التَّفصيل بعينه، فقالوا: له أن يقولَ: "آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه"، ولا يقولُ: "أنا مؤمنٌ"؛ لأن قوله: "أنا مؤمنٌ"، يُفيدُ الإيمانَ المطلَقَ الكاملَ الآتي صاحبُه: بالواجباتِ، التاركُ للمحرَّماتِ، بخلاف قوله: "آمنت باللهِ". فتأمَّلْه. * إذا دخل خارجيٌّ أو قاطعُ طريقٍ إلى بَلَد، وقد غصَبَ الأموالَ __________ (1) (ق): "بالله".

(3/1014)


وسبى الذَّراريَ هل يجوز معاملتُه؟. نظرتَ فإن لم يكنْ معهم إلا ما أخذوه من النَّاس، لم يَجُزْ معامَلَتُهُم، وإن كان معهم حلالٌ وحرامٌ لم يَجُزْ أيضًا، إلا أن يُبَيِّنوه، كرجلٍ كان عنده أربعُ إماءٍ فأعتقَ واحدةً منهنَّ بعينها، وعرض واحدةً منهنَّ، وهو مدَّعٍ لرِقِّهِنَّ، لم يَجُزِ الشِّراءُ منه حتى يُبَيِّنَ التي أعتقَها، وكذلك إذا كاد عنده مَيْتةٌ ومذكَّاةٌ، لم يَجُزِ الشراءُ منه حتى يُبَيِّنَ، فأما الأموالُ التي في أيدي هؤلاء الغَصَبَةِ من الخوارج واللُّصوص الدين لا يُعرفُ لهم صناعةٌ غير هذه الأموال المحرَّمة عليهم، فالعلمُ قد أحاط بأن جميعَ ما معهم حرامٌ، فلا يجوزُ البيعُ والشِّراء منهم. ولكن يجوزُ للفقير أن يأخذَ منهم ما يُعطونه من جهة الفقر؛ لأن إمام المسلمين لو ظفر بهذا الفاسقِ وبما معه من الأموال المغصوبة لوجبَ أن يصرفَ هذه الأموالَ في الفقراء، وأما المستورُ فإنه يُحْكَمُ له بما في يده؛ لأنا لا نعلمُ أنه في دعواه مُبْطِلٌ. وكذلك لو أن رجلاً من فُسَّاق المُسلمينَ لا ينزِعُ عن الزِّنا والقذف ونحوه، وكان في يده مال حُكِم له به، ويفارقُ هذا من يُعْرف بالغَصْبِ والظلم؛ لأن الظاهرَ أن تلك الأموال حرامٌ غُصُوبٌ. * * * ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد رواية المرُّوْذي عنه، رواية أبي بكر أحمد بن عبد الخالق عنه (1)، __________ (1) من أول العنوان إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1015)


رواية أبي بكر أحمد بن جعفر بن سَلْم الخُتَّلي (1)، رواية أبي الحسين أحمد بن عبد الّه السُّوْسنْجَرْدي (2). قال المرُّوْذي: سمعت أبا عبد الله يقول لرجل: اقعدْ اقرأ، فجئتُه أنا بالمصحف فقعدَ،: فقرأ عليه، فكان يمُرُّ بالآية فيقفُ أبو عبد الله، فيقول (ق/ 249 أ) له: ما تفسيرُها؟ فيقول: لا أدري، فَيُفَسِّرُها لنا، فربما خنقته العَبْرَةُ فيردُّها، وكان إذا مرَّ بالسَّجدِة سجدَ الذي يقرأُ وسجدنا معه، فقرأ مرّةً فلم يسجدْ، فقلت لأبي عبد الله: لأيِّ شيءٍ لم تسجد؛ قال: لو سجد سَجَدْنا معه، قد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- للذي قرأ: "أنت إمامُنا إن سجدْتَ سَجَدْنا" (3)، وكان يعجبه أن يُسَلِّمَ فيها. وقال: ذهبت إلى ابنِ سَواء (4) فكان يقرأ بنسخة لعبد الوهاب، فكان يقرأُ ويفسِّرُ، قال ابن سواء: كان سعيد (5) يقرأ ويفسِّر، قال: وكان قَتَادَةُ يقرأُ ويفسِّرُ. وقال لرجل: لو قرأتَ فسَمِعْنا (ظ/177 أ) ونحن نسير من العسكر، فكان الرجلُ يقرأُ وأبو عبد الله يسمع، وربما زاد أبو عبد الله الحرفَ __________ (1) تحرّفت في (ظ) إلى "الحنبلي" و (ق): "الخبرا"! وانظر ترجمته في "السير": (16/ 82). (2) ترجمته في "طبقات الحنابلة": (3/ 303). والسُّوسَنجَرْدي: نسبة إلى سُوْسَنجَرْد قرية بنواحي بغداد، انظر "معجم البلدان": (3/ 320). (3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 344). (4) هو: محمد بن سواء أبو الخطاب السدوسى، روى عن سعيد بن أبي عَروبة ت (187). "الجرح والتعديل": (7/ 282). (5) يعني: ابن أبي عَروبة شيخه.

(3/1016)


والآيةَ فتفيضُ عيناه، وسمعتُه يفسِّرُ القرآنَ، وقال: قال مجاهد: عرضتُ القرآنَ على ابن عباس ثلاثَ مرات، وقال: أَعْيَتْنِي الفرائضُ فما أُحْسِنُها. وقُرِئ عليه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} قال: لا سوَادَ فيها. {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] قال: لا كبيرة ولا صغيرة. {غَيْرَ مَدِينِينَ (86)} [الواقعة: 86] قال: مُحَاسَبِين. وكان (1) يقرأ: (السِّجْنُ): "السَّجْنُ أَحَبُّ إليَّ" (2) [يوسف: 33]. {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} [يوسف: 70] قال: حُمُرٌ تحملُ الطعام. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} [النحل: 112] قال: مكة (3). {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قال: هذه نَسَخَتْها التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال: يفرِض لكل حاملٍ مطلقةً كانت أو متوفى عنها زوجُها لها النَّفَقَةُ حتى تَضَعَ. هكذا رأيت هذا التفسير، ولا يخلو من وهم، إما من المرُّوْذي أو من الناقل!. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] قال: عملك فأصلِحْه، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5]، قال: الرجز عيادة الأوثان، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6] قال: تمنّ بما أعطيتَ لتأخذَ أكثرَ (4). __________ (1) (ع وظ): "وقال". (2) يعني بفتح السين "السَّجن" وهي قراءة يعقوب، انظر "المبسوط": (ص/ 209). (3) من قوله: "أيتها العير ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 143).

(3/1017)


{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1] قال: وادٍ في جهنم، الـ {غَاسِقٍ}: القمر، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "هذا الغَاسِقُ قَدْ طَلَع" (1) يعني: القَمَر، {النَّفَّاثَاتِ}: السحر، و {الْعُقَدِ (4)}: الذين يعقدون السِّحْرَ، {حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} قال: هو الحسدُ الذي يتحاسدُ الناسُ، قلت: أيْشٍ تفسير "إذا وقب"؟ قال: لا أدري. وقرئ عليه: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} [الفجر: 7] قال: لم تزل، {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} (2) [الفجر: 9] قال: نقبوا الصخر (3) وجاءوا عليهم جلود النِّمار، قد جابوها: قد نقبوها. {عَسْعَسَ (17)}: أظلم. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] قال: هذه مدينة ضَرَوان (4) قد مررتُ بها (5)، وهي قريبة من عبد الرزاق (6)، رأيتها سوِداءَ حمراءَ، أثرُ النار يتبيّن فيها، ليس فيها أثرُ زرع ولا خضرة، إنما غَدَوا على أن يَصرِموها أو يجِذُّوها وفيها حَرْثٌ، وكانوا قد أقسَموا أن لا يَدْخلَها __________ (1) تقدم 2/ 729. (2) (ع): "جابوا الصخرة". (3) من قوله: "والعقد الذين ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) ضرَوان: بالضاد المعجمة، بفَتَحَات، قرية قريبة من صنعاء. "معجم البلدان": (3/ 456). (5) "قد مررت بها" سقطت من (ق). (6) يعني: شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت (211)، لكن في هامش (ق) تعليق -وأظنه بخط ابن حميد- نصّه: "سقط هنا شيءٌ، وهو المجرور بمن، ولعله "صنعاء"، كما في القسطلانى، فأما قوله: "عبد الرزاق" فهو فاعل لفعل محذوف تقديره قال": اهـ. وما قاله بعيد، والعبارة واضحة المعنى، وأحمد له رحلة إلى اليمن، فهو الذي رآها.

(3/1018)


مسكين {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 20]، قد أكلتها النارُ حتى تركَتْها سوداءَ. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]: أعدَلُهم. {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات: 14]: لا يظلِمْكم. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)} [المعارج: 8]: قال: مثل دُرْدِي الزيت (1). {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} [الطارق: 11] قال: المطر، والصدع: النبات. {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)} [المرسلات: 25]: يكفتون فيها. الأحياء: الشَّعَر والدَّم، (ق/ 249 ب) وتدفنون (2) فيها موتاكم. قال المرُّوْذي: وسمعته يقول: يُدْفَن فيها ثلاثة أشياء: الأظافر والشعر والدم. قال: {وَأَمْوَاتًا (26)}: تُدْفن فيها الأموات، {مَاءً فُرَاتًا (27)} [المرسلات: 27]: عذبًا. {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 4] قال: مثل الشَّرار (3) الذي يطيرُ عند السِّراج فيحترقُ. {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال: مضاجعته (4). {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] قال: كان ابن عباس يقول: تَرَوْنَ السّمواتِ ولا ترونَ العَمَدَ. {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن: 6] قال: الشجر: ما كان إلى الطول قائم، والنجم: النبات الذي على وجه الأرض. __________ (1) ما يبقى في أسفله. (2) (ق): "تكفتون". (3) في المطبوعة: "الفراش". (4) وقيل: دينه.

(3/1019)


وقرئ عليه: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] قال: مشددة مخالفة على الجهمية. {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص: 46] قال: أخلصوا بذكر الآخرة. {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} [ص: 33] قال: ضَرَبَ أعناقها. {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] قال: الثناء، قال: يتولى إبراهيم المللَ كلها يتولَّونه. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب: 25] قال: جاءت ريحٌ فقطعت أطناب الفساطيط فرجعوا. {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] قال: الجنة. {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 68] قال: باعوها. قلت: يريد أبو عبد الله باعوا: الآخرة، لا أنه فسَّر الاشتراءَ بالبيع، فإنهم لم يبيعوا الحياةَ الدنيا وإنما باعوا الآخرةَ واشتروا الدنيا. {فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117]: برد. {فَضَحِكَتْ} [هود: 71]: حاضت. {بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] قال: بعشرين درهمًا. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] قال (1): قَصَرْن طرفهنَّ على أزواجهن فلا يُرِدْنَ (2) غيرَهم. __________ (1) من (ظ). (2) (ظ): "يرين".

(3/1020)


{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] قال: كثيرٌ بياضُ أعينِهن، شديدٌ سواد الحَدَق. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] قال: العجم. {يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)} [الواقعة: 46] قال: الكفر. {شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55]: الإبل. {الأحقاف}: الرمل. {سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] قال: السَّيْل هو السيل، والعرم: هو مُسَنَّاةُ البحر. قال المرُّوْذي [عن أحمد] (1) حدثنا محمد بن جعفر، حدثَنا شَرِيك، عن أبي إسحاقَ، عن أبي مَيْسرة في قوله: {سَيْلَ الْعَرِمِ} قال: المُسَنَّاة بلَحْن اليمن (2). وقال: أيُّ شيء تفسيرُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 6] قلت: لَكَفُورٌ، قال: نعم. {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96] قال: الجَبَلين. {عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12]: النحاس المذاب. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة: 255]: لا تأخذه نعسة. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] قال: مكث على عصاه سَنَةً فلما نُخِرَتِ العَصَا وقع، {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] قال: الأراك. __________ (1) زيادة متعينة. (2) أخرجه ابن جرير: (10/ 362) عن شريك به.

(3/1021)


{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]: ما لم يكن فيه سَرَف أو تقتير، {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ: 52] قال: التناول بالأيدي. {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] قال: القرآن. {ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] قال: سَجْلٌ من العذاب. {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [الرحمن: 11] قال: الطَّلْع. قُرئ عليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] قال: الذي قال سفيانُ: إذا اختلفتم في شيءٍ فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، يتأوَّل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1). {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]: أخَّر دعاءَهُ إلى السَّحَر. {الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4]: لم تُحْلَبْ ولم تُصَرَّ. {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: 2] قال: ما كسب: ولدُهُ. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] قال: نعيم الدنيا. {نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ} [السجدة: 27]: هي أبْيَن (2) لا يأتيها المطرُ إنما يُساقُ إليها الماءُ، وقد مَرَرْتُ بها بليل. قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تَيْمِيَّةَ يقول: هي أرض مصر، وهي أرض إِبْلِيز (3) لا ينفعُها المطر، فلو أُمْطرَتْ مطرَ العادة لم ينفعها __________ (1) انظر "معالم التنزيل": (3/ 475)، وجاء نحوه عن ابن المبارك كما فى "زاد المسير": (3/ 414). (2) أرضٌ باليمن، انظر "تفسير الطبري": (10/ 252)، و"معجم البلدان": (1/ 86). (3) الإبليز: الطين الذي يخلفه نهر النيل بعد ذهابه. "المعجم الوسيط".

(3/1022)


ولم يَرْوِها، ولو دام عليها المطرُ لهدم البيوتَ وقطع المعايشَ فأمطر اللهُ تعالى بلادَ الحبشة والنُّوبة ثم ساق الماءَ إليها (1) وعندي: أن الآيةَ عامةٌ في الماء الذي يسوقه اللهُ على متون الرياح في السحاب، وفي الماء الذي يسوقُهُ على وجه الأرض، فمن قال: هي أبْيَن أو مصر، إنما أراد التمثيلَ لا التخصيص. {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] قال: أهل المدينة، {قِنْوَانٌ} [الأنعام: 99]: نضيج. قلت: أهلُ المدينة أول من وُكِّلَ بها، ولمَنْ بعدَهم من الوَكالة بحسب قيامِهِ بها علمًا وعملًا ودعوة إلى الله تعالى (2). قال: بُعِث شعيب إلى مدينتين، قال: عُذِّبوا {يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78]. قال: يُقْرأ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} وصَاع (3)، و"صُواع" أصوب، قال: وكان من ذهبٍ. {هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)} [طه: 30 - 31] قال: أَشْرِكه معي يا ربِّ قال: افعل بنا هذا، قال: هذا دعاء. قال: ومَن قَرَأ: "أَشْدُدْ به أزْرِي" (4) قال: قال موسى: أنا أُشْرِكُه في أمري، قال: كِلا الوجهين حسن. __________ (1) انظر "مجموع الفتاوى": (6/ 558)، و"منهاج السنة": (5/ 444). وانظر: "زاد المعاد": (4/ 393)، و"تفسير ابن كثير": (76/ 2776). (2) انظر: "مدارج السالكين": (2/ 131)، (3/ 502)، و"مفتاح دار السعادة": (1/ 491 - 492). (3) وهي قراءة أبي هريرة، وانظر ماله من القراءات في "الجامع لأحكام القرآن": (9/ 150 - 151). (4) وهي قراءة ابن عامر وحده. "المبسوط": (ص/ 247).

(3/1023)


{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7] قال: السِّرُّ ما كان في القلب يُسِرُّهُ وأخفى: الذي لم يكنْ بَعْدُ، يعلمُهُ هو. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] قال: هو الرجلُ يكون في القوم فتمرُّ به المرأةُ فيلحظُها بصره، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة فقال: "اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْها" (1). {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] قال: كان ابن مسعود يقرأ: "حيثُ ما وُجِدَ لا يأتِ بخير" قال: أحسن هذا الحرف، وقرأه هو. {أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء: 6] قال: رجالًا. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2] قال: إنما هو: قيمًا ولم يجعل له عوجًا. وقال: ليس أحدٌ من الأنبياء تمنى الموت غير يوسف، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] الآية. {أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19]: أحَلُّ. {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] قال: عيسى والعُزَيْر. قلت: هذا تفسيرٌ يحتاجُ إلى تفسير، فإن كان أحمدُ قالَ هذا، فلعله أراد الشياطين الذين عَبَدَهُم اليهودُ والنصارى، وزعموا أنهما عيسى والعُزَيْر. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2159) من حديث جرير البجلي -رضي الله عنه-.

(3/1024)


وقال: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] قلت: هو هارون أخو موسى؟ قال: نعم، كان المشركون قد اختصموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بين موسى وعيسى كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كَانَ هَذَا يُدْعَى بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ" (1). قال أبو عبد الله: استعمَلَ عمرُ رضي الله عنه رجلًا فأبى أن يدخلَ له في عملٍ، فقال: -يعني عمر-: يوسُفُ قد سأل العملَ فاستُعْمِلَ على خزائن الأرض. وقال: في المائدة ثمان عشرة فريضة: حلال وحرام يعمل بها، وليس فيها شيء لا يعمل به إلا آية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] قال: هذه منسوخة. وقال: آخر شيءٍ نزل من القرآن المائدةُ، وأوَّلُ شيء نزلَ من القرآن {اقْرَأْ} (2). {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] قال: كان ابن عباس يأخذ بذنب الجَنينِ ويقول: هذا من بهيمةِ الأنعام (3). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" (4) قال: __________ (1) كذا بالأصول، ولم أجده بهذا السياق، والذي في "صحيح مسلم" رقم (2135) من حديث المغيرة بن شعبة قال: لما قدمتُ نجرانَ سألوني فقالوا: إنكم تقرءون: "يا أخت هارون" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك، فقال: "إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم". ووقع في المطبوعات: "هذا بدعًا ... "! ولا معنى له. (2) انظر: "طبقات الحنابلة": (1/ 141). (3) من قوله: "قال: كان ... " إلى هنا ساقط من (ع). (4) أخرجه أبو داود رقم (2827)، وابن حبان "الإحسان": (13/ 207) من حديث =

(3/1025)


وأما أبو حنيفة فقال: لا يُؤكلُ، تُذْبحُ نفسٌ وتُؤكَلُ نفسٌ!!. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قال: على أبي بكر، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد أنزلتْ عليه السكينةُ. قلت: وكان شيخُنا أبو العباس ابن تيميَّة يذهبُ إلى خلاف هذا ويقولُ: الضميرُ عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، وإلى صاحبه تَبَعًا له، فهو الذي أُنزلتْ عليه السكينةُ، وهو الذي أيده: الله بالجنود، وسرى ذلك إلى صاحبِهِ، انتهى (1). وقال (2): أربعُ سور أنزلت بالمدينة: البقرةُ وآل عمران والنساء والمائدة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال: بالمدينة، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} قال: بمكة. قلت: لم يُرِدْ أحمد التخصيص، ولا خلاف بين الأمة في أن الأنفال وبراءة والنور والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقين نزلنَ بالمدينة في سور أُخَرَ. وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالمدينة؛ صحيح، و {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} بمكة؛ فمنه ما هو بالمدينة ومنه ما هو بمكة، فالبقرة مدنية وفيها {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قال: كان ابن عباس يقول: لو ترك الناسُ الحَجَّ سنةً واحدة (3) ماتُوا طُرًّا. __________ = أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وله شواهد من حديث جماعه من الصحابة، انظر "الإرواء" رقم (2539). (1) انظر قوله هذا مفصَّلًا في "منهاج السنة": (8/ 489 - 491). (2) بعدها في (ظ) زيادة: "ما نزل بمكة والمدينة من القرآن". (3) من (ق).

(3/1026)


{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] قال: على الأصنام، قال وكل شيء ذُبِحَ على الأصنام لا يؤكل، {تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} قال: كِعَاب (1) فارس يقال لها: النرد وأشباه ذلك. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] قال: لو أنّ رجلًا بـ "عَدَنِ أبين" همّ بقتل رجل وهو في الحرم هذا قول الله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج: 25]، هكذا قال ابن مسعود. قال: وقد خرج جابر من المدينة إلى مكة (2) مجاورًا. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال: والعشر ليال أو أيام، ثم قال: لو كانت لياليَ كان يكونُ نقصان يوم؛ لكنها أيام وليال عشرة. قال: وأهل مصر يقولون: الشام باديتهم، قال يوسف: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92]: لا تعيير. {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي} [يوسف: 93]: قال: شَمَّ ريحَهُ من مسيرة سبعة أيام، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]: لا جزع فيه. قلت: وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيميَّة -مرارًا- يقول: ذَكَرَ اللهُ الصَّبْرَ الجميلَ، والصَّفْحَ الجميلَ، والهَجْرَ الجميلَ. فالصبرُ الجميل الذي لا شكوى معه، والهجر الجميلُ الذي لا أذى معه، والصفحُ الجميلُ الذي لا عِتَابَ معه. انتهى (3). __________ (1) الكِعَاب: فصوص النرد. (2) (ق): "من مكة إلى المدينة". (3) انظر "مجموع الفتاوى" (10/ 183 - 184، 666 وما بعدها). والعبارة في (ق) ترتيب آخر وفيها اضطراب.

(3/1027)


{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] قال: قد قال قوم: حكيم من أهلها. وقال قوم: القميص الشاهدُ، وقال قوم: الصبرُ. {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4] قال: مُنْتصِبًا. قلت: وكأنَّ (1) القولَ الآخر أَظْهرُ، وهو: في مشقة وعناء يكابد أمرَ الدنيا والآخرة، قال الحسن: ما أجِدُ من خَلْق الله يكابِدُ ما يُكابِدُهُ ابنُ آدم. {مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] قال: لا تنَالُهُ الرِّشَاءُ، {بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} قال: على وجه الأرض. قلت: يحتملُ تفسير أحمد أمرين؛ أحدهما: أن يكون "معينًا" (2) فَعِيلًا من أمْعَنَ في الأرض إذا ذهب فيها، ويحتمل أن يكون مفعُولًا من العين أي: مرئيًا بالعين وأصله مَعْيون، ثم أُعِلَّ إعلالَ مَبِيع وبابه. وقال: قرأ زيد بن ثابت (3): "وانْظُرْ إلى العِظَامِ كيفَ نُنْشِرُها" [البقرة: 259] وهو أشبه: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)}. {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] قال: يُعَزِّرُوه: النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسبحوه: الله تعالى. {عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]: على نُقْصانٍ. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 49]. قال: يحلبون. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)} [الطور: 6]: جهنم. __________ (1) (ق): "وقال .... ". (2) (ق) زيادة: "في نفسه". (3) وهي قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عَمْرو ويعقوب. انظر: "المبسوط": (ص/ 134).

(3/1028)


قلت: لم يُرِدْ أحمد أن المراد بالآية جهنم، وإنما أراد (1) أنه يكون جهنم أو موضعها والله أعلم. {الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)} [الانفطار: 3]: فاضت. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4 - 5]، قال: كانوا يؤخِّرونها حتى يخرج الوقتُ. {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]: هو العَبِيط، ولا يكادُ أن يكونَ في اللحم الصُّفْرة فيغسل (2). {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]: البحرُ وحوتٌ في حوت، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء: 87]. قلت: هذا تفسير {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}. وذِكْر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} وهْمٌ؛ فإن تلك الظلمات هي التي يخلقُ فيها الجَنينُ، لا مدخل لظلمة البحر ولا لظلمة الحُوت فيها، بل ظُلمة الرَّحِم وظلمة المَشِيمةِ وظلمة البطن، والله أعلم. {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] قال: الزنا. {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] قال: اشترى ابنُ المنكدر بجميع ما كان معه بَدَنَةً وتأوَّلَ هذه الآية. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ... } إلى: { .. عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} [الحج: 52 - 55] قال: هذه نزلت بمكة والباقي بالمدينة. __________ (1) (ع): "المراد". (2) انظر "تفسير ابن جرير": (5/ 340).

(3/1029)


{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون 14] قال: نفخ فيه الرُّوح. قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قال: هو أن ينظرَ قبلَ أن يرجعَ طرْفُهُ إليه. قال: وإنما كان قد عَلم الاسم الذي يُستجاب فدعا به. {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق: 21] قال: يسوقُ إلى أمر الله، والشهيد: يشهد عليه بما عمل. {الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7]: الفأس والقِدْر وأشباه ذلك. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ (1) وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] قال: قدَّمه على نوح، قال: هذه حُجَّةٌ على القَدَرية. قلت: لعلَّ أحمد أراد القدريَّة المنكرة للعلم بالأشياء قبلَ كونها، وهم غُلاتُهم الذين كفَّرَهم السَّلَفُ، وإلا فلا تَعَرُّض فيها لمسألة خلق الأعمال. {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ... } إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] قال: هذه لها نصف الصَّدَاق، وإن مُتِّعَت فحَسَن، وإن لم تُمتَّعْ فحسن (2)، قال ابن عباس: تُمتع بخادم ونحو ذا ابن عُمر: تمتع بدرعٍ وإزار، ونحو هذا {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية، قال: هذه ليس عليها عِدَّةٌ، وقال سعيد بن جُبير: لكلِّ مطلقةٍ __________ (1) صدر الآية في (ق): "وإذا أخذ الله ميثاق النبيين"، وهي آية أخرى. (2) "وإن لم تمتع فحسن": سقطت من (ع).

(3/1030)


متاعٌ، ابنُ المسيب: ليس لها متاعٌ، قال أبو عبد الله: من مَتَّع فحسن، ومن لم يمتِّع فحسن. {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو: الزوج، وقد قال قوم: هو الولي، فإذا عفا الرجلُ أعطاها المهرَ كاملًا {أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] قال: تكونُ المرأة تترك للزوج ما عليه فتكون قد عفت. قلت: ونص أحمد في رواية أخرى أنه الأبُ، وهو مذهب مالك، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية (1)، وقد ذكرتُ على رُجحانه بضعةَ عشر دليلًا في موضع آخر (2). {الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] قال: جمعت، وقال قوم: ماتت. قال من قرأ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] قال: موسى وهارون، ومن قرأ: "سِحْرَان" قال: هذان كتابانِ واحد بعد واحد. قلت: هكذا رأيته، وهو وهْم! وإنما هذا تفسير الآية التي في القصص: "أوَ لَمْ يَكْفروا بما أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا: سَاحِرَانِ تَظَاهَرا" أراد: موسى ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)} [القصص: 48]. وقرأ الكوفيون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أرادوا: التوراة والقرآن، وأما آية (طه) فليس فيها إلا قراءةٌ واحدةٌ، ومعنًى واحد {لَسَاحِرَانِ} يريدون: موسى وهارون، فاشتبهت الآيتان على الناقل أو السامع. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)} [المعارج: 16]: تأكل لحم الساقين. قلت: في الآية تفسيران مشهوران: أحدهما: أن الشَّوَى: الأطراف __________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى": (32/ 359 - 360)، و"الاختيارات": (ص/ 238). (2) ستأتي إشارة المصنف إلى هذا البحث فيما سيأتي من هذا الكتاب: (3/ 1112) ولم أجد هذا البحث في كتبه المطبوعة.

(3/1031)


التي ليست مقاتِلَ كاليَدين والرجلين تنزعُها عن أماكنها، ومنه قولهم: "رَمَى الصَّيْدَ فأشواهُ": إذا أصاب أطرافَهُ دونَ مقاتِلِهِ، فإن أصاب مقتلَهُ فماتَ موضِعَهُ، قيل: "رَمَاهُ فأصماهُ" فإن حمل السَّهمَ. وفرَّ به ثم مات في موضع آخر، قيل: رماه فأنْمَاهُ، قال الشاعر (1): فهو لا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ ... مالَهُ لا عُدَّ من نَفَرِهْ والتفسير الثاني: أن الشَّوَى: جمعُ شَوَاة، وهي جلدَة الرأس وفَرْوَتُهُ، وتفسير أحمد لا يناقضُ هذا، فلعله إنما ذكر لحم الساقين تمثيلًا، والله أعلم. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17]: لم ينصرف يمينًا ولا شمالًا، {وَمَا طَغَى (17)}: لم ينظرْ إلى فوق. وقال: من قرأ "سَالَ سَائِلٌ" قال: سَالَ وادٍ، ومن قرأ {سَأَلَ} [المعارج: 1] قال: دعا. قلت: هذا أحد القولين. والثاني: أن ذا الألف (2) من السؤال أيضًا، لكنه قلبت الهمزة فيه ألفًا. {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] قال: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر، والناشئةُ لا تكونُ إلا من بعد رَقْدة، ومن لم يرقُدْ لا يقال (3) لها ناشئة. {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6] قال: هي أشدُّ تبينًا تَفْهم ما يقرأ وتَعي أذنك. {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] قال كان ابن مسعود لا يسجد فيها، __________ (1) البيت لامرئ القيس "ديوانه": (ص/ 125). (2) (ق) زيادة: "واللام". (3) (ع): "ومن يرقد لم يقال"!.

(3/1032)


يقول: هى توبة نبي. {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قال: قوَّينا. [{مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}] قال: هي أنطاكية، {وَجَاءَ}: الثالث. وقد اجتمع الناس على الاثنين، فقال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20 - 1]. قال أبو عبد الله: قال ابن إدريس: ودِدْتُ أنى قرأتُ قراءة أهلِ المدينة. قال: وقال ابن عيينة: قال لي ابن جُرَيْج: اقرأ عليَّ حتى أفسِّرَ لك، قال: وكان ابن جريج قد كتبَ التفسير عن ابن عباس وعن مجاهد. وقال: رحم الله سفيان ما كان أفقَهَهُ في القرآن وكان له علمٌ. وقال: في (النجم): في آخرها يسجدُ ثم يقوم فيقرأ، هذا في الإمام. وقال: النفاقُ لم يكن في المهاجرين. وقال: في القرآن اثنان وثمانون موضعًا الصبرُ محمودٌ، وموضعانِ مذمومٌ، قال: المذموم {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] أو قال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] المرُّوْذيُّ شَكَّ. {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] قال: بُلِيَ بالذبح، ذَبْحِ ابنه فَوَفَّى، وبُلِيَ بحرق النار فوَفَّى، وذكر الثالثة فوفَّى فلم أحفظه (1). قلت لأبي عبد الله: أيْشٍ تفسير: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: لا تَرْضَوْا أعمالَهم. __________ (1) من قوله: "المرُّوْذي شك ... " إلى هنا سقط من (ق).

(3/1033)


قال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]: في الصلاة والخطبة. {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: هو في التفسير بكتابها. قلت لأبي عبد الله: في القرآن المحراب {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] هو محرابٌ مثل محاريبنا هذه؟ قال: لا أدري أيَّ محرابٍ هو. وفي بعض التفسير ذكر محراب داود. وسئل عن قوله تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155] قال: أوعية، قلت: هذا أحد القولين، والقول الثاني -وهو أرجَحُ-: غُلْفٌ، أي: في غِشَاوَة، لا نفقه (1) عنك ما تقول، نظيره قوله (2): {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يضعِّفُ قولَ من قال: "أوعيةٌ" جدًّا، وقال: إنما هي جَمْع أَغْلَفَ، ويقال للقلب الذي في الغِشَاء: أغْلَفُ، وجمعه: غُلْفٌ، كما يقال للرجل غيرِ المختون: أقلفُ، وجمعه قُلْفٌ (3). وسئل عن صيام {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] قال: كملت للهَدْي {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فأما أهل مكة فليس عليهم هَدْيٌ ولا لمن كان بأطراف ما تقصر فيه الصلاة. آخر ما وُجِد من خطِّ القاضي -رحمه الله تعالى-. __________ (1) (ع): "يُفقه". (2) "نظيره قوله" سقطت من (ع)، وفي (ق) سقط "قوله". (3) انظر: "مجموع الفتاوى": (7/ 26) و (16/ 13)، وانظر: "مفتاح دار السعادة": (1/ 341 - 344)، و"شفاء العليل": (ص / 197 وما بعدها).

(3/1034)


فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه * سئل عمن قال: "إنْ بَرِئَ مَرِيضي أو قَدِم غائبي صُمْتُ"، هل يكفي كونه نذرًا أو يفتقرُ إلى أن يقول: لله عَلَيَّ؟ فأجاب: يكفي نذرًا؛ لأنه ذكره على وجه المجازاة، لأن الله تعالى هو يُبْرِئُ المرضَى فاستغنى بدِلالة الحال. * وسُئِل عن رجل طعنَ بعضَ الناس، فظنه لصًّا في لصوص هربوا؟ فأجاب: عليه القَوَدُ؛ لأنه لو كان لصًّا فهرب لم يَجُزْ طعنُه، ووجب القَوَدُ، فكيف إذا لم يكنْ؟! * وسئل: "لو قال منجِّم: "إن الشمس تكسف تحت الأرض في وقت كذا" هل تُصَلَّى صلاة الكسوف (1)؟ فأجاب: لا؛ لأن خبرَهم لا يؤخذُ به كما لو قال: الهلال تحت الغيم. فإن قيل: فإذا قالوا: قد زالتِ الشمسُ، قلنا: ذاك موقوفٌ على تقدير، ولهذا نُقدِّرُه بالصَّنائع. انتهى كلامُه. ولا حاجةَ إلى هذا، فإن الشمس لو كَسَفَتْ ظاهرًا، ثم غابت كاسفةً، لم يُصَلَّ للكسوف بعد غَيْبتها، فكيف يُصَلَّى لها إذا لم يُعَايَنْ كسوفُها ألبتَّةَ. * وذُكِرَ له حاكم طعن (2) عليه بأنه يحكُمُ بالفِراسة، وأنه ضرب __________ (1) هذا السؤال سقط من (ق) وأشار إلى وجود السقط أحد المطالعين في هامش النسخة. (2) يمكن أن تقرأ: "ظفر"، وانظر للمسألة ما سيأتي (3/ 1087).

(3/1035)


بالجريد في إقرار بمال وأخذه منه، فقال ابنُ عقيل: ليس ذلك فراسةً بل حُكْمٌ بالأَمَاراتِ، وإذا تأمَّلْتُمُ الشرعَ وجدتموه يجوِّزُ التعويلَ على ذلك، وقد ذهب مالك بن أنس إلى التَّوَصُّل إلى الإقرار بما يراهُ الحاكم، وذلك يستندُ إلى قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] ومتى حكمنا بعقد الأَزَج (1)، وكثرة الخُشُب، ومعاقد القَمُط في الخُصِّ (2)، وما يصلحُ للمرأة والرجل يعني في الدَّعاوى، والدَّبَّاغ والعَطَّار إذا تخاصما (3) في جِلْدٍ، والقيافة، والنظر في الخُنْثى، والنَّظر في أمَارات القِبلة، وهل اللَّوْثُ في القسامة إلَّا نحو هذا؟!. انتهى. قلت: الحاكم إذا لم يكنْ فقيهَ النفسِ في الأَمارات ودلائل الحال، كفقهه في كُلِّيَّات الأحكام؛ ضيَّعَ الحقوقَ، فهاهنا فقهان لابُدَّ للحاكم منهما: فقهٌ في أحكام الحوادث الكلِّيَّة، وفقه في الواقع (4) وأحوال الناس، يميِّزُ به بين الصادق والكاذب والمُحِقِّ والمُبْطِل، ثم يُطَبِّقُ بين هذا وهذا بين الواقع والواجب، فيعطي الواقع حُكْمَهُ من الواجب. ومن له ذَوْق في الشريعة، واطلاع على كمالها وعدْلِها، وسَعَتِها ومصلحتها، وأن الخَلْقَ لا صلاحَ لهم بدونِها ألبتَّةَ، عَلِمَ أن السياسة العادلة جزءٌ من أجزائها وفرعٌ من فروعها، وأن من أحاط علمًا بمقاصدها، ووضَعَها مَوَاضِعَها؛ لم يحتجْ معها إلى سياسةٍ غيرِها __________ (1) بيت يُبنى طولًا. انظر "اللسان": (2/ 208). (2) القمط: ما تُشد به الأخصاص، والخُصُّ: البيت الذي يُعمل من القَصَب. وقُمُطه: شُرُطه التي يوثَّق بها ويُشد بها. انظر: "اللسان": (7/ 385). (3) (ظ): "تحاكما". (4) (ق): "الوقائع".

(3/1036)


ألبتَّةَ، فإنَّ السياسةَ نوعانِ: سياسةٌ ظالمةٌ، فالشريعةُ تحرِّمُها، وسياسةٌ عادلةٌ تُخرِجُ الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة عَلِمَها من عَلِمَها، وخَفِيتْ على من خَفِيتْ عنه. ولا تْنسَ في هذا الموضع قولَ سليمانَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - للمرأتين اللتين ادَّعتا الوَلَدَ فحكم به داودُ للكبرى، فقال سليمانُ: "ايتونِي بالسِّكّينِ أشُقَّهَ بينهما، فقالت الصُّغرى: لا تَفعلْ هو ابْنُها، فقَضَى به للصُّغْرَى" (1)، لِمَا دلَّ عليه امتناعها من رحمة الأم، ودلَّ رضى الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسِّي بمساواتها في فقد الولد. وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 27] فذكر الله تعالى ذلك مقرِّرًا له غيرَ منكر على قائله، بل رتَّبَ عليه العلمَ ببراءة يوسف -عليه السلام- وكذِب المرأة عليه. وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزُّبَيْر أن يُقَرِّرَ ابني أبي الحُقَيق بالتَّعذيب على إخراج الكنز، فعذَّبهما حتى أقرَّا به (2). ومن ذلك قول عليٍّ للظَّعينة التي حملت كتاب حاطب وأنكرَتْهُ، فعال لها: لَتُخْرِجِنَّ الكِتابَ أو لَنُجَرِّدَنَّكِ (3). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3427)، ومسلم رقم (1720) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) أخرجه أبو داود رقم (3006) مختصرًا، والبيهقي: (9/ 137) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما-. (3) أخرجه البخاري رقم (3007)، ومسلم رقم (2494) من حديث علي -رضي الله عنه-.

(3/1037)


وهل تقتضي محاسنُ هذه الشَّريعة الكاملة إلَّا هذا؟! وهل يَشُكُّ أحدٌ في أن كثيرًا من القرائن تُفيدُ علمًا أقوى من الظَّنِّ المستفاد من الشَّاهدين بمراتبَ عديدة؛ فالعلمُ المستفادُ من مشاهدة الرجل مكشوفَ الرأس وآخَرَ هارب قدَّامَه، وبيده عِمَامَهٌ، وعلى رأسه عِمَامَةٌ، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوفِ رأسُهُ كالضَّروريّ، فكيف تقدّم عليه (1) اليَدُ التي إنما تُفيدُ ظنًّا ما عند عدم المعارضة؟! وأما مع هذه المعارضة فلا تُفيدُ شيئًا سوى العلم بأنها يدٌ عادِيَهٌ، فلا يجوزُ الحكم بها ألبتة، ولم تأتِ الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها ألبتَّةَ. وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الملتقِطَ أن يدفعَ اللُّقَطَةَ إلى واصِفِها (2)، وقد نصَّ أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأْجِر في الدَّفين في الدار، وهذه من محاسنِ مذهبه، ونصَّ على البلدَ يُفْتَحُ فيوجد فيه أبواب مكتوبٌ عليها بالكتابة القديمة أنها وقفٌ، أنه يحكم بذلك لقوَّة هذه القرينة، وهل الحكم بالقَافَة إلا حكم بقرينة الشَّبَه، وكذلك اللَّوْث في القَسَامة، حتى إنَّ مالكًا وأحمد في إحدى الروايتين يقيِّدانِ بها وهو الصَّوَابُ الذي لا رَيْبَ فيه، وكذلك الحكم بالنُّكول إنما هو مستنِدٌ إلى قوة القرينة الدَّالَّة على أن النَّاكل غيرُ محقٍّ. وبالجملة؛ فالبَيِّنَةُ: اسمٌ لكل ما يُبَيِّنُ الحق، ومن خصَّها بالشاهدين فلم يُوَفِّ مُسمَّاها حقَّهُ، ولم تأتِ البينةُ في القرآن قطُّ مرادًا بها الشاهدان، __________ (1) (ع): "على". (2) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-.

(3/1038)


وإنما أتت مرادًا بها الحُجَّةُ والدليلُ والبرهانُ مفردةً ومجموعةً. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّنَةُ على المُدَّعِي" (1) المراد به: بيانُ ما يصحِّحُ دعواه، والشاهدانِ من البَيِّنَة، ولا ريبَ أن غيرَهما من أنواع البيِّنة قد تكون أقوى منهما، كدِلالة الحال على صِدْق المدَّعِي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهدِ. والبَيِّنَةُ والحُجَّةُ والدلالةُ والبرهانُ والآيةُ والتَّبْصِرةُ، كالمترادفة لتقارب معانيها. والمقصود أن الشرعَ لم يُلْغِ القرائنَ ولا دلالات الحال، بل من استقرأَ مصادرَ الشرع ومواردَه وجدَه شاهدًا لها بالاعتبار مرتِّبًا عليها الأحكام. وقولُ ابنِ عقيل: "ليس هذا فراسةً" يقال: ولا ضَيْر في تسميته فراسةً، فإنها فراسةٌ صادقةٌ، وقد مدح الله الفِراسةَ وأهلَها في مواضعَ من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75] وهم المُتَفَرِّسون، الذين يأخذون بالسِّيما، وهي العلامة. ويقال: تَوَسَّمْتُ فيك كذا، أي: تَفَرَّستُهُ، كأنك أخذتَ من السِّيما، وهي فِعْلًا من السِّمَة، وهي العلامةُ. وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ (2) فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، وقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وفي الترمذي مرفوعًا: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله"، ثم قرأ: {إِنَّ فِي __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2514)، ومسلم رقم (1711) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-. (2) من قوله: "من السيما ... " إلى هنا سقط من (ع).

(3/1039)


ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} (1) [الحجر: 75] والله أعلم. * * * ذِكْر مناظرةٍ بين فقيهين في طهارة المنيِّ ونجاستِهِ (2) قال مدِّعي الطَّهارة: المَنِيُّ مبدأُ خلقِ بشرٍ فكان طاهرًا كالتُّرَاب. قال الآخر: ما أبعدَ ما اعتَبَرْتَ، فالتُّرَاب وُضِعَ طَهورًا ومساعدًا (3) لطهور في الوُلوغ، ويرفعُ حكمَ الحَدَثِ على رأي، والحَدَث نفسه على رأي، فأين ما يُتَطَهَّرُ به إلى ما يُتَطَهَّرُ منه، على أن الاستحالات تعملُ عملَها فأين الثَّواني من المبادئ؟ وهل الخمرُ إلا ابنةُ العنب؟ والمِنِيُّ إلا المُتَوَلِّدُ من الأغذية في المَعِدة ذات الإحالة لها. إلى النَّجاسة ثم لى الدَّم ثم إلى المَنِيّ؟ قال المُطَهِّرُ: ما ذكرتَهُ في التراب صحيح، وكونُ المني يُتَطَّهرُ منه لا يدلُّ على نجاسته، فالجماعُ الخالي من الإنزال يُتَطَّهرُ منه، ولو كان التَّطَهُّرُ منه لنجاسته لاختصَّتِ الطهارةُ بأعضاء الوضوء كالبول والدَّم، وأما كون التَّراب طَهورًا دون المَنِيِّ فلعدم تصوُّر التطهير (4) بالمَنِيِّ، وكذلك مساعدته في الولوغ، فما أبعدَ ما اعتبرتَ من الفرْق وأغثَّهُ!!. __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (3127)، والبخاري في "التاريخ": (7/ 454)، العُقيلي: (4/ 129)، وأبو نعيم في "الحلية": (10/ 281) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وسنده ضعيف. وجاء من رواية جماعة من الصحابة، وفي أسانيدها ضعف. (2) (ق): "ذكر مناظرة جرت بين مدعي طهارة المنيّ ونجاسته". (3) (ق): "للطهور وساعد". (4) (ع وظ): "التطهر".

(3/1040)


وأما دعواكَ أن الاستحالة تعملُ عملَها فنعم، وهي تقلبُ الطيبَ إلى الخبيث، كالأغذية إلى البول والعَذِرَة والدَّم، والخبيث إلى الطيب، كدم الطمث ينقلب لَبَنًا، وكذلك خروج اللَّبن من بين الفَرْث والدَّم، فالاستحالة من أكبر حُجَّتنا عليك؛ لأن المَنِيَّ دم قصرته الشهوة وأحالته الحرارة من طبيعة الدَّم ولونه إلى طبيعة المَنِيِّ، وهل هذا إلا دليلٌ على مفارقته للأعيانِ (1) النَّجِسَةِ وانقلابِه عنها إلى عينٍ أخرى، فلو أَعطيتَ الاستحالةَ حقَّها لحكمتَ بطهارته. قال مُدَّعي النَّجاسة: المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وقد دلَّ الشرعُ على نجاسته حيث أمر بغسل الذَّكَر وما أصابه منه، وإذا كان مبدؤه نجسًا فكيف بنهايته؟! ومعلوم أن المبدأ موجودٌ في الحقيقة بالفعل. قال المطَهِّر: هذه دعوى لا دليلَ عليها، ومن أين لك أن المَذْي مبدأ المَنِيِّ، وهما حقيقتان مختلفتانِ في الماهِيَّة والصِّفات والعوارض والرَّائحة والطبيعة، فدعواك أن المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وأنه مَنِيٌّ لم يَسْتَحْكمْ طبخُه، دعوى مجردة عن دليلٍ نقليٍّ وعقليٍّ وحِسِّي فلا تكون مقبولة، ثم لو سلَّمتُ لك لم يُفِدْك شيئًا ألبتَّةَ، فإنَّ للمبادئ أحكامًا تخالفُها أحكامُ الثواني، فهذا الدَّمُ مبدأُ اللبن، وحكمهما مختلفٌ، بل هذا المَنِيِّ نفسُه مبدأ الآدمي والآدميُّ طاهر العين، ومبدؤه عندك نَجِسُ العين، فهذا من أظهر ما يُفْسِدُ دليلَكَ ويوضح تناقُضَك، وهذا مَما لا حيلةَ في دفعه، فإن المَنِيَّ لو كان نجِسَ العين لم يكن الآدميُّ طاهرًا؛ لأن النجاسةَ عندَك لا تَطْهُرُ بالاستحالة، فلابُدَّ من نقض أحد أصليك، فإما أن تقولَ بطهارة المَنِيِّ، أو تقولَ: __________ (1) (ق): "مفارقة الأعيان"، و (ظ): "مقارنته"!.

(3/1041)


النجاسةُ تطهرُ بالاستحالة، وأمَّا أن تقول: المَنِيُّ نجس، والنجاسةُ لا تطهر بالاستحالة ثم تقول مع ذلك بطهارة الآدمِيِّ، فتناقُضٌ مالَنا إلا النكيرُ له!!. قال المُنَجِّسُ: لا ريبَ أن المَنِيَّ فضلةٌ مستحيلةٌ عن الغذاء، يخرجُ من مخرج البول، فكانت نجِسة كهو، ولا يَرِد عَلَيَّ البصاق والمخاط والدمع والعَرَق؛ لأَنها لا تخرجُ من مخرج البول. قال المطهِّرُ: حكمُك بالنَّجاسة إما أن يكونَ للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين، فالأول باطلٌ إذ مجرَّدُ استحالة الفَضْلة عن الغذاء لا يوجبُ الحكمَ بنجاستها، كالدمع والمُخَاط والبُصَاق، وإن كان لخروجه من مخرج البول؛ فهذا إنما يفيدُك أنه متنجِّسٌ لنجاسة مجراه، لا أنه نَجِسُ العين، كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسدٌ، فإن المجرى والمقرّ الباطن لا يحكمُ عليه بالنجاسة، وإنما يحكمُ بالنَّجَاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخُبثِه وعينِه لا لمجراهُ ومقرِّهِ، وقد عُلِم بهذا بطلانُ الاستناد إلى مجموع الأمرين. والذي يوضِّحُ هذا: أنَّا رأينا الفَضَلات المستحيلة عن الغذاء تنقسمُ إلى طاهر؛ كالبُصاق والعَرَق والمُخاط، ونجس كالبول والغائط، فدلَّ على أن جهة الاستحالة غيرُ مقتضيةٍ للنجاسة، ورأينا أن النَّجاسة دارتْ مع الخبث وجودًا وعدمًا، فالبولُ والغائط (1) ذاتان خبيثتان مُنْتنتانِ مؤذيتانِ، مُتَمَيِّزَتانِ عن سائر فضلات الآدمي بزيادة الخَبَث والنَّتْن والاستقذار، تنفرُ منهما النفوس، وتنأى عنهما وتباعدهما. __________ (1) من قوله: "فدل على ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1042)


عنها (1) أقصى ما يمكنُ، ولا كذلك هذه الفَضْلة الشريفة التي هي مبدأُ خيار عباد الله وساداتهم، وهي من أشرفِ جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه، ومعها من رُوح الحياة ما تميَّزت به عن سائر الفضلات، فقياسُها على العَذِرة أفسدُ قياس في العالم وأبعدُه عن الصواب!!. والله تعالى أحكمُ من أن يجعلَ مَحَالَّ وحيِه ورسالاته وقربِه مبادئهم نَجِسة، فهو أكرمُ من ذلك، وأيضًا: فإن الله تعالى أخبرَ عن هذا الماءَ وكرَّر الخبرَ عنه في القرآن، ووصفه مرَّة بعد مرَّة، وأخبر أنه دافق، وأنه {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}، وأنه استودعه في {قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}، ولم يكنِ الله تعالى ليكرِّرَ ذكرَ شيءٍ كالعَذِرة والبول ويعيده ويبديه، ويخبر بحفظه في قرارٍ مكين، ويصفه بأحسن صفاته (2) من الدفق وغيره، ولم يصِفْه بالمهانة إلا لإظهار قُدْرته البالغة أن خَلَقَ من هذا الماء الضعيف هذا البَشَرَ القوِيَّ السَّوِيَّ، فالمهينُ هاهنا: الضعيفُ، ليس هو النَّجِسَ الخبيث. وأيضًا فلو كان المَنِيُّ نجسًا -وكلُّ نجس خبيث- لما جعله الله مَبْدأَ خَلْقِ الطَّيِّبينَ من عباده والطَّيِّباتِ، ولهذا لا يتكوَّنُ من البول والغائط طيِّبُ، فلقد أبعد النَّجعةَ من جعل أصولَ بني آدم كالبول والغائط في الخُبث والنجاسة، والناسُ إذا سبُّوا الرجل قالوا: "أصلُه خبيث، وهو خبيث الأصل"، فلو كانت أصولُ الناس نَجِسَةً -وكلُّ نجسٍ خبيثٌ- لكان هذا السب بمنزلة أن يقالَ: أصله __________ (1) (ق): "وتباعد عنهما". (2) (ع): "صفته".

(3/1043)


نطفةٌ أو أصلُه ماءٌ، ونحو ذلك، وإن كانوا إنما يريدون بخُبْث الأصل كون النُّطفة وُضِعتْ في غير حلها فذاك خَبَثٌ على خَبَث، ولم يجعل اللهُ تعالى في أصول خواصِّ عباده شيئًا من الخبث بوجهٍ ما. قال المنجِّسون: قد أكثرتم علينا من التَّشنيع بنجاسة أصل الآدمي وأطلتم القولَ، واعترضتم (1)، وتلك الشَّناعَةُ مشتركةُ الإلزام بينَنا وبينَكم، فإنه كما أن الله تعالى يجعلُ خواصَّ عباده ظروفًا وأوعية للنجاسة كالبول والغائط والدم والمَذْي، ولا يكونُ ذلك عائدًا عليهم بالعيب والذَّمِّ، فكذلك خلقُه لهم من المَنِي النَّجِس وما الفرق؟!. قال المطهِّرون: لقد تعلَّقتم بما لا متعلَّق لكم به، واستروحتم إلى خيال باطل، فليسوا ظروفًا للنجاسات ألبتَّةَ، وإنما تصيرُ الفضلةُ بولًا وغائطًا إذا فارقت محلَّها، فحينئذ يُحْكم عليها بالنجاسة، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيِّبٌ غير خبيث، وإنما يصيرُ خبيثًا بعد قذفه وإخراجه، وكذلك الدم إنما هو نجسٌ إذا سُفِح وخرج، فأما إذا كان في بَدَن الحيوان وعروقه فليس بنجس، فالمؤمن لا ينجسُ (2) ولا يكون ظرفًا للخبائث والنجاسات. قالوا: والذي يقطعُ دابرَ القول بالنَّجاسة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن الأُمَّهَ شديدةُ البَلْوى في أبدانهم وثيابهم، وفُرُشهم ولُحفهم، ولم يأمرهم فيه يومًا ما بغسل ما أصابه لا من بَدَن ولا من ثوب ألبتة، ويستحيلُ أن يكونَ كالبول، ولم يتقدَّم إليهم بحرف واحد في الأمر بغسْلِه، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع عليه. __________ (1) (ق وظ): "وأعرضتم". (2) "فالمؤمن لا ينجس" سقطت من (ق).

(3/1044)


قالوا: ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة، وقد ثَبَتَ عن عائشةَ أنها أنكرتْ على رجل أَعَارَتْهُ ملحفةً صفراءً فنام فيها، فاحتلمَ فغَسَلها، فأنكرتْ عليه غَسْلَها، وقالت: إنما كان يَكفِيه أن يفرُكَهُ بإصبعه ربما فركته من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصبعي. ذكره ابنُ أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همَّام، قال: نزل بعائشة ضيف فذكره (2). وقال أيضًا (3): حدثنا هُشَيم، عن مُغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لقد رأيتُني أجدُهُ في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحتُّه عنه، تعني: المني. وهذا قول عائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم-. قال ابن أبي شيبة (4): حدثنا هُشَيم، عن حُصَيْن، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجَنَابَةَ من ثوبه. حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجنابَةَ من ثوبه (5). حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حَبيب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس في المَنِي، قال: امْسَحْهُ بإذخِرَةً (6). __________ (1) من قوله: "قد علم أن ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) "المصنف": (1/ 83). (3) "المصنف": (1/ 83)، وأخرجه مسلم رقم (288). (4) (1/ 83). (5) (1/ 83). وهذا الأثر سقط من (ع). (6) (1/ 83).

(3/1045)


حدثنا هُشَيم، أنبأنا حجَّاج وابنُ أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس في الجنابة تصيب الثوب قال: إنما هو كالنُّخَامة أو النُّخَاعة أَمِطْهُ عنك بخِرقَةٍ أو بإذخِرَة (1). قالوا: وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (2) من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلُتُ المَنِيَّ من ثوبه بعرق الإذخِر ثم يصلِّي فيه، وتَحُتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يُصلي فيه. وهذا صريحٌ في طهارته، لا يحتملُ تأويلًا ألبتة. قالوا وقد روى الدِّارقطني (3) من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، حدثنا شَريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المَنِيِّ يُصيبُ الثوبَ، قال: إنما هو بمنزلة البُصاق والمُخاط، وإنما يكفيكَ أن تمسحَهُ بخِرقة أو بإذْخِرَةٍ (4). قالوا: وهذا إسناد صحيح، فإن إسحاقَ الأزرقَ حديثُه مخرّجٌ في "الصحيحين"، وكذلك شَرِيك، وإن كان قد عُلِّل بتفرد إسحاق الأزرق به فإسحاقُ ثقة محْتَجٌ به في "الصحيحين"، وعندكم تفرُّد الثقة بالزيادة مقبول. قال المُنَجِّس: صحَّ عن عائشة أنها كانت تغسِلُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5)، وثبت عن ابن عباس أنه أمر بغسله. __________ (1) (1/ 83). (2) (6/ 243). (3) "السنن": (1/ 124). (4) وأخرجه الطبراني في "الكبير": (11/ 148)، والبيهقي: (2/ 418) عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- مرفوعًا، ثم أخرج البيهقي الرواية الموقوفة ثم قال: "هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعًا ولا يصحّ رفعه" اهـ. (5) أخرجه البخاري رقم: (229)، ومسلم رقم (289).

(3/1046)


قال أبو بكر ابن أبي شيبة (1): حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن ابن عباس (2)، قال: إذا أجنبَ الرجلُ في ثوبه فرأى فيه أثرًا فليغسله، وإن لم يَرَ فيه (3) أثرًا فلْيَنْضَحْهُ. حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن طَلْحة بن عبد الله ابن عَوْف، عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: إن رأيتَ أَثَرَهُ فاغسِلْهُ، وإن علمت أن قد أصابه وخفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككتَ فلم تَدْرِ أصاب الثوبَ أم لا، فانْضَحهُ (4). حدثنا عَبْدَةُ (5) بن سليمان، عن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن خفي عليه مكانه وعَلِم أنه قد أصابه غسل الثوبَ كلَّه (6). حدثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زُبَيْد بن الصَّلْت أن عمر ابن الخطاب غسل ما رأى، ونضح ما لم ير، وأعاد بعدما أضحى متمكِّنًا (7). حدثنا وكيع، عن السَّرِيِّ بن يحيى، عن عبد الكريم بن رُشَيْد، عن أنس في رجل أجنب في ثوبه فلم ير أثره، قال: يغسله كلَّه (8). __________ (1) في "المصنف": (1/ 81). (2) من قوله: "أنه أمر ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (3) هذه وما قبلها في (ع): "به". (4) "المصنف": (1/ 81). (5) (ع): "عبد الله" وهو خطأ. (6) (1/ 81). (7) (1/ 82). (8) (1/ 82).

(3/1047)


ثنا حفص (1)، عن أشعث، عن الحكم: أن ابن مسعود كان يغسل أثر الاحتلام من ثوبه (2). حدثنا حسين بن علي، عن جعفر بن بَرْقان، عن خالد بن أبي عزة، قال: سأل رجلٌ عمرَ بن الخطاب فقال: إني احتلمتُ على طِنْفِسَة، فقال: إن كان رطْبًا فاغسلْه، وإن كان يابسًا فاحكُكْهُ، وإن خفي عليك فارشُشْه (3). قالوا: وقد ثبت تسميةُ المَنِيِّ أذى، كما سُمِّي دم الحيض أذىً، والأذى هو النجس، فقال الطَّحَاوي: حدثنا ربيع الجِيزِي، حدثنا إسحاق بن بكر بن مُضَر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيْج، عن مُعاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أختَه أمَّ حَبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في الثوب الذي يضاجعُكِ فيه؛ قالت: نعم، إذا لم يُصِبْه أذى (4). وفي هذا دليلٌ من وجه آخرَ وهو تركه الصلاة فيه. وقد روى محمد، عن عبد الله بن شَقيق، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلِّي في لُحُف نسائه (5). قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار الدَّالَّة على مسحه بإذخِرَةٍ وفركه، __________ (1) (ع) والمطبوعات: "حدثنا جابر، حدثنا حفص"! ولا أدري من جابر هذا! وحفص هو ابن غياث شيخ أبي بكر بن أبي شيبة، مُكثر عنه. (2) (1/ 83). (3) (1/ 84). (4) "شرح معاني الآثار": (1/ 50). (5) أخرجه أبو داود رقم (367)، والترمذي رقم (600)، والطحاوي في "شرح المعاني": (1/ 50) قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

(3/1048)


فإنما هي في ثياب النوم لا في ثياب الصلاة. قالوا: وقد رأينا الثياب النَّجسة بالغائط والبول والدَّم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوزُ الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المَنِيُّ كذلك. قالوا: وإنما تكونُ تلك الآثارُ حجَّةً علينا لو كنا نقولُ: لا يصلح (1) النومُ في الثوب النَّجِس، فإذا كنا نبيحُ ذلك ونوافقُ ما رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ونقولُ من بعد لا تصلحُ الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئًا مما رُوِيَ في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وإذا كانت الآثارُ قد اختلفتْ في هذا الباب ولم يكن فيها دليلٌ على حكم المَنِيِّ كيف هو، اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فوجدنا خروج المَنِيِّ حَدَثًا من أغلظ الأحداث؛ لأنه يوجبُ أكبرَ الطهارات، فأردنا أن ننظر في الأشياءِ التي خروجُها حَدَثٌ كيف حكمُها في نفسها؛ فرأينا الغائطَ والبولَ خروجهما حَدَثٌ، وهما نَجِسان في أنفسهما، وكذلك دمُ الحيض والاستحاضة هما حَدَثٌ، وهما نَجسانِ في أنفسهما، ودم العروق كذلك في النظر، فلما ثبت بما ذكرنا أن كلَّ ما خروجه حَدَثٌ فهو نَجِسٌ في نفسه، وقد ثبت أن خروجَ المَنِيِّ حدثٌ، ثبت أيضًا أنه في نفسه نَجِس، فهذا هو النظر فيه. قال المُطَهِّرُ: ليس في شيءٍ مما ذكرتَ دليلٌ على نجاسته، أما كون عائشة كانت تغسلُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا ريبَ أن الثوب يُغْسلُ من القدر والوسخ والنجاسة، فلا يدلُّ مجرد غسل الثوب منه على نجاسته، فقد كانت تغسلُه تارة، وتمسحُه أخرى، وتفركُه أحيانًا، ففرْكُه ومسْحُه دليلٌ على طهارته، وغسْلُه لا يدلُّ على __________ (1) في "المطبوعات": "يصح".

(3/1049)


النجاسة، فلو أعطيتم الأدِلَّةَ حقَّها لعلمتُم تَوَافُقَها وتَصَادُقَها، لا تناقُضَها واختلافَها. وأما أمر ابن عباس بغسله؛ فقد ثبت عنه أنه قال: إنما هو بمنزلة المُخاط والبُصاق، فأمِطْه عنك ولو بإذْخِرَةٍ، وأمره بغسله للاستقذار والنَّظافة، ولو قُدِّر أنه للنَّجاسة عندَه، وأن الرواية اختلفت عنه، فتكون مسألة خلاف بين (1) الصحابة، والحجَّةُ تفصلُ بين المُتنازعين، علي أنَّا لا نعلمُ عن صحابيٍّ واحدٍ أنه قال: إنه نَجِسٌ ألبتة، بل غاية ما يروونه عن الصحابة غَسْلَه فعلًا وأمرًا، وهذا لا يستلزمُ النجاسة، ولو أخذتمُ بمجموع: الآثار عنهم لدلَّت على جواز الأمرين: غسله للاستقذار، والاجتزاء بمسحه رَطْبًا وفركِهِ يابسًا كالمُخاط. وأما قولكم: ثبتَ تسميةُ المَنِيِّ أذى؛ فلم يثبت (2) ذلك، وقول أم حبيبة: "ما لم يَرَ فيه أذَىً"، لا يَدُلُّ على أن مرادَها بالأذى المَنِيُّ، لا بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا التزام، فإنها إنما أخبرت بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي في الثوب الذي يضاجعُها فيه ما لَمْ يُصِبْه أذى ولم تَزِدْ. فلو قال قائل (3): المُراد بالأذى دمُ الطمث؛ لكان أسعدَ بتفسيره منكم. وكذلك تركه الصلاة في لُحف نسائه، لا يدلُّ على نجاسة المَنِيِّ ألبتة، فإن لحافَ المرأة قد يصيبهُ من دم حيضِها وهي لا تشعرُ، وقد يكون التَّرْك تَنَزُّهًا عنه، وطلب الصلاة على ما هو أطيبُ منه وأنظفُ، فأين دليلُ التنجيس؟! __________ (1) (ظ): "عند". (2) (ق): "فلو ثبت"!. (3) من (ع).

(3/1050)


وأما حملُكم الآثارَ الدَّالة على الاجتزاء بمسحه وفركه على ثياب النوم دونَ ثياب الطهارة؛ فنُصْرة المذاهب (1) توجبُ مثلَ هذا، فلو أعطيتم الأحاديثَ حَقَّها، وتأمَّلْتُم سياقَها وأسبابَها لجزمْتُمْ بأنَّها إنما سيقتْ لاحتجاج الصحابة بها على الطَّهارة وإنكارهم على من نَجَّسَ المَنِيَّ. وقالت عائشة: كنت أفركُهُ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه (2)، وفي حديث عبد الله بن عباس مرفوعًا وموقوفًا: إنما هو كالمخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة (3). وبالجملة؛ فمن المحال أن يكون نَجِسًا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعلمُ شدَّةَ ابتلاءِ الأمَّةِ به في ثيابهم وأبدانهم، ولا يَأمرُهم يومًا من الأيام بغسله، وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه. وأما قولكم: إن الآثار قد اختلفتْ في هذا الباب، ولم يكنْ في المَرْوِيِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان حكم المَنِي، فاعتبرتم ذلك من طريق النظر؛ فيقال: الآثار بحمد الله في هذا الباب متَّفِقَةٌ لا مختلفة، وشروط الاختلاف منتَفِيَةٌ بأسرها عنها، وقد تقدَّم أن الغَسْل تارة والمسح والفَرْك تارةً جائزٌ (4)، ولا يدُلُّ ذلك على تناقُضٍ ولا اختلافٍ ألبتة. ولم يكنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَكِلَ أمَّتَهُ في بيان حكم هذا الأمر المهم __________ (1) (ق وظ): "المذهب". (2) تقدم. (3) تقدم. (4) (ق وظ): "جائزان".

(3/1051)


إلى مجرد نظرها وآرائها، وهو يعلِّمُهم كلَّ شيء، حتى التَّخَلِّي وآدابه، ولقد بيَّنت السُّنَّةُ هذه المسألةَ بيانًا شافيًا، ولله الحمد. وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه؛ فنظرٌ أعْشى؛ لأنكم أخذتم حكمَ نجاسته من وجوب الاغتسال منه، ولا ارتباطَ بينهما، لا عقلًا ولا شرعًا ولا حِسًّا، وإنما الشارعُ حَكَم بوجوب الغسل على البَدَن كلِّه عند خروجه، كما حَكَم به عند إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، ولا نجاسةَ هناك ولا خارج، وهذه الريحُ توجب غَسْل أعضاء الوضوء وليست نَجِسَةً، ولهذا لا يُسْتَنْجَى منها ولا يُغْسَلُ الإزار والثوبُ منها، فما كلُّ ما أوجب الطهارةَ يكون نجسًا، ولا كلُّ نجسٍ يوجِبُ الطهارةَ أيضًا، فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلُّوا بعد خروج دمائهم في وقائعَ متعدِّدة، وهم أعلمُ بدين الله من أن يُصَلُّوا وهم محدِثون، فظهر أن النظرَ لا يوجِبُ نجاستَه، والآثار تدُلُّ على طهارته، وقد خلق الله تعالى الأعيان على أصل الطهارة، فلا ينجسُ منها إلا ما نجَّسه الشرعُ، وما لم يُعْلَم تنجيسُه من الشرع فهو على أصل الطهارة، والله أعلم. فائدة إذا علق الطلاق بأمر يعلمُ العقلُ استحالَتَهُ عادةً، وأخبر من لا يعلمُ إلا من جهته بوقوعه، وليس خبره مما قام الدليلُ على صدقه، فقد قال كثير من الفقهاء بوقوع الطلاق عند خبره. وقال محمد بن الحسن بعدم الوقوع، وهو الصَّوابُ، وهو اختيار ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد. وصورةُ المسألة إذا قال: إن كنتِ تُحِبِّينَ أن يُعَذِّبَكِ الله في النارِ فأنتِ طالقٌ، فقالت: أنا أحِبُّ ذلك.

(3/1052)


قال الموقِّعون: المحبَّةُ أمرٌ لا يتوقَّفُ عليه، ولا يُعْلم إلا من جهتها، فإذا أخبرتْ به رُجِعَ إلى قولها. اعترض على ذلك ابنُ عقيل فقال: الباطنُ إذا كان عليه دلالةٌ أمكن الاطلاِعُ عليه، ولا دلالةَ أكبرُ من العلم بأن طباعَ الحيوان لا تصبرُ على لَفَحَات النار ولا تُحِبُّها، وإذا عُلِم هذا طبعًا صار دعوى خلافه خَرْقًا للعادة، فهو كقوله: أنتَ طالِقٌ إن صَعِدْتِ السَّماءَ، فغابت ثم ادَّعَتِ الصُّعودَ، فإنه لا يقعُ لاستحالته طبعًا وعادة. قالوا: النعامُ يميل إلى النار، فلا يمتنع أن تكون هذه صادقة لإخبارها عن نفسها، أو دخل عليها داخلٌ من برد استولى على جسدها، فتمنَّت معه دخول النار. قال ابن عَقِيل: لا يستحيلُ الميلُ إلى النَّارِ من الحيوانِ الذي ذكرت، لكن ذلك خَرْقٌ للعادةِ في حقِّ غيرها (1)، فَلَئِنْ جاز أن يُصَدِّقَها في ذلك لكونِهِ لا يستحيلُ، وجب أن يُصَدِّقَها في صعود السماء، فقد صعِدَتْ إليها الملائكةُ والجنُّ والأنبياءُ، بل ينبني الأمرُ على العادة دون خَرْقها، وفي مسألتنا لم تَقُلْ: أُحِبُّ النّارَ، بل قالت: أُحِبُّ أن يُعَذِّبَني اللهُ بالنار، والنعامُ لا يتعذَّبُ، فقد صرحت بحب أعظم الألم، ولا يجتمع في حيوان حبٌّ وميلٌ إلى ما يُعَذَّبُ به، بل طبعُهُ النُّفورُ من كلِّ مؤلم، فأما تعلُّقهم بأنَّ ما في قلبها لا يُطَّلَعُ عليه إلا من إخبارها فهذا شيءٌ يرجعُ إلى ما يجوزُ أن يكونَ في قلبها من طريق العادة. فأما المستحيلُ عادةً فإنَّهُ كالمستحيلِ في نفسِهِ، ولو أنه قال لها: إن كنتِ تعتقدينَ أن الجَمَلَ يدخل في خُرْم الإبرة فأنت طالِقٌ، __________ (1) "في حق غيرها" سقطت من (ق).

(3/1053)


فقالت: أعتقده لم يَقَعِ الطلاقُ، إذ لا عاقلَ يُجَوِّزُ ذلك، فضلًا عن أن يعتقدَهُ. انتهى كلامه، وهو كما ترى قُوَّةً وصحَّةً. حادثة * مسجد عليه وقوف، خَرِبَ، وليس في وقفِه ما يَفِي بعِمَارَتِهِ، هل يجوزُ نقلُ ذلك إلى عِمارة الجامع الذي لا غِنى للقرية عنه؟. قال جماعةٌ: يجوز. وخالفهم ابنُ عَقِيل فقال: يَجِبُ صرفُ دخلِ وقف (1) المسجدِ إلى عمارَتِهِ بِحَسَبها، وقد كان سقَفُ مسجد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَعَفًا. انتهى. والتحقيقُ في المسألة: أن المسجد إن تعطَّل بحيث انتقل أهلُه عنه وبقي في مكان لا يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله الجماعةُ، وإن كالت جيرانه بحالهم وهو بصدَدِ أن يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله (2) ابنُ عقيل. والله أعلم. * وسئل عن رجل تَزَّوجَ ضريرةً ومعها جاريةٌ تخدمُها، فأنفق عليها مدَّةً ثم قَصَّرَ في نفقة المرأة وعلَّلَ ذلك بأنه في مقابلة ما كان أنفقَ على الجارية. فقال: هذا جهل منه، فإن من تزوَّج ضريرةً فقد دخل على بَصيرةٍ أنه لابُدَّ لها من خادم، فتكونُ المؤونةُ عليه، كمن تزَّوَجَ امرأة ذات جلالة يلزمُهُ إخدامُها. * وسئل عن رجل أدرك الناسَ ركوعًا في صلاة الجمعة، وسمع __________ (1) ليست في (ق وظ). (2) من قوله: "الجماعة وإن ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1054)


من المبلِّغين قول: سمع الله لمن حمده، فهل يُقَدِّرُ ما يكون به تابعًا للإمام أو يعتبرُ بمن يليه؟ فقال: بل يقدر ما يكون به تابعًا للإمام في حال ركوعه؛ لأنه قد يكونُ ركع والإمام قد رفع، ولكن لبعد ما بين المبلِّغين وبين الإمام قد يكون الأواخر رُكَّعًا، وذلك أن الشرعَ علَّق الإدراكَ بركوع الإمام، فالوسائط لا عِبْرَةَ بهم. حادثة * رجل قال لامرأته: أنْتِ طالِقٌ إنْ كلَّمْتُكِ، وأعاده. فقال بعض أصحاب أحمد: إن قَصَدَ إفهامَها بالثاني لم يَقَعْ، وإن قَصَدَ الابتداءَ وقع المعلَّقُ بالثاني. قال ابن عقيل: هذا خطأ؛ لأن الثاني هو كلامٌ لها على كلِّ حال، سواء قصد الإفهامَ أو الابتداءَ، وإنما اشتبهتْ بمسألة إذا قال: إن حلفتُ بطلاقِكِ فأنتِ طالقٌ، وأعادَه، فإن التفصيل كما ذكرت، فأما الكلامُ فهو على الإطلاق يتناولُ كلَّ كلام مخصوص بخلاف الحلف، فإنه لا يكون حَلِفًا إلا بقصد، وإذا كان قصدُه بالثاني إفهامَها لما حَلَف به أولًا لم يكن حلفًا. قلت: والصواب القول الأول، وهذا الفرقُ خياليُّ، فإنه إذا قصد إفهامَها فلم يُرِد إلا اليمينَ الأولى ولم يُرِدْ به الكلامَ المحلوف عليه، فتحْنيثُهُ به تحنيثٌ بما لم يُرِدْه ألبتةَ، وبساط الكلام ونيته إنما يدلان على أنه أراد: لا كَلَّمْتُكِ بعد اليمين، مفردةً كانت أو مكررةً، فما كلمها الكلام الذي حلف عليه، وإنما أفهمها يمينه، فلا فرق بينها وبين مسألة الحَلِف.

(3/1055)


وأما قوله: إن الحَلِفَ لا يكونُ حَلِفًا إلا بقَصْد، فيقال: إن كان القصدُ شرطًا في اعتبار المحلوف عليه لم يَحْنَثْ في الموضِعينِ، وإن لم يكنْ شرطًا فيه، فينبغي أن يحنَثَ في الموضعين، فأما أن يُجعلَ القصدُ شرطًا في أحدهما دونَ الآخر فلا وجهَ له، والله أعلم. فائدة استدل شيعيٌّ على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. فأجيب بأن قيل: هذه وصيَّةٌ بهم لا وصيةٌ إليهم (1)، فهي حجَّةٌ على خلاف قول الشيعة؛ لأن الأمر لو كانَ إليهم لأوصاهم ولم يُوصِ بهم، ونظير هذا الاحتجاج على أن الأمرَ في قريشٍ لا في الأنصار بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُوصِيكُمْ بالأنصَارِ" (2) فدلَّ على أن الأمرَ في غيرهم. قلت: وهذا كلُّه خروج عن معنى الآية وما أُريدَ بها، ولا دلالةَ فيها لواحدة من الطائفتين، فإن معنى الآية (3): لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تَصِلُوا ما بيني وبينَكم من القَرَابة، فإنه لم يكن بطنٌ من بطون قريش إلا وللنبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم قَرَابَةٌ، فقال: لا أسألُكم على تبليغ الرسالة أجرًا، ولكن صِلُوا ما بيني وبينَكم من القرابة، وليست هذه الصِّلَةُ أجرًا، فالاستثناء منقطع، فإن الصِّلة من موجبات الرَّحِم، فهي واجبة __________ (1) (ق): "لهم". (2) أخرجه البخاري رقم (3799)، ومسلم رقم (2510) من حديث أنسٍ- رضي الله عنه-. (3) من قوله: "وما أُريد بها ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1056)


على كلِّ أحد، وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره البخاريُّ عنه في صحيحه (1). فائدة (2) من العجب إنكارُ كونِ القرْعة طريقًا لإثبات الأحكام، مع ورود السُّنَّة بها، وإثباتُ حِلِّ الوطء بشهادة شاهدي زُور، يعلمُ الزوج الثاني أنهما شاهدا زُور، ومع هذا فيثبت الحِلُّ له بشهادتهما، فمن يقولُ هذا في باب حِلِّ الأبْضاع والفروج كيف يمنعُ القرْعَةَ؟! ومن العجب قولهم: إذا مَنَعَ الذِّمِّيُ دينارًا من الجِزيَةِ انتقضَ عهدُه، ولو جاهرَ بسبِّ الله ورسوله ودينه، أو حَرَقَ (3) بيوتَ الله لم ينتقضْ عهدُه!. ومن العجب: إباحتُهم القرآنَ بالعجميَّة، ومنعُ رواية الحديثِ بالمعنى!. ومن العجب قولُهم: الإيمانُ نفسُ التَّصديق وهو لا يتفاضلُ، والأعمالُ ليست منه، وتكفيرُهم من يقول: مُسَيْجِد وفُقَيِّه، ومن يلتدُّ بالسَّماع، ويصلِّي بلا وضوء، ونحو ذلك. ومن العجب: إسقاطُهم الحَدَّ عمن استأجرَ امرأةً لرَضاع ولده فَزَنا بها، أو استأجرها لِيَزْنِيَ بها، وإيجابُهم الحَدَّ على مَنْ وطِئَ امرأةً في الظُّلْمة يظنُّها امرأتَه، فبانت أجنبيةً. __________ (1) رقم (4818). (2) هذه العجائب ذكرها ابن القيم في "إعلام الموقعين": (3/ 326 - 328) بنحوها، عند كلامه على الحِيَل وإبطالها، وأكثر هذه الأقوال قال بها فقهاء الحنفية. (3) (ع): "وأحرق".

(3/1057)


ومن العجب: تشدُّدهم في المياه أعظمَ التَّشديد حتى يُنَجِّسوا القناطيرَ المقنطرةَ من الماء بمثل رأس الإبرة من البول، ويُجَوِّزون الصلاة في ثوب رُبُعه متضمِّخ بالنَّجاسة. ومن العجب: منعهم إلحاق النَّسَب بالقيافة التي هي من أظهر الأَدِلَّة، وقد اعتبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، وعمل بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (2)، وإلحاقهم: النَّسَبَ برجل (3) تزوَّج امرأة بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب، وبينهما ما لا يقطعه البَشَرُ، أو قال: تزوجت فلانة وهي طالِقٌ ثلاثًا عقِبَ القبول ثم جاءت بولدٍ فقالتْ: هو منه. ومن العجب: إلحاقُهم الولد في هذه الصُّورة، وزعمُهم أن الرجل إذا كانت له سُرِّيَّةٌ وهو يطأُها دائمًا فأتت بولد على فراشه لم يَلْحَقْهُ إلا أن يستلحِقَهُ. ومن العجب: أنهم يقولون (4): إذا شهد عليه أربعة بالزنا، فقال: صَدَقوا في شهادتهم وقد فعلتُ، سَقَط عنه الحدُّ، وإن اتَّهمهم وقال: كذبوا عَلّيَّ، حُدَّ. ومن العجب قولهم: لا يصِحُّ استئجارُ دارٍ لتُجْعَلَ مسجدًا يُصَلِّي فيه المسلمونَ، ويصِحُّ استئجارها كنيسةً يُعبدُ فيها الصليبُ، وبيتًا تُعبدُ فيه النار. __________ (1) فيما رواه البخاري رقم (3731)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة مجزز المدلجي. (2) أخرجه مالك في "الموطأ": (2/ 740). (3) (ع): "فيما رجل". (4) (ع): "بقولهم".

(3/1058)


ومن العجب قولهم: إنه إذا قهقَهُ في صلاته انتقضَ وضوؤُه، ولو غنَّى في صلاته، وَقَذَفَ المحصَنَاتِ، وأتى بأقبح السَّبِّ والفُحش؛ فوضوؤه بحاله لم يَنْتَقِضْ. ومن العجب قولهم: إذا وقع في البئرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَ منها أدْلَاءٌ معيَّنة، فإذا حصل الدَّلْوُ الأوَّلُ فى البئر تنجَّس وغرف الماء نجسًا، فما أصاب حيطانَ البئر منه نَجَّسَها، وكذلك ما بعدَهُ من الدِّلاء إلا الدَّلْو الأخير فإنه ينزلُ نَجِسًا ثم يصعدُ طاهرًا يقشقِشُ النَّجَاسَةَ من البئرِ!! قال الجاحظ (1): ما يكون أكرمَ أو أعقلَ من هذا الدَّلو. [ومن العجب قولُهم: لو حَلَفَ لا يأكلُ فاكهةً حَنَثَ بأكلِ الجَوْزِ، ولو كان يابسًا منذُ سنين، ولا يحنَثُ بأكلِ الرُّطَبِ والعِنَب والرُمَّان (2). وأعجب من ذلك: تعليلُهم بأن هذه الثلاثة خيارُ الفاكهة، فلا تدخلُ في الاسم المطلق، ذكرَ الحكمَ والدليلَ [الإسبِيْجَابي] (3) في "شرح الطَّحَاوي" (4). __________ (1) في (ع وظ): "الحافظ"، والمثبت من (ق)، ويؤيده ما في "إعلام الموقعين": (3/ 327): "قال بعض المتكلمين" والجاحظ منهم، وقد نسب هذا القول له أبو الخطاب في "الانتصار": (1/ 234)، وابن العربي في "العارضة": (1/ 86)، ولعله ذكره في كتاب "الحيوان". (2) انظر: "بدائع الصنائع": (3/ 61). (3) تحرف فى المطبوعات إلى: "الأسماقي"! و (ق): "الاستجا"! وهو: أحمد بن منصور أبو نصر الإسْبِيْجابي -نسبةً إلى إسْبِيْجاب بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الفَارسية وسكون الياء المثنَّاة التحتية وفتح الجيم بعده ألف بعده باء- ت (نحو 480) له "شرح مختصر الطحاوي". انظر "تاج التراجم": (ص/ 126)، و"الفوائد البهية": (ص/ 42). (4) له نسخة فى الظاهرية، وعنها فلم في جامعة الملك سعود رقم 1128/ 6 ف.

(3/1059)


ومن العجب قولهم: لو حَلَفَ لا يشرَبُ من النيل أو الفرات أو دجْلَةَ، فشرب بكفِّه لم يحنث، ولا يحنثُ حتى ينكَبَّ ويكرَعَ بفيه مثلَ البهائم] (1). فائدة قال جماعة من الناس: إذا ماتت نصرانيةٌ في بطنها جَنينٌ مُسلم، نَزَل ذلك القَبْرَ نعيمٌ وعذابٌ، فالنَّعيم للابن والعذاب للأم، ولا بُعْدَ فيما قاله، كما لو دُفِنَ في قبر واحدٍ مؤمنٌ وفاجرٌ، فإنه يجتمعُ في القبر النعيمُ والعذابُ. فائدة. قالت الإماميةُ: إن العتق لا يَنْفُذُ إلا إذا قُصِدَ به القُرْبة؛ لأنهم جعلوه عبادةً، والعبادةُ لا تصِحُّ إلا بالنية. قال ابنُ عَقِيل: ولا بأس بهذا القول لاسيَّما (2) وهم يقولون: الطلاق لا يقعُ إلا إذا كان مصادفًا للسُّنَّة، مطابقًا للأمر، وليس بقُرْبة، فكيف بالعتق الذي هو قُرْبَةٌ؟ قلت: وقد ذكر البخاري في "صحيحه" (3) عن ابن عباس أنه قال: "الطلاقُ ما كان عن وَطَرٍ، والعِتْقُ ما ابتُغِيَ به وجهُ الله تعالى". فائدة نافعة (4) كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجةَ الرياسة الأخلاقَ __________ (1) ما بين المعكوفين من (ق) فقط، وهو في "إعلام الموقعين": (3/ 327 - 328). (2) (ق): "لأنهم". (3) "الفتح": (9/ 300) كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره. (4) "نافعة" ليست في (ق).

(3/1060)


التي كان يعامِلُه بها قبلَ الرِّياسة، فلا يصادفُها، فينتقضُ ما بينهما من المودَّة، وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة، وهو بمنزلة من يطلبُ من صاحبه إذا سَكِرَ أخلاقَ الصَّاحي، وذلك غلطٌ؛ فإن للرِّياسة سَكْرةً كسكرة الخمر أو أشدَّ، ولو لم يكنْ للرِّياسة سَكْرة لما اختارَها صاحبُها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتُها فوق سكرة القهوة (1) بكثير، ومُحَالٌ أن يُرى من السكران أخلاقُ الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيسِ القبط بالخِطَاب اللَّيِّن، فمخاطبةُ الرؤساء بالقول اللَّيِّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا، ولذلك تجدُ الناسَ كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل. وتأمل امتثالَ موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات: 18 - 19]، فأخرَجَ الكلام معه مخرجَ السؤال والعَرْض لا مخرجَ الأمر، وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)} ولم يقل: إلى أن أُزَكِّيَكَ، فنسبَ الفعلَ إليه هو، وذكر لفظ التَّزَكِّي (2) دونَ غيره؛ لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكونُ كالدليل بين يديك الذي يسيرُ أمامَك، وقال: {إِلَى رَبِّكَ}، استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه وربَّاه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا. وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] فابتدأ خطابَه بذكر أبوَّته الدَّالَّة على توقيره ولم يُسَمِّه باسمه، ثم أَخْرج الكلامَ معه مخرجَ السؤال فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} ولم يقل: لا __________ (1) كذا في (ع) والقهوة من أسماء الخمر، وفي (ق وظ): "الشهوة". (2) (ع): "التزكية".

(3/1061)


تعبدُ، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43] فلم يقل له: إنك جاهلٌ لا علمَ عندَك، بل عَدلَ عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدُلُّ على هذا المعنى، فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}. وهذا مثل قول موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: 19]، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (1) [مريم: 45] فنسب الخوفَ إلى نفسِه دون أبيه، كما يفعلُ الشفيقُ الخائفُ على من يُشفِقُ عليه. وقال: {يَمَسَّكَ} فذكر لفظ المَسِّ الذي هو ألطفُ من غيره، ثم نكَّرَ العذابَ، ثم ذكر الرحمن، ولم يقل: الجبَّارُ ولا القهار، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألْيَنُ من هذا؟!. ونظيرُ هذا خطابُ صاحب {يس (1)} لقومه حيث قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 20 - 22]. ونظير هذا قول نوح لقومه: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4]، وكذلك سائر خطاب الأنبياء، لأُمَمِهم قي القرآن، إذا تأمَّلْتَهُ وجدتَه ألْيَنَ خطابٍ وألطفَهُ، بل خطابُ الله لعباده هو ألطفُ خطاب وألينُه، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] الآيات، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ __________ (1) الآية في (ع وظ) غير تامة.

(3/1062)


اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ لْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]. وتأمل ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] من اللطف الذي سلب القلوب (1). وقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] على أحد التأويلين، أي: نتركُكُم فلا نستصلحكم ولا ندعوكم، ونعرضُ عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم. وتأمل لطفَ خطاب نُذُر الجنِّ لقومهم وقولهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]. فائدة * سئل ابن عَقِيل عن: رجل له ماء يجري على سطح جاره، فَعَلا دارَه هل يسقط حق الجري؟ فقال: لا، لكنه إذا سلط الماء على عادته، حفر سطح جاره لموضع العُلُوِّ، فينبغي أن يجعل جريَهُ بحدته إلى ملكه، ثم يخرجُه بسهولة إلى سطح جاره. فائدة (2) * وسُئل عن رجل قالت له زوجتُه: طلِّقْني، فقال: إن الله قد طَلَّقَكِ؟ __________ (1) (ظ): "العقول". (2) (ق): "أخرى". وعلق أحد المطالعين في هامش (ع): "ابن عقيل جعل دلالة الحال قائمة مقام النية، كما هو المذهب فى الكنايات".

(3/1063)


فقال: يقع الطلاق لأنه كنايةٌ استندَتْ إلى دلالة الحال، وهي ذكرُ الطلاق وسؤالها إياه. وأجاب بعض الشافعية: بأنه إنْ نَوَى وَقَعَ (1) الطَلاقُ، وإلا لم يقعْ. قلت: وهذا هو الصَّوابُ؛ لأن قوله: إن الله قد طَلَّقَكِ، إن أراد به شَرَعَ طلاقَكِ وأباحَهُ؛ لم يقعْ، وإن أراد: أن الله أوقعَ عليك الطلاقَ وأراده وشاءَهُ، فهذا يكون طلاقًا؛ لأن ضَرورة صدقِه أن يكونَ الطلاقُ واقعًا، وإذا احتمل الأمرين فلا يقعُ إلا بالنِّيَّةِ. فائدة (2). * وسُئل عن رجل وقفَ دابَّةً (3) في مكان، فجاء رجلٌ فضربها، فرفسته، فمات، هل يضمن صاحبُ الدَّابَّة؟ فقال: إذا لم يكن مُتَعَدِّيًا في إيقافِها بأن تكونَ في مُلك الضَّارب فلا ضَمانَ عليه، وإن كان مُتَعدِّيًا فالضَّمانُ عليه. فائدة حكى الطَّحَاويُّ: أنَ مذهبَ أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراءِ الزَّكاةَ من بني هاشم الأغنياء (4)، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وسألت قاضيَ القضاة عن ذلك، -يريد الدَّامَغاني (5) - فقال: نعم، هو مذهب أبي يوسف وهو مذهبُ الإمامِيَّة. __________ (1) (ع): "وقع عليه". (2) ليست في (ع) وكذا الفوائد الخمس بعدها. (3) (ع): "دابته". (4) انظر: "أحكام القرآن": (4/ 335) للجصَّاص. (5) ترجمته في "السير": (18/ 485) توفي سنة (478) وغسَّله أبو الوفاء ابن عقيل.

(3/1064)


قلت: وقد ذهب (1) بعضُ الفقهاء إلى أنهم يَجوْزُ لهم الأخذَ من الزَّكاة مطلقًا إذا مُنِعُوا حَقَّهُم من الخُمْس، وأفتى به بعضُ الشافعية. فائدة قال ابنُ عقيل: سألني سائل: أيُّما أفضلُ حُجرَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أو الكعبة؛ فقلت: إن أردتَ مجرَّدَ الحُجرة فالكعبةُ أفضل، وإن أردتَ وهو فيها فلا واللهِ، ولا العرشُ وحَمَلَتُهُ، ولا جَنَّةُ عَدْن، ولا الأفلاكُ الدائرة؛ لأنَّ بالحُجْرة جَسَدًا لو وزن بالكَوْنينِ لرَجَحَ. * وسُئل عن حَبْس الطير لطيب نَغَمتها؟ فقال: سَفَهٌ وبَطَر، يكفينا أن نُقْدم على ذبحِها للأكل فحسب؛ لأن الهواتفَ من الحَمَام، ربما هتفتْ نياحةً على الطيران وذكر أفراخها، أفيحسُنُ بعاقل أن يُعَذِّبَ حيًّا لِيَتَرنَّمَ فيلْتَذَّ بنياحته؟! وقد منع من هذا بعضُ أصحابنا وسموه سَفَهًا. فائدة من دقيق الوَرعَ أن لا يُقْبَلَ المبذولُ حال هَيَجَان الطبع من حزن أو سرور، فذلك كبذل السَّكران، ومعلومٌ أن الرأي لا يتحقَّقُ إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذلٌ (2) في تلك الحال يعقبُهُ نَدَمٌ، ومن هنا (3): "لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" (4)، وإذا أردت اختبارَ ذلك __________ (1) "الإمامية. قلت: وقد ذهب" سقطت من (ع). (2) (ق): "ما بذل". (3) (ق) زيادة: "قال". (4) أخرجه البخاري رقم (7158)، ومسلم رقم (1717) من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.

(3/1065)


فاختبرْ نفسَكَ في كل مواردِكَ من الخير والشر، فالبِدَارُ بالانتقام حالَ الغضبِ يُعْقِبُ ندمًا، وطالما ندم المسرورُ على مجَازفته في العطاءِ، وودَّ أن لو كان اقتصر، وقد نَدِمَ الحسنُ على تمثيله بابن مُلْجِم. فائدة (1) في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للسائل عن مواقيت الصلاة: "صَلِّ مَعَنا" (2)، جوازُ البيان بالفعل، وجوازُ تأخيرِه إلى وقتِ الحاجةِ إليه. وجوازُ العُدول عن العمل الفاضلِ إلى المفضولِ لبيانِ الجَوازِ. فائدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، ومَنْ تَبِعَها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ" (3). سُئل أبو نصر بن الصَّبَّاغ (4) عن القيرَاطين هل هما غيرُ الأوَّلِ أو به؟ فقال: بل القيراطان الأوَّل وآخر معه، بدليل قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. قلت: ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فكأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، ومَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ اللَّيْلَ كُلَّه" (5) فهذا مع صلاة العشاء في جماعة، وقد جاء مصرَّحًا به في "جامع التِّرْمذي" (6) كذلك "مَنْ صَلَّى العِشاءَ والفجرَ في جماعة __________ (1) (ق): "فصل". (2) أخرجه مسلم رقم (613) من حديث بريدة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري رقم (1325)، ومسلم رقم (945) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (4) هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد شيخ الشافعية ت (477) "السير": (18/ 464). (5) أخرجه مسلم رقم (656) من حديث عثمان -رضي الله عنه-. (6) رقم (221).

(3/1066)


فكأنما قامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ" (1). ونظيره -أيضًا- قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10] فهي أربعةٌ باليومين الأولين، ولولا ذلك لكانت أيامُ التَّخليق ثمانية. فائدة لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أيِّ شيءٍ نسبتُهُ، حتى رأيت لابن عَقِيل فيه كلامًا، قال: القيراطُ نصف سُدُس درهم مثلًا، أو نصفُ عُشر دينار، ولا يجوزُ أن يكون المُرادُ هاهنا جنسَ الأجر؛ لأن ذلك يدخلُ فيه ثوابُ الإيمان وأعماله كالصَّلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلُغ هذا، لم يبقَ إلا أن يرجِعَ إلى المعهود، وهو الأجرُ العائدُ إلى الميت، ويتعلَّق بالميت صبر على المُصَاب فيه وبه وتجهيزه (2) وغسله ودفنه والتَّعزية به، وحَمْل الطعام إلى أهله وتسليتهم، وهذا مجموعُ الأجر الذي يتعلَّقُ بالميِّت، فكان للمصلِّي والجالس إلى أن يُقْبَرَ سُدُسُ ذلك، أو نصفُ سُدُسِه إن صلَّى وانصرف (3). قلت: كأنَّ مجموعَ الأجرِ الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحدِهِ، وقضاء حقِّ أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلِّي عليه فقط قيراطٌ من هذا الدينار، والذي يتعارفه __________ (1) وانظر "فتح الباري": (3/ 235). (2) في المطبوعات: "بالميت أجر الصبر على المصاب فيه. وأجر تجهيزه". (3) وقد ذكر الحافظ هذا عن ابن عقيل في "الفتح": (3/ 231) وقوَّاه.

(3/1067)


الناس من القيراط أنه: نصف سُدُس، فإن صلَّى عليه وتَبِعَهُ كان له قيراطانِ منه، وهُما سُدُسُه، وعلى هذا فيكون نسبةُ (1) القيراطِ إلى الأجرِ الكاملِ بحَسَبِ: عِظَمِ ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظمَ كان القيراطُ منه بحسبه، فهذا بَيِّنٌ هاهنا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقْتَنى كَلْبًا إلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أو زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أجْرِهِ أو من عَمَلهِ كُلَّ يومٍ قِيرَاطٌ" (2) فيحتمل أن يُراد به هذا المعنى أيضًا بعينه، وهو نصفُ سدس أجر عمله ذلك اليوم، ويكون صِغَرُ هذا القيراط وكِبَرُهُ بحسب قِلَّة عمله وكثرته، فإذا كان له أربعةٌ وعشرون ألف حسنةٍ مثلًا، نقص منها كلَّ يوم ألفا حسنة. وعلى هذا الحساب، والله أعلم بمراد رسوله، وهذا مبلغُ الجَهد في فهم هذا الحديث. فائدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَزَّى مُصَابًا فله مِثْلُ أَجْرِهِ" (3) استشكله بعضُهم وقال: مشقَّةُ المصيبة أعظمُ بكثير من مساواة تعزية المُعَزِّي لها مع بَرْد قلبه. فأجاب ابنُ عقيل بجواب بديعٍ جدًّا، فقال: ليس مرادُه - صلى الله عليه وسلم - قولَ __________ (1) (ع): "صفة". (2) أخرجه البخاري رقم (5480) ومسلم رقم (1574) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه الترمذي رقم (1073)، وابن ماجه رقم (1602) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. والحديث ضعيف، قال الترمذي: "غريب" وأعلَّه بالوقف، وانظر "الإرواء" رقم (765).

(3/1068)


بعضِهم لبعض: نَسَأَ الله في أجلِكَ، وتعيشُ أنت وتَبْقى، وأطالَ الله عُمُرَك، وما أشبَه ذلك، بل المقصودُ من عَمَد إلى قلبٍ قد أقلقه ألمُ المُصاب وأزعجه، وقد كان يساكنُ السخط، ويقول الهُجْرَ ويوقعُ الذَّنْبَ، فداوى ذلك القلبَ بآيِ الوعيد، وثوابِ الصبر، وذمِّ الجزع حتى يُزِيلَ ما به، أو يقلِّله (1) فيَتَعَزَّى، فيصير ثَواب المُسَلِّي كثواب المصاب؛ لأن كلًّا منهما دفع الجزع، فالمُصاب كابَدَهُ بالاستجابة، والمُعَزِّي عمل في أسباب المداواة لألم الكآبة. فائدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الحُدُودَ" (2) قال ابنُ عَقِيل: المُرادُ بهم الذين دامت طاعاتُهم وعدالتُهم، فزلَّت في بعض الأحايينِ أقدامُهم بورطة (3). قلت: ليس ما ذكره بالبَيِّن، فإن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُعَبِّر عن أهلِ التَّقوى والطَّاعة والعبادة بأنهم ذوو (4) الهَيْئَاتِ، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمُطيعين المتَّقين، والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشَّرَف والسؤدد، فإن الله تعالى خَصَّهم بنوع __________ (1) (ع): "يقلقه". (2) أخرجه أحمد: (6/ 181)، وأبو داود رقم (4375)، والبخاري في "الأدب المفرد": (ص/ 143) وابن حبان "الإحسان": (1/ 296)، والبيهقي: (8/ 334)، وغيرهم من حديث عائشة - رضي الله عنها-. والحديث صححه ابن حبان؛ وفي سنده من يُضعَّف. (3) في هامش (ع) ما نصه: "ما قاله ابنُ عقيل وقع في كلام الشافعي -رضي الله عنه-" أقول: انظر "الأم": (6/ 145) بنحوه. (4) في النسخ: "ذوي"، وما أثبته الصواب.

(3/1069)


تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير حتى كبا به جوادُه، ونبا عَضْبُ صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا يتسارَعُ إلى تأنيبه وعقوبته، بل تُقالُ عَثْرَتُهُ (1) ما لم يكنْ حدًّا من حدود الله، فإنه يتعيَّنُ استيفاؤُه من الشَّريف، كما يتعيَّنُ أخذه من الوضيع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لوْ أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، وقال: "إنما هَلَكَ بنُو إسْرَائِيل أنَّهُمْ كانوا إذا سَرَقَ فيهم (2) الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ" (3)، وهذا بابٌ عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالمَ، وانتظامها لمصالح العباد في المعَاشِ والمَعَادِ. فائدة اعترض نفاة المعاني والحكم على مُثبتيها في الشَّريعة بأن قالوا: الشَّرْعُ قد فرَّق بين المتماثلات، فأوجبَ الحَدَّ بشربِ الخمر، ولم يحدَّ بشرب الدَّم والبول وأكل العَذِرة، وهَي أخبثُ من الخمر، وأوجبَ قطعَ اليدِ (4) في سرقة رُبُع دينار ومنَعَ قطعها في نُهْبَة ألف دينار، وأوجب الحَدَّ في رمي الرجل بالفاحشة، ولم يوجِبْه في رميه بالكفر وهو أعظمُ منه، ولم يرتِّبْ على الرِّبا حدًّا مع كوَنه من الكبائر، ورتَّبَ الحَدَّ على شرب الخمر والزِّنا وهما من الكبائر. فأجاب المُثْبِتونَ: بأن قالوا: هذا مما يدُلُّ على اعتبار المعاني __________ (1) "بل تقال عثرته" سقطت من (ع). (2) من (ظ). (3) أخرجه البخاري رقم (3475)، ومسلم رقم (1688) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (4) (ق): "القطع".

(3/1070)


والحِكَم ونَصْب الشرع بحسب مصالح العباد، فإن الشارعَ ينظرُ إلى المحرَّم ومفسدته، ثم ينظر إلى وازِعِه وداعيه، فإذا عظُمَتْ مفسدتُه رتَّبَ عليه من العقوبة بحسب تلك المفسدةِ، ثم إن كان في الطِّباعِ التي ركَّبَها الله تعالى في بني (1) آدم وازعٌ عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحَدِّ، فلم يُرَتِّب على شُرْب البول والدم والقيء وأكل العَذِرة: حدًّا، لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثُرُ مواقَعتُها بحيث يدعو إلى الزجر (2) بالحَدِّ، بخلاف شرب الخمر والزنا والسَّرقة، فإن الباعثَ عليها قَوِيٌّ، فلولا ترتيبُ الحدود عليها لعمَّتْ مفاسدُها وعظُمتِ المصيبةُ بارتكابِها. وأما النُهبة فلم يرتبْ عليها حدًّا، إما لأن بواعثَ الطِّباع لا تدعو إليها غالبًا؛ خوفَ الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ، وإما لأن مفسدَتَها تندفعُ بإغاثة الناس، ومنعِهم المُنتهبَ، وأخذهم على يديه. وأما الرِّبا فلم يرتَبْ عليه حَدًّا؛ فقيل: لأنه يقعُ في الأسواق وفي المَلأِ، فوكلتْ إزالتُهُ إلى إنكار الناس، بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر؛ فإنها إنما تَقَعُ غالبًا سرًّا، فلو وكلت إزالتُها إلى الناس لم تُزَل. وأحسنُ من هذا أن يقالَ: لما كان المُرابي إنما يُقْضَى له برأس ماله فقط، فإن أخذَ الزيادةَ قُضِيَ عليه بردِّها إلى غريمه، وإنْ لم يأخذْها لم يُقْضَ له بها، كانت مفسدةُ الرِّبا منتفيةً بذلك، فإن غريمه لو شاء (3) لم يُعْطِهِ إلاّ رأسَ ماله، فحيث رضي بإعطائه الزِّيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانًا، والآخذُ لها رضِيَ بأكل النَّارِ. __________ (1) (ق وظ): "ابن". (2) (ق وظ): "الرد". (3) (ق): "سأله".

(3/1071)


وأجودُ من هذين أن يقالَ: ذنبُ الرِّبا أكبرُ من أن يُطَهِّره الحَدُّ، فإنَّ المرابيَ محاربٌ للُّه ورسوله آكلٌ للجمر، والحَدُّ إنما شُرعَ طُهْرةً وكفارةً، والمرابي لا يزولُ عنه إثم الرِّبا بالحدِّ، لأن جُرمه أعظمُ من ذلك، فهو كَجُرم مفطر رمضانَ عمدًا من غير عُذْر، ومانعُ الزكاة بخلًا، وتاركُ صلاة العصر، وتارك الجمعة عمدًا، فإنَّ الحدود كفاراتٌ وطُهَرٌ، فلا تعملُ إلا قي ذنب يقبل (ق/262 ب) التكفيرَ والطُّهْرَ. ومن هذا: عدمُ إيجاب الحَدِّ بأكل أموال اليتامى؛ لأنَّ آكِلَها قد وجبِتْ له النارُ، فلا يؤثِّرُ الحَدُّ في إسقاط ما وجب له من النار. وكذلك تركُ الصلاة هو أعظمُ من أن يُرَتَّبَ عليه حَدٌّ، ونظير هذا اليمينُ الغموسُ هي أعظمْ إثمًا من أن يكون فيها حَدٌّ أو كفارة. وإذا تأمَّلْتَ أسرار هذه الشريعةِ الكاملةِ وجدتَها في غاية الحكمة ورعاية المصالح، لا تفرِّقُ بين متماثلين ألبتَّةَ ولا تُسَوِّي بين مختلفين، ولا تحرِّمُ شيئًا لمفسدة، وتبيحُ ما مَفْسَدتُه مساويةٌ -لما حَرَّمَتْه- أو راجحةٌ عليه، ولا تُبيح شيئًا لمصلحة وتُحَرِّمُ ما مصلحته مُساويةٌ لما أباحَته ألبتة، ولا يوجدُ فيما جاء به الرسول شيءٌ من ذلك ألبتة. ولا يلزمُه الأقوالُ المستندةُ إلى آراء الناس وظنونِهم واجتهاداتِهم، ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، وإباحةِ الشيء وتحريمِ نظيره -وأمثال ذلك- ما فيها. فائدة (1) سُئل ابنُ عقيل عن كشف المرأة وجهَها في الإحرام مع كثرة __________ (1) (ق): "مسألة". وانظر: "إعلام الموقَّعين": (1/ 222 - 223، و"تهذيب السنن": (2/ 350 - 352)

(3/1072)


الفساد اليوم؛ أهو أولى أم التغطية مع الفدا؟ وقد قالت عائشة - رضي الله عنها: "لو عَلِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحْدَثَ النساءُ لمنعهنَّ المساجِدَ" (1). فأجاب: بأن الكشفَ شعارُ إحرامها، ورَفْع حكمٍ ثبتَ شرْعًا بحوادث (ظ/184 ب) البدَع لا يجوزُ؛ لأنه يكونُ نسخًا بالحوادث، ويُفضي إلى رفع الشَرْعَ رأسًا. وأما قول عائشة؛ فإنها ردَّتِ الأمرَ إِلى صاحب الشرع (2)، ففالت: لو رأى لَمنَعَ، ولم تمنعْ هي، وقد جَبَذَ عمرُ السُّتْرَةَ عنِ الأَمَة وقال: لا تَشَبَّهي بالحَرائر (3)، ومعلوم أنّ فيهنَّ مَنْ تَفْتِنُ؛ لكنه لما وُضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فَرْقًا، فما ظنُّك بكشفٍ وُضِع بين النسك والإحلال؟! وقد ندب الشَّرْعُ إلى النظر إلى المرأَة قبل النكاح، وأجاز للشهود النظرَ، فليس بِبدْعٍ أن يأمُرَها بالكشف، ويأمر الرجال بالغَضِّ ليكونَ أعظمَ للابتلاءَ، كما قَرَّبَ الصيْدَ إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه. قلت: سببُ هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السُّنَّةُ في حقِّ المرأة في الإحرام، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يشْرَعْ لها كشفَ الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النَّصُّ بالنهي عن النِّقاب خاصَّةً، كما جاء بالنهي عن القُفَّازيْن، وجاء بالنهي عغ لُبْس القميص والسراويل، ومعلومٌ أن نهيه عن لُبس هذه الأشياء لم يُرِدْ أنها تكونُ مكشوفةً لا تسترُ ألبتّةَ، بل قد أجمع الناسُ على أن المُحْرِمَةَ تسترُ (ق/263 أ) بَدَنَها __________ (1) أخرجه البخاري رقم (869)، ومسلم رقم (445). (2) (ق): "صاحبه". (3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 136)، وابن أبي شيبة: (2/ 41). وفي (ق): "لا تشبَّهن" وكذا في بعض الروايات.

(3/1073)


بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستُرُ بَدَنَه بالرداءْ وأسافِلَه بالإزار، مع أن مخرجَ النهي عن النِّقَاب والقَفَّازيْنِ والقميص والسَّراويل وأحدٌ، فكيف يرادُ على موجب النصَ؟! ويُفهم منه أنه شَرَع لها كشف وجهها بين الملأ جهارًا؛ فأيُّ نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة؟! بل وجه المرأة كبَدَن الرجل يحرمُ سترُه بالمفصَّل على قَدْره كالنِّقَاب والبُرْقع، بل وكَيَدِها يحرم سترها بالمفصَّل على قَدْرْ اليد كالقفَّاز. وأما سترها بالكُمِّ، وسَتْر الوجه بالمُلاءةْ والخِمار والثوب؛ فلم ينهَ عنه ألبتة. ومن قال: "إن وجهها كرأس المُحْرِم" فليس معه بذلك نصٌّ ولا عمومٌ، ولا يصِحُّ قياسهُ على رأس المحرم؛ لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السَّلف: "إحرام المرأة في وجهها"، إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمُها اجتنابُ اللباس كما يلزمُ الرجل، بل يلزمها اجتناب النِّقَاب فيكوم وجهُها كبَدَن الرجل. ولو قُدِّر أنه أراد وجوبَ كشفه؛ فقولُه ليس بحُجَّة ما لم يثبتْ عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين، وقد قالت أمُّ المؤمنينَ عائشةُ - رضي الله عنها -: "كنا إذا مرَّ بنا الرُّكبانُ سَدَلَتْ إحدانا جلبابها على وجهها" (1)، __________ (1) أخرجه ابن خزيمة رقم (2691)، وأحمد: (6/ 30)، وأبو داود رقم (1833) وأبن ماجه رقم (2935) والبيهقي: (5/ 48) وغيرهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن: عائشة به، وزياد فيه ضعف يسير. ويشهد له ما أخرجه ابن خزيمة رقم (2690) عن أسماء بنت أبي بكر -بسند صحيح- أنها قالت "كنا نغطي وجوهنا من الرجال ... ". =

(3/1074)


ولم تكنْ إحداهُنَّ تَتَّخِذُ عودًا تجعلُه بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعضُ الفقهاء، ولا يعرفُ هذا عن امرأة من نساء الصَحابة، ولا أمَّهات المؤمنين ألبتةَ لا عملًا ولا فتوى (1). ومستحيلٌ أن يكونَ هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهرًا مشهورًا بينهنَّ يعرفه الخاصُّ والعامُّ. ومن آثَرَ الإنصافَ وسلك سبيلَ العلم والعدل تبيَّنَ له راجحُ المذاهب من مرجوحها، وفاسدُها من صحيحها، والله الموفق الهادي. فائدة قال ابنُ عقيل: يخرَّجُ من رواية إيجاب الزكاة في حُلِيِّ الكِراء والمواشط. أن يجب في العقار المُعَدِّ للكِرَاء وكلِّ سلعة تؤجَّرُ وتعَدُّ للإجارة، قال: وإنما خرَّجْتُ ذلك على الحُلِيِّ؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحُلِيَّ لا يجبُ فيه الزكاة، فإذا أُعِدَّ للكراء وجبتْ، فإذا ثبتَ أن الإعداد للكِراء ينشىِءُ إيجابَ زكاةٍ في شيءٍ لا تجبُ فيه الزكاةُ، كان في جميع العروضِ التىِ لا تجِبُ فيها الزكاةُ ينشئ إيجاب الزكاة. يوضحُهُ أن الذهبَ والفضَّةَ عينانِ تجبُ الزكاةُ بجنسهما وعينهما، ثم إن الصِّناعةَ والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت (ق/263 ب) على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعدادُ للكِراء، فغلبَ على الاستعمالِ وأنشأَ إيجابَ الزكاة، فصار أقوى مما قوي على إسقاط __________ = وكذا ما صحَّ عن عائشة -رضي الله عنها- في لباس المحرمة أنها قالت: "تسدل الثوب على وجهها إن شاءت ... " أخرجه البيهقي: (5/ 47). (1) انظر: "المغني": (5/ 155)، و"تهذيب السنن": (5/ 198).

(3/1075)


الزكاة، فأولى أن يُوجَبَ الزكاةَ في العَقَار والأواني والحيوان التي لا زكاةَ في جنسها أن (1) يُنْشئَ فيها الإعدادُ للكِراء زكاةً. فائدة قال ابن (ظ/85 أ)، عقيل: جاءت فتوى أن حاكمًا قال بين يديه يهوديٌ: لا نُنْكِرُ أن محمدًا بُعِثَ (2) إلى العرب، فقال له: وتقولُ أنه جاء بالحَقِّ؛ فقال: نعم، فأفتى جماعة أنه قد أسلمَ. وكتبتُ: لا شكَّ أن قوله: "إنه بعِثَ إلى العرب" قولُ طائفة منهم، وقولُه بعد هذا: "وأعتقد أنه جاء بالحق"، يرجعُ إلى ما أقرَّ به من أنه جاء رسولًا إلى العرب، فإذا احتملَ أن يعودَ كلامُه إلى هذا، لم يخرجْ من دينه بأمرٍ محتملٍ، وكتب بذلك إلْكِيا (3) والشاشيُّ (4). فائدة قاْلْ ابن عقيل في مسألة (ما إذا أُلقِيَ في مركبهم نارٌ واستوى الأمرانِ عدهم) فيه روايتان. قال: وأعملوا أن التقسيمَ والتَّفصيل ما لم تَمَسَّ الناْرُ الجسد؛ فإن مسَّتْه فالإنسانْ بالطبعْ يتحرَّكُ إلى خارج منها؛ لأن طبعَ الحيوان الهربُ من المُحُسِّ، ويغلبُ الحسُّ على التأمّل والنظر في العاقبة، فتصير النارُ دافعةً له بالحِسِّ، والبحرُ ليس. __________ (1) (ع): "إنما". (2) كذا في (ق). والمطبوعات، وفي (ع) "رسول"، و (ظ): "رسول الله". (3) إلْكِيا هو: علي بن محمد أبو الحسن الطبري الهرَّاسي، أحد أئمة الشافعية ت (504). "السير": (19/ 350). (4) الشاشي هو: محمد بن أحمد أبو بكر التركي، شيخ الشافعية ت (507). "السير": (19/ 393).

(3/1076)


محسوسًا أذاهُ له، لكنَّ الغرقَ والمضرَّة معلومةٌ، والحسُّ يغلب على العلم. يبيِّنُ هذا ما يُشَاهَدُ من الضرب والوَخْز للإنسان الذي قد نُصِبَتْ له خشبة ليصْلَبَ عليها، أو حُفِرَ له بئرٌ ليلْقَى فيها، فإنه يتقدَّمُ إلى الخَشَبة والبئر؛ لأن الضَّرَر فيها ليس بِمُحَسٍّ، والوخزُ بالسِّنان (1) والضرب مُحَسٌّ فهو إضرار ناجزٌ واقع، وإذا أردت أن تعلمَ ذلك فانظر إلى وقوف الحيِّ وجنوحه عن التحرّك، إذا تكافأ عنده الأمرانِ في الحِسِّ والعلم. بيانُه: إنسانٌ هجم عليه سَبُعٌ على حرف نَهَرٍ جار عميقٍ، وهو لا يُحْسِنُ السِّباحةَ، فإنه لا محالةَ يتحرك نحو الماء راميًا نفسَهُ لأجل إلجاء السَّبُعِ له وهجومه عليه، فلو هجم عليه من قِبل وجهه سَبُعٌ، فالتفتَ فإذا وراءه سَبُعٌ آخرُ، وهما متساويان في الهجوم عليه، لم يَبْق للطبع مهربٌ، وتوازن (2) المكروهاتُ، فإنه يَقِف مستسلمًا صامدًا للبلاء، وكذلك تكافُؤ كفَّةِ الميزان. قلت: هذا صحيح من جهة الوَهْم والدَّهَش، وإلا فلو كان عقلُه حاضرًا معه، لَتكَافَأ عندَهُ الأمران: المحسوس والمعلوم، وكثيرًا ما يحضرُ الرجل عقلَه إذ ذاك فيتكافأُ عنده (3) المحسوس والمعلوم، فيستسلمُ لما لا صُنْعَ له فيه، ولا يعِينُ على نفسه، (ق/264 أ) ويحكم عقله على حِسِّه، ويعلمُ أنه إن صبر كان له أجرُ مَنْ قُتِلَ، ولم يُعِنْ __________ (1) (ظ): "بالإنسان". (2) (ق): "وتوارت"، والمطبوعة: "وتوازنت". (3) (ع) زيادة: "الأمران".

(3/1077)


على نفسه، وإن ألقى نفسه في الهلاك، لم يكنْ من هذا الأجر على يقين، بل ولا يستلزمُ: ذلك الإيمان (1) بالثواب، بل إذا تصوَّرَ حمدَ الناس له على صبره وعدم جزعه بإلقاء نفسه في الهلاك هَرَبًا مما لابُدَّ له منه رأى الصبر أحمدَ عاقبةً، وأنفعِ له أجلًا، فمحكِّم العقل يقدِّمُ الصبَّر، ومحكِّم الحِسَّ يهربُ من التَّلف إلى التَّلَف، فليست الطباعُ في هذا متكافئة، واللهُ أعلمُ. فائدة يُذكر عن كعب الأحبار (2) قال: قرأت في بعض كتب الله تعالى: (الهديَّةُ تفقأُ عين الحَكَمِ) (3)، قال ابن عقيل: معناه: أن المحبَّة الحاصِلَةَ للمُهْدَى إليه، وفرحه بالظَّفَر بها، وميله إلى المُهْدِي، يمنعُهُ من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدِي وأفعاله الدَّالَّة على أنه مُبْطِلٌ، فلا ينظر في أفعاله بعينٍ ينظر بها إلى من لم يُهْدِ إليه، هذا معنى كلامه. قلت: وشاهده الحديثُ المرفوعُ الذي رواه أحمد في "مسنده " (4). "حُبُّك الشَّيءَ يعْمي ويُصِمُّ" (5). فالهديَّةُ إذًا أوجبتْ له محبَّةَ المُهْدِي، ففقأتْ عينَ الحَق، وأصمَّت أذنَهُ. __________ (1) (ظـ): "للإيمان". (2) من (ق). (3) انظر: "الفروع": (6/ 393)، و"المبدع": (10/ 40). (4) (5/ 194). (5) وأخرجه أبو داود رقم (5130)، والبخاري في "التاريخ": (3/ 157)، وابن عدي: (2/ 39) وغيرهم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- والحديث فيه ضعف. أنظر: "المقاصد الحسنة": (ص/ 181).

(3/1078)


فائدة قال ابن عَقِيل: الأموالُ التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: (رِشوة وهديةٌ وأجرةٌ ورِزْقٌ). فالرِّشْوَةٌ: حرامٌ، وهي ضربانِ: رشوةٌ ما ليميلَ إلى أحدهما بغير حقٍّ، فهذه حرامٌ عن فعل، حرام على الآخذ والمعطي، وهما آثمان. ورشوة يُعْطاها ليحكمَ بالحقِّ واستيفاءِ حقِّ المُعطي من دَيْن ونحوه، فهي حرامٌ على الحاكم دون المُعطي؛ لأنها للاستنقاذ، فهي كجُعْل الآبِقِ، وأجرة الوكالة (1) في الخصومة. وأما الهدية: فضربان: هدية كانت قبل الولاية فلا تحرمُ استدامتها، وهديةٌ لم تكنْ إلا بعدَ الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهديَّة إليه ممن لا حكومةَ له، وهدية ممن قد اتجهت له حكومة، فهي حرامٌ على (ظ/ 185 ب) الحاكم والمُهْدِي. وأما الأجرة: فإن كان للحاكم رزقٌ من الإمام من بيت المال، حَرُمَ عليه أخذُ الأجرة قولًا واحدًا؛ لأنه إنما أَجرى له الرِّزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجهَ لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزقَ له؛ فعلى وجهين: أحدهما: الإباحة؛ لأنه عملٌ مباح فهو كما لو حكَّماه؛ ولأنه مع عدم الرزق لا يتعينُ عليه الحكمُ، فلا يمنعُ من أخذ الأجرة، كالوَصِى وأمين (2) الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدْر الحاجةِ. وأما الرزق مِنْ بيت (ق / 264 ب) الحال: فإن كان غنيًّا لا حاجةَ له __________ (1) (ظ): "الوكلاء". (2) (ظ): "وعامل".

(3/1079)


إليه احْتُمل أن يُكْرَهَ لئلا يُضَيَّقَ على أهل المصالح، ويحتمل أن يباحَ؛ لأنه بذل نفسَه لذلك، فصار كالعامل في الزَّكاة والخَراج. قلت: أصلُ هذه المسائل عاملُ الزكاة وقيِّمُ اليتيم، فإن الله تعالى أباحَ لعامل الزَّكاة جزءًا منها، فهو يأخذه مع الفقر والغنى، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منعه من قبول الهدية، وقال: "هَلّا جَلَسَ في بَيْتِ أبيهِ وأُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى إليْهِ أمْ لا؟ " (1)، وفي هذا دليلٌ على أن ما أُهَديَ إليه في بيته ولم يكن سببه العمل على الزَّكاة جاز له قبوله، فيدلُّ ذلك على أن الحاكمَ إذا أَهْدَىَ إليه من كان يُهْدي له قبل الحُكم ولم تكنْ ولايَتُهُ سببَ الهدية فله قَبُولُها. وأما ناظرُ اليتيم؛ فاللهُ تعالى أَمَرَهُ بالاستعفاف مع الغِنَى، وأباح له الأكلَ بالمعروفِ مع الفقر، وهو إما اقتراضٌ أو (2) إباحة على الخلاف فيه، والحاكمُ فرعٌ متردِّدٌ بين أصلينِ: عامل الزكاة، وناظر اليتيم، فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامَّة به ألحقَهُ بعامل الزكاة، فيأخذُ الرِّزقَ مع الغِنى كما يأخذُه عاملُ الزَّكاة، ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصِبًا لمعاملة الرعية بالأَحَظِّ لهم ألحقه بولي اليتيم، إن احتاج أخذَ، وإن استغنى ترك. وهذا أفقه، وهو مذهب الخليفتين الراشدين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي مِنْ مال اللهِ منزلةَ وليِّ اليتيمِ إن احتاجَ أكَلَ بالمعروفِ، وإن استغنى تَرَكَ" (3). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد. الساعدي -رضي الله عنه-. (2) (ع): "وإما". (3) أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 460)، وابن سعد في "الطبقات": (3/ 276)، =

(3/1080)


والفرقُ بينَه وبين عامل الزكاة: أنَّ عامل الزكاة مستأجرٌ من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها، فما يأخذه يأخذُهُ بعمله، كَمَن يستأجرُهُ الرجل لجباية أمواله، وأما الحاكمُ فإنه منتصبٌ لإلزام الناس بشرائع الرَّبِّ -تعالى- وأحكامه وتبليغها إليهم، فهو مبلغٌ عن الله بفُتياه، ويتميَّزُ عن المفتي بالإلزام بولايته وقدرته. والمبلِّغُ عن الله الملزمُ للأُمَّة بدينه، لا يستحقُّ عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يَسُدُّ حاجَتَهُ، فهذا لَوْن وعامل الزكاة لَوْن، فالحاكم مفْتٍ في خبره عن حكم الله ورسوله شاهدٌ فيما ثبت عنده، مُلْزم لمن توجَّهَ عليه الحقُّ، فيشترطُ له شروط المفتي والشاهد، ويتميَّزُ بالقُدْرة على التنفيذ فهو في منصب خلافةِ مَنْ قال: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فهؤلاء هم الحَكَّامُ (ق/ 265 أ) المقدَّرُ وجودهم في الأذهان، المفقودون في الأعيان، الذين جعلهم الله ظلالًا، يأوي إليها اللَّهْفان، ومناهِلَ يَرِدُها الظمآنُ. فائدة إذا قال إنسان لآخر: "أَنْفِذْ لي كتابًا"، فحلف أنه قد أنفذَهُ أمسِ، فبان أنه قد أنفذَه قبلَه بيوم. قال ابن عقيل: لا يحنَثُ، لا لأجل الخطأ والنسيان؛ بل لأنَّ قصدَهُ تصديقُ نفسِه في الإنفاذ الذي هو مقصودُ الطالب، وإذا بان أن المقصودَ قد حصل قبل أمس، فقد بان أنه قد حصل أوْفَى المقصود، كما لو حلف: "لقد أعطيتُك دينارًا"، فبان أنه أعطاه دينارين. __________ = والبيهقي: (6/ 4) عن عمر -رضي الله عنه- بسندٍ صحيح، صححه الحافظ ابن حجر في "الفتح": (13/ 161)، وابن كثير في "التفسير": (2/ 853).

(3/1081)


فائدة إذا ماتت الحاملُ، فصُلِّيَ عليها هل يُنْوَى الحَمْلُ؟. قال ابنُ عقيل: يحتملُ أن لا يذكرَ سوى المرأة؛ لأن الحَمْلَ غيرُ مُتَيَقَّنٍ، ولهذا يلاعنُ عليه، ولو قُتِلَتْ لم تَجِبْ دِيَتُهُ. فإن قيل: أليس يُعْزَلُ (1) له الإرثُ، ولا تُدْفَنُ في مقابر المشركين إذا كانت نصرانيةً، ويَتَذَكَّى بذكاة أمِّه؟ قيل: أما الإرثُ فهو الحُجَّة لأنه لا يُعطاه، ولا يُورَثُ عنه، حتى يتحقَّقَ وضْعُه ُعنه (2)، وأما دفنُهُ: فلظنِّ وجوده، وحكمُ الذكاة تلحقهُ إذا وُضِعَ. فائدة إذا جَبَّ عبدَه ليزيدَ ثمنُه، فهل تحلُّ له الزِّيَادة؟. أما على أصْلِنا وأصل مالك بن أنس في العِتْق بالمُثْلة فلا تفريعَ، وأما من لم يعتقْهُ بالمُثْلَة فينبغي عنده أن لا تحرُمَ الزِّيَادَةُ، كما لو قطع له إصبعًا زائدة فزاد ثمنه بقطعها. فإن قيل: فالمغنِّية إذا زادتْ قيمَتُها لأجل الغناء حَرُمَتِ الزِّيَادَةُ. قيل: الغناءُ (ظ/186 أ) منهيٌّ عنه حالَ دوامه، فيقالُ: لا يحِلُ لك أن تغنِّى، ولا يؤخذ العِوَضُ عنه، وأما الخِصاء فهو أثر قد انقضى، ولا يتعلَّقُ النهيُ بدوامه، فافترقا. __________ (1) (ق): "يعول". (2) ليست في (ع وظ).

(3/1082)


فائدة سَرَق (1) منديلًا لا يساوي نِصابًا، وفي طرفه دينار لم يعلمْ به. قال ابن عقيل: قياس قولِ أحمدَ فيمن سرق إناءً من ذهبٍ فيه خمرٌ، قال: إنه لا يُقْطَعُ، فكذلك هاهنا لا يُقْطَعُ؛ لأنه جعل القَصْدَ للخمر عِلَّةً لإسقاط القطع بالإناء، فقال: لو لم يكن قصدَه الخمرُ أراقه. فائدة رجل له على آخر قَوَدٌ في النَّفْس والطَّرَف، فقَطَعَ الطَّرَفَ فَسَرَى إلى النَّفسِ، هل يسقطُ حكمُ القَوَدِ في النَّفس بالسِّرَاية؟. قال ابن عَقِيل: يحتملُ أن يكونَ مستوفيًا للحقِّ بالسِّراية؛ لأنَّ القطعَ قد صار قتلًا، وما صلح لاستيفاء الحَقَّيْنِ حصلَ به استيفاؤُهما، كمن أعتقَ المُكَاتِبَ عندَنا في الكفَّارة حصلَ به مقصودُ المكاتبِ من العِتقِ ومقصودُ السَّيِّد من التَّكفيرِ. وكمن أطعم المُضطرَّ طعامًا قد وِجبَ عليه بذلُهُ، لكون المضطرِّ لا طعامَ له، وكون صاحب الطعام غيْرَ محتاج إليه، ونوى بإطعامه الكفَّارَةَ فإنه (ق/265 ب) يتدفعُ به الحَقَّينِ. وكذا من دخل المسجدَ فصلى قَضاءً ناب عن القضاء والتَّحِيَّة. قلت: وكذلك إذا نَذَرَ صوم يومٍ يقدُمُ فلان، فقَدِمَ في نهار رمضان -على قول الخِرَقِيِّ-. __________ (1) كذا في الأصول بدون فاعل، ويقدَّر بمحذوف.

(3/1083)


وكذلك المتمتِّعُ إذا دخل المسجدَ طاف طوافًا واحدًا هو طوافُ العُمْرة وطوافُ القدوم. وكذلك إذا أخَّرَ طوافَ الزِّيارة إلى وقت الوَدَاع (1) وطافَ طوافًا واحدًا كفاه عنهما. وكذلك إذا سَرَقَ وقَطَعَ يدًا معصومةً، فطُلِبَ القِصَاص، فقطعتْ يَدُه حدًّا وقِصاصًا. قال: ويحتملُ أن لا يقعَ موقِعَهُ، ويكون فائدةُ وقوعِهِ على الاحتمال الأوَّل أنه لا يستحقُّ الدِّيَة (2). وإن قلتا: الواجبُ أحد أمرين، ويكون فائدةُ عدم وقوعه على الاحتمال الثاني أن تقع السِّراية هَدَرًا؛ لأنها غيرُ مضمونة عندَنا، وإذا لم تكن مضمونةً، لم يكن محتسبًا بالسِّراية قتلًا، فإن الاحتسابَ بها عن القَوَد الواجب له هو أحد الضمانين، فإذا ثبت أنها لا تقعُ موقعَ القَوَد، كان له الدِّيَةُ على الرِّواية التي تقول: إن الواجبَ أحدُ الأمرين. فائدة مذهبُ الإمام أحمد: يؤخذُ من الذِّمِّيِّ التَّاجر إذا جاز علينا نصفُ العشر، ومن الحربيِّ المستأمنِ العُشر. ومذهب أبي حنيفة: إن فعلوا ذلك بنا فعلناه بهم، وإلا فلا. ومذهب الشافعيِّ: لا يجوُزُ إلا بشرطٍ أو تَرَاضٍ بينَهم وبين الإمام. __________ (1) (ق): "الطلوع ". (2) فى هامش (ع) تعليق نصُّه: "هذا الفرع ليس يسلّم على المذهب، بل تُقطع يده قِصاصًا، بل إذا سرق ويمينه [] في قصاص قُطعت رجله اليسرى" اهـ.

(3/1084)


قال ابنُ عقيل: وهذا هو الصحيحُ من المذاهب (1)؛ لأن عقد الذِّمَّة للذِّمِّيِّ والأمانَ للحربيِّ أوجبَ حفظَ أموالهم وصيانَتَها بالعهد والجزية، وأخذ ذلك يقعُ ظلمًا منَّا، ونقضًا لذِمَّتِهم الموجِبَةِ عِصْمَةَ أموالهم ودمائهم. فأوْرِد عليه: ما يصنعُ بقضيَّة عُمَرَ؟ فقال: هي محتملةٌ أنه فعل ذلك مقابلةً لفعلٍ كان منهم، ويحتملُ أنه كان شَرَط على قوم منهم ذلك لمصلحة رآها، وحاجةٍ للمسلمين أوْجَبتْ ذلك، قال: ودليلي مصرِّحٌ بالحكم واضح لا يحتملُ، فأصْرف ظاهرَ القصَّة إلى هذا الاحتمال بدليلٍ واضح. فائدة قال ابن عَقِيل: سُئلتُ عن كَتْب المَهْر في ديباج؟ فقلت: إنما يقصدُ المباهاة، وهي التي حُرِّم لأجلها الحريرُ، وهو الكِبْرُ والخُيَلاءُ، قالوا: فهل يطعنُ ذلك في الحُجَّة؟ قلت: لا، كما لو كتب في ورقة مغصوبة، الكَتْبُ حَرَامٌ، والحُجَّةُ ثابتةٌ (2). __________ (1) (ظ): "المذهب". (2) في هامش (ق) ما نصه: "يُسأل على مُقتضى مذهبه عن الفرق بين هذا وبين الحج بمال مغصوب والصلاة في دار مغصوبة ونظائر ذلك" ثم كتب بعده بخط مغاير: "أقول: الفرق أوضح من شمس الظهيرة، وهو أن البقعة شرط للصلاة، والحج إن وقف على مباح يصح وإلا لم يصح؛ لأن المغصوب كالماء النجس، لا يجور التطهر به، وأما كتابة المهر فيه فليست شرطًا لصحة النكاح حتى تقاس على الصلاة في المغصوب، نعم ... مهرًا مغصوبًا والله تعالى أعلم" اهـ. أقول: مكان النقط نحو سطر مطموس لم يظهر، والتعليقة الأخيرة كأنها بخط ابن حميد النجدي صاحب "الحب".

(3/1085)


فائدة طُلِبَ في الزنا أربعة، وفي الإحصانِ اكتُفي باثنين؛ لأن الزنا سببٌ وعلَّةٌ، والإحصان شرطٌ، وإبداء الشروط تقصرُ عن العلل والأسباب؛ لأنها مصححةٌ وليست موجبة، ولهذا لا يُكتفى بالإقرار مرَّةً، عندنا وعند الحنفية. فائدة عطيةُ الأولاد: المشروع أن يكون على قدْر مواريثهم (ق/ 266 أ)؛ لأن الله تعالى مَنَعَ مما يُؤَدّي إلى قطيعة الرَّحِم، والتسويةُ بين الذكر والأنثى مخالفةٌ لما وَضَعَهُ الشَّرْع هن التفضيل، فيُفضي ذلك إلى العداوة؛ ولأنَّ الشَّرْع أعلمُ بمصالحنا، فلو لم يكنِ الأصلحَ التفضيلُ بين الذَّكَر والأنثى لما أشَرَعَهُ؛ ولأن حاجةَ الذكر إلى المال أعظمُ من حاجة الأنثى، ولأن الله تعالى جعلَ الأنثى على النِّصف من الذكر فى الشهادات والميراث (1) والدِّيَات، وفي العقيقة بالسُّنَّة؛ ولأن الله تعالى جعل الرِّجالَ قوَّامين على (ظ/ 186 ب) النساء، فإذا عَلِمِ الذكرُ أن الأبَ زاد الأنثى على العَطِيَّة التي أعطاها اللهُ وسواها بمن فضَّلَهُ اللهُ عليها، أفضى ذلك إلى العداوة والقَطِيعة، كما إذا فضَّل عليه مَنْ سوَّى بينَهُ وبينَه. فأيُّ فرقٍ بين أن يُفَضِّلَ من أَمَرَ اللهُ بالتَّسوية بينَه وبين أخيه، أو يُسَوِّيَ بينَ مَنْ أمر الله بالتَّفضيل بينهما!؟ وأعترض ابنُ عقيل على دليل التفضيل وقال: بناءُ العطية حالَ __________ (1) ليست في (ع).

(3/1086)


الحياة والصِّحَّة والمال لا حقَّ لأحد فيه، ولهذا لا يجوزُ له الهِباتُ والعطايا (1) للوارِث، وما زاد على الثلُث للأجانب عِبْرَةً بحال صحته، وقطعًا له عن حال مرض الموت، فضلًا عن الموت، وكذا تُعطى الإخوة الأخواتُ مع وجود الابن والأب، وإن لم يكنْ لهم حقٌّ في الإرث، وتلك عطيَّةٌ من الله على سبيل التَّحكُّم لا اختيارَ لأحد فيه، وهذه عطيَّةٌ من مكلَّفٍ غيرِ محجورٍ عليه، فكانت على حسب اختياره من تفضيل وتسوية، وهذا هو القولٌ الصحيحُ عندي. قلت: وهذه الحجَّةُ ضعيفةٌ جدًّا، فإنها باطلةٌ بما سَلَّمه من امتناع التَّفضيل بين الأولاد المُتَساوِينَ في الذكورة والأنوثة، وكيف يصحَّ له قوله: "إنها عطيَّةٌ من مكلّف غير محجور عليه، فجازت على حسْب اختياره" وأنت قد حَجَرت عليه في التَّفضيل بين المُتَساوِينَ؟. فائدة (2) قال ابن عقيل: جَرَى (3) في جواز العمل في السَّلطنة الشَّرعية بالسِّياسة: هو الحزم، فلا يخلو منه إمامٌ. قال شافعيٌّ: لا سياسةَ إلا ما وافق الشَّرْعَ. قال ابنُ عقيل: السياسةُ ما كان فعلًا يكونُ معه الناسُ أقربَ إلى الصَّلاح، وأبعدَ عن الفساد، وإن لم يضَعْه الرسولُ، ولا نزلَ به __________ (1) (ق): "يجوز له الهبات والعطيات". (2) (ق): "مسألة"، وقد نقل هذا الفصل المؤلف في "الطرق الحكمية": (ص/13 - فما بعدها) وعلق عليه بما هو أوسع مما هنا، وعزاه إلى "الفنون"، وانظر ما سبق (3/ 1035). (3) كذا بالأصول، والمقصود: جرى خلاف أو نزاع ... فقيل: هو الحزم ....

(3/1087)


وحيٌ، فإن أردتَ بقولك: "إلا ما وافقَ الشَّرْعَ" أي: لم يخالفْ ما نَطَق به الشرعُ = فصحيح، وإن أردتَ: ما نطقَ به الشرعٌ (1) -فغلطٌ وتغليط للصَّحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمُثَل ما لا يجحدُه عالم بالسنن، (ق/266 ب) ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وتحريق عليٍّ في الأخاديد وقال: إني إذا شاهدتُ أمرًا مُنْكَرًا ... أجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قنْبَرا (2) ونَفَى عُمَرُ نصرَ بن حجَّاجٍ (3). قلت: هذا موضعُ مَزَلَّةِ أقدام، وهو مقام ضْنكٍ ومعتركٌ صعب، فرَّطَ فيه طائفةٌ، فعطَّلوا الحدودَ وضيَّعوا الحقوقَ وجرَّأوا أهلَ الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعةَ قاصرةً لا تقومُ بها مصالحُ العباد، وسدَّوا على أنفسهم طُرُقًا عديدةً من طرق معرفة المحقِّ من المبطل (4)، بل عطَّلوها مع عِلْمهم قطعًا وعِلْمْ غيرهم بأنها أدِلَّةُ حَقٍّ، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجبَ لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأي ولاةُ الأمر ذلك، وأن الناسَ لا يستقيمُ أمرهم إلا (5) بشيء __________ (1) "فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع" سقطت من (ظ). (2) قصة تحريق علي -رضي الله عنه- للسبيئة أو الزنادقة أخرجها البخاري رقم (3017)، وقصة التحريق وإنشاد البيت أخرجه أبو طاهر المخلّص في حديثه بسندٍ حسن قاله الحافظ في "فتح الباري": (12/ 282). على اختلاف في رواية البيت فى المصادر. (3) أخرج قصة نصر بن حجاج ابنُ سعد في "الطبقات" (3/ 285)، والخرائطي قي"اعتلال القلوب": (ص/ 337 و 339)، قال الحافظ: "بسندٍ صحيح"، "الإصابة": (3/ 579). (4) (ظ): "الحق من الباطل". (5) (ع): "ولا".

(3/1088)


زائدٍ على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أَحْدَثوا لهم قوانينَ سياسيةً ينتظمُ بها أمرُ العالمَ، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياسَتِهم = شرٌّ طويل، وفساد عريضٌ، وتَفَاقَمَ الأمرُ، وتعذَّرَ استدراكُهُ. وأفرطتْ طائفة أخرى فسَّوغتْ منه ما يُنافي حكمَ الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيتْ من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله (1)، فإنَّ اللهَ أرسل رُسلَهُ وأنزل كُتبهُ ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو العدل الذي به قامتْ السَّماواتُ والأرضُ، فإذا ظهرت أماراتُ العدل، وتبيَّنَ وجهُه بأيِّ طريق كان، فثَمَّ شرعُ الله ودينُه، والله تعالى لم يحصرْ طرُقَ العدل وأدلَّتَه وعلاماتِه في شيء، ونفى غيرَها من الطرق التي هي مثلُها أو أقوى منها، بل بيَّن بما شَرَعَهُ من الطُّرُق أن مقصوده إقامةُ العدل وقيام الناس بالقسط، فأيُّ طريقٍ اسْتُخْرِجَ بها العدلُ والقسطُ فهي من الدِّين. لا يقال: "إنها مخالفةٌ له" فلا تقول: إن السياسةَ العادلةَ مخالفةٌ لما نطقَ به الشرعُ، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزءٌ من أجزائه، ونحن نسمِّيها سياسةً تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حقٌّ. فقد حبس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تُهمة (2)، وعاقب في تهمة (3)، لما ظهر __________ (1) من قوله: "وكلا الطائفتين ... " إلى هنا سقط من (ع). (2) أخرجه أبو داود رقم (3630)، والترمذي رقم (1417)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من طريق بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهو حديث حسن كما قال الترمذي، وصححه الحاكم. ووقع في ق): "في نميمة". (3) تقدم في قصة الزبير وضربه لابن أبي الحقيق (3/ 1037).

(3/1089)


أمارات الرِّيبة على المتهم، فمَنْ أطلقَ كُلَّ متَّهَمٍ وحلّفه وخلَّى سبيلَه مع علمِه باشتهاره بالفساد في الأرض، ونَقْبِه البيوتَ وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذُهُ إلا بشاهدَي عدْلٍ؛ فقولهُ مخَالفُ للسِّياسة الشرعية، وكذلك منعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الغَالَّ (ق/ 267 أ) من سهمِهِ من الغنيمة (1)، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعَه كله (2)، وكذلك أخذه شطرَ مال مانع الزكاة (3)، وكذلك إضعافُه الغُرْمَ على سارق ما لا يُقطعُ فيه وعقوبته بالجَلد (4). (ظ/187 أ) وكذلك إضعافُه الغرْمَ على كاتم الضَّالَّة (5). وكذلك تحريق عمر حانوتَ الخَمَّار (6)، وتحريقه قَرْيَةَ خمر (7)، وتحريقه قصرَ سعد بن أبي وقَّاص لما احتجَبَ فيه عن الرَّعِيَّة (8)، وكذلك حَلْقُه رأسَ نصرِ بن حجَّاج ونفيه (9)، وكذلك __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (2713)، والترمذي رقم (1461) -من حديث عمر رضي الله عنه- وضعفه البخاري والترمذي، وأشار إلى ذلك أبو داود. (2) أخرجه أبو داود رقم (2715) من حديث ابن عَمْرو -رضي الله عنهما- وهو ضعيف. وانظر: "التلخيص": (4/ 81، 113). (3) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575) والنسائى: (5/ 25)، وابن خزيمة رقم (2266)، والحاكم: (1/ 398) وغيرهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. (4) أخرجه أبو داود رقم (1710)، والترمذي رقم (1289) مختصرًا، والنسائي: (8/ 85 - 86) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي. (5) أخرجه أبو داود رقم (1718) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (6) أخرج عبد الرزاق: (6/ 77) أن عمر أحرق بيتَ رجلٍ وجد فيه خمرًا وكان جُلد فيها. (7) ذكر شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (2/ 49) أن عليًا حرق قرية يباع فيها الخمر، ولم أجده عن عمر. (8) أخرجه أحمد: (1/ 448 رقم 390)، وابن المبارك في "الزهد": (ص/ 179) وسنده صحيح غير أنه منقطع. (9) تقدم قريبًا.

(3/1090)


ضربُه صَبيغًا (1)، وكذلك مصادرته عمّالَه. وكذلك إلزامه الصحابَةَ أن يُقِلُّوا الحَديثَ عن رسول الله ليشتغلَ الناسُ بالقرآن فلا يُضَيِّعوه (2)، إلى غير ذلك من السِّياسة التي ساس بها الأمَّةَ فصارت سُنَّة إلى يوم القيامة، وإن خالفها مَنْ خالفها. ومن هذا تحريقُ الصديق للُّوطِيِّ (3). ومن هذا تحريقُ عثمان للصُّحف المخالفة للسان قريش (4). ومن هذا اختيار عُمرَ للناس الإفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره، فلا يزالُ البيتُ الحرام مقصودًا (5)، إلى أضعافِ أضعاف ذلك من السِّياسات التي ساسوا بها الأمَّة وهي بتأويل القرآن والسنة. وتقسيمُ النَّاسِ الحُكْمَ إلى شريعة وسياسة، كتقسيم من قَسَّم الطريقةَ إلى شريعةٍ وحقيقةٍ، وذلك تقسيمٌ باطلٌ، فالحقيقةُ نوعان: حقيقة هي حقٌّ صحيحٌ، فهي لُبُّ الشَّريعة لا قسيمها، وحقيقةٌ باطلة، فهي مضادَّة للشَّريعة كمضادَّة الضَّلال للهدى. وكذلك السَّياسة نوعان: سياسةٌ عادلة، فهي جزء من الشَّريعة __________ (1) أخرجه الدارمي: (1/ 66)، والبزار في "مسنده": (1/ 423)، واللالكائي: (4/ 635 - 636)، وهي قصة مشهورة. (2) أخرج مَعمر في "الجامع": (11/ 262) عن الزهري عن أبي هريرة قال: "لما ولي عمر قال: "أقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " وأخرجه الطبراني في "الأوسط": (2/ 326)، والرامهرمزي في "الحديث الفاصل" (ص/ 553)، والروايات عن عمر في هذا المعنى كثيرة. (3) أخرجه البيهقي: (8/ 232). (4) أخرجه البخاري رقم (4987) وغيره. (5) أخرجه مسلم رقم (1221 و 1222).

(3/1091)


وقسمٌ من أقسامها لا قسيمها. وسيَاسَةٌ باطِلَةٌ فهِيَ مُضَادَّة للشَّريعة (1) مضَادَّةَ الظُّلم للعدل. ونظير هذا: تقسيمُ بعض الناس الكلامَ في الدِّين إلى الشرع والعقل هو تقسيمٌ باطل، بل المعقولُ قسمان: قسمٌ يوافق ما جاء به الرسولُ، فهو معقولُ: كلامِه ونصوصِه، لا قسيم ما جاء به، وقسم يخالِفُه، فذلك ليس: بمعقولٍ، وإنما هو خيالاتٌ وشُبَهٌ باطلة يظن صاحبها أنها معقولات، وإنما هي خيالاتٌ وشُبُهَاتٌ. وكذلك القياسُ والشرع، فالقياسُ الصحيح هو معقولُ النصوص، والقياسُ الباطل المخالف للنصوص مضَادٌّ للشرع. فهذا الفصلُ هو فَرْقُ ما بينَ وَرثَةِ الأنبياء وغيرهم، وأصله مبنيٌّ على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسُّنَّة، إلى كلِّ ما يَحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحُهُمْ في معاشهم ومَعَادِهم، وأنه لا حاجةَ إلى أحد سواه ألبَتَّةَ، وإنما حاجتُنا إلى من يُبَلغُنا عنه ما جاء به، فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمُه في الإيمان بالرسول، بل يجبُ الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجبُ الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المُكَلَّفين، (ق/267 ب) فكما لَا يخرجُ أحد من الناس عن رسالته ألبتة فكذلك لا يخرجُ حقٌّ من العلمِ والعملِ عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجَةَ بالأمَّةِ إلى سواه، وإنما يحتاجُ إلى غيره من قلَّ نصيبُه من معرفته وفهمه، فبحسب قلَّة نصيبِهِ من ذلك تكون حاجتُه، وإلا فقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما (2) طائر يُقَلِّب جناحيه في السَّماء إلا وقد ذكر للأمَّة __________ (1) من قوله: "كمضادة الضلال ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ظ): "وما من".

(3/1092)


منه علمًا (1)، وعلَّمهم كل شيءٍ، حتى آدابَ التخَلِّي وآداب الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والرُّكوب والنزول، ووصف لهم العَرْشَ والكرسِيَّ والملائكة، والجنة والنار، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنهم (2) رأيُ عَيْن، وعرَّفهم بربِّهم ومعبودِهم أتمَّ تعريف، حتى كأنهم يَرَوْنه بما وصفه لهم من صفات كماله ونعوت جلاله، وعرَّفهم الأنبياءَ وأُمَمَهُمْ وما جرى لهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرَّفهم من طرق الخير والشر، دقيقِها وجليلِها، ما لم يعَرِّفْهُ نبيّ لأمَّتِهِ قبلَهُ. وعرَّفهم من أحوال الموت وما يكونُ بعدَه في البرزخ، وما يحصلُ فيه من النعيم والعذاب للرُّوح والبَدَن ما جلَّى لهم ذلك حتى كأنهم يُعَاينوه. وكذلك عرفهم من أدِلَّة التوحيد والنُّبُوَّة والمعَاد والرَّدِّ على جميع طوائف أهل الكفر والضَّلال، ما ليس لمن عرفه حاجةٌ إلى كلام أحدٍ من الناس ألبتةَ. وكذلك عرَّفهم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرُق الظَّفَر به، ما لو علموه وفعلوه لم يَقُمْ لهم عدوٌّ أبدًا. وكذلك عَرَّفهم من مكائد (3) إبليسَ وطرقه التي يأتيهم منها وما يحترزون به من كَيْدِه ومكرِه، وما يدفعون به شَرَّه ما لا مزيدَ عليه. __________ (1) جاء هذا في حديثٍ أخرجه البخاري رقم (6604)، ومسلم رقم (2891) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-. (2) (ظ): "كأنه". (3) من قوله: "الحروب ولقاء ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1093)


وكذلكْ أرشدَهم في معاشِهِمْ إلى ما لو فعلوه لاستقامتْ لهم دنياهم أعظمَ استقامةٍ. وبالجملة، فجاءهم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه. ولهذا ختم اللهُ به ديوان النُّبُوَّة، فلم يجعلْ بعدَه رسولًا، لاستغناء الأُمَّة به عمن سواه، فكيف يظَنُّ أن شريعَتَهُ الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها، أو إلى حقيقة خارجة عنها، أو إلى قياس خارج عنها، أو إلى معقول خارج عنها؟. فمن ظنذَ ذلك فهو كمن ظنَّ أن بالناس حاجةً إلى رسول آخر بعده. وسبب هذا كلِّه خفاءُ ما جاء به (ظ/ 187 ب) على مَنْ ظَنَّ ذلك. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وكيف يَشفِي ما في الصدور كتاب لا يَفي بعشر معشار ما النَّاسُ محتاجون إليه على زعمهم الباطل. ويالله العجبُ كيف كان الصحابةُ والتابعون قيلَ وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ أَهَلْ (1) كانوا مهتدين بالنُّصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟! حتى جاء المتأخرون أعلمَ __________ (1) كذا بالأصول.

(3/1094)


منهم، وأهدى منهم، هذا ما لا يظنُّه من به رَمَقٌ من عقل (1) أو حياء، نعوذُ بالله من الخذلان؛ ولكن من أوتي فَهمًا في الكتاب وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - استغنى (2) بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفَضْلُ العظيم، وهذا الفَصْل لو بُسِط كما ينبغي (3) لقام منه عدة: أسفار، ولكن هذه لفظات تشيرُ إلى ما وراءَها. فائدة قال ابن عقيل: يحرم خَلْوةُ النساء بالخِصْيان والمَجْبُوبينَ؛ إذ غايةُ ما تجد (4) فيهم عدمُ العضو أو ضعفه، ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع بحسِّهم من القبلة واللمس والاعتناق. والخصِيُّ يقرعُ قرعَ الفحل، والمجبوبُ يُسَاحِقُ، ومعلومٌ أن النساء لو عَرَض فيهنَّ حبُّ السِّحَاق منَعْنا خَلْوَةَ بعضِهنَّ ببعض، فأولى أن نمنع خَلْوةَ من هو في الأصل على شهوته للنساء. فائدة عزَّى بعضُ العلماءِ رجلًا بطفلة فقال له: قد دخل بعضُك الجَنَّةَ فاجتهد أن لا تَتَخَلَّفَ بقيَّتُك (5) عنها. قلت: وفي جواز هذه الشَّهادة ما فيها، فإنا وإن لم نشُك أن __________ (1) استعمل ابن القيم هذا التعبير أيضًا في "مفتاح دار السعادة": (3/ 97). (2) (ق) ما: "علم استغناءه"، و (ع): "استغناه". (3) "كما ينبغى" ليست في (ق). (4) (ق وظ): "تجدد"!. (5) (ق): "نفسك".

(3/1095)


أطفال المؤمنين في الجنة، لا نشهدُ لمُعَيَّنٍ أنه فيها، كما نشهدُ لعموم المؤمنين بالجنة، ولا نشهدُ بها لمعيَّنٍ سوى من شهد له النَّصُّ. وعلى هذا يُحمل حديث عائشة، وقد شهدت للطفل من الأنصار بأنه عصفور من عصافير الجنة. فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُدْرِيكِ" (1)؟. وهكذا نقول لهذا المُعَزِّي: وما يُدريكَ أنَّ بعضَ المُعَزَّى دخل الجنة؟! وسرُّ المسألة الفرقُ بين المعيَّنِ والمُطْلَق في الأطفال والبالغينَ، والله أعلم. فائدة قوله في حديث الجمعة: "وطُوِيتِ الصُّحُف" (2)، أي: صحفُ الفَضلِ، فأما صحفُ الفرض فإنها لا تُطوى (ق/268 ب) لأن الفرض يسقطُ بعد ذلك. فائدة عن أحمدَ في الصَّيد إذا أوْجَبه، والشَّاة إذا ذبحها، ثم سقطت في ماء هل تباحُ؟ على روايتين. وسئِلَ بعض أصحابنا عن هؤلاء الشَّوَّائين يذبحون الدجاج ويرمون به في ماء السَّمْط (3) وهو يضطربُ؛ فخرَّجه على هاتين الروايتين، وصحح الإباحة قال: لأن ذلك: الاضطرابَ ليس له حُكْمُ الحياةِ. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2662)، بنحوه من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (2) أخرجه البخاري رقم (929)، ومسلم رقم (850) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (3) أصل السَّمط: أن يُنزع صوف الشاة المذبوحة بالماء الحار. "اللسان": (7/ 322).

(3/1096)


فائدة اسْتدِل على تفضيل النِّكاح على التَّخَلِّي لنوافل العِبادة: بأن الله عز وجل اختار النكاحِ لأنبيائه ورسله، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وقال في حق آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] واقتطع من زمن كليمهِ عشرَ سنينَ في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلومٌ مقدارُ هذه السنينَ العشرِ في نوافل العبادات. واختار لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضلَ الأشياء فلم يخْتَر له ترك النكاح بل زوَّجه بتسعٍ فما فوقهن، ولا هَدْيَ فوقَ هديه. ولو لم يكنْ فيه إلا سرورُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم المباهاة بأمَّتِهِ. ولو لم يكن فيه إلا أنه بِصَدَدِ أنه لا ينقطعُ عملُهُ بموته. ولو لم يكُنْ فيه إلّا أنه يخرجُ من صُلْبه من يشهدُ للهِ بالوحدانية ولرسوله بالرسالة. ولو لم يكن فيه إلا غضُّ بصره، وإحصانُ فرجه عن التفاتِهِ إلى ما حرَّم اللهُ. ولو لم يكن فيه إلا تحصينُ امرأةِ يُعِفُّها اللهُ به، ويُثيبُه على قضاء وَطَرِه ووَطَرِها، فهو في لَذاتِه وصحائفُ حسناته تتزايَدُ. ولو لم يكنْ فيه إلا ما يُثابُ عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللُّقمة إلى فيها. ولو لم يكن فيه إلا تكثيرُ الإسلام وأهله وغيظُ أعداء الإسلام.

(3/1097)


ولو لم يكنْ فيه إلا ما يترتَّب عليه من العبادات التي لا تحصل للمُتخَلِّي للنوافل. ولو لم يكن فيه إلا تعديلُ قوته الشَّهوانية الصَّارفة له عن تعلُّق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه، فإن تعلُّقَ القلب بالشَّهوة ومجاهدته عليها تصدُّه عن تعلّقِه (1) بما هو أنفعُ له، فإن الهمَّة متى انصرفت إلى شيءٍ انصرفتْ عن غيره. ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبناتٍ إذا صَبَر عليهن وأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النار. ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدَّم له فرَطين لم يبلغا الحِنْثَ أدخلَه الله يهما الجنَّةَ. ولو لم يكن فيه إلا استجلابُه عونَ الله له فإن (ظ / 188 أ) في الحديث المرفوع: "ثَلاثَةٌ حَقٌّ علَى اللهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكحُ يُريدُ العَفَافَ. وَالمُكَاتِبُ يُرِيد الأَدَاءَ، وَالمُجَاهِدُ" (2). فائدة اسْتُدِل (ق/ 269 أ) على وجوب الجماعة: بأن الجَمع بين الصَّلاتين شُرع في المطر لأجلْ تحصيل الجماعة، مع أن إحدى الصلاتين قد وقعتْ خارج الوقت، والوقت واجبٌ، فلو لم تكنِ الجماعةُ واجبة لما تُرِك لها الوقت الواجب. __________ (1) (ق): "تعلق قلبه". (2) أخرجه أحمد (12/ 379) رقم 7416)، والترمذي رقم (1655) وابن ماجه رقم (2518)، والنسائي: (6/ 61) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. والحديث صححه ابن حبان "الإحسان": (9/ 339)، والحاكم: (2/ 160)، وحسنه الترمذي والبغوي.

