×
الفوائد : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - جمع فيه ألوانًا من الفوائد واللطائف، والعبر والمواعظ، والنكت والدقائق، والملاحظات والأفكار في فنون مختلفة.

 الفوائد

تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق محمد عزير شمس إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


رَاجَعَ هَذا الجزْء جَديع بن محمَّد الجديع مُحَمَّدْ أجْمَل الإصْلَاحِي علي بن محمَّد العمران

(المقدمة/3)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب من أروع ما وصل إلينا من مؤلفات الإمام ابن القيم رحمه الله، جمع فيه ألوانًا من الفوائد واللطائف والعبر والمواعظ والنكت والدقائق والملاحظات والأفكار في فنون مختلفة، ولم يُرتِّبه على الموضوعات والأبواب، ويبدو أنه خصَّص كُنّاشًا أو دفترًا لتسجيل هذه الخواطر والفوائد المتفرقة، وأدرج فيه ما استحسن منها في فترات مختلفة من حياته. وطريقته فيه أنه يبدأ كل فائدة وبحث بكلمة: فصل أو قاعدة أو فائدة أو تنبيه، ويورد تحتها من بنات فكره أو من الكلمات المأثورة عن السلف أو من الأبيات والحكم المنثورة ما يعتبرها خير معين لمن يريد طريق النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة. ويحتوي الكتاب على موضوعات عديدة في التوحيد والعقيدة، فيذكر أن معرفة الله تحصل بالنظر في مفعولاته والتفكر في آياته وتدبرها (ص 28)، وأتمّ الناس معرفةً به من عرفه بكماله وجلاله وجماله (ص 264)، ومعرفة الله نوعان: معرفة إقرار يشترك فيها المطيع والعاصي، ومعرفة توجب الحياء منه والمحبة له والإنابة إليه، وهي المعرفة الخاصة (ص 248). وبيَّن المؤلف تفاوت الناس في التوحيد (ص 282) وفوائد التوحيد في الدنيا والآخرة (ص 72) وأن راحة القلب والبدن في طاعة الله (ص 293)، وذكر

(المقدمة/5)


معنى العبودية (ص 31) ومراتبها (ص 163) وثمرة الإيمان بالصفات الإلهية (ص 98) والتوسل بأسماء الله الحسنى (ص 36)، وحقيقة التوكل وأنواعه (ص 124، 165)، وتعرض لموضوع القضاء والقدر (ص 33) والرزق والأجل (ص 79) وأن النعم كلها من الله والذنوب من الشيطان (ص 296) وأن شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تُنال بطاعته (ص 226). إلى غير ذلك من الموضوعات التي تتعلق بالتوحيد. وهناك أبحاث جليلة في التفسير وعلوم القرآن، منها بيان شروط الانتفاع بالقرآن (ص 3) وأنواع هجر القرآن (ص 118) وتأملات في سورة الفاتحة (ص 26) وسورة ق (ص 5) وسورة التكاثر (ص 43) وتفسير آيات عديدة (ص 23، 33، 114، 115، 127، 130، 146، 199، 237، 246، 259، 273، وغيرها). وهو يشرح أحيانًا بعض الأحاديث، مثل حديث ابن مسعود في الهم والحزن (ص 30)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإسلام علانية والإيمان في القلب" (ص 207) وقول الله تعالى لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" (ص 20)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (ص 81)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان" (ص 81). وتكلم على مسألة أصولية كلامًا طويلًا، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وقرر ذلك من وجوه كثيرة (ص 171). وفي الكتاب فصول مهمة عن فضائل العلم (ص 151) وأنواعه وآفاته (ص 122) ومراتب العلوم (ص 84)، وصفات علماء السوء (ص 85) وتحذير العالم من الدنيا والركون إليها (ص 145).

(المقدمة/6)


أما الحديث عن أعمال القلوب وأسباب الذنوب والمعاصي وآثارها والأخلاق المحمودة والمذمومة والنصائح والمواعظ والعبر واللطائف والإشارات والرقائق والزهد فهي تحتلُّ مكانًا بارزًا في الكتاب. وبالجملة فالكتاب مليء بالفوائد، وسُمِّي حقًّا بكتاب "الفوائد". وهو يختلف في موضوعاته وأبحاثه عن "بدائع الفوائد"، فكتاب "الفوائد" كما رأينا: أكثره تأملات وخواطر، وعبر ومواعظ، ولطائف ورقائق، ويقل فيه النقل عن المصادر الأخرى، بينما كتاب "البدائع" يحتوي على مسائل علمية من فنون مختلفة مع تحقيق وإطالة نفس، ويكثر فيه النقل عن العلماء ومصنفاتهم مع التعليق عليها. ويوجد موضع واحد وقع فيه الاتفاق بين الكتابين في النقل عن "المدهش" لابن الجوزي بدون عزو (1). • تحقيق عنوان الكتاب ونسبته إلى المؤلف: طبع هذا الكتاب لأول مرة في المطبعة المنيرية بالقاهرة سنة 1344 بعناية الشيخ محمد منير الدمشقي، وسماه الناشر كتاب "الفوائد". ولم يذكره المترجمون لابن القيم في القديم، ولم يشيروا إلى تأليف له بهذا العنوان في مصادر ترجمته، وإنما اشتهر الكتاب بعد طباعته، ثم ذكره مَن ترجم له من المحدثين. ويوجد الأصل الوحيد للكتاب ضمن "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري" لابن عروة الحنبلي (المتوفى سنة __________ (1) تكلم أخونا البحاثة المحقق علي العمران عن العلاقة بين الكتابين في مقدمة تحقيقه لـ "بدائع الفوائد" (1/ 24 - 25)، فأغنانا عن الإعادة.

(المقدمة/7)


837) المخطوط في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [567] (المجلد 39، الورقة 145 أ - 200 ب)، وقد عنون له ابن عروة بقوله: "فوائد شتى ونكت حسان من تفسير آية أو حديث أو أثر سلفي، تتعلق بعلم التوحيد القولي العلمي والعملي الإرادي". ثم قال: "وهي من كلام الشيخ الإمام العالم العلامة مفتي المسلمين بحر العلوم أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرعي الشهير بابن قيم الجوزية". ثم قال: "وهي غير بدائع الفوائد له، وهي إما فائدة تعود إلى معرفة أو سلوك، أو تحذير من قاطع، أو تنبيه على مقصود". ومعنى ذلك أن هذا الكتاب لم يكن له عنوانٌ محدَّد، وإلا ذكره ابن عروة، ولم يقل: "فوائد شتى ونكت حسان ... ". وقد نقل عنه السيوطي في موضعين من "قوت المغتذي على جامع الترمذي" (2/ 610، 817)، وسماه في الموضع الأول: "نكت شتى وفوائد حسان"، وفي الموضع الثاني: "فوائد شتى ونكت حسان"، فكأنه اعتمد على نسخة ابن عروة. ولما نشره محمد منير الدمشقي اختصر عنوان ابن عروة وسمَّى الكتاب "الفوائد"، ولا غبار عليه فإنه مطابق لمحتوياته، ولذا أبقيناه نظرًا لشهرته لدى القراء والباحثين. ثم إن ذكره الصريح للإمام ابن القيم يقطع الشك في صحة نسبته إليه، وابنُ عروة من أعرف الناس بآثار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد احتفظ لنا بنصوصٍ كثيرة منها وفرَّقها في مواضع مختلفة من موسوعته "الكواكب الدراري" لأدنى مناسبة، وبعض هذه الآثار لم تصل إلينا إلّا من

(المقدمة/8)


طريقه. وهو على دراية تامة بمحتويات الكتاب، والفرق بينه وبين بدائع الفوائد، كما يظهر ذلك من وصفه للكتاب. ولهذا فنحن مطمئنون إلى صحة نسبته لابن القيم. وإذا نظرنا في الكتاب وجدنا فيه أمورًا أخرى تؤكِّد صحة نسبته إليه (1) ، فالمؤلف يذكر في أثنائه ثلاثةً من مؤلفاته: "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" (ص 4)، و"المعالم" (ص 10) والمقصود به "أعلام الموقعين عن رب العالمين"، و"كتابنا الكبير في القضاء والقدر" (ص 36) ويقصد به "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل". ثم إنه يذكر شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة منه بقوله: "شيخنا" (ص 12، 136، 153)، وينقل عنه نصوصًا من كلامه، وهي معروفة له في كتبه التي وصلت إلينا، وقد أشرنا إليها في الهوامش. وقد سبق أن هناك اتفاقًا بين هذا الكتاب و"بدائع الفوائد" في النقل عن "المدهش" لابن الجوزي، وهذا أيضًا من القرائن على كون مؤلفهما واحدًا. ونجد في أثناء الكتاب تصريحًا باسم ابن القيم في مواضع مختلفة (ص 4، 136، 152)، وهذا إما أن يكون من المؤلف نفسه كما يفعل ذلك كثير من المؤلفين، وإما أن يكون من تلاميذه والناسخين لكتابه أو من ابن عروة الذي أدرج هذا الكتاب ضمن "الكواكب". وهذه إحدى القرائن القوية لنسبته إلى ابن القيم. __________ (1) ذكر العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد بعض وجوه التوثيق في كتابه "ابن القيم الجوزية: حياته وآثاره" (ص 284).

(المقدمة/9)


وأخيرًا فإن أسلوب الكتاب هو أسلوب ابن القيم في سائر كتبه، ولا يخفى ذلك على مَن قرأ مؤلفاته باهتمام، وخاصةً تلك المؤلفات التي تتعلق بالسلوك والزهد والتربية. وكثير من الموضوعات التي أوجزها هنا فصَّلها في كتبه الأخرى، وكأن ما في الكتاب خلاصة هذا النوع من مؤلفاته، اقتصر فيه على النكت المستحسنة والفوائد الغالية، وزاد عليها لطائف ودقائق وعبرًا ومواعظ لا توجد في غيره. • موارده: ذكرنا فيما سبق أن أغلب ما في الكتاب تأملات وخواطر وفوائد اهتدى إليها المؤلف بفكره وتأمله، ولم ينقل إلا القليل من مصادر أخرى، وقد صرَّح أحيانًا باسم المؤلف أو المصدر الذي ينقل عنه، وأغفل أحيانًا أخرى ذكره. ومن المصادر التي نقل عنها: - ابن قتيبة: ص 3، 116 من "تفسير غريب القرآن"، وص 14، 16، 129، 149 من "تأويل مشكل القرآن". - الزجاج: ص 19، 116 من "معاني القرآن وإعرابه". - الواحدي: ص 128، 131 من "الوسيط". - ابن الجوزي: ص 21 "كشف مشكل الصحيحين". ونقل من كتابه "المدهش" كثيرًا بلا نسبة، فأغلب النصوص في الصفحات 52 - 69 مأخوذة منه، وكذا في مواضع أخرى. - ابن تيمية: ص 12، 136، 153. - وعزا بعض النصوص إلى "كتاب الزهد" للإمام أحمد (ص 75) وإلى

(المقدمة/10)


كتاب الترمذي (ص 39)، ولا توجد فيهما، ويبدو أنه عزا إليهما من حفظه. - وأغلب النصوص في فصل من كلام عبد الله بن مسعود (ص 211 - 218) منقولة من كتاب الزهد للإمام أحمد و"حلية الأولياء" لأبي نعيم، كما يظهر من هوامش التخريج. هذه بعض المصادر التي استقى منها، ولكن الطابع العام للكتاب كونه تأملاتٍ وخواطرَ وتصيُّدًا للفوائد والنكت. وهذا ما يُميِّز الكتاب عن الكتب الأخرى للمؤلف، ومن هنا تأتي أهميته. • وصف النسخة الخطية: ذكرنا فيما مضى أنه لا يوجد من الكتاب إلا نسخة فريدة ضمن "الكواكب الدراري" (مج 39) من الورقة 145 إلى الورقة 200، في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [567]، وناسخ هذا المجلد هو إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي، كتبه بخط نسخي سنة 827. والنسخة واضحة الخط، نادرة الأخطاء، وعدد الأسطر في كل صفحة منها 28 سطرًا، وهي مقابلة ومصححة، كما يظهر ذلك بالاستدراكات على هوامش النسخة وبالدوائر المنقوطة في أثناء الأسطر، وعلى النسخة بلاغات يقول فيها: بلغ مقابلة بأصله، أو نحو هذه العبارة. وعليها ختم مجاميع المدرسة العمرية. وفي هذا المجلد عدة رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، نُشر بعضها ضمن "مجموع الفتاوى" وبعضها في مجاميع أخرى. ويبدأ كتاب "الفوائد" لابن القيم بقول ابن عروة: "فوائد شتى ونكت حسان ... وهي من كلام الشيخ الإمام ... ابن قيم الجوزية ... "، وقد سبق نقل العبارة بتمامها فيما

(المقدمة/11)


مضى. ثم بدأ كلام المؤلف بقوله: "قاعدة جليلة" دون أن يسبقه البسملة والحمد والمقدمة. وكأن المؤلف لم يفرغ من جمعه وترتيبه والتقديم له، ولذلك لم يرد له ذكرٌ في مصادر ترجمته، ولو لم يُدرِجه ابن عروة في موسوعته لضاع فيما ضاع من تراث ابن القيم. • الطبعات السابقة للكتاب: صدرت أول طبعة للكتاب في المطبعة المنيرية بالقاهرة سنة 1344 بعناية الشيخ محمد منير الدمشقي رحمه الله، وقد صرَّح فيها أنه اعتمد على نسخة "الكواكب". وعلى الرغم مما بذل الناشر من جهد مشكور في قراءة النص وتقديمه، فقد وقعت في هذه الطبعة أخطاء وتحريفات، وسقطت كلمات وأسطر في مواضع كثيرة، وزيدت على النص زيادات دون التنبيه عليها مع عدم الحاجة إليها. وأُلحق به نصٌّ لشيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير أول العنكبوت (ص 207 - 212) دون الإشارة إلى أنه زيادة على كتاب ابن القيم. والواقع أنه نصٌّ خارج عن الكتاب، ولكنه موجود في مكان آخر من "الكواكب الدراري" [الورقة 205 أ- 207 أ] من النسخة السابقة. ولشدة حرص الناشر على طبع آثار شيخ الإسلام وغيره من علماء السلف ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية" وغيرها، استنسخ هذه الرسالة وطبعها ملحقةً بكتاب "الفوائد" من باب الحفظ والإفادة، دون تمييزها عن أصل الكتاب، حتى توهَّم القراء والباحثون أنها جزء منه. ولا أحبّ الخوض في ذكر الأخطاء والتحريفات والأسقاط والزيادات الموجودة في تلك الطبعة، ومن أراد معرفة ذلك فليقم بالمقابلة بينها وبين الطبعة التي بين يديه، أو بينها وبين الأصل ليعرف مدى الفرق بينهما.

(المقدمة/12)


والناشر على كل حال مشكور لسبقه إلى نشر هذا الكتاب النفيس وتقديمه إلى المتعطشين للعلم لأول مرة، فجزاه الله أحسن الجزاء على ما قام به من خدمة للعلم وأهله. ثم توالت طبعات الكتاب بالاعتماد على تلك الطبعة، وتسرَّبت إليها جميعًا -بل زادت- تلك العيوب التي ذكرناها، لعدم رجوع القائمين عليها إلى الأصل المخطوط، ومن الغريب حقًّا أن يقوم المحققون بتحقيق الكتاب وتصحيحه وضبطه وتخريجه وخدمته وتقديمه بالاعتماد على الطبعات المتداولة، وهي أكثر خطأ وتحريفًا وسقطًا من الطبعة الأولى، مع أن الحصول على الأصل كان أسهل لهم من معاناة المقابلة بين الطبعات المختلفة والوصول إلى نص سليم في ضوئها! وتوجد مصورة "الكواكب" الآن في كثير من المراكز العلمية والجامعات الإسلامية، فكان الواجب الرجوع إليها عند إعادة طبع الكتاب. • هذه الطبعة: كان الاعتماد في إخراج هذه الطبعة على الأصل المخطوط الوحيد الذي سبق وصفه، وبمقابلة الطبعة الأولى على هذا الأصل صححتُ كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها واستدركتُ السقط الذي قد يتجاوز أكثر من سطر، وحذفتُ الزيادات التي زيدت على الأصل. وهكذا أصبح النصُّ مطابقًا للأصل دون زيادة أو نقص. وحذفتُ "تفسير أول العنكبوت" لشيخ الإسلام (1)، لأنه ليس من كتاب "الفوائد" كما ذكرتُ. __________ (1) أعدتُ نشره في "جامع المسائل" (3/ 251 - 261).

(المقدمة/13)


ثم رجعت إلى النصّ، وقمتُ بضبطه وتقسيمه إلى فقرات، مع الاهتمام بعلامات الترقيم، ليكون واضحًا مفهومًا لدى القراء. ثم خدمتُ النصَّ بعزو الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار والنقول من المصادر، وتخريج الأشعار ونسبتها إلى قائليها. أما ترجمة الأعلام وشرح الكلمات والعبارات والتعريف بالأماكن فلم أهتمَّ بها، لأني أعتبرها من لوازم الشرح لا من متطلبات تحقيق النصّ. وقمتُ بوضع فهارس متنوعة للكتاب، ليصل القارئ إلى ما يبحث عنه في أسرع وقت. فدونك أيها القارئ كتابًا كلُّه درر وفوائد، وتبصرة وتذكرة، وإرشاد وتوجيه، ولعلك لا تجد له نظيرًا بين الكتب التي قرأتَها. أدعو الله أن يوفقني وإياك للتأمل فيه والاستفادة منه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه محمد عزير شمس

(المقدمة/14)


[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] قاعدة جليلة إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن فاجمعْ قلبك عند تلاوته وسماعه، وألْقِ سمعَك، واحضُرْ حُضورَ من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسوله: قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. وذلك أنَّ تمام التأثير لمَّا كان موقوفًا على مُؤثِّرٍ مُقْتَضٍ، ومحلٍّ قابل، وشرطٍ لحصول الأثرِ، وانتفاء المانع الذي يمنعُ منه، تضمَّنَتِ الآيةُ بيانَ ذلك كلِّه بأوجز لفظٍ وأبينِهِ وأدلِّه على المُراد. فقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى}: إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من أول السورةِ إلى ها هنا، وهذا هو المؤثِّرُ. وقولُه: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}: فهذا هو المحلُّ القابلُ، والمرادُ به القلبُ الحيُّ الذي يَعْقِلُ عن الله؛ كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 69 - 70]؛ أي: حيَّ القلبِ. وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}، أي: وجَّه سمعَه وأصغَى حاسَّةَ سمعِهِ إلى ما يُقال له، وهذا شرطُ التأثُّر بالكلام. وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ (37) أي: شاهدُ القلبِ حاضرٌ غيرُ غائبٍ. قال ابن قتيبة (1): استمعَ كتاب الله، وهو شاهدُ القلب والفهم، ليس __________ (1) "تفسير غريب القرآن" (ص 419).

(1/3)


بغافلٍ ولا ساهٍ. وهو إشارةٌ إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهوُ القلب وغيبتُه عن تعقُّلِ ما يُقال له والنظرِ فيه وتأمُّلِه. فإذا حصل المؤثِّرُ وهو القرآنُ، والمحلُّ القابلُ وهو القلبُ الحيُّ، ووُجِد الشرطُ وهو الإصغاءُ، وانتفى المانعُ وهو اشتغالُ القلبِ وذهولُه عن معنى الخطاب وانصرافُه عنه إلى شيءٍ آخر؛ حَصَل الأثرُ وهو الانتفاعُ والتذكُّرُ. فإن قيل: إذا كان التأثيرُ إنَّما يتمُّ بمجموع هذه؛ فما وجهُ دخول أداة (أو) في قوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}؛ والموضع موضعُ واو الجمع لا موضعُ (أو) التي هي لأحد الشيئين؟ قيل: هذا سؤالٌ جيدٌ، والجوابُ عنه أن يُقال: خُرِّج الكلام بـ (أو) باعتبار حال المخاطب المدعوِّ: فإنَّ من الناس من يكون حيَّ القلب، واعِيَهُ، تامَّ الفطرة؛ فإذا فكَّر بقلبه، وجال بفكرِه؛ دلَّه قلبُه وعقلُه على صحة القرآن، وأنَّه الحقُّ، وشهد قلبه بما أخبر به القرآنُ، فكان ورودُ القرآنِ على قلبه نورًا على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قيل فيهم: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقال في حقِّهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]؛ فهذا نورُ الفطرة على نور الوحي، وهذا حالُ صاحب القلب الحيِّ الواعي. قال ابنُ القيِّم: وقد ذكرنا ما تضمَّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة

(1/4)


والجهمية" (1). فصاحبُ القلب يجمعُ بين قلبه وبين معاني القرآن، فيجدُها كأنَّها قد كُتِبَتْ فيه؛ فهو يقرؤُها عن ظهر قلبٍ. ومن الناس من لا يكونُ تامَّ الاستعداد، واعيَ القلبِ، كاملَ الحياةِ، فيحتاجُ إلى شاهدٍ يُميِّزُ له بين الحقِّ والباطل، ولم تبلُغْ حياةُ قلبه ونورُهُ وزكاءُ فطرته مبلغَ صاحب القلب الحي الواعي؛ فطريقُ حصولِ هدايته: أن يُفَرِّغَ سمعَهُ للكلام، وقَلْبَهُ لتأمُّلِهِ والتفكُّرِ فيه وتعقُّلِ معانيه، فيعلم حينئذٍ أنَّه الحقُّ. فالأوَّلُ حالُ من رأى بعينَيه (2) ما دُعي إليه وأُخْبِرَ به، والثاني حالُ مَن علمَ صدْقَ المُخْبِرِ وتيقَّنَهُ وقال: يكفيني خبرُهُ. فهو في مقام الإيمان، والأولُ في مقام الإحسان. هذا قد وصل إلى علم اليقين وتَرقَّى قلبُهُ منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معهُ التصديقُ الجازمُ الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام. فعينُ اليقين نوعان: نوعٌ في الدُّنيا، ونوعٌ في الآخرة. فالحاصلُ في الدُّنيا نسبتُه إلى القلب كنسبةِ الشاهد إلى العين. وما أخبرتْ به الرسلُ من الغيب يُعايَنُ في الآخرة بالأبصار وفي الدنيا بالبصائر؛ فهو عينُ يقينٍ في المرتبتين. فصل وقد جمعتْ هذه السورةُ من أصول الإيمان ما يكفي ويشْفي ويُغْني __________ (1) ص 6 - 12. وتكلم عليه أيضًا في "الوابل الصيب" (ص 65 - 68) و"إعلام الموقعين" (1/ 205 - 209) و"الصواعق المرسلة" (3/ 851). (2) ط: "بعينه".

(1/5)


عن كلام أهل الكلام ومعقولِ أهل المعقول؛ فإنَّها تضمَّنَتْ تقريرَ المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوةِ والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالكٍ شقيٍّ وفائزٍ سعيدٍ، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء، وتضمَّنتْ إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يُضَادُّ كماله من النقائص والعيوب، وذكر فيها القيامتينِ الصُّغرى والكبرى، والعالمَين: الأكبرَ -وهو عالمُ الآخرةِ- والأصغر -وهو عالمُ الدُّنيا-، وذَكَر فيها خلْقَ الإنسان ووفاتَهُ وإعادتَهُ، وحالهُ عند وفاتِهِ ويوم معادِهِ، وإحاطتَهُ سبحانه به من كلِّ وجهٍ، حتى عِلْمَهُ بوساوسِ نفسه، وإقامة الحفظة عليه يُحصُون عليه كلَّ لفظةٍ يتكلَّم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة ومعه سائقٌ يسوقُه إليه وشاهدٌ يشهدُ عليه؛ فإذا أحضره السائقُ؛ قال: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} [ق: 23]؛ أي: هذا الذي أُمِرْتُ بإحضارِهِ قد أحضرتُه، فيقالُ عند إحضاره: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)} [ق: 24]؛ كما يُحْضَرُ الجاني إلى حضرةِ السُّلطانِ، فيقالُ: هذا فلانٌ قد أحضرتُهُ. فيقولُ: اذهَبوا به إلى السجنِ وعاقبوهُ بما يستحقُّه! وتأملْ كيف دلَّتِ السورةُ صريحًا على أن الله سبحانه يعيدُ هذا الجسد بعينِهِ الذي أطاعَ وعَصى، فيُنَعِّمُهُ ويُعذِّبُهُ، كما يُنعِّمُ الرُّوحَ التي آمنتْ بعينها ويُعذِّبُ التي كَفَرتْ بعينها، لا أنَّه سبحانه يَخْلُقُ روحًا أخرى غير هذه فينعِّمُها ويعذِّبها كما قاله من لم يعرف المعادَ الذي أخبرتْ به الرسلُ! حيثُ زعم أنَّ الله سبحانه يخلُقُ بدنًا غير هذا البدن من كلِّ وجهٍ! عليه يقعُ النعيمُ والعذابُ! والرُّوحُ عنده (1) عَرَضٌ من أعراضِ البدن! فيخلُقُ رُوحًا غير هذه الرُّوح وبدنًا غير هذا البدن! وهذا غيرُ ما اتَّفقت __________ (1) ط: "عندهم".

(1/6)


عليه الرسلُ ودلَّ عليه القرآنُ والسنةُ وسائرُ كتب الله تعالى. وهذا في الحقيقة إنكارٌ للمعاد، وموافقةٌ لقول من أنكره من المكذِّبين؛ فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسامٍ أُخَرَ غير هذه الأجسام يعذِّبها وينعِّمُها؛ كيف وهم يشهدون النوعَ الإنسانيَّ يُخْلَقُ شيئًا بعد شيءٍ؛ فكلَّ وقتٍ يَخْلُقُ الله سبحانه أجسامًا وأرواحًا غيرَ الأجسامِ التي فَنِيَتْ؛ فكيف يتعجَّبون من شيءٍ يُشاهدونَه عِيانًا؟! وإنما تعجَّبوا من عَوْدِهم بأعيانِهِم بعد أن مَزَّقَهُمُ البِلَى وصاروا عظامًا ورُفاتًا، فتعجَّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثينَ للجزاء، ولهذا قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)} [الصافات: 16]، وقالوا: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق: 3]. ولو كان الجزاءُ إنما هو لأجسامٍ غير هذه؛ لم يكن ذلكِ بعثًا ولا رجعًا، بل يكونُ ابتداءً، ولم يكن لقولِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] كبيرُ معنًى؛ فإنه سبحانه جعل هذا جوابًا لسؤالٍ مقدَّرٍ، وهو أنه يُميِّزُ تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميَّزُ، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تَنْقُصُهُ الأرضُ من لُحومهم وعِظامهم وأشعارهم، وأنَّه كما هو عالمٌ بتلك الأجزاء؛ فهو قادرٌ على تَحْصيلها وجَمْعِها بعد تفرُّقِها وتأليفِها خلقًا جديدًا. وهو سبحانَه يُقرِّرُ المعادَ بذِكْرِ كمالِ علمِهِ وكمالِ قُدرتِهِ وكمالِ حكمتِهِ؛ فإنَّ شُبَه المُنكِرين له كلَّها تعودُ إلى ثلاثةِ أنواع: أحدها: اختلاطُ أجزائِهِم بأجزاءِ الأرض على وجهٍ لا يتميَّزُ ولا يحصُلُ معه (1) تميُّزُ شخصٍ عن شخصٍ! __________ (1) في الأصل: "معها".

(1/7)


الثاني: أن القدرة لا تتعلَّقُ بذلك! الثالث: أن ذلك أمرٌ لا فائدةَ فيه! وإنما (1) الحكمةُ اقتضَتْ دوامَ هذا النوع الإنسانيِّ شيئًا بعد شيءٍ هكذا أبدًا؛ كلما مات جِيلٌ؛ خَلَفَهُ جِيلٌ آخرُ؛ فأمَّا أن يُمِيتَ النوعَ الإنسانيَّ كلَّه ثم يُحْيِيَهُ بعد ذَلك؛ فلا حكَمةَ في ذلك! فجاءتْ براهينُ المعادِ في القرآن مَبْنِيَّةً على ثلاثةِ أصول: أحدُها: تقريرُ كمال علم الربِّ سبحانَه؛ كما قال في جوابِ مَنْ قال: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 78 - 79]، وقال: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} [الحجر: 85 - 86]، وقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4]. والثاني: تقريرُ كمال قدرتِهِ؛ كقوله: {أَوَلَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وقوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحج: 6]. ويَجمعُ سبحانه بين الأمرين؛ كما في قوله: {أَوَلَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [يس: 81]. الثالثُ: كمالُ حكمتِهِ؛ كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا __________ (1) ط: "أو أن".

(1/8)


لَاعِبِينَ (38)} [الدخان: 38]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36]، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَينَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116]، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]. ولهذا كان الصوابُ أنَّ المعاد معلومٌ بالعقل مع الشرع، وأن كمالَ الربِّ تعالى وكمال أسمائه وصفاته تَقتضِيهِ وتُوجِبُهُ، وأنَّه مُنزَّهٌ عما يقولُه مُنكِروه كما يُنَزَّهُ كمالُه عن سائر العيوبِ والنقائص. ثم أخبر سبحانَه أنَّ المُنكِرين لذلك لما كذَّبوا بالحقِّ اختلط عليهم أمرُهم؛ {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5] مختلطٍ لا يَحصُلونَ منه على شيءٍ. ثم دعاهم إلى النظرِ في العالم العُلْويِّ وبنائِهِ وارتفاعِهِ واستوائِهِ وحُسْنِه والتئامِهِ. ثم إلى العالم السُّفْلِيِّ، وهو الأرضُ، وكيف بَسَطَها وهيَّأها بالبسط لِما يُرادُ منها، وثبَّتها بالجبال، وأودعَ فيها المنافع، وأنبتَ فيها من كلِّ صنفٍ حسنٍ من أصنافِ النباتِ على اختلاف أشكالِهِ وألوانِهِ ومقاديرِهِ ومنافعِهِ وصفاتِهِ. وأنَّ ذلك تَبْصِرةٌ؛ إذا تأمَّلها العبدُ المُنِيبُ وتَبصَّرَ بها تَذَكَّرَ ما دلَّت عليه مما أخبرتْ به الرسلُ من التوحيدِ والمعادِ؛ فالناظرُ فيها يَتبصَّرُ أولًا، ثم يَتذكَّرُ ثانيًا. وأنَّ هذا لا يَحصُلُ إلا لعبدٍ منيبٍ إلى الله بقلبِهِ وجوارحِهِ. ثم دعاهم إلى التفكُّر في مادةِ أَرْزاقِهِم وأقواتِهم ومَلابِسِهم ومَراكِبِهم

(1/9)


وجَنَّاتِهِم، وهو الماءُ الذي أنزلَه من السماءِ وباركَ فيه، حتى أنْبَتَ به جَناتٍ مختلفةَ الثمارِ والفواكهِ ما بين أبيضَ وأسودَ وأحمرَ وأصفرَ وحلوٍ وحامضٍ وبَيْنَ ذلك، مع اختلافِ منافِعِها وتنوُّعُ أجناسِها، وأنْبَتَ به الحبوبَ كلَّها على تَنوُّعِها واختلافِ مَنافِعهَا وصفاتِها وأشكالها ومقاديرها، ثم أفردَ النخلَ لما فيه من موضع العبرةِ والدِّلالةِ التي لا تَخفى على المتأمِّل، وأَحيا به الأرض بَعْدَ مَوْتِها. ثم قال: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: 11]؛ أي: مثلُ هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمارَ والأقوات والحبوبَ خروجُكُم من الأرض بعد ما غُيِّبْتُم فيها. وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم" (1)، وبيَّنَّا بعضَ ما فيها من الأسرار والعِبَر. ثم انتقلَ سبحانه إلى تقرير النبوَّةِ بأحسنِ تقريرٍ وأوجزِ لفظٍ وأبعدِهِ عن كلِّ شُبهةٍ وشكٍّ، فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وقوم فرعونَ رُسلًا فكذَّبوهم، فأهلكَهُم بأنواع الهلاك، وصَدَّقَ فيهم وعيدَه الذي أوْعَدَتْهم به رُسُلُهُ إن لم يؤمنوا، وهذا تقريرٌ لنبوَّتِهِم ولنبوَّةِ مَن أخبرَ بذلك عنهم من غير أن يتعلَّم ذلك من مُعلِّمٍ ولا قرأهُ في كتابٍ، بل أخبر به إخبارًا مفصَّلًا مطابقًا لما عند أهل الكتابِ. ولا يَرِدُ على هذا إلَّا سؤالُ البَهْتِ والمكابرةِ على جَحْدِ الضَّروريات بأنَّه لم يكنْ شيءٌ من ذلك! أو أنَّ حوادثَ الدهرِ ونكباتِهِ أصابتْهم كما أصابتْ غيرَهم!! وصاحبُ هذا السؤال يعلَمُ من نفسِهِ أنه بَاهتٌ __________ (1) أي "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 150 - 195).

(1/10)


مُباهِتٌ جاحدٌ لما شَهِد به العيانُ وتَناقَلتْهُ القرونُ قرنًا بعد قرنٍ؛ فإنكارُهُ بمنزلةِ إنكارِ وجودِ المشهورينَ من الملوكِ والعلماءِ والبلاد النائية. ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15]؛ يُقالُ لكلِّ من عجز عن شيءٍ: عَيِيَ به، وعَيِيَ فلانٌ بهذا الأمرِ. قال الشاعر (1) : عَيُّوا بأمْرِهِمُ كَما ... عَيَّتْ بِبَيضَتِها الحَمامَهْ ومنه قولُه تعالى: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33]. قال ابن عباس: يريدُ: أفَعَجَزْنا؟ وكذلك قال مقاتلٌ. قلت: هذا تفسيرٌ بلازم اللفظة، وحقيقتُها أعمُّ من ذلك؛ فإنَّ العرب تقولُ: أعياني أن أَعرِف كذا وعَيِيْتُ به: إذا لم تَهْتَدِ لوجهِهِ ولم تقْدِرْ على معرفته وتحصيله، فتقولُ: أعياني دواؤك: إذا لم تهتدِ له ولم تقفْ عليه، ولازم هذا المعنى العجزُ عنه. والبيتُ الذي استشهدوا به شاهدٌ لهذا المعنى؛ فإنَّ الحَمامةَ لم تعْجِزْ عن بَيضتِها، ولكن أعياها إذا أرادت أن تَبِيْضَ أين تَرْمي بالبيضةِ؛ فهي تدورُ وتَجُولُ حتى تَرميَ بها؛ فإذا باضَتْ أعياها أين تَحفظُها وتُودِعُها حتى لا تُنال؛ فهي تَنقُلُها من مكانٍ إلى مكانٍ وتَحَار أين تجعلُ مَقرَّها؛ كما هو حالُ من عَيِيَ (2) بأمرِهِ فلم يدرِ من أين يَقصِدُ له ومن أين يأتيهِ. وليس المرادُ بالإعياءِ في هذه الآية التعبَ كما يظنُّه من لم يَعرِفْ __________ (1) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه (ص 138) برواية أخرى، وفي لسان العرب (حيا، عيا) بهذه الرواية. (2) في الأصل: "اعيى".

(1/11)


تفسيرَ القرآنِ، بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) } [ق: 38]. ثم أخبر سبحانه أنهم {فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) } [ق: 15]؛ أي: أنهم التبس عليهم إعادةُ الخلق خلقًا جديدًا. ثم نبَّههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشَواهدِ ربُوبيَّتِهِ وأدلَّة المعادِ، وهو خَلْقُ الإنسانِ؛ فإنَّه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد، وأيُّ دليلٍ أوضحُ من تركيب هذه الصورة الآدميَّةِ بأعضائها وقُواها وصفاتِها وما فيها من اللحم والعظم والعُروقِ والأعصابِ والرِّباطات والمنافذِ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات؛ كل ذلك من نطفةِ ماءٍ؟! فلو أنصفَ العبدُ ربَّه؛ لاكتفى بفكْرِهِ في نفسِه، واستدلَّ بوجودِهِ على جميع ما أخبرتْ به الرسلُ عن اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ. ثم أخبرَ سبحانَه عن إحاطةِ علمِهِ به، حتى عَلِمَ وساوسَ نفسِهِ. ثم أخبرَ عن قربِهِ إليه بالعلم والإحاطةِ، وأنَّ ذلك أدنى إليه من العِرْقِ الذي هو داخلَ بدنِهِ؛ فهو أقربُ إليه بالقدرةِ عليه والعلم به من ذلك العِرقِ. وقال شيخُنا (1) : المرادُ بقوله: {نَحْنُ}؛ أي: ملائكتُنا؛ كما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) } [القيامة: 18]؛ أي: إذا قرأه عليك رسولُنا جبريلُ. قال: ويدلُّ عليه قولُه: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17]؛ فقُيِّدَ القربُ المذكورُ بتلقِّي المَلَكَيْنِ، ولو كان المرادُ به قربَ الذاتِ لم يَتَقَيَّدْ بوقتِ تلقِّي الملكين؛ فلا حجَّةَ في الآيةِ لِحُلوليٍّ ولا مُعطِّلٍ. ثم أخبر سبحانه أنَّ على يميِنِه وشمالِهِ مَلَكين يكتُبانِ أعمالَه __________ (1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر كلامه في "مجموع الفتاوى" (5/ 234 - 235).

(1/12)


وأقوالَه، ونبَّه بإحصاءِ الأقوال وكتابتِها على كتابة الأعمال، التي هي أقلُّ وقوعًا وأعظمُ أثرًا من الأقوال، وهي غاياتُ الأقوال ونهايتُها. ثم أخبر عن القيامةِ الصغرى، وهي سَكْرَةُ الموتِ، وأنها تجيءُ بالحقِّ، وهو: لقاؤُه سبحانَه، والقدومُ عليه، وعَرْضُ الرُّوح عليهِ، والثوابُ والعقابُ الذي تعجَّلَ لها قبلَ القيامة الكبرى. ثم ذكر القيامة الكبرى بقولهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} [ق: 20]. ثم أخبرَ عن أحوال الخَلْقِ في هذا اليوم، وأنَّ كل أحدٍ يأتي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائقٌ يَسوقُه وشهيدٌ يَشهدُ عليه، وهذا غير شهادةِ جوارحِهِ، وغيرُ شهادةِ الأرض التي كان عليها له وعليه، وغيرُ شهادةِ رسولِهِ والمؤمنين؛ فإنَّ الله سبحانه يستشهدُ على العبادِ الحفظةَ والأنبياءَ والأمكنةَ التي عملوا عليها الخير والشرَّ، والجلود التي عَصَوْه بها، ولا يَحكُمُ بينهم بمجرَّد علمِهِ؛ وهو أعدلُ العادلينَ وأحكمُ الحاكمين، ولهذا أخبر نبيُّه أنه يحكُمُ بين الناس بما سَمِعَهُ من إقرارِهم وشهادة البيِّنَةِ لا بمجرَّد علمِهِ (1)؛ فكيف يَسُوغُ لحاكمٍ أن يَحْكُمَ بمجرَّدِ علمِهِ من غيرِ بيِّنةٍ ولا إقرار؟! ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلةٍ من هذا الشأن الذي هو حقيقٌ بأن لا يَغْفُلَ عنه وأن لا يزالَ على ذكرِهِ وبالِهِ، وقال: {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22]، ولم يقل: عنه؛ كما قال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)} __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2458) ومسلم (1713) عن أم سلمة، وفيه: "فأقضي له على نحوٍ مما أسمعُ منه".

(1/13)


[فصلت: 45]، ولم يقل: في شكٍّ فيه، وجاء هذا في المصدر وإن لم يَجِئ في الفعل -فلا يقالُ: غَفَلْتُ منه ولا شَكَكْتُ منه- كأن غَفْلَتَهُ وشكَّه ابتداءٌ منه؛ فهو مبدأُ غفلتِهِ وشكِّه! وهذا أبلغ من أن يُقال: في غفلةٍ عنه وشكٍّ فيه؛ فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقينِ ومنشأهما مبدأً للغفلةِ والشكِّ. ثم أخبر أنَّ غطاءَ الغفلة والذُّهول يُكْشَفُ عنه ذلك اليوم كما يُكْشَفُ غطاءُ النوم عن القلب فيستيقظُ وعن العين فتنفتحُ؛ فنسبةُ كَشْفِ هذا الغطاءِ عن العبدِ عند المعاينةِ كنسبةِ كَشْفِ غطاءِ النوم عنه عند الانتباهِ. ثم أخبر سبحانه أنَّ قرينَه -وهو الذي قُرِنَ به في الدُّنيا من الملائكةِ يَكْتُبُ عَمَلَه وقولَه- يقولُ لمَّا يُحْضِرُهُ: هذا الذي كنتَ وَكَلْتَني به في الدُّنيا قد أحضرتُه وأتيتكَ به. هذا قول مجاهدٍ (1) . وقال ابنُ قُتيبة (2) : المعنى: هذا ما كتبتُهُ عليه وأحصيتُهُ من قولِهِ وعملِهِ حاضرٌ عندي. والتحقيقُ أن الآية تتضمَّنُ الأمرين؛ أي: هذا الشخص الذي وُكِلْتُ به، وهذا عَملُهُ الذي أحصيتُهُ عليه. فحينئذٍ يُقالُ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]، وهذا إما أن يكون خطابًا للسائقِ والشهيد، أو خطابًا للملك المُوَكَّل بعذابِهِ وإن كان واحدًا، وهو مذهبٌ معروفٌ من مذاهب العرب في خطابها، أو تكونُ الألفُ منقلبةً عن نون التأكيد الخفيفة ثمَّ أُجْرِيَ الوصلُ مُجرَى الوقفِ. __________ (1) انظر تفسير القرطبي (17/ 16) وابن كثير (7/ 3291). (2) "تأويل مشكل القرآن" (ص 422).

(1/14)


ثم ذَكَرَ صفاتِ هذا المُلْقَى، فذَكَرَ له ستَّ صفاتٍ: إحداها (1): أنَّه كَفَّارٌ لنِعَمِ الله وحقوقه، كفَّارٌ بديِنِه وتوحيدِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، كَفَّارٌ برُسُلِه وملائكتِهِ، كفَّارٌ بكتبِهِ ولقائِهِ. الثانيةُ: أنه مُعانِدٌ للحقِّ بدَفْعِهِ جَحْدًا وعِنادًا. الثالثةُ: أنه مَنَّاعٌ للخير، وهذا يَعُمُّ منعَهُ للخيرِ الذي هو إحسانٌ إلى نفسِهِ من الطاعاتِ والقُرَبِ إلى الله، والخير الذي هو إحسانٌ إلى الناس؛ فليس فيه خيرٌ لنفسِهِ ولا لبنَي جنسِهِ؛ كما هو حالُ أكثرِ الخَلْقِ. الرابعةُ: أنه مع مَنْعِهِ للخيرِ مُعتدٍ على الناس، ظلومٌ، غَشُومٌ، مُعتدٍ عليهم بيدِهِ ولسانِهِ. الخامسة: أنه مُرِيْبٌ؛ أي: صاحبُ رَيْبٍ وشكٍّ، ومع هذا فهو آتٍ لكلِّ رِيبةٍ، يُقال فلان مُرِيبٌ، إذا كان صاحِبَ رِيبةٍ. السادسةُ: أنه مع ذلك مُشرِكٌ باللهِ، قد اتَّخَذَ مع الله إلهًا آخر؛ يَعبُدُه، ويُحِبُّه، ويَغضَبُ له، ويَرضى له، ويَحلِفُ باسمِهِ، وَينذُرُ له، ويُوالي فيه، ويُعادي فيه. فيَختصِمُ هو وقرينهُ من الشياطين، ويُحِيلُ الأمرَ عليه، وأنه هو الذي أَطغاه وأَضلَّهُ، فيقولُ قرينُه: لم يكن لي قُوةٌ أن أُضِلَّهُ وأُطْغِيَهُ، ولكن كان في ضلال بعيدٍ؛ اختاره لنفسهِ، وآثَرَهُ على الحقِّ؛ كما قال إبليسُ لأهل النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]. وعلى هذا؛ فالقرينُ هنا هو شيطانُه؛ يَختصمان عند الله. __________ (1) الأصل: "أحدها". وهذا شائع في كتب المؤلف.

(1/15)


وقالت طائفةٌ: بل قرينُه ها هنا هو المَلَكُ، فيدَّعي عليهِ أنَّه زاد عليه فيما كَتبَهُ عليه وطَغَى، وأنَّه لم يَفْعَلْ ذلك كلَّه، وأنه أعْجَلَهُ بالكتابةِ عن التوبة، ولم يُمْهِلْهُ حتى يتوبَ! فيقولُ المَلَكُ: ما زِدتُ في الكتابةِ على ما عَمِلَ، ولا أَعجَلْتُه عن التوبة، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) } [ق: 27]. فيقولُ الربُّ تعالى: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28]، وقد أخْبَرَ سبحانَه عن اختصام الكُفَّار والشياطين بين يديه في سورتي (1) الصافات والأعراف، وأخبرَ عن اختصام الناس بين يديهِ سبحانَه في سورة الزمر، وأخبَر عن اختصام أهلِ النارِ فيها في سورة الشعراءِ وسورةِ ص. ثم أخبر سبحانه أنه لا يُبدَّلُ القولُ لديه، فقيلَ: المرادُ بذلك: قولُه: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) } [هود: 119]، ووَعْدُه لأهل الإيمان بالجنة، وأنَّ هذا لا يُبدَّلُ ولا يُخْلفُ. قال ابن عباس: يرِيدُ: ما لِوَعْدِي خُلْفٌ لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي. قال مجاهدٌ: قد قَضَيتُ ما أنا قاضٍ. وهذا أصحُّ القولين في الآية (2) . وفيها قولٌ آخرُ: أن المعنى: ما يُغيَّرُ القولُ عندي بالكذبِ والتلبيسِ كما يُغيَّرُ عند الملوكِ والحُكَّام، فيكون المرادُ بالقول قولَ المختصمين، وهو اختيارُ الفرَّاءِ وابنِ قُتيبةَ. قال الفرَّاءُ (3) : المعنى: ما يُكْذَبُ عندي لعِلْمي بالغيبِ. وقال ابنُ قُتيبة (4) . أي: ما يُحَرَّفُ القولُ عندي ولا يُزادُ __________ (1) الأصل: "سورة". (2) انظر تفسير الطبري (21/ 443) وابن كثير (7/ 3293). (3) "معاني القرآن" (3/ 79). (4) "تأويل مشكل القرآن" (ص 423).

(1/16)


فيه ولا يُنْقَصُ منه. قال: لأنَّه قال: {الْقَوْلُ لَدَيَّ} (1)، ولم يقلْ: قولي، وهذا كما يُقالُ: لا يُكْذَبُ عندي. فعلى القول الأول يكونُ قولُه: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق: 29] من تمام قولِهِ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} في المعنى؛ أي: ما قلتُهُ ووَعدتُ به لا بدَّ من فعِلِه، ومع هذا فهو عدلٌ لا ظلمَ فيه ولا جَوْرَ. وعلى الثاني يكونُ قد وَصَفَ نفسَه بأمرينِ: أحدُهما: أنَّ كمال علمِهِ واطلاعِهِ يَمنع من تبديل القول بين يديْهِ وترويج الباطل عليه. و [الثاني: أنَّ] (2) كمال عدلِهِ وغناه يَمنعُ من ظلمِهِ لعَبيدِهِ. ثم أخبرَ عن سَعَةِ جهنَّمَ، وأنها كلَّما أُلْقِيَ فيها {تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]، وأخطأ من قال: إن ذلك للنفي؛ أي: ليس فيَّ (3) مزيدٌ. والحديثُ الصحيحُ يَرُدُّ هذا التأويل (4). ثم أخبر عن تقريب الجنَّة من المتَّقينَ، وأنَّ أهلَها هم الذين اتَّصفوا بهذه الصفاتِ الأربع: إحداها (5): أن يكون أوَّابًا؛ أي: رَجَّاعًا إلى الله؛ من معصيتِهِ إلى طاعتِهِ، ومن الغفلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ. قال عبيدُ بن عُميرٍ: الأوَّابُ: الذي __________ (1) الأصل: "عندي". (2) زيادة على الأصل. (3) ط: "من". (4) يشير إلى ما رواه البخاري (4848) ومسلم (2848) عن أنس مرفوعًا: "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها ربّ العزة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط قط". ونحوه عند البخاري (4568) عن أبي هريرة. (5) الأصل: "أحدها".

(1/17)


يَتذكَّرُ ذنوبَه ثم يَستغفرُ منها. وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكَر ذنبَه في الخلاءِ استغفَر منه (1) . وقال سعيدُ بن المسيب: هو الذي يُذْنِبُ ثم يتوبُ ثم يُذْنِبُ ثم يتوبُ. الثانية: أن يكون حفيظًا، قال ابنُ عباس: لِمَا ائتَمَنَهُ الله عليه وافتَرَضَهُ. وقال قتادةُ: حافظٌ لِما استَوْدَعَهُ الله من حقه ونعمته (2) . ولما كانت النفس لها قوَّتان: قوةُ الطلب وقوةُ الإمساك، كان الأوَّابُ مُستعملًا لقوَّةِ الطلب في رجوعه إلى الله ومَرْضاتِهِ وطاعتِهِ، والحفيظُ مستعملًا لقوَّةِ الحفظِ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه؛ فالحفيظُ: المُمْسِكُ نفسه عما حُرِّم عليه، والأوَّابُ: المُقْبِلُ على الله بطاعتِهِ. الثالثةُ: قولُه: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيبِ} [ق: 33]: يَتضمَّنُ الإقرار بوجودِهِ وربوبيتِهِ وقدرتهِ وعلمِهِ واطلاعِهِ على تفاصيلِ أحوالِ العبدِ، ويَتضمَّنُ الإقرار بكتبِهِ ورسلِهِ وأمرِهِ ونهيِهِ، ويَتضمَّنُ الأقرار بوَعْدِهِ ووَعيدِهِ ولِقائِهِ؛ فلا تَصِحُّ خشيةُ الرحمن بالغيبِ إلَّا بعد هذا كلِّه. الرابعةُ: قولُه: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) } [ق: 33]: قال ابنُ عباس: راجعٌ عن معاصي الله مُقبِلٌ على طاعةِ الله. وحقيقةُ الإنابةِ عُكوفُ القلبِ على طاعةِ الله ومحبَّتِهِ والإقبالِ عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامتْ به هذه الأوصافُ بقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ (35) } [ق: 34 - 35]. __________ (1) "وقال مجاهد ... استغفر منه" ساقطة من ط. (2) انظر هذه الأقوال في تفسير القرطبي (17/ 20) والدر المنثور (13/ 644).

(1/18)


ثم خَوَّفهم بأن يُصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبْلَهم، وأنَّهم كانوا أشدَّ منهم بَطْشَا ولم يَدْفَعْ عنهم الهلاك شدةُ بطشِهم، وأنَّهم عند الهلاكِ تقلَّبوا وطافوا في البلاد، هل يَجِدون مَحِيْصًا ومَنجًى من عذاب الله؟! قال قَتادةُ: حَاصَ أعداءُ الله فوجدوا أمر الله لهم مُدرِكًا. وقال الزَّجَّاجُ (1) : طوَّفوا وفَتَّشوا فلم يَرَوا مَحِيصًا من الموتِ. وحقيقةُ ذلك أنهم طلبوا المَهْربَ من الموتِ فلم يَجِدوه. ثم أخبر سبحانَه أنَّ في هذا الذي ذُكِرَ ذِكرى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) } [ق: 37]. ثم أخبر أنَّه خَلَقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولم يَمَسَّهُ من تَعَبٍ ولا إعياءٍ؛ تكذيبًا لأعدائِهِ من اليهودِ؛ حيثُ قالوا: إنه استراح في اليوم السابع!! ثم أمرَ نبيَّهُ بالتأسِّي به سبحانَه في الصبرِ على ما يقولُ أعداؤُه فيه؛ كما أنَّه سبحانه صبَرَ على قول اليهود: إنَّه استراح! ولا أحدَ أصْبَرُ على أذًى يَسْمَعُهُ منه (2) . ثم أمَرَهُ بما يَستعينُ به على الصبر، وهو التسبيحُ بحمدِ ربِّه قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبِها وبالليل وأدبارَ السُّجود: فقيل: هو الوِتْرُ. وقيل: الركعتان بعد المغرب. والأولُ قولُ ابن عباس، والثاني قولُ عمر وعليٍّ وأبي هريرة والحسن بن عليٍّ وإحدى الروايتينِ عن ابن عباس. __________ (1) في "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 48). (2) هذا لفظ حديث أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2804) عن أبي موسى الأشعري.

(1/19)


وعن ابن عباس روايةٌ ثالثةٌ: أنَّه التسبيحُ باللسانِ أدبارَ الصَّلَواتِ المكتوبات (1). ثم ختَمَ السورة بذكر المعاد، ونداءِ المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر، وأخبرَ أنَّ هذا النداء من مكانٍ قريبٍ يَسمعُه كلُّ أحدٍ، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيحَةَ بِالْحَقِّ} [ق: 142]: بالبعث ولقاء الله، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ} كما تَتشقَّقُ عن النباتِ، فيَخرُجونَ {سِرَاعًا} من غير مُهلةٍ ولا بُطءٍ، ذلك حشرٌ يَسيرٌ عليه سبحانَه. ثم أخبر سبحانه أنَّه عالمٌ بما يقولُ أعداؤه، وذلك يَتضمَّنُ مُجازاتَهُ لهم بقولِهِم إذ لم يخْفَ عليه، وهو سبحانَه يذكُر علمَه وقدرتَه لتحقيقِ الجزاءِ. ثم أخبره (2) أنَّه ليس بمسلَّطٍ عليهم ولا قهَّارٍ ولم يُبْعَثْ لِيُجْبِرَهُم على الإسلام ويُكْرِهَهُم عليه، وأمَرَهُ أن يُذَكِّرَ بكلامِهِ مَنْ يَخافُ وعيدَه؛ فهو الذي ينتفعُ بالتذكير، وأما مَنْ لا يؤمنُ بلقائِهِ ولا يخافُ وعيدَه ولا يرجو ثوابَه؛ فلا ينتفع بالتذكير. فائدة قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لعمرَ: "وما يُدْرِيك أنَّ الله اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ، فقالَ: اعْمَلُوا ما شئْتُم؛ فقدْ غَفَرْتُ لكُم؟! " (3) أشْكَلَ على كثيرٍ من الناس __________ (1) انظر تفسير الطبري (21/ 473) وابن كثير (7/ 3298). (2) أي أخبر نبيَّه أنه غير مسلَّط عليهم. (3) أخرجه البخاري (4274، 4890) ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.