(3/1098)


اعْتُرِض على ذلك: بأن الواجبَ قد يسقط لغير الواجب، بل لغير المستحَبِّ، فإن شطر الصلاة يسقطُ لسفر الفُرْجة والحجارة، ويسقط غسلُ الرجلين لأجل لبس الخُفِّ، وغايتُهُ أن يكون مباحًا. وهذا الاعتراضُ فاسدٌ؛ فإن فرض المسافر ركعتين، فلم يسقطِ الواجبُ لغيرِ الواجب، وأيضًا فإنه لا محذورَ في سقوط الواجب لأجل المباح، وليس الكلامُ في ذلك، وإنما المستحيلُ أن يُراعى في العبادة أمرٌ مستحبٌّ يتضمَّن فواتَ الواجب، فهذا هو الذي لا عهدَ لنا في الشريعة بمثله ألبتةَ، وبذلك خرج الجواب عن سقوط غسل الرجلين لأجل الخُفِّ. واسْتُدِلَّ على وجوبها: بأن الله تعالى أمَرَ بها في صلاة الخوف التي هي محل التخفيف، وسقوط ما لا يسقطُ في غيرها، واحتمالُ ما لا يحتمل في غيرها، فما الظن بصلاة الآمنِ المقيم؟! فاعْتُرِض على ذلك: بأن المقصودَ الاجتماعُ في صلاة الخوف، فقصد اجتماع المسلمين وإظهار طاعتهم وتعظيم شعار (1) دينهم، ولاسيما حيث كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان المقصودُ أن يظهروا للعدوِّ طاعةَ المسلمين له، وتعظيمهم لشأنه، حتى إنهم في حال الخوف الذي لا يبقى أحد مع أحد يتَّبعونه ولا يتفرَّقون عنه ولا يفارقونه بحالٍ، وهذا كما جرى لهم في عُمْرة القضاء معه حتى قال عرْوَةُ بن مسعود: لقد وفَدْتُ على الملوك -كسرى وقيصر- فلم أرَ ملِكًا يعظِّمُهُ أصحابُة ما يُعَظِّمُ محمدًا أصحابُهُ (2). __________ (1) (ع): "شعائر". (2) أخرجه البخاري رقم (1694) من حديث المِسوَر -رضي الله عنه- في قصة الحديبية.

(3/1099)


والذي يدلُّ على هذا: أنا رأينا الجماعةَ تَسْقطُ عند المطر الذي يبلُّ النعال، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: "ألا صَلّوا في رِحَالِكُمْ" (1)، والجمعةُ تسقطُ بخشية فوات (2) الخبز الذي في التَّنُور، مع كون الجماعة شرطًا فيها، وتسقطُ: خشية مصادفة غريمٍ يؤذيه. ومعلومٌ أن عذرَ الحرب ومواقَفَةَ (3) الكفار أعظمُ من هذا كله، ومع هذا فأقيم شعارُها في تلك الحال، فدلَّ على أن المقصود ما ذكرنا. قلت: ونحن لا ننكِرُ أن هذا مقصودٌ أيضًا مضمومٌ إلى مقصود الجماعة، فلا منافاةَ بينه وبين وجوبِ الجَماعة، بل إذا كان هذا أمرًا مطلوبًا فهو من أدلِّ الدلائل على وجوب الجماعة في (ق/269 ب) تلك الحال، ومع أن هذا مقصود أيضًا في اجتماع المسلمين في الصلاة وراءَ إمامهم، وأسباب العبادات التي شرعت لأجلها لا يشرَطُ دوامُها في ثبوت تلك العبادات، بل تلك العباداتُ تستقرُّ وتدومُ، وإن زالت أسباب مشروعيَّتها. وهذا كالرَّمَل في الطَّواف والسَّعي بين الصَّفا والمروة. ونظير هذا اعتراضهم على أحاديث الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة، بأن المقصودَ بها الإعلام بجواز العُمرة في أشهر الحجِّ مخالفة للكفار. فقيل لهمك وهذا من أدلِّ الدلائل على استحبابه ودوام مشروعيته، فإن ما شُرِع من المناسك قصدًا لمخالفة الكفار فإنه دائمُ المشروعيَّة إلى يوم القيامة. كالوقوف: بعَرفة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالَفَهُم ووقف بها وكانوا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (632)، ومسلم رقم (697) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (2) (ع): "بفوات". (3) (ع): "ومواقفته".

(3/1100)


يقفون بمُزْدلفة، فقال: "خَالَفَ هَدْينا هَدْيَ المُشْرِكينَ" (1)، وكالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قبلَ طلُوع الشَّمس، فإنهم كانوا لا يدفعون منها حتى تشرقَ الشمسُ، فَقَصَد مخالَفَتهم وصارت سنَّة إلى يوم القيامة، وهذه قاعدةٌ من قواعد الشرع: أنَّ الأحكامَ المشروعة لهذه الأسباب في الأصل لا يشترطُ في ثبوتها قيامُ تلك الأسباب؛ فلو كان ما ذكرتم من الأسباب في كون الجماعة مأمورًا بها في صلاة الخوف هو الواقعَ، لم يلزمْ مه سقوطُ الأمر بها عند زوال تلك الأسباب، وفَتحْ هذا الباب يفضي إلى إسقاطِ كثيرٍ من السُّنن، وذلك باطلٌ. فائدة (2) الخلافُ في كون عائشة أفضلَ من فاطمة أو فاطمة أفضلُ، إذا حُرِّرَ محلُّ التفضيل صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل (3) لا يستقيمُ. فإن أُريْدَ بالفضل كثرةُ الثواب عند الله؛ فذلك أمر لا يُطَّلَعُ عليه إلا بالنَّصَّ؛ لأنه بحَسْب تفاضُل أعمال القلوب لا بمجرَّد أعمال الجوارح، وكم من عامِلَين أحدُهما أكثرُ عملًا بجوارحه، والآخرُ أرفعُ درجة منه في الجنة. وإن أُريْدَ بالتفضيل التفضيل بالعلم؛ فلا ريبَ أن عائشة أعلمُ وأنفعُ للأمَّة، وأدَّت إلى الأمَّة من العلم ما لم يؤَدِّ غَيْرُها، واحتاج إليها خاصُّ الأمَّةِ وعامَّتها. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1665)، ومسلم رقم (1219) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (2) (ق): "مسألة". (3) "صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل" سقطت من "ظ".

(3/1101)


وإن أريد بالتفضيل شرَف الأصل وجلالة (ظ/ 188 ب) النَّسَب؛ فلا ريب أن فاطمةَ أفضل، فإنها بضعةٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك اختصاصٌ لم يَشْرَكْها فيه غيرُ إخوتها. وإن أريد السيادةُ؛ ففاطمةُ سيّدَةُ نساء الأمَّة (1). وإذا ثبتتْ (2) وجوهُ التفضيل وموادُّ (3) (ق/270 أ) الفضل وأسبابُه؛ صارَ الكلامُ بعلمٍ وعدل، وأكثرُ الناس إذا تكلَّم في التفضيل لم يفصِّلْ جِهَات الفضل ولم يوازن بينها، فيبخسُ الحق، وإن أنْضَافَ إلى ذلك نوع تعصُّبٍ وهوىً لمن يُفَضَلُهُ تكلَّمَ بالجهلِ والظلمِ. وقد سُئل شْيخُ الإسلام ابن تيميَّة عن مسائلَ عديدةٍ من مسائلِ التَّفضيل فأجاب فيها بالتَّفصيل الشافي: فمنها: أنه سئِل عن تفضيل الغَنِيِّ الشَّاكر على الفقير الصابر أو بالعكس؟ فأجاب بما يشفي الصدور فقال: أفضلُهما أتقاهما لله تعالى، فإن استويا في التَّقوى استويا في الدَّرَجة (4). ومنها: أنه سئل عن عشْر ذي الحِجَّة والعشر الأواخر من رمضانَ أيُّهما أفضل؟ فقال: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضانَ، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3624)، ومسلم رقم (2450) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (2) (ق): "تبينت". (3) كذا في (ع وق)، و (ظ): "موارد". (4) تكلم شيخ الإسلام على هذه المسألة في "الفتاوى": (11/ 21، 122، 195) وغيرها، وله فيها مصَّنف مفرد، ذكره ابن رُشيق ضمن مؤلفاته، انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام": (ص/ 249).

(3/1102)


وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجوابَ وجده شافيًا كافيًا، فإنه "لَيْسَ مِن أيام العَملُ فِيها أحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أيامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ" (1) وفيهما يوم عرفة ويوم النَّحر ويوم التَّرْوية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالى الإحياء التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحييها كلَّها (2)، وفيها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يُمكنهُ أن يُدْلِى (3) بِحُجَّةٍ صحيحةٍ (4). ومنها: أنه سُئِلَ عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أيُّهما أفضلُ؟ فأجاب: بأن ليلة الإسراء أفضلُ في حقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وليلةُ القدر أفضلُ بالنسبة إلى الأمّة، فحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اختصَّ به ليلة المعراج منها أكملُ من حظِّه من ليلة القدر، وحظُّ الأمَّةِ من ليلة القدر أكملُ من حظِّهم من ليلة المعراج وإن كان لهم فيها أعظمُ حظٍّ؛ لكن الفضل والشَّرَف والرتبة العليا إنما حصلتْ فيها لمنْ أُسرِيَ به - صلى الله عليه وسلم - (5). ومنها: أنه سئِلَ عن يوم الجمعة ويومِ النحر أيهما أفضل (6)؟ فقال: يومُ الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحرِ أفضلُ أيام العام، وغيرُ هذا الجواب لا يلمُ صاحبه من الاعتراض الذي لا __________ (1) أخرجه البخاري عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - رقم (969). (2) أخرجه البخاري رقم (2024)، ومسلم رقم (1174) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) (ق وظ): "يدل". (4) انظر "الفتاوى": (25/ 287) وهو منقول من هنا. (5) انظر "الفتاوى": (25/ 286)، وهو منقول من هنا، وانظر: "زاد المعاد": (1/ 57). (6) "أيهما أفضل" من (ع).

(3/1103)


حيلةَ في دفعه (1). ومنها: أنه سئِلَ (2) عن خديجةَ وعائشةَ أُمَّي المؤمنين، أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن سبقَ خديجة وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرَها وقيامَها في الدين، لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثيرُ عائشةْ في آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمَّة، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجةُ ولا غيرها مما تميَّزت به عن غيرها، فتأمَّلْ هذا الجواب الذي إذا أجبْتَ (3) بغيره من التفضيل مطلقًا لم تتخلَّصْ من المعارضة (4). ومنها: أنه سئل عن صالحي بني آدَمَ والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال (ق/ 270 ب) النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإنَّ الملائكةَ الآن في في الرَّفيق الأعلى منَزَّهِين عما يلابسُهُ بنو آدم مستغرقون في عبادة الرَّبِّ، ولا ريبَ أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حالُ صالحي البشر أكملَ من حال الملائكة (5). وبهذا التفصيل يتبيَّنُ سرُّ التفضيل، وتتَّفِقُ أدِلَّة الفريقين، ويُصالَح كلُّ منهم على حقه، فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرفَ أسبابَ __________ (1) انظر: "الفتاوى": (25/ 288 - 289). (2) سقط السؤال السابق بكامله إلى هنا من (ق). (3) (ظ)،: "لو جئت". (4) انظر: "الفتاوى": (4/ 393، 394). وفي (ع) بعدها: "يأتي تتمة هذه الفائدة وهو قوله: ومنها: أنه سُئل عن صالحي ... " فأخر الجواب إلى آخر (ق/ 65 ب). (5) انظر: "الفتاوى" (4/ 350 - 392) وهي رسالة خاصة بهذه المسألة.

(3/1104)


الفضل (1) أولاً، ثم درجاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيًا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثًا كثرةً وقوةً، ثم اعتبار تفاوُتها بتفاوُت محلِّها رابعًا، فرُبَّ صفة هي كمالٌ لشخص وليست كمالًا لغيره، بل كمالُ غيرِهِ بسواها، فكمالُ خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه. وكمالُ ابن عباس بفقهه وعلمه. وكمال أبي ذرٍّ بزهده وتجرُّده عن الدنيا، فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلَّمُ في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهلُ من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعدُ من الهوى والغرض. وهاهنا نكتةٌ خفيَّةٌ لا يتنبَّهُ لها إلا منْ بصَّرَهُ اللهُ، وهي: أن كثيرًا ممن يتكلَّمُ في التفضيل يستشعرُ نسبتَه وتعلقَه بمن يفَضِّله ولو على بُعْد، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبةُ والتعلُّقُ مُهَيِّجةً له على التفضيل، والمبالغة فيه، واستقصاء محاسن المُفَضَّل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضَّل عليه بالعكس. ومن تأمَّل كلامَ أكثر الناس في هذا الباب رأى (ظ / 189 أ) غالِبَهُ غيْرَ سالم من هذا، وهذا منافٍ لطريقة العلم والعدل التي لا يقبلُ اللهُ سواها، ولا يرضى غيْرَها، ومن هذا تفضيلُ كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ، كلٌّ منهم لمذهبه أو طريقته أو شيخه، وكذلك الأنسابُ والقبائلُ والمدائن والحِرَف والصناعات، فإن كان الرجلُ ممن لا يُشَكُّ في علمِه وورَعِهِ خِيفَ عليه من جهة أخرى، وهو أنه يشهدَ حظَّه ونفْعَه المتعلق بتلك الجهة، ويغيب عن نفع غيره بسواها؛ لأن نفعه مشاهدٌ له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضِّلُ __________ (1) (ق): "سر التفضيل".

(3/1105)


ما كان نفعه وحظُّه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه، فهذه نكتٌ جامعةٌ (ق/271 أ) مختصرة، إذا تأمَّلَها المنصفُ عظُمَ انتفاعُهُ بها، واستقامَ له نظَرُهُ ومناظرته، والله الموفق. فائدة (1) اختلف ابنْ قُتَيْبَةَ وابنُ الأنباريِّ في السَّمع والبَصَر أيهما أفضل (2)؟. ففضَّل ابنُ قتيبهَ السَّمع ووافقه طائفة، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)} [يونس: 42، 43]، قال: فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر كان دليلًا على أن السمع أفضل. قال ابنُ الأنباري: هذا غلط، وكيف يكون السَّمع أفضلَ وبالبصر يكون الإقبال والإدبار، والقربُ إلى النجاة والبعد من الهلاك، وبه جمالُ الوجه وبذهابه شيْنُهُ، وفي الحديث: "مَنْ أذْهَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ فصَبرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الجَنَّةِّ" (3). وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه اللهُ تعالى مع السَّمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر، إذ كأنه (4) أرادَ إبصارَ القلوب، ولم يُرِدْ __________ (1) هذه الفائدة بتمامها ساقطة من (ق). (2) تقدم البحث في هذه المسألة في أول الكتاب (1/ 123 - 130)، وكلام ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن": (ص/7)، وكلام ابن الأنباري لعله في كتابه "المشكل في الرد على أبي حاتم وابن قتيبة"، ذكره الخطيب في "تاريخه": (3/ 184)، والقفطي في "الإنباه": (3/ 204). أو في تفسيره. (3) أخرج البخاري رقم (5653) نحوه من حديث أنسٍ، وأخرجه الترمذي بهذا اللفظ رقم (2401)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (4) (ع وظ): "كان".

(3/1106)


إبصارَ العيون، والذي يُبْصِرُهُ القلبُ هو الذي يعقلُه؛ لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقفون على صحَّتِهِ ثم يكذبونه، فأنزل الله فيهم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} أي: المُعرضين، {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} بعين نقص (1)، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: المعرضين، {وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) قال: ولا حجَّة في تقديم السَّمع على البصر هنا، فقد أخبر في قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24]. قلت: واحتجَّ مفضلوا السمع بأن به ينال غايةَ السعادة منْ سمع كلام الله وسماع كلام رسوله. قالوا: وبه حصلتِ العلومُ النافعة. قالوا: وبه يدْرَكُ الحاضرُ والغائبُ، والمحسوسُ والمعقولُ، فلا نسبةَ لمدْرَكِ البصَر إلى مدْرَكِ السَّمع. قالوا: ولهذا يكون فاقدُه أقلَّ علمًا من فاقد البَصرَ، بل قد يكون فاقدُ البصر أحدَ العلماء الكبار، بخلاف فاقد صفة السمع، فإنه لم يُعْهَد من هذا الجِنس عالمٌ ألبتة. قال مفضلوا البصر: أفضلُ النعيم النظرُ إلى الرَّبِّ تعالى وهو يكون بالبصر، والذي يراه البصرُ (2) لا يقبل الغلطَ، بخلاف ما يُسْمعُ (3) فإنه يقعُ فيه الغلط والكَذِب والوهم، فمدْرَكُ البصرِ أتمُّ وأكملُ. قالوا: وأيضًا فمحله أحسن وأكملُ وأعظمُ عجائبَ من محل السَّمع؛ وذلك لشرفه وفضله. قال شيخنا: والتحقيق أن السمع له مزِيَّةٌ والبصر له مزية، فمزيةُ السمع العموم والشمول، ومزيَّة البصر كمال الإدراك وتمامه، فالسمع __________ (1) (ع): "نقصان". (2) (ع): "البصير". (3) (ع): "السمع".

(3/1107)


أعم وأشمل، والبصر أتم وأكمل، فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه، وهذا أفضل: من جهة كمال إدراكه وتمامه (1). فائدة إذا تزوجها على خمرٍ أو خنزير صح النكاح واستحقت مهر المِثْل، ولو خالعها على خمر أو خنزير صحَّ الخُلْعُ، ولم تستحق عليه شيئًا في أحد القولين، والفرقُ بينهما عند بعض الأصحاب: أن البُضْعَ مُتقَوِّمٌ في دخوله إلى ملك الزوج ولا يُتَقَوَّمُ في خروجه عن ملكه، أما تقوُّمه داخلًا فلِتَعَلُّقِ أحكام المقوّمات به؛ من استقرار المَهر بالدُّخول، ووجوب المَهر بوطء الشُبْهة، ولهذا يزوج الأب ابنه الصغير (ظ/189 ب) ولا يخلَعُ ابنتَهُ الصغيرةَ بشيء من مالِها، ولا فرقَ بينهما إلا أن الابن حصل في ملكه ما له قيمةٌ، والبنت أخرج ما لَها في مقابلة ما لا قيمةَ له في خروجه إليها، ولو كان خروجُ البُضْع من ملك الزوج متَقَوِّمًا، لكان قد بذَل ما لَها في ما له قيمة، وذلك لا يمتنعُ. ويدُلُّ عليه أنه لو طلَّق زوجَتَهُ في مرض موته لم يُعْتَبَرْ من الثُّلُث، ولو كان لخروج البُضع قيمةٌ لاعتبر من الثُّلُث، وأيضًا لو خالعها في مرض موته بدون مهر مثلها صَحَّ الخلعُ، ولو كان خروجُه متقوِّمًا لكان بمثابة ما لو باع سلعةً بدون ثمنها، فإنه محاباةٌ محسوبةٌ من الثُّلُث، ويدلُّ عليه أيضًا أنه يطلق عليه القاضي في الإيلاء والعَنَت والإعسار بالنَّفَقَة وغير ذلك مجانًا، ولا عهدَ لنا في الشريعة بمتقوم يخرج من مُلك مالكه قهرًا بغير عوض، ويدلُّ عليه: أنه لو كان لخروجه قيمةٌ لجاز للأب أن يُخرِجَهُ عن ابنته الصغيرة بشيء من __________ (1) انظر: "درء التعارض": (7/ 325)، و"الرد على المنطقيين": (ص/ 96).

(3/1108)


مالها، كما يشتري لها عقارًا أو غيره بمالها (1). قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تَيْميِّةَ يضعِّف هذا القول جدًّا، ويذهبُ إلى أن خروج البُضع من ملكه متقوِّمٌ، ويحتجُّ عليه بالقرآن (2)، قال: لأن الله تعالى أمر المسلمين أن يردُّوا إلى من ذهبت امرأته إلى الكُفَّار مهرَهُ إذا أخذوا من الكفَّار مالًا بغنيمة أو غيرها، فقال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] ومعنى عاقبتم: غنمتم (3) وأصبتم منهم عُقْبَى وهي الغنيمة، هذا قول المُفَسِّرين. والمقصود أنه قال: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} وهو: المهر، وقال تعالى في هذه القصة: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] فأمر المسلمين أن يسألوا مهورَ نسائهم، ويسألَ (ق/ 271 ب) الكفارُ مهورَ نسائهم (4) اللاتى هاجرنَ وأسلمنَ، ولولا أن خروجَ البُضْع متقوِّمٌ لم يكن لأحدٍ من (5) الفريقين على الآخر مهر. وأختلف أهلُ العلم في ردِّ مهر منْ أسلم من النساء إلى أزواجهن في هذه القصة، هل كان واجبًا أو مندوبًا؟ على قولين، أصلهما (6): أن الصُّلحَ هل كان قد وقع على ردِّ النساء أم لا؟. __________ (1) (ق): "بشيءِ من مالها". (2) انظر: "الاختيارات": (ص/ 238 - 240). (3) (ع وظ): "عاقبتم: منهم فغزوتم وأصبتم ... ". (4) "ويسأل الكفار مهور نسائهم" سقطت من (ع). (5) (ق وظ): "لإحدى". (6) (ق): "أصلحهما"!.

(3/1109)


والصحيح: أن الصُّلْح كان عامًّا على ردِّ من جاء مسلِمًا مطلَقًا ولم يكن فيه تخصيصٌ، بل وقع بصيغة "من" المتناولة للرجال النساء، ثم أبطلَ الله تعالى منه ردَّ النساء، وعوَّض منه ردَّ مهورِهِنَّ، وهذه شبهة من قال: إن حكمَ هذه الآية منسوخٌ، ولم يُنسْخ منه إلا ردُّ النساء خاصَّةً، وكان ردُّ المهور مأمورًا به، والظاهر أنه كان واجبًا؛ لأن الله تعالى قال: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}، فثبتَ أن ردَّ المهور حقٌّ لمن يسأله فيجُب رَدُّهُ إليه. قال الزُّهريُّ: ولولا الهدنةُ والعهدُ الذي كان بينَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش يومَ الحُدَيْبيَة لأمسك النساءَ ولم يَرْدد الصَّدَاقَ، وكذلك كان يصنعُ بمن جاءه منَ المُسلمات قبل العهدِ (1). فلما نزَلَتْ هذه اْلآية أقرَّ المسلمونَ بحكم الله وأدُّوا ما أُمِرُوا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقِرُّوا بحكم الله تعالى، فيما أمر مبن ردِّ نفقات المسلمين إليهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] فهذا ظاهر القرآن يدلُّ على أن خروج البُضْعِ من ملك الزَّوج متقوِّمٌ. قلت: ويدلُّ عليه أن الشارع كما جعله متقوِّمًا فى دخوله فكذلك في خروجه، لأنه لم يدخله إلى مُلك الزوج إلا بقيمة، وحُكْم الصحابة - رضي الله عنهم- في المفقود بما حكموا به منْ ردِّ صداق امرأته إليه بعد دخول: الثاني بها = دليلٌ على أنه متقوِّم في خروجه، __________ (1) أخرجه الطبري: (12/ 70) عن الزهري، وابن هشام في "السيرة": (4/ 326 - 327) عن عروة بن الزبير.

(3/1110)


وهذا ثابتٌ عن خمسة من الصحابة منهم عمرُ وعليٌّ (1). قال أحمد: أيّ شيء يذهب من خالَفَهُمْ؟ فهذا القرآن والسُّنَّة وأقوال الخلفاء لرَّاشدين دالَّةٌ على تقويمه، ولو لم يكنْ له قيمةٌ لما صحَّ بذلُ نفائس الأموال فيه، بل قيمتُه عند الناس من أغلى القيم، ورغبتهم فيه من أقوى الرَّغَبات، وخروجه عن الرجل (ظ / 190 أ) من أعظم المغارم، حتى يعده غرْمًا أعظمَ من غرم المال. قلت لشيخنا: لو كان خروجُه من ملْكه متقوِّمًا عليه لكانت المرأةُ إذا وطِئَتْ بشُبهة يكون المهرُ للزوج (ق/272 أ) دونَها، فحيث كان المهرُ لها دلَّ على أن الزوج لم يملك البُضع، وإنما مَلَكَ الاستمتاعَ، فإذا خرج البُضع عنه لم يخْرُجْ عنه شيءٌ كان مالِكَهُ. فقال لى: الزوجُ إنما ملَكَ البُضْعَ يستمتعَ به، لم يملكه ليُعَاوَضَ عليه، فإذا حصلَ لها بِوطْءِ الشُّبهة عِوَضٌ كان لها، لأن عقد النكاح لم يقتض (2) ملكَ الزوج المعاوضةَ عن بُضْعِ امرأتِهِ، فصار ما يحصل لها بجناية الواطئ بمثابة ما يحصل لها بغيره من أُروش الجِنَايات. قلت له: فما تقولُ في خُلْع المريض بدون مهر المثل؟ فقال: هو يملكُ إخراجَ البُضْع مجانًا بالطَّلاق، فإذا أخَذَ منها شيئًا فقد زاد الوَرَثّةَ خيرًا، قال: ونحن إنما منعناه من المُحاباة فيما ينتقلُ إلى الوَرَثة؛ لأنه يُفَوِّتُهُ عليهم، وبُضْعُ الزوجة لا حَقَّ للوَرَثَةِ فيه ألبتَّةَ ولا ينتقلُ إليهم، فإذا أخرجَهُ بدون مهر المِثْل لم يُفَوِّتْهُمْ حقًّا ينتقل إليهم. انتهى. __________ (1) أخرجه البيهقي: (7/ 446 - 447). (2) (ق وظ): "يقبض".

(3/1111)


قلت: وأما منعُ الأب مِنْ خلع ابنتِهِ بشيءٍ من مالها فليست مسألةَ وِفاق، بل فيها قولان مشهوران، ونحن إذ قلنا: إن الذي بيده عُقدة النكاح هو الأبُ، وإن له أن يعفوَ عن صَدَاق ابنته قبل الدخول، وهو الصحيحُ لبضعة عشر دليلًا قد ذكرتها في موضع آخر (1)، فكذلك خلعُها بشيءٍ منْ مالها، بل هو أولى؛ لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانًا فَلأَنْ يملِكَ إسقاطَهُ ليُخَلَصَها من رقِّ الزَّوج وأسرِهِ ويُزَوِّجَها بمنْ هو خيرٌ لها منه = أولى وأحرى. وهذه رواية عن أحمد ذكرها أبو الفرج في "مبهجه" (2) وغيره، واختارها شيخُنا. وأما قولُكم: إنه يخرج من مُلْكِهْ قهرًا بغير عِوَض فيما إذا طلَّق عليه الحاكم لإعسار أو عَنَت أو غيرها، فجوابه: أن الشارع إنما مَلَّكهُ البُضْعَ بالمعروف، وإنما ملَّكَه بحقِّه، فإذا لم يستمتعْ به بالمعروف الذي هو حقُّه، أخرجه الشارع عنه، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فأوجب الله على الزوج أحدَ الأمرين، إما أن يُمْسِكَ بمعروف وإما أن يُسرِّحَ بإحسان، فإذا لم يُمسِكْ بمعروف ولم يُسَرحْ بإحسان (3) سرَّح الحاكم عليه قهرًا. __________ (1) تقدمت الإشارة إلى هذا البحث (3/ 1031) وانظر التعليق هناك. (2) هو: أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي الحنبلي ت (486)، من أصحاب القاضي أبي يعلى، له كتب منها "المبهج" نقل منه ابن رجب: بعض غرائبه. "ذيل الطبقات": (1/ 68 - 73). (3) من قوله "فإذا لم ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1112)


قلت لشيخنا: فلو قُتِلَتِ الزوجة لم يجبْ للزوجِ المهرُ على قاتلها، مع كونه قد أخرج البُضْع عن مُلْكه وفوَّته إياه، فلو كان خروجُه متقوِّمَا لوجب له على القاتل المَهْرُ. فقال: النكاحُ معقودٌ على مُدَّة الحياة، فإذا قُتِلَتْ زال وقتُ النكاح وانقضى أمدُه، فلا يجِبُ للزوج شيء بحد ذلك كما لو ماتتْ. قلت له: فلو أفسد مفسدٌ نكاحَها بعد (ق/272 ب) الدُّخول لاستقرَّ المهرُ على الزوج ولم يرجعْ على المفسد، فضَعَّف هذا القول، وقال: عندي أنه يرجعُ به وهوَ المنصوص عن أحمد، وهو مبنيٌّ على هذا الأصل، فإذا ثبت أن خروجَ البُضْع من ملكه متقوِّم فله قيمتهُ على من أخرجه من ملكه. قلت (1): ويَرِدُ عليه ما لو أفسدت نكاحَ نفسها بعد الدخول، فإن مهرَها لا يسقطُ قولًا واحدًا، ولم أسألْه عن ذلك، وكان يمنعُ ذلك، ويختارُ سقوط المهر ويُثبتُ الخلاف في المذهب، ولا فرقَ بين ذلك وبين إفساد الأجنبي، فطَرَد قولَ من طَرَد هذا الأصل، وقالَ بالتقويم في حال الخروج أن يسقطَ المهر إذا أفسدته هي، ولو قيل: إن مهرَها لا يسقطُ بذلك قولًا واحدًا. وإن قلنا: بأنَّ خُروجَ البُضْع متقومٌ فيجب لها (ظ / 190 ب) مهرُها المسمَّى في العقد، وعليها مهرُ المِثل وقتَ الإفساد اعتبارًا بخروجهِ (2) عن ملكه حينئذٍ -لكان مُتَوَجِّهًا، ولكن يُشكِل على هذا أن الله -سبحانه- اعتبر في خروج البُضْع ما أنفقَ الزَّوْجُ، __________ (1) هنا حاشية في (ع) نثبت ما ظهر منها: "الشيخُ في "المغني": (11/ 333) ذكر أنه لا يعلم خلافًا في عدم سقوطه بإفسادها بعد الدخول؛ ولكن في ... شرح الهداية لأبي البركات ما يقتضي أن (فيه) خلافًا" اهـ. (2) (ظ): "لأن اعتبار خروجه ... ".

(3/1113)


وهو المسمَّى لا مهر المثل. وكذلك الصحابةُ حكموا للمفقود بالمسمَّى الذي أعطاها لا بمهر المثل، فطَرْد هذه القاعدة: أن مهرَها يسقطُ بإفسادها، وهو الذي كان شيخُنا يذهبُ إليه. فإن قيل: فما تقولون في شهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول أو بعده؟ قيل: أما قبلَ الدخول فيلزمُهُ نصفُ المهر، ويرجعُ به على الشهود. وفيها مأخذان: أحدهما: أنه يعوَّمُ عليه في دخوله بنصف المهر الذي غَرِمَه فيقوَّمُ عليه في خروجه بنظيره، والثاني: أنهم ألجأوه إلى غُرْمِه، وكان بصدَدِ السقوط جملة بأن ينسُبَ (1) الزوجةَ إلى إسقاطه، ورُجِّح هذا المأخذ بأنه لو كان الغرمُ لأجل التقويم للزمهم نصفُ مهر المثل؛ لأنه هو القيمةُ لا المسمَّى، وقد تقدم أن الشَّارع إنما اعتبر تقويمَهُ في الخروج بالمسمَّى لا بمهر المثل وكذلك خلفاؤُه الراشدون. فإن قيل: لو كان الغُرمْ لأجل التَّقويم للزم الشهودَ جميعُ المهر؛ لأنهم أخرجوا البُضْعَ كُلَّه من مُلكه. قيل: هو متقوِّم عليه بما بَذَلَهُ، فلما كان المبذول نصفُ المهر كان هو الذي رَجَعَ به، ولا ريبَ أنّ خروج البُضْع قبل الدّخول دونَ خروجه بعدَ الدخول، فإن المقصود بالنِّكاح لم يحصل إلا بالدخول (2)، فإذا دخل استقر له ملك البُضْع واستقر عليه الصَّداق، وأما إذا رجع __________ (1) (ع وق): "تتسبب". (2) في هامش (ع): "قد قال بموجبه الشافعي في أحد قوليه".

(3/1114)


الشهود بعد الدخول فكذلك يقول: يجبُ عليهم غُرْمُ المهر (ق/273 أ) الذي بذله الزوجُ، وهو إحدى الروايتينَ عن أحمد. فإن قيل: فما في مقابلة المهر قد استوفاه بوَطْئِهِ فلم يَفُتْ (1) عليه شيء. قيل: ليس كذلك؛ لأنه إنما بَذَلَ المهرَ في مقابلة بُضْع يَسْلَم له الاستمتاعُ به، فإذا لم يَسْلَمْ له رجع بما بذله، ويدلُّ عليه حكم الله في المُهاجرات، وحكم الصحابة في امرأة المفقود. فإن قيل: فما تقولونَ فيما إذا أفسدت امرأةٌ نكاحَه بِرَضَاع؟. قيل: إن أفسدَتْا قيلَ الدخول غَرِمَتْ نصفَ المهر، وفيه مأخذان: أحدهما: أنها قررته عليه، وهذا مأخذُ كثير من الأصحاب، لظنِّهم أنه لو كان لأجل التَقويم لغرِمت كمالَ المهر بعد الدخول والثاني: -وهو الصحيح- أنها إنما غَرِمته لأنه متقوِّم في خروجه، وقد يقوَّم بنصف المهر، وهو الذي بذله، فهو الذي يرجعُ به، وعلى هذا فإذا كان الإفسادُ بعد الدُّخول رجع عليها بكمال المهر، هذا منصوص أحمدَ في رواية ابن القاسم (2)، وقال بعضُ أصحابه: لا يرجِعُ بشيء، والمنصوصُ هو الأقوى دليلًا ومذهبًا. والله أعلم. فائدة (3) إذا خاف على نفسِه الهلاكَ، وأبى صاحبُ الطعام أن يبذُلَهُ إلا __________ (1) ق،: "يثبت"!. (2) هو: أحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد، حدَث عن الإمام بمسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة": (1/ 135). (3) (ق): "مسألة".

(3/1115)


بعقد ربا، فهل يباحُ أخذهُ منه على هذا الوجه، أو يغالبه ويقاتله (1)؟. فقال بعض أصحاب أحمد: الرِّبا عقدٌ محظور لا تُبيحُهُ الضَّرُورة، والمغالَبَةُ والمقاتلة للمانع طريق أباحَهُ الشرع، فينبغي لهَ أن يغلِبَهُ على قَدْر ما (ظ/ 191 أ) يحتاج إليه، ولا يدخل في الرِّبا، فإِن لم يقدر دخل معه في العَقد ملافظةً وعزم بقلبه على (2) أن لا يُتمِّمَ عقدَ الرِّبا، بل إن كان نسِيئًا (3) عَزَمَ على أن يجعلَ العِوَض الثابتَ في الذِّمَّة قَرضًا. ولو قيل: إن له أن يُظْهرَ معه صورة الرِّبا ولا يغالبَهُ ولا يقاتلهُ، ويكون بمنزلة المُكْرَهِ، فيعُطيه من عقد الربا صورتهُ لا حقيقَتَهُ، لكان أقوى من مقاتَلتهِ. فلو اتَّفق مثل هذا لامرأة فأبى صاحبُ الطعام أن يَبْدْلَهُ لها إلا بالفُجور بها؛ فهل يباحُ لها ذلك إذا خافتِ الهلاكَ؟ قال بعضُ أصحابنا: لها أن تبدلَ نفسَها، ويجري ذلك مجرى التهديد بقتلها من قادر، فإن المنعَ في هذا الحال قتلٌ، ولهذا يوجب القَوَدَ على صاحب الطعام إذا مَنع المضطرَّ حتى ماتَ، قال: وغاية ما يُمْكنُها مما يُبعدها عن الزنا يجب فعله بأن تقول: قدِّمْ عقد زوجيَّة على أرخص المذاهب ولو بِمُتعَة، ولا تمكِّنُهُ تمكينًا بغير عقدٍ رأسًا، مع إمكان أن يرغبَ إليه في عقدٍ على قولِ بعض أهل الإسلامِ. فلو اتَّفق مثل هذا: لِصَبِيٍّ (4) صَبَرَ لحُكْمِ الله ولقائه، (ق/273 ب) __________ (1) (ق): "أو بمغالبة ومقاتلة". (2) (ع): "فعليه"، و (ق): "وعزم على". (3) (ق): "كيسا"و (ع) غير بيّنة ويُشبِه أن تكون: "شيئًا". (4) (ظ): الرجل".

(3/1116)


ولم يَجُزْ له التمكينُ من نفسه بحال؛ لأن الضَّرَر اللاحقَ له بتمكينه أعظمُ فسادًا من الضَّرَر اللاحق له بفوات الحياة، والله أعلم. فائدة (1) رجل له على ذميٍّ دَيْن، فباع الذِّمِّيُّ خمرًا وقضاه من ثمنه، فأبى أن يأخذَه. قال الإمام أحمد: ليس له إلا أن يأخذَه أو يبرئه، واستدلَّ بقول عُصَرَ في أخذ العُشْرِ منهم من ثمنِهِ: "ولُوهُمْ بَيْعها وخُذوا العُشْرَ مِنْ أثمانِها" (2). فائدة إذا غصَبَ مالًا وبنى به رباطًا أو مسجدًا أو قنطرةً، فهل ينفعُه ذلك، أو يكونُ الثواب للمغصوب منه؟. قال ابنُ عَقِيل: لا ثوابَ على ذلك لواحدٍ منهما، أما الغاصبُ فعليه العقوبةُ، وجميع تصرُّفاته في مال الغير آثامٌ متكررة، وأما صاحبُ المال فلا وجهَ لثوابه، لأن ذلك البناء لم يكن فيه نِيَّةٌ ولا حِسبة، وما لم يكنْ للمكلَّف فيه عمل ولا نية فلا يُثابُ عليه، وإنما يطالِبُ غاصِبَه يومَ القيامة فيأخذ من حَسنَاتِهِ بقدْر ماله. قلت: في هذا نظرٌ؛ لأن النفعَ الحاصلَ للناس متولَّد من مال هذا وعمل هذا، والغاصبُ وإن عوقِبَ على ظلمه وتعدِّيه واقتَصَّ المظلومُ من حسناته فما تولَّد من نفع الناس بعَمَلِه له، وغَصْب المال عليه، __________ (1) (ق): "مسألة" وكذا الفائدتان بعدها. (2) أخرجه عبد الرزاق: (8/ 195).

(3/1117)


وهو لو غَصَبَه وفسَق به لعُوقبَ عقوبتين، فإذا غصبه وتصدَّق به أو بنى به رباطًا أو مسجدًا أو افتكَّ به أسيرًا فإنه قد عمل خيرًا وشرًّا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (1) [الزلزلة: 7، 8]. وأما ثوابُ صاحب المال؛ فإنه وإن لم يقصدْ ذلك فهو متولِّدٌ من مال اكتسبه، فقد تولَّدَ من كسبه خيرٌ لم يقصدْهُ، فيشبه ما يحصلُ له من الخير بِوَلدِه البَرِّ، وإن لم يقصدْ ذلك الخيرَ، وأيضًا فإن أخذ ماله مصيبةٌ، فإذا أنفِقَ في خيرٍ فقد تولَّدَ له من المُصيبة خيرٌ، والمصائبُ إذا وَلَّدَتْ خيرًا لم يعدم صاحبُها منه ثوابًا، وكما أن الأعمال إذا ولَّدت خيرًا أُثيبَ عليه وإن لم يقصِدْه، فالمصائبُ إذا ولَّدت خيرًا (2) لم يمتنع إن يُثابَ عليه، وإن لم يقصُدْه. والله أعلم. فائدة رجل ماتَ وترك في دينًا فورِثه ولدُهُ، ولم يستوفهِ، فهل المُطالبة به في الآخرة لهُ أو لولده؟. قال بعضُ أصحاب أحمد: المطالبةُ للابن (3)؛ لأن الإرْثَ انتقلَ عن الأب إلى الابن فصار الحقُّ له. قلت: وفي هذا نظرٌ، وينبغي التفصيلُ، فإن كان الموروثُ قد __________ (1) في هامش (ع) تعقُّبْ نصُّه: "هذا البحث ضعيف جدًّا، فإن عمل الغاصب في ذلك لم يأمر الله به، وهو ملوم معاقب على التصرف الذي لم يأذن الله فيه، فكيف يُثاب عليه" اهـ. (2) من قوله: "أثيب عليه .. " إلى هنا ساقط من (ع). (3) (ق): "للولد".

(3/1118)


عَجَز عن استيفائه وتعذَّرَ عليه، فقد وجب أجرُه له، وله (ق/274 أ) حقُّ المطالبة [لا للابن؛ لأن الإرث انتقل عن الأب إلى] (1) يوم القيامة، والحقوق الأخروية لا تُوَرَّثُ، وإن أمكنه المطالبةُ به فلم يطالبْ به حتى مات انتقلَ إلى الولد، فإذا لم يُوَفِّهِ إياه كان حقُّ المطالبة به للولد. وقد قال بعض الناس: إنه إذا لم يُوَفِّ الميتَ ولا وارثَهُ حتى مات الوارثُ وورثه آخر (ظ / 191 ب)، ثبتَتِ المطالبةُ لكلِّ واحد منهم، وتضاعفتْ عليه المطالبةُ لاستحقاق كُلِّ واحدٍ منهم ذلك الحَقَّ عليه. فائدة (2) تأمل سر {الم (1)} كيف اشتملتْ على هذه الأحرف الثلاثة، فالألفُ إذا بُدِئَ بها أولًا كانت همزةً، وهى أوَّل المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجُها من الفَمِ، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني: الحَلْقَ واللِّسان والشَّفَتَيْنِ، وترتبت (3) في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية. فهذه الحروف تعتمد (4) المخارج الثلاثة التي يتفرَّعُ منها ستة عسْر مخرجًا، فيصيرُ منها تسعة (5) وعشرون حرفا عليها مدارُ كلامِ __________ (1) بينهما من (ظ) والمطبوعات. (2) بياض في (ظ). (3) كذا استظهرتها من (ع وظ)، و (ق): "وتنزّلت". (4) (ظ): "معتمد". (5): "سبعة". والصواب المثبت، وانظر، "مفتاح دار السعادة": (2/ 216 - 217).

(3/1119)


الأمم الأوَّلين والآخرين مع تضمُّنها سرًّا عجيبًا، وهو: أن الألف البداية واللام التوسط والميم النهاية، فاشتملتِ الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكلّ سورة استُفتحتْ بهذه الأحرف الثلاثة، فهي مشتملة على بَدء الخلق ونهايته وتوسُّطه، فمشتملةٌ على تخليقِ العالم وغايَتهِ، وعلى التَّوَسُّط بين البداية والنهاية من التَّشرِيع والأوامر، فتأمَّلْ ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم. وتأمَّلِ اقترانَ الطاء بالسين والهاء في القرآن فإنَّ الطَّاء جَمَعتْ من صفات الحروف خمسَ صفات لم يجمعْها غيرُها وهي: "الجهر، والشِّدَّة، والاستعلاء، والإطباق" (1)، والسين "مهموس، رِخْوٌ، مستَفِلٌ، صَفِيريٌّ، منفتح" فلا يمكن أن يجمَعَ إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف. وتأمَّلْ السُّورَ التي اشتملتْ (2) على الحروف المفرَدة، كيف تجدُ السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك (قَ) والسورة مبنيَّةٌ على الكلمات القافيَّة من ذِكر القرآن، وذكر الخَلْق، وتكرير القول ومراجعته مرارًا، والقرب من ابن آدم، وتلقي المَلَكَيْنِ قولَ العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقَرين، والإلقاء في جهنم، والتَّقَدُّم (ق/274 ب) بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر "القَبْل" (3) مرتين، وتشقّق الأرض وإلقاء الرَّواسي __________ (1) هذه أربع صفات، والخامسة إما أن تكون "القلقلة" -وهو الأظهر كما في (شرح النونية: 1/ 309) لابن عيسى -لمقابلتها للصفير في السين، أو "التفخيم". (2) (ق): "جمعت". (3) كذا في (ع)، وفي (ق): "القيل".

(3/1120)


فيها، وبُسُوق النخل والرِّزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرارُ القول والمُحَاورة. وسرُّ آخر: وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلوِّ والانفتاح. وإذا أردت زيادةَ إيضاح هذا فتأمَّل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصُم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفَّارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بَنيه وحَلِفه ليُغْوِيَنَّهم أجمعين، إلا أهلَ الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيبُ الفَطِن: هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حَرْفها، وهذه قطرةٌ من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم. فوائد من السِّياسة الشرعية (1) نص عليها الإمام أحمد * قال في رواية المرُّوْذي وابن منصور: المُخَنَّثُ يُنفى لأنه لا يقعُ منه إلا الفسادُ والتَّعَرُّض له، وللإمام نفيُهُ إلى بلدٍ يأمنُ فسادَ أهله، وإن خاف عليهم حَبَسَهُ. *ونقل حنبلٌ عنه فيمن شَرِب خمرًا في نهار رمضان، أو أتى شيئًا نحوَ هذا أُقيم عليه الحدُّ وغلظ عليه، مثل الذي قتل في الحَرَم: دِيَةٌ وثُلُثٌ. __________ (1) (ق): "مسائل في المخنّث واللوطي وشارب الخمر في رمضان".

(3/1121)


* ونقل حرب عنه: إذا أتت المرأةُ المرأةَ تُعاقبانِ وتؤَدَّبانِ. وقال أصحاب أحمد: إذا رأى الإمامُ تحريقَ اللُّوطِيِّ بالنَّار فله ذلك (ظ/ 192 أ)؛ لأن خالد بن الوليد كتبَ إلى أبى بكر: أنه وَجَدَ في بعض ضواحي العرب رجلاً يُنْكَحُ كما تُنْكَحُ المرأةُ، فاستشار أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهمِ عليُّ بن أبي طالب -وكان أشدَّهم قولاً- فقال: إنَّ هذا الذنبَ لم تعْصِ به أمَّةٌ من الأمم إلا واحدة صنع الله بهم ما قد عَلِمْتم، أرى أن يُحْرَقُوا بالنار، فأجمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنْ يُحْرَقوا بالنار (1)، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يُحْرَقوا (2). ثم حَرَّقَهُمْ ابنُ الزبير، ثم حَرَّقَهُمْ هشام بن عبد الملك. * ونص أحمدُ فيمن طعن على الصحابة أنه قد وجبَ على السلطان عقوبتُهُ. وليس للسلطان أن يعفوَ عنه، بل يعاقبُهُ ويستتيبُهُ، فإن تاب وإلا (ق/175 أ) أعاد عليه العقوبةَ. فائدة قال ابنُ عقيل: شاهدتُ شيخَنا ومعلِّمَنا المناظرةَ: أبا إسحاق الفيروزابادي (3) لا يُخرج شيئًا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلَّمُ في مسألة إلا قَدَّمَ الاستعانةَ بالله وإخلاصَ القصدِ في نُصْرَةِ الحقِّ دونَ التَّزين والتَّحسين للخَلْق، ولا صنَّفَ مسألةً إلاّ بعد أن صلَّى رَكَعَاتٍ، فلا جَرَمَ شاع اسمُه، واشتهرت تصانيفُه شرقًا وغربًا، هذه بركاتُ الإخلاصِ. __________ (1) من قوله: "فأجمع ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) أخرجه البيهقي: (8/ 232). (3) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي الشافعى، صاحب اللمع، ت (476). "السير": (18/ 452 - 464).

(3/1122)


فائدة عُوتب ابنُ عقِيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يَدَه أكان خطأ أو واقعًا موقِعَه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يَرُبُّ ولدَه مربَّةً خاصَّةً، والسلطان يَرُبُّ العالم مربَّة عامَّةَ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ من لابَسَها، وكيف يُطْلَب من المُبتلَى بحالٍ ما يُطْلَب من الخالي عنها. فائدة أورد إلكِيا (1) الهَرَّاسِي سؤالاً على القول بكفر تارك الصلاة، وزعم أنه لا جوابَ عنه، فقال: إذا أراد هذا الرجل معاودةَ الإسلامِ فبماذا يُسلم فإنه لم يَتْرُك كلمة الإسلام؟. فأجابه ابنُ عَقيل بأن قال: إنما كان كفرُهُ بترك الصلاة لا بترك الكلمة، فهو إذا عاود فِعْل الصلاة صارت معاودَتُهُ للصلاة إسلامًا، فإن الدَّالَّ على إسلام الكافر الكلمةُ أو الصلاةُ. قلت: وهذا الذي ذكره كِيا (2) يرد عليه في كلِّ مَنْ كَفَرَ بشيء من __________ (1) (ظ): "شيخنا" وفيه بُعْد؛ لأن إلكيا من أقران ابن عقيل على أحسن الأحوال، وإلا فابن عقيل أكبر منه بعشرين عامًا، وقد نقل ابن عقيل عن إلكيا في "الفنون" ولم يطلق عليه "شيخنا" أنظر "الفنون": (1/ 162، 166، 170، 171). قال ابن خلكان في "الوفيات": (3/ 389): "وفي اللغة العجمية إلكيا هو الكبير القدر المقدَّم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الباء المثنَّاة من تحتها وبعدها ألف" اهـ. (2) كذا في (ع وق) وكذا في "الفنون" لابن عقيل، ووقع في (ظ) والمطبوعات: "شيخنا" وانظر ما سبق.

(3/1123)


الأشياء (1)، مع إتيانه بالشهادتين، وتلك صور عديدة. فائدة (2) سأل سائل فقال: إذا كانت الجنَّةُ لا موتَ فيها فكيف يأكلون فيها: لحمَ الطير وهو حيوان قد فارقته الروح؟ فأجيبَ: بأنه يجوزُ أن لا يكون ميتًا، وهذا جواب في غاية الغَثَاثَة!. قال ابنُ عقيل: وما الذي أحوجه إلى هذا والجنَّة دارٌ لا يُخْلَقُ فيها أذىً ولا نَصَبٌ، لا مطلقًا، بل لا يدخل الداخل إليها ذلك على طريق الإكرام كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119] وذلك مشروطٌ بالطاعة، فإذا جاز ذلك في حق آدَمَ عُلِم أنه ليس بواجب في حق الطير، ولا يمتنع: في قدرة اللهُ تعالى أن يكون هذا الطائر مشويًّا لا عن روُح خرجت منه، أو عن روح خرجتْ خارجَ الجنة، وولَجَ الجنة وهو لحمٌ مشويٌّ. قلت: وما الذي أوجبَ هذا التَّكَلُّفَ كُلَّه، فالجنةُ دارُ الخلود لأهلها: وسكانها، وأما الطيرُ (ق/ 275 ب) فهو نوعٌ من أنواع الأطعمة التي يحدِثُها: اللهُ لهم شيئًا بعد شيء، فهو دائمُ النوع، وإن كانتْ آحادُهُ (3) مُتصَرِّمَة كالفاكهة وغيرها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ المُؤْمِنينَ يُنْحَرُ: لهم يَوْمَ القيامَةِ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كان يَأْكُلُ منها، فَيَكُونُ نُزُلَهُمْ" (4)، فهذا حيوانٌ قد كان يأكلُ من الجنة فَيُنْحَرُ نُزُلاً لأهلها، والله أعلم. __________ (1) (ظ): "الأسباب". (2) (ق): "مسألة". (3) تحرفت في النسخ إلى أنحاء شتى. (4) أخرجه مسلم رقم (315) من حديث ثوبان -رضي الله عنه-.

(3/1124)


فائدة "الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمِنِ" (1) فيه تفسيرانِ صحيحانِ: أحدهما: أن المؤمنَ قَيَّدَهُ إيمانُهُ عن المحظورات، والكافر مطلقُ التَّصَرُّف. الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمنُ لو كان أنعمَ النَّاس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسِّجن، والكافرُ عكْسُه، فإنه لو كان أشدَّ النَّاس (ظ/192 ب) بؤسًا فذلك بالنسبة إلى النار جَنَّتُه (2). فائدة سأل تلميذٌ أستاذَهُ أن يمدحَهُ في رقعة إلى رجل، ويبالغَ في مدحه بما هو فوقَ رُتبته، فقال: لو فعلتُ ذلك لكنتُ عند المكتوبِ إليه إما مقصِّرًا في الفهم؛ حيث أعطيتُكَ فوق حَقِّكَ، أو متَّهمًا في الإخبار فأكون كذابًا، وكلا الأمرينِ يضرُّك؛ لأني شاهِدُك، وإذا قُدِح في الشاهد بطل حَقُّ المشهود له (3). فائدة قال قائل: أراني (4) إذا دُعيتُ باسمي دون لَقَبي شقَّ ذلك عَلَيَّ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2956) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) وانظر جواب الصُّعْلوكي على سؤال عبدٍ يهودي عن هذا الحديث مع ما هو عليه -أي اليهودي- من المهانة والذل، والشيخ الصعلوكي من الجاه والمنزلة؛ فقال على البديهة: "إذا صرتَ غدًا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صِرت أنا إلى نعيم الله ورضوانه، كان هذا سجني". "الطبقات السنية": (4/ 60) للتميمي. (3) بنحوها في "البصائر والذخائر" للتوحيدي. (4) (ق): "إني".

(3/1125)


جدًّا بخلاف السَّلَف، فإنهم كانوا يُدْعَوْن بأسمائهم. فقيل له: هذا لمخالفة العادات؛ لأن أُنسَ النفوس بالعادة طبيعةٌ ثابتةٌ؛ ولأن الاسم عند (1) السَّلَف لم يكن (2) دالاً على قِلَّة رُتْبة المدعوِّ، واليوم صارت المنازلُ في القلوب تُعلم بأمارة الاستدعاء، فإذا قصَّر دَلَّ على تقصير رُتبته فيقع السخطُ لما وراء الاستدعاء. فلما صار المخاطباتُ موازينَ المقادير، شقَّ على المخطوط من رتبته قولاً، كما شق (3) عليه فعلاً. فائدة (4) سمع بعض أهل العلم رجلاً يدعو بالعافية، فقال له: يا هذا استعملِ الأدويةَ وادعُ بالعافية، فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقًا. وهو التَّدَاوي ودعوتَهُ بالعافية، ربما كان جوابُهُ: قد عافيتُكَ بما جعلتهُ ووضعتُهُ سببًا للعافية، وما هذا إلا بمثابة من بينَ زرعِهِ وبينَ الماء ثُلْمَةٌ يدخلُ منها الماء يسقي زرعه، فجعل يُصلِّي ويستسقي لزَرْعه، ويطلبُ المطر مع قدرته على فَتْح تلك الثُّلْمة لسقي زَرْعه، فإن ذلك لا يحسُنُ منه شرعًا ولا عقلاً، ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب، فهو إعطاء بأحد الطريقين، وله أن يُعطي بسبب وبغير سبب، وبالسبب ليُبَيَّنَ به ما أفاض صنعه، وما أودع (ق/ 276 أ) في مخلوقاته من القُوَى والطبائع والمنافع، وإعطاؤه لغير سبب ليُبيَّنَ للعباد أن القُدرة غيرُ مفتَقِرة إلى واسطة في فعله، فإذا __________ (1) (ق): "عن". (2) (ظ) زيادة: "عندهم". (3) (ع): "شق". (4) انظر: "الفروق": (4/ 221 - 224) للقرافي.

(3/1126)


دعوتَهُ بالعافية فاستنقِذْ ما أعطاك من العَتَائد والأرزاق، فإن وصلتَ بها، وإلا فاطلبْ طلبَ مَنْ أفلسَ مِن مطلوبه، فرغب إلى المعدِن، كما قال سيِّدُ الخلائق: "اللَّهُمَّ هَذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ" (1). قلت: هذا كلامٌ حسن، وأكملُ منه أن يبذُلَ الأسبابَ ويسأل سؤال من لم يُدْلِ بشيءٍ ألبتَّةَ، والناس في هذا المقام أربعة أقسام: فأعجزهم: من لم يبذلِ السَّبَبَ ولم يُكْثِرِ الطلبَ، فذاك أمهنُ الخلق. والثاني: مقابِلُهُ، وهو أحزمُ الناس: من أَدْلى بالأسباب التي نصَبَها اللهُ تعالى مُفضيةً إلى المطلوب، وسأله سؤالَ من (2) لم يُدْلِ بسببٍ أصلاً، بل سؤالَ مفلسٍ بائس ليس له حيلةٌ ولا وسيلة. والثالث: من اشتغل بالأسبابَ وصرف همَّتَهُ إليها، وقصَرَ نَظَرَهُ عليها، فهذا وإن كاد له حظٌّ مما رتَّبه اللهُ عليها؛ لكنه منقوصٌ منقطعٌ، نُصْبَ الآفاتِ والمعارضات، لا يحصلُ له إلا بعد جُهْد، فإذا حصل فهو وشيكُ الزَّوال، سريعُ الانتقال، غير مُعْقِبٍ له توحيدًا ولا معرفة، ولا كان سببًا لفتح الباب بينَهُ وبينَ معبودِهِ. الرابع: مقابله، وهو رجلٌ نبَذَ الأسبابَ وراءَ ظهره، وأقبل على __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (2134)، والترمذي رقم (1140)، وابن ماجه رقم (1971)، والنسائي: (7/ 64)، وابن حبان "الإحسان": (10/ 5)، والحاكم: (2/ 187) من حديث عائشة -رضي الله عنها- ورجاله ثقات إلا أن الصواب فيه أنه مرسل، أعله بالإرسال الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم في "العلل": (1/ 425). (2) (ق): "وسؤاله من"، و (ظ): "وسؤاله سؤال من".

(3/1127)


الطَّلَبْ والدُّعاء. والابتهال، فهذا يُحْمَد في موضع، ويذَمُّ في موضع، ويَشْتبه الأمرُ في موضع. فيُحمد عند كون تلك الأسباب غيْرَ مأمور بها أو فيها مضرَّةٌ عليه في دينه، فإذا تركها وأقبل على السُّؤال والابتهال والتَّضَرُّع لله؛ كان محمودًا. ويُذمُّ حيث كانتِ الأسبابُ مأمورًا بها فتَرَكها وأقبلَ على الدُّعاء، كمن حَصَره العدوُّ وأُمِر بجهاده فترك جهادَهُ، وأقبل على الدُّعاء والتَّضَرُّع أن يصرفَه الله عنه، وكمن جَهَده العطشُ وهو قادر على تناول الماء، فتَرَكه وأقبل يسأل اللهَ أن يرويَهُ. وكمن أمكنه التَّداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية، ونظائر هذا. ويشتبه الأمرُ (ظ/193 أ) في الأسباب التي لا يتبيَّنُ له عواقبها، وفيها بعض الاشتباه، ولها لوازمُ قد يعجز عنها، وقد يتولَّدُ عنها ما يعودُ بنقصان دينه؛ فهذا موضعُ اشتباهٍ وخَطَر، والحاكم في ذلك كلِّه الأمرُ، فإن خفيَ فالاستخارةُ، وأمر الله وراء ذلك. فائدة قال أحمد: إذا تزوَّج العبدُ حرَّة عَتَقَ نصفه، ومعنى هذا: أن أولاده يكونون أحرارًا، وهم فَرْعُهُ، فالأصل عبد، وفرعُهُ حرٌّ، والفرعُ (ق/276 ب) جزء منم الأصل. فائدة حذارِ حذارِ مم أمرينِ لهما عواقبُ سوءٍ: أحدهما: ردُّ الحقِّ لمخالفته هواك، فإنك تعاقَبُ بتقليب القلب،

(3/1128)


وردّ ما يَرِدُ عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] فعاقبهم على ردِّ الحق أول مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثانى: التهاون بالأمر إذا حضر وقتُه، فإنك إن (1) تهاونت به ثَبَّطك الله وأقعدَك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك. قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)} [التوبة: 83] فمن سلِمَ من هاتينِ الآفتينِ والبليَّتين (2) العظيمتينِ فَلْتَهْنِهِ السَّلامةُ. فائدة وقعت حادثة في زمن ابن جرير (3)، وهي: أن رجلاً تزوَّجَ امرأةً فأحبَّها حبًّا شديدًا، وأبغضته بغضًا شديدًا، فكانت تواجهُهُ بالشَّتم والدُّعاء عليه، فقال لها يومًا: أنت طالقٌ ثلاثًا لا خاطبتني بشيءٍ إلا خاطبتُكِ بمثله، فقالت له في الحال: أنتَ طالقٌ ثلاثًا بتاتًا، فأبلس (4) الرجلُ ولم يَدْرِ ما يصنع، فاستفتى جماعةً من الفقهاء. فكلُّهم قال: لابُدَّ أن تُطَلَّقَ، فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت، وإن لم يُجِبْها حنث فطلقت، فإن بَرَّ طلقت، وإن حنث طلقت. فأُرْشد إلى ابن جرير، فقال له: امضِ ولا تُعَاوِدِ الأيْمان، وأقمْ __________ (1) (ع): "إذا". (2) (ظ): "النكبتين". (3) (ظ): "أيام ابن جرير"، وذكر الحادثة الذهبي في "تاريخه": (23/ 183). (4) (ع): "فأفلس"، و (ظ): "فأنكس".

(3/1129)


على زوجتك بعد أن تقولَ لها: أنت طالقٌ ثلاثًا إن أنا طلَّقْتُكِ، فتكون قد خاطبتَها بمثل خطابها لك، فوفَّيْتَ بيمينك ولم تُطَلَّقْ منك، لِمَا وصلْتَ به الطَّلاقَ في الشرط. فذُكِر ذلك، بن كيل فاستحسنه. وقال: وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير، وهو أنها قالت له: "أنْتَ طالقٌ ثلاثًا" بفتح التاء، وهو خطابُ تذكيرٍ، فإذا قال لها: "أنتَ" بفتح التاء لم يقعْ به طلاقٌ (1). قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين، وهو جارٍ على أصول المذهب، وهو تخصيصُ اللفظ العامِّ بالنِّيَّة، كما إذا حلف لا يتغدَّى ونيَّتُه غداءُ يومه قُصِر عليه. وإذا حلف لا يكلِّمُه ونيَّتُهُ تخْصيصُ الكلام بما يكرهُهُ، لم يحنَثْ إذا كلمه بما يحبُّه، ونظائره كثيرةٌ. وعلى هذا فِبساط (2) الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد أنها لا تكلمه بشتم أو سب أو دعاء، أو ما كان من هذا الباب (3) إلا كلّمها بمثله، ولم يُرِدْ أنها إذا قالت (ق/ 277 أ) له: اشترِ لي مَقْنَعَةً: أو ثوبًا أن يقول لها. اشتري لي ثوبًا أو مقنعه، وإذا قالت له: لا تشترِ لي كذا فإني لا أحبُّه، أن يقول لها مثلَه. هذا مما يقطعُ أن الحالفَ لم يُرِدْهُ، فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنَثْ. وهكذا يقطعُ بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يُرِدْها، ولا كان بِساط (4) الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله، وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هَيَّجَ يمينه وبعثه __________ (1) في هامش (ق) ما نصه: "أما هذا الوجه الثاني فغير سائغ، أرأيت لو قالت: "أنتِ طالق" بكسر التاء، ماذا يكون الجواب"؟. (2) (ظ): "فليناط". (3) من (ظ). (4) انظر استعمال المؤلف لهذه الكلمة فيما سبق (3/ 872).

(3/1130)


على الحلف. ومثل هذا يعتبرُ عندنا في الأيْمان. فائدة قرأ قارئ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 1 - 3] وفي الحاضرين أبو الوفاء ابن عقيل، فقال له قائل: يا سيِّدي هبْ أنه أَنشر الموتى للبعث والحساب، وزَوَّج النفوسَ بقُرَنائِها للثوابِ والعقابِ، فلمَ هدم الأبنيةَ وسيَّر الجبالَ، ودكَّ الأرضَ وفطرَ السماءَ، ونثرَ الَنجوم وكوّر الشمس؟. فقال: إنما بنى لهم الدار للسُّكْنى والتَّمَتُّعُ، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتَّفَكُّر، والاستدلال عليه بحسن التأمُّل والتَّذَكُّر، فلما (ظ/193 ب) انقضت مُدَّةُ السُّكْنى وأجلاهم من الدَّار خرَّبها لانتقال الساكن منها (1). فأراد أن يعلِّمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم، وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان القدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجِّمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا أن منار آلهَتَهُم قد انهدم، وأن معبودِيْهم قد انتثرتْ وانفطرت، ومحالّها قد تشققت = ظهرت فضائحُهم، وتبيَّنَ كَذِبُهم، وظهر أن العالم مربوبٌ محدَث مدبَّر، له ربُّ يصرِّفه كيف يشاءُ تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلينَ بالقِدَم، فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار، ودلالة على عِظم عِزَّته وقدرته وسلطانه وانفراده بالرُّبوبيَّة، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ. __________ (1) (ق): "للانتقال منها".

(3/1131)


فائدة الدليلُ على حَشْرْ الوحوش وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5]. الثانى: قوله تعالي: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]. الثالث: حديث مانع صدقة الإبلِ والبقر والغنم، وأنها "تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤهُ بِأَظْلافِهَا"، وهو متفق على صحته (1). الرابع: حديث أبي ذَرٍّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى شَاتَيْنِ (ق/277 ب) تَنْتَطِحَانِ، فقال: "يَا أَبا ذَرٍّ، أَتَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ"؟ قال: قلت: لا، قال: "لكِن اللهَ يَدْرِي، وَسَيقْضِي بَيْنَهُمَا"، رواه أحمد في "مسنده" (2). الخامس: الآثار الواردة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40]، وَأَنَّ اللهَ تعَالى يَجْمَعُ الوُحُوش، ثُمَّ يَقْتَصُّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَتَكُون تُرَابًا، فَعِنْدَهَا يَقُولُ الكَافِرُ {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (3). (4) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1640)، ومسلم رقم (990) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-. (2) أخرجه أحمد: (35/ 345 رقم 21438) وغيره وفي سنده جهالة، وأخرجه من طريق آخر (35/ 403 رقم 21511) وفي سنده ضعف. وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم رقم (2582). (3) انظر: "تفسير الطبري": (12/ 418 - 419)، و"الدر المنثور": (6/ 507). (4) وانظر "مجموع الفتاوى": (4/ 248).

(3/1132)


فائدة تأمَّلِ الحكمةَ في التَّشديد في أول التَّكليف ثم التَّيسير في آخره، بعد توطين النَّفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران: الأجرُ على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال، والتيسيرُ والسهولة بما خفَّف الله عنه. فمن ذلك: أمرُ الله تعالى رسولَه بخمسين صلاة ليلة الإسراء، ثم خَفَّفها، وتصدَّقَ بجعلها خمسًا (1). ومن ذلك: أنه أمَرَ أولاً بصبر الواحد للعشرة، ثم خفَّف ذلك إلى الاثنين (2). ومن ذلك: أنه حرَّمَ عليهم في الصِّيام إذا نام أحدُهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامعَ، ثم خفَّف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر (3). ومن ذلك: أنه أوجب عليهم تقديمَ الصَّدَقَة بين يَدَيْ مناجاة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلما وطَّنوا أنفسَهم على ذلك خفَّفه عنهم (4). ومن ذلك: تخفيفُ الاعتداد بالحَوْل بأربعة أشهر وعشرًا (5). وهذا (6) كما قد يقعُ في الابتلاء بالأوامر فقد يقعُ في الابتلاء __________ (1) في حديث الإسراء الطويل في الصحيحين. (2) أي: في الجهاد، كما في سورة الأنفال الآيات (65 - 66). (3) كما في سورة البقرة آية (187)، وأخرجه البخاري رقم (1917)، ومسلم رقم (1091) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-. (4) كما في سورة المجادلة الآيات (12 - 13). (5) انظر: "الفتح": (8/ 41 - 42)، و"تفسير ابن كثير": (2/ 605 - 606). (6) من قوله: "على ذلك ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(3/1133)


بالقضاء والقدر، يشدَّد على العبد أولاً ثم يخفَّف عنه، وحكمة هذا تسهيل الثاني بالأول، في تلقِّي الثاني بالرِّضى، وشهود المِنَّة والرحمة. وقد يفعل الملوكُ ببعض رعاياهم قريبًا من هذا، فهؤلاء المُصَادَرُونَ يُطْلَبُ منهم الكَثِيرُ جدًّا الذي ربما عَجَزوا عنه، ثم يحُطُّونَه إلى ما دونَه لِتُطَوِّعَ لهم أنفسُهم بذلَهُ ويَسْهُلَ عليهم. وقد يفعل بعض الحمَّالين قريبًا من هذا، فيزيدون على الحمل أشياء لا يحتاجون إليها، ثم يحُطُّ تلك الأشياء فيسهل حملُ الباقي عليهم. والمقصود: أنَّ هذا باب من الحكمة خَلْقًا وأمرًا، ويقعُ في الأمر والقضاء والقدر أيضًا ضد هذا، فينقل عبادَهُ بالتَّدريج من اليسير إلى ما هو أشدُّ منه؛ لئلا يفجَأَها الشديدُ بغتةً، فلا تحتملُه ولا تنقادُ له، وهذا لتدريجهم في الشَّرائع شيئًا بعد شيء، دون أن يؤمروا بها كلِّها وهلةً (1) واحدةً، وكذلك المحرَّمات. ومن هذا: أنهم أُمروا بالصلاة أولاً ركعتين ركعتين فلما (ظ/ 194 أ) أَلِفُوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحَضَر (2). ومن هذا: أنهم أُمروا أولاً بالصيام وخُيِّروا (ق/ 278 أ) فيه بين الصَّوم عينًا، وبين التَّخيير بينه وبين الفدية، فلما أَلِفُوه أُمروا بالصَّوْم عينًا (3). __________ (1) (ع): "وهذه". (2) أخرجه البخارى رقم (350)، ومسلم رقم (685) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (3) كما في سورة البقرة الآيات (184 - 185).

(3/1134)


ومن ذلك: أنَّهم أذن لهم في الجهاد أولاً من غير أن يُوْجَب عليهم، فلما توطَّنَت عليه أنفسُهم، وباشروا حُسْنَ عاقبته وثمرته أُمروا به فَرْضًا. وحكمةُ هذا: التدريجُ والتربيةُ على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئًا فشيئًا. وكذلك يقعُ مل هذا في قضائه وقدره، يقدِّر على عبده بلاءً لابُدَّ له منه، اقتضاه حمدُه وحكمتُه فيبتليه بالأخف أوَّلاً، ثم يُرَقِّيه إلى ما هو فَوْقَهُ حتى يستكملَ ما كُتِب عليه منه. ولهذا قد يسعى العبدُ في أول البلاء في دفعه وزواله، ولا يزداد إلا شدَّةً؛ لأنه كالمرض في أوله وتزايدِه، فالعاقلُ يستكينُ له أولاً، وينكسرُ وِيذِلُّ لربه، ويمد عُنُقَهُ خاضعًا ذليلاً لعزَّته، حتى إذا مرَّ به معظمُهُ وغَمْرَتُه (1)، وآذن ليله بالصَّباح، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسبابُ، ومن تأمَّلَ هذا في الخلق انتفع به انتفاعًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. فائدة رجل قالت له زوجتُه: أريدُ منك أن تُطَلِّقَنِي، فقال: إن كنتِ تريدينَ أن أُطَلِّقَكِ فأنتِ طالقٌ، فهل يقعُ الطلاقُ بهذا أو لابدَّ من إخبارها عن إرادةٍ مستقبلة؟. قال بعض الفقهاء: لابدَّ من إرادة مستقبلةٍ عملاً بمقتضى الشرط، وأن تأثيرَهُ إنما هو في المستقبل. __________ (1) من قوله: "لربه ويمد ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(3/1135)


وقال بعضهم بل تطلَّقُ بذلك اكتفاءً بدلالة الحال، على أنه إنما أراد بذلك إجابَتَها إلى ما سألته من طلاقها المُراد لها، فأوقعه معلِّقًا له بإرادتها التي أخبرتْهُ بها، هذا هو المفهوم من الكلام لا يفهمُ الناسُ غيره. وقال ابنُ عَقِيل: ظاهرُ الكلام ووضعُه يدُلُّ على إرادة مستقبلَةٍ، ودلالةُ الحال تدُلُّ على أنه أراد إيقاعَه لأجل الإرادة التي أخبرته بها، ولم يَزِدْ. قلت: وكأنه ترجيجٌ منه للوقوع اكتفاءً بدلالة الحال، على ما هو المعهود من قواعد المذهب، ولفظ الشرط (1) في مثل هذا لا يستلزمُ الاستقبال. وقد جاء مُرادًا به المشروط المقارن للتعليق، وهو كثيرٌ في أفصحِ الكلام، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، وقوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [الأنعام: 118] وقول مريم: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)} [مريم: 18] وهو كثيرٌ جدًّا. ولما كان متلُوّ أداة الشرط في هذا لا يُرَادُ به المستقبلُ بل يُرادُ الحال والماضي؛ قال بعضُ النُّحَاة: إن "إن" فيه بمعنى "إذ" التي تكون للماضي، وقال غيرُه: إنها للتعليل. والتحقيق فيها (ق/ 278 ب) أنها للشرط على بابها، والشرط في ذلك داخل على الكون المستمر، المطلوبِ دوامُه واستمرُاره، دونَ تقيده بوقتٍ دونَ وقت، فتأمَّلْه. __________ (1) (ق): "لفظ إن".

(3/1136)


فائدة (1) استدلَّ على أن النِّيَّة لا تُشترطُ في طهارة الماء بأن الماءَ خُلِقَ على صفات وطبيعة لا يحتاجُ في حصول أثرها إلى النية، فخُلِقَ طهورًا، وخُلق مُرْوِيًا، وخُلق مُبَرِّدًا وسيَّالاً (2)، كلُّ ذلك طبعه ووضعه (3) الذي جُعِلَ عليه، فكنا أنه لا يُحْتَاجُ إلى النية في حصول الرِّيِّ والتبريد به، فكذلك في حصول التطهير، يوضِّحُه: أنه خلق طاهرًا وطهورًا، وطاهريَّتُهُ لا تتوقَّفُ على نِيَّة، فكذلك طهوريته، يزيدُه إيضاحًا: أن عمله في أقوى الطهارتين -وهي طهارة الخبث- لا تتوقَّف على نية، فعدم توقف عمله على النية في الطهارة الأخرى أولى، وإنما قلنا: إنها أقوى الطهارتين؛ لأن سببها وموجبَها أمرٌ حِسِّيٌّ وخبث مشاهد؛ ولأنه لابُدَّ لها (4) من التُّرَاب، فقد ظهرتْ قوَّتُها حِسًّا وشرعًا، يزيدُه بيانًا: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَ الماءُ طَهُورًا" (5) صريحٌ في أنه مخلوقٌ على هذه الصِّفة، و"طهورًا" منصوبٌ على الحال، أي: خلق على هذه الحالة من كونه طهورًا، وإن كانت حالاً لازمةً فهي كقولهم: خَلَقَ اللهُ الزَّرَافَة يَدَيْها أطولَ من رجْلَيْها، (ظ/ 194 ب) __________ (1) انظر "الفنون": (1/ 293، 299) لابن عقيل. (2) (ظ): "سائلاً". (3) (ق وظ): "ووصفه". (4) (ق): "لا يعلم بدلها"، و (ظ): "لا بدل لها". (5) أخرجه أحمد: (17/ 359 رقم 11257)، وأبو داود رقم (66) والترمذي رقم (66)، والنسائي: (1/ 174) وغيرهم من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- بلفظ: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، ولم أجده باللفظ المذكور. والحديث حسنه الترمذي، وصححه أحمد وابن معين وابن حزم، انظر: "التلخيص": (1/ 13)، وله شواهد كثيرة.

(3/1137)


فهذه الصِّفةُ وهي الطُّهرية مخلوقةٌ معه، نُوِيَتْ أو لم تُنْوَ. والاستدلالُ بهذا قريبٌ من الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48]، يوضح ذلك أيضًا: أن النيَّة: إن اعْتُبرت بجَرَيَان الماء على الأعضاء فهو حاصل، نوى أو لم ينوِ، وإن اعْتُبرت لحصول الوضاءَة والنظافة؛ فكذلك لا يتوقَّفُ حصولُها على نية، وإن اعتُبِرت لإزالة الحدث المتعلِّق بالأعضاء؛ فقد بَيّنَّا: أن الخَبَثَ (1) المتعلِّقَ بها أقوى من الحَدَث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقَّفُ على النية فكيف الأضعف؟. يوضحُه أيضًا: أنا رأينا الشريعةَ قد قسمت أفعالَ المكلَّفين إلى قسمين: قسم: يحصل مقصودُه والمُرادُ منه بنفس وقوعه، فلا يعتبرُ في صحَّته نيةٌ؛ كأداء الديون، وردَّ الأمانات والنفقات الواجبة، وإقامة الحدود، وإزالة النجاسات، وغسل الطِّيْب عن المُحْرِم، واعتداد المفارقة وغير ذلك. فإن مصالحَ هذه الأفعال حاصلةٌ بوجودها ناشئة من ذاتها، فإذا وُجِدتْ حصلتُ مصالحها فلم تتوقَّفْ صحتها (2) على نية. القسم الثاني: ما لا يحصلُ مُراده ومقصوده منه بمجرَّدِه، بل لا يُكْتَفَى فيه بمجرد صورته العارية عن النية؛ كالتلفُّظ بكلمة الإسلام، والتلبية في الإحرام، وكصورة التَّيَمّم (ق/ 279 أ) والطَّواف حول البيت، والسَّعي بين الصَّفا والمروة، والصلاة والاعتكاف والصيام، ولما كان __________ (1) (ق): "الحدث". (2) (ق): "مصالحها".

(3/1138)


إزالةُ الخَبَثِ من القسم الأول اكتُفِيَ فيه بصورة الفعل لحصولِ مقصودِهِ. وقد علَّلنا أن المُرَادَ من الوضوء النظافةُ والوضاءةُ، وقيام العبد ين يدي الرب تعالى على أكمل أحواله، مستورَ العورة، متجنِّبًا للنجاسة، نظيفَ الأعضاء وضيئَها، وهذا حاصلٌ بإتيانه بهذه الأفعال نَوَاها أو لم يَنْوِها. يوضحُه: أن الوضوء غيرُ مراد لنفسه بل مراد لغيره، والمرادُ لغيره لا يجبُ أن يُنوى لأنه وسيلة، وإنما تعتبر النِّيَّةُ في المواد لنفسه إذ هو المقصود المُرادُ، ولهذا كانت نيَّهُ قطع المسافة في الحج والجمعة غيرَ واجبة ولا تتوقَّفُ الصِّحَّةُ عليها، وكذلك نتَّة شراء الماء، وشراء العبد في عتق الكَفَّارة، وشراء الطعام فيها غير واجبة (1)؛ إذ هذه وسائلُ مرادة لغيرها. وكذلك الوضوء وسيلةٌ ترادُ للصلاة، فهي كطهارة المكان والثياب. يوضحه أيضًا: أن النِّيَّةَ لو اعْتُبرت في الوضوء لاعْتُبِرت في سائر شروط الصلاة، كسَتْر العورة وإزالة النجاسة وغيرهما، ولا أرى منازِعِيّ القومِ يتمتكَّنون من الجواب عن هذه الكلمات بجوابٍ شافٍ، وهذه أجوبتُهم في طرايقهم فعليك بمراجعتها. ونحن لا نرتضي هذا الرأيَ، ولكن لم نَرَ استدلال منازعيهم وأجوبتهم لهم أقوى من هذه الأدلة، وما ذلك لضعفِ المسألةِ من جانِبهم؛ ولكن لأنَّ الكلامَ في مسألة النية شديدُ الارتباط بأعمالِ القلوبِ، ومعرفةِ مراتبِها وارتباطِها بأعمالِ الجوارح، وبنائها عليها __________ (1) من قوله: "ولا تتوقف صحة ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1139)


وتأثيرها فيها صحَّةً وفسادًا، وإنما هي الأصلُ المُرادُ المقصودُ، وأعمالُ الجوارح تَبَعٌ: ومكمِّلَةٌ ومُتَمّمَةٌ، وأن النية بمنزلة الرُّوحِ، والعملُ بمنزلة الجَسَدِ: والأعضاء، الذي إذا فارق الرُّوحَ فمَوَاتٌ، وكذلك العملُ إذا لم تَصْحَبْهُ النيةُ فحركة عابثٍ. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلُها، وأحكام الجوارح متفرِّعةٌ عليها. وكذلك أيضًا: لا يتحقَّقُ الكلامُ في المسألة إلا بعد معرفة حقيقة النّيَّة، وهل هي من جنس العلوم والتَّصَوُّرات أو من جنس الإرادات والعزوم؟ أو حقيقتُها مركبةٌ من الأمرين؛ وأما من قَدَّر انبساطها وانقسامها على حروف معينة، لكلِّ حرف منها جزءٌ من أجزاء النِّيَّة، فلم يحصِّل معنى النِّيَّة فَضْلاً عن أن يتمكَّنَ من رَدِّ قول منازعه (ق/ 279 ب) في اعتبارها. وكذلك من ظنَّ أنها لا تتحقَّقُ إلا بجَرَيان ألفاظ من اللِّسان يخبرُ بها عنها، لم يحصِّلْ أيضًا معناها، فيجبُ أن نعلم حقيقَتَها أوَّلاً ومنزلَتَها من أعمال القلوب، وأنه يستحيل عليها الانبساطُ والانقسامُ، وأنه لا مدخلَ للألفاظ: فيها ألبتَّةَ، ويفرَّقُ بين النية المتعلِّقة بالمعبود التي هي من لوازم الإسلام وموجباته، بل هي رُوحه وحقيقته التي لا يقبلُ اللهُ من (ظ/ 195 ب) عاملٍ عملاً بدونها ألبتة، وبينَ النية المتعلقة بنفس العمل، التي وقع فيها النزاعُ في بعضِ المواضع، ثم يعرف ارتباطها بالعمل وكيف: قصد بها تمييز العبادة عن العادة إذ كانا في الصورة واحدًا، وإنما يتميَّزان بالنية. فإذا عدمتِ النيةُ كان العمل عاديًّا لا عباديًّا، والعاداتُ لا يُتَقَرَّب

(3/1140)


بها إلى بارئ البَرِيَّاتِ وفاطرِ المخلوقات، فإذا عَرِيَ العملُ عن النية؛ كان كالأكل والشرب (1) والنوم الحيوانى البهيمي الذي لا يكونُ عبادة بوجه، فضلاً عن أن يُؤْمَرَ به ويُرَتَّبَ عليه الثواب والعقاب والمدحُ والذَّمُّ، وما كان هذا سبيلُه لم يكنْ من المشروع (2) المتقرَّب به إلى الرَّبِّ تبارك وتعالى. وكذلك -أيضًا- يقصد بها تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، فيُميَّزُ فرضها عن نفلها ومراتبها بعضها عن بعض، وهذه أمورٌ لا تَحَقُّقَ لها إلا بالنية ولا قَوَامَ لها بدونِها ألبتة، وهى مرادةٌ للشارع بل هى وظائف العبودية، فكيف يؤدي وظائفَ العبودية (3) من لا يخطرُ بباله التمييزُ بين العبادات والعادات، ولا التمييز بين مراتب تلك الوظائف ومنازلها من العبودية، هذا أمر ممتنع عادةً وعقلاً وشرعًا، فالنية هى سرُّ العبوديَّة ورُوحُها، ومحلُّها من العمل مَحلُّ الرُّوح من الجَسَد، ومُحَالٌ أن يعتبرَ في العبودية عمل لا روح له؛ بل هو بمنزلة الجسد الخراب، وهذا معنى الأثر المروي موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "لا عَمَلَ لِمنْ لا نِيَّةَ له، ولا أجْرَ لمن لا حَسَنَةَ له" (4). وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] __________ (1) (ق) بدلاً من "كان كالأكل والشرب": "وترتب عليه الثواب والعقاب". (2) من قوله: "ويرتب عليه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) "فكيف يؤدي وظائف العبودية" سقطت من (ق). (4) قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": (1/ 69): "رواه ابن أبى الدنيا [في كتاب الإخلاص والنية] بإسناد منقطع"، وأخرجه البيهقي: (1/ 41) من حديث أنسٍ مرفوعًا، وفي سنده ضَعْف.

(3/1141)


فَنفَى سبحانه أن يكونَ أمَرَ عبادَهُ بغير العبادة التي قد أخلص عاملُها له فيها النِّيَّة، ومعلوم أن إخلاص النِّيَّةِ للمعبود أصلٌ لنية أصل العبادة، فإذا لم يأمرْهم إلا بعمل هو عبادةٌ قد أخلص عاملُها النيَّةَ فيها (1) لرَبِّه عز وجل، ومعلومٌ أن النية جزءٌ من العبادة، بل هي رُوح العبادة، كما تبيَّنَ = عُلِم أن العمل الذي لم يُنْوَ ليس بعبادة ولا مأمور به، فلا يكونُ فاعلُه متقرِّبًا به إلى الله، وهذا مما لا يقبلُ نزاعًا. ومن نُكَت المسألة: أن يفرَّقَ بين الأفعال التي لا تقعُ إلا منويَّةً عادة وبين الأفعال التي تقع منويةً وغيرَ منوية، فالأول: كالوضوء المرتَّب عضوًا بعد عضو، فإنه لا يكادُ يُتَصَوَّرُ وقوعُه من غير نية، فإن (ق/ 280 أ) عِلْم الفاعل بما يفعلُه وقَصْده له هو النية، والعاقلُ المختار لا يفعلُ فعلاً غلا مسبوقًا بتصوره وإرادته، وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصوُّر الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله. وبهذا يعْلمُ غلطُ من ظن أن للتَّلَفُّظ (2) مدخلاً في تحصيل النِّيَّة، فإن القائل إذا قال: "نويتُ صلاةَ الظهر، أو نويتُ رفع الحَدَث"، إما أن يكون مخْبرًا أو منشئًا، فإن كان مخبِرًا؛ فإما أن يكون إخبارُه لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبَثٌ لا فائدة فيه؛ لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمَّن تعريفَ المخبر ما لم يكن عارفًا به، وهذا مُحالٌ في إخباره لنفسه، وإنْ كان إخبارًا لغيره بالنية، فهو عَبَثٌ محضٌ، وهو غيرُ مشروع ولا مفيدٌ، وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحُبِّه وبغضه، بل قد تكونُ في هذا الإخبار فائدةٌ، وأما إخبار المأمومين أو الإمام __________ (1) من قوله: "ومعلوم أن ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) (ع): "التلفظ"، و (ظ): "اللفظ".

(3/1142)


أو غيرهما بالنية فعبثٌ محضٌ، ولا يصحُّ أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا يُنشئُ وجودَ النيّة، وإنما إنشاؤُها إحضارُ حقيقتها في القلب لا إنشاء اللَّفظ الدَّالِّ عليها؛ فعُلِمَ بهذا أن التَّلَفُّظَ بها عَبَثٌ محضٌ، فتأمَّلْ هذه النكتة البديعة. والمقصودُ أن مثل هذه الأفعال المرتبة، التي لا تقعُ إلا عن علم وقصد، لا تكونُ إلا منويَّةً. وهذا بخلاف الاغتسالِ مثلاً، فإنه قد يقعُ لتنظيفٍ أو تبريد ونحوهما، فإن لم يقصدْ به رفع حَدَثه لم يكن منويًّا. وكذلك أفعالُ الصلاة المرتبة التي يتبعُ بعضُها بعضًا لا تقعُ إلا منويَّةً. ولو تكلَّفَ الرجلُ أن يصلِّي أو يتوضأ بغير نِيَّةٍ لتعذَّر عليه ذلك، بل يمكن تصوُّرُه فيما إذا قصد تعليمَ غيره (1)، ولم يقصد العبادةَ، أو صلَّى وتوضأ مُكرهًا، وأما عاقلٌ مختار عالم بما يفعلُهُ يقعُ فعلُه على وفق قصده، فهذا لا يكونُ إلا مَنْوِيًّا. فالنيةُ هي القصد بعينه، ولكن بينَها وبين القصد فَرْقَان: أحدهما: أن القصد يتعلَّقُ بفعل الفاعل نفسه، وبفعل غيره، والنيةُ لا تتعلَّقُ إلا بفعله نفسه، فلا يتصوَّر أن ينويَ الرجلُ فعلَ غيره، ويتصوَّر أن يقصدَه ويريده. الفرق الثاني: أن القصد لا يكون إلا لفعل مقدور يقصده الفاعل، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه. ولهذا جاء في حديث أبي كَبْشَةَ الأنماري الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن __________ (1) (ع): "قصده تعليم لغيره".

(3/1143)


النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي مَالِهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا (ق/280 ب) بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ عِنْدَ اللهِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزقْهُ مَالاً، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلان فَهُوَ بنِيَّتِهِ وَأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وعَبْدٍ رَزقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْه عِلْمًا ... " فَذكرَ شَرَّ مَنْزِلَتَه (1) عِنْدَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلانِ فَهُوَ بِنِيَّتَهِ، وَهُمَا في الوِزْرِ سَوَاءٌ" (2). فالنيةُ تتعلَّقُ بالمقدورِ عليه والمعجوزِ عنه، بخلاف القصد والإرادة فإنهما لا يتعلقانِ بالمعجوز عنه، لا من فعله ولا من فعل غيره، وإذا عُرِف حقيقة النية ومحلها من الإيمان وشرائعه تبيَّن الكلام في المسألة نفيًا وإثباتًا بعلم وإنصاف؛ ولنذكرْ كلماتهم وما فيها من مقبولٍ ومردود. فأما قولهم: إن الماءَ خُلق بطبعه مُبَرِّدًا ومُرْوِيًا وسيَّالاً ومُطَهِّرًا، وحصولُ هذه الآثار منه لا تفتقر إلى نية، إلى آخره. فيقال: إن أردتمْ بكونه مطهِّرًا يطبعه أنه منظِّفٌ لمحل التطهير، فمسلَّم. ولكن نزاعنا في أمر وراءَهُ، وإن أردتم أنه يفتتحُ به الصلاة ويرفعُ المانعُ الذي جعله الشارعُ صادًّا عن الدخول فيها بطبعه من غير اعتبار نية؛ فدعوى مجردة لا يمكنكم تصحيحُها ألبتة، بل هي بمثابة __________ (1) (ظ): "فذلك شرٌّ منزلةً"، وتمام الحديث: "فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّة، ولا يَصِل فيه رَحِمه، ولا يعلم لله فيه حقَّه، فهذا بأخبث المنازل". (2) أخرجه أحمد: (29/ 562 رقم 18031)، والترمذي رقم (2325) وغيرهم من حديث أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "هذا حديث حسن: صحيح".

(3/1144)


قول القائل: استعماله عبادة بمجرد طبعه، فحصول التَّعَبُّد والتقرُّب (1) به لا يحتاجُ إلى نية، وهذا بيِّنُ البُطلان، وهذا حرفُ المسألة (2): وهو أن التَّعَبُّدَ به مقصودٌ وهو متوقِّفٌ على النية، والمقدمتانِ معلومتانِ غنيتانِ عن تقرير. وقد أجابهم بعض الناس بأن منع أن يكونَ في الماء قوَّة أو طبعٌ، وقال: هذا مبنيٌّ على إثبات القُوَى والطبائع في المخلوقات، وأهلُ الحقِّ ينكرونه، وهذا جوابٌ فاسدٌ يرغب طالب الحق عن مثله! وهو باطلٌ طبعًا وحِسًّا، وشرعًا وعقلاً، وأهلُ الحق هم المُتَّبِعُون للحَقِّ أين كانَ، والقرآن والسُّنَّة مملوآن من إثبات الأسبابَ والقُوَى، والعقلاء قاطبةً على إثباتها سوى طائفة من المتكلِّمين حَمَلَتهم المبالغةُ في إبطال قول القَدَرِيَّة النُّفَاة (3) على إنكارها جملةً. والذي يكشفُ سِرَّ المسألة: أن التبريدَ والرِّيَّ والتنظيفَ حاصلٌ بالماء ولو لم يُرِدْهُ، وحتى لو أراد أن لا يكونَ، وأما التعبُّدُ لله بالوضوء فلا يحصلُ إلا بنيَّة التَّعَبُّدِ، فقياسُ أحد الأمرين على الآخر مِنْ أفسد القياس، فالحاصلُ بطبع الماء أمر غيرُ التعبد الذي هو مقوم لحقيقة الوضوء الذى لا يكونُ وضوءًا إلا به، وبهذا خرج الجوابُ عن قولهم: "إن عملَه في رفع الخَبَث إذا لم (4) يتوقَّفْ على نِيَّةٍ، فَأَنْ لا يتوقَّفَ (ف/ 281 أ) رفعُهُ للحَدَث أوْلى" فإن رفع الخَبَث (5) أمرٌ حِسِّيٌّ __________ (1) (ظ): "والثواب". (2) يعني: سرها، أو محل النزاع فيها. وقد استعمل المؤلف هذا التعبير في عدد من كتبه. (3) (ع): "والنفاة". (4) (ق): "الذي لا". (5) (ع): "الحدث".

(3/1145)


مشاهَدٌ لا يستدعي أن يكونَ رافِعُه من أهل العبادة، بل هو بمنزلة كَنْس الدار، وتنظيفِ الطُّرُقات، وطرح المَيْتات والخبائث. يوضِّحُه: أن زوالَ النَّجاسة لا يفتقرُ إلى فعل من المكلَّف ألبتَّةَ، بل لو أصابها المطرُ فأزال عينَها طَهُرَ المحلُّ بخلاف الطَّهارة من الحَدَث، فإن الله أمَرَ بأفعال متميِّزة لا يكونُ المكلَّفُ مؤدِّيًا ما أُمِر به إلا بفعلها الاختياري الذي هو مَنَاطُ التكليف، وبهذا خرج الجوانبُ عن قولهم: "النية إن اعْتُبرت بجَرَيان الماء على الأعضاء، أو لحصول الوَضاءة لم يفتقرْ إلى نيَّة ... " إلى آخره. قولهم: "الشريعةُ قسمت الأفعالَ إلى قسمين؛ قسم: يحصلُ منه مقصوده بمجرده (ظ/196 أ) من غير نيَّة، وقسم: لا يحصل إلا بالنيَّة"؛ فمسلَّم. قولُهم: "إنَّ الوضوءَ من القسم الأول" دعوى محل النِّزاع، فلا يقبلُ. قولهم في تقريرِها: "المقصود (1) الوَضاءة والنظافة وقيام العبد بين يدي رَبَّه على أكمل أحواله". فجوابه: أن لله على العبد عُبودِيَّتين: عبوديَّة باطنة وعبوديَّة ظاهرة، فله على قلبه عبوديَّةٌ، وعلى لسانه وجوارحه عبوديةٌ، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تَعَرِّيه (2) عن حقيقة العبوديَّة الباطنة مما لا يُقَرِّبُه إلى ربِّهِ، ولا يُوجِبُ له ثوابه وقبول عمله، فإنَّ المقصود امتحانُ القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلبِ هو روُح العبودية ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسدَ المَوَات (3) بلا رُوح، والنية هي __________ (1) (ظ): "لمقصود". (2) (ع): "نفرته". (3) ليست في (ع).

(3/1146)


عملُ القلب الذي هو مَلِكُ الأعضاء والمقصود بالأمر والنهي، فكيف يسقطُ واجبُه، ويعتبر واجبُ رعيتِه وجندِه وأتباعه اللاتي إنما شُرِعَتْ واجباتُها لأجله ولأجل صلاحه، وهل هذا إلا عكسُ القضية وقلب الحقيقة!. والمقصودُ بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاحُ القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه، ومن تمام ذلك قيامُه هو وجنودُه في حضرة معبوده وربِّه، فإذا بعث جنودَهُ ورعيِته، وتغيَّب هو عن الخدمة والعبودية، فما أجدَرَ تلك الخدمَةَ بالرَّدِّ والمقت، وهذا مَثَلٌ في غاية المطابقة، وهل الأعمالُ الخاليةُ عن عمل القلب إلا بمنزلة حَرَكات العابثين، وغايَتُها أن لا يَتَرَتَّبَ عليها ثوابٌ ولا عقابُ؟!. ولما رأى بعضُ أربابِ القلوب طريقةَ هؤلاء انحرفَ هو إلى أن صرف هَمَّه (1) إلى عبوديَّةَ القلب، وعطَّل عبودية الجوارح، وقال: (ق/ 281 ب) المقصودُ قيامُ القلبِ بحقيقةِ الخدمة (2)، والجوارح تَبَعٌ. والطائفتان متقابلتان أعظمَ تقابَل؛ هؤلاء لا التفاتَ لهم إلى عبوديَّة جوارحهم، ففسدت عبوديةُ قلوبهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبوديَّة جوارِحِهِم، والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبوديَّة ظاهرًا وباطنًا، وقدموا قلوبَهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاءَ تَبَعًا لها، فأقاموا المَلِكَ وجنودَه في خدمة المعبود، وهذا هو حقيقةُ العبودية. ومن المعلوم أن هذا هو مقصودُ الرَّبِّ تعالى بإرسالِهِ رُسُلَه، __________ (1) (ع): "هو إلى صَرْف همته". (2) (ق): "العبودية".

(3/1147)


وإنزالِهِ كُتُبَهُ، وشَرْعِهِ شرائِعَه، فدعوى المدَّعي أن المقصودَ من هذه العبودية حاصل، وإن لم يصحبْها عبوديَّةُ القلبِ من أبطل الدعاوى وأفسدها، والله الموفق. ومن تأمَّلَ الشريعة في مصادرها ومواردها؛ علمَ ارتباطَ أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع (1) بدونِها، وأن أعمالَ القلوب أفرضُ على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُمَيَّزُ المؤمنُ عن المنافق إلا بما في قلب كلِّ واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينها، وهل يُمْكِنُ أحدٌ الدخولَ في الإسلام إلا بعمل قلبه قبلَ جوارحه، وعبوديَّةُ القلب أعظمُ من عبوديَّة الجوارحِ وأكبرُ (2) وأدْوَمُ، فهي واجبةٌ في كلِّ وقت، ولهذا كان الإيمانُ واجبَ القلب على الدَّوام، والإسلامُ واجبَ الجوارح في بعض الأحيان، فمركَّبُ الإيمانِ القلبُ، ومركَّب الإسلامِ الجوارحُ، فهذه كلمات مختصرةٌ في هذه المسألة، لو بُسِطَتْ لقاْمَ منها سِفْرٌ ضخمٌ، وإنما أُشيرَ إليها إشارة. وحرفُ المسألة: أنَّ أعمالَ الجوارح (3) إنما تكونُ عبادةً بالنيَّة، والوضوءُ عبادةٌ في نفسِه، مقصودٌ مرتَّبٌ عليه الثواب، وعلى تركه العقابُ، وكما يجبُ في العِبادات إفرادُ المعبود تعالى عن غيره بالنِّيَّةِ والقصد، فيكون وحدُه المقصودَ المُرادَ (4) بها لا سِواه، فكذلك يجبُ فيها تمييزُ العبادة عن العادة، ولا يقعُ التمييزُ بين النوعين مع اتحاد صورة __________ (1) (ق): "تقع". (2) (ق وظ): "وأكثر". (3) "أن أعمال الجوارح" سقطت من (ق). (4) بعده في (ظ) والمطبوعات: "فكما أنه يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى بها" والمعنى بدونها مستقيم، وزيادتها تكرار وحشو.

(3/1148)


العملين إلاَّ بالنية، فعملٌ لا يصحبُه إرادة المعبود غيرُ مقبول ولا معْتَدٌّ به، (ظ/196 ب) وكذلك عملٌ لا تصحبُه إرادةُ التَّعَبُّدِ له والتَّقَّرُّب إليه غيرُ مقبولٍ ولا معتدٍّ به، بل نيَّةُ التقرُّب والتعبُّد جزءٌ من نيَّةُ الإخلاص، ولا قَوَام لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد، فإذا كانتْ نِيَّةُ الإخلاصِ شرطًا في صحَّة كلِّ أداء العبادة، فاشتراط نيةِ التَّعَبُّدِ أولى وأحرى، ولا جوابَ عن هذا ألبتةَ إلاَّ بإنكار أن يكون الوضوءُ عبادةً، وذلك يلتحقُ بإنكار المعلوم من الشَّرْع بالضَّرورة، وهو بمنزلةِ إنكار كَوْنِ الصوم والزكاة والحجِّ والجهادِ وغيرِها عباداتٍ، واللهُ الموفق للصواب. فائدة (1) ذكر أحمد بن مروان المالكي (2) عن ابن عباس: أنه سئل عن ميت مات ولم يوجد له كفن قال: "يُكَبُّ على وجهه ولا يُسْتَقْبَلُ (ق/ 282 أ) بفرجه القبلة". قلت: هذا بعيدُ الصِّحَّة عن ابن عباس، بل هو باطلٌ، والصواب أنه يُسترُ بحاجز من تراب، ويوضعُ في لحده على جنبه مستقبلَ القبلة، كما ينامُ العُرْيان الذي نُشر عليه ملاءة أو غيرها، وإذا كان عليه حاجزٌ من تُراب وهو مستقبلُ القبلةِ كان بمنزلة من عليه ثيابه. فائدة (3) * وذكر أيضًا (4) عن مجاهد قال: جلست إلى عبد الله بن __________ (1) هذه وما بعدها في (ظ): "مسألة". (2) هو: الدينوري صاحب "المجالسة وجواهر العلم": ت (333)، وقد ذكر هذا الأثر في كتابه السالف: (3/ 331 رقم 953) مسندًا، وسنده ضعيف. (3) من (ق). (4) في "المجالسة": (3/ 376 رقم 1007) مسندًا، وفيه انقطاع.

(3/1149)


عُمر (1) وهو يصلي، فخفَّفَ ثم سلَّم، وأقبل إليّ، ثم قال: "إن حقًّا عليَّ أو سُنَّة إذا جلس الرجلُ إلى الرجل وهو يصلِّي التَّطَوُّعَ أن يخفِّفَ ويقبلَ إليه". * وذكر أيضًا (2) عن ابن عباس قال: "ما مِنْ يومٍ إلا وليلَتُهُ قَبْلَهُ إلا يومَ عَرَفَةَ فإن ليْلَتَهُ بعدَهُ". قلت: هذا مما اختُلف فيه، فحُكِي عن طائفة: أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين اللَّيلة المضافة إلى اليوم، كليْلة الجمعة والسبت والأحد وسائر الأيام، والليلة (3) المضافة إلى مكان أو حال أو فعل، كليْلة عرفة وليلة النَّفْر، ونحو ذلك، فالمضافةُ إلى اليوم قبلَه، والمضافة إلى غيره بعدَه، واحتجُّوا بهذا الأثر المرويِّ عن ابن عباس، ونُقِض عليهم بليلة العيد، والذي فهمه الناس قديمًا وحديثاً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بصِيَامٍ منْ بَيْنِ الأيَّامِ، وَلا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي" (4) إنها الليلةُ التي تُسفِرُ صبيَحتُها عن يوم الجمعَة، فإن الناس يُسارعونَ إلى تعظيمها، وكثرة التعبُّد فيها عن سائر اللَّيالي، فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن تخصيصها بالقيام، كما نهاهم عن تخصيص يومِها بالصيام، والله أعلم. * قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه "الجامع لذكر أئمة الأمصار، المُزَكِّين لرواة الأخبار": سمعت أبا تراب المذكِّرَ يقول: سمعت __________ (1) في الأصول: "عَمرو" وفي المطبوعات والمجالسة: "عُمر". (2) في "المجالسة" (2/ 372 رقم 540) مسندًا. (3) (ع): "الليالى". (4) أخرجه البخاري رقم (1985) ومسلم رقم (1144) من حديث أبي هريرة - رضى الله عنه-.

(3/1150)


إبراهيم بن عبد الرحمن بن سهل يقول: سمعت العباس بن محمد الهاشمي يقول: دخل يحيى بن مَعينٍ مصرَ فاستقبلته هدايا أبي صالح كاتبِ الليث وجاريةٌ ومائةُ دينار فقبلَها، ودخل مصر، فلما تأمل حديثه قال: لا تكتبوا عن أبي صالح. قال الحاكم: هذه من أجلِّ فضائل يحيى إذ لم يُحَابِ أبا صالحٍ وهو في بلدِه ونعمتِه. أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، نا جدي: سمعتُ عليَّ بن المديني، يقول: كان أبو الجَعْد والد سالم بن أبي الجعد إذا تغدَّى جمع بَنِيه، فكانوا ستةً: اثنان مُرْجئان واثنان شِيعِيَّانِ واثنانِ خارجيَّانِ، فكان أبو الجَعْد يقول: لقد جمعُ اللهَ بينَ أيديكم وفرَّق بين أهوائِكُمْ (1). قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا عبد الله بن الحسين بن موسى، أخبرنا عبد الله بن علي بن المديني، قال: سمعت أبي يقول: خمسةُ أحاديث يروونها ولا أصلَ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث: "لو صَدَقَ السَّائِلُ ما أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ" (2)، وحديث: "لا وَجَعَ إلاّ وَجَعُ (ق/ 282 ب) العَيْنِ ولا غَمَّ إلا غَمُّ الدَّيْن" (3)، وحديث: "إن الشَّمْس رُدَّتْ على علِيَّ بن أبي طَالِبٍ" (4)، (ظ/197 أ) وحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أكرمُ على اللهَ مِن أَنْ يَدَعَني تَحْتَ الأرضِ مِائَتَيْ __________ (1) الخبر في "طبقات ابن سعد": (6/ 292). (2) انظر: "التمهيد": (5/ 297)، و"كشف الخفاء": (2/ 203). (3) أخرجه الطبراني في "الأوسط": (7/ 38)، وابن حبان في "المجروحين": (1/ 350)، وغيرهم، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات": (2/ 244)، وفي إسناده كذَّاب. (4) أخرجه الطحاوي في "المشكل" رقم (1068)، والطبراني في "الكبير": (24/ 145)، وهو لا يصح، انظر "منهاج السنة النبوية": (8/ 164 فما بعدها).

(3/1151)


عامٍ" (1)، وحديث: "أفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ إنهما كانا يَغْتَابَانِ" (2). قال كاتبه:: ونظيرُ هذا قول الإمام أحمد: أربعة أحاديث تدور في الأسواق لا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حديث: "مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فكأنَّما آذَانِي"، وحديث: "مَنْ بَشَّرَنِي بخُروجِ آذَارَ ضَمِنْتُ له على اللهِ الجَنَّةَ"، وحديث: "للسَّائِل حَقٌّ وإنْ جَاءَ عَلى فَرَسٍ"، وحديث: "يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ يَوْمُ رَأَسِ سَنَتِكُمْ" (3). قال الحاكمُ: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق الثقفي يقول: شَهِدت محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- ودُفِع إليه كتابٌ من محمد بن كَرَّام يسأله عن أحاديثَ منها: سفيان بن عيينة، عن الزُّهْري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمَانُ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ"، ومعْمَر، عن الزُّهري، مثله؛ فكتبَ البخاريُّ على ظهر كتابه: من حدَّث بها استوجَبَ الضَّرْبَ (4) الشديدَ والحبسَ الطويلَ. سمعت أبا الحسين (5) محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت __________ (1) انظر: "كشف الخفاء": (1/ 161). (2) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني": (2/ 99) وغيره، قال الحافظ في "الفتح": (4/ 210): "أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في "المعرفة" وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله، ويزيد بن ربيعة متروك ... " وذكر كلام ابن المديني. (3) أسندها عن أحمد ابنُ الجوزي في "الموضوعات": (2/ 236)، وقال العراقي في "التقييد والإيضاح": (ص/ 223): "لا يصح هذا الكلام عن الإمام أحمد ... " ثم تكلم عليها حديثاً حديثاً، وبيَّن ما فيها من الكلام. (4) ليست في (ظ)، وكتب في هامش (ق): "لعلها العقاب". (5) (ظ): "أبو الخير"!.

(3/1152)


أبا العباس الدَّغُولي يقول: قلت لأبى حاتمٍ الرَّازي: هل تعرفُ في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا اسمه أحمد؟ قال: لا أعلمُه، قلت: فهل تعلمُ في الصَّحابة من اسمُه (1) إسماعيلُ؟ قال: لا، قلت: فهل تعلمُ فيهم من اسمه أيوب؛ قال: لا، قلت: فهل تعرف فيهم أحدًا اسمه أسيد؟ قال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أيمن؟ قال: لا أعلم، قلت: فكان فيهم من اسمه أشعث؛ قال: لا، غير أشعث بن قيس الكِنْدي، قلت: فهل كان فيهم من اسمُه أمية؛ قال: صحابى واحد يقال له: أمة بن مخشي الخُزاعي، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أسلمُ؟ قال: واحد، أسلم أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: فهل كان فيهم غير أُهْبان بن صَيْفي؟ قال: أُهْبَانُ بن أوس، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أبيضُ غير ابن حمَّال؟ فقال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم أغَرُّ غير الأغَرَّ المُزَنِيِّ؟ قال: لا أعلَمُه، قلت: فهل كان فيهم (2) من اسمُه أرقم؛ قال: نعم أرقم بن أبى الأرقم، قلت: فهل كان فيهم من اسمه إبراهيم، قال: نعم إبراهيم اسم قديم قد تسمى به رجل قد سمِع من النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه المكيُّون عن عطاء بن إبراهيم، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قابِلوا بين النِّعَالِ" (3). قال كاتبه: وفي كتاب ابن حِبَّان في ترجمة الصحابة (4): أسلم آخر __________ (1) (ق): "أحدًا اسمه". (2) من قوله: "أبيض غير ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثانى": (3/ 243)، والطبراني في "الكبير": (1/ 333) وغيرهم، والحديث ضعفه ابن عبد البر في "الاستيعاب": (1/ 61)، والحافظ في "الإصابة": (1/ 16). (4) "الثقات": (3/ 18).

(3/1153)


غير أبي رافع، قال: "أسلم بن عَبْدَل (1) لما أسلمَ أسلمتِ اليهودُ بإسلامه" لم يَزِدْ، تمَّ الانتقاء. * * * يا جامعَ المال ما أَعْدَدْتَ للحُفَرِ ... هل يُغْفِلُ الزَّادَ من أضْحَى عل سَفَرِ (ق/ 283 أ) أفنيتَ عمرَك في اللَّذَّاتِ تطلُبُها ... وا خَيْبَةَ السَّعْيِ، بل وا ضَيْغَةَ العُمُرِ قِفْ في ديارِ بني اللذات معتَبِرًا ... وانظرْ إليها ولا تسألْ عن الخَبَرِ ففي الذي فَعَلَتْ أيدي الشَّتَاتِ بهمْ ... من بعد أُلفَتِهِمْ معنى (2) لمعتَبِرِ غيره (3): قد عرف المُنْكَرُ واستْنْكِرَ الْـ ... ـمعروفُ في أيامِنا الصَّعْبَهْ وصار أهلُ العلمِ فى وَهْدَةٍ ... وصار أهلُ الجهلِ فى رُتْبَهْ فقلتُ للأبار أهلِ التُّقَى ... والدِّين لما اشتَدَّتِ الكُرْبَهْ لا تُنْكِروا أحوالَكُمْ قد أتت ... نَوْبَتُكُمْ في زمن الغُرْبَهْ (ظ/ 197 ب) غيره: اقْنَعْ بأيْسَرِ ميسورٍ من الزَّمَنِ ... واشكرْ لرَبِّكَ ما أولاكَ مِنْ مِنَنِ واذكرْ ملابسَ مِنْ عَدْنٍ يُخَصُّ بها ... ذوو التُّقَى، واهجر الأبرادَ من عَدَن إنْ شئتَ أن تدخلَ الجنَّاتِ مجتنِيًا ... قطوفَها فتَوَقَّ النارَ بالجُنَنِ __________ (1) كذا في الأصول، وفي "الثقات": "عبيد". (2) في هامش (ق): "ظ: كافٍ". (3) الأبيات الأربعة سقطت من (ع)، وتأخرت في (ق) بعد الأبيات التي تليها.

(3/1154)


وباشرِ الناسَ بالمعروفِ مجتهِدًا ... وراقبِ اللهَ في سِرٍّ وفي عَلَنِ حديث: روى البيهقيُّ (1) من حديث أبي بكر الحنفيِّ، ثنا سفيان الَثَّوْرِيُّ، عن أبي الزُّبير، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضًا فرآه يصلِّي على وسادة، فأخذها فرمى بها، فأخذ عودًا ليصلِّىَ عليه فأخذه فرمى به. وقال: "صَلِّ عَلَى الأَرْضِ فإنِ اسْتَطَعْتَ، وَإلاّ فَأوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ". قال البيهقيُّ: "هذا الحديث يُعَد في أفراد أبي بكر الحنفي عن الثوري" تم كلامه. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (2): "سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: إن هذا خطأ، إنما هو عن جابرٍ قولُه "أنه دخل على مريض". قيل له: فإن أبا أسامة قد رواه عن الثوري مرفوعًا، قال: ليس بشيء هو موقوف" تم كلامُهُ. ورواه يحيى بن أبي طالب، ثنا عبدُ الوهاب بن عطاء، ثنا سفيان الثَّوري فذكره بمثله. رواه البيهقي (3). فهؤلاء ثلاثة رفعوه: أبو أسامة وعبدُ الوهاب بنُ عطاء وأبو بكر الحنفيُّ: فأما أبو أسامة فالعَلَمُ المشهور. وأما أبو بكَرِ الحنفيُّ فمن رجال الصحيحين ووثقه أحمد. وأما عبد الوهاب بن عطاء فاحتج به مسلم. والظاهر أن الحديثَ موقوفٌ كما ذكره ابن أبي حاتم على أبيه، والله أعلم. والآثارُ في ذلك معروفةٌ عن الصحابة، كما روى مالك في "الموطأ" (4) عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: "إذا لم يستطعِ المريضُ __________ (1) في "الكبرى": (2/ 306). (2) (1/ 113). (3) في "الكبرى": (2/ 306). (4) (1/ 168).

(3/1155)


السجودَ أَوْمَأَ برأسه إيماءً ولم يرفعْ إلى جبهته شيئًا". وقد رفعه عبد الله بن عامر الأسنمي، عن نافع (1)، وقد ضعَّفه أحمدُ وأبو زُرْعَةَ، والصوابُ وقفه. وروى شعبة، عن أبى إسحاق السَّبِيعيِّ، عن زَيْد بن معاوية، عن عَلْقَمَةَ، قال: دخلت مع عبد الله بن مسعود على أخيه نعودُه وهو مريض، فرأى مع أخيه مَرْوَحَةً يسجُدُ عليها، فانتزعَها منه عبد الله، وقال: اسجدْ على الأرض فإنْ لم تستطعْ فأَوْمِ إيماءً واجعلِ (ق/283 ب) لسجودَ أخفضَ من الركوع (2). وزيد هذا ثقة (3). حديث: قال حنبل: قال أحمد (4) في حديث حَجَّاج المِصِّيصِيِّ، عن شَريك، عن إبراهيم بن حزم، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبى هريرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخَلاءَ أتَيتُهُ بماء فاستنجى، ثم مَسَحَ بيدِهِ على الأرضِ، ثم تَوَضَّأ" (5) فقال أحمد: هذا حديث منكر إنما هو عن أبي الأحوص، عن عبد الله، ولم يرفَعْهُ. فائدة (6) قال بعضهم: قولُ العامَّةِ: "نُسَيَّاتٌ" ليس بلحن؛ لأن الجوهريَّ __________ (1) أخرجه البيهقي: (2/ 306). (2) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 477)، والبيهقي: (2/ 307). (3) ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، وذكره البخاري في "التاريخ"، وابن أبي حاتم في كتابه، ولم يذكرا. فيه جرحًا ولا تعديلاً. انظر: "لسان الميزان": (2/ 511)، و"ثقات العجلي" (ص/ 171). (4) "قال أحمد" ليست في (ع). (5) أخرجه أحمد: (15/ 533 رقم 9861) عن حجاجٍ به. (6) هذه الفائدة ليست (ع).

(3/1156)


حكاه (1)، وكأنه جَمْعُ نُسَيَّهِ بتصغير نِسْوَةٍ. قلت: وعلى هذا فلا يقالُ إلا على جماعات متعدِّدَةٍ منهنَّ؛ لأنه جمعُ الجمع، والعامَّةُ تطلقه على الجماعة الواحدة منهنَّ. فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فكأنَّما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ" (2). سرُّ هذا التشبيه -والله ُكل أعلم-: أن اللاعبَ بها لما كان مقصودُه بلعبه أكلَ المال بالباطل الذي هو حرامٌ كحرمة لحم الخنزير، وتوصَّل إليه بالقمار، وظنَّ أنه يُفيدُه حِلَّ المال، كان كالمتوصِّل إلى أكل لحم الخنزير بذكاته، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (ظ/198 أ) شَبَّهَ اللاَّعب بها بغامس يده في لحم الخنزير ودمه، إذ هو مقدِّمَةُ الأكلِ، كما أن اللعب بها مقدمةُ أكل المال، فإن أكَلَ بها المال كان كأَكْل لحم الخنزير. والتشبيه إنما وقع في مقدِّمة هذا بمقدمة هذا، واللهُ أعلم. فائدة تفسير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - البقر التي رآها في النوم تُنْحَرُ بالنَّفَر الذي أصيبوا (3) من أصحابه يوم أحد (4). قيل: وجهُ هذا التأويل أن "البقر والنفر" مشتركان في صورة الخَطِّ، __________ (1) في "الصحاح": (6/ 2508). (2) أخرجه مسلم رقم (2260) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-. (3) (ق): "قتلوا". (4) أخرجه البخاري رقم (3622)، ومسلم رقم (2272) من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.

(3/1157)


ويمتازُ أحدهما عن الآخر بالنَّقْط، وهذه جهةٌ من جهات التعبير. وهذا قولٌ فاسد جدًّا! ولم يكن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدركُ شيئًا من الخَطِّ أصلاً، ولا هذه جهةٌ: صحيحةٌ من جهات التأويل، فلا يؤوَّلُ النردُ بالبَرْد، ولا الزَّبَد بالزَّنْد (1)، ولا العين بالغَبْن، ولا الحَيَّة بالجنة، وأمثال ذلك. وقيل: وجه الشبة أن البقر معها أسلحتُها التي تقاتل بها وهي قرونُها، وكانتِ العربُ تستعملُ الصَّيَاصِيَ (2) والقُرونَ في الرِّماح عند عدم الأسِنَّةِ. وهذا أقربُ من الأول، ولكنه مشتركٌ بين المسلمين والكفار، فإن كل طائفة معها سلاحُها. وأجودُ من هذين أن يقال: وجهُ التشبيه أن الأرض لا تُعْمَرُ ولا، تُفْلح إلا بالبقر، فهم عمارَةُ الأرض، وبها صلاحُ العالم وبقاءُ معيشتهم وقوامُ أمرِهم، وهكذا المؤمنون، بِهم صلاحُ الأرض وأهلها وهم زينتُها، وأنفعُ أهل الأرض للناس، كما أن البقر أنفع الدَّوابِّ للأرض، ومن وجه آخَرَ وهو: أن البقر تُثير الأرضَ وتُهَيِّئُها (3) لقبول البَذْر (ق/284 أ) وإنباته، وهكذا أهلُ العلم والإيمان يثيرونَ القلوبَ ويُهَيِّئونها لقبول بذر الهدى فيها ونباته وكماله، والله أعلم. فائدة (4) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَى عِيسَى رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ: سَرَقْتَ. قال: كَلاّ __________ (1) "ولا ... " سقطت من (ظ)، و (ق): "ولا الزند بالزبد" والنَّقط غير محرر، ويمكن قراءته على أنحاء شتى. (2) هي القرون نفسها. (3) (ع): "وترخيها". (4) ليست في (ظ)، وانظر "إغاثة اللهفان": (1/ 183)، و "فتح الباري": (6/ 565).

(3/1158)


وَالّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ. فقال عيسى: آمَنْتُ باللهِ وكَذَّبْتُ بَصَرِي" (1). قيل: هو استفهام من المسيح، لا أنه إخبار، والمعنى: "أسرقت" فلما حلف له صدقه، ويردُّ هذا قولُه: "وكذبتُ بَصَري"، وقيل: لما رآه المسيح أخذَ المالَ بصورة السارق فقال: سرقت؟ فقال: كلا، أي: ليس بسرقة، إما لأنه مالُه أو له فيه حق، أو لأنه أخده ليقلبَهُ ويعيدَهُ، والمسيحُ - صلى الله عليه وسلم - أحال على ظاهر ما رأى، فلما حلف له قال: "آمَنْتُ بالله وكَذَّبْتُ نفسي في ظني أنها سرقةٌ" لا أنه كَذَّبَ نفسَه في أخده المال عيانًا، فالتكذيبُ واقعٌ على الظَّنِّ لا على العِيان، وهكذا الروايةُ "وكَذَّبْتُ نَفْسِي" (2) ولا تنافِيَ بينها وبين رواية: "وكَذَّبْتُ بَصري"، لأن البصرَ ظنَّ أن ذلك الأَخْذ سرقةٌ، فأنا كذبته في ظنِّ أنه رأى سرقة، ولعله إنما رأى أخذًا ليس بسرقة. وفي الحديث معنى ثالث -ولعله أَلْيَقُ به- وهو: أن المسيحَ - صلى الله عليه وسلم - لعظمة وقارِ الله في قلبه وجلالِه ظنَّ أن هذا الحالف بوحدانية الله صادقًا، فحمله إيمانُهُ بالله على تصديقه، وجوَّز أن يكون بصرُة قد كذبه، وأراه ما لم يَرَ، فقال: "آمنْتُ باللهِ وكذبْتُ بَصَري". ولا ريبَ أن البَصَرَ يعرِضُ له الغلطُ، ورؤية بعض الأشياء بخلاف (3) ما هي عليه، ويُخَيِّلُ ما لا وجود له في الخارج، فإذا حكم عليه العقلُ تبين غلطُه. والمسيحُ - صلى الله عليه وسلم - حكَّم إيمانه على بصره فكذب بصره (4) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3444)، ومسلم رقم (2368) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) من قوله: "في ظني أنها ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (3) (ق): "على غير". (4) "فكذب بصره" ليست في (ع).

(3/1159)


ونسب الغَلَطَ إليه، والله أعلم. فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأَنْبياءُ أَوْلادُ عَلاَّتٍ"، وفي لفظ: "إخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ، أمّهاتُهمْ شَتَّى ودِينُهُمُ وَاحِدٌ" (1). قال الجوهري (2): بنو العَلاَّت: هم أولادُ الرجل من نسوةٍ شتّى، سميتْ بذلك لأن الذي تزوَّجها على أولى كانت قبلها، ثم عَلَّ من الثانية العَلَل، والشُّرْبُ الثاني يقال له: عَلَلٌ بعدَ نَهَل، وعَلَّهُ يَعِلُّهُ: إذا سقاه السَّقْيَة الثانية. وقال غيره: سمُّوا بذلك لأنهم أولاد ضَرَائِر، والعَلاَّتُ: الضرائر، وهذا الثاني أظهرُ. وأما وجة التشبيه (3)؛ فقال جماعة -منهم القاضي عِياضُ (4) وغيره-: معناه أن الأنبياءَ مختلفونَ في أزمانهم، (ظ/ 198 ب) وبعضهم بعيدُ الوقت من بعض، فهم أولاد عَلاَّتٍ، إذ لم يجمَعْهم زمانٌ واحد، كما لم (ق/ 284 ب) يجمعْ أولادَ العَلاّتِ بطنٌ واحد، وعيسى لما كان قريبَ الزمان من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكنْ بينهما نبيٌّ، كانا: كأنهما في زمان واحد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أوْلى النَّاسِ بعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ"، قالوا: كيف يا رسولَ الله؟ فقال: "الأَنْبِياءُ إخْوَةٌ مِنْ عَلاّتٍ" الحديث. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3442)، ومسلم رقم (2365) من حديث أبي هريرة - رضى الله عنه-. (2) "الصحاح": (5/ 1773). (3) (ظ): "التسمية". (4) في "إكمال المعلم": (7/ 337).

(3/1160)


وفيه وجهٌ آخر أحسن من هذا، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَبَّه دين الأنبياء الذي اتفقوا عليه من التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريكَ له، والإيمانُ به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه = بالأب الواحد؛ لاشتراك جميعهم فيه وهو الدينُ الذي شرعه اللهُ لأنبيائه كلِّهم، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وقال البخاريُّ في "صحيحه": باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد، وذكر هذا الحديث (1)، وهذا هو دينُ الإسلام الذي أخبر اللهُ أنه دينُ أنبيائِهِ ورسلِهِ من أولهم نوح إلى خاتَمِهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو بمنزلة الأب الواحد. وأما شرائعُ الأعمال والمأمورات فقد تختلفُ، فهي بمنزلة الأمهَّات الشَّتَّى، فإنّ لقاحَ تلك الأمهات من أبٍ واحد، كما أن مادَّة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متفق عليه، فهذا أولى المعنيين بالحديث، وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجبُ أن يُشَبِّهَ زمانَهم بأمهاتهم، ويجعلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأم بمنزلة الشريعة والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعيَّه الأم وتأنيثها، واتحاد الأب وتعدد الأم، ما يدلُّ على أنه معنى الحديث، والله أعلم. فائدة في قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دون: "بَعَثَ بعبده"، و"أرسل به" __________ (1) لم أجد الترجمة التي ذكرها المصنف في الصحيح، وذكر البخاريُّ هذا الحديث في موضعين متتاليين في باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } "الفتح": (6/ 549 - 551).

(3/1161)


ما يفيدُ مصاحَبَتَهُ له في مَسْراه، فإن الباء هنا للمصاحبة، كهي في قوله: "هَاجَرَ بِأَهْلِهِ وسَافَرَ بغُلامِهِ" وليست للتعدية، فإنَّ (أسرى) يتعدَّى بنفسه، يقال: سَرَى به وأَسْرَاه، وهذا لأن ذلك السُّرَى كان من أعظم أسفاره - صلى الله عليه وسلم -، والسفرُ يعتمدُ الصاحبَ، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يقول: "اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ" (1). فإن قيل: فهذا المعنى يُفهم من الفعل الثلاثي لو قيل: "سَرَي بعبده"، فما فائدة الجمع بين الهمزة والباء؛ ففيه أجوية: أحدها: أنهما بمعنًى، وإنَّ أَسْرَى لازمٌ كـ: سَرَى، تقول: "سَرَى زيدٌ وأَسْرَى"، بمعنى واحد، هذا قول جماعة. (ق/285 أ) والثاني: أن (أسرى) مُتَعَدٍّ ومفعوله محذوف، أي: "أَسْرى بِعَبْدهِ البُرَاقُ"، هذا قول السهيلي (2) وغيره، ويشهد للقول الأول قول الصِّدِّيق: "أسْرَيْنا لَيْلَتَنا كُلَّها ومن الغَدِ حتى قام قائمُ الظَّهِيرَةِ" (3). والجواب الصحيحُ: أن الثُّلاثِيَّ المتعدِّي بالباء يفهم منه شيئانِ؛ أحدهما: صدور الفعل من فاعله، والثاني: مصاحبته لما دخلت عليه الباء. فإذا قلت: "سَرَيْتُ بزَيْدٍ وسَافَرْتُ به"، كنتَ قد وُجد منك السُّرَى والسفر مصاحبًا لزيد فيه، كما قال: __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1342) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. (2) كما في "الروض الأنف": (2/ 148). (3) في حديث الهجرة، أخرجه البخاري رقم (3615)، ومسلم رقم (2009) من حديث البراء بن عازب عن أبي بكر -رضي الله عنهما-.

(3/1162)


* ولقد سَرَيْتُ على الظَّلام بمِغْشَمٍ (1) * ومنه الحديث: "أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُنَّ خرجَ سهمُها، خرج بها" (2). وأما المتعدي بالهمزة فيقتضى إيقاعَ الفعل بالمفعول فقط، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] .. ونظائره، فإذا قُرِن هذا المتعدي بالهمزة أفاد إيقاعَ الفعل على المفعول مع المصاحبة المفهومة من الباء، ولو أتى فيه بالثلاثى فُهِم منه معنى المشاركة في مصدرِهِ، وهو ممتنعٌ، فتأمَّلْه. فائدة (3) كانت كرامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسراء مفاجأةً من غيرِ ميعاد؛ ليُحْمَلَ عنه ألمُ الانتظار، ويفاجأ بالكرامة بغتةً. وكرامة موسى بعدَ انتظارِ أربعينَ ليلةً. فائدة (4) لما سافر موسى إلى الخضر وجَدَ في طريقه مسَّ الجُوع والنَّصَبِ، فقال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62] فإنه سفرٌ إلى مخلوق. __________ (1) البيت لأبي كبير الهذلي، انظر "الحماسة": (1/ 73)، وتمامه: * جَلْدِ من الفِتيانِ غيرِ مُثَقّل * (2) قطعة من حديث الإفك، تقدم تخريجه. (3) ليست في (ظ). (4) ليست في (ع).

(3/1163)


ولما واعَدَهُ ربُّه ثلاثينَ ليلةً وأتَّمها (ظ/199 أ) بعشر، فلم يأكلْ فيها، لم يجدْ مسَّ الجُوع ولا النَّصَب فإنه كان سَفَرٌ إلى ربه تعالى، وهكذا سفرُ القلب وسيرُه إلى ربِّه لا يَجِدُ فيه من الشَّقاء والنَّصَب ما يجِدُه في سفره إلى بعض المخلوقين. فائدة تسخيرُ البراق لحَمْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلةٍ واحدة مسيرةَ شهرينِ ذهابًا وإيابًا أعظمُ من تسخير الريحِ لسليمان مسيرةَ شهرين في يوم ذهابًا وإيابًا، فإن الريحَ سريعةُ الحركة، طبعُها الإسراع بما تحملُهُ، وأما البراق فالآية فيه أعظمُ. فائدة شقُّ صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - والاعتناءُ بتطهير قلبهِ وحشْوُهُ إيمانًا وحكمَةً، دليلٌ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ، وهو متَّصِلٌ بالدِّماغ. واستدلَّ بعضُ الفقهاءِ بغسل قلبه - صلى الله عليه وسلم - في الطِّسْتِ من الذهب على جواز تحلية المصاحف: بالذهب والمساجد، وهو في غاية البُعْدِ! فإن ذلك كان قبل النُّبُوَّة، ولم يكنْ ذلك من ذَهَب الدنيا، وكان كرامةً أُكْرِمَ بها - صلى الله عليه وسلم -، وكان من فِعْل الملائكة بأمر الله، وهم ليسوا داخلينَ تحتَ تكاليف البشر. وأبعدُ منها احتجاجُ من احتجَّ به على جواز انتفاع الرجل بالحرير تَبَعًا لامرأته كالفراش (ق/ 285 ب) واللِّحاف والمخدَّة، قال: لأن الملكَ لا حرجَ عليه، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - انتفعَ بذلك تَبَعًا. وقد أبعدَ هذا القائلُ النَّجْعَةَ، وأتى بغير دليل!.

(3/1164)


فائدة الفعل إن كان منشأَ المفسدة الخالصة (1) أو الراجحة فهو المُحرَّم، فإن ضَعُفت تلك المفسدهُ فهو المكروه، ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة، هذا إذا كان منشأً للمفسدة. وأما إن كان مُفْضِيًا إليها فإن كان الإفضاءُ قريبًا فهو حرام أيضًا كالخَلْوة بالأجنبية، والسَّفَر بها، ورؤية محاسنها، فهذا القسم يُسْلُبُ عنه اسمُ الإباحَةِ وحكمُها. وإن كان الإفضاءُ بعيدًا جدًّا لم يسلبْ اسمَ الإباحة ولا حُكْمَها، كخَلْوَة ذي الرَّحِم المَحْرَمِ وسفره معها، وكنظر الخاطب الذي مقصودُه الإفضاء إلى المصلحة الرَّاجحة، فإن قربَ الإفضاء قربًا ما فهو الوَرَع، وهو في المراتب على قَدْر قرب الإفضاء وبعده، وكلما قَرُبَ الإفضاءُ كان أَوْلى بالكراهة والوَرَع، حتى ينتهيَ إلى درجةِ التَّحريم. فائدة قولُ الملائكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء: "مَرْحَباً بِهِ" أصلٌ في استعمال هذه الألفاظ وما ناسَبَها عند اللِّقاء نحو: أَهلاً وسهلاً، ومرحبًا وكرامَةً، وخيْرَ مَقْدَمٍ وأيْمَنَ (2) مَوْرِدٍ ونحوها. ووقع الاقتصارُ منها على لفظ: "مَرْحَبًا" وحدها؛ لاقتضاءِ الحال لها، فإن الرَّحْبَ (3) هو السَّعَةُ، وكان قد أفضى إلى أوسع الأماكن، ولم يطلقْ فيها "سهلاً"؛ لأن معناه: وطِئْتَ مكانًا سهلاً، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان محمولاً إلى السماء. __________ (1) (ع): "الحاصلة". (2) (ع): "وأتم". (3) (ع): "المرحب" و (ظ): "الترحيب".

(3/1165)


فائدة (1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى: "واللهِ لا أحْمِلُكُمْ، وما عِنْديَ ما أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" (2) يحتمل وجهينِ: أحدُهما: أن يكون الكلام جملةً واحدةً، والواو واو الحال، والمعنى: لا أحملُكم في حالٍ ليس عندي فيها ما أحملكم عليه، ويؤيد هذا جوابه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "ما أنا حَمَلْتْكُمْ، اللهُ حَمَلَكُمْ"، وعلى هذا فلا تكونُ هذه اليمينُ محتاجةً إلى تكفير. ويحتمل أن تكونَ جملتينِ؛ حَلَف في أحدهما أنه لا يحملُهم، وأخبر في الثانية أنه ليس عنده ما يحمِلُهم عليه، ويؤيِّدُ هذا قوله في الحديث لما قيل له: إنك حَمَلْتنا، وقد حلفت، فقال: "إنِّي لا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فأرَى غَيْرَها خَيْرًا منها إلا كفَّرْتُ عنْ يميني وأَتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ". ولمن نَصَر الاحتمالَ الأول أن يجيب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن هذا استئنافٌ لقاعدةٍ كان سبيها اليمينُ ليبيِّنَ فيها للأمَّة حكمَ اليمين، لا أنه حَنَث في تلك اليمين وكفَّرها. الجواب الثاني: أن هذا كلامٌ خرج على التقدير، أي: ولو حنثتُ (ق/ 286 أ) لكفَّرتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خيرٌ، واللهُ أعلم. فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يوسف: "إنه أُوتِيَ شَطْرَ الحُسْنِ" (3). __________ (1) "فائدة" ليست في (ع). (2) أخرجه البخاري رقم (4415)، ومسلم رقم (1649) من حديث أبي موسى الأشعري- رضى الله عنه-. (3) قطعة من حديث أنسٍ في الإسراء، أخرجه البخاري رقم (3570)، ومسلم رقم (162).

(3/1166)


قالت طائفة: المراد منه أن يوسف أوتِيَ شَطْر الحسن الذي أوتيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ الغاية في الحُسْن، ويوسُف بلغ شطْرَ تلك الغاية. قالوا: ويحقق ذلك ما رواه الترمذي من حديث قَتَادَةَ عن أنس، (ظ/199 ب) قال: "ما بَعَثَ اللهُ نبِيًّا إلا حَسَنَ الوَجْهِ، حَسَنَ الصَّوْتِ، وكان نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَهُمْ وَجْهًا، وأحْسَنَهُمْ صَوْتًا" (1). والظاهر أن معناه: أن يوسف عليه السلام اختص عن الناس بشَطْر الحسن، واشتركَ الناسُ كلُّهم في شطره، فانفرد عنهم بشطره وحدَه، هذا ظاهرُ اللفظ فلماذا يُعْدَلُ عنه؛ واللام في "الحُسْن" للجنس لا للحُسْن المعين المعهود المختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أدري ما الذي حَمَلَهم على العُدول عن هذا إلى ما ذكروه؟. وحديث أنس لا يُنافي هذا، بل يدلُّ على أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان أحسنَ الأنبياء وجهًا وأحسنَهم صوتًا، ولا يلزمُ من كونه - صلى الله عليه وسلم - أحسنَهم وجهًا أن لا يكونَ يوسفُ اختصَّ عن النَّاس بشطر الحسن، واشتركوا هم في الشطر الآخر. ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شارك يوسُفَ فيما اختصَّ به من الشطر وزاد عليه بحسنٍ آخر من الشَّطر الثاني (2)، واللهُ أعلم. فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ ولا شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ" (3)؛ __________ (1) أخرجه الترمذي في "الشمائل": (ص/ 150)، وابن عدي في "الكامل": (2/ 434) وغيرهم من حديث أنس، وهو ضعيف من مناكير حسام بن مِصَكّ. ضعَّفه ابن عدي، والذهبى في "الميزان": (1/ 477). (2) من قوله: "ويكون النبي ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) أخرجه مسلم رقم (2598) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.

(3/1167)


لأنَّ اللعنَ إساءةٌ، بل من أبلغ الإساءة، والشفاعةُ إحسانٌ، فالمُسيءُ في هذه الدَّار باللعن يسلبه اللهُ الإحسانَ في الأخرى بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصُدُ ما يزرعُ، والإساءةُ مانعةٌ من الشَّفاعة التي هي إحسان. وأما منعُ اللعن من الشهادة فإنَّ اللَّعنَ عداوةٌ، وهي منافيةٌ للشَّهادة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيِّدَ الشفعاء وشفيعَ الخلائق؛ لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم - صلى الله عليه وسلم -. فائدة السِّرُّ -والله أعلم - في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وعُمر وعثمان: أن عَلِيًّا لو تولَّى الخلافة بعد موته لأوشكَ أن يقولَ المُبْطِلون: إنه مَلِكٌ وَرِثَ مُلْكَهُ أهلُ بيته، فصان اللهُ منصبَ رسالته ونبوَّته عن هذه الشُّبهة، وتأمَّلْ قولَ هِرَقْلَ لأبي سفيانَ: هل كان في آبائه مَنْ مَلِكَ؟ قال: لا، فقال له: لو كان في آبائه مَلِكٌ لقلتُ: رجلٌ يطلبُ مُلْكَ آبائه (1). فصان اللهُ منصبَه العَلِيَّ من شبهة المُلْكِ في آبائه وأهل بيته وهذا -والله أعلم- هو السِّرُّ في كونه لم يُورَثْ هو والأنبياءُ، قطعًا لهذه الشُّبْهة، لئلا يظنَّ (ق/286 ب) المُبْطِلُ أن الأنبياءَ طلبوا جمعَ الدنيا لأولاهم ووَرثَتِهِم كما يفعلُهُ الإنسانُ من زهده في نفسه وتوريثه مالَهُ لولده وذُرِّتَّتِهِ، فصانهم اللهُ من ذلك، ومنعهم من توريث ورثَتِهم شيئًا من المال، لئلا تتطرَّقَ التهمةُ إلى حُجَج الله ورسله، فلا يبقى في نُبُوَّتِهم ورسالتهم شبهةٌ أصلاً. __________ (1) في حديث أبي سفيان مع هرقل، أخرجه البخاري رقم (7)، ومسلم رقم (1773) من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.

(3/1168)


ولا يقال: فقد وَلِيَها عليٌّ وأهل بيته؛ لأن الأمر لما استقر (1) أنها ليست بملك موروثٍ، وإنما هي خلافةٌ نبوَّةٍ تُسْتَحَقُّ بالسَّبْق والتَّقَدُّم، كان عليٌّ في وقته هو سابقَ الأمة وأفضَلَها، ولم يكنْ فيهم حين وَلِيَها أولى بها منه، ولا خيرًا منه، فلم يحصلْ لمُبطل بذلك شبهةٌ والحمد لله تعالى. فائدة في شراءِ أَرْض مسجدِ المدينة من اليتيمين وجَعْلها مسجدًا من الفقه: دليلٌ على جواز بيع عقار اليَتيم، وإن لم يكنْ محتاجًا إلى بيعه للنَّفقة، إذا كان في البيع مصلحةٌ للمُسلمينَ عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه. ويؤْخَذُ من ذلك أيضًا بيعُه إذا عُوِّضَ عنه بما هو خير له منه. وفي نَبْش قبور المشركين من الأرض وجعلها مسجدًا دليلٌ على طهارة المقبرة، وأن الصَّلاةَ فيها لم يُنْهَ عنها لنجاستها، وإنما هو صيانةً للتَّوحيد، وسدًّا لذريعة الشِّرْك بالقبور، الذي هو أصل عبادة الأصنام، كما قال ابن عباس وغيره. فائدة في استئجار النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بن أُرَيْقِط الدِّيلي هاديًا في وقت الهجرة (2)، وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطِّبِّ والكُحْل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكنْ ولايةً تتضمَّنُ (ظ/ 200 أ) عدالةً، ولا يلزمُ من مجرَّد كونِه كافرًا أن لا يوثَقَ به في شيء أصلاً، فإنه لا شيءَ أخطرُ من الدلالة في الطريق، __________ (1) (ع): "سبق". (2) أخرجه البخاري رقم (3905) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(3/1169)


ولاسِيَّما في مثل طريق الهجرة. فائدة في حديث عبد الله بن جحش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب له كتابًا وأمره أن لا يقرَأهُ حتى يسيرَ يومين، وأن عبد الله امتثلَ أمرَه ففتح الكتاب بعد اليومين، فقرأه .. الحديث (1). فيه من الفقه: جوازُ الشهادة على الكتاب الذي لا يُدْرَى ما فيه، بل إذا قال: هذا كتابي فاشهدْ عليَّ بما فيه، جازت الشهادةُ، وهي مسألةُ خلاف مشهورة، وتسمى: "شهادة التقليد"، ويدلُّ عليها أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث كتبه إلى الملوك والنَّواحي ولا يقرؤها على من يبعثُها معه، بل يقول: "هذا كِتَابِي فَأَوْصِلْهُ إلى فُلانٍ"، وكذلك عمل به خلفاؤُه من بعده. وفيه: جوازُ تراخي القبولِ عن الإيجاب، فإنَّ في الكتاب: "أن اقرأه ولا تُكْرِهْ أحدًا، فمن أجابك فامضِ به حتى تنزلَ نَخْلَةَ". وفيه مسألةٌ بديعة (ق/287 أ) وهي: جواز العقد والتَّوْليَة على أمرٍ مجهولٍ حالَ العقد، يتبيَّنُ في ثاني الحال. فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أنشدته قُتَيْلَةُ بنتُ الحارث شِعْرَها المعروفَ، ترثي به أخاها النَّضْر: "لو سَمِعْتُ هذا قَبْلَ قَتْلِهِ لمْ أَقْتُلْة" (2)، ليس __________ (1) أخرجه ابن جرير: (2/ 360)، والبيهقي: (9/ 58 - 59) وغيرهم عن عروة مرسلاً، وله شواهد. (2) أخرجه الزبير بن بكار -كما في "الإصابة": (4/ 389 - 390) -، وابن عبد البر =

(3/1170)


فيه النَّدَمُ على قتله؛ فإنه لم يقتلْهُ إلا بالحقِّ، ولكن كان - صلى الله عليه وسلم - رفيقًا رحيمًا يقبل الشفاعة، ويمنُّ على الجاني، فمعناه: لو شفَعَتْ عندي بما قالتْ قبل أن أقتلَهُ لَقَيِلْتُ شفاعَتَها وتركْتُهُ. وقريب من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - "لو اسْتَقْبلْتُ مِنْ أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْيَ، ولَجَعَلْتُها مُتْعَةُ" (1)، ليس فيه ندامةٌ (2) على أفضل مما أتى به من النُّسُك، فإن الله لم يكن ليختارَ له إلا أفضلَ الأنساك وأعلاها، ولكن كاد لمحبَّته تآلف قلوبِ أصحابه وموافقتهم وتطييب نفوسهِم بأن يفعل كما فعلوا، ودَّ لو أنهَ أَحَلَّ كما أحلُّوا، ولكن منعه سَوْقُ الهَدْي، وعلى هذا فيكون اللهُ تعالى قد اختار له أفضلَ الأنساك بفعلِهِ، وأعطاه ما تمنَّاه من موافقة أصحابه، وتأليف قلوبهم بِنِيَّتِهِ ومُناه، فجمح له بين الأمرين، وهذا هو اللائقُ به صلواتُ الله وسلَامُه عليه. فائدة استشكلَ الناسُ من حديث قتل كعب بن الأشرف استئذان الصحابة أن يقولوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) "، وذلك ينافي الإيمان، وقد أذِنَ لهم فيه، وأجيب عنه بأجوبة: __________ = في "الاستيعاب": (4/ 390 - بهامش الإصابة) وقال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول إنها مصنوعة. (1) أخرجه البخاري رقم (1651)، ومسلم رقم (1216) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (2) (ع وق): "ندمة". (3) أخرجه البخاري رقم (4037)، ومسلم رقم (1801) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(3/1171)


أحدها: أنَّ الإكراه على التَّكَلُّم بكلمة الكفر يخرجها عن كونها كفرًا مرَّةً طمأْنِينَةِ القلب بالإيمان، وكعب كان قد اشتدَّ في أذى المسلمين وبالغ في ذلك، فكان يحرِّضُ على قتالهم، وكان في قتلِه خلاصُ المسلمين من ذلك، فكأنَّه أكرَه الله عنه - النّاسَ على النُّطق بما نَطَقُوا به وألجأهم إليه، فدفعوا عن أنفسهم بألسنتِهم، مع طمأْنِينَةِ قلوبِهم: بالإيمان، وليس هذا بقويٍّ. الجواب الثاني: أن ذلك النيل والكلام لم يكن صريحًا بما يتضمَّن كفرًا، بل تعريضًا وتوريةً مقاصِدُ صحيحةٌ موهِمَةٌ موافَقَته في عرَضِه، وهذا قد يجوزُ في الحرب الذي هو خُدعة. الجواب الثالث: أن هذا الكلام والنيل كان بإذنه - صلى الله عليه وسلم - والحقُّ له، وصاحبُ الحق إذا أَذنَ في حقِّه لمصلحةٍ شرعية عامَّة لم يكن ذلك: محظورًا. فائدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يَنْبَغِي لِنبِيٍّ إذَا لَبسَ لأُمَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَه وَبَينَ أَعْدائهِ" (1) احتج من يقولُ: إنَّ النوافلَ تلزمُ بالشروع، وأن الشروعَ فيها جار مجرى التزامِها (2) بالنَّذر، فإن الشروع التزام بالفعل، والنَّذْر التزامٌ بالقول، والالتزامُ بالفعل أقوى لأنه الغاية. __________ (1) أخرجه أحمد: (23/ 99 رقم 147787)، والدارمي: (2/ 129)، والنسائى في "الكبرى" رقم (7647) من حديث جابر -رضي الله عنه- وسنده صحيح، وله شاهد من حديث أبي عبَّاس أخرجه الحاكم: (2/ 128 - 129)، والبيهقي: (7/ 41). (2): (ع): "جارٍ مجراها: بالتزامها".

(3/1172)


وفي الاستدلال بالحديث شيءٌ، فإن (ق/ 287 ب) فيه الإشارةَ إلى الاختصاص بقوله: "ما ينبغي لِنبِيٍّ"، ولم يقل: "ما ينبغي لأحد" ولا: "ما ينبغي (ظ / 200 ب، لكم"، فدلَّ "على مُخَالَفَةُ حكم غيره له في هذا وأنه من خواصه، ويدلُّ عليه أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملًا أثبتَهُ، وداوَمَ عليه، ولهذا لما قضى سُنَّةَ الظهر بعد العصر أثبتها وداوم عليها (1). وقولهم: الشُّروع التزامٌ بالفعل يقال: تعنونَ بالالتزام إيجابَه إيَّاه على نفسه، أم تعنون (2) به دخوله فيه؟. الأول: محل النزاع، والثاني: لا يفيد، وبه خرج الجواب عن قولكم: الالتزام بالفعل أقوى. وسرُّ المسألة: أنَّ الشارعَ في النافلة لم يلتزمها (3) التزامَ الواجبات، بل شرع فيها بنيةِ تكميلها وفعلها فعل سائر النوافل، وأما الناذر لها فبنذره قد الحزمَ أَدَاءَها كما يؤدي الواجباتِ، فافترقا. فائدة عتبةُ بنُ أبي وقاص الذي كسر رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، قال بعض العلماء بالأخبار: إنه استقْرَى نسلَه فلا يبلغُ أحدٌ منهم الحُلُمَ __________ (1) في هامش (ع) حاشية نصُّها: "خالف هذا المؤلف -رحمه الله- في كتابه "الهدي" (3/ 211) فقال: إن من لبس لأمة حربه تعين عليه الجهاد، ولم يجعله من الخصائص كما قال الأكثرون. وشيخه أَبو العباس -رحمه الله- جنح إلى عدم التخصيص فِى تعليقه على "المحرر"؛ لكن جعل [مأخذ] كونه شروعًا في فرض كفاية وأنه يلزم به، وهذا أقعد مما ذكره هنا في ..... " اهـ. (2) من قوله: "بالالتزام ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ع): "يلزمها".

(3/1173)


إلَّا أبْخَرَ أو أَهْتَمَ (1) يعرفُ ذلك فيهم وهو مِنْ شؤم الآباء على الأبناء. واخْتُلِف فيما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا ونحوه، فقيل: هو قبلَ نزول قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقيل: العصمةُ الموعودُ بها عصمةُ النفس من القتل لا عصمته من أذاهم بالكُلِّيَّة، بل أبقى الله تعالى لرسوله ثوابَ ذلك الأذى، ولأُمته حُسْن التَّأَسِّي به، إدْا أودي أحدُهم نظرَ إْلى ما (2) جرى عليه - صلى الله عليه وسلم - فتأسَّى وصَبَرَ، وللمُؤْذِينَ الأشقياءِ الأَخْذةُ الرَّابِيَةُ. فائدة قيل: إنما فَدَّى: النبي - صلى الله عليه وسلم - سعدًا بأبويه (3) لما ماتا عليه، وأما الأَبوان المسلمان فلا يجوز أن يُفَدَّى بهما، وهذا لا يحتاجُ إليه، فإنَّ التفديةَ نُقِلت بالعُرْف العام عن وضعها الأول، وصارت علامةً على الرضى والمحبة، وكأنه قال: افْعَلْ كدْا مغبوطًا مرضيًّا عنك. فائدة في حديث أبي لُبَابَةَ لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتباطه قال: "لَوْ أَتَانِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، وَإِذ فَعَلَ فَلَسْتُ أُطْلِقُهُ، حَتَّى يُطْلِقَهُ اللهُ"، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] فأطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ (4). وفي هذا ما يدُلُّ __________ (1) البَخَر هو: نَتَن الفم، والهَتَم: سقوط الأسنان من مقدم الفم. (2) (ظ): "ذكر ما ... ". (3) أخرجه البخاري رقم (2905) ومسلم رقم (2411) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (4) أخرجه ابن جرير: (6/ 460)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي =

(3/1174)


على صحَّة قول المفسرين: إنَّ (عسى) من الله واجب (1)، وفيه: أنَّ فاطمةَ جاءت تحلُّه فقال: لا إلَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فَاطِمَةُ بُضْعَةٌ مِنِّي" (2). فإن قيل: فهل يَبَرُّ الحالفُ بمثل هذا لو اتَّفَقَ اليوم؟. قيل: لا، إما أنَّه مختصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما لأن فاطمةَ بضعةٌ منه قطعًا، واللهُ أعلمُ. فائدة اختلف الناسُ (ق / 288 أ) في جواز إطلاق "السَّيِّد" على البَشَر، فمنعه قومٌ، ونُقِل عن مالك، واحتجُّوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - (3) لما قيل له: يا سَيِّدَنا، قال: "إنَّمَا السَّيِّد اللهُ" (4)، وجوَّزه قوم، واحتجُّوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "قومُوا إلى سَيِّدكُمْ" (5)، وهذا أصحُّ من الحديث الأول. __________ = في "الدلائل": (4/ 15 - 16) من حديث ابن عباسٍ في قصة تخلف أبي لبابة ونفرٍ معه عن غزوة تبوك. وذكر هذه القصة آخرون في شأن أبي لبابة مع بني قُريظَة أخرجه البيهقي في "الدلائل"؛ (4/ 16 - 17) من مرسل سعيد بنُ المسيب، وأخرجه غير واحد عن مجاهد كما في "الدر المنثور": (3/ 488). (1) جاء هذا عن ابن عبَّاس والحسن، انظر "الدر المنثور" ت (3/ 488، 490). (2) لم أجد هذه الزِّيادة في شئٍ من ألفاظ حديث أبي لبابة السالف، وهذه اللفظة أخرجها البخاري رقم (3714)، ومسلم رقم (3449) من حديث المِسْوَر بنُ مخرمة -رضي الله عنه-. (3) (ق): "بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (4) أخرجه أحمد: (26/ 235 رقم 16307)، وأَبو داود رقم (4806)، والنسائي في "الكبرى" رقم (10076) وغيرهم من حديث عبدِ الله بنُ الشخير -رضي الله عنه- وسنده صحيح. (5) أخرجه البخاري رقم (4121)، ومسلم رقم (1768)، من حديث أَبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

(3/1175)


قال هؤلاء: والسيد أحدُ ما يُضاف إليه، فلا يقال لتميميٍّ: إنَّه سيِّد كِنْدَةَ، ولا يقال لملك: إنه سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوزُ أن يُطلَقَ على الله هذا الاسم. وفي هذا نظرٌ، فإن السَّيِّدَ إذا أُطْلِقَ عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرَّبِّ، لا بالمعنى الذي يُطْلَقُ على المخلوق. فوائد (1) وأخلاقٍ كأخلاقِ الزِّجَاج ... دَقَفْت بها فصارتْ كالزُّجَاج إلى أن عُدْنَ لي عَسَلًا وماءً ... كذاك يكونُ عاقَبِةُ العِلاجِ الأول: جمع زُجٍّ وهو نَصْلُ الرُّمْحِ، والثاني: القوارير. ما أنت أوَّل سارٍ غرَّهُ قمرٌ ... ورائد أعجبتْهُ خضْرَةُ الدِّمَنِ فاربأْ بنفسك عني إنني رجلٌ ... مثلُ المُعَيْدِيِّ، فاسمعْ بي ولا تَرَني (2) [غيره] (3): إذا اشتاقَتِ الخيلُ المَنَاهِلَ أَعْرَضَتْ ... عن الماءِ فاشْتَاقَتْ إليها المَنَاهِلُ تَحَامَى الرَّزَايَا كُلَّ خُفٍّ وَمَنْسِمٍ ... وتَلْقى رَدَاهُن الذُّرَى والكَواهِلُ وتَرْجِعُ أعقابُ الرِّماحِ سَلِيمةً ... وقد حُطِّمَتْ في الدَّارِعِينَ العَوَامِلُ * من أراد من العمَّال أن ينظر قَدْرَه عند السلطان فلْيَنْظرْ ماذا يُوَلِّيه (4). __________ (1) ليست في (ظ)، و (ع): "فائدة". ومن هنا إلى (ص / 1233) منتقى من "المدهش" لابن الجوزي. وقد أعاد المؤلف هذا الانتقاء في كتابه الآخر "الفوائد": (ص/ 145 - 151، 357 - 405) مع تغيير وتصرف. (2) البيتان للحريري صاحب المقامات انظر: "وفيات الأعيان" ت (4/ 66 - 67). (3) القائل أَبو العلاء المعري "شروح سقط الزند": (2/ 541). (4) انظر: "المدهش": (ص/ 296).

(3/1176)


* وحَّدَ زيد وما رأى الرسولَ، وكَفَرَ ابن أُبَيٍّ وقد صلى معه القبلتين (1). * لما تقدَّم اختيارُ الطين المنهبط، صعِدَ على النار المرتفعة، فكانت الغلبةُ لآدَمَ في حرب إبليس (2). * سبق العلم بنبوة موسى وإيمانِ آسية، فسِيْق تابوتُهُ إلى بيتها، فجاء طفل بلا أمٍّ إلى امرأة بلا وَلَد (3). * يا من هو من جملة عسكر الرسول أيحسُنُ بك كل يوم هزيمة (4). * الحيوانات تذِلُّ في طلب القُوت، والفيل يتملَّقُ حتَّى يأكلَ (5). إن كان يوجبُ ضرِّي (6) رحمتي فرِضًى .... بسوءِ حالي وحِلٌّ للضَّنَى بَدَنِيِ منحتُك القلبَ لا أبغي به ثَمَنًا ..... إلَّا رضاكَ، ووافقري إلى الثَّمَنِ (7) * غيره: أحنُّ بأطراف النهار صَبَابَةً .... وباللَّيل يدعونى الهوى فأُجِيبُ (8) __________ (1) انظر: "المدهش": (ص / 296 - 297)، لكن فيه: "وحَّد قُس" وليس فيه: "القبلتين". (2) "المدهش": (ص / 297). (3) "المدهش": (ص / 297). (4) بنحوه في "المدهش" (ص/ 143). (5) المصدر السابق. (6) في النسخ، و"الفوائد": (ص/ 146) للمؤلف: "صبري"، والتصويب من "المدهش" ويدل عليه بقية البيت. (7) البيتان في "المدهش": (ص/ 423) وقبلي ثلاثة أبيات. (8) البيت في "المدهش": (ص/ 420).

(3/1177)


* آخر: سأُتعِبُ نفسي أو أصادفُ راحةً ... فإن هوانَ النفسِ أكرم للنَّفسِ (1) * يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك؟ إنما خُلقت الأكوانُ كلُّها لك، يا مَنْ غُذِي بِلِيان البِرِّ، وقُلِّبَ بأيدي الألطاف، كلُّ الأشياءِ شجرةٌ وأنْت الثمرة، وصورةٌ وأنت المعنى، وصَدَفٌ وأنت الدّرُّ، ومَخيضٌ وأنت الزُّبْدُ، منشورُ اختيارنا لك واضحُ الخَطِّ، ولكنَّ استخراجَكَ ضعيفًا، (ق/ 288 ب) متى رُمْتَ طلبي فاطلبني عندَك. ويْحَكَ لو عَرَفتَ قَدْرَ نفسِكَ ما أهَنْتها بالمعاصي، إنَّما أبْعَدْنَا إبليسَ لأنَّه لم يسجُدْ لك وأنت في صُلْب أبيك. فواعجبًا كيف صالحْتَهُ وتَرَكْتَنَا، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}. لو كان في قلبكَ محبَّةٌ لبان أثرُها على جسدِكَ، "عَجِبَ رَبُّنا من رجل ثَار عن وِطائه ولِحافِه إلى صلاته" (2) تأمل معنى: ثَارَ، ولم يقلِ: قَامَ؛ لأن القيام قد يقعُ بفُتور. فأما الثَّوَرانُ فلا يكونُ إلَّا بإسراع حَذَرًا من فائت (3). __________ (1) البيت في "المدهش" (ص/ 342) في أبيات أخرى. (2) قطعة من حديث أخرجه أحمد: (7/ 61 رقم 3949)، وأَبو داود رقم (2536)، وابن حبان الإحسان": (6/ 297) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وسنده جيد، إلَّا أنَّ الدارقطني قد أعله بالوقف كما في "العلل": (5/ 267). (3) من قوله: "يا من هو ..... " إلى هنا بنحوه من "المدهش": (ص / 340 - 341)، وانظر: "الفوائد": (ص/ 147) للمصنف.

(3/1178)


* ما انتفعَ آدَمُ في بليَّةَ {وَعَصَى} بكمالِ {وَعَلَمَ}؛ ولا ردَّ عنه عزُّ {اسْجُدُواْ} وإنما خلَّصه ذلُّ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (1). * لما عشقت اللبلابة (2) الشجر تقلقلت طلبًا للعناق، فقيل لها: مع الكثافة لا يمكن! فرضيت بالنُّحُول والْتَفَّتْ (3). تلقَّ قلبي فمَد أرسلتُه عجلًا ... إلى لِقَائِكَ والأشواقُ تَقدُمُهُ ولا تَكِلْنِي على بعْدِ الدِّيارِ إلى .... صبري الضعيفِ فصبري أنتَ تَعْلَمُهُ (4) * غيره: إذا لم يكن بيني وبينك مرسِلٌ ... فريحٌ الصَّبا مني إليك رسولُ (5) * ملأوا مراكبَ القلوب مَتَاعًا لا ينفق إلَّا على المَلِكِ، فلما هَبَّتْ رياحُ السَّحَر أقلعتْ تلك المركبُ (6). * قطعوا باديةَ الهوى بأقدام الجدِّ، فما كاد إلَّا القليل حتى قدِموا من السَّفَر، فاعتنقَتْهُم الرَّاحةُ في طَريق التَّلَقِّي، فدخلوا بلدَ الوصل وقد حاروا رِبْحَ الأبَدِ (7). * فرَّغَ القومُ قلوبَهم من الشَّواغل، فضُرِبَتْ فيها سُرَادقات المَحَبَّة، __________ (1) "المدهش": (ص/ 406). (2) اللبلاب: نبت يلتوي على الشجر. "اللسان": (1/ 735). (3) "المدهش" ت (ص/ 329). (4) البيتان في "الدهش" (ص/ 255) مع ثالث، وكذا في "الفوائد" (ص/ 148). (5) البيت في "المدهش": (ص/ 233). (6) "المدهش": (ص/ 156). (7) بنحوه في "المدهش": (ص/ 164).

(3/1179)


فأقاموا العيونَ تحرسُ تارةً، وترشُّ الأرض أخرى (1). * سرادقُ المحبَّة لا تُضْرَب إلَّا في قاعٍ فارغٍ نَزِهٍ، "فرِّغ لي بيتًا أسْكُنه" (2). * اعْرِف مِقْدارَ ما ضاعَ منكَ، وابْكِ بكاءَ مَنْ يدري مقدارَ الفائتِ (3). * لو تَخَيَّلْتَ قربَ الأحباب لأَقَمْتَ المآتمَ على بُعْدِكَ، لو استنشقتَ ريح الأسحار لأفاق قلبُك المخَمورُ. * مَن استطالَ الطريقَ ضَعفَ مشيُهُ. وما أنْتَ بالمشتاقِ إنْ قلتَ بيننا .... طوالُ اللَّيالي أو بعيدُ المَفَاوزِ * أما علمت أن الصادق:. * إدْا همَّ ألْقَى بين عينيه عزمَه (4) * * إذا نزل آبُ في القلب سكنَ آذارُ في العَيْن (5). * من قَبَّل فَمَ اللَّذَّةِ لا يُنْكِرْ عَضَّ أسنانِ النَّدامة. __________ (1) "المدهش" (ص/ 222). (2) "المدهش": (ص / 227). (3) "المدهش": (ص / 161). (4) صدر بيت لسعد في ناشب كما في "الحماسة": (1/ 69 - 70) وعجزه. * ونكَّبَ عن ذِكْر العواقب جانبًا * (5) "المدهش": (ص / 235)، والمعنى: إذا نزلَت حرارة الحب فِى القلب، رأيت كل ما في المحبوب جميلًا. كّنى عن شدة الحرارة بـ "آب"، وعن جمال الربيع بـ "آذار".

(3/1180)


* هان سهرُ الحراس لما علِموا أنَّ أصواتَهم بِسَمع المَلِك. * "رفيقُك قَيْسِيٌّ وأنت يَماني". * إذا كنت كلَّما لاحتْ لك شهوةٌ طفيل العرائس، فانتظرْ قتْلَة وضَّاح اليَمَن (1). * من لاحَ له كمالُ (2) الآخرة هان عليه فِراقُ الدنيا. * إذا لاحَ للباشقِ الصيدْ نَسِيَ مألوفَ الكَفِّ. * يا أقدامَ الصَّبرِ احملي بَقِيَ القليلُ (3). * تذكَّرْ حلاوةَ الوِصَالِ يَهُنْ عليكَ مرُّ المُجَاهَدةِ (4). * قد علمَتْ أينَ المنزل فاحْدُ لها تَسِرْ (5). * قال أَبو يزيدَ: ما زلت أسوقُ نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتُها إليه وهي تضحكُ (6). * الهِمَّةُ العَلِيَّةُ من استعدَّ صاحبُها للقاء الحبيب، وقدَّم التَّقادم بين يَدَي الملتقى، فاستبشر عند القدوم: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ __________ (1) طفيل العرائس هو: من يُنْسَب له الطفيليون، وكان يتتبع الأعراس، ووضاح اليمن: شاعر من أجمل الناس، قتله الوليد بنُ عبدِ الملك في صندوق. انظر: "ثمار القلوب": (1/ 205 - 208) للثعالبي. (2) (ق وظ): "جمال". (3) "المدهش": (ص/ 274). (4) نحوه في "المدهش": (ص/ 188)، وانظر: "الفوائد": (ص/ 150). (5) "المدهش": (ص/ 274). (6) "المدهش": (ص/ 463).

(3/1181)


وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} (1) [البقرة: 223]. * الجنَّةُ ترضى منك بأداء الفرائض، والنارُ تندفعُ عنك بترك المعاصي، والمحبّة لا تقنعُ منك إلَّا ببذل الرُّوح (2). {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]. بدَمِ المُحب يُبَاعُ وَصْلُهُمُ ... فمن الذي يبتاعُ بالثَّمَنِ (3) * للهِ ما أحلى زيارةً تَسعى فيها أقدامُ الرِّضا على أرض الاشتياق (4). زُرْناكِ شوقًا ولو أنَّ النوى بَسَطَتْ ... فُرُشَ الفلا بَيْنَنَا جَمْرًا لزُرْنَاكِ (5) * ما سافر الخليلُ سَفَرًا، ولا سَلَكَ طريقًا أطْيَبَ من الفَلاةِ التي دَخلها حين خرج من كِفَّة المَنْجنيق، رآه جبريلُ قد ودع بلدَ العادة فظن ضعفَ قدم التَّوَكُل فعرض عليه زاد: "ألك حاجة"؟ فرده بَأَنَفَةٍ: "أما إليك فلا" (6). لَمَّا تكامل وفاؤه لِمَا أُمِر به جاءته خِلْعَةُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}. قالتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زْارَها ومضى .... باللهِ صِفْهُ ولا تُنْقِصْ ولا تَزِدِ فقالَ: خَلَّفْتُهُ لو ماتَ من ظَمَأٍ ... وقلتُ: قِفْ عن وُرودِ الماءِ لم يَردِ قالت: صدقتَ الوَفا في الحُبِّ شيمتُهُ (7) ... يا بَرْدَ ذاك الذي قالتْ على كَبِدِي (8) __________ (1) انظر "الفوائد": (ص / 150). (2) المصدر نفسه. (3) "المدهش": (ص/ 291)، وفيه "بالمسعر". (4) بنحوه في "المدهش": (ص / 275). (5) "المدهش": (ص / 275). (6) "المدهش": (ص/ 275 - 276). (7) (ق) والمدهش: "عادته". (8) الأبيات في "المدهش": (ص/ 314)، ونسبها في "الخريدة" (1/ 118) إلى =

(3/1182)


* غيره: إن قومي يومَ بانوا ... فرَّقوا بيني وبيني فإذا كنت أنا الرَّهْـ ... ـــــــنُ فمن يقبضُ دَيْني * غيره: وكم مُغْرَمٍ بين تلك الخِيَا ... مِ تحسَبُّهُ بعضَ أطنابِها (1) * للنفس حظٌّ وعليها حقٌّ {فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ}، {وَذِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ}، وإن رأيتمْ منها فُتورًا فاضرِبوها بسَوْط الهَجْر في المضاجِعِ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}، ارفقوا بمطايا الأبدانِ، فقد أَلِفَتِ التَّرَفَ {وَلَا تُضَارُّوهُنَ لِتُضَيِّقُوْا عَلَيْهِنَّ} (2). * إن هذا الدينَ متين فأوغِلوا فيه برفق، لا تحملوا على النفوس فوق الطَّاقة إلى أن تتمكَّنَ المحبَةُ فلها حينئذ حكمُها. * شرابُ الهوى حُلْوٌ، لكنه يورثُ الشَّرَقَ. * مَنْ تَذَكَرَ خَنْقَ الفخ هانَ عليه هجرانُ الحَبَّةِ. * يا معرقلًا في شَرَك الهوى جَمْزَةُ (3) عزمٍ وقد خرقت الشَّبَكةَ، لا بُدَّ من نفوذِ القَدَر فاجنحْ للسَّلْم (4). __________ = أَبى المطاع ابن ناصر الدولة. (1) البيت في "المدهش": (ص / 227) وفيه: "وكم ناحل". (2) انظر: "المدهش": (ص/ 310). (3) (ق): "حموة"، والجمز: العدو والإسراع، أو القفز. (4) العبارات الثلاث انظرها في "الفوائد": (ص/ 125).

(3/1183)


* أيُّ تَصَرُّفٍ بقيَ لك في قلبِك وهو بين إصبعين (1). * يا منقطعينَ عن القوم، سيروا في باديةِ الدُّجَى، وأنِيْخوا بوادي الذُلِّ، فإذا فُتِحَ بابٌ للواصِلِينَ فدونَكم، فاهجموا هجومَ الكذَّابين (2) وابسطوا أكُفَّ {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لعل هاتف الرحمة يقول، {لَا تَثْرِيبَ} (3). * {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} واستقرضَ منك حبَّة فبخلتَ بها، وخلَقَ سبعةَ أبحرٍ، واستقرض منك دمعةً فقحطتْ عينُك بها (4). * إطلاق البصر ينقش في القلب صورةَ المنظور، والقلبُ كعبةٌ، وما يرضى المعبودُ بمزاحمة الأصنامِ (5). * لذَّاتُ الدُّنيا كسوداء، وقد غَلَبَتْ عليكَ، والحور العين يعجبنَ من سوء اختيارِكَ عليهنَّ، غير أنَّ زوبعة الهوى إذا ثارت سَفَتْ في عين البصيرةِ فخفِيَتِ الجَادَّةُ (6). * تدور عينك على المُحَرَّمات كأنك قد ضاع منك شيء، ورواحل همَّتك في الهوى ما يُحل لها قَتَبٌ: * إن قهَرَ نفسَك (ق/ 289 ب)، حبُّ الفاني فذكِّرْها العيشَ (7) الباقيَ، __________ (1) "المدهش": (ص/ 298). (2) (ظ): "اللوانين". (3) بنحوه في "المدهش": (ص/ 484). (4) بنحوه في "المدهش": (ص/ 340). (5) "المدهش": (ص/ 363). (6) انظر: "الفوائد": (ص/ 125 - 126). (7) (ق وظ): "النفيس".

(3/1184)


فإن أَبَتْ إلَّا ببيع الغَبْنِ، فاحجُرْ عليها حَجْرَ السَّفِيهِ، وغّط بصَرَ باشِقِكَ إلى أن ينسى ما رأى، واغسل باطنَ (1) عينيكَ بطَهوِر المدامع، وكلما لَذكَّرتَ ما أبصرتَ فأطرِقه بدمعة، (ظ/ 202 أ) لعل فَرْطَ البكاءِ يدفعُ (2) فسادَ البصر فَيَصْلحَ لرؤيةِ الحبيب: وكيف ترى ليلى بعينٍ تَرَى بها ... سِواها وما طَهَّرْتَها بالمدامعِ وتسمعُ منها لفظةً بعد ما جرى ... حديثُ سواها في خروقِ المسامعِ * غيرُه: إذا لم أَنَلْ منكمْ حديثًا ونظرةً ... إليكمْ فما نَفْعِي بسَمْعِي وناظِرِي (3) * تزَيَّنَتِ الجنَّةُ للخطَّاب فجدُّوا في تحصيل المهر. * تعرَّفَ ربُّ العزّة لعباده المحبين فعملوا على اللِّقاء، وأنت مشغولٌ بالجِيَف (4). * ما يُساوي ربُعُ الدِّينار خجلُ الفضيحة فكيفَ بألَمِ القَطْع؟!. * المعرفة بساط لا يطأُ عليه إلَّا مقَرَّبٌ، والمحبة نشيد لا يطربُ عليه إلَّا محبٌّ مغرَمٌ، والحبُّ غدير في صحراءَ ليس عليه جادّةٌ، فلهذا قل وُرَّادُهُ (5). __________ (1) (ق): "ناظر". (2) (ق وظ): "يدبغ". (3) البيت لصُرَّدُرّ، وهو في "المدهش": (ص / 436) وصدره هناك: * إذا لم أفُزْ منكم بوعدٍ ونظرةٍ * (4) انظر: "الفوائد": (ص/ 126). (5) (ق): "وارده" و (ظ): "روَّاده".

(3/1185)


* المحب يهرب إلى العُزلةِ والخَلوةِ بمحبوبِهِ والتعلُّقِ بذكره، كَهَربِ الحوتِ إلى الماءِ والطِّفْلِ إلى أُمِّهِ: وأخرجُ من بين البيوتِ لعلَّني ... أحدَّثُ عنكِ النفسَ بالسِّرِّ خاليًا (1) * لو رأيت المحبِّينَ في الدُّجى تمرُّ عليهم زُمَرُ النُّجومِ مرَّ الوصائف، إلى أن يُقْبِلَ هودجُ "هل من سائل"، فينثرون عليه الأرواح نَثْرَ الفَرَاش على النار. * ليس للعابدينَ مستراحٌ تحت شجرة طوبى، ولا للمحبِّين قرارٌ إلَّا يومَ المزيد، فمَثِّلْ لقلبك الاستراحةَ تحتَ شجرهَ طوبى يَهُنْ عليك النَّصَبُ، واستحضرْ يومَ المزيد يَهُنْ عليك ما تتحمَّلُ من أجله (2). * كنوز الجواهر مُوْدَعة في مصر الليل، فَتَتَبَّعْ آثارَ المحبِّين لعلك تظفر بكَنْزٍ. * أنْت طفلٌ في حِجْر العادة، مشدودٌ بقُماط الهوى، فما لك ولِمزَاحمةِ الرِّجالِ. * أين أنت والمحَبَّة وأنت أسيرُ الحبَّة؟! تَمَسَّكْتَ بالدنيا تمسُّك الرَّضيع بالظِّئر، والقومُ ما أعاروها الطَّرْفَ (3). * أفٍّ لبَدَوِيٍّ لا يُطْرِبُه ذكرُ حاجر (4). * انقسم الصالحون عند السِّياق: فمنهم من أخذه القَلَقُ فكان __________ (1) البيت في "المدهش". (ص/ 439)، و"الفوائد": (ص/ 126). (2) بنحوه في "المدهش": (ص/ 524)، و"الفوائد": (ص/ 126). (3) انظر لهذه والتي قبلها: "المدهش": (ص/ 352). (4) "المدهش" (ص/ 310).

(3/1186)


يقولُ: ويل لي إن لم يغفرها، أنا أمضي إلى النار أو يغفر، ومنهم من غَلَبَ عليه الرجاء كبلالٍ الحَبَشِيِّ، كانت زوجتُه تقول: واحُزْنَاهُ وهو يقول: واطَوَبَاهُ، غدًا ألقى الأحبَّهْ، محمَّدًا وحِزْبَهْ، واهًا لبلالٍ عَلِمَ أنَّ الإمامَ لا يَنسى المُؤَذَنَ (1)!. * اشتَغِلْ به في الحياة يَكْفِكَ ما بعدَ الموتِ (2). * دق كؤوس الرحيل، فثار (3) الرَّكْبُ وتأهَّبوا للمسير، وعُكِمَت أحمالٌ الزَّاد وسارتْ رفقةُ المتهجِّدين، وأنت في الرَّقدة الأولى بَعْد، كيف تُطِيق السهرَ مع الشبع؟ (ق / 290 أ) أم كيف تُزاحمُ أهلَ العزائم بمناكب الكَسَل (4)؟!. * هيهاتَ ما وصل القومُ إلى المنزل إلَّا بعد مواصلة السَّرَى، ولا عبروا إلى مِصْر (5) الراحة إلَّا على جسر التعب (6). وأطيبُ الأرض ما للقلبِ فيه هوىً ... سَمُّ الخَياطِ مع المحبوبِ مَيْدَانُ (7) * لو رأيت أهلَ القبورِ في وَثَاقِ الأسر فلا يستطيعونَ الحركةَ إلى نجاةٍ، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}. * يا منفقًا بضاعة العمر في مُخَالَفَةُ حبيبه والبعد منه، ليس في __________ (1) "المدهش": (ص/ 352). (2) "الفوائد": (ص/ 126). (3) (ظ): "فسار". (4) "المدهش": (ص/ 432 - 433). (5) (ظ): "مقرّ". (6) "المدهش": (ص/ 157). (7) "المدهش": (ص/ 385) ونسبه للغزي.

(3/1187)


أعدائك أشدُّ شرًّا عليك منكَ. ما يَبْلُغ الأعداءُ مِن جاهلٍ ... ما يَبْلُغ الجاهلُ من نفسِهِ (1). * [غيرُه]: هذا المحبُّ لديك فانظرْ هل تَرَى ... قلبًا فإن صادفتَ قلبًا فاعذُلِ (2) * غايةُ العاذلِ إيصال اللَّوْم إلى الأُذُن، فأما القلب فلا سبيلَ له إليه (3). * سفر الليل لا يُطيقهْ إلَّا مضمِرُ المجاعَةِ، تَمرُّ النَّجائبُ في الأول، وحاملات الزاد في الآخر، ولو وردْتَ ماءَ مَدْينَ لوجدت عليه {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (4). * إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسُفَ في أجفان يعقوبَ. * لو أحببتَ المخدوم حضر قلبك في خدمته (5). فيا دارَها بالحَزْن إِنَّ مَزَارَها ... قريبٌ ولكنْ دونَ ذلك أهوالُ (6) * العروسُ تَلْبَسُ عند العرض تحتَ الثياب شعارَ الخوف من __________ (1) البيت وما قبله في "الفوائد" (ص / 126 - 127)، والبيت لصالح بن عبدِ القدوس، انظر: (2) بلا نسبة في "المدهش": (ص/ 443) وقبله بيت، لكن أوله: "هذي حشاي ... ". (3) المصدر نفسه. (4) بنحوه في "المدهش": (ص/ 462). (5) "المدهش": (ص / 455). (6) البيت لأبي العلاء المعرِّي "سقط الزند": (3/ 1228)، وهو في "المدهش": (ص/291).

(3/1188)


الرَّدِّ، وفوق الثياب حُلَّةَ الانكسار، (ظ/ 202 ب) وحمرةُ الخجل تُغْنِيها عن تخميرٍ مستعارٍ؛ لأنها لا تدري على ماذا تقدُم، فكيف يسكنُ من لا يعلم العواقب؟. * مداراة قيس تمكن ولكن لا مع ذكر ليلى (1). * انقسم العباد ثلاثة أقسام: فمنهم من لاحظَ الحصادَ فزادَ في البَذْر. ومنهم من رأى حقَّ المخدوم فقام بأدائه. ومنهم مَنْ خَدَم حُبًّا وشوقًا فتلذَّذَ بالخدمة وهذه الخدمةُ لا ثقلَ لي؛ لأن محركَها الحبُّ وغيرها ثقيل على البَدَن. * نوق أبدان المحبِّين لا تُحِسُّ بالنَّصَب، وأسماعُها مشغولةٌ بصوت الحادي، وقلوبها معلَّقَةٌ بالمنزل. * مَنْ عَبَدَهُ خوْفًا أَمَّنَه، ومن عَبَدَهُ رجاءً أعطاه أَمَلَهُ، ومن عبده حبًّا {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ}. * شعر (2): يَرَاها بعين الشَّوق قلبي على النَّوَى ... فتحْظَى ولكنْ مَنْ لعيني برؤياها وهبكم منعتمْ أن يراها بعيِنهِ ... فهل تمنعونَ القلبَ أن يَتَمَنَّاها (3) *كم دخل المجلسَ عاصٍ في باطنه باطيةُ خمر، فما زالت تعمل فيها حِدَّةُ شمس التذكير، حتَّى انقلبتْ خَلًّا فَحَلَّتْ. __________ (1) "المدهش": (ص/ 482). (2) من (ق). (3) البيتان من قصيدة لمهيار الديلمي: "ديوانه" (4/ 183 - 184).

(3/1189)


يكون أُجَاجًا دونكمْ فإذا انتهى .... إليكم تَلَقَّى نَشْرَكُمْ فيَطِيبُ (1) فصل (2) حَلِيَ الشيءُ في عيني، وحَلا في فمي. الحَذْفُ: بالعصا، والخَذْفُ: بالحَصى. حَسَرَ عن رأسه، وسَفَرَ عن وجهه. وافْتَرَّ عن نابه، وكَشَّرَ عن أسنانه. وأبدى عن ذِرَاعيه، وكَشَفَ عن ساقيه. مائدةٌ: لما عليها الطَّعام، وخِوَانٌ: لما لا طَعَامَ عليه. عَرْقٌ: للعَظْمِ عليه اللَّحْمُ، وعُرَاقٌ: جمعُه، وبدون اللَّحم: عظمٌ. كأسٌ: لما فيه شرابٌ، وبدونه: زجاجةٌ. وإناءٌ وقَدَحٌ وكُوزٌ: لدي العُرْوة، وبدونها: كُوبٌ. رُضَابٌ: للرِّيق (ق/ 290 ب) في الفم، فإذا انفصلَ فبُصَاق. أرِيكَةٌ: للسريرٌ عليه قبَّة، وبدونها: سريرٌ. خِدْرٌ: للخِباء فيه المرأة، وبدونها: سِتْرٌ. ظَعِينَةٌ: للمرأة في الهَوْدَجِ (3). __________ (1) البيت في "المدهش" (ص/ 316)، وهذا البيت والفقرة قبله ساقطة من (ق). (2) (ظ): "فائدة". (3) من قوله: "خدر ..... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1190)


قَلَمٌ: للمَبْرِي، وبدون بَرْيِهِ: أنبوبٌ. عِهْنٌ: للصوف المصبوغ، وبدون صَبْغه: صوف. وَقودٌ: للحطب المشتعل نارًا، وبدونها: حَطَبٌ. رَكَيَّةٌ: للبئر ذي الماء، ورَاوِيةٌ: للإبل حاملات الحاء. سَجْلٌ: للدلو فيها الماء، فإذا مُلِئَتْ فهي: ذَنُوب، وَدَلْوٌ: بدونهما. نَفَقٌ: إذا كان له منفذٌ، وبدونه: سَرَبٌ. نَعْشٌ: للسَّرير عليه المَيِّتُ، وبدونه: سرير. خَاتَم: لذي الفَصِّ، وبدونه: حَلَقةٌ. رُمْحٌ: لذي الزُّجِّ، وبدونه: قنَاةٌ. لَطِيمَةٌ: للإبل التي تحمل الطِّيبَ والبَرَّ خاصة، وحَمُولَة: للحاملاتِ الأمتعة، وَبدَنَةٌ: للمهداة. هَضْبَةٌ: للحمراء من التلول. غيثٌ: للمطر في إبَّانِهِ، وإلَّا فمطرٌ. الفَرْك: البغضُ بين الزوجين خاصة. الشَّيْئمُ: نظرُ البرقِ وحده. الواعِيَةُ: الصائِحَةُ على الميت خاصَّة (1). الإباقُ: هربُ العبد خاصَّة. __________ (1) انظر: "اللسان": (15/ 397)، و"النهاية": (5/ 207).

(3/1191)


القُتَارُ (1): ريح الشواء خاصة. القَذْفُ: الشتم بالزِّنا خاصة. لا يؤبَه بِهِ ولَهُ، وأمَّا: "إليه" فمن لَحْن الخاصة. يتفُلُ: بالكسر والضم، ويفْسُقُ، مثله. آسيتُكَ وآكلتُكَ وآخيتُكَ. وحكى أَبو عبيد (2): "واسَيْتُكَ ... " بالواو فيهن فليس إذًا من لحن الخاصة (3)، وله وجه في العربية، فإنهم يقولون: "أُواسيه" بقلب الهمزة واوًا في المستقبل، فأعطوها ذلك في الماضي. لا يقال: "أقْلَبه" إلا في موضع واحد: "أَقْلَبَتِ الخُبْزَةُ" إذا حان وقتُ قَلْبِها (4). * القوة الماسكة: ليس بغلط كما زعم طائفةٌ؛ لأنه قد ورد. (مَسَكَ) ثلاثي (5). تَعَسَ: بفتح العين (6). * ما أُعْطِيَ أحدٌ النَّصْفَ فأباه إلَّا أَخَد أقَلَّ منه. * أعجبني الشيءُ: يُرَادُ به معنيانِ (7): أحدهما: سرَّني وهو: من الإعجابِ، والثاني: بمعنى دعاتي إلى التَّعَجُّب __________ (1) كدُخان وزنًا ومعنى. (2) لعله في "الغريب المصنف". (3) من قوله: "بالواو فيهن ... " إلى هنا سقط من (ق). (4) انظر: "اللسان": (1/ 686) وهى لغة ضعيفة عن اللحياني، وفي (ع): "قَلَبت ... ". (5) انظر: "تصحيح التصحيف": (ص/ 460) وهامشه. (6) ويكسرها، كما في "اللسان والقاموس والمصباح". (7) انظر: "المصباح المنير": (ص / 149).

(3/1192)


منه منقول من عَجِبَ يُعْجَبُ، مُعَدَّى بالهمزة. قال كعب بنُ زهير (1): لو كنتُ أَعْجَبُ من شيءٍ لأعجبَني ... سعْيُ الفتى وهو مخبوءٌ له القَدَرُ (ظ/ 203 أ) فأعجبني هنا من العَجَب لا من الإعجاب، فتقول: "أعْجَبَني" و"ما أَعْجَبَني" بالاعتبارين. * يَحْدُر في قراءته: يُسرِعُ، ويَهْدِرُ: يهتاجُ في قراءته مع غلُوِّ صوته فيها، من قولهم: هَدَرَ الفحلُ: إذا هاج، وهدَرَ الحَمَامُ، وهَدَرَتِ الضَّفادع، فليس من لحن العامَّة. * إذا حلَّتِ الشمسُ بالشَّرَطَيْنِ (2): بفتح الشينِ والراءِ، وضمُّهما لَحْن. * يقال: عَنِيتُ في كذا، فأنا عانٍ فيه، و"عُنِيتُ به" مبنيٌّ للمفعول، فأنا مَعْنيٌّ به، وحكى ابنُ الأعرابي الفتح -أيضًا- فيه، وقال غيره: "عُنيت" بالضم أي: قصدت بها (3)، و"عَنَيْتُ" بالفتح، أي: قَصَدتُ، تقول: عَنَيت كذا، أي: قصدته غير معدًّى بالباء فهذا من القصد، وأمَّا من العَناء فإنما يقال: مُعَنَّى، وأما مِنَ العِناية فإنما يقال: عُنِيَ به، مبني للمفعول. فصل (4) بلالُ بنُ حَمَامة وأَبوه رَباح، ابنُ أم مكتوم وأَبوه عَمْرو، بشير بنُ __________ (1) "ديوانه": (ص/ 168). (2) نجمان من الحمل. انظر: "اللسان": (7/ 330). (3) من قوله: "به مبني ... " إلى هنا ساقط من (ظ) والمطبوعات. (4) هذا الفصل والذي يليه من أنواع علوم الحديث، نوع: "من نُسِب إلى غير أبيه، ومنه: من نسِب إلى أمّه". انظر: "علوم الحديث": (ص/ 370) لابن الصلاح، و"تدريب الراوي": (2/ 845 - فما بعدها). وهذا الفصل والذي يليه نقله المؤلف من "المدهش": (ص/ 54) لابن الجوزي.

(3/1193)


الخَصاصية وأَبوه (ق/ 1291) مَعْبَدٌ، الحارث بنُ البَرْصاء وأَبوه مالك، خفَافُ بنُ نُدْبَة وأَبوه عُمَيْرٌ، شرَحْبِيل بنُ حَسَنَةَ وأَبوه مالك، مالك بنُ نُمَيْلة وأَبوه ثابت، مُعَاذٌ وَمعَوِّذٌ ابْنَا عفراء وأَبوهما الحارث، يعلَى بنُ مُنْيَة وأَبوه أميَّة، عبدِ اللهْ بنُ بُحَيْنَةَ وأَبوه مالك. فصل إسماعيل بنُ عُلَيَّة وأَبوه إبراهيم، منصور بنُ صَفِيَّة وأبوه عبدِ الرحمن، محمد بنُ عائشة وأَبوه حفص، إبراهيم بنُ هَرَاسة وأَبوه سلمة، محمد ابن عَثْمَة وأَبوه خالد. فصل (1) * عطاء عن أبي هريرة: "فى كلِّ صَلاةٍ قِرَاءَةٌ" (2). وعطاء مرفوعًا: "لا يَجْتَمِعُ حُبُّ هؤلاءِ الأربعةِ إلَّا في قَلْبِ مُؤْمِنٍ" (3) فذكر الخلفاء الأربعة. وعطاء عنه مرفوعًا: "إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا صَلَاةَ إِلا المَكْتُوبَةُ" (4). وعطاء عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "سجد في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} " (5). وعطاء عنه مرفوعًا: "إذا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ يَقولُ اللهُ تعالى: __________ (1) هذا الفصل من "المدهش": (ص/ 59 - 61). (2) أخرجه البخاري رقم (722)، ومسلم رقم (396). (3) أخرجه عبد بنُ حُميد في: مسنده "المنتخب": (3/ 216)، وأَبو نعيم في "الحلية": (5/ 203)، والخطيب في "التاريخ": (14/ 332). (4) أخرجه مسلم. رقم (710). (5) أخرجه مسلم رقم (578).

(3/1194)


ألَا دَاعٍ" (1). الأول: ابنُ أبي رَبَاح، والثاني: الخُرَاساني، والثالث: ابن يَسَار، والرَّابع: ابن ميناء، والخامس: مولى أم صُبَيَّةَ. * * * * عَمْرَةُ: أنَّها دخلت مع أمها على عائشة فسألتها ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ" (2). وعَمْرَةُ قالت: خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة ورأينا المصحفَ الذي قُتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}. قالت عَمْرَةُ: فما مات منهم رجل سوِيًّا (3). وعَمْرَة عن عائشة: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ينهى عن الوصال" (4). الأولى: بنت عبدِ الرحمن (5)، الثانية: بنت قيس العَدَوِيَّة، الثالثة: __________ (1) أخرجه الدارمي: (1/ 414)، وأحمد: (2/ 272) رقم 967) وسنده ضعيف لجهالة عطاء مولى أم صُبَيَّة. (2) أخرجه أحمد: (6/ 82)، وإسحاق فى "مسنده: (3/ 986)، والبخاري فِي "التاريخ": (2/ 198)، وعمرة هى بنت قيس العدوية. (3) أخرجه عبد الله بنُ أحمد في زوائده على "فضائل الصحابة" رقم (817)، وعنه ابن نقطه في "التقييد": (1/ 234). عن عمرة بنت أرطاة العدوية، لكن أخرجه ابن أَبى عاصم في "الزهد": (1/ 127) من حديث عمرة بنت قيس العدوية. (4) أخرجه أَبو يعلى: (4/ 247)، والرامهرمزي في "المحدَّث الفاصل": (ص/ 338) من طريق عَمْرة عن عائشة. (5) لم يذكر المؤلف شيئًا من حديث عَمْرة بنت عبدِ الرحمن، فلعلّه سقط منه =

(3/1195)


بنت أرطاة، الرابعة: يقال لها: الصاحية. * * * * حمَّاد، عن ثابت، عن أنس: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النِّخْل صوتًا (1) ..... الحديث. حماد، على ثابت، على أَنس: "رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الرحمن صُفْرَةً" (2). الحديث. حمَّاد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "مَثَلُ أُمّتِي كالمَطَرِ" (3). الأول: ابن سَلَمة، والثاني: ابن زيد، والثالث: الأَبَحُّ. * * * * قَتَادة يروي عن عِكْرِمَةَ مولى ابن عبَّاس. وعن عكرمة ابنُ خالد: ضعيف. * وكيع يروي عن النَّضر بنُ عدي: ثقة، وعن النَّضْر بن عبد الرحمن: ضعيف. __________ = سهوًا، وحديثها الذي ذكره في "المدهش" هو قول عائشة - رضي الله عنها -: لو أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء لمنعهن المساجد ... ". (1) أخرجه مسلم رقم (2363) وهو حديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنتم أعلم بأمور دنياكم ..... " ولفظ المؤلف عند البزار في مسنده كما في "الإحكام": (6/ 209) لابن حزم. (2) أخرجه البخاري رقم (5155)، ومسلم رقم (1427). (3) أخرجه أحمد: (19/ 334 رقم 12327)، والترمذي رقم (2869). وغيرهم، وحسنه التِّرمِذي والحافظ ابن حجر في "الفتح": (7/ 8).

(3/1196)


* حفص بنُ غِيَاث يروي عن أشعث بنُ عبدِ الرحمن: ثقة، وعلى أشعث بنُ سوَّار: ضعيف. * * * * موسى بنُ عُبَيْدة الرَّبَذي كان أخوه عبدِ الله بنُ عبيدة أسنَّ منه بثمانين سنةً. * طالب أسنُّ من عَقِيل بعشر سنين، وَعَقِيل أسنُّ من جعفر بعشر، وجعفر أسنُّ من عليٍّ بعشر. * يزيدُ (ق/ 291 ب) وزياد ومُدْرِك بنو المُهَلَّب بنُ أبي صُفْرَةَ وُلدوا في عام واحد، وقُتلوا في عام واحد. وعاش كل منهم ثمانيًا وأربعين سنة. * أربعةُ أنفس وُلد لكل منهم مائة ولد: أنسُ بنُ مالك، وعبد الله ابن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بنُ سليمان الهَاشمي. * علي بنُ الحسين، وعلي بنُ عبدِ الله بنُ عبَّاس، وعلي بنُ عبدِ الله بنُ (ظ/203 ب) جعفر: بنو عمٍّ، ولكل منهم ابن اسمه محمد، والكلُّ أشراف، والكلُّ علماء، والكل خِيار (1). فصل (2) * الله سبحانه مهَّد الأرضَ لآدم وذريته قبل خلقه، فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقضى أن يعرِّف قدر المخالفة __________ (1) من قوله: "موسى بنُ عبيدة ... " إلى هنا من "المدهش": (ص/ 66 - 67). (2) من (ع).

(3/1197)


وأقام عذره بقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36]، وتداركه برحمتِه (1) بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] يا آدم: لا تجزع من كأس خَطَأٍ كان سببَ كَيْسِكَ، فقد استخرجَ منك داءَ العجب وألبسك رداءَ العبودية: "لو لم تذنبوا". لا تحزنْ بقولِي لك: {اهْبِطُواْ مِنْهَا} فلك خلقتُها، ولكن اخرجْ إلى مزرعة المُجاهدة: واجتهد في البَذْر، واسقِ شجرةَ النَّدَمِ بساقية الدمع؛ فإذا عاد العُودُ أخضرَ فَعُدْ لما كان (2). * * * * منصب الخُلَّة منْصبٌ يقبل المزاحمَة بغير المحبوب، وأخْذُ الولد شعبةٌ من شعاب القلب. غار الحبيبُ على خليله أن يُسْكِنَ غيرَهُ في شُعْبة من شِعَاب قلبه فأمره في بذبحه، فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة، وخَلَصتِ المحبَّةُ لأهلها، فجاءته البشرى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}. ليس المراد أن يُعَذَّب، ولكن يُبْتلى ليُهَذَّبَ. ليس العجبُ من أَمْرِ الخليل بذبح الولد، إنما العجبُ من مباشرة الذبح بيده، ولولا الاستغراق في حبِّ الآمِرِ؛ لَمَا هان مثلُ هذا المأمور، فلذلك جُعِلتْ أَثارُهما مثابةً للقلوب تحِنُّ إليها أعظمَ من حنين الطيور إلى أوكارها (3). * * * __________ (1) (ع): "وتدركه الشيطان برحمة"! وهو سبق قلم. (2) بنحوه في "المدهش": (ص/ 77). (3) الفقرة الأخيرة في "المدهش" (ص/ 87).

(3/1198)


* قول لوط لقومه: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78] يجمع أنواعًا من الاستعطاف (1): أحدها: خطابُهم بخطاب النَّاصح المُشفق بقوله: {يَاقَوْمِ}، ولم يقل: يا هؤلاء. الثاني: عرضُه بناتِه عليهم بقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}. الثالث: تنجيزُ ذلك بالإشارة بلفظ الحضور. الرابع: ترغيبُه فيهن لطهارتهن وطِيْبِهنَّ. الخامس: تذكيرُهم بالله تعالى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. السادس: المطالبةُ بحفظ الذِّمام، وترك الأذى بقوله: {وَلَا تُخْزُونِ}. السابع: التوبيخُ الشديدُ بقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}. * * * * لمَّا تمكَّن الحسدُ من قلوب إخوة يوسف -عليه السلام- أُرِيَ المظلوم مآلَ الظالم في مرآةِ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (2). * شكرُك لا يساويَ قَدْرَ قُوتِكَ. * لا كانتْ دابَّةٌ لا تعمل بعَلَفِها. __________ (1) انظر بعضها في "المدهش" (ص/ 91). (2) "المدهش": (ص/ 94).

(3/1199)


* متى رأيت العقلَ يؤثرُ الفانيَ على الباقي فاعلم أنه قد مُسِخَ (1). * ومتى رأيت القلبَ قد ترحَّل منه حبُّ الله والاستعداد للقائِهِ، وحلَّ به حبّ المخلوق والرضا بالحياةِ الدُّنيا والطمَأْنينَة بها، فاعْلَم أنَّه قد خُسِف به. * ومتى أقحطتِ العينُ (ق/ 292 أ) من البكاء من خشْيَةِ الله؛ فاعلمْ أن قحْطَها من قسوةِ القلبِ، وأبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي (2). * ومتى رأيتَ نفسَك تهربُ من الأُنْس به إلى الأُنسِ بالخَلْق، ومن الخَلْوَة مع الله إلى الخَلْوة مع الأغيار، فاعلم أنك لا تصلُح له. * ومتى رأيتَهُ يستزيد غيرَك وأنتَ (3) لا تطلبُ، ويستدني سِوَاكَ وأنتَ لا تقربُ. فإن تحركت لك قَدَمٌ في الزِّيارة تخلَّفَ قلبُكَ في المنزلِ؛ فاعلم أنه الحجابُ والعذابُ. * مزاجُ الإيمان منحرفٌ عن الصِّحَّة، ونبضُ الهوى شديدُ الخَفَقانِ، تحكَّمَتْ أخلاطُ الشَّهَواتِ فى أعضاءِ الكَسَل، فَثَّبَطَتْ عن الحَرَكَةِ، فتولَّدَتِ الأمراضُ المختلفةُ، هذا وما يسهُلُ عليك شربُ مُسْهِلٍ، فإنْ تداركتَ المرضَ وإلَّا قَتَلَ، لو احتميتَ ساعةً لم تَحْتَجْ إلى معالجةِ الدَّواء مُدَّة، من ركب ظهرَ التَّفريط والتَّواني نَزَلَ به دارَ الحسرة والنَّدامةِ (4). * ربُّك يحِبُّ حياةَ نفسِك، وأنت تريدُ قتلَها، يُريدُ بها اليُسْرَ، __________ (1) للفقرات الثلاث انظر: "المدهش": (ص/ 151). (2) انظر: "الفوائد" (ص/ 182). (3) (ق): "يستزيدك وأنت". (4) "المدهش": (ص / 151 - 152).

(3/1200)


وأنت تريدُ العُسْرَ، يُريدُ بها الكرامةَ وأنت جاهدٌ في إهانتِها. * ما يَبْلُغُ الأعداءُ من جاهِلٍ (1) * * من أدلَج في غياهبِ اللَّيل على نجائب الصبَّر صَبَّحَ منزلَ السرور، ومن نام على فراش الكسل أصبح ملقًى بوادي الأسف، الجدُّ كلُّه حَرَكَةٌ، والكسل كلّه سكون، فُتُورُكَ عن السَّعي في طلب الفَضائل دليلٌ على تأنيث العزم. * إذا أردتَ أنَّ تعرِفَ الديكَ من الدجاجة وقتَ خروجه من البيضة فعلِّقه بمنقاره فإن (ظ / 204 أ)، تحرَّك فديك وإلا فدجاجة. الدنيا كامرأة بَغِىٍّ لا تثبتُ مع زوجٍ، فلذلك عِيبَ عُشَّاقُها. مَيَّزْتُ بين جَمَالِها وفَعَالِها ... فإذا الملاحةُ بالقَبَاحَةِ لا تَفِي حَلَفَتْ لنا أنَّ لا تخونَ عهودَها ... فكأنما حَلَفَتْ لنا أن لا تَفِي (2) * ما حَظِيَ الدينارُ بنقش اسم المَلِك فيه حتَّى صبرتْ سَبِيكَتُهُ على التَّرْداد إلى النار، فنفتْ عنها كلَّ خَبَثِ، ثم صبرتْ على تقطَيعِها دنانيرَ، ثُمَّ صبرتْ على ضربها على السِّكَة، فحينئذ يظهرُ عليها رقْمُ النقش، فكيف يطمعُ في نقشِ: فِى قُلُوبِهِم {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} مَنْ كُلُّه خَبَثٌ (3)؟!. * مكابَدَةُ البادِيَةِ تهون عند ذكرِ البيت (4) المُضْحي بوادِي الجُوع، __________ (1) تقدم، وعجزه: * ما يبلغ الجاهلُ من نفسِه * (2) من قوله: "من أدلج ... " إلى هنا من "المدهش": (ص/ 154 - 155). (3) "المدهش": (ص/ 157)، ومن قوله: "ثم صبرت ... " ساقط من (ق). (4) كذا في (ع)، وفي (ق): "الموت"، و (ظ): "اللبيب"، و"المدهش": "منى".

(3/1201)


والمُعْشي بوادي السَّهَر، إلى أن تَلُوحَ أعلامُ المنزل. إذا وَنَتِ الرَّكاب في السير، فبثُّوا حُداة العزم في نواحيها يطيبُ لها السُّرَى (1). * إذا حال غيمُ الهوى بين القلوبِ وبينَ شمسِ الهُدى تحيَّرَ السَّالِكُ. * الحيوانُ البهيمُ يتأمَّلُ العواقب، وأنت لا ترى إلَّا الحاضرَ. ما تكاد تهتمُّ بمؤونة الشتاءِ حتَّى يقوى البَرْدُ، ولا بمؤونة الصَّيفِ حتَّى يقوى الحَرُّ، والذَّرُّ يَدَّخِرُ الزَّادَ من الصَّيف لأيامِ الشِّتاءِ. وهذا الطائرُ إذا علم أن الأنثى قد حَمَلَتْ أخذ ينقُلُ العِيدانَ لبِنَاء العُشِّ قيل الوضع، أَفَتُراك ما علمتَ قربَ رحيلِكَ إلى القبرِ، فلَا بعثتَ فراشَ: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]. * وهذا اليَرْبوعُ لا يتَّخِذُ بيتًا إلَّا في موضع صُلْب (2)، ليسلَمَ من الحافر، ويكونُ مرتفعًا ليسلمَ من السيلِ، (ق/292 ب) ويكونُ: عند أكمَةٍ أَو صخرةٍ لئلا يَضِلَّ عنه، ثمِ يجعلُ له أَبوابًا، ويرقِّقُ بعضَها فلا يُنْفِذُه، فإذا أُتِى من باب مفتوحٍ دفعَ برأسِهِ ما رَقَّ من التُّراب وخرجَ منه، وأنتَ قد ضيَّقْتَ على نفسِكَ الخناق، فما أبقيتَ للنَّجاة موضَعًا. * النَّفْسُ كالعدوِّ إدْ عرفتْ صولةَ الجِدِّ منكَ اسْتَأسَرَتْ لك، وإن أنِسَت عنك المهانةَ أَسَرَتْك، امنعْها ملذوذَ مُبَاحاتِها ليقعَ الصُّلْحُ على تَرْكِ الحَرام، فإذا ضَجَّت (3) لطلبِ المُبَاح {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. * الدنيا والشيطان عَدُوَّانِ خارجانِ عنك، والنفسُ عَدوٌّ بينَ __________ (1) "المدهش": (ص/ 158). (2) "المدهش": "طيب". (3) (ق وظ): "احتجت".

(3/1202)


جنبيك، ومن سُنَّةِ الجهاد: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}، ليس المُبارِزُ بالمحاربة كالكمين الذي يطْلُعُ عليك من حيث لا تشعرُ. * أقلُّ ما تفعلُ النفسُ معك أنَّها تمزِّق العمر بكفِّ التَّبذير والبطالة، اخْلُ معها في بيتِ الفِكْر سُوَيْعَةً، ثم انظرْ هل هي معك أو عليك؟ ثم عامِلْها بما تعاملُ به واحدًا منهما (1). * لم تبكِ الدُّنيا عليه لم تَضْحَكِ الآخِرَةُ إليه، سيُقْشعُ غيمُ التَّعَبِ عن فجرِ الأَجر (2) كم صَبَرَ بَشَرٌ (3) عن شهوةٍ حتَّى سَمِعَ: كُلْ يا مَنْ لم يَأْكُلْ، ما مُدَّ سِجافَ (4) {نِعْمَ الْعَبْدُ} على قُبَّة {وَوَهَبْنَا لَهُ} حتَّى فُصِّل على قدر {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}. * كيف يفْلِحُ من يشكو اللَّيلُ إلى ربِّه من طول نومِهِ، والنهارُ من قبيح فعلِهِ، كيف يفلحُ من هو جيفة بالليل قُطْرُبٌ (5) بالنهار، ينصبُ ميزان البَخْس، ومكيال التَّطفيف، والغَدْر ثالثةُ الأثافي. * لو فكِر الطائرُ في الذَّبح ما حام حَوْلَ الفخ، لولا صبرُ المُضْمَرات على قلَّة العَلَف ما قيل لها سوابقُ (6). مما أضرَّ بأهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ .... هَوَوْا، وما عَرَفوا الدُّنيا، وما فَطِنوا __________ (1) هذه المواعظ من قوله: "الحيوان البهيم يتأمل ... " إلى هنا من "المدهش": (ص/ 160 - 161) بتصرف. (2) (ق وظ): "الآخرة". (3) بشر بنُ الحارث الحافي. (4) السِّجاف: الستر. (5) القطرب: اللص. (6) "المدهش": (ص / 530 - 531).

(3/1203)


تفنى نفوسُهُمُ شوْقًا وأعينُهُمْ (1) ... في إثْرِ كلِّ قبيح وجهُهُ حسنُ تَحَمَّلوا حمَلَتْكمْ كلُّ ناجِيةٍ (2) ... فكُلُّ بَيْنٍ عَلَيَّ اليَوْمَ مؤتَمَنُ ما في هوادِجِكُمْ من مُهْجَتِي عِوَضٌ ... إن مِتُّ شَوْقًا، ولا فيها لها ثَمَنُ سهرتُ بعد رحيلي وَحْشَةً لكُمُ ... ثم استمرَّ مَرِيرِي وارْعَوَى الوَسَنُ لا تلقَ دَهْرَكَ إلَّا غَيْرَ مكترِثِ .... ما دامَ تصحبُ فجه رُوحَكَ البَدَنُ فما يُدِيمُ سُرورٌ قد سُرِرتَ بهِ ... ولا يردّ عليكَ الفائت الحَزَن (3) * إذا لم تكنْ من أنصار الرَّسُول فَتُنَازِلَ الحربَ فكن من حرَّاس الخِيَامِ، فإن لم تفعل فكن من نَظَّارَةِ الحرب الذين يتمنَّوْن الظَفَرَ للمسلمين، ولا تكنِ الرابعةَ فتهلِكَ. * إذا رأيتَ البابَ مسدودًا وجهِكَ فاقْنَعْ بالوقوفِ خارجَ الدَّار، مستقبِلًا البابَ، سائِلًا مستعْطِيًا فعسى، ولكنْ لا تُوَلِّ ظهرَك وتقول: ما حِيلَتي، وقد سُدَّ البابُ (ق / 293 أ) دوني. * لما نادى منادي الإفضال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سارتْ نجائبُ الأعمالِ [إلى] باب الجزاءُ، فصِيْحَ بالدَّليل: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك} [الإسراء: 74] فقال: "ما منكم من يُنجيه عملُه" (4). * إن لم تقدرْ على مشارعِ أربابِ العزائمِ فَرِدْ باقي الحِياض، __________ (1) في "الديوان" و"المدهش": "تفنى عونهم دمعًا وأنفسهم". (2) هي الأصول مشتبهة، وتقرأ: "رابحة". (3) الأبيات في "المدهش". (ص/ 525)، وهى للمتنبي "ديوانه": (4/ 234 - 235 - مع شرحه). والبيتان الأخيران مقدمان في الديوان والمدهش. (4) من قوله: "إذا لم تكن من .... " إلى هنا بنحوه من "المدهش": (ص/527).

(3/1204)


فمَنْ لم يكن عندَهُ أبنُ لبون قُبِلَتْ منه ابنةُ مَخاضٍ. * لا تحتقرْ معصيهْ فكم أَحْرَقَتْ شَرَرَهْ، أما عرفت سرَّ: {ولَا تَقرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]، لو قنع ابن آدم (1) لاكتفى، ولكن كانت المِحْنة في الشَّرَه. * الخَلْوَةُ شَرَكٌ لصيد المؤانسة، أخفى الصَّيادينَ شخصًا وأقلُّهم حركةً أكثرُهم التقاطًا للصَّيد، ما صاد هِرٌّ نوا (2). أبدًا نفوسُ العاشقينَ .... إلى ربوعِكُمُ تَحِنُّ (3) وكذا القلوبُ بذِكْرِكُمْ ... بعدَ المخافةِ تَطْمَئِنُّ (4) * غيره: طُلول إذا يشكو إليها مُتَيَّمٌ ... شكا غيرُ ذي نُطْقٍ إلى غير ذي فَهْمِ (5) * غيره: وإنَّما عُمْرُ الفتى سوقٌ له ... يصدُرُ عنه غانِمًا أو خاسرًا (6) * غيره: __________ (1) (ع وظ): "آدم". (2) أي: صاح. (3) في "المدهش": أبدًا نفوس الطالبيـ ... ـن إلى طلولكم تحن (4) من قوله: "إن لم تقدر ... " إلى هنا من "المدهش": (ص/523 - 524). (5) البيت في "المدهش": (ص/ 524)، لكن صدره: * طلول إذا دمعي شكى البين بينها * (6) البيت في "المدهش": (ص / 517) مع اختلاف، وقبله بضعه أبيات.

(3/1205)


نْرَاعُ إذا الجنائزُ قابَلَتْنا .... ونَلْهُو (1) حين تَخْفَى ذاهِبَاتِ كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لظهورِ ذِئْبٍ ... فلمَّا غَابَ عَادَتْ راتِعَاتِ (2) * خذ نفسَك بالعزائم لا تُرَخِّصْ، حائطُ الباطن خَرَابٌ فعلام إِذًا تجَصِّصُ (3). * العلم والعملُ توأمان أمُّهما علوُّ الهمَّةِ (4). * والجهلُ والبطالة توأمانِ أمُّهما إيثارُ الكسلِ. * أيها المعلَمِ تثبَّتَ على المُبتدي، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}، فللعالِم رسوخٌ وللمتعلِّم قَلقٌ: ويا أَيُّها الطالبُ تواضعْ في الطَّلَب فإن الترابَ بَيْنا هو تحت الأخمص صار طَهورًا للوجه (5). * تُجلَى عليك عروسُ المعرفة ولكن على غير كفؤ، وإنَّما يحلُّ النظر إذا كان العقدُ جائزًا. * فغضَّ الطَّرْفَ إنك من نمير (6) * * ليس العالِمُ شخصًا واحدًا، العالِمُ عَالَمٌ، تصانيف العَالِمِ أولادُه المُخَلَّدون دونَ أولادِه، من خُلِقَ للعِلْمِ شَفَّ جوهرُه من الصِّغَر، طولُ السَّهَرِ مُفضٍ إلى طِيب المَرْقد: __________ (1) في "المدهش": "ونسكن". (2) البيتان في "المدهش": (ص / 518)، ونسبهما في (شرح ديوان المتنبي: 3/ 11) إلى زين العابدين. (3) "المدهش": (ص / 518). (4) "المدهش: (ص/ 507). (5) هذا المقطع من "المدهش": (ص / 507). (6) صدر بيت لجرير يهجو الراعى النميري عجزه: * فلا كعبًا بلغت ولا كلابا *

(3/1206)


والهُوْن في ظلِّ الهوينا كامنٌ .... وجلالةُ الأَخْطار في الإِخْطار (1) * مياه المعاني مخزونةٌ في قلب العالِمِ يفتحُ منها للسَّقي سَيْحًا بعد سَيْح، ويدَّخِرُ أصفاها لأهل الصَّفاء، فإذا تكاثَرَتْ عليه نادى: للسبيل فيبقى علمُه سَيْحًا، ولهذا تَتَضاعفُ عليه زكاةُ الشكر. كل وقت تسافر بضائعُ فكرِه من مدينة قلبه إلى قلوب الطالبين، فينادى عليها دلَّال لسانه، وهو يعرضها في مواسمِ النُّصحِ على تجَّار الطلب والإرادة: مَنْ يشتري حكمةً وعلمًا بتخيير الثمن (2)، فيا مَنْ يرى عُلُوَّ تلك المرتبة لا تنسَ الدَّرجَ. كم خاضَ بحرًا مِلْحًا حتَّى وقع بالعَذْب، وكم تاهَ في مَهْمَهٍ قفرٍ حتَّى سمِّي بالدليل، وكم أَنْضَى مراكبَ الجسم ورفضَّ شَهَوات الحِسِّ وواصلَ السُّرَى (ظ / 205 أ) ليلًا ونهارًا، وأوقد نارَ الصبر في دياجى الهوى، فإن وثِقْتم بأمانَتِهِ فهذا تخيير الشِّرَاءِ (3). * الدنيا تُفَوِّق سهامَها نحو بنيها وتقول: خذوا حِذْرَكم، فلهذا دَمُ قتيلها هَدَر (4). * غاب الهدهدُ (ق/293 ب) عن سليمانَ ساعةً فتواعده، فيا مَنْ __________ (1) البيت لأبي الحسن التِّهامي من قصيدته المشهورة فى رثاء ابنه أبي الفضل "ديوانه": (ص/ 157)، وهو في "المدهش": (ص/ 507) ووقت في الأصول تحريفات أصلحناها. (2) "المدهش": "حكمةً بقبول". (3) من قوله: "ليس العالم شخصًا ... " إلى هنا من "المدهش": (ص / 507 - 508). والكلمة الأخيرة في الأصول: "السرى" والمثبت من "المدهش". (4) نحوه في "المدهش": (ص/ 509).

(3/1207)


أطالَ الغيبَةَ عن ربِّه هل أمنتَ عْضبَهُ (1)؟. * تخلَّفَ الثلاثةُ عن الرسول في غزوة واحدة، فجرى لهم ما سمعتَ، فكيف بمن عمره في التَّخَلُّف عنه؟. * إذا سَكِرَ الغرابُ بشراب الحِرْص تنَقَّلَ (2) بالجِيَفِ، فإذا صحا من خُمَاره نَدِمَ على الطَّلل، خالفَ موسى الخَضِرَ في طريق الصُّحْبة ثلاث ميت، فحل عقدَة المصال بيد: {هَذَا فِرَاقٌ بَيْنِى وَبَيْنِكَ}، أفما تخافُ يا مَنْ لم يَفِ لربِّه قَطُّ أن يقولَ في بعض زلَّاتك: هذا فراقُ بيني وبينك (3). * أعظم عذابِ أهل جهنَّم جهلُهم بالمُعَذِّب، لو صحَّتْ معرفتهم بالمالكِ لما استغاثَوا بمالك، وقع بينهم شخصٌ ليس من الجنس، كان في باطنه ذرَّةٌ من المعرفة، فكلما حملتَ عليه النار اتّقاها بدرع: "يا حَنَّان يا منَّان"، كأنَّ موتَه في المعاصي سكتةٌ، فقُبِرَ في جهنَّمَ، فلما تحرَّك الرُّوح في الباطن، أخرج من القبر (4). * حرصُ العصفور يخنقُه، وقنع العنكبوت في زاوية البيت الضَّعيف يسوق إليها الذُّباب قوتًا لها، رُبَّ ساعٍ لقاعدِ. أرسلتَ قلبك مع كلِّ مطلوب من الهوى، ثم تبعث وراءَه وقتَ الصلاة، فربَّما لا يلقاهُ الرسول فتصلي بلا قلبٍ. خَلَّفْتَ قلبَكَ في الأظعانِ إذ نَزَلَتْ .... بالمَأْزِمَيْنِ عدَاةَ النَّفْر بالنَّفرِ __________ (1) "المدهش": (ص/ 490). (2) ما ينتقل به على الشراب. (3) "المدهش": (ص/ 490). (4) "المدهش": (ص/ 491).

(3/1208)


ورحتَ تطلبُ في أرض العراق ضحًى ... ما ضاعَ عندَ مِنًى فاعجبْ لذا الخَبَرِ لما طَرَقْنا مِنًى كان الفؤادُ معي ... فضَلَّ عنِّيَ بين الضَّالِ والسَّمُرِ يا أرجلَ العيسِ تُهنيكَ الرِّمالُ فما ... أمشي بوجدي غدًا إلَّا على الأثر * يا من فقد قلبه لا تيأس من عوده. فقد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعدَما ... يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أنْ لا تَلاقِيَا (1) الهوى قاطن والصواب خاطر، وطرد القاطن صعبٌ، وإمساك الخاطر أصعب (2). * إنك لم تزلْ في حبس، فأولَّ الحبوس: صُلْبُ الأَب، والثاني: بطنُ الأم، والثالث: القُماط والمهد، والرابع: المكتب، والخامس: الكَدُّ على العيال، والسادس: مرض الموت، والسابع: القبر، فإن وقعت في الثامن نسيت مَرارَةَ كلِّ حبس تقدم. ادخُلْ حَبْسَ التَّقوى باختيارِك أيامًا ليحصُلَ لك الإطلاق على الدَّوام، ولا تؤثرْ إطلاقَ نفسِك فيما تحبُّ فإنه يؤثرُ حَبْسَ الأبد. العذْلُ على حمل العشق علاوةٌ. ومُرَنَّح فَطَن النسيم بوجده ... فروى له خبر العذيب مُعَرِّضًا (3) * متى تركت المعصية وما حللت عُقَدَ الإصرار، لم يُفِدْ شيئًا، كما لو سكن المرضُ من غير استفراغ، فإنّه على حاله، إن لم يتحقَّق __________ (1) البيت لمجنون بني عامر انظر: "الأغاني": (2/ 76). (2) "المدهش": (ص / 486). (3) "المدهش": (ص / 482).

(3/1209)


قصد القلب لم يؤثرِ النُّطقُ شيئًا (1)، يمينُ المُكْرَهِ لا تنعقدُ (2). * ويحُك نفسك سلعَتُكَ وقد استامها المُشتري بأفخرِ الثَّمَن، (ق/294 أ) فاجهَدْ في إصلاح عُيوبِها لعلَّه يرضى بها. منامُ المنى أضغاثٌ، ورائدُ الآمال كذوبٌ، ومرتَعُ الشَّهَواتِ وخيمٌ (3) العَجْزُ شَرِيك الحِرمانِ، التفريطُ مصائب (4) الكسل. قُفْلُ قلبِكَ رومِيٌّ ما يقعُ عَليه فشٌّ (5). متى خَامَرَ من جنود عزمِكَ عليك واحدٌ، لم تأمنْ قلب الهزيمة عليك. وإذا كان في الأنابيب خُلْفٌ ... وقَعَ الطَّيْشُ في رؤوسِ الصِّعادِ (6) * كُنْ قَيِّمًا على جوارحِك ورَعيَّتك إذا وفَّيْتَها الحظوظَ فاستوفِ منها الحقوقَ. تأمل قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]، كيف شَرَك بينهما في الخروج، وخص الذِّكَرَ بالشَّقَاء، لاشتغاله: بالكسْب والمعاش، والمرأة في خِدْرها. تَزَوَّدْ من الماء القَرَاح (7) فلن تَرَى .... بوادي الغَضَا ماء نُقَاخًا ولا بَرْدا __________ (1) من قوله: "كما لو ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) "المدهش": (ص / 478). (3) "المدهش": "ومرعى المشتهي هشيم". (4) "المدهش": "مضارب". (5) الفش: الحلّ، يقال: فشَّ القِرْبة حل وِكاءها. (6) جمع صَعْدَة، وهي: القناة. "اللسان": (3/ 255) والبيت للمتنبي "ديوانه": (2/ 43)، وفيه "في صدور الصعاد". (7) "المدهش": "النقاخ": وهو: العَذْب.

(3/1210)


وَنَل مِن نسيمِ البانِ والرَّنْد نفحةً .... فهيهاتَ وادٍ يُنْيِتُ البانَ والرَّنْدا وكُرَّ إلى نجدٍ بطَرْفِكَ إنه .... متى تسرِ لا تنظرْ عقيقًا ولا نجدا (1) انظر يمنَةً فهل ترى إلَّا محنة، ثم اعطِفْ يسْرَةً فهل ترى إلَّا حسرةً، أما الرَّبْعُ العَامِرُ فَدَرَسَ، وأما أَسْر المَمَاتِ ففَرَسٌ، وأما الراكبُ فَكَبَتْ به الفَرَسُ، ساروا في ظُلَم ظلامهم، فما عندَهم قَبَسٌ، ووقفت بهم سفن نجاتِهم لأن البحرَ يَبَسٌ. وانقلبت تلك الدولُ كلُّها في نَفَس، وجاء مُنْكَرٌ بآخر "سبأ"، ونَكِيرٌ بأول "عَبَسَ". أفلا يقوم لنجاته مَنْ طالما قد جَلَسَ. يا نفسِ ما هي إلَّا صبرُ أيامِ ... كأن مُدَّتَها أضغاثُ أحلامِ يا نفسِ جوزي عن الدُّنيا ولَذَّتِها .... وخَلِّ عنها فإن العيشَ قدامي (2) * ألا يصبر طائر الهوى عن حَبَّةٍ مجهولةِ العاقبة، وإنَّما هي ساعةٌ ويصلُ إلى برج أَمْنِه، وكم فيه من حبة: وَإنْ حَنَنْتَ للحِمَى وروضِهِ ... فبِالغَضا ماءٌ وروضاتٌ أُخَرْ حاصلُ الكُتُب من الطَّير أقوى عَزِيمة منك، فلعل وضْعَكَ على غير الاعتدال، لَا تكون الرُّوح الصافيةُ إلَّا في بَدَد معتدل، ولا الهمة العالية إلَّا لنَفْس نفيسة. إذا حمل الطائر الرسالةَ صابرَ العزيمةَ ولازَمَ بطونَ الأوديةِ، فإن خَفِيَتْ عليه الطريقُ تَنَسَّمَ الرياحَ وتلمَّحَ قرصَ الشمسِ وتستَّرَ، وهو __________ (1) "المدهش": (ص / 479 - 480). (2) البيتان لأبى العتاهية "ديوانه": (ص/ 391)، والبيت الثاني في الديوان: يا نفس كوني عن الدنيا مُبَعَّدة .... وخلِّفيها فإن الخير قُدَّامي

(3/1211)


مع شدَّة جوعِه يحذرُ الحَبَّ الملقى خوفًا من دفينةْ فخٍّ توجِبُ تعرقلَ: الجناح، وتضييعُ ما حمل، فإذا بلَّغَ الرسالةَ أطلقَ نفسَهُ ديَ أغراضِها داخل البُرْج. فيا حاملي كتُب الأمانة أكثركم على غير الجادَّة، وما يستدلُّ منكمْ من قد رَاقَهُ الحَبُّ، فنزل [ناسيًا] (1) ما حمل فارتُهِنَ وَذبحَ، ومنكم منْ تعرْقَل جناحُه وهو ينتظر الذبحَ، فلا الحَبَّةُ حصلتْ ولا الرسالةُ وصلتْ: قَطَاةٌ غَرَّهاْ شَرَكٌ فباتَت ... تُجَاذِبُه وقد عَلِقَ الجناحُ فلا في اللَّيلِ نالتْ ما تَمَنَّتْ ... ولا في الصُّبْح كان لها سَراحُ لو صابرتم مشقَّةَ الطَّرِيقِ (ق / 294 ب)، لانتهى السفرُ، فتوطَّنتُمْ مستريحينَ فِى جنَّات عَدْن، يا مهملينَ النظرَ في العواقب أسلفوا في وقت الرُّخص، فما يؤمَن تغْيُّرُ الأسعارِ، لا ترم بسهام النظر فإنها واللهِ: فيك تقعُ، ربَّ راعي مُقْلة أهملها فأُغِيرَ على السَّرْح (2). كلُّ الحوادثِ مَبْداها من النَّظَرِ ... ومعظم النَّار من مستصغرِ الشَّرَرِ كم نظرةٍ فعلتْ في قلب ناظرِها .... فعلَ السِّهامِ بلا قوسٍ، وَتَرِ (3) * غيره: وأرى السِّهامَ تؤم (4) من يرمي بها ... فعلامَ سهمُ اللَّحْظِ يُصْمِي من رَمَى (5) __________ (1) من "المدهش". (2) "المدهش": (ص 473/ -475). (3) تقدم الكلام عليهما. (4) (ق وظ): "نام" و (ع): "تام"، والمثبت من "المدهش". (5) البيت في "المدهش": (ص / 458).

(3/1212)


* اعرف قَدْرَ لطفِهِ بك، وحفظِه لك، إنما نهاك عن المعاصي، حماية لك وصيانةً، لا بخلًا منه عليك، وإنَّما أمرك بالطاعة رحمة وإحسانًا لا حاجة منه إليك، لمَّا عرفْتَه بالعقل حَرَّمَ ما يزيلهُ وهو الخمرُ صيانة لبيت المعرفة، يا متناولًا للمُسكِر لا تفعلْ، يَكْفِيكَ سُكْرُ جهلِكَ، فلا تجمعْ بين سُكْرَيْنِ. * سلعةُ {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ} لا تُبْذَلُ إلَّا بثمن {لِمَنْ تَابَ} خارجًا من سَبِيكة {وَآمَنَ} عن سكة {وَعَمِلَ صَالِحًا} من دار ضَرْب {ثُمَّ اهْتَدَى}. * إن لم تقدر على الجِدِّ في العمل فقفْ على باب الطَّلَب، تعرَّضْ لنفحةٍ من نَفَحَات الرَّبِّ، ففي لحظةٍ أفْلَحَ السَّحَرَةُ: لا تَجْزَعَنْ مِنْ كلِّ خَطْبٍ [عَرَى] (1) ... ولا تُرِي الأعداءَ ما يُشْمِتُ واصبرْ فبالصَّبْرِ تنالُ المُنَى ... "إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا" ثَمَنُ المعالي الجِدُّ، والفتورُ داءٌ مُزْمن. من السَّلوة في عَيْنيك .... آياتٌ وآثارُ إذا ما بَرَدَ القلب ... فما تُسخِنْهُ النارُ (2) * الوجودُ بحرٌ، والعلماء جواهرُه، والزُّهَّاد عنبرُه، والتُّجَّارُ حِيتانه، والأشرارُ تماسيحُه، والجهَّال على ظهره كالزَّبَدِ. لو كشفت لك الدنيا ما تحتَ نِقابها لرأيت المعشوقةَ عجوزًا، وما ترضى إلَّا بقتل عُشَّاقها، وكم تدللت عليهم بالنشوز، أذاقَتْهم بَرْد __________ (1) (ع وق): "فادح" وليست فى (ظ) والمثبت من "المدهش". (2) "المدهش": (ص/ 475 - 476).

(3/1213)


كان الأمانيِّ (1) فإذا هم في وسط تَمُّوزَ. * تطلبُ مشاركةَ الغانمينَ وما شهدْتَ الحربَ، ويحك الغنيمةُ لمن شَهِدَ الوَقْعَةَ. البلايا تُظهِرُ جواهرَ: الرّجالِ، وما أسرَعَ ما يُفْتَضَحُ المُدَّعِي. تنامُ عيناك وتشكوا الهَوى .... لو كنت صَبًّا لم تكنْ هكذا (2) * يا مؤثرًا ما يَفْنَى على ما يَبْقَى، هذا رأي هواك فهلا استشرتَ العقلَ لتعلَم أنصحَهُما لكَ، لا تَحْقِرَنَّ يسيرَ المعصية فالعُشب الضعيف يُفْتَلُ منه حبالٌ تَجُرُّ السُّفنَ، أَوَ ما نفدت في سَدِّ سبأٍ حيلة جُرَذٍ، العمرُ ثوب غيرُ مكفوف، وكلُّ نَفسٍ خيطٌ يَسَلُّ منه، أنتَ أجيرٌ وعليك عملٌ، فأخِّرْ ثيابَ الرَّاحةِ إلى انقضاء العمل، كم غرقت سفينة في بحر سوف (3). ساروا ولا يسألون ما فَعَل الـ .... ــفجر ولا كيف مالت الشُّهُبُ عوَّدهم هجرهم مطالبةَ الرَّ ... احةِ أن يظفروا بما طلبوا * الشجاع يَلْبَسُ (ق/295 أ) القلبَ على الدِّرع، والجبان يلبَسُ الدرعَ على القلب. أعظم البلايا تردُّدُ الرَّكْبِ إلى بلد الحَبيب يودِّعون الدِّمَنَ. ومعالٍ لو ادَّعاها سِواهُمْ .... لَزِمَتْهُ جِنَايةُ السُّرَّاق (4) __________ (1) "المدهش" كانون الأول". (2) "المدهش": "نائمًا". (3) "المدهش": (ص/ 470 - 471). (4) البيت للمتنبي "ديوانه": (2/ 368).

(3/1214)


[وقال آخر]: نالوا السماءَ وحطُّوا من نفوسِهمُ ... إنَّ الكرامَ إذا انْحطوا فقد صعِدوا * لو صدق عزمُكَ قذفَتْكَ ديارُ الكَسَل إلى بيداء الطَّلَب (1). * الناقد يخافُ دخولَ البَهْرجِ عليه واختلاطَه بماله والمبهرِجُ آمن، هذا الصِّدِّيقُ يُمسِكُ بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني المواردَ، وعُمَرُ يناشد حذيفة؛ هل أنا منهم (2)، والمخَلِّطُ على بساط الأمن. * إذا جنَّ الليل وقع الحربُ بين النوم والسهو، فكان الشوق والخوفُ في مقدمة عسكر اليَقَظة، وصار الكَسَل والتَّواني في كتيبة الغفلة، فإذا حمل العزمُ حملةً صادقةً هزم جنودَ الفُتور والنوم، فحصل الظفرُ والغنيمةُ، فما يطلُع الفجرُ إلَّا وقد قُسِمَتِ السُّهمانُ وما عند النائمين خَبَرٌ. قام المُتهجِّدونَ على أقدام الجدِّ تحت ستر الدُّجى، يبكون على زمنٍ ضاع في غير الوصال. * ما زالت مطايا السَّهَو تذرعُ بيداءَ الدُّجى، وعيونُ آمالها لا ترى إلَّا المنزلَ، وحادي العزم يقول: يا رفقةَ اللَّيلِ طابَ السَّيْرُ فاغتنِموا المَسْرَى، فمنْ نام طولَ اللَّيْل لم يَصِل. إلى أنَّ هبَّ نسيمُ السَّحَر، فقام الصارخُ يبغي ظلام الليل، فلما همَّ بالرَّحيل تشَبَّثَ القوم بأذياله يبكونَ على فِراقِ المحبوب، فلما طَلَعَ الفجرُ حدا حاديهم: * عند الصَّبَاحِ يحمَدُ القوم السُّرَى * __________ (1) "المدهش": (ص / 465 - 466). (2) يعني: المنافقين.

(3/1215)


* يا من يستعظمُ أحوالَ القوم تنقَّل في المراقي تَعْلُ (1). * من جمع بين العلم بالسُّنَّة ومتابعتها أنتجَا له المعاني البديعة، فهي تُنادي على رؤوس الأَشهاد؛ وُلِدْتُ من نِكاحٍ لا مِنْ سِفاحٍ. ومن قَرَن بين البدعة والهوى أنتجا له ضروبُ الهَذَيانِ، فهي تُنادي على رؤوس الأشهاد: أيها الفَطِنُ لا تعْترَّ. * إذا فَتَحَت الوردةُ عينَها فرأتِ الشَّوْكَ حولها، فَلْتَصْبِرْ على مجاورته قليلًا، فوحدَها تُقْصَدُ وتُقَبَّلُ وتُشَمُّ. * إذا تكلمَ مَنْ يريدُ الدنيا بكلامه، فإنه كلما حفر في قَلِيب قلبه وأمعنَ في الاستنباط، انهار عليه ترابُ الطمع فطمَّه (2). * إذا رأيت سربالَ الدنيا قد تقلَّص عنك (3) فاعلم أنه لطف بك؛ لأن المنعم لم يقبِضْهُ بخلًا أن يتمزَّق، ولكن رفقًا بالسَّاعي أن يَتَعَثَّرَ. * فَتِّش على القلب الضَّائع قبل (ظ / 256 ب) الشُّروع، فحضورُ القلب أوَّلُ منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلْتَه انتقلْتَ إلى بادية المعنى، فإذا رحلتَ عنها أنَّحتَ بباب المُنَاجَاةِ، فكان أوّلَ قِرَى ضيفِ اليَقَظة كشفُ الحجابِ لعينِ القلبَ، فكيف يَطمع في دخولِ مكَّةَ مَنْ لا خرج إلى البادية بعدُ (4). إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم {أخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} استغرقت إحساس __________ (1) "المدهش": (ص / 461 - 463). (2) "المدهش": (ص / 460). (3) (ق وظ): "عليك". (4) في "المدهش" " ... : مكة منقطع قِبَل الكوفة".

(3/1216)


الناظرات {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وما شعرنَ، فكيف بالحال (ق/ 295 ب) يوم المزيد؟! لو أحببت المعبودَ لحضرَ قلبُك في عبادته. قيل لعامر بنُ عبدِ قيس: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أَوَ حديثٌ أحبُّ إليَّ من القرآنِ حتَّى أشتغلَ به؟!. وكان مسلمُ بنُ يسار لا يلتفتُ في صلاته حتَّى انهدمتْ ناحيةٌ من المسجد فزعَ لها السوق فما التفتَ، وكان إذا دخل منزله سكتَ أهلُ بيته، فإذا قام يُصَلِّي تكلَّموا وضَحِكوا علمًا منهم بالغَيبة. وقيل لبعضِهم: إنا لنُوَسْوِسُ في صلاتِنا، قال: بأيِّ شيءٍ؟ بالجَنَّة والحُور العِينِ والقِيَامة؟ قالوا: لا بل بالدنيا، فقال: لأَنْ تختلفَ فيَّ الأَسِنَّةُ أحَبّ إليَّ من ذلك. تقف في صلاتك بجَسَدِك وقد وجهتَ وجَهَكَ إلى القِبْلة، ووجهت قلبَكَ إلى قُطْر آخَرَ، ويحَكَ ما تصلُحُ هذه الصَّلَاةُ مَهْرًا للجنة فكيف تصلح ثمنًا للمحبة. رأتْ فأرةٌ جملًا فأعجبها فَجَرَّتْ خِطَامَهُ فتَبِعَها، فلما وصَلَتْ إلى باب بيتِها وقفَتْ فنادى بلسان الحال: إمَّا أن تَتَّخِذي دارًا تَليقُ بمحبوبِكِ أو محبوبًا يَلِيقُ بداركِ، وهكذا أنتَ: إما أن تَصَلِّيَ صلاةً تليقُ بمعبودِكَ وإما أنَّ تَتَّخِذَ معبودًا يليقُ بصلاتك (1). * تعاهَدْ قلبَكَ فإن رأيتَ الهوى قد أمال أحدَ الحِمْلين فاجعل في الجانب الآخر ذكرَ الجنَّة والنار ليعتدلَ الحِمْلُ، فإن غلبكَ الهوى فاستغِثْ بصاحب القلب يُعِينكَ على الحِمْل، فإن تأخَّرَتِ الإجابةُ __________ (1) "المدهش": (ص/ 454 - 456).

(3/1217)


فابعثْ رائدَ الانكسار خلْفَها تجدْهُ "عندَ المُنْكسرة قلوبُهم". * اللطفُ مع الضعف أكثرُ فتضاعفْ ما أمْكَنَكَ. لما كانْتِ الدجاجةُ لا تحنو على الولدِ أُخُرِجَ كاسِيًا (1)، ولما كانتِ النملةُ ضعيفَةَ البصر أُعِينَتْ بقوَّة الشَّمِّ فهي تجدُ ريح المطعوم من البعد، ولما كانت الخُلْدُ (2) عمياءَ، أُلهِمَتْ وقتَ الحاجَةِ إلى القوت أن تفتحَ فاها، فيبعث إليها الذباب فيسقط فيه فتناول منه حاجتها. الأطيار تَتَرَنَّمُ طولَ النهار، فقيلَ للضِّفْدَع: ما لك لا تَنْطِقِينَ؟ فقالت: معَ صوتِ الهَزَار (3) يُستبشعُ صوتي، ولكن الليلَ أجملُ بي. * لا تنسَ العِنَايَةَ بالسحرة، جاءوا يحاربونَه ويحَاربون رسُلَه، وخِلَعُ الصُّلْحِ قد فصِّلَتْ، وتيجانُ الرِّضى قد رُصِّعت، وشراب الوصال يروقَ، فَمَدُّوا أيديَهم إلى ما اعتصروا من خَمرة الهوى، فإذا بها قد انقلبت خَلًّا فأفطروا عليه فسَكِروا بشراب المحبَّةِ، فلما عَرْبَدَتْ عليهم المحبَّة صُلبوا في جذوع النخل. واعجبًا لعَزَمات ما ثنَاها {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} (4). * سجدوا له سجدةً واحدة فما رقعوا رؤوسَهم حتَّى رأوا منازلَهم من الجنة، فغلبهم الوجدُ وتمكَّنَ منهم الشوقُ، فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}: __________ (1) ويحتمل أن تكون: "كاسبًا" بالوحدة. (2) ضرب من الجرذان أعْمَى. (3) هو: العندليب. (4) "المدهش": (ص/ 450 - 451).

(3/1218)


تَمُرُّ الصَّبا صَفْحًا بساكن ذي الغَضا ... ويَصْدَعُ قلبي أنَّ يَهُبَّ هبوبُها قريبة عهدٍ بالحبيبِ وإنما ... هوى كلِّ نفسِ حيث حَلَّ حبيبُها (1) * (ق/ 296 أ) قطعت نياقُ جدِّهم باديةَ الليل، ولم تجدْ مسَّ التعبِ، فالطريق إلى المحبوبِ لا تطولُ: بعيدٌ على كسلان أو ذي مَلَالَةٍ ... وأمَّا على المشتاقِ فهو قريبُ يا حاضرينَ معنا بنيَّةِ النُّزهة لستم معنا، عُودوا إلى أوكار الكَسَلِ، فالحربُ طعنٌ وضربٌ ويا مودِّعينَ أرجحوا فقد عبرْنا "العُذَيْبَ"، وعن قريب تأتيكُم أخبارُنا بعد "فَيْد"، ويا أيها الحادي عَرَضَ الخَيْفُ من مِنَى. تُعَلِّمْكَ الدُّموعُ كيف ترمي حَصَى الجِمار (2). * ضيفُ المَحبَّة ماله قِرىً إلَّا المُهَجُ، إذا رأيت محبًّا ولم تدرِ لمن (ظ 207/ أ)، فضع يَدَك على نبضه وسَمِّ له من تظنّه به، فإن النبضَ ينزعج عند ذكره {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3). *حرُّ الخوف صيفُ الذُّوَبَان، وبرودة الرَّجاء شتَاءُ العطلةِ (4)، ومن لُطِفَ به زمانه كلُّه فصل الربيع: عينٌ تُسَرُّ إذا رَأَتْكَ وأختُها .... تَبْكي لطُولِ تباعدٍ وفِرَاق فاحفظْ لواحدةٍ دوامَ سرورِها ... وَعِدِ التي أبكيتها بتَلاقِ (5) __________ (1) البيتان في "المدهش": (ص/ 446). (2) "المدهش": (ص/ 447)، وليس فيه البيت "بعيد ... ". (3) "المدهش": (ص / 440). (4) كذا في الأصول، و"المدهش": "الغفلة". (5) "المدهش": (ص/ 436).

(3/1219)


* إذا رُزِقْتَ يَقَظَة فصُنْها في بيت عُزْلة، فإنَّ أيدي المُعَاشرة نَهَّابَةٌ احذر معاشرةَ البَطَّالينَ فإن الطبع لصٌّ، لا تُصَادِقَنَّ فاسقًا ولا تَثِقْ إليه، فإنَّ مَنْ خانْ أَوَّلَ منعمٍ عليه لا يَفي لك. يا فرخَ التوبة لازم ذِكْرَ الخلوة، فإن هِرَّ الهوى صَيُودٌ، إيَّاكَ والتَّقَرُّبَ من طرف الوَكْر، والخروجَ من بيت العُزْلة، حتى يَتكامَلَ نَبَاتُ الخوافي وإلَّا كنت رزقَ الصَّائدِ. الأُنْسُ بالخَلْق دِبْقٌ (1)، أوَّل ما يعرقل (2) جناحُ الطَّرِ، والمُخالطةُ توجِبُ التَّخليطَ، وأيسرها تشتيتُ الهِمَّةِ وضعف العزيمةِ: أقَلُّ ما فْي سُقوطِ الذِئْب في غَنَمٍ ... إن لم يُصِبْ بعضَها أن تَنْفِرَ الغَنَمُ * إن لم تكن من جملة المستحقِّين للميراث فكن في رفقة: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى}. ويْحَك لا تحْقر نفْسَك فالتائبُ حبيبٌ، والمُنْكَسِرُ صحيح، إقرارُك بالإفلاسِ عينُ الغنى، تنكيسُ رأسِكَ بالنَّدم هو الرِّفْعَةُ، اعترافُك بالخطأ نْفسُ الإصابة. عرضتْ سلعة العبوديَّةِ في سوق البيع، فَبَدلَتِ المَلائكةُ نَقدَ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} فقال آدم: ما عندي إلَّا فلوسُ إِفلاس نقشُها {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} فقيل: هذا الذي يُنْفقُ على خزانة الخاص، أنينُ المذنبين أحبُّ إلينا من زَجَل المُسَبِّحِينَ. * إن كان يأجوجُ الطَّبعْ ومأجوجُ الهوى قد عاثوا في أرضِ القُلوبِ __________ (1) "المدهش": "رِبْق" وهو الحبل الذي تُشد له الغنم، والدِّبق الغِراء الذي تُصاد به الطيور. (2) (ظ): "يعلق".

(3/1220)


فأفسَدوا فيها، فأعِينوا المَلِكَ بقوَّة يجعلْ بينكمْ وبينَهم رَدْمًا، اجمعوا له من العزائمِ ما يُشَابهُ {زُبَرَ الْحَدِيدِ}، ثم تفكَروا فيما أسلفْتُم، ليثورَ صعداء الأسفِ، فلا يَحتاج أن يقولَ لكم: {انْفُخُوا}. شدوا بنيانَ العزمِ بهجر المألوفاتِ والعوائدِ، وقد استحكَمَ البناء، فحينئذ أَفْرغوا عليه قِطْرَ الصَّبْر، وهكذا بنى الأولياءُ قبلَكم فجاء العدوُّ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)}. ضاقت أيام الموْسم فَأَسْرعوا بالإبِلِ. لا تَفُتكُمُ الوَقْفَةُ (1). * إذا لم تُخْلِصْ فلا تتعبْ، لا تَحْدُ ومالَكَ بعيرٌ، لا تمدَّ القوسَ وما لها وَتَرٌ. (ق/296 ب) كم بَذَلَ نَفسَه مراء لمدْحَةِ (2) الخَلْقُ، فذهبت نفسُه وانقلبت المدح ذمًا، ولو بذلها لله لبقيتْ ما بَقِي الدهر، عملُ المرائي بَصَلة كلُّها قشور، المرائى يحشو جرابَ الزوادة رملًا يثقله في الطريق ولا ينفعه، ريحُ الرِّياء جيفةٌ تتجَافاهَا (3) مسامُّ القلوب. * لما أخد دودُ القَزِّ ينسِجُ أقبلتِ العنكبوتُ تتشبَّه، وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نَسْجي أرديةُ الملوك ونَسْجُكِ شبكةُ الذباب، وعند مس الحاجةِ يتبيَّنُ الفَرقُ. إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ ... تَبين مَنْ بكى ممن تَبَاكى (4) __________ (1) "المدهش": (ص/ 426 - 429). (2) (ق): "ليمدَحَه". وما بعدها في الأصول هكذا "وانقلبت المدح" ولعلها: "المدحة"، وفي "المدهش": "وانقلبت والمدح". (3) كذا في (ع)، و (ق): "تتحاشاها"، و"المدهش": "تتحاماها". (4) البيت للمتنبي "ديوانه": (2/ 394 - شرحه).

(3/1221)


* شجرةُ الصنوبر تثمرُ في ثلاثين سنة، وشجرة الدّبَّاء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتِها في ثلاثين سنة قطعتُها في أسبوعين، ويقال: لي شجرة، ولك: شجرة. فقالت الصنوبرة: مهلًا حتى تهبَّ رياحُ الخريف، فإنْ ثبَتِّ لها تمَّ فخركِ. كان التَّصَوّف والفقرُ في مواطن القلوب فصار في ظواهر الثيِّاب. كان حُرقَة فصار خِرقَة (1)، غيِّرْ زِيَّك أيَّها المرائي فإنه يصيح بك: خذوني، السيفُ والدِّرع للزَّمِنِ هتكة فضيحة (2)، البَهْرجُ يتَبينُ عندَ الحَكِّ. * لو أبصرتَ طلائع الصِّدِّيقينَ في أوائلِ الركْب، أو سمعتَ استغاثةَ المُحِبِّينَ في وسط الركْب، أو شاهدتَ سَاقَةَ المستغفرينَ: في آخر الركْبِ؛ لعلمتَ أنَّك قد انقطَعتَ تحتَ شجرة (3) أمِّ غَيْلان (4). * وا حسرتا لمنقطع دون الرَّكْب يَعُدُّ (ظ / 207 ب) المنازلَ: أَعُدُّ اللَّيالي ليلة بعد ليليةٍ ... وقد عشتُ دهرًا لا أعدُّ اللياليا وقد يجمعُ اللهُ الشَّتِيتَينِ بعدما ... يَظُنَّانِ كلَّ الظَّنِّ أن لا تَلاقيا (5) * إلامَ الرَّواح في الهوى والتَغْليس؟ وحتَّامَ السَّعيُ فْي صحبةِ إبليسَ، وكم بهرجة في العمل وتدليسٍ! أين أقرانك (6) هل تسمع لهم __________ (1) تحتمل قراءة هذه العبارة على أنحاء شتى. (2) في "المدهش": "لِزَمنِ هتكة، ولمقْعد فضيحة ... "، و (ع): "هتيكة". (3) "شجرة" ليست قي (ع). (4) "المدهش": (ص/ 418 - 420). (5) تقدم التخريج 3/ 1209، وانظر "المدهش": (ص/ 415 - 416). (6) (ظ): "ابن آدم إنك".

(3/1222)


مِنْ حسيسٍ، أعلمت أنهم اشتدَّ ندمهم وحسرتُهم على إيثار الخسيس، تاللهِ لقد ودّوا أن لو كانوا طلقوا الدنيا قبل المَسيس: عينُ المنية يَقْظَى غيرَ مُطْرِفَةٍ (1) ... وطَرفُ مطلوبها مُذْ كانَ وَسنَانُ جهلًا تَمَكَّنَ منه حينَ مولدِهِ ... فالنطْق صاحِ ولُبُّ المرءِ سكرانُ * لا تنفع الرياضة إلاّ في نجيبٍ، لو سُقِيَ الحنظلُ بماء السّكَّر لم يخرجْ إلا مُرًّا، شجر الأثْلِ والصَّفْصَافِ والجوزِ ونحوها، لو دام الماء في عروقها لا تثمرُ أبدًا. سحابُ الهدى (2) قد طَبَّقَ بيْد الأكوان، وأمطر مشارقَ الأرض ومغاربها، ولكن قيعان أرض قلبَك "قيعان لا تمسك ماء، ولا تُنبتُ كلأً" ومع هذا فلا تيأس فقد يستحيل الخمر خلاًّ، ولكن إنما ذلَك لطيب العنصر. * خلا الفكر بالقلب قي بيت التلاوة، فجوى ذكر الحبيب وأوصافه، فنهض الشوق على قدم السَّعي. من لم يشاهد جمالَ يوسفَ لم (ق / 297 أ) يعرِفْ ما الذىِ آلَمَ قلبَ يعقوبَ: من لم يَبِتْ والحبُّ حَشْوُ فؤادِهِ ... لم يَدْرِ كيف تَفتُّت الأكبادِ (3) * يا مَن هبَّتْ على قلبه جَنوبُ المُجَانبة، فتكاثفَ عليه غيْمُ الغَفلة، فأظلم أفُقُ المعرفة، لا تيأسْ فالشمسُ تحت الغيم، لو تَصَاعَدَ منك __________ (1) (ع): "مُطرقة" وهي محتملة. (2) (ق): "الهوى". (3) "المدهش": (ص/ 410 - 413).

(3/1223)


نَفَسُ أَسَفٍ استحالت شمالًا فتقطَّع السحابُ، فبانت الشمسُ تحتَه (1). * لما كان رزقُ الطائر اختلاسًا لم يُجْعَلْ لهْ أسنان؛ لأن زمن الانتهاب لا يحتملُ المضغ، وَجعِلَ له حَوْصَلَةٌ كالمِخلاة ينقل إليها ما يستلبُ، ثم تنقلُه إلى القائصة في زمن الإمكان، فإن له فراخ أسهمَهم قبلَ النَّقْل. كلما طالت ساق: ألحيوان طال عُنُقهُ لِيُمكِنهُ تناولُ الأطعمةِ من الأرض. * رميتَ صخرةَ الهوى على ينبوع الفِطْنة , فاحتبسَ الماءُ، فإن لم تُطِقْ رفعَها فانقبْ حولَها، لعل ينابيع الماء تَنفجَّرُ. لو بعتَ لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قَارون، لكنت مغبونًا العقد (2). * عشَاقُ الدنيا بين مقتول ومأسور {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}. * يا طالبي (3) العِلم قد كتبتم ودرستُم، فلو طَلَبَكُم العلمُ في بيت العملِ فَلَستُمْ، وإنْ ناقشكم على الإخلاص أفلسْتُمْ، شجرةُ الإخلاص {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ولا يضرُّها زعازع {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وأما شجرة الرياء فإنها تجْتثُّ عند نسمة "من كان يعبُدُ شيئًا فَلْيَتْبعه" (4). __________ (1) "المدهش": (ص / 405). (2) "المدهش": (ص / 403 - 404). (3) "المدهش": "يا معاشر العلماء". (4) "المدهش": "نسمة (وَقِفُوْهم) ".

(3/1224)


رياء المرائين صيّر مسجد الضرار مزبلة وخربة {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، وإخلاص المخلصين رفح قدر التفَث "ربَّ أشْعَثَ أغْبرَ". قلب من تُرائيه بيَد من أعرضتَ عنه، يصرفهُ عنك إلى غيرك، فلا على ثَوَاب المُخلصيَنَ حصلتَ، ولا إلى ما قصدتَهُ بالرياء وصلتَ، وفات الأجرُ والمدحُ، فلا هذا ولا هذا. لا تنقشْ على الدرهم الزائف اسمَ الملِكِ، فإنه لا يدخلُ الخِزَانَةَ إلا بعد النقْد. المخلص يتبهرجُ على الخلق بستر حاله، وببهرجته يصح له النقدُ، والمرائي يتبرطلُ على باب الملك يوهم أنه من الخواص، وهو غريبٌ، فَسَلْه عن أسرار الملِك يُفْتَضَحْ، فإن خفِيَ عليك فانظر حالَه مع خاصَّة الملِكِ (1). * يا مَنْ لم يصبِرْ عن الهوى صبرَ يوسفَ، يتعيَّن عليك بكاء يعقوبَ، فإن لم تطِقْ فذل إخوته يوم {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}. إذا طال لبث الطين على حَافات الأنهار تكامَل رِيُّهُ، فإذا نضبَ عنه الماءُ استلبتِ الشمس ما فيه من الرطوبة فيشتد شوقه إلى الماء، فلو وضَعت منه قطعةً (ظ / 208 أ) على لسانك لأمسكه وعَلِق به شوقًا إلى الوِرْد، فيا من نضبَ ماءُ معاملته هل أحسستَ بالعطش؟!. * وقالوا يعودُ الماءُ في البئرِ بعدَما * وكانتْ بالحِجاز لنا ليالٍ ... نَهَبْناهن من أيدي الزمان (2) __________ (1) "المدهش": (ص/ 397 - 399). (2) "المدهش": (ص/ 394 - 395).

(3/1225)


*آخر: ولا تنصبْ خيامَك في محلٍّ ... فإن النازلينَ على ارتحالِ (1) * مدارأة الضعفاء باللُّطف، فإذا قووا شُدِّدْ عليهم. "مُروهمْ بِالصَّلاةِ لِسَبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْير". * كان الإسلامُ في بدايته كالنطفة فاقتنع بلفظة التوحيد، فلما نُفخ فيه الروح احتاج إلى الغذاء ففُرضت الصلاة, فلما تحرَّكْ وجبت الهجرة، فلما اشتد وجبتِ الزكاةُ، فلما قَربت الولادة لزم الحجُّ، فلما ظهر طفلًا حبِي بلطف {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فلما خاف من الزلل والعقاب جاءت بشارة {لَا تَقْنَطُوا} فلما ترعرع قال المؤدب: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فلما بلغ أشده واستوى جاء: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}. * في المتعبدون بالليل يقربون (2) إلى نوق الأبدان حَبَطَ الرُّقاد, فإذا تناولت سدَّ الفاقَةِ رفعتْ رؤوسَها، فإذا الدليلُ على الجادَّة، فتأخذ في السير. من النجوم الجواري مؤذن ومنها مقيم، فأربابُ العزائم يُؤَذَّن في محلَّتهم بليل، ويقام لهم أول الوقت، ومَنْ دونهم يصَلّون في أول الوقت، وأهل الفتور في آخره. إذا هجمت جنودُ الرُّقاد على العيون صاح حارس اليقظة بالمتعبدين: "الصَّلاة خيرٌ من النوم"، وهتف رقيب المعاتبة: "كذب من ادَّعى __________ (1) "المدهش": (ص/ 397). (2) (ع): "يقومون".

(3/1226)


محبتي، حتى إذا جَنَّه الليلُ نام عني" فيصيح المشتاقُ: سلوا الليلَ عني مُذْ تنَاءَتْ دِيَارُكُمْ ... هل اكْتَحَلَتْ بالغُمْض لي فيه أجفانُ ثم تمر بالمتهجدين سيارة النجومِ، فيبعثون مع كل فَيْج (1) رسالة فتسلم أخبارَه الجوابَ (2) إلى ركب السحر، فتهب لمجيئها رياحُ الأسحار، فيقول المنتظر: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}. * سبحان من أنعم على الموجودات بإيجادها من غير طَلَب، فلما وُجِدَتْ بَسَطَتْ أكفَّ السُّؤالِ لطلب تكميلها، فالأجنةُ في بطون الأمهات تطلب تكميل الخلق، والبذر تحت التراب يطلب قوتَهُ من الريِّ، ومخُّ الثمار ينتظر من فضله كمالَ نُضْجهِ، ومراكب البحار ترجو تحريكَها بالرياح، وأصحابُ البضائع ينتَظرون وفودَ الأرباحِ عليهم، وطلابُ العلم يسألون فتح متعلقِ الفهم، وأهل المجاهدة يرومون المعاونةَ على الطيع (3)، والمظلوم يترقَّبُ طلوعَ فجر النصر، والمريض يتململُ بين يديه طلبًا للطْفِهِ، والمكروبُ ينتظرُ كشفَ ما به، والخائفُ يترقب بريدَ الأمن، والأبدان المتمزِّقة في اللحود تنتظرُ جمع الشَّمل بعد الشَّتَات، وعرائس الجنان يسألنَ سلامةَ بعولتهن وتعجيلَ اللقاء. فإذا قام الخلق من أطباق التراب بإنعاش البعثِ نكَّسَ صاحبُ الزلَلِ رأسَ الندم طلبًا للعفو، ومدَّ العابدُ يدَ التقاضي بالمسلَم فيه عند حلول الأجل، وحَدَّقَ الزاهد إلى جزاء الصبر، وأشرفَ المحِبُّ على __________ (1) الفيج: الجماعة من الناس. و (ق): "مع فج". (2) (ق): "فتسَلم أحساره". (3) غير محررة في (ع).

(3/1227)


أطلال الشوق إلى الحبيب، وصاح العارفُ بلسان الوَجْدِ إذ لم يبقَ وقت للصَّمْت: لى عندَكم دَيْنٌ فوا عجبًا ... الدَّيْنُ لي وفؤاديَ الرهْنُ [غير]: عدمتُ دوائي بالعراقِ وربما ... وجدتُ بنجد لي طبيبًا مداوِيَا ويا جبلَ الرَّيَّان إن تعْرَ منهُمُ ... فإنْي سأكسوك الدمُوعَ الجواريَا ومِنْ حذري لا أسألُ الركْبَ عنهُم ... وأَعْلاق وجدي باقيات كما هيَا ومنْ يسألِ الركْبَان عن كُلِّ غائبٍ ... فلابُدَّ أن يلقى بشيرًا وناعِيَا (1) فائدة من له غوصٌ في دقائق المعاني يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لبِّ المعنى، والواقف مع الألفاظ مقصور النظر على الزينة (2) اللفظية: فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119]، كيف قابلَ الجوعَ بالعُرْي، (ظ / 208 ب) والظمأ بالضُّحْي، والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوعَ يقابَل بالظمأ والعُرْي بالضُّحْي. والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحهَ والجلالة؛ لأن الجوعَ ألَمُ الباطنِ والعريَ ألَمُ الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضُحْي؛ لأن الظمأ موجبٌ لحرارة الباطن والضّحْي موجبٌ لحرارة الظاهر، __________ (1) الأبيات للشريف الرضي "ديوانه": (ص/ 968). (2) (ق): "الرتبة".

(3/1228)


فاقتضت الآية نفيَ جميع الآفات ظاهرًا وباطنًا. وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن ابن حمدان (1) قال يومًا للمتنبي: قد انتُقِدَ عليك قولك (2): وَقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقفٍ ... كأنَّك في جَفْنِ الرَّدى وهو نائمُ تَمُرُّ بِكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزِيمَةً ... ووجْهُكَ وضَّاحٌ وثغرُك باسمُ قالوا: ركَّبْتَ صدرَ كلِّ بيت على عَجُز الآخر، وكان الأوْلى أن تقولَ: وقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقفٍ ... ووجهُكَ وضَّاحٌ وثغركَ باسمُ تمرُّ بِكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزِيمَةً ... كأنَّكَ في جَفْن الرَّدَى وهو نائمُ فيتم المعنى حينئذ؛ لأن انبساط الوجه ووضوحَه مع الوقوف في موقف الموت أشبهُ بأوصاف الكُماة، والسَّلامة من الرَّدَى مع مرور الأبطال كَلْمَى هزيمةً أعجب في حصول النجاة. وهذا كما انتُقِدَ على امرئ القيس قوله (3): كأنيَ لم أركبْ جوادًا للَذَّةِ ... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخَال ولم أَسبأ الزِّقَّ الروِيَّ ولم أَقُلْ ... لِخَيلِيَ كُرِّي كرّةً بعد إجفالِ __________ (1) سيف الدولة الحمداني. (2) "ديوان المتنبي": (3/ 386 - 387 - بشرح العكبري)، وذكر هذه القصة شارح الديوان، والأصفهاني في " الخريدة": (1/ 43)، وابن الأثير في "المثل السائر": (3/ 193 - 194). (3) "ديوانه": (ص/ 35).

(3/1229)


فلو قال: كأني لمْ أركبْ جوادًا ولم أقلْ ... لِخَيْلِيَ كُري كَرةً بعدَ إجْفَالِ ولم أسْبَأِ الزقَّ الروِيَّ لِلَذَّة ... ولمْ أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخَالِ كان أَشْبَهَ بالمعنى؛ لأن ركوبَ الخيل أشْبَهُ بالكَرِّ على الأبطال، وسَبْأُ الزِّق أليقُ بتبَطُن الكواعب (1). فقال المتنبّه: -يعني قائل الشعر المدعو بالمتنبي الكذاب-: اعلم أن القَزَّاز (2) أعلمُ بالثوب من البَزَّار؛ لأن القزَّاز يعلمُ أوله وآخره، والبزَّاز لا يَرَى منه إلا ظاهِرَه. وهذا الانتقاد غير صحيح، فإني قلت: * وقعْتَ وما في الموتِ شك لواقفٍ * فذكرت الموت وتحقق وقوعه في صدر البيت، ثم تمَّمتُ المعنى بقولي: * كأنك في جَفْنِ الرَّدى وهو نائمُ * والرَّدى: الموتُ بعينه، فكأني قلت: وقفتَ في مواضع الموت ولم تَمت، كأن الموت نائم عنك، فحصل المعنى مناسبًا للقصد، ثم قلت: *تمر بك الأبطالُ كَلْمى هزيمة* ومن شأن المكلوم والمنهزم أن يكونا كاشحي الوجوه عابسيها خائبي الأمل، فقلت: __________ (1) من قوله: "لأن ركوب ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) في المصادر: "لحائك"، وهما بمعنى.

(3/1230)


*ووجهك وضاحٌ وثغرُك باسمُ* لتحصل المطابقة بين عُبوس الوجه وقُطوبه (ق/298 ب) ونَضَارته وشحوبه، وإن لم تكن ظاهرة في اللفظ فهي في المعنى يفهمها من له في إدراكِ دقائقِ المعاني قدم راسخٌ. وأما قول امرئ القيس: *كأنيَ لم أركب جوادًا للذة* فإنه لما ذكر الركوب في البيت الأول تممه بما يشبهه ويناسبه من ركوب الكواعب، ليحصِّل لذة ركوبِ مهر الحرب، وركوب مُهر اللذة. وأما البيت الثاني: فمن شأن الشارب إذا انتشى أن تتحرك كوامنُ صدره، ويثور ما في نفسه من كوامن الأخلاق إلى الخارج، فلما ذكر الشرب وحاله وتخيل نفسه كذلك، فتحرك كامن خلقه من الحماسة والشجاعة، فأردفه بما يليق به. ثم ذكر الآية وتكلم عليها بنحو ما تقدم (1). إذا ظفرتُ من الدنيا بقربِكُمُ ... فكُل ذنب جناه الحبُّ مغفور فصل (2) * مَنْ نبَتَ جسمُه على الحرام فمكاسبه كبريتٌ به يوقَدُ عليه، الحجز المغصوبُ في البِناء أساس الخَرَابِ. __________ (1) كذا، وكأن المؤلف ينقل عن غيره، ولم نتبين من هو. (2) هذا الفصل من "المدهش" (ص/387 - 389) بتصرف، و"فصل" ليست في (ق وظ).

(3/1231)


أتُرَاهم نسوا طيَّ الليالي لمن تقدمهم {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} فما هذا الاغترار؛ وقد {خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}، {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} من لهم إذا طلبوا العودةَ فـ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}. سبحان الله كم بكت دى تنعُّم الظَّالم عينُ أرملة، واحترقت كبِدُ يتيم، وجَرَتْ دمعة مسكين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)} [المرسلات: 46] {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} [ص: 88] ما ابيض لون رغيفهم حتى اسودَّ لون ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام من استأثروا عليه. لا تحتقرْ دعاءَ المظلوم فشررُ قلبهِ محمولٌ بعجيج صوته إلى سقف بيتِكَ، (في / 259 أ) ويْحَك نِبالْ أدعيتهَ مُصِيبة وإن تأخَّرَ الوقتُ، قوسُهُ قلبُهُ المقروحُ، ووَتَرهُ سوادُ اللَّيل، وأستاذُه صاحب: "لأنصرنك ولو بعد حين"، "وقد رأيت ولكن لستَ تعتبِرُ" (1). احذر عداوة منِ ينام وطرفه باك، يقلِّب وجهه نحو السماء، يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاءِ منك، فربَّما ولعلَّما، إذا كانت راحةُ اللذة تُثمر ألمَ العقوبة لم يحسُنْ تنَاولها. ما تساوي لَذَّةُ سنة غَمَّ ساعة فكيف والأمر بالعكس!. كم في يمِّ الغرورِ من تمساحٍ فاحذر يا غائص، ستعلم أيّها الغريمُ قِصَّتَكَ عند تعلّقِ الغرماء بك. إذا التقى كلُّ ذي دَيْن ومَاطِلُهُ .... ستعلم ليلى أيَّ ديْن تَدَيَّنتْ __________ (1) في "المدهش": "قوسه حرقه، ووتره قلقه، ومرماته هدف (لأنصرنك)، وسهم سهمه الإصابة "وقد رأيت وفي الأيام تجريب".

(3/1232)


من لم يَتبع بمنقاش العدل شَوْكَ الظلم من أيدي التَّصرف، أثَّرَ ما لا يُؤمَنُ تَعَدَيهِ إلى القلب، يا أربابَ الدّوَل لا تعَرْبِدوا في سُكْر القُدْرة، فصاحبُ الشرطةِ بالمَرصاد. سليمان الحكم قد حبس آصِفَ العقوبة في حصن: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 84]، وأجرى رَحَى الرخا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165]، فلو هبت سموم الجزاء من مَهَبِّ: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} [الأنبِاء: 46]، قلعت سكر: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178]، (ق/ 299 أ) فإذا طوفَانُ التَّلَفِ ينادي فيهم: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43]. فالحذر {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] [الزمر: 56). وأنت أيها المظلوم فتذكر من أين أتيتَ؟ فإنك لا تلقى كَدَرًا إلاّ من طريق جناية (1): {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. كان لبَّانٌ يشُوب الماءَ باللَّبن، فجاء سيلٌ فذهب بالغنم، فجعل يبكي (2)، فهتف به هاتف: اجتمعت تلك القَطَرَاتُ فصارت سيلًا، ولسانُ الجواءِ يناديه: "يداكَ أوْكَتا وفوكَ نَفَخَ". اذكر غفلتك عن الآمر والأمرُ وقت الكسب، ولا تنسَ اطِّراح التقوى عند معاملة الخلق، فإذا انْقَضَّ عاصِفٌ فسمعتَ صوت سوطِهِ يضرب عقد الكسب جزاء لخيانَةِ العقودَ، فلا تستعظمْ ذاك فأنتَ الجاني، والبادءُ أظَلمُ (3). __________ (1) (ق): "خيانة". (2) "فجعل يبكي" ليست في (ع). (3) هنا انتهى الانتقاء والنقل من كتاب "المدهش" لابن الجوزي.

(3/1233)


فائدة (1) ما يقول الفقيهُ أَيدَهُ اللـ ... ــــــــــــهُ ولا زاكَ عندَهُ إحسان في فتى عَلَّق الطَّلاق بشهرٍ ... قبلَ ما قبلَ قبلِهِ رمضانُ في هذا البيت ثمانية أوجه: أحدها: هذا، والثاني: "بعد ما بعده: بعده"، والثالث: "قبل: ما بعد بعده"، والرابع: "بعد ما قبل قبله"، فهذه أربعة متقابلة، والخامس: "قبل ما بعد قبله"، والسادس: "بعد ما قبل بعده"، والسابع: "بعد ما بعد قبله"، والثامن: "قبل ما قبل بعده". وتلخيصها: أنك إن قدمت لفظة (بعد) جاء أربعة: أحدها: بعدات كلها، والثانية: بعداد وقيل. الثالثة: بعد وقبلان. الرابعة: بعد وقبل ثم بعد. وإِن قدمت لفظة (قبل) جاءت أربعة كذلك. فإذا عرفتَ هذا؛ فضابط الجواب عن هذه الأقسام الثمانية: أنه إذا اتفقت الألفاظ فإن كانت "قبلا" فيكون الشهر هو الذي تقدمَه رمضان بثلاثة أشهر، فيقعُ الطلاقُ في ذي الحجَّة، فكأنه قال: "أنت طالق في شهر ذي الحجَّة"؛ لأن المعنى: أنتِ طالق في شهر رمضاِن قبل قبل قبله، فلو قال: رمضان قبله طلقت في شوال، ولو قال: قبلَ __________ (1) هذان البيتان وشرحهما ذكرهما شهاب الدين القرافي في "الفروق": (1/ 63 - 68) وذكر أنهما من نوادر الأبيات وأشرفها معنى وأدقها فهمًا وأغربها استنباطًا، ثم ذكر أنه يمكن أن يستخرج منهما سبع مئة مسألة وعشريك مسألة، وأن هذين البيتين قد وقعا للعلامة أبي عمرو بن الحاجب فأفتى فيهما، وذكر نص فتواه، ثم زاد عليه أمورًا لم يتعرض لها. ونقل هذه الفائدة عن "البدائع" المرداوي في "الإنصاف": (9/ 47)، والبهوتي في "كشاف القناع": (5/ 283)، وذكرها جماعة من الحنفية في كتبهم.

(3/1234)


قبلِهِ لطلقت في ذي القعدة، فإن قال: قبلَ قبلِ قبلِهِ طلقتْ في ذي الحِجّة. فإن كانت الألفاظُ "بعدًا" طلقت في جُمَادى الآخِرة؛ لأن المعنى: أنتِ طالقٌ في شهر يكونُ رمضان بعدَ بعدِ بعدِهِ، ولو قال: رمضانُ بعدَه طلقتْ في شعبان، ولو قال: بعدَ بعدِه طلقتْ في رجب، فإذا قال: بعدَ بعدِ بعدِهِ طلقتْ في جُمَادى الآخِرَةِ. وإن اختلفتْ الألفاظُ -وهي في ستِّ مسائلَ- فضابطُها: أن كلَّ ما اجتمعَ فيه قل وبعد فألْغِهِما نحو: قبكَ بعده، وبعدَ قبلِهِ، واعْتبرِ الثالث، فإذا قال: قل بعدِ بعدِه، أو: بعدَ قبلِ قَبْلِهِ، فألغ اللَّفظين الأوَّلين يصير كأنه قال في الأول: بعدَه رمضانُ فيكون شعبانَ، (ق / 299 ب) وفي الثاني كأنه قال: قبْلَا رمضانُ فيكون شوال. وتقرير هذا (ظ/209 ب): أن كلَّ شهر واقع قبلَ ما هو يعدَه وبعدَ ما هو قبلَه. وإن توسَّطت لفظةٌ بين مضادَّين لها نحو: قبل بعد قَبْله، وبعدَ قبلِ بعد، فألغِ اللَّفظينِ الأولَيْنِ، فيكون "شوَّالًا" في الصورة الأولى، كأنه قال: في شهر قبله رمضانَ، و"شعبانَ" في الثانية، كأنه قال: بعدَهُ رمضانُ. وإذا قال: بعدَ بعدِ قبله، أو قبلَ قبْلِ بعدِهِ، وهما تمام الثمانية طلقتْ في الأولى في "شعبانَ"، كأنه قال: بعدَه رمضانُ، وفي الثانية في "شوال" كأنه قال: قبلَهُ رمضانُ. فائدة (1) قال بعض الفضلاء بيتًا من الشعر يشتمل على أربعين ألف وثلاث __________ (1) ليست في (ق). وهذا البيت وما فيه من الاحتمالات ذكره القرافي في "الفروق" (1/ 68 - 69).

(3/1235)


مائة وعشرين بيتًا من الشعر، وهو لزين الدين المغربي (1): لقلبي (6) حبيبٌ مليحٌ ظريفٌ ... بديعٌ جميلٌ رشيقٌ لطيفٌ وبيانُ ذلك: أن هذا البيتَ ثمانيةُ أجزاء، يمكنُ أن يُنْطَقَ بكل جزء من أجزائه مع الجزء الآخر، فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات، فالجزءان الأوَّلان "لقلبي حبيب" يتصوَّر منهما صورتان بالتقديم والتأخير. ثم خذ الجزء الثالث فيحدثُ منه مع الأولين ستُّ صور؛ لأن له ثلاثةَ أحوال؛ تقديمه عليهما وتأخيره وتوسطه، ولهما حالان، فاضرب أحواله في الحالين يكن ستة. ثم خذ الجزء الرابع، وله أربعةُ أحوال، فاضرِبْها في الستة التي قبله تكن أربعة وعشرين. ثم خذ الخامسَ تجدْ له خمسة أحوال، فاضرِبها في الصُّور المتقدمة، وهي أربعة وعشرون تكنْ مئة وعشرين. ثم خذ السادس تجِدْ له ستة أحوال، فاضربها في مائة وعشرين تكن سبع مئة وعشرين. ثم خذِ السَّابِع تجد له سبعةَ أحوال، فاضربها في سبع مئة وعشرين تكن خمسةَ آلاف وأربعين. ثم خذ الثامن تجد له أحوال ثمانية، فاضربها في خمسة آلاف __________ (1) (ق): "المعرى" و (ع): "المقري" والمثبت من "الفروق". ولم أتبين من هو: (2) "الفروق" "بقلبي".

(3/1236)


وأربعين تكنْ أربعين ألفًا وثلاث مئة وعشرين بيتًا فامتحنها تجدها كذلك. ومثله لي قُلْته في القدس: محبٌّ صبورٌ غريبٌ فقيرٌ ... وحيدٌ ضعيف كتومٌ حمولٌ (1) فائدة في دخول الشرط على الشرط (2)، وهو صور: إحداها: "إنْ خَرَجتِ ولَبِستِ فأنت طالقٌ" لا يحنَثُ إلا بهما كيفما كانا. الثانية: "إن لَبِتِ فخرجتِ" لم يحنَثْ إلا بخروج بعد لُبْسٍ. الثالثة: "إنْ لبتِ ثم خَرَجتِ" لا يحنث إلا بخروجها بعد لبسها لا معه، ويكون متراخيا، هذا بناءَ على ظاهر اللفظ، وأما قَصْده فيُرَاعى، ولا يلتفت إلى هذا. الرابعة: "إن خَرَجتِ لا إن لَبسْتِ" يحنَثُ بالخروج وحدَهُ ولا يحنَثُ باللّبس، ويحتمل هذا التعليقَ أمرين: أحدهما: أن يجعل الخروج شرطًا ويَنْفِي أن يكون اللّبْس شرطًا، فحكمه (ق/300 أ) ما ذكرنا. الثاني: أن يجعل الخروجَ مع عدمِ اللبس شرطًا، فلا يحنثُ __________ (1) (ق): "جهول". (2) "فائدة في دخول الشرط على الشرط" سقطت من (ق)، و"على الشرط" ليست في (ع)، وقد تقدم هذا البحث في أول الكتاب: (1/ 101 - 106)، وذكر له المؤلف هناك عشر صور.

(3/1237)


بخروج معه لبس، ويكون المعنى: "إن خرجت لا لابسة أو غير لابسةٍ" فإنْ خرجت لابِسةً لم يَحْنَثْ. الخامسة: "إن خَرَجتِ بل إن لَبسْتِ"، فلا يحنثُ إلا باللُّبس دون الخروج، ويحتمل هذا التعليق أيضًا أمرين: أحدهما: هذا. والثاني: أن يكون كلّ منهما شرطًا فيحنث بأيِّهما وجد، ويكوِن الإضراب إضرابَ اقتصار لا إضرابَ إلغاء، فكأنه يقول: لا أقتصرُ على جعل الأوَّل وحده شرطًا، بل أيّهما وُجد فهو شرطٌ، فعلى التقدير الأوَّل: يكون إضرابَ إلغاءِ ورجوع. وعلى الثاني: إضراب اقتصار وإفراد. السادسة: "إن خرجتِ أو إن لَبِسْت" يحنث بأيهما وُجِد. السابعة: "إن ليسْت لكنْ إن خرَجْتِ" فالشرطُ الثاني، وقد لغا الأول بـ (لكن)؛ لأنهَا للاستدراك. الثامنة: -وهي أشكلها- "إن لَبسْتِ إنْ خَرَجْتِ" وهذه مسألةُ دخول الشرط على الشرط، ويحتمل التعليق في ذلك أمرين: أحدهما: أن يُجعلَ كلُّ واحدٍ منهما شرطًا مستقلًا، فيكون كالمعطوف بالواو سواء ولا إشكال. والثاني: أن يجعلَ أحدهم شرطًا في الآخر. فاختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة (1)؛ فقال أصحاب مالك: هو تعليق للتعلق، ففي هذا الكلام تعليقان: __________ (1) انظر "الفروق": (1/ 81 - 82) والمؤلف من هنا ينقل منه مع بعض التصرف.

(3/1238)


أحدهما: "إن لَبست فأنتِ طالِقٌ" ثم علق هذه الجملة المعلقة بالخروج، فكأنه قال: شرطُ نفوذ هذا التعليق الخروج، فعلى هذا لا يحنَثُ حتى يوجدَ الخروجُ بعد اللبْس، وممن نصَّ عليها ابن شاس في "الجواهر" (1). وقال أبو إسحاق في "المهذب" (2) وقد صور المسألة: "إن كَلَّمْتِ زيْدًا، إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالِقٌ"؛ إنْ دَخَلَتِ الدارَ ثمَ كلمَتْ زيدًا طلقَتْ، وإن كلمَتْ زيدًا (ظ/ 215 أ) أولًا، ثم دخلتِ الدارَ لم تطلقْ؛ لأنه جعل دخولَ الدار شرطًا في كلام زيد، فوجبَ تقديمه عليه، وهذا (3) عكس قول المالكية، ورجَّحَ أبو المعالى قولَ المالكية في "نهايته" (4). وقد وقع هذا التعليق في كتاب الله عز وجل في مواضع: أحدها: قوله حكايةً عن نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وهذا ظاهر في أن الشَّرْطَ الثانى شرط في الشرط الأول، والمعنى: إن أراد الله أن يُغْوِيَكمْ لم يَنْفَعْكمْ نصحي إن أردته، وهذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق. الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]، قالوا: فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية، لأن إرادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأخرة عن هِبَتِهَا، فإنها تجري مجرى القبول في هذا العقد، والإيجاب هو هبتها. __________ (1) (2/ 207). (2) (10/ 215 - مع شرحه للعمراني). (3) (ع): "هكذا". (4) هو كتابه الكبير: "نهاية المَطْلب في دراية المَذْهب"، لم يطبع بعد.

(3/1239)


ونظيرُ هذا أن يقولَ: "إن وَهَبِت لي شَيئًا إنْ أردْتُ قَبُولَهُ أخذْتهُ"، فإرادةُ القبول متأخِّرة عن الهِبة، فلا يكونُ شرطًا فيها، (ق/ 300 ب) قال الأوَّلون: يجوز أن تكونَ إرادةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - متَقَدِّمة، فلما فهمت المرأة منه ذلك وَهَبَتْ نفسَها له، فيكون كالآية الأولى، وهذا غيرُ صحيح، والقصَّة تأباه، فإنَّ المرأةَ قامت، وقالت: يا رسولَ الله إنى وَهَبْتُ لك نفسِي، فصَعَّدَ فيها النَّظَرَ وصَوَّبَهُ، ثم لم يَتزوَّجْها وزوَّجَها غيْرَه (1). الموضع الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} [الواقعة: 86 - 87]، والمعنى: فلولا ترجِعُونها، أي: تَردّون الرُّوح، إذا بلغتِ الحُلْقُومَ، إنْ كنتمْ غيْرَ مربوبين مملوكين، إن كنتم صادقين، وهنا الثانى شرط للأول، والمعنى: إنْ كنتُم صادقينَ في قولكم فهلاّ تَرُدُّونها إن كنتم غيرَ مدِينينَ، ويدلّ عليه قول الشاعر أنشده أبو عبد الله بن مالك (2): إنْ تَستَغيثوا بنا إنْ تُذْعَروا تَجِدُوا ... منَّا معاقلَ عِزٍّ زانَها الكرَمُ ومعلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر، فالذعر شرطٌ فيها، ومن هذا قول الدُّريدي (3): فإنْ عَثَرْتُ بَعْدَها، إنْ وَألَتْ ... نَفْسِيَ مِنْ هاتا فقُولا: لا لَعَا __________ (1) متفق عليه، البخارى رقم (2310)، ومسلم رقم (1425) من حديث: سهل بن سعد -رضى الله عنهما-. (2) صاحب الألفية، أنشده في كتابه "التسهيل - مع شرحه المساعد": (3/ 173) وكذا ابن هشام فى "المغني": رقم (848)، وهو في "الخزانة": (11/ 358). (3) هو: أبو بكر ابن دريد صاحب "الجمهرة" وغيرها، وهذا البيت ضمن "المقصورة": (ص/ 20 - مع شرحها للتبريزي).

(3/1240)


ومعلوم أن العثور مرةَ ثانيةَ إنما يكون بعد النجاة من الأولى، فوَألَت شرط في الشرط الثاني، وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطينِ، وأتيت بالجواب كان جوابًا للأول خاصة، والثاني جرى معه مجرى الفَضْلة والتَّتِمة كَالحال وغيرها من الفَضَلات قاله ابن مالك (1). وأحسنُ من هذا أن يقال: ليس الكلامُ شرطين يستدعيان جوابَيْنِ؛ بل هو شرطٌ واحد وتعليق واحد، اعْتُبر في شرطه قيدٌ خاصٌّ جعل شرطًا فيه، وصار الجواب للشرط المقيد، فهو جواب لهما معًا بهذا الاعتبارِ، وإيضاحه: أنك إذا قلت: "إن كَلَّمتِ زيْدًا إن رَأَيْتِهِ فأنتِ طَالِق" جعلت الطلاق جزاء على كلامٍ مقيد بالرُّؤية لا على كلام مطلق، فكأنه قال: "إن كلمتِهِ ناظِرَةً إليه فأنتِ طالِقٌ"، وهذا يبينُ لك حرف المسألة ويزيلُ عنك إشكالَها جملةً، وبالله التوفيق. فائدة (2) قولهم: الأعمُ لا يستلزمُ الأخصَّ عينًا، وإنما يستلزم مطلقَ الأخصِّ ضَرُورَةَ وقوعه في الوجود، ولابدَّ في هذا من تفصيل: وهو أن الحقيقةَ العامة تارةَ تقعُ في رْتب متساوية، فهذه تستلزمُ الأخص عينًا ولابدَّ، كما إذا قال: "افْعَلْ كَذا"، فإنه أعمُّ مِنْ مَرَّة ومرات، وهو يستلزمُ المرَّة الواحدة عينًا، و"أَنْفِق مالًا" يستلزم أقَل القليل عينًا، وتارة يقع في رتبَ غير متساوية كالحيوان والعدد، فإنهما لا يستلزمان أحدَ أنواعهما عينًا، والله أعلم. __________ (1) قاله في شرح الخلاصة، كما صرح بذلك القرافي، ونقله عنه في "الفروق": (1/ 83) وعنه ينقل المؤلف. (2) "الفروق": (2/ 13 - 15)، وأطال القرافي في تقرير ذلك وضرب الأمثلة، وانظر تعقب سراج الدين ابن الشاط عليه في ذلك في حاشيته "إدرار الشروق ... ".

(3/1241)


فائدة (1) حمل المطلق على المقيد في الكلِّي شيءٌ، وحمل المطلق على المقيد في الكلية شيء آخر. فالأول: كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقيدها بالإيمان في مكان آخر، فهذا إذا حُمل المطلقُ على المقيَّد فيه، لم يكن متضمِّنًا لمخالفة أحدهما، بل هو عمل بهما وتوفيَة بمقتضاهما، ولو (ق/ 301 أ)، عُمِل بالمطلق دود المقيد لخالف ولابد. وأما الثاني: فكما إذا كان الإطلاقُ في العام كقوله: "في كلِّ أرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ" (2)، فإذا قيل: "في الغَنَم السائمةِ في كل أربعينَ شاةً شاةٌ (3) فليس هذا من باب حَمل المطلق على المقيد، فإن اللفظ عام متناول لجميع أفراده، فحَمْله على التخصيص إخراج لبعض مدلوله، والفرق بين إخراج بعض مدلول اللفظ وبين تقييدٍ سُلِبَ عنه اللَّفظُ؛ الأوَّل: رافعٌ لموجب الخطاب. والثاني: رافع لموجب الاستصحاب، وإنما يرجعُ هذا إلى أصل آخرَ، وهو تخصيصُ العموم بالمفهوم، فتَأمَّلْه. فائدة (4) وعلى هذا فلا ينبغي أن يقال: يُحْمَل المطلق على المقيَّد مطلقًا، بل يفرق بين الأمر والنهي، فإن المطلقَ إذا كان في الأمر لم يكن __________ (1) "الفروق": (1/ 190 - 191). (2) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575)، والنسائي: (5/ 25) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وسنده حسن. (3) أخرجه البخاري رقم (1454). (4) "الفروق": (1/ 191 - 192).

(3/1242)


عامًّا، فحَمْله على المقيد لا يكون مخالفة لظاهره ولا تخصيصًا. وإذا كان الإطلاقُ في النهي، فإنه يعم ضرورة عموم النكرة في سياق النهي، فإذا حُمل عليه (1) مقيَّد آخرُ كان تخصيصًا. ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمْسِكَنَّ أحَدكم ذَكرَه بيَمِينِه" (2) فهذا عامّ في الإمساك وقتَ البول ووَقت الجِماع، وغيرهما، وقال: "لا يمْسِكَن أحدكم ذَكره بيَمِينِهِ وهو يَبوُل" (3) فهذا مقيد بحالة البول، فحَمْل الأول عليه تخصيص محض. فائدة (4) حملُ المطلق على المقيَّد مشروط بأن لا يقيدَ بقيدَيْنِ متنافيين، فإن قيِّدَ بقيدينِ متنافيينِ أمتنع الحمل وبقي على إطلاقه، وعلم أن القيدينِ تمثيل لا تقييدٌ، مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - في ولوغ الكلب: "فَلْيَغْسِلْهُ سَبعَ مَرَّات إحْدَاهن بالتراب" (5) مطلق، وفي لفظ: "أولاهنّ" (6) وهذا مقيد بالأول. َ وفي لفظ "أخْرَاهُن" (7) وهذا مقيد بالآخرة، فلا يحمل على __________ (1) (ع وظ): "على". (2) أخرجه البخاري رقم (154)، ومسلم رقم (267) من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه-. (3) لحديث السالف، وهذا لفظ مسلم. (4) "الفروق": (1/ 192). (5) أخرجه البخاري رقم (172)، ومسلم رقم (279) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (6) هذا اللفظ في مسلم. (7) أخرجه الترمذي رقم (91)، والبيهقي: (1/ 241).

(3/1243)


أحدهما، بل يبقى على إطلاقه (1). فائدة إنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يستلزمْ حملُه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجةِ، فإن استلزمَهُ حُمل على إطلاقه، وله مثالان: أحدهما: قوله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات: "مَنْ لم يَجِدْ نعْلَيْنِ، فَلْيلْبس خُفَّيْنِ" (2) ولم يشترط قطعًا، وقال بالمدينة على المِنبَر لمَنْ سأله ما يَلبسُ المحرم؛: "مَنْ لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيلْبس خفَّيْنِ (3)، ولْيقْطَعْهمَا أسفَلَ مِنْ كعْبَيهِ" (4). فهذا مقيَّد ولا يحمَلُ عليه ذلك المطلقُ؛ لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي، لم يشهدوا خُطبته بالمدينة، فلو كان القطع شرطًا لبيَّنَه لهم، لعدم علمهم به، ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدَّم من خطبته بالمدينة. ومن هنا قال أحمد ومَن تَابَعَهُ: إن القطع منسوخٌ بإطلاقِهِ بعرفات اللُّبْس، ولم يأمر بقطع في أعظم أوقات الحاجة. المثال الثاني: قول لمن سألته عن دم الحيض: "حُتِّيهِ ثم اغْسِلِيهِ" (5) __________ (1) انظر "فتح الباري": (1/ 331 - 333). (2) أخرجه البخاري رقم (1841)، ومسلم رقم (1178) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-. (3) من قوله: "ولم يشترط ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (1177) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. (5) أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (291) من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -، وروي من حديث جماعة من الصحابة.

(3/1244)


ولم يشترط عددًا مع أنه وقت حاجة، فلو كان العددُ شرطًا لبيَّنَه لها، ولم يُحِلْها على غَسْل ولوغ الكلب، فإنها ربَّما لم تسمعه، ولعله لم يكنْ شُرعَ الأمر بغسل ولوغه. فائدة (1) نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (ق/301 ب) عن بيع الطَّعام قبل قبْضِهِ (2)، ونهى عن بيع ما لم يُقْبَض في حديث حكيم بن حزامِ وزيد بن ثابَت (3). فقال أصحابُ مالك: النهيُ مخصوصٌ بالطَّعام دون غيره؛ فمنهم من قال: هو من باب حَمْل المطلَق على المقيَّد، وهو فاسد كما تقدم، فإنه عام وخاص، ولفظه: "إذا اشْتَرَيْتَ شيئًا، فلا تَبِعْه حتى تَقْبِضَهُ". ومنهم من قال: خاصٌّ وعامّ تعارضا، فقدَّم الخاصَّ وهو أفسدُ من الأول، إذ لا تعارض بين ذِكْر الشيءِ بحكيم، وذكرِ بعضه به بعينه. ومنهم (ظ / 211 أ) من قال: هو من باب تخصيص العموم بالمفهوم، وهذا المأْخَذ أقرب، لكنه ضعيف هنا؛ لأنَّ الطعام هنا وإن كان مشتقًا فاللَّقبيَّةُ أغلبُ عليه، حيث لم يَلحْ معنى يقتضي اختصاصَ النهي به دونَ الشراب واللباس والأمتعة، فالصواب التعميم (4). __________ (1) نظر "الفروق": (1/ 193). (2) أخرجه البخاري رقم (2132)، ومسلم رقم (1525) من حديث ابن عباسٍ، وأخرجاه -أيضًا- من حديث ابن عمر - رضي الله عنهم -. (3) حديث حكيم بن حزام أخرجه أبو داود رقم (3503)، والترمذي رقم (1232)، والنسائي: (7/ 289) وغيرهم. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود رقم (3499). (4) وهذا الأخير تعليل المصنف، ردَّ به على القرافى في جعل المسألة من باب تخصيص العموم بالمفهوم.

(3/1245)


فائدة (1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جعِلَتْ لى الأرْضُ مسجدًا وطهورًا" (2)، وفي لفظ: "وتُرابها طَهورٌ" (3) فقيل: يحْتص الطهور بالتُّراب حملًا للمطلق على المقيد، وهو ضعيف؛ لأنه من باب الخاص والعامِّ. وقل: هو من باب التَّخصيص بالمفهوم. وأعترض عليه بثلاثة أمور: أحدها: أن دلالةَ العُمومِ أقوى؛ لأنها لفظية متَفقٌ عليها. الثاني: أنه مفهومُ لقبِ وهو أضعف المفهومات. الثالث: أن التَّخصيص بالتربة خرجَ لكونها غالب أجزاءِ الأرض، والتخصيص إذا كان له سبب لم يعتبرْ مفهومه. وأجيب: بأن ذكر التربة الخاصَّة بعد ذكر لفظ الأرض عامًا في مقام بيان ما أختصَّ به وأمتنَ الله عليه وعلى الأمَّة به = دليلٌ ظاهر على اختصاص الحكم باللفظ الخاص، فإن عدولَه عن عطفه على اللفظ العام إلى اسم خاص بعدَه يتضمن زيادةَ اللَّفظِ والتفريق بين الحُكْمين، وأن الطهور متعلِّق بالتربة، وكونها مسجدًا متعلقٌ بمسمَّى الأرض، مُفْهم تقييدَ كلِّ حكم بما نُسِبَ إليه، وتخصيصه بما جعل خبرًا عنه، وهذا واضح. __________ (1) "الفروق": (1/ 194). (2) أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (521)، من حديث جابر ابن عبد الله - رضي الله عنهما -. (3) رواية مسلم رقم (522) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-

(3/1246)


فائدة (1) استشكل جمهور الفقهاء مذهبَ مالكٍ فيمن قال لنسائه: "إحداكن طالق"، فإن الجميعَ يحرمْنَ عليه بالطَّلاق. وقالوا: هذا إلزام بالطَّلاق لمن لم يُطَلِّقْها وهو باطلٌ. قالوا: ويلزمُ من هذا خلافُ الإجماع ولابدَّ؛ لأن الله تعالى أوجبَ إحدى خصال الكفَّارة، فإضافة الحكم لأحد الأمور إن اقتضى التعميمَ وجبَ أن يوجبوا جميعَ الخصال، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يقتض العمومَ وجبَ أن لا يقتضيَهُ في قوله: "إحداكنَّ طالِقٌ"؛ لأنه لو عمَّ لعم بغير مقتضٍ، وهو باطلٌ (ق/ 302 أ) بالإجماع. ولكن لقوله -رضي الله عنه- غَوْرٌ، وهو الفرق بين إيجاب القَدْر المشترك وتحريم القَدْر المشترك، فالإيجابُ في الكفارة إيجاب لقدْر مشترك (2)، وهو مسمَّى أحد الخصال، وذلك لا يقتضي العمومَ، كما إذا أوجب عتقَ رقية، وهي مشتركةٌ بين الرّقاب لم يَعمَّ سائرها. وأما تحريم القَدْرِ المشترك فيلزمُ منه العموم؛ لأن التحريم من باب النهي، وإذا نهى عن القَدْر المشترك كان نهيًا عن كلِّ فرد من أفراده بطريق العموم، وإذا ثبتَ هذا؛ فالطلاق تحريمٌ لأنه رافع لحل النِّكاح، فإذا وقع في القَدْر المشترك -وهو إحدى نسائِهِ- عمَّ جميعَهُنَّ، كما لو قال: واللهِ لا قَرِبْت إحداكُن شهرًا. وأما أصحاب أحمد فإنهم قالوا: إذا قال: "عَبْدي حرٌّ وامرأتي __________ (1) "الفروق": (1/ 157 - 158). (2) قوله: "وتحريم القدر ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1247)


طالقٌ"، عتقَ عليه جميعُ عبيده وطلقَ جميع نسائه، ولكن ليس بناء منهم علي هذا المأْخَذ؛ بل لأن عندهم المفرد المضاف يَعُمُّ كالجمع المُضاف. وأما أصحاب أبي حنيفة والشافعي فلم يقولوا بالعموم في واحدة من الصُّورتين. وقال أصحابُ مالك (1): إذا قال لعبيده: "أحدكم حرٌّ"، كان له أن يختارَ من شاء منهم فيعَيِّنهُ للعتق، ولا يعتق الجميع، قالوا: لأن العتق قربةٌ وطاعة لا تحريم، فهو إيجاب للقدْر المشترك، وإن لزم منه التحريمُ، ولهذا لو قال: "لله على أن أعتقَ أَحَدَكم"، لزمه عتق واحد دون الجميع. فيقال (2): لا فرق بين الطلاق والعتق في ذلك، وقول الجمهور أصحُّ، وقولكم: إن الطلاقَ تحريم ليس كذلك، بل هو كاسمه إطلاق وإرسال للمرأة، ويلزم منه التحريم، كما أن العتاق إرسال للأَمَة، ويلزم منه التحريم، فهما سواء. ويدل عليه أنه لو قال: "إن كلَّمْتُ زيدًا فلله عليَّ أن أطلّقَ واحدة منكنَّ أو إحداكنَّ"، لم يلزمْه طلاقُ جميعهن (ظ / 211 ب) عندَ من يعَيِّنُ عليه الوفاء عينا دون الكفَّارة، ومعلوم قطعًا أن القائل لنسائه: "إحداكُنَّ طالق"، غيرُ مُطَلِّق لبقِيَتهن لا بلفظه ولا بقصده، فكيف يطلقْنَ جميعًا، فلو طلقْنَ لطلُقْنَ يغير مقتضٍ لطلاقهنَّ. ويدكُ على أن الطلاقَ ليس بتحريم أن الله تعالى أباحَه، ولم __________ (1) انظر "الفروق": (1/ 158 - 159). (2) هذا الجواب للمؤلف.

(3/1248)


يُبحْ قطُّ تحريمَ الحلال، والتحريم ليس إلى العبد، إنما إليه الأسباب، والتحليل والتحريم يتبعُها فهو كالعِتْقِ سوَاء. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم فرض تحلَّةَ اليمين في تحريم الحلال، وقد طلقَ - صلى الله عليه وسلم - حفصة (1)، ولم يكنْ ذلك تحريمًا لها، ولو كان الطلاق تحريمًا لشُرعَتْ فيه الكفارة كما شرِعَتْ في تحريم الحلال، وكما شرِعَتْ في الظِّهَار الذي هو تحريمٌ. فإن قيل: فما تقولونَ إذا قال لنسائه: "إحداكُنَّ عَلَيَّ حرامٌ"، فإن هذا تحريم للمشترك فينبغي أن يعمَّ؟. قيل: هذا السؤال (ق/302 ب) غيرُ مسموع منكم، فإن التحريم عندَكم طلاق، فهو كقوله: إحداكنَّ طالق، وأما من يجعله تحريمًا تُزيله الكفارةُ كالظهار كقول أحمد ومن وافقه، فعندَهم لا يعمُّ، لأنه مطلق في إثبات، فهو كقوله: "حَرُمَتْ واحِدَة منكُنَّ"، بخلاف ما إذا ورد المطْلَقُ في نفيٍ، كقوله: "واللهِ لا قَربْتُ واحدة منكنَّ"، أو في نهي كقوله: "لا تَقْرَبْ واحِدَة منهنَّ" فإنه يعم. فائدة ارتفاع الواقع شرعًا مُحال، أي: ارتفاعُه في الزَّمن الماضي، وأما تقديرُ ارتفاعه مع وجوده ممكن، وله أمثلة: أحدها: أنّ من يقول: الفسخُ رفعٌ للعقد من أصله، فيستتبع الولدَ والثمرَةَ والكسبَ، نقول: يقَدَّر ارتفاعُه من أصله واقعًا لا أنا __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (2283)، والنسائي: (6/ 213)، وابن ماجه رقم (2016) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

(3/1249)


نقولُ برفعِه من أصله. الثاني: إذا قال لامرأته: "إن قدِمَ زيدٌ آخرَ الشهر فأنتْ طالقٌ أوَّلَهُ"، وقلنا: تطلق من أوَّل الشهر بقدومه آخرَه، فإنا نقدر ارتفاع تلك الإباحةِ قبلَ قدومِهِ، لا أنا نرفعها ونجعلُ الوطءَ حرامًا، بل نقدْر أن تلك الإباحةَ في حكم العَدَم تنزيلًا للموجود منزلةَ المعدوم. وثالثها: أنا ننزلُ المجهولَ كالمعدوم في بابْ اللُّقَطَة، فينتقل المُلكُ بعد الحول إلى الملتقِطِ مع بقاء المالك، تنزيلًا له منزلةَ المعدوم. ورابعها: أنَّا في المفقود نزَّلنا الزَّوْجَ الذي فُقِدَ منزلَةَ المعدومِ، فأبحنا لامرأته أن تعتَدَّ وتتزوَّجَ، كما قضى فيه الصحابةُ. وخامسها: أن مَنْ مات ولا يُعرَف له قرابة كان ماله لبيت المال، تنزيلًا للمجهول منزلةَ المعدوم، ولا نقولُ: نوقفه حتى يتبين له قرابةٌ، وكذلك لو علمنا له وارثًا وأحدًا وشككنا في غيرِهِ، دَفَعْنا إلى المعلوم ميراثهُ ولم نوقِفهُ إلا إن تُيُقِّن أنه كان له وارث وشككنا في عَدَمِهِ، فإنه ينبني على تقدير وجوده لأنه الأصل. وعكس هذا تنزيلُ المعدوم منزِلةَ الموجود تقديرًا لا تحقيقًا، وله أمثلة: أحدها: أن المقتولَ خطأ تورثُ عنه دِيَتُهُ المستحقة بعد موته، تنزيلًا لحياته المعدومة وقتَ ثُبوت الدِّيَة منزلةَ الحياة الموجودة ليثبت له المُلْكُ. ثانيها: لو أعْتَق عبده عن غيره، فإنا نقدرُ المُلْكَ المعدوم للمعتَق عنه منزلةَ الموجود الثابت له ليقعَ العتقُ عنه.

(3/1250)


ثالثها: الأجزاءُ التي لم تخلقْ بعدُ في بيع الثمار بعد بُدُو صلاحها، فإنها تنزلُ منزلةَ الموجود، حتى يكونَ موردًا للعقد. ورابعها: المنافع المعدومة في الإجارة، فإنها تنزلُ منزلةَ الموجود (1)، ونظائرُ القاعدتين كثيرة. فائدة (2) القياس وأصول الشرع (ق / 303 أ) يقتضي أنه لا يصِحُّ رفضُ شيء من الأعمال بعد الفَراغ منه، وأن نِية رفضِه وإبطاله لا تؤثِّرُ شيئًا، فإن الشارع لم يجعلْ ذلك إليه، ولو صحَّ ذلك لتمكَّن المكلَّفُ من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي، فيقصدُ إبطال ما مضى من حَجِّه وجهاده وهجرته وزكاته، وسائر أعماله الحسنة والقبيحة، فيقصدُ إبطالَ زناه وسرقته، وشربه وقتله، ورباه وأكله أموالَ اليتامى، وغير ذلك، فما بالُ الوضوء والصلاة، والصوم والحجّ دون سائر الأعمال؟. خرج فيها الخلاف، فالمشهورُ في مذهب مالك صحة الرَّفض في الصَّلاة والصوم، وفي الحجِّ والطهارة (ظ / 212 أ) خلافٌ، وفي الطهارة خاصة وجهان لأصحابنا. وليس في هذه المسائل نصٌّ ولا إجماع، ولا فرقٌ صحيح بينها وبين سائر الأعمال، بل المعلوم من قاعدة الشَّرْع: أن إبطالَ ما وقع من الأعمال إنما يكون بأسباب نَصَبها الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال، كالردَّة المبطلة للإيمان، والحَدَث المبطل للوضوء، والإسلام المبطل __________ (1) من قوله: "حتى يكون ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) "الفروق": (2/ 26 - 29).

(3/1251)


للكفر، والتَّوْبة المبطلة لآثار الذنوب، وقريب منه: المنُّ والأذى المُبْطِل للصدقة، وفي الرِّياء اللاحق بعد العمل خلاف، فهذه الأسباب جعلها الشارعُ مبطِلات لآثار الأعمال، وأما الرفض (1) فلا دليل في الشرع يدلُّ على أنه مبطِل، ولا يمكن طرده، وليس له أصل يُقاس عليه، بل قد يقترن بالعمل أمورٌ تمنعُ صحَّتَه وتَرَتُّبَ أَثرِهُ عليه، كالرياء والسُّمعة وغيرهما، وليس هذا إبطالًا لما صَحَّ، وإنما هو مانعٌ من الصِّحَّة. فائدة (2) الأسبابُ الفعلية أقوى من الأسباب القولية، ولهذا تصِحُّ الفعليّة من المحجور عليه دون القولية، فلو استَولَدَ ثبَتَ استيلادُه، ولو أَعْتق كان لَغْوًا، ولو تَمَلَّكَ مالًا بالشِّراء كان لغوا (3)، ولو تملَّكه باصطياد أو احتطاب ونحوِهِ مَلَكَهُ، وكذلك لو أحياه مَلَكه بالإحياء. ثم قيل: الفرق بينهما احتياجُه إلى الفعل دود القول، فإنا لو منعناه من وطء أَمَتِه أضرَرْنا بها (4)، ولا حاجةَ به إلى عِتْقها (5). وهذا عْير طائل، فإنه قد يحتاجُ إلى القول -أيضًا- كالشِّراء والنكاح والإقرار؛ ولكن الفرق: أن أقوالَه يمكن إلغاؤُها، فإنها مجرَّدْ كلام لا يترتَبُ عليه شيء، وأما الأفعال فإذا وقعتْ لا يمكن إلغاؤها، فلا يمكن أن يقال: إنه لم يسرق ولم يقتلْ ولم يستولدْ ولم يُتلِفْ، __________ (1) (ع): "الفرض". (2) "الفروق": (1/ 203: 205). (3) "ولو تملك مالًا بالشراء كان لغوًا" سقطت من (ع). (4) سياق الكلام في "الفروق" يدل على وقوع الضرر بالمحجور عليه، وليس بالأمة. (5) يعني: من جهة الطبع. وما سيأتي من الرد هو من كلام المصنف.

(3/1252)


وقد وُجدتْ منه هذه الأفعال، فجرى مجرى المكْرَه في إلغاء أقواله، ومجرىَ المأذون له في صحَّة أفعاله، والله أعلم. قاعدة الحائض إذا انقطع دمُها فهي كالجُنُب فيما يجبُ عليها ويحرُمُ، فيصِحُّ صومُها وغسْلها، وتجبُ عليها الصَّلاةُ، ولها أن تتوضأَ وتجلسَ في المسجد، ويجوزُ طَلاقها على أحد القولين، إلا في مسألة واحدة فإنها تخالفُ الجُنُبَ فيها وهي: جواز وطئها، فإنه يتوقَّفُ على الاغتسال، والفرق بينها وبين الجنب في ذلك: أن حَدَث الحَيْض أوجب تحريمَ الوطء، وحدثه لا يزول إلا بالغُسْل، بخلاف حدث الجَنَابة فإنه لا يوجِب تحريم الوطء، ولا يمكنُ ذلك فيه أَلْبتة. واستثنى بعض الفقهاء مسألة أخرى وهي: نقضُ الشعر للغسْل، فإنه يجبُ على الحائِض في أحد القولين دون الجُنب، ولا حاجةَ إلى هذا الاستثناء، فتأملْه. قاعدة في المسائل التي يتعلَّق بها الاحتياطُ الواجب وترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، ومدارها على ثلاثة قواعد: (قاعدة): في اختلاطِ المباح بالمحظور حسّا: (وقاعدة): في اشتباه أحدهما بالآخر والتباسه به على المكلَّف. (وقاعدة): في الشَّكِّ في العين الواحدة، هل هي قسمٌ من المباح أو من قِسْم المحظور؛ فهذه القواعد الثلاث هي معاقِدُ هذا الباب. فأما القاعدة الأولى: وهي اختلاط المباح بالمحظور حِسًّا؛ فهي قسمان:

(3/1253)


أحدُهما: أن يكون المحظور محرَّمًا لعينه، كالدَّم والبول والخمر والميتة. والثاني: أن يكون محرَّمًا لكسبه (1) لا أنه حرامٌ في عينه، كالدِّرْهَم: المغضوب مثلًا، فهذا: القسم الثاني لا يوجبُ اجتنابَ الحلال ولا يُحرِّمه ألبتَّةَ، بل إذا خالط مالَه درهَمٌ حرامَ أو أكثر منه أخرجَ مقدارَ الحرام وحلَّ له الباقي بلا كراهة، سواء كان المخرَجُ عينَ الحرام أو نظيرَة؛ لأن التحريمَ لم يتعلقْ بذات الدرهم وجوهره، وإنما تعلَّقَ بجهة الكسب فيه، فإذا خرج (2) نظيرُه (3) من كلِّ وجه لم يبقَ لتحريم ما عَدَاه معنى، هذا هو الصحيحُ في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخَلْق إلا به. وأما القسمُ الأول وهو: الحرام لعينهِ كالدَّمِ والخمر ونحوهما، فهذا إذا خالط حلالًا وظهر أثرهُ فيه حَرُمَ تناول الحَلال، ولا نقول: إنه صَيرَ الحَلالَ حرامًا، فإن الحلالَ لا ينقلبُ حرامًا ألبتة ما دام وصفه باقيًا، وإنما حَرم تناولُه لأنه تعذر الوصولُ إليه إلا بتناول الحرام فلم يَجز تناولُه، وهذه العلة بعينها منصوصةٌ للإمام أحمد، وقد سئل: بأي شيءِ يحرم الماءُ إذا ظهرتْ فيه النجاسة؛ فأجاب بهذا، وقال: حرَّم الله تعالى الميْتةَ والدَّمَ (ظ / 212 ب) ولحمَ الخِنزير، فإذا خالطتْ هذه الماءَ فمتناولُهُ كأنْ قَد تناوَل هذه الأشياء، هذا معنى كلامه، هذا (ق / 304 أ) إذا ظهر أثر المخالِط. فلو استُهلِكَ ولم يظهرْ أثرُه، فهنا معتركُ النِّزال وتلاطم أمواج __________ (1) (ق): "لسبيه". (2) (ق): "أُخْرج". (3) من قوله: "لأن التحريم: ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1254)


الأقوال، وهي مسألةُ الماء والمانع إذا خالطته النجاسةُ فاستُهلكت ولم يظهر لها فيه أثر ألبتة، والمذاهب فيها لا تزيدُ على اثني عشر مذهبًا (1) نذكرُها في غير هذا الموضع إن شاء الله. أصحُها: مذهبُ الطهارة مطلقًا، مائعًا كان ما خالطه أو جامدًا، ماء أو غيره، قليلًا كان أو كثيرًا، لبراهينَ كثيرةِ قطعيّة أو تكاد، تُذْكر هناك إن شاء الله (2). وعلى هذا فإذا وقعتْ قطرةٌ من لبن في ماء فاستُهْلِكَتْ وشَرِبه الرَّضِيعُ لم تنتشرِ الحرمة، ولو كانت قطرةَ خمر فاستُهلكت في الماء ألبتةَ لم يُحَدَّ بشربه، ولو كانت قطرةَ بول لم يُعَزِّر بشرُبِه، وهذا لأن الحقيقة لما اسْتهْلكت امتنع ثُبوت الاسم الخاص بها، فبقِيَ الاسمُ والحقيقةُ للغالب فيتعيَّنُ ثبوت أحكامِه؛ لأن الأحكام تتبعُ الحقائقَ والأسماء، وهذا أحدُ البراهين في المسألة. فصل (3) وأما القاعدة الثانية: وهي اشتباه المُباح بالمحظور. فهذا إن كان له بدل لا اشتباهَ فيه انتقَلَ إليه وترَكَه، وإن لم يكن له بَدَل ودعَتِ الضَّرُورة إليه، اجتهَد في المباح واتَّقى الله ما استطاع. فإذا اشتبه الماءُ الطاهر بالنجِس انتقلَ إلى بَدَلِهِ وهو التيمم، ولو اشتبها عليه في الشُّرب اجتهد في أحدهما وشَرِبَهُ. __________ (1) (ع): "درهما"!! (2) انظر: "إعلام الموقعين": (2/ 11 - 14)، و"تهذيب السنن - مع المختصر": (1/ 56 - 74)، وليس فيها الأقوال المشار إليها هنا. (3) (ق): "مسألة"، وانظر مما سيأتي: (4/ 1340 - 1341).

(3/1255)


وكذلك لو اشتبهت مَيتَة بمذكَّاةٍ انتقل إلى غيرهما، ولم يتحرَّ فيهما، فإن تَعَذَّرَ عليه الانتقال ودعتْهُ الحاجةُ اجتهدَ. ولو اشتبهت أخته بأجنبية انتقلَ إلى نساءٍ لم يشتبهْ فيهنَّ، فإن كان بلدًا كبيرًا تحرَّى ونكحَ. ولو اشتبه ثوبٌ طاهر بنجس انتقل إلى غيرهما، فإن لم يجدْ فقيل: يصلِّي في كل ثوب صلاةً ليؤديَ الفرض في ثوب مُتَيَقنِ الطَّهارة، وقيل: بل يجتهدُ في أحد الْثوبين ويصلِّي، وهو اختيار شيخنا أبي العباس (1) -قدَّس الله روحه-، قال: لأن اجتنابَ النجاسة من باب التروك، ولهذا لا تشترطُ له النيَّةُ (2). ولو صلَّى في ثوب لا يعلم نجاسَتهُ ثم عَلِمَها بعد الصَّلاة لم يُعِدْ الصلاة، فإن اجتهد فقد صلَّي ثوب يغلبُ على ظنه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير. قلت: وهذا كما لو اشترى ثوبًا لا يعلم حالَه، جاز له أن يصَلِّيَ فيه اعتمادًا على غَلَبَةِ ظَنِّه، وإن كان نَجِسًا في نفس الأمر، فكذلك إذا أدّاه اجتهادُه إلى طهارةْ أحد الثوبين، وغلبَ على ظنه، جاز أن يُصَليَ فيه، وإن كان نَجسًا في نفس الأمر، فالمؤثِّر في بطلان الصلاة العلمُ بنجاسة الثوب لا نجاسته المجهولة، بدليل ما لو جَهِلَها في الصلاة ثم علمها بعد الصَّلاة لم يعد الصلاة (3)، (ق / 304 ب) فهذا القول ظاهرٌ جدًّا، وهو قياسُ المذهب. __________ (1) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص/ 5). (2) انظر: "مجموع الفتاوى": (18/ 258). (3) "لم يعد الصلاة" ليست في (ظ وع).