(1/20)


معناهُ؛ فإنَّ ظاهرَه إباحةُ كلِّ الأعمال لهم وتخييرُهم فيما شاؤوا منها، وذلك ممتنعٌ. فقالتْ طائفةٌ منهم ابن الجوزيِّ (1): ليس المرادُ من قولِهِ: "اعْمَلوا": الاستقبال، وإنَّما هو للماضي، وتقديرُهُ: أيُّ عمل كان لكم؛ فقد غَفرتُهُ. قال: ويَدُلُّ على ذلك شيئانِ: أحدُهما: أنَّه لو كان للمستقبل؛ كان جوابُهُ قولَه: سأَغْفِر لكم. والثاني: أنه كان يكونُ إطلاقًا في الذُّنوبِ، ولا وجه لذلك. وحقيقةُ هذا الجوابِ: أني قد غَفرتُ لكم بهذه الغزوةِ ما سلف من ذُنوبكم. لكنه ضعيفٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّ لفظ (اعملوا) يأباه؛ فإنه للاستقبال دون المُضِيِّ. وقولُه: "قَدْ غَفَرْتُ لكُم" لا يُوجِبُ أن يكون (اعملوا) مثلَه؛ فإنَّ قوله: "قَدْ غَفَرْتُ" تحقيقٌ لوقوع المغفَرةِ في المستقبل؛ كقولهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، ونظائره. الثاني: أن نفسَ الحديثِ يَرُدُّه؛ فإنَّ سببَه قصةُ حاطبٍ وجَسُّه (2) على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وذلك ذنبٌ واقعٌ بعد غزوةِ بدرٍ لا قبلَها، وهو سببُ الحديث؛ فهو مرادٌ منه قطعًا. فالذي نظنُّ في ذلك -والله أعلمُ- أنَّ هذا خطابٌ لقوم قد عَلِمَ الله سبحانه أنَّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنَّهم قد __________ (1) انظر "كشف مشكل الصحيحين" (1/ 142)، ونقله الحافظ في "الفتح" (8/ 635). (2) ط: "تجسسه"، وكلاهما بمعنى.

(1/21)


يُقارِفونَ بعضَ ما يُقارِفُهُ غيرُهم من الذُّنوب، ولكن لا يَترُكُهم سبحانه مُصرِّين عليها، بل يُوفِّقُهم لتوبةٍ نَصوحٍ واستغفارٍ وحسنات تمحو أثرَ ذلك، ويكونُ تخصيصُهم بهذا دون غيرهم، لأنَّه قد تَحقَّق ذلك فيهم وأنهم مغفورٌ لهم، ولا يمنعُ ذلك كونَ المغفرةِ حصلتْ بأسبابٍ تقومُ بهم؛ كما لا يقتضي ذلك أن يُعطِّلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة؛ فلو كانت قد حَصَلتْ بدون الاستمرار على القيام بالأوامر؛ لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حجٍّ ولا زكاةٍ ولا جهادٍ! وهذا محالٌ! ومن أوجب الواجباتِ التوبةُ بعد الذنب؛ فضَمانُ المغفرةِ لا يُوجِبُ تعطيلَ أسبابَ المغفرة. ونظيرُ هذا قولُه في الحديث الآخر: "أذْنَبَ عبدٌ ذنبًا، فقال: أي ربِّ! أذْنَبْتُ ذنبًا؛ فاغْفِرْهُ لي! فغفر لهُ. ثمَّ مكثَ ما شاء الله أن يمكُث، ثمَّ أذْنَبَ ذنبًا آخر، فقال: أي رَبِّ! أصَبْتُ ذنبًا؛ فاغْفِرْهُ لي! فغفرَ له. ثمَّ مكث ما شاء الله أن يمْكُثَ، ثمَّ أذْنَبَ ذنبًا آخر، فقال: رَبِّ! أصبْتُ ذنبًا؛ فاغْفِرْهُ لي! فقال الله: علِمَ عبدي أنَّ لهُ ربًّا يغْفِرُ الذَّنْبَ ويأخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لعبدي؛ فليَعْمَلْ ما شاءَ" (1) . فليس في هذا إطلاقٌ وإذنٌ منه سبحانه له في المحرَّماتِ والجرائم، وإنما يدلُّ على أنَّه يَغْفِرُ له ما دام كذلك إذا أذنب تابَ. واختصاصُ هذا العبد بهذا -لأنَّه قد علمَ أنَّه لا يُصِرُّ على ذنبٍ وأنَّه كلما أذنب تابَ- حكمٌ يَعُمُّ كلَّ من كانت حالُه حاله، لكنَّ ذلك العبد مقطوعٌ له بذلك كما قُطعَ به لأهل بدرٍ. __________ (1) أخرجه البخاري (7507) ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة.

(1/22)


وكذلك كلُّ من بَشَّرَهُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة أو أخبره بأنَّه مغفورٌ له؛ لم يَفْهَمْ منه هو ولا غيرُه من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومُسامَحتَهُ بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشدَّ اجتهادًا وحذرًا وخوفًا بعد البشارة منهم قبلَها؛ كالعشرةِ المشهودِ لهم بالجنة، وقد كان الصدِّيقُ شديد الحذَر والمخافةِ، وكذلك عمرُ؛ فإنَّهم علموا أن البشارة المطلقة مقيَّدةٌ بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيَّدةٌ بانتفاءِ موانِعها، ولم يَفهمْ أحدٌ منهم من ذلك الإطلاقَ والإذنَ فيما شاؤوا من الأعمال. فائدة جليلة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]. أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولًا مُنقادةً للوطءِ عليها وحَفْرِها وشَقِّها والبناءِ عليها، ولم يجعلها مستصعبةً ممتنعةً على من أراد ذلك منها. وأخْبَرَ سبحانه أنَّه جعلها مهادًا وفراشًا وبساطًا وقرارًا وكفاتًا. وأخْبَرَ أنَّه دحاها وطحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها، وثبَّتَها بالجبال، ونهج فيها الفجاج والطُّرُقَ، وأجرى فيها الأنهار والعيون، وبارك فيها وقدَّرَ فيها أقواتها. ومن بركتِها أنَّ الحيوانات كلَّها وأرزاقها وأقواتها تخرُجُ منها، ومن بركتها أنك تُودِعُ فيها الحَبَّ فتُخرِجه لك أضعافَ أضعافِ ما كان، ومن بركتها أنَّها تحملُ الأذى على ظهرها، وتُخْرِجُ لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها؛ فتُوارِي منه كلَّ قبيح وتخرجُ له كلَّ مليح. ومن بركتها أنها تَسْتُرُ قبائحَ العبدِ وفَضَلاتِ بدنِهِ وتُواريها، وتضمُّه وتُؤويه، وتُخرجُ له طعامه وشرابه؛ فهي أحملُ شيءٍ للأذى وأعودُه بالنفع. فلا كان من الترابِ خيرٌ منه وأبعدُ من الأذى وأقربُ إلى

(1/23)


الخير (1) . والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذَّلول الذي كيفما يُقادُ ينقادُ. وحَسُنَ التعبيرُ بمناكبها عن طُرُقِها وفجاجِها لما تقدَّم من وصفها بكونها ذلولًا؛ فالماشي عليها يَطأُ على مناكبَها، وهي (2) أعلى شيءٍ فيها، ولهذا فُسِّرت المناكب بالجبال؛ كمناكب الإنسان، وهي أعاليه. قالوا: وذلك تنبيهٌ على أن المشي في سهولِها أيسرُ. وقالت طائفةٌ: بل المناكب الجوانبُ والنواحي، ومنه مناكبُ الإنسانِ لجوانبه. والذي يظهرُ أن المراد بالمناكب الأعالي، وهذا الوجهُ الذي يمشي عليه الحيوانُ هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له؛ فإنَّ سطح الكُرَةِ أعلاها، والمشيُ إنَّما يَقعُ في سَطْحِها، وحسُنَ التعبيرُ عنه بالمناكب لما تقدَّم من وصفها بأنَّها ذَلولٌ. ثم أمرَهُم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها؛ فذَلَّلها لهم، ووطَّأها، وفتَقَ فيها السُّبُل والطرق التي يمشون فيها، وأوْدَعَها رِزْقَهم؛ فذَكَرَ تهيئة المسكن للانتفاع والتقلُّب فيه بالذَّهابِ والمجيء والأكَل مما أُوْدِعَ فيه للساكن. ثم نبَّه بقولِهِ: {وَإِلَيهِ النُّشُورُ (15) } على أنَّا في هذا المسكن غيرُ مستوطنين ولا مقيمين، بل دخلْناه عابرِي سبيلٍ؛ فلا يَحْسُنُ أن نتَّخِذَه __________ (1) يعني أنه ليس هناك شيء حاصل من التراب خيرًا من التراب وأقرب إلى الخير منه. (2) في الأصل: "هو".

(1/24)


وطنًا ومستقرًّا، وإنما دخلْناه لنتزوَّدَ منه إلى دارِ القرارِ؛ فهو منزلُ عُبورٍ لا مستقرُّ حُبورٍ، ومَعْبرٌ ومَمرٌّ لا وطنٌ ومُستقَرٌّ. فتضمَّنت الآيةُ الدِّلالةَ على ربوبيتِهِ ووحدانيتِهِ وقدرتِهِ وحكمتِهِ ولطفِهِ، والتذكير بِنعَمِهِ وإحسانه، والتحذير من الركونِ إلى الدُّنيا واتِّخاذِها وطنًا ومستَقرًّا، بل نُسرعُ فيها السير إلى دارِهِ وجنَّتِهِ. فلله ما في ضمنِ هذه الآيةِ من معرفتِهِ، وتوحيدِهِ، والتذكير بِنعَمِهِ، والحَثِّ على السير إليه والاستعدادِ للقائِهِ والقدوم عليه، والإعلامِ بأنَّه سبحانَه يَطوي هذه الدارَ كأنْ لم تكنْ، وأنَّه يُحيي أهلَها بعدما أماتَهم، وإليه النُّشورُ. فائدة للإنسانِ قوَّتانِ: قوةٌ علميةٌ نظريةٌ، وقوةٌ عمليةٌ إراديةٌ. وسعادتُهُ التامَّةُ موقوفةٌ على استكمال قوَّتيهِ العلميةِ والإرادية. واستكمالُ القوةِ العلميةِ إنَّما يكونُ: بمعرفة فاطرِهِ وبارئِهِ، ومعرفةِ أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه (1)، ومعرفة الطريق التي تُوصِلُ إليه ومعرفة آفاتِها، ومعرفةِ نفسِهِ ومعرفةِ عيوبِها؛ فبهذه المعارفِ الخمسة (2) يحصُلُ كمالُ قوَّتِهِ العلمية، وأعلمُ الناس أعرَفُهم بها وأفقهُهم فيها. واستكمالُ القوةِ العملية الإرادية لا يَحْصُلُ إلا بمراعاةِ حقوقِهِ سبحانَه على العبد والقيامِ بها إخلاصًا وصدقًا ونُصحًا وإحسانًا ومتابعةً __________ (1) "وأفعاله" ساقطة من ط. (2) ط: "الخمس".

(1/25)


وشُهودًا لمِنَّتِهِ عليه وتقصيرِهِ هو في أداءِ حقِّه؛ فهو مُسْتَحْي من مُواجَهتِهِ بتلك الخدمةِ؛ لعلمِهِ أنها دونَ ما يَستحقُّه عليه ودونَ دونِ ذلك، وأنَّه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونتِهِ؛ فهو مضطرٌّ إلى أنْ يَهدِيَهُ الصراطَ المستقيمَ الذي هَدى إليه أولياءَهُ وخاصَّتَهُ، وأن يُجنِّبَهُ الخروج عن ذلك الصراطِ: إما بفسادٍ في قوتِهِ العلميةِ فيقعُ في الضَّلال، وإما في قوتِهِ العمليةِ فيُوجِبُ له الغضبَ. فكمالُ الإنسانِ وسعادتُهُ لا تَتِمُّ إلا بمجموع هذه الأمور، وقد تضمَّنَتْها سورةُ الفاتحة وانتظمتْها أكمل انتظام: فإنَّ قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4] يتضمَّنُ الأصلَ الأول، وهو معرفةُ الربِّ تعالى ومعرفةُ أسمائِهِ وصفاتِه وأفعالِهِ. والأسماءُ المذكورةُ في هذه السورة هي أصولُ الأسماءِ الحسنى، وهي اسمُ اللهِ والربِّ والرحمن؛ فاسم الله متضمِّنٌ لصفات الألوهيَّةِ، واسمُ الربِّ متضمِّنٌ لصفاتِ الربوبيَّةِ، واسمُ الرحمن متضمِّنٌ لصفاتِ الإحسانِ والجودِ والبرِّ. ومعاني أسمائه تدورُ على هذا. وقولُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] يتضمَّنُ معرفة الطريق المُوصِلةِ إليه، وأنها ليستْ إلَّا عبادتَهُ وحدَه بما يُحِبُّه ويرضاهُ واستعانتَهُ على عبادتِهِ. وقولُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] يتضمَّن بيانَ أنَّ العبد لا سبيل له إلى سعادتِهِ إلا باستقامتِهِ على الصراطِ المستقيم، وأنَّه لا سبيلَ له إلى الاستقامةِ إلَّا بهداية ربِّه له؛ كما لا سبيلَ له إلى عبادتِهِ إلَّا بمعونتِهِ؛ فلا سبيلَ لهُ إلى الاستقامة على الصراط إلَّا بهدايتِهِ.

(1/26)


وقولُهُ: {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] يتضمَّنُ بيانَ طرفَي الانحراف عن (1) الصراط المستقيم، وأنَّ الانحراف إلى أحد الطرفين انحرافٌ إلى الضَّلال الذي هو فسادُ العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطرف الآخر انحرافٌ إلى الغضب الذي سببُهُ فسادُ القصدِ والعمل. فأولُ السورة رحمةٌ، وأوسطُها هدايةٌ، وآخرُها نعمةٌ. وحَظُّ العبدِ من النعمةِ على قَدْرِ حَظِّهِ من الهداية، وحظُّه منها على قَدْرِ حظِّه من الرحمةِ. فعادَ الأمرُ كلُّه إلى نعمتِهِ ورحمتِهِ. والنعمةُ والرحمةُ من لوازم ربوبيَّتِهِ؛ فلا يكونُ إلا رحيمًا مُنعِمًا، وذلك من موجباتِ إلهيتِهِ؛ فهو الإله الحقُ وإنْ جَحَدَهُ الجاحدونَ وعدَلَ به المشركون. فمن تحقَّق بمعاني الفاتحةِ علمًا ومعرفةً وعملًا وحالًا؛ فقد فاز من كمالِهِ بأوفرِ نصيبٍ، وصارتْ عبوديتُه عبوديَّةَ الخاصَّةِ الذين ارتفعتْ درجتُهم عن عوامِّ المتعبِّدينَ. والله المستعان (2). __________ (1) في الأصل: "إلى". (2) تكلم المؤلف على معاني سورة الفاتحة في "مدارج السالكين".

(1/27)


فائدة الربُّ تعالى يدعو عباده في القرآنِ إلى معرفتِهِ من طريقين: أحدُهما: النظرُ في مفعولاتِهِ. والثاني: التفكُّر في آياتِهِ وتدبُّرُها؛ فتلك آياتُهُ المشهودةُ، وهذه آياتُهُ المسموعةُ المعقولةُ. فالنوع الأول: كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إلى آخرها [البقرة: 164] وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِـ (190)} [آل عمران: 190] وهو كثيرٌ في القرآنِ. والثاني: كقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقولهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وهو كثيرٌ أيضًا. فأمّا المفعولاتُ فإنَّها دالَّةٌ على الأفعال، والأفعالُ دالَّةٌ على الصفات؛ فإنَّ المفعولَ يدلُّ على فاعلٍ فَعَلَه، وذلك يَستلزمُ وجودَه وقدرتَه ومشيئتَه وعلمَه؛ لاستحالة صدور الفعل الاختياريِّ من معدوم أو موجودٍ لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة. ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوِّعة دالٌّ على إرادة الفاعل وأنَّ فعله ليس بالطبع بحيثُ يكونُ واحدًا غير متكرر (1)، وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دالٌّ على حكمته تعالى، وما فيها من النفع والإحسان والخير دالٌّ على رحمته، وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دالٌّ على غضبِهِ، وما فيها من الإكرام والتقريب __________ (1) في الأصل: "منكر".

(1/28)


والعناية دالٌّ على محبته، وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دالٌّ على بِغضته ومَقتِه، وما فيها من ابتداءِ الشيءِ في غايةِ النقص والضَّعْفِ ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دالٌّ على وقوع المعاد، وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرُّف المياه دليلٌ على إمكان المعاد، وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليلٌ على صحة النُّبُوَّات، وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليلٌ على أنَّ مُعطي تلك الكمالات أحقُّ بها؛ فمفعولاتُهُ من أدلِّ شيءٍ على صفاتِهِ وصِدْقِ ما أخبرتْ به رسُلُه عنه. فالمصنوعاتُ شاهدة تُصدِّقُ الآياتِ المسموعاتِ، منبِّهةٌ على الاستدلال بالآياتِ المصنوعات. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]؛ أي: أنَّ القرآن حقٌّ؛ فأخبر أنه لا بدَّ أن يُريهم من آياتِهِ المشهودة ما يُبَيِّنُ لهم أنَّ آياتِهِ المتلوَّة حقٌّ، ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدَّلائل والبراهين على صدق رسولِهِ؛ فآياتُهُ شاهدةٌ بصدقِهِ، وهو شاهدٌ بصدقِ رسولِهِ بآياته؛ فهو الشاهدُ والمشهودُ له، وهو الدليلُ والمدلولُ عليه؛ فهو الدليلُ بنفسه على نفسه؛ كما قال بعضُ العارفين: كيف أطلبُ الدليل على من هو دليلٌ لي على كلِّ شيءٍ؟! فأيُّ دليلٍ طلبتُه عليه؛ فوجودُه أظهرُ منه. ولهذا قال الرسلُ لقومِهِم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]؟! فهو أعرف من كلِّ معروفٍ، وأبينُ من كلِّ دليل؛ فالأشياءُ عُرِفَتْ به في الحقيقة، وإنْ كان عُرِفَ بها في النظر والاستدلال بأفعالِهِ وأحكامِهِ عليه.

(1/29)


فائدة في "المسند" و"صحيح أبي حاتم" (1) من حديث عبد الله بن مسعودٍ قال: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب عَبْدًا هَمٌّ ولا حَزَنٌ، فقال: اللهمَّ! إنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عبْدكَ، ابنُ أمَتِكَ، ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدْلٌ فيَّ قضاؤكَ، أسألُكَ بكُلِّ اسْمٍ هُوَ لك؛ سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أو أنْزَلْتَهُ في كِتابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحدًا مِنْ خَلقِكَ، أو اسْتأثَرْتَ بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعلَ القُرْآنَ ربيع قلبي، ونُور صَدري، وجِلاءَ حُزْني، وذَهَاب همِّي وغَمِّي؛ إلَّا أذْهبَ الله همَّهُ وغمَّهُ وأبدلهُ مكَانهُ فرحًا". قالوا: يا رسول الله! أفلا نتعلَّمُهُنَّ؟ قال: "بلى؛ ينْبغي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أن يَتَعلَّمهُنَّ". فتضمَّن هذا الحديثُ العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية: • منها: أنَّ الدَّاعي به صدَّرَ سؤاله بقوله: "إنِّي عَبدُك ابْنُ عبدِك ابنُ أمتِك"، وهذا يتناولُ من فوقَهُ من آبائِهِ وأمهاتِهِ إلى أبويْهِ آدمَ وحوَّاء، وفي ذلك تملُّقٌ له، واستخذاءٌ بين يديه، واعترافٌ بأنَّه مملوكُه وآباؤه مماليكُه، وأن العبد ليس له غيرُ بابِ سيِّدِهِ وفضلِهِ وإحسانِهِ، وأنَّ سيِّدَهُ إن أهمله وتخلَّى عنه هلك، ولم يُؤْوهِ أحدٌ، ولم يَعطِفْ عليه، بل يَضِيعُ أعظمَ ضَيعةٍ. فتحت هذا الاعتراف: أنِّي لا غِنًى بي عنك طرْفَة عينٍ، وليس لي __________ (1) أخرجه أحمد (1/ 391، 452) وابن حبان (972)، ورواه أيضًا أبو يعلى (5297) والطبراني في الكبير (10352) والحاكم في المستدرك (1/ 509)، وصححه الحاكم وغيره.

(1/30)


من أعوذُ بِهِ وألوذُ به غير سيِّدي الذي أنا عبدُه. وفي ضِمْنِ ذلك الاعتراف بأنَّه مربوبٌ، مُدَبَّرٌ، مأمورٌ، منهيٌّ، إنَّما يتصرفُ بحُكم العبوديَّة لا بحكم الاختيار لنفسه؛ فليس هذا شأنَ العبدِ بل شأنُ الملوكِ والأحرارِ، وأما العبيدُ فتَصَرُّفُهُم على مَحْض العبوديَّة. فهؤلاء عَبِيدُ الطاعةِ المضافون إليه سبحانه في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، ومن عداهم عَبِيدُ القَهْرِ والرُّبوبيَّة؛ فإضافتُهم إليه كإضافة سائر البيوتِ إلى مُلْكِهِ، وإضافةُ أولئك كإضافة البيت الحرام إليه وإضافة ناقتِهِ إليه ودارِهِ التي هيِ الجنةُ إليه، وإضافةِ عبوديَّةِ رسولِهِ إليه؛ بقولِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]. وفي التحقُّق بمعنى قولِهِ: "إنِّي عبدُك": التزامُ عبوديَّتِهِ من الذُلِّ والخُضوعِ والإنابة، وامتثالُ أمرِ سيدِهِ، واجتنابُ نهيِهِ، ودوامُ الافتقارِ إليه، واللَّجَأ إليه، والاستعانةِ به، والتوكُّل عليه، وعياذِ العبدِ به، ولِياذِهِ به، وأن لا يتعلَّقَ قلبُهُ بغيرِهِ محبَّةً وخوفًا ورجاءً. وفيه أيضًا أني عبدٌ من جميع الوجوه، صغيرًا وكبيرًا، حيًّا وميِّتًا، مطيعًا وعاصيًا، مُعافًى ومبتلًى؛ بالروح والقلب واللسان والجوارح. وفيه أيضًا أن مالي ونفسي مُلكٌ لك؛ فإن العبد وما يَملِكُ لسيدِه. وفيه أيضًا أنَّكَ أنت الذي مننْتَ عليَّ بكلِّ ما أنا فيه من نعمةٍ؛ فذلك كلُّه من إنعامك على عبدك.

(1/31)


وفيه أيضًا: أنِّي لا أتصرَّف فيما خوَّلْتَني من مالي ونفسي إلا بأمرك؛ كما لا يتصرَّفُ العبدُ إلا بإذنِ سيِّدِهِ، وأنِّي لا أملكُ لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا. فإن صحَّ له شهودُ ذلك؛ فقد قال: إنِّي عبدُك حقيقةً. • ثم قال: "ناصيتي بيدِكَ"؛ أي: أنت المتصرِّفُ فيَّ، تُصرِّفُني كيف تشاءُ، لستُ أنا المتصرِّف في نفسي. وكيف يكونُ له في نفسه تصرُّفٌ [وهو] منْ نفسُهُ بيدِ ربِّه وسيِّدِهِ، وناصيتُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ (1)، وموتُهُ وحياتُهُ وسعادتُهُ وشقاوتُهُ وعافيتُهُ وبلاؤهُ كلُّه إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيءٌ، بل هو في قبضةِ سيِّدِهِ أضعفُ من مملوكٍ ضعيفٍ حقيرٍ ناصيتُهُ بيدِ سلطانٍ قاهرٍ مالكٍ له تحت تصرُّفِهِ وقهرِهِ، بل الأمرُ فوق ذلك؟! ومتى شهِدَ العبدُ أنَّ ناصيتَهُ ونواصيَ العبادِ كلَّها بيدِ الله وحدَه يُصرِّفُهم كيف يشاءُ؛ لم يَخَفْهُم بعد ذلك، ولم يَرْجُهُم، ولم يُنْزِلْهُمْ منزلة المالكين، بل منزلةَ عَبِيدٍ مقهورين مربوبينَ، المتصرِّفُ فيهم سواهُم، والمدبِّرُ لهم غيرُهم. فمن شَهِدَ نفسَهُ بهذا المشهدِ؛ صارَ فَقْرُهُ وضرورتُهُ إلى ربِّه وصفًا لازمًا له، ومتى شهدَ الناسَ كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يُعلِّقَ أملَه ورجاءَه بهم، فاستقامَ توحيدُه وتوكُّلُه وعبوديتُهُ. ولهذا قال هودٌ لقومِهِ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2654) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(1/32)


• وقوله: "ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدْلٌ فِيَّ قضاؤكَ": تضمَّنَ هذا الكلامُ أمرينِ: أحدُهُما: مضاءُ حكمِهِ في عبدِهِ. والثاني: يتضمَّن حمدَه وعدلَه، وهو سبحانه له المُلْكُ وله الحمدُ. وهذا معنى قولِ نبيِّهِ هودٍ: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، ثم قال: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) أي: مع كونِهِ مالكًا قاهرًا متصرِّفًا في عبادِهِ نواصيهم بيدِهِ؛ فهو على صراطٍ مستقيم، وهو العدلُ الذي يتصرَّفُ بِهِ فيهم؛ فهو على صراطٍ مستقيم في قولِهِ وفعلِهِ وقضائِهِ وقَدَرِهِ وأمرِهِ ونهيِهِ وثوابِهِ وعقابِهِ، فخبرُهُ كلُّه صدقٌ، وقضاؤُهُ كلُّه عدلٌ، وأمرُهُ كلُّه مصلحةٌ، والذي نهى عنه كلُّهُ مفسدةٌ، وثوابُهُ لمنْ يَستحقُّ الثوابَ بفضلِهِ ورحمتِه، وعقابُهُ لمن يَستحقُّ العقابَ بعدلِهِ وحِكمتِهِ. وفرَّقَ بين الحكم والقضاءِ، وجَعَلَ المَضاءَ للحكم والعدلَ للقضاءِ: فإن حُكْمَهُ سبحانه يتناولُ حُكْمَهُ الدينيَّ الشرعيَّ وحكمَهُ الكونيَّ القدريَّ، والنوعانِ نافذان في العبدِ ماضيان (1) فيه، وهو مقهورٌ تحت الحكمين، قد مضيا فيه ونفذا فيه شاء أم أبي، لكن الحكمُ الكونيُّ لا يُمْكِنُهُ مخالفتُهُ، وأما الدينيُّ الشرعيُّ فقد يخالِفُه. ولما كان القضاءُ هو الإتمامُ والإكمالُ، وذلك إنما يكون بعد مُضيِّه ونفوذِهِ؛ قال: "عَدْلٌ فيَّ قضاؤك"؛ أي: الحكمُ الذي أكملتَهُ وأتممتَهُ ونفَّذْتَهُ في عبدِكَ عدلٌ منك فيه. وأما الحكمُ فهو ما يَحْكُمُ به سبحانه، وقد يشاءُ تنفيذَه وقد لا يُنَفِّذُهُ؛ فإنْ كان حُكمًا دينيًّا، فهو ماضٍ في العبدِ، وإنْ كان كونيًّا؛ فإن __________ (1) في الأصل: "نافذة ... ماضية".