(3/1256)


وقيل: يُرَاعَى في ذلك جانب المشَقَّةِ، فإذا كثرَتِ الثيابُ اجتهدَ في أحدِها، وإن قَلَّتْ صلى بعدد الثِّياب النَّجِسة وزاد صلاة، وهو اختيار ابن عَقِيل. * ومن هذا الباب: ما لو استيقظَ فرأى في ثوبه بَلَلًا واشتبه عليه: أمَنِيّ هو أم مَذْىٌ؟ ففي هذه المسألة قولان في كل مذهب من المذاهب الأربعة، إلا أن أصحابَ الإمام أحمد قالوا: إن سبق منه سببٌ يمكن إحالة كونه مَذْيًا عليه، مثل القُبْلَة والملاعبة والفِكْر مع الانتشار فهو مَذي، إذ الظاهر أن الذَّكَر بعد ذلك إنما انكسر به فهو المُتيَقَّنُ، وما زاد عليه فمشكوك فيه، فلا يجبُ عليه الغسْل بالشَك، وإن لم يتقدَّم منه شيء من ذلك فهو مَنِيٌّ في الحكم، إذ هو الغالب على النائم، ولم يتقدَّم سببٌ يعارضُهُ، والنوم في مظنَّة الاحتلام، وقد قام شاهدُ المظنَّةِ ظاهرًا فوجبَ القضاءُ (1) بموجب شهادته، وقوة هذا المسلك مما لا يخفى على مُنْصف. * ومن هذا الباب: إذا اشتبهتْ عليه جهةُ القِبْلَة؛ ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: يجتهد ويصلِّي صلاة واحدة، هذا أصحُّ الأقوال، وهو المشهور في المذاهب الأربعة (2). والثاني: أنه يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات ليؤدِّيَ مُتَيقنًا، كما قالوا في الثياب النجِسَة، وكما قالوا فيمن فاتته صلاةٌ من يوم لا يعلمُ عينها: صلَّى خمسَ صلوات. __________ (1) في (ظ): "القياس". (2) "في المذاهب الأربعة" في (ظ) بعد قوله: "أصح الأقوال".

(3/1257)


والقول الثالث: أنه قد سقطَ عنه فرض الاستقبال في هذه الحال، فيصلي حيث شاءَ، وهذا مذهبُ أبي محمد بن حزم (1)، واحتجَّ بأن الله تعالى إنما فرضَ الاستقبال على العالِم بجهةِ الكعبة القادر على التَّوجه إليها، فأما العاجز عنها فلم يفرضِ الله عليه التَّوجُّهَ إليها قط، فلا يجوزُ أن يلْزَمَ بما لم يُلْزِمْا الله ورسولُه به، وإذا لم يكنْ التَّوَجه واجبًا عليه لأن وجوبَه مشروط بالقُدْرة، صلَّى إلى أيِّ جهة شاءَ، (ظ / 213 أ) كالمسافر المتطَوِّع، والزَّمِن الذي لا يمكنه التَّوَجُّه إلى جهة القِبلة. قلت: وهذا القول أرجحُ وأصحّ من القول بوجوب أربع صلوات عليه، فإنه إيجابُ ما لم يوجبْهُ اللهُ ورسوله، ولا نظيرَ له في إيجابات (2) الشارع ألبتة، ولم يُعْرف في الشريعة موضعٌ واحد أوجب اللهُ على العبد فيه أن (ق / 305 أ) يوقعَ الصلاة ثم يُعيدها مرة أخرى، إلا لتفريط في فعلها أولًا كتارك الطُّمَأْنينة، والمصلِّي بلا وضوء، ونحوه، وأما أن يأمرَهُ بصلاة فيصليها بأمره، ثم يأمرُهُ بإعادتها بعينها؛ فهذا لم يقعْ قطُّ، وأصول الشريعة تردُّه، وقياسُ هذه المسألة على مسألة الثياب وناسي صلاة من يوم = قياس لمختلَفِ فيه على مثلِهِ، وهل الكلام إلا في تَينَكِ المسألتين أيضًا؟! فلو أن حكمهما ثَبَتَ بكتاب أو سنَّة أو إجماع لكان في القياس عليهما ما فيه، بل لم يكنْ صحيحًا؛ لأن جهة الفرق إما مساويةٌ لجهة الجمع أو أظهر، وعلى التَّقديرين فالقياس مُنْتَفٍ. يبقى النظرُ في ترجيح أحد قولي الاجتهاد والتخيير في مسألة __________ (1) "المحلى": (3/ 228). (2) (ع): "إيجاب".

(3/1258)


القلة على الآخر؛ فمن نصرَ التخيير احتجَّ بما في الترمذي و"سنن ابن ماجه" عن [عبد الله بن] عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة فلم نَدرِ أين القبلَة، فصلَّى كلّ رجل على حِيَالِه، فلما أصبحْنا ذكرنا ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فنزل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) [البقرة: 115] قال الترمذي: "هذا حديث حسن، إلا أنه من حديث أشعث السَّمَّان، وفيه ضعف". وروى الدَّارَقُطنيّ (2) من حديث عطاء، عن جابر، قال: كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مَسِير فأصابنا غيمٌ فتحيَّرنا فاختلفنا في القِبلة، فصلّى كل رجل منا على حِدَة، وجعل أحدنا يُخط بين يديه لنعلَمَ أمكِنتنا، فذكرنا ذلك للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمرْنا بالإعادة وقال: "قَدْ أجْزأتكمْ صَلاتُكمْ" (3)، قال الدَّارقطني: رواه محمد بن سالم، عن عطاء. قال: ويروى أيضًا عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن عطاء، وكلاهما ضعيف. وقال العقيلي: "لا يروى من هذا الحديث من وجه يثبت" (4). واحتجوا أيضًا بما تقدَّم حكايته: أن اللهَ لم يأمرْ بالاستقبال إلا __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (2957)، وابن ماجه رقم (1030)، والدارقطني: (1/ 272) وغيرهم من حديث ابن ربيعة. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان ... وأشعث يُضعف في الحديث" اهـ. ونقل المزي في "التحفة": (4/ 228)، والعظيم أبادي في "التعليق المغني" عن الترمذي أنه قال: "ليس إسناده بذاك ... " وهو مخالف لما نقله المؤلف هنا، ولما نقلناه عن "الجامع". (2) "السنن": (1/ 271). (3) وأخرجه الحاكم: (1/ 206). (4) "الضعفاء": (1/ 31).

(3/1259)


من كان عالِمًاْ به قادرًا عليه، وأما العاجزُ الجاهلُ فساقطٌ عنه فرِض الاستقبال فلا يكلَّفُ به. ومن نصر الاجتهادَ احتجَّ بأن اللهَ تعالى أوجبَ على العبد أن يتَّقيه ما استطاعَ، وهذا يقتضي وجوبَ الاجتهاد عليه في تقوى ربِّه تعالى، وتقْوَاه هي فعلُ ما أمر به وترك ما نهى عنه. قالوا: وأيضًا فإنه من المعلوم أنه إذا قام إلى الصَّلاة لم يَجُزْ له أن يستقبلَ أيَ جهةٍ شاء ابتداءً، بلْ ينظرُ إلى مطالع الكواكب ومساقِطِها وسُمُوت جهة القبلة، حتى إذا علم جهَتَها استقبلها، وهذا نوع اجتهاد، وأَدِلة الجهة متفاوتَةٌ في الخَفاء والظهور، فيجبُ على كلّ أحد فعلُ مقدوره من ذلك، فإن لم يُصبْها قطعًا أصابها ظنًا، وهو الذي يقدر عليه، فمتى تركَ مقدوره لم يكنْ قد اتَّقى الله بحسب استطاعَتِهِ. وقولكم: إن الله إنما أوجَب الاستقبالَ على القادر عليه، العالمِ به، قلنا: الله سبحانه (ق / 305 ب) أوجبَ على كل عبد ما تؤدِّيه إليه استطاعته من طاعته، فإذا عَجَز عن هذا اليقين (1) وأدلة الجهة سقط عنه، ولكن من أين يسقطُ عنه يَذل وُسعه ومقدورِه اللاَّئق به؟!. فصل (2) ومنْ هذا الباب: لو طلَّق إحدى امرأتيه بعينها، ثم اشتبهت عليه بالأخرى، فقيل: يَجب عليه اعتزالهما ويوقِف الأمرَ حتى يَتبَيَّنَ الحالَ: وعليه نفقتهما، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى __________ (1) (ع): "هذا عن اليقين". (2) (ق وظ): "فائدة".

(3/1260)


الروايتين، وهي اختيارُ صاحب "المغني" (1). وقيل: يُقْرِع بينهما، كما لو أَبْهَمَ الطلاق في واحدة لا بعينها، وهذا هو المشهورُ في المذهب، وهو اختيارُ عامَّة أصحاب أحمد، ونصَّ عليه الخِرقيُّ في "المختصر" (2) فقال: "ولو طلقَ واحدة من نسائه وأُنسِيَها أخرجَت بالقُرْعَةِ". قال المانعون من القُرعة: في هذه الصّورة اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلا تحِل له إحداهما بالقُرْعة، كما لو اشتبهت أختُه بأجنبية، لم يكن له أن يعقدَ على إحداهما بالقُرعة. قالوا: ولأن القرعةَ لا تُزيل التحريم من المطَلَّقة، ولا ترفعُ الطلاق عمن وقَع عليه، ولا تُزيل احتمالَ كون المطلَّقة غير مَنْ وقعت عليها (ظ / 213 ب) القرعة، بدليل أن التحريمَ لو ارتفع بالقُرعة لما عاد إذا ذَكَرها، فلما عاد التَّحريمُ بالذكر دل على أن القُرْعة لم ترفَعْ تحريم المطَلَّقة. قالوا: وأيضًا القُرعة لا يؤمنُ وقوعها على غير المطلقة، وعدولُها عن المطلقة، وذلك يتضمنُ مفسدتين (3): تحريم المحللة له بلا سَبَب، وتحليل المحرَّمة عليه، مع جواز كونها المطلقَة. قالوا: وأيضًا فلو حلف لا يأكل تَمْرَة بعينها، ثم وقعت في تَمْر، فإنها لا تخرجُ بالقرعة. ولو حَلَفَ لا يكلمُ إنسانًا بعينه، ثم اختلطَ في آخرين لم يَخْرج بالقرعة، إلى أمثال ذلك من الصُّور، فهكذا هذا. __________ (1) (10/ 522). (2) مع "المغني": (10/ 522). (3) (ع): "مقدمتين".

(3/1261)


قالوا: وأيضًا فلا نعلمُ سَلَفًا باستعمال القُرْعة في مثل هذه الصورة. قالوا: وأيضًا لو حَلَف لا يأكلُ تمرة فوقعت في تَمْر فأكل منه واحدة، فقد قال الخِرَقِيّ: لا تحِل له امرأته حتى يعلَم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، فحرَّمَها مع أن الأصلَ بقاءُ النكاح، ولم يعارضه يقينُ التحريم، فهاهنا أولى (1). قالوا: وأيضًا فقد قال الخِرَقِى فيمن طلَّقَ امرأتَهُ ولم يَدْر أواحدة طَلَّقَ أو ثلاثًا: اعتزلَها وعليه نفقتها ما دامتْ في العِدَّة، فإن راجَعها في العِدَّة لم يَطَأْها حتى يَتَيَقنَ (2) كم الطّلاق، فلم يُبِح له وِطْأَها لاحتمال كون الطلاق ثلاثًا، والأصلُ عدمُه، واحتمال كون غير من خرجت عليها القرعة هي المطلقةَ كاحتمال كون هذه مطلقة ثلاثًا، بل هو هناك أقوي، فإن في صورة الشَّكِّ فْي عدد الطلاق لم يتيقنْ تحريصًا (ق/306 أ) يرفع النكاحَ، والأصلُ بقاء الحِلِّ، وفي المنْسِيَّة قد (3) تَيَقنَّا ارتفاع النكاح جملة عن إحداهما وأنها أجنبيةٌ، وحصل الشَّكُّ في تعيينها. قالوا: ولا يصحُّ قياسُ هذه الصورة على ما إذا طلق واحدة مبهَمَةً، فقال: واحدة منكن طالِق، فإن (4) له أن يعَيِّنَها بالقرعة؛ لأن الطلاقَ هاهنا لم يثبتْ لواحدة بعينها، فإذا عَيَّنَتْها القرعة تعيَّنت لأن الشارع جعل القرعةَ صالحة للتعيين منشئة له، وفي مسألتنا المطلقة معيَّنة في نفسها لا محالة، والقرعة ترفعُ الطلاقَ عنها، ولا توقِعُهُ على غيرها كما تقدم. __________ (1) "المعنى". (10/ 523). (2) (ق): "يتبين". (3) من قوله: "أقوى فإن ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) (ظ): "جاز".

(3/1262)


وسرُّ المسألة: أن القرعةَ إنما تعملُ في إنشاء التَّعيين الذي لم يكنْ، لا في إظهار تعيين كائن (1) قد نُسي، فهذا ما احتج به من نصر هذا القول. وأما من نصرَ القولَ بالقُرعة، فقالوا: الشارع جعل القرعةَ معيِّنة في كلِّ موضع تتساوى فيه الحقوق ولا يمكنُ التَّعيينُ إلا بها، إذ لولاها لزمَ أحدُ باطلين: إما الترجيحُ بمجرد الاختيار والشَّهوة، وهو باطلٌ في تصرَّفات الشارع، وإما التَّعطيلُ ووقف الأعيان، وفي ذلك من تعطُلِ الحقوق وتضرُّرِ المكلفين ما لا تأتي به الشريعةُ الكاملة، بل ولا السيَاسةُ العادلة، فإن الضَّرَر الذي في تعطيل الحقوق أعظمُ من الضَّرَر المقدَّر في القُرعة بكثير، ومحال أن تجيءَ الشريعةُ بالتزام أعظم الضَّرَرَيْنِ لدفع أدناهما. وإذا عرِفَ هذا؛ فالحقُّ إذا كان لواحدٍ غير معين فإن القُرْعة تُعَيِّنُهُ، فيُسْعد اللهُ بها من يَشاء، ويكون تعيينُ القُرعة له هو غايةَ ما يقدرُ عليه المكلَّفُ، فالتعيينُ بها تعيينٌ لتعلُّق حكم الله لما عيَّنته، فهي دليل من أدلَّة الشرع واجبٌ العمل به، وإن كان في نفس الأمرِ بخلافه؛ كالبَيِّنة والإقرار والنكول فإنها أدلة منصوبة من الشَّارع لفَصْل النزاع، وإن كانت غيرَ مطابقة لمتعلِّقها في بعض الصور، فلهذا نصب الشارع القرْعة معيِّنةَ للمستحق قاطعةً للنزاع. وإن تعلَّقت بغير صاحب الحقِّ في نفس الأمر، فإن جماعة المستحقِّين إذا استووا في سبب الاستحقاق لم تكن القُرعةُ ناقلةً لحق أحدهم ولا مُبْطِلَةً له، بل لما لم يكنْ (2) تعميمُهم كلُّهم ولا حرمانُهم __________ (1) (ف وظ): "كامن". (2) كذا في (ع وق) ومعناه متَّجِه، و (ظ): "لما يمكن".

(3/1263)


كلُّهمِ، وليس أحدُهم: أولى بالتَّعيين من الآخرين، جُعِلَتِ القُرعَةُ فاصِلة بينهم مُعَيِّنَة لأحدهم، فكأن المقرع يقول: اللَّهُمَّ قد ضاق الحقُّ عن الجميع وهم عبيدُك، فخصَّ من تشاءُ منهم به، ثم تُلقى القرعةُ فيسعدُ اللهُ بها من يشاءُ ويحكمُ بها على من يشاءُ. فهذا سرُّ القرعة في الشرع، وبهذا عُلِمَ بطلان قول من شبهها بالقِمار، الذي هو ظلم وجَوْرٌ، فكيف يُلْحَق غايةُ الممكن من العدل (ق / 306 ب) والمصلحة بالظلم والجور، هذا من أفسد القياسْ وأظهره بطلانًا، وهو كقياس البيع على (ظ / 214 أ) الرِّبا، فإن الشريعةَ فرقت بين القُرعة والقمار، كما فرَّقَتْ بين الرِّبا والبيع، فأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الربا (1)، وأحل الشارع القرعةَ وحرم القمار. وقد قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44] وقال تعالى (2) إخبارًا عن ذي النون: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141] وقد احتجَّ الأئمة بشرع من قبلنا، جاء ذلك منصوصًا عنهم في مواضعَ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان إذا أراد سفرًا أقْرعَ بين نسائه، فأيتُهُنَّ خرجَ سهمُها خرجَ بها معه" (3). وثبت عنه في "الصحيح" (4) أيضًا: "أن رجلًا أعتقَ ستَّةَ مملوكين لا مالَ له سِوَاهم، فجزَّأهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أجزاء، وضرب عليهم __________ (1) من قوله: "فإن الشريعة ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من قوله: "وما كنت لديهم ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (4) أخرجه مسلم رقم (1668) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.

(3/1264)


بسهمي رِقٍّ وسهم حريَّةٍ، فأعتقَ اثنينِ وأرَقَّ أربعة"، وكلّ ما ذكروه في الطلاق فهو منتقَضٌ عليهم بهذه الصورة، بل القرعةُ في الطَّلاق أولى؛ لأن القُرْعَةَ هاهنا إنما هى لجمع الحرية في بعضهم، وقد كان في الممكن أن يعتقَ من كل واحد سُدسهُ، ويَسْتَسْعي في بقية نفسه -كما يقول أبو حنيفة- أو يترَكُ رقيقًا، ومع هذا فأقرعَ بينهم لجمع الحرية في اثنين منهم، وعين بها عبدين من الستة مع تشوُّفه إلى العتق، وحكمه له بالسّرَاية (1) في ملكه وملك شريكه، فما الظَّنّ بالطَّلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله ورسوله؟!. ولأنَّا لو لم نستعملِ القرعةَ في المنسيَّةِ لزِم أحد محذورين: إمّا إيقاع الطلاق على الأربع إذ أنسيت بينهنَّ وهذا باطلٌ، لأنه يتضمَّن (2) تحريمَ من لم يطلقها ولا حرمها الله عليه. وإمّا أن يعطَلَ انتفاعُه بهنَّ ويتركهُنَّ معلقاتٍ أبدًا إلى الممات، ومع هذا نوجب عليه نَفَقَتَهن وكسوتَهن وإسكانَهُنَّ، ونقول: لا يحلّ لك قربان واحدة منهنَّ، وعليك القيامُ بجميع حقوقهنَّ، فهذا لو جاءَ به الشارع لقوبل بالسمع والطاعة، ولكن حكمة شرعِهِ ورحمتِهِ تأباه، ولا شاهدَ من شرعه له يُرَدُّ إليه ويُعْتبر به. وأما القول بالقُرْعة؛ فقد ذكرنا من أصول شرعه ما يَدلّ عليه، وأنه أولى الأقوال في المسألة، وقد روى البخاري في "صحيحه" (3): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ على قوم اليمينَ فأسرعوا، فأمرَ أن يسْهَمَ بينهم __________ (1) (ع): "حكمه به فى السراية". (2) (ع): "لم يتضمن" وهو خطأ. (3) رقم (2674) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(3/1265)


في اليَمين أيُّهم يحلف". وفي "السنن" و"المسند" عن أبي هريرة: "أن رجلينِ تَدَارءا في دابة ليس لواحد منهما بيِّنَة، فأمرهما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَسْتَهِما على اليَمين أَحَبّا أو كَرِها" (1). وفي "المسند" و "السنن" أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كرِهَ الاثْنان اليَمِينَ أو استَحَباها فَليَسْتَهِمَا عَلَيْها" (2). وفي "السنن" عن أم سلمة: أن رَجُلَيْن اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد دَرست (ق/307 أ) ليس بينهما بَيِّنَةٌ، فقال: "إنكمْ تَختَصِمونَ إلَيَّ، وَإِنمَا أنا بشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، وَإِنّمَا أقضي بينكمْ عَلَى نحو مَا أسْمعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حق أَخِيهِ شيئًا فَلا يَأخذْهُ، فَإنما أَقْطَعُ لَه قِطْعَة مِنَ النَّارِ يَأتِي بِهَا أسْطَامًا فِي عُنقهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا إذا قُلْتما فَاذْهَبا فَاقْتسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الحَق، ثمَّ اسْتَهِما عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيتحَلَّلْ كلّ واحدٍ مِنكمَا صَاحِبه" (3). وأقرع سعد يوم القادسيَّة بين المؤذِّنِينَ (4). فهذه قرعة في الحَضَانَةِ، وفي تخفيف السَّفينة، وفي السَّفَر بالزوجة، __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (3616)، وابن ماجه رقم (2329)، وأحمد: 16/ 228 رقم 10347)، وسنده صحيح. (2) أخرجه أحمد: (13/ 525 رقم 8209)، وأبو داود رقم (3617) من طريق أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- واللفظ لأبي داود، وسنده صحيح. (3) أخرجه البخاري رقم (2458)، ومسلم رقم (1713). (4) أخرجه البيهقي: (1/ 438)، وسعيد بن منصور -كما في "التغليق": (2/ 265)، وعلقه البخاري بصيغة التمريض، وهو منقطع. انظر: "الفتح": (2/ 114).

(3/1266)


والبَدَاءة بها في القَسم، وفي الحَلْف على الحَق، وفي تعيين الحق المُتنازع فيه، وفي الأذانِ، وفي العِتْق وجمع الحرية، وتكميلها في رقيةٍ كامَلة. وصحَّ عن علي أنه سُئِلَ عن رجل له أربع نسوة طَلقَ إحداهنَّ ونكح ثم مات، لا يدري الشهود أيَّتَهُنَّ طَلَّقَ، فقال: أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة، وأقسم بينهنَّ الميراث (1). فهذه قرعةٌ، إما في الطلاق وإما في الاستحقاق للمال، وأيًّا ما كان فالموانع التي ذكرتموها في الطلاق بعينها قائمةٌ في استحقاق المال سواء بسواء، فأيُّ فرقٍ بين تحريم مال أحلَّه الله تعالى وبين تحريم فرج أحلَّه اللهُ، فإن كانت القرعةُ تتضمَّن أحدَ الفسادين فهي متضمنَةٌ للآخر قطعًا، وإن لم تتضمنِ الآخرَ لم تتضمَّنْ ذلك. وقولُكُم: المالُ أسهل، لا ينفعكم في دفع هذا الإلزام، والله أعلم. قالوا: ونحن نجيبُ عن كلماتكم؛ أما قولكم: اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فَلَمْ يحل المشتبِهَة بالقرعة، كما لو اشتبهت قبلَ (ظ/ 214 ب) العقد أختُه بأجنبية. فجوابه: أن الأصل قبل العقدِ التَّحريم، وقد شككنا في دفعه والأصل بقاؤه، فمعنا ثَمَّ أصل مستصْحَبٌّ لا يجوزُ تركُه إلا بسبب يزيلُه، ولا كذلك في مسألتنا إذ قد ثبتَ الحِل قطعًا، فنحن إذا أخرجنا المطلقة بالقرعة، بقيت الأخرى على الحِلِّ المستصحبِ قبل الطلاق، وقد شككنا في إصابة الطلاق لها، فنتمسكُ بالأصل حتى __________ (1) ذكره ابن قدامة في "المغني": (10/ 523) عن علي، وأخرج البيهقي: (7/ 364) نحوه عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -.

(3/1267)


يثبت ما يُزيلُهُ، وهذا واضح. وقد اتفق على هذا الأصل -أعني استصحاب ما ثَبتَ- حتي يْثبتَ رفْعُهُ. وأما قولكُم: القرعة لا تُزيل التَّحريم من المطلَّقَةِ؛ ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه، ولا تزيل احتمال كون المطلَّقة غير من وقعتْ عليها القرعة. فجوابه: أنه منقوضٌ بالعِتْق، وما كان جوابكم عن العِتق فهو جوابُنا بعينه، ومنقوضٌ بالقُرْعة في المُلك المُطلق، فحق المالك في ملك المال كحقِّه في مُلك البُضْع، والعِتق بالقُرعة يتضمَّن إرقاقَ رقبة من ثَبتَ له الحُرِّيَّةُ، وسقوط الحجِّ والجهاد عنه، وثبوت أحكام العبيد له على تقدير (ق / 307 ب) كونه هو المعتَقَ في نفس الأمر، وإن كانت أَمَة تضمَّن إباحةَ فرجها لغير مالكها، ومع هذا فالقرعةُ معيِّنة للمعتق، فتعيِينها للمُطَلَّقةِ كذلَك أو أولى. وجواب آخرُ: وهو أن القُرْعة لم تزلْ تحريمًا ثابتًا في المُطَلَّقة، وإنما عيَّنتْ حكمًا لم يكن لنا سبيل إلى تعيينه إلا بالقُرْعة، واحتمالُ أن كون غيرِ التي خَرَجَتْ لها القُرْعَةُ هي المطَلَّقَةَ في نفسِ الأمر، مما لم يُكَلفْنا به الشارع لتعذر الوصول إلى علمه فنزِّل منزلةَ المعدوم. وهذا كما أن احتمالَ كون غيرِ الأمَةِ التي خرجت لها القُرْعَةُ هي الحُرَّةَ في نفس الأمر ساقط عنا لِتَعَذر علمنا به فنزَلَ منزلةَ المعدوم (1). وكذلك كوِن مالك المال الضائع موجودًا: في نفس الأمر لا يمنعُ __________ (1) هذه الفقرة سقطت من (ق).

(3/1268)


من نقله عنه إلى الملتقِط بعد حَوْلِ التعريف لتعذُّر معرفته، فنُزَلَ منزَلةَ المعدوم. وكذلك حَكَمَ الصحابةُ -عمرُ وغيرُهُ- في المفقود: تَتَزوج امرأته، وإن كان باقيًا حيًا على وجه الأرض، وقد أُبيحَ فرجُ زوجته لغيره من غير طَلاق منه ولا وفاة لِتَعَذُرِ معرفته، فنزلَ منزلةَ المعدوم. قولكم: لو ارتَفَعَ التحريمُ بالقُرعة لما عاد إذا ذَكَرَها. قلنا: ارتفاعُ التحريمِ مشروط باستمرارِ النسيان، فإذا زال النِّسيان زال شرط الارتفاع، فالقرعةُ إنما صرنا إليها للضرورة، ولا ضرُورة مع التَّذكُر. قولكم: القرعَة لا يؤمَن وقوعها على غير المطَلَّقة، وعدولها عن المطلقة، وذلك يتضمَّن مفسدتين ... إلى آخره. قلنا: منقوض بالعتق وبالملك المطْلَق، وأيضًا: لما كان ذلك مجهولًا معجوزًا عن علمه نزل منزلةَ المعدوم، ولم يضر كونُ المستحقِّ في نفس الأمر غيرَ المستحِق بالقُرْعة كما قدمنا من النظائر، فلسنا مؤاخَذِين بما في نفس الأمر ما لم نَعْلَمْ به. وهذه قاعدة -أيضًا- من قواعد الشَّرع وهي: أن المؤاخذةَ وتَرَتُّب الأحكام على المكلف إنما هي على علمه لا على ما في نفس الأمر إذا لم يعلمْه، وعليها جل الشريعة في الطَّهارات والنَّجاسات والمعاملات والمناكحات والأحكام والشَّهادات، فإن الشاهد إذا عرف أن لِزيدٍ قِبَل عمْرو حقًا، وجبَ عليه أن يشهدَ به، وإن كان قد بريءَ إليه منه، ويحكُم به الحاكم، فالشريعة غير مُنكرٍ فيها ذلك، وهل تتمُّ مصالح العباد إلا بذلك؟!.

(3/1269)


قولكم: لو حَلَفَ لاْ يأكل تمرة ولا يكلم إنسانًا، ثم اختلط المحلوفُ عليه بغيره لم يخرجْ بالقُرعة. فيقال: هذه المسألة ليست منصوصًا عليها، ولا يُعْلَم فيها إجماع البتة فإن كانت مثلَ مسألتنا سواءٌ، فالصوابُ التسَّوِيَة بينهما، وإن كان بينهما فرقٌ بطَلَ الإلحاقُ فبطَلَ الإلزام بها على التقديرين، نعم غايةُ ما يفيدُكم إلزام المفرِّق بينهما بالتناقض (1)، وأنه يجبُ عليه التسويَةُ بينهما في الحُكْم، وهذا ليس بدليل مثبت (2) لكم حَكمَ المسألة، إذ مُنازعُكم يقول: تنَاقضِي في الفرق بينَ المسألتين ليس بدليل على صحَّة ما ذهبتم (ق / 308 أ) إليه، فإن كان التفريق باطلًا جاز أن يكون الباطل في عدم القول بالقُرعة في مسألة الإلزام، ولا يتعين أن يكون الباطلُ القولَ بها في المسألة المتنازع فيها فهذا جواب إجماليٌّ كاف، فكيف والفرق بينهما في غاية الظُّهور؟! فإنه إذا حلفَ لا يأكلُ تمرةً بعينها، ثم وقعت في تمر (ظ/215 أ) فأكل منه واحدة، فإنه لا يحنث حتى يأكلَ الجميع، أو ما يُعْلَم بهْ أنه أكلها، وما لم يتيقن أكلُها لم يتيقن حِنْثهُ، فلا حاجة إلى القُرْعة، وكذلك مسألةُ كلامِ رجل بعينه. فإن قيل: فهل يأمنونَه بالإقدام على الأكل مع الاختلاط؟. قيل: الورع أن لا يقدمَ على الأكل، فإن أكل لم يحنَثْ حتى يتيقن أَكْلُهُ لها. __________ (1) (ظ): "إلزام المفرق بينهما وإن كان بينهما فرق بطل التقديران بالتناقض" وهو تكرار عن السطر قبله!. (2) (ظ): "يثبت".

(3/1270)


قولكم: لا سَلَفَ بالقُرْعَة في هذه الصُّورة. فيقال: سبحان الله تعالى! وأيُّ سلف معكم؟ يوقفُ الرجلُ عن جميع زوجاته وجعلهن معلَّقات لا مزَوَّجات ولا مُطَلَّقات إلى الموت، مع وجوب نفقتهن وكسوتهن وسُكناهن عليه؟. وينبغي أن يُعْلمَ: أد القول الذي لا سَلَفَ به الذي يجِبُ إنكاره: أن تكون المسألة قد وقعت في زمن السلف، فأفتَوْا فيها بقول أو أكثرَ من قول، فجاء بعضُ الخلف فأفتى فيها بقول لم يقلْه فيها أحدٌ منهم، فهذا هو المنكر. فأما إذا لم تكنِ الحادثةُ قد وقعتْ بينهم وإنما وقعتْ بعدَهم، فإذا أفتى المتأخرون فيها بقول لا يُحْفَظُ عن السَّلف لم يُقلْ: إنه لا سَلَفَ لكم في المسألة، اللهم إلا أن يفتوا في نظيرها سواء بخلافِ ما أفتى به المتأخِّرونَ، فيقال حينئذٍ: إنه لا سَلَفَ لكم بهذه الفتوى، وليس هذا موضعَ بسط الكلام في هذا الموضع، فإنه يستدعي تحريرًا أكثرَ من هذا. وأما قولكم: لو حَلَفَ لا يأكل تمرةً وقعتْ في تمر، فأكَلَ منه واحدةً، فإن الخِرَقِيَّ يحرم عليه امرأتَه حتى يعلمَ أنها ليست التي حلف عليها (1)، مع أن الأصلَ بقاءُ النكاح فهاهنا أولى. قلنا: الخِرَقي لم يصرح بالتَّحريم، بل أفتى بأنه لا يقربُ زوجَتَهَ حتى يَتبَيَّنَ الحال، وهذا لا ينتهضُ للتحريمِ، ولفظ الخِرقي في "مختصره" (2) __________ (1) (ظ): "التي وقعت عليها اليمين". (2) مع "المغني": (10/ 523).

(3/1271)


هكذا: "وإذا حَلَفَ بالطَّلاق أن لا يأكلَ تمرةً، فوقعت في تمر، فإن أكلَ منه واحدةً مُنِعَ من وطء زوجته، حتى يعلمَ أنها ليستِ التي وقعتْ عليها اليمينُ، ولا يتحَقَّقُ حِنْثَهُ حتى يأكُلَ التمرَ كُلَّه" هذا لفظه. وآخر كلامه يدلُّ على أن منعه من وَطْئِها إنما هو على سبيل الوَرعَ، فإنه لا يحَرِّمُها عليه بحنث مشكوكٍ فيه، وهذا ظاهرٌ. وأما مسألة من طلَّقَ ولم يدرِ أواحدة طَلَّقَ أم ثلاثًا فالاحتجاجُ بها في غاية الضعف. وكذلك الإلزامُ بها، فإنَّ الخِرَقِيَّ بناها على كونِ الرَّجعيَّةِ مُحَرَّمَة، ولهذا صرَّح في "المختصر" (1) بذلك في تعليل المسألة فقال: "وإذا طلَّقَ فلم يدرِ أواحدة طلق أم ثلاثا أعتزلَها، وعليه نفقتُها ما دامتْ في العِدَّةِ، فإن راجَعَها في العِدَّةِ لم يطأْها حتى يَتَيَقَّن كم الطلاقُ؛ لأنه متيقِّنٌ للتحريم شاكٌّ في التَّحليل". فالخِرَقيُّ يقول: هو قد تيَقَّنَ وقوعَ التحريم (2) وشكَّ، هل الرجعةُ رافعةٌ له أمْ لا؟ وعيره ينازعُه في إحدى المقدمتين، ويستفصلُ في الأخرى فيقول: لا نسلِّمُ أن الرجعية محرَّمَةٌ فلم يتيقن تحريمًا ألبتة، وعلى تقدير أن تكون محرَّمَة، فالتحريم المُتَيَقَّنُ أيّ تحريم يعنون به؛ تحريمًا تُزيله الرجعة أو تحريمًا لا تُزْيله؟ الأول: مُسَلَّم ولا يفيدُكم شيئًا، والثاني: ممنوعٌ، وعلى التقديرين فلا حُجَّة لكم في هذه المسألة ولا إلزامَ، فإنها ليست منصوصةً ولا متفقًا عليها، ولا تَلْزمُه أيضًا، فإنه بناها علي أصله من كون الرجعية محرَّمَةً، فقد تَيَقَّنَ تحريمَها، وشكَّ في رفع هذا التحريم بالرَّجعة، ولا كذلك فيمن __________ (1) المصدر نفسه: (10/ 514). (2) (ظ): "الطلاق".

(3/1272)


خرجت القرعةُ على سواها، فإنه لم يُتَيَقَّنْ تحريمُها، وإزالة التحريم بالقُرعة، فافترقا. وأما قولكم: لا يصحُّ قياسُها على ما إذا طلَّقَ واحدةً مبهمةً حيث يُعَيِّنها بالقُرعة؛ لأن الطلاق لم يثبت لواحدةٍ بعينها، فيعينها بالقُرعة بخلاف المنسيَّة. قلنا: لا ريْبَ أن بين المسألتين فرقًا، ولكن الشأن في تأثيره ومنعه من إلحاق إحداهما بالأخرى، فإن صحَّ تأثيرُ الفرق بَطَلَ هذا الدليل المعين، ولا يلزمُ من بطلانِ دليل معيَّن بطلانُ الحكم، إلا أن لا يكونَ له دليلٌ سواه، ونحن لم نحتجَّ بهذا الدليل أصلًا حتى يلزمُ بطلانُ ما ذكرناه، وإن بَطَلَ تأثير الفَرْق وجب إلحاقُ إحدى الصورتين بالأخرى. ونحن نبيَن -بحمد الله- أن هذا الفرقَ مُلْغًى، فنقول: إذا قال لنسائه: "إحداكُنَّ طالق"، فإما أن يُنفذَ الطلاق على واحدة منهن عقِبَ إيقاعه، أو لا يَقَعُ إلا بتعيينه، والثاني: باطل؛ لأن التعيينَ ليس بسبب صالحٍ للتطليق، فلا يصحُّ إضافةُ الطلاق إليه، فتعيَّنَ أن الطلاقَ استندَ إلى إيقاعه أولًا، فقد وقع بواحدة منهن ولابُدَّ، والأقوال هنا ثلاثة: أحدها: أنه يملكُ تعيينَ المُطَلَّقة فيمنْ شاء، وهذا قولُ الشافعي وأبي حنيفة. والثاني: أنه تطلق عليه الجميعُ، وهذا قول مالك ومَنْ وافقه. والثالث، أنه يخْرِجُ المُطَلَّقَةَ بالقُرْعة، وهذا مذهبُ أحمد، وهو قول عليٍّ وابن عباس ولا يعرفُ لهما مخالفٌ في الصحابة، وبه قال

(3/1273)


الحسن البصري وأبو ثَوْر وغيرُهما، وهو الصحيحُ من الأقوال، فإن طلاقَ الأربع -مع كون اللَّفظ غيرَ صالح له والإرادةُ غيرَ متناوِلة له- مخالِفٌ للأصول، وإيقاعٌ للطلاق من غير سَبَبِهِ، وقد تقدّم الكلامُ على مأخذ هذا القول وما فيه فلا نعيدُه، وعلى هَذا القول فلا قرعةَ ولا تعيينَ، وإنما الكلامُ على قولي القرعة والتَّعيين، فنقول: القولُ بالقرعة أصحُّ، وإذا كان القولُ بها أصَحَّ في هذه المسألة، فالقولُ بها في مسألة المنسيَّة أولى، فهذانِ مقامانِ بهما يتمُّ الكلام في المسألة، فأما المقامُ الأول: فيدلُّ عليه أن القرعة قد ثبَتَ لها اعتبارٌ في الشرع -كما قدَّمناه- وهي أقربُ إلى العدل، وأطيبُ للقلوب، وأبعدُ عن تهمة الغَرَض والميلِ بالهوى، إذ لولاها لزمَ أحد الأمرين؛ إما الترجيحُ بالمَيْل والغَرَض، وإما التَّوَقُّفُ وتعطيلُ الانتفاع، وفي كلٍّ منهما من الضَّرَر ما لا خفاءَ به، فكانت القُرْعَةُ من محاسن هذه الشَّريعة وكمالها وعموم مصالحها. وأما تعيينُ المُطَلَّقةِ بعد إبهامها، وانتظارُ ما يعيُّنه النَّصيب والقسمة التي لا تتطرَّقُ إليها تهمةٌ ولا ظِنَّةٌ، فليس ذلك إلى المكلَّف، بل إليه إنشاءُ الطلاق ابتداءً في واحدة منهنَّ، وأما يكونَ إليه تعيينُ من جعل طريقَ تعيينه خارجًا عن مقدوره، وموكولًا إلى ما يأتي به القَدَر ويُخْرِجُهُ النَّصِيبُ المقسوم المغيَّبُ عن العباد = فكَلاَّ. وسرُّ المسألة: أن العبدَ له التَّعييِنُ ابتداءً، وأما تعيينُ ما أبهمه أولًا فلم يُجْعَلْ إليه ولا مَلَّكهُ الشارعُ إياه. والفرقُ بينهما: أن التعيينَ (1) الابتدائيَّ تعلَّقُ به إرادتُه وباشرَه __________ (1) من قوله: "ابتداء، وأما ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1274)


بسبب الحُكْم، فتعيَّنَ بتعيينه وبمباشرته بالسبب، وأما التَّعيينُ بعد الإبهام فلم يُجْعَلْ إليه؛ لأنه لم يُبَاشِرْه بالسبب، والسبب كان قاصرًا عن تناوله معينًا، وإنما تناوله مُبْهمًا، والمكلَّفُ كان مخيَّرًا بين أن يوْقِعَ الحُكْمَ معيَّنًا فيتعين بتعيينه، أو يوقِعَهُ مبهمًا فيصيرَ تعيينُهُ إلى الشارع. (1). وسر ذلك: أن الحكم قد تعلَّق في المبهم بالمشترك، فلابُدَّ من حاكم مُنَزَّهٍ عن التُّهمة، يُعَيِّنُ ذلك المشتركَ في فردٍ من أفراده. والمكلَّفُ ليس بمُنَزَّهِ عن التُّهمة، فكانت القُرعة هي المعَيِّنَةَ، وأما إذا عيَّنه ابتداءً فلم يتعلَّقَ الحكمُ بمشترك، بل تعلَّق بما اقتضاه تعيينُه وغرضُه، فأنفذه الشارعُ عليه. فهذا مما يدلُّك على دِقَّة فقه الصحابة - رضي اللهُ عنهم- وبُعد غَوْر مداركهم، ولهذا أفتى عليٌّ وابنُ عباس بالقرْعة ولم يجعلا التَّعْيينَ إليه، ولا يُحفظُ عن صحابيٍّ خلافَهما. وإذا ثَبَتَ أن القُرْعَة في هذه الصُّورة راجحةٌ على تعيين المكلَّف، تبين بذلك تقريرُ المقام الثاني، وهو أن القولَ بها في مسألة المنسيَّة أولى؛ لأنها إذا عَمِلَتْ (2) في محلٍّ قد تعلق الحكمُ فيه بالمشترك، وهو إحدى الزوجات؛ إذ كلُّ واحدة منهنَّ يصدُق عليها أنها أحدها، وهذا هو مأخذُ من عمَّم الوقوع = فَلأَنْ تعملَ في محلٍّ تعلَّقَ الحكمُ فيه ببعض أفراده أولى، فإن الحُكْمَ في الأول كان صالحًا لجميع الأفراد لتَعَلُّقه بالقَدْر المشترك، ومع هذا فالقُرْعَةُ قطعتْ هذه الصلاحيَّهَ وخصَّتْها بفردٍ بعينه، والحكمُ في الثانية __________ (1) من قوله: "والمكلف كان ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ع وظ): "علمت".

(3/1275)


إنما تعلَّقَ بفردٍ بعينه، لكنه جهِلَ فاستفيدَ علمُهُ من القُرعة، ولما جُهِلَ صار كالمعدوم؛ إذ المجهولُ المطلَقُ في الشريعة كالمعدوم، وليس لنا طريِقٌ إلى اعتباره موجودًا إلا بالقُرْعة. فإذا قطعتِ القُرْعَةُ الحقَّ المشتركَ من غير المُعَيِّن، فَلأَنَ تُعَيِّنَ مجهولًا لا سبيلَ إلى تعيينه إلا بها أولى وأحرى. وإن شئتَ قلتَ: إخراجُ المجهول أيسر من تعيين المُبْهَمِ، وأوسعُ طريقًا، وأقلُّ مانعًا؛ لأن المبهم لم تثبتْ له حقيقةٌ معيَّنَةٌ بعد، ولا سيَّما: إذا كان مشتركًا بين أفراد تقتضيه اقتضاء واحدًا، فليس ثبوت التعيين لفرد أولى من ثبوته لغيره، والمجهولُ قد ثبتَتْ له حقيقةٌ أولًا ثم جُهِلَتْ، فيكفي في الدلالة عليها أيُّ دليل وُجِدَ، وأيُّ علامةٍ أمكنت، فإنها علامةٌ ودليلٌ على وجودها لا عِلَّةٌ لآنيتَها، وتعَيّن (1) المبهَم ليس دليلًا محضًا بل هو كالعِلَّةِ لآنيته وثُبوته، فإذا صلحت القرعةُ لتعيين المُبهم؛ فَلأَنْ تَصْلُحَ للدَّلالةِ على المجهول بطريق الأولى. ونحن لا ندَّعي -ولا عاقلٌ- أن القُرعة تجعلُ المخرج بها هو متعلَّق الحكم في نفس الأمر، يل نقولُ: إن القرعة تجعل المخرجَ بها متعلَّقَ الحكم ظاهرًا وشرعًا، وهو غايةُ ما يقدرُ عليه المكلَّف، ولم يكلِّف اللهُ علمَ الغيب ولا موافقةَ ما أن نفس الأمر، بل القرعةُ عندنا لا تزيد على البَيِّنةَ والنُّكول والأمارات الظاهرة التي هي طرقٌ لفصل النزاع. فصل (2) وأما القاعدة الثالثة: وهي قاعدةُ الشَّكِّ: فينبغي أن يُعْلَمَ أنه ليس __________ (1) كذا في (ق)، وبقية النسخ محتملة الرسم. (2) (ق): "فائدة".

(3/1276)


في الشَّريعة شيءٌ مشكوكٌ فيه ألبتةَ، وإنما يعرض الشَّكُّ للمكلَّف لتعارُض أمَارتين فصاعدًا عنده، فتصيرُ المسألة مشكوكًا فيها بالنسبة إليه، ففي شَكِّيةٌ عنده، وربما تكون ظَنِّيَّةً لغيره أو له في وقت آخر، وتكون قطعيةً عند آخرين، فكون المسألةِ شكيَّة أو ظنيَّة أو قطعية ليس وصفًا ثابتًا لها، بل هو أمرٌ يعرِض لها عند إضافتها إلى حكم المكلَّف، وإذا عُرِف هذا فالشَّكُّ الواقعُ في المسائل نوعانِ: أحدهما: شكٌّ سببه تعارُض الأدلة والأمارات، كقولهم في سؤُر البغل والحمار مشكوكٌ فيه فيُتوضأ به ويُتَيَمَّمُ، فهذا الشَّكُّ لتعارض دليلي الطهارة والنجاسة (1)، وإن كان دليلُ النجاسة لا يقاوِمُ دليل الطهارة، فإنه لم يقم على تنجيس سؤرهما دليلٌ، وغاية ما احتجَّ به لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحُمُر الأهلية: "إنها رِجْسٌ" (2)، والرِّجْسُ هو: النَّجَسُ، وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه إنما نهاهم عن لحومها، وقال: "إنها رجسٌ" ولا ريب أن لحومَها (3) ميتة لا تعمل الذَّكاةُ فيها، ففي رِجْسٌ، ولكن من أين يلزم أن تكونَ نَجِسَةً في حياتها حتى يكون سُؤْرُها نَجِسًا؟ وليس هذا موضعَ المسألة. ومن هذا: قولهم للدم الذي تراه المرأة بين الخمسينَ سنة إلى الستِّين: إنه مشكوكٌ فيه، فتصومُ وتصلِّي وتقضي فرضَ الصوم لتعارض دليلي الصِّحَّة والفساد، وإن كان الصحيحُ أنه حيْضٌ، ولا معارضَ (4) __________ (1) (ظ): "الظاهر عن الصحابة"!. (2) أخرجه البخاري رقم (2991) و (4198) وغيرها، ومسلم رقم (1940) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (3) (ظ): "شحومها". (4) (ق وظ): "تعارض".

(3/1277)


لدليل كونه حيضًا أصلًا لا من كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع ولا معقول، فليس هذا مشكوكًا فيه، والمقصودُ التمثيل. القسم الثاني: الشكُّ العارض للمكلَّف بسبب اشتباه أسباب الحكم عليه وخفائِها لنسيانه وذهولِه، أو لعدم معرفته بالسَّبب القاطع للشَّكِّ، فهذا القسمُ واقعٌ كثيرًا في الأعيان والأفعال، وهو المقصودُ بذكر القاعدة التي تضبطُ أنواعه. والضابطُ فيه: أنه إن كان للمشكوكِ فيه حالٌ قبل الشَّكِّ استصحبها المكلَّفُ وبنى عليها حتى يَتَيَقَّنَ الانتقالَ عنها، هذا ضابطُ مسائله. فمن ذلك: إذا شكَّ في الماء هل أصابته نجاسةٌ أم لا؟ بنى على يقين الطَّهارة. ولو تَيَقَّنَ نجاسَتَهُ ثم شكَّ هل زالت أم لا؟ بنى علي يقينِ النَّجاسةِ. الثالثة: إذا أحدثَ ثم شَكَّ هل تَوَضَّأَ أم لا؟ بنى علي يقين الحَدَث. ولو توضَّأَ وشَكَّ في الحدث بنى علي يقين الطَّهارة. وفروعُ المسألة مبنيةٌ على هذا الأصل. الرابعة: إذا شكَّ الصائمُ في غروب الشمس لم يَجُزْ له الفطر، ولو أكلَ أفطرَ، ولو شَكَّ في طُلوع الفجر جاز له الأكلُ، ولو أكل لم يُفْطِرْ. الخامسة: لو شكَّ هل صلَّى ثلاثًا أو أربعًا وهو منفردٌ بنى على اليقين، إذ الأصلُ بقاءُ الصلاةِ في ذمته، وإن كان إمامًا فعلى غالب ظَنِّه؛ لأن المأمومَ يُنَبِّهُهُ، فقد عارَضَ الأصْلَ هنا ظهورُ تنبيهِ المأموم على الصَّوابِ. وقال الشافعي ومالك: يبني على اليقين مطلقًا؛ لأنه الأصلُ.

(3/1278)


السادسة: إذا رمى صيدًا فوقعَ في ماء فشَكَّ هل كان موتُه بالجُرح أو بالماء؟ لم يأكلْه؛ لأن الأصل تحريمُه، وقد شكَّ في السَّبب المُبيح. وكذلك لو خالَط كلبُهُ كلابًا أُخَرَ ولمِ يَدْرِ أصادَةُ كلْبُهُ أو غيره لم يأكلْهُ؛ لأنه لم يَتَيَقَّنْ شروط الحِلّ في غير كلبه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك إنما سَمَّيْتَ على كَلْبِكَ ولم تُسَمِّ على غَيْرِهِ" (1). السابعة: إذا شكَّ هل طاف ستًّا أو سبعًا أو رمى سِتَّ حَصَيَاتٍ أو سبعًا (2) بنى على اليَقِينِ. الثامنة: إذا شكَّ هل عمَّ الماءُ بَدَنَهُ وهو جُنُبٌ أم لا؟ لَزِمَهُ يقينُ تعميمِهِ ما لم يكنْ ذلك وَسْواسًا. التاسعة: إذا اشترى ثوبًا جديدًا أو لَبيسًا وشَكَّ هل هو طاهرٌ أو نَجِسٌ؛ بنى الأمرَ على الطهارة، ولم يلزمْهُ غسله. العاشرة: إذا أصابه بَلَلٌ ولم يدرِ ما هو؟ لم يجِبْ عليه أن يبحَثَ عنه، ولا يسأل من أصابه به، ولو سألَه لم تجب إجَابتُه على الصحيح، وعلى هذا لو أصاب ذيلَهُ رطوبةٌ بالليل أو بالنهار لم يجِبْ عليه سَمُّها ولا تَعَرُّفُها، فإذا تَيَقَّنَها عَمِلَ بموجب يقينه. الحادية عشرة: إذا كان عليه حق لله -عز وجل- من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام، وشكَّ هل أتى به أم لا؟ لزمه الإتيانُ به. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (175)، ومسلم رقم (1929) من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه-. (2) "أو رمى ست حصيات أو سبعًا" سقطت من (ع).

(3/1279)


الثانية: عشرة: إذا شكَّ هل مات مُوْروثُهُ فَيَحِلَّ له مالُهْ أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتى يَتيقَّنَ موتَه. الثالثة عشرة: إذا شكَّ في الشَّاهد هل هو عدْلٌ أم لا؟ لم يحكمْ بشهادتِهِ؛ لأن الغالبَ في الناس عدمُ العَدَالَةِ، وقولُ من قال: الأصلُ في الناس العدالةُ كلامٌ مستدرَكٌ، بل العدالةُ طارئةٌ متجدِّدَةٌ (1) الأصلُ عدمُها، فإن خلاف العدالة مستندُهُ جهلُ الإنسانِ وظلمُهُ، والإنسانُ خُلِقَ جهولًا ظلومًا، فالمؤمنُ يكمل بالعِلم والعدل، وهما جمَاعُ الخير، وغيرُه بقي على الأصل، فلا الأصلُ في الناس العدالةَ ولا الغالبُ. الرابعة عشرة: إذا شكُّ هل صلَّى ثلاثًا أو أربعًا؟ بنى على اليقين وألغى المشكوكَ فيه، واسْتُثنى من هذا موضعين: أحدهما: أن يقعَ الشَّكُّ بعد الفَرَاغ من الصَّلاة فلا يلْتَفَتْ إليه، الثانى: أن يكون إمامًا فيبني على غالب ظنه. فأما الموضعُ الأوَّلُ؛ فهو مبنيٌّ على قاعدة الشَّكِّ في العِبَادة بعد الفَراغ منها، فإنه لا يؤثِّرُ شيئًا، وفي الوضوءِ خلافٌ. فمن ألحقه بهذه القاعدة نَظَرَ إلى أنه قد انقضى بالفراغ منه، ومن نظر إلى بقاء حكمه وعمله، وأنه لم يفعل المقصودَ به، ألحقه بالشَّكِّ في العبادة قبلَ انقطاعها والفراغ منها. وأما الموضعُ الثاني؛ فإنما استُثني لظهور قَطْع الشَّكِّ والرجوع إلى الصَّواب بتنبيه المأمومين له، فسكوتُهم وإقرارُهم دليلٌ على __________ (1) (ظ): "حادثة تتجد".

(3/1280)


الصواب، هذا ظاهرُ مذهب أحمد، ومذهبُ الشافعي أنه يبني على اليقين مطلقًا إمامًا كان أو منفردًا ولا يلتفتُ إلى قول غيره. ومذهبُ مالك أنه يبني على اليقين إلا أن يكونَ مستنكحًا (1) بالشَّكِّ، فإنه لا يلتفتُ إليه ويلْهى عنه، فإن لم يُمْكِنْهُ أن يَلْهَى عنه بنى على أول (2) خواطرِه، ومذهبُ أبي حنيفة أنه إن عَرَضَ له ذلك في أول صلاته أعادها، وإن عَرَضَ له فيما بعدَها بنى على اليقين. الخامسة عشرة: إذا شكَّ هل دخل وقتُ الصلاة أو لا؟ لم يصَلِّ حتى يَتَيَقَّنَ دخولَه، فإن صلَّى مع الشَّكِّ ثم بان أنه صلَّى في الوقت، فقد قالوا: يُعيدُ صلاتَهُ، وعلى هذا إذا صلَّى وهو يَشُكُّ هل هو محدِثٌ أو مُتَطَهِّرٌ، ثم تيقَّنَ أنه كان متطهرًا، فإنه يعيدُها أيضًا، وكذلك إذا صلَّى إلى جهةٍ وشكَّ هل هي القِبلة أو غيرها، ثم تبيَّنَ له أنها جهةُ القبلة. ولا كذلك إذا شَكَّ في طهارة الثوب والبَدَن والمكان، فصلَّى فيه ثم تَيَقَّنَ أن ذلك كان طاهرًا، لأن الأصل هنا الطهارة وقد تيقنه آخرًا، فتوسُّطُ الشَّكِّ بين الأصل واليقين لا يؤثر بخلاف المسائل الأُوَلِ؛ لأن الأصلَ فيها عدمُ الشُّروط (3) فالشَّك فيها مستنِدٌ إلى أصل يوجِبُ عليه حكمًا لم يأتِ به. والذي تقتضيه أصولُ الشَّرْع وقواعدُ الفقهِ في ذلك هو التَّفرِقة بين المعذورِ والقادِرِ، فالمعذورُ لا يجبُ عليه الإعادةُ إذا لم يْنُسب إلى تفريط، وقد فعلَ ما أدَّاه إليه اجتهادُهُ وأصابَ، فهو كالمجتهد المُصيب. __________ (1) أي: مغلوبًا. (2) كذا في (ق) وهو الموافق لما في "مواهب الجليل": (1/ 255)، و (ع وظ): "أنزل". (3) كذا في النسخ، والمطبوعات: "الشكّ".

(3/1281)


وعلى هذا؛ فإذا تحرَّى الأسيرُ وفعل جهدَه فصام شهرًا يظنُّهُ رمضانَ وهو يشُكُّ فيه، فبان رمضانَ أو ما بعدَه، أجزأه مع كونه شاكًّا فيه. وكذلك المصلِّي إذا كان معذورًا محتاجًا إلى تعجيل الصلاة في أوَّل وقتها؛ إنها لسَفَرٍ لا يمكنه النزولُ في الوقت ولا الوقوف، أو لمرضٍ يُغمَى عليه فيه، أو لغير ذلك من الأعذار، فَتَحَرَّى الوقتَ وصلَّى فيه مع شكِّه، ثم تبيَّن له أنه أوقع الصلاةَ في الوقت، لم تجِبْ عليه الإعادة، بل الذي يقوم عليه الدليلُ في مسألة الأسير أنه لو وافق شعبان لم تجبْ عليه الإعادةُ وهو قول الشافعي؛ لأنه فعلَ مقدورَةُ ومأمورَهُ، والواجبُ علي مثله صومُ شهر يظنُّه رمضان، وإن لم يَكُنْهُ (1)، والفرق بين الواجب على القادر المتمكن والعاجز. فإن قيل: فما تقولونَ في مسألة الصلاة إذا بان أنه صلاَّها قبلَ الوقت؟. قيلِ الفرقُ بين المسألتين: أن الصوم قابلٌ لإيقاعه في غير الوقت للعُذر، كالمريض والمسافر والمُرضع والحُبلى، فإن هؤلاء يسوغُ لهم تأخيرُ الصوم ونقلُه إلى زمن آخَرَ نظرًا لمصلحتهم، ولم يُسَوَّغْ لأحدٍ منهم تأخير الصَّلاة عن وقتها ألبتَّةَ. فإن قيل: فقد سُوِّغَ تأخيرُها للمسافر والمريض والممطور من وقتِ أحدهما إلى وقت الأخرى. قيل: ليس بتأخير من وقت إلى وقت، وإنما جَعَلَ __________ (1) (ع): "يمكنه"، و (ظ): "يظنه".

(3/1282)


الشارعُ وقتَ العبادتين في حقِّ المعذور وقتًا واحدًا، فهو مصَلٍّ للصلاة في وقتِها الشرعي الذي جعله الشارعُ وقتًا لها بالنسبة إلى أهل الأعذار، فهو كالنائم والناسي (1) إذا استيقظ وذكر، فإنه يصلِّي الصلاة حينئذٍ؛ لكون ذلك وقتها (2) بالنسبة إليهما، وإن لم يكُنْ وقتًا بالنسبة إلى الذَّاكر المستيقظِ، على أن للشَّافعي قَوْلينِ في المسألتينِ، والله أعلم. فصل (3) ابن عُيَيْنَةَ، عن محمد بن المنكدر قال: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم (4). وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن ينظرَ إلى مجالس (5) الأنبياء فلينظرْ إلى مجالس العلماء، يجيءُ الرجلُ فيقول: يا فلان أيْشٍ تقولُ في رجلٍ حَلَفَ على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأتُه، وهذا مقامُ الأنبياء، فاعرِفوا لهم ذلك (6). قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَلُ أحدُهم عن المسألةِ فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأوَّل، ما منهم من أحدٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتْيا. __________ (1) (ق): "الساهي". (2) من قوله: "لها بالنسبة ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (3) (ق): "فوائد"، وهذا الفصل انتقاه المصنف من كتاب "أدب المفتي والمستفتي": (ص/ 71 - 85) لابن الصلاح. (4) أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن": (ص/438). (5) (ع وظ): "محاسن" وكذا ما بعدها. (6) انظر: "صفة الصفوة": (4/ 66).

(3/1283)


وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كلِّ ما يستفتونه فهو مجنون. وعن ابن عباس نحوه (1). وقال حصَيْنٌ الأسديُّ: إن أحدَكم ليُفْتي في المسألة لو وَرَدَتْ علي عمر بن الخطاب لجمع لها أهلَ بَدْر، وعن الحسن والشَّعْبي مثله (2). وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصَّفَّار يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: سمعت محمد بن عَجْلانَ يقول: إذا أخطأ العالمُ لا أدري أُصِيبَت مقاتِلُه (3). وروي ذلك بنحوه عن ابن عباس (4). وذكر أبو عُمر (5)، عن القاسم بن محمد، أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أُحسنُه، فجعل الرجلُ يقول: إنى دُفِعتُ إليك لا أعرفُ غيْرَك، فقال القاسم: لا تنظرْ إلى طول لحيتي وكثرة النَّاس حولي، واللهِ لا أُحسِنُه، فقال شيخ من قُرَيْش جالس إلى جنبه: يا ابنَ أخي الزمْها فواللهِ ما رأيتُ في مجلسٍ أَنبل منك (6) اليوم، فقال القاسم: والله لأَنْ يُقْطَعَ لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلمَ بما لا أعلمُ. __________ (1) هذه الآثار أخرجها ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/ 1120 - 1125) وغيره. (2) أخرجه البيهقي في "المدخل": (ص / 434). (3) أخرجه البيهقي في "المدخل": (ص/ 436). (4) أخرجه ابن عبد البر: (2/ 840). (5) في "الجامع": (2/ 837). (6) (ع): "أمثل منك".

(3/1284)


وذكر أبو عمر (1) عن ابن عُيَيْنَةَ وسُحنون: "أجسرُ النَّاسِ على الفُتْيا أَقَلُّهم علمًا". وكان مالك يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيبَ فيها أن يعوضَ نفسه على الجنَّة أو النَّار، وكيف يكونُ خلاصُه في الآخرة. وسُئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، فغضب وقال: ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ، ألم تسمعْ قوله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5] فالعلمُ كلُّه ثقيلٌ وخاصَّة ما يسأل عنه يومَ القيامة. وقال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصعُبُ عليهم المسائلُ ولا يُجيبُ أحدُهم في مسألة حتى يأخذَ رأيَ أصحابه (2)، مع ما رُزقوا من السَّداد والتوفيق مع الطهَّارة، فكيف بنا الذين غطَّتِ الخطايا والذنوبُ قلوبَنا؟!. وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجلٌ إلى مالك يسألُه عن شيء أيامًا ما يُجيبهُ، فقال: يا أبا عبد الله إني أريدُ الخروجَ، وقد طال التَّرَدُّدُ إليك، فأَطْرَق طويلًا، ثم رفع رأسه، وقال: ما شاء الله يا هذا، إني إنما أتكلمُ فيما أحتسبُ فيه الخيرَ، ولستُ أُحْسِنُ مسألتَك هذه (3). وسُئِلَ الشافعيُّ عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيبُ يرحمُك اللهُ؟ فقال: حتى أدريَ الفضل في سكوتي أو في الجواب. __________ (1) في "الجامع": (2/ 1124 - 1125). (2) (ع وظ): "صاحبه". (3) أخرجه البيهقي فى "المدخل": (ص/ 437).

(3/1285)


وكان سعيد بن المُسَيِّب لا يكادُ يُفْتي فُتْيا، ولا يقولُ شيئًا، إلا قال: اللَّهُمَّ سَلِّمْني وسلِّم مني (1). وقال سُحْنون: أشقى النَّاس من باعْ آخِرَتَهُ بدُنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، قال: ففَكَّرتُ فيه فوجدته المُفتي، يأتيه الرجل قد حَنث في امرأته ورقيقه، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانثُ فيستمتعُ بامرأته ورقيقِه وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا (2). وجاء رجلٌ إلى سُحْنون فسألَه عن مسألة، فأقام يتردَّد إليه ثلاثةَ أيام فقال: مسألتي أصلحك اللهُ اليوم ثلاثةَ أيام؟ فقال له: وما أصنع؟ مسألة (3) معضِلةٌ، وفيها أقاويلُ، وأنا متحيِّرٌ في ذلك، فقال: وأنْت أصلحك اللهُ لكلِّ مُعضِلة! فقال سحنونٌ: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذُلُ لحمي ودمي للنَّار، ما أكثرَ ما لا أعرفُ. إن صبرْتَ رجوتُ أن تنقلبَ بمسألتك، وإن أردتَ أن تمضيَ إلى غيري فامْضِ تُجَابُ في مسألتِكَ في ساعةٍ، فقال: إنما جئْتُ إليكَ فلا أستفتي غيرَك، قال: فاصبِرْ، ثم أجابه بعدَ ذلك. وقيل له: إنك تسألُ عن المسألة، لو سئل عنها أحدٌ من أصحابك لأجاب فيها فتتوقَّفُ فيها، فقال: إن فتنة الجواب بالصَّواب أشدُّ من فتنة المال. وقال بعضُ العلماء: قَلَّ من حَرَصَ على الفتوى، وسابق إليها وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارهًا __________ (1) المصدر نفسه: (ص/ 439). (2) بنحوه في "السير" (12/ 66). (3) (ظ): "ما أصنع بمسألتك؟ مسألتك ... ".

(3/1286)


لذلك غَيْرَ مختار له ما وجد مندوحةً عنه، وقدر أن يُحِيلَ بالأمر فيه على غيره، كانت المعونَةُ له من الله أكثرَ، والصلاحُ في جوابه وفتاويه أغلبَ. وقال بِشرٌ الحافي: من أحبَّ أن يُسألَ فليس بأهل أن يسْأَلَ. وذكر أبو عمر (1)، عن مالك قال: أخبرني رجلٌ أنه دخل على ربيعةَ فوجده يبكي، فقال: ما يُبكيكَ أمصيبةٌ دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن اسْتُفْتِيَ من لا علمَ له، وظهر في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال ربيعة: ولَبَعْضُ من يُفتي هاهنا أحقُّ بالسَّجن (2) من السُّرَّاق. * * * __________ (1) في "الجامع": (2/ 1225). (2) (ظ): "بالحبس".

(3/1287)


ومن مسائل إسحاق بن منصور الكوسج لأحمد (1) قلت: يتوضَّأ الرجل في المسجد؟ قال: قد فعل ذلك قومٌ، قال إسحاق: هو حسنٌ ما لم يَسْتَنْجِ فيه (2). قلت: إذا عطس الرجل يوم الجمعة؟ قال: لا تُشَمِّتْه (3). قلت: يُقَاتَلُ اللِّصُّ؟ قال: إذا كان مقبلًا فقاتِلْه، وإذا وَلَّى لا تُقَاتِلْ. قال إسحاق كما قال، ويناشدُه في الإقبال ثلاثًا، فإن أبى وإلا قاتله. قلت: الضالَّة المكتومة؟ قال: الذي يكتُمُها إذا أَزَلْتَ عنه القطعَ فغرامة مثلها عليه، قال إسحاق كما قال: سُنَّة مسنونة. قلت: سئل سفيان عن صبيٍّ افتضَّ صَبِيَّةً، قال: لها مَهْرُ مِثلها في مالِهِ، قال أحمد: يكون على عاقلته إذا بَلَغَ الثُّلُثُ، قال إسحاق كما قال سفيان: في ماله. قلت: قال سفيان: استفتى يوسفُ بن عُمَرَ (4) ابنَ أبى ليلى في هذه، فقال: لها مهرُ مثلِها في ماله، قال أحمد: لا بل على عاقلته إذا بلغ الثلث، قال إسحاق، كما قال ابن أبي ليلى. قلت: كأنه أراد -واللهُ أعلمُ- أرْشَ البكارة، فسماه مهرًا، أو يقال: إن استيفاء هذه المنفعة منه تجري مجرى جنايته عليها، فإذا __________ (1) (ق): "مسألة" بدلًا من هذه الجملة. (2) (ق): "يستقبح". (3) كذا بالأصول، والذي في "المسائل": "شَمِّتْه"، وهكذا في مسائل عبد الله رقم (585) وابن هانئ: (1/ 91)، وفيها التصريح بأن التشميت إذا لم يسمع الخطبة. (4) عامل هشام بن عبد الملك على العراق.

(3/1288)


أوجبت مالًا كان على من يحملُ جنايَتهُ، ولا ريبَ أن الوطءَ يجري مجرى الجنَاية، إذ لا بُدَّ فيه من عفو أو عقوبة، وجنايةُ الصَّبِيِّ علىَ النفوس والأعضاء والمنافع على عاقلته، وهذه جنايةٌ على منفعة الصِّبِيَّة فتكونُ على عاقلته، وهذا أصوبُ الاحتمالين، ولم أر أصحابنا تعرَّضوا لهذا (1) النَّصِّ ولا وجهه. قلت: أيقطعُ في الطير؟ قال: لا يقطع في الطير، قال إسحاق كما قال. قلت: لعله أراد به الطيرَ إذا تفلَّتَ من قفصه فصاده، وهو خلافُ ظاهرِ كلامِهِ، إذ يقالُ: الطيرُ لا تستقرُّ عليه اليدُ ولا يثبتُ في الحِرْز، ولا سيَّما إذا اعتادَ الخروجَ والمجيء كالحمام، وأجودُ من هذين المأخذين أن يقالَ: إذا أخذه فهو بمنزلة من فتح القفصَ عنه حتى ذهب ثم صاده من الهواء، فإن مِلْك صاحبه عليه في الحالين واحد، وهو لو تَفَلَّت من قفصِه ثم جاء إلى دار إنسانٍ فأخذه لم يقطعْ، ولو صاده من الهواء لم يقطعْ، فكذلك إذا فتح قَفَصَه وأخذه منه، والقاضي تأوَّل هذا النَّصَّ على الطير غير المملوك، ولا يخفى فسادُ هذا التأويل، والذي عندي فيه: أن أحمدَ ذهب إلى قول أبي يوسف في ذلك، والله أعلم. قلت: رجلٌ زَوَّجَ جارِيَتَهُ ثم وقع عليها؟ قال أحمد: أما الرجم فأدرأُ عنه ولكن أَضْرِبُه الحَدَّ، محصنًا كان أو غير مُحْصَنٍ. قال إسحاق كما قال: يُجْلَدُ مئةً نكالًا كما قال عمر. قلت: لعله سمى التعزير حدًّا، وبلغ به مئة، أو لما سقط عنه __________ (1) (ق): "لمثل هذا".

(3/1289)


الرجم حدَّه حدَّ الزاني غير المحصن. قلت: سُئِل سفيانُ عن رجل قال لرجل: ما كان فلان لِيَلِد مثلك، قال: ما أرى في هذا شيئًا. فقال أحمد: هو تعريضٌ شديدٌ فيه الحَدُّ. قلت: سُئِل سفيانُ عن رجل قال لرجل: أنت (1) أكثر زنًا من فلان، وقد ضُرِبَ فلانٌ في الزنا، قال: ما أرى الحَدَّ بَيِّنًا أرى أن يُعَزَّرَ، قال أحمد: هذا تعريضٌ يضرَبُ الحَدَّ. قال إسحاق كما قال. فقد نصَّ على وجوب الحَدِّ بالتعريض، وهو الصَّواب بلا ريب، فإنه أنكى وأوجع من التصريح، وهو ثابت عن عمر (2). قلت: قال سفيان: رمى الجمرتين ولم يقمْ عندهما فليذبحْ شاة، أو ليتصدَّقْ بصاع، قال أحمد: لا أعلمُ عليه شيئًا، ويتقرَّبُ إلى الله تعالى بما شاء وقد أساء. قال إسحاق كما قال أحمد. قلت: الحائكُ يُدْفعُ إليه الثوب على الثُّلُث والرُّبُع؟ قال: كلُّ شيء من هذا، الغَزْل والدار والدَّابّة، وكلُّ شيءٍ يُدْفَعُ إلى الرَّجُل يعملُ فيه على الثُّلُث والرُّبُع، فعلى قصة خَيْبَرَ (3)، قال إسحاق كما قال (4). قلت: من بنى في حق (5) قوم بإذنهم، أو بغير إذنهم؟ قال: إذا __________ (1) من قوله: "ليلد مثلك ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (5/ 500). (3) وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَامَل أهلَ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. أخرجه البخاري رقم (2328)، ومسلم رقم (1551) من حديث ابن عمر - رضى الله عنهما -. (4) انظر "مسائل الكوسج" رقم (108). (5) في "ظ": "فناء".

(3/1290)


كان بإذنهم فله عليهم نفقتُه، وإذا كان بغير إذنهم، قُلِعَ بناؤه، وأحبُّ إليَّ إذا كان البناءُ يُنتفعُ به هنا أحب إليّ أنْ يعطيه النفقة ولا يقلعُ بناءَه، قال إسحاق: كما قال سواء (1). قلت: رجل ضَلَّ بعيرٌ له أعْجَفُ (2) فوجده في يد رجل قد أنفقَ عليه حتى سَمِنَ؟ قال: هو بعيرُه يأخذه، مَنْ أمرَ هذا أن يأخذَه؟ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْها فإنَّ مَعَها حِذَاءَها وسِقَاءَها" (3). قال إسحاق: إذا كان أخذه في دار مَضْيَعَةٍ فأنفق عليه ليردَّه إلى الأوَّل ويأخُذَ النفقةَ كان له ذلك (4). قلت: ولا يناقضُ هذا قاعدَتَه فيمن أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه أنه يرجعُ عليه؛ لأن هذا متعدٍّ بأخذِ البعير، حيث نهاه الشارعُ عن أخذه، والله تعالى أعلم. * * * __________ (1) "مسائل الكوسج" رقم (113). (2) أي: ضعيف. (3) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني. (4) "مسائل الكوسج" رقم (119).

(3/1291)


فصول (1) في أصول الفقه والجدل وآدابه والإرشاد إلى النافع منه كما جاء (2) في القرآن والسنة فصل النكرةُ في سياق النَّفي تعمُّ، مستفادٌ من قوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وفي الاستفهام من قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وفي الشرط من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]، وفي النهي من قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 8]، وفي سياق الإثبات بعموم العلَّة والمُقتضي، كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]، وإذا أضيف إليها (كلٌّ) نحو: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [ق: 21]، ومن عمومها بعموم المقتضي: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)} [الشمس: 7]. فصل ويستفادُ عمومُ المفرَدِ المُحَلَّى باللام من قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2]، وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ} (3) [الرعد: 42]، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} [النبأ: 40]، وعمومُ المفرد المضاف من قوله: __________ (1) (ق): "فوائد شتى". (2) (ع): "مما كان". (3) هكذا في جميع النسخ، وهى قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو. وقرأ الباقون {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ}، انظر "المبسوط": (ص/ 216].

(4/1305)


{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، والمراد: جميعُ الكتبِ التي أحصيتْ فيها أعمالُهم. وعموم الجمع المحلى باللام من قوله: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)} [المرسلات: 11]، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7]، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]. . إلى آخرها. والمضاف من قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وعموم أدوات الشرط الأسماء (1) من قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112} [طه: 112]، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78]، وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68]، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]. هذا إذا كان الجواب طلبًا مثل هاتين الآيتين فإن كان خبرًا ماضيًا لم يلزم العموم، كقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]. وإن كان مستقبلًا فأكثر موارد للعموم كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3]، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} [الصافات: 35]، وقد لا تعُمُّ كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]. __________ (1) (ظ وق): "الا بما".

(4/1306)


فصل ويستفادُ كونُ الأمر المطلَق للوجوب: مِنْ ذَمِّه لمن خالَفه، وتسميته إيَّاه عاصِيًا، وترتيبه عليه العقابَ العاجلَ أو (1) الآجلَ. ويستفادُ كونُ النهي للتحريم: من ذَمِّه لمن ارتكبه، وتسميتِه عاصيًا، وترتيبِه العقابَ على فعله. ويستفاد الوجوبُ: بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب والفَرْض والكَتْب، ولفظة "على"، ولفظة "حق" على العباد وعلى المؤمنين، وترتيب الدم والعقاب على الترك، وإحباط العمل بالترك، وغير ذلك. ويستفادُ التحريمُ: من النَّهي، والتَّصريح بالتحريم والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل. وقول: "لا ينبغي" فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلًا أو شرعًا، ولفظة: "ما كان لهم كذا" (2)، "ولم يكنْ لهم"، وترتيب الحدِّ على الفعل، ولفظة: "لا يحل ولا يصلح"، ووَصْف الفعل بأنه فساد، وأنه من تزيين الشيطان وعمله، وأنّ الله لا يحبُّه، وأنه لا يرضاه لعباده، ولا يُزَكِّي فاعِلَه، ولا يكلِّمه، ولا ينظرُ إليه، ونحو ذلك. وتستفادُ الإباحةُ من الإذن والتخيير، والأمر بعد الحظر، ونفي الجُنَاح والحَرَج والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه معفوٌّ عنه، وبالإقرار على فعله في زمن الوحى، وبالإنكار على من حَرَّمَ الشيءَ، والإخبار بأنه خلق لنا كذا، وجعله لنا، وامتنانه علينا به، وإخباره عن فعل مَنْ __________ (1) (ع): "دون". (2) (ق): "كذا وكذا".

(4/1307)


قَبْلَنا لَهُ غَيْرَ ذامٍّ لهم عليه، فإن اقْتَرنَ بإخباره مدحٌ (1) دلَّ على رجحانه استحبابًا أو وجوبًا. فصل (2) وكل فعل عظَّمه الله ورسوله، أو مدحه، أو مدح فاعلَه لأجله، أو فَرِحَ به، أو أحبَّه أو أحبَّ فاعِلَه، أو رضي به أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالطِّيْب أو البَرَكة أو الحُسْن (3)، أو نصبه سببًا لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو نَصَبَهُ سببًا لذكره لعبده، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله أو لنُصْرة فاعله، أو بشارة فاعله أو وَصَف فاعلَه بالطيب، أو وَصَف الفعل بكونه معروفًا، أو نفى الحزنَ والخوفَ عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببًا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرُّسُل بحصوله، أو وصفه بكونه قُرْبةً، أو أقسم به أو بفاعله، كالقَسَم بخيل المجاهدين وإغارتها، أو ضحك الرَّبِّ جلَّ جلالُه من فاعله أو عَجَبه به، فهو دليلٌ على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. فصل (4) وكلُّ فعل طلبَ الشرعُ تركَه أو ذمَّ فاعله، أو عتب عليه أو لعنه، أو مقته أو مَقَتَ فاعلَه (5)، أو نفى محَبَّتَهُ إيَّاه أو محبَّة فاعله، أو نفى __________ (1) (ظ) زيادة: "مدح فاعله لأجله". (2) هذا الفصل وما سيأتي إلى (4/ 1316) نقله المؤلِّف من كتاب "الإمام في بيان أدلة الأحكام": (ص/ 87 وما بعدها) للعزّ بن عبد السلام. (3) (ع): "أو المن به". (4) انظر "الإمام": (ص/ 105 - 106) للعِزِّ. (5) (ق): "أو ذم فاعله، أو عيب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه أو نفى ... ".

(4/1308)


الرضى به أو الرضاء عن فاعله، أو شبَّه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعًا من الهدى أو من القبول (1)، أو وصفه بسوء أو كراهة، أو استعاذ الأنبياءُ منه أو أبغضوه، أو جُعِلَ سببًا لنفي الفلاح، أو لعذابٍ عاجل أو آجل، أو لذمٍّ أو لوم، أو لضلالة أو معصية، أو وُصِفَ بخبث أو رجس أو نَجَس، أو بكونه فِسقًا، أو إثمًا أو سببًا لإثم أو رجس أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة أو حلول نقمة، أو حدّ من الحدود، أو قسوة أو خِزْىِ أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله أو محاربته، أو للاستهزاء به وسُخْريته، أو جعله الربَّ سببًا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو بالحِلْم والصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نَسَبه إلى عمل الشيطان وتزيينه، أو تولِّي الشيطان لفاعله، أو وُصِف بصحفة ذم؛ مثل كونه ظلمًا أو بغيًا أو عدوانًا أو إثمًا، أو تبرأ الأنبياءُ منه أو من فاعله، أو شَكَوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعِلَه بالعداوة، أو نُصِبَ سببًا لخيبة فاعله عاجلًا أو آجلًا، أو رُتِّبَ (2) عليه حرمان الجنَّة، أو وُصِف فاعلُه بأنه عدُوٌّ لله أو أن الله عدُوُّه، أو أعلم فاعِلَهُ بحرب من الله ورسوله، أو حمَّل فاعلَهُ إثمَ غيره، أو قيل فيه: "لا ينبغي هذا ولا يصلحُ"، أو أمرَ بالتقوى عند السؤال عنه، أو أَمر بفعل يضادُّه، أو هَجْر فاعله، أو تلاعَنَ فاعلوه في الآخرة وتبرَّأ بعضُهم من بعض، أو وَصَف فاعله بالضَّلالة، أو أنه ليس من الله في شيءٍ، أو أنه ليس من الرَّسول وأصحابه، أو قُرِنَ بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبرُ عنهما بخبر واحد، أو جَعَل اجتنابه سببًا __________ (1) "أو من القبول" ليست في (ق). (2) (ظ): "ثبت".

(4/1309)


للفلاح، أو فِعْله (1) سببًا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل لفاعله: "هل أنت منتهٍ"؟ أو نهى الأنبياءَ عن الدُّعاء لفاعله، أو رتَّبَ عليه إبعادًا وطردًا. ولفظة: "قُتِل من فَعَله"، أو: "قاتل اللهُ من فَعَله"، أو أخبر أن فاعله لا يكلِّمُه اللهُ يومَ القيامة ولا ينظرُ إليه ولا يُزَكِّيه، وأن الله لا يُصْلِحُ عملَهُ، ولا يهدي كيدَهُ، وأن فاعلَه لا يُفلحُ ولا يكونُ يوم القيامة من الشهداء ولا من الشُّفَعاء، أو أن اللهَ يغار من فعله (2)، أو نبه على وجه المَفْسَدَة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفًا ولا عَدْلًا، أو أخبر أن من فعله قُيِّضَ له شيطان (3) فهو له قرينٌ، أو جَعَل الفعلَ سببًا لإزاغة الله قلبَ فاعله أو صرفه عن آياته وفهمِ كلامه، أو سؤال اللهِ سبحانه عن علَّة الفعل لمَ فَعَل؟ نحو: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99]، {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71]، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، ما لم يقترنْ به جوابٌ من المسؤول، فإن اقترن به جوابٌ كان بحسب جوابه. فهذا ونحوُه يَدُلُّ على المنع من الفعل، ودلالتُه على التحريم أطرَدُ من دلالته على مجرد الكراهة. وأما لفظة: "يكرهُهُ اللهُ ورسولُه"، أو "مكروه"، فأكثر ما تُسْتَعملُ في المحرم، وقدْ يستعملُ في كراهة التنزيه. وأما لفظة: "أما أنا فلا __________ (1) (ق): "جعله". (2) (ع): "أو أن الله تعالى يعادى فعله". (3) (ع): "الشيطان".

(4/1310)


افعلُ"، فالمتحقِّق منه الكراهة، كقوله: "أمّا أنا فَلا آكُلُ مُتَكِئًا" (1)، وأما لفظة: "ما يكون لك وما يكون لنا"، فاطَّرَدَ استعمالُها في المحرم نحو: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13]، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]. فصل وتستفادُ الإباحةُ: من لفظ الإحلال، ورفع الجُنَاح، والإذن، والعفو، وإن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعلْ، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، وما يتعلَّقُ بها من الأفعال، نحو: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل: 80] ونحو: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ومن السكوت عن التحريم، ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحى، وهو نوعان: إقرار الكتاب تبارك وتعالى وإقرار رسوله إذا علم الفعل. فمن إقرار الرَّبِّ تعالى قول جابر: "كنا نَعْزِلُ والقرآنُ يَنْزِل" (2)، ومن إقرار رسوله قول حسَّان لعمر: "كنتُ أُنشد وفيه من هو خير منك" (3). فائدة قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31] جمعت أصولَ أحكام (4) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5398) من حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (5207) ومسلم رقم (1440). (3) أخرجه البخاري رقم (3212)، ومسلم رقم (2485) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (4) (ع): "أحكام أصول".

(4/1311)


الشريعة كلَّها، فجمعتِ الأمرَ والنهيَ والإباحةَ والخبر. فائدة تقديمُ العتاب على الفعل من الله تعالى لا يدُلُّ على تحريمه، وقد عاتب اللهُ تعالى نَبِيَّهُ في خمسة مواضعَ من كتابه في: (الأنفال وبراءة والأحزاب وسوَرة التحريم وسورة عبس) خلافًا لأبي محمد ابن عبد السلام حيث جعل العتبَ من أدلة النهي (1). فائدة لا يصحُّ الامتنانُ بممنوع منه خلافًا لمن زعم أنه يَصِحُّ، ويُصْرف الامتنانُ إلى خلقِه للصبر عنه (2). فائدة (3) قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77] جمعت بين التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والحضِّ على فعل الخير، والزَّجر عن فعل الشَّرِّ، إذ قوله: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} يتضمَّنُ حَثَّهْمْ على كسب الخير وزجرهم عن كسب الشر. فائدة (4) التعجُّبُ كما يدُلُّ على محبَّة الله للفعل نحو: "عَجِبَ ربُّكَ من __________ (1) في كتابه "الإمام": (ص/ 107). (2) انظر المصدر السابق: (ص/ 86). (3) انظر المصدر السابق: (ص/ 134). (4) انظر "الإمام": (ص/ 133 - 134) للعزِّ.

(4/1312)


شَابٍّ ليستْ له صَبْوةٌ" (1)، و: "يعجَبُ ربُّكَ من رجلٍ ثارَ من فِرَاشِهِ ووِطائِهِ إلى الصَّلاة" (2) ونحو ذلك، فقد يدُلُّ على بُغْض الفعل كقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]، وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28]، وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101]. وقد يدلُّ على امتناع الحكم وعدم حُسْنه، نحو: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة: 7]، وقد يدلُّ على حسن المنع قدرًا، وأنه لا يليق به فِعْلُهُ، كقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86]. فائدة (3) نفي التَّسَاوي في كتاب الله قد يأتي بين الفعلين، كقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] وقد يأتي بين الفاعلين، نحو: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، وقد يأتي بينَ الجزاءينِ كقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]. وقد جمع اللهُ بين الثلاثةِ في آيةٍ واحدة، وهي قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} __________ (1) أخرجه أحمد: (28/ 600 رقم 17371)، وأبو يعلى رقم (1749)، والطبراني في "الكبير": (17/ 309) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- بنحوه، وفي سنده ابن لهيعة، وأعله أبو حاتم بالوقف كما في "العلل": (2/ 116). (2) تقدم تخريجه (3/ 1178). (3) انظر "الإمام": (ص/ 139 - 142) مع اختلاف في التمثيل، فقد جعل العز الآية الأولى من نفي التساوي بين الجزائين.

(4/1313)


وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 - 22] فالأعمى والبصيرُ: الجاهلُ والعالم، والظلمات والنُّور: الكفر والإيمان، الظل والحرور: الجنة والنار، الأحياء والأموات: المؤمنونَ والكفَّار (1). فائدة (2) ضَرْبُ الأمثالِ في القرآن يُستفادُ منه أمورُ التَّذكير والوعظ، والحَثِّ والزَّجر، والاعتبار والتَّقرير، وتقريب المُراد للعقل، وتصويره في: صورة المحسوس، بحيث يكون نسبتُه للعقل كنسبته المحسوس إلى الحس. وقد تأتي أمثالُ القرآن مشتملةً على بيان تفاوُت الأجر، وعلى المدح والذَّمِّ، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر. فائدة (3) السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، كيف تجدُ سياقَه يدُلُّ على أنه الذليلُ الحقيرُ. __________ (1) (ظ): "المؤمن والكافر". (2) انظر: "الإمام": (ص / 143 - 157) ملخَّصًا. (3) المصدر السابق: (ص / 159).

(4/1314)


فائدة (1) إخبار الرب تعالى (2) عن المحسوس الواقع له عدة فوائد: منها: أن يكونَ توطئةً وتَقْدِمةً لإبطال ما بعدَه. منها: أن يكونَ موعظةً وتذكيرًا. ومنها: أن يكونَ شاهدًا على ما أخبر به من توحيده وصدق رسوله وإحياء الموتى (3). ومنها: أن يُذكَرَ في معرِض الامتنان. ومنها: أن يذكرَ في معرِض اللَّوم (4) والتوبيخِ. ومنها: أن يذكرَ في معرِض المدح والذَّمِّ. ومنها: أن يذكرَ في معرِض الإخبار عن إطلاع الرَّبِّ عليه، وغير ذلك من الفوائد. فائدة قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} [يونس: 87] هو من أحسنِ النَّظْم وأبدعِه، فإنه ثنَّى أولًا؛ إذ كان موسى وهرون هما الرسولان المطاعان، ويجبُ على بني إسرائيل طاعةُ كلٍّ منهما سواء، __________ (1) المصدر السابق: (ص/ 162 - 168) مختصرًا. (2) من قوله: "تعالى: (ذق إنك ... ) إلى بها سقط من (ظ). (3) (ع): "وإيتاء القربى". (4) (ع): "الذم".

(4/1315)


وإذا تَبَوَّءا البيوتَ لقومهما فهم تَبَعٌ لهما، ثم جَمَع الضميرَ فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ لأن إقامتها فرضٌ على الجميع، ثم وحَّده في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}؛ لأن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه رِدْءًا ووزيرًا، فكما كان الأصل في الرسالة فهو الأصلُ في البشارة، وأيضًا فإن موسى وأخاه لما أُرسلا برسالة واحدة كانا رسولًا واحدًا كقوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الزخرف: 46] فهذا الرسول هو الذي قيل له: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}. فائدة الفقهاءُ يقولون: عَدَم المانع شرطٌ في ثبوتِ الحكمِ؛ لأن الحكمَ يَتَوَقَّفُ عليه، ولا يلزمُ من تحَقُق عدم المانع ثبوتُ الحكم، وهذا حقيقةُ الشرط، واعْتَرَضَ على هذا الشِّهابُ القَرَافِيُّ (1)، وزعم أنه غيرُ صحيح بأن قال: "المشكوكُ فيه ملغىً في الشريعة، فإذا شككنا في الشرط أو في السبب لم يترتَّبِ الحكمُ، وإذا شككنا في المانع رتبنا الحكمَ، كما إذا شككنا في رِدَّة زيد قبل وفاته، أو في طلاقه لامرأته لم يمنع ذلك تَرَتُّبَ الميراث". ثم قال: "فلو كان عدمُ المانع شرطًا لاجتمعَ النقيضانِ فيما إذا شَككْنا في طَرَيان المانع؛ لأن الشَّكَّ في أحد النقيضين يُوجِبُ الشَّكَّ فيِ النقيضِ الآخر، فإذا شَكَكْنا في وجودِ المائع شككنا في عدمه ضَرُورَة، فلو كان عدمُه شرطًا لكنَّا قد شككنا في الشرط، والشَّكُّ في الشرط يمنعُ تَرَتُّبَ الحُكم، والشَّكُّ في المانعِ لا يمنع تَرَتُّبَ الحُكم، فيجتمعُ النقيضان". __________ (1) في كتابه "الفروق": (1/ 111 - 112).

(4/1316)


قلت: وهذا الاعتراضُ في غايةِ الفساد، فإن الشَّكَّ في عدم المانع إنما لم (1) يؤثِّرْ إذا كان عدمُه مستصْحَبًا بالأصل، فيكونُ الشَّكُّ في وجودِه ملغىً بالأصلِ فلا يؤثِّرُ الشَّكُّ، ولا فرقَ بيَنه وبينَ الشَّرط في ذلك، فلو شكَكْنا في إسلام الكافِرِ وعِتْقِ العبد عندَ الموت، لم نُوَرِّثْ قريبَهُ المسلمَ منه، إذا الأَصل بقاءُ الكفر والرِّقِّ، وقد شككنا في ثُبوتِ شرطِ التَّوريثِ. وهكذا إذا شككنا في الرِّدَّة أو الطلاق لم يمنع الميراث؛ لأن الأصل عَدَمُهُما، ولا يمنعُ كون عدمهما شرطًا ترتُّب الحكم مع الشَّكِّ فيه؛ لأنه مستندٌ إلى الأصل، كما لم يمنع الشك في إسلام الميِّت الذي هو شرطُ التوريث منه؛ لأن بقاءَهُ مستَنِدٌ إلى الأصل، فلا يمنعُ الشك فيه من ترتب الحُكْم، فالضابطُ: أن الشَّكَّ في بقاء الوصف على أصله، أو خروجه عنه لا يؤثِّرُ في الحكم استنادًا إلى الأصل، سواءٌ كان شرطًا أو عدم مانع، فكما لا يمنعُ الشَّكُّ في بقاء الشرط من ترتب الحكم، فكذلك لا يمنعُ الشَّكُّ استمرارَ عدم المانع من ترتُّب الحُكم، فإذا شككنا هل وُجِد مانع الحكم أم لا؟ لم يمنع من تَرَتُّب الحكم ولا من كون عدمِهِ شرطًا؛ لأن استمرارَهُ على النفيِ الأصليِّ يجعلُه بمنزلة العَدَم المحقَّقِ في الشَّرْع، وإن أمكنَ خلافُه، كما أن استمرارَ الشرط على ثُبوته الأصلي يجعلُه بمنزلة الثابت المحقق شرعًا، وإن أمكن خلافُه (2)، فعلم أن إطلاق الفقهاء صحيحٌ، واعتراض هذا المعترض فاسدٌ. ومما يُبيِّنُ لك الأمرَ اتِّفاقُ الناس على أنَّ الشرط ينقسمُ إلى __________ (1) سقطت من (ق). (2) (ق): "ما لم يُعْلَم".

(4/1317)


وجودي وعدمى، يعني: أن وجود كذا شرط في الحكم، وعدم كذا شرط فيه، وهذا متَّفقٌ عليه بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وسائر الطوائف، وما كان عَدَمُهُ شرطًا فوجودُهُ مانِعٌ، كما أن ما وجوده شرطٌ فعدمه مانعٌ. فعدمُ الشرطِ مانع من موانع الحكم، وعدم المانع شرط من شروطه، وبالله التوفيق. فائدة الحاكمُ محتاج إلى ثلاثة أشياءَ لا يَصِحُّ له الحكمُ إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات. فالأدلَّةُ، تُعَرِّفْهُ الحكمَ الشَّرعيَّ الكُلِّيَّ. والأسبابُ، تُعَرِّفُهُ ثبوتَه في هذا المحلِّ المُعيَّن أو انتفاءَه عنه. والبَيِّنات، تعرِّفْهُ طريقَ الحكم عند التَّنازعُ، ومتى أخطأ في واحدٍ من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميعُ خطأ الحكَّام مداره على الخطأ فيها، أو في بعضها. مثالُ ذلك: إذا تنازعَ عندَه اثنان في ردِّ سلعة مشتراة بعيب، فحكمُهُ موقوفٌ على العلم بالدَّليل الشَّرعي الذي يُسَلِّطُ المشتريَ على الرَّدِّ، وهو إجماعُ الأمةِ المستندُ إلى حديث المُصرَّاة وغيره. وعلى العلم بالسَّبب المثبتِ لحكم الشَّارع (1) في هذا البيع المعَيَّن، وهو كون هذا الوصف عيبًا يسلَّط على الرَّدِّ أم ليس بعيب، وهذا لا يتوقَّفُ العلمُ به على الشَّرع بل على الحِسِّ أو العادة أو العُرْف أو الخبر، ونحو ذلك. وعلى البيِّنة التي هي طريقُ الحكم بين __________ (1) (ع): "التنازع".

(4/1318)


المتنازعين، وهى كلُّ ما يُبيِّن له صدق أحدِهما يقينًا أو ظنًّا من إقرار أو شهادةِ أربعةِ عدول، أو ثلاثة في دعوى الإعسارِ بتَلَف مالِه على أصحِّ القولين، أو شاهدين أو شهادة رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو شهادة رجل واحد وهو الذي يُسَمِّيه بعضُهم الإخبار، ويُفَرَّق بينه وبين الشهادة بمجرَّدِ اللفظ، أو شهادة امرأة واحدة كالقابِلة والمُرْضعَة، أو شهادة النساء منفرداتٍ حيث لا رَجُلَ معهنَّ؛ كالحمَّامَات والأعراس على الصَّحيح الذي لا يجوزُ القولُ بغيره. أو شهادةُ الصبيان على الجِراح إذا لم يتفرَّقوا، أو شهادة الأربع من النِّسوة، أو المرأتين، أو القرائن الظاهرة عند الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة، وكتنازع الرجل وامرأته في ثيابهما وكتُب العلم، ونحو ذلك، كتنازع النَّجَّار والخيَّاط في القَدُوم والجَلَم (1)، والإبرة والذِّراعِ، وكتنازع الورَّاق والحدَّاد في الدَّواة والمسطرة والقَلَم، والمِطْرقة والكَلْبَتَيْنِ والسَّنْدَان (2)، ونحو ذلك مما يقضي فيه أكثرُ أهلِ العلم لكل واحد من المتنازعين بآلة صَنْعَتِهِ بمجرَّد دعواه. والشافعيُّ يقسم الخُفَّ بين الرَّجل والمرأة، ويقسِمُ الكتابَ الذي يُقرَأُ فيه (3) بينهما، وكذلك طيلسانه وعِمامته. أو الشاهد واليمين، أو اليمين المردودة، أو النُّكول المجرد، أو القَسَامة، أو الْتِعان الزوج ونكول الزوجة، أو شهادة أهل الذِّمَّة في الوصِيَّة في السفر، أو شهادة بعضهم على بعض، أو الوصف للُقَطَةٍ، __________ (1) الجَلَم: مقص يستعمل لجزّ الصوف، "اللسان": (12/ 102). (2) الكلبتان: آلة تكون مع الحدَّاد يأخذ بها الحديد المحمى، "اللسان": (1/ 726)، والسندان: هي الزُّبرة التي يضرب عليها الحداد الحديد. "اللسان": (15/ 91). (3) (ظ): "يقرأونه".

(4/1319)


أو شهادة الدار (1)، أو الحَبَل في ثُبوت زنا التي لا زوج لها، أو رائحة المسكر أو قيئه، أو وجود المسروق عند من ادُّعِيَ عليه سَرِقَتُهُ على أصحِّ القولين، أو وجوه (2) الآجُرِّ ومعاقد القُمُط وعقد الأَزَجَ (3) عند من يقول به، فهذه كلها داخلة في اسم البيِّنة، فإنها اسم لما يُبَيِّنُ الحقَّ ويُوضِّحُهُ. وقد أرشد الله سبحانه إليها في كتابه، حيث حكى عن شاهد يوسفَ اعتبارَه لقدِّ القميص، وحكى عن يعقوب وبنيه أخذَهُمُ البضائعَ التي باعوا بها بمجرَّدِ وجودِهم لها في رِحالِهم اعتمادًا على القرائن الظاهرة، بأنها وُهِبَتْ لهم ممن يمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيها، وهم لم يشاهدوا ذلك، ولا أُعْلِموا به، ولكن اكتفوا بمجرد القرينة الظاهرة. وكذلك سليمانُ بن داود حَكَمَ للمرأةِ بالوَلَد بقرينةِ رحْمَتِها له لما قال: "ايتُوْنِي بالسِّكِّيْنِ أَشُقَّهُ بَيْنَكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ هو ابْنُها، فَقَضَى به لها" وهذا من أحسن القرائن وألطفها. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بتعذيب أحد ابني الحُقَيق اليهودي ليَدُلَّهُ على كَنز حُيَيِّ بن أخطبَ وقد ادَّعى ذَهابَهُ، فقال: "هو أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالعَهْدُ قَرِيبٌ" (4)، فاستدلَّ بهذه القرينة الظاهرة على كَذِبهِ في دعواه، فأمر الزُّبيرَ أن يُعَذِّبَهُ حتى يُقِرَّ به، فإذا عذَّبَ الوالي المتَّهّمَ إذا ظهر له كَذِبُهُ ليُقِرَّ بالسرقة لم يخرجْ عن الشريعة، إذا ظهرت له رِيبة (5)، بل __________ (1) وهي: أن يتنازع رجلان دابة فيتركاها فمن دخلت داره فهي له. (2) (ق): "وجود". (3) تقدم شرح هذه الكلمات فيما سبق (3/ 1036). (4) تقدم الحديثان؛ حكومة سليمان: (ص / 12)، وتعذيب ابني الحقيق: (ص/ 1037). (5) (ع وق): "ريبته".

(4/1320)


ضَرْبُهُ له في هذه الحال من الشَّرع. وقد حَبَسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تُهْمَةٍ، وقد عزم عليٌّ والزُّبَيْر على تجريد المرأة التي معها الكتاب وتفتيشها، لما تَيَقَّنا أن الكتابَ معها (1). فإذا غلب على ظنِّ الحاكم أن الحال المسروق أو غيره في بيت المُدَّعَى عليه أو معه، فأمر بتفتيشِهِ حتى يظهرَ المالُ، لم يكن بذلك خارجًا عن الشرع. وقد قال النعمانُ بن بشير للمُدَّعِي على قوم سَرِقةَ مالٍ لهم: إن شئتمْ أن أضربَهم فإن ظهرَ متاعُكُمْ عندَهم، وإلا أخذتُ من ظهورِكم مثلَه، يعني: مثلَ ضَرْبِهِمْ، فقالوا: هذا حكمُك؟ قال: بل هذا حكمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). رواه أحمد (3). والرجوعُ إلى القرائن في الأحكام متَّفَقٌ عليه بين الفقهاء، بل بين المسلمين كلِّهم. وقد اعتمد الصحابةُ على القرائن في الحدود؛ فرجموا بالحَبَل وجَلَدوا في الخَمْرِ بالقَيْءِ والرَّائحة، وأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باستنكاه المُقِرِّ بالزِّنا (4) وهو اعتمادٌ على الرَّائحة. والأمة مُجْمِعَةٌ على جواز وطء الزوج للمرأة التي تُهديها إليها النساء ليلة العُرْس، ورجوعه إلى دلالة الحال أنها هي التي وقع عليها العقدُ وإن لم يَرَها ولم يشهدْ بتعيينها رجلان. __________ (1) تقدم تخريج هذه الأحاديث: (3/ 1037، 1089) من هذا الكتاب. (2) أخرجه أبو داود رقم (4382)، والنسائي: (8/ 66) من حديث النعمان بن بشير. (3) لم أر من عزاه إلى أحمد غير المصنف وقد ذكره هو في "الزاد" (5/ 52) ولم يعزه إلى أحمد، فلعله في غير المسند. (4) أخرجه مسلم رقم (1695) من حديث بريدة بن الحُصَيب -رضي الله عنه-. والاستنكاه: الشم.

(4/1321)


ومُجْمعةٌ على جواز أكل الهدية وإن كانت من (1) فاسق، أو كافر أو صبيٍّ (2)، ومن نازع في ذلك لم يُمكنْه العملُ بخلافِهِ، وإِنْ قاله بلسانه. ومجمعةٌ على جواز شراء ما بيد الرجل اعتمادًا على قرينة كونه في يده، وإن جازَ أن يكونَ مغصوبًا، وكذلك يجوزُ إنفاقُ النقدِ إذا أخبر بأنه صحيحٌ رجلٌ واحدُ، ولو كان ذِمِّيًّا، فالعملُ بالقرائن ضروري في الشرع والعقل والعُرْف (3). فائدة (4) الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم فالأولُ يتوقَّفُ على الشارع، والثاني يُعْلَم بالحِسِّ أو الخبر أو الشهادة (5). فالأول: الكتابُ والسُّنَّة ليس إلا، وكلُّ دليل سواهما فمستنبطٌ منهما. والثاني: مثل العلم بسبب الحكم وشروطه وموانعه، فدليلُ مشروعيته يرجعُ فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث، ودليلُ وقوعه يرجعُ فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأسباب والشُّروط والموانع. __________ (1) (ق وظ): "مع"، ومحتملة للأمرين في (ع). (2) (ظ): "فاسق أو كان صبي". (3) انظر ما تقدم في هذا الكتاب (3/ 1037 - 1089 - 1096)، و"الطرق الحكمية": (ص/5 - 15). (4) (ق): "قاعدة". (5) (ظ): "الزيادة".

(4/1322)


ومن أمثلة ذلك: بيع المُغَيَّب في الأرض من السَّلْجم والجَزَر والقُلْقاس وغيره؛ فدليل المشروعية أو منعها موقوفٌ على الشارع لا يُعلمُ إلا من جهته، ودليلُ سبب الحكم أو شروطه أو مانعه يرجعُ فيه إلى أَهْله. فإذا قال المانِعُ من الصِّحَّة: هذا غَرَرٌ؛ لأنه مستورٌ تحت الأرض، قيل: كون هذا غَرَزًا أو ليس بغَرَر، يرجعُ إلى الواقع لا يتوقَّفُ على الشرع، فإنه من الأمور العاديَّة المعلومة بالحِسِّ أو العادة، مثل كونه صحيحًا أو سقيمًا، وكبارًا أو صغارًا، ونحو ذلك، فلا يُسْتدلُّ على وقوع أسباب الحكم بالأدلَّة الشرعية، كما لا يُسْتَدلُّ على شرعيته بالأدلة الحسية، فكود الشيء متردِّدًا بين السَّلامة والعَطَب، وكونه مما يجهلُ عاقبتُهُ وتطوى مغَبَّتُه أو ليس كذلك يُعْلمُ بالحِسِّ أو العادة لا يتوقَّفُ على الشَّرع، ومن استدلَّ على ذلك بالشرع، فهو كمن استدلَّ على أن هذا الشرابَ مثلًا مسكرٌ بالشَّرع، وهذا ممتنعٌ بل دليلُ إسكاره الحِسُّ، ودليل (1) تحريمه الشرعُ. فتأمَّلْ هذه الفائدةَ ونفعَها، ولهذه القاعدة عبارةٌ أخرى وهي: أن دليلَ سببية الوصف غيرُ دليل ثبوته، فيستدلُّ على سببيته بالشرع، وعلى ثبوته بالحِسِّ أو العقل أو العادة، فهذا شيءٌ وذاك شيءٌ. فائدة الأمر المطلق، والجرحُ المُطلق، والعلمُ المُطلق، والترتيبُ المُطلق، والبيعُ المُطلق، والماء المُطلق، والملكُ المُطلق، غيرُ مُطلقِ الأمرِ، والجرح، والعلم ... إلى آخرها، والفرق بينهما من وجوه: __________ (1) من قوله: "هذا الشراب ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1323)


أحدها: أن الأمر المطلق لا ينقسمُ إلى أمر الندب وغيره، فلا يكون موردًا للتقسيم. ومطلق الأمر ينقسمُ إلى أمر إيجاب، وأمر نَدْب، فمطلقُ الأمر ينقسمُ، والأمر المطلقُ غيرُ منقسمٍ. الثاني: أن الأمرَ المطلقَ فردٌ من أفراد مطلق الأمر، ولا ينعكسُ. الثالث: أن نفيَ مطلَقِ الأمرِ يستلزمُ نفيَ الأمرِ المطلَق، دونَ العكس. الرابع: أن ثبوت مطلَقِ الأمرِ لا يستلزمُ ثبوتَ الأمرِ المطلَقِ، دون العكس. الخامس: أن الأمرَ المطلَقَ نوع لمطلق الأمر، ومطلَقُ الأمرِ (1) جنسٌ للأمر المطلق. السادس: أن الأمرَ المطلقَ مقيدٌ بالإطلاق لفظًا، مجرَّدٌ عن التقييد معنى، ومطلق الأمر مجرَّد عن التقييد لفظًا مستعملٌ في المقيَّد وغيره معنًى. السابع: أن الأمرَ المطلقَ لا يصلُحُ للمقيَّد، ومطلَقُ الأمرُ يصلُحُ للمطلَقِ والمُقيَّد. الثامن: أن الأمرَ المطلَقَ هو المُقَيَّدُ بقيْد (2) الإطلاق، فهو متضمِّن للإطلاق والتَّقييد، ومطلق الأمر غير مقيَّد، وإن كان بعض أفراده مقيَّدًا. التاسع: أن من بعضِ أمثلةِ هذه القاعدة: الإيمان المُطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق لا يطلقُ إلا على الكامل الكمالَ المأمور به، __________ (1) من قوله: "لا يستلزم ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ع): "تقييد".

(4/1324)


ومطلقُ الإيمان يطلقُ على النَّاقص والكامل، ولهذا نفى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ المُطلق عن الزَّاني وشارب الخمر والسَّارق ولم ينفِ عنه مطلق الإيمان، فلا (1) يدخل في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68]، ولا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1]، ولا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، إلى آخر الآيات، ويدخلُ في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وفي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقْتَل مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" (2)، وأمثال ذلك. ولهذا كان قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] نفيًا للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوه. منها: أنَّه أَمرهم أو أَذِن لهم أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقالُ له ذلك. ومنها: أنَّه قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} ولم يقل: قالَ المنافقونَ. ومنها: أن هؤلاء هم الجُفَاةُ الذين نَادوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات، ورفعوا أصواتَهم فوقَ صوته غلظة منهم وجفاءً لا نفاقًا وكفرًا. ومنها: أنه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، ولم ينْفِ دخولَ الإسلام في قلوبهم، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلامَ كما نفى الإيمان. ومنها: أنه قال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} __________ (1) (ظ): "لئلآ". (2) أخرجه البخاري رقم (111) من حديث علي -رضي الله عنه-.

(4/1325)


أي: لا ينْقِصكم، والمنافق لا طاعةَ له (1). ومنها: أنه قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} [الحجرات: 17]، فأثبت لهم إسلامًا ونهاهم أن يَمُنُّوا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكنْ إسلامًا صحيحًا لقال: لم تُسْلِموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] لما لم تطابقْ شهادتُهم اعتقادَهم. ومنها: أنه قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} ولو كانوا منافقينَ لما منَّ عليهم. ومنها: أنه قال: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} ولا ينافي هذا قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} فإنه نفي (2) الإيمان المطلق، ومنَّ عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمِّنٌ لمطلق الإيمان. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَسَم القَسْمَ قال له سعد: أعطيتَ فلانًا وتركتَ فلانًا وهو مؤمن، فقال: "أو مُسْلِمٌ" (3) ثلاث مرات، فأثبت له الإسلامَ (4) دونَ الإيمانِ. وفي الآية أسرارٌ بديعة ليس هذا موضِعَها. والمقصودُ: الفرقُ بين الإيمان المطلقِ ومطلق الإيمان. فالإيمانُ المُطلق يمنعُ دخولَ النار، ومطلق الإيمان يمنع الخلودَ فيها (5). العاشر: أنك إذا قلت: الأمرُ المطلقُ فقد أدخلت الَّلام على الأمرِ، وهي تُفيدُ العمومَ والشُّمولَ، ثم وصفته بعد ذلك بالإطلاق، __________ (1) (ق): "والمنافقون لا طاعة لهم". (2) (ع): "لا ينفي" وهو خطأ. (3) أخرجه البخاري رقم (27)، ومسلم رقم (150) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضى الله عنه-. (4) بعده في (ق): "ثلاث مرات". (5) وانظر "مجموع الفتاوى": (7/ 238 - 253).

(4/1326)


بمعنى: أنه لم يُقَيَّدْ بِقَيدٍ يُوجِبُ تخصيصَه من شرط أو صفة أو غيرهما، فهو عامٌّ في كلِّ فرد من الأفَراد التي هذا شأنُها. وأما مطلق الأمر؛ فالإضافة فيه ليست للعموم بل للتَّمييز، فهو قَدْرٌ مشتركٌ مطلقٌ (1) لا عامٌّ، فيصدق بفردٍ من أفراده، وعلى هذا فمطلقُ البيع جائزٌ والبيع المطلق ينقسمُ إلى جائز وغيره، والأمر المُطلق للوجوب، ومطلق الأمر ينقسمُ إلى الواجب والمندوب. والماء المطلقُ طَهور، ومطلقُ الماء ينقسم إلى طهور وغيره. والمُلك المطلق هو الذي يثبتُ للحُرِّ، ومطلقُ المُلك يُثبتُ للعبد. فإذا قيل: العبدُ هل يملكُ أم لا يملكُ؟ كان الصوابُ إثباتَ مطلق المُلك له دون الملك المُطلق. وإذا قيل: هل الفاسقُ مؤمنٌ أو غيرُ مؤمن؟ فهو على هذا التَّفصيل، والله تعالى أعلم. فبهذا التحقيق يزولُ الإشكال في مسألة المندوب: هل هو مأمورٌ به أم لا (2)؟ وفي مسألة الفاسق المِلِّي: هل هو مؤمنٌ أم لا؟ (3). فائدة (4) نصَّ الشافعيُّ على أن البيعَ لا ينعقدُ إلا بالإيجاب والقبول (5)، __________ (1) (ظ): "مشترك بين مطلق ... "!. (2) انظر "المسودة": (ص / 6). (3) انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية. (4) من هنا وقع في النسخ اضطراب في ترتيب الفوائد والفصول، فجرينا في -الأغلب- على التزام ما في (ظ) وهي الموافقة للنسخ المطبوعة، إلا في مواضع فقد أخذنا بترتيب (ع وق) أو أحدهما؛ لفائدة اقتضت ذلك، واكتفينا بهذا التنبيه عن ذكره في كل موضع. (5) لم أجده منصوصًا في الأم، فلعله في كتاب آخر، وقد نقله عنه عامة أصحابه.

(4/1327)


وخرَّج ابنُ سُرَيج (1) له قولًا إنه ينعقد بالمُعاطاة (2)، واختلف أصحابُه من أين خرَّجه؟. فقال بعضُهم: خرَّجه من قوله في الهَديْ إذا عطب قبل المحل، فإنَّ المُهدي ينحرُهُ، ويغمس نعلَه في دمِهِ، ويخلِّي بينه وبين المساكين، ولا يحتاجُ إلى لفظ بل القرينة كافية. واعترض على هذا التخريج بأن ذلك من باب الإباحات وهي مبنيَّةٌ على المُسامحات، يغْتفَرُ فيها ما لا يُغْتَفَر في غيرها، كتقديم الطعام للضَّيف، والبيع من باب المعاوضات التي تعقدُ على المشاحَّة، ويطلب الشارعُ فيها قطع النزاع والخصومة بكلَّ طريق. وقال بعضُهم: هو مخرَّج عن مسألة الغَسَّال والطبَّاخ ونحوهما، فإنه يستحقُّ الأجرة مع أنه لم يسم شيئًا. واعتُرِض على ذلك بأنه لا نصَّ للشافعيِّ فيها إلا عدم الاستحقاق، وإنما قال بعض أصحابه: يستحقُّ الأجرة. وقال بعضُهِم: هو مخرَّج من مسألة الخلع إذا قال لها: أنْتِ طالِقٌ إن أَعْطَيْتِني ألفًا، فوَضَعَتْها بينَ يديه، فإنها تطلقُ ويملك الألف، مع أنه لم يصدرْ منها لفظٌ يدلُّ على التمليك. وحُكِي أنْ الشيخ عز الدين ابن عبد السلام كان يرجِّحُ التَّخريجَ (3) من هاهنا. واعْتُرِض عليه بأن في الخلع شائبةَ التَّعلُّق (4) والمعاوضة، __________ (1) أبو العباس أحمد بن عمر ابن سُرَيْج من أئمة الشافعية ت (306). (2) انظر: "الوسيط": (3/ 8)، و "المجموع": (9/ 153). (3) (ع): "التحريم". (4) (ق): "التعليق".

(4/1328)


وأما البيع فمعاوضةٌ محضةٌ، ولهذا يصحُّ الخلعُ بالمجهول دون البيع. فائدة ما عُلق جوار البَدَل فيه على فقد المُبْدل، فإذا فُقِدا معًا فهل يجبُ عليه تحصيل المُبدل أو يتخير بينه وبين البَدَل؟. فيه خلافٌ، وعليه إذا وجبت عليه بنتُ مخاضٍ فعَدِمها فابنُ لَبُون. فإن عدمه فقولان: أحدهما: يتخيَّر بينهما في الشِّراء، والثاني: أنه يتعيَّنُ شراء الأصل. ومنها: أنه لو ملك مئتين من الإبل، وقلنا: يخرجُ أربعَ حِقاقٍ تعيينًا (1) فعدمها (2)، فهل يجوز أن يشتريَ خمس بنات لَبون؛ فيه خلافٌ. فائدة ثلاثةٌ من الصحابة جمعوا بين كونهم أنصارًا مهاجرين، ذكرهم ابن إسحاق في "سيرته" (3): أحدهم: ذَكوان بنُ عبد قيس من بني الخَزْرج، قال ابن إسحاق: كان خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان معه بمكة ثم هاجر منها إلى المدينة، وكان يقال له: مهاجري أنصاري شهد بدرًا (4)، وقتل بأُحُد شهيدًا. __________ (1) غير بيّنة، وهكذا استظهرت قراءتها. (2) من قوله: "فابن لبون" ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) انظر "سيرة ابن هشام" -على الترتيب-: (1/ ق 2/ 460، 464، 465). (4) "شهد بدرًا" سقطت من (ع).

(4/1329)


والعباس بن عبَادةَ بن نَضْلَةَ من بني الخَزْرج أيضًا، قال ابن إسحاق: كان فيمن خَرَج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة فأقام معه بها، قُتل يوم أُحُد شهيدًا. وعُقْبة بن وهب خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا من المدينة إلى مكة وكان يقالُ له: مهاجري أنصاري حليف لبني الخَزْرج. فائدة (1) إذا قال الحاكم المولَّى: "كنت حَكمْتُ بكذا" قُبِل قوله عند أحمد والشَّافعي والجمهور، وعند مالك لا يقبَل قولُه. قال الجمهور: هو يملكُ الإنشاء فيملكُ الإقرارَ كوليِّ المُجْبَرة إذا قال: زوَّجْتُها من فلان، قُبِلَ قولُه اتفاقًا. قال أصحابُ مالكٍ: الفرقُ يبنهما أن وَلِيَّ المجْبرة غيرُ متَّهَمْ عليها (2) لكمال شفقته وكمال رعايته لمصالح ابنته، بخلاف الحاكم. قال أصحاب القول: وكذلك نحن إنما نقبلُ قولَ الحاكم: حكمت، حيث تنتفي التُّهمة، فإما إذا كان تهمةٌ لم يُقْبَلْ. قال أصحاب مالك: هذا نفسُه في مظنَّة التُّهمةِ فوجب ردُّه، كما يُرَدُّ حكمُه لنفسه، وحكمه بعلمه، فمظنَّةُ التُّهمة كافيةٌ، وأما الأبُ فهو في مظنَّةِ كمال الشفقة، ورِعَاية مصلحة ابنته فافترقا، وهذا فقهٌ ظاهرٌ، ومأْخَذٌ حسنٌ، والإنصافُ أولى من غيره. __________ (1) (ق): "فصل". (2) (ظ): "بخلعها".

(4/1330)


فائدة إذا حَلَفَ على شيءٍ بالطَّلاقِ الثَّلاث أنه لا يفعلُه، ثم خالَعَ ولم يفعلهُ، ثم تزوَّجها: فقال الشيخ عزُّ الدين بنُ عبد السلام: الصحيحُ أنه لا يعودُ الحِنْث، فَذُكِر له اختيار الشيخ أبي إسحاق في كتاب الطلاق (1)، فقال: ذلك غلطٌ، قال: ومأخذُنا في هذه المسألة أنه لو عاد الحنثُ في النكاح الثاني مَلَك بالعقد الواحد أكثر من ثلاث تطليقات، بيانُه: أن النِّكاح يملكُ به ثلاثًا، والتنجيزُ كالتَّعليق، فإنه يملكُ بالعقد الطلاق المنجَزَ والمعلَّقَ ولا يزيدُ ذلك على ثلاث، فلو عاد الحنث لمَلَكَ ثلاثًا بالعقد، لو نجزها لوقعت ومَلَك المعلَّق بتقدير عَوْد الحنث، وهو محالٌ. فائدة ربما يظنُّ بعضُ النَّاس أن عدَّة المُتَوَفَّى عنها زوجُها (2) أربعةُ أشهر وعشر ليال، فإذا طَلَعَ فجرُ الليلة العاشرة انقضتِ العِدَّةُ. ووقع في "التنبيه" (3): "وإن كانت أَمَةً اعتدت بشهرينِ وخمس ليال". ويقوِّي هذا الوهمَ: حذفُ التاء من العشر، وإنما يحذفُ مع المؤنث نحو: سبع ليال وثمانية أيام. __________ (1) انظر: "البيان" (10/ 224) للعمراني. (2) من (ق). (3) (ص/ 200).

(4/1331)


وجوابُ هذا: أن المعدودَ إذا ذكِر مع عدده، فالأمرُ كما ذكر تحذف التاءُ مع المؤنث وتثبتُ مع المذكّر، وإذا ذكرَ العَدَدُ دون معدودِهِ المذكَّر جاز فيه الوجهان: حذف التاء وذكرها، حكاه الفَرَّاء وابنُ السِّكِّيت وغيرهما، وعلى هذا جاء قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتْبَعَهُ بسِتِّ مِنْ شَوَّال" (1)، ولم يقل بستَّة. وقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)} [طه: 103]، فهذه أيامٌ بدليل ما بعدها، وعلى هذا فلا تنقضي العِدَّةُ حتَّى تغيبَ شمسُ اليوم العاشر، وما وقع فى "التنبيه" فغلط، والله أعلم، ووقع له هذا فى باب العدد في باب الاستبراء (2). فائدة المُرْضعُ: من لها وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، والمُرْضِعَةُ: من ألقمتِ الثَّدْيَ للرَّضيع، وعلى هذا فقوله تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، أبلغُ من "مرْضع" في هذا المقام، فإن المرأةَ قد تذهلُ عن الرَّضيع إذا كان غيرَ مباشر للرَّضاعةِ، فإذا التقم الثَّدْيَ، واشتغلت برضاعِهِ (3) تذهل عنه إلا لأمرٍ هو أعظمُ عندها (4) من اشتغالها بالرَّضَاع. وتأمَّل السِّرَّ البديع فى عدوله -سبحانه- عن "كلِّ حامل" إلى قوله: "ذات حمل"، فإن العامل قد تطلق على المهيَّأةَ للحمل، __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. (2) (ص / 203). (3) (ق): "وأشغلته برضاعته". (4) (ق): "عليها".

(4/1332)


وعلى من هي في أول حملها ومبادئه، فإذا قيل: "ذات حَمل" (1)، لم يكنْ إلَّا لمن قد ظهر حملُها وصلح للوضع كاملًا أو سقطًا، كما (2) يقال: "ذات وَلَد"، فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرَّضاعة دونَ التَّهيُّؤِ لها، وأتى في الحامل بالنسب (3) الذي يحقِّقُ وجود الحَمْل وقبوله للوضع، والله أعلم. فائدة قال الشَّيخُ تاجُ الدين (4): سُئل الشَّيخ عز الدين بن عبد السَّلام عن معنى قول الفقهاء للمطلِّق الطَّلاقَ الرَّجعِيَّ: قلْ: "راجعتُ زوجتي إلى نكاحي" (5) ما معناه؟ وهي لم تخرجْ من النِّكاح، فإنَّها زوجة في جميع الأحكام؟. فقلت له: معناه أنَّها رجعتْ إلى النِّكاح الكامل الذي لم تكنْ فيه صائرةً إلى بينونة بانقضاء زمان، وبالطَّلاق صارت جارية (6) إلى بينونة بانقضاء العِدَّة، فقال: أحسنت. __________ (1) من قوله: "فإن الحامل ... " إلى هنا سقطت (ظ). (2) (ع): "فلا"!. (3) كذا في (ع وق)، وفي (ظ): "بالسبيل"، وفي المطبوعة: "بالسبب" وهو محتمل. (4) لعل المقصود به هو: عبد الرحمن بن إبراهيم الفَزَاري تاج الدين المعروف بالفِرْكاح، أحد فقهاء الشافعية، ومن أشهر تلاميذ العز ت (690)، له تصانيف، انظر: "طبقات الشَّافعية": (8/ 163 - 164). ومن تلاميذ العز -أيضًا- ممن يلقب "تاج الدين": عبد الوهاب بن خلف ابن بدر العَلامي، تاج الدين ابن بنت الأعز ت (665). انظر: "طبقات الشَّافعية": (8/ 318 - 323). (5) انظر: "المغني": (10/ 561)، و "روضة الطالبين": (8/ 215). (6) من (ق) وفي (ع): "صائرة".

(4/1333)


فائدة القاضي والمفتي مشتركان في أنَّ كلاًّ منهما يجبُ عليه إظهارُ حكم الشَّرع فْي الواقعة، ويتميَّزُ الحاكم بالإلزام به وإمضائه، فشروط الحاكم ترجِع إلى شروط الشَّاهد والمفتي والوالي، فهو مخبر عن حكم الشَّارع (ق / 321 أ). بعلمه، مقبولٌ بعدالته، منفذٌ بقدرته. فائدة (1) كان الشَّيخ عزُّ الدين يستشكِل مذهبَ الشَّافعي في أن حَجْر الصَّبِي يستمرُّ بمجرَّد (2) الفِسق والسَّفَهِ في الدين، وقال: قد اتَّفق النّاسُ على: أن المجهول يسمعُ الحاكمُ دعواه والدعوى عليه، فالغالب في الناس وجودًا عدمُ الرُّشد في الدين، فلو كان الصلاحُ في الدين شرطًا في فكِّ (3) الحجر، لزم أن لا يسمعَ دعوى المجهول ولا إقراره، وذلك خلاف الإجماع المستمرّ عليه العمل. فائدة اختلف النَّاس: هل السَّماءُ أشرفُ من الأرض، أم الأرض أشرف؟ فالأكثرون على الأوَّل، واحتجَّ من فضَّل الأرض: بأن الله أنشأ منها أنبياءَه وَرُسله وعبادَهُ المؤمنينَ، وبأنها مساكنهم ومحلُّهم أحياءً وأمواتًا، وبأنَّ الله سبحانه وتعالى لما أرادَ إظهار فضلِ آدَمَ للملائكة قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأظهرَ فضله عليهم __________ (1) قبله في (ق): "فرع": (2) (ق): "بوجود". (3) (ظ) والمطبوعات: "كل".

(4/1334)


بعلمه واستخلافه في الأرض، وبأن الله -سبحانه- وصفَها بأن جعلها محلَّ بركاته عمومًا وخصوصًا، فقال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10]، ووصف الشامَ بالبَرَكة في ستِّ آيات، ووصف بعضَها بأنَّها مقدَّسة، ففيها الأرضُ المباركة والمقدسة والوادي المقدَّس، وفيها بيته الحرام ومشاعرُ الحجِّ والمساجد التي هي بيوته سبحانه، والطور الذي كلَّم عليه كليمَه ونجيَّه. وإقسامه سبحانه بالأرض عمومًا وخصوصًا أكثر من إقسامه بالسماء، فإنَّه أقسَم بالطُور والبلدِ الأمينِ والتينِ والزيتونِ، ولما أقسم بالسَّماء أقسَمَ بالأرض معها، وبأنه سبحانه خَلَقَها قبل خلق السماء (1) كما دلَّت عليه سورة (حم السجدة) وبأنها مهبِطُ وحيه ومستقرُّ كتبه ورسله، ومحلُّ أحبِ الأعمال إليه، وهو الجهادُ والصَّدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومُغايظة أعدائه ونصر أوليائه، وليس في السماء من ذلك شيءٌ، وبأنَّ ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتَّقين أفضلُ من سكَّان السماء من الملائكة، كما هو مذهبُ أهل السنة، فمسكنُهم أشرف من مسكن الملائكة، وبأن ما أودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعادن والأقوات والحيوان والنبات مما هو من بركاتها لم يودَع في السَّماء مثلُه، وبأن الله سبحانه قال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} [الذاريات: 20] ثم قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22] فجعل الأرضَ محلَّ آياته والسماءَ محلَّ رزقه، فلو لم يكن فيها إلَّا بيتُهُ وبيتُ (2) خاتَم أنبيائه ورسله حيًا وميتًا، وبأن الأرض جعلها الله قرارًا وبساطًا ومهادًا وفراشًا، وكِفاتًا، ومادَّة للسَّاكن؛ لملابسه __________ (1) (ق وظ): "الأرض" والمثبت من (ع) وحاشية (ظ). (2) (ق): "فإن لم يكن فيها إلا بنية خاتم"!.

(4/1335)


وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلائه (1)، ولا سيَّما إذا أخرجتْ بَرَكَتَها وازَّيّنتْ وأنبتتْ من كلِّ زوجٍ بهيج. قال المفضلون للسَّماء: يكفي في فضلها (ظ/223 ب) أن ربَّ العالمين سبحانه (2) فيها. وأن عرشَهُ وكُرسِيَّهُ فيها، وأن الرفيقَ الأعلى الذي أُنعِم عليهم فيها، وأن دارَ كرامته فيها، وأنها مستقرُّ أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر، وأنها مُطَهَّرةٌ مُبرَّأَة من كلِّ شرٍّ (3) وخَبَثٍ ودَنَس يكونُ في الأرض، ولهذا لا تُفتح أبوابها للأرواح الخبيثة، ولا تلجُ ملكوتَها، وبأنها مسكنُ من لا يَعْصُون اللهَ طرفةَ عين، فليس فيها موضعُ أربعٌ أصابعَ إلا ومَلَكٌ ساجدٌ أو قائمٌ، وبأنها أشرفُ مادَّة من الأرض، وأوسعُ وأنْوَر وأصفى وأحسنُ خِلْقَةً وأعظمُ آياتٍ، وبأن الأرض محتاجةٌ في كمالها إليها، ولا تحتاجُ هي إلى الأرض، ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدَّمَة على الأرض، وجُمِعت وأُفْرِدت الأرض فلشرفها وفضلها أتي بها مجموعة، وأمَّا الأرض فلم تأْتِ إلَّا مفردة، وحيث أريد تعدادُها قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، وهذا القول هو الصواب، والله أعلم. فائدة فرق النِّكاح عشرون فرقة؛ الأولى: فرقة الطلاق. الثانية: الفسخ للعُسْرة بالمهر. الثالثة: الفسخ للعسرة عن النفقة. الرابعة: فرقة الإيلاء. الخامسة: فرقة الخُلع السادسة: تفريق الحَكمين. السابعة: فرقة العِنِّين. __________ (1) وتحتمل قراءتها: "آلاته". (2) (ع): "أن رب السماء". (3) (ق): "شِية".

(4/1336)


الثامنة: فرق اللعان. التاسعة: فرقة العتق تحت العبد. العاشرة: فرقة الغرور. الحادية عشرة: فرقة العيوب. الثَّانية عشرة: فرقة الرضاع. الثالثة عشرة: فرقة وطءِ الشبهة حيث تحرم الزوجة. الرابعة عشرة: فرقة إسلام أحد الزوجين. الخامسة عشرة: فرقة ارتداد أحدهما. السادسة عشرة: فرقة إسلام الزوج وعنده أختان أو أكثر من أربع، أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها. السابعة عشرة: فرقة السِّبَاء. الثامنة عشرة: فرقة ملك أحد الزوجين صاحبه. التاسعة عشرة: فرقة الجهل بسبق أحد النِّكاحين. العشرون: فرقة الموت. فهذه الفرقُ منها إلى المرأة وحدَها: فرقة الحُرِّيّة والغرور والعيب. ومنها إلى الزوج وحده: الطَّلاق والغرور والعيب أيضًا. ومنها ما للحاكم فيه مدخل وهو: فرقة العِنين والحَكَمَينْ والإيلاء والعجز عن النفقة والمهر ونِكاح الوَليَّين. ومنها ما لا يتوقَّف على أحد الزوجين ولا الحاكم وهو: اللِّعان والرِّدة والوطء بالشُّبهة وإسلام أحدهما وملك أحد الزوجين صاحِبهُ والرضاع. وهذه الفرق منها ما لا يتلافى (1) إلَّا بعد زوجِ وإصابة وهو: استيفاء الثلاث، ومنها مالا يتلافى أبدًا وهو: فرقة اللعان والرَّضاع والوطء بشُبهة، ومنها ما يتلافى (2) في العِدَّة خاصة وهي فرقة الرِّدَّة وإسلام أحد الزَّوجينِ (3) والطَلاق الرَّجعي، ومنها ما يتلافى (4) بعقد جديد وهي: فرقة الخلْع والإعسار بالمهر والنَّفقة وفرقة الإيلاء والعيوب __________ (1) (ع): "تلافى". (2) (ع وق): "ما لا يتلافى"، والتصويب من (ظ). (3) (ع وظ): "أحدهما". (4) (ع): "ما لا"!.

(4/1337)


والغرور، وكلها فسخ إلَّا الطلاقُ، وفرقة الإيلاء وفرقة الحكمين. فائدة (1) حيث أطلق الفقهاءُ لفظ الشَّكِّ فمرادُهم به التَّرَدُّدُ بين وجودِ الشيءِ وعدمِهِ، سواءٌ تساوى الاحتمالان أو ترجَّح أحدُهما، كقوله: إذا شَكَّ في نجاسة الماء أو طهارته، أو انتقاض الطهارة أو حصولها، (ظ/ 224 أ) أو فعل ركن في الصَّلاة، أو شك هل طلق واحدة أو أكثر، أو شك هل غرَبَتِ الشمسُ أم لا، ونحو ذلك = بنى على اليقين، ويدل على صحَّة قولهم قوله - صلى الله عليه وسلم - (2): "وَلْيَطْرَح الشكَّ وَلْيَبْن عَلَىْ مَا اسْتَيْقنَ" (3). وقال أهل اللُّغة: الشَّك خلاف اليقين (4)، وهذا ينتقِض بصُوَر: منها: أن الإمامَ متى تردَّدَ في عدد الرَّكَعَات بنى على الأغلب من الاحتمالين. ومنها: أنَّه إذا شك في الأواني بني على الأغلب في ظنِّهْ عند من يُجَوِّز له التَّحَري. ومنها: أنه إذا شك في القِبْلة بني على غالب ظنِّه في الجهات. ومنها: أنَّه إذا شكَّ في دخول وقت الصَّلاة، جاز له أن يصَلِّيَ إذا غلب على ظنه دخولُ الوقت. __________ (1) (ق): "قاعدة". وانظر ما تقدم: (3/ 1276 - 1283). (2) (ق): "صحتهم قول النبي ... ". (3) أخرجه مسلم رقم (571) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (4) انظر: "المصباح المنير": (ص/ 122).

(4/1338)


ومنها: أنَّه إذا (1) غلبَ على ظنِّه عدالةُ الراوي والشاهد عمل بها ولم يقفْ على اليقين. ومنها: إذا شكَّ في المال هل هو نِصَابٌ أم لا، وغلب على ظنّه أنَّه نصاب فإنَّه يزكَيه، كما لو أخبره خارصٌ واحدٌ بأنه نِصابٌ. ومنها: لو وَجَد في بيته طعامًا وغلب على ظنّه أنَّه أهدي له، جاز له الأكل وإن لم يَتيقَّن، كما لو أخبره به ولده أو امرأتُه. ومنها: أنَّه لو شكَّ في مال زيد هل هو (2) حلال وحرامٌ؟ وغلب على ظنه أنَّه حرام، فإنَّه لا يجوز له الأكلُ منه، ونظائر ذلك كثيرةٌ جدًّا، فما ذكر من القاعدة ليس بمطَّرِد. قاعدة (3) إذا تزاحم حقَّان في محلٍّ، أحدهما متعلِّقٌ بذمَّة مَن هو عليه، والآخَرُ متعلِّق بعين من هي (4) له، قُدِّم الحق المتعلق (ق/321 ب) بالعين على الآخر؛ لأنَّه يفوتُ بفواتِها بخلاف الحق الآخر. وعلى ذلك مسائل: أحدها: إذا جنى العبدُ المرهون؛ فَدَمُ المجني عليه -بموجب جِنايَته- على المرْتَهنِ، لاختصاص حقِّه بالعين بخلاف المُرْتَهِنِ. الثانية: إذا جنى عبدُ المَدين، فَدَم المجني عليه على الغرماء كذلك. __________ (1) من قوله: "شك في دخول ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "في مالٍ أهو". (3) (ظ): "فائدة". (4) (ع): "متعلق بعين هي ... "، و (ق): "متعلق هي".

(4/1339)


الثَّالثة: إذا تَشَاحَّ البائعُ والمشتري في المبتدي بالتّسليم، فإن كانا عَيْنَينِ، جعل بينهما عدْل، وإن كان الثمنُ في الذِّمة، أجبر البائع على تسليم المَبيع أولًا، لتعلُّق حقِّه بعين المَبيع، بخلاف المشتري فإن حقَّه متعلِّق بذمة البائع. قاعدة (1). فرقٌ بين ما يثبتُ ضِمْنًا وما يثبتُ أصالةً: فيُغْتفرُ (2) في الثّبُوت الضِّمني ما لا يُغفرُ في (3) الأصلي، وعلى ذلك مسائل: منها: لو أقرَّ المريضُ بمال لوارثٍ لم يقبلْ إقرارُه، ولو أقر بوارث قُبِلَ إقرارُه، واستحقَّ ذلك المالَ وغيره. ومنها: لو اشترى منه سلعة فخرجت مستحقَّة، رجع عليه بدرك المبيع، وقد تضمَّن شراؤه منه إقرارَه له بالملك، ولو (4) أقرَّ له بالمُلك صريحًا ثم اشتراها فخرجت مستحقَّة، لا يرجع عليه بالدرك. ومنها: لو قال الكافرُ لمسلم: أعتِقْ عبدَكَ المسلمَ عنّي وعلى ثَمَنُه، فإنَّه يصِحُّ في أحد الوجهين، ونظيره: إذا أعتق الكافر الموسرُ شِرْكًا له في عبد مسلم، عَتَق عليه جميعُه في أحد الوجهين -أيضًا-، ولو قال لمسلم: بعني عبدَكَ المسلمَ حتَّى أُعْتِقَهُ، لم يَصِحَّ بيعُه. قاعدة ما تُبِيحُهُ الضَّرورةُ يجوز الاجتهادُ فيه حالَ الاشتباهِ، وما لا تبيحُهُ __________ (1) (ق): "فائدة" و (ظ) محتملة. (2) يمكن أن تُقرأ: "فيُفْتقر" في الموضعين. (3) (ق): "إلي". (4) (ق وظ): "وقد".

(4/1340)


الضَّرورةُ فلا. وعلى هذا مسائل: أحدها: إذا اشتبهت أختُه بأجنبية، لم يَجُزْ له الاجتهادُ في أحدهما. الثَّانية: طلق إحدى امرأتيه واشتبهت عليه، لم يَجُزْ له أن يجتهد في إحداهما. الثَّالثة: اشتبه عليه الطَّاهر بالنَّجس، لم يَحزْ (1) له أن يتحرَّى في أحدهما. وهذا بخلاف ما لو اشتبهت ميتَةٌ بمذكَّاة، أو طاهر بنَجس للشُّرب عند الضَّرورة، أو اشتبهت جهة القِبلة، فإنَّه يتحرَّى في ذلكَ كلِّه؛ لأن الضَّرورة تُبيحُهُ (2)، وتُبيحُ تركَ القِبلة في حالة المسَابقة (3) وغيرها. قاعدة ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدَلِه ولم يبقَ معتدًّا به بحال، فإن وجودَ المبدَل يعد الشروع فيه كوجوده قبلَ الشروع فيه. وما لم يَبطل حكمُهُ رأسًا بل بقي معتبرًا في الجملة لم يُبْطِلْهُ وجود المبدل بعد الشُّروع فيه، وعلى هذا مسائل: أحدها: المعتدَّةُ بالأشهر إذا صارت من ذوات القُرء، قبل انقضاء عِدَّتِها، انتقلتْ إليها لبطلان اعتبار الأشهر (ق/ 322 أ) حالَ الحيْض. الثانية: المتيمِّم إذا قدَرَ على الماء بعد التَّيَمُّم، سواء شَرَعَ في الصَّلاة أو لم يشرعْ فيها بَطَلَ تَيَمُّمه. __________ (1) (ظ): "يجب". (2) ليست في (ع). (3) أي: المبارزة بالسيوف، وتقدمت هذه المسائل (3/ 1255 - فما بعدها).

(4/1341)


الثالثة (1): إذا شرع في صوم الكفارة ثم قَدَرَ على الإطعام: أو العِتق، لم يلزمْهُ الانتقال عنه إليهما؛ لأنَّ الصومَ لم يبطل اعتبارُه بالقُدْرة على الطَّعام، بل هو معتبرٌ في كونه عبادة وقُرْبَة، وقد شرعَ فيه كذلك، ولم يبطلْ تقرُّبُهُ وتعبُّدُهُ به. الرابعة: المتمتِّعُ إذا شَرع في الصَّوم ثم قَدَر على الهَدي، لم يلزمْهُ الانتقالُ لذلك. وفرقٌ ثانٍ: أن الاعتبار في الكَفَّارات بحالِ وجوبها على المُكَلَّف لأنَّه حال استقرار الواجب في ذمَّته، فالواجب عليه أداؤها كما وجبت في ذمَّته، ولهذا لو قدر على الطَّعام بعد الحِنث وقل الصوم لم يلزمْهُ الانتقالُ إليه كذلك، بخلافه العِدَّة والصَّلاة فإن الواجبَ عليه أداءُ الصَّلاة على أكمل الأحوال، وإنما أبيحَ له تركُ ذلك للضَّرورة، وما: أُبيحَ بشرط الضَّرورة فهو عَدَمٌ عند عدمِها، وكذلك العِدَّة سواء. قاعدة المُكلَّفُ بالنِّسبة إلى القُدرة في الشيء المأمور به، والآلات المأمور بمباشرتها من البَدَن؛ له أربعة أحوال: أحدها: قدرتُه بهما، فحكمُه ظاهرٌ، كالصحيح القادر على الماء، والحُرِّ القادر على الرَّقَبَة الكاملة. الثانية: عجزُهُ عنهما، كالمريض العادم للماء، والرَّقيق العادم للرَّقَبَة، فحكمُه أيضًا ظاهرٌ. __________ (1) من قوله: "المتيمم إذا ... " إلى هنا ساقط من (ق). فسقطت المسألة الثانية، فلذا جعل الرابعة: الثالثة.

(4/1342)


الثَّالثة: قدرتُه ببدنِهِ وعجزه عن المأمور به، كالصحيح العادم للماء، والحُرِّ العاجز عن الرَّقبة في الكفَّارة، فحكمهُ الانتقالُ إلى بدله إن كان له بدلٌ يقدر عليه، كالتَّيَمُّم أو الصِّيام في الكفارة، ونحو ذلك، فإن لم يكنْ له بَدَلٌ سقط عنه وجوبُه، كالعُريان العاجز عن سَتر عورته في الصَّلاة فإنَّه يُصَلِّي ولا يُعيدُ. الرابعة: عجزه ببدنه وقدرته على المأمور به أو بَدَله. فهو موردُ الإشكال في هذه الأقسام وله صُوَر: أحدها: المعْضُوبُ الذي لا يستمسكُ على الرَّاحلة وله مال يقدرُ أن يُحَجَّ به عنه، فالصحيح وجوب الحجِّ عليه بماله لقدرته على المأمور به، كان عَجَز عن مباشرته هو بنفسه، وهذا قول الأكثرين. ونظيرهُ (1): القادرُ على الجهاد مسألة العاجزُ ببَدَنه، يجبُ عليه الجهادُ بماله في أصحِّ قوله العلماء، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد. الصورة الثَّالثة: الشَّيخُ الكبيرُ العاجز عن الصَّوم القادرُ على الإطعام، فهذا يجبُ عليه الإطعام عن كل يومٍ مسكينًا في أصَحِّ أقوال العلماء. الرابعة: المريض العاجز عن استعمال الماء، فهذا حكمُه حكمُ العادم، وينتقل إلى بَدَله، كالشيخ العاجز عن الصيام ينتقلُ إلى الإطعام. وضابط هذا: أن (ق / 322 ب) المعجوزَ عنه في ذلك كلِّه إن كان له بَدَلٌ انتقل إلى بَدَله، وإن لم يكن له بَدَلٌ سقط عنه وجوبُهُ. فإذا تَمهَّدت هذه القاعدة ففرقٌ (2) بين العَجْز ببعض البَدَن والعجز __________ (1) وهذه هي الصورة الثَّانية. (2) (ق): "فيفرق".

(4/1343)


عن بعض الواجب، فليسا سواءً، بل متى عَجَز ببعض البَدَن لم يسقطْ عنه حكم البعض الآخر، وعلى هذا إذا كان بعض بَدَنِهِ جريحًا وبعضُهُ صحيحًا، غسل الصحيحَ وتَيَمَّمَ للجريح على المذهب الصَّحيح، كما دلَّ عليه حديث الجريح (1). ونظيره: إذا مَلَكَ المعتَقُ بعضَه (2) ما يَتَمَكَّنُ به من عتق واجب، لزمه الإعتاقُ. ونظيره: إذا (ظ / 225 أ) ذهب بعض أعضاء وضوئه وجب عليه غسْلُ الباقي، وأمَّا إذا عَجَزَ عن بعض الواجب، فهذا معتركُ الإشكال حيث يلزمهُ به مَرَّةً ولا يلزمه به مرَّة، ويخرج الخلافُ مرَّة، فمن قَدَرَ على إمساك بعض اليوم دون إتمامه؛ أيلْزَمْهُ اتفاقًا، ومن قدر (3) على بعض مناسك الحَجَّ وعجَزَ عن بعضها، لزمه فعل ما يقدرُ عليه، ويُستنابُ عنه فيما عَجَزَ عنه، ولو: قدر على بعض رقبة، وعَجَزَ عن كاملةٍ؛ أيلزمْه عتقُ البعض، ولو قدر على بعض ما يَكفيه لوضوئه أو غسله، لزمه استعمالُه في الغسلِ، وفي الوضوء وجهاد؛ أحدهما: يلزمُهُ، والثَّاني: له أن ينتقلَ إلى التَّيمُّم، ولا يستعمل الماء. وضابطُ الباب: أن ما لم يكنْ جزؤُه عبادةً مشروعة لا يلزمُهُ الإتيان به، كإمساك بعض اليوم، وما كان جزؤُه عبادة مشروعةً لزمه الإتيان به (4)، كتطهير الجُنُب بعض أعضائه، فإنَّه يشرعُ كما عند النوم والأكل والمعاودة يشرع له الوضوءُ تخفيفًا للجنَابَة. وعلى هذا جَوَّز الإمام أحمدُ للجُنُب أن يتوضَّأَ ويلبثَ في المسجد، __________ (1) هو صاحب الشجة، أخرج حديثه أبو داود رقم (336)، والدارقطني (1/ 190)، وفيه ضعف. (2) كذا في الأصول، ولعل صوابها: "المعتِق بعض". (3) (ع): "عجز"! وهو سبق قلم. (4) (ع): "وما كان عبادة مشروعة لم يلزمه ... " وهو سبق قلم أيضًا.

(4/1344)


كما كان الصَّحابةُ يفعلونه. وإذا ثبت تخفيفُ الحَدَث الأكبر في بعض البَدَن فكذلك الأصغر (1). يبقى أن يقالَ: فهذا ينتقض عليكم بالقُدْرة على عتق بعض العبد، فإنَّه مشروعٌ، ومع هذا فلا يُلزِمُونَهُ به؟. قيل: الفرقُ بينه وبين القدرة على بعض ماء الطَّهارة أن الله سبحانه إنما نَقَل المُكلَّفَ إلى البَدَل عند عدم ما يسمَّى ماء، فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وبعض ماء الطهارة ماء فلا يتيَمَّم مع وجوده. وأمَّا في العتق فإن الله سبحانه نقله إلى الإطعام والصيام، عند عدم استطاعته (2) إعتاقَ الرَّقبة، فقال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}، ولا رَيْبَ أن المعنى: فمن لم يستطعْ تحرير رقبة (3)، ولا يحتمل الكلامُ غيرَ هذا ألبَتَّةَ، والقادرُ على بعض الرقبة غير مستطيع تحريرَ رقبة -والله أعلم- فهذا ما ظهر لي في هذه القاعدة. فائدة من وجب عليه شيءٌ وأمِر بإنشائه فامتنعَ، فهل يفعلُهُ الحاكم عنه أو يُجبرُهُ عليه؟ فيه خلافٌ، مأخذُهُ أن الحاكمَ نُصِبَ نائبًا ووكيلًا من جهة الشَّارع لصاحب الحق، حتَّى يستوفيَهُ له، أو مجبِرًا ومُلْزِمًا لمن هو عليه حتَّى يؤَدِّيَهُ. __________ (1) (ق): "الوضوء". (2) (ق): "عند انقطاعه". (3) (ق) "ولا ريب أن من قدر على بعض رقبة لم يستطع ... ".

(4/1345)


فإذا اجتمع الأمران في حكم، فهل يغلَّبُ وصف الإلزام والإجبار أو وصف الوكالة والنيابة؟ هذا سرُّ المسألة، وعلى هذا مسائل: أحدها: المُوْلي إذا امتنع من الفَيْئَة والطَّلاق فهل يطلِّق الحاكمُ عليه أو يُجبرُه على الطلاق؟ فيه خلاف. الثانية: إذا امتنع من الإنفاق على رَقيقه أو بهيمتِهِ لإعساره، كلِّف بيعَ البعض للإنفاق على الباقي، فإذا امتنعَ من البيع فهل يجبَرُ عليه أو يبيع الحاكم عليه؟ فيه خلافٌ أيضًا. الثالثة: إذا اشترى عبدًا بشرط العتق وامتنع من عِتقه، وقلنا: لا يُخَيَّر البائع بين الفسخ والإمضاء، فهل يُجْبَر علىْ العِتق أو يُعتِق الحاكم عليه؟ فيه خلاف. فائدة الشافعيُّ يُبالغُ في ردِّ الاستحسان (1)، وقد قال به في مسائل (2): الأولى: أنَّه استحسن في المتعة في حق الغَنيِّ أن يكون خادمًا، وفي حقِّ الفقير مقنعة، وفي المتوسط ثلاثين درهمًا. الثانية: أنَّه استحسنَ التَّحليفَ بالمصحف. الثالثة: أنَّه استحسن في خيار الشُّفعة أن تكون ثلاثةَ أيَّام. الرابعة: أنَّه نصَّ في أحد أقواله إنَّه يبدأ في النِّضال بمخرج السبق __________ (1) انظر كتاب: إبطال الاستحسان من "الأم": (7/ 267 - 277)، و "قاعدة في الاستحسان": (ص / 49 - 51) لابن تيمية. (2) انظر: "الأم": (3/ 231، 6/ 133، 139، 7/ 362 - 364)، و "البحر المحيط": (6/ 95 - 97) للزركشي.

(4/1346)


اتباعًا لعادة الرُّماة: قال أصحابه: وهو استحسان. فائدة (1) من أصول مالك: اتِّباعُ عمل أهل المدينة -وإن خالفَ الحديث- وسدُّ الذَّرائع، وإبطالُ الحِيَلِ، ومراعاةُ القُصود والنِّيَّات في العقود، واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدَّعاوى والحُكومات، والقولُ بالمصالح، والسِّياسة الشَّرعية. ومن أصول أبي حنيفة: الاستحسان، وتقديمُ القِياس، وتركُ القول بالمفهوم، ونسخُ الخاصَ المتقدم بالعامِّ المُتَأَخِّر، والقولُ بالحِيَل. ومن أصول الشافعيِّ: "مراعاةُ الألفاظ، والوقوفُ معها، وتقديم الحديث على غيره. ومن أصول أحمد: الأخذُ بالحديث ما وَجَدَ إليه سبيلًا، فإن تعذَّرَ فقولُ الصحابي ما لم يُخالفْ، فإن اختلف الصحابة أخذ من أقوالهم بأقواها دليلًا، وكثيرًا ما يختلفُ قولهُ عند اختلاف أقوال الصَّحابة، فإن تعَذَّر عليه ذلك كلُّه أخذ بالقياس عند الضَّرورة، وهذا قريبٌ من أصل الشَّافعي بل هما عليه متَّفِقان. فائدة شرط العمل بالظَّنِّيات التَّرجيحُ عند التعارض، فإن وقع التَّساوي ففيه قولان: التَّخيير والتوقف. فإن كان طريق العمل التَّقليد فهل يشترطُ التَّرجيحُ في أعيان من يُقَلِّده؟ فيه وجهان. فإن كان طريقَ العمل اليقينُ، فلا مدخلَ للتَّرجيح هناك، إذ __________ (1) (ق): "فوائد".

(4/1347)


التَّرجيحُ إنما يكون بين متعارضينِ، ولا تعارضُ في اليَقينيَّات. وهل تسمعُ (1) المعارضة فيها؟ فيه لأهل الجَدَل قولان: منهم من يسمعها (2)، ومنهم من لم يسمَعْها، والحقُّ التفصيل: أنَّها إن كانت معارضة في مقدمة قطعيَّة لم تُسمعْ بحال، وإن كانت معارضة في غيرها سمعت. فائدة الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة أقسام: أحدها: حقوق المال كالزَّكاة، فهذا يثبتُ في الذمة بعد التَّمكُّن من أدائه، فلو عَجَزَ عنه بعد ذلك لم يسقطْ، ولا يثبتُ في الذِّمة إذا عَجَزَ عنه وقتَ الوجوب، وأُلْحِق بهذا زكاة الفطر. القسم الثاني: ما يجبُ بسبب الكفَّارة، ككفارة الأيْمان والظِّهار والوِطء في رمضان وكفارة القتل، فإذا عَجَزَ عنها وقتَ انعقاد أسبابها، ففي ثُبوتها في ذمَّته إلى الميسرَةِ أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشَّافعي وأحمد. القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتْلَف، كجزاء الصيدْ، وألحقَ به فدية الحَلْق (3) والطيب واللِّباس في الإحرام، فإذا عَجَز عنه وقتَ وجوبه ثبتَ في ذِمَّته تغليبًا لمعنى الغرامة وجزاء المتلف، وهذا في الصيد ظاهرٌ، وأما في الطِّيب وبابه فليس كذلك؛ لأنه تَرَفُّهٌ لا __________ (1) (ق): "تعارض". (2) (ع): "من من سمعها ... "!. (3) (ظ): "الأذى".

(4/1348)


إتلافٌ، إذ الشَّعَر والظُّفُرُ ليسا بمتلَفَيْن، ولم تجب الفديةُ في إزالتهما في مقابلة الإتلاف؛ لأنَّها لو وجبتْ لكونها إتلافًا لتقيّدت بالقيمة، ولا قيمةَ لهما (1) وإنما هي من باب التَّرفُّهِ المحض كتغطية الرأس واللُّبس، فأي إتلاف هاهنا؟! وعلى هذا فالرَّاجح من الأقوال أن الفدية في ذلك لا تجبُ مع النسيان والجهل. القسم الرابع: دم النُّسُك كالمتعة والقران، فهذه إذا عَجَز عنها وجبَ عليه بدلُها من الصيام، فإن عَجَزَ عنها ترتَّبَ في ذمَّته أحدُهُما، فمتى قَدَرَ عليه لَزِمَه، وهل الاعتبارُ بحال الوجوب أو بأغلظ الأحوال؟ فيه خلاف. وأمَّا حقوق الآدميين؛ فإنَّه لا تسقطُ بالعجْز عنها، لكن إن كان عجزُه بتفريط منه في أدائها طُولبَ بها في الآخرة، وأُخِذَ لصاحبها من حسناته. وإن كان عَجْزهُ بغير تفريط كمن احترق ماله، أو غرق، أو كان الإتلاف خطأ مع عجزه عن ضمانِهِ، ففي إشغال ذمَّتِهِ به وأخذ أصحابها من حسناته نظرٌ، ولم أقفْ على كلام شافٍ للنَّاس في ذلك، والله أعلم. فائدة قولهم: "من مَلَكَ الإنشاءَ لعقدِ مَلَك الإقرارَ به، ومن عَجَزَ عن إنشائه عَجَزَ عن الإقرار به"، غير مطَّرِدٍ ولا منعكس. فأما اختلال طَرْدِه ففي (2) مسائل: __________ (1) (ظ): "لها"، وسقطت من (ق). (2) (ع): "ففيه".