(1/33)


نَفَّذَهُ سبحانَه مضى فيه، وإن لم يُنَفِّذْهُ انْدَفَعَ عنه. فهو سبحانه يُمضيِ (1) ما يقضي به، وغيرُه قد يَقضي بقضاءٍ ويُقدِّرُ أمرًا ولا يستطيعُ تنفيذه، وهو سبحانه يَقْضي ويُمْضي؛ فله القضاءُ والإمضاءُ. وقولُه: "عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ": يتضمَّنُ جميعَ أقضيتِه في عبدِهِ من كلِّ الوجوهِ؛ من صحةٍ وسُقْم، وغنًى وفقرٍ، ولذةٍ وألم، وحياةٍ وموتٍ، وعقوبةٍ وتجاوزٍ وغير ذلك؛ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى: 48]؛ فكلُّ ما يقضي على العبد فهو عدلٌ فيه. فإن قيلَ: فالمعصيةُ عندكم بقضائِهِ وقدَرِهِ؛ فما وجهُ العدل في قضائِها؛ فإنَّ العدلَ في العقوبة عليها ظاهر؟! قيلَ: هذا سؤالٌ له شأنٌ، ومن أجلِهِ: زعمتْ طائفةٌ أنَّ العدلَ هو المقدورُ، والظلمَ ممتنعٌ لذاتِهِ. قالوا: لأن الظُّلْمَ هو التصرفُ في مُلْكِ الغير، والله له كل شيءٍ؛ فلا يكونُ تصرُّفُهُ في خلْقِهِ إلا عدلًا! وقالتْ طائفةٌ: بل العدلُ أنه لا يُعاقِبُ على ما قضاهُ وقدَّرَهُ، فلما حَسُنَ منه العقوبة على الذنبِ عُلِمَ أنه ليس بقضائه وقدره فيكون العدلُ هو جزاؤه على الذنبِ بالعقوبَة والذَّمِّ، إما في الدُّنيا وإما في الآخرة! __________ (1) في الأصل: "يقضي".

(1/34)


وصعُبَ على هؤلاء الجمعُ بين العدل وبين القدر، فزعموا أنَّ من أثبت القدر لم يُمكِنْهُ أن يقول بالعدل، ومن قال بالعدل لم يُمكِنْهُ أن يقول بالقدر! كما صعب الجمعُ بين التوحيد وإثبات الصفات، فزعموا أنه لا يُمكِنُهم إثباتُ التوحيد إلا بإنكار الصفات! فصار توحيدهم تعطيلًا، وعدلهم تكذيبًا بالقدر!! وأما أهلُ السُّنَّة فهم مُثبتون للأمرين، والظُّلم عندهم هو وَضْعُ الشيءِ في غير موضعه؛ كتعذَيب المطيع ومن لا ذَنْبَ لهُ، وهذا قد نزَّه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه. وهو سبحانه وإن أضلَّ من شاء، وقَضَى بالمعصية والغَيِّ على من شاء؛ فذلك محضُ العدل فيه، لأنَّه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به. كيف ومن أسمائه الحُسنى العَدْلُ، الذي كلُّ أفعاله وأحكامه سدادٌ وصوابٌ وحقٌّ؟! وهو سبحانه قد أوضح السُّبُلَ، وأرسل الرُّسُلَ، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول. وهذا عدلُه. ووفَّقَ من شاء بمزيد عنايةٍ، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفِّقَه. فهذا فضلُه. وخَذَلَ من ليس بأهلٍ لتوفيقه وفضله، وخلَّى بينه وبين نفسه، ولم يُرِدْ سبحانه من نفسه أن يوفِّقَهُ، فقطع عنه فضله ولم يَحرِمْه عدله. وهذا نوعان: أحدُهما: ما يكون جزاءً منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدُوِّه في الطاعة والموافقة عليه، وتناسى ذِكره وشكره، فهو أهلٌ أن يخذُلَهُ ويتخلَّى عنه. والثاني: أن لا يشاءَ له ذلك ابتداءً؛ لما يَعلمُ منه أنه لا يعرف قدر

(1/35)


نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يُثني عليه بها، ولا يحبُّه؛ فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محلِّهِ؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنْ بَينِنَا أَلَيسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]، وقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]؛ فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية؛ كان ذلك محض العدل؛ كما إذا قضى على الحيَّةِ بأنْ تُقْتَل وعلى العقرب وعلى الكلبِ العقور (1)؛ كان ذلك عدلًا فيه، وإنْ كان مخلوقًا على هذه الصفة. وقد استوفَينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاءِ والقدر (2). والمقصودُ أنَّ قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ": ردٌّ على الطائفتين: القدريَّة الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده، ويُخرِجون أفعال العبادِ عن كونها بقضائه وقدره، ويردُّون القضاء إلى الأمر والنَّهي! وعلى الجبْريَّة الذين يقولون: كلُّ مقدورٍ عدلٌ! فلا يبقى لقولِهِ: "عدْلٌ فيَّ قضاؤُك": فائدةٌ؛ فإنَّ العدل عندهم كلُّ ما يمكنُ فعلُه، والظلمُ هو المحالُ لذاتِهِ! فكأنَّه قال: ماضٍ ونافذٌ فيَّ قضاؤُك. وهذا هو الأولُ بعيِنهِ. • وقولُهُ: "أسألُكَ بكلِّ اسم ... " إلى آخرِهِ: توسُّلٌ إليه بأسمائه كلِّها؛ ما علم العبدُ منها وما لم يعلم. وهذه أحبُّ الوسائل إليه؛ فإنَّها __________ (1) ورد في قتل الحية حديث أخرجه البخاري (1830) عن ابن مسعود. وفي قتل العقرب والكلب العقور أحاديث منها ما أخرجه البخاري (1828) ومسلم (1200) عن حفصة رضي الله عنها. (2) يعني كتابه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل".

(1/36)


وسيلةٌ بصفاتِهِ وأفعالِهِ التي هي مدلولُ أسمائِهِ. • وقولُهُ: "أنْ تجعل القُرْان ربيعَ قلبي ونورَ صدري": الربيعُ: المطرُ الذي يُحيي الأرض؛ شبَّه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبَّهَهُ الله بالمطر، وجمع بين الماء الذي تحصُلُ به الحياةُ والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق؛ كما جمع بينهما سبحانه في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} [الرعد: 17]. وفي قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]. وفي قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} الآيات [النور: 35]. ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ} الآية [النور: 43]. فتضمَّنَ الدعاءُ أن يُحيي قلبه بربيع القرآن وأن يُنَوِّرَ به صدرهُ فتجتمع له الحياةُ والنورُ؛ قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. ولما كان الصدرُ أوسع من القلب؛ كان النورُ الحاصلُ له يَسرِي منهُ إلى القلب؛ لأنَّه قد حصل لما هو أوسعُ منه. ولما كانتْ حياةُ البدنِ والجوارح كلِّها بحياة القلب، تَسرِي الحياةُ منه إلى الصدرِ ثم إلى الجوارح؛ سألَ الحياة له بالربيع الذي هو مادتُها. ولما كان الحُزْنُ والهمُّ والغمُّ يُضادُّ حياة القلبِ واستنارتَهُ؛ سألَ أن يكون ذَهابُها بالقرآن؛ فإنَّها أحرى أن لا تعود، وأما إذا ذَهبتْ بغير القرآن من صحةٍ أو دنيا أو جاهٍ أو زوجةٍ أو ولدٍ؛ فإنَّها تعودُ بذهاب ذلك. والمكروه الواردُ على القلب: إن كان من أمرٍ ماضٍ؛ أحدث

(1/37)


الحزن، وإن كان من مستقبل؛ أحدث الهمَّ، وإن كان من أمرٍ حاضرٍ؛ أحدث الغَمَّ. والله أعلم. فائدة أنزَهُ الموجودات وأطهَرُها وأنوَرُها وأشرفُها وأعلاها ذاتًا وقَدْرًا وأوسعُها عرشُ الرحمن جلَّ جلالُه، ولذلك صلح لاستوائه عليه. وكلُّ ما كان أقربَ إلى العرش؛ كان أنور وأنْزَه وأشرف مما بعدَ عنه. ولهذا كانت جنةُ الفردوسِ أعلى الجِنانِ وأشرفها وأنورها وأجلَّها؛ لقُربِها من العرش؛ إذ هو سَقْفُها (1). وكلُّ ما بعدَ عنه كان أظلم وأضيق. ولهذا كان أسفل سافلينَ شرَّ الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كلِّ خيرٍ. وخَلَق الله القلوب وجعلها محلًّا لمعرفتِهِ ومحبَّتِهِ وإرادتِهِ؛ فهي عرشُ المثل الأعلى الذي هو معرفتُه ومحبتُه وإرادتُه. قال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]، وقال تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11]؛ فهذا من المثل الأعلى، وهو مستوٍ على قلب المؤمن؛ فهو عرشُه. وإن لم يكن أطهرَ الأشياء وأنزهَها وأطيَبها وأبعدَها من كل دنس وخبث؛ لم يصلُحْ لاستواء، المثل الأعلى عليه معرفةً ومحبةً وإرادةً، فاستوى __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (7423) عن أبي هريرة مرفوعًا، وفيه: "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

(1/38)


عليه مثلُ الدُّنيا الأسفلُ ومحبتُها وإرادتُها والتعلُّق بها، فضاق وأظلم وبعد من كمالِهِ وفلاحه. حتى تعود القلوبُ على قلبين: قلبٍ هو عرشُ الرحمن؛ ففيه النورُ والحياة والفرحُ والسرور والبهجةُ وذخائرُ الخير. وقلبٍ هو عرشُ الشيطان؛ فهناك الضِّيقُ والظلمة والموتُ والحزن والغمُّ والهمُّ؛ فهو حزينٌ على ما مضى، مهمومٌ بما يُستقْبَلُ، مغمومٌ في الحال. وقد روى التِّرمذيُّ وغيره (1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أنَّه قال: "إذا دخل النُّورُ القلبَ انْفسَحَ وانشرحَ". قالوا: فما علامةُ ذلك يا رسول الله؟ قال: "الإنابةُ إلى دار الخلود، والتَّجافي عن دار الغُرور، والاستعدادُ للموت قبل نُزولِهِ". والنور الذي يدخُلُ القلب إنَّما هو من آثارِ المثل الأعلى؛ فلذلك ينفسحُ وينشرحُ، وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبتُه؛ فحطُه الظُّلْمةُ والضِّيق. فائدة تأمَّلْ خطابَ القرآن، تجدْ ملكًا له الملك كلُّه وله الحمدُ كلُّه، أزِمَّةُ الأمور كلِّها بيدَيْه ومصدَرُها منه ومردُّها إليه، مستويًا على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافيةٌ في أقطار مملكتِهِ، عالِمًا بما في نفوس عبيدِهِ، مُطَّلِعًا على إسرارِهِم وعلانِيَتِهِم، منفردًا بتدبير المملكة، يَسمعُ ويَرى، __________ (1) لم أجده في سنن الترمذي، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 311) عن ابن مسعود، وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: "عدي ساقط". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (965) وأطال في تخريجه وبيان طرقه.

(1/39)


ويُعطِي ويَمنعُ، ويُثيبُ ويعاقِبُ، ويُكْرِمُ ويُهِيْن، ويخلُق ويرزُقُ، ويُميتُ ويُحْيي، ويُقدِّرُ ويَقضي ويُدبِّر، الأمورُ نازلةٌ من عنده دقيقُها وجليلُها وصاعدةٌ إليه، لا تتحرَّكُ ذرَّةٌ إلا بإذِنِه، ولا تسقطُ ورقةٌ إلا بعلمِهِ. فتأمَّلْ كيف تجِدُهُ يُثْني على نفسِهِ، ويُمجِّد نفسه، ويحمدُ نفسه، وينصِح عباده، ويدُلُّهم على ما فيه سعادتُهم وفلاحُهم، ويُرغِّبُهم فيه، ويُحذِّرُهم مما فيه هلاكُهم، ويتعرَّفُ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ، ويَتحبَّبُ إليهم بنعمِهِ وآلائِهِ؛ فيُذكِّرهم ييعَمِه عليهم ويَأمرهم بما يستوجبون به تمامَها، ويُحذِّرهم من نِقَمِه ويُذكِّرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدَّ لهم من العقوبة إن عصوهُ، ويُخبِرُهم بصنعِهِ في أوليائِهِ وأعدائِهِ، وكيف كانت عاقبةُ هؤلاءِ وهؤلاءِ، ويُثني على أوليائِهِ بصالح أعمالِهِم وأحسن أوصافهم، ويذمُّ أعداءه بسيِّىءِ أعمالِهِم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، ويُنوِّعُ الأدلة والبراهين، ويُجيب عن شُبه أعدائِهِ أحسنَ الأجوبة، ويُصدِّقُ الصادق، ويكذِّبُ الكاذب، ويقولُ الحقَّ، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام ويَذكُرُ أوصافها وحُسنها ونعيمها، ويُحذِّرُ من دار البوار ويَذكُرُ عذابها وقبحها وآلامها، ويُذكِّرُ عباده فقرهم إليه وشدَّة حاجتهم إليه من كلِّ وجهٍ، وأنَّهم لا غِنًى لهم عنه طرفةَ عينٍ، ويذكُرُ غِناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنيُّ بنفسه عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بنفسه، وأنه لا ينالُ أحدٌ ذرَّةً من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرَّة من الشر فما فوقها إلا بعدلِهِ وحكمتِهِ. ويشهدُ من خطابه عتابَهُ لأحبابهِ ألطفَ عتابٍ، وأنه مع ذلك مُقِيلٌ عثراتهم، وغافرٌ زلَّاتِهم، ومُقيمٌ أعذارهم، ومُصلحٌ فسادهم، والدافع

(1/40)


عنهم، والمُحامي عنهُم، والناصرُ لهم، والكفيلُ بمصالحهم، والمُنجي لهم من كلِّ كربٍ، والمُوفِي لهم بوعده، وأنَّه وليُّهم الذي لا وليَّ لَهم سواهُ؛ فهو مولاهم الحقُ، ونَصيرُهم على عدوِّهم؛ فنعم المولى ونعم النصيرُ. فإذا شَهدتِ القلوبُ من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جوادًا جميلًا هذا شأنُهُ، فكيف لا تُحِبُّه، وتُنافِسُ في القُرْب منه، وتُنْفِقُ أنفاسها فيِ التودُّد إليه، ويكون أحبَّ إليها من كل ما سواه، ورضاهُ آثر عندها من رِضى كلِّ ما سواه؟! وكيف لا تلهَجُ بذكْرِهِ، ويصير حبُّه والشوقُ إليه والأُنسُ به هو غذاءها وقُوتَها ودواءَها؛ بحيثُ إن فقدتْ ذلك، فسدتْ وهلكتْ ولم تَنتفعْ بحياتِها؟! فائدة قَبولُ المَحلِّ لما يُوضع فيه مشروطٌ بتفريغه من ضدِّه، وهذا كما أنَّه في الذَّواتِ والأعيان؛ فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات: فإذا كان القلبُ ممتلئًا بالباطل اعتقادًا ومحبةً؛ لم يبْقَ فيه لاعتقاد الحقِّ ومحبتِهِ موضعٌ؛ كما أنَّ اللسان إذا اشتغلِ بالتكلُّم بما لا ينفعُ؛ لم يَتمكَّنْ صاحبُهُ من النُّطق بما ينفعُهُ؛ إلا إذا فرَّغ لسانه من النُّطق بالباطل، وكذلك الجوارحُ إذا اشتغلت بغير الطاعة؛ لم يُمكن شغلها بالطَّاعة إلَّا إذا فرَّغها من ضدِّها. فكذلك القلبُ المشغولُ بمحبَّة غير الله وإرادته والشوق إليه والأُنْس به لا يُمكن شغلُهُ بمحبة الله وإرادتِهِ وحبِّه والشوق إلى لقائه؛ إلا بتفريغِهِ من تعلُّقه بغيره، ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمتِهِ؛ إلَّا إذا فرَّغها من ذكر غيره وخدمته؛ فإذا امتلأ القلبُ بالشُّغْل بالمخلوق والعلوم

(1/41)


التي لا تنفعُ؛ لم يبق فيها موضعٌ للشُّغل بالله ومعرفة أسمائِهِ وصفاتِهِ وأحكامِه. وسرُّ ذلك أنَّ إصغاء القلب كإصغاءِ الأُذُنِ: فإذا صَغا إلى غير حديث الله؛ لم يبْقَ فيه إصغاءٌ ولا فهمٌ لحديثِهِ، كما إذا مال إلى غير محبَّة الله؛ لم يبقَ فيه ميلٌ إلى محبَّتِهِ، فإذا نطق القلبُ بغير ذِكرِهِ؛ لم يَبْقَ فيه محلٌّ للنُّطقِ بذكرِهِ كاللسان. ولهذا في الصحيح (1) عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لأنْ يَمْتَلِئَ جوفُ أحدِكُمْ قَيْحًا حتَّى يَرِيَهُ خيرٌ له من أن يمتلئَ شعرًا"؛ فبيَّنَ أنَّ الجوف يمتلئُ بالشِّعرِ. فكذلك يمتلئُ بالشُّبه، والشُّكوكِ، والخيالاتِ، والتقديرات (2) التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفعُ، والمُفاكَهاتِ، والمُضحِكاتِ، والحكاياتِ ونحوها. وإذا امتلأ القلبُ بذلك؛ جاءتْهُ حقائقُ القرآنِ والعلم الذي به كمالُهُ وسعادتُهُ، فلم تجدْ فيه فراغًا لها ولا قبولًا، فتَعدَّتْهُ وجاوزتْهُ إلى محلٍّ سواهُ؛ كما إذا بُذِلَتِ النصيحةُ لقلبٍ ملآن من ضدِّها لا منفذَ لها فيه؛ فإنَّه لا يقبلُها ولا تلجُ فيه، لكن تَمُرُّ مجتازةً لا مستوطنةً. ولذلك قيل (3): نَزِّهْ فُؤادك من سوانا تَلْقنا ... فجَنابُنا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَزَّهِ __________ (1) أخرجه البخاري (6155) ومسلم (2257) من حديث أبي هريرة. (2) في الأصل: "التقدرات". (3) البيتان بلا نسبة في "طريق الهجرتين" (2/ 579).

(1/42)


والصَّبْرُ طِلَّسْمٌ لِكَنْزِ وصالِنا ... من حَلَّ ذا الطِّلَّسْم فازَ بكَنْزِهِ وبالله التوفيق. فائدة قولُه تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} إلى آخرها [التكاثر: 1]. أُخْلِصَتْ هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظةً لمن عقلها. فقولُه تعالى: {أَلْهَاكُمُ}؛ أي: شَغَلَكُم على وجهٍ لا تُعذَرون فيه؛ فإنَّ الإلهاء عن الشيءِ هو الاشتغالُ عنهُ، فإن كان بقصدٍ فهو محلُّ التكليف، وإن كان بغير قصدٍ -كقوله -صلى الله عليه وسلم- في الخميصة: "إنَّها ألهتْني آنفًا عن صلاتي" (1) - كان صاحبُهُ معذورًا، وهو نوعٌ من النسيان، وفي الحديث: فلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصَّبيِّ (2)؛ أي: ذهلَ عنه، ويقال: لها بالشيء أي: اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه. واللهوُ للقلب، واللعبُ للجوارح، ولهذا يُجْمعُ بينهما. ولهذا كأنه قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} أبلغ في الذَّمِّ من (شَغلَكُم)؛ فإنَّ العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاهٍ به؛ فاللهو هو ذهولٌ وإعراضٌ. والتكاثر تفاعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادةً لإطلاقه وعمومه وأنَّ كلَّ ما يُكاثِرُ به العبدُ غيَره -سوى طاعةِ الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده- فهو داخلٌ في هذا التكاثر، فالتكاثرُ في كل شيء؛ من مال، أو جاهٍ، أو رئاسة، أو نسوةٍ، __________ (1) أخرجه البخاري (373) ومسلم (556) من حديث عائشة. (2) أخرجه البخاري (6191) ومسلم (2149) من حديث سهل بن سعد.

(1/43)


أو حديثٍ، أو علم -ولا سيَّما إذا لم يحتج إليه-، والتكاثر في الكتب، والتصانيف، وكثرة المسائل، وتفريعها، وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجلُ أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذمومٌ؛ إلَّا فيما يُقَرِّبُ إلى الله؛ فالتكاثر فيه منافسةٌ في الخيرات ومسابقة إليها. وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث عبد الله بن الشخِّير أنه انتهى إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهُو يقرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) قال: "يقولُ ابنُ آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلَّا ما تصدقتَ فأمضيتَ، أو أكلتَ فأفْنيتَ، أو لبِستَ فأبليتَ؟! ". تنبيه • من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذُنه. • للعبد سترٌ بينه وبين الله وسترٌ بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله؛ هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس. • للعبد ربٌّ هو ملاقيه وبيتٌ هو ساكنُهُ؛ فينبغي له أن يسترضيَ ربَّه قبل لقائه، ويعمُرَ بيته قبل انتقالِهِ إليه. • إضاعة الوقت أشدُّ من الموت؛ لأنَّ إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها. • الدُّنيا من أولها إلى آخرها لا تُساوي غمَّ ساعة؛ فكيف بغمِّ العُمر؟! • محبوبُ اليوم يعقب المكروه غدًا، ومكروه اليوم يعقب __________ (1) برقم (2958).

(1/44)


المحبوب غدًا. • أعظم الرِّبْح في الدُّنيا أن تشتغل نفسك كلَّ وقتٍ بما هو أولى بها وأنفعُ لها في معادها. • كيف يكون عاقلًا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؟! • يخرُجُ العارفُ من الدُّنيا ولم يقضِ وَطَرهُ من شيئين: بكاؤُهُ على نفسه، وثناؤُهُ على ربِّه. • المخلوق إذا خِفتَه؛ استوحشتَ منه وهربتَ منه، والربُّ تعالى إذا خِفتَه؛ أنستَ به وقَرُبتَ إليه. • لو نفع العلم بلا عمل؛ لما ذمَّ الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص؛ لما ذمَّ المنافقين. • دافع الخطرةَ؛ فإن لم تفعل صارت فكرةً؛ فدافع الفكرة؛ فإن لم تفعل صارت شهوةً؛ فحارِبْها؛ فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمَّةً؛ فإن لم تُدافعها صارت فعلًا؛ فإن لم تتداركهُ بضدِّه صار عادةً، فيصعُبُ عليك الانتقالُ عنها. • التقوى ثلاث (1) مراتب: إحداها: حميةُ القلبِ والجوارح عن الآثام والمحرَّماتِ. الثانية: حميتُها عن المكروهات. الثالثة: الحميةُ عن الفُضول وما لا يعني. فالأولى تُعطي العبدَ حياتَه، والثانيةُ تفيدُهُ صحَّتَه وقوَّتهُ، والثالثةُ تُكسِبُهُ سرورَه وفرحهُ وبهجَتَهُ. غُموضُ الحقِّ حين تذُبُّ عنهُ ... يُقلِّلُ ناصرَ الخصمِ المُحقِّ __________ (1) في الأصل: "ثلاثة".

(1/45)


تَضِلُّ عن الدَّقيقِ فُهُومُ قومٍ ... فتقْضي للمُجِلِّ على المُدقِّ (1) • بالله أبْلُغُ ما أسعى وأُدرِكُهُ ... لا بي ولا بشفيعٍ لي من الناس إذا أيستُ وكادَ اليأسُ يقطعُني ... جاء الرَّجا مُسرعًا من جانب الياسِ (2) • لمَّا طلب آدمُ الخلود في الجنة من جانب الشجرة؛ عُوقِب بالخُروج منها، ولما طلب يوسفُ الخروج من السجن من جهة صاحب الرُّؤيا؛ لبث فيه بضع سنين. • إذا جرى على العبد مقدورٌ يكرهُهُ؛ فله فيه ستةُ مشاهد: أحدُها: مشهدُ التوحيد، وأنَّ الله هو الذي قدَّرهُ وشاءهُ وخلقهُ، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. الثاني: مشهدُ العدل، وأنه ماضٍ فيه حُكْمُهُ، عدلٌ فيه قضاؤُهُ. الثالثُ: مشهد الرحمة، وأنَّ رحمته في هذا المقدور غالبةٌ لغضبِهِ وانتقامِهِ، ورحمتُهُ حشوُهُ. الرابع: مشهدُ الحكمة، وأن حكمتَهُ سبحانه اقتضتْ ذلك، لم يُقدِّرْهُ سُدًى ولا قضاه [عبثًا] (3). الخامس: مشهد الحمدِ، وأنَّ له سبحانه الحمد التامَّ على ذلك من جميع وجوهِهِ. السادسُ: مشهدُ العبوديَّة، وأنه عبدٌ محضٌ من كلِّ وجه، تجري __________ (1) البيتان لابن الرومي في ديوانه (4/ 1683). (2) لم أجد البيتين في المصادر التي رجعت إليها. (3) من ط.