(4/1349)


أحدها: ولىُّ المرأة غير المُجبرة يملكُ إنشاءَ العقد عليها دون الإقرار به. الثانية: الوكيلُ في الشِّراء إذا ادَّعى أنَّه اشترى ما وكِّل فيه وأنكره الموكِلُ، لم يقبلْ إقراره عليه مع ملكه لإنشائه (1). الثالثة: الوكيلُ بالبيع إذا أقرَّ به، وأنكر المُوكِلُ، فالقولُ قولٌ الموكِل. وأما اختلالُ عكسه ففي مسائل: أحدها: أن العاقل لا يملك (2) إنشاءَ إرقاق نفسه، ولو أقرَّ به قُبِلَ، فهذا عاجزٌ عن الإنشاء قادرٌ على الإقرار. الثَّانية: المرأةُ عاجزة عن إنشاء النكاح، ولو أقرَّتْ به قبِل إقرارُها. الثَّالثة: لو أقرَّ العبدُ المرهون (3) بعد الحَجر عليه بِدَيْن، قبِلَ إقرارُه ولم يملكِ الإنشاء. الرابعة: لو أقر المريضُ لأجنبي أنَّه كان وهبه في الصِّحَّة ما يزيد على الثلثِ، قُبِلَ إقرارهُ في أصحِّ الرِّوايتين ولم يملكِ الإنشاءَ. الخامسة: الحاكم إذا قال بعد العزل: كنتُ حكمتُ في ولايتي لفلان عن فلان بكذا، قُبلَ قولُهُ وحده، وإن لم يملكِ الإنشاءَ، وكذلك لو قال القاضي المعزول عن مالٍ في يد أمين: أُقِرُّ أنَّه تسلَّمَهُ منه هو لفلان، وقال الأمين: بل هو لفلان، قُبِلَ قول القاضي دون الأمين. __________ (1) (ق): "الإنشاء يه". (2) (ع): "يحمل". (3) (ق وظ): "المأذون".

(4/1350)


وهذه المسألةُ مما يُعَايا بها وهي: رجلان في يد أحدهما مالٌ وهو أمين عليه، والآخرُ ليس الحال في يده، ولا له عليه حكْمٌ، ولا هو أمين عليه، يقبل إقرار هذا الثاني بالمال دون الأمين. * * *

(4/1351)


فائدة (1) من كان يعلمُ أن الموت مدركُه ... والقبرُ مسكنه والبعث مخرجهُ وأنَّه بين جناتٍ ستُبهِجُهُ ... يومَ القيامةِ أو نار ستنضِجُهُ فكلُّ شيءٍ سوى التَّقوى به سَمِجٌ ... وما أقام عليه منه أسمجُهُ ترى الذي اتَّخذ الدُّنيا له وطنًا ... لم يدرِ أن المنايا سوف تزعِجُهُ (2) * * * تظلُّ على أكتاف أبطالها القنا ... وهابَتْكَ في أغمادِهِنَّ المناصلُ تحَامَى الرَّزَايا كُلَّ خُفِّ ومَنسمٍ ... وتَلْقَى رَدَاهُنَّ الذُّرَى والكَاهِلُ وترجِعُ أعقابُ الرِّماح سَلِيمة ... وقد حُطِّمتْ في الدَّارِعِينَ العَواملُ فإن كنتَ تبغي العَيْشَ فابغ توسُّطًا ... فعند التناهي يقصُرُ المتطاوِلُ (3) * * ** __________ (1) (ق): "شعر". (2) الآبيات لأبي العلاء المعرِّي في "ديوان سقط الزند": (2/ 549). (3) "ديوان سقط الزند": (2/ 551 - 552).

(4/1352)


من فتاوى أبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني (1) * هل للذِّمِّي أن يُصلِّي بإذن المسلم؟ أجاب أبو الخطَّاب: لا يجوز له، أذِنَ المسلم أو لم يأذَن؛ لأنَّه حقٌّ لله تعالى. أجاب ابنُ عَقِيل مثلَه. * هل يصحُّ أن يَقِفَ على المسجد ستورًا؟ أجاب أبو الخطَّاب: يصحُّ وقفُها على المسجد، ويبيعها وتنفَقُ أثمانها على عمارته، ولا تُسْتَر حيطانُه (2) بخلاف الكعبة، فإنَّها خصَّت بذلك كما خُصَّت بالطواف حولَها. وأجاب ابنُ عقيل: لا ينعقدُ هذا الوقف رأسًا، لأنَّه بدعةٌ، وهو على حكم الميراث. * إذا وجد لُقَطَة فخاف إذا عَرَّفها أن ينتَزِعَها ظالم؟ أجاب أبو الخطَّاب: لا يكونُ معذورًا في ترك التعريف ولا يملكها إلَّا بعد تعريفها. أجاب ابنُ عَقيل: التَّعريفُ يُرادُ لحِفْظِها على مالكها، وهذا التَّعريف يُفضي إلى تضييعها، فيدعُها أبدًا في يده، إلى أن يجدَ فُسْحة وأمنًا، فَيعَرِّفها حولًا. __________ (1) هذا العنوان تأخر في (ق) إلى ما قبل مسألة: "إذا رأى إنسانًا يغرق ... ". وتكررت كلمة "فتاوى" قبل كل عَلَم. (2) (ق): "جدرانه".

(4/1353)


* إذا وجد في البَرِّيَّة شاةً .. ؟ أَخَدها فذبحها ووجَبَ عليه ضمانُها إذا جاء مالكُها، وفي المصر يُعَرِّفُها؛ لأن الظاهر أنَّها خرجتْ من دار أهل المحلَّة بحلاف البَرِّيَّة، هذا جواب أبي الخطاب. وجواب ابنِ عقيل: لا يجوز له ذبحُها، وإن ذبحَها أثِمَ، ولَزِمَهُ ضمان قيمتها. * إذا صادر السلطانُ إنسانًا وعنده وديعةٌ هل يضمنُ؟ أجاب أبو الخطاب: عليه الإثمُ والضَّمان إذا فرَّط فيها، فإن تحقَّقَ أنَّه يتأذَّى في نفسه كان عليه الضَّمان من غير إثم، فإن استدعى السلطانُ المُودِعَ إذا لم يَدُلَّه عليها، وأُخِذت بغير اختيار فلا ضمان عليه. جوابُ ابن عَقِيل: إذا غلب على ظنِّه أنَّه يأخذها منه بإقراره، كان ذلك دلالة عليها وعليه الضَّمان. * إذا كان عنده وديعةٌ فاعترض السلطان لها ظلمًا؟ أجاب أبو الخطّاب: إن حَلَفَ وروَّى عنها وتأوَّلَ كان مثابًا، مثل (1) أن يحلفَ إنَّه لم يودعْني في المسجد الحرام، أو بموضع لم يَسْلكاه، أو في زمان كرمضان ونحوه، فإن لم يحلفْ وأخذها السلطانُ من حِرْزهِ لم يضمِنْ، فإن طلب منه أن يحلفَ بالطَّلاق فدفعها إليه أو دلَّه على مكانها ضمنَ. __________ (1) (ق): "وورَّى عنها كان مثل ... "!.

(4/1354)


وأجابَ ابنُ عقيل: لا يسقطُ الضَّمان بخوف من وقوع الطلاق، بل يضمنُ دفعها إليه؛ لأنَّه افتدى بها عن ضَررِهِ بوقوع الطلاق. * إذا كان كلبُ المسلمِ قد علَّمه مجوسِيٌّ؟ أجاب أبو الخطَّاب وابنُ عَقِيل: لا يُكره للمسلم أن يصطادَ به. * هل يجوز للحاكم أن يسمع شهادة أبيه وأبنه ويحكم بها؟ أجاب أبو الخطَّاب: تجوز له سماع شهادتهما لغيره ويحكم بها. جواب ابن عقيل: يجوز إذا لم يتعلق عليهما من ذلك تهمة، ولم يوجب لهما بقبول شهادتهما ريبة لم تثبت بطريق التزكية. * إذا سأل الحاكم الشهود عن مستند شهادتهم، فقالوا: أخبرنا جماعة؟ أجاب أبو الخطَّاب: تقبل شهادتهم في ذلك ويحكم فيه بشهادة الاستفاضة. جواب ابن عقيل: إن صرَّحا بالاستفاضة أو استفاض بين النَّاس، قبِل في الوفاة والنسب جميعًا. * هل يجوزُ كتابةُ المصحف بالذّهب؟ وهل تجبُ فيه الزكاة؟ فإن وجبتْ فهل يجوزُ حَكُّهُ لمعرفة قدره؟ أجاب أبو الخطَّاب: تجِبُ فيه الزَّكاة إن كان نِصابًا ويجوز له حَكَّهُ وأخذه. وسُئل عنها ابنُ الزَّغواني فأجاب: كَتْب القرآن بالذهب حرامٌ؛

(4/1355)


لأنَّه من جملة زخرفة (1) المصاحف، ويؤمرُ بحكه وردعه، وإن كان مما إذا حُكَّ اجتمع منه شيء يتموَّلُ، وجبت فيه الزكاةُ، ولأنَّه ينزَّلُ منزلةَ الأواني المحرَّمة: وإن كان إذا حُكَّ لا يجتمع منه شيء (2) كان بمنزلة التَّالف فلا شيء فيه. * إذا أجَّرت امرأةٌ نفْسَها للرَّضاع، فكان الصَّومُ يُنْقِصُ من لبنها أو يُغَيِّرُه، فطالبها أهل الصَّبيِّ بالفطر في رمضان لأجل ذلك، هل يجوز لها الفطر؟ فإن لم يَجُزْ هل يثبت لأهل الصَّبيِّ الخيار؟ وما المانع من جوازه وقد قلنا: يجوز للأم أن تفطرَ؟ أجاب أبو الخطَّاب: إذا كانت قد أجَّرتْ نفسها إجارةً صحيحةً جاز لها الإفطار إذا نقص لبنُها أو تغيَّرَ، بحيث يتأذَّى بذلك المرتضعُ، وإذا امتنعت لزمَها ذلك، فإن لم تفعلْ كان لأهل الصبيِّ الخيارُ في الفسخ. وأجاب ابن الزغواني -وقد سئل عنها-: يجوز لها أن تُؤجَر نفسَها للرَّضاع لولدها ولغير ولدِها، سواء وُجد غيرها أم لم يوجد، فإذا أدركها الصومُ الفرضُ فإن كان لا يلحَقُها المشقَّةُ ولا يلحقُ الصَّبِيَّ الضَّرَرُ لم يَجُزْ لها الفطرُ، وإن لحقها المشقَّة في خاصَّتها دون الصَّبيَّ جاز لها الفطرُ، وتقضي ولا فديةَ عليها، وإن لحقها ولحق الصَّبيَّ المشَقَّة والضَّرر جاز لها الفطرُ، ووجب عليها مع القضاء الفدية، وإن أبتْ الفطر مع تغيير اللَّبن ونقصانه بالصّوم، فمستأجرها لرَضاع الصَّبِيِّ بالخِيار في المُقام على العقد وفي الفسخ، فإن قصدت __________ (1) (ق): "سرقة"!. (2) من قوله: "يتمول وجبت ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1356)


بالصّوم الإضرار بالصَّبِيِّ أثِمتْ وعَصَتْ، وكان للحاكم إلزامُها الفطرَ إذا طلب ذلك. * إذا علَّم أحدُ النَّاس قردًا أن يدخل دور النَّاس ويخرِجَ (1) المتاع، فهل يُقطعُ بذلك صاحبةُ؟ أجاب أبو الخطَّاب: لا يلزمه القطعُ. وأجاب ابنُ عَقِيلٍ: لا حكمَ لفعل القرد في نفسه ولا قطعَ على صاحبِهِ، وإنَّما عليه الرَّدّ لما أخَذهُ، والغُرْمُ لما أتلفه. وسئل ابنُ الزغوانيِّ عن هذه المسألة بعينها وقيل له: ما الفرقُ بينبها وبين ما لو أمر صَبيًا لا يعقل بالقتل، فإنَّه يجب القَوَد على الآمِرِ؟ فأجاب: بأنه لا قطعَ ويجبُ الرَّدُّ والضَّمان. وأمَّا إذا أمر صبيًّا (2) أو أعجميًّا فإنَّه يتعلق به الضَّمان؛ لأن فعل الصَّبِيِّ أو الأعجميِّ مضمون في الخطأ على عاقِلَتِهِ. وقد قال قومٌ من الفقهاء: للصَّبِيِّ عملٌ في القتل، ولم يقلْ أحدٌ في فعل القرد مثلَ ذلك. قلتُ: لو قيل بالقطع لكان أولى؛ لأن القردَ آلتهُ فهو ككُلَّابِهِ وخطَّافَتِهِ، وكما لو رمى حبلًا فيه دبقٌ (3) فَعلِقَ به المتاعُ، ولا يَقْوَى الفرق بين هذه الصُّورة ومسألة القرد، وقد قالوا: لو أرسَلَ عليه حيَّة أو سبُعًا فقتله أُقِيْدَ به فنزَّلوا الحيَّة والسَّبُعَ منزلةَ سلاحِهِ، فتنزيل القرد هنا منزلةَ آلتهِ وعُدَّتِهِ التي يتناولُ بها المتاعَ منه أولى؛ لأن (4) الأسبابُ __________ (1) (ق): "ويأخذ". (2) من قوله: "لا يعقل بالقتل ... " إلى هنا سقط من (ق). (3) هو: الغراء الذي يُصاد به. (4) (ع): "لهذه".

(4/1357)


التي يُخرَجُ بها المسروق (1) من الحِرز لا يمكنُ الاحترازُ منها غالبًا، وأسباب القتل يمكنُ الاحتراز منها غالبًا. وأيضًا فجناية القرد حصلت بتعليم صاحبه، وجنايةُ الحيَّة والسَّبُع لم يحصل بتعليم من أنهشهما، والله أعلم. * إذا رأى إنسانًا يغرق ولا يمكنه تخليصه إلَّا بأن يُفْطِرَ، فهل يجوز له الفطرُ؟ أجاب أبو الخطَّاب: يجوزُ له الفطر إذا تيَقَّنَ تخليصَهُ من الغرق ولم يمكنه الصَّوم مع التخليص. وأجاب ابن الزاغوني عنها: إذا كان يقدر على تخليصه وغلب على ظنِّه ذلك، لزمه الإفطارُ وتخليصه، ولا فرق بين أن يُفطِرَ (2) بدخول الماء في حلقه وقتَ السِّباحة، أو كان يجدُ من نفسِه ضعفًا عن تخليصِه لأجل الجوع حتَّى يأكلَ؛ لأنَّه يُفطر للسفر المُباح فَلأَن يُفْطِرَ للواجب أولى. قلت: أسباب الفِطر أربعة: السَّفرُ، والمرضُ، والحيض (3)، والخوفُ على هلاك: من يُخشى عليه بصومه كالمُرضع والحامل إذا خافتا على ولديهما، ومثله مسألة الغريق. وأجاز شيخُنا ابنُ تيمية الفطرَ للتَّقَوِّيّ على الجهاد وفَعَلهُ، وأفتى به لما نازلَ العدوُّ دمشق في رمضان (4)، فأنكر عليه بعضُ المتَفَقِّهة، __________ (1) (ق): "المتاع". (2) (ع): "يدخل"!. (3) سقطت من (ق). (4) وانظر: "الاختيارات": (ص/ 107).

(4/1358)


وقال: ليس هذا بسفر طويل، فقال الشَّيخ: هذا فطرٌ للتَّقَوِّي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر لسفر يومين سفرًا مُباحًا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهُم وهم صيامٌ لم يُمْكِنْهمُ النكايةُ فيهم، وربما أضعفهم الصَّومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضةَ الإسلام، وهل يشكُّ فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر، وقد أمرهم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزَاة الفتح بالإفطار لِيَتَقَوَّوْا على عدوُّهم (1)، فعلَّل ذلك للقُوَّة على العدو لا للسَّفَر، والله أعلم. قلت: إذا جار فطرُ الحامل والمُرْضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يُخَلِّص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقط غلط، بل هذا أمرٌ من باب قياس الأوْلى (2)، ومن باب دلالة النَّصِّ وإيمائه. * إذا وطئ ميتةً هل يجبُ إعادةُ غسلها؟ أجاب ابن الزاغوني: ينظرُ فيه فإن كان صُلِّيَ عليها فلا غسل عليها؛ لأن الغسلَ طهارتُها لأجل الصَّلاة عليها، وقد سقط فرض الصَّلاة عنها بالأولى، غير أنه يمنعُ من إعادة الصَّلاة عليها بعد ذلك، وإن لم يكنْ صلَّى عليها أعيدَ غسلها. وقد اختلف أصحابُنا في وطء الميتة هل يوجب الحَدَّ وينشرُ الحرمةَ؟ على وجهين: أحدهما: يوجب الحَدَّ وينشرُ الحُرْمَةَ، فعلى __________ (1) أخرجه أحمد: (25/ 241 رقم 15903)،، وأبو داود رقم (2365)، والحاكم: (1/ 432) عن بعض أصحاب النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -. وصححه ابن عبد البر في "التمهيد": (22/ 47). (2) من قوله: "بالجواز ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1359)


هذا إيجابُ الغسل أولى، والثَّاني: لا يوجبُ الحَدَّ ولا ينشر الحرمة، فعلى هذا (1) يكون الأمر على التفصيل المتقدِّم. وأجاب أبو الخطَّاب عن هذه المسألة بأن قال: يجبُ غسلُها بعدَ الوِطء، كذا الظاهرُ عندي، ولا أعرف فيه رواية. * إذا تيمم الصبي ثمّ بلغ، هل يبطل تيممه (2)؟ أجاب أبو الخطاب: يجوز له الصَّلاة بذلك التَّيمم في رواية، وكذلك إذا تيمم البالغ: قبل الوقت؛ ففيه روايتان: إحداهما: يصح تيممه. والأخرى: لا يصح، فالصبي مثله. وأجاب ابنُ عقيل: هذا قد تيمم لنافلة؛ لأنه لا تجب عليه الصَّلاة (3)، وإذا تيمم لنافلة لم يجز أن يصلَّي بها فريضة. وأجاب ابنُ الزاغواني: اختلف أصحابنا في الصبي إذا بلغ عشر سنين؛ هل يكون مكلَّفًا بالصلاة أم لا؟. أحدهما: لا تجب عليه، وهو اختيار الخِرَقي، فعلى هذا إذا بلغ بعد التَّيمم وجب عليه إعادته؛ لأنَّه فَعَل التَّيمم لصلاة نافلة، فلا يصلِّي به الفرض. والثاني: أنَّه مكلَّف بالصلاة، وهو اختيار أبي بكر __________ (1) من قوله: "إيجاب الغسل ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) هذه المسألة وجوابها ساقطة من (ظ) وجميع المطبوعات. وهي في (ع وق). (3) من قوله: "والأخرى ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1360)


عبد العزيز، فعلى هذا لا يُعيد التَّيمم؛ لأنَّه تيمم واجب عليه لصلاة مفروضة. قلت: لا وجه لبطلان تيممه، نعم إذا قلنا: التَّيمم لا يرفع الحدث، ولا يتيمم لفرضٍ قبل وقته (1) صَلَّى بهذا التيمم بعد بلوغه ما شاء من النوافل، والصَّواب أنَّه يصلِّي به الفرضَ -أيضًا-. * إذا امتنع من صلاة الجمعة، وقال: أنا أصلِّي الظُّهْرَ هل يُقْتَلُ أم لا؟ أجاب أبو الخطَّاب: يُستتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل. زاد ابنُ عَقِيل في جوابه: إذا لم يكن على وجهٍ قد اعتقد اعتقادَ بعض المجتهدين في أنَّها لا تنعقدُ في القرايا. جوابُ ابنِ الزَّغواني: الجمعةُ تُفعلُ في موضعينِ: أحدهما: متَّفقٌ على وجوبه فيه، وهو البلدُ الكبير الواسع مع إذن الإمام في إقامتها، فهذا متى ترك الجمعةَ في هذه الحالة قُتِلَ كما يُقتَلُ في سائر الصَّلوات. والموضعُ الثَّاني: ما اختلف الفقهاءُ في وجوبها معه كالأرباض والقرايا، وإذا لم يأذَنِ الإمامُ، وأمثال ذلك، فهذا إن تركَ الجمعةَ متأوِّلًا قولَ أحد من الفقهاء، فإنَّه يكونُ معذورًا بذلك ولا يُعتَرَضُ عليه. * إذا كان للأخرسِ إشارةٌ مفهومة فأشار بها في صلاته هل تَبْطُل؟ أجاب ابنُ الزّاغوني: أما الإشارة بردِّ السَّلام فلا تُبْطِلُ الصَّلاةَ من __________ (1) (ق): "فرضه".

(4/1361)


الأخرس والمتكلِّم، وأمَّا غيرُ ذلك فإنه يجري منهما مجرى العمل في (1) الصَّلاة، إن كان يسيرًا عُفِيَ عنه، وإن كان كثيرًا أبطلَ الصَّلاةَ. وجواب أبي الخطَّاب: إذا كَثرُ ذلك منه بَطَلَتْ صلاتُهُ. وجواب ابن عَقِيل: إشارتُه المفهومةُ تجري مجرى الكلام، فإن كانت بردِّ السَّلام خاصَّة لم تَبْطُلْ صلاتُهُ، وما سوى ذلك تَبْطُل. قلت: إشارةُ الأخرس مُنَزَّلة منزلةَ كلامه مطلقًا، وأمَّا تنزيلها منزلةَ الكلام في غير ردِّ السَّلام خاصة فلا وجهَ له، وإنَّما كان ردُّ السَّلام من النَّاطقِ بالإشارةِ غيرَ مُبْطل في أصحِّ قولي العلماء، كما دلَّ عليه النص؛ لأنَّ إشارته لم تُنزَّل منزِلةَ كلامِهِ، بخلاف الأخرسِ فإن إشارتَهُ المفهمةَ ككلام الناطق في سائر الأحكام. * إذا توضأ بماء زمزم هل يجوز أم لا؟ أجاب ابنُ الزاغوني: لا يختلف المذهب أنَّه منهيٌّ عن الوضوء به، والأصل في النَّهي قول العباس: "لا أُحلِّها لمغتسل، وهي لشارب حِلٌّ وَبِلٌّ" (2)، واختُلِف في السبب الذي لأجله ثبتَ النَّهي، وفيه طريقان: أحدهما: أنَّه اختيارُ الواقف وشرطُه، وهو قول العباس. وقد اختلف أصحابُنا في مسألةٍ مثل هذه، وهي: أن رجلًا لو سَبَّلَ ماءً للشُّرْب، فهل يجوزُ لأحد أن يأخذ منها ما يَتَوضَّأ به؟ قال __________ (1) (ع): "من". (2) أخرجه عبد الرَّزاق: (5/ 114، 316)، وأحمد في "العلل": (2/ 187) والأزرقي في "أخبار مكة": (2/ 14، 63 - 64).

(4/1362)


بعضُهم: يجوز ويُكرَهُ، فعلى هذا يكون النّهيُ عنها كراهية تنزيه لا تحريم. وقال آخرون من أصحابنا: لا يجوز له الوضوءُ به؛ لأنَّه خالف مرادَ الواقفِ، فعلى هذا لا يجوز الوضوءُ بماء زمزم. فأمَّا الطريقُ الآخرُ: أن سببَهُ الكرامةُ والتعظيمُ. فإن قلنا: ما يتحدَّرُ من أعضاء المُتَوضِّئ طاهرٌ غير مُطَهِّر، كأَشْهَر الرِّوايات كُرِهَ الوضوءُ بماء زمزم. وإن قلنَا بالرواية الثَّانية: إنَّه يحكم بنجاسة ما ينفصل من أعضاء الوضوء حرمَ الوضوءُ به (1). وإن قلنا بالرِّواية الثالثة: إنَّ المنفصلَ طاهرٌ مطهِّرٌ لم يَحْرُمِ الوضوء به ولم يُكْرَهُ؛ لأنَّه لم يؤثر الوضوء فيه بما يوجب رفع التعظيم عنه، فأمَّا إن أزال به نجاسة وتغير كان فعله محرمًا، وإن لم يتغيَّر وكان في الغسلة السابعة؛ فهل يحرم أو يكره؟ على روايتين. وإن قلنا: إن الماءَ لا ينجس إلَّا بالتَّغَيُّر، فمتى انفصل غيرَ مُتَغَيِّر في أيِّ الغَسْلاتِ كان، كُرِهَ ولم يحرُمْ. قلت: وطريقةُ شيخِنا شيخِ الإسلام ابن تيْميَّةَ كراهة الغُسل به دود الوضوء، وفرَّقَ بأن غُسْلَ الجَنابة يجري مجرى إزالة النجاسة من وجه، ولهذا عمَّ البَدَن كلَّه لما صار كلّه جُنُبًا، ولأن حَدَثها أغلظُ، ولأن العباس إنما حَجَرها على المغتسل خاصَّة (2). __________ (1) (ظ): "كره ... "، و "حرم الوضوء" سقطت من (ق). (2) انظر: "مجموع الفتاوى": (12/ 600)، و "زاد المعاد": (3/ 669).

(4/1363)


وجواب أبي الخطَّاب وابن عَقِيل: يصحُّ الوضوءُ به رواية واحدة، وهل تُكْرَهُ؟ على روايتين. * إذا صَلَّى سهوًا خلف المرأة؟ أجاب أبو الخطاب: تلزمه الإعادة إذا علم، وتجوز إمامة المرأة بالنساء، ويجوز على رواية عن أحمد أن تصلي بالرجال نافلة، وتكون وراءهم وهي بعيدة. قلت: إن كان أميًّا وهي قارئة لم تلزمه الإعادة، وإن كان قارئًا مثلها، ففي وجوب الإعادة نظر؛ إذ غاية ذلك أن يكون كمن (1) صلى خلف محدِث لا يعلم حدثه، فإنه لا تلزمه الإعادة، وهاهنا أولى؛ لأنَّ صلاة المرأة في نفسها صحيحة، بخلاف المحدِث. وأجاب ابنُ الزاغواني: إذا علم بذلك حُكِم ببطلان صلاته وعليه الإعادة، ولم يجوّر إمامنا أحمد أن يتابع رجلٌ امرأة في الصلاة مفترضًا، فأمَّا في النفل فإنَّه أجازه في موضع واحد، وهو إذا كانت امرأة تحفظ القرآن، فإنَّه يجوز للأمي أن يتابعها في النافلة كصلاة التراويح، وتكون صفوف الرجال بين يديها، والنساء (2) خلفهم. * إذا قال: بعتك هذه السِّلعة، ولم يسمِّ الثَّمن؟ أجاب أبو الخطَّاب: لا يصح البيع، وإذا قبض السِّلعة فهي مضمونة عليه. وجواب ابن الزاعوني: أما البيع من غير ذكر العِوَض فباطل، __________ (1) (ظ): "كرجل". (2) (ظ): "وهي والنساء .... "

(4/1364)


وإذا قبض (1) السلعة عند هذا العقد فعليه ردُّها، فإن تلفت تحت يده وجب عليه ضمانها في المشهور من المذهب؛ لأنَّها تجرىِ مجرى المقبوضة على وجه السوْم، وقد روي عن أحمد في المقبوض على وجه السَّوْم إذا تلِفَ من غير تفريط فلا ضمان فيه ومثله هاهنا. وجوابُ (ق/332 ب) شيخنا ابن تيميّة (2): صحَّةُ البيع بدونِ تسمية الثمن؛ لانصرافه إلى ثمن المِثلِ كالنكاح والإجارة، كَما في دخول الحمام ودفع الثوب إلى القصَّار والغسال، واللَّحم إلى الطبَّاخ، ونظائره، قال: فالمُعاوضة بثمن المثل ثابتةٌ بالنَّصَ والإجماع في النكاح، وبالنص في إجارة المرْضِع، في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وعمل النَّاس قديمًا وحديثًا عليه في كثير من عقود الإجارة، وكذلك البيع بما ينقطعُ به السعر، هو بيع بثمن المثل، وقد نص أحمد على جوازه، وعملُ الأمَّة عليه. قلت: والمحرِّمونَ له لا يكادون يخلُصون منه، فإنَّ الرجلَ يعاملُ اللَّحَّامَ والخبازَ والبقَّالَ وغيرهم، ويأخذُ كُلَّ يوم ما يحتاجُ إليه من أحدِهم من غير تقدير ثمن بل بثمن المثْل الذي ينقطع به السعر (3)، وكذلك جرايات الفقهاء وغيرها، فحاجة النَّاس إلى هذه المسألة تجري مجرى الضَّرورة، وما كان هكذا لا يجيء الشرع بالمنع منه ألبتَهَّ، كيف وقد جاء بجوازه في العقد الذي الوفاء بموجبه آكد من غيره من العقود، وهو النِّكاح؟! وتفريقُهم بينه وبين البيع بأن الصَّداق دخل (4) فيه لا يَصِحُّ، __________ (1) (ظ): "اقتضى". (2) بنحوه في "الفتاوى": (29/ 231). (3) من قوله: "هو بيع ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) (ق): "دخيل"، (ظ): "دَاخل".

(4/1365)


بل هو ركنٌ فيه بطل (1) العقدُ بنفيه، كما نص عليه صاحبُ الشرع في الشِّغار، وجاء بجوازه أيضًا في عقد الإجارة الذي تقدير العِوَض فيها آكَدُ من تقديره في البيع؛ لأنَّ قيمة العَينِ في البيع أقلُّ اختلافًا من قيمة المنفعة؛ لأنَّها تتجَدَّدُ بتَجَدّدِ الأوقاتِ وتختلفُ باختلافها غالبًا، فإذا جازتِ الإجارةُ بِعوض المِثْل، فالبيعُ بثمن المثل (2) وما ينقطعُ به السعر أولى، ولو فرعنا على بُطلان العَقد؛ فالمقبوض به يضمَن بنظيره، وهو إمَّا مثْلُه وإما قيمتُهُ، ولا يصِحُّ إلحاقُهُ بالمقبوض على وجه السَّوم، فإنّ القابض هناك لم يدخلْ على أنَّه ضامن، بل مختبر مُقَلِّب للمقبوض، والقابض هنا دخل على أنَّه ضامِن بثمن المِثلِ لمْ يقبضه على أنَّهُ مستام مقلب، بل مالكٍ له بِعِوَضِهِ فإذا تلف ضَمِنَهُ. فإن قيل: هو لم يملكْهُ بهذا العَقد الفاسد، قلنا: دخل على أنَّه مالكٌ ضامنٌ، فلا وجهَ لإسقاط الضَّمان عنه، وكونه لم يملكْهُ في نفس الأمر لا يوجب سقوطَ الضمان عنه كالمستعار والمقبوض بالعقود الفاسدة والمغصوب، وأمَّا إذا فرَّعنا على صحة العَقد؛ فالضمان يكون بثمن المثل وهو القيمة لا بالمثل نفسه، والله أعلم. * (ظ/230 أ) كم قدرُ الترابِ المعتبرِ في الوُلوغ؟ جواب أبي الخطَّاب: ليس له حَدّ، وإنما هو بحيث تمر أجزاءُ التُّرابِ مع الماء على جميع الإناء. وأجابَ ابن عقيل: يكونُ بحيث تظهرُ صفتُهُ ويُغيِّرُ صفة الماء. وأجاب ابنُ الزاغوني فقال: النَّجاسات على ضربين: __________ (1) (ظ): "يبطل"، (ق): "مبطل". (2) "فالبيع بثمن المثل" سقطت من (ع).

(4/1366)


نجاسةٌ لا تزول عن مَحَلِّها إلَّا بالحَتِّ والفَركِ والتُّراب الذي يظهر أثرُه، فهذا الحتُّ والقَرْص والتُّراب في إزالتها واجبٌ. الثَّاني: ما يكفي فيها إفراغُ الماء، ففي وجوب التُّراب فيها لأصحابنا وجهان؛ أحدُهما: وجوبُه عينًا، وهو اختيار أبي بكر، والثَّاني: مستحبٌّ غير واجب، والقائلون بوجوبه إذا كان المغسولُ مما لا يضرُّهُ التُّراب الكثير فلابُدَّ أن يطرحَ (1) في الغسل ما يؤثِّرُ، وإن كان ممن يضرّهُ التُّرابُ كالثوب ونحوه، فهل يجزيه ما يقعُ عليه اسمُ التُّراب وإن لم يظهرْ أثرهُ؛ فيه من أصحابنا وجهان؛ أحدهما: لا يجْزِئُهُ إلَّا ما يظهر أثره، الثَّاني: يجزئُه ما يقعُ على الاسم، وإن لم يظهرْ أثره. وهل ينوب عنه الصابونُ والأُشنانُ وأمثالُ ذلك، مما يضرُّه التُّراب؟ فيه أيضًا عن أصحابنا وجهان. * إذا قلنا: الواجبُ التَّوَجُّهُ إلى عَيْنِ القِبْلَةِ وكان الصَّفُّ طويلًا يزيد على سَمْتِ الكعبة؟ اختلف كلامُ أحمد في ذلك على روايتين: إحداهما: أن طولَ الصَّفِّ مع البعدِ الكثير لا يُؤَثِّرُ ذلك مَيْلًا عن الكعبة إلّا قدْرًا يَخْفى أَمرُهُ ويعسُرُ اعتبارُه، لا سيَّما فيما هو مأخوذٌ بالاجتهاد فعُفي عنه. والرِّواية الثَّانية: أنَّه إذا طال الصَّفُ من جانبي الإمام انحرفَ الطَّرَفانِ إلى ما يلي الإمامَ انحرافًا يسيرًا، يجمعُ به توجيهَ الجميع إلى العين، __________ (1) (ق): "يظهر".

(4/1367)


ولا يشبهُ هذا اختلاف المجتهدين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المجتهدين يعتقدُ خطأَ صاحِبهِ في اجتهاده، وفي مسألتنا قد اتَّفقا في الاجتهاد. قلت: الصَّوابُ أنَّه مع كثرة البُعد يكثُرُ المحاذي للعين. فإن قيل: هذا إنَّما يكون مع التَّقوُّس كالدَّائرة حول النُّقطة، قلنا: تعم، ولكن الدَّائرة إذا عظُمتْ واتَّسعتْ جدًّا، فإن التَّقَوُّسَ لا يظهرُ في جوانب محيطها إلّا خفيًّا، فيكون الخَطُّ الطَّويلُ مُتَقَوسًا نحو شَعَرَةٍ، وهَذا لا يظهرُ للحِسِّ. * إذا وطئَ الصَّبِيِّ هل يَجبُ عليه الغُسْلُ؟ أجابَ ابنُ الزاغوني: هذا لا نُسَمِّيه جُنُبًا؛ لأنَّ الجُنُبَ اسمٌ لمن أنزل الماءَ، والصَّبيُّ لا ماء له، وهل يجبُ عليه الغسلُ لالتقاء الخِتَانين؟ ينظر فيه، فإن كان مراهقًا وهو أن يجدَ الشَّهوةَ في ذلك وجبَ عليه الاغتسالُ، وإن لم يجِد ذلك فلا غسل عَليه، لكن يؤمَرُ به تمرينًا وعادَة. وهكذا أجابَ ابنُ عقيل عن هذه المسألة في صَبِيٍّ وطئَ مثلَهُ، قال: إذ كان له شهوة لَزِمَهُ الغُسلُ، وإن كان ذلك على سبيل اللَّعِب بغير شهوة فلا غُسلَ عليه (1). * إذا سجدَ على شيء مرتفع لعُذر فهل يجوزُ؟ أجاب ابن الزَّاغوني: إذا كانت الأرضُ ذاتَ صعودٍ وهبوط فلا يَضُرُّ إن سجد على الأعلى، ويجلسُ في المنهبط، فأمَّا إذا كان متَّخِذًا كالدَّرجة والصُّفَّةِ، وأمثال ذلك ولا حاجةَ تدعوه إلى السُّجود عليها، فإنه لا يجوز له ذلك. __________ (1) من قوله: "لكن يؤمر ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1368)


وإن كان مريضًا لم يَجُزْ له أن يتعَمَّدَ مثل ذلك، بل يومئُ بركوعِهِ وسجوده، ولا يترُك تحتَ جبهتِه شيئًا دون الأرض يسجدُ عليه، فأمَّا إذا زُحِم ولم يقْدِرْ إلَّا أن يسجدَ على ظهر أخيه سجدَ على ظهر أخيه وأجزأَهُ. وأجاب أبو الخطَّاب: إن كان ارتفاعُه بحيثُ يخرجُ به عن صِفَةِ السُّجود لم يجزِئْهُ، وإن فعل ذلك لعذر جاز. * هل يجوزُ أن يُحْدِثَ مدارًا أو حمَّامًا يتأذَّى به الجيران؟ أجاب أبو الخطَّاب: لا يجوز له فعل ما يتأذَّى به عقار الجيران وأبنيتهم ويؤذيهم في أجسامهم. وأجاب ابن عَقِيل: إذا كان ذلك في خاصَّة مُلكِهِ بحيث لا تَتَزلزلُ حيطانهم بالرَّحا، ولا يتعدَّى دخان نار حمّامِهِ ولا ينزو ماؤُه إلى جدار جارِهِ = جاز. وأجاب ابن الزاغوني: لا يجوز له أن يَتَصرَّفَ في ملكه على وجه يضُرُّ بجيرانِهِ بزلزال حائط أو حَرٌ (1) نار أو ماءٍ ينزلُ إلى بالوعة، أو غير ذلك مما فيه ضَرَرٌ عليهم إلَّا بإذنهم. * إذا قال القاضي للشاهدين: أعلمُكما أني حكمتُ بكذا وكذا، هل يجوز أن يقولا: أشهدنا على نفسه أنَّه حَكَم (2) بكذا وكذا؟ أجاب ابنُ الزاغوني: الشَّهادةُ على الحاكم (3) تكونُ في وقت حكمه، __________ (1) (ع): "حما". (2) (ق وظ): "أشهدنا أنَّه حكم على نفسه ... "، وانظر البحث فيهما مضى (3/ 1039). (3) (ع وق): "الحكم".

(4/1369)


فأمَّا بعد ذلك فإنَّه مخْبِرٌ لكما بحكمه، فيقول الشاهد: أَخبَرني أو أَعْلَمني أنَّه حكم بكذا في وقت كذا. وأجاب أبو الخطَّاب وابن عَقِيل (1): بأنه لا يجوز أن يقولا: "أشهدنا" (2)، وإنَّما يقولان: أخبرنا أو أعلمنا. قلت: الصَّوابُ المقطوع به أنَّه يجوز أن يقولا: "أشهدنا" كما يقولان: "أعلمنا وأخبرنا" (3)؛ لأنَّ الخبر شهادةٌ فكلُّ مخبرِ شاهدٌ. قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] ثم ذكر شهادته فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26]. وقال ابن عباس: "شَهِدَ عندي رِجَالٌ مَرْضيُّونَ أنَّ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الصَّلاة بعد العصر" (4) الحديث. وقال علي بن المديني: أقول: إنَّ العَشرَةَ في الجنَّة، ولا أشهد بذلك، فقال الإمام أحمد: متى قلت: "هم في الجنَّة" فقد شهدتَ (5). قالْ شيخُنا: وهذا صريحٌ من أحمد أن لفظ الشَّهادة ليس بشرط، قال: وهو الصَّحيح (6). __________ (1) "وابن عقيل" سقطت من (ق). (2) "أن يقولا: أشهدنا" سقطت من (ق). (3) من قوله: "قلت: الصواب ... " إلى هنا سقط من (ق). (4) أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826). (5) ذكر القصة في المناظرة بينهما أبو يعلى وشيخ الإسلام فيما نقله ابن القيم في "الطرق الحكمية": (ص/ 204)، وانظر مناظرات أخرى للإمام في "السُّنة": 2/ 356 - 359 للخلال. (6) انظر: "مجموع الفتاوى": (14/ 170).

(4/1370)


قلت: على أحمد ثلاثُ رواياتِ منصوصات حكاها أبو عبد الله بن تيميَّة (1) في "ترغيبه" (2). أحدها: الاشتراط وهي المعروفة عند متأخِّري أصحابنا. الثَّانية: عدم الاشتراط، اختارها شيخُنا. الثَّالثة: الفرقُ بين الأقوال والأفعال، فإن شهدَ على الفعل؛ لم يشترط لفظ الشهادة، بل يكفيه أن يقولَ: "رأيتُ وشاهدتُ وتيقَّنتُ"، ونحوه، وإن شهود على القول؛ فلابُدَّ من لفظ الشهادة. إذا عُرِفَ هذا، فإذا قال الحاكم: "أُعْلِمكما أو أُخْبِركما"، أو قال شاهدا الأصل لشاهدي الفرع: نُعلمُكُما أو نخبِرُكما بأنا نشهدُ بكذا وكذا، ساغ أن يقولا: "أشْهدَنا" كما يسوغ أن يقولا: "أخْبَرَنا وأَعْلَمَنَا"، ولا فرقَ بينهما ألبتةَ لا في اللفظ ولا في المعنى، ولا في الشرع ولا في الحقيقة، فالتَّفريقُ بينهما تفريق بين المتماثلين والشريعةُ تأباهُ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفعُ كُتُبهُ إلى رُسُلِهِ يُنْفِذونها إلى المكتوب إليه، ولم يقل لأحدِ منهم: أُشْهِدُك أن هذا كتابي، وكان الرسولُ يدفَع كتابَه إلى المرسَل إليه، ولا يقول: أشهدُ أن هذا كتابُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولا يقول: أَشْهدَنِي على ما فيه، ولو سُئِلَ الشهادةَ لشَهِدَ قطعًا وقال: أشهد أَنَّه كتابُهُ. __________ (1) هو: أبو عبد الله محمَّد بن أبي القاسم الخضر بن محمَّد فخر الدين ابن تيمية ت (622)، انظر: "السير": (22/ 289 - 291)، و "الذيل على طبقات الحنابلة": (2/ 151 - 162). (2) اسم كتابه: "ترغيب المقاصد في تقريب المقاصد" لا يُعلم له وجود، وهو في فقه الحنابلة، والموجود مختصره المسمّى: "بلغة الساغب وبغية الراغب" طبع بتحقيق الشَّيخ بكر أبو زيد في مجلد واحد.

(4/1371)


ومما يدلُّ على أن لفظَ الشهادة غيرُ مُشْتَرط قولُهُ تعالى {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] ومعلومٌ قطعًا أنَّه لم ينكرْ عليهم إلّا مُجَرَّدَ قولهم: إن الله حَرَّمَ هذا، لم يخصَّ الإنكار بقول من قال: نشهدُ أن الله حَرَّمَه (1)، ولا نهى رسوله أن يتلفَّظَ بالشَّهادةِ على التَّحريم، بل هو نهيٌ له أن يقولَ (2): إن الله حَرَّمَه. * رجلٌ قال لعبده: إذا فرغت من هذا العمل فأنت حُرٌّ، وقال: أردتُ أنَّك حرٌّ من العمل؟ أجاب ابن عَقِيل وأبو الخطَّاب وابن الزاغوني: لا يُقبل قولُه في ظاهر الحكم، وأمَّا ما بيْنهُ وبَيْنَ الله فيُحتَمَلُ. قلت: أما التَّوقُّفْ لكونه يُدَيَّن (3) فلا وجه له، فإنَّه إذا أراد بلفظِه ما يحتملُهُ ولم يخطرْ بقلبه العِتْق، وليس هناك قرينةٌ ظاهرةٌ تكذبُهُ فهو أعلم بنيَّتِهِ ومرادِهِ، وقد قال أحمد في رواية بشر بن موسى في الرجل يكتبُ إلى أخيه: أعتقْ جاريتي فلانة، ويريد أن يتهدَّدها بذلك، وينوي التَّصْحِيف: أكره ذلك ولا يُخبِرُه (4) وهو عَبَثٌ، فيهدِّدها ويَسَعُه في ما بينه وبينَ الله أن يبيعَها والقاضي يفرِّقُ بينهما. قلت: مرادُهُ بالتَّصحيفِ التعريض، وكأنه تصحيفٌ للمعنى، وهو العدول باللفظ عن معناه الموضوع له، وقد قال في رواية أبي الحارث إذا __________ (1) (ظ): "حرم هذا". (2) (ظ): "هو بمنزلة يقول"!. (3) (ع): "أما التوقيف ... "، (ع وق): "في كونه". (4) (ق): "ولا يجربه"، (ظ): "لا يخبر".

(4/1372)


قال: "أنتِ طالقٌ" وهو يريدُ طالقٌ من عِقَالٍ: إذا كانت قد سأَلتْهُ الطَّلاقَ، أو كان بينهما غضبٌ، لم يُقْلْ قولُه، وهذا يدلُّ على قبوله عند عدم القرينة الدَّالةِ على الطَّلاق، فعلى هذا إذا قال له عبدُه: أعْتِقْني لله، فقال: إذا فرغتَ من هذا العمل فأنتَ حُرٌّ، لم يُقْبلْ قولُهُ. وأمَّا إذا قال: أرِحْني من هذا العمل، واستعملْني في غيره، أو أَعْتِقْني من هذا العمل، فقال: إذا فرغتَ منه فأنتَ حُرٌّ، وأراد: مِنْ هذا العمل، قُبلَ قولُه، فالمراتبُ ثلاثة: ما يبعدُ معه صرف اللفظ عن عُرفه (1) لما هناك من القرائنِ، فلا يُقبلُ قوله، وما يقربُ معه الصرفُ كقرائنَ تحفُّ به فيقبل قوله، وما يكونُ مُتَجَرِّدًا عن الأمرينِ فهو محلُّ تردُّدٍ. * إذا لقي امرأةٌ في الطَّريق، فقال: تَنَحَّيْ يا حُرَّة، فإذا هي جاريتُه؟ فأجابَ أبنُ الزَّاغوني بأن قال: اختلفَ أصحابُنا فيما إذا لقِيَ امرأة في الطَّريق فقال: تنَحَّيْ يا طالقُ، فإذا هي امرأتُهُ، فهل تطلق؟ على وجهين، قال: والعِتقُ مثله. قلت: وقوعُ العتق في هذه الصُّورة بعيدٌ؛ إذ من عادة النَّاسِ في خطابهم في الطُّرُقاتِ وغيرها إطلاق هذا اللفظ، ولا يريدُ به المخاطب إنشاءَ العِتْقِ، هذا عُرفٌ مستقرٌ، وأمرٌ معلوم، وأيضًا فإنَّما يُريدونَ حرِّيَّةَ الأفعال وحرية العِفَّةِ، لا حرية العِتْقِ، ولم تَجْر العادةُ بأن تخاطَبَ المرأةُ الأجنبية بـ "يا طالق" (2)، فلا يلزمُ من الحكمِ بوقوع الطَّلاقِ في مثلِ هذا: الحكمُ بوقوعِ العِتْقِ. __________ (1) (ظ) تحتمل قراءتها: "غرضه". (2) (ظ): "بالطلاق".

(4/1373)


* إذا قال المشهود عليه: أشهدت على نفسي بما في هذا الكتاب، ولم أعلم ما فيه، ولم يقرأ علي، وليس في الكتاب أَنَّه قرئ عليه، هل يمنع ذلك من الحكم به؟ وهل يجوز للشاهد أن يقول للمشهود عليه: أشهدُ عليك بجميع ما نُسِب إليك في هذا الكتاب من غير أن يعرفه ما فيه ويشهد به؟ أجاب ابن الزاغوني: لا يجوز للشاهد أن يشهد على المشهود عليه، إلَّا بأن يقرأ عليه الكتاب، أو يقول المشهود عليه: قد قرئ عليَّ، أو يقول: قد فهمت جميع ما فيه وعرفته، فإذا أقرَّ بذلك عند الشهود شهدوا عليه به. وإذا شهد الشاهدان عند الحاكم أنَّه أقر عندهم بفهم جميع ما في الكتاب، لم يلتفت إلى إنكار المشهود عليه. وأجاب أبو الخطاب: إذا قال المشهود عليه: "أشهدت على نفسي بما في هذا الكتاب"، لا يشهد الشاهدان إلا أن يقول له: نشهد عليك بجميع ما في هذا الكتاب، وقد فهمته أو قرئ عليك، فيقول: نعم، أو يُقرأ عليه، فإذا وجد ذلك لم يقبل قوله: لم أعلم ما فيه، ولزمه الحكم في الظاهر. قلت: وعلى هذا فكثير من كتب هذه الأوقاف المطوَّلة التي واقفُها امرأة أْو أعجمي أو تركي أو عامي لا يَعْرف مقاصد الشروطيين، لا يجب القيام بكثير من الشروط التي تضمنته؛ لأنَّ الواقف لم يقصدها ولا فهمها، وقد صرّح كثير من الواقفين بذلك بعد الوقف، وعلى هذا يصير كالوقف الذي لا تُعلم شروطه. * إذا علمَ الحاكم من حال الشَّاهدين أنَّهما لا يفرِّقان بينَ أن يشهدا بما يذكران الشهادة به، وبينَ أن يعتمدا على معرفةِ الخَطِّ من

(4/1374)


غير ذكرٍ، هل يجوزُ إذا شهدا شهادةً قديمة أن يسألَهُما: هل يعتمدانِ على الخِطِّ، أو هما ذاكران للشهادةِ؟ أجاب ابنُ الزَّاغوني: إذا علمَ الحاكم أنَّهما يتجوَّزانِ بذلك صار حكمُهما في ذلك حكمَ المُغَفَّلين أو المجرحين (1)، إذا علم أنَّهما يُجرحانِ (2)، ومَنْ هذه صفته لا يجوز له قَبولُ شهادتِهما بحالٍ، فإن كان يتوهَّمُ ذلك من غير تحقيق لم يَجزْ له (3) أن يسألَهما عن ذلك، ولا يَجِبُ عليهما أنَّ يُخبراه بالصِّفةِ. وأجاب أبو الخطَّابِ: لا يلزمُ الحاكمَ سؤالهما عن ذلك، ولا يلزمُ جوابه إذا قالا: "شهدنا من حيث جاز لنا الشهادة"، وإذا علم تَجوُّزهما في الشَّهادةِ صارا كالمغفلين، فلا يجوز له قبول شهادتهما. * إذا شهدا: أنا لا نعلمُ لفلان وارثًا إلَّا هذا، فدفع إليه الحاكمُ المال، ثم عادا وشَهِدا لآخرَ أنَّه وارث معه فهل يشاركُ الأوَّل؟ أجاب ابن الزَّاغونيِّ: ليس بين الشَّهادتينِ تناقُضٌ؛ لأنه قد يعلمُ الإنسانُ بعضَ المعلوم في وقتِ، ويعلمُ في وقتٍ آخرَ ما بقي، وإذا ثبتَ هذا وجبَ أنَّ يشارِكَ الثَّاني الأولَ. وأجاب أبو الخطَّاب: يُقْبَلُ قولُهما، وتقسمُ التَّركَةُ بينهما. وأجاب ابن عَقِيل: الشهادَةُ الأولى لا تنافي الثَّانية، ولا تناقُض بينهما، فإن نَفْيَ العلمِ في حالي لا يُنافي ثبوتَهُ بطريقة فيما بعد فَيَرِثانِ جميعًا. __________ (1) هكذا استظهرتها في (ع)، وغير محررة في (ق) وتحتمل في (ظ): "المحرفين". (2) غير محررة -أيضًا- في النسخ، وهكذا استظهرتها من (ع). (3) (ع): "له أن ... ".

(4/1375)


* إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين، ثم بان له فسقُهما أو كذبُهُما وقتَ الشهادةِ؟ أجاب أبو الخطَّاب: ينقضُ الحكم الأوَّل ولا يجوز له تنفيذُهُ. وأجاب ابن عَقيل: لا يُقْبَلُ قوله بعدَ الحكمِ، فإن قال: كنت عالمًا بفِسْقِهما قُبلَ قولُه. وجوابُ ابن الزاغواني: لا يخلو قبولُه بشهادة الشَّاهدين؛ إمَّا أن يكون لعدالة ثبتت عندَه بعلمه أو بعدالة ثبتت بتعديل مزَكٍّ، أو بظاهرِ عدالةِ الإسلامِ، فإن كان لعدالة ثبتتْ عندَه بعلمه (1)، فالأمرُ في ذلك مبْنيٌّ على الحاكم، هل يجوز أن يحكمَ بعلمه؟ وفي ذلك عن أحمدَ روايتان: إحداهما: أنَّه لا يحكمُ بعلمه، فعلى هذا قد أخبر بأنه حكمَ على وجه لا يجوز الحكمُ به فيُنقَض حكمُه. والرواية الثانية: أنَّه يجوز له الحكم بعلمه، فعلى هذه الرواية لا ينقض حكمه؛ لأنَّه متَّهَمٌ في نقصه، وذلك؛ لأنَّه (2) أتى بقولينِ مختلفينِ يُضيفهما إلى نفسه، فالعمل يكون على الأول دون الثَّاني. وإن كان حَكَمَ بعدالتِهما بشهادة مُزَكَّين لعدالتهما، لم يَجُزْ له أن ينقص حكمه إذا أضافَهُ إلى علمه، وهل يفتقر في نقضه (3) إلى شاهدينِ غيرِه يشهدان بفسقِهما؟ أو يَكتفي معه بشاهدٍ واحدٍ؟ فيه __________ (1) من قوله: "أو بعدالة ... " إلى هنا سقط من (ع وق). (2) "لأنَّه متهم في نقضه، وذلك لأنَّه" سقطت من (ق). (3) (ظ): "وهل يقتصر في حكمه".

(4/1376)


وجهان، ذكرهما أبو علي بن أبي موسى (1) من أصحابنا. وإن كان حكَمَ بشهادتِهما لظاهر عدالةِ الإسلام، فهل يجوزُ له ذلك؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يجوز له الحكم بشهادة شاهدٍ حتَّى يعلمَ عدالته باطنًا وظاهرًا، فعلى هذا ينقض حكمه. والرواية الثَّانية: أنَّه يجوز (2) له ذلك، فعلى هذا هل (3) يجوز له أن ينقض حكمه؟ يحتمل وجهين: أحدهما: ليس له ذلك، إلَّا أن يثبتَ (4) عندَه ببيِّنَةٍ. والثَّاني: يجوز له نقض الحكم؛ لأنَّه قد تظهر بالإسلامِ عدالةُ من لو كُشِفَتْ حالُه لم يكن عدلًا، وكان قولُه محملًا يبعدُ عن التهمة، ثم ينظرُ بعد هذا فإن وافقه المشهودُ له على ما ذكر وجبَ عليه ردُّ ما أخذ، فإن كان عالمًا (5) نقض الحكم بنفسه دونَ الحاكم وإن خالَفَهُ فيه، فإن أوجبَه ذاك (6) غرامَةً لزمت الحاكمَ. * * * __________ (1) هو: محمَّد بن أحمد بن أبي موسى أبو علي الهاشمي، من أئمة الحنابلة ت (428)، له كتب منها: "الإرشاد" في الفقه طبع في مجلد واحد بتحقيق د/ عبد الله التركي. انظر: "طبقات الحنابلة": (3/ 335 - 341). (2) (ظ): "لا يجوز" وهو خطأ. (3) سقطت من (ق). (4) من قوله: "والرواية الثانية ... " إلى هنا سقطت من (ق). (5) من (ق)، و (ع وظ): "ما"!. (6) (ق وظ): "دون"!.

(4/1377)


[فائدة] (1) قال في رواية أبي طالب: إذا قال: "أمرك بيدك" فالأمر في يدها حتَّى ترجع أو يطأها، فإذا وطئها، فليس لها من الأمر شيء، مثل الوكيل إذا رجع فقد خرج الأمر من يده، وإذا قال: "أمرك بيدك" فقالت: قد اخترت، فليس بشىِءٍ إنما أخذت أمرها، ولم يقض بشيء. ولو قالت: قد أخذت نفسي، فهو بمنزلة: اخترت نفسي وطلقت نفسي، وإذا قالت: أخذت أو قبلت، فليس بشيءٍ، مثل قول الوكيل: قد قبلتُ وكالتك وأخذت وكالتك، فإنَّما (2) قبل ولم يعمل شيئًا. فقد صرّح أحمد بأن هذا توكيل لا تمليك. وقالت المالكية: تفويض الطلاق إليها ضربان: توكيل وتمليك، ففي التوكيل له أن يرجع ما لم تطلِّق نفسها، وفي التمليك ليس له ذلك إلَّا أن يبطل تمليكها، فالتمليك أن يقول: قد ملّكتك أمرك، وأمرك بيدك، أو طلاقك بيدك، أو ما أشبهه. والتمليك عندهم نوعان: أحدهما: تمليك تفويض، وهو هذا. والثاني: تمليك تخيير، وهو أن يقول: اختاري، وهذا التخيير على ضربين. __________ (1) هذه الفائدة ليست في (ظ) ولا في المطبوعات، وهي من (ع وق) تلو المسألة السابقة. (2) (ق): "فقد".

(4/1378)


فوائد شتَّى (1) قال القاضي (2): نص أحمد على أن الإسراء كان يَقَظَة، وحكي له أن موسى بن عقبة (3) قال: أحاديث الإسراء مَنَامٌ، فقال: هذا كلامُ الجَهْميَّة. ونقل حنبلٌ أن الرؤيةَ منامٌ، ونقل الأثرم وغيره: أنَّه رآه ولا يُطْلَقُ شيء سوى ذلك (4). وقال أبو بكر النَّجَّاد (5): رآه إحدى عشرةَ مرَّة، منها بالسُّنة تسع مرات ليلة المعراجِ حينَ كان يتردَّدُ بينَ موسى وبينَ ربِّه، ومرتينِ بالكتاب. فائدة (6) قال القاضي: صنف المرُّوْذيُّ كتابًا في فضيلة النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وذكر فيه __________ (1) "شتى" ليست في (ق). وانظر "إبطال التأويلات": (1/ 110 - 114). (2) تقدم أن المقصود بـ "القاضي" عند المؤلف وغيره من الحنابلة أبو يعلى ابن الفرَّاء، نبَّهنا عليه لبعد العهد. (3) (ع): "عطية"، ولم أجد من اسمه: موسى بن عطية، وموسى بن عقبة، مشهور، إمام المغازي. (ت 141). (4) هذه الروايات عن الإمام أحمد ساقها القاضي أبو يعلى مساق الاختلاف، وقد بين شيخ الإسلام، وابن القيم أن كلام أحمد لا اختلاف فيه، وأن رواياته هذه مؤتلفة، انظر: "منهاج السنة": (5/ 384 - 387)، و"أقسام القرآن": (ص / 257 - 261). (5) (ق): "التمار" والنجاد هو: أبو بكر أحمد بن سلمان البغدادي الحنبلي ت (348)، له كتاب كبير في "السنن". انظر: "طبقات الحنابلة": (3/ 15). (6) ليست في (ق).

(4/1379)


إقعادَهُ على العرش، قال القاضي: وهو قولُ أبي داودَ، وأحمدَ بنِ أصرمَ، ويحيى بن أبي طالبٍ، وأبى بكر بن حماد، وأبى جعفر الدّمشقيُّ، وعباس (1): الدُّوري، وإسحاقَ بنِ راهويه، وعبد الوهاب الورَّاق، وإبراهيم الأصبهاني، وإبراهيمَ الحربى، وهارون بن معروف، ومحمدِ بن إسماعيل (2) السُّلَمِيِّ، ومحمدِ بن مُصْعَب العابدِ، وأبى بكر بن صَدَقةَ، ومحمد بن بشر بن شَرِيكٌ، وأبي قِلابَةَ، وعلي بن سهل، وأبي عبد الله بن عبد النور، وأبى عبيد، والحسنْ بن فضل، وهارون بن العباس الهاشميِّ، وإسماعيلَ بن إبراهيمَ الهاشميِّ (3)، ومحمَّد بن أبي عمران الفارسيِّ الزَّاهد، ومحمد ابن يونس البصري، وعبد الله بن الإمام أحمد، والمرُّوْذي، وبشر الحافي. انتهى. قلتُ: وهو قول ابن جرير الطبريِّ، وإمام هؤلاء كلِّهم مجاهِدٌ إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني، ومن شعره فيه (4): حديثُ الشفاعةِ في أحمد ... إلى أحمدَ المصطفى نُسندُه وجاء حديثٌ بإقعاده ... على العرشِ أيضًا فلا نجْحدُهْ أَمِرُوا الحديثَ على وجهِهِ ... ولا تُدْخِلوا فيه ما يُفسِدُهْ ولا تنكِروا أنَّه قاعد ... ولا تنكِروا أنهْ يُقْعِدهْ __________ (1) (ع): "عياش"، ولم (ظ): "عباد"، وكلاهما خطأ. (2) (ق): "إبراهِيم". (3) سقط الاسم من (ق). (4) انظر: "إبطال التأويلات": (2/ 492) لأبي يعلى، و "العلو": (2/ 1286) للذهبي دون البيت الأخير.

(4/1380)


فائدة سئل القاضي عن مسائلَ عديدة وردت عليه من مكةَ، وكان منها: * ما تقول في قول الإنسان إذا عَثَر: محمَّد وعلي؟ فقال: إن قصد الاستغاثةَ (1) فهو مخطئٌ؛ لأنَّ الغوثَ من الله تعالى، وهما مَيتانِ فلا يَصِحُّ الغوثُ منهما، ولأنَّه يجبُ تقديمُ الله على غيره (2). * ومنها: إذا قال القائل (3): أفضل النَّاس بعد رسول الله الخلفاءُ ثم طلحةُ ثم الزُّبيرُ ثم سعد إلى آخر العشرة؟ فأجاب: الأوْلى العطفُ على الأربعة بالواو؛ لأنَّ (ثم) تقتضي التَّرتيب، فيقتضي تقديمَ طلحةَ على الزُّبير، والزُّبير على عبد الرحمن، ولا يمكن لأنَّه ليس فيه نقل يُرْجَعُ إليه، وعمرُ رضي الله عنه أمرهم أن يختاروا للخلافة واحدًا من ستة، ولم يَنُصَّ على واحد منهم، وظاهرهُ التَّساوي. * ومنها: وقد سئل عن حركة اللسان بالقرآن الكريم؟ فقال: لا يجوز أن يقالَ: إنَّها قديمة، بل حركة اللِّسان بالقرآن محدَثَة. * ومنها: في البدريِّينَ أنهم أفضلُ في الجملة من غيرهم، ولا يفضلُ آحادُهم على غيرهم؛ لأنَّه قد يكون في غيرهم من هو أفضلُ __________ (1) تحتمل: "الاستعانة". (2) وورد السُّؤال نفسه على ابن الصلاح، انظر "فتاويه". (3) كذا في (ع) و (ق وظ): "القاص" وتحتمل: "القاضي".

(4/1381)


من آحادهِم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمُ القَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ" (1)، فخايَرَ بين القرون في الجملة؛ لأنه قد يكون في التفضيل مَنْ غيرُهُ أفضلُ منه، ولهذا يعلم أن أحمَدَ أفضلُ من يزيدَ، ويزيدُ في عصر التابعين، لِمَا جرى من يزيدَ بما عاد في القدح في عدالته. * ومنها: هل يجوز أن يقال: إنَّ اللهَ يرحمُ الكافرَ؟ فقال: لا يجوزُ أن يقالَ: إن الله يرحمُ الكافرَ؛ لأن فيه ردَّ الخير الصادق: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} [البقرة: 162]، إلى أمثاله، بل يقال: يُحففُ عذابُ بعضهم، قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، و {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68]. فائدة قال ابن عَقِيل: قولهم: إن الله جعل للمرأة شهوةٌ تزيدُ على شهوة الرجل بسبعة أجزاء (2). قال: لو كان كذلك ما جعل الله للرجلِ أن يتزوَّجَ بأربعٍ ويَتَسَرَّى بما شاء من الإماء، وضيَّق على المرأة فلا تزيدُ على رجلٌ واحد، ولها من القَسْمِ الرُّبُعُ، وحاشا حكمته أن تُضَيِّق (3) على الأحرج، وتُوسِّعَ على من دونَهُ في الحرج. أجابه حنبليٌّ آخرُ فقال: إن ذلك إنما كان لمعارض راجح، وهو __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-. (2) انظر: "فيض القدير": (4/ 430)، وفيه آثار لا تصح!. (3) ليست في (ع).

(4/1382)


خوف اشتباه الأنساب، وأيضًا: ففي التَّوسعة للرجل تكثير النسلُ الذي هو من أهم مقاصد النِّكاح. وأيضًا: فإن الرجلَ والمرأة لما اشتركا في التذاذ كلٍّ منهما بصاحبه، وقضاء وطرِهِ منه، وخُصَّ الرجلُ بالنَّفقة والكسوة وكُلفة المرأة، عُوِّضَ بأن أطلق له الاستمتاعُ بغيرها. وأيضًا: فإن المرأةَ مقصورةٌ في الخِدْرِ، لا تدخلُ ولا تخرجُ إلاَّ لحاجةٍ، حتى إنَّ صلاتَها في بيتها أفضلُ من صلاتها في المسجد، لم يقعْ نظرُها من الرِّجال على ما يقعُ نظرُ الرجل عليه. فحاجتُه إلى أكثر من واحدة أشدُّ من حاجتها. وأيضًا: فإن طبيعةَ الذَّكَر الحَرارةُ، وطبيعة الأنثى البُرودةُ، وصاحب الحرارة يحتاج من الجماع (1) فوقَ ما يحتاج إليه صاحب البرودة. وأيضًا: فإن الله تعالى فضَّل الذَّكَرَ على الأنثى في الميراث والدِّيَةِ والشَّهادة والعقيقة، وغير ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: 32] فكان من تفضيله الذَّكَرَ على الأنثى أن خُصَّ بجواز نكاح أكثرَ من واحدة، والله أعلم. فائدة سئل ابن عقيل: هل يجوزُ أن يَتَّخِذ النساءُ السُّفَرَ والمطارحَ والمخادَّ، وغير ذلك حريرًا؟ فقال: لا، بل ملابسَ فقط. __________ (1) "من الجماع" سقط من (ظ).

(4/1383)


فائدة في "الفنون": سئل حنبلي (1) عن رجل سمع مؤذِّنًا يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال: كذبتَ، هل يكفُرُ؟ فقال: لا (2) يكفرُ لجواز أن يكونَ قصدُه تكذيبَ القائل فيما قال لا أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهدُ هذه الشهادةَ، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} (3) [المنافقون: 1]. فائدة قال الخَلاّلُ: حدثنا العباسُ بن أحمدَ اليماميُّ بطَرَسُوسَ، سأل أبا (4) عبدِ الله رجلٌ عن الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَكْفُرُ أحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِذَنْب" (5)، فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فقدْ كفَرَ" (6)؟! فقال له: يورث بالمِلَّة؟ فقال: لا يُورَثُ ولا يَرِثُ. __________ (1) (ظ): "أحمد بن حنبل". (2) تكررت في (ظ). (3) هذا إذا كان الرجل مسلمًا، أما إذا كان ذميًّا فإنه ينتقض عهده ويقتل؛ فعن جعفر بن محمد قال: "سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن، فقال له: كذبت، فقال: يُقتل؛ لأنه شتم" ذكره الخلال في "أحكام أهل الملل": (2/ 339) وشيخ الإسلام في "الصارم المسلول": (3/ 996). (4) (ظ): "حدثنا أو أنبأ"! وعليه المطبوعات!. (5) لم أجده. (6) أخرجه أحمد: (5/ 346) والترمذي رقم (2621)، والنسائي: (1/ 231 - 232) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".

(4/1384)


فائدة قال ابن الجَوْزي في آخر "منتخب الفُنوِن" (1) مما بلغه عن ابن عَقِيل من غير "الفنون"، قال: سمعت أبا يَعْلَى بنَ الفرَّاء يقول: من قال: إن بينَه وبينَ الله سرًّا فقد كفر، وأيُّ وصلة بينَه وبينَ الإله؟ وإنما ثَمَّ ظواهرُ الشَّرْعِ، فإن عنى بالسِّرِّ ظاهرَ (2) الشَّرع فقد كذبَ؛ لأنه ليس بسِرٍّ، وإن عنى شيئًا وراء ذلك، فقد كفر. وقال في قول المتوسِّلين بالميِّت: "اللَّهُمَّ إلي أسأَلُكَ بالسِّرِّ الذي بينَكَ وبينَ فلان": أيُّ سرٍّ بين العبد وبين ربِّه لولا حماقةُ هذا القائل؟! قال ابن الجوزي معترضًا عليه: إنما يعني المتوسِّلُ بذلك العباداتِ المستورةَ عن الخَلْق. فائدة سئل رجلٌ: عن رجلٍ تزوَّج أُمَّ رجلٍ وأختيه فقال: صورةُ المسألة: رجلانِ وطِئا أَمَةً في طُهْرِ واحدٍ، فأتتْ بولد فَتَداعياه، فأُري القافَةَ فألحقوهُ بهما على مذهب من يرى ذلك، وكان للرجلين بنتان، فجاء رجلٌ أجنبيٌّ (3) فتزوَّجَ بالأَمَة بعد عِتْقِها وتزوَّجَ بنتي الواطِئَيْن؛ لأنه ليس إحداهما أختًا للأخرى، وإن كانتا أختين للولد المُلحق بالواطِئَيْنِ، فقد جمع هذا الرجل الأجنبيُّ بين أم ذلك الولد وأختيه من الواطئين، فأمه ليست أمهما. __________ (1) انظر "مؤلفات ابن الجوزي" رقم (401). (2) (ق): "ظواهر". (3) ليست في (ق).

(4/1385)


فائدة استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد بتخصيص آية الميراث بقوله: "لا ثورث ما تركناه صدقة" (1) والصدِّيق أول من خصَّصَه. قال ابن عقيل: وهذه بلاهة من هذا المستدل، فإن الصدِّيق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاهًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو قطعي وليس النزاع فيه. فائدة قال ابنُ عقيل في مناظرته لبعض المعتزلة: أنتم اعتمدتم في نفي التثنية على دليل التمانع، وهو بعينه ينقلب عليكم في خلق الأفعال؛ لأنَّا إذا قدرنا أنه -تعالى- أراد تحريك جسم، وأراد العبدُ تسكينه فلا يخلو ... إلى آخره، وفِعْلُ الله لا يدخل تحت مقدور العبد، وفعل العبد لا يدخل تحت مقدور الله عندكم، فلا انفكاك لكم ألبتة عن هذا السؤال، فأين توحيدكم (2)؟!. فائدة. جعفر بن محمد: سألت أبا عبد الله عن رجلٍ يَنْتَقد للناس مئة دينار بدرهم، يخرج في نقده دينار رديء؟ __________ (1، أخرجه البخاري رقم: (3092)، ومسلم رقم (1758) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (2) غير محررة في (ع).

(4/1386)


قال: وجب عليه أن يردَّ من أجرته جزءًا من مئة من درهم. قال القاضي: إنما صحَّت هذه الإجارة وإن لم يشاهد الدنانير؛ لأنه لا تفاوت بين الدنانير في النقد، فصحَّت الإجارة. انتهى. فعلى هذا؛ إذا استأجره ليكيل له مئة مكُّوك (1) من طعام في بيتٍ لم يَرَه، صحت الإجارة (2) للعلة التي ذكرناها، وإنما رجع عليه بجزءٍ من مئة جزء من الدراهم؛ لأن العمل لا يتفاوت في كل واحد منها، كما لو كان له مئة مكُّوك إلا مكُّوكًا. فوائد شتى من خط القاضي أبي يعلى أبو الفرج الهندباني (3): سمعت المرُّوْذي يقول: سئل أحمد عما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله احتجرَ التوبة عن صاحب بدعة" (4)، وحَجْب التوبة أَيْشٍ معناه؟ فقال أحمد: لا يوفَّق ولا ييسَّر صاحب بدعة لتوبة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا __________ (1) مكيال يسع صاعًا ونصف، "القاموس": (ص / 1231). (2) من قوله: "انتهى ... " إلى هنا سقطت من (ق). (3) ذكره ابنُ أبي يعلى في "طبقاته": (3/ 31)، فقال: "أبو الفرج الهندباني، صَحِب المزُّوذي، وروى عنه أشياء ... " وذكر واحدة منها. (4) أخرجه الضياء في "المختارة": (6/ 72 - 73)، والطبراني في "الأوسط": (4/ 281)، والبيهقي في "الشعب": (5/ 449، 7/ 59)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. والحديث حسَّنه المنذري في "الترغيب": (1/ 45)، وقال الهيثمي في "المجمع": (10/ 189): "رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة"، وصححه الألباني في "السلسلة": (رقم 1620). وله شواهد ذكرها المنذري. وقد روي بلفظ: "حَجَر التوبة ... " و "حَحَب ... " و "احْتَجَب ... ".

(4/1387)


لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هُمْ أَهْلُ الأهْواءِ والبِدَعِ، ليْسَتْ لَهُمْ تَوْبةٌ" (1). فوائد من مسائل أبي جعفر محمَّد بن أبي حرب الجُرْجرائي (2)، بخط القاضي أبي يعلَى قيل لأبي عبد الله: الرجلُ يحفِرُ إلى جنب قناة الرّجل ولا يضرُّ بها، أَلَه أن يمنعَهُ؟ قال: يُرْوىَ عن الزُّهريِّ أنه قال: "حريمُ العيون خمسُ مئة ذراعٍ" (3) كأنه ذهبَ إليه. قيل لأبي عبد الله: فإنْ حفرَ على أكثرَ من خمس سنة ذراع فأضرَّ به هل له أن يمنَعَهُ؟ قال: ليس له أن يمنَعَهُ إذا جاوز حريمَهُ، أضَرَّ به أو لم يُضرَّ به. قيل لأبي عبد الله: رجلٌ عَمِلَ في قناة رجلٍ بغير إذنه، فاستخرجَ الماءَ، فجاء صاحبُ القناة؟ __________ (1) قال السيوطي في "الدر المنثور": (3/ 117): "أخرجه الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والطبراني، وأبو نعيم في "الحلية": (4/ 138) وابن مردويه، وأبو نصر السجزي في "الإبانة"، والبيهقي في "الشعب": (5/ 449 - 450) ". (2) ذكره ابنُ أبي يعلى في "طبقاته" (2/ 395)، وقال: كان أحمد يكاتبه ويعرف قدره، وعنده عن الإِمام مسائل مشبعه. ووقعت: "الجرجرائي" في (ق وظ): "الجرجاني" وكذا وقعت في بعض المصادر، فلعله تحريف. (3) أخرجه يحيى بن آدم في "الخراج": 104، وأبو عبيد في "الأموال": 369، والبيهقي: (6/ 155).

(4/1388)


فقال: لهذا الذي عَمِلَ نفقتُه إذا عَمِلَ ما يكونُ منفعةً لصاحب القناة. وفي الحاشية بخط القاضي: إنما رَجَع بنفقته! لأن الآبار كالأعيان، ولو عمِلَ في مُلكِ غيره عملًا له فيه أعيانٌ رجعَ بها، كذلك في الآبار، هذا كلامُ القاضي، وفيه نظرٌ. قيل لأبي عبد الله: الرجلُ يسبق إلى دكاكين السُّوق؟ قال: إذا لم يكنْ لأحد، ولم يحجزْهُ (1) أَحَدٌ، فمن سبق إليه غدْوةً فهو له إلى اللَّيلِ، قال: وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى. قيل: أيُكْرَهُ بيعُ الطعام، وأن تكونَ تجارةُ الرَّجل كلُّها في الطَّعام؟ قال: إذا لم يُرِدِ الحُكْرَةَ فلا بأسَ، هذا ضيق بالمدينة ومكَّة، فأما هاهنا فربما كان خيرًا لهم، ثم قال: إنما هاهنا شبه البحر. قيل: من أحقُ بالسَّوْم؟ قال: البائع. قلت له: فإن أوقد نارًا في السَّفينة، فقال: بُدٌّ له من أن يطبُخَ، وكأنه لم يَزِد عليه. قيل له: رجلٌ اشترى من رجل حائطًا على أن يعمَلَ له فيه سنةً أو سنتين؟ قال: لا بأس. وكتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله، قلت: بنتُ أخٍ لي، خطَبها ابنُ أختٍ لي فقير، وأمُّها تكره ذلك؟ قال: لا تفعَلْ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وآمِرُوا النِّسَاءَ في بَنَاتِهِنَّ" (2)، __________ (1) رسمها في (ق وظ): "يحره"!. (2) أخرجه أحمد: (8/ 505 رقم 4905)، وأبو داود رقم (2095)، والبيهقي: (7/ 115) من حديث ابن عمر - رضي الله عنها -. وفي سنده من لم يُسمَّ، وذكره الألباني في "الضعيفة" (رقم 1486).

(4/1389)


وما ذكرتَه من أمر الفقر فزوِّجْ، فإن الفقرَ والغنى إلى الله، فزوَّجتُ الفقيرَ فلم أرَ إلا خيرًا. وسألته عن الرَّجل: يشتري البقَرَ للإكار؟ فَكَرِهَهُ. قلت: يأخذ الرجلُ يَحُجُّ عن الرَّجلِ؟ قال: لا يأخذُ. قلت: فيأخذ الفرس أو لا يأخذ في السَّبيل؟ قال: يأخذ، لم يزلِ: النَّاسُ يأخذونَ، فإذا بلغ مَغْزاه فهو كسائر ماله. وسُئل عن الطَّواف؟ فقال: ثلاثةٌ واجبة: طواف القُدوم وطوافُ الزِّيارة وهو أنْ الصَّدَر. وأما طوافُ الزيارة فلا بدَّ منه، ولو أُنْسِيَهُ الرجلُ حتى يرجعَ إلبى مدينته عليه أن يأتيَ به. قيل له: كيف يصنعُ؟ قال: يدخل معتمرًا فيطوف بعمرة، ثم يطوف طواف الزيارة بعد ذلك. وسئل عن المُحْرِم يغسل بَدَنهُ بالمحلب (1)؟ قال: أراه يكرهُهُ؟ وكره الأُشْنانَ. وسئل عن الخضاب للمحرم؟ فقال: ليس هو بمنزلة الطيب، ولكنه زينة. وسئل عن صيد الليل؟ فقال: لا أعلم فيه شيئًا، حديث ثابت (2) روى فيه حديث ابن عباس، ثم ذكر تفسيره، أُرَاه عن نافع أو غيره، قال: كانوا في الجاهلية إذا خرجوا يُطَيَّرون الطَّيرَ من مكانِهِ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقِرِّوهُ في مَكَانِهِ" (3) يعني: أنه يَضُرُّ ولا ينفعُ، ولم يَرَ به بأسًا. __________ (1) ثبت له حب، يوضع على الطعام. (2) هكذا في الأصول، وكتب الناسخ فوق الكلمتين في (ع وق): "كذا كذا". (3) أخرجه أحمد: (6/ 381)، وأبو داود رقم (2835)، والحاكم: (4/ 237) وغيرهم من حديث أم كرز - رضي الله عنها -.

(4/1390)


وسئل عن أكل الكُرَّاث والبَصَل في السَّفر؟ قال: إن كان من عِلَّةٍ فأرجو، وإن كان من غير ذلك فلا يؤكل، وأما الكُرَّاثُ فليس له كبيرُ شيء، وهو أهونُ من البصل. قيل له: فالثُّومُ؟ قال: إنما جاءتِ الكراهةُ في الثُّوم والبَصَل فلا تأكُلْ. وسألُه عن أكل الطين (1)، سمعتَ في كَرَاهَتِهِ شيئًا يثبت؟ قال: لا، وكأنه لم يكرَهْهُ ولم يتكَلَّمْ فيه. وسئل عن شِراء الأرضِ بالثُّغورِ؟ فقال: هو أيسرُ من غيره؛ لأنهم بإزاء العدو، وهم يدفعون عن المُسلمينَ. فوائد من مسائل أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (2) لأحمد: سمعتُ أبا عبد الله يقول: السَّائمةُ: التي تَرْعَى، والسَّائبة: التي تُسَيَّبُ وليس لها رِعَاءٌ، وفي السائمةِ الزَّكاةُ. وقال رجلٌ لأحمد: بلغني أن نصارى يكتبونَ المصاحفَ، فهل يكونُ ذلك؟ قال: نعم نصارى الحيرة، كانوا يكتبون المصاحفَ، وإنما كانوا يكتبون لقِلَّةِ من كان يكتُبُها، فقال رجل: يعجبُكَ ذلك؟ __________ (1) (ظ): "الجبن"!. (2) ذكره ابن أبي يعلى في "طبقاته": (2/ 30)، والخطيب في "تاريخه": (10/ 111)، روق حسن أحمد كتاب الأشربة، وجزءًا في الحديث، ومسائل صالحة. ت (317).

(4/1391)


فقال: لا يعجبُني. وسئل عن رجل أعطى رجلًا درهمًا يشتري له به شيئًا فخلطه مع دراهمه فضاعا؟ قال: ليس عليه شيءٌ. وسئل عن رجل أوصى أن يشتَريَ بألف درهم فرسًا للجهاد ومئة للنفقة، قال: يُشْتَرَى له مِثْلُ ما أوصى لا يُزادُ على ذلك شيء، قال: فإن أصيبا بأقل من ألف بخمسين أو بأكثر؟ قال: يُزادُ على نفقته. فوائد من مسائل مُثَنَّى بن جامع (1) الأنباري سألته عن رجل استودع مالًا وديعةً، فمات الرجل الذي أودعه وله صبيٌّ؟ وكأنه أوسعَ له أن يدفعَ المستودعُ المالَ إلى رجل مستور ينفقُ عليه، قال القاضي: ومعنى هذا إذا لم يكن وصِيٌّ ولا حاكمٌ. وسُئِلَ عن الرَّجل يكونُ له الجاهُ عند السلطانِ فيُسال له الماءُ، فأَسْتقي منه إذا لم يكنْ له (2) تُرْكيٌّ يرد على من قد سيل عنه، أو نحوًا مما قلت له. فأجازَ لي ذلك إذا أخذت بقَدْر حاجَتي. وذهبَ في الشُّفْعَةِ أن لا يحلفَ للذي يطالِبُهُ، وإنْ قدَّمَهُ إلى الحاكمِ فأخرجَهُ خَرَجَ. ورأى أنَّ ما كان في النُّطفةِ والعَلَقَةِ أنه لا يكون نِفَاسًا، وما كان __________ (1) وقع في (ق وظ) والمطبوعات: "فوائد من مسائل شتى من جامع الأنباري"! والصواب ما أثبت من (ع). وهو: مُثنَّى بن جامع أبو الحسن الأنباري، روى على الإِمام أحمد مسائل حسانًا، وكان الإِمام يعرف قدره وحقَّه. "طبقات الحنابلة": (2/ 410 - 413). (2) (ع): "قولي"!. (ق وظ): "تركي له"، والمعنى: ولم يكن له حارس من الأتراك ..

(4/1392)


في حَدِّ المُضْغَةِ أنه نِفَاسٌ. وودَّعْتُهُ غيرَ مرَّة، فقال: أحسنَ الله لك الصحابةَ، وطوىَ لك البعيدَ. قلت له: كيف الحديثُ الذي جاء في المَعَاريضِ في الكلام؟ قال: المعاريضُ لا تكونُ في الشِّراء والبيع وتَصْلُحُ بين النَّاسِ. وسألتُهُ عن الأذان الذي يوجبُ (1) على من كان خارجًا من المِصْرِ أن يشهدَ الجُمُعَةَ؟ هو الأذانُ الذي على المنارةِ أو الأذانُ الذي بينَ يدي المنبرِ؟ قال: هو الذي في المنارةِ. وسألتُهُ عن كتابةِ الحديثِ بالأجرة (2) فلم يَرَ به بأسًا، وكتابة القرآنِ أيضًا. وسألتُهُ عن رجل اشترى من رجل شيئًا بدنانيرَ أو دراهمَ فدفعها إليه، فقال: اذهبْ فانتقدْها وزِنْ حَقَّكَ ورُدَّ عليَّ الباقِيَ، فضاعتْ؟ فرأى أنها من مالِ المشتري، إلاّ أن يقولُ: هذا حقُّكَ فخُذْ ورُدَّ عليَّ الباقِيَ، فكان معنى قوله: يكونُ من مال البائع إذا ضاعتْ. الرجلُ يُوجَدُ ميتًا مخضوبًا أقلفَ؟ فرأي الصلاةَ عليه. قلت: فإن وُجِدَ مَيِّتٌ أقلفَ؟ فرأى دفْنَهُ ولم يَرَ الصلاةَ عليه. وكنت على باب أحمدَ، فجاء رجلٌ يسألُ عن رجلٍ أراد أن يَتَصدَّقَ، -يعني؟ بمالٍ- أيشتري به موضِعَ غلَّة أو يتصدَّقُ به؟ فخرجَ __________ (1) (ق وظ): "يجب". (2) (ق وظ): "بالأجر".

(4/1393)


إليه الجوابُ: أنه (1) لا يدري من يقومُ بها، وقال: إن كان له قرابةٌ محتاجونَ تصَدَّقَ عليهم. قلت له: ما تقولُ فيمن باعَ دابَّة بنَساءٍ، هل يشتريها من صاحبها إذا حل مالُهُ بأقلَّ مما باعها، إذا كان قَد هَزَّلها وعملَ عليها؟ فقال: فيه اختلافٌ، ولم يُجِزْهُ، ولم يعدلْ عندَه أن يكون مثلَ من باع ما يُكَالُ، فيأخذُ ما يُكَالُ، فذكرت له الشراءَ عند الضَّرورْةِ، فلم يكرَهْهُ. قلت: ما تقولُ إذا ضربَ رجلًا بحضرتي أو شَتَمَهُ، فأرادَنِي أن أشهدَ له عليه عند السلطانِ؟ فقال: إن خافَ أن يَتَعدَّى عليه لم يشْهَدْ، وإن لم يَخَفْ شَهِدَ. ولم يعجبه أن يكونَ في الكفنِ ثوبٌ رقيقٌ، قال: وكانوا يكرهونَ الرَّقيقَ. من مسائل البُرْزَاطِي (2) بخط القاضي انتقاه من خطِّ ابن بَطَّةَ حديث ابن عمر "مضت السُّنَّةُ أن ما أدركته الصَّفْقَةُ حيًّا مجموعًا، فهو من مال المُبتاع" (3). __________ (1) (ق): "فخرج الجواب: إليه". (2) هو: الفرج بن الصبَّاح البُرْزاطي، نقل عن الإمام أحمد أشياء. "طبقات الحنابلة": (2/ 200). والبُرْزَاطي: نسبة إلى بُرْزاط -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- لعلها قرية من قرى بغداد، انظر: "معجم البلدان": (1/ 453). (3) أخرجه ابن وهب في "جامعه" -كما في المحلى: 8/ 365، وتغليق التعليق: 3/ 243 - وعلقه البخاري في الصحيح مجزومًا به "الفتح": (4/ 412). =

(4/1394)


قال ابن بَطَّةَ: أنا أقولُ: هذا الحديثُ مرفوعٌ، ويدخلُ في المسند لقوله: "مضتِ السُّنَّةُ". مسجد فيه نخلةٌ؛ ترى لجيران المسجد أن يأكلوا من ثَمَرَتِها؟ فقال: إن كانتِ النَّخلة في أرضٍ لرجلٍ فجعَلها مسجدًا والنخلةُ فيه (1)، فلا بأسَ أن يأكُلوا (2) منها، وإن كانتِ النخلةُ غُرِستْ بعد أن صار مسجدًا وصُلِّيَ فيه، فهذه غُرِسَتْ بِغير حقِّ، والذي غَرَسَها ظالمٌ غَرَسَ فيما لا يملكُ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" (3)، فلا أحِبُّ الأكل منها، والتَّوَقِّي لها (4) أحبُّ إِلَىَّ. قلت: فترى إن كانتِ النخلةُ هكذا غُرِسَتْ أن تُقْلَعَ؟ قال: من يَقْلَعُها؟ لو فعل ذلك الإمامُ كان (5). وسُئِلَ عن رجلِ تَيَمَّمَ في السَّفرِ لسجود القرآن أو للقراءةِ في المصحف، وصلَّى به فريضةً؟ قال: يُعيدُ ما صلَّى من الفريضةِ بذلك التَّيمُّمِ. قلت: يخرج الرجلُ من الصَّفِّ ويقدَّم أباه في موضِعِهِ؟ قال: ما يعجِبُني هو يقدرُ أن يَبَرَّ أباه بغيرِ هذا. __________ = وقد صححه الحافظ في "التغليق"، وابن حزم في "المحلى". (1) (ق وظ): "فيها". (2) (ع وق): "يأكل". (3) أخرجه أبو داود رقم (3073)، والترمذي رقم (1378)، والبيهقي: (6/ 142) من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه-. (4) كذا في الأصول. (5) كذا في الأصول، وهو واضح، وفي المطبوعات: "جاز".

(4/1395)


رجلٌ تَيَمَّمَ في السَّفَرِ، وصلَّى على جنازةٍ، ثم جيء بجنازةٍ أخرى، يُصلِّي عليها بذلك التَّيَمُّم؟ فقال: إن جيءَ بالأخرى حين سلَّمَ من الأولى، صلَّى عليها بذلك التَّيَمُّمِ، وإن كان بينَهما وقت، مقدارُ ما يمكنُهُ التَّيَمُّم لم يُصَلِّ على الأخرى حتى يُعِيدَ التَّيِمُّمَ. قال القاضي: "قد ذكرنا هاهنا أنه يَتَيَمَّمُ لكلِّ صلاةٍ"، وقال في الفوائت: "يُصَلِّيها بتيمُّمٍ واحدٍ" فيخَرَّج الجميعُ على روايتين. وقوله: "إن جيء بالأخرى حين سَلَّمَ صلَّى بذلك التّيَمُّمِ"؛ لأحد وجهينِ: أحدهما: أن وقتَ الأولى إلى تمامِ فعلِها، فإذا جاءَ بعدَ ذلك وقد خَرَجَ الوقتُ، والتَّيمُّمُ يقدَّرُ (1) بالوقت. والثاني: أنه إذا جاءتِ الثانيةُ عَقِيبَ الأولى لِحِقَت المَشَقَّة في التَّيَمُّم لتفاوُت الزَّمانِ، وإذا تراخىَ لم يَشُقّ، ويجبُ أن تكون المسألةُ محمولةً على أنه تعيَّنَ عليه الصلاةُ عليها، فأما إن لم يَتَعَيَّنْ عليه جاز أن يُصلِّيَ بتَيَمُّمٍ واحدٍ، كالنوافلِ تجمعُ بتَيَمُّم واحدٍ، ولو قيل: إنه يُصَلِّي عليهما بتَيمُّمٍ واحدٍ مع التَّعَيُّنِ (2) وجهًا واحدًا، وفي الفوائتِ على روايتينِ؛ لأن الجنازةَ إذا تعيَّنتْ فهي فرضٌ على الكفاية، فهي أخفُّ، وتلك فرضٌ على الأعياد فهي آكَدُ" انتهى كلامُ القاضي، وعُدْنا إلى مسائل البرزاطي. الرجل يتوضّأُ بفَضْل وضوء (3) المرأة وسُؤْرِها؟ قال: أكرهُ ذلك. __________ (1) (ع): "يتقدّر". (2) (ع): "التعيين". (3) (ع): "طهور".

(4/1396)


قلت: فإنْ توَضَّأَ وصَلَّى؟ قال: لا آمُرُهُ بالإعادَةِ. رجلٌ في سوقِهِ مسجدٌ لا يُصَلَّى فيه إلاَّ الظهرَ والعصرَ، ويسألُهُ أهلُ سوقِهِ أن يُصَلِّيَ بهم فيه هاتينِ الصلاتينِ؟ قال: أحِبُّ له أن يخرجَ يُصَلِّيَ مع الناسِ في مساجدِ الجماعَةِ التي تُصَلَّى فيها الصلواتُ الخمسُ. مسجدٌ في بعضِهِ غَصبٌ (1)؟ قال: إذا كان موقِفُ الإمامِ منه في الغضب أعادَ الإمامُ ومن صلَّى خلْفَهُ، وإذا لم يكن موقفُ الإمامِ في الغضب، أعاد من صلَّى في الغصْبِ. قلت: رجلٌ دخل المسجدَ ورجلانِ يقرآن سورَتَيْنِ فيهما سجدةٌ فسجدا جميعًا، قال: إذا سَمِعَهما جميعًا يقرآن السجدةَ، وقد سجدا، سَجَدَ الرجلين (2) سجدتينِ. سألتُ أحمد عن رجل يعملُ القلانِسَ ويَبِيعُها، فربما خلطَ القطنَ العتيقَ بالقطنِ الجديدِ أو بشيء من الصُّوفِ، وحَشَى القلانِس به؟ قال: هذا من الغِشِّ، وأكرهُ له ذلك إلا أن يعرِّفَ من يشتريها إلى أن القطنَ فيه عتيقٌ وفيه صوفٌ. سألت أحمدَ عن رجل ماتَ وخلَّف أولادًا صغارًا، وخلَّفَ لهم مالًا، ولهم والدةٌ، أتَرَى لها أن تأكلَ من مالهم؟ قال: لا أحِبُّ لها __________ (1) سقطت من (ع) (2) هكذا في جميع النسخ، وكتب فوقها في (ع): "كذا".

(4/1397)


أن تأكلَ من مالِهم إن كان لها مالٌ. قلت: إنها تَكْفِيهم (1) وتحْضُنُهم وتقومُ عليهم، فلا يجوزُ لها أن تأكلَ من مالِهم؟ قال: لا، إلاّ من ضَرُورَةٍ وحاجةٍ، ولا تجدُ إلَّا ذلك، أو تصيرُ إلي الحاكم، حتى يفرضَ لها في مالِهِم حقَّ الحضانَةِ لمثلها. سألت أحمد عن الرجلِ يرهنُ الثوبَ عند التاجرِ، فلمَّا رآه جاء بفكاكِه، أَخرج المُرْتَهِن الثوبَ إليه، فقال الراهنُ: ليس هذا ثوبي، وقال المرتهنُ: هذا ثوبُكَ الذي رَهَنتَهُ؟ قال: القولُ قول الراهِنِ (2) مع يميِنه، "إنَّ هذا ثوبُكَ وإنَّه ما خَرَجِ من يدِهِ إلى يدِ غيرِه منذ أخذه إلى يومِ أخرجَه إليه". وفي الحاشية: بخط القاضي قوله: "القولُ قولُ الرّاهِنِ" سهوٌ من الرَّاوي، ومعناه المرتهنُ؛ لأنَّ كلامَهُ فيما بعدُ يدلُّ عليه، وهو قولُه: "يَمِينك، إنّ هذا ثَوْبُك، ما خَرَجَ من يَدِهِ إلى يدِ غيرِه منذ أخذه"؛ لأنه غارِم ولأنه أمينٌ. قلت لأحمد: ماتت زوجتُه، وقد حكم عليه القاضي أن يدفعَ صبيانَهُ إلى جدَّتِهم لتحضنَهم، وهي في قريةٍ بعيدةٍ عن قريتِه؟ قال: إن كانت بحيثُ يمكنه أن يراهم في كل يومٍ ويَرَوْنَه فلا بأس بذلك، قد قضى أبو بكر على عمرَ أن يدفعَ ابنه إلى جدَّتِه، وهي بقُباء __________ (1) كذا في (ع)، (ق): "تكلفهم"، (ظ): "تكفلهم". (2) كتب فوقها في (ع): "كذا".

(4/1398)


وعمر بالمدينة (1). سألتُه عن معنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن منع نقع البئر (2). قال: هو الرجلُ تكون له الأرضُ، وليس فيها بئرٌ، ولجارِه بئرٌ في أرضه، فليس له أن يمنع جاره أن يسقي أرضه من بئره. سألته: عن إجارةِ بيتِ الرَّحى الذي يديرهُ الماءُ؟ قال: الإجارةُ على البيت والأحجار والحديد والخشبِ، فأما الماءُ فإنه يزيدُ وينقصُ وينضُبُ ويذهبُ فلا تقعُ عليه إجارةٌ. قلت: إذا قال لعبدِهِ: "أنت حُرٌّ"، وقال: إنما أردتُ مِنْ هذه الصَّنعة؟ قال: هو حرٌّ ونِيَّتُهُ فيما بينَه وبينَ الله تعالى (3). وسألته عن رجل يزعمُ أنه يعالجُ المجنون من الصَّرعِ بالرُّقَى والعزائم، ويزعُمُ أنه يخاطبُ الجنَّ ويكلِّمهم، وفيهم من يحدِّثُه، فترى أنه يدفع إليه الرجل المجنون ليعالِجَه؟ قال: ما أدري ما هذا! ما سمعتُ في هذا شيئًا، ولا أحبُّ لأحدٍ أن يفعَلَهٌ، وتركُهُ أحبُّ إليّ. وسئل عن رجلٍ مات وخلَّف ألفَ درهم، وعليه للغرماءِ ألفا درهم، __________ (1) أخرجه مالك في "الموطأ": (2/ 767). (2) الحديث أخرجه أحمد: (6/ 139)، وابن ماجه رقم (2479) وابن حبَّان "الإحسان": (11/ 331)، والحاكم: (2/ 61)، وغيرهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. (3) انظر ما تقدم: (4/ 1372).

(4/1399)


وليس له وارثٌ غيرُ ابنه، فقال ابنُهُ لغرمائه: اتركوا هذه الألفَ في يدي وأَخَروني في حقوقكم ثلاث سنين حتى أُوَفِّيَكُم جميعَ حقوقِكم، ترى (1) هذا جائزًا؟ قال: إذا كانوا قد استحقوا قبضَ هذه الألف وإنما يؤخرونَه فيوفيهم (2) لأجل تركها في يديه، فإذا لا يؤخَّرُ (3) فيه إلا أن يقضوا الألفَ منه ويؤخِّرونه في الباقي ما شاءوا. قلت: وجه هذا: أن الألْف قد انتقلت إلى ملكهم وليس لهم في ذمة الابن شيءٌ، فإذا أخَّروا قبضَها ليستوفوها ألفين. صار كالنسيئة بزيادة، وبعد فلا يخلو ذلك من نظر، فإنهم لو أخَّروا قبضَ الألف اتفاقًا لا لأجل الزيادة، ثم اتَّجر الولدُ بالتركة، وربح فيها ما يقوم بوفائهم لاستوفوا (4) حقَّهم كلَّه، ولا يكون هذا من بات عمل الإنسان في مال غيره، فإنهم لا يستحقون الربح كله، وإنما يستحقون منه تمام حقهم وحق الغرماء. وإن تعلَّق بالتركة، فهو كتعلق الوهن، لا أنهم يملكون التركة بمجرَّد موت الغريم، ولو وفَّاهم الورثة من غيرها لم يكن لهم أن يمتنعوا من الاستيفاء، وهذا على قولنا: إن الدين لا يمنع انتقال التركة إلى الوَرَثة أظهر، فإن التركة تنتقل إليهم وتبقى ديونُ الغرماء على نفس التركة (5)، فلو ربحتْ لاستحقوا من الربح بقدر ديونهم، __________ (1) قبلها في (ع): "فلم"! ولعلها تكرار لجزء كلمة "حقوقكم". (2) ليست في (ظ). (3) (ع وق): "لا خير" وفي محتملة. (4) (ق): "لاستحقوا". (5) من قوله: "إلى الورثة ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1400)


وليس هذا من الربا في شيءٍ، فإن الغريم يستحق الألفين استحقاقًا صحيحًا بوجه لا ربا فيه، وإنما يؤخَّرُ قبض بعض حقه ليستوفيه كاملًا، فليس هذا من باب الزيادة على رأس ماله لأجل الأجل في شيءٍ، وهذا حقيقة الربا. وإنما هذا صبر منه ليستوفي ما وَجَب له بأصل العقد، كما لو كان الغريم حيًّا وأفلس، ولم يَسَع ماله لوفاء ما عليه، فيصبر الغرماء ليستوفوا حقهم كاملًا، ولا يُغني الفرق بأن ذمة الميت قد خربت بالموت، وذمة المعسر ياقية لوجهين: أحدهما: المنع، بل الدين باقٍ في ذمةِ الميِّت، كما هو باقٍ في ذمة الحيّ، وإنما تعذَّرت المطالبة بالموت، والذمةُ مشغولةٌ مرتَهَنة بالدين، وتعذُّرُ مطالبَتِه كتعذر مطالبة الغريم إذا سقط عنه التكليف بالجنون، وذلك غير مانع من التأخير لتمام الاستيفاء، فكذا في الموت، وهذا على أصول أبي عبد الله وقواعِدِه أَطْرَد، والله أعلم. ومن مسائل أبي جعفر محمد بن علي الورَّاق (1) قيل له: قال: حجَّ عني، قال: يحجُّ عنه، يعني: يفرد الحج، قيل له: قال وما فَضَل فهو لك، كيف ترى؟ قال: إذا قال فأرجو أن يطيب له. صلّى بنا أبو عبد الله يوم جمعة صلاة الفجر، فقرأ: (تنزيل السجدة، وعبس) فسها أن يقرأ السجدة، فجاورها فسجد سجدتي السهو قبل التسليم. __________ (1) الجرجانيّ المعروف بـ "حمدان" له عن أبي عبد الله مسائل حِسَان ت (271)، "طبقات الحنابلة": (2/ 334).

(4/1401)


قيل له: لِمَ سجدتَ سجدتي السهو؟ قال: لا يضره، وذكر حديث ابن عباس: "إن استطعتَ أن لا تُصلِّيَ صلاةً إلاّ سجدتَ بعدَها سجدَتَين" (1) أما رأيتني ما صنعتُ، يقول: إني لم أقرأِ السجدةَ. قلت: هذه الروايةُ في غايةِ الإشكال؛ لأن سجدةَ يوم الجمعة ليست من سُنن صلاة الفجرِ، ولهذا لا يستحبُّ أن يتعمَّدَ قراءة آيةِ سجدةٍ من هذه السُّورة ولا من غيرِها في فجرِ الجمعةِ، وإنما المقصودُ قراءةُ هاتينِ السورتين (تنزيل، وهل أتى)، لما فيهما من مبْدَءِ خَلْقِ الإنسان، وذكر القيامَةِ، فإنهما في يوم الجُمُعَةِ، فإن آدمَ خُلِقَ يومَ الجُمُعةِ، وفي يوم الجمعة تقومُ الساعةُ، فاستحبَّ قراءة هاتينِ السُّورتين في هذا اليومِ تذكيرًا للأمَّةِ بما كان فيه ويكونُ، والسَّجدةُ جاءت تَبَعًا غيرَ مقصودة، فلا يستحبُّ لمن لم يقرأْ سورة "تنزيل" أن يتعمَّدَ قراءة آية سجدةٍ من غيرها، لا سيَّما وقد آل هذا بخلقٍ كثيرٍ إلى اعتقادهم أن يومَ الجمعةِ خُصَّ بزيادةِ سجدة، فيشتدُّ إنكارُهُم على من لم يسجدْ ذلك اليومَ، وربَّما يُعيدونَ الصلاة، وينسبونه مع سَعَةِ علمِه وفقهِه إلى أنَّه لا يُحْسِنُ أن يُصَلِّي. ولهذا والله أعلمُ، كَرهها مالكٌ وأبو حنيفة وغيرهما، فالسَّجدةُ ليست من سنن الصَّلاة (2)، فلا يستحبُّ سجودُ السَّهوِ لِترْكِها، وهذا إن كان قد صَحَّ عن أحمد فالظاهر -والله أعلم- أنه رَجَعَ عنه، ولم يستقرَّ مذهبُه عليه. __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (2/ 81) بسندٍ صحيح. (2) وانظر: "زاد المعاد": (1/ 375).

(4/1402)


وقوله عن ابن عباس: "إن استطعتَ أن لا تُصَلِّيَ صلاةً إلاّ سجَدتَ بعدَها سجدتين" إنما أرادَ به ابنُ عباس الركعتينِ بعد الفريضة جابرتين لما يكونُ في الفريضة (1) من خَلَلٍ، والركعةُ تُسمَّى سجدة، وقال ابنُ عمر: "حفظتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجدتينِ قبل الصُّبح، وسجْدَتَيْنِ قبلَ الظُّهرِ، وسجدتينِ بعدَها" (2) الحديث. وهو كثيرٌ في الأحاديث والآثار إطلاقُ اسمِ السَّجدتين على الركعتين. وقد ذهبتْ طائفةٌ من الزيدية إلى أنه يشرعُ لكلِّ مُصَلٍّ أن يسجدَ سجدتي السَّهو في آخر كلِّ صلاةٍ، ولعلهم فهموا ذلك من قولِ ابن عباس، والله أعلم. ولا أعلم للورَّاق متابعًا على هذه الرِّواية، والمذهبُ على خلافِها (3). عدنا إلى مسائِله: قال: قلت: الإِمامُ إذا خَتَمَ يقرأُ المعوِّذَتَيْنِ، يقرأُ بفاتحة الكتاب، ويبتدئُ بالبقرة؟ قال: لا أدري ما سمعت في هذا بشيء (4). قلت: تجزئُ العِمامَةُ في الكسوة في كفَّارة اليمين؟ فقال لي: تجزئُ القَلَنْسُوَةُ، ثم قال: لا إلَّا الثوبُ أو القميصُ، وإن كسا امرأة فقميصٌ ومَقْنَعةٌ؛ لأنه لا يجوزُ للمرأةِ أن تصلِّيَ إلاّ في قميص ومقنعة، الكُسوةُ فيما تجوزُ فيها الصَّلاة. __________ (1) "جابرتين لما يكون في الفريضة" سقطت من (ق)، وفي (ظ): "جابرين بما يكون من الفريضة". (2) أخرجه البخاري رقم (1180)، ومسلم رقم (729). (3) هذه الجملة سقطت من (ظ). (4) انظر: "سنن القراء": (ص / 226 - 227) و "إعلام الموقعين": (4/ 306).

(4/1403)


وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: لا أدري، فردَّها الرجلُ عليه، فقال: أكلُّ العلمِ نحسِنُهُ نحن؟! قال: فأَذْهَبُ إلى هؤلاءِ فأسْألُهم؟ -يعني: أصحابَ الرأي- فقال: لا، انظرُ إلى من يذهبُ إلى رأي أهلِ المدينةِ. وسمعتُ أحمد يقول: كان الحجَّاجُ بن أرطاةَ يقول: لا تقولوا في حدَّثَكَ، ولا من أخْبَرَكَ؟ قولوا: من ذَكَرَهُ، قيل له: كان يُدلِّسُ؟ قال: نعم. ومن مسائل أبي العباس أحمد بن محمَّد البِرْتي (1) قلت: إذا الْتَعَنَ الزوجانِ، ما أمرهما فسخ أو طلاق بتفريق الحاكمِ؟ وكيف يكونُ حالُ المرأة إذا ارتدَّت عن الإِسلام والخُلْع وما أشبه هذا؟ فقال: هذه مسألةٌ أنا فيها منذُ ثلاثينَ سنةً، لم يَتَّضِح الأمرُ فيها، فلا أدري اللِّعَانُ (2) فيها أو لا (3)؟ ومن مسائل زياد الطوسي (4). سألته عن العقيقةِ؟ فقال: ليست بواجبةٍ، وقد رُويَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه عَقَّ عن الحسن والحسين (5). __________ (1) هو: أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر، أبو العباس البِرْتى، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة ت (280). والبِرْتى -بكسر الموحَّدة وسكون الراء- نِسبة إلى بِرْت قرية في نواحى بغداد. "طبقات الحنابلة": (1/ 159 - 161)، و "معجم البلدان": (1/ 372). وتحرفت "البرتي" في (ق وظ). (2) (ع): "وما أدري ما اللعان ... ". (3) وانظر: "زاد المعاد" (5/ 390). (4) هو: زياد بن أيوب بن أبو هاشم الطوسي، المعروف بـ "دِلُوْيَه"، ت (252)، "طبقات الحنابلة": (1/ 419 - 423). (5) أخرجه أبو داود رقم: (2841)، والنسائي: (7/ 165 - 166) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وأعله أبو حاتم بالإرسال، كما في "العلل": (2/ 49). =

(4/1404)


قال زياد: وأخبرني ابنه عبد الله أنه قال: تُعْطَى القابلة الرحل، كذا بخط القاضي، بحاء مهملة، وهو سهوٌ منه، وصوابه: الرِّجْلُ بالجيم. وروى أحمدُ بإسناده أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يبعثوا إلى القابلة بِرِجْل (1) -يعني من العَقِيقةِ- ذكره الخلاَّلُ في "جامعه". عدنا إلى المسائل (2): قال: وسمعت أحمد يقول: لا يعجبُنا أن يقول: مؤمنٌ حقًّا ولا يكفرُ من قاله، قال وسمعته يقول: لا تسمِّي في التَّشَهُّدِ إلا ما رُوي عن عبد الله: التَّحِيَّاتُ لله. ومن مسائل بكر (3) بن أحمد البُرَاثي (4) سألتُ أبا عبد الله: إذا فاتتني أوليُ صلاةِ الإمامِ، فأدركتُ معه ركعةً من آخِرِ صلاتِهِ؟ فقال لي: تقرأُ فيما يقْضى -يعني: الحمدُ لله __________ = وأخرجه الحاكم: (4/ 237)، والبيهقي: (9/ 299 - 300) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، ورُوِي أيضًا عن حديث جماعة من الصحابة. (1) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 115)، وأبو داود في "المراسيل": (رقم 379)، وعنه البيهقي: (9/ 302) عن محمَّد بن علي بن الحسين مرسلًا. (2) ليست في (ظ). (3) (ق): "أبي بكر". (4) هكذا في النسخ، و "البراثي" ليست في (ظ)، ولم أجد في أصحاب أحمد من يُسمَّى "بكر بن أحمد ... "، وليس في أصحابه ممن يسمى بكرًا إلا: بكر بن محمَّد البغدادي النسائي الأصل أبو أحمد، "طبقات الحنابلة": (1/ 318). وهذه المسألة بعينها ساقها ابن أبي يعلى في ترجمة: أحمد بن محمَّد أبو العباس البُرَاثي، "طبقات الحنابلة": (1/ 153 - 154)، فالله أعلم.

(4/1405)


وسُورة- وفي القعودِ تقعُدُ على ابتداء صلاتِكَ (1). ومن مسائل الفضل بن زياد (2) قال: سمعتُ أبا عبد الله قيل له: ما تقولُ في التَّزويج في هذا الزَّمان؟ فقال: مثلُ هذا الزمان ينبغي للرَّجل أن يَتَزَوَّجَ، ليت أن الرجلَ إذا تزَوَّجَ اليومَ ثنتين يُفْلِت (3)، ما يأمنُ أحدكم أن ينظرَ النَّظْرة فَيحْبَط عملُهُ. قلت له: كيف يصنُعُ؟ من أين يطعمُهم؟ فقالت: أرزاقُهم عليك؟! أرزاقُهم على الله عزَّ وجلَّ. ومن مسائل عبد الملك الميموني (4) قال: الزكاةُ أهونُ من الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الله قال فيها: {وَابْنِ السَّبِيلِ} فهو حِينَ يأخذُ الزكاةَ: فيخرجُ من منزله تلك الساعة هو ابنُ السبيل. قال القاضي: "قوله: "حينَ يأخذُ الزكاةَ يخرجُ من منزله تلك الساعة هو ابن سبيل" (5)، يدلُّ على أن ابنَ السبيلِ هو المنشئُ للسفر، وعنه خلافٌ، وأنه المختارُ". انتهى كلامه. __________ (1) انظر: "مسائل عبد الله": (2/ 355)، و"مسائل صالح": (1/ 370، 452، 2/ 260). (2) القطان البغدادي، تقدمت ترجمته (ص / 976)، وبعض مسائله (ص / 986، 991، 1002)، وله عن أبي عبد الله مسائل كثيرة. (3) (ق): "بمفلت"، (ظ): "فقلت"! وكذا في المطبوعات. (4) الميموني من كبار أصحاب أحمد والملازمين له، له عنه مسائل كثيرة جليلة، تقدمت ترجمته (ص / 963) وبعض مسائله (ص / 991، 993). (5) من قوله: "قال القاضي ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1406)


ولم يفسِّر قولَ أحمد: "الزكاةُ أهونُ من الصَّدقة"، وأُرَاه قد خَفِيَ عليه معنى كلامِ أحمد، ولم يُرِدْ أحمدُ ما فَهِمَ القاضي. وقال الميمونيُّ: قلت: يعتقُ من زكاته؟ قال: نعم، قلنا له: فإنْ جَنَى جنايةً أو أحدَثَ حَدَثًا أليسَ يرجعُ عليه؟ قال: بلى، قلنا له: فميراثُهُ له؟ قال: لا، قلنا: ولِمَ؟ قال: لأنَّ ذا للهِ، فإذا ورثَ منه شيئًا جعله في مثلِهِ، قلت: يعقلُ عنه ويؤخذُ بِجَريرتهِ في جنايَتِهِ فإذا ماتَ ذهب ميراثُهُ؟ قال: هو أراده وضيَّعَه بنفسِه. وسألته عن الحَبِّ يُجْمَعُ؟ قال: مسألة فيها اختلافٌ، قلت: إذا كنا نذهبُ في الذَّهبِ والفضَّةِ إلى أنْ لا نجمَعها، لم لا تُشَبَّهُ الحبوبُ بهما؟ قال: هذه يقعُ عليها اسمُ طعامٍ واسمُ حبوب. قال: ورأيتُ أبا عبد الله في الحبوب يُحِبُّ جمعَها، ومذهبُهُ في الذهب والفضَّةِ والبقرِ والغنَمِ أن يُزَكَّى كلُّ واحدٍ منها على حِدَتِه ولا يجمعُ بعضُها إلى بعض. سألته عن الرجل من أهل الكتاب لي عليه اليمين: أستحلفُهُ؟ قال: نعم، إلاَّ أن من الناس من يقول: يستحلفه بالكنيسة ويغلظُ عليه بأيمانهم، ومنهم من يقول: يستحلفُه باللهِ. قلت: فإذا استحلفه بالله (1) أو بالكنيسة، أليس ترى ذلك جائزًا؟ قال: بلى، وإذا رُفِعَ إلى الحاكم استحلفه بالكنيسة ويغلظ عليه، أو بالله عزَّ وجلَّ. في الحاشية بخط القاضي: قوله: "أو بالكنيسة" يحتملُ أن يريد به: __________ (1) "قلت: فإن استحلفه بالله" سقطت من (ع وق).

(4/1407)


يستخلِفُهُ بالله في الكنيسة، ولم يُرِدْ أنه يَحْلف (1) بها. ويحتمل أن يريدَ يستحلفُه بالله، ويضم إليه: وهدم الله الكنيسة (2). قلت: ما تقولُ في الصَّفِيِّ (3)؟ قال: ذاك شيءٌ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً. قلت: فيكون للخليفةِ بعدَه قال: لا، إنّما كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً. قلت: قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الآية، إنْ جعلها رجلٌ في صنفٍ واحدٍ أجزأ عنه؟ قال لي: ما علمتُ أنَّ أحدًا قال بذا، يُجعل في الأصناف كلِّها. وقال: أرأيتَ إن كان عندَه عشرةُ آلافٍ، وعليه عشرةُ آلافٍ (4) لا يَحُجُّ، ما تقول في حجِّ هذا إذا حجَّ؟ قلت: على القياس حَجُّهُ فاسدٌ على قول من قال: ليس له أن يَحُجَّ من هذا المال. فقال لي: ما يرى هذا إلاَّ شنيعٌ. قلتُ: هذا القياسُ غيرُ صحيح؛ لأنه وإن كان دينُهُ بقدْر ما بيدِه فهو لم يحجَّ بمالٍ حرام، حتى تكونَ مسألةُ الحَجِّ بالمال الحرامِ، وإنما حجَّ بمالِه نفسِه، ولكنه أثِمَ بتأخيره قضاءِ الدَّيْن من هذا المالِ، ولو أنه اكتسبَ في هذا المالِ ونما، لكان نماؤُه له يختصُّ به، ولو __________ (1) (ق وظ): "أن يحلفه". (2) كذا في (ق وظ) و (ع): "وهدمت إليه". وقد نقل هذه الرواية عن الميموني ابن مفلح في "الفروع": (6/ 284). (3) هو: ما يختار قبل قسمة الغنائم، كجارية وعبد وثوب ونحوه، قال في "المبدع": (3/ 363): "وانقطع ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - بغير خلافٍ نعلمه، إلا أبا ثور فإنه زعم أنه باق للأئمة بعده" اهـ. (4) "وعليه عشرة آلاف" سقطت من (ع).

(4/1408)


تصدَّق منه لكان ثوابُهُ له، فلا يصِحُّ قياسُها على ما لو سَرَق مالًا لغيره وحَجَّ به. عدنا إلى المسائل: قلت: تخرجُ صدقة قومٍ من بلد إلى بلد؟ قال: لا، إلا أن يكونَ فيها فضلٌ عنهم. قلت: كيف يكونُ من فَضْلٍ؟ قال: يُعطيهم ما يَكفيهم، ويُخْرِجُ الفضلَ عنهم؛ لأن الذي كان يجيءُ المدينةَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر إنما كان من فضلٍ عنهم. وقال لي أبو عبد اللهِ: إذا بَيَّتَ فأصابَ نساءَهم فليس عليه كفَّارةٌ، وليس عليه شيءٌ، وإذا عمد فليس عليه -أيضًا- لا دِيَةٌ، ولا كفَّارةٌ، ولكن لا يَقْتلُ، لا يدخل في نهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو عبد الله: إنما الجهرُ بالقراءة في الجماعة، أرأيتَ إن صلَّى وحدَه عله أن يجهَرَ؟! إنما الجهرُ في الجماعةِ إذا صلَّوا. وسألوه عن الجُرْح يكونُ بالإنسان يخاف عليه، كيف يمسح عليه؟ قال: ينزع الخِرْقَةَ، ثم يمسحُ على الجرحِ نفسه. قلتُ: هذا النَّصُّ خلافُ المشهور عندَ الأصحاب، فإنَّهم يقولونَ: إذا كان مكشوفًا لم يمسحْ عليه حتى يسترَهُ، فإن لم يَكنْ مستورًا تَيمَّمَ له، ونصُّ أحمدَ صريحٌ في أنه يكشف الخِرْقَةَ، ثم يباشرُ الجرحَ بالمسحِ، وهذا يدلُّ على أن مسحَ الجرحِ البارزِ أولى من مسحِ الجَبِيرَةِ، وأنه خيرٌ من التَّيمُّمِ، وهذا هو الصَّوابُ الذي لا ينبغي

(4/1409)


العُدولُ عنه، وهو المحفوظُ عن السَّلفِ من الصحابة والتابعينَ، ولا ريْبَ أنه مقتضى القياس، فإنَّ مباشَرةَ العضو بالمسحِ الذي هو بعضُ الغَسْل المأمورِ به أولى من مباشرةِ غيرِ ذلك العضوِ بالتُّراب، ولم أزل استبعدُ هذا، حتى رأيتُ نص أحمدَ هذا بخلافه، ومعلوم أن المسحَ على الحائلِ إنَّما جاء لِضَرورةِ المشقَّةِ بكشفِهِ، فكيف يكونْ أولى من المسحِ على الجرح نفسِه بغير حائلٍ؟! فالقياسُ والآثارُ تشهدُ لصحَّةِ هذا النَّصِّ، والله أعلم. وقد ذكرتُ في الكتاب الكبير: "الجامع بين السنن والآثار" (1): من قال بذلك من السّلف، وذكرت الآثارَ عنهم بذلك وكان شيخُنا أبو العباس ابن تيميَّة: يذهبُ إلى هذا، ويضعفُ القولَ بالتَّيمُّم بدلَ المسحِ (2). رجعنا إلى المسائل: وقال: إذا كان الإمامُ من أئمةِ الأحياء يسكر؛ هذا لا تُقْبَلُ له صلاة أربعينْ يومًا، كيف أُصَلِّي خلفَ هذا؟! أَلِيْ (3) أن أختارَ؟ ليس هو واليَ المسلمينَ، والصلاةُ خلفَ الوُلاةِ لا بُدَّ، والصلاةُ خلف أئمَّةِ الأحياء لنَا أن نختارَ. قال أبو عبد الله: لم تَرِثْ بناتُ عُمر من مواليه شيئًا (4). __________ (1) لم أر ذكرًا لهذا الكتاب عند مترجمي ابن القيم، ولا أشار إليه المؤلف في غير هذا الموضع. (2) انظر: "الفتاوى": (21/ 178). (3) (ظ): "لي". (4) أخرجه الدارمى: (2/ 489)، وعبد الرزاق: (8/ 422).

(4/1410)


ومن مسائل الفضل بن زياد القطان سمعتُ أحمد وسُئلَ عن الرَّجل يختِن نفسَهُ، فقال: إذا قَوِيَ على ذلك. قلت: من أقرأُهم؟ قال: أحفظُهم. سألتُ أحمدَ عن التطَوَّعُ جالسًا هل يَتَربَّعُ؟ قال إن كان يُطيلُ القراءَةَ تَرَبَّعَ، وإن كان يُكْثِرُ الركوعَ والسجودَ لم يَتَربَّعْ. وسألت أحمد عن الرَّجل يُصَلِّي تَطَوُّعًا، فَيُصَيِّرُ بعض ذلك عن والدته (1)؟ فقال: أما الطَّوافُ فقد سَمِعنا، وأما الصَّلاةُ فما أدري أحتاجُ أن أنظرَ فيه. وسمعته سُئل عن القُنوت قبل الرُّكوع أو بعدَ؟ فقال: كلٌّ (2) حسَنٌ إلاّ أني أختارُ بعدَ الرُّكوع. وسألتُه: إذا قنَتَ الرجلُ في الوِترِ يُكَبِّرُ ثم يقنُتُ؟ فقال: إذا قنت قبل الركوع ففرغ من القراءة (ق/337 أ) كبَّر ثم قنتَ، وإذا قنت بعد الركوع، في فرع رأسه من الركوع قال: "اللَّهمَّ إنَّا نستعينُك ... " ولم يكَبِّر. وسألته عن قَدْر القيام في القُنوت؟ فقال: كقُنوتِ عُمَرَ (3). وسمعتُه سئل عن الإِمام يقنُتُ ويُؤمِّنُ من خَلْفَهُ؟ قال: ما أحسَنَه __________ (1) هكذا في النسخ، وليس: "والديه". (2) (ق وظ): "كان". (3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 110)، وابن أبي شيبة: (2/ 106)، والبيهقي: (2/ 211)، وصححه البيهقي.

(4/1411)


إلاّ أنّا نحن ندعو جميعًا. سألتُ أحمد قلت: أختم القرآن أجعلُه في الوِتر أو في التَّراويح؟ قال: اجعله في التَّراويح. قلت: كيف أصنعِ؟ قال: إذا فرغتَ من آخرِ القرآن فارفعْ يديك قبلَ أن تركعَ، وادْعُ بنا ونحن في الصلاة، وأطِلِ القيامَ. وسألتُ أحمدَ عنِ إمام قومٍ، إذا كان آخرِ ليلةٍ من الشَّهر أقْبَلَ على الناسِ، ووعَظَ وذَكَّر وحَمِد الله وأثنى عليه ودعا؟ قال: حَسَن، قد كان عامَّةُ البصريين يفعلون هذا. أخبرنا أحمد، ثنا عبد الرزاق، أبنا عَقِيل بن مَعْقِل، عنْ وهب بن منَبِّهٍ، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن النُّشْرَةِ فقال: "هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ" (1). كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث ابن عباس: "إيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ" (2)، ما معنى الغُلُوِّ؟ فأتاني (3) الجوابُ: يغلو في كلِّ شيء في الحبِّ والبغضِ. صافحتُ أبا عبد الله كثيرًا فصافَحني، وابتدأني بالمُصافحة غيرَ مرَّة، ورأيتُه يصافِحُ الناسَ كثيرًا. أخبرنا أبو طالب عن أبي عبد الله قال: قلتُ: هؤلاء إذا قلنا لهم: __________ (1) أخرجه عبد الرزاق: (11/ 13)، وأحمد: (22/ 40 رقم 14135)، وإسناده صحيح. (2) أخرجه أحمد: (3/ 350 رقم 1851) وابن ماجه رقم (3029)، وابن خزيمة رقم (2867)، وابن حبان "الإحسان": (9/ 183)، وغيرهم. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وابن تيمية في "الاقتضاء": (1/ 328). (3) (ق): "فأتى في"

(4/1412)


يهديكم الله ويصلحُ بالكم، قالوا: إنما قال هذا لليهود، أليس يقرءون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} قلت: أليس دعاء النبي: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" (1)؟ قال: بلى. الفضل: قال أبو طالب: سألته عن اليهود والنصارى، من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أُمَّتِي أُمَّتِي" (2) لا يقع على اليهود والنصارى. وسألتُ أبا عبد الله عن الرجلِ يشتري الأضْحيَةَ ثم يبدو له أن يشتريَ خيرًا منها؟ فقال: إذا سمَّاها فلا يَبيعُها إلا لمن يريدُ أن يُضَحِّيَ بها. وسألته عن الإزار تحتَ السُّرَّةِ أعجبُ إليك أم فوقَ؟ فقال: تحت السُّرَّةِ. وسمعتُه سُئل عن معنى: "لا تَرَاءى نَارَاهُما" (3)؟ فقال: لا ينزل من المشركينَ في موضع إذا أوقدتَ رأَوْا فيه نارَكَ، وإذا أوقدوا رأيتَ فيه نارَهم، ولكن تباعَدْ عنهم (4). __________ (1) أخرجه أحمد: (3/ 245 رقم 1718)، والنسائي: (3/ 248)، وابن خزيمة رقم (1095)، والحاكم: (3/ 172) وغيرهم من حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما -. والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وغيرهم. (2) أخرجه البخاري رقم (44) ومسلم رقم (193) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (3) أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 468)، وأبو داود رقم (2645) والترمذي رقم (1604) والبيهقي: (9/ 142) وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- وصحح البخاري والترمذي فيه الإرسال كما في "الجامع"، و "العلل الكبير": (2/ 686). (4) وفي معناه ثلاثة أقوال ذكرها الخطابي في "المعالم" (3/ 105).

(4/1413)


وسألته عن طواف الزِّيارة كم هو؟ قال: واحدٌ وعشرون طَوافًا، ثلاثةُ أسابيع كذلك أعجبُ إلينا. قلتُ: يريدُ أحمد أن أكملَ الطوافِ ثلاثةُ أسابيع: سبع للقُدْوم، وسبع للإفاضة، وسبع للوَدَاعِ، فأجاب السائل عن سؤاله وغيره، وقد صرَّح بهذا في موضعِ آخر (1). وسمعتُه يقول لقوم قدِموا من مكَّةَ: باركُ الله لكم في مَقْدَمِكُمْ، وتَقَبَّلَ منكم. وسمعتُه، سُئلَ عن المرأة تَلْبَسُ الحُلِيَّ وهي مُحْرْمَةٌ؟ فقال: لا بأسَ به. وسمعتُه سئل عن محْرِمٍ أحرمَ من خُراسَانَ، فلما صار ببغداد ماتَ أوصى أن يُحَجَّ عنه، يُحْرَمُ عنه من بغدادَ أو من المواقيت؟ قال: من المواقيت. وسألتُهُ عن المحرمِ يستظِلُّ؟ قال: لا يستظل. قلت: ترى عليه دمًا؟ فقال: الدمُ عندي كثيرٌ. كتبتُ إليه أسالُهُ عن رجلٍ له قراباتُ محاويجُ، لا يعرفونَ شرائعَ الإِسلام، ولا يتعلَّمونه، أيضعُ زكاتَهُ فيهم، أو في من يعرفُ شرائعَ الإِسلامِ (2) من غير القراباتِ؟ فأتى الجواب: ينبغي له أن يُعَلِّمَهم ويَضَعَها فيهم ويُعْطِيَهُم من غير الزَّكاةِ (3). وكتبتُ أسألهُ عن الحديث: "من أقَرَّ بالخَراجِ وهو قادرٌ على أن __________ (1) انظر ما تقدم (ص / 1390). (2) من قوله: "ولا يتعلمون ... " إلى هنا ساقط من (ع). (3) هذه المسألة مع جوابها سقطت من (ظ).

(4/1414)


لا يُقِرَّ به فعليه لعنةُ الله"؟ فأتى الجواب: ما سمعنا بهذا هو حديثٌ منكرٌ. وقد رُوِيَ عن ابن عُمَرَ أنه كان يكرهُ الدخول في الخَراجِ، وإنما كان الخَراجُ على عهد عُمَرَ (1). وسألته على الرجل يكتبُ على الرجل ولا يراه؟ فقال: كتبتُ على عليِّ بن هاشم (2) ولم أرَهُ. نافع، عن ابن عمر قال: كان يبعثُ بها قبلَ الفطر باليومين والثلاثة إلى المجمع، وكان عطاء يُعطي على أبويه صَدَقَةَ الفطرِ حتى مات. قيل لأبي عبد الله: يعجِبُكَ هذا؟ قال: هذا تَبَرُّعٌ، ما أَحْسَن هذا. سمعت أبا عبد الله يقول: أكذبُ الناسِ القُصَّاصُ والسُّؤْآل. وسمعته يردُّ على السَّائل إذا وقف ببابه: أعاننا اللهُ وإيَّاكَ. كتبتُ إليه أسأله عن رجل يعملُ الخوصَ قوته، ليس يُصيب منه أكثرَ من ذلك، هل يُقْدم على التزويج، فأتاني الجواب: يقدم على التَّزويج، فإنَّ الله يأتي برزقِها، ويتزوَّجُ ويستقرضُ. وسألتُه على رجل تزَوَّجَ امرأةَ على ألفِ درهَمٍ، فبعث إليها بقيمَةِ متاعٍ وثيابٍ ولم يخبْرهم أنه من الصَّدَاقِ، فلما دخل بها سأَلتْهُ الصَّدَاقَ؟ __________ (1) في "مسائل صالح بن الإمام أحمد" (رقم 174) أنه سأَل أباه عن الحديث نفسِه، فأجابه بالجواب نفسِه؛ لكن فيه سياق إسناد الحديث على أنس -رضي الله عنه-. وقد نقل ابن أبي حاتم في "العلل": (2/ 441) سؤالَ صالح لأبيه، وجوابَ الإمام أحمد، ثم قال أبو حاتم عقبه: "هذا حديث باطل لا أصل له" اهـ. (2) (ق وظ): "هشام"! وهو خطأ، وعلي بن هاشم من رجال التهذيب.

(4/1415)


فقال أبو عبد الله: لها ذلك. قلت: فإنه قال لها: إني قد بعثتُ إليك بهذا المتاع واحتسبتُه من الصَّداق (1)، فقالت المرأةُ: إنما صَداقي دراهم، فقالَ أبو عبد الله: صَدَقَتْ، قلت: كيف يصنع بهذا (2)؟ قال: تَرُدُّ عليه الثياب والمتاعَ، وترجعُ المرأةُ عليه بصَدَاقِها. وسئل عن رجلِ قال لامرأته: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا إن لبستُ أمِ غَزْلِكِ"، وعليه من غَزْلها؟ قال: يُلقي ما عليه من غَزْلها ساعةَ وقعتِ اليمينُ، قل له: فإن هو نسيَ وذكر بعدُ؟ قال: يُلقيه عه ساعةَ ذكر، قيل له: فإن مشى خطُوَاتٍ وهو ذاكر له، يقول: الساعة ألقيه؟ [قال]: أخشى أن يكون قد حنث. قلت: هذا منصوص أحمد هاهنا، وفي مسألة الحمل: إذا قال: "إن حَمَلْتِ فأنتِ طالقٌ"، فبانَتْ حاملًا طَلُقَتْ. وقال صاحب "المحرَّر" (3): وعندي: أنها لا تطْلُقُ إلاَّ بحمل مُتَجَدِّدٍ. وقد وافق أبو البركات على مسألة اللُّبس، فقال: إذا حلف لا يلبسُ ثوبًا (4) هو لابسُهُ، أو لا يسكنُ دارًا هو ساكنُها، أو لا يساكنُ فلانًا (5) وهو مساكِنُهُ، فاستدامَ ذلك، حَنَثَ، وكذلك إذا حلَف أنْ لا يَتَسرَّى فوطِئَ أمَةً له قال: يحنَثُ، ثم قال: وإن حلفَ لا يَتَطَيَّبُ __________ (1) من قوله: "فلما دخل بها ... " إلى هنا ساقط من (ق وظ). (2) (ق): "يضيع هذا". (3) (2/ 70). (4) (ق): "شيئًا". (5) (ق): "إنسانًا".

(4/1416)


وهو مُتَطَيِّبٌ، أو لا يَتَطهَّرُ وهو مُتَطَهِّرٌ، أو لا يَتزوَّجُ وهو متزوِّجٌ، فاستدام ذلك لم يحنثْ، ثم قال: وإنْ حلفَ لا يدخلُ دارًا هو فيها فهلْ يحنثُ بالاستدامة إذا لم تكن له نِيَّةٌ (1)؟ على وجهين (2). وهذه المسائل تحتاجُ إلى فرقٍ صحيحٍ، ويعسُرُ أو يَتَعذَّرُ إبداؤُهُ، فإنَّا إن اعتبرنا النِّيَّةَ فالجميع سواءٌ، وإن تعذَّرَ اعتبارُ النية لم يظهرْ فرقٌ أَلبتَّةَ بينَ أن يحلفَ أن لا يَتَسَرَّى وأن يحلفَ أن لا يتَزَوَّجَ، وغايةُ ما يمكنُ أن يفرقَ بينهما: أن التَّسَرِّيَ مأخوذٌ من السِّرَّ، وأصله التَّسرُّرُ، وهو الوطءُ؛ لأنه يكون سِرًّا، فيحنَثُ بوطء أَمَتِهِ، بخلافِ التَّزَوُّجِ، فإنَّ وطءَ الزوجة لا يقالُ له: تزوُّجٌ. وهذا الفرقُ ليس بشيء، فإن التَّزَوُّجَ أيضًا مأخوذٌ من ضم الزَّوج إلى زوجه، ولكن عند الإطلاق لا يفهمُ من التَّسَرِّي والتَّزَوُّجِ إلا تجديدُ فراشِ أمَتِهِ أو زوجِهِ، فإن كان استدامةُ فراشِ الأمَةِ يُعدُّ (3) تَسَرِّيًا، فاستدامَة فراش الزوجةِ يُعدُّ زواجًا، وبالجملة فلا يظهرُ لي في هذه المسائل فرقٌ يعتمدُ عليه. عُدْنا: وسُئِلَ عن امرأةِ اختلعَتْ من زوجِها في مرضِه، فماتَ وهي في العِدَّةِ؟ لا تَرِثُهُ ليس هو مثل الطلاقِ. الطلاقُ ابتداءٌ والخلْعُ هو من قِبَلِها. حدثنا أبو طالب، عن أبي عبد الله أنه سأله على الأمَةِ إذا فقدت زوجَها؟ __________ (1) "إذا لم تكن له نية" سقطت من (ظ). (2) "المحرر": (2/ 79 - 80). (3) (ق): "يسمّى".

(4/1417)


تَتَربَّصَ سنتينِ على النِّصفِ من الحُرَّةِ. سمعتُ أحمد يقول في حديث أبي هريرة: "من حَمَلَ جنازةً فَليَتَوَضَّأ" (1)؟ فقال: كأنه يقولُ: لا يحملُها حتى يتوضَّأَ، أو كما قال. وسألتُه عن قوم مالت فيهم ميِّتٌ، وليس عندَهم ماءٌ؟ فقال: يُيَمَّمُ. قلت: فإنَّهم يَمَّموه وصلَّوا عليه وأصابوا الماء، قال: لا أدري ما هذا، لم أسمعْ في هذا بشيءٍ. وكتبتُ إليه أسألُه عن من زارَ القبرَ يقف قائمًا أو يجلسُ فيدعو؟ فأتى الجوابُ: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. ومن مسائل أحمد بن أصْرَمَ بن خُزَيْمَةَ بن عباد بن (2) عبد الله بن حسَّان بن عبد الله ابن المُغَفَّل المُزَنى الصَّحابي (3) سمعته وقال له رجلٌ: جمعنا الله وإيَّاك في مستقرِّ رحمته، فقال: لا تقُلْ هكذا. قلتُ: اختلف السَّلَفُ في هذه الدعوة، وذكرها البخاري في __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (993)، وابن ماجه رقم (1463)، وابن حبان "الإحسان": (3/ 435)، والبيهقي: (1/ 301) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 470) وأحمد: (15/ 334 رقم 9862) من طريق صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وله أسانيد أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وقد رجح جمع من الحفاظ أنه موقوف على أبي هريرة، انظر في الكلام عليه "العلل للدارقطني": (9/ 293)، و "نصب الراية": (2/ 281 - 282). (2) "عباد بن" سقطت من (ع). (3) تقدمت ترجمته (3/ 976)، وبعض مسائله.

(4/1418)


كتاب "الأدب المفرد" (1) له، وحكى عن بعض السَّلَف أنه كَرِهَها، وقال: مستقرُّ رحمتِه ذاتُه، هذا معنى كلامِه، وحُجَّة من أجازها ولم يكرهْها أن الرحمة هاهنا المراد: الرحمةُ المخلوقة، ومستقرُّها الجنة، وكان شيخُنا يميل إلى هذا القول (2). انتهى. وسُئِلَ عن رجلِ استأجرَ أجيرًا على أن يحتطبَ له على حمارين، كلَّ يوم ينقل عليهما، فكان الأجيرُ ينقلُ على الحمارين وعلى حمار (3) رجل آخرَ في نوبة (4) هذا ويأخذُ منه الأجر، فقال: إن كان يُدخلُ عليه فيه ضَرَرًا ارتجع عليه بالقيمةِ، أو قال كلامًا هذا معناه. قلتُ: وشَبِيهٌ بهده المسألة: إذا أخذ من رجل مالًا مضارَبَةً، ثم ضارَبَ لغيرهِ، وَعلى الأول ضَرَرٌ في ذلك، فإنه يردُّ حِصَّتَهُ من الربحِ في شركة الأول. ووجهُ هذا: أن منافِعَهُ صارت مستحَقَّةً للمستأجرِ والمضارِب، فإذا بَذَلها لغيره بعِوَضٍ كان العِوَضُ لمستحقِّها. وسأله رجلٌ: إنَّ والدي تُوُفِّيَ وترك عليه دينًا، أفأقضيه من زكاةٍ مالي؟ قال: لا. وسُئِلَ عن رجل أَسْلَم في طعام إلى أجل مسمَّى، فإذا حلَّ الأجلُ يشتري منه عقارَا أو دارًا؟ (ظ/1236) فقال: نعم يشتري منه مالًا يُكالُ ولا يُوزَنُ. __________ (1) (ص / 320). (2) تقدمت هذه المسألة بأبسط مما هنا: (2/ 678) مع التعليق. (3) (ق وظ): "حمير". (4) (ق وظ): "يومه"!.

(4/1419)


وسمعتُه سُئِل عن رجلٍ حلف أن لا يَلْبَسَ من غَزْل امرأتِهِ، فخاط الخياطُ من غَزْلها؟ فلم يُجِبْ فيها بشيءٍ. وسُئِلَ عن امرأة (1) رُمِيَتُ فأقرَّت على نفسها، ثم ولدَتْ فَبَلَغ زوجَها، فطلَّقها (2)؟ قال: الولد للفراش حتى يُلاعِنَ. وسُئِلَ عن رجلٍ أسلمَ من أهل الحرب في دار الحرب، ثم دخل دارَ الإسلام، وليس له وليٌّ في دارِ الإِسلامِ، فقتله رجلٌ من المسلمين خطأ، أيلزَمُ المسلمَ الدِّيَةُ مع الرَّقَبَة؟ قال: الذي أذهبُ إليه أنه ليس عليه دِيَةٌ، وعليه رَقَبةٌ. وسئل عمن طافَ وراءَ المَقَامِ، وقيل له: رُويَ عن عطاء أنه قال: من لم يُمكِنْهُ الطَّوافُ إلاّ خلَفَ المقام جلسَ، كأنّ عطاءً كَرِهَ الطَّوافَ خلفَ المقامِ؟. فقال: من رَوَى هذا؟ ليس هذا بشيء، الذي يكرهُ من هذا هو أكثرُ لتعبِهِ وأعظمُ لأجرِهِ. قيل له: طاف من وراء السِّقَايَةِ، قال: نعم هو أكثرُ لتعبِهِ (3). قيل له: تذهب إلى حديث عبد الله بن عُكَيْم أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهابٍ وَلا عَصَبَ" (4)؟ قال: نعم. __________ (1) من قوله: "أسلم في طعام ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) المسألة في (ق) هكذا: "وسئل عن رجل رُميت امرأته، فأقرَّت على نفسها ثم ولدت، فطلقها زوجها بعد علمه بذلك"؟. (3) الجواب برمته ساقط من (ق)، ومن قوله: "وأعظم لأجره ... " إلى الآخر ساقط من (ع)، لهذا بقي في العبارة اضطراب. (4) أخرجه أحمد: (31/ 74 رقم 18780)، وأبو داود رقم (4127) والترمذي رقم (1729)، والنسائي: (7/ 175)، وابن ماجه رقم (3613). =

(4/1420)


قيل: وقد رواه خالدٌ الحَذَّاء عمن سمع عبد الله بن عُكَيْم، قال: قد رواه شعْبَةُ، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكَيْم أصحَّ من هذا، وقد رواه عبَّاد، ورواه شعبة، عن الحكم، كأنه صحَّحه من غير حديث خالدٍ. ومن مسائل الفضل بن زياد القطان -أيضًا- كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث النعمان بن بشير: "مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ" (1) ما الشُّبُهات؟ فأتاني (2) الجواب: هي منزَلةٌ بينَ الحلالِ والحرامِ، إذا استبرأَ لدِينه لم يقعْ فيها (3). أحمدُ: حدثنا عبدُ الأعلى، عن هشام، عن محمَّد -يعني: ابن واسع-: أنه كان يكرهُ أن يشتريَ بالدَّنانير إلاّ العُتَّق، وبالدراهم التي فيها كتابُ الله أن يشتريَ بها أو يبيعَ. وقال أحمد: سمعت من مُعاذ بن هشام، عن أبيه، عن قَتَادَةَ، عن سعيد بن المُسَيِّب، قال: كان ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - __________ = قال الترمذي "وسمعتُ أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذُكِر فيه "قبل وفاته بشهرين" وكان يقول: كان آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده ... " اهـ. والحديث صححه الإمام أحمد في رواية ابنه صالح رقم (1119) و (733)، وفي رواية ابنه عبد الله رقم (43، 47)، وفي رواية ابن هانئ: (1/ 22) صرَّح بأنه يذهب إلى حديث ابن عكيم؛ لأنه آخر الأمرين، وانظر "طبقات الحنابلة": (2/ 350 - 351). (1) أخرجه البخاري رقم (52)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-. (2) (ع): "فأتى". (3) وكذا فسّرها في رواية ابنه صالح رقم (205)، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال بالحرام، كما في "جامع العلوم": (1/ 199).

(4/1421)


يَتَّجِرون في البحر، منهم طَلْحَة بن عبيد الله وسعيد بن زيد (1). سمعتُ أبا عبد الله وسُئل عن بيع الجُزَافِ (2)، فقال: إذا استوى علمُهما فلا بأس -يعني: إذا جهلا به- فإذا عَلِمَ أحدُهما وجَهِلَ الآخرُ فلا. وسألته قلت: القطنُ يبيعُه فيرفع ظرفه العِدْل خمسة أمْناء: (3)، قلت: نعم، وربما زاد فيحسبه للمشتري، فرخَّص فيه، ولم ينكرْه على طريق الصُّلح. قلت: فإنَّا نبيعُ بيعًا آخر، نبيع القطنَ في الكساء، فقال: هذا أحبُّ (4) إلي من ذاك؛ لأنه يكون بمنزلة التَّمْر في جِلالِهِ وقَوَاصِرِه (5)، ما زال هذا يُباعُ في الإِسلامِ. قلت: فإنهم يحملونا على أن (6) نكشِفَه، فقال: هذا ضَرُورةٌ ليس عليكم هذا. قال القاضي: "إنما لم يشترط كشفَه على الرواية التي أجاز بيعَ الجُرُبِ قبل حلِّها، وقوله: نبيعُه بظرفِه أحبُّ إلَيَّ من أن يحتسبِ __________ (1) ورواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده ومتنه في العلل": (2/ 42)، وابن معين في "تاريخه": (رقم 207 - رواية الدوري). (2) الجزاف: بضم الجيم وفتحها وكسرها هو: بيع الشيء لا يعلم كيله ولا وزنه. "المصباح المنير": (ص / 38). (3) المَنَا: هو ما يكال به أو يوزن، وجمعه: أمناء، وفي لغة تميم مفرده: "المنّ" ويجمع على: أمنان "اللسان". (13/ 419)، و "المصباح" (ص / 222). (4) (ق): "لعب". (5) الجلال والقواصر هي: الأوعية التي يُكتنز فيها التمر. "اللسان": (5/ 402). (6) (ع): "أنّا".

(4/1422)


بوزنِ الظرفِ؛ لأنهم ربما اختلفوا في وزنِهِ" انتهى كلامُهُ. قلت: قول أحمد: "نبيعُ القطنَ في الكِسَاءِ أحبُّ إلَيَّ"، وقوله: "لأنه يكون بمنزلة التمرِ في جلالِهِ وقواصِرِه، ما زال هذا يُباعِّ في الإِسلام"، يؤخذ منه بيعُ المُغَيَّبَاتِ في الأرضِ؟ كالجزر والقُلْقاس والسَّلْجم ونحوها، بل أولى، وما زال هذا يُباع في الإِسلام ويتعذَّر عليهم بيعُ المزارع إلاّ هكذا، وعلمهم بما في الأرض أتمُّ من علم المشتري بما في الجُرُبِ والأعْدالِ؛ لأنهم يعرفونه بورقِهِ، ولا يكاد تخلو معرفتُهم به، بل رَبما كان اختلافُ ما في الجُرُب والأعدال (1) أكثرَ من اختلافِ المُغَيَّب في الأرضِ، والعسرُ فيه أكثر؛ لأنه بحسب دواعي البَشَر، وما في الأرض لا صُنْع لهم فيه، فالغالبُ تساويه (2). وبالجملةِ؛ فلم يزلْ ذلك يُباعُ في الإسلام، وهذه قاعدةٌ من قواعد الشَّرْعٍ عظيمةُ النفع: أن كلَّ ما يعلمُ أنه لا غنىً بالأُمَّةِ عنه، ولم يزلْ يقعُ في الإِسلام، ولم يعلمْ من النبي - صلى الله عليه وسلم - تغييرُهُ ولا إنكارُهُ ولا من الصحابة، فهو من الدِّينِ، وهذا كإجارةِ الإقطاع، وبيع المُعاطاة، وقرضِ الخبزِ والخَميرِ وردِّ أكبرَ منه وأصغرَ، وأكلِ الصيدِ من غير تفريزِ محلِّ أنيابِ الكلب ولا غسلِهِ، وصلاة المسلمينَ في جِراحاتهم، كما قال البخاريُّ (3): "لم يزلِ المسلمون يُصَلُّون في جراحَاتِهمِ"، ومسحِهم سيوفَهم من غير غسلٍ، وصلاتِهم وهم حاملوها، ولو غُسِلتِ السيوفُ لفَسَدَتْ، ولا يُعرَفُ في الإِسلام غَسْل السيوف __________ (1) من قوله: "لأنهم يعرفونه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) تقدم البحث في هذه المسألة: (4/ 1323). (3) "الصحيح - الفتح": (1/ 336)، وليس هو من قول البخاري، بل علقه على الحسن البصري مجزومًا به.

(4/1423)


ولا إلقاؤها وقت الصلاة، وكذلك صلاة النساء في ثياب الرَّضاعة أمر مستمرٌّ في الإِسلام، مع أن الصِّبيانَ لا يزالُ لُعابُهمْ يسيلُ على الأمَّهاتِ، وهم يَتَقيَّئونَ ولا تُغْسَلُ أفواهُهم، وكذلك البيعُ والشراءُ بالسعرِ لم يزلْ واقعًا في الإِسلامِ حتى إنَّ مَنْ أنكره لا يجدُ منه بُدًّا، فإنه يأخذُ من اللَّحَّام والخَبَّاز وغيرهما كلَّ يومِ ما يحتاجُ إَليه من غير أن يساوِمَهُ على كلِّ حاجة، ثم يحاسبُهُ في الشهر أو العام، (ق / 339 ب) ويُعطيه ثمنَ ذلك، فما يأخُذُه كلَّ يوم إنَّما يأخذُ بالسعر الواقع من غير مساوَمَةٍ، وكذلك الإجارةُ بالسِّعر في مثلِ دخول الحَمَّامِ، وغَسْلِ الغَسَّال، وطبخِ الطَّبَّاخِ والخَبَّاز وغيرهم، لم يزل الناسُ يفعلون ذلك من غير تقدير إجارَةٍ، اكتفاءً منهم بإجارة المثْل. وقد نصَّ اللهُ تعالى على جوازِ النِّكاحِ من غير تسميةٍ، وحَكَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَهْرِ المِثْل (1)، فإذا كان هذا في النكاحِ، ففي سائرِ العقود من البيوعِ والإجاراتِ أولى وأحْرى. وقول القائل: "الصَّداقُ في النِّكاح دخيلٌ غيرُ مقصودٍ ولا ركنٌ"، كلامٌ لا تحقيقَ وراءَهُ، بل هو عِوَضٌ مقصودٌ، تُنْكَحُ عليه المرأة، وتُرَدُّ بالعَيْب، وتطالبُ به، وتمنعُ نفسَها من التسليم قبل قبضه، حيث يكونُ لها ذلك، وهو أحقُّ أن يُوَفَّى به من ثمن المَبِيع وعِوَضِ الإجارَة، فهو في هذا العقد أدخل من ثمن المَبيعِ وعِوَضِ الإجارة فيهما؛ لأن __________ (1) كما في قصة بَرْوَع بن واشق، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد: (7/ 175 رقم 4099)، وأبو داود رقم (2114)، وابن ماجه رقم (1891)، والنسائى: (6/ 122)، وابن حبان "الإحسان": (9/ 408)، والحاكم: (2/ 180 - 181) وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي.

(4/1424)


منافعَ الإجارةِ والأعيان المَبيعة قد تُسْتَباحُ بغير عِوَضٍ، بل تُباحُ بالبَدَلِ، بخلاف منفعةِ البُضْعِ، والمرأةُ لم تبذلْ بضعَها إلاَّ في مقابلة المهر، وبضعُها أعزُّ عليها من مالِها، فكيف يقال: إنَّ الصَّداقَ عارِيَّةٌ في النِّكاحِ غيرُ دخيل فيه، وهل هو إلاَّ أحقُّ بالوفاء من ثمنِ المَبيع. والذي أوجبَ لمن قال: إنه دخيلٌ (1) في العقد، أنهم رَأوا النكاحَ يَصِحُّ بدون تسمية، فدلَّتْ (2) على أنه ليس ركنًا في العقد، فهذا هو الذي دَعاهم إلى هذا القول. وجوابُ هذا: أن النكاحَ لم ينعقدْ بدونه ألبتَّةَ، وإنما انعقدَ عند الإطلاق بصدَاقِ المِثْلِ، فوجَبَ صَدَاقُ المِثْلِ بنفس العقدِ، حتى صار كالمُسمَّى، وجعل الشارع سكوتَهم عنه بمنزلةِ الرِّضى به وتسميته، فلِم ينعقدِ النكاحُ بغيرِ صَدَاقٍ، وإنما انعقدَ (3) بغير تسمية صَداقٍ، وفرْقٌ بينَ الأمرينِ. والمقصود أن الشارعَ جوَّزَ أن تكونَ أعراضُ المبيعاتِ، والمنافعُ في الإجاراتِ، ومنفعةُ البُضْعِ منصرفة عند الإطلاق إلى عِوَضِ المِثْلِ، وإن لم يُسَمَّ عند العَقْدِ، وليسَ هذا موضعَ تقرير هذه المسائل، وإنما أشرنا إليها إشارةً. قال: وسألتُه عن الرجل يشتري الثوبَ بدينار ودرهم؟ فقال: لا بأس به، قلت: فإن اشتراه بدينار غير درهم، قال: لا يجوزُ هذا (4) __________ (1) (ق وظ): "غير دخيل" وهو خطأ!. (2) (ق وظ): "فدل". (3) من قوله: "عند الإطلاق ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) نصّ عليه -أيضًا- في رواية الكوسج رقم (11).

(4/1425)


وسمعتُه سئل عن المُكَحَّلَة (1) قال: لا يشتري بها شيئًا، ولكن إذا كان لك على رجلٍ دراهم فأعطاك مُكَحَّلَةً فخذ منه، كأنك أخذتَ دون حَقِّكَ. ورأيته يشدِّدُ في المُزَبَّقة (2) جدًّا. وسئل عن رجل كان ساكنًا، فقال له صاحبُ الدار: تحوَّلْ، فقال الساكنُ: قد دفنتُ في دارك شيئًا، فقال صاحبُ الدَّار: ليس ذلك لك، فقال أبو عبدٍ الله: ينبشُ كلُّ واحدٍ منهما ما دفن، فكلُّ من أصاب الوصفَ كان ذلك له، أو نحو ذلك. قلت: هذا له ثلاثةُ أصول: أحدُها: وصفُ اللُّقَطَةِ، فإنه يُوْجِبُ أو يُسَوِّغُ على القولِ الآخر دفعها إلى الواصف. الثاني: الدعوى المتأيدة بالظَّاهر والعادة، كدعوى كُلٍّ من الزوجين ما يصلح له دونَ صاحِبِه، فإنه يُعطاهُ بدعواهُ المتَأَيِّدةِ بالظَّاهر (3) والعادة. الثالث: إن العلمَ المستفادَ من وصف أحدهما له بصِدْقه أقوى من العلم المستفاد بالشاهِد الواحدِ واليمين، أو نكولِ الخصمِ، وهذا مما لا سبيلَ للنفسِ إلى دفعِهِ، ومحالٌ أن يحْكَمَ بالأضعف، ويُلْغَى حُكْمُ ما هو أقوى منه، والذي منع منه الشرعُ أن المُدَّعِيَ لا يُعطى بدعوى مجرَّدة لا دليل معها شيئًا، فإذا تميَّزَتْ بدليل لم يُحْكَمْ له __________ (1) يعني: الدراهم المزيفة، انظر: "بدائع الصنائع" (7/ 395). (2) تحرفت في المطبوعات إلى: "الشريعة"! ودرهم مُزَأبق مطلي بالزئبق، والعامة تقول: مُزبَّق. "اللسان": (10/ 137)، وانظر: "مسائل صالح" رقم (158)، و "مسائل أبي داود"رقم (1233 وما بعدها). (3) من قوله: "كدعوى ... " إلى هنا سقطت من (ق).

(4/1426)


بدعوى مجرَّدة، ولهذا يحكمُ له بالشاهدين تارةً، وبالواحد تارةً (1)، وبالنُّكولِ تارةً، وبالقرائنِ الظاهرةِ وبالصِّفَة وبالشَّبَهِ (2)، وهذا كُلُّه أمرٌ رائدٌ على مجرَّدِ الدَّعوى، فلم يحكمْ له بدعوى مجرَّدة، وأين تقَعُ معاقدُ القُمُط ووجوهُ الآجُرِّ والخصِّ (3) من الصِّفَةِ هاهنا، وفي اللُّقطة والله الموفق. وقال أحمد: إذا ادعى أحدُهم الدارَ أجمع، قال الآخر: لي نصفُها، فهي بينَهما نصفانِ، وقد يقولُ بعضُ الناسِ: هي بينَهما ثلاثةُ أرباع لمدَّعي الجميعِ، وللآخرِ الرُّبُعُ. قلت: وجهُ هذا: أن مدَّعي النِّصفِ قد اعترفَ أن النِّصفَ الآخر لا حقَّ له فيه، فلا منازعَ لخصمِه فيه، فينفردُ به وخصمُهُ ينازعه في هذا النصفِ المدَّعى، وكلاهما يَدَّعِيه، فهما فيه سواءٌ. ووجهُ المنصوص وهو القياسُ: أن أيديهما على الدَّار سواءٌ، فلكلِّ واحدٍ نصفُها، ومُدَّعي الكلِّ يَدَّعي النصفَ الذي للآخر وهو يُنْكِرُهُ، فلو أُعطي منه شيئًا لأعطيَ بمجرَّد دعواه، وهو باطلٌ، فإن خصمَه إنما يُقِرُّ له بالنِّصفِ، فلأي شيء يُعطى نصفَ ما بيدِ خصمِه بمجرَّد الدعوى، فهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا. وقولهم: "إنهُ يُقِرُّ (4) لخصمِه بالنِّصفِ، فينفردُ به، وهما متداعيانِ للنصف الآخرِ، فيقسم بينهما". __________ (1) بعده في (ظ) فقط: "وبالمرأة تارة". (2) (ق): "وبالشبهة". (3) انظر ما تقدم (3/ 1036). (4) (ق وظ): "مقر".