(1/46)


عليه أحكامُ سيِّدِه وأقضيتُهُ بحكم كونه ملكه وعبدهُ، فيُصَرِّفُه تحت أحكامه القدرية كما يصرِّفُهُ تحت أحكامه الدينية؛ فهو محلٌّ لجَرَيانِ هذه الأحكام عليه. • قلةُ التوفيق، وفسادُ الرأي، وخفاءُ الحقِّ، وفسادُ القلبِ، وخُمولُ الذِّكْر، وإضاعةُ الوقت، ونفرةُ الخلق، والوحشةُ بين العبد وبين ربِّه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحقُ البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم،، ولباس الذُّلِّ، وإدالةُ العدوِّ، وضيقُ الصدر، والابتلاءُ بقُرَناءِ السَّوءِ الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهمِّ والغمِّ، وضنْكُ المعيشة، وكسفُ البال: تتولَّدُ من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولَّدُ الزرعُ عن الماء والإحراقُ عن النار. وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعة. فصل طوبى لمن أنصف ربَّه؛ فأقرَّ له بالجهل في علمه، والآفاتِ في عمله، والعيوبِ في نفسه، والتَّفريط في حقِّه، والظُّلم في معاملته. فإن آخذَهُ بذُنوبه رأى عدلَهُ، وإن لم يؤاخِذْه بها رأى فضْلَهُ. وإن عمل حسنةً رآها من منَّتِهِ وصدَقَتِه عليه؛ فإن قبِلها فمنةٌ وصدقةٌ ثانيةٌ، وإن ردَّها فلكون مثلها لا يصلح أن يُواجه به. وإن عمل سيئةً رآها من تخلِّيه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقرهُ إلى ربِّه، وظلمهُ في نفسه؛ فإن غفرها له؛ فبمحضِ إحسانِه وجوده وكرمه. ونكتةُ المسألة وسرُّها أنَّه لا يرى ربَّه إلا محسنًا، ولا يرى نفسهُ إلا

(1/47)


مُسيئًا أو مفرِّطًا أو مقصِّرًا، فيرى كلَّ ما يَسُرُّه من فضل ربِّه عليه وإحسانه إليه وكلَّ ما يسوؤهُ من ذنوبه وعدل الله فيه. المحبُّون إذا خربتْ منازلُ أحبابهم؛ قالوا: سَقْيًا لِسُكَّانِها. وكذلك المُحبُّ إذا أتت عليه الأعوامُ تحت التُّراب؛ ذكر حينئذٍ حسن طاعته له في الدُّنيا وتودُّدِهِ إليه [و] تجدُّدَ رحمتِهِ وسقياهُ لمن كان ساكنًا في تلك الأجسام البالية. فائدة الغَيرَةُ غيرتان: غيرةٌ على الشيء، وغيرةٌ من الشيءِ. فالغيرةُ على المحبوب: [حرصُكَ عليه] (1)، والغيرةُ من المكروه أن يُزاحِمَك عليه. فالغيرة على المحبوب لا تتمُّ إلا بالغيرة من المزاحم. وهذه تُحمدُ حيثُ يكونُ المحبوبُ تقبُحُ المشاركةُ في حبِّهِ؛ كالمخلوق. وأما من تحسُنُ المشاركةُ في حُبِّه؛ كالرسول والعالم بل الحبيب القريب سبحانه؛ فلا يُتَصوَّرُ غيرَةُ المزاحمة عليه، بل هو حسدٌ! والغيرةُ المحمودةُ في حقِّه أن يَغارَ المحبُّ على محبَّتِهِ له أن يصرِفَها إلى غيره، أو يَغار عليها أن يطَّلعَ عليها الغيرُ فيُفسِدَها عليه، أو يغارَ على أعمالِهِ أن يكون فيها شيءٌ لغير محبوبه، أو يَغار عليها أن يشوبَها ما يكرهُ محبوبُه من رياءٍ أو إعجابٍ أو محبَّةٍ لإشرافِ غيرهِ عليها أو غيبتِهِ عن شُهودِ مِنَّتِهِ __________ (1) من ط.

(1/48)


عليه فيها. وبالجملة فغيرتُهُ تقتضي أن تكون أحوالُهُ وأعمالُهُ وأفعالُهُ كلُّها لله، وكذلك يغارُ على أوقاتِه أن يذهب منها وقتٌ في غير رِضَى محبوبِهِ. فهذه الغيرةُ من جهةِ العبد، وهي غيرةٌ من المُزاحِم له المُعوِّقِ القاطع له عن مرضاةِ محبوبِهِ. وأمَّا غيرَةُ محبوبه عليه؛ فهي كراهيةُ أن ينصرفَ قلبُهُ عن محبتِهِ إلى محبةِ غيره بحيث يشاركُهُ في حبِّه. ولهذا كانت غيرةُ الله أن يأتي العبدُ ما حُرِّم عليه (1)، ولأجل غيرتهِ سبحانه حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن (2)؛ لأنَّ الخلقَ عبيدُهُ وإماؤُهُ؛ فهو يَغارُ على إمائِهِ كما يَغارُ السيدُ على جواريهِ، ولله المَثلُ الأعلى، ويَغارُ على عبيدِهِ أن تكون محبَّتُهم لغيرِهِ؛ بحيثُ تَحمِلُهم تلك المحبةُ على عشق الصُّور ونيل الفاحشة منها. • من عظُمَ وَقارُ الله في قلبهِ أن يعصيَهُ؛ وَقَّرَهُ الله في قلوب الخلق أن يُذِلُّوه. • إذا علقتْ شُروشُ (3) المعرفة في أرض القلب؛ نبتت فيه شجرةُ المحبَّة؛ فإذا تمكَّنت وقويت أثمرت الطاعة، فلا تزالُ الشجرة {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم" 25]. • أولُ منازل القوم: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً __________ (1) كما أخرج البخاري (5223) ومسلم (2761) من حديث أبي هريرة. (2) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (5220) ومسلم (2760) عن ابن مسعود. (3) هي الأصول والجذور.

(1/49)


وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41 - 42]، وأوسطُها: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43]، وآخرُها: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]. • أرضُ الفطرة رحبةٌ قابلةٌ لما يُغرسُ فيها؛ فإن غُرِستْ شجرةُ الإيمان والتَّقْوى أورثتْ حلاوةَ الأبد، وإن غرِستْ شجرة الجهل والهوى فكلُّ الثَّمَرِ مُرٌّ. • ارْجعْ إلى الله، واطلُبْهُ من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تَشْرُدْ عنهُ من هذه الأربعة؛ فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلَّا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانِهِ إلَّا منها؛ فالمُوفَّقُ يَسمعُ ويُبصِرُ ويتكلَّمُ ويبطش بمولاه (1)، والمخذول يصدُر منه ذلك بنفسه وهواه. • مثالُ تولُّدِ الطاعات ونُموِّها وتزايُدِها؛ كمثل نواةٍ غرستَها، فصارت شجرةً، ثم أثمرتْ، فأكلتَ ثمرها، وغَرستَ نواها، فكلَّما أثمر منها شيءٌ جَنيتَ ثمرَهُ، وغَرستَ نواهُ، وكذلك تَداعِي المعاصي. فليتدَبَّرِ اللبيبُ هذا المثال؛ فمن ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئةِ السيئةُ بعدها. • ليس العجبُ من مملوكٍ يتذلَّلُ لله ويتعبَّدُ له ولا يملُّ من خِدْمَتِهِ مع حاجتِهِ وفقرِهِ إليه، إنَّما العجبُ من مالكٍ يتحبَّبُ إلى مملوكِهِ بصنوفِ إنعامِهِ ويتودَّدُ إليه بأنواع إحسانِهِ مع غِناهُ عنهُ. • كفى بك عِزًّا أنك له عبدٌ، وكفى بك فخرًا أنَّه لك ربٌّ. __________ (1) كما في حديث الوليّ، الذي أخرجه البخاري (6970) عن أبي هريرة.

(1/50)


فصل • إيَّاكَ والمعاصي؛ فإنَّها أذلَّتْ عِزَّ {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] وأخرجتْ إقطاع {اسْكُنْ} [البقرة: 35]. • يا لها لحظة أثمرتْ حرارة القلقِ ألف سنة. • ما زال يكتُبُ بدم النَّدَم سطور الحزن في القصص، ويُرسِلُها مع أنفاس الأسف، حتَّى جاءه توقيعُ: {فَتَابَ عَلَيهِ} [البقرة: 37]. • فرح إبليسُ بنزول آدمَ من الجنة، وما علم أنَّ هبوط الغائص في اللُّجَّة خلف الدُّرِّ صعودٌ. • كم بين قولهِ لآدم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله لك: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 63]!! • ما جرى على آدم هو المرادُ من وجودِهِ، "لَوْ لَمْ تُذْنِبوا ... " (1). • يا آدمُ! لا تَجزعْ من قولي لك: {اخْرُجْ مِنْهَا} [الأعراف: 18]؛ فلك ولصالح ذُرِّيَّتِكَ خلقْتُها. • يا آدم! كنت تدخلُ عليَّ دخولَ الملوك على الملوك، واليوم تدخل عليَّ دخولَ العبيد على الملوك. • يا آدم! لا تجزعْ من كأس زللٍ كانت سببَ كيسك؛ فقد استخرج منك داءُ العُجب، وأَلبِسْتَ خلعةَ العبوديَّة، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا} __________ (1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (2749) عن أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم".

(1/51)


[البقرة: 216]. • يا آدم! لم أُخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحَّيتُك عنه؛ لأكمِّل عمارتهُ لك، وليبعث إليَّ العمالُ نفقةَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة: 16]. • تالله ما نفعَهُ عند معصيته عزُّ {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ولا شرف {وَعَلَّمَ آدَمَ} [البقرة: 31]، ولا خصيصةُ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ولا فخرُ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وإنما انتفع بذُلِّ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]. • لَمَّا لبس دِرْعَ التوحيد على بدن الشُّكر؛ وقعَ سهمُ العدوِّ منه في غير مقتل، فجرحهُ، فوضع عليه جُبارَ الانكسار، فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبةٌ (1). فصل نجائبُ النجاةِ مُهيَّأةٌ للمُراد، وأقدامُ المطرود موثوقةٌ بالقُيود. هَبَّتْ عواصفُ الأقدار في بيداءِ الأكوان، فتقلَّب الوجود، ونجَمَ الخيرُ، فلما ركدت الريحُ إذا أبو طالب غَرِيقٌ في لُجَّةِ الهلاك، وسلمانُ على ساحل السَّلامة، والوليدُ بن المغيرة يقدُمُ قومَهُ في التِّيهِ، وصُهيبٌ قد قدم بقافلة الرُّوم، والنجاشيُّ في أرض الحبشة يقولُ: لبيك اللهمَّ لبيك، وبلالٌ ينادي: الصَّلاةُ خيرٌ من النوم، وأبو جهل في رقدةِ المخالفة. لما قُضي في القدم بسابقةِ سلمان (2)؛ عرَّجَ به دليلُ التوفيق عن __________ (1) أي الداء والألم. (2) خبر إسلام سلمان الفارسي مع الأبيات الواردة هنا في المدهش (ص 213 - 215).

(1/52)


طريق آبائه في التَّمَجُّس، فأقبل يناظرُ أباه في دين الشرك، فلما عَلاهُ بالحُجَّة؛ لم يكن له جوابٌ إلا القيد -وهذا جوابٌ يتداولُه أهلُ الباطل من يوم حرَّفوه، وبه أجاب فرعونُ موسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيرِي} [الشعراء: 29]، وبه أجاب الجهميَّةُ الإمامَ أحمد لما عرضوه على السِّياط، وبه أجاب أهل البدع شيخَ الإسلام حين استودعوهُ السجن، وها نحنُ على الأثر-، فنزل به ضيفُ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155]، فنال بإكرامِهِ مرتبةَ "سلمانُ منَّا أهلَ البيت" (1) ، فسمع أن ركبًا على نية السفر، فسرقَ نفسَه من أبيه ولا قطع، فركب راحلة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة، فغاص في بحر البحث ليقع بدُرَّةِ الوجود، فوقف نفسه على خدمة الأدلَّاء وقوفَ الأذلَّاء، فلما أحسَّ الرهبانُ بانقراض دولتهم؛ سلَّموا إليه أعلام الإعلام على نبوَّة نبيِّنا، وقالوا: إنَّ زمانه قد أظلَّ؛ فاحذر أن تضلَّ! فرحل مع رفقةٍ لم يرفُقوا به، فشَروهُ بثمن بَخْسٍ دراهم معدودةٍ، فابتاعه يهوديٌّ بالمدينة، فلما رأى الحرَّة؛ توقَّد حَرُّ شَوقِه، ولم يعلم ربُّ المنزل بوجدِ النازل؛ فبينا هو يُكابدُ ساعات الانتظارَ؛ قدم البشيرُ بقدوم البشير، وسلمان في رأس نخلةٍ، وكاد القلقُ يُلقيه، لولا أنَّ الحزم أمسكهُ؛ كما جرى يوم {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، فعجَّل النزولَ لتلقِّي رَكْبِ البشارة ولسانُ حالِه يقولُ: خليليَّ من نجدٍ قِفا بي على الرُّبا ... فقدْ هبَّ منْ تلكَ الدِّيارِ نسيمُ (2) __________ (1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 83، 7/ 319) والطبراني في الكبير (6040) والحاكم (3/ 598) من حديث عمرو بن عوف. وإسناده ضعيف جدًّا. وأخرجه ابن سعد (4/ 86) والطبراني (6041) من كلام علي. وإسناده صحيح. (2) البيت بلا نسبة في المدهش (ص 214).

(1/53)


فصاح به سيِّدُهُ: ما لك؟! انصرِفْ إلى شُغلك! فقال (1): كيفَ انصرافي وَلِيْ في دارِكُمْ شُغُلُ ثم أخذ لسانُ حالِهِ يترنَّمُ لو سمع الأطروشُ: خليليَّ لا واللهِ ما أنا منْكُما ... إذا عَلَمٌ مِنْ آلِ لَيْلَى بَدا لِيا (2) فلما لقيَ الرسول عارض نسخةَ الرُّهبانِ بكتابِ الأصل، فوافقَهُ. يا محمدُ! أنت تريدُ أبا طالبٍ، ونحنُ نريدُ سلمان. أبو طالبٍ إذا سُئلَ عن اسمِهِ قال: عبدُ منافٍ. وإذا انتسبَ افْتَخَرَ بالآباءِ. وإذا ذُكِرَتِ الأموالُ عَدَّ الإبِلَ. وسلمانُ إذا سُئل عن اسمِهِ قال: عبدُ الله. وعن نسبهِ قال: ابنُ الإسلام. وعن مالِهِ قال: الفقرُ. وعن حانوتِهِ قال: المسَجدُ. وعن كَسْبهِ قال: الصبرُ. وعن لباسِهِ قال: التقوى والتواضعُ. وعن وسادِهِ قال: السهرُ. وعن فخرِهِ قال: "سلمانُ مِنَّا". وعن قصدِهِ قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وعن سيرهِ قال: إلى الجنة. وعن دليلِهِ في الطريق قال: إمامُ الخلق وهادي الأئمة (3). إذا نحنُ أدلجْنا وأنْتَ إمامُنا ... كفى بالمطايا طِيْبُ ذِكراك حاديَا وإنْ نحنُ أضللنا الطَّريق ولم نَجِدْ ... دليلًا كفانا نورُ وجهِكَ هادِيَا (4) __________ (1) الشطر بلا نسبة في المدهش (ص 214). (2) البيت للمجنون في ديوانه (ص 298). (3) يشير المؤلف في هذا الفصل إلى قصة إسلام سلمان الفارسي وهي مروية في طبقات ابن سعد (4/ 75 - 80) ومسند أحمد (5/ 441 - 444) وسيرة ابن هشام (1/ 214 - 221) والمعجم الكبير للطبراني (6065) وغيرها. وهي طويلة. (4) البيت الأول للمجنون في ديوانه (ص 296، 297) ولعمرو بن شأس الأسدي في =

(1/54)


• الذنوبُ جِراحاتٌ، ورُبَّ جُرْحٍ وقع في مقتل. • لو خرج عقلُك من سلطان هواك عادتِ الدولةُ له. • دخلتَ دار الهوى؛ فَقامرْتَ بعُمرِكَ. • إذا عرضتْ نظرةٌ لا تحلُّ فاعلم أنها مِسْعَرُ حَربٍ؛ فاستترْ منها بحجاب {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 30]؛ فقد سَلِمتَ من الأثر، وكفى الله المؤمنين القتال. • بحرُ الهوى إذا مَدَّ أغرق، وأخوفُ المَنافذِ على السابح فتحُ البصر في الماء. • ما أحدٌ أكرَمَ مِنْ مُفْردٍ ... في قَبْرِهِ أعْمالُهُ تُؤْنِسُهْ مُنَعَّمًا في القَبْرِ في رَوْضَةٍ ... ليْسَ كَعَبْدٍ قبْرُهُ مَحْبِسُهْ (1) • على قَدْرِ فَضْلِ المرْءِ تأتي خُطوبُهُ ... ويُعْرَفُ عند الصَّبْر فيما يُصيبُهُ ومنْ قلَّ فيما يتَّقيه اصطبارُهُ ... فقد قلَّ ممَّا يرتجيه نصيبُهُ (2) • كم قُطِعَ زَرعٌ قبل التَّمام؛ فما ظنُّ الزَّرعِ المستحصد. • اشترِ نفسَك؛ فالسوقُ قائمةٌ، والثمنُ موجودٌ. • لا بدَّ من سِنَةِ الغفلة ورُقادِ الهوى، ولكن كُنْ خفيفَ النوم؛ فحُرَّاسُ البلد يصيحون: دنا الصباحُ! __________ = الأغاني (11/ 201) وديوان المعاني (1/ 224). (1) البيتان بلا نسبة. (2) البيتان لابن ظفر الصقلي في خريدة القصر -قسم الشام- (3/ 52) ووفيات الأعيان (4/ 397).

(1/55)


• نورُ العقل يُضيء في ليل الهوى، فتلُوحُ جادَّةُ الصواب، فيتلمَّحُ البصيرُ في ذلك النور عواقبَ الأمور. • اخرُجْ بالعزم من هذا الفِنَاء الضَّيِّق المحشُوِّ بالآفات إلى ذلك الفِنَاء الرَّحبِ الذي فيه ما لا عينٌ رأتْ؛ فهناك لا يتعذَّرُ مطلوبٌ ولا يُفْقَدُ محبوبٌ. • يا بائعًا نفسَه بهوى من حُبُّه ضَنًى ووصلُه أذًى وحُسنُهُ إلى فناء! لقد بعتَ أنفَسَ الأشياء بثمن بخس!! كأنَّك لم تعرِفْ قدرَ السلعة ولا خِسَّةَ الثمن!! حتى إذا قدمتَ يومَ التغابُن؛ تبَيَّنَ لك الغَبْنُ في عقد التبايُع. لا إِله إلا الله سلعةٌ، الله مشتريها، وثمنُها الجنةُ، والدَّلَّالُ الرسولُ؛ تَرضى ببيعها بجزءٍ يسيرٍ مما لا يُساوي كلُّه جَناح بَعوضة (1)؟! إذا كان شيءٌ لا يُساوي جميعُهُ ... جَناحَ بعوضٍ عند من صِرتَ عبدَهُ ويملك جُزءٌ منهُ كُلَّكَ ما الَّذي ... يكون على ذا الحال قدرُكَ عندَهُ وبِعتَ به نفسًا قد استامها بما ... لديه من الحُسْنى و [قد] زال وُدُّهُ (2) • يا مُخنَّثَ العزم! أين أنت؛ والطريقُ طريقٌ تعبَ فيه آدمُ، وناحَ لأجلِهِ نوحٌ، ورُمِيَ في النار الخليلُ، وأُضْجِعَ للذبح إسماعيلُ، وبِيع يوسفُ بثمنٍ بَخْس ولَبِث في السجن بضعَ سنين، ونُشِرَ بالمنشار زكرِيَّا، وذُبح السيدُ الحصورُ يحيى، وقاسَى الضُّرَّ أيوبُ، وزاد على المقدار __________ (1) أي الدنيا، كما وُصفت في الحديث الذي أخرجه الترمذي (2422) عن سهل بن سعد مرفوعًا: "لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء". (2) لم أجد الأبيات في المصادر التي رجعت إليها.

(1/56)


بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-؛ تُزْهَى أنت باللهوِ واللعب؟! فيا دارَها بِالحَزْنِ إنَّ مزارَها ... قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ (1) • الحربُ قائمةٌ، وأنت أعزلُ في النظَّارةِ؛ فإن حرَّكْتَ رِكابَكَ فللهزيمةِ. • من لم يُباشِرْ حَرَّ الهجيرِ في طِلابِ المجد؛ لم يَقِلْ في ظِلال الشرف. تقولُ سُلَيمى لوْ أقمْتَ بِأرْضِنا ... ولم تَدْرِ أنِّي للمُقامِ أطوِّفُ (2) قيلَ لبعض العُبَّاد: إلى كم تُتعِبُ نفسَك؟! فقال: راحتَها أريدُ. • يا مُكَرَّمًا بحُلَّةِ الإيمانِ بعد حُلَّة العافية وهو يُخْلِقُهُما في مخالفة الخالق! لا تُنْكِرِ السَّلْبَ؛ يَستحقُّ من استعمل نعمةَ المنعِم فيما يكرهُ أن يُسْلَبَها. • عَرائسُ الموجوداتِ قد تزيَّنَتْ للناظرين؛ لِيَبْلُوَهُم أيُّهم يُؤثِرُهُنَّ على عرائس الآخرة؛ فمن عرفَ قدْرَ التفاوتِ آثَرَ ما ينبغي إيثارُهُ. وحِسانُ الكوْنِ لمَّا أنْ بَدَتْ ... أقْبَلتْ نَحْوي وقالتْ لي إلَيّ (3) فتعامَيتُ كأنْ لَمْ أرَها ... عنْدَما أبْصَرْتُ مَقْصودي لَدَيّ • كواكِبُ هِمَم العارفين في بُروجِ عَزائمِهِم سيارةٌ ليس فيها زُحَلٌ. __________ (1) البيت لأبي العلاء المعري في "سقط الزند" (ص 229). (2) البيت لعروة بن الورد في ديوانه (ص 107) والكامل للمبرد (1/ 262) والأغاني (3/ 82). (3) البيتان بلا نسبة.

(1/57)


• يا مَنِ انحرفَ عن جادَّتِهِم! كنْ في أواخرِ الركب، ونَمْ إذا نِمتَ على الطريق؛ فالأميرُ يُراعِي السَّاقَةَ. • قيل للحسن: سَبَقَنا القومُ على خيلٍ دُهْم، ونحنُ على حُمُرٍ مُعَقَّرةٍ، فقال: إن كنتَ على طريقِهِم؛ فما أسرعَ اللَّحاقَ بهم! فائدة • من فَقَدَ أُنْسَهُ بالله بين الناس ووجدَه في الوَحْدَةِ؛ فهو صادقٌ ضعيفٌ، ومن وجدَهُ بين الناس وفقدَهُ في الخلوة؛ فهو معلولٌ، ومن فقدَهُ بين الناس وفي الخلوة؛ فهو ميتٌ مطرودٌ، ومن وَجَدَهُ في الخلوةِ وفي الناس؛ فهو المحبُّ الصادقُ القويُّ في حالِهِ. ومن كان فتحُهُ في الخلوة؛ لم يكن مزيدُهُ إلَّا منها، ومن كان فتحُهُ بين الناس ونصحِهِم وإرشادِهِم؛ كان مزيدُهُ معهُم، ومن كان فتحُهُ في وقوفِهِ مع مرادِ الله حيث أقامَه وفي أيِّ شيءٍ اسْتَعْمَلَهُ؛ كان مزيدُهُ في خلوتِهِ ومع الناس. فأشرفُ الأحوالِ أن لا تختارَ لنفسِكَ حالةً سوى ما يختارُهُ لك ويُقِيمُكَ فيه؛ فكنْ مع مرادِهِ منكَ، ولا تكنْ مع مرادِكَ منه. • مصابيحُ القلوبِ الطاهرةِ في أصل الفطرة مُنِيرةٌ قبل الشرائع، {يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]. • وَحَّدَ قُسٌّ (1) وما رأى الرسولَ، وكَفَرَ ابنُ أبيٍّ (2) وقد صلى معه __________ (1) هو قس بن ساعدة الإيادي، انظر خبره في "حديث قس بن ساعدة الإيادي" لابن درستويه (ص 52 وما بعدها، ضمن "روائع التراث"). (2) هو عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.

(1/58)


في المسجد. • مع الضَّبِّ رِيٌّ ولا ماء، وكم من عطشانَ في اللُّجَّةِ. • سبَقَ العلمُ بنبوَّةِ موسى وإيمانِ آسية، فَسِيقَ تابوتُهُ إلى بيتها، فجاء طفلٌ منفردٌ عن أمٍّ، إلى امرأةٍ خاليةٍ عن ولدٍ! فللهِ كم في هذه القصة من عبرةٍ! كم ذَبَحَ فرعونُ في طلب موسى من ولدٍ، ولسانُ القَدَرِ يقولُ: لا نُربِّيهِ إلّا في حِجْرِكَ!! • كان ذو البِجادَين (1) يتيمًا في الصِّغَرِ، فكَفَلَهُ عمُّه، فنازعتْه نفسُه إلى اتباع الرسولِ، فهَمَّ بالنُّهوضِ؛ فإذا بقيةُ المرض مانعةٌ، فقعد ينتظرُ العمَّ، فلما تكاملتْ صحَّتُهُ؛ نَفِدَ الصبرُ، فناداه ضميرُ الوجدِ: إلى كمْ حَبْسُها تَشْكو المَضِيقا ... أثِرْها رُبَّما وَجَدَتْ طريقَا (2) فقال: يا عمُّ! طال انتظاري لإسلامِكَ، وما أرى منكَ نشاطًا!! فقال: والله؛ لئنْ أسلمتَ لأنتزِعَنَّ كلَّ ما أعطيتُكَ. فصاح لسانُ الشوقِ: نظرةٌ من محمدٍ أحبُّ إليَّ من الدُّنيا وما فيها. ولَوْ قيلَ لِلْمَجْنونِ ليلى ووَصْلَها ... تريدُ أمِ الدُّنْيا وما في طواياها لَقال تُرابٌ من غُبارِ نعالِها ... ألذُّ إلى نَفْسي وأشْفى لِبَلْواها (3) فلمَّا تجرَّدَ للسير إلى الرسول؛ جرَّدَهُ عمُّه من الثياب، فناولتْهُ الأمُّ __________ (1) هو عبد الله بن عبد نهم المزني، له صحبة. وهذا الخبر مع الشعر في "المدهش" (ص 176 - 177). (2) البيت لمهيار الديلمي في ديوانه (2/ 353). (3) البيتان بلا نسبة في المدهش (ص 177).

(1/59)


بِجادًا، فقطعَهُ لسفرِ الوصل نصفين؛ اتَّزرَ بأحدِهِما وارتدى بالآخر، فلما نَادى صائحُ الجهاد؛ قنِعَ أن يكون في ساقةِ الأحباب، والمحبُّ لا يرى طولَ الطريق؛ لأنَّ المقصودَ يُعينُهُ. ألا بَلَّغَ اللَّهُ الحِمى مَنْ يُريدُهُ ... وبَلَّغَ أكْنافَ الحِمى مَنْ يُريدُها (1) فلما قضى نَحْبَهُ نزل الرسولُ يُمهِّدُ له لَحْدَهُ، وجعل يقولُ: "اللهمَّ! إنِّي أمْسَيتُ عنهُ راضيًا؛ فارْضَ عنْهُ" (2). فصاحَ ابنُ مسعودٍ: يا ليتني كنتُ صاحبَ القبرِ. فيا مُخَنَّثَ العزم! أقلُّ ما في الرقعةِ البَيْذَقُ، فلمَّا نَهَضَ تفَرْزَن (3). • رأى بعضُ الحكماءِ بِرْذَوْنًا يُسْقَى عليه، فقال: لو هَمْلَجَ هذا لَرُكِبَ. • [متى همَّتْ] (4) أقدامُ العزم بالسُّلوكِ انْدَفَع من بينِ أيديها سدُّ القواطع. • القواطعُ مِحَنٌ يتبيَّنُ بها الصادقُ من الكاذبِ؛ فإذا خُضْتَها انقلبتْ أعوانًا لك توصِلُك إلى المقصودِ. __________ (1) البيت بلا نسبة في المدهش (ص 177). (2) أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (4/ 235) وأبو نعيم في الحلية (1/ 122)، وإسناده منقطع. وله طرق أخرى ذكرها الحافظ في الإصابة (2/ 338) يشدّ بعضها بعضًا. (3) البيذق بمنزلة الجندي في حجارة الشطرنج، والفرزن بمنزلة الوزير. والمراد أن من اجتهد في الطلب أدرك المقصود. (4) الزيادة من المدهش (ص 176)، وبها يستقيم الكلام.

(1/60)


فصل • الدُّنيا كامرأةٍ بَغِيٍّ لا تَثْبُتُ مع زوجٍ، إنَّما تَخْطُبُ الأزواجَ لِيُسْتَحْسَنوا عليها؛ فلا ترضَ بالدِّياثَةِ. مَيَّزْتُ بينَ جَمالِها وَفَعالِها ... فإذا الملاحةُ بالقباحَةِ لا تَفي حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَخونَ عُهودَنا ... فكأنَّها حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَفي (1) السَّيرُ في طلبها سيرٌ في أرضٍ مسبَعَةٍ (2)، والسباحةُ فيها سباحةٌ في غدير التمساح، المفروحُ به منها هو عينُ المحزونِ عليه، آلامُها متولِّدةٌ من لَذَّاتِها، وأحزانُها من أفراحِها. مَآرِبُ كانتْ في الشَّبابِ لأهْلِها ... عِذابًا فَصارَتْ في المَشيبِ عَذابَا (3) • طائرُ الطبع يرى الحَبَّة، وعينُ العقل ترى الشَّرَك؛ غير أنَّ عينَ الهوى عمياءُ. وَعَينُ الرِّضى عَنْ كُل عَيْبٍ كَليلةٌ ... كما أنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المساويا (4) • تزخرفت الشَّهواتُ لأعين الطِّباع، فغَضَّ عنها الذين يِؤمنون بالغيب، ووقِعَ تابعوها في بَيداءِ الحسرات؛ فـ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5]، هؤلاء يُقالُ لهم: {كُلُوا __________ (1) البيتان لابن المعتز في "فوات الوفيات" (3/ 6)، ولابن السراج أو غيره في "معجم الأدباء" (6/ 2535) و"وفيات الأعيان" (4/ 340)، وإنباه الرواة (3/ 146 - 147) والوافي بالوفيات (3/ 86 - 87). (2) هي الأرض الكثيرة السباع. (3) البيت بلا نسبة في طريق الهجرتين (ص 119) وروضة المحبين (ص 632). (4) البيت لعبد الله بن معاوية في الكامل للمبرد (1/ 277) والأغاني (12/ 214) وغيرهما.

(1/61)


وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)} [المرسلات: 46]. • لمَّا عرف الموفَّقون قدْرَ الحياةِ الدُّنيا وقلة المُقام فيها؛ أماتوا فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد. لمَّا استيقظوا من نوم الغفلة؛ استرجعوا بالجدِّ ما انتهبَهُ العدوُّ منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريقُ تلمَّحَوا المقصد، فقَرُبَ عليهم البعيدُ، وكلَّما أمرَّتْ لهم الحياةُ حَلا لهم تذكُّرُ {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء: 103]. وركْبٍ سَرَوا واللَّيلُ مُلْقٍ رواقَهُ ... على كُل مُغْبَرِّ المطالِعِ قاتِمِ حَدَوْا عَزَماتٍ ضاعتِ الأرْضُ بينَها ... فصارَ سُراهُمْ في ظهور العزائِمِ تُرِيهِمْ نُجومُ اللَّيْلِ ما يَبْتَغونَهُ ... على عاتِقِ الشِّعْرى وهامِ النَّعائِمِ إذا اطَّرَدتْ في مَعْرِكِ الجِدِّ قَصَّفوا ... رماحَ العَطايا في صُدورِ المكارِم (1) فصل من أعجبِ الأشياءِ: أن تعرِفَه ثم لا تحبَّهُ، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخَّر عن الإجابة، وأن تعرفَ قدرَ الربح في معاملتِهِ ثم تعامل غيرَهُ، وأن تعرف قدْر غضبهِ ثم تتعرَّض له، وأن تذوقَ ألمَ الوَحْشةِ في معصيتِهِ ثم لا تَطْلُبَ الأنسَ بَطاعتِهِ، وأن تذوقَ عُصْرةَ القلبِ عند الخوْض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصَّدْرِ بذِكْرِهِ ومناجاتِهِ، وأن تذوقَ العذابَ عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!! وأعجبُ من هذا علمُك أنَّك لا بدَّ لك منهُ وأنَّك أحوجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِضٌ وفيما يُبعِدُك عنه راغبٌ!! __________ (1) الأبيات للشريف الرضي في ديوانه (2/ 382).

(1/62)


فائدة ما أخذ العبدُ ما حُرِّم عليه إلا من جهتين: إحداهُما (1): سوءُ ظنِّهِ بربِّهِ، وأنَّه لو أطاعَهُ وآثَرَهُ لم يُعطِهِ خيرًا منه حلالًا. والثانيةُ: أن يكون عالِمًا بذلك، وأنَّ مَنْ تركَ لله شيئًا أعاضَهُ خيرًا منه (2)، ولكن تغلِبُ شهوتُهُ صبَرهُ وهواهُ عقلَهُ. فالأولُ مِن ضَعْفِ علمِهِ، والثاني من ضَعْفِ عقلِهِ وبصيرتِهِ. • قال يحيى بن معاذٍ: من جمع الله عليه قلبَهُ في الدُّعاءِ لم يَرُدَّهُ. قلتُ: إذا اجتمع عليه قلبُهُ، وصَدَقتْ ضرورتُهُ وفاقتُهُ، وقَوِيَ رجاؤُهُ؛ فلا يكاد يُرَدُّ دعاؤُهُ. فصل • لما رأى المتيقِّظون سطوةَ الدُّنيا بأهلها، وخداعَ الأملِ لأربابهِ، وتملُّك الشيطانِ قيادَ النُّفوس، ورأوا الدولة للنفس الأمَّارةِ؛ لجأوَا إلى حصنِ التضرُّع والالتجاءِ؛ كما يأوي العبدُ المذعورُ إلى حَرَمِ سيِّدِهِ. __________ (1) في الأصل: "أحدهما". (2) أخرج أحمد (5/ 363) من طريق حميد بن هلال حدثنا أبو قتادة وأبو الدهماء عن رجل من أهل البادية سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلَّا بدلك الله به ما هو خير لك منه". وإسناده صحيح.

(1/63)


• شهواتُ الدُّنيا كلُعَبِ الخيال، ونظرُ الجاهل مقصورٌ على الظاهر، فأمَّا ذو العقل فيرى ما وراء السِّتْرِ. • لاحَ لهمُ حَبُّ المشتهَى، فلما مدُّوا أيدي التناول؛ بانَ لأبصارِ البصائرِ خيطُ الفخِّ، فطاروا بأجنحةِ الحَذَرِ، وصوَّبوا إلى الرحيل الثاني: {يَاليتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} [يس: 26]. • تلمَّحَ القومُ الوجودَ، ففهِموا المقصودَ، فأجمعوا الرحيلَ قبل الرحيل، وشمَّروا للسيرِ في سواءِ السبيل؛ فالناسُ مشتغلون بالفضلاتِ، وهم في قطع الفلواتِ، وعصافيرُ الهوى في وَثاقِ الشبكةِ ينتظرونَ الذبحَ. • وَقَعَ ثَعْلبانِ في شبكةٍ، فقال أحدُهما للآخرِ: أينَ الملتقى (1) بعد هذا؟ فقال: بعد يومينِ في الدِّباغةِ. • تالله ما كانتِ الأيامُ إلا منامًا؛ فاستيقظوا وقد حصلوا على الظَّفَرِ. • ما مضى من الدُّنيا أحلامٌ، وما بقي منها أمانيُّ، والوقتُ ضائعٌ بينَهما. • كيف يَسْلَمُ من له زوجةٌ لا تَرحمُهُ، وولدٌ لا يَعذِرُه، وجارٌ لا يأمَنُه، وصاحبٌ لا ينصحُه، وشريكٌ لا يُنصِفُه، وعدوٌّ لا ينامُ عن معاداته، ونفسٌ أمَّارةٌ بالسوءِ، ودُنيا متزينةٌ، وهوًى مُرْدٍ، وشهوةٌ غالبةٌ له، وغضبٌ قاهرٌ، وشيطانٌ مزيِّنٌ، وضعفٌ مستولٍ عليه؟! فإن تولَّاهُ الله وجذَبَهُ إليه انقهرتْ له هذه كلُّها، وإن تخلَّى عنه ووكلَهُ __________ (1) في الأصل: "المتلقى".

(1/64)


إلى نفسه اجتمعت عليه، فكانت الهَلَكةُ. • لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسُّنَةِ والمحاكمةِ إليهما، واعتقدوا عدمَ الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراءِ والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ؛ عرضَ لهم من ذلك فسادٌ في فِطَرِهم، وظلمةٌ في قلوبِهِم، وكدَرٌ في أفهامِهِم، ومَحْقٌ في عقولِهِم، وعَمَّتْهم هذه الأمورُ وغلبتْ عليهم؛ حتى رُبِّيَ فيها الصغيرُ، وهَرِمَ عليها الكبيرُ، فلم يَرَوْها منكرًا! فجاءتهمْ دولةٌ أخرى قامتْ فيها البدَعُ مقامَ السُّنَنِ، والنفسُ مقامَ العقل، والهوى مقام الرُّشدِ، والضلالُ مقام الهدى، والمنكرُ مقامَ المعروفِ، والجهلُ مقام العلم، والرِّياءُ مقامَ الإخلاصِ، والباطلُ مقام الحقِّ، والكذِبُ مقامَ الصِّدْقِ، والمداهنةُ مقام النصيحة، والظلمُ مقام العدل؛ فصارت الدولةُ والغلبَةُ لهذه الأمور، وأهلُها هم المشارَ إليهم، وكانتْ قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلُها هم المشارَ إليهم. • فإذا رأيتَ دولةَ هذه الأمور قد أقبلتْ، وراياتُها قد نُصِبَتْ، وجيوشُها قد رَكِبَتْ؛ فبطنُ الأرض والله خيرٌ من ظهرها، وقُلَلُ الجبال خيرٌ من السهول، ومخالطةُ الوحشِ أسلمُ من مخالطةِ الناس. اقشعرَّتِ الأرضُ وأظلمتِ السماءُ وظهر الفسادُ في البرِّ والبحر من ظلم الفَجَرَةِ، وذهبتِ البركاتُ وقلَّتِ الخيراتُ وهزُلتِ الوحوشُ وتكدَّرتِ الحياةُ من فسق الظَّلَمَةِ، وبكى ضوءُ النهارِ وظلمةُ الليل من الأعمال الخبيثةِ والأفعال الفظيعةِ، وشكا الكرامُ الكاتبون والمُعَقِّباتُ إلى ربِّهم من كثرةِ الفواحش وغلبةِ المنكرات والقبائحِ. وهذا والله مُنذِرٌ بسَيلِ عذابٍ قد انعقد غمامُهُ، ومُؤذِنٌ بليل بلاءٍ قد ادْلهَمَّ ظلامُهُ؛ فاعزِلوا

(1/65)


عن طريق هذا السَّيل بتوبةٍ نَصوح ما دامتِ التوبةُ ممكنةً وبابُها مفتوحٌ! وكأنَّكم بالباب وقد أُغْلِقَ، وبالرهنِ وقد غَلِقَ (1)، وبالجَناح وقد عَلِقَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227]. • اشترِ نفسَك اليومَ؛ فإنَّ السوقَ قائمةٌ، والثمنَ موجودٌ، والبضائع رخيصةٌ، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تَصِلُ فيه (2) إلى قليل ولا كثير، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ} [الفرقان: 27]. إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بزادٍ من التُّقى ... وأبْصَرْتَ يومَ الحَشْرِ منْ قَدْ تَزوَّدا نَدِمْتَ على أنْ لا تكون كَمِثِلِه ... وأنَّكَ لمْ تُرْصِدْ كما كان أرْصَدا (3) • العملُ بغير إخلاص ولا اقتداءٍ كالمسافر يَملأُ جرابَهُ رملًا يُثْقِلُهُ ولا ينفعُهُ. • إذا حملتَ على القلب همومَ الدُّنيا وأثقالهَا، وتهاونتَ بأورادِهِ التي هي قُوتُهُ وحياتُهُ؛ كنتَ كالمسافر الذي يُحمِّلُ دابَّتَهُ فوق طاقتِها، ولا يُوفيها علفَها؛ فما أسرع ما تَقِفُ به! • ومُشَتَّتُ العَزَماتِ يُنْفِقُ عُمْرَهُ ... حيْرانَ لا ظَفَرٌ ولا إخْفاقُ (4) • هلِ السَّائقُ العَجْلانُ يَمْلِكُ أمْرَهُ ... فما كُلُّ سَيرِ اليَعْمَلاتِ وَخيدُ __________ (1) أي استحقه المرتهن. (2) في الأصل: "فيها". (3) البيتان للأعشى في ديوانه (ص 46). (4) البيت لابن سنان الخفاجي في فوات الوفيات (2/ 223)، وبلا نسبة في المدهش (ص 188).

(1/66)


رويدَا بأخفافِ المَطِيِّ فإنَّما ... تُداسُ جِباهٌ تَحتَها وخُدود (1) • من تلمَّحَ حلاوة العافية هان (2) عليه مرارةُ الصَّبرِ. • الغايةُ: أولٌ في التقديرِ، آخرٌ في الوجودِ، مَبدأٌ في نظرِ العقلِ، منتهًى في منازل الوصول. • ألِفْتَ عَجْزَ العادةِ؛ فلو عَلَتْ بك هِمَّتكَ رُبا المعالي؛ لاحتْ لك أنوارُ العزائم. • إنَّما تفاوَتَ القومُ بالهِمَم لا بالصُّوَرِ. • نزولُ هِمَّةِ الكَسَّاح دَلَّاهُ في جُبِّ العَذِرَة. • بينَك وبين الفائزينَ جبلُ الهوى، نزلوا بين يديهِ ونزلْتَ خَلْفَهُ؛ فاطْوِ فَضْلَ منزل تَلْحَقْ بالقوم. • الدُّنيا مِضْمارُ سباقٍ، وقد انعقد الغبارُ، وخَفِيَ السابقُ، والناسُ في المِضمارِ بين فارسٍ وراجل وأصحابِ حُمُرٍ مُعَقَّرةٍ. سَوْفَ تَرى إذا انْجَلى الغُبارُ ... أفَرَسٌ تَحْتَكَ أمْ حِمارُ (3) • في الطبع شَرَهٌ، والحِميةُ أوفقُ. • لصُّ الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. • حَبَّةُ المشتَهى تحتَ فَخِّ التَّلَفِ؛ فتفكَّرْ في الذبح؛ وقد هان __________ (1) البيتان لمهيار الديلمي في ديوانه (1/ 310). (2) ط: "هانت". (3) الرجز ضمن رسالة للبديع الهمذاني في جمع الجواهر (ص 265)، وبلا نسبة في التمثيل والمحاضرة (ص 345).

(1/67)


الصَّبْرُ. • قوةُ الطَّمع في بلوغ الأمل تُوجبُ الاجتهادَ في الطلبِ وشدةَ الحَذَرِ من فَوْتِ المأمول. • البخيلُ فقيرٌ لا يُؤْجَرُ على فقرِهِ. • الصبرُ على عطش الضُّرِّ، ولا الشُّرْبُ من شِرْعَةِ مَنٍّ. • تجوعُ الحُرَّةُ ولا تأكلُ بثَدْيَيها. • لا تسألْ سوى مولاكَ؛ فسؤالُ العبدِ غيرَ سيِّدِهِ تشنيعٌ عليه. • غَرْسُ الخَلْوَةِ يُثْمِرُ الأنسَ. • استوحِشْ مما لا يدومُ معكَ، واستأنِسْ بمَن لا يفارِقُك. • عزلةُ الجاهل فسادٌ، وأما عزلةُ العالِم فَمَعَها حِذاؤُها وسِقاؤُها. • إذا اجتمع العقلُ واليقينُ في بيتِ العُزْلَةِ، واستَحْضَرا الفكرَ، وجرتْ بينَهم مناجاةٌ: أتاكَ حديثٌ لا يُمَلُّ سَماعُهُ ... شَهِيٌّ إلَينا نَثْرُهُ ونِظامُهُ إذا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زال عَناؤها ... وزال عَنِ القلبِ المُعَنَّى ظلامُهُ (1) • إذا خَرَجَتْ مِن فِي عَدُوِّكَ لفظةُ سَفَهٍ فلا تُلْحِقْها بمِثْلِها؛ تُلَقِّحْها، ونَسْلُ الخصام نَسْلٌ مذمومٌ. • حَميَّتُكَ لنفسِكَ أثرُ الجهل بها؛ فلو عَرَفْتَها حقَّ معرِفَتِها أعَنْتَ __________ (1) الأول للقاضي المرتضى الشهرزوري في "خريدة القصر" قسم الشام (2/ 309).

(1/68)


الخصمَ عليها. • إذا اقْتَدَحَتْ نارُ الانتقام من نارِ الغَضَبِ؛ ابْتَدَأتْ بإحراقِ القادح. • أوْثِقْ غضبَكَ بسلسلة الحِلْم؛ فإنَّه كلبٌ؛ إنْ أَفْلَتَ أَتلفَ. • مَن سبقتْ له سابقةُ السعادة؛ دُلَّ على الدليل قبل الطَّلَب. • إذا أراد القَدَرُ شخصًا؛ بَذَرَ في أرض قلبهِ بذْرَ التوفيقِ، ثم سقاه بماءِ الرغبةِ والرهبةِ، ثم أقام عليه ناطُورَ (1) المراقَبةِ، واستخدمَ له حارسَ العلم؛ فإذا الزرعُ قائمٌ (2) على سوقِهِ. • إذا طَلَعَ نجمُ الهِمَّةِ في ظلام ليل البَطالةِ، ورَدِفَهُ قمرُ العزيمةِ؛ أشرقتْ أرضُ القلبِ بنورِ ربِّها. • إذا جَنَّ الليلُ تغالبَ النومُ والسهرُ؛ فالخوفُ والشوقُ في مقدَّم عسكرِ اليَقَظَةِ، والكسلُ والتَّواني في كتيبةِ الغفلةِ؛ فإذا حَمَلَ العزمُ حَمَلَ على الميمنةِ، فانهزمتْ جنود التفريطِ؛ فما يَطْلُعُ الفجرُ؛ إلا وقد قُسِمَتِ السُّهْمانُ وبَرَدَتِ الغنيمةُ لأهلِها. • سَفَرُ الليل لا يُطيقهُ إلَّا مُضَمَّرُ المجاعةِ. • النجائبُ في الأوَّلِ، وحاملاتُ الزادِ في الأخير. • لا تَسأَمْ من الوقوفِ على الباب ولو طُرِدْتَ، ولا تقطع الاعتذارَ ولو رُدِدْتَ؛ فإنْ فُتِح البابُ للمقبولين دونكَ؛ فاهْجمْ هجومَ الكذَّابينَ، وادْخُلْ دخولَ الطُّفَيلِيَّة، وابْسُطْ كَفَّ {وَتَصَدَّقْ عَلَينَا} [يوسف: 88]. __________ (1) في الأصل: "بأطوار". (2) في الأصل: "قائمًا".

(1/69)


• يا مستفْتِحًا بابَ المعاشِ بغيرِ إقليدِ (1) التَّقوى! كيفَ تُوسِعُ طريقَ الخطايا وتَشْكو ضِيقَ الرِّزْقِ؟! • لو وَقَفْتَ عند مرادِ التَّقوى لم يَفُتْكَ مرادٌ. • المعاصي سَدٌّ في باب الكسبِ، و"إنَّ العَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنْب يُصيبُهُ" (2). • تَاللهِ ما جِئْتُكُمُ زائرًا ... إلَّا وَجَدْتُ الأرْضَ تُطْوَى لِيْ ولا انْثنَى عَزْميَ عن بابِكُمْ ... إلَّا تَعَثَّرْتُ بأذْيالي (3) • الأرواحُ في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليسَ ما أُعِدَّ للاستفراخ كمن هُيِّئَ للسِّباق. • من أراد من العمَّالِ أن يَعرِفَ قدرَه عند السلطان فلينظر ماذا يُوليهِ مِن العمل؟ وبأيِّ شُغْلٍ يَشْغَلُهُ؟ • كنْ من أبناءِ الآخرةِ، ولا تكُنْ من أبناءِ الدُّنيا؛ فإنَّ الولد يَتْبَعُ الأمَّ. • الدُّنيا لا تُساوي نَقْل أقدامِكَ إليها؛ فكيف تَعْدو خلفَها؟! • الدُّنيا جيفةٌ، والأسدُ لا يقعُ على الجِيَفِ. __________ (1) الإقليد: المفتاح. (2) أخرجه أحمد (5/ 277، 280، 282) وابن ماجه (90، 4022) وابن حبان (872) والحاكم (1/ 493) من حديث ثوبان مرفوعًا. وصححه ابن حبان والحاكم، وحسّنه البوصيري في الزوائد. (3) هما للمرتضى الشهرزوري في وفيات الأعيان (3/ 52).

(1/70)


• الدُّنيا مجازٌ، والآخرةُ وطنٌ، والأوطارُ إنَّما تُطلَبُ في الأوطان.

  • الاجتماعُ بالإخوانِ قسمانِ:

  أحدُهُما: اجتماعٌ على مؤانسةِ الطبع وشُغْل الوقتِ؛ فهذا مَضَرَّتُهُ أرجحُ من منفعتِهِ، وأقلُّ ما فيه أنَّه يُفْسِدُ القلبَ ويُضيِّعُ الوقتَ.

  الثاني: الاجتماعُ بهم على التعاونِ على أسباب النَّجاةِ والتَّواصي بالحقِّ والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمةِ وأنفعها، ولكنَّ فيه ثلاث آفاتٍ: إحداها: تزيُّنُ بعضهم لبعضٍ. الثانيةُ: الكلامُ والخِلْطة أكثر من الحاجةِ. الثالثةُ: أن يصيرَ ذلك شهوةً وعادةً ينقطعُ بها عن المقصود.

وبالجملةِ فالاجتماعُ والخِلْطَةُ لِقاحٌ: إما للنفس الأمَّارةِ، وإما للقلبِ والنفس المطمئنَّةِ، والنتيجةُ مستفادةٌ من اللِّقاحِ؛ فمن طابَ لِقاحُهُ طابتْ ثمرتُهُ. وهكذا الأرواح الطيبةُ لِقاحُها من المَلكِ، والخبيثةُ لِقاحُها من الشيطان، وقد جعلَ الله سبحانه بحكمتِهِ الطَّيِّباتِ للطَّيِّبين والطَّيِّبينَ للطَّيِّباتِ، وعَكْسَ ذلك. قاعدة ليس في الوجود الممكن سببٌ واحدٌ مستقلٌّ بالتأثير، بل لا يُؤثِّرُ سببٌ البتةَ إلا بانضمامِ سببٍ آخر إليه وانتفاءِ مانع يمنعُ تأثيرهُ. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنويَّةِ؛ كتأثير الشمس في الحيوان والنباتِ؛ فإنَّه موقوفٌ على أسباب أخر من وجود محلٍّ قابل وأسبابٍ أخَرَ تنضمُّ إلى ذلك السبب، وكذلك حصولُ الولد موقوفٌ على عدةِ أسَبابٍ غيرِ وطءِ الفَحْل، وكذلك جميعُ الأسباب مع مسبَّباتها. فكل ما يُخافُ ويُرْجَى من المخلوقاتِ؛ فأعلى غاياتِهِ أن

(1/71)


يكون جزءَ سببٍ غيرَ مستقلٍّ بالتأثيرِ. ولا يَستقلُّ بالتأثيرِ وحدَه دون توقُّفِ تأثيرِهِ على غيرِهِ إلَّا اللهُ الواحدُ القَهَّارُ؛ فلا ينبغي أن يُرْجى ولا يُخافَ غيرُهُ. وهذا برهانٌ قطعيٌّ على أنَّ تعلُّق الرجاء والخوف بغيره باطلٌ؛ فإنَّه لو فُرض أنَّ ذلك سببٌ مستقلٌّ وحدَه بالتأثير لكانتْ سببيَّتُهُ من غيرِهِ لا منه، فليس لهُ من نفسِهِ قوةٌ يَفْعَلُ بها؛ فإنَّه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله؛ فهو الذي بيدِهِ الحَوْلُ كلُّه والقوةُ كلُّها؛ فالحولُ والقوةُ التي يُرْجى لأجلِهِما المخلوقُ ويُخافُ إنَّما هما لله وبيدِهِ في الحقيقة؛ فكيف يُخافُ ويُرْجى من لا حولَ له ولا قوة؟! بل خوفُ المخلوقِ ورجاؤُهُ أحدُ أسبابِ الحرمانِ ونزولِ المكروهِ بمَن يرجوهُ ويخافهُ؛ فإنَّه على قَدْرِ خوفِكَ من غيرِ الله يُسَلَّطُ عليك، وعلى قَدْرِ رجائِكَ لغيرِهِ؛ يكون الحرمانُ. وهذا حالُ الخلقِ أجمعِهِ، وإن ذهب عن أكثرهم علمًا وحالًا؛ فما شاء اللهُ كان ولا بدَّ، وما لم يشأْ لم يكن ولو اتَّفَقَتْ عليه الخليقةُ. التوحيد مَفْزَعُ أعدائه وأوليائه: فأمَّا أعداؤُهُ فيُنجِّيهم من كُرَب الدُّنيا وشدائِدِها؛ {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65]. وأمَّا أولياؤُهُ فيُنَجِّيهم به من كُرُباتِ الدُّنيا والآخرةِ وشدائدِهما، ولذلك فَزِعَ إليه يونسُ فنجَّاهُ الله من تلك الظُّلُماتِ، وفزعَ إليه أتباعُ الرسل فنَجَوا به ممَّا عُذِّبَ به المشركون في الدُّنيا وما أُعِدَّ لهم في

(1/72)


الآخرة. ولما فَزِعَ إليه فرعونُ عند معاينةِ الهلاكِ وإدراكِ الغَرَقِ لم يَنْفَعْهُ؛ لأنَّ الإيمان عند المعاينةِ لا يُقْبَلُ. هذه سُنَّةُ الله في عبادِهِ؛ فما دُفِعَتْ شدائدُ الدُّنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاءُ الكَرْبِ بالتوحيد (1)، ودعوةُ ذي النونِ التي ما دعا بها مكروبٌ إلَّا فرَّج الله كَرْبَهُ بالتوحيد (2). فلا يُلْقي في الكُرَب العظام إلا الشِّرْكُ، ولا يُنجي منها إلا التوحيدُ؛ فهو مفزَعُ الخليقةِ وملجؤُها وحِصْنُها وغِياثُها. وبالله التوفيق. فائدة اللذةُ تابعةٌ للمحبَّةِ؛ تَقْوى بقوَّتِها، وتَضْعُفُ بضَعْفِها؛ فكلَّما كانت الرغبةُ في المحبوب والشوقُ إليه أقوى كانتِ اللَّذَّةُ بالوصول إليه أتمَّ. والمحبةُ والشوقُ تابعٌ لمعرفتِهِ والعلم به؛ فكلَّما كان العلمُ به أتَمَّ؛ كانتْ محبتُهُ أكملَ. فإذا رجع كمالُ النعيم في الآخرة وكمالُ اللَّذَّةِ إلى العلم والحُبِّ؛ فمَن كان بالله وأسمائِهِ وصفاتِهِ ودينهِ أعرف كان له أحبَّ، وكانت لذَّتُه __________ (1) أخرجه البخاري (6345) ومسلم (2730) عن ابن عباس. (2) أخرجه أحمد (1/ 170) والترمذي (3505) والطبراني في "الدعاء" (124) والحاكم (1/ 505) عن سعد بن أبي وقاص، وله شواهد عن عدد من الصحابة، فالحديث صحيح بها.