(4/1427)


فجوابه: أن استحقاقَ خصمِهِ للنصفِ لم يكن مستنِدًا إلى إقراره له به، بل النصفُ له، سواءٌ أقرَّ له به خصمُه أو نازعَهُ، فإقرارهُ إنما زادَه تأكيدًا، ويدُ كلِّ منهما مثبتةٌ (1) لنصف المُدَّعَى، وأحدُهما يقول لصاحبه: ليست يَدُكَ يدَ عُدْوانٍ، والآخرُ يقولُ لُمدَّعي النِّصفِ: يَدُكَ يدُ عُدْوانٍ، فلو قضينا له بشيءٍ مما بيدِ خصمِه لقضينا له بمجرَّدِ قولِهِ ودعواه، وهذا لا نَصَّ ولا قياسَ، واللهُ أعلم. وقال له رجل: أكري نفسي لرجلٍ أُلْزِمُ له الغُرَماء؟ قال: غيرُ هذا أعجبُ إليَّ. وسمعته يقول: ما أقلَّ بَرَكَةَ بيْع العقار إذا بيع. وقيل له: ما تقولُ في رجل اكترى من رجل دارًا، فوجد فيها كناسةً، فقال صاحب الدار: لم يكن هذا في داري، وقال السَّاكنُ: بل (2) قد كان في دارِك؟ فقال هو على صاحبِ الدار. سألتُ أبا عبد الله عن الصَّائغ يغسلُ الفِضَّةَ بدُرْدِي (3) الخمر؟ قال: هذا غِشٌّ، لعلَّ الفضة تكون سوداء فَتَبْيَضُّ. أملى عَليَّ أبو عبد الله: إنما على الناس اتِّباعُ الآثارِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفةُ صحيحها من سقيمها، ثم بعد ذلك قولُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكنْ قولُ بعضِهم لبعض مخالفًا (4)، فإن اختلفَ نُظِرَ في الكتاب، فأيُّ قولهم كان أشبَهَ بالكتابِ أُخِذَ به، __________ (1) (ع): "مبينة". (2) (ق وظ): "بلى". (3) الدُّرْدي: ما يبقى في أسفل كل مائع كالأشربة والأدهان. "اللسان": (3/ 166). (4) في النسخ بالرفع. ويصح أن تكون الجمل التي بعدها مبنية للمعلوم.

(4/1428)


وبقولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخِذَ به، فإذا لم يأتِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نُظِرَ في قول التَّابعينَ، فأيّ قولهم كان أشبهَ بالكتاب والسنة، أُخِذَ به وتُرِكَ ما أحدثَ الناسُ بعدَهم. سمعتُ أبا عبد الله وقد سُئِلَ عن الرجل يسألُ عن الشيءِ من المسائلِ، فيرشدُ صاحبَ المسألةِ إلى رجلٍ يسألُهُ؟ قال: إذا كان رجلًا متِّبَعًا أرشدَه إليه فلا بأسَ. وقال: ابنُ أبي ذئب أصلَحُ (1) في تَدَيُّنِهِ وأوْرعُ وأقوَمُ بالحقِّ من مالكٍ عند السلاطين، فدخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يَهُلْهُ أن قال له بالحقِّ، وكان يُشَبَّهُ ابنُ أبي ذئب بسعيد بن المسيَّب في زمانه (2). قلت: رجل يُقرئ رجلًا مئتي آية ويُقرئ آخرَ مئة؟ قال: ينبغي له أن ينصفَ بين الناس. قلت: إنه لِأخذُ على هذا مئتي آية لأنه يرجو أن يكونَ عاملًا به، ويأخذ على هذا أقلَّ لأنه لم (3) يبلغْ مبلَغَ هذا في العمل؟ قال: ما أحسن (4) الإنصافَ في كلِّ شيءٍ. وسمعت أبا عبد الله وذُكر عنده أبو الوليد (5)، فقال: هو شيخ الإسلام (6). __________ (1) (ق) وحدها: " ... ما رأينا أصلح"!. (2) وانظر نحوه وأطول منه في "مسائل صالح بن الإمام أحمد" رقم (805، 810، و "السير": (7/ 144). (3) (ظ): "لم يكن ... ". (4) (ع): "ما أحسن هذا ... ". (5) أي: الطيالسي. (6) وانظر: "تهذيب التهذيب": (11/ 46).

(4/1429)


أبو عبد الله، عن عبد الوهاب، عن سعيد، عن قَتَادةَ، عن أبي خالد (1)، قال: ذكر له أن موسى لما أخذ الألواحَ قال: رَبِّ إني أجدُ في الألواحِ أمَّةً هم الأوَّلونَ والآخِرونَ السَّابقُون، قال قَتَادةُ: هم الأوَّلونَ في العَرْضِ يومَ القيامة، وهم الآخروُن في الخَلْق، السَّابقونَ (2) في دخول الجَنَّةِ، اجْعَلْهم أُمَّتي، قال: تلك أمَّة أحمَدَ، قال: إني أجدُ في الألواح أُمَّةً أناجيلُهمِ في صدورِهم، يقرأونها، قال قتادة: وكان مَنْ قَبْلَكُم إنّما يقرأُونَ كُتبَهُم نظرًا، فإذا رفعوها لم يَعوها، ولم يحفظوها، وإنَّ الله أعطى هذه الأمَّةَ من الحفظِ ما لم يعْطِ الأمَمَ قَبْلَها، وذكره إلى آخره (3). وسألتُ أبا عبد اللَّه عن الطَّعامِ في أرضِ العدوِّ إلى متى يأكلونَ؟ فقال: إذا بلغوا الدَّربَ أَلْقَوْا ما معهم. [من مسائل ابن هانئ] (4) قال ابن هانئ (5): سألتُ أبا عبد الله عن الرَّجُل يأخذ من عارضَيْهِ؟ __________ (1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): "قتادة أبي خالد"، لكن في مصادر هذا الأثر لا يوجد ذكر لأبي خالد هذا، بل هو عن قتادة نفسه. (2) من قوله: "قال قتادة ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) أخرجه ابن جرير: (6/ 66) وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وأبو الشيخ -كما في "الدر المنثور": (3/ 227) -. (4) هذه الزيادة للتمييز: بين سؤالات الفضل بن زياد السالفة، وما سيأتي من سؤالات إسحاق بن هانئ. ومن هذه الفقرة بدأ اضطراب جديد في النسخ، فكل نسخة من (ع وق وظ) انفردت بترتيب مستقل للمسائل والفوائد، وقد جرينا في الرتيب على ما في (ظ)؛ لأنه الترتيب الذي سارت عليه جميع الطبعات، فلم نر تغييره إلا لمصلحة تقتضي ذلك -كما تقدم نحو ذلك فيما سبق 4/ 1327 - . (5) "مسائل ابن هانئ": (2/ 151 - 152).

(4/1430)


قال: يأخذ من اللحية بما فضل عن القَبْضَة. قلت له: فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحْفُوا الشواربَ وأَعْفُوا عن اللِّحَى" (1)؟ قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقِه، ورأيت أبا عبد الله يأخذُ من عارضَيْه، ومن تحتِ حَلْقِهِ. قال (2): ورأيتُ أبا عبد الله يأخذُ من حاجبِهِ بالمِقْراضِ. قال (3): وسألته عن خَاتَمِ الحديدِ؟ فقال: لا تَلْبَسْهُ. وسئل عن جُلود الثعالب؟ قال: البَسْهُ ولا تُصَلِّ فيه (4). وسئل عن السَّراويل أحَبُّ إليك أم المآزر فقال: السَّرَاويلُ مُحْدَثٌ، ولكنه أستر (5). قال ابن هانئ (6): خرج أبو عبد الله على قومٍ في المسجد، فقاموا له، فقال: لا تَقومُوا لأحدٍ، فإنه مكروهٌ. قال (7): وكنتُ مع أبي عبد الله في مسجدِ الجامعِ، فصلَّيْنا، ثم رجَعْنا فقعدَنا، واستراحَ (8) وأنا معه، فجاء رجلٌ كأنه محمومٌ فقال: __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5892)، ومسلم رقم (259) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (2) "المسائل": (2/ 149)، ثم ذكر عن الحسن أنه كان يأخذ من حاجبه. (3) "المسائل": (2/ 147). (4) المصدر نفسه: (2/ 146). (5) المصدر نفسه: (2/ 147)، وفي (ع): "المئزر". (6) المصدر نفسه: (2/ 180). (7) المصدر نفسه: (2/ 176). (8) في "المسائل": "فقعد فاستراح".

(4/1431)


يا أبا عبد الله: إني كنت شارب مسكرٍ، فتكلَّمت فيك بشيءٍ، فاجعلني فى حِلٍّ: ففال: أنتَ في حِلٍّ إن لم تَعدْ، قلت: يا أبا عبد الله لمَ قلتَ له لعله يعود؟ قال: ألم ترَ إلى ما قلت له: إن لم يَعدْ، فقد اشترطت عليه، ثم قال: ما أحْسَنَ الشرطَ، إذا أراد أن يعودَ فلا يعودُ إن كان له دِين. قلت: وهذا صريح في جواز تعليقِ الإبراءِ على الشرط، وهو الصوابُ. وقال إسحاق بن هانئ (1): قال رجل لأبي عبد الله: أوصني، فقال: أعِزَّ أمرَ الله حيثما كنت يُعِزَّكَ الله. وقال لي (2): يا إسحاق ما أهون الدُّنيا على اللهِ عز وجل، قال الحسن:. أَهِينوا الدنيا، فوالله إني لأهنأ ما يكون حين تُهان: وقيل له: ما معنى الحديث: "لا يقُمْ أحدٌ لأحدٍ" (3)؛ فقال: إذا كان عنى جهةِ الدُّنيا مثل ما روى معاوية (4)، فلا يُعْجِبُني (5). __________ (1) "مسائل ابن هانئ": (2/ 180) (2) "المصدر نفسه" (2/ 180)، وقول الحسن ليس في "المسائل". (3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 233) من مرسل الحسن بلفظ: "لا يقم رجل لرجل، ولكن ليوسع له"، وهو مع أرساله ففيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وقد جاء في النهي أحاديث أصح من هذا، منها ما أخرجه أحمد: (5/ 253)، وابن أبي شيبة: (5/ 233)، وأبو داود رقم (5230)، من حديث أبى أمامة -رضي الله عنه- بلفظ: "لا تقوموا كما يقوم الأعاجم ... ". (4) بلفظ: "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوّأ مقعده من النار" أخرجه ابن أبى شيبة: (5/ 234)، والترمذي رقم (2755)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". (5) "المسائل": (2/ 182).

(4/1432)


قيل له (1): يقدم الرجل حاجًا فيأتيه الناسُ وفيهم المشايخُ أيقومُ لهم؟ قال: قد قام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لجعفر (2). وفي المعانَقَةِ احتجَّ بحديث أبي ذرٍّ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عانقه (3). وسألته عن الرجلِ يلقي الرجلَ أيعانِقُه؟ قال. نعم قد فعلَه أبو الدرداء. ومحوتُ قدامَهُ لوحًا بثوبي (4) فقال: لا تملأ ثيابك سوادًا امحُ اللوحَ برجْلِكَ (5) وجئته بكتاب من خُراسان فإذا عنوانه: لأبي عبد الله أبقاه الله، فأنكره وقال: أيْش هذا (6)؟! قال ابن هانئ (7): دفع إليَّ أبو عبد الله يومًا في المسجد ثلاثَ قطع فيها قريب من دانَقَيْنِ فقال. أعطها هذا وأشار إلى رجل، فجاء معي (ظ/238 أ) حتى وَقَفَ عليه، فدفعتها إليه وهو ينظرُ إليَّ، فلما أن دخَلْنا المسجدَ وصليْنا الفريضةَ، إذا نحن بالسَّائلِ يقول: واللهِ -مِرارًا- __________ (1) "المصدر نفسه": (2/ 183)، وكذا ما بعده. (2) أخرجه الحاكم: (3/ 211)، والبيهقي في "الدلائل": (4/ 246)، وأبو داود رقم (5220) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- والصواب فيه الإرسال، من مرسل الشعبي. (3) أخرجه أحمد: (35/ 349 رقم 21443)، وأبو داود رقم (5214)، وفي سنده ضعف؛ لأن فيه رجلًا لم يُسَمَّ. (4) (ق): "بثيابي"، ووقع في "المسائل": "بشيء" وهو تحريف. (5) "مسائل ابن هانئ": (2/ 184)، وكذا ما بعده. (6) انظر "معجم المناهى اللفظية": (ص/ 57، 601). (7) "المسائل": (2/ 177).

(4/1433)


ما دفعْ إلَيَّ اليومَ شيءٌ، ولا وقعَ بيدي اليوم شيءٌ. فلما صِرنا في الطريق، قال لي أبو عبد الله: ألم تَر إلى ذلك السائلَ ويمينَه باللهِ عزَّ وجلَّ! يُروى عن عائشة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إن صحَّ-: "لَوْ صَدَق السَّائل ما أفْلَحَ منْ رَدَّهُ" (1). وقال لي أبو عبد الله: يكذبون خير لنا، لو صدقوا ما وَسِعنا حتى نواسيَهم مما معنا، وما رأيته تصدق في مسجد الجامع غير تلك المرَّة. ففي هذا جواز الصَّدقَةِ على سؤال المساجدِ فيها، ووجوب المواساةِ عند الحاجةِ، وجواز رواية الحديث الضعيفِ مُعَلَّقًا باشتراطِ الصّحّة. فصل إذا سبَّحَ أحدٌ في مسألة، فإن كان السائلُ سأله عن تحريمِها أو كراهتِها، فهو تقريرٌ لما سأله عنه، كقول ابن منصور (2) له: يُكْرَه التحريش بين البهائم؟ قال: سبحان الله! إي لَعَمْري. وإن سبَّحَ جوابًا للسائلِ، فإن كان قرينة ظاهرةٌ في التحريم حمل عليه، وإلا احتمل وجهين: التحريم والكراهَةِ. وإن قال: لا ينبغي فهو للتَّحريم، وإن قال: ينبغي ذلك، فهل هو للوجوب أو الاستحباب (3)؟ على وجهين، والصّواب: النظرُ إلى القرينةِ. قال. إسحاق بن منصور (4): "قلت لأحمد: المتمتعُ (ق/ 341 ب) __________ (1) تقدم تخريجه: 3/ 1151. (2) يعني: إسحاق بن منصور الكوسج. (3) (ق): "فهو للوجوب أو الاستحقاق"!. (4) "مسائل الكوسج": (1/ ق 225 - نسخة دار الكتب).

(4/1434)


كم يسعى بين الصَّفا والمرْوَة؟ قال: إن طافَ طَوافينِ فهو أجودُ، وإن طافَ طوافًا واحدًا فلا بأسَ. قلت: كيف هذا؟ قال: أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رَجعوا من مِنى لم يطوفوا بين الصَّفا والمروة". وكذلك قال في رواية ابنه عبد الله (1)، إلاّ أنه لم يذكر الدليلَ، وكذلك نقل عنه ابن مُشَيْش (2). وقال ابن منصور: قلتُ لأحمد: إذا عَلِمَ من الرجل الفجورُ أيخبرُ به الناسَ؟ قال: بل يسترُ عليه، إلا أن يكون داعية، وزاد إسحاق: يخبرُ به عند الحاجةِ في تعديل أو تجريح أو تزويج. قلت: يُكْرَهُ الخِضَابَ بالسَّواد؟ قال: إيْ واللهِ مكروهٌ. قال إسحاق كما قال شديدًا، إلا أن يريدَ به تزيُّنًا لأهلِهِ ولا يَغُرُّ به امرأة. قلت: يكرهُ أن يقولَ الرجل للرجل: فِدَاك أبي وأمي؟ قال: يكرهُ أن تقولَ: جعلني اللهُ فِداكَ، ولا بأس أن تقول: فداكَ أبي وأمي، قال إسحاقُ كما قال (3). قال حرب: باب من تزَوَّجَ امرأة ولم يدْخل بها فجاءت بولدٍ. قال أحمد في رجل تزوَّجَ امرأة لم يدخلُ بها وإنها وَلَدَتْ ولدًا: إنه لا يلزمُهُ. __________ (1) "المسائل" رقم (922، 1001). (2) وللإمام رواية أخري وهي وجوب السعي مرتين للمتمتع، نقلها ابن هانئ: (1/ 141)، وأبو داود: (ص/ 181). واختار شيخ الإسلام الرواية الأولى كما في "الفتاوى": (26/ 36،)، وانظر: "تهذيب السنن": (2/ 384). (3) "مسائل الكوسج": (2/ ق 212)، وإسحاق هنا هو: ابنَ راهويه، لأن سؤالات الكوسج للإمام أحمد ولابن راهويه.

(4/1435)


قال ابن منصور: قلت لأحمد: في كم تُعْطى الدِّيَةُ؟ قال: لا أعرف فيه حديثًا إلا إذا كانت العاقلةُ تقدر أن تحملَها في سنة، فلا أرى به بأسًا، ويُعجبُني ذلك. قال ابن منصور: في ثلاث سنين، كل سنة ثلُثًا؛ لأنه وإن لم يكنِ الإسنادُ متَّصِلًا عن عُمَرَ (1)، فهو أقوى من غيرِه. ومن مسائل ابن بَدِينا محمد بن الحسن (2) سمعتُ أبا عبد الله سئل: تحضرُ الجمعةُ والجنازةُ، ونخافُ الفوتَ، فبأيِّهما نبدأُ؟ قال: يُبدأ بالجنازَةِ. كذا فيه، وهو غلطٌ من الكاتب، وإنما الصواب يُبدأُ بالجُمُعَة. حدثني أبو بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله: روى شعبةُ، عن قَتَادَةَ، عن أنس أنه كرِهَ إذا أعتقَ الأمَةَ أن يَتزوَّجَها، قال: نعم إذا أعتقها لوجهِ الله كره له أن يرجعَ في شيء منها، فأما إن أعتَقها ليس لوجهِ الله، إنَّما أعتَقَها. ليكون عِتْقُها صداقَها فجائز. وروي بإسناده عن صُهَيْب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ظ/238 ب) "مَنْ تَزَوَّجَ امرأة ونوَى أنْ يَذهَبَ بِصَدَاقِها، لَقِيَ الله وَهُوَ زانٍ" (3). __________ (1) أخرج عبد الرزاق: (9/ 420)، وابن أبي شيبة: (5/ 406)، والبيهقي: (8/ 109) عن الشعبي: "أن عمر جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين ... "، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي وائل عن عمر. (2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بَدِينا، أبو جعفر الموصلي، حدث عن الإمام أحمد ت (303). "طبقات الحنابلة": (2/ 280). (3) أخرجه أحمد: (31/ 260 رقم 18932)، وابن ماجه رقم (2410)، وسعيد بن منصور رقم (659): وغيرهم من حديث صهيب بن سنان -رضي الله عنه- وإسناده ضعيف.

(4/1436)


ومن مسائل أبي علي الحسن بن ثَوَاب (1) قال؟ قلت: الرجلُ يُقَالُ له: اشْهَد أن هذه فلانة؟ قال: إذا كانتْ ممن قد عُرفَ اسمُها، ودُعِيَتْ، فذهبتْ وجاءت، فليشهدْ، وإن كان لا يعلم ما اسمُها فلا يشهدُ. قلت: ولا يجوز أن يقولَ الرجلُ للرجل: اشهد -إذا كان عندَه ثقة- أن هذه فلانةٌ، فيشهد على شهادةِ ذلك الرجل؟ قال: إذا عَرفْتَ فاشهدْ. قلت: رجلٌ رهن دارًا عند رجل، فتصدَّقَ بها في المساكين؟ قال: ليس هذا بمنزلة العِتْق، لا يجوز. قلت: رجلٌ زنى بامرأة أبيه تحرم عليه امرأتُه؟ قال: نعم. ومعنى هذا القول: أن يكون رجلٌ تزوَّجَ امرأة وابنه بِنْتها، ثم وطئ الابنُ أمَّ زَوْجِته (2). قلت: رجلٌ حفرَ بئرَا؟ قال: إن كان مما أخذه به السلطان فلا يضمنْ، وإن كان مما أراد بها (ق/343 أ)، النفعَ لداره، أو ليحدثَ فيها الشيءَ ضَمن، وضمِنَ الحفار معه، إذا جاء به إلى طريق وهو يعلمُ [أن] مثله لا يكون ملكا له، فحفر له، شاركَه في الضَّمَان. قلت: فإن كان حَفَرَ نصفَها في حَده، ونصفَها في فِنَائِهِ، فوقع __________ (1) هو: الحسن بن ثواب أبو علي التَّغْلِبي المخَرِّمي، كان له بأبي عبد الله أنس شديد، وكان عنده مسائل كبار عنه لم يجيء بها غيره ت (268)."طبقات الحنابلة": (1/ 352 - 354). (2) انظر "مسائل صالح" رقم (627).

(4/1437)


فيها رجلٌ؟ قال: يضمن ولا يضمن الحفارُ. قلت: فإن أخذ الحفار، قال: إن علم أن هذا الذي حفر لم يكن له، ضَمِنَ، وإن قال: جئتُ إلي شيء أظنُّ (1) أنه ملك لهذا، فليس عليه شيءٌ. قيل له: فما ترى في رجل حفر بئرًا قامَةً، فجاء آخرُ فحفرها حتى وصلَ الماء، فوقع فيها رجلٌ لمن (2) يلزم الضمان؟ قال: بينهما. قلت: ما ترى في المرأة تحجُّ أو تسافر من (3) غير مَحْرَم؟ قال: أعوذ بالله. قلت: ترى إن حَجَّتْ من غيرِ مَحْرَم يبطل؟ قال: أعوذُ بالله (4)، إن حَجَّها جائزٌ لها، ولكنها أتت غَيْرَ ما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - (5). قلت. ما تقولُ في رجل مملوك، له أبٌ حرٌّ وأولادٌ أحرارٌ من امرأةٍ حُرَّةٍ، مات العبد ولاء ولدِه لمن؟ قال:. لِموَالي أمِّهِ. قلت: إن بعضَهم يزعُمُ أن الجَد يجُرُّ ولاءَهم،. قال: ليس هذا ذاك، الذي يَجُرُّ الجَدُّ ولاءَهم، إنما ذاك في رجل مملوك، وله: أبٌ مملوك، وأولاد أحرار، مات الرجلُ المملوكُ والجَد مملوك، ثم إن الرجل عَتَقَ فهو يجُرُّ ولاءَهم؛ لأنه عَتَقَ بعد موتِ ابنه. قيل له: ما ترى في رجل حَفَر في داره بئرًا، فجاء آخَر فحفر في __________ (1) (ق): "بظن". (2) (عَ): "لم". (3) (ق): "مع". (4) من قوله: "قلت: ترى ... " إلى هنا ساقط من (ع). (5) انظر: "مسائل صالح" رقم (626)، و"مسائل ابن هانئ": (1/ 142)

(4/1438)


دارِه بئرًا إلي جانِب الحائط الذي بينَه وبينه، فجرَّت هذه البئر ماءَ تلك البِئر؟ قال: لا تسدُّ هذه من أجل تلك، هذه في ملك صاحبها. ومن مسائل أبي بكر أحمد بن محمد بن صدقة (1) قال سمعتُ أبا عبد الله وسئِل عن رجل قال: "بسم الله التَّحِيَّاتُ"، وقال: لا تقل "بسم الله" (2)، ولكن لتَقُل: "التَّحِيَّات للهِ". وسُئِل عن الرجل يشهدُ وهو رديءُ الحفظ؟ قال: يكتبه هو عندَه، فقال: فإنْ وَدَعْتُ الشهادةَ أصلًا آثَمُ (3)؟ ثم قال: إن كان يضُرُّ بأهل القريةِ ومثلُك يُحْتاج إليه، فلا تفعلُ. وسُئل عن مسجد إلى جنب رجلٍ، ومسجدٍ آخرَ كان أبوه مؤذنه (4): أترى أن أصلِّيَ في المسجد الَذي إلى جنبي؟ قال: إن كانا عَتِيْقَين (5) جميعًا فكلما بَعدَ فهو خيرٌ (6). وسئل عن حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا غرارَ (7) في __________ (1) هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، نقل عن الإمام أحمد مسائل، ت (293). "طبقات الحنابلة" ت (1/ 155 - 157). (2) (ظ) زيادة: "التحيات". (3) "أصلًا" ليست في (ع)، ويمكن ضبط العبارة على الإخبار: "فإن وُدِعَتِ الشهادة أصلًا أثِمَ". لكن ما بعدها يؤيد ما أثبته من الضبط. (4) (ظ): "يؤذن فيه". (5) فى جميع المطبوعات: "كان عهد"!. (6) وانظر: "مسائل ابن هانئ": (1/ 70). (7) كذا في النسخ، وفي بعض مصادر الحديث: "إغرار"، قال أبو عبيد في "غريب الحديث": (2/ 130): "رُوي عن بعض المحدثين هذا الحديث: "لا إغرار ... " بالألف، ولا أعرف هذا الكلام وليس له عندي وجه"، وقد سأل الإمام أحمد =

(4/1439)


الصَّلاةِ ولا تَسلِيمَ" (1) قال: الإغرارُ عندنا أن يُسَلِّمَ منها ولا يكمِلُهاْ، وأما التسليمُ فلا أدري (2). قيل له: حديثا ابن عمر أنه كان يحتجمُ ولا يتوضَّأ (3)؟ قال: لا يصحُّ لأنَّ ابن عمر كان يتوضَّأُ من الرُّعاف (4). وسئل عن الرجل يعطي أخاه أو أختَه من الزَّكاة؟ فقال: نعم، إذا كان لا يخافُ مَذَمَّتَهُم، وإن كان قد عَوَّدْتَهمْ فأعْطِهِم. وسئل عن رجل توضأَ بأقلَّ من مُدٍّ، واغتَسَل (ق/3/ 3 ب) بأقلَّ من صاع؟ فقال: (ظ/239 أ) ما سمعنا بأقلَّ من مُدِّ، النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بالصَّاع وتوضَّأَ بالمُدِّ (5). وَسئلَ عن الرجلِ يموتُ فيقول: وارثي فلان، فيقال له: كيف هذا، وارثُك فلان، وفلانٌ أقربُ إليك منه ببطنٍ؟! قال: ليس ذاك وارثي؛ لأن فلانًا جَدّه كان دَعِيًّا. وينكِر ذلك أهل القرية والجيرانُ، __________ = أبا عَمْرو الشيباني عن معنى: "لا إغرار" فقال: إنما هو: "لا غِرار .. " "المسند": (16/ 29). (1) أخرجه أحمد: (16/ 27 رقم 9937)، وأبو داود رقم (928)، والحاكم: (1/ 264)، وصححه علي شرط مسلم. (2) وانظر في معنى الحديث "معالم السنن": (1/ 569)، و"شرح السنة": (12/ 257)، و"النهاية": (3/ 357) لابن الأثير، و "المسند": (16/ 29)، و"السنن": (1/ 570)، وقد نقل أبو داود عن الإمام أحمد معنى الغرار في التسليم. (3) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 47)، والبيهقي: (1/ 140). (4) أخرجه مالك في "الموطأ" برقم (88). وأخرج ابن أبي شيبة: (1/ 128) أن ابنَ عمر عصر بثرة في وجهه فخرج شيءٌ من دم وقيح بين أُصبعيه فحكه ولم يتوضأ"، وانظر "المصنف": (1/ 339) لعبد الرزاق. (5) أخرجه البخاري رقم (201)، ومسلم رقم (325) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، وانظر "التلخيص الحبير": (1/ 153).

(4/1440)


وفي الشائع المستفاض: أن هذا الذي زعم أنه جَدهُ فىَ دعيٌّ وارِثي أقربُ إليه، يُقْبَل قولُه؟ قال: لا يقبلُ قوله، "الولدُ للفِراش". وسئل عن المجوسيَّة تكون تحتَ أخيها أو أبيها (1) فيطلَقُها أو يموتُ عنها، فيرتفعانِ إلى المسلمين ألمهَا مَهْرها؟ قال أحمد: لم يُسْلِما؟ قال: لا، قال: فليس لها مهرٌ. وسئل عن الدرهم: إذا رأيتُه مطروحًا آخُذهُ؟ فقال: لا تَأْخُذه، فإن أخَذَهُ يُعَرِّفُهُ سنة، للخَبَر. وسُئِلَ عن أحاديث وهب بن مُنبهٍ، عن جابرٍ: كيف هي؟ قال: أرجو، ولم يكن إسماعيل يحدِّثُ بها ونحن ثمَّةَ، وكتبت أنا عن إبراهيم بن عقيل بن مَعْقِل -شيخًا كبيرًا- حديثين منها، ولم يكنْ إسماعيلُ يحدِّث وأرجو، وعَقيلُ بن مَعْقِل أحبُّ إليَّ من عبد الصمد (2). وسئل عن رجلٍ حلف (3) بصدقة ما يملكُ؟ فقال: كفارة (4) يمين، فقيل له: ثلاثينَ حجَّة؟ قال: لا أُفتي فيه بشيء. وسئل عن الرجلِ يعزي الرجل، يصافِحُه؟ قال. ما أذكرُه، ما سمعتُ. وسئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَأتوا النِّساءَ طُرُوقًا" (5) قال: نعم __________ (1) (ق): "ابنها". (2) عقيل وعبد الصمد ابنا مَعْقِل بن مُنبِّه أخو وهب. (3) (ع): "حاز"!. (4) (ظ): "هذه". (5) أخرجه البخاري رقم (1801)، ومسلم رقم (715) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

(4/1441)


يؤذنهنَّ، قال: بكتابٍ؟ قال: نعم. ورأيتُه لما بَلَغَ المقابرَ خَلَعَ نعنيْهِ، ورأيته لما حَتى الترابَ على الميِّتِ انصرف ولم يجلس. قال أحمد في رواية المرُّوذيِّ: من اشترى ما يُكالُ فكاله البائعُ، فوجدَه المشتري زائدًا، فقد يَتَغابَنُ الناسُ بالقليل، فإن كان كثيرًا. رَدَّهُ إليه. قيل له: في القَفيز مكُّوْكٌ (1)؟ قال: هذا فاحشٌ يَردُّه. قيل: فكَيْلَجَة (2) ونحوه؟ قال: هذا قد يتغابن الناس بمثله. ِ وقاك في رواية أحمد بن الحسن التِّرْمذي: العِينةُ عندنا أن يكون عند الرجلِ المتاع، فلا يبيعُه إلاَّ بنسيئةٍ فإن باع بنقدٍ ونسيئة فلا بأسَ. وقال في رواية ابن القاسم (3) وسِندي: أكرهُ للرجل أن لا يكون له عادةٌ غير العِينةِ، لا يبيعُ بنقدٍ (4). __________ (1) المكُّوك: مكيال، وهو ثلاث كَيْلَجات. (2) الكَيلَجة: مكيال، وهى مَن وسبعة أثمان مَنِ. انظر: "مختار الصحاح": (ص/630)، و"القاموس": (ص/ 1231). والمكّوك يساوي: 3.28 كغم، والكيلجة تساوي: 1.088 كغم، انظر: "مجلة الحكمة" عدد / 23/ 1422، ص/ 209 - 212. مقال: "تحويل المكاييل والموازين للأوزان المعاصرة" لمحمود الخطيبِ. والقفيز: مكيال يساوي ثمانية مكاكيك، وهو يساوي: 1.26 كغم. (3) من أصحاب أحمد اثنان كلاهما يقال له: أحمد بن القاسم، الأول يعرف: بصاحب أبي عبيد، وله عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، والثاني: "طوسي" روى عن الإمام أشياء. "طبقات الحنابلة": (1/ 135 - 136). (4) انظر: "مسائل صالح" رقم (664).

(4/1442)


وقال في رواية صالح (1) -في الذي يبيعُ الشيءَ علي حدِّ الضَّرورةِ، كأنه يوكلُ به السلطان لأخذِ خَراجٍ فيبيحُ فيؤدَي-: (ق/342 أ) لا يعجبُني أن يشتريَ منه. وقال في رواية حنبل: يُكْرَهُ بيعُ المضطر الذي يظلمه السلطانُ، وكلُّ بيع يكونُ على هذا المعنى فأحب إليَّ أن يَتَوَقَّاهُ لأنه يبيعُ ما يسوى كذا بكذا من الثمنِ الدُّونِ. وقال في رواية الميموني: ولا بأس بالعُرْبُونِ، وفي رواية الأثرم -وقد قيل له: "نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن العُربان" (2) فقال: ليس بشيء، وأحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث: "أنه اشترى لعمرَ دارَ السِّجنِ فإن رَضِيَ عُمَرُ وإلا له كذا وكذا" (3). قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقالُ هذا، قال: أيُّ شيء أقول، هذا عمر رضي الله عنه!. وقال حرب: قيل لأحمد: ما تقولُ في رجل اشترى ثوبًا، وقال لآخر: انقدْ عني وأنتَ شرِيكي؟ قال: إن لم يُرِدْ منفعة، ولم يكن قرضٌ جرَّ نفعًا فلا بأس. __________ (1) لم أجده في المطبوع. (2) أخرجه مالك رقم (1781)، ومن طريقه أحمد: (11/ 332 رقم (6723)، وأبو داود رقم (3502)، وابن ماجه رقم (2192) وغيرهم أنه -أي مالك- بلغه عن عَمرو بن شعب عن أبيه عن جده ... الحديث. وسنده ضعيف من أجل جهالة الواسطة بين مالك وعَمرو بن شعيب، وانظر: "التمهيد": (24/ 176 - 177). (3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 7)، وابن حزم في "المحلي": (8/ 373) من طريق عبد الرزاق.

(4/1443)


قال حرب: وسئل أحمد عن دار بين ثلاثة، اشترى أحدهم ثُلُثَها بمائة، والآخر الثُّلثَ الآخر بمئتين، والآخر الثُلث الآخر بثلاث مئة، ثم باعوها بغير تعيين مساومةً؟ قال: الثمن بينهم بالسَّوية، لأن أصل الدَّار بينهم أثلاثًا. وسئل أحمدُ مرَّةً أخرى عن ثوبٍ بين رجلين قام نصفه على أحدهما بعشرين، ونصفهُ على أحدهما بثلاثين، فباعاه مساومةً؟ فقال: قال ابن سيرين الثَّمن بينهما نصفين. قال حرب: وهو مذهب أحمد. قيل لمَ؟ قال: لأنَّ لكلِّ واحد منهما نصفَهُ، قلت: وإن كان عبدًا؟ قال: وإن كان عبدًا، العبد والدَّابةُ (ظ/239 ب) وكلُّ شيء بهذه المنزلة. انتهى. قلت: فإن باعوه مُرابحةً، فالثَّمنُ بينهم على قدر رؤوس أموالهم؛ لأن الربح تابعٌ لرأس المال، فإذا كان الربح عشرة فى مئة فقد قابل كلُّ درهمًا فيقسم الثمن بينهم كما يقسم الربح (1)، وقال صاحب "المغني" (2): "نصَّ أحمد على أنهما إذا باعا مرابحةً فالثمن بينهما نصفان، وعنه رواية أخرى حكاها أبو بكر أنها على قدر رؤوس أموالهما" (3). قال (4) حرب: وسمعتُ أحمد يقول: يأخذ الرجل من مالِ ولدِه __________ (1) "كما يقسم الربح" سقطت م (ع). (2) (6/ 277). (3) ثم قال فى "المغني": "ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر. وقيل: هذا وجه خرّجه أبو بكر، وليس برواية، والمذهب الأول" اهـ. (4) من قوله: "صاحب المغني .. " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1444)


ما شاء، قلت: وإن كان الأبُ غَنِيًّا؟ قال. نعم، قيل: فإن كان للابنِ فَرجٌ شبهُ الأمَةِ؟ قال: أما الفَرْجُ فلا، وذهبَ إلى حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ" (1)، وحديث عائشة: "إن أوْلادَكمْ مِنْ كسْبِكمْ" (2). فصل قال أحمدُ في رواية أبي طالب -فيمن عندَه رهونٌ لا يَعْرِفُ صاحبَها-: يبيعُها ويَتصَدَّق بها، ولا يأخذ ما على الرَّهن إذا باعه، فإن جاء صاحِبُها غرمَها. قال ابن عَقِيل: ولا أعرفُ لقولهِ: "ولا يأخُذُ ما على الرَّهْنِ"، وجهًا مع تجويز بيعِها، فإن كان المنع لأجل جهالةِ صاحبِها فيجبُ أن يمنعَ البيعَ والصَّدَقةَ بالثمنِ كما منع من اقتضاء الدَّيْن، وإن لم يمنعْ من الصَّدَقةِ والبيع فلا وجهَ لمنع اقتضاء الدَّيْنِ (3)، ونقل أبو الحارث (4) في ذلك: يبيعُه ويَتصَدَّقُ بالفضل، فإذا جاء صاحبُها كان بالخيار بينَ الأخذِ (5) أو الثمنِ. قلت: فقد اختلفت الروايةُ عنه في جوار أخذِه حقَّه من تحتِ يدِه. __________ (1) أخرجه أحمد: (11/ 503 رقم 6902)، وابن ماجه رقم (2292) من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وله شواهد أخرى يتقوي بها. (2) أخرجه أحمد: (6/ 31)، وأبو داود رقم (3528)، والترمذي رقم (1338)، والنسائي: (7/ 241)، وابن ماجه رقم (2137)، والحاكم: (2/ 46). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (3) من قوله: "وإن لم يمنع ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) (ظ): "الحكم". (5) (ق): "الأجر".

(4/1445)


قال ابنُ عَقِيل: وأصلُ هاتين الروايتَينِ جواز شراءِ (ق/342 ب) الوكيل من نفسِهِ، وفيه روايتان، كذلك أخْذه من تحت يده يُخرَّج عليهما، وقد تضمَّنَ نصَّاه جواز البيعِ وإن لم يستأذِن الحاكمَ، وتأوَّلها القاضي على ما إذا تَعَذرَ إذن الحاكم، قال: وأما إذا أمكَنَ فلا يجوزُ له ذلك؛ لأنه لا ولاية له على مالِ الغائب، لا بولاية عامَّةِ ولا خاصَّة، ومجرَّد كون مالِ الغير في يدِهِ (1) لا يُوجِب الولايةَ. قال: وقد نصَّ أحمد فى رواية أبي طالب: إذا كان عندَه رهنٌ وصاحبُا غائب وخاف فسادَه، كالصُّوف ونحوه: يأتي إلى السلطان ليأمُرَ ببيعِهِ، ولا يبيعُهُ بغير إذن السلطانِ، فهذا النصُّ منه يقضي: على ذلك الإطلاق. قلت: والصوابُ تقريرُ النَّصَّينِ، والفرق بين المسألتين ظاهرٌ، فإنَّ فى الثانية: صاحِب الرهنِ موجودٌ ولكنة غائبٌ، فليسِ له أن يَتَصَرَّفَ في مال الغائب بغير وكاله أو ولاية وهو لا يأمنُ. شكايَتَه ومطالَبَتَا إذا قدِمَ، وهذا بخلاف ما إذا جهل صاحبَ المال، و (2) أيسَ من معرفتِهِ، فإنَّ المعنى الذي في حقِّ الغائب الموجودَ مفقودٌ في حقّ هذا، والله أعلم. ومن مسائل أحمد بن محمد بن خالد البُراتي (3) قال: سألتُ أبا عبد الله، فقلت: إذا فاتَتْني أَوَّلُ صلاةِ الإمامِ __________ (1) (ق): "وبمجرد كون المال فى يده ... ". (2) (ظ): "أو". (3) هو: أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان، أبو العباس البُرَاثي، روي عن الإمام ت (300). "طبقات الحنابلة": (1/ 153 - 155). والبُرَاثي -بضم الموحّدة- نسبة إلى "براثا" محلة ببغداد، "معجم البلدان": (11/ 362).

(4/1446)


فأدركت معه من آخِرِ صلاتِهِ، فما أعتدُّ به أول صلاتي؟ فقال لي: تقرأُ فيما مضى يعني: الحمد وسورة، وفي القعود تقعدُ على ابتداء صلاتِك (1). ومن خطِّ القاضي أيضًا نقل مُهَنّا عن أحمد: في أسير في أيدي الروم مكثَ ثلاثَ سنينَ يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان = يُعِيدُ. قيل له: كيف؟ قال: شهرًا على أثرِ شهرٍ، كما يعيدُ الصّلَواتِ. ونقل عبد الله (2) عنه في الرجل يُكبِّر تكبيرةَ الافتتاح، قبلَ الإمام = هذا ليس مع الإمامِ، يعيد الصلاةَ. إنما أمَرَهُ بالإعادةِ، ولمِ يجعلْه منفردًا بالصَّلاةِ لأنه نوى الائتمام بمن ليس بإمام؛ لأنه إذا كثر قبله فليس بإمام له، ولم تَصحَّ صلاة الانفراد؛ لأن النية قد بطلتْ، فإن صلى نفسان ينوي كل واحد منهما أنه يأتم بصاحبه لم تصحَّ صلاتُهما؛ لأنه ائتم بغير إمام، فإن صلى نفسان كل واحد منهما نوى أنه إمام صاحبه (ق/344 أ) لم تصحَّ صلاتُهما أيضًا؛ لأنه (3) نوى الإمامَةَ بمن لا يأتم به، فهو كما لو نوى الائتمامَ بغير إمام. نقل الحسن بن علي بن الحسن (4)، سألت أبا عبد الله عن الرجل __________ (1) كرر المؤلف نقل هذه الرواية: (4/ 1405) لكن نسبها هناك إلى بكر بن أحمد الراثي. وانظر التعليق عليها. (2) "المسائل" رقم (536). (3) من قوله: "ائتم بغير ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) هو: الحسن بن علي بن الحسن بن علي الإسكافي، أبو علىِ، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حِسان كبار أغرب فيها على أصحابه. "طبقات الحنابلة": (1/ 364 - 365).

(4/1447)


يُكَبِّرُ خلفَ الإمام يُخَافِتُ أو يعلنُ به؟ قال: لا نعرفُ فيه شيئًا. إنما يُعرف (1) الحديثُ: "إذا كبَرِّ فَكَبِّروا" (2). قال القاضي: "ظاهر كلامِه التوَقُّف عن جهر المأموم بذلك، ويجبُ أن يكون السُّنَّة الإخفات (ظ/240 أ) في حقِّه كسائر الأذكار في حقه، ولأن الإمام إنما يجهر ليعلَمَ المأموم بدخوله في الصلاةِ: وركوعِه، وإلاَّ فالسّنَّة الإخفاتُ كسائرِ الأذكار (3) غير القراءةِ". انتهى. من خط القاضي أبي يَعْلى مما انتقاه من "شرح مسائل الكَوْسج" لأبى حفص البَرْمكي قال أبو حفص: إذا ترك التَّشَهُدَان صلاته تُجْزِئه، ولا فرقَ عندَه بين التَّشَهُّدِ الأوَّل والثاني، إن تَرَكَهما عامدًا أعاد الصَلاةَ، وإن تَركهما ناسيًا فصلاتُهُ جائزةٌ، وعليه سجودُ السَّهْوِ. وقال: سجود السهوِ عندَنا واجب إلا أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ بتركِةِ. قال: ومن الأبدال عندَنا ما يكونُ غيرَ واجب، وإن كان مُبْدَلُهُ واجبًا، مثلَ النكاحِ واجب، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - البَدلَ منه الصيام (4)، __________ (1) من (ق). (2) أخرجه البخاري رقم (734)، ومسلم رقم (414) من حديث أبي هريرة، وأخرجاه -أيضًا- من حديث أنس -رضي الله عنه-. (3) من قوله: "في حقه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (4) في حديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... ". أخرجه البخاري رقم (1905)، ومسلم رقم (1400) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

(4/1448)


وهو غير واجب (1). وقال تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. فبدأ بالسجود، قيل: ذلك فى غير شريعتنا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً}، ولأن الركوع يسمى سجودًا، والسجودُ ركوعًا بدليل حديث عائشة: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف ركعتين، فى كلِّ ركعة سجدتين" (2) تريدُ: ركوعين، وفي حديث أبي هريرة: "من أدرك من العصر سجدة" (3) يريد: ركعةً. وقال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} يريدُ: ساجدًا. قال أحمد: وإن انغمس فى الماء لا يُجزئهُ حتى يتوضَّأَ (4). قال أبو حفص: إن كان اغتسالُهُ لغير الجنابة لا يجزئه من وضوئه وإن نوى الوضوء؛ لأن عليه التَّرتيب، وإذا خرج من الماء خرج رأسهُ قبل وجهه؛ ولأن الغُسل لا يقوم مقام المسح، والمنغمس في الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن رتَّب الأعضاء في جوف الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن خرج رأسه من الماء، ويكون قد تمضمض واستنشق أولًا = صحَّ وضوؤُه. قال أحمد: إذا علَّم رجلًا الوضوء لا يُجزؤهُ، يريد بهذا: إذا لم يَنو الوضوء لنفسه؛ لأن أبا داود (5) رَوى عنه: علَّم رجلًا الوضوء (6) ونوى أجزأه؛ لأن عثمان وعليًّا رضي الله عنهما جلسا يُعلِّمان الناس __________ (1) "وهو غير واجب" ساقط من (ظ). (2) أخرجه البخاري رقم (1044)، ومسلم رقم (901). (3) أخرجه البخاري رقم (556)، ومسلم رقم (608). (4) انظر: "مسائل عبد الله" رقم (115 - 119). (5) لم أجده في مسائله. (6) من قوله: "لا يجزئه يريد .. " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1449)


وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لهما طُهورًا (1). عن أحمد ثلاثُ روايات في الجنب، هل يحتاجُ إلى الوضوء؟ إحداهنَّ: يُجْرئُهُ الغسل بلا وضوءٍ. الثانية: يجزئُهُ الغسلُ لوضوئه إذا نواه. الثالثة: لا يجزئه حتى يتوضَّأ. قلت: استشكلَ: بعض الأصحاب (ق / 344 ب) الرِّوايَةَ الأولى، وهي الصحيحة دليلًا؛ لأن حكمَ الحَدَثَ الأصغرِ قد اندرجَ في الأكبر، وصار جُرءًا منه، فلم: ينفردْ بحكمٍ، لاسيَّما وكلُّ ما يجبُ غسلُهْ من الحَدَث الأصغر (2) يجب غسله في الأكبر وزيادة، فهذه الرِّوايةُ هي الصَّحيحةُ، وبهذا الطَريق كان الصحيح أن العُمْرَةَ ليست بفريضةٍ، لدخولها في الحجِّ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّقَ الطُّهْرَ بإفاضةِ الماءِ على جميع الجَسَد (3)، ولم يشترطْ وضوءًا، وفَعَله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبيان أكملِ الغُسْل. قال أبو حفص: إن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - أفردَ المضمضةَ والاستنشاقَ بالذِّكر عن الوجهِ، فقال: "إنَّ العَبْدَ أذا تَمَضمَض واسْتَنشَقَ، خرَجتْ ذنوبه مِن فيهِ وَمنخَرَيْهِ، فإذا غسَل وَجْهَهُ ... " (4) الحديث. __________ (1) حديث عثمان في "الصحيحين"، وحديث علي أخرجه أصحاب السنن وأحمد. (2) من قوله: "قد اندرج ... " إلى هنا ساقط من "ظ". (3) فيما أخرجه مسلم رقم (330) عن أم سلمة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصف الغسل: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسِك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين". (4) أخرجه أحمد: (31/ 423 رقم 19064)، والنسائي: (1/ 74 - 75)، وابن ماجه رقم (282) من حديث الصنابحي. وأخرجه مسلم رقم (832) في حديث عَمرو بن عَبَسة الطويل.

(4/1450)


قيل: لا يمنعُ ذلك أن يكونا من الوجه، كما قال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 44]، فلم يمنعْ تمييزه بين الحميم وبينَ جهنَّمَ أن يكون من جهنَّم، ولأنه أفردهما لأنه خصَّ الوجه بمعنى آخرَ وهو خطايا النَّظَرِ، ولأنهُ يمكن فعلهما في حالٍ، فجمَعَ بينهما في الذِّكْرِ، ولا يمكنُ جَمعُهما مع الوجه في الاستعمالِ، فأفردا بالذكر، وإنما لم يَجِبْ غسلُ باطن العينين؛ لأنه يورِثُ العَمَى فسقط للمشقَّةِ. وفيهما في الغُسل روايتان: إحداهما: لا يجبُ للمشَقَّةِ. والأخرى: يَجِب لعدم التَّكرار. واختلف أصحابنا في المبالغة في الاستنشاق، فقال ابنُ أبي علي (1): هي غيرُ واجبةٍ لأنها تسقُطُ (ظ/240 ب) في صوم التَّطَوعُّ، وقال أبو إسحاق (2): هي واجبةٌ، ولا يدلُّ سقوطُها في الصَّوم على سقوطِ فرضِها في غيره؛ لأن سَفَرَ التطَوعِّ يُسْقِطُ الجُمعَة، ولا تسقطُ في غير السَّفَرِ. وأجاب أبو حفص: بأن الجمعةَ منها بَدَلٌ، وليس من المبالغة بَدَلٌ. وأجاب أبو إسحاق: بأنه قد يسقطُ الفرض بالتَّطَوعُّ ولا بَدَلَ، كالسَفَرِ يسقِطُ بعض الصَّلاة. قال: إلى قيل: يلزمُ أن يجعلَ ما خلفَ الأذُن من البياضِ من الرأسِ؟ قيل: يقول: إنه منه. قل: يلزمُ أن يجوزَ الاقتصارُ من التقصِيرِ من شعر الأذن؟ __________ (1) كذا في الأصول، ولم أتبينه، ولم أجد من يُعرف بهذا اللقب من الحنابلة، والمسألة مذكورة في كتبهم، ولم تنسب لقائل معيّن، بل إلى الأكثر. (2) هو: ابن شاقلا.

(4/1451)


قيل (1) لا، عندنا يلزِمُ استيعابُ الرأس بالأخذ من جميع شعره، والمرأةُ تقصر من طرف شعرها أنملة؛ لأن شَعَرها منسبل فهو يأتي على شعرها. قيل:. يلزمُ أن يجوز الاقتصارُ بالمسح عليهما في الوضوء؟ قيل: في المسح روايتان؛ إحداهما: استيعابُ الجميع، والأخرى: البعض، ولا يجوزُ الاقتصارُ على الأُذُنَيْنِ إجماعًا. وقال: صفةُ مسح المرأة (2): أن تمسحَ من وسط رأسِها إلى مقَدَّمِهِ، ثم من وسط رأسها إلى مُؤخرِهِ، على استواء الشعر، وكذا الرجلُ إذا كان له شعرٌ (3). وقد روي عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح من (ق/345 أ)، مُقَدَّمِهِ إلى مؤخَّرِهِ (4) يُجْزِيء في المَذي النَّضْح؛ لأنه ليس بِنجَسٍ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ مَاءُ الفَحْلِ، ولِكُلِّ فَحلٍ مَاءٌ" (5)، فلما كان ماءُ الفحل طاهرًا، وهو المنِيُّ، كان هذا مثلَهُ، لأنهما ينشآن من الشَّهوة. __________ (1) من قوله: "يقول إنه ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "الرأس". (3) انظر: "مسائل أبي داود" رقم (42)، و"مسائل ابن هانئ": (1/ 15)، وفي "مسائل صالح" رقم (58). سئل عن مسح المرأة رأسها؟ فقال: لا تبالي كيف مسحت. (4) أخرجه البخاري رقم (185)، ومسلم رقم (235) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه-. (5) أخرجه أحمد: (2/ 399 رقم 1238) من حديث علي -رضي الله عنه- وأصله في "الصحيحين" في سؤال علي عن المَذي وما الواجب فيه. وأخرجه أحمد: (31/ 346 رقم 19007)، وأبو داود رقم (211) وغيرهما من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك المَذي، وكلُّ فحلٍ يُمْذي ... " الحديث. .

(4/1452)


قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَامَ أحَدكُمْ مِنْ مَنمامِهِ" (1) إشارة إلى نوم اللّيل؛ لأن المنامَ المطلقَ إشارةٌ إلى الليل (2)؛ ولأنه قال: "باتَت يدُه"، والبيتوتةُ لا تكونُ إلاّ بالليل، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) وَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)} [الأعراف: 97 - 98]، فخصَّ البيَاتَ بالليل، ثم ذَكَرَ النهار (3). قال أحمد: مسّ الدرهم الأبيض على غير وضوء، أرجو، يحتمل أن يكون سَهَّل، لحاجةِ الناسِ إلى المعاملة به وتقليبه (4). وقال أحمد في الرجلِ يجامِعُ أهلَه في السفر وليس معه ماءٌ: لا أكرهُ له ذلك (5)، قد فعله ابن عباس، رُوي أنه تَيَمَّم وصلَّى بِمُتوَضِّئينَ، ثم التفتَ إليهم فقال: إني أصبتُ من جارية رُومِيَّة، ثم تَيَمَّمْتُ وصلَّيْتُ بكم. أحتجَّ للتَّيَمُّم لا يجوزُ بغير تراب بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال: فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّى المدينة طَيْبةَ وطابة (6)، وكانت سَبْخَةً؟ قيل: سماها طَيْبَة؛ لأنها طابتْ له وبه، لا أن هذا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (161)، ومسلم رقم (278) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) "لأن المنام المطلق إشارة إلى الليل" سقط من (ق). (3) انظر "مسائل أبى داود" رقم (17، 18). (4) "مسائل الكوسج": (1/ ق 18). لأن فيها شيئًا من كتاب الله، وانظر آثار السلف في حكم مسها في "مصنف ابن أبي شيبة": (1/ 107). (5) انظر "مسائل الكوسج": (1/ ق 18 - 19)، و"مسائل صالح" رقم (78). (6) فيما أخرجه مسلم رقم (1385) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.

(4/1453)


الاسم استحَقَّتْهُ الأرضُ. قال في الدَّمِ في أكثرُ الروايات (1): "إن الفاحشَ ما يستفحشه الإنسانُ في نفسِه"، وقد قال هاهنا (2) بالذِّراع والشّبر، ولا يَدلُّ ذلك: على أن ما دونَه ليس بفاحِشٍ؛ لأنه قال في مَسائل المرُّوْذي: "خمس بزقات من دم"، وإنما لم يُوَقت في ذلك؛ لأن التوقيتَ لم يأتِ عمَّن تَقَدَّم. روي عن ابن عمر أنه تَيمَّمَ، والماء منه على غَلْوَة أو غَلْوتيْنِ (3)، ثم دخل المصر وعليه وقتٌ، أي غسل (4). روى وَهْب بن الأجدع، عن عليٍّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -قال: "لا صَلاةَ بعْدَ العَصْرِ، إلا أن تكون الشَّمسُ بيضَاءَ نقِية" (5)، قيل: يحتَمل أن يعني وقتَ العصرِ؛ لأنه روي أنه نهى عن الصلاة بعد العصرِ، أي: فعل الصلاة. قوله -"أسْفروا بِالفَجْرِ، فَإنَّهُ أعْظَمُ للأجْرِ" (6)، فيه ضعف، ويريدُ __________ (1) انظر "مسائل ابن هاني": (1/ 7)، و"مسائل عبد الله رقم (82)، و"مسائل صالح" رقم (72، 1002 - 1005). (2) يعني فى رواية الكوسج، انظرها: (1/ ق 36، 68). (3) أخرجه البيهقي. (1/ 233). والغَلْوة: قدر رمية بسهم. "النهاية في غريب الحديث": (3/ 383). (4) (ق وظ): "إن قيل" بدلًا من: "أي غسل". (5) أخرجه ابن أبى شيبة: (2/ 131)، وأبو داود رقم (1274)، والنسائي: (1/ 280)، وابن خزيمة رقم (1284)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 414)، وغيرهم. (6) أخرجه أحمد: (25/ 133 رقم 15819)، وأبو داود رقم (424)، والترمذي رقم (154)، والنسائي: (1/ 272)، وابن ماجه رقم (672)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 357) وغيرهم من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-. قال الترمذي: أحسن صحيح"، وصححه ابن حبان، وابن القطان، كما في "نصب الراية": (1/ 235)، وتكلم فيه بعض العلماء.

(4/1454)


بذلك الإسفارَ في نفسِ الصلاة، فيكونُ قد ابتدأها بعدَما طَلَعَ الفجرُ، وأسْفَرَ بها بتطويلِ القراءة، أبو بكر قرأ بهم (البقرة) في الفجر، وقال: "لو طَلَعَتْ ما وَجَدَتْنا غافِلينَ" (1). قلت: للناس في هذا الحديث أربع (ظ/241 أ) طرق: أحدها: تضعيفُه، وهي طريقة أبي حفص وغيره. الثانية: حملُه على الإسفار بها في ليالي الغَيْم واللَّيالي المقمرَةِ، خشيَةَ الصَّلاةِ قبل الوقتِ. الثالثة: أن الإسفارَ المأمورَ (ق/ 345 ب) به: الإسفارُ بها استدامةً وتطويلًا لها لا ابتداءً، وهذه أصحُّ الطُرُق، ولا يجوزُ حملُ الحديث على غيرها؛ إذ من المحال أن يكونَ تأخيرُها إلى وقتِ الإسفار أفضلَ وأعظَمَ للأجر، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يواظِبُ على خلافِه هو وخلفاؤه الرَّاشدون من بعدِهِ. وتفسيرُ هذا الحديث يُؤخَذ من فعلِهِ، وفعلِ خلفائِهِ وأصحابهِ، فإنهم كانوا يُسْفِرونَ باستدامَتِها لا بابتدائِها، وهو حقيقةُ اللَّفظِ، فإنَّ قوِله: "أسْفِروا بها"، الباء للمصاحَبَةِ، أىِ: أطيلوها إلى وقتِ الإسفار، وفهْم هذا المعنى من اللفظ أقوى من فهم معنى آخر، والشروع فيها إلى وقت الإسفار، ولو قُدِّر أن اللَّفظَ يحتمل المعنيينِ احتمالًا متساويًا (2) لم يَجُزْ حملُه على المعنى المخالِفِ لعملِهِ وعمل خلفائِهِ الراشدينَ، والله أعلم. __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 310)، وعبد الرزاق: (2/ 113)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 389) بسندٍ صحيح عن أنس -رضي الله عنه-. (2) من قوله. "إلى وقت ... "إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1455)


الطريقة الرابعة: أنَّ تأخيرَها أفضل، وحملوا الإسفار بها على تأخيرها إلى وقتِ الإسفارِ. قال: دليل الجمع للمطر: روى عبدُ الرزاق، عن معْمرٍ، عن أيّوب، عن نافِع، قال: كان أهلُ المدينة إذا جمعوا بين المغرب والعشاء في اللّيلة المطيرة صلَّى معهم ابنُ عمر (1)، ورُوي عن ابن الزبير مثله (2). قال: ورُوِىِ عن أحمد: الشفقُ الحُمرَةُ حضرًا وسفرًا، وعنه: البياضُ سفرًا وحضرًا. قال: احتجَّ من قال بطهارةِ الكلب بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، وإطلاقُ الماء يقتضي الطهارة. قيل: لا يمنعُ أن يقلب الله عينها إلى النَّجاسةِ كالعصير يتحمَّر، والماءُ ينقلبُ (3) بولًا. سئل أحمد عن جيران المسجد، فقال: كلُّ من سَمعَ النَّداء. وسُئل: يَؤُمُ الرَّجلُ أباه؟ قال: إيْ واللهِ، يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم، وأحتجَّ أبو حفص أن النبي -رضي الله عنه- قال: "ورأيتني في جماعة منَ الأنبياء" إلى أن ذكر إبراهيمَ، قال: "فصلَّيت بِهِم" (4). عن أحمد في النفخِ، قال: أكرهُهُ شديدًا إلا أني لا أقولُ: يقطع __________ (1) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 556)، ومالك في "الموطأ" رقم (386) بنحوه. (2) لم أجده. (3) (ق وظ): "يصير". (4) أخرجه مسلم رقم (172) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(4/1456)


الصَّلاة، وليس هو كلام، وعنه. أن النفخَ يقطعُ الصلاةَ، وعلى الروايتين هو مكروهٌ. صلاةُ الضُّحى، قُتِل عثمانُ وما أحد يُسَبِّحُها (1)، قيل: وليس في ترك الصحابةِ ما يمنعُ من فعلِها، فقد فعلَها - صلى الله عليه وسلم - وقتًا وتَرَكَها وقتًا، وهذا اختيارُ أحمدَ أن لا يُداوَمَ عليها (2). قال: إذا قال المؤَذِّن: "قد قامتِ الصلاةُ" وجَبَ أن يقومَ الإمامُ ولا يسبقوه، ثم يقوموا، وإذا لم يكنْ في المسجد أيضًا قاموا فانتظروهُ قِيامًا، َ وقد رَوَى أبو هريرة قال: "أقِيْمتِ الصلاةُ، وصفَّ الناسُ صفوفَهم، فخرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ... إلى قولهِ، ثم ذكر أنه لم يغتسلْ فقال بيدِهِ للناس: "مكانَكم" (3)، وأما قوله: "لا تَقُوموا حَتَّى تَرَوني" (4)، فنقول: إذا لم يكنْ في المسجدِ جاز أن يقوموا إذا قال: "قد قامتِ الصلاةُ" ينتظرونَه قيامًا (ق/ 346 أ) لحدِيث أبي هريرة، وإذا كانَ في المسجدِ قاموا ولم يتَقدَّموه، لأنه قال: "حتى تَروني" أيْ: قائمًا. اختار أحمد حديثَ عمَرَ في الاستفتاح (5)، وقد روى أبو سعيد __________ (1) انظر "مسائل الكوسج": (1/ ق 40). (2) انظر: "المغني": (2/ 549 - 551). (3) أخرجه البخاري رقم (275)، ومسلم رقم (605) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (637)، ومسلم رقم (604) من حديث أبى قتادة -رضي الله عنه-. (5) أثر عمر في الاستفتاح هو: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". =

(4/1457)


عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، وليس بصحيح، لأن رواية عليِّ بن عليِّ الرِّفاعي، عن أبي المتوكّل النَّاجي، عن أبي سعيد، وقد قال أحمد: عليُّ بن علي لا يُعبأُ به شيئًا (2). حديث البَراء أنه - صلى الله عليه وسلم -"كان إذا افتَتحَ الصلاةَ رَفعَ يديْهِ، ثمَّ لا يعودُ" (3)، قال أحمد: "لم يَعُد" من كلامِ وكيع (4). قال: لا يختلفُ المذهب في اللَّحْنِ الذي هو مخالفة الإعراب (ظ/ 241 ب)، لا يبْطِلُ الصلاةَ. واختلف قولُه إذا خَتَم آيةَ رحمة بآيةِ عذاب، على روايتين؟ إحداهُما: عليه الإعادة، والثانية: لا، ووجهها ما روى قابوس بن أبي ظبيان، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، قال: صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون قال: فأكثَرُوا، فقال: إنَّ له __________ = أخرجه الحاكم: (1/ 235)، وابن أبي شيبة: (1/ 209)، والدارقطني: (1/ 299)، والبيهقى: (2/ 34 - 35). (1) أخرجه أحمد: (18/ 51 رقم 11473)، وأبو داود رقم (775)، والترمذي رقم (242)، وابن ماجه رقم (804)، والنسائي: (2/ 132)، وغيرهم. قال الترمذي: "وقد تكلَّم في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيي بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث" أهـ. وضعفه أبو داود وابن خزيمة والنووي. (2) انظر "مسائل الكوسج" (1/ق 44). (3) أخرجه أبو داود رقم (749)، والبيهقي: (2/ 76)، والحميدي: (2/ 316) وغيرهم، وهو ضعيف: بزيادة: "ثم لا يعود" وانظر ما سيأتي. (4) انظر: "مسئل عبد الله" رقم (325، 326)، و"العلل": (1/ 369 - 370)، و"تهذيب السنن": (1/ 368 - 369)، و"المنار المنيف": (ص/ 138)، و"نصب الراية": (1/ 394 - 395).

(4/1458)


قَلْبَيْنِ ألا تسمعونَ إلى قوله، والآية في الصلاة (1). قال ابن عباس: "لا يَؤُمُّ الغلامُ حتى يحتلمَ" (2)، إن قيل: يلزمُ عليك إمامَتُهُ إذا كان ابنَ عشر؛ لأنه خُوطِبَ بالصَّلاةِ عندَك؟ قيل: الخَبَرُ ألَزَمَ ذلك في النَّظَر. إن قيل: فقد أَمَ عَمْرو بنُ سَلِمَةَ وهو غلامٌ (3). قيل: سمَّي غلامًا وهو بالغٌ، ورواية أنه كان له سبعُ سنين فيه رجلٌ مجهولٌ فهو غيرُ صحيح (4). الكوسج (5): قلت: يَؤُمُ القومَ، وفيهم من يكرهُ ذلك، قال: إذا كان رجلًا أو رجلينِ فلا حتى يكونوا جماعةَ ثلاثةَ فما فوقَهُ. __________ (1) أخرجه أحمد: (4/ 233 رقم 2410)، والترمذي رقم (3199)، وابن خزيمة رقم (865)، والحاكم: (2/ 415)، وابن جرير: (10/ 255)، وغيرهم، ولفظ أحمد: "قلت لابن عباس: أرأيتَ قول الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، ما عنى بذلك؟ قال: قام نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَا يصلّي، قال: فَخَطر خَطْرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قال: قلبًا معكم، وقلبًا معهم؟ فأنزل الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}. وسقنا اللفظ هنا لأن سياق المؤلف غير محرر، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم؛ لكن فيه قابوس ضعيف الحديث. وانظر "مسائل الكوسج": (1/ ق 49). (2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 487)، والبيهقي: (3/ 225)، وروي مرفوعًا ولا يصح، انظر: "فتح الباري": (2/ 217). (3) أخرجه البخاري رقم (4302) عن عَمْرو بن سَلِمة. (4) بل وقع في رواية البخاري أنه كان ابن ست أو سبع سنين. وسئل أحمد في رواية الكوسج (1/ ق 61): "يؤم القوم من لم يحتلم؟ فسكت. قلت: حديث أيوب عن عَمرو بن سَلِمة؟ قال: دعه، ليس هو شيءٌ بيَّن، جبن أن يقول فيه شيئًا". (5) "المسائل": (1/ ق 62).

(4/1459)


قال أبو حفص: جعل الحكمَ للكثيرِ فى الكراهَةِ لأنَّ الحكمَ للأغلب. روي أنس: "صلَّيْت خَلْفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ويتيمٌ لنا وأم سُلَيم خَلْفَنا" (1). يحتمل أن يكون كان بالغًا ويحتملُ أن يكونا صَبيَّيْنِ، أما إذا كان أحدهما بالغًا فعلى حديث ابن مسعود: "أنه صلَّى بَعلقمةَ والأسودِ، وأحدُهما غيرُ بالغ، فأقام أَحَدَهما عن يمينهِ، والآخرَ عن يَسَارهِ، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -" (2). الكوسج (3): قلت: إذا دخل والإمامُ راكِع يركعُ قبل أن يَصِلَ إلى الصف؟ قال: إذا كان وحدَه وظنَّ أنه يُدْرِكُ فعَلَ (4). احتجَّ أبو حفص بحديث أبي بَكْرَةَ (5). فإن قيل: فقد نهاه - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: نهاه عن شدَّة السَّعْيِ. قلت: الإشارةُ (6) في الصَّلاة؟ قال: قد أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اجلِسوا" (7) إذا كان يُفهِمهم شيئًا من أمر صلاتِهم (8). الصلاةُ لغير القِبْلَةِ وهو لا يعلمُ ثم عَلِمَ؟ قال: يستديرُ، قلت: __________ (1) أخرجه البخاري رقم: (727)، ومسلم رقم (658)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (2) أخرجه مسلم رقم (534). (3) "المسائل": (1/ق 63). (4) وتمام جواب الإمام: "وإن كان مع غيره فيركع حيث ما أدركه الركوع". (5) تقدم. (6) في "المسائل": "تكره الإشارة ... ؟ ". (7) تقدم. (8) "المسائل". (1/ق 67).

(4/1460)


يُعِيدُ ما صلَّى؟ قال: لا (1). أبو حفص: دليلُه أهل قُبَاء. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلْيصَلَّ إلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْن مِنْهَا لا يقْطَعِ الشَّيْطَان عَلَيْهِ صَلاتَهُ" (2). إن قيل: فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - (ق/346 ب) خَنَقَ شيطانًا وهو يُصَلِّي (3)؟ قيل: يحتملُ أنه خَنَقَهُ يَمْنَةً أو يَسْرَةً. قال أحمد: لا يعجبُني أن ينقضى وِتْرهُ (4)، وعنه الجواز؛ لحديثِ عثمان، وابنُ عباس وأسامَةُ رخَّصا فيه. قلتُ: إن رجلًا قال: يا رسولَ الله إني أعملُ العملَ أُسِرُّهُ، فَيطلَعُ عليه، فيُعْجبُني (5)؟ قال: لما أسرَّ العملَ فأظهر الله له الثناءَ الحَسَنَ فأعجبه، فلَم يعبْ ذلك أن الرجلَ يعجِبهُ أن يقالَ فيه الخير (6). __________ (1) "المسائل": (1/ ق 69). (2) أخرجه أحمد: (26/ 9 رقم 16090)، وأبو داود (695)، والنسائي: (2/ 62)، وابن خزيمة رقم (803)، وابن حبان "الإحسان": (6/ 136) وغيرهم، من حديث سَهل بن أبي حَثْمة -رضي الله عنه-. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. (3) أخرجه البخاري رقم (461)، ومسلم رقم (541) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (4) "المسائل": (1/ ق 71)، وانظر "مسائل عبد الله" رقم (432 - 435). (5) أخرجه الترمذي رقم (2384)، وابن ماجه رقم (4226) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". (6) "مسائل الكوسج": (1/ ق 73) وزاد إسحاق ابن راهوية في الجواب: فإذا كان ذلك منه لِيقتدى به الناس، وليذكر بخير صار له أجر سرِّه وأجر ما نوى، من اقتداءِ الناس به وذكرهم إياه بخير.

(4/1461)


لا بأس أن يُعجبَ الإنسان ما قيلَ عنه من الخير، إذا كان مَقْصَدهْ في عمله اللهُ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمنُ تسُرُّه حسنتُه" (1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نسِيَ أحدُكُمْ صَلاةً، فَلْيصلها إذا ذكَرَهَا ولوَقْتِها مِنَ الغَد" (2) محمول على النسخ (3) بحديث عمرانَ بن حُصَيْن: سِرْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فذكره، إلى قوله: فصلَّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسولَ الله نَقْضيها لميقاتِها من الغد؟ قال: "لا، أيَنهَاكم رَبكم عَنِ الرِّبا ويقبلهُ منكم" (4). قال ابن مسعود: "لا يقصرُ إلا حاجٌّ أو غازٍ" (5). يحملُ على ما شاهَدَهُ من الرَّسولِ؛ لأن أسفارَهُ لم تكن إلاّ في حَجٍّ أو غزو. __________ (1) أخرجه أحمد: (1/ 269 رقم 114)، والترمذي رقم (2165)، وابن حبان "الإحسان": (16/ 239)، والحاكم: (1/ 113) وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بنحوه، وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة. (2) أخرجه مسلم رقم (681)، وأبو داود رقم (437)، والترمذي رقم (177)، والنسائى: (1/ 294)، وابن ماجه رقم (698) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- مطولًا ومختصرًا. (3) انظر "مسائل الكوسج": (1/ ق 74)، وسلك جمعٌ من العلماء سبيل الجمع بين الروايات، فجعل الضمير فى: "فليُصَلها" راجعًا إلى صلاة الغد، أي: فليؤد ما عليه من الصلاة مثل ما يفعل كل يوم بلا زيادة عليها، فتتفق الألفاظ كلها. انظر: "فتح الباري": (2/ 85)، وحاشية السندي على النسائي: (1/ 295). (4) أصل حديث عمران في "الصحيحين" بدون هذا اللفظ، وهذا اللفظ أخرجه أحمد: (33/ 178 رقم 19964)، وأبو داود رقم (443)، وابن خزيمة. رقم (994)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 319)، وغيرهم من طريق الحسن البصري عن عمران، ورواية عنه مرسلة في قول جماعة من أهل العلم. (5) "مسائل الكوسج": (1/ق 74) وفي (ق) جعله من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه عن ابن مسعود الطحاوي في "شرح معاني الآثار": (1/ 425 - 426).

(4/1462)


اختلفتِ الرِّواية في صلاةِ النائمِ، فرُوِيَ عنه: على جَنْبٍ، وعنه: مستلقيًا ورجلاه إلى القِبْلَةِ. تجبُ الصلاةُ على الصَّبي عند تكامل العَشر، لا كما يقولُ مخالفُنا: عند تَكامُلِ الخَمس عَشْرَة (1). قلت: رجلٌ وضع يديه على فَخِذَيه في الركوع، أو وضع إحدى يديهِ على رُكْبَتَيْهِ، (ظ/ 242 أ) ولم يَضَعِ الأخرى. قال أحمد: أرجو أن يُجْزِئَه (2). قال أبو حفص: معنى هذه المسألةِ إذا كان ذلك من عِلَّةٍ، أما من غير عِلَّة فلا، لما روي عن سعد: كنا نُطَبقُ، ثم أُمِرْنا أَن نَضع الأيديَ على الرُّكَب (3)، وابن مسعود لم يبلغْه ذا، وكان يُطَبِّقُ، ولو أنَّ رجلًا لم يبلغْه فَعمل بالمنسوخ كابن مسعود لم تبطلْ صلاتُهُ، ولزمَهُ ذلك منذ وقتِ عَلِمَ. إذا سها في صلاتِه عشرينَ مرةً، يكفيه سجدتانِ (4)، لحديث عمران بن حُصَيْن فإنه حصلَ منه سهو كثيرٌ، واكتفى بسجدتينِ، من ذلك أنه جَلَس في الثالثةِ ساهيًا وسلَّم ساهِيًا، وسؤالهم له ساهِيًا، ودخوله الحجرةَ ساهيًا (5). __________ (1) "مسائل الكوسج": (1/ ق 78). (2) المصدر نفسه: (1/ ق 78 - 79). (3) أخرجه مسلم رقم (535) بنحوه، واللفظ للحاكم: (1/ 244). (4) "مسائل الكوسج" (1/ ق 85). (5) أخرجه مسلم رقم (574) من حديث عمران بن حُصَين -رضي الله عنه- في قصة ذي اليدين، وسمَّاه عمرانُ: الخِرْباق.

(4/1463)


إذا أدركَ إحدى سجدتي السَّهْوِ، يقضي السجدةَ ثم يقومُ فيقضي ما فَاتَه، إنما لم يَجُزْ (1) تأخيرها إلى آخر صلاتِه بل يقضيها معه، لقوله: "وَمَا فَاتكُم فَاقْضْوا" (2)، وقد فاتَتهُ سجدةٌ فيجِبُ أن يسجدَها، لا زيادةَ عليها (3). رجلان نسي أحدُهما الظُّهْرَ أمس والآخر أوَّل أمس، قال أحمد: يجمعان جميعًا من يوم. واحدٍ، وأيامٍ متفرِّقَةٍ (4). وعنه في رواية صالح أنهما لا يَجمعان من أيام متفَرِّقةٍ (5). وَجْه. رواية الكوسج: أن صلاتهما يجمعهما اسمُ ظُهْر، (ق/347 أ): وليس بينهما اختلاف، هذا قول أبي حفص. وجهُ رواية صالح: ما ذكره الشريف أبو جعفر من أن ظُهْرَ يوم واحد في حكم الجنس الواحد، ومن يومين في حكم الجنسين، بدليل أنه قد سقط ظهر أحدهما بما لا يسقطُ به ظهْر الآخَرِ، وهو ظهرُ يومِ الجمعةِ، وبقيَّةُ الأيام تسقط (6) بظهر مثلها، وهذا معدومٌ في __________ (1) (ق): "يقوم فيصلي ما فاته، إنما لم يجب ... ". (2) أخرجه بهذا اللفظ الحميدي رقم (935)، وأحمد: (12/ 192 رقم 7250)، والترمذي رقم (329)، والنسائي: (2/ 114 - 115)، وابن حبان "الإحسان": (5/ 517)، وغيرهم من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة - ضى الله عنه-. وذكر مسلم وأبو داود أن لفظة "فاقضوا" تفرَّد بها ابن عيينة عن بقية أصحاب الزهري، فهي خطأ منه والرواية المحفوظة "فأتموا". وأجاب الزيلعي وغيره عن ذلك بمتابعة معمر لابن عينة وكذا ابن أبي ذئب، انظر "نصب الراية": (2/ 200). (3) "مسائل الكوسج" ت (1 / ق 81). (4) المصدر نفسه: (1/ ق 82). (5) لم آره في المطبوع في رواية صالح. (6) من قوله: "ظهر أحدهما ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1464)


اليوم الواحد وهذا فرق صحيحٌ، وقد ذكرناه بعينهِ إذا كان عليه كفَّارتان من جنسين، أنه يفتقرُ إلى التَّعيين. قال في رجلينِ صَلَّيا جميعًا ائْتَمَّ كلُّ واحدِ منهما بصاحِبه: يُعِيدان جميعًا (1). والدليلُ عليه أنه لم يحصل (2) واحدٌ منهما معتقدًا للإمَامَةِ. قال: ولو أن رجلًا ائْتَمَّ برجل ولم يَنْو ذلك الرجل أن يكونَ إمامَهُ: يجزئُ الإمامَ ويعيدُ هو (3). دليلُهُ أن الإمَامَةَ لا تَصِحُّ إلاّ بنيَّةِ. فإن قيل: ابن عبَّاس ائْتَمَ بالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة اللَّيل (4)، وكان قد ابتدأها لنفسِه؟ قيل: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيرِه، هو إمامٌ كيف تصرَّفَتْ أحوالُه، إلا أن ينقلَ نفسَه فيصيرَ مأمومًا. قال إسحاق الكوسج (5): قلت: يكرَه لهؤلاء الخيَّاطين الذين في المساجد؟ قال: لَعَمري شديدًا. دليلُه عمر رأى رجلينِ يَتبَايَعَانِ في المسجد، فقال: هذا سوقُ الآخِرَةِ فاخْرجا إلى سُوقِ الدنيا (6). قضاءُ الركعتينِ بعدَ العصرِ خُصوصًا له - صلى الله عليه وسلم -، بدليلِ حديثِ أم سَلَمَةَ: __________ (1) "مسائل الكوسج" (1/ ق 82). (2) كذا، وفي المطبوعة: "يصل". (3) "مسائل الكوسج": (1/ ق 82). (4) تقدم (3/ 964). (5) "المسائل" (1/ ق 90). (6) أخرج مالك في "الموطأ" رقم (483)، ومن طريقه ابن أبى عاصم في "الزهد": (ص/317) عن عطاء بن يسار نحوه، ولم أجده عن عمر.

(4/1465)


يا رسولَ الله أنقضيها إذا فاتَتْنَا؟ قال: "لا" (1) الفرقُ بين الإسلام يَصِحُّ في الأرض المغصوبة دون الصلاة، أنَّ الإسلام لا يفتقرُ إلى مكان بخلاف الصلاةِ. المسلمُ إذا أعتق عبدَهُ النَّصْرَاني فهل عليه جِزيَة؟ على روايتينِ (2)، وجه سقوطِها أن ذمَّتَهُ ذِمَّة سيدِهِ. كراهتهُ للمعتكفِ أن يعتكفَ في خيمةٍ، إلا أن يكونَ بَرْد (3)؛ لأنَّ الخيمةَ تُضَيِّق المسجد، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اعتكفَ في زمان باردٍ في قُبّةٍ وخيمة، يدلُّ عليه قوله: "إنى رَأيتُنِي أسْجدُ فْي صَبيْحَتِها في ماءٍ وطينٍ" (4) " فعُلِم أن الزمان بارد لوجود المطَرِ. في إتيان المستحاضة، قال: لا يأتيها إلاّ أن يطولَ ذلك بها (5). وليس أنه أباح ذلك إذا طال ومنع ذلك إذا قَصُر، ولكنه أراد: أنه إذا طال عَلِمَتْ أيام حَيْضِها من أيام استحاضَتِها يقينًا، وهذا لا تعلمُهُ إذا قَصُر ذلك. قوله في المرأة تشربُ دواءً يقطعُ الدَّمَ عنها، قال: إذاِ كان دواءً يُعْرَفُ فلا بأسَ (6). __________ (1) أخرجه أحمد: (6/ 315)، وابن حبان "الإحسان": (6/ 378) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -. (2) (ق): "على وجهين روايتين". (3) "مسائل الكوسج": (1/ ق 133). (4) أخرجه البخاري رقم (669)، ومسلم رقم (1167) من حديث أبي سعيد الخدري - رصى الله عنه-. (5) "مسائل الكوسج": (1/ ق 139). (6) المصدر نفسه: (1/ ق 139).

(4/1466)


قال أبو حفص: معناه عندي: إذا ابْتُلِيَتْ بالاستحاضَةِ الشديدةِ فهو مَرَضٌ، لا بأسَ بشرب الدَّواء، أما الحيض فلا، لأن الحَيض كتبهُ الله على بناتِ آدَمَ، وإنما تَلِدُ إذا (ق/347 ب)، كان حَيْضُها موجودًا، ولا جائز أن يتعرَّض (ظ/242 ب) لما يقطع الوَلَدَ. في إتيان الحائض، قال أحمد: لو صحَّ الحديثُ كنا نرى عليه الكفَّارَةَ (1). قال أبو حفص: إن لم يَصِحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّ عن ابن عباس (2)، ومذهب أحمد الحكمُ بقولِ الصَّحَابِيِّ إذا لم يُخالفْ، قال: واختياري ما قال الكوسجُ: إنه مُخيَّرٌ في الدينار أو النصف دينار. قوله في أكثر الحيض: أكثرُ ما سمعنا سبعة عشر يومًا. يحتملُ أن يكونَ ذكره لأنه قوله، ويمكن أن يكون على طريق الحكاية، والأشبَهُ عندي أن يكونَ قولُه لا يختلِفُ أنه خمسة عشر يومًا، وإنما أخبرَ عن السبعَ عَشْرَةَ أنه سمعه لا أنه يُقَلِّدُهُ (3). قوله في الطهر إنه على قدر ما يكون. فليس عندَه أنَّ لأقَله حَدًّا، كما ليس لأكثرهِ حَدٌ، وكل شيء ليس لأكثره حَد ليس لأقلِّهِ حَدٌّ. __________ (1) المصدر نفسه. (2) أخرجه أحمد: (4/ 269 رقم 2458)، وأبو داود رقم (266)، والترمذي رقم (136)، وغيرهم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا في رفعه ووقفه، وفي ألفاظه، وصححه جماعة، وضعفه آخرون، انظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على الترمذي: (1/ 246 - 254). (3) وهذا الموافق لما نص عليه الإمام في جميع الروايات، انظر "مسائل عبد الله" رقم (210)، وأبي داود رقم (152، 153)، وابن هانئ: (1/ 30)، وصالح رقم (382).

(4/1467)


فإن قيل: ينبغي أن كان ليس لأقلِّهِ حَدّ (1)، لو ادَّعَتِ انقضاء: عِدَّتِها في أربعةِ أيام تباحُ للأزواج؟ قيل: العدةُ ليس من هذا؛ لأن قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يزيدُ الأقْرَاءَ الكاملةَ، وأقل الكاملة أن تكون في شهر لحديث علي مع شُرَيح (2). وقوله في الصبيِّ: لا يُزَوِّجُ لا يكون وَلِيًّا حتى يحتلِمَ (3)، وعنه: ابنْ عشر يُزوِّجُ ويَتزوَّج. آخر المنتقى من خط القاضي ما انتقاه من "شرح مسائل الكوسج" لأبي حفص قال: ومبلغهُ ستةُ أجزاء. * * * __________ (1) من قوله: "وكل شيءِ .... " إلى هنا سقط من (ق). (2) لم أعرفه. (3) "مسائل الكوسج": (1/ ق 146).

(4/1468)


فصل قال أحمد في رواية الحسن بن ثَواب (1): إذا كان الرهن غلامًا فاستعملَه المرتَهن، أو ثوبًا فَلَبسَا، وُضِع عنه (2) قَدْر ذلك. قال أصحابُنا يعني: أَنه يضعُ من دينِ الرّهن بقدْرِ ما انتفعَ بالرَّهْن. ونقل عنه أيضا: إذا كان الرهن دارًا فقال المرتَهِن: أنا أسكنُها بكرائِها، وهي وثيقة بحقِّي: تنتقل فتصيرُ دينا، وتتحوَّلُ عن الرهن، وهذا نصٌ منه على أن الراهن إذا أجَّر العَيْنَ المرهونةَ للمرتَهِن خرجتْ عن الرَّهنِ، وبقي دينهُ بلا رَهْن، هذا معنى قوله: "تنتقِلُ فتصير دَيْنًا"، أن يبقى حقه في (ق/355 أ) الذِّمَّة فقط، لا يتعلَّقُ برقبة الدّار، وتخرج الدَّار عن كونها رهنًا. ونقل عنه بكر بن محمد (3): إذا رَهَنَ جارية فسقتْ ولَدَ المُرْتَهِنِ: وضِعَ عنه بقَدْر ذلك، يعني: وُضِع عن الراهن من الدَّيْنِ بقدر أجرة مثلِها لرضاعِ ولدِ المرتهنِ. فصل إذا قال الراهن للمرتهِنِ: إن جئتُك بحقِّك إلى كذا، وإلَّا فالرَّهنُ لَكَ بالدَّيْنِ الذي أخذتهُ منكَ، فقد فعله الإمام أحمد في حَجَّتِه (4)، __________ (1) وقع في (ظ): "ثوبان"! وقد تقدمت ترجمته وبعض مسائله (4/ 1437). (2) ق): "وضع عنده". (3) تقدمت ترجمته (3/ 994). (4) (ق): "نقله الإمام أحمد في جهته"! وقد ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين": (3/ 388) و (4/ 28) أن الإمام أحمد رهنَ نعلَه وقال للمرتهن: إن جئتك =

(4/1469)


ومنع منه أصحابُهُ، وقالوا: نصَّ في روايةِ حرب على خلافِهِ، فقال: باب الرهنِ يُكتب شراء. قيل لأحمد: المتبايعان بينهما رَهْنٌ فَيَكْتبان شراء؟ فكرهَهُ كراهة شدِيدة، وقال: أوَّلُ شيء أنه يكذب، هو رهن ويُكتَبُ شراء، وكرهَهُ جدًّا. قال ابن عَقِيل: ومعنى هذا: أن المرتهن يكتب شراءً لموافقة بينَه وبينَ الراهنِ، إن لم يأتهِ بالحق إلى وقتِ كذا يكون الرَّهْنُ مَبيعًا، فهو باطلٌ من حيث تعليق البيع على الشرط، وحرامٌ من حيثَ إنه كَذبٌ وأكل مال بالباطلِ. قلت: وهذا لا يناقض فعلَه، وهذا شيءٌ وما فعله شيء، فإن الراهن والمرتهن قد اتَّفقا على أنه رهن، ثم كتبا أنه عَقد تبايع في الحال، وتواطَئا على أنه رهْن، فهو شراء في الكتاب رهْنٌ في الباطن، فأين هذا من قولهما ظاهرًا وباطنًا: "إن جئتك بحقِّكَ في محلِّه، وإلا فهو لك بحقِّك"، ألا ترى أن أحمد قال: هذا كذب، ومعلوم أن العقدَ إذا وقع على جهة الشرط فليس بكَذِب، وليس في الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ ولا القواعدِ الفقهيَّة ما يمنع تعليقَ البيع بالشَّرطِ، والحقّ جوارهُ، فإنَّ المسلمينَ على شروطِهم، إلا شرطًا أحل حَرامًا أو حَرَّم حلالًا، وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين، فالصَّواب جواز هذا العقد، وهو اختيارُ شيخِنا (1) وفعل إمامنا (2). قال أحمد في رواية أبي (ظ/243)، طالب: "إذا ضاع الرهنُ عندَ __________ = بالحق إلى كذا وإلا فهو لك. قال: وهذا بيع بشرط، فقد فعلَه وأَفتَى به، وكذلك ذكره الذهبي في "السير": (11/ 206) عن ابن أبي حاتم. (1) في (ق) زيادة: "على عادته حمل ذلك"! وهي مقحمة هنا، ولعله انتقال نظر من الجملة بعد سطرين. (2) انظر: "إعلام الموقعين": (3/ 363، 387 - 389) و (4/ 28).

(4/1470)


المرتهن لَزِمَهُ". قال ابنُ عقيل: وهذه الرواية بظاهرها تُعطي أن الرهنَ مضمونٌ، إلاَّ أن شيخنا (1) -على عادتِهِ- حَمَل ذلك على التِّعدَّي؛ لأجل نصُوص أحمد على أن الرَّهْنَ أمانة، وعادتُهُ تأويلُ الرِّواية الشَّاذَةِ لأجل الرِّوايات الظَّاهرةِ، وهذا عندي لا يجوز إلا بدلالة، فأما صَرْفُ الكلامِ عن ظاهرِهِ بغير دلالةِ تدل فلا يجور، كما، يجور في كلام صاحبِ الشَرْعِ. انتهى كلامُهُ. فصل إذا قدر الرجل على التّزَوُّجِ أو التَّسَرِّي حَرُمَ عليه الاستمناءُ بيده، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وأصحابُنا وشيخُنا لم يذكروا سوى الكراهة، لم يطلقوا التحريم. قال: وإن لم يقدر على زوجة ولا سرية ولا شهوةَ له تحملُه على الزِّنا، حَرُمَ عليه الاستمناءُ لأنه استمتاعٌ بنفسِهِ، والآيةُ تمنعُ منه. وإن كان متردِّدَ الحال بين الفتورِ والشهوة ولا زوجةَ له ولا أَمَةً، ولا ما يتزوَّجُ به، كُره ولم يَحْرمْ. وإن كان مغلوبًا على شهوتهِ يخافُ العَنَت كالأسيرِ والمسافرِ والفقيرِ جازِ له ذلك، نصَّ عَليه أحمدُ، وروى أن الصَّحَابَةَ كانوا يفعلونه في غزَواتِهم وأسفارِهم (2). وإن كانت امرأةٌ لا زوجَ لها واشتدَّت غُلْمتُها، فقال بعض أصحابنا: __________ (1) يعني: القاضي أبا يعلى ابن الفرَّاء. (2) انظر: "مجموع الفتاوى": (34/ 229 - 231)، و"الإنصاف": (10/ 252 - 253).

(4/1471)


يجور لها اتخاذ الاكرنبج (1)، وهو شيءٌ يُعْملُ من جلود على صُورة الذّكَرِ، فتستدخِلُهُ المرأةُ أو ما أشبهَ ذلك من قِثّاءٍ وقَرع صغار، والصحيح عندي: أنه لا يُبَاحُ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد صاحبَ الشَّهْوَةِ إذا عَجَزَ عن الزواجِ (2) إلى الصَّوم (3)، ولو كان هناك معنى غيرُه لذكَرَه. وإذا اشتهى وصَوَّر في نفسه شخصًا أو دعى باسمه؛ فإن كان زوجة أو أَمَةً له فلا بأسَ إذا كان غائبًا عنها، لأن الفعلَ جائزٌ، ولا يصنعُ من تَوَهُّمهِ وتخيُّلِهِ، وإن كان غلامًا أو أجنبيةً كُرِهَ له ذلك؛ لأنه إغراءٌ لنفسِهِ بالحرامِ وحثٌّ لها عليه. وإن قوَّر بطِّيخَة أو عجينًا أو أَدِيمًا أو نخشًا في صَنَم (4) فأولج فيه؛ فعلى ما قَدَّمنا في التَّفصيل. قلتُ: وهو أسهل من استمنائِهِ بيده، وقد قال أحمدُ فيمن به شهوةُ الجماع -غالبًا لا يملكُ نفسَهُ ويخاف أن تنشَقَّ أُنثياه: أَطْعم، هذا لفظَ ما حكاه عنه في "المغني" (5) ثم قال: "أباح له الفطرَ؛ لأنه يَخَافُ على نفسِهِ، فهو كالمريض ومَن يخافُ على نفسِه الهلاكَ لعطش ونحوه، وأوجب الإطعامَ بدلًا من الصيام، وهذا محمولٌ على __________ (1) كذا، وصوابه: (الكيرنج) كلمة فارسية مركبة من (كير) بمعنى: القضيب، و (رنك) بمعنى: شكل. انظر رسالة "مفاخرة الجواري والغلمان": (2/ 135 - ضمن رسائل الجاحظ) الحاشية، و"تكملة تاج العروس: (ص / 17). (2) (ق وظ): "التزوُّج". (3) في حديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ... " الحديث، أخرجه البخاري رقم (19605)، ومسلم رقم (1400) من حديث أبى مسعود -رضي الله عنه-. (4) في (ظ) زيادة: "أو إليه". (5) (4/ 396 - 397).

(4/1472)


من لا يرجو إمكان القضاءِ، فإن رجا ذلك فلا فديةَ عليه، والواجبُ انتظارُ القضاء وفعله إذا قَدَر عليه، لقول {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الآية، وإنما يُصار إلى الفدية عند اليأسِ من القضاءِ، فإن أطعمَ مع يأسِهِ، ثم قَدَر على الصِّيام، احْتَمَل أن لا يلزمَهُ؛ لأن ذمَّتَه قد برِئَتْ بأداءِ الفِدْية التي كانت هي الواجبَ، فلم تَعُدْ إلى الشغل بما برئَتْ منه، واحتمَل أن يلزمَهُ القضاء؛ لأنَّ الإطعامَ بدلُ إياس، وقد تبينَّا ذهابَهُ، فأشبَهَ المعتدَّةَ بالشهورِ لليأس إذا حاضتْ في أثنائها" (1). وفي "الفصول" (2): روي عن أحمد في رجل خاف أن تنشقَ مثانَتُه من الشَّبق، أو تنشقَّ أنثياه لحبس الماء في زمن رمضان: يَسْتَخرج الماء. ولم يَذْكر بأي شيء يستخرجُه، قال: وعندي أنه يستخرجُه بما لا يفسد صومَ غيره؛ كاستمنائه بيده أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة، فإن كان له أمَةٌ (3) طفلة أو صغيرة استمنى بيدها، وكذلك الكافرة، ويجوز وطْئُها فيما دون الفَرج، فإن أراد الوطء في الفرج مع إمكان إخراج الماء بغيره، فعندي أنه لا يجوزُ؛ لأن الضرورة إذا رُفِعت حَرُم ما وراءها، كالشبع من الميتة (4)، بل هاهنا آكد، لأن بابَ الفروج آكدُ في الحَظْر من الأكل (5). قلت: وظاهر كلام أحمد جواز الوطء (6)؛ لأنه أباح له الفطر __________ (1) هذا آخر كلام صاحب "المغني". (2) لأبى الوفاء بن عقيل الحنبلي (513) في الفقه، عشرة أجزاء، ويسمى أيضًا "كفاية المفتي"، منه نسخ خطية، انظر "المدخل المفصَّل": (2/ 811). (3) (ع): "فإن كانت الأمة". (4) من قوله "في الفرج ... " إلى هنا ساقط من (ق). (5) انظر: "المغني": (4/ 405). (6) انظر: "طبقات الحنابلة": (1/ 274).

(4/1473)


والإطعام، فلو اتفق مثل هذا في حال الحيض لم يجز له الوطء قولًا واحدًا، فلو اتفق ذلك: لمحْرِم أخرجَ ماءَهُ ولم يجز له الوطء. (ظ/243 ب) فصل فإن كان شبَق الصائم مستدامًا جميعَ الزمان سقطَ القضاءُ وعَدَلَ إلى الفدية كالشيخ والشيخة، وإن كان يعتريه في زمن الصيف أو الشتاء قَضى في الزمن الآخر ولا فديةَ هنا؛ لأنه عذرٌ غير مستدام فهو كالمريض، ذكر ذلك في "الفصول". فائدة قوله في "المقنع" (1): "وإن جاءت وهو جالس، لم يقم لها -يعني الجنازة-". لم أرَ هذا في كلام أحمد، وقد قال "إن قام لم أعِبْه، وإن قعدَ فلا بأس (2). وقال الميموني في "مسائله": سمعته يقول. إذا تَبعَ الجنازةَ فلا يجلس حتى توضعَ، كذا قال أبو هريرة وأبو سعيد، وإذا رآها قام، قال: كأن هذا أكثر في الخبر (3)، عَشرةٌ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يروونه. ثم قال الميموني: تسميةُ من يَرْوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا رأى جنازة قام لها: عثمان بن عفانَ. سعيدُ بن زيد. عامر بن ربيعةَ. قيسُ ابن سعد. سهلُ بن حنيْف. يزيد بن ثابتٍ أحْو زيد بن ثابت .. أبو سعيد __________ (1) (ص/10). (2) انظر روايات الإمام فيما سيأتي. (3) "في الخبر" ليست في (ق).

(4/1474)


الخدْري. أبو هريرة. أبو موسى الأشعريُّ. ابنُ عباس. حسن وحسين، فهؤلاء اثنا عشر من الصحابة، ثم ساق الميمونيُّ أحاديثَهم كلَّها بإسناده. وقال حربٌ في "مسائله": قلت لأحمد: الرجلُ يرىَ الجنازةَ أيقوم لها؟ فقال: قد رُويَ عن علي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قام ثم قعد (1)، وكان ابنُ عُمر يقوم، وسَهَّلَ أبو عبد الله فيه. وقال أبو داود في "مسائله" (2): سمعت أحمد بن حنبل سُئلَ عن القيام إذا رأى الجنازةَ، قال: إن لم يقمْ أرجو، وإن قامَ أرجو. قيلَ: القيامُ أفضلُ عندَكَ؟ قال: لا. وقال في رواية ابن هانئ (3): إذا رأى الجنازةَ فقام فلا بأس، وإن لم يقمْ فلا بأس. قال ابن هانئ (4): وسُئِلَ -يعني: أحمد- عن الرجل يموتُ فيُوصي أن يدفنَ في داره؟ قال: يُدْفَن في مقابر المسلمينَ، وإِنْ دُفِنَ في داره أضَرَّ بالوَرثةِ، والمقابرُ مع المسلمينَ أعجب إليَّ. وقال في روايتِهِ (5): أكرهُ أن يجعلَ على القبرِ ترابًا من غيرِهِ. قال (6): وسئل عن الحائض تغسِلُ المرأة المَيتةَ؟ قال: لا يعجبُني أن __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2982). (2) رقم (1015)، وفي (ق): "وقال أبو عبد الله ... " وهو خطأ. (3) (1/ 189). (4) (1/ 190). (5) (1/ 190). (6) أي ابن هانئ: (1/ 184).

(4/1475)


تغسلَ الحائض شيئًا من المَيِّتِ، والجنابَةُ أيسرُ من الحَيْض. قال (1): وسئل عمَّن غسَّلَ المَيِّتَ، أعليه غسلٌ أم وضوءٌ؟ قال: يتوضَأُ، وقد أجزأَهُ. قال (2): وسألته: هل على من غسل الميت غُسْلٌ، قال. عليه الوضوءُ فقط. واتَّبَع أحمد في ذلك آثارَ الصحابةِ، فإنه صحَّ عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة الأمرُ بالوضوء منه، ولا يُحفظُ عن صحَابِى خلافهم، وهو قولُ حذيفةَ وعليٍّ أيضًا. وقال الجُوزْجَانِىُّ: حدثنا يزيدُ بن هارونَ، أنبأنا مباركُ بن فَضَالَة، عن بكر بن عبد الله المزَنِيِّ، عن علقمة بن عبد الله المُزنيِّ، قال: غسَّل أباك -يعني: أبا بكر: بن عبد الله- أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن بايع نبيَّ الله تحت الشجرة، فما زادوا على أن شمَّروا أكِمَّتهم، وجعلوا قُمُصَهم تحت حُجُزهم، وتوضَّأوا ولم يغتسِلوا (3). وفي "الموطأ" (4): مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، أن أسماءَ بنتَ عميْس امرأة أبي بكر غَسَلَتْ أبا بكر الصِّدِّيقَ حين تُوُفِّيَ، ثم خرجتْ، فسألت من حضرها من المهاجرينَ والأنصار، فقالت: إني صائمة، وإن هذا اليوم شديدُ البرد فهل عليَّ مِنْ غسْل؟ قالوا: لا. __________ (1) المصدر نفسه. (2) المصدر نفسه. (3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 405)، وابن أبي شيبة: (2/ 469) من طريق بكر بن عبد الله به، وسنده صحيح. (4) رقم (593).

(4/1476)


قال إسماعيلُ بن سعيد: قلت لأحمد بن حنبل: أرأيتَ إن كان الميت كافرًا، قال: عليه الغسلُ لحديث عليٍّ (1) -يعني: على غاسِلِهِ الغُسْلُ- وهو قول أبى أيوب، قال الجوزجانيّ: وأقول: إن هذا وهم منهما، وذلك أنه ليس في حديث عَليٍّ أنه غسل أبا طالب (2). فصل قال أحمدُ في الرجل يعملُ الخيرَ، ويجعل النِّصْف لأبيه أو لأمِّه (3): أرجو. وقال: الميِّتُ يصِلُ إليه كل شيء من الخير، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ مِنَ البِرّ بَعْدَ البِرِّ أن تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلاتِكَ، وأنْ تَصُومَ (ظ/244 أ) لهما مَعَ صَومكَ، وأنْ تَتَصَدّقَ لَهُما مَعَ (ق/355 ب) صَدَقَتِك" (4). انتهى. ولا يشترطُ تسمية المهْدَى إليه باسمه، بل يكفي النِّيَّةُ، نصَّ عليه في رواية أبيه عبد الله (5): لا بأسَ أن يَحجَّ عن الرجل ولا يُسَميِه (6). __________ (1) أخرجه أحمد: (2/ 153 رقم 759)، وابن أبي شيبة: (3/ 32)، والنسائي: (1/ 110)، البيهقي: (1/ 304) وغيرهم. والحديث ضعَّفه البيهقي والنووي وغيرهم. (2) وانظر: "المغني": (1/ 279). (3) (ق وظ): "نصفه لأبيه أو أمه". (4) أخرجه ابن أبي شيبة: (3/ 59)، والخطيب في "تاريخه": (1/ 363)، وبحشل في "تاريخ واسط": (ص/ 188)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (274/ 1). عن الحجاج بن دينار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين الحجاج والنبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-. (5) رقم (928). (6) (ق): "ولم يُسمه".

(4/1477)


فصل قال إسحاقُ الكوسج: قلت لأحمد: قال الحسنُ في الرجل يقول لامرأته: "أنت طالقٌ إن شاء الله" كان يلزمُه؟ فقال أحمد: أما أنا فلا أقول فيه شيئًا. قلت: لم؟ قال الطلاق ليس هو يمين. قلت: وكذلك العِتقُ؟ قال: نعم. * * *

(4/1478)


فصول في أحكام الوطء في الدُّبُر فمنها: أنه من الكبائر. ومنها: أنه يُوجبُ القتلَ إذا كان من كلامٍ، نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين. والثانية: حدُّه حدُّ الزاني؛ كقول مالك والشافعي، فإن كان من زوجة أو أَمَةٍ أوجبَ التعزيرَ، وفي الكفّارة وجهان؛ أحدُهما: عليه كفَّارة من وَطِئَ حائضًا، اختارَه ابن عقيل. والثاني: لا كفَّارة فيه، وهو قولُ أكثر الأصحاب. ومنها: أن للزوجةِ أن تفسخَ النكاحَ به، ذكره غير واحد من أصحابنا. وإن كان من امرأة أجنبيةِ فاختلف أصحابُنا في حدِّه، فالذي قاله أبو البركات وأبو محمدَ (1) وغيرهما: إن حدِّه حدُّ الزَّاني. وقال ابن عَقِيل في "فصوله": فإنْ كان الوطءُ في الدُّبُرِ في حقِّ أجنبيَّةٍ وجَبَ الحدُّ الذي أوجبناه في اللِّوَاطِ، وعلى هذا فحدُّه القتل بكلِّ حال، وإن كان في مملوكِهِ: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه يُعتقُ عليه، وأجراه مجرى المثلَةِ الظاهرة، وهو قولُ بعض السلف. قال النسائي في "سننه الكبير" (2): "الإباحةُ للحاكم أن يقول للمدَّعَى عليه: "احلف" قبل أن يسأله المدَّعِي. أبنا هَنَّاد بن السَّرِيِّ، عن أبي معاويةَ، عن الأعمش، على شَقيق (3)، __________ (1) أي: ابن قدامة، انظر: "المغني": (12/ 340)، وأبو البركات هو عبد السلام مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام، انظر "المحرَّر": (2/ 135). (2) (3/ 484). (3) تحرفت في (ق) إلى: "سفيان"!.

(4/1479)


عن عبد الله، قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيقتَطعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبان" (1) فقال الأشعث: فيَّ واللهِ كان ذلك، كان بينى وبينَ رجل من اليهود دارٌ فجَحَدني فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألك بينة؟ فقلت: لا، فقال لليهوديِّ: "احْلِفْ" فقلت: واللهِ إذا يحلفَ فيذهبَ حقِّي، فأنزل: الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] " الآية. قال النَّسائِيُّ: لا نعلم أحدًا تابَعَ أبا معاويةَ على قوله: فقال لليهودي: "أحلف"". انتهى. ويسوغُ للحاكم أن يقولَ له: "احلفْ" إذا قصد به الزَّجرَ والتَّخويف، أو كان يعلم أن المُدَّعِي قاصد لتحليفِه، أو كان يعلمُ أن المُدَّعَى عليه (2) بريءٌ من الدَّعوى، فإنه في قصده (3) الصّورَ الثلاثَ قد أعان على البِرِّ والتقْوى، وظهورِ الحقِّ، وأكثرُ أوضاعِ الحكامِ. ورسومِهم لا أصلَ لها في الشريعة، والله المستعانُ. (ق/356 أ) فصل إذا كانت دَايَةٌ ترضعُ ولدَ غيرها، هل يجوز لها الإفطارُ كما لو كان ولدَها؟. قال أبو عَقِيل في "فصوله": جاريةٌ جاءت إلى الشيخ أبي نصر __________ (1) الحديث أخرجه البخاري رقم (2356)، ومسلم رقم (138). (2) من قوله: "احلف، إذا .. " إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ق وظ): "فإنه من هذه"، و (ظ): "في" بدلًا من "من".

(4/1480)


ابن الصباغ (1) وأنا حاضرٌ، فتحَصّل من الجواب أنها تستبيحُ الإفطار؛ لأن أكثرَ ما فيه أنه نوعُ ضَرَرٍ لأجل المشاقُ، فهو كإفطار المسافر في المُضَارَبَةِ، فيستبيح كالمسافر بمال نفسِه، وفارق العمل في الصَّنائع الشَّاقَّةِ؛ لأنها إذا بلغ منها الجَهْدُ إلى حَدَّ يبيحُ في حقِّ نفسِه أباحَتْ في عملِ غيرِه، وإن لم تبلغِ المشقَّةُ إلى حدّ إباحةِ الإفطارِ، لم يبَحْ في حَقِّه، ولا حق غيره. قال أحمد في رواية ابن ماهان (2): لا بأس للعبد أن يَتسَرَّى، إذا أذِنَ له سيِّده، فإن رجَعَ السَّيَدُ، فليس له أن يرجعَ إذا أذِن له مَرَّة وتَسَرَّى، فتأوَّله القاضي، وقال: يحتمل أنه أراد بالتَّسَوِّي هاهنا التزويجَ، وسماه تَسَرِّيًا مجازًا، ويكون للسيِّدِ الرجوعُ فيما مَلَّكه" عبدَهُ (3). وهذا نظيرُ تأويل الشيخ أبي محمد (4) النِّكاحَ بالتَّسَرِّي في مسألة تزويج عبده بأمَتِهِ، وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد وحرب (5): ليس للسَّيِّد أن يأخذَ سريةَ العبد إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإنْ تَسَرَّى (ظ/ 244 ب) بغير إذنِهِ أخذها منه، وإذا باع العبد وله سُرِّيَّة فهي لسَيِّدِه، ولا يُفَرَّق بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأةِ، انتهى كلامه. وهذا يردُّ قولَ الأصحاب: إن التَّسَرِّيَ مبنىٌّ على الملك، وأنه إذا لم يملك لم يَتَسَرَّ، ويرد قولَهم: إن للسيد انتزاعَ سُرِّيتهِ منه، ويردُّ __________ (1) تقدمت ترجمته. (2) هو: محمد بن ماهان النيسابوري، له مسائل حسان عن الإمام أحمد ت (284). "طبقات الحنابلة": (2/ 361 - 364). (3) انظر رواية ابن ماهان، وكلام القاضي في "المغني": (9/ 477). (4) يعني ابن قدامة، انظر: "المغني": (9/ 475 - 476). (5) انظر نحوها في "مسائل ابن هانئ": (1/ 219).

(4/1481)


قولهم: إنه إذا باعه رجعت السُّرِّيَّةُ إلى سيدِه، ولا يطؤها العبدُ. [قال أحمد في رواية ابن هانئ (1) وحرب ويعقوب بن بختان: "إذا زوَّج عبدَهُ من أَمَتِهِ، ثم أعتقهما (2) لا يجوزُ أن يجتمِعا حتى يجدِّدَ النِّكاحَ"، فاستشكَلَ في "المغني" (3) هذه الرواية؛ فقال: وعن أحمد: إن عَتقا معًا انفسخ النكاحُ. ومعناه -والله أعلم-: أنه إذا وهب لعبده: سُرِّيَّةً أو اشترى له سُرِّيَّةً، وأذن له في التَّسَرِّي بها، ثم اعتقهما جميعًا صارا (ظ/245 أ)، حُرَّيْن، وخرجت من ملك العبدِ، فلم يكنْ له إصابَتُها إلَّا بنكاحٍ جديد، هكذا روى جماعةٌ من أصحابه، فيمن وهب لعبدِهِ سُرِّيَّةً، أو اشترى له سريةً، ثم أعتقهما، لا يقربُها إلا بنكاحٍ جديد، واحتجَّ على ذلك بما روى نافع عن ابن عمر: أن عبدًا له كان له سُرِّيَّتان فأعتقهما وأعتقه، فنهاه أن يقربَهما إلّا بنكاحٍ جديدٍ (4). قلت: وهذا التأويل بعيدٌ جدًّا من لفظ أحمد، فإن هؤلاء الثلاثة إنما رَوَوا المسألةَ عنه بلفظ واحد، وهو أنه زوَّجَ عبدَه أمَتَهُ، ثم قوله: "حتى يجدِّدَ النِّكاحَ" مع قوله "روَّجَ"، صريحٌ في أنه نكاحٌ لا تَسَرٍّ، وعنه في هذه المسألة ثلاثُ رواياتٍ؛ هذه إحداهنَّ، والثانية: لهما الخيارُ، نصَّ عليه في رواية الأثرم، والثالثة: أنهما على نكاحِهما، نصَّ عليه في رواية مجمد بن حبيب، وحكاها أبو بكر في "زاد المسافر" (5) ثلاث __________ (1) لم أره في المطبوعة. (2) (ق وظ): "أعتقها". (3) (10/ 73). (4) أخرجه عبد الرزاق: (7/ 215). (5) لأبي بكر غلام الخلال ت (363)، في المذهب، وذكر ابن رجب في "القواعد": (ص/169) أنه قد يقع له الغلط في حكاية كلام الإمام لتصرفه فيه.

(4/1482)


روايات منصوصاتٍ في مسألة التزويج، وللبطلان وجهٌ دقيقٌ، وهو أنه إنما زوَّجها بحكم مُلْكِهِ لهما وقد زال ملْكُه (1) عنهما بخلاف تزويجِها بعبدِ غيره، وبين المسألتينِ فَرْقٌ، ولهذا في وجوب المَهْرِ في هذه المسألةِ نِزَاعٌ، فقيل: لا يجبُ بحال، وقيل: يجبُ ويسَقطُ، والمنصوصُ أنه يجِبُ ويتّبَعُ به بعد العِتْقِ بخلاف تزويجِها بعبَدِ الغير، والله أعلم] (2). قوله في "المقنع" (3): "وإن باعه السلعةَ برقمها أو بألفِ دينار ذهبًا وفضة، أو بما ينقطعُ به السعر، أو بما باع به فلانٌ، أو بدينار مطلقٍ، وفي البلد نقودٌ لم يَصِحَّ". أما الرقمُ؛ فقد نصَّ على صحَّة البيع به، فقال حرب: سألت أحمد عن بيع الرَّقم؟ فلم يَرَ به بأسًا. وأما البيعُ بالسعر؛ فقد اختلفت الروايةُ عنه فيه، فقال في رواية ابن منصور (4) في الرجلِ يأخذُ من الرجل السِّلْعَةَ يقول: أخذتُها منك على سعر ما تبيع: لم يجزْ ذلك، (ق/ 357 أ) وحكى شيخُنا عنه الجواز نصًا (5). وأما البيع بدينار مطلق وفي البلدِ نقودٌ؛ فقال في رواية الأثرم: في رجل باع ثوبًا بكذا وكذا درهمًا، أو اكترى دابَّة بكذا وكذا، واختلفا __________ (1) "لهما وقد زال ملكه" سقطت من (ع). (2) من قوله: "قال أحمد ... " إلى هنا في (ق وظ) مكانها فى آخر الفصل قبل قوله "فائدة: الذي. وقع ... ". وأشرنا إلى ذلك هنا، لأنا التزمنا ترتيب (ظ)، إلا لمناسبة، وهذا منه، لتناسب الكلام. وانظر ما سيأتي (4/ 1520). (3) (ص/99 - 100). (4) رقم (25) مع اختلاف في اللفظ. (5) في "مجموع الفتاوى": (29/ 510).

(4/1483)


في النقد؟ فقال: له نقْدُ الناسِ بينهم، قيل له: نقدُ الناس بينهم مختلفٌ؟ قال: له البيع (1) بثمن مطلق، مع كونِ النقودِ مختلفةً، وإنما يكونُ له أدناها. وقال الأثرمُ: بابٌ الرجلُ يأخذ من الرجل المتاعَ، ولا يقاطِعُه على سعره، سئل أبو عبد الله عن الرجل يأخذُ من البقال الأُوْقِيَّةَ من كدا، والرطلَ من كذا، ثم يحاسبُهُ، أيجوزُ له أن يقولَ: اكتبْ ثَمَنَهُ عليَّ ولا يعطِيه على (2) المكان؟ قال: أرجو أن يجوزَ؛ لأنه ساعةَ أخذه إنما أخذه على معنى الشراء، ليس على معنى السَّلَفِ، إنما يُكْرَهُ إذا كان على معنى السَّلَفِ، فإذا قاطعه بقيمتِه يومَ أخذه (3). قيل له: فإن لم يدْرِ كم (4): قيمته يومَ أخذهُ؟ قال: يتحَرَّى ذلك. وسألته (5) مرة أخرى فقلت: رجل أخذ من رجلٍ رطلًا من كذا ومَنًا من كذا، ولم يقاطعْه على سعرِهِ، ولم يُعْطِهِ ثمنَهُ، أيجوزُ هذا؟ قال: ألَيس على معنى البيع أخَذَهُ؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس، ولكنه إذا حاسبه أعطاه على السِّعر يوم أَخَذَهُ لا يوم حَاسَبَهُ. قال إسحاق بن: هانئ (6): سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يفجُرُ بالمرأة ثم يَتزوَّجُها، قال، لا يَتَزَوَّجْها حتى يعلمَ أنها قد تابتْ؛ لأنه __________ (1) (ع وظ) العبارة: "قال له: قال ابن عقيل: فظاهر هذا جواز البيع .. "! فإما أنه مقحم، أو وقع سقطُ في النُّسَخ لم يتبين به وجه الكلام، فتصرّف ناسخ (ق) بحذف قول ابن عقيل. والله أعلم. (2) (ق): "غلت". (3) كذا في الأصول، وكأن في الكلام نقصًا. (4) (ق): "يدركه"!. (5) (ق): "قال: ثم سألته". (6) "المسائل": (1/ 203).

(4/1484)


لا يدري لعلها تعلقُ عليه ولدًا من غيره. قلت: وما علمُهُ أنها قد تابت؟ قال: يريدُها على ما كان أرادها عليه، فإن امتنعت فهي تائبةٌ. قلت: وهذا التفات من أحمد إلى القرائن ودلائلِ الحال، وجواز إيهام غير الحقِّ، قولًا وفعلًا، ليعلم به الحق، وهذه اقتداءٌ بنبي الله سليمان بن داود حيث قال في الحكومةِ بين المرأتين في الصبي: "ائتوني بالسِّكِّينِ أشُقَّهُ بينكما" (1). ومن تراجم النسائى (2) على حديثه هذا: "التَّوسِعةُ للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعلُه: "افعل" ليستبينَ به الحَقَّ". وهذا الذي قاله أحمدُ اتَّبَعَ فيه ابن عمر فإنه قال: يريدُها على نفسِها، فإن طاوعَتْهُ لم تَتُبْ، وإن أبَتْ فقد تابَتْ. وأنكر الشيخ في "المغني" (3) هذا جدًّا، وقال: "لا ينبغي لمسلم أن يدعوَ امرأة إلى الزنى، ويطلبَهُ منها، ولأنّ طلبه ذلك إنما يكونُ في خَلْوَةٍ، ولا تحلُّ الخَلْوَةُ بأجنبيَّةٍ، ولو كان في تعليمها القرآنَ، فكيف يحِلُّ في مراودِتها على الزِّنا! ثم لا يأمن إن أجابَتْه إلى ذلك أن يعودَ (4) إلى المعصية، فلا يحِلُّ التَّعَرُّضُ لمثل هذا، ولأنَّ التَّوْبَةَ من سائر الذُّنوبِ، بالنسبة إلى سائِر الأحكامِ، وفي حقِّ سائر الناس، على غيرِ هذا الوجهِ، فكذا هذا". __________ (1) تقدم تخريجه 1/ 12. (2) "السنن الكبرى": (3/ 472). (3) (9/ 564). (4) (ق): "يعود هو".

(4/1485)


وقولُ ابنِ عمر: وأحمدَ أفقهُ؛ فإنَّ التوبةَ لمَّا (ق/ 357 ب) كانت شرطًا في صحَّة النِّكاح، لم يكن بُدٌّ من تحقُّقِهَا، ولا سبيلَ له إلى العلم بها إلَّا بذلك، أو بأن يأمرَ غَيْرَهُ بمراودتِها، ولا رَيْبَ أن المفاسد. المذكورة أقربُ إلى الغير، إذ لا غرضَ له في نكاحِها، بخلافِ الخاطِب، فإن إرادتَهُ لنكاحِها، وعزمَهُ عليه، يمنعُهُ من معاوَدَة ما يعودُ عَلى مقصودِه بالإبطالِ. فائدة. الذي وقعَ في "صحيح البخاريِّ" (1) وأكثر كتبِ الحديثِ: "وابعَثْهُ مقامًا محمودًا الذي وعدْتَه" (2)، ووقع في "صحيح ابن خزيمة" والنَّسائيِّ بإسنادِ "الصحيحين": من رواية جابر: "وابعثه المقامَ المحمُوْدَ" (3)، رواه ابنُ خُزيمة عن موسى بن سهل الرَّمْليِّ، وصَدَّقه أبو حاتمٍ الرَّازيُّ (4)، وباقي الإسنادِ شرطهما، ورواه النسائي عن عَمْرو بن منصور، عن علي بن عيَّاش. والصَّحِيحُ ما في البخاري لوجوه: أحدها: اتِّفاق أكثرِ الرُّواة عليه (5). __________ (1) رقم (614 و 4719). (2) أخرجه أبو داود رقم (529)، والترمذي رقم (211)، وابن ماجه. رقم (722) وغيرهم بهذا اللفظ. (3) أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة رقم (420)، والنسائي: (2/ 26 - 27)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 586)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار": (1/ 146)، والطبراني في "الأوسط": (5/ 54)، والبيهقي: (1/ 410). (4) في "الجرح والتعديل": (8/ 146). (5) اختلف الرواة فى هذه اللفظة على أنحاء: 1 - من رواه -عن علي بن عياش- بالتنكير فقط، وهم سبعة؛: محمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن يعقوب، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومحمد =

(4/1486)


الثاني: موافقتُهُ للفظ القرآن. الثالث: أن لفظ التنكير فيه مقصودٌ به التعظيم كقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]، وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ} (ق/ 358 أ) {مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12]، ونظائره. الرابع: أن دخولَ اللام يُعَيِّنُهُ ويخصُّه بمقام معيَّن، وحذفُها يقتضي إطلاقًا وتعدُّدًا، كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] ومقاماتُهُ المحمودة في الموقِفِ متعدِّدَةٌ، كما دلَّتْ عليه الأحاديثُ، فكان في التنكيرِ من الإطلاقِ والإشاعَةِ ما ليسَ في التَّعريفِ. الخامس: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحافِظُ على ألفاظ القرآن تقديمًا وتأخيرًا، وتعريفًا وتنكيرًا، كما يحافظُ على معانِيه، ومنه: قولُه وقد بدأ بالصَّفا: "ابْدَأُوا بما بَدَأَ اللهُ به" (1)، ومنه: بداءته في الوضوء بالوجهِ ثم باليدينِ اتَباعًا للفظ القرآن، ومنه: قولُه في حديث البَرَاء ابن عازب: "آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، ونَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" (2) __________ = ابن مسلم بن وارة، والعباس بن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين. 2 - من رواه بالتعريف فقط، وهم اثنان؛ عبد الرحمن بن عَمرو أبو زرعة الدمشقي، وموسى بن سهل الرملي. 3 - من رواه على الوجهين: التعريف والتنكير، وهم ثلاثة؛ عَمرو بن منصور النسائي، ومحمد بن عوف، ومحمد بن يحيى. (1) أخرجه بلفظ الأمر النسائي في "المجتبى": (5/ 236)، والكبرى: (2/ 413)، وابن الجارود: (2/ 93)، والطبري في "التفسير": (2/ 54)، والدارقطني: (2/ 452). وبلفظ الخبر: "أبدأ" أخرجه مسلم رقم (1218) وغيره من حديث جابر -رضي الله عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (247)، ومسلم رقم (2710).

(4/1487)


موافقةً لقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] وعلى هذا فـ "الذي وعدته" إما بدَلٌ، وإما حْبرُ مبتدأ محذوف، وإما مفعولُ فعلٍ محذوف، وإما صفةٌ لكون "مقامًا محمودًا" قريبًا من المعرفة لفظًا ومعنى، فتأمله. * * * قال أحمدُ في رواية ابن هانئ (1): لا تجور شهادةُ من أيسر ولم يَحُجَّ، وليس به زَمَانَةٌ، ولا أمرٌ يحْبِسُهُ عنه. وقال (2): لا تجوزُ شهادةُ الوَلَد لوالدِه، ولا الوالدُ لوَلَدِه، إذا كانوا يَجُرُّون الشيءَ لأنفسِهم. وقال (3): تجوزُ شهادةُ الغلامِ إذا كان ابنَ اثنتي عشرة سنة أو عشرَ سنين، وأقامَ شهادَتَهُ، جازت شهادَتُهُ. وقال ابن هانئ: سمعتُ أبا عبد الله يقول: لا يُعْجِبُني أن يُعَدِّلَ القاضي؛ لأنَّ الناس يتغيَّرون، ولا يدري ما يحدُثُ. وسئل عن الرجل يُعَدِّلُ الرجلَ؟ فقال: ما يُعْجِبُني يعدله؛ لأنه لا يدري ما يحدثُ، والناسُ يتغيرون. وسُئِلَ: متى يُعَدَّلُ الرجلُ؟ فقال: قال إبراهيم: إذا لم تظهرْ منه ريبةٌ يعدَّلُ. ولأصحابه فيما إذا سُئِلَ عن مسألةٍ فأجاب فيها بحكايةِ قول من __________ (1) "المسائل": (2/ 37). (2) المصدر نفسه. (3) هذه المسألة وما بعدها في "المسائل": (2/ 36 - 37).

(4/1488)


بعد الصَّحابَةِ وجهانِ؛ (ظ/245 ب) أحدهما: أنه يكون مذهبًا له، والثاني: لا. فائدة الفرق بين الشك والريب من وجوه: أحدها: أنه يُقَالُ: شكٌّ مريبٌ، ولا يقال رَيْبٌ مُشَكِّكٌ. الثاني: أنه يقال: رَابني أمْرُ كذا، ولا يقال شكَّكَني. الثالث: أنه يقال: رَابَه يَرِيبهُ إذا أزعجَهُ وأقلقَهُ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد مَرَّ بظبي حاقِف في أصل شجرة": "لا يَرِيبُهُ أحدٌ" (1)، ولا يحسُنُ هنا: لا يُشَكِّكُه أحدٌ. الرابع: أنه لا يقالُ للشَّاكِّ في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهرِ أو وقت الصلاة: هو مرتابٌ في ذلك، وإن كان شاكًّا فيه. الخامس: إن الرَّيْبَ ضدُّ الطُّمَأْنِينَةِ واليقينِ، فهو قلقٌ واضطرابٌ وانزعاجٌ، كما أن اليقينَ والطُّمَأْنِيَنةَ ثباتٌ واستقرارٌ. السادس: أنه يُقالُ: رَابَني مجيئُهُ وذهابُهُ وفعلُهُ، ولا يقال: شكَّكَني، فالشَّكُّ سببُ الرَّيْبِ، فإنه يَشُكُّ أولًا (2)، فيوقعُهُ شَكُّهُ في الرَّيْبِ، (ق/358 ب) فالشَّكُّ مَبدأُ الرَّيْبِ، كما أن العِلْمَ مَبْدأُ اليقينِ __________ (1) أخرجه النسائي: (5/ 182)، وابن حبان "الإحسان": (11/ 512)، والبيهقي: (6/ 171) وغيرهم من حديث عُمير بن سلمة الضمري. وحاقف: أي رابض، وقيل: غير ذلك. (2) العبارة في (ق): "فالشك المريب كأنه شك أولًا .. ".

(4/1489)


ومما انتقاه القاضي من "شرح أبي حفصٍ لمبسوطِ أبى بكرٍ الخلال" (1) * أحمد في رواية أحمد بن الحسين: يغسلُ يَدَهُ ثلاثًا ثم يستنجِي ثم يغسلُ يَدَهُ ثم (2) يَتَوَضَّأُ. قال أبو حفص: قد بينَّا عن أبى عبد الله غسلَ اليدِ في الطَّهارة في ثلاثةِ مواضِعَ؛ أحدها: قبل الاستنجاء، والثاني: غسل اليد اليسري بعد الاستنجاء، والثالث: عند ابتداء الوضوء. وقال في الرجل يستجمرُ ويعرقُ في سراويله: "إذا استجمرَ ثلاثةً فلا بأسَ". يحتملُ أن يحملَ على ظاهرِها، فيَكونُ الموضِعُ قد طَهُرَ بالاستجمار فلا يَضُرُّ العَرَقُ، ويحتملُ أن يتأولَ (3) على أنه عَرَقُ غيرِ موضِع الحَدَث، أو عَرِقَ فلم يُصِبْ ذلك الموضعُ سراويلَهُ، وهذا القولُ أولى؛ لأن الموضعَ عُفِيَ عنه تخفيفًا، فإذا نال الموضعَ رطوبةٌ، وَجَبَ إزالةُ الأَثَرِ، كما تجِبُ إزالةُ العين ونَجَسِ ما لاقاها كالعين. * قلت: اختلف أصحابُنا في أثر الاستجمارِ؛ هل هو نَجَسٌ معفوٌّ عنه أو طاهرٌ؟ على وجهين، وعلى ما اختاره أبو حفص تصيرُ المسألةُ على ثلاثةِ أوجهٍ، وقولُه الذي اختارَه ضعيفٌ جدًّا، مذهبًا ودليلًا وعملًا، فإنَّ الصَّحابَةَ لم يكنْ أكثرُهم يستنجي بالماء، وإنما كانوا يستجمِرون صَيْفًا وشتاءً، والعادةُ (ق/ 348 أ) جاريةٌ بالعَرَق في الإزارِ، __________ (1) "المبسوط" لأبي بكر الخلال، انظر "طبقات الحنابلة": (3/ 226)، وشرحه لأبي حفص العُكْبَرىِ، نقل عنه المرداوي في "الإنصاف": (2/ 182)، ولم أعرف عنهما أكثر من هذا. (2) (ف وظ): "و". (3) ليست في (ق)، (ظ): "يقول".

(4/1490)


ولم يأمُرْهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلِه، وهو يعلمُ موضِعَهُ، ولا كانوا هم يفعلونَهُ (1)، مع أنهم خيرُ القرونِ وأتقاهم لله، ولا أعلمُ أحدًا من أصحابنا اختارَ ما اختاره أبو حفصٍ، وهو خلاف نصِّ أحمد، والله أعلم. * واختلف قولُه إذا لم يجمع المستنْجِي بينَ الأحجارِ والماء أيُّهما أولى بالاستعمال؟ فنقل الشَّالَنجيُّ أنه قال: إن لم يكن مع الأحجار ماءٌ، فالأحجار أحبُّ إليَّ، والوجهُ فيه: أن ابنَ عُمر كان لا يَمَسُّ ذَكَرَهُ بالماء. وروى أبو عبد الله عن إسماعيل بن أميَّة عن نافع قال: "كان ابنُ عُمر لا يغسلُ أثرَ المَبَالِ" (2)، واستعمالُ الحِجارة أتت في الأخبارِ (3). وروى حربٌ الكرماني والحسن بن ثَوَاب تضعيفَ الأخبار في الاستنجاءِ بالماءِ، وقال في حديث مُعَاذَةَ، عن عائشة، عنه: قَتَادَةُ لم يرفَعْه، ولأن المستجمِرَ لا تُلاقي يَدُهُ النجاسَةَ، وعنه: هما سواءٌ، وعنه: الماء أفضلُ، جاء في البول من التغليظ ما لم يأتِ في الكلبِ. * اختلف قوله إذا لم يقدروا أن يُصَلُّوا في السفينة قيامًا جماعةً وأمكنهم الصلاةُ فُرَادَى قيامًا، هل يُصَلُّون جُلوسًا جماعة؟ فعنه في رواية حرب: يُصَلِّي كُلُّ إنسان على حِدَتِهِ. وقال في رواية الفضل بن زياد: تُصَلِّي وحدَك قائمًا. ووجهُهُ: أن القيامَ آكَدُ؛ لأنه لو صلَّى قاعدًا مع قدرتِه على القيام لِم يجزئْهُ، __________ (1) (ق وظ): "يغسلونه". (2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 152) بنحوه. (3) (ق وظ): "واستعمال الأحجار أثبت ... " وهو وجيه.

(4/1491)


ولو صلَّى منفردًا مع قدرتِه على الجماعةِ أَجْزَأَ. والقولُ الآخرُ تخريجًا على قوله: إن الإِمامَ إذا صلَّى جالسًا يُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ جلوسًا، فقد أجاز للمأمومِ الصلاة جالسًا لأجل الجماعة. قال القاضي: قلت أنا: ولأنا أسقطنا القيامَ لعدم السِّتارة (1) فكذا الجماعةُ. * واختلف (ظ/ 246 أ)، قولُه في صفة جلوس العَرْيان في صلاتِه. فعنه: يَجْعَلُ قيامَهُ تَرَبُّعًا. قال القاضي: قلت أنا: كالمريض والمُتنفِّل. وعنه: يَتَضَامُّون؛ لأنهم إذا تَضَامُّوا كان أسترَ لعوِراتِهم، والمُتَرَبِّعُ يُفْضِي بفرجِه إلى السَّماء، ولا يمكنُهُ وضعُ يَدِهِ على فَرْجِهِ لئلا تنتقضَ طهارَتُهُ. * واختلف قوله: إذا توارى بعضُهم عن بعض، فصلُّوا قيامًا. فعنه: لا بأس. وعنه: أنه قال: يُصَلِّي العُريانُ قاعدًا يجعل قيامَهُ متَربعًا (2)، فقد ذكر عريانًا واحدًا أنه يُصَلِّيَ قاعدًا، وهذا أصحُّ في مذهبه؛ لأن سترَ العورة آكَدُ عندَه من القيام، لأن مذهبَهُ في العراة يصَلُّون جلوسًا، ولأن سترَ العورةِ يُرَادُ للصلاة، ألا ترى أنه لا يجوزُ للخالي أن يصَلِّيَ مكشوفَ العورة، ولا إذا كان جيبُهُ واسعًا ينظر: إلى عورتهِ، ولحيتُهُ كبيرةٌ تحولُ بينَه وبين النظرِ. __________ (1) وهي السترة، أي: ما تُسْتر به العورة. (2) (ع): "تربيعًا".

(4/1492)


فائدة (1) حديث: يا رسولَ الله عندي دينارٌ، قال: "أنفِقْهُ على نَفْسِكَ ... " إلى الخامس (2)، قال: "أنتَ أَبْصَرُ" (3). قيل: لعله أشارَ إلى أنه قبل الخامس في حكم (ق/ 348 ب) الفقير، فلما أخبره أن معه خامسًا -والدينار كان عندهم اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا- فقد مَلَكَ قيمةَ خمسينَ درهمًا من الذهب، وزادَ عليها، ففوَّضَ الأمرَ إليه في الصَّدَقَة في الخامس دونَ ما قَبْلَه، فَهذا يُؤَيِّد حديث: "مَنْ سَأَلَ وله ما يُغْنِيه" قيل: وما يغْنِيه؟ قال: "خمسون درهمًا" (4) الحديث، والله أعلم (5). __________ (1) (ق): "مسألة". (2) أي: حتى ذكر أن له دينارًا خامسًا. (3) أخرجه أحمد: (12/ 381 رقم 7419)، وأبو داود رقم (1691)، وابن حبان "الإحسان": (8/ 127)، والحاكم: (1/ 415) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وسنده جيِّد. (4) أخرجه أحمد: (6/ 194 - 195 رقم 3675)، وأبو داود رقم (1626)، والترمذي رقم (651)، والنسائي: (5/ 97)، وابن ماجه رقم (1840)، وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. والحديث حسّنه الترمذي، وتكلم بعض أهل العلم في إسناده، إذ فيه حكيم بن جُبير، وهو ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، أما متابعة زُبيد له فقد طعن فيها جماعة منهم الإمام أحمد. (5) قال الترمذي -عقب الحديث-: "والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة. قال: ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جُبير، وسَّعُوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج، فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم" اهـ.

(4/1493)


* قال أبو حفص: واختلف قولُه في الاستدارة في المحمل. فروى محمد بن الحكم عنه: من صلَّى في مَحْمَل فإنه لا يُجْزِئُهُ إلَّا أنْ يستقبلَ القِبْلَةَ؛ لأنه يمكنُهُ أن يدورَ، وصاحبُ الراحلة والدَّابَّة لا يمكنه، والحجةُ أمر الله تعالى باستقبال القبلة حيث كان المصلي، وذلك ممكن في المحمل كما في السفينة، بخلاف الدَّابَّة فتسقطُ لعدم: الإمكان. وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المحمل شديدةٌ، يصلِّي حيثُ كان وجههُ؛ لأن الاستدارةَ في المحمَل شديدٌ على الجَمَل فجاز تَرْكُها، كما جاز في الرَّاحِلَةِ لأجل المَشَقَّةِ على الرَّاكِبِ (1). * واختلف قولُه في السُّجود في المَحْمَل. فروى عنه عبد الله (2) ابنه أنه قال: وإن كان مَحْمَلًا فَقدَر أن يسجدَ في المحمل سَجَدَ. وروى عنه الميمونيُّ: إذا صلى على محمل أحبُّ إليَّ أن يسجدَ لأنه يمكنُهُ. وعنه الفضل بن زياد: يسجدُ في المحمَلِ إذا أمكنه. ووجهه: أنه تعالى أَمَرَ بالسُّجود، وإنما سقط عن المُصَلِّي على الرَّاحِلَةِ لعدمِ الإمكانِ. وروى عنه جعفر بن محمد: السُّجودُ على المِرْفَقَةِ، إذا كان في المحملِ، ربما اشتدَّ على البعير، ولكن يومئُ، ويجعل السجودَ __________ (1) من قوله: "يصلي ... " إلى "شديد" سقط من (ظ)، وقوله: "لأجل المشقة على الراكب" ليست في (ق). (2) "المسائل" رقم (316).

(4/1494)


أخفض الرُّكوعِ، وكذا روى عنه أبو داود (1)، ووجْهُه: المشقَّةُ على البعير. قلت: الذي أوجب هذا: أن الصحابَةَ لم يكن سفرُهم ولا حَجُّهم في المحامل، وإنما حدث (2) في زمن الحَجَّاج، فالصّلاةُ فيها دائرةُ الشَّبَهِ بين الصلاةِ في السَّفينة والصلاةِ على الرَّاحلة، فمن راعى شبهها بالسفينة أوجبَ الاستقبال؛ لأن المحملَ بيتٌ سائرٌ في البَرِّ، كما أن السفينةَ بيتٌ سائرٌ في البحر، ومن راعى مَشَقَّةَ الاستدارةِ على المصَلِّي والبعيرِ أسقطَ الاستقبالَ، وهو الأَقْيَسُ، والله أعلم. مسألة قال المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله إذا سَلَّم من المكتوبةِ ركَعَ ركعتينِ قبلَ التَّراويح. وجْهُه: ما رَوى عليٌّ (3): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي على إِثْر كلِّ صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر، (4)، ظاهرُهُ العمومُ في رمضان وغيره، ولا يُتْركُ (5) ذلك لأجل التَّراويحِ؛ لأن كُلاًّ منهما مقصودٌ. وروى أحمد بن الحسين: صَلَّيْتُ مع أبي عبد الله في شهر رمضانَ __________ (1) "المسائل" رقم (536). (2) (ق): "حدثت". (3) (ق): "رُوِي عن علي". (4) أخرجه أحمد: (2/ 294 رقم 1012)، وأبو داود رقم (1275)، وابن خزيمة رقم (1196)، والبيهقي: (2/ 459) وغيرهم. والحديث صححه ابن خزيمة والضياء في "المختارة": (2/ 149). (5) تحرفت في (ق وظ).

(4/1495)


التَّرَاوِيحَ، فكان إذا صَلَّى العَتَمَةَ لا يُصَلِّي حتى يقومَ إلى التَّرَاوِيح. قال الخلَّال: لم يضبط هذا، فإن كان قد ضبط ما رواه، (ق/ 349 أ) فوجهُهُ أنه فعل (1) التَّراويحَ أو الركعتينِ قبل ركعةِ الوترِ، موضعَ الركعتينِ بعدَ المكتوبَةِ. قال حنبلٌ: كان أبو عبد الله يُصَلِّي معنا، فإذا فرغنا من التَّرْويحة: جَلَسَ وجلسنا، وربما يُحدِّث ويُسألُ عن الشيء فيُجيبُ، ثم يقومُ فيُصَلِّي، ثم يدعو بعد الصلوات بدَعَوَاتٍ، ثم يوتِرُ، ثم ينصرفُ. وقال الفضل: رأيتُ أحمدَ يقعدُ بين التَّراويحِ ويُرَدِّدُ هذا الكلامَ: "لا إله إلَّا الله وحدَه، لا شريكَ له، أستغفرُ الله الذي لا إله إلَّا هو". وجلوسُ أبي عبد الله (ظ/ 246 ب)، للاستراحَةِ؛ لأن القيام إنما سمي تراويحَ لما يَخَلَّلُه من الاستراحَةِ بعد كلِّ ترويحة. * واختلف قولُه في تأخيرِ التَّراويحِ إلى آخرِ اللَّيلِ. فعنه: إن أخَّروا القيامَ إلى آخرِ اللَّيل فلا بأسَ به، كما قال عمرُ: "فإنَّ الساعَةَ التي تنَامون عنها أفضلُ" (2)، ولأنه يحصل قيامٌ بعدَ رَقْدَةٍ، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ... } [المزمل: 6]، الآية. وروى عنه أبو داود (3): لا يؤخَّرُ القيامُ إلى آخر اللَّيْلِ، سنة المسلمين أحبُّ إليَّ. ووجهه: فعلُ الصحابة، ويُحْمَلُ قول عمر على التَّرغيبِ في __________ (1) (ظ): "جعل". (2) أخرجه البخاري رقم: (2010). (3) "المسائل" رقم (438).

(4/1496)


الصَّلاة آخرَ الليل، ليواصِلوا قيامَهم إلى آخرِ الليل، لا أنهم يُؤَخِّرونها، ولهذا أمَرَ عمرُ من يُصَلِّي بهم أوَّلَ الليل. قال القاضي: قلت: ولأن في التأخير تعريضًا بأن يفوتَ كثيرًا من الناسِ هذه الصلاةُ لغَلَبَةِ النومِ. * واختلف قوله في القيام ليلة العيد في الجماعة. فروى عنه حنبلٌ: أما قيَامُ ليلةِ الفطرِ فما يُعْجِبُني ما سمعنا أحدًا فعل ذلك إلَّا عبدُ الرحمن (1)، وما أراه؛ لأنَّ رمضَانَ قد مضى، وهذه ليلةٌ ليست منه، وما أُحِبُّ أن أفعلَه، وما بَلَغَنا من سَلَفِنا أنهم فعلوه. وكان أبو عبد الله يصَلِّي ليلةَ الفطرِ المكتوبَةَ، ثم ينصرفُ، ولم يُصَلِّها معه قطُّ، وكان يكرهُهُ للجماعةِ. الفضل بن زياد: شهدت أحمدَ ليلةَ الفطرِ وقد اختلفَ الناسُ في الهلال، فصلَّى المكتوبةَ، وركع أربع ركعات، وجلسَ يستخبرُ خبرَ الهلال، فبعث رسولًا فقال: اذهبْ نحو أبي إسحاق (2) فاستخبرْ خَبَر الهلال، فلم يَزَلَ جالسًا ونحن معه حتى رَجَعَ (3) الرسولُ فقال: قد رُؤِيَ الهلالُ، فانتعَلَ (4) أحمد، ثم قام فدخل منزلَه. وعنه أبو طالب: أنه قال في الجماعةِ يقومون ليلةَ العيدِ إلى الصَّبَاحِ يجمِّعونَ، قال: من فعلَ ذلك هو زيادةُ خير، كان عبدُ الرحمنِ بن الأسودِ __________ (1) هو: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي، أحد التابعين، وانظر: "مسائل ابن هانئ": (1/ 97)، وخبره في "صنف ابن أبي شيبة": (2/ 168) (2) (ق): "دار إسحاق". (3) (ق): "جلس". (4) أي: لبس النعل. ووقع في المطبوعات: "فانتقل".

(4/1497)


يعتكِفُ فيقومُ ليلةَ العيدِ إلى الصَّباحِ، مَنْ فَعَلَهُ فحسنٌ، ومنْ لم يفعَلْه فليس عليه شيءٌ انتهى. لما روى مالك بن دينار، عن سالم، عن ابنْ عمر كان يُحْيِي ليلةَ العيدِ (1). عبد الرحمن بن الأسود (ق/ 349 ب)، كان يُصَلِّي بقومِه في شهر رمضان وكان يقرأُ بهم القرآن في كلِّ ليلةٍ (2): قال أبو عبد الله -في الرجل يُصَلِّي شهرَ رمضان، يقومُ فيُوتِرُ بهم، وهو يريدُ يصلِّي بقومٍ آخرينَ-: يشتغلُ بينَهم بشيءٍ يأكلُ أو يشرب أو يجلِسُ، رواه المرُّوْذيُّ. وذلك لأنه يكرَهُ: أن يوصلَ بوتِرِهِ صلاةً، فيشتغلُ بينَهم بشيءٍ ليكونَ فصلًا بين وتْرِهِ وبينَ الصلاةِ الثانيةِ، وهذا إذا كان يصلِّي بهم في موضعِه، أما في موضِعٍ آخَرَ فذهابُهُ فصلٌ، ولا يُعيد الوتْرَ ثانيةً، "لا وِتْرَانِ في لَيْلَةٍ" (3). وقال أبو عبد الله -في الرجل يجيءُ والإمامُ يوتِرُ في شهر رمضان، __________ (1) قال الشافعي في "الأم": (1/ 231): "وبلغنا عن ابن عمر أنه كان يحيي ليلة جَمْع، وليلة جمع هي ليلة العيد، لأن في صبحها النحر" اهـ، وأخرج عبد الرزاق: (4/ 317) عن ابن عمر قال: خمس ليالٍ لا يرد فيهن الدعاء .. وذكر ليلتي العيدين. لكن إسناده: ضعيف. (2) لم أعثر عليه. (3) أخرجه أحمد: (26/ 222 رقم 16296)، وأبو داود رقم (1439)، والترمذي رقم (470)، والنسائي: (3/ 229 - 230) وغيرهم من حديث طلق بن علي -رضي الله عنه-. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وحسنه الحافظ في "الفتح": (2/ 258).

(4/1498)


فيلحق معه ركعةً-: إن كان الإمام يفصلُ بينهم بسلام أجرأتْهُ الركعةُ التي لحِقَ، وإذا كان لا يسلِّمُ في الثنتينِ، يقضي مثلَ ما صلَّى ثلاثًا إذا فَرَغَ قام يقضي ولا يقنُتُ. قوله: "ولا يقنُتُ"، يحتملُ لأنه قد قنَتَ مع الإمام فلا يقنتُ، كما لو سَجَدَ للسهو معه لا يسجدُ آخر صلاته. ويحتملُ لأنه أدرك آخرَ صلاتِهِ فلا يقنُتُ في أوَّلها. محمد بن بحر (1): رأيتُ أبا عبدِ الله في شهر رمضانَ، وقد جاء فضلُ بن زياد القَطَّانُ فصلَّى بأبي عبد الله التَّرَاويحَ -وكان حسَنَ القراءةِ- فاجتمعَ المشايخُ وبعضُ الجيران حتى امتلأَ المسجدُ، فخرج أبو عبد الله فصعِد درجةَ المسجدِ، فنظر إلى الجَمْع فقال: ما هذا تَدَعُونَ مساجدَكم وتجيئونَ إلى غيرها؟! فصلَّى بهم لياليَ، ثم صَرَفَة كراهيَةً لما فيه -يعني: من إخلاء المساجدِ- وعلى جارِ المسجد أن يصليَ في مسجدِه. قال أحمدُ -في الرجل يتركُ الوِترَ متعمدًا-: هذا رجل سوءٍ، يتركُ سُنَّةً سنَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟!، هذا ساقط العدالة إذا تَرَكَ الوِتْرَ مُتَعَمِّدًا. روى هذه المسألة هارون بن عبد الله البزَّاز (2)، (ظ/ 247 أ) ونقل أبو طالب وصالحٌ (3): من تَرَكَ الوِتْرَ متعمدًا هذا رجلُ سوءٍ، وذلك __________ (1) لم أعرفه. ولعله محمد بن علي بن بحر، نُسِبَ إلى جده، نقل عنه في "المغني": (10/ 210)، و"طبقات الحنابلة": (2/ 585). (2) أبو موسى المعروف بالحمَّال، له عن أبى عبد الله مسائل حسان جدًّا. ت (243). "طبقات الحنابلة": (2/ 514 - 517). (3) في "المسائل" رقم (159، 235).

(4/1499)


لقول الله (1): {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، وقد أمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * واختلف قوله إذا أوتَرَ بعد طلوعِ الفجرِ؛ هل يوتِرُ بواحدةٍ أو بثلاث؟. فعنه الميمونيُّ قال: إذا استيقظ وقد طَلَعَ الفجرُ، ولم يكن تَطَوَّعَ ركعَ ركعتين، ثم يُوتِرُ بواحدةٍ، لأن الركعتينِ من وِتْرِهِ. ونحوه الأثرم وأبو داودَ (2). ووجهه: أن الوِتْرَ اسمٌ للثلاث؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُوتِرُ بها، ولأنه وقتٌ لفعل الوتر، وكان وقتًا للثلاث. ونقل يوسفُ بن موسى (3): يُوتِرُ بواحدةٍ. وكذلك (4) نقل أحمد بن الحسين في الرجلِ يَفْجَؤُه الصُّبْحُ، ولم يكنْ صلَّىَ قبل العَتَمَةِ، ولا بعدَها شيئًا: يوتِرُ بواحدةٍ (5)، ولا يُصَلِّي قبلها (ق/ 350 أ) شيئًا. ووجهه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ" (6) فجعل ما قبلَها من صلاة الليل (7)، وأمرَه بالمبادرة __________ (1) (ق وظ): "النبي - صلى الله عليه وسلم -"!. (2) "المسائل" رقم (467، 468). (3) هو: القطان، تقدمت: ترجمته (ص/ 1002). (4) فى الأصول: "وذلك". (5) من قوله: "وذلك نقل ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (6) أخرجه البخاري رقم (472)، ومسلم رقم (749) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-. (7) (ع) زيادة: "مثنى مثنى".

(4/1500)


بواحدة، ولأن ما بعد طلوع الفجر لا يجوز فيه إلا ركعتا الفجر، وإنما أجزنا الوتر لتأكُّده. * واختلف قولُه في اختيارِه الوترَ. فروى عنه أبو بكر بن حمَّاد (1) أنه قال: أذهبُ إلى حديث أبي هريرة: "أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاثٍ ... " (2) الحديث. وعنه الميمونيُّ: لست أنامُ إلَّا على وِتْر. وعنه الفضلُ بن زياد قال: آخره أفضل، فإن خافَ رجلٌ أن ينامَ أوْتَرَ أوَّلَ الليلِ. قال أبو حفص: وإنما يكونُ الوِتْرُ آخِرَ الليل أفضلَ (3) في غير شهرِ رمضانَ، فأمَّا في شهر رمضانَ، فالوترُ أول الليلِ تَبَعٌ للإمام أفضلُ، لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى مَعَ إمَامِه حَتَى يَنْصَرِفَ كُتِبَ له قِيامُ لَيْلَةٍ" (4). قال أحمد: إذا كان يقْنُتُ قبلَ الرُّكوعِ، افتتحَ القنوتَ بتكبيرةٍ، رواه أبو داود (5) والفضل بن زياد، ودليلُه: ابنُ مسعود: كان يقنُتُ __________ (1) هو: محمد بن حماد بن بكر أبو بكر المقرئ، روى عن أبي عبد الله، وله عنه مسائل ت (267). "طبقات الحنابلة": (2/ 288 - 289). (2) أخرجه البخاري رقم (1178)، ومسلم رقم (721). (3) من قوله: "فإن خاف ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) أخرجه أحمد: (35/ 352 رقم 21447)، وأبو داود رقم (1375)، والنسائي: (3/ 83 - 84)، وابن ماجه رقم (1327)، وابن خزيمة رقم (2206)، وابن حبان "الإحسان": (6/ 288)، وغيرهم من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- في قيام رمضان. (5) "المسائل" رقم (484).

(4/1501)


في الوِتر، إذا فَرَغَ من القراءة كَبَّرَ (1) ورفع يديه، ثم قَنتَ (2). * واختلف قولُه في قَدْر القيام في القنوت. فعنه بِقَدْر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الإنشقاق: 1]، أو نحو ذلك. وقد روى (3) أبو داود (4): سمعتُ أحمد سُئل عن قول إبراهيم: القُنُوتُ قَدْرُ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) قال: هذا قليلٌ يعجبُني أن يزيدَ. وعنه: كقُنوت عُمَرَ (5)، وعنه: كيف شاءَ. وجْهُ الأولى: أنه وَسَطٌ من القيام. والثانية: فعل عمر. والثالثة: أن طَرِيقَهُ الاستحبابُ، فسقط التوقيتُ فيه. نَقَل يوسفُ بن موسى عنه: لا بأس أن يدعوَ الرجلُ في الوِتْر لحاجتِهِ. وروى عنه علي بن أحمد الأنماطي (6) أنه قال: يُصَلِّي على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دعاء القُنُوتِ. قال أحمد: يدعو الإمامُ ويؤمِّنُ من خَلْفَهُ (7). وعنه أبو داود (8): إذا لم يسْمَعْ صوتُ الإمام يدعو. __________ (1) (ع وظ): "وكبر". (2) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 100). (3) (ق وظ): "وروى". (4) "المسائل" رقم (476). (5) انظر "مسائل أبي داود" رقم (800، 801). (6) "طبقات الحنابلة": (2/ 117). (7) "مسائل أبي داود" رقم (475). (8) "المسائل" رقم (485).

(4/1502)


أبو حفص: لأن التأمين لما يسمعونَ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأَمنُوا" (1). وعنه: إذا (2) دعا وأمَّنُوا فجيدٌ، وإد دعا ودَعَوْا فلا بأسَ كلٌّ موسَّعٌ. وجْهُه: أن المؤَمِّنَ داع قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وكان هارونُ مُؤَمِّنًّا. قال: يجهر الإمامُ بالقنوتِ، ولم يَرَ أن يخافِتَ إذا قَنَت ألبتة، لما رُوِي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَهَر بالقُنوت، بِدَليل أن أصحابَه كانوا يُؤَمِّنُونَ. وروى أبو عبد الله: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن جعفر، عن أبي عثمان: صَلَّيْتُ خلف عمر بن الخطاب فَقَنَتَ بعد الرُّكوع، ورفع يديه في قُنُوته، ورفع صوتَهُ بالدُّعاء، (ق/ 350 ب) حتى سَمَّعَ مَنْ وراء الحائطِ (3). وعن أُبَيٍّ أنه جَهَرَ بالقُنوتِ. وعن معاذٍ القارئ أنه جَهَرَ. المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله في دعاء الوِتر لم يكن يسمَعُ دعاءَهُ مَنْ يليه. هذا يدلُّ (4) على أنه كان مأمومًا والمأموم لا يجْهَرُ. مهنَّا: سُئل أحمد عن الرجل يقنتُ في بيتِه، أيعجِبُكَ يجهرُ بالدعاء في القنوتِ أو يُسِرُّهُ؟ قال: يُسِرُّهُ، وذلك أن الإمام إنما يجهرُ لِيُؤَمِّنَ المأمومُ. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (780)، ومسلم رقم (410) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-. (2) (ق وظ): "إن". (3) أخرجه البيهقي: (2/ 212) عن أبي عثمان من طريق آخر. (4) من (ظ).