(1/73)


بالوصول إليه ومجاورتِهِ والنظرِ إلى وجهِهِ وسماع كلامِهِ أتمَّ. وكلُّ لَذَّةٍ ونعيمٍ وسرورٍ وبهجةٍ بالإضافة إلى ذلك كقطرةٍ في بحرٍ. فكيف يُؤْثِرُ منْ له عقلٌ لَذَّةً ضعيفةً قصيرةً مشوبةً بالآلام على لَذَّةٍ عظيمةٍ دائمةٍ أبدَ الآباد؟! وكمالُ العبدِ بحسب هاتين القوتين: العلم والحبِّ، وأفضلُ العلم العلمُ بالله، وأعلى الحبِّ الحبُّ له، وأكملُ اللَّذَّةِ بحَسَبهما. والله المستعان. قاعدة طالبُ اللَّهِ والدارِ الآخرة لا يستقيم له سَيرُه وطلبُه إلا بحَبْسَين: حبسُ قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسُهُ عن الالتفات إلى غيره. وحبسُ لسانه عما لا يُفيدُ، وحبسُهُ على ذِكْرِ الله وما يزيدُ في إيمانِهِ ومعرفتِهِ. وحبسُ جوارِحِه عن المعاصي والشهوات، وحبسُها على الواجبات والمندوبات. فلا يُفارِقُ الحبسَ حتى يَلْقى ربَّهُ، فيخلصُ من السجن إلى أوسع فضاءٍ وأطيبه. ومتى لم يصبِر على هذين الحبسين وفرَّ منهما إلى فضاءِ الشهوات؛ أعْقبَهُ ذلك الحبسُ الفظيعُ عند خروجه من الدُّنيا. فكلُّ خارجٍ من الدُّنيا: إما متخلِّصٌ من الحبس، وإما ذاهبٌ إلى الحبس. وبالله التوفيق. وَدَّع ابنُ عونٍ رجلًا فقال: عليك بتقوى الله؛ فإنَّ المتَّقي ليست عليه

(1/74)


وَحْشَةٌ. وقال زيدُ بنُ أسلم: كان يُقالُ: من اتَّقى الله أحبَّهُ الناس وإنْ كرِهوا (1) . وقال الثوريُّ لابن أبي ذئبٍ: إن اتَّقَيْتَ الله كفاك الناس، وإن اتقيتَ الناسَ لن يُغْنوا عنك من الله شيئًا (2) . وقال سليمان بن داود: أُوتينا ممَّا أوتِيَ الناس وممَّا لم يُؤْتَوْا، وعُلِّمْنا مما عُلِّمَ الناسُ ومما لم يُعَلَّموا، فلم نجد شيئًا أفضل من تقوى الله في السرِّ والعلانية، والعدلِ في الغضبِ والرِّضى، والقصدِ في الفقرِ والغنى (3) . وفي "الزهد" للإمام أحمد (4) أثرٌ إلهيٌّ: ما من مخلوقٍ اعْتصَمَ بمخلوق دوني إلَّا قطعتُ أسبابَ السماواتِ والأرضِ دونه؛ فإن سألني لم أُعْطِهِ، وإنْ دعاني لم أُجبْه، وإن استغفرَني لم أغفِرْ له. وما من مخلوقٍ اعتصمَ بي دون خَلْقيَ؛ إلا ضمنتِ السماواتُ والأرضُ رزقَه؛ فإنْ سألني أعطيتُهُ، وإنْ دعاني أجَبْتُهُ، وإن استغْفَرَني غفرتُ لهُ. __________ (1) الخبر في حلية الأولياء (3/ 222). (2) الخبر في حلية الأولياء (7/ 68). (3) أخرجه أحمد في الزهد (ص 51) وأبو نعيم في الحلية (7/ 299) عنه. (4) لم أجده في "الزهد"، وأخرجه تمام في فوائدة (1700 - الروض البسام) عن كعب بن مالك مرفوعًا. والحكيم الترمذي. ورواه الشجري في أماليه (1/ 223) عن جعفر بن محمد عن آبائه، وهي نسخة موضوعة.

(1/75)


فائدة جليلة جمعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بين تقوى الله وحُسْنِ الخُلُقِ (1) لأنَّ تقوى الله تُصلِحُ ما بين العبد وبين ربِّه، وحسنُ الخُلُقِ يُصْلِحُ ما بينه وبين خلقِهِ؛ فتقوى الله تُوجِبُ له محبةَ الله، وحُسْنُ الخُلُقِ يدعو الناس إلى محبَّتِهِ. فائدة جليلة بين العبد وبين الله والجنةِ قنطرةٌ تُقْطَعُ بخُطوتين: خطوةٍ عن نفسه، وخُطوةٍ عن الخلقِ؛ فيُسْقِطُ نفسَهُ ويُلْغِيها فيما بينهُ وبين الناس، ويُسْقِطُ الناسَ ويُلْغِيهم فيما بينَهُ وبين الله؛ فلا يلتفِتُ إلَّا إلى من دَلَّهُ على الله وعلى الطريق الموصلة إلى الله. • صاحَ بالصحابة واعظُ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]، فجزعتْ للخوف قلوبُهم، فجرتْ من الحذر العيونُ، {فَسَالتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]. • تزيَّنَتِ الدُّنيا لعليٍّ فقال: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا لا رجعَةَ لي فيك (2)! وكانت تكفيه واحدةٌ للسُّنَّةِ، لكنَّه جمع الثلاث؛ لئلَّا يُتَصوَّرَ للهوى جوازُ المراجعة، ودينُهُ الصحيحُ وطبعُهُ السليمُ يأنَفانِ من المحلِّل؛ كيف وهو أحدُ رُواةِ حديثِ: "لعن الله المُحَلِّل" (3)؟! • ما في هذه الدار موْضِعُ خَلْوَةٍ؛ فاتَّخِذْهُ في نفسِكَ. __________ (1) يشير إلى حديث أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي (3004) وابن ماجه (4246). (2) انظر البداية والنهاية (5/ 495). (3) أخرجه أحمد (1/ 83، 87، 88، 93) وأبو داود (2076) والترمذي (1119) وابن ماجه (1934) من طريق الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب مرفوعًا. وإسناده ضعيف من أجل الحارث، لكن الحديث صحيح بشواهده الكثيرة.

(1/76)


• لا بدَّ أن تَجْذِبَكَ الجواذبُ؛ فاعْرِفْها وكنْ منها على حذرٍ، ولا تَضُرَّكَ الشواغلُ إذا خَلَوْتَ منها وأنتَ فيها. • نورُ الحقِّ أضوأُ من الشمس، فيَحِقُّ لخفافيشِ البصائرِ أن تَعْشَى عنه. • الطريقُ إلى الله خالٍ من أهل الشَّكِّ ومن الذين يتَّبِعونَ الشَّهواتِ، وهو معمورٌ بأهل اليقين والصَّبْر، وهم على الطَّريقِ كالأعلام، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. قاعدة لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثيرٌ عظيمٌ في تكفير السيِّئاتِ وإحباطِها؛ لأنَّها شهادةٌ من عبدٍ مُوقنٍ بها، عارفٍ بمضمونها، قد ماتتْ منه الشَّهَواتُ، ولانتْ نفسُه المتمرِّدةُ، وانقادتْ بعد إبائها واستعصائها، وأقبلتْ بعد إعراضِها، وذَلَّتْ بعد عِزِّها، وخرج منها حِرْصُها على الدُّنيا وفضولِها، واسْتَخْذَتْ بين يدي ربِّها وفاطرِها ومولاها الحقِّ أذلَّ ما كانتْ له وأرْجى ما كانت لعفوهِ ومغفرتِهِ ورحمتِهِ، وتجرَّدَ منها التوحيدُ بانقطاع أسباب الشركِ وتحقُّق بطلانِهِ، فزالت منها تلك المنازعاتُ التي كانت مشغولةً بها، واجتمعِ هَمُّها على مَن أيقنتْ بالقُدوم عليهِ والمصير إليه، فَوَجَّه العبدُ وَجْهَهُ بكلِّيَّتِهِ إليه، وأقبلَ بقلبهِ ورُوحِهِ وهَمِّهِ عليه، فاستسلمَ له وحدَه ظاهرًا وباطنًا، واستوى سرُّه وَعلانيَتُهُ، فقال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبهِ، وقد تخلَّصَ قلبُهُ من التعلُّق بغيرِهِ والالتفاتِ إلى ما سواهُ، قد خرَجتِ الدُّنيا كلُّها من قلبه، وشارفَ القدوم على ربِّه، وخمدتْ نيرانُ شهوتهِ، وامتلأ قلبُهُ من الآخرةِ، فصارتْ نُصْبَ عينيه،

(1/77)


وصارتِ الدُّنيا وراءَ ظهرهِ، فكانت تلك الشهادة الخالصةُ خاتمةَ عملِهِ، فطهَّرَتْهُ من ذنوبه، وأدخلتْهُ على ربِّه؛ لأنَّه لَقِيَ رَبَّهُ بشهادةٍ صادقةٍ خالصةٍ، وافقَ ظاهرُها باطِنَها وسِرُّها علانيتَها. فلو حصلتْ له الشهادةُ على هذا الوجه في أيام الصحَّة لاستوحشَ من الدُّنيا وأهلِها، وفرَّ إلى الله من الناس، وأنِسَ به دون ما سواه، لكنَّه شهِدَ بها بقلبٍ مشحونٍ بالشهوات وحُبِّ الحياةِ وأسبابها، ونفسٍ مملوءةٍ بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله؛ فلو تجرَّدت كتجرُّدها عند الموت لكان لها نبأٌ آخرُ وعيشٌ آخرُ سوى عيشِها البهيميِّ. والله المستعانُ. ماذا يملِكُ مِنْ أمرهِ مَن ناصِيَتُه بيد الله، ونفسُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ يقلِّبُهُ كيف يشاء (1)، وحياتُهُ بيدِهِ، وموتُهُ بيدِهِ، وسعادتُهُ بيدِهِ، وَشقاوتُهُ بيدِهِ، وحركاتُهُ وسكناتُهُ وأقوالُهُ وأفعالُهُ بإذنِهِ ومشيئتِهِ؛ فلا يتحرَّكُ إلا بإذنِهِ، ولا يفعلُ إلَّا بمشيئتِهِ. إنْ وَكَلَهُ إلى نفسه وكَلَه إلى عجزٍ وضيعةٍ وتفريطٍ وذنب وخطيئةٍ، وإن وكَلَه إلى غيره وكلَهُ إلى منْ لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وإن تخلَّى عنه استولى عليه عدوُّهُ، وجعلَهُ أسيرًا له. فهو لا غِنى له عنه طَرْفَةَ عينٍ، بل هو مضطرٌّ إليه على مدى الأنفاسِ في كلِّ ذرَّةٍ من ذَرَّاتِهِ باطنًا وظاهرًا، فاقتُهُ تامَّةٌ إليه. ومع ذلك فهو متخلِّفٌ عنه، مُعْرِضٌ عنه، يتبغَّضُ إليه بمعصيتِهِ، مع شدَّة الضرورة إليه من كلِّ وجهٍ، قد صار لِذِكْرِهِ نَسِيًّا، واتَّخذه وراءَهُ ظِهْرِيًّا. هذا؛ وإليه مرجعُهُ، وبين يديهِ موقفُهُ؟! __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2654) عن عبد الله بن عمرو.

(1/78)


فَرِّغْ خاطِرَكَ للهَمِّ بما أُمِرْتَ به، ولا تَشْغَلْهُ بما ضُمِنَ لك؛ فإنَّ الرزق والأجل قرينانِ مضمونان؛ فما دام الأجلُ باقيًا كان الرزق آتيًا، وإذا سدَّ عليك بحكمتِهِ طريقًا من طرقِهِ؛ فتحَ لك برحمتِهِ طريقًا أنفعَ لك منه. فتأمَّلْ حالَ الجنين يأتيه غذاؤُه -وهو الدمُ- من طريقٍ واحدةٍ -وهو السُّرَّةُ-. فلما خرجَ من بطن الأمِّ، وانقطعتْ تلك الطريقُ؛ فتَحَ له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقًا أطيبَ وألذ من الأول؛ لبنًا خالصًا سائغًا. فإذا تَمَّتْ مدةُ الرَّضاع، وانقطعتِ الطريقانِ بالفِطام؛ فتحَ له طرقًا أربعة أكملَ منها: طعامان وشرابان، فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابانِ من المياهِ والألبانِ وما يُضافُ إليهما من المنافع والملاذِّ. فإذا ماتَ انقطعتْ عنه هذه الطرقُ الأربعة، لكنَّه سبحانه فتحَ له -إن كان سعيدًا- طُرقًا ثمانيةً، وهي أبواب الجنة الثمانيةُ؛ يدخُلُ من أيِّها شاء. فهكذا الربُّ سبحانه؛ لا يمنعُ عبدَه المؤمنَ شيئًا من الدُّنيا إلا ويُؤتيهِ أفضلَ منه وأنفعَ له، وليس ذلك لغير المؤمن، فإنَّه سبحانه يمنعُهُ الحظَّ الأدنى الخسيسَ ولا يَرضى لهُ به؛ ليُعطِيَهُ الحظَّ الأعلى النفيسَ. والعبدُ -لجهلِهِ بمصالح نفسه، وجهلِهِ بكرم ربِّه وحكمتِهِ ولطفِهِ- لا يَعرِفُ التفاوتَ بين ما مُنِعَ منه وبين ما ذُخِرَ له، بل هو مولعٌ بحبِّ العاجل وإن كان دَنِيًّا، وبقلَّةِ الرغبة في الآجل وإن كان عليًّا. ولو أنصف العبدُ ربَّه -وأنَّى له بذلك- لعَلِمَ أنَّ فضله عليه فيما منَعهُ من الدُّنيا ولذَّاتها ونعيمها أعظمُ من فضلِهِ عليه فيما آتاه من ذلك؛ فما

(1/79)


منَعه إلا ليُعْطِيَهُ، ولا ابتلاهُ إلَّا ليُعافيَهُ، ولا امتحنَهُ إلا لِيُصافيهُ، ولا أماتَهُ إلا ليُحْييَهُ، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهَّبَ منها للقدوم عليه وليسلُكَ الطريقَ الموصلةَ إليه. فـ {جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]، {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلا كُفُورًا (99)} [الإسراء: 99]. والله المستعانُ. • مَن عرفَ نفسَه اشتغلَ بإصلاحها عن عُيوبِ الناس، ومن عرفَ ربَّهُ اشتغل به عن هوى نفسه. • أنفعُ العمل أنْ تغيبَ فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المِنَّة؛ فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق. • دخل الناسُ النارَ من ثلاثة أبوابٍ: باب شبهةٍ أورثتْ شكًّا في دين الله، وباب شهوةٍ أورثتْ تقديمَ الهوى على طاعتِه ومرضاتِه وباب غضبٍ أورثت العدوان على خلقه. • أصولُ الخطايا كلِّها ثلاثةٌ: الكبْرُ: وهو الذي أصار إبليسَ إلى ما أصارهُ، والحِرْصُ: وهو الذي أخرج آدم من الجنَّة، والحسدُ: وهو الذي جَرَّأ أحدَ ابنَي آدمَ على أخيهِ؛ فمنْ وُقِي شَرَّ هذه الثلاثة فقد وُقِيَ الشَّرَّ؛ فالكفرُ من الكِبر، والمعاصي من الحِرْص، والبَغْيُ والظُّلْمُ من الحسد. • جعل الله بحكمتِهِ كلَّ جزءٍ من أجزاءِ ابن آدم -ظاهرةً وباطنةً- آلةً لشيءٍ؛ إذا استُعملَ فيه فهو كمالُهُ: فالعينُ آلةٌ للنظرِ، والأذُن آلةٌ للسَّماع، والأنفُ آلةٌ للشمِّ، واللسانُ للنُّطقِ، والفرجُ للنِّكاح، واليدُ

(1/80)


للبطش، والرِّجْلُ للمشي، والقلبُ للتوحيد والمعرفة، والرُّوحُ للمحبَّةِ، والعقلُ آلةٌ للتفكُّرِ والتدبُّر لعواقبِ الأمور الدينيَّةِ والدنيويَّةِ وإيثارِ ما ينبغي إيثارُه وإهمالِ ما ينبغي إهمالُه. • أخسرُ الناسِ صفقةً من اشْتَغَلَ عن الله بنفسِهِ، بل أخسرُ منه من اشْتَغَلَ عن نفسِهِ بالناس. • في "السنن" من حديث أبي سعيدٍ يرفعُهُ: "إذا أصْبَحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كُلَّها تكَفِّرُ اللِّسانَ؛ تقولُ: اتَّقِ الله! فإنَّما نحْنُ بكَ، فإنَّ استقمتَ اسْتَقَمْنا، وإن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا" (1). قولُهُ: "تكَفِّر اللسان"، قيل: معناهُ: تَخْضَعُ له. وفي الحديث أنَّ الصحابةَ لمَّا دخلوا على النَّجاشيِّ؛ لم يُكفِّروا له؛ أي: لم يسجُدوا ولم يخضعوا، ولذلك قال له عمرُو بنُ العاص، أيُّها المَلِكُ! إنَّهم لا يُكَفِّرون لك. وإنَّما خَضَعَتْ للِّسان؛ لأنَّه بريدُ القلب وتَرْجُمانُهُ والواسطةُ بينه وبين الأعضاءِ. وقولُها: "إنَّما نَحْنُ بكَ"؛ أي: نجاتُنا بك وهلاكُنا بك، ولهذا قال: فإن استقمتَ استقَمْنا، وإن اعوججتَ اعوجَجْنا. فصل جمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَبِ" (2) بين مصالح الدُّنيا والآخرةِ. __________ (1) أخرجه الترمذي (2407) وأحمد (3/ 96). (2) أخرجه ابن ماجه (2144) وابن حبان (3239، 3241) والحاكم (2/ 4) عن جابر بن عبد الله. وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.

(1/81)


فنعيمُها ولَذَّتُها إنما يُنال بتقوى الله. وراحةُ القلب والبدنِ وتركُ الاهتمامِ والحِرْصِ الشَّديدِ والتَّعَب والعَناءِ والكدِّ والشَّقاءِ في طلبِ الدُّنيا إنَّما يُنالُ بالإجمال في الطَّلَبِ. فمنِ اتَّقى الله فازَ بلذَّةِ الآخرة ونعيمِها، ومن أجْمَلَ في الطَّلَب استراحَ من نَكَدِ الدُّنيا وهمومها. فالله المستعانُ. قدْ نادتِ الدُّنيا على نَفْسِها ... لَوْ كان في ذا الخَلْقِ مَنْ يَسْمَعُ كَمْ واثِقٍ بالعيشِ أهْلَكْتُهُ ... وجامِعٍ فَرَّقْتُ ما يَجْمَعُ (1) فائدة جَمَعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بين المَأْثَم والمَغْرم (2)؛ فإنَّ المأثَمَ يوجِبُ خسارةَ الآخرةِ، والمغرمَ يوجِبُ خسارةَ الدُّنيا. فائدة قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. عَلَّقَ سبحانَه الهدايةَ بالجهادِ؛ فأكملُ الناسِ هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأقرضُ الجهادِ جهادُ النفس وجهادُ الهوى وجهادُ الشيطان وجهادُ الدُّنيا؛ فمنْ جاهدَ هذه الأربعةَ في الله هداه الله سُبلَ رضاهُ الموصلة إلى جنَّتِهِ، ومن تركَ الجهادَ فاتَهُ من الهُدى بحسب ما عطَّلَ من الجهاد. قال الجنيدُ: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ __________ (1) البيتان لجحظة في تاريخ بغداد (4/ 66). (2) في الحديث الذي أخرجه البخاري (832) ومسلم (589) عن عائشة.

(1/82)


الإخلاص. ولا يتمكَّنُ من جهادِ عدوِّهِ في الظاهرِ إلَّا من جاهدَ هذه الأعداءَ باطنًا؛ فمن نُصِر عليها نُصِرَ على عَدُوِّهِ، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدُوُّهُ. فصل ألقى الله سبحانه العداوةَ بين الشيطان وبين الملَك، والعداوة بين العقل وبين الهوى، والعداوة بين النفس الأمَّارةِ وبين القلب، وابتلى العبدَ بذلك، وجمع له بين هؤلاءِ، وأمدَّ كلَّ حزبٍ بجنودٍ وأعوان؛ فلا تزالُ الحربُ سِجالًا ودُوَلًا بين الفريقين إلى أن يستولي أحدُهما على الآخر ويكون الآخرُ مقهورًا معهُ. فإذا كانتِ النوبةُ للقلبِ والعقل والملك؛ فهنالك السُّرور، والنعيمُ، واللَّذَّةُ، والبهجةُ، والفرحُ، وقُرَّةُ العين، وطيبُ الحياةِ، وانشراحُ الصدرِ، والفوزُ بالغنائم. وإذا كانتِ النوبةُ للنفس والهوى والشيطان؛ فهنالك الغمومُ، والهمومُ، والأحزانُ، وأنواعُ المكارِهِ، وضيقُ الصدر، وحبسُ المَلِكِ. فما ظنُّكَ بمَلِكٍ استولى عليه عدوُّه، فأنزلَهُ عن سرير مُلكِهِ، وأسرَهُ، وحبسَهُ، وحال بينه وبين خزائِنِه وذخائرِهِ وخَدَمِهِ، وصَيَّرها له، ومع هذا فلا يتحرَّكُ الملكُ لطلب ثأرِهِ، ولا يَستغِيثُ بمن يُغِيثُهُ، ولا يَستنجِدُ بمن يُنْجِدُهُ؟! وفوقَ هذا المَلِكِ مَلِكٌ قاهرٌ لا يُقْهَرُ، وغالبٌ لا يُغْلَبُ، وعزيزٌ لا يُذَلُّ، فأرسل إليه: إن استنصرْتَني نصرتُك، وإن استغثتَ بي أغثتُك، وإن التجأتَ إليَّ أخذتُ بثأرِكَ، وإن هربتَ إليَّ وأويتَ إليَّ سَلَّطْتكَ على عدوِّك، وجعلتُهُ تحتَ أَسْرِكَ.

(1/83)


فإنْ قال هذا المَلِكُ المأسورُ: قد شَدَّ عَدُوِّي وَثاقي، وأحكمَ رِباطي، واستوثقَ منِّي بالقيود، ومنعَني من النهوض إليك والفرار إليك والمسيرِ إلى بابِكَ؛ فإن أرسلتَ جندًا من عندك يَحُلُّ وثاقي ويَفُكُّ قُيودي ويُخرِجُني من حبسِهِ؛ أمْكَنَني أن أوافيَ بابك، وإلَّا لم يُمكِنِّي مفارقةُ مَحْبِسي ولا كسرُ قيودي. فإن قالَ ذلك احتجاجًا على ذلك السلطان، ودَفْعًا لرسالتِهِ، ورضًى بما هو فيه عند عدوِّهِ؛ خَلَّاه السلطانُ الأعظمُ وحاله وولَّاه ما تولَّى. وإنْ قال ذلك افتقارًا إليه، وإظهارًا لعجزِهِ وذُلِّهِ، وأنه أَضْعَفُ وأَعْجَزُ أن يسير إليه بنفسه، ويخرُجَ من حبس عدوِّه، ويتخلَّصَ منه بحَوْلِهِ وقوَّتِهِ، وأنَّ من تمام نعمةِ ذلك الملكِ عليه -كما أرسلَ إليه هذه الرسالة- أن يُمِدَّهُ من جُندِهِ ومماليكِهِ بمن يُعينُهُ على الخلاص ويَكسِرُ باب مَحْبِسِهِ ويَفُكُّ قيودَه؛ فإنْ فعلَ به ذلك فقد أتمَّ إنعامَه عليه، وإنْ تخلَّى عنه فلم يَظْلِمْهُ ولا مَنَعَهُ حقًّا هو له، وأنَّ حمده وحكمته اقتضى منعَه وتخليتَهُ في مَحْبسِه، ولا سيَّما إذا علم أن الحبس حبْسُهُ، وأنَّ هذا العدوَّ الذي حبسَهُ ممَلوك من مماليكِهِ، وعبدٌ من عبيدِهِ، ناصيتُهُ بيدِهِ، لا يتصرَّفُ إلا بإذنِهِ ومشيئتِهِ؛ فهو غيرُ ملتفتٍ إِليه، ولا خائفٌ منه، ولا معتقدٌ أنَّ له شيئًا من الأمر ولا بيده نفعٌ ولا ضرٌّ، بل هو ناظرٌ إلى مالِكِه ومتولِّي أمره ومن ناصيتُهُ بيده، قد أفرَدَهُ بالخوفِ والرجاءِ والتضرُّعِ إليه والالتجاءِ والرغبة والرهبة؛ فهناك تأتيه جيوشُ النصرِ والظَّفَرِ. • أعلى الهِمَم في طلب العلم طلب علمِ الكتابِ والسُّنَّةِ، والفهم عن الله ورسوله نفسَ المراد، وعلم حدود المُنْزَل، وأخَسُّ هِمَم طلَّابِ العلم قَصْرُ هِمَّتِهِ على تتبُّع شواذِّ المسائل وما لم يَنْزِلْ ولا هو واقعٌ، أو كانتْ

(1/84)


هِمَّتُهُ معرفةَ الاختلاف وتتبُّعَ أقوال الناس، وليسَ له هِمَّةٌ إلى معرفةِ الصحيح من تلك الأقوال، وقَلَّ أنْ ينتفعَ واحدٌ من هؤلاءِ بعلمِهِ. • وأعلى الهِمَم في باب الإرادة أنْ تكونَ الهِمَّةُ متعلقةً بمحبة الله والوقوفِ مع مرادِهِ الدينيِّ الأمريِّ، وأسفلُها أن تكون الهمَّةُ واقفةً مع مرادِ صاحِبها من الله؛ فهو إنما يعبدُهُ لمُرادِهِ منه لا لمرادِ الله منه؛ فالأولُ يريدُ اللهَ ويريدُ مرادَهُ، والثاني يريدُ من الله وهو فارغٌ عن إرادتِهِ. • علماءُ السَّوْءِ جلسوا على بابِ الجنَّةِ يدعونَ إليها الناسَ بأقوالِهِم ويَدْعونَهُم إلى النار بأفعالِهِم؛ فكلَّما قَالتْ أقوالُهُم للناس: هَلُمُّوا! قالتْ أفعالُهُم: لا تَسْمَعوا منهم! فلو كان ما دَعَوْا إليه حقًّا كانوا أولَ المستجيبين له! فهم في الصورة أدِلَّاءُ وفي الحقيقةِ قُطَّاعُ الطريق. • إذا كان الله وحدَه حظَّكَ ومرادَكَ؛ فالفضلُ كلُّه تابعٌ لك يزدلِفُ إليك؛ أيَّ أنواعِهِ تبدأ به. وإذا كان حظُّكَ ما تنالُ منه فالفضلُ موقوفٌ عنك؛ لأنَّه بيدِهِ، تابعٌ له، فعلٌ من أفعالِهِ. فإذا حصل لك حصلَ لك الفضلُ بطريقِ الضِّمْنِ والتَّبَع، وإذا كان الفضلُ مقصودَك لم يَحْصُلِ الله بطريق الضِّمْنِ والتَّبَع. فإن كنتَ قد عرفتَهُ وأنِسْتَ به ثم سقطتَ إلى طلب الفضل؛ حرمَكَ إيَّاهُ عقوبةً لك، ففاتَكَ الله وفاتك الفضلُ. فصل لمَّا خرَجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من حَصْرِ العدوِّ دَخَل في حُصُرِ النصر، فعبثتْ أيدي سراياهُ بالنصر في الأطراف، فطار ذِكْرُهُ في الآفاقِ، فصار الخَلْقُ معهُ ثلاثة أقسام: مؤمنٌ به، ومسالمٌ له، وخائفٌ منه. ألقى بِذْرَ الصَّبْرِ في مزرعةِ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}

(1/85)


[الأحقاف: 35]؛ فإذا أغصانُ النباتِ تَهْتَزُّ بخُزامىَ {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]؛ فدخل مكة دُخولًا ما دَخَلَهُ أحدٌ قبلَه ولا بعدَه؛ حولَه المهاجرونَ والأنصارُ، لا يَبينُ منهم إلا الحَدَقُ، والصحابةُ على مراتبِهَم، والملائكةُ فوق رؤوسِهم، وجبريلُ يتردَّدُ بينَه وبين ربِّهِ، وقد أباحَ له حَرَمَهُ الذي لم يُحِلَّهُ لأحدٍ سواه (1) . فلمَّا قايَسَ بين هذا اليوم وبين يوم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] , فأخْرَجوه ثانيَ اثنين؛ دخلَ وذَقَنُه يَمَسُّ قرَبوسَ سرجِهِ، خضوعًا وذُلًّا لمن ألبسَهُ ثوبَ هذا العزِّ الذي رَفعَتْ إليه فيه الخليقةُ رؤوسَها، ومَدَّتْ إليه الملوكُ أعناقها. فدخَلَ مكَّةَ مالكًا مؤيَّدًا منصورًا، وعلا كَعْبُ بلالٍ فوقَ الكعبةِ بعد أن كان يُجَرُّ في الرَّمضاءِ على جَمْرِ الفتنة، فنَشَرَ بَزًّا طُوي عن القوم من يوم قولِهِ: أحدٌ أحدٌ، ورَفعَ صوتَه بالأذانِ، فأجابتهُ القبائلُ من كلِّ ناحيةٍ، فأقبلوا يؤمُّونَ الصوتَ، فدخلوا في دين الله أفواجًا، وكانوا قبل ذلك يأتونَ آحادًا. فلمَّا جَلَسَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- على منبر العزِّ -وما نَزلَ عنه قطُّ- مَدَّتِ الملوكُ أعناقها بالخُضوع إليه؛ فمنهم من سلَّمَ إليه مفاتيحَ البلادِ، ومنهم من سألَهُ الموادعةَ والصُّلْح، ومنهم من أقرَّ بالجزيةِ والصَّغارِ، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهُّب للحرب ولم يَدْرِ [أنَّه] لم يزِد على جمع الغنائم وسَوْقِ الأسارى إليه. __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1834) ومسلم (1353) عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه: "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار".