(4/1503)


عبد الله (1): قلت لأبي: يمسح بهما وجهَه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. وكان الحسنُ إذا دعا مسح وجْهَهُ. وقال (2): سئل أبي عن رفع الأيدي في القُنوت، يمسحُ بهما وجهه؟ قال: لا بأس يمسح بهما وجهَه، قال عبد الله: ولم أرَ أبي يمسحُ بهما وجْهَهُ (3). فقد سهَّلَ أبو عبد الله في ذلك وجعَلَه بمنزلة مسحِ الوجهِ في غيرِ الصَّلاةِ؛ لأنه عملٌ قليل ومنسوب إلى الطَّاعة، واختيارُ أبي عبد الله تَرْكُهُ. * قال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ما أحبُّ إليك ما يَتَقَرَّبُ به العبدُ من العمل إلى الله؟ قال: كثرةُ الصلاةِ والسجودِ، أقربُ ما يكون العبدُ من الله، إذا عَمر وجْهَه له ساجدًا. يعني بهذا: إذا سجدَ لله على التراب، وفى هذا بيان أن الصَّلاة أفضلُ أعمال الخير. وروى عنه المرُّوْذيُّ أنه قال: كلُّ تسبيحٍ في القرآن صلاةٌ (4) إلَّا موضع واحد. قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (41)} الطور: 49]، ركعتينِ قبلَ الفجر، {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق: 40]، ركعتين بعد المغرب. __________ (1) "المسائل" رقم (426). (2) المصدر نفسه رقم (446). (3) وفي "مسائل أبي داود" رقم (486): "سئل عن الرجل يمسح وجهه بيده إذا فرغ في الوتر؟ قال: لم أسمع به، وقال مرة: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله" أهـ. (4) أخرجه الطبري: (9/ 331) وغيره عن ابن عباس: "كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وكل سلطان في القرآن حجة" والزيادة الأخيرة عند الضياء في "المختارة". (10/ 314)

(4/1504)


قال أبو حفص: والحجَّةُ في تفضيله الصلاةَ على سائِر أعمال القرَب قولُه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. و [قال] (1) حذيفةُ: إذا حَزَبَهُ أمرٌ صَلَّى (2). وقال: "أعِني عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ" (3)، وقال: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلاةُ لأَوَّلِ وَقْتِها" (4) وقالَ: "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ" (5)، ولأنها تختصُّ بجمع الهمِّ، وحضورِ القلبِ، والانقطاع عن كلِّ شيء سواها، بخلاف غيرِها من الطَّاعات، ولهذا كانتَ ثقيلةً على النَّفْس. * نقل عنه محمد بن الحكم (6) (ظ/ 247 ب) في الرجل يفوتُهُ وِرْدُه من اللَّيل: لا يقرأ به في ركعتي الفجرِ، كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّفُهما، لكن __________ (1) في الأصول: "وكان"، وسياق الكلام يدل أن المحكيّ عنه هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا حذيفة، إذ ساق الآيات على فضل الصلاة ثم الأحاديث، ثم لم أجد هذا الأثر عن حذيفة. (2) حديث حذيفة أخرجه أحمد: (5/ 388)، وأبو داود رقم (1319). (3) أخرجه مسلم رقم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (527)، ومسلم رقم (85) من حديث أبي مسعود بنحوه بلفظ "على وقتها"، ولفظ المؤلف عند الترمذي رقم (170)، وأبو داود رقم (426) من حديث أم فروة. (5) أخرجه أحمد: (19/ 307 رقم 12294)، والنسائي: (7/ 61 - 62)، والحاكم: (2/ 160) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- والحديث قوَّاه الذهبي والعراقي والحافظ ابن حجر. (6) تقدمت ترجمته (ص/955)، وعدد من مسائله (ص/957، 958 وغيرها)، ووقع في (ق): "محمد بن عبد الحكم".

(4/1505)


يقرأُ إذا أصبحَ، أرجو أن يُحتسبَ له بقيامِ اللَّيلِ. * اختلفت الرِّوَايةُ في الرَّكعتين بعد الظهر. فعنه الأثرم: يُصَلِّيهما في المسجد. ووجْهُه، حديث: أم سَلَمَةَ في الركعتين بعد العصر (1)، ظاهرُهُ: أنهم شغلوه عن صلاة: الرَّكعتينِ في المسجد. الفضل بن زياد: رأيتُ أحمدَ لا يُصَلِّي بعدَ المكتوبة شيئًا في المسجد إلَّا مَرَّةً بعدَ الظهر، كان يومًا نادرًا. ووجْهُه: حديثُ عائشة: "كان يُصَلِّي قبلَ الظهر أربعًا في بيتي، ثم يخرج فَيُصَلِّي بالناس، ثم يرجِعُ إلى بيتي فيُصَلِّي ركعتين" (2)، والله أعلم. مسألة أبو (ق/351 أ) الصقر عنه: لا بأسَ أن يجهرَ الرجلُ بالقراءَةِ بالليلِ، ولا يجهرُ بالنهارِ في التَّطَوُّع وقال في الرجل يُصَلِّي بقومٍ صلاةَ الفريضةِ، فمرَّتْ به آياتُ العذابِ، فقال: "أستجيرُ بالله من النار": مَضَتْ صلاتُهُ ولا يعيدُ الصلاةَ. وقال في الرجل يُصَلِّي ويأتي على ذكر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصَّلاة، قال: إن كان تَطَوُّعًا صلَّى عليه، وإن كانَ في الفريضَةِ فلا. * واختلف قولُه في المداومة على صلاة الضُّحى. __________ (1) تقدم (4/ 1465). (2) أخرجه مسلم رقم (730).

(4/1506)


فعنه قال: ما أُحِبُّ أن أداومَ عليها، وقد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفَتح (1). وقال: ربَّما صلَّيْتُ وربما لم أُصَلِّ. ووجْهُه: ما روى أبو هريرة قال: "ما صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الضُّحَى قَطُّ إلاّ مرَّةً" (2)، قال الميمونيُّ: قال أحمد: ما سمعناه إلَّا من وكيع وإسنادُه جيد. وروى عنه موسى بن هارون [الحمَّال] (3) قال: مَرَّ بي أحمد بن حنبل ومعه المرُّوْذيُّ، وأنا في المسجد قبلَ الزوالِ أُصَلَي الضحى -لأني كنت شُغلتُ عنها- فوقف عَلَيَّ، فقال: ما هذه الصلاةُ، وليس هذا وقتَ الظهر؟! قال: قلت يا أبا عبد الله هذه ركَعَاتٌ كنت أُصَلِّيها ضحىً فشُغِلْتُ عنها إلى هذا الوقت، قال: لا تَتْرُكْها ولو ذكرتَها بعدَ العَتَمَةِ. ووجهُة: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ العَمَلِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ" (4). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (280)، ومسلم رقم (336) من حديث أم هانئ -رضي الله عنها-. (2) أخرجه أحمد: (15/ 472 رقم 9758)، والنسائي في "الكبرى": (1/ 180)، وقوَّاه أحمد. (3) فى النسخ "الخطاب"! ولا يعرف في أصحاب أحمد إلا موسى بن هارون أبو عمران الحمَّال الحافظ ت (294). "طبقات الحنابلة": (2/ 404 - 406)، و"تاريخ بغداد": (13/ 50). وقد تقدمت ترجمة أبيه هارون بن عبد الله، وهو من أصحاب أحمد -أيضًا-. (4) أخرجه البخاري رقم (43)، ومسلم رقم (782) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(4/1507)


وقال في رواية مهنَّا وعبدُ الله (1): صلاةُ التسبيح لم تثبُتْ عندي، فيها حديثٌ سيئٌ. وقال في رواية أبي الحارث: صلاةُ التسبيح حديثٌ ليس لها أصل، ما يعجبُني أن يصَلِّيَها، يصلِّي غيرها. وقال علي بن سعيد النسائي: ذكرتُ لأبى عبد الله حديثَ عبد الله ابن مُرَّة من رواية المستمر بن الرَّيَّان (2)؟ فقال: "المستمرُّ شيخ ثقة" (3)، وكأنه أعْجَبَهُ. الأثرمُ عنه في الركعتين قبل المغرب، قال: أحاديثُ جيادٌ، أو قال صحاحٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعينَ (4)، فمن شاء صلَّى بينَ الأذان والإقامة. وعنه الفضل بن زياد: ما فَعَلْتُهُ قطُّ إلَّا مَرَّةً، فلم أرَ الناسَ عليه فتركتُها (5). وقال في رواية حنبل: السُّنَّةُ أن يُصَلِّيَ الرجلُ الركعتينِ بعدَ المغرب في بيتِه، كذا رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه. __________ (1) "المسائل" رقم (413)، وضعفه أيضًا في رواية ابن هانئ: (1/ 151)، والكوسج. (2) يعني روايته لحديث صلاة التسبيح عن عبد الله بن عَمرو موقوفًا، وهذه الرواية أشار أبو داود رقم (1298) إلى تضعيفها، وعنه البيهقي: (3/ 52). وتحرَّف الاسم في (ق وظ). (3) وكذلك قال أحمد فيما نقله عبد الله في "العلل" رقم (3259). (4) (ق وظ): "أصحابه التابعين". (5) ذكر هذه الرواية في "المغني": (2/ 546) عن الأثرم -أيضًا- وقال: "ما فعلته قط إلا مرة، حين سمعتُ الحديثَ ... وقال: هذا شيء ينكره الناس، وضحك كالمتعجِّب"اهـ.

(4/1508)


قال السائب بن زيد: لقد رأيتُ الناسَ في زمانِ عمر بن الخطَّاب إذا انصرفوا من المغربِ انصرفوا جميعًا حتى لا يبقى في المسجدِ أحدٌ، كأنه لا يصلُّونَ بعدَ المغربِ حتى (1) يصيروا إلى أهليهم (2). فإن صلَّى الركعتينِ في المسجدِ فهل يُجْزئُهُ؟ اختلف قوله. روى عبد الله (3) عنه أنه قال: بلغني عن رجلٍ سمَّاه، أنه قال: لو أن رجلًا صلَّى الرَّكعتينِ في المسجدِ بعدَ المغرب ما أجزأَهُ (4)، (ق/ 351 ب) وقال: ما أحسنَ ما قالَ هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزَعَ. ووَجْهه (5): أمرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاة في البيوتِ. وقال له المرُّوْذي: من صلَّى الركعتينِ بعد المغرب في المسجدِ يكونُ عاصيًا؟ قال: ما أعرفُ هذا. قلت له: يُحكى عن أبي ثَوْر أنه قال: هو عاصٍ؟ قال: لعله ذَهَبَ إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجْعَلُوهَا في بُيوتكُمْ" (6). ووَجْهه: أنه لو صلَّى الفرضَ في البيت، وتَرَكَ المسجدَ أجزأه، __________ (1) (ع): "يعني: حتى ... ". (2) أسنده الأثرم فيما نقله الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد": (14/ 178). (3) في "المسائل" رقم (458). (4) بعده في "المسائل": "إلا أن يكون صلاها في بيته، على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". (5) هذا التوجيه لأبي حفص العكبري، وكذا عامة التوجيهات التي مرَّت، وانظر "زاد المعاد": (1/ 313) ففيه التصريح بذلك. (6) أخرجه أبو داود رقم (1300)، والترمذي رقم (604)، والنسائي: (3/ 198 199) عن كعب بن عجرة، وفيه: "عليكم بهذه الصلاة في البيوت"، وله ألفاظ بنحوه. والحديث استغربه الترمذي. وله شاهد عند أحمد: (5/ 427) من حديث محمود بن لبيد.

(4/1509)


فكذا السُّنَّة في المسجد. قلت: ليس هذا وجهَهُ عند أحمد، وإنما وَجْهُهُ أن السُّنَنَ لا يُشترطُ لها مكانٌ مُعَيَّنٌ ولا جماعة، فتُفْعَل في المسجد والبيت، والله أعلم. * قال في روايةِ الميموني والمرُّوْذيِّ: يستحبُّ أن لا يكونَ قبلَ الرَّكعتينِ بعدَ المغربِ إلى أن تُصَلِّيَهما كلام. وقال الحسن بن محمد: رأيت أحمدَ سلَّم الإمام من صلاةِ المغربِ، قام ولم يَتَكَلَّم ولم يركعْ في المسجدِ، وتكلَّمَ قبل أن يدخُلَ الدَّار. وَجْه الكراهَةِ: قولُ مكحول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، يعني: قَبْلَ أَنْ يَتكَلَّم -رُفِعَتْ صَلاتُهُ في عِلِّيِّينَ" (1) ولأنه يَصِلُ النفلَ بالفرضِ (2). قال أحمد في رواية حرب، ويعقوبَ، وإبراهيمَ بن هانئ (3): إن تَرَكَ ركعتي المغربِ لا يُعيدُهما، إنما هما تَطَوُّعٌ. المرُّوْذي: رأيت أبا عبد الله يركعُ فيما بينَ المغرب والعشاء. * المرُّوْدْيُّ عنه: في رجل يريدُ سفرًا فيقصرُ يومًا ثم يبدو له، فيرجعُ: يتمُّ (4)، وجاءه رسولُ الخليفة ردَّهُ من بعضِ الطريق في اللَّيلِ فأتم الصلاةَ، فقيل له: أليسن نجن مسافرونَ؟ قال: أما السَّاعةُ فلا، وكان نحوًا من سبع فراسِح. __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 16). (2) هذه الفقرة بطولها من قوله: "وقال في رواية حنبل ... " إلى هنا ذكرها المصنِّف بنصّها في"زاد المعاد": (1/ 312 - 314). (3) أبو إسحاق النيسابوري، "طبقات الحنابلة": (1/ 252). (4) (ظ): "فيتم".

(4/1510)


محمد بن الحكم عنه: في الرجلِ يخرجُ إلى بعض البلدان يَتَنَزَّهُ أو إلى بلد يَتَلَذَّذُ فيه، ليس بطَلبِ حجٍّ ولا عُمْرَةٍ ولا تجارةٍ: ما يُعْجِبُني أن يقصرَ الصلاةَ (1). والوجْهُ فيه: أن الأصلَ الإتمامُ، فلا يجوزُ أن يجوزُ الفرضَ لطلبِ النزهة. مسألة إن لم يكن مع الملَّاحِ أهلُه، وكان يسافرُ ويرجِعُ إلى أهلِهِ، قَصَرَ الصلاةَ. قال في رواية حرب: إن لم يُقم المكاري في أهلِه ما يقضي رمضانَ يقضي في السفر، وذلك أن هذه حالُ ضرورة، والقضاءُ عليه فرضٌ. اختلف قولُهُ في المسافر يَرِدُ على أهله لا يريدُ المقامَ. فروى عنه عبد الله (2): لو أن مسافرًا وَرَدَ على أهلِهِ أمسكَ عن الطَّعام وأتمَّ الصلاةَ، إلَّا أن يكون مارًّا. وكذا نقل إسحاقُ الكوسجُ (3): في رجل خرج مسافرًا فبدا له، فرجَع في حاجةٍ إلى بيتِه ليأخذَها، فأدركته الصلاةُ: هو (4) مسافرٌ يقصرُ إذا لم يكن له أهلٌ، وهو (ق/ 352 أ) أهونُ لأنه على نِيَّةِ السفرِ. فورودُهُ على أهلِهِ لم يخرجْهُ عن حكم السفر. __________ (1) انظر: "المغني": (3/ 117)، ورجح ابن قدامة الرواية الأخرى. (2) "المسائل" رقم (555) بنحوه، و "المغني": (3/ 151). (3) "المسائل": (1/ ق 89 - دار الكتب). (4) الأصول: "وهو" والصواب حذف الواو كما في "المسائل".

(4/1511)


وعنه صالحٌ (1) فى رجل خرجَ مُسافرًا فبدأ له، فرجَعَ في حاجة إلى بيته فأدركتْهُ الصلاةُ: يتمُّ؛ لأن ابن عباس قال: إذا قدمتَ على أهلٍ أو ماشية فأتِمَّ (2). والوجْهُ فيه: حديثُ ابن عباس، ولا يَصِحُّ حملُه على إذا نوى المُقَامَ؛ لأنه إذا نوى المقامَ في غير أهلِه لزمه الإتمامُ؛ ولأنه لو أنشأ السفرَ من بلدِهِ لم يَجُزْ له القصرُ حتى يفارقَ منزلَهُ، كذا بعد رجوعِهِ لحاجة. عنه المرُّوْذيُّ: ركعتا الفجر والمغرب لا يَدَعُهُما في السفر (3). عنه صالح والكوسج (4): إذا نوى المسافرُ المقامَ وهو في الصلاة: يُتِمُّ، وإن قعد في الركعتينِ حتى يخرجَ بتسليمٍ. ووَجْهه: أنه قد صارَ مقيمًا. مسألة الأثرمُ عنه (5): إذا أجمعَ أن يقيمَ إحدى وعشرين صلاةً مكتوبةً قَصَر، فإذا عَزَم على أن يُقِيمَ أكثر من ذلك أتمَّ، واحتجَّ بحديث جابر وابن عباس: "قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصبحِ رابِعَةٍ" (6) وكذا نقل ابنُ الحَكَم. __________ (1) لم أره في المطبوعة. (2) أثر ابن عباس ذكره أحمد في رواية الكوسج السالفة، وقد أخرجه عبد الرزاق: (2/ 524)، وابن أبي شيبة: (2/ 202)، والبيهقي: (3/ 155). (3) نقل في "المغني": (2/ 543) عن رواية الأثرم: " ... ليس هاهنا شيءٌ آكد من الركعتين بعد المغرب". (4) لم أره في رواية صالح المطبوعة، وانظر "مسائل الكوسج": (1/ ق 89). (5) ذكرها ورواية المرُّوذي ابن قدامة في "المغني": (3/ 148). (6) حديث جابر أخرجه البخاري رقم (1785)، ومسلم رقم (1216). وحديث ابن عباس أخرجه البخاري رقم (1085)، ومسلم رقم (1240).

(4/1512)


ونقل المرُّوْذيُّ: إذا عزم على مُقام إحدى وعشرين صلاةً فَلْيُتِمَّ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الغَداةَ يوم التَّرْوِيةِ بمكة، وكذلك نقل حربٌ: إذا دخلَ إلى قربة نوى أن يُقِيمَ أربعةَ أيامٍ وزيادة صلاة أتمَّ، وكذا نقل ابن أصرمَ وصالحٌ والكوسَجُ (1): إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعة أيام، وزيادة صلاة يُتِمُّ (2) في أول يوم، واحتجَّ بحديث جابر. قال أبو حفص البَرْمَكيُّ: هذه الروايةُ ليست مُسْتقصاةً، والأولَّةُ مُسْتقصاةٌ (3) أنه لا يلزمه الإتمامُ بالعزيمة على إقامة أربعةِ أيام وزيادة صلاة، حتى ينويَ أكثرَ من ذلك، فكيف يقول: "إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعٍ وزيادةِ صلاة أتَمَّ". ويحتجُّ بحديث جابر في هذا المقدار! وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد (4)، قيل له: يا أبا عبد الله يحكون أنك تقولُ: إذا أجمع على إقامَةِ أكثرَ من أربعة وصلاة أتمَّ؟ فقال: لا يفهمون، النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجمعَ على إقامةِ أربع وصلاة فقَصرَ. ونقل عنه أيوبُ بن إسحاق بن سافري (5) أنه قال: إن أزمعَ (6) على إقامة خمسة أيام يَتِمُّ وما دون ذلك يقصُرُ. قال أبو حفص: ليس في هذا خلافٌ لذلك؛ لأنه إذا أوجبَ __________ (1) "مسائل صالح" رقم (370)، و"مسائل الكوسج": (1/ ق 75). (2) من قوله: "وكذا نقل ... " إلى هنا سقط من (ق وظ). (3) "والأولة مستقصاة" سقطت من (ع). (4) هو: الفضل بن عبد الصمد الأصبهاني أبو يحيى، له عن أبي عبد الله مسائل. "طبقات الحنابلة": (2/ 196 - 199). (5) أبو سليمان، له عن أبي عبد الله مسائل كثيرة صالحة، ت (260). "طبقات الحنابلة": (1/ 312 - 315). (6) (ق وظ): "إذا أجمع".

(4/1513)


الإتمامَ بإقامَةِ أكثرَ من أربعة أيام وزيادة صلاة، فبخمسة أيام أولى أن يوجبَ الإتمامَ. وقولُهُ: "وما دون ذلك يقصُرُ"، يُحتملُ أن يكون أراد بهَ الأربَعَةَ أيام: وزيادة صلاة؛ لأنها دونَ الخمسةِ أيام، ويحتملُ أن يكون ذِكْره لليَوم الخامس؛ لأن الصلاة (1) بعدَ الأربعَةِ أيامٍ من اليومِ الخامسِ (ق/ 352 ب) لا أنه أراد إكمالَ اليومِ الخامسِ (2). وقد بيِّن ذلك في رواية طاهر بن محمد التَّميمِيِّ (3) فقال: إذا نوى إقامَةَ أربعةِ أيام وأكثرَ من صلاة من اليوم الخامس أتمَّ، فقد بيَّنَ مرادَه من ذكر اليوم الخامس أنه، بعضُه؛ لأنه أكثرُ من مُقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قَصَرَ فيه الصلاة. قال القاضي: وظاهر كلام أبي حمص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدَّةَ الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة، وتأوَّل بقية الرِّوايات. واحتجَّ في ذلك بحديث جابر: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل مكةَ صُبْحَ رابعة، فصلَّى بها الغداةَ" وخامسة وسادسة وسابعة أربعةَ أيام كوامِلَ، وزاد صلاةً؛ لأنه صلى الغداةَ يوم التَّرْوِيَةِ بمكة بالأبطحِ، وخرج يوم الخامس إلى منى، فصلَّى الظهرَ بمِنى، وكان (ظ/248 ب) يقصر الصلاةَ في هذه الأيامِ، وقد أجمعَ على إقامتها. ويجوزُ أن يُحْملَ كلامُ أحمد على ظاهرِهِ، فيكونُ في قَدْر الإقامة ثلاثُ رواياتٍ: __________ (1) (ع): "الصلاتين"، ولها وجه وانظر الرواية بعدها. (2) من قوله: "لأن الصلاة ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (3) هو: طاهر بن محمد ابن الحسين التميمي الحلبي، كان عنده عن الإمام مسائل صالحة فيها غرائب. "طبقات الحنابلة": (1/ 477 - 478).

(4/1514)


إحداها: ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخِرَقِيُّ وأبو حفص. الثانية. ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدَّةٌ تزيدُ على الأربعة، فكان بها مُقِيمًا. دليلُه: إذا نوى زيادةً على إحدى وعشرين. الثالثة: ما نقصَ عن خمسةِ أيام ولو بوقتِ صلاةٍ؛ لأنها مدَّةٌ تنقصُ عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر، دليلُه: مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1). * واختلف قولُه في صلاة الكسوف بغير إذن الإمام. فروى عنه يعقوبُ بن بختان (2): لا بأس به. وقال المرُّوْذيُّ: قلت لأبي عبد الله: ابن مهدي، عن حماد بن زيد قال: بلغَ أيوبَ (3) أن سليمانَ التَّيْمِيَّ لما انكسفتِ الشمسُ صلَّى في مسجدِه، فبلغ أيوبَ فأنكرَ عليه، فقال: إنما هذا للأئمةِ. فقال أبو عبد الله: إلى هذا نذهبُ في كسوفِ الشّمس، الأئمةُ يفعلون ذلك. وعنه محمد بن الحكم: يستحَبُّ العَتَاقَةُ في صلاة الكسوفِ (4). * واختلف قوله في خروجِ النَّاسِ للاستسقاءِ بغير إمام. فعنه أحمدُ بن القاسم: إن لم يخرجِ الإمام لا تخرجوا. __________ (1) "أو عشرين" ليست في (ق). (2) تقدمت ترجمته، ووقع في المطبوعات "حسان"!. (3) ابن أبي تميمة السختياني. (4) لحديث أسماء: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في الخسوف"، أخرجه البخاري رقم (1054).

(4/1515)


وعنه الميمونيُّ: إن أخرجهم الإمامُ خرَجوا، وإلَّا فيخرجون لأنفسِهم يستسقونَ ما بأسٌ بذلك (1). فإن قلنا: يخرجون (2) بغير إمامٍ؛ فهل يُصَلُّونَ جماعةً أو يستسقون وينصرفون؟. فعنه الميموني: يخرجون لأنفسِهم يستسقونَ، ما يُعجِبُني يُصَلِّي بهم بعضُهم. وعنه حربٌ: أنه قال في أهلِ قرية ليس فيها وَالٍ خَرَجوا يستسقونَ؛ يُصَلِّي بهم: إمامُهم جماعةً؟ قال: أرجو أن لا يضيقَ. هذا آخرُ ما وجدته من هذا: "المنتقى" (3). __________ (1) انظر "المغني": (3/ 346). (2) من قوله: "الإمام خرجوا ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (3) (ق): "ما وجدته من المنتقى".

(4/1516)


فائدة لا يكون الجحدُ إلَّا بعد الاعترافِ بالقلبِ أو (1) اللِّسانِ، ومنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] ومنه: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33] عقيب (2) قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}، ومنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت: 49] {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} (3) [العنكبوت: 47] وعلى هذا لا يحسنُ استعمالُ الفقهاءِ لفظَ الجحودِ في مطلقِ (4) الإنكارِ، في باب الدَّعاوى وغيرها؛ لأن المُنْكِرَ قد يكون مُحِقًّا فلا يُسَمَّى جاحدًا. فائدة قال إسحاقُ بن هانئ (5): تعشَّيْتُ مرَّةً أنا وأبو عبد الله وقرابةٌ لنا (6)، فجعلنا نتكلَّمُ وهو يأكلُ، وجعل يمسحُ عند كلِّ لقمةٍ يدَه بالمنديلِ، وجعل يقولُ عند كل لقمة: الحمدُ لله وبسمِ الله، ثم قال لي: أكلٌ وحَمْدٌ خيرٌ من أكلٍ وصمتٍ. فائدة مَنَع كثيرٌ من النَّحاة أن يُقَالَ: (البعض، والكل)؛ لأنهما اسمانِ لا يُستعملان إلَّا مضافَيْنِ. ووقع في كلام الزَّجَّاجيِّ وغيرِه: "بدل __________ (1) (ظ): "و". (2) قبلها في (ق): "ومنه"!. (3) الآية سقطت من (ق). (4) (ع): "لفظ"!. (5) "المسائل": (2/ 133). (6) كذا بالأصول، وفي "المسائل": "له".

(4/1517)


البعض من الكُلِّ" (1). وجوَّز أبو عُبَيْدَةَ (2) أن يكونَ بمعنى الكلِّ، كما جوَّزَ ذلك في الأكثر، فالأوَّلُ كقوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]، والثاني كقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: [الشعراء: 223]،، ولا دليلَ له في ذلك؛ لأن قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من خطاب التلطُّف والقول اللَّيِّن، وأما: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فلا يمنع أن يكون فيهم من يصدقُ في كثير من أقوالِه (3). إذا عرف هذا فقالت طائفةٌ: "البعضُ" للجزء القليلِ والكثيرِ والمساوي، وفي هذا نظرٌ؛ إذ إطلاق لفظِ "بعض العشرة" على التسعة منها يحتاجُ إلى نقلٍ واستعمال، والظاهرُ: أنه قريبٌ من البضْع معنىً، كما هو قريبٌ منه لفظًا، وليس في عرفِ اللغة والتَّخاطب إَذا قال: "خذ بعض هذه الصبرة" أن يأخذها كُلَّها إلَّا حفنةً منها، ولا لمن يجيئُك في أيامِ الشهر كلِّها إلّا يومًا واحدًا: "هو يجيءُ في بعض أيام الشهر". * قال أحمدُ في: رواية حنبل: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: "لا طَلاقَ ولا عَتَاقَ فِي إِغْلاقٍ" (4) يريد: الغضبَ (5). __________ (1) انظر "لسان العرب":. (7/ 119). (2) في "مجار القرآن": (2/ 205)، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن": (15/ 200 - 201)، و "اللسان": (7/ 119). (3) (ق وظ): "أحواله". (4) أخرجه أحمد: (6/ 276)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357) وغيرهم. وصححه الحاكم. (5) انظر: "طلاق الغضبان": (ص/27 - 28)، و"زاد المعاد": (3/ 599)، و"إعلام الموقعين": (2/ 175، 3/ 52).

(4/1518)


وقال في رواية أبي داود (1): حديث رُكُانَةَ لا يثبتُ أنه طلَّقَ امرأتَهُ ألبتَّةَ؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَيْن، عن عِكْرمَةَ، عن ابن عباس: أن رُكَانَةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا (2)، وأهل المدينة (3) يسمُّون ثلاثًا ألبتة. وقال (ظ/ 249 أ)، في رواية أحمد بن أصرم: أن أبا عبد الله سُئِلَ عن حديث رُكُانَةَ في ألبتَّةَ؟ فقال: ليس بشيء. وقال في رواية أبي الحارث في رجل غَصَب رجلًا على امرأتِهِ فأولدها، ثم رجعَتْ إلى زوجها وقد أولدَها: لا يلزْمُ زوجَها الأولادُ، وكيف يكون الولدُ للفراشِ في مثل هذا؟! وقد عُلم أنَّ هذه في منزلِ رجلٍ أجنبيٍّ، وقد أولدها في منزلِهِ، إنما يكون الولَدُ للفراشِ إذا ادَّعاه الزَّوْجُ، وهذا لا يَدَّعِي فلا يلزمُهُ. * قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور: إذا زوَّج السَّيِّدُ عبدَهُ من أَمَتِهِ ثم باعها: يكونُ بيعُها طلاقَها، كقول ابن عباس. وروايةِ أكثرِ أصحابهِ (ق/ 359 ب) عنه: لا يكون طلاقًا. وقال أحمد في رواية أبي طالب: لا أعلمُ شيئًا يدفعُ قولَ ابنِ عباس وابن عُمَرَ (4) وأحدَ عَشَرَ من التابعينَ، منهم (5): عطاءٌ ومجاهدٌ __________ (1) "المسائل" رقم (1129). (2) أخرجه أحمد: (4/ 215 رقم 2387). (3) في بعض نسخ "المسائل": "أهل الذمة"، ثم قال أحمد بعدها: "والروافض يكون إذا طلَّقها ثلاثًا أنها واحدة أو ليس بشيء" اهـ. (4) قال في "المغني": (9/ 474): "ولا نعلم لهما مخالفًا". (5) من (ظ).

(4/1519)


وأهل المدينة على تَسَرِّي العبدِ، فمن أحتجَّ بهذه الآيةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] وأيُّ ملك للعبد؟ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالمَالُ لِلسَّيِّدِ" (1)، جعل له مالًا هذا يُقَوِّي التَسَرِّيَ. وابن عباس وأبنُ عمر أعلمُ بكتاب الله ممن احْتَجَّ بهذه الآية؛ لأنهم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُنْزلَ القرآنُ على رسَولِ الله، وهم يعلمون فيما أُنْزِل، قالوا: يَتَسَرَّى العبدُ. إذا ثَبَت هذا؟ فقد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم (2): يَتَسَرَّى العبدُ في مالِه، هو مالُه ما لم يأخُذْه سيِّدُهُ منه. (ق/359 أ) وقال في رواية جعفر بن محمد وحرب: ليس للسَّيِّدِ أن يأخذ سُرِّيَّةَ العبدِ إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإن تَسَرَّى بغيرِ إذنه أخذَها منه، وإذا باع العَبْدَ وله سُرِّيَّة هي لسيِّدهِ ولا يُفَرَّقُ بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأة. فقد فرَّق أحمدُ بين أن يبيعَ العبدَ فتكون السُّرِّيَّةُ للسَّيِّد، ولا يفرَّقُ بينَها وبين العيد، وعلَّل بأنها بمنزلةِ الزوجةِ، وبينَ أن يبقى العبدُ على ملكِه، فليس له أخذ السُّرِّيَّةِ منه إذا أذِن له، كما لو أذِن له في التّزويج، ليس له أن يفرِّقَ بينه وبين امرأتِه وكلا النَّصَّينِ مسكلٌ (3)، وله فقهٌ دقيق (4). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2379)، ومسلم رقم (1543) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (2) "المسائل": (2/ 219)، وانظر "رواية الكوسج": (1/ ق 155) (3) (ق): "ولكن التسرِّي". (4) تقدم البحث في هذه المسألة مع فقهها: (4/ 1481 - 1483).

(4/1520)


* وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوَّجَ الحُرَّةَ على الأمَةِ يكونُ طلاقًا للأمَةِ، لحديث ابن عباس. قال أبو بكر: مسألة ابن منصور مفردةٌ. في وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوَّجَ امرأةً فشرطَ أن لا يبيتَ عندَها إلَّا ليلةَ الجُمُعَةِ، فإنْ طالَبَتْهُ، كان لها المقاسَمَةُ. وإنْ أعْطَتْهُ مالًا واشتَرَطَتْ عليه أن لا يَتَزَوَّجِ عليها، يَرُدُّ عليها المالَ إذا تَزَوَّجَ. ولو دفعَ إليها مالًا على أن لا تَتَزوَّجَ بعد موتِه فتزوَّجَتْ، ترُدُّ المالَ إلى وَرَثَتِهِ. * وقال في رواية أحمد بن القاسم: الأَمَةُ إذا كان زوجُها حرًّا فعَتَقَتْ، فلا خيارَ لها؛ لأن الحديث عندنا: أن زوجَ بَريرةَ كان عبدًا (1)، فأجعلُ الروايةَ هكذا ولا أزيلُ النكاح إلاّ في الموضِع الذي أزالته السُّنَّةُ، وهذا ابن عباس وعائشة يقولون: إنه عبدٌ وعليه أهلُ المدينة وعملُهم، وإذا روى أهلُ المدينة حديثًا وعَمِلوا به فهو أصحُّ ما يكونُ، وليس يصِخُ أن زوجَ بَرِيرَةَ كان حرًّا إلاّ عن الأسودِ وحدَه، وأما غيرُه فيقولُ: إنه عبدٌ (2). * قال أحمد في رواية حنبل: لا يكنِّي ولدَه بأبي القاسم؛ لأنه يُرْوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عنه. وقال في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن الحديث: "تَسَمَّوْا __________ (1) قصّة بريرة أخرجها البخاري رقم (456)، ومسلم رقم (1504) وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (2) انظر كلام أحمد بنصِّه في "المغني"، (10/ 70)، لكن قال في آخره بحد الحكاية عن الأسود: "فأما غيره فليس بذاك".

(4/1521)


بِاسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بكُنْيَتي" (1): هو أن يجمعَ بين اسمِهِ وكُنيتِهِ أو يُفْرِدَ أَحدَهما؟ فقال: أكَثر (2) الحديث: "تَسَمَّوا باسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي"، وهذا موافق لرواية حنبل. * وقال ابن منصور (3): قلت لأحمدَ؛ تُكَنَّى المرأةُ؟ قال: نعم، عائشةُ كناها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّ عبدِ الله (4). وقال في روايته (5) أيضًا: عُمَرُ كَرِهَ أن يُكْنَى بأبي عيسى. وقال في رواية حنبل: لا بأس أن يُكْنَى الصَّبِيُّ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبا عُمَيْر" (6)، وكان صغيرًا. * وقال في رواية (ظ/249 ب) الأثرم وسُئِلَ عن الرجل يُعْرَفُ بلقبِه؟ قال: إذا لم يُعْرفْ إِلَّا به، قال أحمد: الأعمشُ إنما يعرفُهُ الناسُ هكذا، فسَهَّل في مثل هذا إذا كان قد شُهِر به (7). * وقال ابن منصور: قلت لأحمد: رجلٌ نَذَرَ أن يذبحَ نفسَهُ؟ قال: يفدي نفسَهُ، إذا أحَنَثَ يذبَحُ كبشًا. قال إسحاق: كما قال: __________ (1) أخرجه البخاري رقم (110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) (ع وظ): "آخر". (3) "المسائل": (2/ ق 211). (4) أخرجه أحمد: (6/ 107)، وأبو داود رقم (4970) من حديث عائشة -رضي ألله عنها-. (5) "المسائل": (2/ق 211). (6) أخرجه البخاري رقم (6129)، ومسلم رقم (2150) من حديث أنس -رضي الله عنه-. (7) ونحوه في "مسائل أبي داود" رقم (1829).

(4/1522)


* وقال أيضًا (1): قلت لأحمد: من ماتَ ولم يَحُجَّ فهو من جميع المالِ؟ قال: إذا كان له مالٌ كثيرٌ، واجبٌ على الوَرثَةِ أن يُنْفِذوا ذاك، وأما إذا كان مالٌ قليلٌ فإنما هو شيءٌ ضيَّعه، ليس هذا مِثل الزكاةِ. وقال أيضًا: قلت له: طَوَاف المَكِّيِّ قبلَ المعَرَّف (2)، قال أحمدُ: لا يخرجُ من مكّةَ حتى يُوَدِّعَ البيتَ. * وقال أحمد في رواية ابن منصور (3): يكرهُ أن يقولَ للرجل: جعلني الله فِداك، ولا بأس أن يقول: فِدَاكَ أبي وأمي. * وقال مهنَّا (4): سألت أبا عبد الله عن المرأةِ تنامُ على قفاها؟ فقال: يُكْرَهُ لها ذلك، قلت: فإذا ماتَتْ فكيف يصنعون في غسلِها؟ فقال: إنما كُرِهَ لها أن تَنَامَ على قَفاها (5) في حياتِها، وليس ذلك في الموتِ. * وقال في رواية ابن منصور (6): يكرهُ الجلوسُ بين الشمسِ والظِّلِّ أليس قد نهى عنه! وقال إسحاق ابن راهَوَيه: قد صحّ الخبرُ فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7)، ولكن لو ابتدأ وجَلَسَ فيه كان أهونَ. __________ (1) "المسائل": (2/ ق 215). (2) أي: قبل الوقوف بعرفة. "مختار الصحاح": (ص/179). (3) "المسائل": (2/ ق 212)، وتقدم بنصه (4/ 1435). (4) وهو -أيضًا- بنصِّه في "مسائل الكوسج": (2/ ق 210). (5) من قوله: "فقال: يكره ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (6) "المسائل": (2/ق 210). (7) أخرجه أحمد: (14/ 531 رقم 8976)، وأبو داود رقم (2822)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. والحديث له طرق يقوي بعضها بعضًا.

(4/1523)


* وقال في رواية أبي طالب (1)، وسألته يكَنِّي الرجلُ أهل الذِّمَّةِ؟ فقال: قد كنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُسْقُفَّ نجرانَ، وعمرُ قال: يا أبا حسَّان. لا بأسَ به. * وقال فى رواية: يعقوب بن بُخْتان وسأله عن النُّورة والحِجَامِةِ [يوم الأربعاء] (2)؟ فكَرِهَها (3)، قال: وبلغني عن رجلٍ أنه تنَوَّرَ واحتجمَ فأصابه المرضُ قلت: كأنه تَهَاوَنَ؟ قال: نعم. * وقال في رواية: مهنَّا في الرجلِ تأتيه المرأةُ المسحورةُ فيطلقُ عنها السِّحْرَ؟ قال: لا بأس. وحدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّةَ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتَادَةَ، قال: سألت سعيد بن المسَيِّب عن المرأة تأتي الرجلَ فيطلقُ عنها السِّحْرَ، فقال: لا بأس (4). فقلت لأحمد: أُحَدِّثُ بهذا عنك؟ قال: نعم (5). وقال في رواية المرُّوْذِيِّ (6): حُمِمْتُ فكتب لي من الحُمَّى: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم اللهِ وباللهِ، ومحمدٌ رسولُ الله، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69 - 70] اللَّهمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ اشْفِ صاحِبَ __________ (1) ومثله في رواية ابن هانئ: (2/ 180)، والكوسج: (2/ ق 210). (2) (ق): "والارتقاء"، و (ع وظ): "والأربعاء"، والتصويب من "زاد المعاد": (4/ 60)، فقد نقل الرواية عن الخلال بسنده إلى يعقوب. (3) (ق): "فكرهها". (4) علق البخاري نحوه عن سعيد، "الفتح": (10/ 243)، وذكر الحافظ أن الأثرم وصله في "السنن" والطبري في "التهذيب". (5) قال الحافظ: وقد سئل أحمد عمن يطلق السحرَ عن المسحور؟ فقال: لا بأس به. (6) وذكره المصنف أيضًا: في "زاد المعاد": (4/ 356 - 357).

(4/1524)


هذا الكتابِ بحوْلِكَ وقُوَّتِكَ وجَبَريَّتِكَ (1) إلهَ الحقِّ آمينَ. وقال في رواية عبد الله (2): يُكتبُ للمرأةِ إذا عَسُرَ عليها الولادةُ في جامٍ (3) أو شيءٍ نظيفٍ (4): لا إلهَ إلاّ اللهُ الحليمُ الكريمُ، سبحانَ اللهِ ربِّ العرشِ العظيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} (5) {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، ثم تُسْقَى ويُنْضحُ بما بَقِي دونَ سُرَّتِها (6). وقال في رواية الكوسج: يُكْرَهُ التَّفْلُ في الرُّقْيَةِ ولا بأسَ بالنَّفْخ. وقال في رواية صالح (7): الحُقْنَةُ إذا كانت لضَرورةٍ فلا بأس. وقال في رواية المرُّوْذيِّ: الحقنة إن اضْطُرَّ إليها فلا بأسَ، قال المرُّوْذي: ووُصِفَ لأبي عبد الله ففعل. * وقال إسحاق بن هانئ (8): رأيتُ أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلِّي حتى يعلم أن الشمسَ قد قاربتْ أن تزوْلَ، فإذا قاربَتْ أمسكَ عن الصَّلاة (ق/360 أ) حتى يؤذِّن المؤذِّنُ، فإذا أخذ في الأذانِ __________ (1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): "وحرمتك"! و"الزاد": "وجبروتك". (2) "المسائل" رقم (1865، 1866). (3) الجام: إناء من فضة. (4) كذا في (ع وظ)، و (ق والمسائل): "لطيف". (5) هذه الآية ليست في "مسائل عبد الله". (6) وهذه الرقية مروية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجها ابن أبي شيبة: (5/ 39)، والسهمي في "تاريخ جرجان": (ص/228). ولها شاهد عن أنسٍ أخرجه الطبراني في "الأوسط": (3/ 358). (7) لم أجده في المطبوعة. (8) "المسائل": (1/ 88).

(4/1525)


قام فصلَّى ركعتين أو أربعًا، يفصِل بينهما بالسَّلام، فإذا صلَّى الفريضةَ انتظر في المسجدِ، ثم يخرجُ منه، فيأتي بعضَ المساجد التي بحضرةِ الجامعِ، فيصلِّي فيه في ركعتين، ثم يجلسُ، وربما صلَّى أربعًا، ثم يجلسُ، ثم يقومُ فيصلِّي ركعتينِ أُخَر، فتلك ستُّ رَكَعَاتٍ على حديث عليٍّ (1). فائدة (2). ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاءَ إنما (ق/353 أ) يحصلُ باستيفاء الدَّيْنِ، بسبب أن الغريمَ إذا قبضَ المالَ صار في ذمَّتِهِ للمَدِينِ مِثْلُهُ، ثم يقغ التَقاصُّ منهما (3)، والذي أوجبَ لهم هذا. إيجابٌ المماثلةِ بينَ الواجبِ ووفائه ليكونَ قد وفى الدَّيْنَ بالدَّيْنِ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4): وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهورُ الفقهاء، وقالوا: بل نفسُ المال الذي قبضه يحصلُ به الوفاءُ، ولا حاجةَ إلى أن يقَدِّروا في ذمَّةِ المستوفي دينًا، والدَّيْنُ في الذِّمَّةِ من جنس المطلَقِ الكُلِّيِّ، والمعينُ من جنسِ المعينِ الجزئيِّ، فإذا ثبتَ في ذمَّتِهِ دَيْنٌ مطلَقٌ كلِّيٌّ، كان المقصودُ منه الأعيانَ الشخصيَّةَ الجزئيَّةَ، فأيُّ معيَّنٍ استوفاه حَصَلَ به مقصودُهُ لمطابَقَتِهِ للكُلِّي مطابقةَ الأفراد الجزئيَّةِ. __________ (1) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 247). وبعده في "المسائل": "وربما صلى بعد الست ستًّا أخرى أو أقل أو أكثر". (2) (ق): "مسألة". (3) (ق): "بينهما". (4) في "مجموع الفتاوى": (20/ 513).

(4/1526)


فائدة (1) قال أحمدُ في رواية صالح (2) في المُضَارِبِ إذا خالفَ فاشترى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحبُ المالِ: فالرِّبْحُ لصاحبَ المالِ، ولهذا أجرةُ مِثْلِهِ، إلَّا أن يكونَ الرِّبْحُ محيطًا بأجرةُ مِثلِهِ (ظ/ 250 أ) فيذهبَ. قال: وكنت أذهبُ إلى أن الرِّبْحَ لصاحبِ المالِ، ثم استحسَنْتُ. وقال في رواية الميمونيِّ: استحسنُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لكلِّ صلاة، ولكن القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحْدِثَ، أو يَجِدَ الماءَ. وقال في رواية المرُّوْذيِّ: يجوزُ شراءُ أرض السَّوادِ، ولا يجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملكُ؟ فقال القياسُ كما تقولُ، ولكن هو استحسانٌ. وأحتجَّ بأن أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شراء المصاحفِ وكَرِهوا بَيْعَها، وهذا يشبِهُ ذاك. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غَصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزَّرْعُ لرَبِّ الأرضِ وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئًا يوافِقُ القياسَ، اسْتَحسِنُ أن يدفعَ إليه نَفَقَتَهُ. وقال في رواية أبي طالب: أصحابُ أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا وَنَدَعُ القياسَ، فَيَدَعُون الذي يزْعُمُونَ أنه الحقُّ بالاستحسانِ. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (3). __________ (1) (ق): "مسألة"، وهذه الفائدة نقلها المصنف من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "قاعدة في الاستحسان": (ص/50 - 67). (2) رقم (377) بنحوه. (3) هذه النصوص عن أحمد انظرها في "العدة": (4/ 1604 - 1605)، و"التمهيد": (4/ 87) لأبي الخطاب.

(4/1527)


فقال القاضي (1): ظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسانِ، وأنه لا يجوزُ قياسُ المنصوصِ عليه على المنصوص عليه. وجعل المسألة على روايتينِ، ونَصَرَ هو وأتباعُه روايَةَ القولِ بالاستحسان، ونازعهم شيْخُنا في مراد أحمد من كلامه، وقال (2): "مُرَادُهُ أني أستعملُ النصوصَ كلَّها ولا أقيسُ على أحد النَّصَّيْنِ قياسًا يعارضُ النَّصَّ الآخَرَ، كما يفعلُ من ذكره، حيث يقيسونَ على أحد النَّصَّيْنِ، ثم يستثنونَ موضعَ الاستحسانِ إما لنصٍّ أو لغيره (3)، والقياسُ عندَهم موجبُ العِلَّةِ (4)، فينقضونَ العِلَّةَ التي يدَّعُونَ صِحَّتَها مع تساويها في مَحَالِّها. وهذا من (ق/353 ب) أحمد بَيِّنٌ أنه يوجبُ طرد العلَّةِ الصحيحة، وأن انتقاضَها مع تساويها في محالَّها يوجبُ فسادَها، ولهذا قال: "لا أقيسُ على أحد النَّصَيْنِ قياسًا ينقضُهُ النَّصُّ الآخَرُ". وهذا مثلُ حديث أم سَلَمَة عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ، فلا يَأَخُذْ مِنْ شَعَرِهِ، وَلا مِنْ بَشَرَتهِ شَيْئًا" (5)، مع حديث عائشةَ: "كنت أَفْتِلُ قلائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يَبْعثُ به وهو مقيمٌ، ثم لا يحرُمُ عليه شيءٌ مما يَحْرُمُ على المُحْرِم" (6). والناسُ في هذا على ثلاثةِ أقوال: __________ (1) يعني: أبا يعلى فى كتابه "العدة فى أصول الفقه": (4/ 1605). (2) "قاعدة في الاستحسان": (ص/51). (3) (ق وظ): "إما النص أو غيره". (4) "القاعدة": "يوجب العلة الصحيحة". (5) أخرجه مسلم رقم (1977). (6) أخرجه البخاري رقم (1696)، ومسلم رقم (1321).

(4/1528)


منهم: من يُسَوِّي بين الهَدْى والأُضْحِيَة في المنع، ويقول: إذا بعثَ الحلالُ هَدْيًا صارَ مُحْرِمًا، ولا يحلُّ حتى يَنْحَرَ، كما روي عن ابن عباس (1) وغيره. ومنهم: من يُسَوِّي بينهما في الإذْنِ، ويقول: بل المضحِّي لا يمنعُ عن شيء كما لا يُمْنَعُ باعثُ الهدي، فيقيسونَ على أحد النَّصَّينِ ما يعارضُ الآخَرَ. وفقهاء الحديثِ كيحيى بن سعيد (2) وأحمد بن حنبل وغيرهما عملوا بالنَّصَّينِ، ولم يقيسوا أحدَهما على الآخَرِ. وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاءِ الحديثِ، لما أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُصَلِّيَ الناسُ قعودًا إذا صلَّى إمامُهم قاعدًا (3)، ثم لما افتتحوا الصلاة قيامًا أتَمَّها بهم قيامًا (4)، فعمِلَ بالحديثينِ، ولم يَقِسْ على أحدِهما قياسًا ينقضُ الآخَرَ ويجعلُهُ منسوخًا كما فعلَ غيرُهُ. قلت: وكذلك فَعَل في حديث الأمْرِ بالوضوءِ من لُحومِ الإبِلِ (5)، وتركِ الوضوءِ مما مَسَّتِ النارُ (6)، عمل بهما، ولم يقسْ على أحدِهما قياسًا يُبْطِلُ الآخَرِ ويجعلُه منسوخًا. __________ (1) انظر "السنن الكبرى": (5/ 234) للبيهقي. (2) في "القاعدة" زاد: "والشافعي". (3) أخرجه البخاري رقم (689)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (687)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (5) أخرجه مسلم رقم (360) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-. (6) أخرجه البخاري رقم (207)، ومسلم رقم (354) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(4/1529)


وكذلك فَعَل في أحاديثِ المستحاضَةِ ونظائرها. ثم القائلون بالاستحسانِ، منهم من يقول. هو تركُ الحكم إلى حكمٍ أولى منه، ومنهم من يقولُ: هو أولى القياسَيْنِ. وقال القاضي (1): "الحُجَّةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ هي الكتاب تارةً ع والسُّنَّةُ تارةً، والإجماع تارةً، والاستدلالُ بترجُّحِ بعضِ (2) الأصول على بعض. فالاستحسانُ لأجل الكتاب: كما في شهادة أهل الذِّمَّةِ على المسلمينَ في الوَصِيَّةِ في السَّفَر إذا لم نَجِدْ مسلمًا (3). ومما قلنا فيه بالاستحسانِ للسُّنَّةُ: فيمن غصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزرعُ لرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحبِ الأرضِ النفقةُ؟ لحديث رافع بن خَدِيجٍ (4)، والقياس أن: يكونَ الزَّرْعُ لزارِعِهِ. ومما قلنا فيه بذلك للإجماعِ: جوازُ سَلَمِ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ في الموزونات، والقياسُ أن لا يجوزَ ذلك؛ لوجود الصِّفَةِ المضمومة إلى __________ (1) في "العدة": (5/ 1617 - 1609). (2) في "القاعدة والعدة": "بترجّحِ شَبَهِ بعض ... ". (3) في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة/ 106]. (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من زرع في أرضِ قوم فالزرع لربّ الأرض وله نفقته" أخرجه أحمد: (25/ 138 رقم 15821)، وأبو داود رقم (3403)، والترمذي رقم (1366)، وابن ماجه رقم (2466) وغيرهم. قال الترمذي: "حسن غريب"، وانظر "الإرواء": (5/ 351).

(4/1530)


الجنسِ، وهي الوَزْنُ، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع". انتهى (1). (ظ/250 ب) قال شيخُنا (2): ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأُجْرَةَ مُرْضِعَتِهِ على أبيه دونَ أمِّه (ق/354 أ) بالنَّصِّ والإجماع. قلت: إلا خلافًا شاذًّا في مذهبِ أبي حنيفةَ وغيرِه، بإيجابِها على الأبوينِ كالجَدِّ والجَدَّةِ. وكذلك يقولون: إجارةُ الظِّئْرِ ثابتةٌ بالنَّصِّ والإجماعِ، على خلافِ القياسِ. والاستحسانُ يرجِعُ إلى تخصيص العِلَّة، بل هو نفسه، كما قاله أبو الحسينُ البصريُّ (3)، والرازيُّ (4)، وغيرهُما، والمشهور عن الشافعيَّةِ منع تخصيصِها، وعن الحنفيَّة القولُ بتخصيصِها، ولأصحابِ أحمد قولانِ، وحُكِيتا روايتينِ عن أحمد، وحُكِيَ تخصيصُ العِلَّةِ مذهبُ الأئمة الأربعة، وهو الصَّوابُ. والقاضي وابن عَقِيل يمنعون تخصيصَ العِلَّةِ، مع قولِهم بالاستحسانِ، وأبو الخطّاب يختارُ تخصيصَ العِلَّة مع قوله بالاستحسانِ (5). وفرَّقَ القاضي بين التَّخصيص والاستحسانِ: بأن التَّخصيصَ منعُ العلَّة عملَها في حكم خاصٍّ، والاستحسانُ تركُ قياسِ الأصولِ للنُّصوصِ (6)، __________ (1) يعني كلام القاضي. (2) "القاعدة": (ص/60). (3) في "المعتمد": (3/ 839). (4) يعني: أبا بكر الجصاص الرازي الحنفي في كتابه "الفصول في الأصول": (2/ 351). (5) "التمهيد": (4/ 69). (6) (ق): "المنصوصة".

(4/1531)


أي: مخالفة القياس لأجل النَّص، كما فى شهادةِ أهلِ الذمَّةِ، وإجارة الظِّئرِ، وإعطاء الزَّرع: لمالك الأرض، ونظائره، كحملِ العاقلةِ دِيَةَ الخطأ. * * *

(4/1532)


فصولٌ عظيمة النفع جداً في إرشاد القرآن والسُّنّة إلى طريق المناظرة وتصحيحها، وبيانِ العلل المؤثِّرة، والفروق المؤثرة، وإشارتهما (1) إلى إبطال الدَّوْر والتَّسلسل بأوجزِ لفظٍ وأبينِهِ (2)، وذِكْر ما تضمَّناه من التَّسوية بينَ المتماثلين، والفَرق بين المختلفين، والأجوبة عن المعارضاتِ، وإلغاء ما يجبُ إلغاؤُه من المعاني التي لا تأثيرَ لها، واعتبار ما ينبغي اعتبارهُ، وإبداء تناقض المبطِلِينَ في دعاويهم وحُجَجِهم، وأمثال ذلك. وهذا من كنوزِ القرآن التي ضلَّ عنها أكثرُ المتأخرين، فوضعوا لهم شريعةً جَدَلِيَّةً، فيها حقٌ وباطلٌ، ولو أَعْطَوُا القرآنَ حَقَّهُ لرَأَوْهُ وافياً بهذا المقصودِ كافياً فيه، مُغْنِياً عن غيره. والعالِمُ عن الله (ق/ 360 ب) مَنْ آتاه الله (3) فَهماً في كتابهِ. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أوَّلُ من بيَّنَ العللَ الشرعيَّةَ والمآخِذَ، والجمعَ والفَرْقَ، والأوصافَ المعتبرةَ والأوصافَ الملغاةَ، وبيَّنَ الدَّورَ والتَّسلسُلَ وقطعهما. فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئِل عن البعيرِ يجربُ، فتجربُ لأجلِهِ الإبلُ، فقال، "مَنْ أعْدَى الأوَّلَ" (4)، كيف اشتملتْ هذه الكلمةُ الوجيزةُ المختصرةُ البينَةُ على إبطال الدَّوْر والتَّسلسل، وطالما تَفَيْهق __________ (1) (ع): "وإشارتها" (2) (ع): "وأثبته". (3) "من آتاه الله" سقطت من (ع). (4) أخرجه البخاري رقم (5717)، ومسلم رقم (2220) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(4/1533)


الفيلسوف وتَشَدَّقَ المتكلِّمُ وقرَّر (1) ذلك -بعد اللَّتَيًّا والَّتي- في عدَّةِ ورقاتٍ، فقال مَنْ أوتي جوامِعَ الكَلِمِ: "فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ"، ففَهِم السامِعُ من هذا: أن إعداءَ الأوَّلِ إن كان من إعداءِ غيرِه له، فإن لم ينتَهِ إلى غايَة فهو التَّسلسلُ في المؤثِّرات، وهو باطلٌ بصريحِ العقل، وإن انتهى إلى غايةٍ. وقد استفادَتِ الجَرَبَ من إعداءِ مَن جرب به له، فهو الدَّوْرُ الممتنعُ. وتأمل قوله في قصة ابن اللُّتْبيَّةِ: "أفَلا جَلَسَ في بيتِ أبيهِ وأمَّهِ، وَقالَ: هَذا أُهْدِيَ لِي" (2)، كيفَ يجدُ تحتَ هذه الكلمةِ الشريفة أن الدَّوَرَانَ يُفيدُ العِلِّيَّةَ، والأصوليُّ ربما كدَّ خاطِرَهُ حتى قرَّر ذلك بعد الجهد، فدلَّت هذه الكلمةُ النبوية على أن الهديةَ لما دارَت مع العمل وجودًا وعدمًا كان العمل سَبَبَها وعِلَّتها؛ لأنه لو جلسَ في بيتِ أبيه وأُمِّه لانتفتِ الهديَّةُ، وإنما وُجِدت بالعملِ فهو عِلَّتها. وتأملْ قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللُّقَطَةِ، وقد سُئِل عن لُقَطَةِ الغنم فقال: "إنَّما هِى لَكَ أو لأخِيْكَ أو للذِّئْب"، فلما سئل عن (ظ /251 أ) لُقَطَةِ الإبلِ غْضبَ، وقال: "ما لَك ولَها، مَعَها حِذاؤُها وسِقاؤها، تَرِدُ الماءَ وتَرعَى الشَّجَرَ" (3)، ففرَّق بين الحُكْمَينِ باستغناءِ الإبل واستِقلالها بنفسِها، دونَ أن يُخاف عليها الهَلَكَةُ في البرِّيَّة، واحتياج الغنم إلى راعٍ وحافظٍ، وأنه إن غابَ عنها، فهي عُرضَةٌ للسِّباع بخلاف الإبل، __________ (1) (ع): "وقرب". (2) أخرجه البخاري رقم: (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-. (3) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -.

(4/1534)


فهكذا تكون الفروقُ المؤثِّرَة في الأحكام لا الفروقُ المذهبيةُ التي إنما يفيدُ ضابط المذهب. وكذلك قوله في اللَّحم الذي تُصُدِّق به على بَرِيرَةَ: "هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولنا هَدِيةٌ" (1)، ففرَّقَ في الذاتِ الواحدةِ، وجعل لها حكمينِ مختلفينِ باختلافِ الجهتين؛ إذ جهةُ الصَدَقةِ عليها غير جهة الهديَّة منها. وكذلك الرجلانِ اللذانِ عَطَسا عند النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فشمَّتَ أحَدَهما ولم (ق/ 361 أ)، يُشَمِّتِ الآخَر، فلما سُئِلَ عن الفرق أجاب: "بأن هذا حَمِدَ الله، والآخر لم يَحَمدْهُ" (2)، فدلَّ على أن تفريقَهُ في الأحكام لافتراقها في العلل المؤثِّرَةِ فيها. وتأمَّلْ قوله - صلى الله عليه وسلم - في المَيْتَةِ: "إنما حَرُمَ منها أَكْلها" (3)، كيف تضمَنَ التَّفْرِقَةَ بينَ أكلِ اللَّحمِ واستعمال الجلدِ، وبيَّنَ أن النصَّ إنما تناولَ تحريمَ الأكلِ، وهدا تحتَهُ قاعدتانِ عظيمتانِ: إحداهما. بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ المضافانِ إلى الأعيانِ غيرُ مجمل، وأنه (4) مُراد به من كل عينٍ ما هي مهيَّأة له. وفي ذلك الرَّدُ على من زَعَمَ أن ذلك مُتضمِّنٌ لمضمرٍ عامٍّ، وعلى من زعم أنه مجملٌ. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1495)، ومسلم رقم (1074)، من حديث أنس -رضي الله عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (6221)، ومسلم رقم (2991)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري رقم (1492)، ومسلم رقم (363) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (4) (ع): "وأنه غير ... ".

(4/1535)


والثانية: قَطْع إلحاق استعمال الجلدِ بأكلِ اللَّحمِ، وأنه لا يصحُّ قياسُه عليه، فلو أن قائلًا قاله: وإن دلَّتِ الآيةُ على تحريم الأكل وحدَه، فتحريم ملابَسَة الجلدِ قياسًا عليه، كان قياسُه باطلًا بالنَّصِّ؛ إذ لا يلزمُ من تحريمِ الملابسةِ الباطِنةِ بالتَعَدي تحريمُ ملابَسَةِ الجلدِ ظاهراً بعد الدِّباغِ. ففي هذا الحديثِ: بيان الموادِ من الآيةِ، وبيان: فسادِ إلحاقِ الجِلْد باللَّحم. وتأمَّلْ قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي النعمان بن بَشِير وقد خصَّ ابنَهُ بالنُخل: "أَتحِبُّ أنْ يَكُونْوا في البِرِّ سَواءً" (1)؟ كيف تجدُهُ مُتَضَمِّنا لبيانِ الوصف الدَّاعي إلى شرع التَسْوِيَةِ بينَ الأولاد، وهو العَدلُ الذي قامتْ به السمواتُ والأرضُ، فكما أنك تحِبُّ أن يستووا في بِرِّكَ، وأنْ لا ينفردَ أحدُهم ببِرِّكَ وتُحرَمَهُ من الآخَرِ، فكيف ينبغي أن تُفرِدَ أَحَدَهما بالعَطِيَّة وتَحْرِمَها الآخرَ؟!. وتأمَّل قولَه - صلى الله عليه وسلم - لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب، فقال: "وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطْلَعَ على أهْلَ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئتم، فَقَدْ غفرتُ لَكُمْ" (2)، كيف تجدُهُ متضمِّنا لحكم القاعدةِ التي اختلفَ فيها أربابُ الجدَلِ والأصوليُّون، وهي: أن التعليلَ بالمانِع هل يفتقرُ إلى قيامِ المقتضي، فعلَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عصمةَ دمِهِ بشهودِه بَدراً دونَ الإِسلام العامَّ، فدلَّ على أن مُقْتضى قتلِهِ كان قد وُجِدَ وعارَض سببَ العصمةِ، __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-. (2) تقدم تخريجه (3/ 1037).

(4/1536)


وهو الجسُّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنْ عارضَ هذا المقتضي مانعٌ (1) مَنَعَ من تأثيرِهِ وهو شهوده بدرًا، وقد سَبقَ من الله مغفرتهُ لمن شَهدَها. وعلى هذا؛ فالحديث حجَّةٌ لمن رأى قتلَ الجاسوسِ (2)؛ لأنه ليس ممَّنْ شَهِدَ بدرًا، وإنما امتنعَ قتلُ حاطب لشهودِهِ بدراً. ومن ذلك: قولُه - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ وقد سأله عن القبْلة للصّائم، (ق/ 361 ب) فقال: "أرأيْت لو تَمضمَضتَ" (3) ... الحديث، فتحتَ هذا إلغاءُ الأوصافِ التي لا تأثيرَ لها في الأحكام، وتحتهُ تشبيهُ الشيءِ بنظيرِهِ وإلحاقُهُ به، وكما أنَّ الممنوعَ منه الصائمُ إنما هو الشُّربُ لا مُقَدمَتهُ، وهو وضع الماء في الفمِ، فكذلك الذي مُنِعَ، إنما هو الجِماعُ لا مُقَدِّمَتُهَ وهي القُبْلَة، فتضمَّنَ الحديثُ قاعدتينِ عظيمتينِ كما ترى. (ظ/251 ب) ومن ذلك: قولُه - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئلَ عن الحج عن الميت؟ فقال للسائل: "أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أكنْتَ قاضِية؟ " قال: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقّ أنْ يُقْضَى" (4) فتضمَّنَ هذا الحديثُ بيانَ قياس الأوْلى، __________ (1) (ق وظ): "مانعاً"!. (2) في هامش (ق) تعليق أظنه بخط ابن حميد النجدي، قال: "لا حجة فيه؛ لأن التجسُّس على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كالتجسس على غيره" أهـ. وفي هذا التعليق نظر من جهة أن الجاسوس لا يُقتل باعتبار جسه على شخص بعينه، ولكن باعتبار جسِّه على المسلمين لصالح الكفار. (3) أخرجه أحمد: (1/ 286 رقم 138)، وأبو داود رقم (2385)، وابن خزيمة رقم (1999)، وابن حبان "الإحسان": (8/ 314). وغيرهم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. (4) أخرجه البخاري رقم (1953)، ومسلم رقم (1148) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. ووقع في (ق): "أحق بالقضاء" وهو في بعض روايات الحديث.

(4/1537)


وأن دَيْنَ المخلوقِ إذا كان يقبل الوفاءَ مع شحَهِ وضيقه، فدَيْنُ الواسع الكريم تعالى أحقُّ بأن يقبلَ الوفاء، ففي هذا أن الحكمَ إذا ثَبَتَ في محلُّ لأمرٍ، وثمَّ محلّ آخَر أولى بذلك الحكمِ، فهو أولى بثبُوته فيِه. ومقصودُ الشارِع في ذلك التنبيهُ على المعاني والأوصافِ المقتضيَةِ لشَرْعِ الحكْم والعِلل المؤثِّرة، وإلا فما الفائدةُ في ذكر ذلك؟ والحكم ثابتٌ بمجرَّد قوله؟! ومن ذلك: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَلحقَ الولدَ في قصة وليدة زَمْعَةَ بعَبْدْ بن زمْعَةَ عملًا بالفِراش القائم، وأَمَر سَوْدَةَ أن تحتجبَ منه (1)، عملاً بالشَبَهِ المعارِض له، فرتَّبَ على الوصْفينِ حكميهما، وجعله أخاً من وجهٍ دونَ وجهٍ. وهذا من ألطفِ مسالكِ الفقهِ، ولا يهتدي إليه إلَّا خواصُّ أهلِ العلمِ والفهم عن الله ورسوله. وتأمل قولَه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد، وقد علَّمهم أن يقولوا: "السلامُ علينا وعلى عباد الله الصّالحين"، ثمَّ قال: "فَإذا قُلْتُمْ ذلِكَ أصابَتْ كُلَّ عبدٍ صالح للهِ في السماءِ والأرض" (2)، كيف قرَّرَ بهذا عمومَ اسم الجمعِ المضاف، وأغنانا - صلى الله عليه وسلم - عن طرق الأصوليين وتَعَسُّفها. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئلَ عن (3) زكاة الحُمر، فقال: "لم يَنزلْ عَلَيَّ فيها إلَّا هذهِ الآية الجامِعَة الفاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} " (4). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2053)، ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (2) أخرجه البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402) من حديث ابن مسعود -رضى الله عنه -. (3) (ق): "قوله عن زكاة ... ". (4) أخرجه البخاري رقم (2371)، ومسلم رقم (987). من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والفاذَّة: أي المنفردة في معناها.

(4/1538)


فسمَّى الآية جامعة أي: عامَّة شاملةً (1)، باعتبار اسم الشرط، فدلَ على أن أدواتِ الشرط للعموم، وهذا في مخاطبتِهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحاورتِهِ أكثرُ من أن يذكرَ، وإنما يجهله من كلامه - صلى الله عليه وسلم - من لم يُحِطْ به علماً. وتأملْ قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي استفتاه عن امرأته، وقد ولدَتْ غلامًا أسودَ، فأنكر ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "ألَكَ إبِلٌ؟ " قال: نعم، قال: "فَما ألْوانُها"؟ قال: سُوْدٌ، قال: "هَلْ فِيها مِنْ أوْرقَ"؟ قال: نعم "قال: "فَأنَّى لهَ ذلِكَ"؟ قال: عسى أن يكونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ، قال: "وهذا عَسَى أنْ (ق / 362 أ)، يكُونَ نَزْعَةَ عِرْق" (2)، كيف تضمَّنَ إلغاء هذا الوصف الذي لا تأثيرَ له في الحكم، وهو مجرَّد اللَّون، ومخالفة الولد للأبوين فيه، وأنَّ مثل هذا لا يوجب ريبةً، وأنَّ نظيرَهُ في المخلوقات مشاهدٌ بالحسَّ، والله خالقُ الإبَلِ وخالقُ بني آدَمَ، وهو الخلَّاقُ العليمُ، فكما أن الجملَ الأورقَ قد يتولَّدُ من بين أبوينِ (3) أسودينِ، فكذلك الولدُ الأسود قد يتولَّدُ من أبوينِ أبيضينِ، وأنَّ ما جوَّزَ به من سبب ذلك في الإبل، هو بعينِهِ قائمٌ في بني آدَمَ. فهذه من أصَحَ المناظرات، والإرشادِ إلى اعتبار ما يجبُ اعتبارُهُ من الأوصافِ، وإلغاءِ ما يجِبُ إِلغاؤُه منهما، وأنَّ حكمَ الشيءِ حكمُ نظيرِهِ، وأنَّ العللَ والمعانيَ حقٌّ شرْعًا وقَدَراً. __________ (1) (ع): "فسمَّى الآية جامعة لهن، عامة شاملة" وهو وجيه. (2) أخرجه البخاري رقم (5305)، ومسلم رقم (1500) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه -. (3) (ع): "ولدين" وكذا ما بعدها.

(4/1539)


فصل وإذا تأملتَ القرآنَ وتدبّرْتَهُ، وأَعَرتَهُ (1) فكرًا وافياً، اطَّلَعْتَ فيه من أسرار المناظرات، وتقرير الحُجَجِ الصحيحة، وإبطال الشُّبَهِ الفاسدَةِ، وذِكْر النقض والفَرْق، والمعارضة والمنع، على ما يَشفي ويَكفي لمن بصَّره اللهُ. وأنعمَ عليه بفهم كتابِهِ. * فمن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12] فهذه مناظرةٌ جرت بين المؤمنين والمنافقينَ، قال لهم المؤمنون: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، فأجابهم المنافقون بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، فكأن المناظرةَ انقطعت بين الفريقين، ومَنَعَ المنافقونَ ما ادَّعى عليهم أهلُ الإيمان من كونهم مُفْسِدِينَ، وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاحٌ لا فسادٌ، فحكَمَ العزيز الحكيمُ بينَ الفريقينِ، بأن أسْجَلَ على المنافقينَ أربع إسجالات: أحدها: تكذيبهم. والثاني: الإخبارُ: بأنهم مفسِدون. والثالث: حصرُ الفسادِ فيهم بقوله: {هُمُ الْمُفْسِدُونَ}. والرابع: وصفهم بغايةِ الجهلِ، وهو أنه لا شعورَ لهم ألبتةَ بكونهم مفسِدِينَ: وتأمَّلْ كيف نفى الشعورَ عنهم في هذا الموضِعِ (2)، ثم نفى عنهم __________ (1) (ق): "واعتبرته"، وتحرفت في (ظ). (2) (ق): "هذه المواضع".

(4/1540)


العلمَ في قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 13]، فنفى علمَهم بسفَهِهم، وشعورَهم بفسادهم، وهذا أبلغُ ما يكون من الذَّمِّ والتَّجهيل: أن يكون الرجل مفسداً ولا شعورَ له بفساده ألبتَّة، مع أن أَثَرَ فساد مشهورٌ في الخارج مَرئيٌّ لعباد الله، وهو لا يشعرُ به، وهذا يدلُّ على استحكامِ الفسادِ في مدارِكِه وطرق علمِهِ. وكذلك كونه سفيهًا، والسَّفَهُ غاية الجهلِ، (ظ/252 أ) وهو مركَّبٌ من عَدَم العلم بما يُصلحُ معاشَة ومعادَهُ، وإرادته بخلافه، فإذا كان بهذِه المنزلةِ، وهو لا يعلم بحالِهِ كان (ق/362 ب) من أَشْقى النَّوْعِ الإنسانيِّ، فنَفْيُ العلمِ عنه بالسَّفَهِ الذي هو فيه، متضمِّن لإثباتِ جهلِهِ، ونفيُ الشعورِ عنه بالفسادِ الواقع منه، متضمنٌ لفساد آلاتِ إدراكِهِ، فتضمَّنتِ الآيتانِ الإسجالَ عليهم بالجهلِ، وفسادَ آلاتِ الإدراكِ، بحيثُ يعتقدونَ الفسادَ صلاحاً، والشَّرَّ خيرًا. وكذلك المناظرة الثانيةُ معهم -أيضًا- فإنَّ المؤمنينَ قالوا لهم: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، فأجابهم المنافقونَ بقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}. وتقريرُ المناظرة من الجانبينَ: أن المؤمنين دَعَوْهم إلى الإيمانِ الصادرِ من العقلاءِ بالله ورسوله، وأن العاقلَ يتعيَّنُ عليه الدخولُ فيما دخل فيه العقلاءُ الناصحونَ لأنفسِهم، ولا سيَّما إذا قامتْ أدِلَّتُهُ ووضحَتْ شواهدُهُ، فأجابهم المنافقون بما مضمونه: إنَّا إنما يجِبُ علينا موافَقَةُ العقلاءِ، وأما السفهاءُ الذين لا عقلَ لهم يُمَيِّزونَ به بين النّافعِ والضّارِّ؛ فلا يجبُ علينا موافقتُهم، فردَّ اللهُ تعالى عليهم، وحَكم للمؤمنينَ، وأسْجلَ على المنافقينَ بأربعةِ أنواع:

(4/1541)


أحدها: الحكمُ بسَفهِهم (1). الثاني: حَصْرُ السَّفَه فيهم. الثالث: نفْيُ العلمِ عنهم. الرابع: تكذيبهم فيما تضمَّنَهُ جوابُهم من الإخبارِ عن سَفهِ أهل الإيمانِ. وخامسٌ -أيضًا -وهو: تكذيبهم فيما تضمَّنَه جوابُهم من دعواهم التَّنزيه (2) من السَّفَهِ. * ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22] إلى قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 24]، فهذا استدلالٌ في غايةِ الظهور ونهايةِ البيان، على جميع مطالب أصولِ الدِّين؛ مِن إثبات الصَّانع، وصفات كمالِهِ؛ من قدرتهِ وعلمِهِ، وإرادته وحياته، وحكمته وأفعاله، وحدوث العالم، وإثبات نوعَيْ توحيدِهِ تعالى؛ توحيد الرُّبوبيَّة المتضمِّن أنه وحدَه الرَّبُّ الخالق الفاطرُ، وتوحيد الإلهية المتضمَنُ أنه وحده الإلهُ المعبودُ المحبوبُ الذي لا تصلحُ العبادةُ والذُّلُّ والخضوعُ والحُبُّ إلا له. ثم قرَّر تعالى بعد ذلك إثباتَ نبوَّة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغَ تقريرٍ __________ (1) (ظ): "تسفيههم". (2) (ق وظ): "التبرئة".

(4/1542)


وأحسنَهُ وأتَمَّهُ وأبعدَه عن المعارض، فثبتَ بذلك صدقُ رسولهِ في كلِّ ما يقوله، وقد أخبر عن المعاد والجنة والنار، فثبتَ صحَّةُ ذلك ضرورةً، فقرَّرتْ هذه الآياتُ (ق/ 363 أ)، هذه المطالبَ كلَّها على أحسن وجهٍ، فصدرها تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، وهذا خطاب لجميع بني آدَمَ يشتركون كلُّهم في تعلّقِه بهم. ثم قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فأَمَرَهم بعبادة ربِّهم، وفي ضمن هذه الكلمة البرهان القطعيُّ على وجوب عبادَتِهِ؛ لأنه إذا كان ربنا الذي يُرَبِّينا بنعمه (1) وإحسانه، وهو مالكُ ذواتِنا ورقابِنا وأنفسنا، وكل ذرَّةٍ من العبد فمملوكةٌ له ملكاً خالصًا (2) حقيقياً، وقد ربَّاه بإحسانِهِ إليه وإنعامِهِ عليه، فعبادتُهُ له وشكرُهُ إياه وأجبٌ عليه، ولهذا قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ولم يقل: إلهكم. والرّبُّ هو: السَّيِّدُ (3) والمالكُ والمنعِم والمربي والمصلحُ، والله تعالى هو الربّ بهذه الاعتبارات كلِّها، فلا شيءَ أوجبُ في العقول والفِطَرِ من عبادةِ مَنْ هذا شأنُه وحدَه لا شريكَ له. ثم قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} فنبَّه بهذا -أيضًا- على وجوب عبادَتِهِ وحدَه، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجودِ، وأنشأَهم واخترعَهم وحدَه بلا شريك باعترافهم وإقرارهم كما قال في غيرِ موضِعِ من القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فإذا كان هو وحدَه الخالقَ، فكيف لا يكون وحدَه المعبودَ؟! وكيف يجعلونَ معه شريكاً في العبادَةِ! وأنتم مقرُّون بأنه لا شَريكَ له في الخَلْق، وهذه __________ (1) (ع): "يربُّنا بنعمته". (2) (ق): "خاصَّا". (3) "والرب هو السيد" سقطت من (ع).

(4/1543)


طريقةُ القرآن يستدل بتوحيد الرُّبوبية على توحيد الإلهيَّةِ. ثم قال: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فنبَّه بذلك على أنه وحدَه الخالق لكم ولآبائِكم ومَنْ تَقَدَّمَكم، وأنه لم يشركْهُ أحدٌ في خَلْقِ من قبلكم ولا في خلقِكم، وخلْقُهُ تعالى لهم متضمِّنٌ لكمال قدرتِه وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزمُ (1) لسائرِ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جلالِهِ، فتضمَّنَ ذلك إثبات صفاتِهِ وأفعالِهِ، ووحدانيته في صفاته، فلا شبيهَ له فيها، ولا في أفعالِهِ فلا شرَيكَ له فيها. ثم ذكر المطلوبَ من خَلْقِهم، وهو: أن يَتقُوه فيطيعونه ولا يعصُونه، ويذكرونه فلا يَنْسَوْنه، ويشكرونه ولا يكفرونه، فهذه حقيقةُ تقواه. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} قيل: إنه تعليلٌ للأمر، وقيل: تعليلٌ للخَلْق، وقيل: المعنى أعبدوه لتتقوه بعبادَتِهِ. وقيل: المعنى خَلَقَكم لِتَتَّقُوه، وهو أظهَرُ لوجوهٍ: أحدها: أن التقوي هي العبادةُ، والشيءُ لا يكون عِلَّة (2) لنفسهِ. الثاني: أن نظيرهُ قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. والثالث: أن الخلْقَ أقربُ في اللفظ إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من الأمر. (ظ/ 252 ب) ولمن نصر الأول أن يقول: لا يمتنع أن يكون قولُه: __________ (1) (ق وظ): "مستلزم". (2) (ق): "غاية".

(4/1544)


{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} تعليلًا للأمر بالعبادةِ (1)، ونظيره قوله تعالى: (ق/363 ب) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]، فهذا تعليلٌ لِكَتْب الصِّيام، ولا يمتنعُ أن يكونَ تعليلا للأمرينِ معًا، وهذا هو الألْيَق بالآية، والله أعلم. ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، فذكر تعالى دليلًا آخَر متَضَمِّنا للاستدلالِ بحكمتهِ في مخلوقاتِه. فالأوَّل: متضمِّنٌ لأصلِ الخَلْق والإيجاد، ويسمى: "دليلَ الاختراعِ والإنشاء". والثاني: متضمنٌ (2) للحِكم المشهودة في خلْقِه، ويسمَّى: "دليلَ العنايةِ والحكمةِ"، وهو تعالى كثيرًا ما يكرِّر هذينِ النوعينِ (3) من الاستدلالِ في القرآن. ونظيرُه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32 - 33] فذكر خَلْق السموات والأرض، ثم ذكر منافعَ المخلوقات وحِكَمَها. ونظيره قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ __________ (1) (ع): "بالأمر للعبادة". (2) (ق وع): "يتضمن". (3) في الأصول: "هذان النوعان"!.

(4/1545)


بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 60، 61] إلى آخر الآياتِ، على أنَّ في هذه الآياتِ من الأسرار والحِكمِ ما بحَسْب عقولِ العالمِينَ أن يفهموه ويُدْركوه، ولعلَّه أن يَمُرَّ بك إن شاء الله التنبيهُ على رائحة يسيرةٍ من ذلك. ونظيرُ ذلك -أيضًا- قولُه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وهذا كثير في القرآن لمن تأمَّلَه. وذكر -سبحانه-: في آية (البقرة) قرارَ العالم وهو: الأرض، وسقفه وهو: السماء، وأصولَ منافع العباد وهو: الماءُ الذي أنزله من السَماء، فذكر المسْكنَ والسّاكنَ وما يحتاجُ إليه من مصالحهِ، ونبه -تعالى- بجعله للأرض فراشاً على تمامِ حكمتهِ في أن هيّأها لاستقرار الحيوان عليها، فجعلها فراشاً ومهاداً وبِساطاً وقَرَارًا، وجعلَ سقفَها بناءً محكمًا مستوِيًا لا فُطُورَ فيه ولا تفاوُتَ ولا عَيْبَ. ثم قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فتأملْ هذه النتيجةَ وشدَّةَ لزومها لتلك المقدماتِ قبلها، وظَفَر العقل بها بأوَّل وهلةٍ وخُلوصها من كل شبهةٍ وريبٍ وقادح، (ق/ 364 أ) وأن كلَّ متكلّم ومستدل ومِحجاج إذا بالغ في تقريرِ ما يقرِّره وأطاله، وأَعْرض القول فيه فغايته -إن صحَّ ما يذكرُه- أن ينتهيَ إلى بعض (1) ما في القرآن __________ (1) (ق): "فغايته إن صح ما ينتهي أن يذكر بعض ... "، و (ظ): "فغايته إن صح أن ينتهي أن بعض ... "!.

(4/1546)


فتأمَّلْ ما تحتَ هذه الألفاظِ من البرهان الشَّافِي في التوحيد، أي: إذا كان اللهُ وحدَه هو الذي فَعَلَ هذه الأفعالَ فكيف يجعلونَ له أنداداً!؟ وقد عَلِمتمْ أنَّه لا نِدَّ له يشاركهُ في فعلِهِ. فلما قرَّرَ نوعَى التوحيد أتم تقرير انتقل إلى تقرير النّبُوَّةِ فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]، إن حصل لكم رَيبٌ في القرآن وصِدْق من جاء به، وقلتم: إنه مفتعلٌ؛ فأتوا ولو بسورة واحدة تشبهُهُ، وهذا خطابٌ لأهل الأرض أجمعهم، ومن المحالِ أن يأتيَ واحدٌ منهم بكلامِ يفتعلُه ويختلقه من تلقاء نفسِه، ثمَّ يطالب أهل الأرض بأجمعِهم أن يعارضوه في أيسرِ جزءٍ منه، يكون مقدارُهُ ثلاثَ آيات من عِدة ألوف، ثم تعجزُ الخلائِقُ كلّهم عن ذلك، (ظ/253 أ) حتى إنَّ الذين راموا معارَضتهُ كان ما عارضوه من (1) أقوى الأدِلَّةِ على صِدْقِهِ، فإنهم أتَوْا بشيء يَسْتَحيِي العقلاءُ من سَمَاعِهِ، ويحكمونَ بسَماجَتِهِ، وقُبحِ ركاكَتِهِ وخِسَّتِهِ، فهو كمن أظهرَ طِيبًا لم يَشَمَّ أحدٌ مِثْلَ ريحِهِ قطُ، وتحدَّى الخلائقَ ملوكَهم وسوقَتَهم بأن يأتوا بذَرَّة طيب مثله، فاستَحى العقلاءُ وعَرَفوا عَجْزَهم، وجاء الحُمقَان بعَذِرَة منتنة خبيثةٍ، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئتَ به، فهل يزيدُ هذا ما جاء به إلا قوَّة وبرهانًا وعَظَمَة وجلالة؟!. وأكَّد تعالى هذا التوبيخَ والتقريعَ والتعجيزَ بأن قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) كما يقولُ المعجزُ لَمن يدَّعي مقاوَمَتَهُ: اجهد علَيَّ بكل من تقدرُ عليه من أصحابِكَ وَأعوانِكَ __________ (1) من (ع).

(4/1547)


وأوليائِكَ، ولا تُبْقِ منهم أحدًا حتى تستعين به، فهِذا لا يقدمُ عليه إلا أجهلُ العالمِ وأحمقُهُ وأسخفُهُ عقلًا، إن كان غيرَ واثقٍ بصحَّةِ ما يدَّعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله.: والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآيةَ وأمثالَها على أصنافِ الخلائقِ أُمَّيهِم وكتابيِّهم وعَرَبِهم وعَجَمِهم ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا، فيعدلونَ معه إلي الحرب والرضى بقتل الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بسُورة واحدةٍ لم يعدِلوا عنها إلى اختيارِ المحارَبَةِ، وإيتامْ الأولادِ، وقتلِ: النفوسِ، والإقرار بالعجز عن معارضته. وتقرير النّبُوَّةِ بهذه الآية له وجوهٌ متعدِّدَةٌ هذا أحدُها. وثانيها: إقدامُه - صلى الله عليه وسلم - (ق /364 ب) على هذا الأمر، وإسجاله على الخلائق إسجالا عامًّا إلى يومِ القيامَةِ، أنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، فهذا لا يُقْدِمُ عليه ويخْبِر به إلَّا عن عِلم لا يخالجُه شكٌّ (1)، مستندٍ إلى وحي من الله تعالى، وإلَّا فعلمُ البَشَر وقدرتُه يضعفان عن ذلك. وثالثها: النظرُ إلى نفس ما تحَدَّى به، وما اشتملَ عليه من الأموِرِ التي تعجَزُ قوى البشر عن الإتيان بمثلِهِ، الذي فصاحَتُهُ ونظمُهُ وبلاغتُهُ فَرْدٌ من أفرادِ إعجازِهِ. وهذا الوجهُ يكون معجزة لمن سمِعه وتأملَهُ وفهِمَهُ، وبالوجهينِ الأوَّلَينِ يكون معجزةً لكلِّ من بلغه خبَرُهُ ولو لم يفهمْه ولم يتأمَّلْه. فتأمَّل هذا الموضعَ من إعجازِ القرآن تعرف فيه قصور كثيرٍ من المتكلِّمين، وتقصيرَهم في بيان إعجازه (2)، وأنهم لن يُوَفُّوهُ عُشْرَ. __________ (1) (ق): "عن علم لا شك فيه". (2) من قوله: "وهذا الوجه ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1548)


معشارِ حقِّهِ، حتى قَصَرَ بعضهم الإعجاز على صرفِ الدواعي عن معارضتِه مع القُدْرة عليها، وبعضهم قصرَ الإعجازَ على مجرَّد فصاحتِهِ وبلاغتِهِ، وبعضُهم على مخالفةِ أسلوب نظمِه لأساليب نظمِ الكلامِ، وبعضُهم على ما اشتملَ عليه من الإخبارِ بالغيوب، إلىَ غير ذلك من الأقوالِ القاصرةِ التي لا تشفِي ولا تُجْدِي، وإعجازُه فوقَ ذلك ووراءَ ذلك كلِّه. فإذا ثبتتِ النبُوَّةُ بهذه الحجةِ القاطعةِ، فقد وجبَ على الناس تصديق الرسولِ في خبرِه وطاعةِ أمرِه، وقد أخبر عن الله تعالىَ وأسمائه، وصفاتهِ وأفعالِه، وعن المَعادِ والجَنَّةِ والنَّار، فثبتَ صحَةُ ذلك يقينًا، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ........ } [البقرة: 24 - 25] الآية، فاشتملتِ الآياتُ على تقرير مهمّاتِ أصولِ الدِّين؛ من إثبات خالق العالم وصفاتِه ووحدانيتِه، ورسالةِ رسوله، والمَعادِ الأكبرِ. * ومن ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ...... } [البقرة: 26] الآية، وهذا (1) جوابُ اعتراض اعترضَ به الكفَّار على القرآن، وقالوا: إن الرَّبَّ أعظمُ من أن يذكرَ الذبابَ والعنكبوتَ ونحوَها من الحيواناتِ الخسيسةِ، فلو كان ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كلام الله، لم َيذكُرْ فيه الحيواناتُ الخسيسة (2)، فأجابهم -تعالى- بأن قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً (ظ/ 253 ب) فَمَا فَوْقَهَا}، فإن ضَربَ الأمثالِ بالبعوضةِ فما فوقَها، إذا __________ (1) (ق وع): "وهذه". (2) من قوله: "فلو كان ... " إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1549)


تضمَّنَ تحقيقَ الحقِّ وإيضاحَه وإبطالَ الباطل وإدحاضه (1) كان من أحسنِ الأشياءِ، والحُسْنُ لا يستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض. فكأن معترضاً اعترض على هذا الجواب أو طلب (ق/ 365 أ)، حكمَةَ ذلك، فأخبر تعالى عما له في ضَرب تلك الأمثالِ من الحكمةِ، وهي: إضلالُ من شاء، وهدايَةُ من شاء. ثم كأنَّ سائلًا سألَ عن حكمةِ الإضلال لمنْ يضلُّهُ بذلك، فأخبر تعالى عن حكمتهِ وعدلِه، وأنه إنما يضلُّ به الفاسقين: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] فكانت أعمالهم هذه: (2) القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلَّهم وأعمالهم عن الهدى. * ومن ذلك قولُه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]، وهذا استدلالٌ قاطعٌ على أن الإيمان بالله أمر مستقِرٌّ في الفطَرِ والعقولِ، وأنه لا عذرَ لأحدٍ في الكفرِ به ألبَتَّةَ، فذكر تعالى أربعةَ أمور؛ ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم، والرابع مُنْتَظر موعودٌ به وعدَ الحقِّ. الأول: كونهم كانوا أمواتاً لا أرواحَ فيهم، بك نُطَفاً وعَلَقاً ومُضْغَةً مَوَاتا لا حياةَ فيها. الثاني: أنه تعالى أحياهم بعدَ هذه الإماتَةِ. الثالث: أنه تعالى يُميتهم بعدَ هذه الحياة. __________ (1) سقطت من (ع وظ). (2) (ق): "وكانت هذه الأعمال ... ".

(4/1550)


الرابع: أنه يُحييهم بعد هذه الإماتَةِ فيرجِعون إليه. فما بالُ العاقلِ يشهدُ الثلاثةَ الأطوارَ الأُوَلَ (1) ويكذبُ بالرابع؟! وهل الرابعُ إلَّا طوْر من أطوار التَّخليق؟ فالذي أحياكم بعد أن كَنتم أمواتًا، ثم أماتكم بعد أنْ أحياكم، ما الذي يُعْجزهُ عن إحيائِكم بعد ما يُمِيتكم؟! وهل إنكارُكم ذلكَ إلَّا كفرٌ مجرَّدٌ بالله؟ فكيف يقعُ منكم بعدَ ما شاهدتموه؟! ففي ضمنِ هذه الآيةِ الاستدلالُ على وجود الخالق وصفاتِه وأفعالِه على المَعاد. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} [البقرة: 30 - 33]. فهذه كالمناظرةِ من الملائكةِ والجواب عن سؤالهم؛ كأنهم قالوا: إن استخلفتَ في الأرضِ خليفة كان منهَ الفساد وسفكُ الدماء، وحكمتك تقتضي أن لا تفعلَ ذلك، وإن جعلتَ فيها فتجعل فيها من يسبحُ بحمدِك ويقدَسُ لك، ونحن نفعلُ ذلك. فأجابهم تعالى عن هذا السُّؤالِ: بأن له من الحكمةِ في جَعْل، (ق/ 365 ب) هذا الخليفةِ في الأرض ما لا تعلمُهُ الملائكةُ، وإن وراءَ ما زعمتم من الفَسادِ مصالحَ وحِكَماً لا تعلمونها أنتم، وقد ذكرنا منها قريبًا من أربعينَ حكمةً في __________ (1) تكررت في (ع).

(4/1551)


كتاب "التحفة المكية"، فاستخرجَ تعالى من هذا الخليفةِ وذرِّيَّته: الأنبياءَ والرُّسُلَ والأولياءَ والمؤمنينَ، وعَمَر بهم الجنةَ، وميَّز الخبيثَ من ذريته من الطَّيِّب، فعَمَرَ بهم النارَ، وكان في ضمن ذلك من الحكمِ والمصالح ما لم تكن الملائكةُ تعلمُه (1). ثم إنه سبحانه أظهر فضلَ الخليفةِ عليهم بما خصَّه به من العِلمِ الذي لم تعلَمْهُ الملائكةُ، وأمَرَهم بالسجودِ له تكريمًا له وتعظيماً، وإظهارًا لفضلِه، وفي ضمنِ ذلك من الحِكَمِ ما لا يعلمُه إلَّا الله (2). فمنها: امتحانُهم بالسجودِ (ظ/254 أ) لمن زَعَموا أنه يفسِدُ في الأرض ويسْفِكُ الدِّماء، فأسْجَدَهم له، وأظهر فضلَهُ عليهم، لما أَثنَوا على أنفسِهم وذمُّوا الخليفةَ، كما فَعَلٌ سبحانه ذلك بموسى، لما أخبر عن نفسِهِ أنه أعلمُ أهلِ الأرضِ، فامتحنه بالخَضِر وعَجْزِهِ معه في تلك الوقائع الثلاثِ (3). وهذه سنّتُه تعالى في خليقته وهو الحكيمُ العليمُ. ومنها: جَبْرهُ لهذا الخليفةِ وابتداؤُه له بالإكرام والإنعام، لما عَلِم مما يحصلُ له من الانكسار والمصيبةِ والمحنةِ فابتدأه بالخير (4) والفضلِ، ثم جاءت المحنةُ والبَلِيَّةُ والذّلُّ، وكانت عاقِبَتَها إلى الخير والفضلِ والإحسان، فكانت المصيبةُ التي لَحِقَتْه محفوفةً. بإنعامَيْن: إنعام قبلَها، وإنعام بعدها، ولذريته المؤمنينَ نصيبٌ مما لأبيهم، فإنّ الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداءً وجعل العاقبةَ لهم، فما أصابَهُم __________ (1) (ع وظ): "ما لم يكن للملائكة تعلّمه". (2) من قوله: "وأمرهم بالسجود ... " إلى هنا سقط من (ق). (3) المذكورة في سورة الكهف الآيات (60 - 82)، وأخرجها البخاري رقم (74)، ومسلم رقم (2380) من حديث أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه-. (4) (ع): "بالجبر".

(4/1552)


بينَ ذلك من الذُّنوبِ والمصائب، فهي محفوفةٌ بإنعامِ قبلَها وإنعام بعدها (1)، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ. ومنها: استخراجهُ -تعالى- ما كان كامِناً في نفسِ عدوِّهِ (2) إبليسَ من الكبْرِ والمعصيةِ، الذي ظَهَر عند أمرهِ بالسجودِ، فاستحقَّ اللعنةَ والطّردَ والإبعادَ، على ما كان كامِناً في نفسِه عند إظهارِه، والله تعالى كان يعلمُه (3) منه، ولم يكنْ ليعاقِبَهُ ويلعَنَهُ على علمِه فيه، بل على وقوع معلومِه، فكان أمرُة بالسجود له مع الملائكةِ مُظْهراً للخبث والكفَرِ الذي كان كامناً فيه، ولم تكن الملائكةُ تعلمُه فأظهرَ لهم -سبحانه- ما كان يعلمُهُ، وكان خافياً عنهم من أمره، فكان في الأمرِ بالسجودِ له تكريماً لخليفَتِهِ الذي أخبرهم بأنه يجعله في الأرضِ، وجَبْرًا له، وتأديباً للملائكةِ، وإظهاراً لما كان مستخفِياً في نفسِ إبليسَ، وكان ذلك كلّه سببًا لتمييزِ الخبيثِ من الطَّيب، وهذا من بعض حِكَمِهِ -تعالى- في إسجادِهم لآدَمَ. ثم إنه سبحانه لما علَّمَ آدَمَ ما علَّمَهُ، ثم امتحَنَ الملائكةَ بعلمِه فلم يعلموه، فأنبأهمِ به آدَمُ؛ كان في طيِّ ذلك جوابًا لهم عن كون هذا الخليفةِ لا فائدة في جعلِهِ في الأرضِ، فإنه يفسِدُ فيها ويسفِكُ الدِّماءَ، فأَراهم من فضلِه وعلمِه خلافَ ما كان في ظّنهم. __________ (1) من قوله: "ولذريته المؤمنين ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ع): "عوره"!. (3) (ع): "يعلم".

(4/1553)


فصل في ذكر مناظرةِ إبليس عدوِّ (ق/366 أ) الله في شأن آدَمَ، وإبائهِ من السجود له، وبيان فسادِها وقد كرَّر اللهُ تعالى ذكرَها في (1) كتابهِ، وأخبرَ فيها أنَّ امتناعَ إبليسَ من السُّجود كان كِبْرًا منه وكفراً، ومُجَرَّدَ إباء، وإنما ذكر تلك الشبْهَةَ تعنّتاً، وإلا فسببُ معصيتِهِ الاستكبارُ والإباءُ والكفر، وإلاّ فليس في أمرهِ بالسجودِ لآدَمَ ما يناقِصُ الحكمةَ بوجهٍ. وأما شبهتهُ الدَّاحِضَةُ وهي: أن أصلَهُ وعنصرَهُ النارُ، وأصلَ آدم وعنصرَه التُّرابُ، ورتَّب على ذلك أنه خَيْرٌ من آدَمَ، ثم رتَّبَ على هاتينِ المقدمتينِ أنه لا يحسنُ منه الخضوعُ لمن هو فوقَهُ وخيرٌ منة؛ فهي باطلةٌ من وجوهٍ عديدة: أحدها (2): أن دعواه كونهُ خيرًا من آدَمَ دعوى كاذِبَةٌ باطلةٌ، واستدلالُه عليها بكونهِ: مخلوقاً من نار وآدَمُ من طين، استدلالٌ باطلٌ، وليست النار خيرًا من: الطِّينِ والترابِ، بل التُّراب خيرٌ من النار، وأفضلُ عنصرًا من وجوه: أحدها: أن النّارَ: طبعُها الفسادُ وإتلاف ما تعلَّقتْ به، بخلاف التُّرابِ. __________ (1) (ق): "وقد ذكرها الله تعالى في ... ". (2) لم يذكر المؤلف غير هذا الوجه، فلعله طال عليه الكلام بتعداد الوجوه المندرجة تحت هذا الوجه، فلم يذكر بقيتها، وانظر بعض هذه الوجوه في "الصواعق المرسلة": (3/ 1002 - 1004).

(4/1554)


الثاني: أن طبعَها الخِفَّةُ والحدَّةُ والطيْشِ، والتُّرابُ طبعُهُ الرَّزَانَةُ والسكونُ والثَّبَاتُ. الثالث: أن الترابَ يتكوَّنُ فيه ومنه أرزاقُ الحيوان وأقواتُهم، ولباسُ العبادِ وزينتُهم، وآلاتُ معايشِهم ومساكِنِهم، والنارُ لا يتكوَّنُ فيها شيءٌ من ذلك. الرابع: أن (ظ/ 254 ب) التُّرابَ ضَرُورِيّ للحيوانِ لا يستغني عنه ألبَتةَ، ولا عن ما يتكوَّنُ فيه ومنه (1)، والنّارُ يستغني عنها الحيوان البهيمُ مطلقاً، وقد يستغني عنها الإنسانُ الأيامَ والشهورَ، فلا تدعوه إليها الضَّرُورةُ، فأين انتفاعُ الحيوانِ كلِّه بالتُّرابِ إلى (2) انتفاعِ الإنسانِ بالنّارِ في بعضِ الأحيانِ. الخامس: أن التُّرَابَ إذا وُضِعَ فيه القوت أخرجَهُ أضعافَ أضعافِ ما وُضِعَ فيه، فمن بَركَتِهِ يُؤَدي إليك ما تستوِدِعُه فيه مضاعَفاً، ولو استودعْتَهُ النارَ لخانَتْكَ وأَكَلَتْهُ، ولم تُبْقِ ولم تَذرْ. السادس: أنَّ النارَ لا تقومُ بنفسِها، بل هي مفتقرةٌ إلى محلّ تقومُ به يكونُ حاملًا لها، والترابُ لا يفتقرُ إلى حامل فالترابُ أكملُ منها. السابع: أن النارَ مفتقرةٌ إلى التُّراب، وليس بالتُّراب فقرٌ إليها، فإنَّ المَحَلَّ الذي تقومُ به النارُ لا يكون إلَّا مكوناً (3) منَ التُّراب أو فيه، فهي الفقيرةُ إلى التُرَابِ، وهو الغنيُّ عنها. __________ (1) (ع): "منه وفيه". (2) (ق): "من". (3) (ق وظ): "متكوناً".

(4/1555)


الثامن: أن المادَّة الإبليسيَّةَ هى المارجُ (1) من النار، وهو ضعيفٌ، يتلاعَب به الهوى، فيميلُ معه كيفما مالَ، ولهذا غَلَبَ الهوى على المخلوق منه فأسَرَهُ وقَهرَهُ، ولما كانت المادَّةُ الآدَمِيَّةُ الترابَ، (ق/ 366 ب) وهو قويٌّ لا يذهب مع الهوى أينما ذهبَ، قَهرَ هواه وأسره، ورجع إلى ربِّهِ فاجتباه واصطفاه، فكان الهوى الذي مع المادَةِ الآدَمِيَّةِ عارِضا سريعَ الزَّوال فزالَ، وكان الثبات والرَّزانَةُ أصليًّا له فعادَ إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فرجَعَ كلّ من الأبوينِ إلى أصلِهِ وعُنْصرِهِ: آدَمُ، إلى أصلِه الطَّيِّبِ الشريفِ، واللَعِين إلى أصلِهِ الرَّديء. التاسع: أن النارَ وإن حَصَلَ بها بعض المنفعةِ والمتاع، فالشرّ كامنٌ فيها لا يصدُّها عنّه إلَّا قَسْرُها وحَبْسها، ولولا القاسِرُ والحابسُ لها لأفسدتِ الحرْثَ والنسلَ، والتّرابُ فالخير والبِرُّ والبَرَكَةُ كامنٌ فيه، كلما أُثِيرَ وقُلِبَ ظهرتْ بَرَكَتُهُ وخيرُهُ وثَمَرَتُهُ، فأين أحدهما من الآخر؟!. العاشر: أن الله تعالى أكْثَرَ ذكر الأرض في كتابِه، وأخبر عن منافعِها وخَلْقِها، وأنه جعلها مِهادًا وفراشاً، وبساطًا وقراراً، وكِفاتاً للأحياءِ والأمواتِ، ودعا عبادَهُ إلى التَّفَكّر فيها والنظر في آياتِها، وعجائِب ما أودعَ فيها، ولم يذكرِ النارَ إلَّا في معرض العقوبةِ والتخويف والعذابَ، إلَّا موضعًا أو موضعينِ ذكرها فيه بأنها تذكرةٌ ومتاع للمُقوِيْنَ، تذكرةٌ بنار الآخرة، ومتاعٌ لبعض أفرادِ الإنسان، وهم المُقْوُونَ النازلونَ بالقَوا (2)، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافرُ تَمتع بالنار في __________ (1) (ق): "الخارج"!، والمارج هو: الشُّعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. "اللسان": (2/ 365). (2) بالمد والقصر. "اللسان": (15/ 210 - 211).

(4/1556)


منزله، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن؟!. الحادىِ عشر: أن الله تعالى وصفَ الأرضَ بالبركةِ في غيرِ موضع من كتابهِ خصوصًا، وأخبر أنه باركَ فيها عمومًا، فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 9، 10] فهذه بركةٌ عامَّةٌ. وأما البَرَكَةُ الخاصَّةُ ببعضها فكقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]. وأما النار؛ فلم يخبرْ أنه جعل فيها بَرَكَة أصلًا، بل المشهورُ أنها مُذْهِبَةٌ للبركات (1) ماحقةٌ لها، فأين المبارَك في نفسِه المبارَك فيما وُضِع فيه، إلى مُزِيلِ البركةِ وما حِقِها؟!. الثاني عشر: أنَّ الله تعالى جعلَ الأرضَ محلّ بيوتهِ التي يُذكَرُ فيها اسمه، ويسبَّحُ لها فيها بالغدوِّ والآصال عمومًا، وبيته الحرام الذي جعلَه قياماً للناسِ مباركاً وهدىً للعالمين خصوصًا، (ظ /255 أ) ولو لم يكنْ في (ق/367 أ) الأرضِ إلَّا بيته الحرامُ لكفاها ذلك شَرَفًا وفضلًا على النار. الثالث عشر: أنَّ اللهَ تعالى أوْدَعَ في الأرض من المنافع والمعادنِ، والأنّهارِ والعيونِ، والثمراتِ والحبوبِ، والأقواتِ، وأصنافَ الحيواناتِ __________ (1) (ظ): "للبركة".

(4/1557)


وأمتعتِها، والجبال والجنان والرياض، والمراكبِ البَهيَّةِ والصُّورِ البهيجة، ما لم يودعْ في النار شيئًا منه، فأيّ روضةٍ وُجِدَت في النّار، أو جَنَّةٍ أو معدِن، أو صورَة أو عيْنٍ فوّارةٍ (1)، أو نهير مطَّرِدٍ أو ثَمَرَة لذيذة، أو زوجة حسنةٍ أو لباسٍ وسترة. الرابع عشر: أن غايةَ النار أنها وضعتُ خادمةً لما في الأرض (2)، فالنارُ إنما محلُّها محلُّ الخادمِ لهذه الأشياءِ المكمِّلِ لها، فهي تابعةٌ لها خادمةٌ فقط، إذا استغنتْ عنها طَرَدَتْها وأبْعَدَتْها عن قربها، وإذا احتاجتْ إليها استَدعَتها استدعاءَ المخدومِ لخادِمِه ومن يقضي حوائِجَهُ. الخامس عشر: أن اللَّعينَ لقصورِ نظرِهِ وضعف بصيرتِهِ، رأى صورة الطين ترابًا ممتزجاً بماء فاحتقرَهُ، ولم يعلمْ أن الطِّين مُركَّبٌ من أصلين (3): الماءُ الذي جعل اللهُ منه كلَّ شْيءٍ حيّ، والترابُ الذي جعله خزانَةَ المنافع والنعَمِ، هذا وكم يجيء من الطينِ من المنافعِ وأنواعِ الأمتعةِ، فلو تجاوَز نظرُه صورةَ الطِّين إلى مادَّته ونهايته لَرَأى أنه خيرٌ من النار وأفضل (4). __________ (1) غير محررة في النسخ. (2) (ع): "النار"!. (3) (ع وظ): "أصل". (4) ذكر المؤلف في "الصواعق": (3/ 1004 - 1006)، عدداً من هذه الوجوه هي أحد عشر وجهاً، منها وجوهٌ لم يذكرها هنا، وهذه هي: 1 - أن التراب يُفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها، وإن علت عليه. 2 - أن الرحمةَ تنزلُ على الأرض فتقبلها وتَحيى بها وتخرج زينتها، وأقواتها، وتشكر ربَّها، وتنزل على النار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها. فبينها وبين الرحمة معاداة، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة وإخاء. 3 - أن النار تطفأ عند التكبير، فتضمحل عند ذكر كبرياء الرب، ولهذا =

(4/1558)


وإذا استقريْتَ الوجوهَ التي تدلُّكَ على أن الترابَ أفضلُ من النارِ وخيرٌ منها وجدتَها كثيرةً جدًا، وإنما أشرنا إليها إشارةً، ثم لو سُلّم بطريقِ الفَرْض الباطل أن النارَ خيرٌ من الطين، لم يلزم من ذلك أن يكونَ المخلوقُ منها خيرًا من المخلوق من الطين، فإنَّ القادرَ على كلِّ شيء يخلُقُ من المادَّةِ المفضولَة مَنْ هو خيرٌ ممن خَلَقَهُ من المادَّة الفاضلة، والاعتبار بكمالِ النهايةِ لا بنقْصِ المادَّةِ، فاللعين لم يتجاوزْ نظرهُ محلَّ المادة، ولم يعبُر منها إلىَ كمالِ الصُّورةِ ونهايةِ الخِلْقَةِ، فأين الماء المَهينُ الذي هو نطفة، ونقصُه (1) واستقذارُ النفوس له إلى كمالِ الصّورةِ الإنسانيةِ التامَّةِ المحاسنِ خَلْقًا وخُلُقاً. وقد خلق اللهُ -تعالى- الملائكةَ من نورٍ وآدَمَ من تراب، ومن ذريةِ آدمَ من هو خيرٌ من الملائكة، وإن كان النورُ أفضلَ من التُّراب. فهذا وأمثالُه مما (2) يدلُّك على ضعفِ مناظرةِ اللَّعينِ وفسادِ نظره وإدراكِهِ، وأن الحكمةَ كانت توجبُ عليه خضوعَه لآدَمَ فعارضَ حكمةَ الله وأمْرهُ برأيِهِ الباطلِ ونظرِه الفاسِدِ، فقياسهُ باطلٌ نصًا وعقلاً، وكلُ من عارَضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ، فهو من خلفائِهِ وأتباعِهِ، فنعوذُ بالله من الخِذْلان، ونسألُهُ التوفيقَ والعصمةَ (ق/ 367 ب) من هذا البلاء الذي ما رُمِيَ العبدُ بشرِّ منه، ولأن يَلْقَى اللهَ بذنوبِ الخلائقِ كلَّها ما خلا الإشراكَ به أسلمُ له من أن يلقى الله (3) وقد عارَضَ __________ = يهرب المخلوق منها عند الأذان، حتى لا يسمعه، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به، وتشهد به لصاحبه يوم القيامة. (1) (ظ) والمطبوعات: "ومُضغة". (2) من (ق). (3) (ق وظ): "يلقاه".

(4/1559)


نصوصَ أنبيائِهِ برأيه ورأيِ بني جنسِه. وهلْ طرَدَ اللهُ إبليسَ ولعنه، وأحلَّ عليه سخطَه وغضبَه إلَّا حيث عارضَ النصَّ بالرأي والقياسِ ثم قدَّمه عليه؟! واللهُ يعلمُ أن شبْهةَ عدوِّ الله مع كونها داحضة باطلةً أقوى من كثيرٍ من شُبَهِ المعارضين لنصوص الأنبياءِ بآرائهم وعقولهم. فالعالمُ يتدَبّر سِرَّ تكرير الله لهذه القصّةِ مَرَةً بعد مرَّة، وليحذرْ أن يكون له نصيبٌ من هذا الرأي والقياسِ وهو لا يشعرُ، فقد أقسمَ عدوُّ اللهِ أنه لَيُغوِيَنَّ بني آدمَ أجمعَينَ إلَّا المخلَصِين منهم، وصدَّق تعالى ظَنَّهُ عليهم، وأخبرَ أن المخْلَصِينَ لا سبيلَ له عليهم، والمخلَصُونَ هم الذين أخلصوا العبادةَ والمَحَبَّةَ والإجلالَ والطاعةَ لله، والمتابعة والانقياد لنصُوص الأنبياءِ، فيجرِّدُ عادةَ الله عن عبادة ما سواه، ويجرَدُ متابعةَ رسولهِ (ظ/255 ب) وترك ما خالفه لقولِهِ دونَ متابعةِ غيره، فليزن العاقلُ (1) نفسَهُ بهذا الميزان قبل أن يوزنَ يومَ القدومِ (2) على الله، واللهُ المستعان، وعليه التكْلان، ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله تعالى. فصل * ومن ذلك (3) قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فهذا مطالبة لهم بتصحيح دعواهم، وترديدٌ لهذه المطالبة بين أمرين، لا بدَّ من واحدٍ منهما، وقد تعيَّن بطلانُ أحدِهما، فلزم ثبوتُ الآخرِ. __________ (1) (ق): "فالعاقل يزن". (2) (ع وق): "القيامة". (3) الإشارة إلى ما بدأه (4/ 1540).

(4/1560)


فإن قولَهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} خبرٌ عن غَيْب لا يُعلَمُ إلَّا بالوحي، فإما أن يكونَ قولًا على الله بلا علمٍ فيكون كاذبًا، وإما أن يكون مستنداً إلى وحي من الله وعهدٍ عَهِدَهُ إلى المخبر، وهذا منتفٍ قطعًا، فتعيَّنَ أن يكونَ خبراً كاذباً قائلُه كاذبٌ على الله تعالى. فصل * ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ...... } [البقرة: 84، 85]. فهذه حجةٌ من الله احتجَّ بها على أهل الكتاب، فإنه كان قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يقتل بعضُهم بعضاً، ولا يجلِيه عن دياره، وأن يفدي (ق/368 أ) بعضُهم بعضاً من الأسْر، فهذه ثلاثُ عهودٍ خالفوا منها عهدينِ، وأخذوا بالثالثِ، فَقَتَلَ بعضُهم بعضًا، وأخرجه من ديارِه، ثم فادوا أَسْرَاهم؛ لأنَّ الله أمرهم بذلك، فإن كنتم قد فادَيتم الأُسارى لأنَّ الله أمركم بفدائِهم، فلِمَ قتلتم بَعْضَكم بعضاً، وأخرجتموهم من ديارِهم، والله قد نهاكم عن ذلك؟! والأخْذُ ببعض الكتاب يوجبُ عليكم الأخذَ بجميعِه، فكيف تكفرون ببعضِ الكتاب وتؤمنونَ ببعض؟ {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}. فصل * ومن ذلك قولُه تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ

(4/1561)


اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87] فهذا هو الذي: تسمَّيه النُّظّارُ والفقهاءُ: "التَّشَهِّي والتَّحَكُم"، فيقول أحدُهم لصاحبه: لا حُجَّةَ لكْ على ما ادَّعَيْتَ سوى التّشَهِّي والتَّحَكُم الباطل، فإن جاءَك ما لا تشتهيه دفعتَه ورددتَه. وإن كان القولُ موافقًا لما تهواهُ وتشتهيهِ إما من تقليدِ من تعظمُهُ أو موافقةِ ما تريدُهُ قَبلْتَهُ واخترته (1) فتردُّ ما خالفَ هواك وتقبَل ما وافقَ هواك. وهذا الاحتجاجُ والذي قبله مفحِمانِ للخصم، لا جوابَ له عنهما (2) ألبتَّةَ، فإن الأخذ ببعض الكتاب يوجبُ الأخذ بجميعه، والتزام بعضِ شرائعه يوجبُ التزامَ جميعِها، ولا يجوز أن تكون الشرائعُ تابعةً للشهَوات، إذ لو كان الشرْعُ تابعاً للهوى والشَّهْوة لكان في الطباع ما يُغني عنه، وكانت شهوةُ كلِّ أحد وهواه شرعاً له: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. فصل * ومن ذلك قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89]. فهذه حجَّةٌ أخرى على اليهودِ في تكذيبِهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يحاربون (ظ/256 أ) جيرانَهم من العرب في الجاهليَّة، ويستنصِرُون عليهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ ظهورِه، فيُفْتَحُ لهم ويُنصَرُونَ، فلما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - كفروا به، وجحدوا نبوَّتهُ، فاستفتاحُهم به وجَحْدُ نبوته مما لا __________ (1) (ظ) والمطبوعات: "وأجزته". (2) (ق): "لهما عنه"، (ظ): "له عليهما".

(4/1562)


يجتمعانِ، فإن كان استفتاحهم به؛ لأنه نبيٌّ كان جَحْدُ نُبوَّتهِ محالًا، وإن كان جَحْدُ نبوتهِ -كما يزعمون- حقاً كان استفتاحُهم به باطلاً، فإن كان استفتاحُهم به حقًا فنبوَّته حق، وإن كان نبوته -كما يقولون- باطلاً (ق/368 ب) فاستفتاحكم به باطلٌ، وهذا مما لا جوابَ لأعدائِهِ عنه ألبَتَّة، ويمكنُ تقريرها على صُوَرٍ عديدة: منها: أن يقالَ: قد أقررتم بنبوَّتهِ قبل ظهورِه باستفتاحِكم به، فتعيَّنَ عليكم الإقرارُ بها بعد ظهورِه. الثانية: إن يقالَ: كنتم تستفتحون به، وذلك إقرارٌ منكم بنبوَّته قبل ظهورِه، استنادًا إلى ما عندكم من العِلْم بظهوره، فلما شاهدْتُموه وصارَ المعلوم معايَناً بالرُّؤية، فالتصديقُ به حينئذ يكون أَوْلى، فكفرتم به عند كمالِ المعرفة، وآمنتم به حين كانت غَيْبًا لم تكمل، فآمنتم به على تقدير وجودِه، وكفرتم به عند تحققِ وجودِه، فأيُّ تناقُض وعنادٍ أبلغُ من هذا؟!. الثالثة: أن يُقال: إيمانكم به لازمٌ لاستفتاحِكم به، ووجود الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ. الرابعة: أن يُقالَ: استفتاحكم به (1) هل كان عن دليل أو لا عن دليل؟ فلا بدَّ أن يقولوا: كان عن دليل، وحينئذٍ فيجب طَرْدُ الدليل، والقولُ بموجبِه حيث وجِد، فأما أن يقال بموجبه في موضِع، ويُجْحدُ موجبه في موضعٍ أقوى منه، فمن أبطلِ الباطل!!. الخامسة: أن يُقالَ: إن كان الاستفتاحُ به تصديقاً للنبيِّ الذي __________ (1) من قوله: "ووجود الملزوم ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1563)


أخبر بظهوره، وقامت البراهينُ على صدقِه؛ فالإيمان به متعيِّن تصديقًا للنبيّ الأول أيضًا، وإن كان ترك الإيمان به قبل ظهورِهِ تكذيباً للنبيِّ الأول، فتركُ الإيمان به بعد ظهورِهِ أشدُّ تكذيباً، فأنتم في كفرِكم به مكذبون للنبيِّ الأوّلِ والثاني، وهذا من أحسنِ الوجوه. السادسة: أن يُقال: إن كان الاستفتاحُ به حقًا لما ظهر على يد النبي المبشَّرِ به من المعجزات، فالإيمان به عند ظهورِه يكون أقوى؛ لانضمامِ المعجزاتِ التي ظهرت على يدِه، وهي تستلزم لصدقِه إلى المعجزات التي ظهرت على يد النبيِّ المُبَشِّر به، فقويت أدلَّة الصدق وتضافرَتْ براهينه. السابعة: أن يقالَ: أحد الأمرين لازمٌ ولا بُدّْ؛ إما خطأكم في استفتاحِكم به، وإما في كفرِكم وتكذيبكم به، فإنهما لا يمكنُ اجتماعُهما، فأيُّهما كان خطأ كان الآخرُ صَوابًا، لكن استفتاحكم به مستندٌ إلى الإيمان بالنبيِّ الأوَّلِ، فهو مستند إلى حقِّ، فتعينَ أن يكون كفرُهم به هو الباطل، ولا يمكنُ أن يقالَ: إن التكذيبَ به هو الحقُّ والاستفتاحُ به كان باطلاً، لأنه يستلزمُ تكذيبَ من أقررتم بصدقه ولا بدَّ. الثامنة: أن يقالَ: التصديقُ به قبلَ ظهوره من لوازمِ التصديقِ بالنبيِّ الأوَّل، والتكذيب به حينئذ كفر، فالتصديقُ به بعدَ ظهوره كذلك، (ق/369 أ)، وإن كان التكذيبُ به قبلَ ظهوره مستلزمًا للكفر بالنبيِّ الأول، فهو بعدَ ظهورِه أشد استلزاماً، فلا يجتمعُ التكذيبُ به والإيمان بالنبيِّ الأوّل أبدًا لا قبل ظهورِه ولا بعدَه؛ أما قيلَ ظهوره فباعترافِكم، وأما بعدَ ظهورِه فلأَن دلالةَ صدقِهِ حينئذ أظهر وأقوى كما تقدَّم بيانهُ.

(4/1564)


التاسعة: أن يقالَ: الاستفتاح به تصديقٌ وإقرار بنبُوَّتهِ، وتكذيبُهُ (ظ/ 256 ب) جَحدٌ وكفرٌ بها، والإيمان والتصديق برسالة الرجل الواحد، والتكذيب والجحد بها مستلزم للكفر ولا بُدَّ، فإنَّه يستلزم أحدَ الأمرين: إما التصديقُ بنبوَّةِ من ليس بنبي، وإما جَحْدُ نبوَّة من هو نبيٌّ، وأيَّهما كان فهو كفرٌ، وقد أقررتم على أنفسكم بالكفر ولا بد، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}. العاشرة: تقريرُ الاستدلال بطريقة استسلافِ المقدمات والمؤاخذةِ بالاعتراف؛ فيقال لهم: ألستم كنتم تستفتحون به؟ فيقولون: بلى، فيقال: أليس الاستفتاح به إيمانٌ به؟ فلا بُدَّ من الاعترافِ بذلك، فيقال: أفليسَ ظهور من كنتمْ تؤمنونَ به قبل وجودِه موجباً عليكم الإيمان به؟ فلا بدَّ من الاعتراف (1) أو العِنادِ الصَّريح. وليس لأعداءِ الله على هذه الوجوه اعتراض ألبتةَ، سوى أن قالوا: هذا كلُّهُ حقٌّ؛ ولكن ليس هذا الموجودُ بالذي كنا نستفتِحُ به، وهذا من أعظمِ البَهْتِ والعِنادِ، فإن الصِّفاتِ والعلاماتِ التي فيه طابقَتْ ما كانَ عندَهم مطابقةَ المعلوم لعلمهِ، فإنكار أن يكونَ هو، إنما يكونُ جَحْدًا للحقِّ وإنكاراً له باللِّسان، والقلبُ يعرفُ، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. فأغنى عن هذه الوجوهِ والتقريراتِ كلّها قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، والمادة الحقُّ يمكنُ إبرازُها في الصُّوَر المتَعَدَّدَةِ، وفي أيّ قالبٍ __________ (1) من قوله: "بذلك، فيقال ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1565)


أفرغَتْ وصُورة أُبْرِزتْ ظهرتْ صحيحة، وهذا شأن موادِّ براهينِ القرآن في أي صُورةٍ أبرزتَها ظهرتْ في غايةِ الصِّحَّةِ والبيان، فالحمدُ لله المانِّ بالهُدى على عبادِهِ المؤمنينَ. فصل وتأمَّلْ قولَه تعالى في هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101]، كيف تجد تحتَهُ برهاناً عظيمًا على صِدْقِهِ، وهو مجيءُ الرسولِ (ق/369 ب) الثاني بما يطابق ما جاء به الرَّسولُ الأوَّلُ، ويُصَدِّقُهُ مع تباعِدِ زمانِهما، وشهادَة أعدائِه، وإقرارِهم له بأنه لم يَتلَقَّهُ من بَشَرٍ، ولهذا كانوا يمتحنونهُ بَأشياءَ يعلمون أنه لا يُخبِرُ بها إلَّا نَبِيٌّ أو من أَخَذ عنه، وهم يعلمون أنه لم يأخذ عن أحدٍ ألبتةَ، ولو كان ذلك لوجد أعداؤه السبيلَ إلى الطعنِ عليه، ولعارضوه بمثل ما جاء به؛ إذ من الممكنِ أن لو كان ما جاء به مأخوذاً. عن بَشَر أن يأخذوا هم عن مَلَك (1) أو عن نظيرهِ فيعارضوا ما جاء به. والمقصودُ أن مطابقةَ ما جاء به لِما أخبَرَ به الرَّسُولُ الأوَّلُ، من غير مواطَأة ولا تَشاعُرٍ ولا تَلَق منه، ولا ممن أخذ عنه، دليلٌ قاطعٌ على صدقِ الرَّسُولَيْنِ معًا. ونظيرُ هذا: أن يشهدَ رجل بشهادةٍ، فيخبر فيها بما يقطعُ به أنه صادقٌ في شهادتِهِ صدقاً لا يتطرَّقُ إليه شُبْهَةٌ، فيجيءُ آخرُ من بلادٍ أخرى لم يجتمعْ بالأوَّل، ولم يَتَواطَأ معه، فيخبِرُ بنظيرِ تلك الشهادةِ سواءً، مع القَطْعِ بأنه لم يجتمعْ به، ولا تَلَقّاها عن أحدٍ اجتمعَ به، فهذا يكفي في صدقةٍ إذا تجرَّد الإخبار، فكيف إذا اقترنَ بأدِلَّة يقطعُ __________ (1) (ق وظ): "ذلك".

(4/1566)


بها بأنه صادقٌ أعظمَ من الأدِلَّةِ التي اقترنتْ بخبر الأوَّلِ!؟ فيكفي في العلم بصدقِ الثاني مطابقةُ خبرِه لخبر الأوَّلِ، فكيف إذا بَشَّرَ به الأولُ؟! فكيف إذا اقترن بالثاني من البراهين الدّالَّةِ على صدقِهِ نظيرُ ما اقترنَ بالأولِ وأقوى منها؟!. فصل * ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة: 91]. هذه حكايةُ مناظرةِ بينَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وبينَ اليهود لمّا قال لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فأجابوه بأن قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، ومرادهُم بهذا التخصيص: أن نؤمنَ بالمُنْزَل علينا دونَ غيرِه، فظهرت عليهم الحُجَّةُ بقولهم هذا من وجهين؛ دَلَّ عليهما قولُه تعالى: ...... } إلى آخر الآية. قال: إن كنتم قد آمنتم بما أُنْزِلَ عليكم (1) لأنه حقٌّ، فقد وجَبَ عليكمْ أن تُؤمنوا (ظ/ 257 أ) بما جاء به محمد لأنه حقٌّ مصدَّق لما معكم، وحُكْم الحقِّ الإيمان به أينَ كان، ومَعَ من كان، فلزمكم الإيمانُ بالحقَّيْنِ جميعًا أو الكفرُ الصُّراحُ. وفي قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} نكتةٌ بديعةٌ جدًا، وهي: أنهم لما كفروا به (ق/370 أ) وهو حقّ، لم يكن إيمانهم بما أنزل عليهم، لأجل أنه حقّ، فإذا لم يَتَّبِعوا الحق فيما أنزل عليهم، __________ (1) من قوله: "قوله تعالى ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1567)


ولا فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم لو آمنوا بالمُنْزلِ عليهم لأجل (1) أنه حقٌّ لآمنوا بالحقِّ الثاني، وأَعْطوا الحقَّ حقَّه من الإيمان، ففي ضِمن هذه الشهادةِ عليهم بأنهمِ لم يؤمنوا بالحقِّ الأوَّلِ ولا بالثاني، وهكذا (2) الحكم في كلِّ من فَرَّقَ الحق فآمَنَ ببعضِهِ وكَفَرَ ببعضهِ، كمن آمَنَ ببعض الكتاب وكَفَرَ ببعض، وكمن آمن ببعض الأنبياءِ وكفر ببعض، لم ينفعه إيمانهَ بما آمن به (3) حتى يؤمنَ بالجميع. ونظيرُ هذا التفريقِ تفريق من يردُّ آيات الصّفاتِ وأخبارها، ويقبلُ آياتِ الأوامرِ والنَّواهي، فإن ذلك لا ينفعُه لأنه آمَنَ ببعض الرِّسالة وكفر ببعض، فإن كانت الشّبْهَةُ التي عَرَضَتْ لمن كفر ببعض الأنبياءِ غيرَ نافعةٍ له، فالشبهةُ التي عرضت لمن ردَّ بعض ما جاء به النبيُّ أولى أن لا تكود نافعة، وإن كانت هذه عذراً له، فشبهةُ من كَذَّبَ بعضَ الأنبياء مثلُها، فكما أنه لا يكون مؤمنًا حتى يؤمنَ بجميع الأنبياء، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميعهم، فكذلكَ لا يكون مؤمناً حتى يؤمنَ بجميِع ما جاء به الرَّسولُ، فإذا آمن ببعضهِ وردَّ بعضَه، فهو كمن كفر به كُلّه. فتأمَّلْ هذا الموضِعَ واعتبِر به الناس على اختلافِ طوائِفهم، يتبين لك أن أكثرَ من يَدَّعِي الإيمان برئٌ من الإيمان، ولا حَوْل ولا قوَةَ إلَّا بالله. الوجه الثاني: من النقض قولهُ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ __________ (1) ليست في (ع). (2) (ق وظ): "وهذا". (3) (ع وظ): "كفر به".

(4/1568)


كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) ووجهُ النقض: أنكم إن زعَمْتُم أنكم تؤمنون بما أنْزلَ إليكم وبالأنبياء الذين بُعثوا فيكم، فَلمَ قتلتموهم من قبلُ؟ وفيما أُنزل إليكم (1) الإيمان بهم وتصديقُهمِ، فلا آمنتم بما أُنْزلَ إليِكم ولا بما أُنْزلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم كأنه تَوقَعَ منهم الجوابَ: بأنّا لم نقتل من ثَبَتتْ نبوَّتُهُ، ولم نكذِّب به، فأُجيبوا -على تقدير هذا الجوابِ الباطلِ منهم -بأن موسى قد جاءَكُمْ بالبيِّناتِ، وما لا رَيْبَ معه في صحَّة نبوَّتِهِ، ثم عبدتم العجلَ بعد غيبته عنكم وأشركتم باللهِ وكفرتم به، وقد علمتم نبوَّةَ موسى وقيامَ البراهين على صدقِهِ، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} [البقرة: 92]، فهكذا تكون الحججُ والبراهينُ ومناظراتُ الأنبياء لخصومهم. * (ق/ 370 ب) ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} [البقرة: 94]، كانوا يقولونَ: نحن أحبَّاءُ اللهِ ولنا الدَّارُ الآخرَةُ خالصةً من دونِ النَّاسِ، وإنما يُعَذَّبُ منا من عَبَدَ العجلَ مُدَّة، ثمَّ يخرُجُ من النَّارِ، وذلك مُدَّةُ عبادتهم له، فأجابهم تبارك وتعالى عن قولهم: إن النار لن تَمَسَّهم إلَّا أيامًا معدودةً بالمطالبة، وتقسيمِ الأمر بينَ أن يكون لهم عند الله عهدٌ عَهِدَهُ إليهم، وبيْنَ أن يكونوا قد قالوه عليه بما (2) لا يعلمونَ، ولا سبيلَ لهم إلى ادِّعاء العهد، فتعيَّنَ الثاني، وقد تقدَّم. ثم أجابهم عن دعواهم خلوصَ الآخِرَةِ لهم بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}؛ لأن الحبيبَ لا يَكْرَهُ لقاءَ حبيبِه، __________ (1) من قوله: "وبالأنبياء الذين ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) (ع): "ما".

(4/1569)


والابنُ لا يكرهُ لقاءَ أبيه، لاسيَّما إذا عَلِمَ أن كرامَتَه ومثوبته مختصَّة به، بل أحبُّ شيء إليه لقاءُ حبيبه وأبيه، فحيثُ (ظ/ 257 ب) لم يحبَّ ذلك ولم يَتمنَّهُ، فهو كاذبٌ في قوله، مبطِلٌ في دعواه. ونظير هذا قوله في سورة (المائدة) ردًّا عليهم قولَهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] يعني. أنَّ الأب لا يُعَذِّبُ ابنَهُ، والحبيبُ لا يُعَذِّبُ حبيبَهُ. وها هنا نكتةٌ لطيفةٌ جدًّا قلّ من يَنْتَبِهُ لها، ونحنْ نُقَرَّرها بسؤالٍ وجوابٍ. فإن قيل: معلومٌ أن الأبَ قد يؤَدبُ وَلَدَهُ إذا أذنبَ، والحبيبُ قدِ يهجُرُ حبيبَه إذا رأى منه بعض ما يكرهُ. قيل: لو تأمَّلْتَ أيُّها السائلَ قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لعلمتَ الفرقَ بين هذا التعذيبِ وبين الهجران والتأديب، فإنَّ التعذيبَ بالذنب ثمرةُ الغَضَب المنافي للمحبَّةِ، فلو كانت المَحبةُ قائمة كما زعموا لم يكنْ هناكَ ذنوبٌ يستوجبون عليها العذابَ، من المسخِ قردة وخنازيرَ، وتسلُّط أعدائهم عليهم يستبيحونهم ويستعبدونهم، ويُخرَبوِن مُتعَبَّدَاتِهم ويسبونَ ذرارِيهم، فالمحبُّ لا يفعلُ هذا بحبيبِه ولا الأبُ بابِنهِ. ومعلومٌ أنَّ الرحمن الرحيم لا يفعلُ هذا بأمَّةٍ إلا بعد فَرْط إجرامِها وعُتُوِّها على الله، واستكبارِها عن طاعتِهِ وعبادتِه، وذلك يُنافي كونهم أحبابَهُ، فلو أحبُّوه لما ارتكبوا من غضبهِ وسَخَطِهِ ما أوجبَ لهم ذلك، ولو أحبَّهم لأدَّبهم ولم يُعذِّبْهم، فالتأَديبُ شيءٌ والتَّعذيبُ (ق/ 371 أ) شيء، والتأديبُ يُرادُ به التهذيبُ والرحمةُ والإصلاحُ، والتعذيبُ

(4/1570)


للعقوبةِ والجزاءِ على القبائحِ، فهذا لونٌ وهذا لونٌ. وفي ضمن هذه المناظرة معجزةٌ باهرةٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهي أنه في مقامِ المُناظرةِ مع الخصوم الذين هم أحرصُ النّاسِ على عداوتهِ وتكذيْبهِ، وهو يخبرُهم خبرًا جَزْمًا أنهم لن يَتَمَنَّوُا الموتَ أبداً، ولو علموا من نفوسِهم أنهم يَتَمَنَّوْنَهُ لوجدوا طريقاً إلى الرَّدِّ عليه، بل ذلُّوا وغُلِبوا وعَلموا صحَّةَ قوله، وإنما منعهم من تمَني الموتَ معرفتُهم بما لهم عند الله من الخِزْي والعذاب الأليمِ، بكفرهِم بالأنبياءِ، وقتلِهم لهم وعَدَاوَتِهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيلَ: فهلا أظَهروا التمَنِّي وإن كانوا كاذبينَ فقالوا: فنحن نَتَمَنَّاه؟. قيل: وهذا أيضًا معجزةٌ أخرى، وهي: أن الله حَبَسَ عن تَمَنِّيهِ قلوبَهم وألسِنتهم، فلم تُرِدهُ قلوبهم ولم تنطِقْ به ألسنتهم تصديقاً لقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]، هذه دعوى من كلِّ واحدة من الطائفتين، أنه لن يدخلَ الجنَّةَ إلَّا من كان منها، فقالت اليهودُ: لا يدخلُها إلَّا من كان هودًا (1)، وقالت النَّصارى: لا يدخلُها إلَّا من كان نصرانيًا، فاختصر الكلام أبلغَ اختصارٍ وأوجزَه، مع أَمْن اللَّبْس ووضوح المعنى، فطالَبَهُمُ اللهُ تعالى بالبرهانِ على صحةِ هذه الدَّعوى، فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) وهذا هو المُسَمَّى: "سؤالَ المطالبةِ __________ (1) (ق): "يهودياً".

(4/1571)


بالدَّليلِ"، فمن ادَّعى دعوى بلا دليل يُقالُ له: هاتِ برهانَكَ إن كنتَ صادقاً فيما ادَّعَيْتَ، ويحتجُّ بهذه الَآيةِ من يقولُ: يلزم النّافي الدَّليل كما يلزمُ المُثبِت، وحَكَوْا في ذلك ثلاثَ مذاهب. ثالثها: يلزمُهُ في الشرعيات دون العقليات، واستدلالُهم بالآية (ظ/258 أ) لا يصِحُّ؛ لأن الله تعالى لم يطالبهم بدليلِ النَّفْيِ المجرَد، بل ادعوا دعوى مضمونُها إثبات دخولهم الجنَّةَ، وأن غيرَهم لم يدخُلْها (1)، فطولبوا بالدليل الدّالِّ على هذه الدعوى المركَّبة من النفْي والإثباتِ، وصاحبُ هذه الدعوى يلزمُهُ الدليل باتَفاق الناس، وإنما الخلافُ في النفي المُجَرَّدِ. ولو استَدلَّ هؤلاء بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]؛ لكان أقربَ، مع كونهِ متضمِّنا للنفي والإثبات، لكن الدعوى فيه إنما توجَّهَتْ إلى (ق/ 371 ب) النفي ومقصودُ الكلام: إنا لا نعَذَّبُ بعد تلك الأيام، فلم يُنْكِرْ عليهم اعترافَهم بالتَّعذيب تلك الأيام، بل دعواهم أنهم لا يعَذَّبون بعدَها، وذلك نفْيٌ محضٌ، فلذلك قلنا: إن الاستدلال بها أقربُ من هذه الآية. وبعد؛ فالتحقيقُ -في مسألة النافي هل عليه دليلٌ-: أن النفيَ نوعان: نوع: مستلزمٌ لإثباتِ ضدِّ المنفي، فهذا يَلْزَمُ النافيَ فيه الدليل، كمن نفى الإباحةَ، فإنه يطالَبُ بالدليل قطعاً؛ لأن نفيَها يستلزمُ ثبوتَ ضدّ من أضدادِها، ولا بد له من دليل، وكذلك نفي التعذيب بالنّار بعد الأيامِ المعدودة، يستلزمُ دخولَ الجنةِ والفوز بالنعيمِ، ولا بُد له من دليل. __________ (1) (ق): "يدخلوها".

(4/1572)


النوع الثاني: نفيٌ لا يستلزم ثبوتاً، كنفي صحَّةِ عقدٍ من العقود، أو شرطٍ أو عبادة في الشرعيَّاتِ، ونفي إمكان شيء ما من (1) الأشياء في العقليّاتِ، فالنافي إن نَفَى العلمَ به لم يلزمه دليلٌ، وإن نفى المعلومَ نفسَهُ وادَّعى أنه منتفٍ في نفس الأمر فلا بدَّ له من دليل. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 116، 117]، فردَّ عليهم سبحانه دعواهم له اتخاذَ الولد، ونزَهَ نفسَه عنه، ثم ذكر أربعَ حُجَجٍ على استحالَةِ اتخاذِهِ الولَدَ. أحدها: كونُ ما في السموات والأرض مُلْكاً له، وهذا ينافي أن يكونَ فيهما ولدٌ له؛ لأنَّ الولدَ بعضُ الوالد وشريكُه، فلا يكونُ مخلوقاً له مملوكاً له؛ لأنَّ المخلوقَ مملوكٌ مربوبٌ، عبدٌ من العبيد، والابن نظيرُ الأب، فكيف يكونُ عبدُه تعالى ومخلوقه ومملوكُه بعضَه ونظيرَهُ؟! فهذا منَ أبطلِ الباطل. وأكَّد مضمونَ هذه الحُجَّةِ بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}، فهذا تقريرٌ لعبودِيَّتِهم له، وأنهم مملوكونَ مربوبونَ، ليس فيهم شريكٌ ولا نظيرٌ ولا ولدٌ، فإثباتُ الولدِ لله من أعظم الإشراكِ به، فإن المشرِكَ به جعل له شريكاً من مخلوقاتِه مع اعترافِه بأنه مملوكه، كما كان المشركونَ يقولون في تلبيتِهم: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لبيكْ، لبَّيْكَ لا شريكَ لك، إلَّا شَرِيكٌ هو لك، تملكهُ وما مَلَكَ"، فكانوا يجعلونَ من أشركوا به مملوكاً له عبدًا مخلوقًا، والنَّصارى جعلوا له شريكًا هو نظيرٌ وجزءٌ __________ (1) (ق وظ): "شيء من".

(4/1573)


من أجزائِهِ، كما جعل بعض المشركينَ الملائكةَ بنات الله، فقال تعالى: (ق/ 372 أ) {وَجَعَلُوا لَهُ (1) مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} [الزخرف: 15]، فإذا كان الله ما في السَّمواتِ والأرض عبيدٌ قانتون مربوبونَ مملوكون، استحالَ أن يكون له منهم شريكٌ وكلُّ من أقرَ بأن لله ما في السّموات وما في الأرض؛ لَزِمَهُ أن يُقِرَّ له بالتوحيد ولا بُدَّ، ولهذا يحتجُّ سبحانه على المُشْرِكينَ بإقرارِهم بذلك، كقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدُ بيانٍ لهذا في موضعه. الحجة الثانية: قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، وهذه من أبلغ الحُجَج على استحالة نسبة الولدِ إليه، ولهذا قال في سورة (الأنعام): {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] أي: من أينَ يكون لبديع السَّمواتِ والأرض ولدٌ؟! ووجهُ تقريرِ هذه الحجَّةِ: أن مَنِ اخترع السمواتِ والأرض -مع عِظَمِهما وَآياتِهما- وفطَرَهما وابتدَعَهما (ظ / 258 ب)، فهو قادرٌ على اختراع ما هو دونَهما، ولا نسبةَ له إليهما ألبَتَهَّ، فكيف يخرجون هذا الشخص المعيَّن (2) عن قُدرتهِ وإبداعِه، ويجعلونَهُ نظيرًا وشريكاً وجُزءاً؟! مع أنه تعالى بديعُ العالَمِ العُلْوِيَّ والسُّفْلِي وفاطرهُ ومخترعُهُ وبارؤهُ، فكيف يُعْجزُهُ أن يوجدَ هذا الشخص من غيرِ أبٍ حتى يقولوا: إنه ولدُهُ؟! فإذا كان قد أبدع العالَمَ عُلْوِيَّهُ وسُفْلِيَّهُ، فما يُعجزهُ ويمنعُهُ عن إبداعِ هذا العبدِ وتكوينهِ (3) وخلقِه بالقدرةِ التي خلقَ بها العالمَ العُلْويَّ والسفلي؟!. __________ (1) من قوله: "شريكاً هو نظير ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) (ع): "بالعين"، وسقطت من (ق). (3) (ق): "عن إبداعه وتكوينه هذا العبد"

(4/1574)


فمن نسب الولدَ لله فما عرف الربَّ تعالى، ولا آمَنَ به ولا عبدَهُ. فظهرَ أن هذه الحُجَّةَ من أبلغِ الحُجَجِ على استحالةِ نسبةِ الولدِ إليه. وإن شئت أن تُقَررَ الاستدلالَ بوجهٍ آخَرَ، وهو أن يقالَ: إذا كان نسبةُ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما إليه إنما هى بالاختراع والخَلْق والإبداع، أنشأ ذلك وأبْدَعَهُ من العَدَم (1) إلى الوجود، فكيَف يَصِحُّ نسبةُ شيءٍ من ذلك إليه بالنبوَّةِ، وقدرته على اختراعِ العالمِ وما فيه لم تزَل، ولم يحتجْ فيها إلى معاونٍ ولا صاحب ولا شريكٍ. وإن شئتَ أن تقَرِّرَها بوجهِ آخَرَ فتقول: النسبةُ إليه بالبنوَّةِ تستلزم حاجتَهُ وفقرَهُ إلى محل الولادةِ، وذلك يُنافي غِناه وانفرادَهُ بإبداع السّمواتِ والأرضِ، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] فكمال قدرته، وكمالٌ غناه، وكمالُ ربوبِيَّتهِ، يُحِيلُ نسبةَ الولدِ إليه، ونسبَتُه إليه تقدحُ في كمالِ ربوبيتِهِ، وكمال غناه وكمالِ قدرتهِ. ولذلك كان نسبةُ الوَلَد إليه مَسَبَّةَ له تباركَ (ق/372 ب) وتعالى، كما ثَبَتَ في "الصحيحين" (2) عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَقولُ اللهُ تَعالَى شَتَمَنِي ابْن آدَمَ وَما يَنْبغِي لَهُ ذلِكَ، وَكَذَّبنَي ابْنُ آدَمَ وَما يَنْبغِي لَهُ ذلكَ، أمَّا شَتْمُهُ إيّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا وَأنا الأحَدُ الصمَدُ الَّذي لَمْ ألِدْ وَلَمْ أولَدْ وَلَمْ يكُنْ لِي كفُوًا أحدٌ، وَأمَّا تكْذيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُه: لَنْ يُعيدَنِي كما __________ (1) (ع): من العلوم من العدم"! (2) أخرجه البخاري رقم (4482) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورقم (4975) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه -. وليس في مسلم.

(4/1575)


وأنها والدةُ الإله (1) عيسى، فيقول عوامُّهم: يا والدةَ الإلهِ اغفري لي، ويصرِّح بعضُهم بأنها زوجةُ الرَّبِّ، ولا رَيْبَ أن القول بالإيلادِ يستلزمُ ذلك، أو إثباتُ إيلادٍ لا يُعقلُ ولا يُتوهَّمُ، فخواصُّ النَّصارى في حَيْرَة وضَلالِ، وعوامُهم لا يستنكفونَ أن يقولوا بالزوجةِ والإيلادِ المعقولِ، تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوًّا كبيراً، والقومُ في هذا المذهب الخبيثِ أضَلُّ خلق الله، فهم كما وصفهم اللهُ بأنهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77] وأما منافاةُ عموم علمِه تعالى للوَلَد؛ فيحتاجُ إلى فهم خاصٍّ، وتقريره أن يقالَ: لو كان له ولدٌ لعَلِمَه؛ لأنه بكلِّ شيء عليم، وهو تعالى لا يعلم له ولداً، فيستحيلُ أن يكون له ولدٌ لا يعلمُه، وهذا استدلالٌ بنفي علمه للشيء على نفيهِ في نفسِه، إذ لو كان لَعَلِمَه، فحيث لم يعلَمْه فهو غيرُ كائنِ. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فهذا نفيٌ لما ادَّعَوْهُ من الشّفعاء بنفْي علمِ الرَّب تعالى بهم، المستلزمِ لنفيِ المعلومِ، ولا يمكنُ أعداءَ الله المكابرةُ، وأن يقولوا: قد عَلِمَ اللهُ وجودَ ذلك؛ لأنه تعالى إنما يعلم وجودَ ما أوجَدَهُ وكوَّنه، ويعلم أن سيوجدُ ما يريدُ إيجادَه، فهو يعلمُ نفسَهُ وصفاتِهِ، ويعلمُ مخلوقاتِهِ التي دخلت في الوجود وانقطعتْ، والتي دخلتْ في الوجودِ وبَقِيَتْ، والتي لو توجد بعد. وأما شيءٌ آخَرُ غيرُ مخلوقٍ له ولا مربوب؛ فالرَّبُّ تعالى لا يعلمُه؛ __________ (1) (ظ): "الإله الإله".

(4/1576)


بَدَأني وَلَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ (1) مِنْ إعادَتِهِ". وقال عمرُ بن الخطّاب في النَّصارى: "أَذلُّوهم ولا تَظْلِمُوهم، فلقد سَبُّوا اللهَ مَسَبَّةً ما سَبَّة إيّاها أحَدٌ من البَشَر" (2)، وقال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 4 - 5]، وأخبر تعالى: أن السماوات كادت تنفطر من قولهم هذا وتنشق الأرض منه وتخر الجبال هدًّا (3)، وما ذاك إلا لتضمُّنه شتمَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، والتنَقُّصَ به، ونسبة ما يمنع كمال ربوبِيته، وقدرته وغناه إليه. الحجة الثالثة: قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] وتقريرُ هذه الحُجَّةِ: أن من كانت قدرتُهُ تعالى كافية في إيجاد ما يريدُ إيجادَهُ بمجرَّدِ أمرِه، وقوله: "كنْ"، فأيُّ حاجة به إلى ولدٍ؟، وهو لا يتكثَّرُ به من قِلَّة، ولا يَتَعَزَّز (4) به، ولا يستعينُ به، ولا يعجز عن خلقِ ما يريدُ خَلْقهُ، وإنما يحتاج إلى الولدِ من لا يخلُق، ولا إذا أراد شيئًا قال له: كنْ فيكون، وهو (5) المخلوقُ العاجزُ المحتاجُ الذي لا يقدِرُ على تكوينِ ما أراد. وقد ذكر تعالى حُجَجًا أخرى على استحالةِ نسبة الولد إليه، فنذكرُها في هذا الموضع: __________ (1) (ع وق): "عليه". (2) لم أعثر عليه. (3) كما في سورة مريم آية (90). (4) (ق): "ولا يتكبر ولا يتعزّز". (5) (ع): "وهذا".

(4/1577)


وأنها والدةُ الإله (1) عيسى، فيقول عوامُّهم: يا والدةَ الإلهِ اغفري لي، ويصرِّح بعضُهم بأنها زوجةُ الرَّبِّ، ولا رَيْبَ أن القول بالإيلادِ يستلزمُ ذلك، أو إثباتُ إيلادٍ لا يُعقلُ ولا يُتوهَّمُ، فخواصُّ النَّصارى في حَيْرَة وضَلالِ، وعوامُهم لا يستنكفونَ أن يقولوا بالزوجةِ والإيلادِ المعقولِ، تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوًّا كبيراً، والقومُ في هذا المذهب الخبيثِ أضَلُّ خلق الله، فهم كما وصفهم اللهُ بأنهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77] وأما منافاةُ عموم علمِه تعالى للوَلَد؛ فيحتاجُ إلى فهم خاصٍّ، وتقريره أن يقالَ: لو كان له ولدٌ لعَلِمَه؛ لأنه بكلِّ شيء عليم، وهو تعالى لا يعلم له ولداً، فيستحيلُ أن يكون له ولدٌ لا يعلمُه، وهذا استدلالٌ بنفي علمه للشيء على نفيهِ في نفسِه، إذ لو كان لَعَلِمَه، فحيث لم يعلَمْه فهو غيرُ كائنِ. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فهذا نفيٌ لما ادَّعَوْهُ من الشّفعاء بنفْي علمِ الرَّب تعالى بهم، المستلزمِ لنفيِ المعلومِ، ولا يمكنُ أعداءَ الله المكابرةُ، وأن يقولوا: قد عَلِمَ اللهُ وجودَ ذلك؛ لأنه تعالى إنما يعلم وجودَ ما أوجَدَهُ وكوَّنه، ويعلم أن سيوجدُ ما يريدُ إيجادَه، فهو يعلمُ نفسَهُ وصفاتِهِ، ويعلمُ مخلوقاتِهِ التي دخلت في الوجود وانقطعتْ، والتي دخلتْ في الوجودِ وبَقِيَتْ، والتي لو توجد بعد. وأما شيءٌ آخَرُ غيرُ مخلوقٍ له ولا مربوب؛ فالرَّبُّ تعالى لا يعلمُه؛ __________ (1) (ظ): "الإله الإله".

(4/1578)


لأنه مستحيلٌ في نفسِه، فهو يعلمُه مستحيلاً لا يعلمُه واقعًا، إذ لو عَلِمَه واقعاً لكان العلمُ به عينَ الجهل، وذلك من أعظم المُحال. فهذه حُجَجُ الرَبِّ تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه (1) إليه أعداؤُه المفترونَ عليه، فوازِنْ بينها وبينَ حُجَج المتكلِّمينَ الطَّويلةِ العريضةِ التي هى كالضرِيع، الذي (2) لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، فإذا وازنتَ بينهما (ق /373 ب) ظهرت لك المفاضلةُ إنْ كنتَ بصيرًا، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]. فالحمدُ لله الذي أغنى عبادَهُ المؤمنينَ بكتابه، وما أودعَه من حُجَجه وبيِّناتِهِ عن شقائقِ المتكلَمينَ، وهَذَياناتَ المُتَهَوِّكِينَ، فلقد عَظُمَت نعمةُ الله على عبدٍ أغناهُ بفهمِ كتابه عن الفقر إلى غيره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. فصل * ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] فأجيبوا عن هذه الدَّعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]، وهذا الجوابُ مع اختصاره قد تضمَّن المنعَ والمعارضة. أما المنعُ: فما تضمَّنه حرف (بل) من الإضراب، أى: ليس الأمرُ كما قالوا. وأما المعارضةُ: ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، أي: يتبَّع أو اتَّبعوا ملةَ إبراهيمَ حنيفًا، وفي ضمنِ هذه المعارضة إقامَةُ الحُجةِ __________ (1) (ق): "نمته". (2) ليست في (ع).

(4/1579)


على أنها أولى بالصَّواب مما دعوتم إليه من اليهودِيَّةِ والنصرانيَّةِ؛ لأنه وَصَفَ صاحبَ المِلَّةِ بأنه حنيفٌ غيرُ مُشْرِكٍ، ومن كانتْ (1) مِلَّتَهُ الحنيفيةُ والتوحيدُ، فهو أولى بأن يتبّع ممن مِلَّتُهُ اليهوديةُ والنصرانيَّةُ، فإن الحنيفيةَ والتوحيدَ هي دينُ جميع الأنبياءِ، الذي لا يقبلُ اللهُ من أحدٍ دينًا سواه، وهو الفطرةُ التي فَطرَ اللهُ عليها عبادهُ، فمن كان عليها فهو المهتدي؛ لأنَّ من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا فإن الحنيفيةَ تضمَّنُ الإقبالَ على الله بالعبادة والإجلالِ والتعظيمِ والمحبَّةِ والذُلِّ. والتوحيدُ يضمَّنُ إفرادَه بهذا الإقبالِ دونَ غيرِه، فيُعْبَدُ وحدَهُ، ويحَب وحدَهُ، ويُطاعُ وحدَه، لا يُجْعَل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؛ صاحبُ هذه المِلَّةِ أو مِلَّةُ اليهوديَّة والنصرانيَّة؟!. ولا يبقى بعد هذا للخصومِ إلَّا سؤالٌ واحدٌ، وهو أن يقولوا (ظ/259 ب): فنحن على ملَّتِهِ أيضًا لم نخرجْ عنها، وإبراهيمُ وبنُوْه كانوا هودًا أو نصارى، فأُجيبوا عن هذا السُّؤال: بأنهم كاذبون فيه، وأن الله تعالى قد عَلِمَ (2) أنه لم يكنْ يهودياً ولا نصرانيًا، فقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (ق/ 374 أ) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140]،، وقرَّر هذا الجوابَ في سورة (آل عمران) بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}. __________ (1) (ق وظ): "كان". (2) "قد علم" ليست في (ع).

(4/1580)


فإن قالوا: فهبْ أن إبراهيمَ لم يكن يهودياً ولا نصرانيًا فنحن على ملَّتِهِ، وإنِ انْتحلنا هذا الاسمَ؟. فأجيبوا عن هذا بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.} الآية إلى قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، فهذه للمؤمنين. ثم قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]، وإن أَتَوْا من الإيمان بمثلِ ما أتَيْتم به، فَهُم على مِلَّةِ إبراهيمَ وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمانٍ مثل إيمانِكم، فليسوا من إبراهيمَ ومِلَّتِهِ في شيء، وإنما هم في شقاقٍ وعداوة، فإن ملَّةَ إبراهيمَ: الإيمانُ بالله وكتبِهِ ورسلِهِ، وأن لا يُفرَّق بين أحدٍ منهم، فَيُؤمَنَ ببعضِهم ويُكْفَرَ ببعضِهم، فمن لم يأتِ بهذا (1) الإيمانِ، فهو بريءٌ بها من ملَّةِ إبراهيمَ، مشاقٌ لمن هو على مِلَتِهِ. وقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] أي: الله تعالى يعلمُ ما كان عليه إبراهيمُ والنَّبِيُّونَ من المِلَلِ، وأنهم لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، فاللهُ تعالى يعلمُ ذلك، فلو كانوا يهودًا أو نصارى، واللهُ تعالى لا يعلمُ ذلك؛ لكنتم أعلَمَ من الله بهِم، هذا مع أنَّ عندكَم شهادة وبَينَةً من الله بما كان عليه إبراهيمُ، وبأنَّ هذا النبيَّ على مِلَتِهِ، ولكنكم كتمتُم هذه الشهادةَ عن أتباعِكم، فلم تؤدّوها إليهم مع تحقُّقِكم لها، ولا أظلم ممن كَتَمَ شهادة استشهدَهُ الله بها، فهي عندَه من الله، إلا أنه (2) كتمها من اللهِ، فالمجرورُ مُتَعَلِّق بما تضمَّنَه الظرفُ، الذي هو "عندَه" من الكونِ والحصولِ. __________ (1) (ظ): "بمثل هذا". (2) (ق): "لأنه".

(4/1581)


فصل * ومِنْ ذلك قولُه تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. هذا سؤالٌ من السفهاءِ أوردوه على المؤمنينَ، ومضمونهُ: أن القبلةَ الأولى إن كانت حقًا فقد تركتُمُ الحَقَّ, وإن كانت باطلاً فقد كنتم. على باطلٍ، ولفظُ الآية وإن لم يَدُلَّ على هذا, فالسُّفهاءُ المجادلون في القِبْلةِ قالوه. فأجاب اللهُ تعالى عنه بجواب شافٍ بعد أن ذكر قَبْلَه مقدِّماتِ تقرِّرُهُ وتوضِّحُهُ، والسؤالُ من جهةِ الكفَّار أوردوه على صُوَر متعدِّدة، ترجعُ إلى شىِء واحدٍ، فقالوا ما تَقَدَّمَ، وقالوا: لو كان (1) نبيًّا (2) ما تركَ قِبْلَةَ الأنبياءِ قَبْلَهُ. وقالوا: "لو كان نبيًّا ما كان يفعلُ اليوم شيئًا وغدًا خلافه". وقال المشركون: "قد رَجَعَ إلى قبلتِكم فيوشِكُ أن يرجِعَ إلى دينكم". وقال أهل الكتاب: "لو كان نَبيًّا ما فارقَ قِبْلَةَ الأنبياءِ"، وكثر الكلام وعظُمتِ المحْنَةُ على بعض الناسِ، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]. وتأملِ حكمةَ العزيز الحكيم، ولطفَه وإرشادَه في هذه القصَّة، __________ (1) من قوله: "الكفار أوردوه ... " إلى هنا ساقط من "ق". (2) (ق): "نبيَّه".

(4/1582)


لما علم أن هذا التَّحويلَ أمر كبيرٌ، كيف وطَّأهُ ومهَّدَهُ وذلَّلَهُ بقواعدَ قَبْلَه، فذكر النسخَ، وأنه إذا نَسَخَ شيئًا أتى بمثلِه أو خيرٍ منه، وأنه قادرٌ على ذلك فلا يعْجزهُ، ثم قرَّر التسليمَ للرسول، وأنه لا ينبغي أن يُعتَرَضَ عليه، ويسأل تَعنتًا، كما جرى لموسى مع قومِه، ثم ذكر البيتَ الحرامَ وتعظيمه وحُرْمَتَهُ، وذكَرَ بانِيه وأثنى عليه، وأوجب اتِّباعَ مِلَّتِهِ فقرَّر في النفوس بذلك توجهها إلى هذا البيتِ بالتعظيمِ والإجلالِ والمحَبَّة، وإلى بانِيه بالاتِّباع والموالاةِ والموافقةِ، وأخبر تعالى أنه جعل البيتَ مثابةً للناس، يثُوبون إليه ولا يقضون منه وطَرًا، فالقلوب عاكفة على محبَّته، دائمة الاشتياقِ إليه، متوجِّهة إليه حيث كانت، ثم أخبر أنه أمَرَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بتطهيرِه للطَّائفينَ والقائمينَ والمُصَلِّين، وأضافَهُ إليه بقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، وهذه الإضافةُ هي التي أسْكَنَتْ في القلوب من محبَّتِهِ والشوقِ إليه ما أسكنَتْ، وهي التي أقبلَتْ بأفئدةِ العالَم إَليه، فلما استقرَّتْ هذه (ظ/ 260 أ) الأمور في قلوبِ أهل الإيمان وذُكَروا بها، فكأنَّها نادتهم: أن استقبلوه في الصَّلاة، ولكن توقفَتْ على ورود الأمر من ربِّ البيت، فلما برز مرسوم: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، تلقَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والراسخون في الإيمان بالبشرى والقَبولِ، وكان عيدًا عندَهم؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان كثيرًا ما يُقَلِّب وجهَه في السَّماءِ ينتظرُ أن يُحَوِّلَه الله عن قبلةِ أهلِ الكتابِ، فولَّاه اللهُ القبلةَ التي يرضاها، وتلقَّى ذلك الكفارُ بالمعارضةِ وذِكْر الشبهاتِ الدَّاحِضَةِ، وتلقَّاه الضعفاء عن المؤمنينَ بالإغماضِ والمشقةِ. فذكَرَ تعالى أصنافَ الناس عند الأمرِ (1) باستقبالِ الكعبةِ، وابتدأ __________ (1) من قوله "وتلقاه الضعفاء ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1583)


ذلك بالتسليةِ لرسولهِ وللمؤمنينَ عما يقول السفهاءُ من الناسِ، فلا تَعْبثُوا بقولهم، فإنه قول سفيه، ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (ق / 375 أ) يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142] فأخبر تعالى أن المشرق والمغربَ: له، وأنه ربّ ذلك، فأين ما تَعَبَّدَ له عبادهُ بأمرِه، إلى أيِّ جهة كانت فهم مطِيعون له، كما قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (1) فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فلم يُصَلِّ مسقبِلُ الجهاتِ بأمرِه إلا له تعالى، فإذا كنتم تصَلُّون إلى غير الكعبة بأمرهِ، ثم أَمَرَكُم أن تصلُّوا إليها، فما صَلَّيْتم إلَّا له أولًّا وَآخرًا، وكنتم على حق في الاستقبال (2) الأوَّلِ والآخرِ، لأن كليهما كان بأمرهِ ورضاه، فانتقلتم من رضاه إلى: رضاه. ثم نبَّهَ على فضلِ الجهةِ التي أمرهم بالاستقبالِ إليها ثانيًا بأنه يهدي من يَشاءُ إلى صراط مستقيم، كما هداكم للقبلةِ التي جعلها قِبْلَتكُمْ، وشرَعها لكم ورضِيَها، ولكن أمركم باستقبالِ غيرِها أولًّا لحكمة له في ذلك, وهي أن يعلمَ -سبحانه- من يَتَّبعُ الرسولَ ويدور معه حيثما دار، ويأتمر بأوامرِهِ كيف تصَرَّفَتْ، وهو العالِمُ بكل شيء، ولكن شاءَ أن يعلمَ معلومَه الغَيبيَّ (3) عيانا مشاهدًا، فيتميزُ بذلك الراسخُ في الإيمان، المسَلِّمُ للرسولِ، المنقاد له، ممن يعبدُ الله على حَرْف، فينقلبُ على عَقِبيه بأدنى شبهَةٍ. فهذا من بعضِ حكَمه في أن جعلَ القبلةَ الأولى غيرَ الكعبةِ، فلم يشرعْ ذلك سدًى ولا عَبَثا، ثم أخبر -سبحانه- أنه كما جعل لهم __________ (1) من قوله: "فأين ما ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من (ظ)، وسقطت من (ع)، وفي (ق): "الانتقال". (3) (ع): "معلومه العيني"، (ق): "علمه الغيبي".

(4/1584)


أوسط الجهات قبلة لتعبدهم فكذلك جعلهم أمة وسطًا فاختار القبلة الوسط في الجهات للأمة الوسط في الأمم, ثم ذكر أن هذا التفضيل والاختصاص ليستشهدهم على الأمم فيقبل شهادتهم على الخلائق يوم القيامة, ثم أجاب -تعالى- عما سأل عنه المؤمنون من صلاتهم إلى القبلة الأولى, وصلاة من مات من إخوانهم قبل التحويل فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] , وفيه قولان: أحدهما: ما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس, بل يجازيكم عليها؛ لأنها كانت بأمره ورِضاه. والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى, وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها. وأكثر السلف والخلف على القول الأول وهو مستلزم للقول الآخِرِ (1). ثم ذكر منته على رسوله, واطلاعه على حرصه على تحويله عن قبلته الأولى, فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب بأنهم يعلمون (ق / 375 ب) أنه الحق من ربهم, ولم يذكر للضمير مفسِّرا غير ما في السياق, وهو الأمر باستقبال المسجد الحرام وأن أهل الكتاب عندهم (ظ / 260 ب) من علامات هذا النبي أن يستقبل بيت الله الذي بناه إبراهيم في صلاته, __________ (1) انظر "تفسير الطبرى": (2/ 19 - 21).

(4/1585)


ثم أخبر تعالى عن شدَّة كفر أهل الكتاب بأنهم لو أتاهم الرسول بكلِّ آية ما تبعوا قبلته. ففي ذلك التسلية له, وتركهم وقبلتهم. ثم بَرَّأهُ من قبلتهم فقال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145] , ثم ذكر اختلافهم في القبلة, وأن كل طائفة منهم لا تتبع الطائفة الأخرى؛ لأن القبلة من خواصِّ الدين وأعلامه وشعائره الظاهرة, فأهل كل دين لا يفارقون قبلتهم, إلا أن يفارقوا دينهم. فأخبر تعالى في هذه الجُمل الثلاث بثلاث إخبارات, تتضمَّن براءة كل طائفة من قبله الطائفة الأخرى, وتتضمن الأخبار بأن أهل الكتاب لو رأوا كل آية تدل على صدق الرسول لما تبعوا قبلته, عنادًا وتقليدًا لآبائهم, وأنهم إن اشتركوا في خلاف القبلة الحق, فهم مختلفون في باطلهم, فلا تتبع طائفة قبلة الأخرى, فهم متفقون على خلاف الحق, مختلفون اختيار الباطل. وفي هذه الآية أيضا تثبيت للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين على لزوم قبلتهم, وأنه لا يشتغل بما يقوله أهل الكتاب: "ارجعوا إلى قبلتنا فنتبعكم على دينكم" فإن هذا خداع ومكرٌ منهم, فإنهم لو رأوا كلَّ آية تدل على صدقك ما تبعوا قبلتك؛ لأن الكفر قد تمكن من قلوبهم, فلا مطمع للحق فيها, ولست أيضا بتابع قبلتهم, فليقطعوا مطامعهم من موافقتك لهم وعودك إلى قبلتهم (1) , وكذلك هم أيضا مختلفون فيما بينهم, فلا يتبع أحد منهم (2) قبلةَ الآخر, فهم مختلفون في القبلة, ولستم أيها المؤمنون موافقين لأحد منهم في قبلته, بل __________ (1) "فليقطعوا مطامعهم من موافقتك لهم وعودك إلى قبلتهم" سقطت من (ق). (2) (ظ): "أحدهم".

(4/1586)


أكرمكُم الله بقبلة غير قبلة هؤلاء المختلفين, اختارها الله لكم ورضيها, وأكد تعالى هذا المعنى بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145]. فهذا كله تثبيت وتحذير من موافقتهم في القبلة, وبراءة من قبلتهم ,كما هم براء من قبلتك, وكما بعضهم بريء من قبله بعض, فأنتم أيها المؤمنون أولى بالبراءة من قبلتهم (1) التي أكرمكم الله تعالى بالتحويل عنها, ثم أكد ذلك بقوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147]. ثم أخبر تعالى عن اختصاص كل أمة بقبلتهم, فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] , وأصح القولين أن المعنى: هو متوجه إليها, (ق / 376 أ) أي: موليها وجهه, فالضمير راجعٌ إلى كل, وقيل: إلى الله, اي الله موليها إياه, وليس بشيء؛ لأن الله لم يولِّ القبلة الباطلة أبدا, ولا أمر النصارى باستقبال الشرق قط, بل هم تولوا هذه القبلة من تلقاء أنفسهم, وولوها وجوههم. وقوله {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] مشعر بصحة هذا القول, أي: إذا كان أهل الملل قد تولوا الجهات (2) فاستبقوا أنتمُ الخيرات, وبادروا إلى ما اختاره الله لكم ورضيه, وولاكم إياه, ولا تتوقفوا فيه, {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148]: يجمعكم من الجهات المختلفة, والأقطار المتباينة إلى موقف القيامة, كما تجتمعون من سائر الجهات __________ (1) من قوله: "كما هم براء ... " إلى هنا ساقط من (ق). (2) من قوله: "فاستبقوا الخيرات ... " إلى هنا ساقط من (ظ)، وبعد هذه الكلمة فى (ق): "واستقبلوها".

(4/1587)


إلى جهة القبلة التي تؤمونها, فهكذا تجتمعون من سائر أقطار الأرض , إلى جهة الموقف الذي يؤمه الخلائق, وهذا نظير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48] , فأمرهم باستباق الخيرات , (1) وأخبر أن مرجعهم إليه عند إخباره بتعدُّد شرائعهم (2) ومناهجهم كما ذكر ذلك بعينه عند إخباره بتعدد وجههم وقبلهم. فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148] (3). وتحت هذا سرٌّ بديعٌ يفهمه من يفهمه, وهو أنه عند الاختلاف في الطرائق والمذاهب والشرائع والقبل يكون أقربها إلى الحق ما كان أدل على الله, وأوصل إليه؛ لأن مرجع الجميع إليه يوم القيامة وحده, وإن اختلفت أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم (4) , فمرجعهم إلى رب واحد وإله واحد, فهكذا ينبغي أن يكون مرد الجميع ورجوعهم كلهم إليه وحده في الدنيا, فلا يعبدون غيره, ولا يدينون بغير دينه, إذ هو إلههم الحق في الدنيا والآخرة. فإذا كان أكثر الناس قد أبى ذلك إلا كفورا وذهابا في الطُّرُق الباطلة وعبادة غيره, وإن دانوا غير دينه, فاستبقوا أنتم أيها المؤمنين الخيرات, وبادروا إليها, ولا تذهبوا مع الذين يسارعون في الباطل والكفر فتأمل (ظ / 261 أ) هذا السر البديع في السورتين. __________ (1) "فأمرهم باستباق الخيرات" من (ق). (2) (ع): "شعائرهم". (3) من قوله: "وأخبر أن مرجعهم ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) (ق وظ): "وأماكنهم".

(4/1588)


وفي قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48] (ق / 376 ب) سر آخر أيضًا ,وهو أن هذا الاختلاف دليل على يوم الفصل, وهو اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق, وبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه, فنفس الاختلاف دليل على يوم الفصل (1) والبعث, وقد أوضح ذلك قوله تعالى: في سورة النحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 38] فذكر تعالى حكمتين بالغتين في بعثة الأموات بعد ما أماتَهم: إحداهما: أن يبين (2) للناس الذي اختلفوا فيه, وهذا بيانٌ عيانيٌّ تشترك فيه الخلائق كلهم, والذي حصل في الدنيا بيان إيماني اختص به بعضهم. الحكمة الثانية: علم المبطل بأنه كان كاذبا, وإن كان على باطل, وأن نسبة أهل الحق إلى الباطل من افترائه وكذبه وبهتانه, فيخزيه ذلك أعظم خزي. فتأمل أسرار كلام الرب تعالى, وما تضمنته آيات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بأنه كلام رب العالمين, والشاهدة لرسوله بأنه الصادق المصدوق, وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى, وهو معنى كونه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق, ولم يخلق ذلك باطلا, بل خلقه خلقا صادرا عن الحق, آيلا إلى الحق, __________ (1) من قوله: "وهو اليوم ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) (ق): "يتبين".

(4/1589)


مشتملا على الحق, فالحق سابق لخلقها, مقارن له, غاية له, ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها, فالباء مفيدة معنى اشتمال خلقها على الحق السابق والمقارن والغاية. فالحق السابق: صدور ذلك عن علمه وحكمته, فمصدر خلقه تعالى وأمره عن كمال علمه وحكمته, وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف (1) بهما حكمه كله, ومصلحة وحقا (2) , ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل: 6] , فأخبر أن مصدر التلقي عن علم المتكلم وحكمته (3) , وما كان كذلك كان صدقا وعدلا, وهدى وإرشادا, وكذلك قالت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قالت: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)} (4) [الذاريات: 29] , وهذا راجع إلى قوله وخلقه, وهو خلق الولد لها على الكبر. وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات: فهو ما اشتملتْ من الحكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد (ق / 377 أ) على إلههم ووحدانيته وصفاته, وصدق رسله, وأن لقاءه حق لا ريب فيه, ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه, رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة __________ (1) (ظ): " الوصف". (2) (ق): "كليه ومصلحه وحق". (3) من قوله: "ومصلحة وحقًا ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (4) في الأصول: "أألدُ وأنا عجوز عقيم قالوا كذلك ... "! وليس في القرآن آية بهذا السياق، ففى هود: {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ... } [هود: 72]، وأثبتنا ما: في سورة الذاريات لأنه أقرب إلى سياق المؤلف.

(4/1590)


بذلك, بل شهادتُها أتم من شهادة الخبر المجرد؛ لأنها شهادة حال لا يقبل كذبا, فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله, إلا وجده دالا (1) على فاطره وبارئه, وعلى وحدانيته, وعلى كمال صفاته وأسمائه, وعلى صدق رسله, وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه. وهذه طريقة القرآن في إرشاده الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع, وعلى التوحيد والمعاد والنبوات, فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا, ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق, ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار, والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة, وبما لو تأملوه لرأوه مركوزًا في فطرهم, مستقرا في عقولهم, وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عنه, من أسمائه وصفاته , وتوحيده ولقائه, ووجود ملائكته, وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان, إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة, وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار. وقد بينت في موضع آخر (2) أن كل حركة تشاهد على اختلاف أنواعها, فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد, بطريق سهلة واضحة برهانية, وكذلك ذكرت في "رسالة إلى بعض الأصحاب" (3) __________ (1) (ق): "شاهدًا دالا". (2) انظر "مفتاح دار السعادة": (2/ 5 - فما بعدها). (3) لم أعثر على هذه الرسالة، ولم يذكرها أحد، وطبعت للمؤلف رسالة بعنوان: "رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه"؛ لكن ليس فيها ما ذكره المؤلف هنا، فلعلها رسالة أخرى.

(4/1591)


بدليل واضح: أن الروح مركوز في أصل فطرتها وخلقتها شهادة (أن لا إله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله) , وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزا في نفس روحه وذاته وفطرته. فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط؛ لاستخرج منها الإيمان بالله تعالى وصفاته, والشهادة بأنه لا إله إلا هو, والإيمان برسله وملائكته ولقائه, وإنما يصدق بهذا من أشرقت شمس (ظ / 261 ب) الهداية على أفقِ قلبه, وانجابت عنه سحائب غيه (1) , وانكشف عن قلبه حجاب: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23] , فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه, ويلوح له صباحٌ هو (2) ليلة وظلامه. فقف الآن (ق / 377 ب) عند كل كلمة من قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} [الجاثية: 3 - 5]. ثم تأمل وجه كونها آية, وعلى ماذا جعلت آية؟ أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة, وكذلك سائر ما في القرآن الكريم من هذا النمط, كآخر (آل عمران) , وقوله في سورة (الروم): {وَمِنْ آيَاتِهِ} [الروم: 20] إلى آخرها, وقوله في سورة (النمل): {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] إلى آخر الآيات, وأضعاف ذلك في القرآن الكريم وكقوله في سورة (الذاريات): {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20] , {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105] __________ (1) (ع): "غيبه". (2) كذا في الأصول، وفي العبارة نقص أو تحريف.

(4/1592)


فهذا كلُّه من الحق الذي خلقت به السموات والأرض وما بينهما, وهو حق مقارن لوجود هذه المخلوقات, مسطور في صفحاتها, يقرؤه كل موفق (1) كاتب وغير كاتب, كما قيل: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطها ... "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" (2) وأما الحق الذي هو غاية خلقها: فهو غاية تراد من العباد, وغاية تراد بهم. فالتي تراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل, وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا, فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم, ومطاعهم ومحبوبهم, قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه, وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده, وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] , فهذه الغاية هي المرادة من العباد, وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده. وأما الغاية المرادة بهم: فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب, قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31] , قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)} [طه: 15] , وقال تعالى: __________ (1) غير محررة في (ق وظ) ويشبه أن تكون: "موقن". (2) ذكر المؤلف هذين البيتين في عدد من كتبه، ولم ينسبه، انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/ 457، 3/ 178).

(4/1593)


{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 39] , قال تعالى: (ق / 378 أ) {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس: 3 - 4]. فتأمل الآن كيف اشتمل خلقُ السموات والأرض وما بينهما على الحق أولا وآخرا ووسطا, وأنها خلقت بالحق وللحق, وشاهدة بالحق, وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك, فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115] ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده, فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. وتأمل ما في هذين الاسمين, وهما {الْمَلِكُ الْحَقُّ} من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه, إذ هو مناف لكمال ملكه, ولكونه الحق, إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي, فيتصرف في خلقه بقوله وأمره, وهذا هو الفرق بين الملك والمالك؛ إذ المالك هو المتصرف بفعله, والملك هو المتصرف بفعله (1) وأمره, والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره (2). فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في __________ (1) "بفعله، والملك هو المتصرف بفعله" سقطت من (ق). (2) من قوله: "والرب تعالى ... " إلى هنا سقط من (ظ).

(4/1594)


ملكه, ولم يقدره حق قدره, كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه, وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة؛ فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره, وكذلك كونه تعالى الإله الحق (1) يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه, ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها, فكما أن ذاته الحق فقوله الحق, ووعده الحق, وأمره الحق, وأفعاله كلها حق, وجزاؤه المستلزم لشرعه (ظ / 262 أ) ودينه ولليوم الآخر حق. فمن أنكر شيئًا من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار, فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه, فكيف يظن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثا, وأن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم, كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] قال الشافعي رحمه الله: مهملا لا يؤمر ولا ينهى (2). وقال غيره: لا يجزي بالخير والشر, ولا يثاب ولا يعاقب, والقولان متلازمان, فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب (ق / 378 ب) والعقاب, وهو الأمر والنهي, والآخر ذكر غاية الأمر والنهي, وهو الثواب والعقاب. ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} [القيامة: 37 - 38] فمن لم يتركه وهو نطفة سدى, بل قلب النطفة وصرفها, حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة, ثم __________ (1) كذا في (ق وظ)، وفي (ع): "الإله الخلق"!. (2) في "الرسالة": (ص/ 25)، و"الأم": (7/ 298).

(4/1595)


قَلَبَ العَلَقَة حتى صارت أكمل مما هي (1) , حتى خلقها فسوى خلقها, فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا, فكيف يتركه سدى لا يسوقه إلى غاية كماله الذي خلق له. فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلَّته على المعاد والنبوات, كما تدله على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله, فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه, فكذلك تدل على كمال حكمته, وعلمه وملكه, وأنه الملك الحق المتعالى عن أن يخلقها عبثا ويتركها سدى بعد كمال خلقها. وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم (2) ينههم على ألسنة رسله, وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب, كيف كان هذا الزعم منهم قولا بأن خلق السموات والأرض باطل, فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ (3) وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27]. فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولا, ولم يجعل لهم أجلًا للقائه, كان ذلك ظنا منهم أنه خلق خلقه باطلا, ولهذا أثنى تعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأن أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلا, وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به, علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه, فذكروا في __________ (1) من قوله: "وهي العلقة ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) من (ظ). (3) وقع في الأصول: "السماوات"!.

(4/1596)


دعائهم هذين الأمرين, فقالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} [آل عمران: 192 - 193]. فلما علموا أن خلق السموات والأرض, يستلزم الثواب والعقاب, تعوذوا بالله من عقابه, ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السموات والأرض, فقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193] , فكانت ثمرة فكرهم في خلق السموات والأرض: الإقرار به تعالى, وبوحدانيته, وبدينه, وبرسله, وبثوابه وعقابه, فتوسلوا إليه بإيمانهم, الذي هو من أعظم (ق / 379 أ) فضله عليهم إلى مغفرة ذنوبهم, وتكفير سيئاتهم, وإدخالهم مع الإبرار إلى جنته التي وعدوها (1) , وذلك تمام نعمته عليهم, فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرًا, وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته, وهو إحدى الوسائل إليه, وهي الوسيلة التي أمرهم بها (2) في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. وأخبر عن خاصَّة عبادهم أنهم يبتغون الوسيلةَ إليه إذ يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] على أن في هاتين الآيتين أسرارًا بديعة ذكرتها في كتاب "التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية", فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض. أنه لم يخلقها باطلا (3) وأثمر لهم: __________ (1) (ع): "وَعَدَهموها". (2) (ق وظ): "فيها". (3) (ق): "أنهما لم يخلقهما عبثًا باطلًا".

(4/1597)


الإيمان بالله ورسوله (1) , ودينه وشرعه, وثوابه وعقابه, والتوسُّل إليه بطاعته, والإيمان به, وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرةٌ من بحر لا ساحل له, فلا تستَطِله, فإنه كنز من كنوز العلم, لا يلائم كل نفس, ولا يقبله كل محروم, والله يختص برحمته من يشاء. ولنرجع إلى ما كنا بصدده من الكلام في ذكر محاجَّة أهل الباطل للمسلمين في القبلة, ونصر الله لهم بالحجة عليهم, وقد رأيت لأبي القاسم السهيلي في الكلام على هذه الآيات فصلا أذكره بلفظه (2) , قال في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للبراء بن معرور: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها" (3) = يعنى لما صلى إلى الكعبة قبل الأمر بالتوجه إليها, ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه كان متأولا. قلت (4): ونظير هذا أنه لم يأمر من أكل في نهار رمضان بالإعادة, لما ربط الخيطين في رجليه وأكل حتى يتبينا له (5)؛ لأجل التأويل. ونظيره: أنه لم يأمر أبا ذر بإعادة ما ترك من الصلاة مع الجنابة؛ إذ لم يعرف شرع التيمم للجنب, فقال يا رسول الله إني تصيبني __________ (1) (ع): "برسوله" بدل "بالله ورسوله". (2) في كتابه: "الروض الأُنُف": (2/ 200 - 201). (3) أخرجه أحمد: (25/ 89 - 95 رقم 15794)، وابن حبان "الإحسان": (15/ 471)، والطبراني في "الكبير": (19/ 87)، من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة بيعة العقبة. كلهم من طريق محمد بن إسحاق (السيرة 2/ 439 - 440)، وقد صرح بالتحديث، فسلم من التدليس. (4) هذا التعليق بطوله لابن القيم -رحمه الله-. (5) هو: عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، والحديث أخرجه البخاري رقم (1916)، ومسلم رقم (1090).

(4/1598)


الجنابة فأمكث الشهر والشهرين لا أصلي -يعني: في البادية- قال: "فأين أنت عن التيمم" (1). ونظيره أيضًا: أنه لم يأمر المستحاضة (ظ / 262 ب) بالإعادة, وقد قالت: إني أستحاض حيضة شديدة, وقد منعتني الصوم والصلاة, فأمرها أن تجلس أيام الحيض ثم تصلي (2) , ولم يأمرها بإعادة ما تركت. ونظيره أيضا: أنه لم يأمر المسئ في صلاته بإعادة ما تقدم له من الصلوات التي لم تكن صحيحة, وإنما بالإعادة في الوقت؛ لأنه لم يؤد فرض وقته مع بقائه, بخلاف ما تقدم له (3). ونظيره أيضا: أنه لم يأمر (ق / 379 ب) المتمعك في التراب كما تتمعك الدابة لأجل التيمم (4) بالإعادة, مع أنه لم يصب فرض التيمم. ونظيره أيضًا: أنه لم يأمر معاوية بن الحكم السلمي بإعادة الصلاة, وقد تكلم فيها بكلام أجنبيٍّ ليس من مصلحتها (5) __________ (1) لم أره بهذا اللفظ، والحديث أخرجه أحمد: (35/ 230 - 231 رقم 21304)، وأبو داود رقم (331)، والترمذي رقم (124)، والنسائي: (1/ 171)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 135 - 136)، من حديث أبى ذر - رضي الله عنه- في قصة، وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمِسه جلدَك، فإن ذلك خير". (2) أخرجه البخاري رقم (306)، ومسلم رقم (333) من حديث عائشة- رضي الله عنها-. (3) أخرجه البخاري رقم (793)، ومسلم رقم (397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البخاري رقم (338)، ومسلم رقم (368) من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما-. (5) أخرجه مسلم رقم (537).

(4/1599)


ونظيرُه أيضًا: أنه لم يضمن أسامة قتيله بعد إسلامه بقصاصٍ ولا ديةٍ ولا كفارةٍ (1). ولا تجد هذه النظائر مجموعة في موضع, فالتأويل والاجتهاد في إصابة الحق, منع في هذه المواضع من الإعادة والتضمين. وقاعدة هذه الباب: أن الأحكام إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو, وبلوغها إليه, فكما (2) لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو, فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه, وهذا مجمع عليه في الحدود, أنها لا تقاوم إلا على من بلغه تحريم أسبابها, وما ذكرناه من النظائر يدل على ثبوت ذلك في العبادات والحدود. ويدل عليه أيضا في المعاملات قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278] , فأمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا, وهو ما لم يقبض, ولم يأمرهم بردِّ المقبوض؛ لأنهم قبضوه قبل التحريم, فأقرهم عليه, بل أهل قباء صلوا إلي القبلة المنسوخة بعد بطلانها, ولم يعيدوا ما صلوا, بل استداروا في صلاتهم وأتمُّوها, لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم, وفي هذا الأصل ثلاثة أقوال للفقهاء وهي لأصحاب أحمد: هذا أحدها, وهو أصحها, وهو اختيار شيخنا (3) رضي الله عنه. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (4269)، ومسلم رقم (96) من حديث أسامة بنْ زيد - رضي الله عنه-. (2) (ق): "مع أنه". (3) انظر: "مجموع الفتاوي": (21/ 160 - فما بعدها).

(4/1600)


الثاني: أن الخطاب إذا بلغ طائفة ترتب في حق غيرهم، ولزمهم كما لزم من بلغه، وهذا اختيار كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم. الثالث: الفرق بين الخطاب الابتدائي والخطاب الناسخ، فالخطاب الابتدائي يعم ثبوته من بلغه وغيره، والخطاب الناسخ لا يترتب في حق المخاطب إلا بعد بلوغه، والفرق بين الخطابين: أنه في الناسخ مستصحب لحكم مشروع مأمور به، بخلاف الخطاب الابتدائي، ذكره القاضي أبو يعلي في بعض كتبه، ونصوص القرآن والسنة تشهد للقول الأول، وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليها إشارة. قال أبو القاسم (1): وفي الحديث دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس يعني: قوله للبراء: "لقد كنت على قبلة" (2)، وقالت طائفة: ما صلى إلى بيت المقدس إلا مذ قدم المدينة سبعة (ق / 380 أ) عشر شهرا، أو ستة عشر شهرا. فعلى هذا يكون في القبلة نسخان، نسخ سنة بسنة، ونسخ سنة بقرآن وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروى عنه من طرق صحاح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس" (3)، فلما كان - صلى الله عليه وسلم - يتحرى القبلتين جميعا لم يبن توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة؛ ولذلك -والله أعلم- قال الله تعالى في الآية الناسخة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] أي: __________ (1) أى السهيلي في "الروض الأنف" كما تقدم. (2) تقدم قريبًا. (3) انظر "فتح الباري": (1/ 119).

(4/1601)


من أي جهة جئت إلى الصلاة وخرجت إليها، فاستقبل الكعبة، كنت متسدبرا بيت المقدس أو لم تكن، لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه. قال: تدبر قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 149]، وقال لأمته: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، ولم يقل: حيث ما خرجتم؟ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إمام المسلمين، فكان يخرج إليهم في كل صلاة ليصلي بهم، وكان ذلك واجبا عليه، إذ كان الإمام المقتدي به، فأفاد ذكر الخروج في خاصته هذا المعنى، ولم يكن حكم غيره هكذا يقتضي الخروج، ولا سيما النساء ومن لا جماعة عليه. قلت (1): ويظهر في هذا معنى آخر، وهو أن قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، خطاب عام له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، يقتضي أمرهم بالتوجه إلى المسجد الحرام في أي موضع كانوا من الأرض. وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150] خطاب بصيغة الإفراد، والمراد هو الأمة، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] ونظائره، وهو يفيد الأمر باستقبالها من اي جهة ومكان خرج منه. وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] يفيد الأمر باستقبالها في أي موضع استقر فيه، وهو -تعالى- لم يقيد الخروج (2) بغاية، بل أطلق غايته كما عمم مبدأه، فمن حيث خرج، إلى أي مخرج كان من صلاة أو غزو أو حج أو غير ذلك، فهو مأمور باستقبال المسجد الحرام __________ (1) الكلام لابن القيم. (2) (ع): "الأمور".

(4/1602)


هو والأمة، وفي أي بقعة كانوا من الأرض، فهو مأمور هو والأمة باستقباله، فتناولت الآيتان أحوال الأمة كلها في مبدأ تنقلهم من حيث خرجوا، وفي غايته إلى حيث انتهوا، وفي حال اسقترارهم حيث ما كانوا، فأفاد ذلك عموم الأمر بالاستقبال في الأحوال الثلاثة (1) التي لا ينفكُّ منها العبد. فتأمل هذا المعنى، ووازن بينه وبين ما أبداه أبو القاسم يتبين لك الرجحان، والله أعلم بما أراد من كلامه، وإنما هو كد أفهام أمثالنا من القاصرين. (ظ / 263 أ) (ق / 380 ب) فقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [البقرة: 150] يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة، وكان أولى بهذا الخطاب؛ لأن مبدأ التوجه على يديه كان، وكان شديد الحرص على التحويل. وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 150] يتناول أماكن الكون كلها له وللأمة، وكانوا أولى بهذا الخطاب لتعدد أماكن أكوانهم وكثرتها، بحسب كثرتهم واختلاف بلادهم وأقطارهم، واستدارتها حول الكعبة شرقًا وغربا، ويمنا وعراقًا، فكان الأحسن في حقهم أن يقال لهم: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 150]، أي: من أقطار الأرض في شرقها وغربها، وسائر جهاتها، ولا ريب أنهم أدخل في هذا الخطاب منه - صلى الله عليه وسلم - فتأمل هذه النكت البديعة، فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا، والله أعلم. قال أبو القاسم: وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلي البيت الحرام في ثلاث آيات؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس. __________ (1) (ع وظ): "الثلاث".

(4/1603)


اليهود؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم. وأهلُ الرَّيب والنفاق اشتد إنكارُهم له؛ لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريشٍ قالوا: ندم محمدٌ على فراق ديننا، فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبله إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود، فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] على الاستثناء المنقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147] أي: من الذين شكوا وامتروا. ومعنى {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] أي: الذي أمَّرتك به من التوجه إلى بيت الحرام هو الحق، الذي كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر في ذلك، فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، وقال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]، أي: يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء. ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" (1). قال حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة (2)، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيلياء كما يعظِّمها أهل بيته، قال: فسرت معه وهو ولي عهد، قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية، فقال سليمان وهو جالس فيه: والله إن في هذه القبلة __________ (1) ساقه السُّهيلي بإسناده إلى أبي داود. (2) عَنبَسة بن خالد بن يزيد الأيلي، متكلم فيه، وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق"، وتُحْتَمل روايتُه في مثل هذا الخبر.

(4/1604)


التي صلَّى إليها المسلمون والنصارى لعجبا -كذا رأيته (1) والصواب: اليهود- قال خالد بن يزيد: أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله علي محمد - صلى الله عليه وسلم -، (ق / 381 أ) وأقرأ التوراة فلم تجدْها اليهود في الكتاب الذي أنزله الله عليهم، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل رفعه، فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم. وروى أبو داود أيضا: أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: إن موسى كان يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، فكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه. وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة (2). وأخبر أبو العالية أنه رأى مسجد ذى القرنين، وقبلته الكعبة (3). انتهى. قلت: وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد. أما النصارى؛ فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبدا، وهم مقرُّون بذلك، ومقرُّون أن قبله المسيح كانت قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة، وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح __________ (1) وهذا كذلك في مطبوعة "الروض". (2) ما بعده من (ق وظ). (3) وانظر "تفسير الطبري": (2/ 34)، والقرطبي: (2/ 102).

(4/1605)


فوَّض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حلَّلوه وحرَّموه فقد حلله هو وحرمه في السماء، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق (1) على لسان رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك. وأما قبلة اليهود؛ فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة ألبتَّةَ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة. وأما السامرةُ (2)؛ فإنهم يصلُّون إلى طور لهم بأرض الشام (3) ويعظمونه ويحُجُّون إليه، ورأيته أنا وهو في بلد نابُلُسَ، وناظرتُ فضلاءهم في استقباله، وقلت: هو قبلة باطلة مبتدعة، فقال مشار إليه في دينهم: هذه هي القبلة الصحيحة، واليهود أخطأوها؛ لأن الله تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا، ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله. فقلت له: هذا خطأ قطعا على التوراة؛ لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل، فهم المخاطبون بها، وأنتم فرع عليهم فيها، وإنما تلقيتموها عنهم، وهذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم، وأنا رأيتها، وليس هذا فيها. __________ (1) (ق وظ): "الشرق". (2) السامرة طائفة من اليهود، يفترقون عنهم في القِبلة، والتوراة، وإيمانهم بالأنبياء، واللسان. انظر: "الملل والنحل": (ص/ 218 - 219)، و "الفِصَل": (1/ 99). (3) (ظ): "طورهم بالشام".

(4/1606)


فقال لي: صدقت، إنما هو في توراتِنا (ق /381 ب) خاصة. قلت له: فمن المحال (ظ /263 ب) أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها، وهم الذين تلقوها عن الكليم، وهم متفرِّقون في أقطار الأرض، قد كتموا هذا النص، وأزالوه، وبدلوا القبلة التي أمروا بها، وحفظتموها أنتم، وحفظتم النص بها. فلم يرجع إلى بجواب (1). قلت: وهذا كله مما (2) يقوى أن يكون الضميرُ في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] راجعا إلى "كل" أي: هو موليها وجهه، ليس المراد أن الله موليه إياها؛ لوجوهٍ؛ هذا أحدها. الثاني: أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه في الآية، وإن كان مذكورًا فيما قبلها، ففي إعادة الضمير إليه تعالى دون "كل" رد الضمير إلى غير من هو أولى به، ومنعه من القريب منه الأحق به (3). الثالث: أنه لو عاد الضمير عليه تعالى لقال: "هو مولِّيه إياها"، هذا وجه الكلام، كما قال تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، فوجه الكلام أن يقال: ولاه القبلة، لا يقال ولى القبلة إياه، فتأمله. وقول أبي القاسم: أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثًا، ردًا على الطوائف الثلاث؛ ليس بالبين ولا في اللفظ إشعار بذلك، والذي يظهر فيه" إنه أمر به في كل سياق لمعنى يقتضيه. __________ (1) (ق وظ): "الجواب". (2) "كله مما" ليست في (ق). (3) (ع): "اللاحق"، (ظ): "الأولى".

(4/1607)


فذكره أوَّلَ مرَّة ابتداءً للحكم ونَسْخًا للاستقبال الأوَّل، فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ثم. ذكَرَ أن أهلَ الكتاب يعلمون أن هذا هو الحقُّ من ربِّهم حيثُ يجدونه في كتبهم كذلك، ثم أخبر عن عِنادِهم (1) وكفرِهم، وأنه لو أتاهم بكلِّ آيةٍ ما تَبعوا قِبْلَتهُ، ولا هو أيضًا بتابع قبلتَهم، ولا بعضهم بتابع قبلةَ بعض، ثم حذَّره من اتَباع أهوائِهم، ثم كرَّر معرفةَ أهل الكتاب به، كمعرفتِهم بأبنائِهم، وأنهم يكتمونَ الحقَّ عن علم، ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربِّه، فلا يلحقْه فيه امتراءٌ، ثم أخبر أنَّ لكل من الأممِ وجهَةٌ هو مستقبلُها ومُوَلِّيها وجْهَهُ، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيراتِ، ثم أعادَ الأمر باستقبالِها من حيثُ خَرجَ في ضمنْ هذا السِّياق الزائد على مجرَّد النسخِ، ثم أعاد الأمرَ به غيرَ مكرِّر له تكرارًا محضًا، بل في ضِمنه أَمْرُهُم باستقبالِها حيثما كانوا، كما أمرهم باستقبالِها أولًا حيثما كانوا عند النسخ، وابتداءِ شَرْعِ الحكمِ، فأمرهم باستقبالِها حيثما كانوا عند شَرْعِ الحكمِ وابتدائِه، وبعد المحاجَّةِ والمخاصَمَةِ، والحكم لهم، وبيان (ق/ 382 أ) عنادِهِم ومخالفتهم مع علمهم، فذِكْرُ الأمر بذلك في كلِّ موطنٍ لاقتضاء السِّياق له، فتأمَّلْه، والله أعلم. وقوله. إن الاستثناءَ في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، منقطع، قد قاله أكثرُ الناس، ووجهه: أن الظالمَ لا حُجَّةَ له، فاستثناؤه مما ذكر قبلَه منقطعٌ. وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ يقول (2): ليسْ __________ (1) (ع): "عبادتهم". (2) انظر نحوه من كلام الشيخ في "الجواب الصحيح": (3/ 68 - 72).

(4/1608)


الاستثناء بمنقطع، بل هو مُتَّصِلٌ على بابه، وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه حيث ظنوا أن الحجة هاهنا المراد بها الحجة الصحيحة الحق، والحجة في كتاب الله يُراد بها نوعان: أحدهما: الحُجَّة الحق الصحيحة (1)، كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]. ويراد بها: مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل، كقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: 25]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، وقوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]. وإذا كانت الحجَّة اسمًا لما يحتج به من الحق أو باطلٍ، صحَّ استثناء حجة الظالمين من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، وهذا في غاية التحقيق، والمعنى: أن الظالمين يحتجون عليك بالحُجَج الباطلة الداحضة فلا تخشوهم واخشوني. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170] فهذه مناظرة حكاها الله بين المسلمين والكفار، فإن الكفار لجأوا إلى تقليد الآباء، وظنوا أنه منجيهم لإحسانهم ظنَّهم بهم، فحكم الله بينهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170] وفى موضع آخر: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا __________ (1) من قوله: "الحق، والحجة ... " إلى هنا ساقط فى (ظ).

(4/1609)


يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} [المائدة: 104]، وفي موضع آخر (1): {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21]، وفي موضعٍ آخر: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]. فأخبر عن بطلان هذه الحُجَّة، وأنها لا تنجني من عذاب الله؛ لأنَّ تقليد من ليس عنده علمٌ ولا هدىً من الله ضلالةٌ وسفَهٌ، والمعنى: ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير يقلِّدونهم، ولو كانوا لا علم عندهم ولا هدىً يقلدونهم أيضًا، وهذا شأن من لا غرض له في الهدى، ولا في اتباع الحق، إن غرضه بالتقليد إلا دفع الحقِّ (ق / 382 ب) والحجة إذا لزمته؛ لأنه لو كان مقصوده الحق لاتبعه إذا ظهر له، وقد جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، فلو كنتم ممن يتبع الحق لأتبعتم ما جئتكم به، فأنتم لم تقلدوا (ظ / 264 أ) الآباء لكونهم على حقٌّ، فقد جئتكم أهدى مما وجدتموهم عليه، وإنما جعلتم تقليدهم جُنةً لكم، تدفعون بها الحق الذي جئتكم به. تمت الفصول (2). __________ (1) هذه الآية زيادة من (ق وظ). (2) من (ق).

(4/1610)


فائدة ليس من شرط الدليل اندراجه تحتَ قضية كليةٍ يكون بها جزءًا من قياس شمول (1)، ولا استلزامه نظيرًا يكون به قياس تمثيلٍ، بل يجوز كونه معينًا مستلزمًا لثبوتٍ معينٍ، وإنما شرطه اللزوم فيما كان بينهما تلازمٌ شرعًا أو عقلًا أو عادةً استدل فيه بثبوت الملزوم على ثبوت لازمه، وبنفي اللازم على نفي ملزومه، فكل ملزوم دليلٌ على لازمه، والعلم بدلالته متوقف على العلم به، وعلى العلم بلزومه (2)، ولهذا كانت أدلَّة التوحيد والمعاد والنبوات التي في القرآن آيات ودلالات معيَّناتٍ مستلزمةً لمدلولها بنفسها، من غير احتياجٍ إلى اندراجها تحت قضيةٍ كلية، فالمخلوقات جميعها وما تضمَّنته من التخصيصات والحكم والغايات مستلزمةٌ للخالق سبحانه عينًا، بخلاف ما يزعم كثيرٌ من النُّظَّار أنه دليلٌ لقولهم: "كلُّ ممكنٍ مفتقرٌ إلى واجب، وكلُّ محدث مفتقرٌ إلى محدثٍ"، فإنَّ هذه القضية الكليَّة بعد تعبهم (3) في تقريرها ودفع ما يعارضها، لا يدلُّ على مطلوبٍ معينٍ وخالقٍ معينٍ، إنما يدلُّ على واجبٍ ومحدثٍ ما. وأما آياته سبحانه وأدلَّة توحيده، وما أخبر به من المعاد وما نصبه (4) من الأدلَّة لصدق رسله، فلا يفتقر في كونها آياتٍ إلى قياس شموليٍّ ولا تمثيليٍّ، وهي مستلزمةٌ لمدلولها عينًا، والعلم بها مستلزمٌ __________ (1) (ق): "شمولي". (2) من قوله: "فكل ملزوم ... " إلى هنا ساقط من (ق). (3) رسمها في (ق): "لعربهم". (4) (ق): "تضمَّنه".

(4/1611)


للعلم بالمدلول لا يتخلَّف عنه، فانتقال الذهن منها إلى المدلولِ انتقالٌ بيِّنٌ في غاية البيان (1)، وهو كانتقال الذهن من رؤية الدخان إلى أن تحته نارًا، ومن رؤية الجسم المتحرِّك قسرًا إلى أنَّ له محرِّكًا، ومن رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، ونظائر ذلك، فالعلم بمفردات هذه القضايا الكلِّيَّة أسبق إلى الذهن وأظهر (2) من القضية الكلِّيَّة، بل لا تتوقَّف دلالتها على القضيَّة الكلية البتة، وعلم العقلِ بمدلول الآية المعيَّنة الحسِّيَّة كعلم الحسِّ بتلك الآية لا فرق في العلم بينهما، إلا أن الآية تدرك بالحسِّ ومدلولها بالعقل، فعلمُ العقل بثبوت التوحيد والمعاد والنُّبوَّات وجزمه بها كجزم الحس بما يشاهد من آياتها المشهودة. فائدة الفعل بالنسبة إلى التَّكليف (3) (ق / 383 أ) نوعان: أحدهما: اتَّفق الناس على جوازه ووقوعه (4)، واختلفوا في نسبة إطلاق القول عليه، بأنه لا يطاق، والثاني: اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمرٌ اتفق المسلمون على فعل كلِّف به العبد، وأطلقوا القول عليه بأنه لا يُطَاقُ، __________ (1) زاد في (ع): "وأظهر". (2) (ع): "والحركة". (3) (ق): "بالتكليف إلى النسبة". (4) (ق): "جواز وقوعه".

(4/1612)


وللمسألة ثلاثةُ مآخِذَ: أحدها: أنَّ الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها: نوعان؛ نوعٌ قبلهُ، وهي المصحِّحة للتَّكليف التي هي شرطٌ فيه، ونوعٌ مقارنٌ له، فليست شرطًا في التَّكليف. المأخذ الثاني: أنَّ تعلُّق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورًا للعبد؟ فمن أخرجه عن كونه مقدورًا قال: الأمر به أمرٌ بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورًا لم يطلق عليه ذلك، والصواب: أنه لا يخرجه عن كونه مقدورًا القدرة المصحِّحة، التي هي مناط التكليف وشرطٌ فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له. المأخذ الثالث: أن ما (1) تعلَّق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلَّفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنًا مقدورًا ولا مكلَّفًا به (2). والثاني: ما تعلَّق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه. ولهذا مأخذٌ رابع -وهو من أدقَّها وأغمضها- وهو: أنَّ ما علم الله أنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له ولو شاءه من العبد لفعله، هل تخرجه عدم مشيئة الرَّبِّ تعالى له عن كونه مقدورًا، ويجعل الأمر به __________ (1) من قوله: "مقدورًا القدرة ... " إلى هنا ساقط من (ع). (2) (ع): "لا يكون مقدورًا به"، و (ق): "لا يكون مقدورًا ملكًا ولا مكلفًا به".

(4/1613)


أمرًا بما لا يطاق؟ والصواب: أن عَدَمَ مشيئة الرَّبِّ له لا يخرجه عن كونه ممكنًا في نفسه، كما أنَّ عدم مشيئته لما هو قادرٌ عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورًا (1) ويجعله محالًا. فإن قيل: هو موقوفٌ على مشيئة الله، وهي غير مقدورةٍ للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور. قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد (2) عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته موقوفةً على مشيئة الرَّبِّ (ظ / 264 ب) (ق / 383 ب) تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له، لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفةً على غيرها من صفاته كعلمه وحكمته. فالنزاع في هذا الأصل يتنوَّع إلى النَّظر إلى المأمور به، وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدًا، وادَّعى جواز الأمر به مطلقًا لوقوع بعض الأقسام التي يظنُّها مما لا يُطاقُ، وقاس عليها النوع الذي اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتَّفق على أنه لا يطاق، أو على جوازه = فقد أخطأ خطأً بيِّنًا (3)، فإن من قاس الصحيح المتمكِّن من __________ (1) من قوله: "له وإنما ... " إلى هنا ساقط من (ظ). (2) (ق): "غير العبد"!. (3) سقطت من (ق).

(4/1614)


الفعل، القادر عليه، الذي لو أراده لفعله، على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلَّق علم الرَّبِّ تعالى بعدم وقوع الفعل منهما = فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلًا وشرعًا (1) وحسًا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمورٌ من جهة الرَّبِّ تعالى ومنهىٌّ. وعند هؤلاء: أنَّ أوامره تكليفٌ لما لا يطاقُ، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبورٌ على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادرٌ على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهى عنه، بل هو مجبر في باب النَّواهي، مكلَّفٌ بما لا يُطيقه في باب الأوامر. وبإزاء هؤلاء القدريَّة، الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقَّف على مشيئة الله ولا هو مقدورٌ له سبحانه، وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، ويتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنًا وكافرًا، وبرًا وفاجرًا، ومطيعًا وعاصيًا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها. وقول هؤلاء شرٌّ من قول أولئك من وجهٍ، وقول أولئك شرٌّ من قول هؤلاء من وجهٍ وكلاهما ناكبٌ عن الحقِّ جائر (2) عن الصِّراط المستقيم (3). __________ (1) (ق): "عمدًا ومشرعًا". (2) (ظ): "حائد"، و (ق): "حائز". (3) انظر في مسألة التكليف بما لا يُطاق: "شفاء العليل": (1/ 320)، و"مجموع الفتاوى": (8/ 293 - 294)، و"منهاج السنة": (3/ 104 - 107).

(4/1615)


فائدة قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)} [الشعراء: 36] هي جمع مدينة، وفيها قولان: أحدهما: أنها فعيلةٌ واشتقاقها من: مدن، وعلى هذا فتهمزُ؛ لأنها فعائل كعقائل (1) وظرائف وبابه. والثاني: أنها مفعلةٌ واشتقاقها من: دان يدين، وأصلها: مديونةٌ مفعولةٌ (2) من: دان، أي: مملوكة مذلَّلةٌ لملكها منقادةٌ له، وفُعِل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعًا، فعند الخليل أنك ألقيت ضمَّة الياء على الباء، فسكنت الياء، التي هي عين الفعل، وبعدها واو مفعول، (ق/384 أ) وهي ساكنةٌ، فاجتمع ساكنان فحذفت واو "مفعول" لأنها زائدةٌ، فهي أولى بالحذف من العين. قال أبو الحسن الأخفش: المحذوف عين الفعل، والباقية هي واو "مفعول"، وإنما صارت ياءً؛ لأنهم لما ألقوا ضمَّة الياء على الباء انضمَّت الباء وبعدها ياءٌ ساكنة، فأبدلت الضَّمَّة كسرةً للياء التي بعدها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع الواو واو "مفعول"، بعد أن ألزمت (3) الفاء الكسرة التي حدثت لأجل الياء، فصادفت واو "مفعول" ساكنةً فقلبتها ياء. ورجِّح قول الخليل بأنهم قالوا: "ماء مشيبٌ وأرضٌ مميتٌ عليها -أي مماتٌ عليها- وغارٌ منيلٌ -وهو الذي يُنال ما فيه من النَّوال-". __________ (1) (ق): "كفعائل". (2) (ع وظ): "مفعول". (3) (ظ): "لزمت".

(4/1616)


وأصل هذه الكلمات: "مشيوبٌ ومميوتٌ ومنيولٌ"، فحذفوا واو "مفعول" وبقُّوا عين الفعل، ولا يجوز أن تكون المحذوفة اللام، وواو "مفعول" هي الباقية المنقلبة ياءً؛ لأنَّ واو "مفعول" إنما تقلب ياءً إذا اعتلَّت لام الفعل؛ كـ "مرمىٍّ ومقضيٍّ مقضيٍّ عليه"، وإلاَّ فإذا كانت لام الفعل صحيحةً بقيت واو "مفعول" على حالها؛ كـ"مضروب ومقتول". ورجِّح قول الأخفش بأنَّ واو "مفعول" جاءت لمعنى، فحذفها مخلٌ بما جاءت لأجله، ألا ترى أنهم يقولون: "مررت بقاضٍ" فيحذفون الياء الأصليَّة ويبقون التنوين؛ لأنه جاء لمعنىً. ورجِّح أيضًا بأن العين قد أعلَّت في: "قال وباع، وقيل وبيع، ومبيع ومقولٍ" فلما اعتلَّت بالإسكان والقلب اعتلَّت بالحذف، وواو "مفعول" لم ينقلب من شيء ولم يعتلَّ في الفعل، فكان إبقاؤها وحذف المعتلِّ أوجب، وأيضًا فإن العين في "مقول ومبيع" حذفت في قولهم: "قل وبع" فلما حذفت هاهنا كانت أولى بالحذف في "مقول ومبيع". ولمن نصر قول الخليل أن يقول: الساكنان إذا التقيا في كلمةٍ واحدةٍ حُرِّك الثاني منهما، فكذلك إذا حذف أحد الساكنين من كلمةٍ يحذفُ الآخر منهما. ولمن نصر قول (1) الأخفش أن يقول: هذا الدليل نقلبه عليكم، فنقول: إذا التقى الساكنان في كلمةٍ واحدةٍ حذف أولهما كـ: "خف وقل وبع" وقياس الحذف على الحذف أقرب من قياس الحذف على __________ (1) من قوله: "الخليل أن ... " إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1617)


الحرَكَة، وأيضًا فكما اعتلَّت العين بالقلب مع ألف فاعل كـ: "قائم (ظ/265 أ) وقائل" اعتلَّت بالحذف مع واو "مفعولٍ". قالت الخليليَّة: الميم في أول "مفعول" دالَّة على أنه اسم مفعول، فتبقى الواو زائدةً محضةً، فتكون أولى بالحذف من الحرف الأصلي. قالت الأخفشيَّة: الميم لا تستقلُّ (ق/384 ب) بالدلالة على المفعوليَّة، فإن "مبيعًا" يشبه "مسيرًا أو مقيلًا" من المصادر، ولا يتميَّزان إلا بواو "مفعول" فلا سبيل إلى حذفها، فصار في المدينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها فعليةٌ من: مدن. والثاني: مفعولةٌ (1) وعينها محذوفةٌ. والثالث: مفعلةٌ وواو المفعول محذوفةٌ، فإن كانت المدائن فعائل تعيَّن همزها كصحائف، لأن المدَّة وقعت بعد ألف الجمع، وإن كانت مفعلةٌ كمعيشة، فلا تهمز؛ لأنها ليست بمدَّةٍ. فإن قلت: فما تقول في قراءة من قرأ {معائش} بالهمز (2)؟ وهي جمع معيشةٍ، وياؤها ليست زائدةً، بل أصلها الحركة إما مفعلةٌ __________ (1) (ق وع): "مقولة". (2) قال الإمام ابن مِهْران في "المبسوط في القراءات العشر": (ص/179): "قرأ القراءُ كلُّهم (معايش) بغير همز، ولم يختلفوا فيه، إلا ما رواه أُسَيد عن الأعرج، وخارجة عن نافع أنهما همزاه، قيل: فأما نافع فهو غلط عليه؛ لأن الرواة عنه الثقات كلهم على خلاف ذلك، وقال أكثر القرَّاء وأهلُ النحو والعربية: إن الهمزة فيه لحن، وقال بعضهم: ليس بلحن وله وجه وإن كان بعيدًا" أهـ. وانظر: "تفسير الطبري": (5/ 435)، والقرطبي: (7/ 167)، و"اللسان": (6/ 321).

(4/1618)


وإما مِفعلةٌ، وكذلك ما تقول في همزهم "مصائب"، وهي جمع مصيبةٍ؟. قلت: أما: معائش، فكدَّرت عيش أهل التصريف، حتى قال فيها أبو عثمان في "تصريفه" (1): وأما قراءة أهل المدينة {معائش} بالهمز فهي خطأٌ فلا يلتفت إليها، فإنما أخذت عن نافع بن أبى نعيم، ولم يكن يدري ما العربية، وله أحرف يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا. وأما "مصائب" فلقد أصيبوا منها بمصائب. قال المازنيُّ (2): وقد قالت العرب: "مصائب" فهمزوا، وهو من الغلط قالوا: حلأْت (3) السَّويق، وكأنهم توهَّموا أن "مصيبة" فعيلةٌ، فهمزوها حين جمعوها كما همزوا: "شقائق"، وإنما "مصيبة" مفعلةٌ من: أصاب يصيب، فأصلها: مصوبةٌ، فألقوا حركة الواو على الصَّاد، فانكسرت الصاد، وبعدها واوٌ ساكنة فأبدلت ياءً وأكثر العرب يقول: مصاوب، فيجيء بها على القياس وما ينبغي. فيقال: ومن المصائب تخطئة العرب وأهل المدينة، ونحن إنما نجهد أنفسنا في استخراج المقاييس لنوافقهم فيما تكلَّموا به، فإذا __________ (1) أبو عثمان هو: المازني، قاله في "التصريف": (1/ 307 - مع شرحه المصنف) لابن جني. قال أبو الثناء الآلوسي في "روح المعاني": (8/ 85): "وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعًا لم يكن يدري ما العربية، وتُعُقِّب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة، مأخوذة من الفصحاء الثقات، والعربُ قد تشبِّه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضًا. وقول سيبويه: إنها غلط، يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرًا ما يَستعمل الغلطَ في كتابه بهذا المعنى" اهـ. (2) في "تصريفه": (1/ 307). (3) تحرفت في النسخ، وبياض في (ظ).

(4/1619)


كان ما ثَبَتَ عنهم خطأ ولحنًا، وخالفناهم فيه، لم نكن تابعين لهم ولا قاصدين لنَهج كلامهم، ولا ريب أن المهموز في هذا الجمع هو ما كانت حروف العلَّة في واحدة مدَّةً زائدةً كـ "صحيفةٍ ورسالةٍ وعجوز"، فإذا همزوا ما كان حرف العلة فيه أصليًّا في بعض المواضع، تشبيهًا له بما هو فيه مدَّة (1) زائدة، فأيُّ خطأٍ يلزمهم؟ وأي غلطٍ يسجَّل به عليهم؟!. وطالما يخرجون الشيء من كلامهم عن أصله؛ لغرض ما من تشبيهٍ أو تخفيفٍ أو تنبيهٍ، على أنه كان ينبغي أن يكون كذا، ولأغراض عديدةٍ، أفتراهم لما صحَّحوا: "استحوذ"، فصحَّحوا ما حقه الإعلال كانوا مخطئين؟! وكذلك لما صحَّحوا: "استنوق"، فهلاَّ قلتم: إنَّ القوم لما ألقوا الهمزة بعد ألف مفاعل فيها (2) حرف العلَّة مدَّةٌ (ق/385 أ) في واحده لم يستنكروها في: "معايش ومصايب"؛ لأنَّ الموضع موضع همز، فليست الهمزة بشديدة الغربة في هذا الموضع. ويا لَلعجب كم في اللغة من قلبٍ وإبدالٍ وحذفٍ غير مقيس، بل هو مسموعٌ سماعًا مجردًا ولو تُكُلِّم بغيره لكان غلطًا وخطأً، وإن كان مقتضى القياس!. وقد ذكر (3) ابن جنِّي (4) من الأمثلة التي زعم أنها وقعت غلطًا في __________ (1) هذه وما قبلها فى (ظ): "بمدة". (2) (ق): "مفاعيل ميمًا". (3) (ق): "كرر"، وغير بينة في (ظ). (4) في "المصنف": (1/ 309 - 311)، إلا أنه قال لما ذكر بعض ما تهمزه العرب مما لا يُهمز: "وأنا أري ما ورد عنهم من همز الألف الساكنة في "بأز وساق وتأبل" ونحو ذلك، إنما هو عن تَطرُّق وصَنعة، وليس اعتباطًا هكذا من غير مسكة ... " اهـ "الخصائص": (3/ 147).

(4/1620)


كلامهم، ثم قال: "وإنما يجوز مثل هذا الغلط عليهم لما يستهويهم من الشَّبه؛ لأنهم ليست لهم قياساتٌ يعتصمون بها، وإنما يخلدون إلى طبائعهم". وأين هذا من كلام الإمام (1) المقدَّم سيبويه حيث يقول (2): "وليس شيءٌ مما يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهًا". وهذا من النُّحاة شبيهٌ من ردِّ الجهميَّة نصوص الصِّفات لمخالفتِها أقيستهم، ومن ردِّ أحاديث الأحكام عند مخالفتها الرأي، والمقصود بالأقيسة والاستنباطات فهم المنقول لا تخطئته، والله الموفق. فائدة "استطاع" استفعل، من طاع يطوع، ولم ينطق به، وإنما نطقوا بالرُّباعيِّ منه، فيقال (3): أطاعه وقالوا: طوَّع له كذا، أي: حسَّنهُ له وزيَّنه، وكأنه جعل نفسه مُطيعةً لداعيه، فالهمزة من "أطاعه" (4) همزة التَّعدية والنقل من اللُّزوم إلى التَّعدِّي، والتَّضعيف في "طوَّع" لكونه في معنى: حسَّن وزيَّن. وأما السين والتاء في "استطاع"، فإمَّا أن تكون للوجودِ، أي: وجدته طوعًا لي، كاستجدته، أي: وجدته جيِّدًا، واستصوبت كلامَهُ، أي: وجدته صوابًا، واستعظمته، أي: وجدته عظيمًا. وأما أن تكون للطَّلب، أي: طلبت أن يُطِيعني إذا أَمَرتُه (5) ولا يستعصي عليَّ بل يكون طوع قُدرتي، وقد يأتي هذا البناء بمعنى: __________ (1) "الإمام" ليست في (ع وظ)، و "كلام" ليست في (ق). (2) "الكتاب": (1/ 32). (3) (ق): "فقالوا". (4) (ق وظ): "في الطاعة". (5) (ع): "إذا باشرته"، (ق): "إذ أنا أمرته".

(4/1621)


فعل كـ: "قرَّ واستقرَّ، ومرَّ واستمرَّ"، وقد يأتي بمعنى الصَّيرورة (ظ/265 ب) كـ: "استنوق البعير، واستحجر الطين"، وبابُهما الفعل اللازم، وقد يأتي موافق تفعَّل، كـ: "تعظم واستعظَم". وأما "استعتبت" فهو للطَّلب، أي: طلب الإعتاب، فهو لطلب مصدر الرُّباعيِّ الذي هو: "أعتب"، أي أزال عتبة، لا لطلب الثلاثيِّ الذي هو العتب، فقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} [فصلت: 24]، أي إن يطلبوا إعتابنا وإزالة عتبنا عليهم. ويقال: "عتب عليه" إذا أعرض عنه وغضب عليه، ثم يقال: استعتب السَّيِّد عبده، أي طلب منه أن يزيل عتب نفسه عنه بعوده إلى رضاه، فأعتبته عبده، أي: أزال عتبه بطاعته. ويقال: استعتب العبد سيِّده، أي طلب منه أن يزيل غضبه وعتبه عنه، فأتبعه سيِّده، أي: فأزال (ق/385 ب) عتب نفسه عنه، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: وإن يطلبوا إعتابنا وهو إزالة عتبنا عنهم فما هم من المزال عتبهم؛ لأنَّ الآخرة لا تقال فيها عثراتهم ولا يقبل فيها توبتهم. وقوله: {لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)} [النحل: 84] أي: لا يطلب منهم إعتابنا، وإعتابه تعالى: إزالة عتبة بالتَّوبة والعمل الصَّالح، فلا يطلب منهم يوم القيامة أن يعتبوا ربَّهم فيزيلوا عتبَهُ بطاعته واتِّباع رسله. وكذلك قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} [الروم: 57]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الطائف: "لك العتبي" (1) هو اسمٌ من الإعتاب لا من العتب، أي أنت المطلوب إعتابه، ولك __________ (1) تقدم 2/ 709.

(4/1622)


عَلَيَّ أن أعتبك وأرضيك بطاعتك، فأفعل ما ترضى به عنِّي، وما يزول به عتبك عليَّ، فالعتب منه على عبده، والعتبي والإعتاب له من عبده (1)، فهاهنا أربعة أمور: الأول: العتب، وهو من الله تعالى، فإنَّ العبد لا يعتب على ربِّه، فإنه المحسن العادل، فلا يتصوَّر أن يعتب عليه عبده إلاَّ والعبد ظالمٌ، ومن ظن من المفسِّرين خلاف ذلك فقد غلط أقبح (2) غلطٍ. الثاني: الإعتاب، وهو من الله ومن العبد باعتبارين، فإعتابُ الله عبده إزالة عتب نفسه عن عبده، وإعتاب العبد ربَّه إزالة عتب الله عليه، والعبد لا قدرة له على ذلك إلاَّ بتعاطي الأسباب التي يزول بها عتب الله تعالى عليه. الثالث: الاستعتاب، وهو من الله إيضًا ومن العبد بالاعتبارين، فاللهُ تعالى يستعتب عباده، أي: يطلب منهم أن يعتبوه، ويزيلوا عتبة عليهم، ومنه قول ابن مسعود -وقد وقعت الزَّلزلة بالكوفة-: "إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه" (3)، والعبد يستعتب ربَّه، أي: يطلب منه إزالة عتبه. الرابع: العتبي، وهي اسم الإعتاب. فاشدد يديك بهذا الفصل الذي يعصمك من تخبيط كثيرٍ من المفسدين لهذه المواضع. __________ (1) (ق وظ): "عنده". (2) (ق): "أخس". (3) ذكره ابن جرير في "تفسيره": (8/ 100) بصيغة التمريض، وأخرج ابن أبي شيبة: (3/ 221) عن شهر بن حوشب مرسلًا أن المدينة زلزلت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه".

(4/1623)


ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل له، فأمَّا محسنٌ فلعلَّه أن يزداد، وإما مسيءٌ فلعلَّه أن يستَعتِب" (1) أي: يطلب من ربِّه إعتابه إيِّاه بتوفيقه للتَّوبة وقبولها منه، فيزول عتبهُ عليه. والاستعتاب نظير الاسترضاء، وهو طلب الرِّضى، وفي الأثر: إنَّ العبد ليسترضى ربَّه (ق/386 أ) فيرضى عنه، وإن الله ليسترضي فيرضى. لكنِّ الاسترضاء فوق الاستعتاب، فإنه طلب رضوان الله، والاستعتاب طلب إزالة غضبه وعتبه، وهما متلازمان. رجعنا إلى (استطاع): وفيها خمس (2) لغات، هذه إحداها. الثانية: اسطاع، بحذف تاء الافتعال تخفيفًا ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]. الثالثة، اصطاع، بالصَّاد، وفيه أمران؛ أحدهما: حذفُ التاء، والثاني: إبدال السين صادًا لأجل مجاورتها الطاء. الرابعة (3) اسطَّاع، بإدغام التاء (4) في الطَّاء، وهو إدغامٌ على خلاف القياس؛ لأنَّ فيه التقاء السَّاكنين على غير حدِّهما. الخامسة: أسطاع، بفتح الهمزة وقطعها وهي أشكَلُها، فقال سيبويه (5): السين عوضٌ عن ذهاب حركة العين؛ لأن أصله "أطوع" __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5673) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) (ق وظ): "أربع" وهو خطأ. (3) (ق وظ): "الثالثة" وما بعدها "الرابعة" وهو وهم. (4) (ق وظ): "السين"!. (5) انظر: "سر صناعة الإعراب" (1/ 200 - 201)، و"اللسان": (8/ 242 - 243)، وفيهما تعقُّب المبرّد.

(4/1624)


فنقِلَت فتحه الواو إلى الطاء، ثم أُعلَّ بقلب واوه ألفا لتحرُّكها أصلًا وانتفاح ما قبلها لفظًا، فزيدت السين عوضًا من ذهاب حركة العين. وتعقب المبرِّد هذا على سيبويه، وقال: إنما يعوَّض من الشيء إذا فقد وذهب، فأما إذا كان موجودًا في اللفظ فلا، وحركة العين منقولةٌ إلى الفاء فلم تعدم. وأجيب عن هذا: بأنَّ العين لما سكنت وهنت وتهيَّأت للحذف عند سكون اللام، نحو: لم يطع وأطعت، فلو بقيت حركتها فيها لما تطرَّق إليها الحذف، بل كنت تقول: لم يطوع وأطوعت، فزيدت السين ليكون عوضًا من هذا الإعلال المتضمِّن لثلاثة أمور: نقل حركة المتحرِّك، ووهنه بالسكون، وتعريضه للحذف عند سكون ما بعده، فجبروا هذا الإعلال هذا بزيادة السين في أوله. ونظير هذا سواء قولهم: إهراق، فإنَّ أصله "أراق" فقلبت عينُه ألفًا بعد تسكينها، فصارت عرضةً للحذف، كقولك: لم يُرق وأرقت، فأُعلَّ بالنَّقل والقلب والحذف، فعوِّضت الهاء في أوله جبرًا لإعلالِه، وأما "أراق" فعلى الأصل، وأما "هراق" (ظ/266 أ) فعلى إبدال الهمزة هاءً لمجاورتها في المخرج. ونظيره -أيضا- قولهم: اهراح في أراح يريح، هذا قول البصريِّين. وقال الفرَّاء: أصله "استطاع"، ثم حذفوا التاء، فعوِّضوا منها فتحَ الهمزة وقطعها، وهذا الذي قاله أقلُّ عملًا وأبعد من التَّكلُّف. وردَّ عليه بأنهم قالوا: "اسطاع" بكسر الهمزة ووصلِها مع حذف التاء، فلو كان حذف (ق/386 ب) التاء يوجب الفتح والقطع لما عدلوا عنه، وهذا ظلم للفرَّاء، فإنه لم يدَّعِ لزوم ذلك، وإنما ذكر ان هذا

(4/1625)


الحذف مسوِّغٌ للفتح والقطع. ويقال: ولو كان ما ذكرتم من الإعلالِ مسوِّغٌ لزيادة السين والهاء لاطَّراد في: أقام وأنام وأجادَ (1) وأقال وما لا يحصى، وليس نقضكم عليه بأقلَّ من نقوضه، فعلم أن هذه مسوِّغاتٌ لا موجباتٌ. فائدة يقال مجنونٌ ومغبونٌ ومهروعٌ مخفوعٌ ومعتوهٌ وممتوهٌ ومُمتَّهٌ وممسوسٌ، وبه لمم (2)، ومصابٌ في عقله، فهذه عشرة ألفاظٍ. وأما مخروعٌ فصحَّفها العامَّة من مهروع. __________ (1) (ق): "وأفاد". (2) (ق): "بلم"، (ع): "بلص".

(4/1626)


فائدة دلالة الاقتران: تظهر قوَّتها في موطنٍ، وضعفها في موطنٍ، وتساوى الأمرين في موطن، فإذا جمع المقترنين لفظٌ اشتركا في إطلاقه وافتراقا في تفصيله قويت الدلالة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الفطرة خمسٌ" (1)، وفي مسلم: "عشرٌ من الفطرة" (2)، ثم فصَّلها، فإذا جعلت الفطرة بمعنى السُّنَّة، والسُّنَّة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان؛ لكن تلك المقدمتان ممنوعتان فليست الفطرة بمرادفة للسُّنَّة، ولا السُّنَّة في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المقابلة للواجب، بل ذلك اصطلاحٌ وضعيٌّ لا يُحمل عليه كلام الشارع، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويستاك ويمسَّ من طيب بيته" (3)، فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحقِّ عليه، فإذا كان حقًّا مستحبًّا في اثنين منها كان في الثالث مستحبًّا، وأبين من هذا قوله: "وبالغ في الاستنشاق" (4)، فإنَّ اللفظ تضمَّن الاستنشاق والمبالغة فيه (5)، فإذا كان أحدها مستحبًّا فالآخر كذلك (6). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5889)، ومسلم رقم (257) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (2) رقم (261) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (3) أخرجه البخاري رقم (879)، ومسلم رقم (846) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-. (4) أخرجه أحمد: (26/ 206 رقم 16380)، وأبو داود رقم (142)، والنسائي: (1/ 66)، وابن ماجه رقم (448)، وابن حبان "الإحسان": (3/ 368)، والحاكم: (1/ 148) من حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه-. وسنده صحيح. (5) من (ق). (6) (ق): "فكذلك الآخر".

(4/1627)


ولقائل أن يقول: اشتراك المستحبِّ والمفروض في لفظ واحدٍ (1) عامٍّ لا يقتضي تساويهما لا لغةً ولا عرفًا، فإنهما إذا اشتركا في شيءٍ لم يمتنع افتراقهما في شيءٍ، فإن المختلفات تشترك في لازم واحدٍ، فيشتركان في أمر عامٍّ ويفترقان بخواصِّهما، فالاقتران كمًا لا يُثبتُ لأحدهما خاصيَّةً، لا ينفيها عنه، فتأمَّله، وإنما يثبت لهما الاشتراكُ في أمرٍ عامٍّ فقط. وأما الموضع الذي يظهر ضعف دلالة الاقتران فيه: فعند تعدُّد الجمل، واستقلال كلِّ واحدةٍ منهما بنفسها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدَّائم، ولا يغتسل فيه من جنابةٍ" (2) وقوله: "لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده" (3)، فالتَّعرُّض لدلالة الاقتران هاهنا في غاية الضَّعف والفساد، فإنَّ كلَّ جملةٍ مفيدةٌ لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردةً به عن الجملة الأخرى، واشتراكهما (ق/387 أ) في مجرَّد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراءه، وإنما يشترك حرف العطف في المعنى إذا عطف (4) مفردًا على مفردٍ، فإنه يشترك بينهما في العامل، كـ "قام زيدٌ وعمرٌو" وأما نحو: "اقتل زيدًا وأكرم بكرًا" فلا اشتراك في معنى. وأبعد من ذلك: ظنُّ من ظنَّ أنَّ تقييد الجملة السَّابقة بظرفٍ أو __________ (1) من (ق). (2) أخرجه أحمد: (15/ 365 رقم 9596)، وأبو داود رقم (70)، وابن حبان "الإحسان": (4/ 68)، والبيهقي: (1/ 238)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. (3) تقدم (4/ 1325). (4) من قوله: "لا يوجب ... " إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1628)


حالٍ أو مجرورٍ يستلزم تقييد الثانية، وهذا دعوى مجرَّدةٌ بل فاسدةٌ قطعًا، ومن تأمَّل تراكيب الكلام العربيِّ جزم ببطلانها. وأما موطن التَّساوى؛ فحيث كان العطف ظاهرًا في التَّسوية، وقصد المتكلِّم ظاهرًا في الفرق، فيتعارض ظاهر اللفظ وظاهر القصد، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر، وإلاَّ طلب الترجيح، والله أعلم. فائدة "رضي" لامُه واوٌ؛ لأنه من الرِّضوان، وانقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، وقالوا في الماضي المسند إلى اثنين: "رضيا" بالياء، وجاءوا إلى [المضارع] (1) فقالوا: "يرضيان" بالياء، والقياس: يرضوان، إذ لا موجب لقلب الواو ياءً، ولكن حملوا "يرضيان" على "رضيا"، كما حملوا "أعطيا" على "يعطيان"، ولم يقولوا: "أعطوا"، وذلك ليجري الباب على سننٍ واحدٍ، ولا يختلف عليهم. فائدة إنما امتنعوا من النُّطق بأفعال: (ويلَه ووَيحَه ووَيسَه ووَيبَه)؛ لأنه لفيفٌ مقرونٌ، فلو وضعوا له فعلًا لوقعت الواو بعد حرف المضارَعة، وذلك يوجب إعلالها بالحذف كـ (يعد ويزن ويثق) (ظ/266 ب) ووقعت العين، وهي حرف علَّة أيضًا ثالثةً، وذلك يوجب نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وإعلالها بالإسكان (2) كـ (يَبيعُ ويَحيدُ) فيتوالى عليهم إعلالاتٌ (3) في كلمةٍ واحدةٍ، وهم لا يسمحون بذلك، فرفضوا الفعل رأسًا. __________ (1) في الأصول: "الماضي" وهو خطأ. (2) (ق): "بالساكن". (3) (ق وظ): "إعلالان".

(4/1629)


فائدة قوله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} [الإسراء: 63] أعاد الضمير بلفظ الخطاب، وإن كان {فَمَنْ تَبِعَكَ} يقتضي الغيبة؛ لأنه اجتمع مخاطبٌ وغائبٌ، فغلِّب المخاطب، وجعل الغائب تبعًا له، كما كان تبعًا له في المعصية والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعًا له في اللفظ، وهذا من حسن (1) ارتباط اللفظ بالمعنى واتِّصاله به. وانتصب {جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} عند ابن مالك على المصدر، وعامله عنده المصدر الأوِّل. قال (2): والمصدرُ يعمل في المصدر، تقول: "عجبت من قيامك قيامًا"، ويعمل فيه الفعل نحو: "قام قيامًا"، واسم الفاعل: كقوله (3): فَأَصْبَحتُ لا أقرَبُ الغَانِيَا ... تِ مُزدَجِرًا عَنْ هَوَاها ازدِجَارا واسم المفعول نحو: "هو مطلوبٌ طلبًا". وبَعْدُ؛ ففي نصب (ق/387 ب) "جزاء" قولانِ آخرانِ: أحدهما: أنه منصوبٌ بما في معنى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الإسراء: 63] من الفعل، فإنه متضمِّنٌ لـ "تجازون" وهو الناصب "جزاءً". والثاني: أنه حالٌ، وساغ وقوع المصدر حالًا هاهنا؛ لأنه موصوفٌ. __________ (1) (ق): "وهو من أحسن ... ". (2) يعني ابن مالك، ولم أعثر على كلامه في "التسهيل" ولا في "شرح الكافية". (3) هو الأعشى "ديوانه": (ص/ 80).

(4/1630)


ذكر الزمخشريُّ (1) هذين القولين، وهذا كما تقول: "خُذْ عَطَاءَك عطاءً موفورًا". والذي يظهر في الآية: أن "جزاءً" ليس بمصدر، وإنما هو اسمٌ للحظِّ والنَّصيب، فليس مصدر "جزيته جزاءً"، بل هو كالعطاء والنَّصيب، ولهذا وصفه بأنه موفورا أي: تامٌ لا نقص فيه، وعلى هذا فنصبه على الاختصاص، وهو يشبه نصب الصِّفات المقطوعة، وهذا كما قال الزمخشريُّ وغيره في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7] قال: نصبه على الاختصاص أي: أعني نصيبًا مفروضًا، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصادر المؤكَّدة، كقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (2) [النساء: 11]. فائدة المسك: يذكَّر (3) بدليل قولهم: "أذفر" وقد ظنَّ بعضُهم تأنيثه محتجًّا بقوله (4): مرَّت بنا ما بَيْنَ أتْرَابِها ... والمِسْكُ مِن أَرْدَانِهَا نَافِحَهْ __________ (1) في "الكشاف": (2/ 366 - 367). (2) ذكره في "الكشَّاف": (1/ 249). (3) (ظ): "مذكر". (4) البيت في "شرح الأشموني": (2/ 324)، و"الهمع": (2/ 51)، وصدره هناك: * مَرَّت بنا في نسوةٍ خَوْلَةٌ * وذكر في "اللسان": (10/ 486) أنه مذكر وأنَّثه بعضُهم على أنه جمع واحدته مسكة ... وذكر بيتًا لجران العود فيه تأنيث المسك، إلا أنه خرجه على أنه ذهب به إلى "ريح المسك".

(4/1631)


ولا يثبُتُ التأنيثُ بمثل ذلك؛ لأنه خبرٌ عن مضافٍ محذوف، أي: رائحةُ المِسْكِ، وهذا يجوزُ عند أَمْنِ اللَّبْسِ. فائدة (1) من كُلِّيَّاتِ النَّحْو: كلُّ صفْةِ نكرةٍ قُدِّمت عليها انقلبتْ حالًا، لاستحالَةِ كونِها صفةً تابعةً مع تَقَدُّمها فجعلتْ حالًا، ففارقها لفظُ الصِّفَةِ لا معناها، فإنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى. وكلُّ صِفَةِ علمٍ قُدِّمت عليه انقلبَ الموصوفُ عطفَ بيانٍ نحو: "مَرَرْتُ بالكريمِ زَيْدٍ" وكذلك غيرُ العَلَمِ كقولك: "مَرَرْتُ بالكريمِ أخِيكَ"؛ لأن الثانيَ تابعٌ للأول (2) مبيِّنٌ له، وكلُ تابعٍ صلح للبَدَلِيَّةِ وعطف البيان نظرتَ فيه، فإن تضمَّنَ زيادةَ بيان فجعله عطفًا أوْلى من جعلِهِ بَدَلًا، وإن لم يتضمَّنْ ذلك فجعله بَدَلًا أولى، مثالُ الأوَّلِ: قولُه تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 - 32]. فائدة الأفعالُ ثلاثة؛ ماضٍ ومضارعٌ وأمْرٌ: فالأمرُ: لا يكونُ إلَّا للاستقبال، ولذلك فلا (3) يَقْتَرَنُ به ما يجعلُه لغيره، وأما ورودهُ لمن هو ملتبسٌ بالفعلِ فلا يكونُ المطلوبُ منه إلَّا __________ (1) (ق وظ): "فوائد". (2) (ع): "له". (3) (ق): "لم".

(4/1632)


أمرًا متجدِّدًا، وهو إما الاستدامَةُ، وإما تكميلُ المأمورِ به نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]. وأما الماضي: فَيُصْرَفُ إلى الاستقبالِ بعد أدواتِ الشَّرْطِ (ق/388 أ) في (1) الوعدِ والإنشاءِ ونحوه، لا في الخبر، كقوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27]، وكقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وكقول النبي -صَلى الله علَيه وسلم- لعائشة: "إنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ" (2)، ونظائرُه كثيرةٌ جدًّا. ولا يخفى فسادُ تأويلِ ذلك: بأن المعنى إن يثْبُتْ في المستقبل وقوعُ ذلك في الماضي! أفترى الحسيح يقولُ لربِّهِ: إد يثبتْ في المستقبلِ أني قلتُهُ في الماضي فقد علمْتَهُ، وهل هذا إلَّا فاسدٌ من الكلامِ ممتنعٌ من العاقلِ إطلاقُهُ، وكذلك قولُ النبيِّ -صَلى الله علَيه وسلم- لعائشةَ إنما أرادَ: إن كان وُجِدَ فيما مضى ذنبٌ فتداركيهِ بالتَّوْبَةِ. وأما ما يصيرُ به الماضي مستقبلًا فكقولِكَ: "إنْ أقَمْتَ (3) أَكْرَمْتُكَ وإنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِليْكَ" فهذا ماضي اللَّفظِ مستقبلُ المعنى، وللنُّحاة هاهنا مسلكانِ: أحدهما: أن التغيير وقَعَ في لفظ الفعل، وكان الموضِعُ للمستقبَلِ، فَغُيِّرَ إلى لفظ الماضي، والأداة هي التي تَصَرَّفَتْ في تغييره، وهذا (ظ/267 أ) اختيارُ أبي العباس المُبَرِّد. __________ (1) (ق): "وفي". (2) قطعة من حديث الإفك الطويل، أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770). (3) (ق): "قمت".

(4/1633)


والثاني: أن التغييرَ إنما هو في المعنى، والأداةُ وَرَدَتْ على فعل ماضٍ، فغيرت معناه إلى الاستقبال، وهذا هو الصَّوابُ؛ لأنَّ الأدواتِ المغَيِّرَةَ للكَلِم إنما تُغَيِّرُ معانيَها دونَ ألفاظِها، كالاستفهام المغيِّرِ لمعنى ما بعدَه من الخبرِ إلى الطلبِ، وكالتَّمَنِّي والتَّرَجِّي والطَّلَب (1) والنفي، ونظائره، ويتصرَّف إلى الحال بقرينةِ الإنشاءِ، كـ: "تَزَوَّجْتُ وبعْتُكَ وطَلّقْتُكِ"، على أحدِ القولين في هذه الصِّيَغِ. ومَنْ جَعَلَها إخبارًا عمَّا قام بالنفسِ فهي ماضِيَةٌ على بابِها (2). والتحقيقُ: أنها إنشاءٌ للخارجِ إخبارٌ عما في النفس، فجهةُ الخَبَرِ فيها لا تُنافي جهةَ الإنشاءِ. ويتصرَّفُ إلى الاستقبالِ بقرينةِ الطلبِ والدُّعاءِ، كقولك: "غَفَرَ اللهُ لك، وأدخلَكَ الجَنَّةَ، وأعاذَكَ من النَّار"، ونحو "عَزَمْتُ عليك إلّا فَعَلْتَ". ويتصرَّف إليه أيضًا بالوعد عند بعضِهم، مستشهدًا بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] ونحوه، وفيه نظر ظاهر للمتأمل. ويتصرَّفُ أيضًا إلى الاستقبال بعطفِه على ما علم استقبالُه، كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87]. ويتصرف إلى الاستقبال أيضًا بالنفي بـ "لا" و"إنْ" بعد القَسَم، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ (ق/388 ب) زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، وكقول الشاعر: __________ (1) من (ق). (2) (ق): "حالها".

(4/1634)


رِدُوا فواللهِ لا ذُدْنَاكُمُ أبدًا ... ما دامَ في مائِنَا وِرْدٌ لِنُزَّالِ (1) ويحتملُ المضيَّ والاستقبال بعد همزة التَّسوية نحو: "سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ"، والصواب أن المُرَادَ هنا المصدرُ المدلولُ بالفعل، وهو أعمُّ من الحالِ والاستقبالِ، فلم يجيءْ الاحتمالُ من جهة الهمزة، بل من جهةِ القصدِ إلى المصدرِ. فإن قلت: فلو اقترن الفعلُ الواقعُ بعدَ "أم" بـ: "لم" فهل يصلحُ الماضي للحالِ والاستقبال أم يتعيَّنُ المضي؟. قلتُ: ذهب صاحب "التسهيل" (2) إلى تعيّن المضيِّ، واحتجَّ بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، والصوابُ: أنه لا يتعيَّنُ المضيُّ، فإنَّ المعنى: سواءٌ عليهم الإنذارُ وعَدَمُهُ، فلا فَرْقَ بَيْنَ ذلك وبَيْنَ أن يُقَالَ: "سَوَاءٌ عليهِم أأَنْذَرْتَ أم تَرَكْتَ الإنذارَ" (3). وكذلك لو كان بعدَ "أم" جملةٌ إسميَّةٌ لم يتعيَّنِ المضيُّ في الفعل، كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، وإذا وقع الماضي بعدَ حرف التَّحضيضِ صَلَحَ أيضًا للماضي والمستقبلِ، كقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (4) [التوبة: 122]، والصوابُ: أن الماضِيَ هاهنا باقٍ على وضعِهِ لم يتغيَّرْ عنه، كقوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] ويقول: هلا اتقيتَ الله فيما أتيتَ، والآيةُ __________ (1) ذكره في "الهمع": (1/ 9)، (2/ 41). (2) ليس هذا النقل في "التسهيل" ولا في "شرح الكافية". (3) في هامش (ع) حاشية نصُّها: "هذا فيه نظر، فإن ما بعد "لم" ماضي المعنى قطعًا؛ فكيف يصح أن يكون التقدير: "أم تركتَ الإنذار"؟! " أهـ. (4) (ع وظ) إلى قوله "طائفة" وتكملتها من (ق).

(4/1635)


إنما نزلت في غزوة تبوك في سياق ذمِّ المتخلفينَ عن رسول الله -صَلى الله علَيه وسلم- فأخبرَ تعالى أن المؤمنينَ لم يكونوا لينفروا كافَّةً، ثم وبَّخهم توبيخًا متضمِّنًا للحضِّ على أن ينفرَ بعضهم ويقعدَ بعضُهم. وأصح القولين: أنه ينفرُ منهم طائفةٌ في السَّرَايا والبعوثِ، وتقعدُ طائفةٌ تَتَفَقَّهُ في الدين فتنذرُ القاعدةُ الطائفةَ النافِرَةَ إذا رَجَعَتْ إليهم، وتخبرُهم بما نَزَلَ بعدَهم من الحلالِ والحرامِ والأحكامِ؛ لوجوه: أحدها: أن الآيةَ إنما هي في سياقِ النَّفِيرِ في الجهاد وتوبيخِ القاعدينَ عنه. الثاني: أن النفيرَ إنما يكونُ في الغزو، ولا يقالُ لمن سافر في طلب العلم: إنه نَفَرَ ولا استنفَرَ، ولا يقالُ للسفر فيه: نفيرٌ. الثالث: أن الآية تكونُ قد اشتملتْ على بيان حكمِ النَّافرين والقاعدينَ، وعلى بيانِ اشتِراكِهم في الجهادِ والعلمِ، فالنَّافرونَ أهلُ الجهاد، والقاعدونَ أهلُ التَّفَقُّهِ، والدِّينُ إنما يتمُّ بالجهاد والعلم، فإذا اشتغلت طَائفةٌ بالجهادِ (ق/389 أ) وطائفةٌ بالتَّفَقُّهِ في الدِّين، ثم يُعَلِّم أهلُ الفقهِ المجاهدينَ إذا رجعوا إليهم، حصلتِ المصلحةُ بالعلمِ والجهادِ وهذا الأليقُ بالآية، والأكملُ لمعناها، وأما إذا جُعِل النفيرُ فيها نفيرًا لطلبِ العلمِ لم يكنْ فيها تعرُّضٌ للجهادِ، مع إخراجِ النفيرِ عن موضوعه (1). والذي أوجبَ لهم دعوى أن النفيرَ في طلب العلم: أنهم رَأوا الضميرَ إنما يعودُ علي المذكور القريبِ، فالمُنْذِرونَ هم النَّافِرُونَ وهم المُتَفَقِّهونَ. __________ (1) (ظ): "موضعه".

(4/1636)


وجوابُ هذا: أن الضميرَ إنما يرجعُ إلى الأقرب (1) عند سلامتِه من معارِضٍ يقتضي الأبعدَ، وقد بَيَّنَّا أن السياقَ يقتضي أن القاعدَ هو المتفَقِّهُ المنذرُ للنافرِ الراجعِ. والمقصودُ أن "نفر" في الآية ماضٍ، وإنما يفهمُ منه الاستقبال؛ لأن التحضيضَ يؤذِنُ به، والتحقيقُ في هذا الموضِع: أن لفظة "لولا" و"هلَّا" إن تجرَّدَ للتوبيخ لم يتغيرْ الماضي عن وضعِه، وإن تجرَّدَ للتَّحْضيض تَغَيَّرَ إلى الاستقبال (2). وإن كان توبيخًا مُشْرَبًا معنى التَّحضيض صَلَحَ للأمرينِ، وإن وقع بعدَ "كلما" (ظ/267 ب) جازَ أن يُرَادَ به المُضِيُّ كقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] وأنْ يُراد به الاستقبال كقولِه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]. وقد ظن صاحبُ "التسهيل" (3) أنه إذا وقع صِلَةً للموصول جاز أن يُرَادَ به الاستقبالُ محتجًّا بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]، وهذا وهمٌ منه -رحمه اللهُ- والفعلُ ماضٍ لفظًا ومعنىً، والمرادُ: إلا الذين تقدَّمَتْ تَوْبَتُهم القُدْرَةَ عليهم، فخلُّوا سبيلَهم، والاستقبالُ الذي لحظه -رحمه الله- إنما هو لما تضمَّنه الكلامُ من معنى الشرط، ففيه معنى: من تاب قبل أن تقدروا عليهِ فخلُّوا سبيلَه، فلم يجيءْ هذا من قبل الصِّلةِ، ولو تجرَّدَتِ (4) الصِّلَةُ عن معنى الشرط، لم يكن الفعلُ إلَّا ماضيًا وضعًا __________ (1) (ق): "القريب". (2) من قوله "لأن التحضيض. . ."، إلى هنا ساقط من (ظ). (3) انظر (4/ 1635، حاشية 2). (4) (ع وظ): "تحركت".

(4/1637)


ومعنى، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، ونظائره. وأما قولُه: "نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي" (1)، فقال صاحب "التسهيل" (2): إن الاستقبال في "سمع" جاء من كونِه وقع صفةً لنكرةٍ عامةٍ، وهذا وهمٌ -أيضًا- فإنَّ ذلك لا يوجِبُ استقبالًا بحالٍ، تقولُ: "كم مالٍ أنفقتَهُ، وكم رجلٍ لقيتَهُ، وكم نعمةٍ كَفَرها أبو جهلٍ، وكم مشهدٍ شهِدَه عليٌّ مع رسول الله -صَلى الله علَيه وسلم-"، وإنما جاء الاستقبالُ من جهةِ ما تضمَّنه الكلامُ من الشرطِ، فهو في قُوَّة: "مَن سَمِعَ مقالتي فوعاها نَضَّرَهُ اللهُ"، فتأَمَّلْه. وكذلك إذا وقعَ (ق/389 ب) مضافًا إليه حيث صَلَحَ للاستقبال إذا تضمَّنتْ معنى الشرط، كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، فلم يأتِ الاستقبالُ هاهنا من قِبل "حيثُ" كما ظنَّه، وإنما جاء من قِبَل: ما تضمَّنه الكلامُ من الشرط، ولهذا لو تجرَّدَ من الشرط لم يكنْ إلَّا للمضيِّ، كقولك: "اذهبْ حيثُ ذَهَبَ فلانٌ". وأما قول الشاعر (3): وإني لآتيكم بتذكار (4) ما مَضَى ... من الأمرِ واستحبابِ ما كانَ في غَدِ فلم تكن "كان" هاهنا مستقبلةَ المعنى لكونِها في صلَةِ الموصول، __________ (1) أخرجه أحمد: (21/ 60 رقم 13350)، وابن ماجه رقم (236) وغيرهما من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة، يُصحح الحديث بها. (2) انظر ما تقدم. (3) البيت للطرماح "ديوانه": (ص/572 - الملحق)، وهو في "الخصائص": (3/ 331). (4) في النسخ: "بذكر"!.

(4/1638)


بدليلِ وقوعِها للمضي في قوله: "ما مَضَى من الأمر"، وإنما جاءَ الاستقبالُ من جهة الظرفِ الذي جُعِلَ وقتًا للفعل. فصل وإذا نُفِيَ المضارع بـ "لا" فهل يختَصُّ بالاستقبال أو يصلحُ له وللحال؟ مذهبانِ للنُّحَاةِ؛ مذهب الأخفش: صلاحِيَّتُه لهما، ووافقه ابنُ مالك (1)، وزعم أنه لازمٌ لسيبويه، محتجًّا بإجماعهم على صحة. "قامَ القَوْمُ لا يكُونُ زَيْدًا" فهو بمعنى: "إلا زيدًا". ومن ذلك قولهم: "أتُحِبُّه أمْ لا تُحِبُّهُ؟ " و"أتظنُّ ذلكَ أمْ لا تَظُنُّهُ؟ "، لا رَيْبَ أنه بمعنى الحال، وقولهم: "ما لك لا تَقْبَلُ وأراكَ لا تُبَالي"، قال تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] و {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] و {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وزعم الزمخشريُّ (2) أنه يَتَخَلَّصُ بها للاستقبالِ أخذًا من قول سيبويهِ (3): "وإذا قال: "هو يَفْعَلُ" ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإنَّ نفيَهُ: "لا يفعل" "، وهذا ليس صريحًا في اختصاصِهِ بالمستقبل، فإن (لا) تنفي الحالَ والاستقبالَ، وهو لم يقلْ: لا تنفي الحالَ، وإنما أراد سيبويه أن يفرِّقَ بينَ نفي الفعل بـ "ما" ونفيه بـ "لا" في أكثر الأمر، فقال: "وإذا قال: هو يفعلُ، أي: هو في حالِ فعلٍ، كان نفيُه ما يفعل، وإذا قال: هو يفعلُ، ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإن نفيَهُ __________ (1) لم أعثر على كلامه. (2) في "المفصَّل": (8/ 107 - 108 - مع شرحه لابن يعيش). (3) في "الكتاب": (3/ 117).

(4/1639)


لا يفعل"، ومعلوم أنَّ "ما" لا يخلصُ الفعل المنفي بها للحالِ، وسيبويه قد جعلَها في فعل الحال كـ "لا" في فعل الاستقبالِ، فعلم أنه إنما أراد الأكثرَ من استعمال الحرفين. وتأمَّلْ كيف جاءَ نفيُ المضارعِ وهو مرفوع بـ "ما ولا" وهما لا يُزيلانِ رفعه لتشاكُلِ المنفي للمُثْبَتِ، ويقابل مرفوع بمرفوع، والمشاكلةُ مُهِمة (1) في كلامِهم، حتى يغيِّروا لها بعضى الألفاظ، كقولِهم: أخذه ما قَدُمَ وما حَدُثَ، والغَدَايا والعَشَايا، ونظائره. وترجح الحالُ بدحْول لام الابتداء (ق/ 390 أ) عليه نحو: "إني لأحبُّكَ"، وأما قوله تعالى حكاية على يعقوب: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13]، وذهابهم مستقبلٌ، وهو فاعلُ الحزن، ويمتنعُ أن يكون الفاعل مستقبلًا والفعلُ حالًا. فزعم صاحبُ "التسهيل" أن هذا دليلٌ على أن اللام لا تخلصُ للحالية، واحتجَّ أيضًا بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 124]، ولقائل أن يقول: التخلُّصُ (2) إنما يكونُ باللام المجردة، وأما إذا اقترن بالفعل قرينةٌ تخلِّصه للاستقبال، لم تكن اللام للحال، وهذا كـ: "سَوْفَ" كما في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، فلولا هذه القرائنُ لتخلَّصَ للحالِ، وهذا كان مع "لم" كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73]، فـ "إنْ" منعتِ اقتضاءَ "لم" للمضي، وأمَّا "الآنَ" و"آنِفًا" و"الساعةَ" فمخلِّصة للحال خلافًا لبعضهم. __________ (1) تحتمل: "فهمه". (2) (ق وظ): "التخليص".

(4/1640)


واحتجَّ بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] والأمر إنما يكونُ للمستقبل، وقد عمل في "الآن". وأجيبَ (ظ/268 أ) عن ذلك بأنَّ "الآن" هنا هو الزَّمَنُ المُتَّصِلُ أوَّلُه بالحالِ مستمرًّا في الاستقبال، فعبَّر عنه بـ "الآن" اعتبارًا بأوله، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 9]، والصواب أن "الآنَ" في الآية ظرفٌ للأمر والإباحة لا لفعلِ المأمور به، والمعنى: فالآنَ أَبَحْتُ لكم مباشَرَتَهُنَّ، لا أن المعنى: فالآن مُدَّةُ وقوع المباشرة منكم، وترجح الحاليَّة بنفيه بـ "ما وليس وإن" كقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وكقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109]، ومثالُ نفيه: بـ "ليس" قولُ الشاعر (1): ولستُ وبَيْتِ اللهِ أَرْضَى بِمِثْلِها ... ولكنَّ مَنْ يَمْشِي سَيَرْضَى بِما رَكِبْ وأما قوله (2): فما مِثْلُه فيهمْ ولا كانَ قَبْلَهُ ... وليس يكونُ الدَهْرَ ما دامَ يَذْبُلُ فإنما جاء للاستقبال من تقسيم النفي إلى ماض وحال ومستقبل. وقال ابن مالك: لا يخلصُه النفيُ بذلك للاستقبال، واحتجَّ بهذا البيت، وبقوله (3): والمرءُ سَاعٍ لأَمْرٍ ليسَ يُدْرِكُهُ ... والعَيْشُ شُحٌّ وإشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ __________ (1) ذكره الزمخشري في "المستقصى": (2/ 380)، ولم ينسبه، وعجزه يروى لجحظة البرمكي في "ديوانه" (ص/37)، وصدره: "ولا عن رضى كان الحمار مطيتي". (2) البيت لحسَّان بن ثابت -رضي الله عنه- "ديوانه": (1/ 433) من قصيدة يمدح بها الزبير -رضي الله عنه-. (3) البيت لعبدة بن الطبيب، "ديوانه": (ص/ 75).

(4/1641)


وبقول أبي ذُؤَيْب (1): أَوْدَى بَنِيَّ وأودعوني حَسْرَةً ... عندَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً ما تُقْلِعُ وبقول [الأعشى] (2) يمدحُ النبيَّ -صَلى الله علَيه وسلم-: له نافلاتٌ ما يُغِبُّ نَوَالَها ... وليس عَطَاءُ اليومِ مانِعَهُ غدًا وبقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]. والتحقيقُ في ذلك: أن هذه الأدواتِ تنفي الفعلَ المبتدئَ من الحال، مستمر النفي في الاستقبال، فلا تنفيه في الحال نفيًا منقطِعًا عن التَّعَرُّضِ للمستقبلِ، ولا تنفيه في المستقبلِ، مع جوازِ التَّلَبُّس به في الحال، فَتَأَمَّلْهُ. وتتخلّصُ للاستقبال بعشرة أشياء: (حرف تنفيس، (ق/ 390 ب) أو مصاحبة ناصب، أو أداة تَرَجٍّ، أو إشفاق كـ "لعل"، أو مجازاة، أو نوني التوكيد، أو "لو" المصدرية)، كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، ومثال الإشفاق، قول الشاعر (3): فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولكِنْ ... عسى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ * * * __________ (1) انظر "ديوان الهذليين": (1/ 2)، و"المفضليات": (ص/421)، والبيت فيه: أوْدَى بنيَّ وأعْقَبُوني غُصَّةً ... بَعْدَ الرُّقادِ وعَبْرةً لا تُقْلِعُ (2) في الأصول: "النابغة"، وهو خطأ. والبيت للأعشى "ديوانه": (ص/ 137) والبيت فيه: له صدقاتٌ ما تُغِبُّ ونائلٌ ... وليس عطاءُ اليومِ مانِعَهُ غدا (3) البيت في "الكتاب": (3/ 159)، و"الخزانة": (9/ 328) غير منسوب.

(4/1642)


فائدة قوله في الحديث الصحيح: "إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ" (1) يجوز فيه وجهان: فتحُهما معًا، وهو الأشهرُ والأفصحُ، وهما مبنيانِ على الفتح، للتركيب المتضمن للحرف (2) كقولهم: "هو جاري بيتَ بيتَ" والمعنى: بيتُهُ إلى بيتي، ومنه قولهم: "همزة بَيْنَ بَيْنَ"، و"فُلانٌ يأتيكَ صَبَاحَ مَسَاءَ ويَوْمَ يَوْمَ"، و"تَرَكوا البلادَ حيْثَ بَيْثَ وحاثَ باثَ"، و"وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ". وأصل هذا كله: "خَمْسَةَ عَشَرَ" وبابه، فإن أصلَهُ قبلَ التركيبِ العطفُ، فرُكِّب وبُني لتضمُّنِه معنى حرف العطف، ولا كذلك: "بَعْلَبَكُّ" وبابُه؛ لأن الاسمين في "خمسة عشر" مقصود دلالتهما قبل التركيب بخلاف "بَعْلَبَكَّ". الوجه الثاني: بناء "وراءَ وراءَ" على الضمِّ كالظروف المقطوعة على الإضافَةِ، ورجح هذا بعضُ المتأخرين محتجًّا بما أنشده الجوهري في "صحاحه" (3) بالضم: إذا أَنا لَمْ أُؤْمَنْ عليْكَ ولم يَكُنْ ... لِقَاؤُكَ إلَّا مِنْ وَرَاءُ وراءُ (4) هكذا أنشده بالضمِّ، وعلى هذا فـ "وراء" الأولى بُنيت كبناء "قبلُ وبعدُ" إذا قُطِعَتا، وفي الثانية أربعة أوجهٍ: __________ (1) أخرجه مسلم رقم (195) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-. (2) (ظ): "للحذف". (3) (6/ 2523). (4) وذكره في "الكامل": (1/ 85) منسوبًا إلى عُتَيّ العُقَيلي.

(4/1643)


أحدها: أن يكونَ بناؤُها كذلك أيضًا على تقديرِ "مِن" فيها أي: "مِنْ وراءُ منْ وَرَاءُ"، حُذِفت "منْ" اكتفاء بالأولى. الثاني: أن تكون تأكيدًا لفظيًّا للأولى، وتَبِعَتْها في حركةِ البناء لقُوَّتِها، ولأنَّ لها أصلًا في الإعراب وبناؤُها عَارضٌ، فهي كحركةِ المنادى المفرد، كقولك: "يا زيدُ زَيْدٌ". الثالث: أن يكونَ بَدَلًا منها. الرابع: أن يكون عَطْفَ بيان (1)، كقوله (2): إنِّي وأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرًا ... لَقَائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرًا وهذان الوجهانِ عند التحقيقِ لا شيء؛ لأن الشيءَ لا يبدَلُ بنفسِه إلَّا باختلافٍ مَّا في تعريف وتنكير، أو إظهارٍ وإضمارٍ، ومع الاتِّحادِ من كلِّ وجهٍ لا يبدلُ أحدُهما من الآخر لخلوِّ هذا الإبدال عن الفائدة، وكذلك عطفُ البيان، فإنَّ الشيءَ لا يَتَبَيَّنُ بنفسِه، ولا يُفْهَم حقيقة عطفِ البيان بينَ لفظينِ متساويينِ من جميعِ الوجوهِ. وعلى الوجهِ الأوَّلِ وهو فتحهُما ففيهما وجهانِ: أحدهما: البناءُ كما تقدَّم تقريره. والثاني: الإعرابُ، وتكون فتحةُ "وراءَ" فتحةَ إعراب، ولكنه غيرُ منصرف، وتقريره: أن "وراءَ" لما لم يقصدْ بها قصدَ مضافٍ بعينه صارت كأنها اسمٌ مستقبل بنفسِهِ، وهو عَلَمٌ جنسيٌّ لمطلَقِ الخلفية __________ (1) من قوله: "وبناؤها عارض. . ." إلى هنا ساقط عن (ق). (2) الرَّجَز لرؤية بن العجاج "ديوانه": (ص/ 147 - الملحق)، وانظر "الكتاب": (2/ 185)، و"الخصائص": (1/ 340).

(4/1644)


والكلمةُ مُؤنَّثةٌ، فاجتمعَ فيها التأنيثُ والعَلَمِيَّةُ فمُنِعت الصرف. وعلى هذا (ق/ 391 أ)، ففي "وراءِ" الثانية الأوجهُ الأربعةُ التي تقدَّمَتْ في المضمومةِ، ويدُلُّ (ظ/268 ب) على صحَّة ما ذكرناه ما وقع في بعض روايات الحديثِ: "مِنْ وَرَاءَ مِنْ وَرَاء" (1) بِتَكرارِ "مِنْ" في الموضِعَيْنِ وفتح "وراء"، وهذا ينفي التركيبَ، فيتعيَّنُ به الإعرابُ ومنع الصرف، والدليل على تأنيث الكلمة: أن الجوهريَّ نصَّ في كتابه على تأنيثها فقال: "وهي مؤنثةٌ لأنهم قالوا في تصغيرِها: "وُرَيْئَةٌ" ". قلت: ولكن ليس تأنيثُها بالهمزة الممدودة، بل تأنيثها معنويٌّ لا علامةَ له؛ لأن (2) ما تأنيثُه بالهمزة إذا صُغِّرَ لم تقعِ الهمزةُ في حشوِهِ كـ: "حمراءَ"، فلما قالوا: "وُرَيْئَةٌ" علم أن همزتها ليستْ للتأنيثِ، بل تأنيثُها كتأنيثِ "قوس" و"أُذن"، ونحوهما. وقد حُكِيَتْ في هاتينِ الكلمتينِ أربعةُ أوجهٍ أُخَرَ: أحدها: "من وراءِ وراءِ" بكسر الهمزة فيهما، وهي كسرةُ بناء. الثانية: "من وراءَ وراءُ" بفتح الأولى وضم الثانية، ووجهه إضافة الأولى إلى الثانية، فأُعْرِبت الأولى وبُنِيتِ الثانيةُ على الضَّمِّ، قالوا: فتكون الأولى ظرفًا منصوبًا، والثانية غايةً مقطوعةً. قلت: وتصحيحُ هذا يستلزمُ أن يكونَ "وراءُ" صفةً لمحذوفٍ ليصِحَّ تقديرُ الظرفية فيه (3)، فيكون تقديرُه: من مكان وراء، وإلا فمع __________ (1) لم أعثر على من أخرجها؛ لكن قال القرطبي في "تفسيره": (11/ 199): "ووقع في بعض نسخ مسلم: "من وراء من وراء" بإعادة "من"" أهـ. (2) (ع): "لكن". (3) من (ق).

(4/1645)


مباشرة "من" لا ينتصبُ ظرفًا. الثالثة: "من وراءَ وراءَ" بالنصب فيهما على الظَّرفيَّةِ، ووجهه ما أشرنا إليه من تقدير موصوف محذوف أي: "منْ مكانٍ وراءَ وراءَ". الرابعة: "من وَرَاءِ وراءَ" بكسر الأولى وفتح الثانية، فتجرُّ الأولى بإضافَتِها، وتعرب الثانية إعرابَ غيرِ المنصرف، كقولك: "من أحمرِ (1) عثمانَ"، وموضوع هذه الكلمة كـ: خَلْفَ ضدَّ أمَامَ. وذهب بعض المفسِّرينَ واللُّغويينَ إلى أنها قد تأتي بمعنى "أمام" فتكونُ مشتركةً بينهما، واحتجَّ بأمرين: الأول: قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)} [إبراهيم: 16] وجهنَّمُ (2) إنما هي (3) أمام الكافر، وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 17] وإنما العذابُ الغليظُ أمامَهُ، وفيما يستقبلُهُ. الثاني: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامُهم، بدليل قراءة عبد الله بن عباس: {وكانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ} (4). وهذا المذهبُ ضعيفٌ، و"وراءُ" لا يكونُ "أمامًا"، كما لا يكون "أمامُ" "وراءً" إلّا بالنسبة إلى شيئين، فيكون أَمَامَ الشيء وراءً لغيرِه"، ووراءَ الشيء أَمَامًا لغيرِه، فهذا الذي يعقلُ فيها، وأما أن يكونَ وراءُ __________ (1) في المطبوعات: "أحجر". (2) "ويسقى من ماء صديد، وجهنم" ساقط من (ع). (3) (ع): "أي: هو". (4) أخرجه البخاري رقم (4725)، ومسلم رقم (2380).

(4/1646)


زيْدٍ بمعنى أمامه فكَلَّا. وأما ما استدلُّوا به فلا حُجَّة فيه؛ فأما قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16]، فالمعنى أنه ملاقٍ جهنَّمَ بعدَ موتِهِ، فهي من بعدِهِ (ق/391 ب) أي: بعدَ مفارقَتِهِ الدنيا، فهي لما كانت بعدَ حياتِهِ كانت وَرَاءَه؛ لأن "وراءَ" كـ "بعدَ"، فكما لا يكونُ "بَعْدُ قَبْلَ" فلا يكون "وَرَاءُ أمامَ"، وأنت لو قلت: جهنَّم بعدَ موتِ الكافرِ، لم يكن فيها معنى "قبلَ" بوجهٍ، فوراءُ هاهنا رمانٌ لا مكانٌ، فتأمَّلْه. فهي خَلْفَ زمانِ حياته وبعدَهُ، وهي أمامَهُ ومستقبِلَتَهُ، فكونها خَلْفًا وأمامًا باعتبارين، وإنما وقعَ الاشتباهُ لأن بعدية الزمان إنما يكونُ فيما يُسْتَقْبَلُ أمامَكَ، كقولك: "بعدَ غَدٍ" وورائية المكانِ فيما تَخَلَّفَ وراءَ ظهرِكَ، فـ: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} ورائية زمان لا مكان. وهي إنما تكونُ في المستقبل الذي هو أمامَك، فلما كان معنى "أمام" لازمٌ لم ظنَّ من ظنَّ أنها مشتركَةٌ، ولا اشتراكَ فيها، وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) وكذلك: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}. وأما قولُه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} فإنْ صحَّتْ قراءةُ: {وكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ}، فلها معنى لا يناقِضُ القراءةَ العامَّةَ، وهو أنَّ المَلِكَ كان خَلْفَ ظهورهِم وكان مرجِعُهم عليه، فهو وراءَهم في ذَهابِهم، وأمَامَهم في مَرْجِعِهم، فالقراءتانِ بالاعتبارينِ، واللهُ أعلمُ. فائدة قولهم: "البَدَلُ في نِيَّةِ تَكرارِ العامل" إنْ أريدَ به أن العاملَ فيه غيرُ العامل في متبوعِهِ فلابُدَّ من إعادَتِهِ، إمَّا ظاهرًا وإمَّا مقدَّرًا -كما هو مذهب ابن خَرُوفٍ وغيره- فضعيف جدًّا، وهو مخالفٌ لمذهبِ

(4/1647)


سيبويه، فإن الذي دلَّ عليه كلامُهُ أنَّ العاملَ فيهما هو الأوَّلُ، ويتعيَّنُ هذا، لأنَّ من المبدلات ما يُبدَلُ من مجرورٍ ومجزومٍ ولا يُعَادُ عامِلُهُ (1)، فلو كان العاملُ مقدَّرًا لزم اطِّرادُ إضمارِ الجارِّ والجازمِ في الإبدالِ من المجرورِ والمجزومِ (2) وهو ممتنعٌ. والذي أوجبَ لهم ما ادَّعَوْهُ أمرانِ: أحدهما: أنهم رَأَوُا البَدَلَ كثيرًا ما يُعادُ معه العاملُ، كقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] ولم يَرَوْهُ معَادًا مع غيرِه من التَّوابِع إلا نادرًا. الثاني: أن البدلَ هو المقصودُ بالذكر، والأوَّلُ في نِيَّةِ الإطِّراحِ، فلما كان هو المقصودَ كانت مباشرتُه بالعامل أولى بخلافِ بقيَّةِ التَّوابعِ، فإنَّ المقصودَ في النعتِ وعطفِ البيان والتأكيد هو الأوَّلُ، (ظ/ 269 أ) والثاني توضيحٌ وتبيينٌ. وأما عطفُ النَّسَقِ وإن قُصِدَ فيه التابعُ والمتبوعُ فالمعطوفُ في ثانٍ تابعٌ لمقصودٍ فاكْتُفي فيه بالعامل (ق/392 أ) الأوَّلِ، ولا حُجَّةَ في شيءٍ من ذلك، أما الأوَّلُ فمجيء البَدَلِ خاليًا من تَكْرار العامل أكثر من اقترانِهِ بإعادةِ العامل، وإنما أعيدت اللامُ في الآيةِ لمزيدِ البيانِ والاختصاص، وأن القولَ من المستكبِرِينَ إنما كان للمؤمنينَ المُستضعَفينَ خاصَّةً. ونظيرُ إعادة اللام هاهنا إعادتُها في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، وإذا كانوا يزيدونَ اللام في قولهم: "لا أبا لَكَ" مع شدَّة ارتباطِ المضافِ بالمضاف إليه لقصدِ الاختصاصِ __________ (1) (ق): "عليه". (2) من قوله: "ولا يعاد عامله. . ." إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1648)


والتَّبيين، فالإتيانُ بها في مثل هذه الآية أوْلى وأقوى، ولهذا لم يُعَدْ في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وفي قوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15 - 16]، وفي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، ولا في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] الآية، ولا في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68 - 69]، ولا في قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 - 32] فنظائره أكثر من أن تُذْكَرَ. وأما استدلالُهم بأن المبدَل منه في نيَّة الطرح، والمقصودُ مباشرةُ العاملِ للمبدَل (1)؛ فغيرُ صحيح. فإنَّ الأوَّلَ مقصودٌ أيضًا ولكن ذُكِرَ توطئةً للمبدلِ منه، ولم يُقْصَدْ طرحُهُ، ويدلُّ عليه قولُ الشاعر (2): إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ فجعلَ الخبرَ للسيوفِ، وألغى البَدَلَ وجعلَه كالمطَّرَحِ، إذ لو لم يُلْغِهِ لقال: تركا، وإنما يكون الأوَّلُ في نيَّةِ الطَّرْح في نوعينِ من البَدَل، وهما: بَدَلُ البَدَاءِ والغلطِ، والأكثرُ فيهما أن يقعا بعد "بل"، والله أعلمُ. فائدة البدلُ والمبدَلُ إما أن يَتَّحِدا في المفهوم، أَوْ لا، فإنِ اتَّحدا فهو المسمَّى بَدَلَ الكُّلِّ من الكل، وأحسنُ من هذه التَّسْمِيَةِ أن يُقَالَ: بدلُ __________ (1) (ع): "للبدل". (2) هو: الأخطل، "ديوانه": (ص/36).

(4/1649)


العينِ من العينِ، وبعضُهم يقول: بدلُ الموافقِ من الموافقِ؛ لأن هذا البَدَلَ يجري فيما لا يقبلُ التبعيضَ والكلّ، كقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1] وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] ونحوه. وإن لم يتَّحدا في المفهوم، فإمَّا أن يكونَ الثاني جُزءًا (1) من الأوَّلِ، أَوْ لا، فإن كان جُزْءًا منه فهو بَدَلُ البعضِ من الكلِّ، وإن لم يكنْ جُزْءَهُ فإمَّا أن يَصِحَّ الاستغناءُ بالأوَّلِ عن الثاني أوْ لا، فإن صحَّ (ق/392 ب) فهو بَدَلُ الاشتمال بمُلابِس، إما وصف أو فعل أو ظرف أو مجاور أو مقصود من العين أو يكونُ مظروفًا (2) للأول. فالأول: كقولك: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ حُسْنُهُ". والثاني: كقولك: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ صَلَاتُهُ". والثالث: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ دارُهُ". والرابع: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ ثِيَابُهُ". والخامس: "دُعِيَ زَيْدٌ للطَّعامِ أَكْلِهِ". والسادس: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]. وهل (3) الأوَّل مشتملٌ على الثاني، أو الثاني على الأول، أو العاملُ مشتملُ عليهما؟ ثلاثة أقوال لا طائلَ تحتَها، وكلُّها صحيحةٌ؛ لأنَّ الملابَسَةَ حاصلةٌ بن الأول والثاني، وهي المرادةُ من الاشتمالِ. __________ (1) (ق): "خبرًا" وهكذا، وقعت في نظائر الكلمة!. (2) (ق): "ظرفًا". (3) (ع): "وهذا".

(4/1650)


وأما اشتمالُ العامل عليهما وإن عمَّ سائرَ أقسام البَدَلِ فسمِّي هذا النوعُ به؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من الأنواع اختُصَّ باسمِهِ، فأعْطِيَ الاسمَ العامَّ لهذا النوعِ من البَدَلِ. وإن لم يصحَّ الاستغناءُ بالأول، فإما أن يكونَ المتكلِّمُ قد قصده ثم أرادَ إطِّرَاحَهُ، أو لم يقصدْه، فإن كان قَصَدَهُ فهو بَدَل البَدَاءِ، وإن لم يقصدْه فهو بَدَلُ الغَلَطِ. فمثال الأول: أن تقول: "أعْطِ السَّائِلَ رَغِيفًا" ثم تَرِقّ عليه فتقول: "دينارًا". ومثال الثاني: أن تقول: "أكلتُ لَحْمًا" ثم تذكرُ (1) فتقول: "خُبْزًا". فائدة قد تبدلُ الجملةُ من الجملةِ (2) -كبَدَل الفعلِ من الفعل- والجملَة من المفرد، كقولك: "عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَنْ هو" قال ابنُ جِنِّي: ومنه قول الشاعر: إلى اللهِ أشكو بالمدينةِ حاجةً ... وبالشَّامِ أخرى، كيف يلتقيانِ (3) قال: "فكيف يلتقيانِ" بَدَلٌ من "حاجةٍ"، كأنه قال: إلى اللهِ أشكو هاتينِ الحاجتينِ، تعذر التقاؤُهما. ويبدل المفردُ من المفرد، وأما بدلُ المفردِ من الجملةِ (ظ/269 ب) __________ (1) (ع وق): "يتذكر". (2) (ظ): "الكلمة من الكلمة". (3) نُسِب البيت للفرزدق ولم أجده في ديوانه، وهو من شواهد "المغني": (1/ 207)، و"التوضيح": (3/ 408 - مع شرحه).

(4/1651)


فلا يُتَصَوَّرُ إلّا أن تكونَ الجملةُ في تأويلِ المفردِ (1)، فيصحُّ إبدال المفرَدِ من معناها لا من لفظِها، كقولك: "أَزُورُكَ يَوْمَ يُعَافِيكَ اللهُ يَوْمَ السُّرورِ". فائدة لا يشترطُ في بَدَل النَّكِرة من المعرفة اتحادُ اللفظين، وشَرَطَهُ الكوفيُّون. محتجِّينَ (2) بقوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ}، واحتج البصريُّونَ بقول الشاعر (3): فَلَا وأَبِيكَ خَيْرً منْكَ أَني ... لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ (4) فائدة يشتركُ المصدر واسمُ الفاعل في عملِهما عملَ الفعل، ويفترقانِ في عشرة أحكامٍ: الأول: أن اسمَ الفاعلِ يتحمَّلُ ضميرًا مستترًا، نحو: "هذا ضَارِبٌ زَيْدًا"، والمصدر لا يتحمَّلُهُ. فإذا قلتَ: "يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ" لم يكن في "أَكْل" ضميرٌ، فقيل: لأنه ليس بمشتقٍّ، والضميرُ إنما يحملُهُ المشتقَّاتُ. __________ (1) من قوله: "وأما بدل. . ." إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ق): "محتجون". (3) هو: شمير بن الحارث الضبي، انظر "النوادر": (ص/124) لأبي زيد، و"الخزانة": (5/ 179). (4) هنا انتهت نسخة (ق)، وجاء في آخرها ما نصُّه. "تم بحمد الله وعونه على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن سالم [التحريري المؤذن غفر الله له] ولقارئه ولمالكه ولمن ينظر فيه، ويدعو لهم بالمغفرة ولوالديهم ولجميع المسلمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا. وكان الفراغ من تعليقه: يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وسبعين وثمانمئة".

(4/1652)


الحكم الثاني: أن المصدرَ يعملُ بمعنى المضيِّ والحال والاستقبال، لأنه أصلُ الفعل، واسمُ الفاعل يختصُّ عملُه بما إذا كان في معنى الحالِ أو الاستقبالِ؛ لأنه يتحمَّلُهُ (1) لشبهِهِ بالفعلِ المُضارعِ الذي لا يكونُ إلا لأحدِهما. الثالث: أن المصدرَ يضافُ إلى الفاعلِ والمفعولِ، كما يُسَلَّطُ الفعلُ عليهما، واسمُ الفاعل لا يضافُ إلى الفاعلِ لاستحالَةِ إضافَتِه إلى نفسِه. الرابع: أن اسمَ الفاعل يعملُ فيما قبلَه، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبلَهُ. وسرُّ الفرقِ أن المصدر في تقدير "أن" والفعل، فمعمولُه من صِلَتِه، فلا يتقدَّمُ عليه، بخلاف اسم الفاعل. الخامس: أن إضافَةَ اسمِ الفاعلِ لا يُفيدُ التعريفَ إلَّا إذا كان بمعنى المضيِّ، وإضافةُ المصدر تُفيدُ التعريفَ مطلقًا. السادس: أن الأَلِفَ واللامَ إذا دخلتْ على اسم الفاعل كانت موصولةً، وإذا دخلتْ على المصدر لم تكنْ موصولةً، ومن (2) الفرق عَوْدُ الضمير عليها من اسم الفاعل دونَ المصدَرِ. السابع: أن المصدرَ ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ (3)، لا يفتقرُ إلى شيء قبلَهُ، نحو: "ضَرْبًا زَيْدًا" واسم الفاعل لا ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ حتى يعتمدَ على شيءِ قبلَهُ، نحو: "هذا ضَارِبٌ زَيْدًا" و"جَاءَنِي مُكْرِمٌ عَمْرًا". __________ (1) (ع): "عمله". (2) لعلها: "وسِرُّ". (3) (ظ): "كلامًا تامًّا".

(4/1653)


الثامن: أن جهةَ عملِ المصدرِ كونُهُ أصلًا للفعل، وجهةُ عملِ اسمِ الفاعلِ كونُهُ فَرْعًا على الفعل. التاسع: أن إضافَةَ المصدرِ لا يمنعُ من نصبِهِ بمفعولِه، وإضافة اسمِ الفاعل تمنعُ من نصبِهِ مفعولَهُ، إلاَّ أنْ يَتَعَدَّى فعلُه إلى أكثرَ من واحدٍ، فينتصبُ حينئذٍ ماعدا المفعولَ الأولَ. العاشر: أن الألفَ واللامَ إذا دخلتْ على المصدر أذهبتْ عَمَلَهُ، فـ "لمْ أَنْكُلْ عن الضَّرْبِ مِسْمَعًا" (1) شاذٌّ نادرٌ، وإذا دخلتْ على (2) اسم الفاعل قَوَّتْ عَمَلَهُ، ولهذا لا يعملُ بمعنى المضي، فإن اقترنَتْ به الألفُ واللامُ (3) عَمَلَ، تقول: "هذا الضَّارِبُ زَيْدًا أَمْسِ" وسرُّ (4) الفرق أنَّ الألفَ واللام فيه موصولة، تقوي جانب الفعلية فيه، بخلافها في المصدر. فائدة "إما" لا تكونُ من حروفِ العطفِ لأربعة أوجُهٍ: أحدها: أنك (5) تقول: "ضَرَبْتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا" فتذكرُهُ قبلَ معمولِ الفعلِ، فلو كانت "إما" من حروفِ العطفِ لكنتَ قد عطفتَ __________ (1) قطعة من بيت لمرار الأسدي -وقيل: مالك الباهلي- هو: لقد عَلِمت أولى المغيرةِ أنني ... لحقتُ فلم أَنْكل عن الضرب مِسْمَعا انظر: "الكتاب": (1/ 193)، و"الخزانة": (3/ 439). (2) من قوله: "المصدر أذهبت. . ." إلى هنا ساقط من (ظ). (3) (ظ): "أل" وكذا ما بعدها. (4) (ع): "ومن". (5) (ع): "أن"، وكذا في الثالث.

(4/1654)


معمولَ الفعلِ عليه وهو ممتنعٌ، فلما وقعتْ "إما" بينَ الفعل ومعمولِهِ عُلِم أنها ليستْ بعاطِفَةٍ. الثاني: أنك تقولُ: "جَاءَنِي إمَّا زَيْدٌ وإمَّا عَمْرٌو" (1) فتقعُ "إما" بين الفعلِ والفاعلِ، ومعلومٌ أنَّ الفاعلَ كالجزءِ من الفعل، فلا يصحُّ الفصلُ بينهما بالعاطفِ. الثالث: أنك تقول: "وإما عَمْرو" فتُدْخِل الواو عليه، ولو كانت حرفَ عطفٍ لم يدخلْ عليها حرفُ عطفٍ آخَرُ، كما لا تقول: "ضَرَبْتُ زَيْدًا وأوْ عَمْرًا". الرابع. أن العطفَ لابُدَّ أن يكونَ عطفَ جملةٍ على جملةٍ، أو مفردٍ على مفرَدٍ، وإذا قلت: "ضربتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا" فـ "إما" الأولى لم تعطفْ زيدًا على مفردٍ، ولا يصِحُّ عطفُه على الجملة بوجهٍ، فالصوابُ أن حروفَ العطفِ تسعةٌ لا عَشَرَةٌ. فائدة إذا قلت: "جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو" فله معنيانِ: أحدهما: أنك نفيتَ المجيءَ عن زيدٍ وأثبتَّهُ لعَمرو، وعلى هذا فيكونُ إضرابَ نفي. والثاني: أنك أثبتَّ لعمروٍ المجيءَ كما أثبتَّهُ لزيدٍ، وأتيتَ بـ "بل" لنفيِ الاقتصارِ على الأوَّلِ لا لنفيِ الإسنادِ إليه، بل لنفيِ الاقتصارِ على الإسنادِ (ظ/ 270 أ) إليه، ويُسَمَّى: إضرابَ اقتصارِ، وهذا أكثرُ استعمالها في القرآنِ وغيرِه، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ __________ (1) (ظ): "جاءني زيد إما عَمرو".

(4/1655)


افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] وكقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 66]، ونظائره، ويسمَّى هذا: إضرابًا وخُروجًا من قصَّةٍ إلى قصَّةٍ. وإذا قلتَ: "ما جاءَني زَيْدٌ بل عَمْرٌو" فله معنيانِ: أحدهما: أنك نفيتَ المجيءَ عن زيدٍ وأثبتَّهُ لعَمرو، وهذا قولُ الأكثرينَ. الثاني: أنكَ نفيتَ المجيءَ عنهما معًا فنسبتَ إلى الثاني حكمَ الأوَّلِ، وأنت حكمتَ على الأوَّل (1) بالنفيِ، ثم نسبتَ هذا الحكمَ إلى الثاني. والتحقيقُ في أمرِ هذا الحرفِ: أنه يُذْكَرُ لتقرير ما بعدَهُ نفيًا كان أو إثباتًا، فالنظرُ فيه في أمرينِ: فيما قبلَهُ، وفيما بعدَهُ، ولما لم يفصِلْ كثيرٌ من النُّحَاةِ بين هذينِ النظرينِ، وَقَعَ في كلامِهم تخليطٌ كتيرٌ في معناه، فنقول: أما حكمُ ما بعدَهُ فالتَّقريرُ والتَّحقيقُ، وهو شبيهٌ بمصحوبِ "قد"، وتجريدُ العنايةِ بالكلامِ إلى ما بعدَهُ أهمُّ عندهم من الاعتناءِ بما قَبْلَهُ، فقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] المقصودُ (2) تقريرُ هذه الجملةِ الإضرابُ عن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]، وكذلك قوله {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] المقصود تقريرُ هذا النفيِ (3) وتحقيقُه لا الإضرابُ عن __________ (1) (ظ): "عليه". (2) (ظ) زيادة: "منه". (3) (ظ): "المعنى".

(4/1656)


قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19 - 20]. وكذلك إذا وقعتْ بين جملتينِ متضادَّتَيْنِ أفادت تقريرَ كلِّ واحدة منهما، كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فالمقصود تقريرُ الطلبِ والخَبَرِ، وكذلك قولُكَ: "لا تَضْرِبْ زَيْدًا بل اضْرِبْ عمْرًا" وكذلك: "ما قامَ زَيْدٌ بل قامَ عَمْرٌو" فهي في ذلك كلِّه لتقريرِ الجملتينِ، وكذلك قولُه تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 - 41] المعنى: أنكم إذا نزل بكم هذا الأمرُ العظيمُ لا تدعونَ غيرَ اللهِ، بل تدعونَهُ وحدَهُ، فهو تقريرٌ لتركِ دعائِهم آلهتَهم، ولدعائِهم الإلهَ الحقَّ وحدَه، فيدخلُ في مثلِ ذلك على مقرَّرٍ بعدَ مقَرَّرٍ، والأوَّل تارةً يكونُ تقريرُه تَوْطِئةً للثاني، كقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44] وتارةً لا يكون توطئة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] وتارةً يدخلُ على كلام مقرَّر بعد كلام مردودٍ، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26] وفي مثل هذا يظهرُ معنى الإضرابِ، وليس المرادُ به الإضراب عن الذِّكر، بل الإضرابُ عن المذكور ونفيُه وإبطالُه. وتارةً يأتي لتقريرِ كلامٍ بعد كلامٍ قد رَجَعَ عنه المتكلِّم، إما لغَلَطٍ أو لظهورِ رأيٍ أو لعُروضِ نسيانٍ، وذلك كلُّه إمَّا في الإخبارِ وإما في المُخْبَرِ به: فمثال الأولِ (1): أن تقولَ: "أنتَ عَبْدي بل سَيِّدي". __________ (1) "فمثال الأول" ليست في (ظ).

(4/1657)


ومثال الثاني: "لاحَ بَرْقٌ بل ضَوْءُ نارٍ". ومثال الثالث: "خذْ هذا بلْ هذا". ومثال الرابع: "شَرِبْتُ عَسَلًا بل لَبَنًا". وتأتي مع التَّكرار لقصد ما بعدها بالأولوية والذِّكْر دونَ نفي ما قبلَها، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] فهم لم يقصدوا إبطالَ ما قبلَ كلِّ واحدةٍ، بل قصدوا أولويَّةَ المتأخِّرِ بالقصدِ إليه والاعتمادِ عليه مع ثُبوتِ ما قبلَهُ، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 65 - 66]، فليس القصدُ نفيَ إدراكِ علمهم في الآخِرَةِ، ولا نفيَ شكِّهم فيها، فتأمَّلْهُ. ومن مواردِها مجيئُها بعد قَسَمٍ لم يُذكَرْ جوابُهُ فيتضمَّن تحقيق ما بعدَها وتقريرَهُ، ويتضمَّنُ ذلك مع القَسَمِ تحقيقَ ما قصد بالقَسَمِ وتقريره (1). فائدة احتمالُ اللَّفظ للمعنى شيءٌ، ودلالته عليه شيءٌ، فالمطلَقُ بالنسبةِ إلى المُقَيَّداتِ محتملٌ غيرُ دالٍّ، والعامُّ بالنسبةِ إلى الأفراد دَالٌّ. __________ (1) هنا تنتهى نسخة (ع) وفي خاتمتها ما نصه: "آخر الجزء الثاني، والله المستعان وعليه التكلان، ونسأله الغفران من الزلل والعصيان إنه رحيم رحمان كريم منان وهو حسبي ونعم الوكيل. نجز في الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن موسى بن يحيى الحمصي مولدًا الحنبلي مذهبًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين".

(4/1658)


فائدة حملُ اللَّفظِ على المعنى يُرادُ به صلاحِيَّتُهُ له تارةً، ووضعُه له تارةً، فإن أُرِيدَ بالحَمْلِ الإخبارُ (ظ/270 ب) بالوضعِ طُوْلِبَ مُدَّعِيه بالنَّقْلِ، وأن أُريدَ صلاحِيَّتُه لم يكْفِ ذلك في حملِه عليه؛ لأنه لا يلزمُ من الصلاحِيَّةِ له أن يكونَ مُرادًا به ذلك المعنى، هذا إن أُريدَ بالحمل الإخبارُ عن مُرَادِ المتكلِّم، وإن أُريدَ به إنشاءُ معنى يدَّعِيه صاحبُ الحَمْل، ثم يحملُ عليه الكلامَ، فإنَّ ذلك يكون وضعًا جديدًا. فليتأملْ هذا من قولِهم: "يُحْمَلُ اللفظُ على كذا وكذا"، فكثيرٌ من النُّظَّار أطلقَ ذلك، ولا يحصلُ معناها. فائدة تجرُّدُ اللفظِ عن جميع القرائنِ الدَّالَّةِ على مُرادِ المُتكلِّمِ ممتنعٌ في الخارج، وإنما يقدِّرهُ الذهنُ ويفرضُه، وإلاَّ فلا يمكنُ استعمالُه إلا مقيَّدًا بالمسند والمسند إليه ومتعلقاتِهما وأخواتِهما الدالَّة على مُرادِ المُتكلِّمِ، فإن كان كلُّ مقيَّدٍ مجازًا استحال أن يكونَ في الخارج لفظُ حقيقةٍ، وإن كان بعضُ المقيَّداتِ مجازًا وبعضها حقيقةً، فلا بُدَّ من ضابطٍ للقيودِ التي تجعلُ اللفظ مجازًا، والقيودُ التي لا تخرِجُهُ على حقيقتِه، ولن يجدَ مُدَّعُو المجازِ إلى ضابطٍ مستقيمٍ سبيلًا ألبَتَّةَ، فمَن كان لديه شيءٌ فَلْيذَكرْهُ. فائدة منعُ الدلالة شيءٌ ومنعُ المدلولِ عليه شيءٌ، فالثاني مستلزمٌ للأوَّلِ من غير عكس، فمن مَنَعَ الدلالةَ مع تسليمٍ للمدلول عليه، فانتقل عنه منازِعُهُ إلى دليلٍ آخَرَ كان انقطاعًا، وإن منع المدلولَ فانتقل عنه

(4/1659)


المنازع إلى دليل آخَرَ لم يكنِ انقطاعًا، كما إذا طعن الخصمُ في شهود المُدَّعي فأقام بيِّنَةً أخرى غَيْر مطعونٍ فيها، فله ذلك. فينيغي التَّفَطُّنُ في المناظرةِ لذلك. فائدة من ادَّعَى صَرْفَ لفظٍ عن ظاهرِه إلى مجازِه لم يتمَّ له ذلك إلاّ بعد أربعِ مقاماتٍ: أحدها: بيانُ امتناع إرادةِ الحقيقةِ. الثاني: بيان صلاحيَّةِ اللفظِ لذلك المعنى الذي عيَّنَهُ. وإلاَّ كان مفترِيًا على اللغةِ. الثالث: بيانُ تعيين ذلك المُجْمَلِ إن كان له عدَّةُ مجازاتٍ. الرابع: الجوابُ (1) عن الدليل الموجِبِ لإرادة الحقيقة، فما لم يَقُمْ بهذه الأمورِ الأربعةِ كانت دعواه -صَرْفَ اللفظِ عن ظاهرِهِ- دعوى باطلةً. وإن ادَّعى مجرَّدَ صرف اللفظ عن ظاهرِه ولم يُعَيِّنْ له مجملًا؛ لزمه أمران: أحدُهما: بيانُ الدليلِ الدَّالِّ على امتناعِ إرادةِ الظاهرِ، والثاني: جوابُهُ عن المعارِضِ. فائدة مدَّعىِ صرفِ اللفظِ عن ظاهرِه وحقيقتِه إلى مجازِه تتضمَّنُ دعواه الإخبارَ عن مراد المتكلِّمِ ومرادِ الواضعِ. __________ (1) (ظ) "الجواز"! والصواب ما أثبت، ويؤيده ما يأتي بعده.

(4/1660)


أما المتكلِّمُ: فكونُه أراد ذلك المعنى الذي عيَّنَه الصارفُ، وأما الواضعُ فكونُه وضعَ اللفظَ المذكورَ دالًّا على هذا المعنى، فإن لم تكنْ دعواهُ مطابِقَةً كان كاذِبًا على المتكلِّمِ والواضِعِ. بخلافِ مُدَّعي الحقيقة، فإنه إذا تضمَّنَتْ دعواهُ إرادةَ المتكلِّمِ للحقيقة وإرادة الواضِع كان صادقًا، أما صدقُهُ على الواضِع فظاهر، وأما صدقُهُ على المتكلِّمِ (1) معرفةُ مُرَادِ المتكلِّمِ إِنما يحصلُ بإعادَتِهِ من كلامِه، وأنه إنما يخاطِبُ غيرَه للتفهيمِ والبيانِ، فمتى عُرِفَ ذلك من عَادتِهِ وخاطبنا لما هو المفهومُ من ذلك الخطابِ عَلِمْنا أنه مُرَادُهُ منه، وهذا بحمدِ الله بَيِّنٌ لا خَفَاءَ فيه. فائدة دلالةُ اللفظِ على مُدَّعَى المستدلِّ شيءٌ، ودلالَتُهُ على بطلانِ قول منازِعِهِ شيءٌ آخَرُ، وهما متلازمانِ، إن كان القولانِ متقابِلَيْنِ (2) تقابُلَ التَّنَاقُضِ، فللمستدلِّ حينئذٍ تصحيحُ قولِهِ بأيِّ الطريقينِ شاء، وإن تقابلا تقابُلَ التَّضادِّ لم يلزمْ من إقامتِهِ الدليلَ على بُطلانِ مذهبِ منازعِهِ صِحَّةُ مذهبِه هو بجواز بطلانِ المذهبينِ، وكون الحقِّ في ثالثٍ، وإن أقام دلَيلًا على صحةِ قولِهِ لزمَ منه بطلانُ قول منازعِهِ لاستحالةِ جمعِ الضِّدَّيْنِ. فائدة الاستدلالُ شيءٌ والدلالةُ شيءٌ آخَرُ (3)، فلا يلزمُ من الغَلَطِ في __________ (1) بعده في الأصل بياض بمقدار كلمة. (2) (ظ): "متقابلان" والمثبت الصواب. (3) "والدلالة شيء آخر" سقطت من (ظ)، والإكمال من "المنيرية".

(4/1661)


أحدِهما الغلطُ في الآخَرِ، فقد يغلطُ في الاستدلال والدلالةُ صحيحةٌ، كما يستدلُّ بنصٍّ منسوخٍ أو مخصوصٍ على حكمٍ، فهو دالٌّ (ظ/ 271 أ) عليه تناولًا، والغَلَطُ في الاستدلال لا في الدلالةِ. وعكْسُه: كما إذا استدللنا بالحَيْضة الظاهرة على براءة الرَّحِم، فحكمنا بحِلِّها للزوجِ، ثم بانَتْ حاملًا، فالغَلَطُ هنا وقعَ في الدلالةِ نفسِها لا في الاستدلالِ، فَتَأَمَّلْ هذه الفروقَ. فائدة تسليمُ موجبِ الدليل لا يستلزمُ تسليمَ المُدَّعى إلَّا بشرطين: أحدهما: أن يكونَ موجِبَهُ هو المدَّعى بعينِهِ أو ملزومُ المُدَّعى. الثاني: أن لا يقوم دليلٌ راجحٌ أو مساوٍ على نقيص المدَّعى، ومع وجود هذا المعارِض، لا يكون تسليمُ موجب الدليلِ الذي قد عُوْرضَ تسليمًا للمُدَّعى؛ إذْ غايتُه أن يعترفَ له منازعُهُ بدلالة دليلِهِ على المدَّعى، وليس في ذلك تعرَّضٌ للجوابِ عن المعارضِ، ولا يتمُّ مُدَّعاه إلَّا بأمرينِ جميعًا. فائدة ما يذكرُهُ المجتهدُ العالمُ باللغة من موضوعِ اللفظ لغةً شيء، وما يعيَّنُ له محملًا خاصًّا في بعضِ مواردِهِ من جملةِ محامِلِهِ شيءٌ. فالأوَّلُ: حكمُ قوله في حكمُ قولِ أئمةِ اللَّغة فَيُقْبَل بشرطِه. والثاني: حكم قوله في حكم ما يُفنى به، فيُطْلَبُ له الدليلُ، مثالُه قوله: الباء في: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] للتبعيض، فهذا حَمْل منه للباء على التبعيض في هذا المَوْرِد، وليس هو كقوله:

(4/1662)


ابنُ السَّبِيلِ هو المسافرُ الذي انقطعَ عن أهلِهِ ووطنِهِ، ونظائرُ ذلك، فهذا نَقْلُ محضِ اللغةِ، والأولُ استنباطٌ وحملٌ، ومَن لم يفرِّقْ بين الأمرين غَلِطَ في نَظَرِهِ، وغالطَ في مناظَرَتِهِ، والله أعلم (1). فرغت الفوائد بحمد الله. * * * __________ (1) كتب في ختام نسخة (ظ): "والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لمن دعا بالمغفرة آمين". ثم ذكر في آخرها بالخط نفسه (المنتخب الآتي)، وفيه ما يثبت أنه للمؤلف، بخلاف المنتخب الذي بعده، وانظر المقدمة.

(4/1663)


(ظ/271 ب) مُنْتخب أيضًا فائدة قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وليس له مثل. والجواب من أوجه: الأول: أن المرادَ به التبكيتُ، والمعنى: حَصِّلوا دينًا آخَرَ مثلَهُ، وهو لا يمكنُ. الثاني: أن المِثْلَ صِلَةٌ. الثالث: أنكم آمنتم بالفُرْقان من غير تصحيفٍ ولا تحريفٍ، فإن آمنوا بالتَّوْراةِ من غيرِ تصحيفٍ ولا تحريفٍ فقد اهْتَدَوْا. والرابع: أن المرادَ: إن آمنوا بمثلِ ما صِرْتُم به مؤمنينَ، روى ابنُ جَريرٍ (1) أن ابن عباس قال: قولوا: فإن آمنوا بالذي آمنتُم به. قال عبد الجبار: ولا يجوزُ تركُ القراءَةِ المتَواتِرَةِ. فائدة قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] أنَّثَ عَدَدَ الأمثالِ لتأويلِها بحسناتٍ، ومثلُهُ قراءة أبي العاليةِ: {لا تَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها}، بالتاء، والفعل مسندٌ إلى الإيمان، لكنَّه طاعةٌ وإثابةٌ في المعنى. فائدة الجهلُ قسمان: __________ (1) في "تفسيره": (1/ 620) وذكر هناك أنها مخالفة لمصاحف المسلمين، وأجمع القراء على تركها، وإن صحّت عنه فهي كالتوجيه للقراءة.

(4/1664)


بسيطٌ، وهو عبارةٌ عن عَدَم المعرفةِ مع عَدَمِ تلبُّسٍ بضِدٍّ. ومُرَكَّبٌ، وهو جهلُ أربابِ الاعتقاداتِ الباطلةِ، والقسمُ الأول هو الذي يطلبُ صاحبُه العلمَ، أما صاحبُ الجهلِ المُرَكَّبِ فلا يطلبُهُ. فائدة الأجداثُ: القبورُ، وفيها لغتانِ: بالثاء والفاء، أهلُ العالية تقولُه: بالثاء، وأهلُ السَّافلة بالفاء. فائدة في النوم فائدتان: إحداهما: إنعكاسُ الحرارةِ إلى الباطنِ، فينهضمُ الطعامُ. الثانية: استراحةُ الأعضاءِ التي قد كلَّتْ بالأعمالِ. فائدة (1) في "صحيح البخاري" ما انفرد به من رواية عمرانَ بن حُصَيْن أنه سأل النبيَّ -صَلى الله علَيه وسلم- عن صلاة الرجل قاعدًا قال: "إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ" (2). قلت: اختلف العلماءُ؛ هل قولُه: من صلَّى قاعدًا" في الفرض أو في النفل؟ فقالت طائفة: هذا في الفَرْضِ، وهو قولُ كثير عن المُحَدِّثِينَ، واختيارُ شيخِنا، فورد على هذا أن مَنْ صلَّى الفرضَ قاعدًا مع قدرتِه على القيام فصلاتُهُ باطلةٌ، وإن كان مع عَجْزِهِ فأجرُ القاعدِ مساوٍ لأجر القائم؛ لقوله -صَلى الله علَيه وسلم-: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا __________ (1) انظر المسألة في "مجموع الفتاوى": (7/ 36، 23/ 234 - 238). (2) أخرجه البخاري رقم (1115) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.

(4/1665)


كانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا" (1)، فقال لي شيخُنا: وضع صلاة القاعد على النصف مطلقًا، وإنما كَمَلَ الأجرُ بالنِّيَّةِ للعجز. قلت: ويَرِد على كون هذا في الفرض قوله: "إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ" وهذا لا يكونُ في الفرض مع القدْرَةِ؛ لأنَّ صلاتَهُ قائمًا لا مساواةَ بينَها وبين صلاتِهِ قاعدًا، لأنّ صلاتَهُ قاعدًا والحالة هذه باطلةٌ، فهذه قرينةٌ تدلُّ على أن ذلك في النَّفْلِ كما قاله طائفةٌ أخرى، لكن يَرِد عليه أيضًا قوله: "وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا"، فإنه يدلُّ على جوازِ التَّطَوُّعِ للمضطجِعِ، وهو خلافُ قولِ الأئمة الأربعة مع كونِه وجهًا في مذهبِ أحمد والشافعي. وقال الخطَّابي (2): تأوَّلْتُ الحديثَ في ["شرح أبي داود"] على النافلةِ إلا أن قوله: "وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا" يُبْطِلُ هذا التأويلَ لعدم جواز التَّطَوُّع نائمًا. وقال في ["شرح البخاري"] (3): أنا الآن أَتَأَوَّلُهُ على الفرض، وأحملُة على مَن كان القيامُ مُشِقًّا عليه، فإذا صَلَّى قاعدًا مع إمكانِ القيام ومَشَقَّتِهِ فله نصفُ أجرِ القائم. وقال ابن عبد البَرِّ (4): أجمعوا على أنه لا يجوزُ التَّنَفُّلُ مضطجِعًا. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2996) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. (2) كلام الخطابي في شرح البخاري "أعلام الحديث": (1/ 630)، ووقع في الأصل: "تأولت الحديث في شرح البخاري. . ." وهو سَبْق قلم. (3) "أعلام الحديث": (1/ 631)، ووقع في الأصل: "شرح أبي داود" وهو وهم أيضًا. وانظر "معالم السنن": (1/ 584). (4) بنحوه في "التمهيد": (1/ 134) لكنه ذكر الإجماع على الكراهة.

(4/1666)


قلت: في التِّرمذي (1) جوازُه عن الحسن البصري، وروى التِّرمذيُّ بإسناده عن الحسن، قال: "إن شاءَ صلَّى صلاةَ التَّطوُّعِ قائمًا وجالسًا ومضطجعًا"، والله أعلم. فائدة قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26]، ولم يقل: فيها؛ لأن عند الفناءِ ليس الحالُ حالَ القرار والتَّمكينِ. فائدة إنْ قيلَ: لِمَ كان عاشوراءُ يكفِّر سَنَةً، ويوم عرفَةَ يكفِّرُ سنتينِ (2)؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: أنَّ يومَ عَرَفَةَ في شهرٍ حرامٍ وقبلَهُ شهرٌ حرام وبعدَه شهرٌ حرامٌ، بخلافِ عاشوراءَ. الثاني: أن صومَ يومِ عَرَفَةَ من خصائصِ شرعِنا، بخلافِ عاشوراءَ، فضُوعِفَ ببركات المصطفى، والله أعلم. * * * __________ (1) (2/ 209). (2) أخرجه مسلم رقم (1162) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.

(4/1667)


* فهرس الكتب [الاسم ... الصفحة] - "الأجوبة المصرية" لابن تيمية ... 572 - "أحكام أهل الملل" لأبي حفص البرمكي ... 1004 - "الأدب المفرد" للبخاري ... 677، 1419 - "إصلاح الغلط" لابن قتيبة ... 261 - "الأصول" لابن السرَّاج ... 79 - "أصول التفسير" للمؤلف ... 877 - أعلام الحديث = شرح البخاري - "الأمالي المكية" للمؤلف ... 415 - "التحفة المكيَّة في بيان الملة الإبراهيمية" للمؤلف ... 487، 528، 529، 720، 845، 846، 1552، 1597 - "ترغيب القاصد" للفخر ابن تيمية ... 1371 - "التسهيل" لابن مالك ... 1635، 1637، 1638، 1640 - "تعاليق" للقاضي أبي يعلى ... 1011 - "تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام" للمؤلف ... 685، 688 - "تعليق على الأسماء الحسنى" للمؤلف = شرح الأسماء - "التفسير" لابن أبي حاتم ... 296 - "التنبيه" للشيرازي ... 1331، 1332 - "تهذيب السنن" للمؤلف ... 668 - "الثقات" لابن حبان ... 1153 - "الجامع" للخلال ... 1405 - "الجامع بين السنن والآثار" للمؤلف ... 1410

(5/127)


- جامع الترمذي = سنن الترمذي - "الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار" للحاكم ... 1150 - "جزء فيه تفسير آيات في القرآن عن الإمام أحمد" ... 1015 - "الجواهر" لابن شاس ... 104، 1239 - "حكم الوالدين في مال ولدهما" لأبي حفص البرمكي ... 994 - "الحكومة بين البصريين والكوفيين" للمؤلف ... 878 - "رسالة إلى بعض الأصحاب" للمؤلف ... 1591 - "الروض الأُنف" للسُّهيلي ... 666 - "زاد المسافر" لغلام الخلال ... 1482 - "السر المكتوم" للرازي ... 758 - "سنن الترمذي" ... 699، 700، 755، 812، 813، 816، 952، 1066، 1259، 1667 - "سنن أبي داود" ... 597، 699، 727، 853 - "السنن الكبير" للنسائي ... 1479 - "سنن النسائي" ... 553، 667، 699، 1486 - "سنن ابن ماجه" ... 611، 612، 1259 - "السيرة النبوية" لابن إسحاق ... 1329 - "شرح الأسماء الحسنى" للمؤلف ... 300، 605 - "شرح البخاري" للخطابي ... 1666 - "شرح أبي حفص لمبسوط الخلال" ... 1490 - "شرح أبي داود" للخطابي ... 1666 - "شرح الطحاوي" للإسبيجابي ... 1059 - "شرح كتاب سيبويه" للسيرافي ... 896 - "شرح مسائل الكوسج" لأبي حفص العكبري ... 1448، 1468 - "شرح المفصل" للأندلسي ... 91، 104

(5/128)


- "الصحاح" للجوهري ... 524، 1643 - "صحيح البخاري" ... 706، 797، 808، 811، 1057، 1060، 1161، 1265، 1486، 1665 - "صحيح ابن خزيمة" ... 1486 - "صحيح مسلم" ... 682، 699، 951 - "الصحيحان" ... 700، 794، 813، 951، 1046، 1155، 1575 - "العلل" لابن أبي حاتم ... 1155 - "فتاوى ابن عقيل" ... 1035 - "الفتح القدسي" للمؤلف ... 720، 767 - "الفتح المكي" للمؤلف ... 628، 664، 682 - "فصل مفرد في تقديرات النحاة المتكلفة" للمؤلف ... 947 - "فصل مفرد في الحروف ونيابة بعضها عن بعض" للمؤلف ... 945 - "الفصول" لابن عقيل ... 1473، 1474، 1479، 1480 - "فضيلة النبي -صَلى الله علَيه وسلم-" للمروذي ... 1379 - "الفنون" لابن عقيل ... 1384، 1385 - "الفوائد المكية" للمؤلف ... 725 - "كتاب الخلال" (1) ... 985 - "كتاب سيبويه" ... 307، 325، 515، 559، 622 - "كتاب الصيام" لأبي حفص البرمكي ... 993 - "كتاب العين" للخليل ... 564 - "كتاب في محاسن الشريعة" للمؤلف ... 670 - "كتاب مفرد في الكلام على آية الكرسي وأسرارها وكنوزها" للمؤلف ... 812 - "الكشاف" للزمخشري ... 431، 744، 905 __________ (1) لعله (الجامع).

(5/129)


- "المبهج" لأبي الفرج المقدسي ... 1112 - "المحرر" للمجد ابن تيمية ... 1416 - "المحكم" لابن سيده ... 888 - "مختصر الخِرقي" ... 1261، 1271، 1272 - "المدونه" لمالك ... 973 - "مراتب الإجماع" لابن حزم ... 12 - "مسائل أحمد بن أصرم لأحمد" ... 1418 - "مسائل أحمد بن محمد البراثى لأحمد" ... 1446 - "مسائل أحمد بن محمد بن صدقة لأحمد" ... 1439 - "مسائل إسحاق الكوسج لأحمد" ... 1288 - "مسائل البرزاطي لأحمد" ... 1394 - "مسائل بكر بن أحمد البراثي لأحمد" ... 1405 - "مسائل أبي جعفر الجرجرائي لأحمد" ... 1388 - "مسائل أبي جعفر الوراق لأحمد" ... 1401 - "مسائل حرب الكرماني لأحمد" ... 1475 - "مسائل الحسن بن ثواب لأحمد" ... 1437 - "مسائل أبي داود لأحمد" ... 1475 - "مسائل زياد الطوسي لأحمد" ... 1404 - "مسائل أبي طالب لأحمد" ... 998 - "مسائل أبي العباس البِرْتي لأحمد" ... 1404 - "مسائل عبد الملك الميمونى لأحمد" ... 1406، 1474 - "مسائل الفضل بن زياد القطان لأحمد" ... 1406، 1411، 1421 - "مسائل أبي القاسم البغوي لأحمد" ... 1391 - "مسائل مثنى بن جامع الأنباري لأحمد" ... 1392 - "مسائل محمد بن الحسن بن بدينا عن أحمد" ... 1436

(5/130)


- "مسائل المرُّوذي" ... 1454 -[مسائل ابن هانئ لأحمد] ... 1430 - "مسند أحمد" 611، 644، 817، 952، 1046، 1078، 1132، 1266 - معالم السنن = شرح أبي داود - "معاني القرآن" للزجاج ... 469 - "المغني" لابن قدامة ... 1261، 1444، 1472، 1482، 1485 - "مقالات الأشعري" ... 1013 - "المقنع" لابن قدامة ... 1474، 1483 - "منتخب الفنون" لابن الجوزي ... 1385 - "منتقى من شرح العكبري لمبسوط الخلال" للقاضي أبي يعلى ... 1490، 1516 - "منتقى من شرح مسائل الكوسج"، له أيضًا ... 1448، 1468 - "منتقى من كتاب حكم الوالدين في مال ولدها" له ... 994 - "منتقى من كتاب الصيام" له ... 993 - "المهذب" للشيرازي ... 104، 1239، 1331 - "الموطأ" لمالك ... 758، 1155، 1476 - "الناسخ والمنسوخ" لأبي داود ... 1604 - "نتائج الفكر" للسهيلي ... 913 - "نهاية المطلب" للجويني ... 1239

(5/131)