(1/86)


فلمَّا تكامل نصرُهُ، وبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاءه منشورُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3]، وبعده توقيعُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} [النصر: 1 - 2]؛ جاءَهُ رسولُ ربِّه يُخيِّرُهُ بين المُقام في الدُّنيا وبين لقائِهِ، فاختار لقاءَ ربِّه شوقًا إليه (1)، فتزيَّنَتِ الجِنانُ ليوم قدوم روحِهِ الكريمةِ لا كزينةِ المدينة يوم قدوم الملِكِ. إذا كان عرشُ الرحمن قد اهتزَّ لموتِ بعض أتباعِهِ (2) فرحًا واستبْشارًا بقُدوم روحِهِ؛ فكيف بقُدوم رُوح سيدِ الخلائقِ؟! فيا منتسبًا إلى غير هذا الجناب! ويا واقفًا بغير هذا الباب! ستعلمُ يومَ الحشرِ أيَّ سَريرةٍ ... تكونُ عليها يومَ تُبلَى السَّرائرُ فصل • يا مغرورًا بالأماني! لُعِنَ إبليسُ وأُهْبطَ من منزل العزِّ بتَرْكِ سجدةٍ واحدةٍ أُمِر بها، وأخْرَجَ آدم من الجنَّةِ بلُقمةٍ تناوَلَها، وحَجَبَ القاتل عنها بعد أن رآها عيانًا بملءِ كفٍّ من دم، وأمرَ بقتل الزَّاني أشنعَ القِتْلاتِ بإيلاج قَدْرِ الأُنْمُلَةِ فيما لا يَحِلُّ، وأمَرَ بإيساع الظَّهْرِ سياطًا بكلمةِ قذفٍ أو بقطرةٍ من مُسْكِرٍ، وأبانَ عُضوًا من أعضائكَ بثلاثةِ دراهم؛ فلا تأمَنْهُ أن يَحبِسَكَ في النارِ بمعصيةٍ واحدةٍ من معاصيهِ؛ {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (4463) ومسلم (2444) عن عائشة. (2) هو سعد بن معاذ، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3803) ومسلم (2466) عن جابر بن عبد الله.

(1/87)


[الشمس: 15]! دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ (1). وإنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة لا يُلقي لها بالًا يَهْوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب (2). وإنَّ الرجل ليعملُ بطاعةِ الله ستين سنةً؛ فإذا كان عند الموت جارَ في الوصيَّة، فيُخْتَمُ له بسوءِ عملِهِ، فيدخُلُ النار (3). العمُرُ بآخرِهِ، والعملُ بخاتمتِهِ (4). • من أحدث قبْلَ السلام بطلَ ما مضى من صلاتِهِ، ومَنْ أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامُهُ ضائعًا، ومن أساءَ في آخر عُمُرِهِ لَقِيَ ربَّه بذلك الوجه. • لو قدَّمْتَ لقمةً وجدْتَها، ولكن يُؤذيك الشَّرَهُ. • كم جاءَ الثوابُ يَسعَى إليك، فوقف بالبابِ، فردَّه بوَّابُ (سوفَ) و (لعلَّ) و (عسى). • كيف الفلاحُ بين إيمانٍ ناقصٍ، وأملٍ زائدٍ، ومرضٍ لا طبيبَ له __________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2365) ومسلم (2242) عن ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (6478) ومسلم (2988) عن أبي هريرة. (3) أخرجه أحمد (2/ 278) وأبو داود (2867) والترمذي (2117) وابن ماجه (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة. وشهر ضعيف. (4) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بخواتيمها"، أخرج البخاري (6493) ومسلم (112) عن سهل بن سعد.

(1/88)


ولا عائد، وهوًى مستيقظ، وعقلٍ راقدٍ؛ ساهيًا في غَمْرَتِهِ، عَمِهًا في سكرتِهِ، سابحًا في لُجَّةِ جهلِهِ، مستوحشًا من ربِّهِ، مستأنِسًا بخَلْقِهِ، ذِكْرُ الناس فاكهتُهُ وقوتُه، وذِكْرُ الله حبْسُهُ ومَوْتُهُ، لله منه جزءٌ يسيرُ من ظاهرِهِ، وقلبُهُ ويقينُهُ لغيرِهِ؟! لا كانَ مَنْ لِسِواك فيهِ بَقِيَّةٌ ... يَجِدُ السَّبيلَ بِها إليهِ العُذَّلُ (1) فصل كان أولَ المخلوقاتِ القلمُ؛ لِيَكْتُبَ المقاديرَ قبل كونِها (2). وجُعِلَ آدمُ آخرَ المخلوقاتِ، وفي ذلك حِكَمٌ: إحداها: تمهيدُ الدَّارِ قبل الساكنِ. الثانية: أنَّه الغايةُ التي خُلِقَ لأجلها ما سواهُ من السماواتِ والأرض والشمس والقمر والبَرِّ والبحر. الثالثةُ: أنَّ أحذقَ الصُنَّاعِ يَختِمُ عملَه بأحسنِهِ وغايتِهِ كما يبدؤُهُ بأساسه ومبادئِهِ. الرابعة: أنَّ النفوس متطلِّعةٌ إلى النهايات والأواخرِ دائمًا، ولهذا قال موسى للسَّحَرةِ أولًا: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)} [يونس: 80]، فلما رأى الناسُ فعلَهم تطلَّعوا إلى ما يأتي بعده. الخامسة: أنَّ الله سبحانه أخَّرَ أفضلَ الكُتُبِ والأنبياء والأمم إلى آخر __________ (1) البيت بلا نسبة في طريق الهجرتين (2/ 503). (2) أخرجه أحمد (5/ 317) وأبو داود (4700) والترمذي (2155، 3319) من حديث عبادة بن الصامت، وهو صحيح بطرقه.

(1/89)


الزمان، وجعل الآخرةَ خيرًا من الأولى، والنهاياتِ أكملَ من البدايات؛ فكم بين قول الملَكِ للرسول: اقْرَأْ! فيقولُ: ما أنا بقارئ (1) . وبين قولِهِ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]! السادسة: أنَّه سبحانه جمعَ ما فرَّقَه في العالم في آدم؛ فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير. السابعة: أنه خلاصة الوجود وثمرتُهُ، فناسب أن يكون خلقُهُ بعد الموجودات. الثامنة: أنَّ هذا من كرامته على خالقه أنه هيَّأ له مصالحَه وحوائجَه وآلاتِ معيشتِهِ وأسبابَ حياتِهِ؛ فما رفعَ رأسَه إلَّا وذلك كلُّه حاضرٌ عتيدٌ. التاسعة: أنَّه سبحانه أراد أن يُظهِرَ شرفَهُ وفضلَهُ على سائر المخلوقات، فقدَّمها عليه في الخلق، ولهذا قالت الملائكةُ: ليخلُقْ ربُّنا ما شاء؛ فلنْ يَخلُقَ خلقًا أكرمَ عليه منا (2) . فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضلُهُ وشرفُهُ عليهم بالعلم والمعرفة. فلما وقعَ في الذنبِ ظنَّتِ الملائكة أن ذلك الفضل قد نُسِخ، ولم تطَّلعْ على عبوديَّةِ التوبةَ الكامنة. فلما تاب إلى ربِّه، وأتى بتلك العبوديَّة؛ علمتِ الملائكةُ أنَّ لله في خلقِهِ سرًّا لا يعلمُهُ سواه. العاشرةُ: أنه سبحانه لما افتتحَ خلقَ هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان؛ فإنَّ القلم آلةُ العلم، والإنسان هو __________ (1) كما في حديث عائشة في بدء الوحي الذي أخرجه البخاري (3) ومسلم (160). (2) انظر "العظمة" لأبي الشيخ (5/ 1561).

(1/90)


العالمُ. ولهذا أظهر سبحانه فضلَ آدم على الملائكة بالعلم الذي خُصَّ به دونهم. وتأمَّلْ كيف كتبَ سبحانه عُذْرَ آدمَ قبل هبوطِهِ إلى الأرض، ونبَّه الملائكةَ على فضلِهِ وشرفِهِ، ونوَّهَ باسمِهِ قبل إيجادِهِ بقولِهِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وتأمَّل كيف وَسَمَهُ بالخلافة، وتلك ولايةٌ له قبل وجوده، وأقام عُذْرَهُ قبل الهُبوطِ بقوله: {فِي الْأَرْضِ}؛ والمحبُّ يُقيم عُذْرَ المحبوبِ قبلَ جنايتِهِ. فلما صوَّرهُ ألقاهُ على باب الجنَّة أربعين سنة (1)؛ لأنَّ دَأْبَ المحبِّ الوقوفُ على باب الحبيب، رَمَى به في طريق ذلِّ {لَمْ يَكُنْ شَيئًا} [الإنسان: 1] لئلَّا يُعْجَبَ يومَ {اسْجُدُوا} [البقرة: 34]. وكان إبليس يمرُّ على جسدِهِ، فيعجبُ منه ويقولُ: لأمرٍ قد خُلِقتَ! ثم يدخل من فيه ويخرج من دُبُرِهِ ويقول: لئن سُلِّطْتُ عليك لأهلِكَنَّك، ولئن سُلِّطْتَ عليَّ لأعصينَّك! ولم يَعلَمْ أنَّ هلاكه على يده. رأى طينًا مجموعًا فاحتقره، فلما صُوِّر الطينُ صورةً دَبَّ فيه داءُ الحسد، فلما نُفخَ فيه الروحُ ماتَ الحاسدُ. فلمَّا بُسِطَ له بساطُ العِزِّ عُرِضَتْ عليه المخلوقاتُ، فاسْتُحْضِرَ مدَّعي {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} [البقرة: 30] إلى حاكم {أَنْبِئُونِي} [البقرة: 31]، وقد أخفَى الوكيلُ عنه بينةَ {وَعَلَّمَ}، فنكسوا رؤوسَ الدعاوى على صدور الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 487) وتاريخه (1/ 93) موقوفًا من كلام ابن عباس وغيره.

(1/91)


الملائكةِ ينادي: {اسْجُدُوا}، فتطهَّروا من حَدَثِ دعوى {وَنَحْنُ} [البقرة: 30] بماء العذر في آنية {لَا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32]، فسجدوا على طهارة التسليم. وقام إبليسُ ناحيةً لم يَسجُدْ؛ لأنَّه خَبَثٌ، وقد تلوَّثَ بنجاسة الاعتراض، وما كانتْ نجاستُه تُتلافىَ بالتطهير؛ لأنَّها عينيةٌ. فلما تمَّ كمالُ آدم قيل: لا بُدَّ من خالِ جمالٍ على وجهِ {اسْجُدُوا}، فجرى القدرُ بالذِّنْبِ؛ ليتبيَّنَ أثرُ العبوديَّةِ في الذُّلِّ. يا آدمُ! لو عُفِيَ لك عن تلك اللُّقْمَةِ لقال الحاسدونَ: كيف فُضِّلَ ذو شَرَهٍ لم يَصبِرْ على شجرة؟! لولا نزولُك ما تصاعدتْ صُعداءُ الأنفاس، ولا نزلتْ رسائلُ "هل من سائلٍ" (1) ، ولا فاحتْ روائحُ "ولخُلُوفُ فمِ الصَّائمِ" (2) ؛ فتبيَّنَ حينئذٍ أنَّ ذلك التناول لم يكنْ عن شرَهٍ. يا آدمُ! ضَحِكُك في الجنةِ لك، وبكاؤُك في دارِ التكليف لنا. ما ضُرَّ مَن كَسرَهُ عزِّي إذا جَبَرَهُ فَضْلي. إنما تليقُ خِلْعَةُ العِزِّ ببدنِ الانكسارِ. أنا عند المنكسرةِ قلوبُهم من أجلي (3) . ما زالتْ تلك الأكْلةُ تُعادُّه حتى استولى داؤه على أولادِهِ، فأرسلَ __________ (1) قطعة من حديث النزول، وهو متواتر، وأخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (1894) ومسلم (1151) عن أبي هريرة في فضل الصيام. (3) أخرج أحمد في الزهد (ص 95) وأبو نعيم في الحلية (6/ 177) عن عمران القصير أن موسى -عليه السلام- قال: أي ربّ! أين أجدك؟ فقال تعالى: "أنا عند المنكسرة ... ".

(1/92)


إليهم اللطيفُ الخبيرُ الدواءَ على أيدي أطباءِ الوجودِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]، فحماهم الطبيب بالمناهي، وحَفِظَ القوةَ بالأوامر، واستفرغ أخلاطَهم الرديئة بالتوبة، فجاءت العافية من كلِّ ناحية. فيا من ضَيَّع القوةَ ولم يحفظها، وخَلَّط في مرضه وما احتمى ولا صبرَ على مرارة الاستفراغ! لا تُنْكرْ قُربَ الهلاك؛ فالداء مترامٍ إلى الفساد! لو ساعدَ القدرُ فأعنتَ الطبيبَ على نفسك بالحِمْيةِ من شهوةٍ خسيسةٍ؛ ظَفِرْتَ بأنواع اللَّذَّات وأصنافِ المشتهيات، ولكن بُخار الشهوة غطَّى عينَ البصيرة، فظننتَ أنَّ الحزم بيعُ الوعدِ بالنقدِ. يا لها بصيرةً عمياء! جَزِعَتْ من صبر ساعةٍ، واحتملتْ ذُلَّ الأبد! سافرتْ في طلب الدُّنيا وهي عنها زائلةٌ، وقعدتْ عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلةٌ. إذا رأيتَ الرجل يشتري الخسيسَ بالنفيسِ، ويَبيعُ العظيمَ بالحقير؛ فاعلمْ بأنَّه سفيهٌ. فصل • لمَّا سَلِمَ لآدمَ أصلُ العبودية لمَ يقْدَحْ فيه الذنبُ. • "ابْنَ آدمَ! لوْ لَقِيتَني بقُرابِ الأرض خطايا، ثُمَّ لقيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئًا؛ لقيتُكَ بِقُرابِها مغفرةً" (1). • لمَّا عَلِمَ السيِّدُ أنَّ ذنبَ عبدِهِ لم يكنْ قصدًا لمخالفتِهِ ولا قدحًا في __________ (1) أخرجه مسلم (2687) من حديث أبي ذر المشهور.

(1/93)


حكمتِهِ؛ علَّمَهُ كيف يعتذرُ إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيهِ} [البقرة: 37]. • العبدُ لا يريدُ بمعصيته مخالفة سيِّدِهِ ولا الجرأةَ على محارِمِهِ. ولكنْ غلباتُ الطبع وتزيينُ النفس والشيطان وقهرُ الهوى والثقةُ بالعفو ورجاءُ المغفرة. هذا من جانب العبد. وأمَّا من جانب الرُّبوبيَّةِ فجريانُ الحكم، وإظهارُ عزِّ الربوبيَّةِ وذلِّ العبوديَّةِ وكمال الاحتياج، وظُهورُ آثارِ الأسماءِ الحُسنى؛ كالعفوِّ والغفورِ والتوَّاب والحليم لمنْ جاء تائبًا نادمًا، والمنتقم والعَدْل وذي البطش الشديدِ لمَنْ أصَرَّ ولَزِمَ المعرَّة؛ فهو سبحانه يريدُ أن يُرِيَ عبدَه تفرُّدَه بالكمال ونقص العبدِ وحاجتَهُ إليه، ويُشْهِدَهُ كمال قدرتِهِ وعزَّتِهِ، وكمال مغفرتهِ وعفوهِ ورحمتِهِ، وكمال بِرِّهِ وسَتْرِهِ وحِلْمِهِ وتجاوزِهِ وصَفْحِه، وأن رحمته به إحسانٌ إليه لا معارضة، وأنه إن لم يتغمدْهُ برحمته وفضله؛ فهو هالكٌ لا محالةَ. فلله! كم في تقدير الذنب من حكمةٍ! وكم فيه مع تحقق التوبة للعبد من مصلحة ورحمةٍ! التوبةُ من الذنب كشُرْبِ الدواءِ للعليل، ورُبَّ عِلّةٍ كانت سببَ الصحة! لعلَّ عَتْبَكَ مَحْمودٌ عواقِبُهُ ... ورُبَّما صَحَّتِ الأجْسادُ بالعِلَلِ (1) • لولا تقديرُ الذنب هلكَ ابنُ آدمَ من العُجْبِ. • ذنبٌ يَذِلُّ به أحبُّ إليه من طاعةٍ يُدِلُّ بها عليه. • شمعةُ النصر إنما تنزلُ في شمعدانِ الانكسارِ. __________ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 210).

(1/94)


• لا يُكرِمُ العبدُ نفسَه بمثلِ إهانتِها، ولا يُعِزُّها بمثلِ ذُلِّها، ولا يُرِيحُها بمثل تَعبِها؛ كما قيل: سأُتْعِبُ نَفْسِي أو أصادِفَ راحةً ... فإنَّ هَوانَ النَّفْسِ في كَرَمِ النَّفْسِ (1) ولا يُشْبِعُها بمثل جوعها، ولا يُؤْمِنُها بمِثْل خوفِها، ولا يُؤنِسُها بمثل وحشتها من كلِّ ما سوى فاطرِها وبارِئها، ولا يُحيِيها بمثل إماتتها؛ كما قيل: مَوْتُ النُّفوسِ حياتُها ... مَنْ شاءَ أنْ يَحْيا يموتُ (2) • شرابُ الهوى حلوٌ ولكنَّه يورِثُ الشَّرَقَ. • من تذكَّر خنقَ الفخِّ هانَ عليه هجرانُ الحبَّةِ. • يا مُعَرْقلًا في شَرَكِ الهوى جَمْزةُ عزمٍ وقد خرقت الشبكةَ. • لا بُدَّ من نفوذ القدر؛ فاجنَحْ للسلْم. • لله ملك السماوات والأرض؛ واستقرضَ منك حبَّةً، فبَخِلْتَ بها! وخلقَ سبعة أبحُرٍ، وأحبَّ منك دمعةً، فقَحطَتْ عينُك بها! • إطلاقُ البصر يَنقُشُ في القلب صورةَ المنظور، والقلبُ كعبةٌ، والمعبودُ لا يرضى بمزاحمةِ الأصنام. • لَذَّاتُ الدُّنيا كسوداءَ وقد غلبتْ عليك، والحورُ العينُ يَعْجَبْنَ من سوءِ اختياركَ عليهنَّ؛ غير أنَّ زَوبعةَ الهوى إذا ثارتْ سَفتْ في عين __________ (1) البيت مع أبيات أخرى في المدهش (ص 342) بلا نسبة. (2) البيت في خلاصة الأثر للمحبي (3/ 355).

(1/95)


البصيرة، فخَفيتِ الجادَّةُ. • سبحان الله! تزيَّنَتِ الجنةُ للخُطَّاب فجَدُّوا في تحصيل المهر، وتعرَّف ربُّ العزة إلى المحبين بأسمائه وَصفاته فعَمِلُوا على اللِّقاء، وأنت مشغولٌ بالجِيَفِ. لا كان مَن لسواك منه قلبُهُ ... ولك اللِّسانُ مع الودادِ الكاذبِ (1) • المعرفة بِساطٌ لا يَطأُ عليه إلا مقرَّبٌ، والمحبَّةُ نشيدٌ لا يطربُ عليه إلا مُحِبٌّ مُغْرَمٌ. • الحبُّ غديرٌ في صحراءَ، ليستْ عليه جادَّةٌ؛ فلهذا قلَّ وارِدُهُ. • المحبُّ يَهرُبُ إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والأُنْسِ بذكره كهَرَبِ الحوتِ إلى الماء والطفلِ إلى أمِّهِ. وأخْرُجُ من بينِ البيوتِ لعلَّني ... أحدِّثُ عنك القلبَ بالسِّرِّ خاليَا (2) • ليس للعابد مستراحٌ إلا تحت شجرة طُوبى، ولا للمحبِّ قرارٌ إلَّا يومَ المزيد. • اشتغِلْ به في الحياة؛ يَكْفِك ما بعد الموت. • يا مُنْفقًا بضاعةَ العُمُرِ في مخالفة حبيبه والبعد منه! ليس في أعدائك أضرُّ عليك منك. ما يَبْلُغُ الأعداءُ منْ جاهلٍ ... ما يَبْلُغُ الجاهلُ منْ نفسِهِ (3) __________ (1) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. (2) البيت للمجنون في ديوانه (ص 294). (3) البيت من أبيات لصالح بن عبد القدوس في طبقات الشعراء (ص 90) والعقد الفريد =

(1/96)


• الهمَّة العليَّةُ [همَّةُ] من استعدَّ صاحبُها للقاء الحبيب، وقدَّمَ التَّقادم بين يدي المُلتقي، فاستبشر عند القدوم: {قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} [البقرة: 223]. • تالله ما عَدا عليك العدوُّ إلَّا بعد أن تولَّى عنك الوليُّ؛ فلا تظنَّ أن الشيطان غلب، ولكن الحافظ أعرض. • احذرْ بنفسِك! فما أصابك بلاءٌ قط إلَّا منها، ولا تُهادِنْها! فوالله ما أكرمَها من لم يُهِنْها، ولا أعزَّها من لم يُذِلَّها، ولا جَبَرَها من لم يَكسِرْها، ولا أراحَهَا من لم يُتْعِبْها، ولا أمَّنها من لمْ يُخوِّفها، ولا فرَّحها من لم يُحزِنْها. • سبحان الله! ظاهرُك متجمِّلٌ بلباس التَّقوى، وباطنُك باطيةٌ لخمر الهوى، فكلَّما طيَّبتَ الثوبَ فاحتْ رائحةُ المسكِر من تحته، فتباعدَ منك الصادقون، وانحاز إليك الفاسقون. • يدخُل عليك لصُّ الهوى وأنت في زاوية التعبُّد، فلا يَرى منك طردًا له، فلا يزالُ بك حتى يُخرِجك من المسجد. • اصدقْ في الطلب؛ وقد جاءتْك المعونة. • قال رجلٌ لمعروف: علِّمْني المحبة! فقال: المحبة لا تجيءُ بالتعليم (1). هو الشوقُ مدلولًا على مقتل الفتى ... إذا لم يَعِدْ صَبًّا بِلُقْيا حَبيبهِ (2) __________ = (2/ 436) وتاريخ بغداد (9/ 303). (1) الخبر في "طبقات الصوفية" للسلمي (ص 89). (2) البيت للشريف الرضي في ديوانه (1/ 132).

(1/97)


• ليس العجبُ من قوله: {يُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، إنما العجبُ من قوله: {يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54]. • ليس العجبُ من فقيرٍ مسكين يُحِبُّ محسنًا إليه، إنما العجبُ من محسنٍ يحبُّ فقيرًا مسكينًا. فصل القرآنُ كلامُ الله، وقد تجلَّى الله فيه لعبادِهِ بصفاتِهِ: فتارةً يتجلَّى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتَخْضَعُ الأعناقُ، وتَنكسرُ النفوسُ، وتَخْشَعُ الأصواتُ، ويذوبُ الكبرُ كما يذوب الملحُ في الماء. وتارةً يتجلَّى في صفات الجمال والكمال، وهو كمالُ الأسماء وجمال الصفات وجمالُ الأفعال الدالُّ على كمال الذات، فيَستنفِدُ حُبُّه من قلب العبد قُوَّة الحبِّ كلها بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيُصبِح فؤادُ عبدِه فارغًا إلا من محبَّتِهِ، فإذا أراد منه الغيرُ أن يعلق تلك المحبة به؛ أبَى قلبُهُ وأحشاؤُهُ ذلك كلَّ الإباء؛ كما قيل: يُرادُ من القلب نسيانُكُم ... وتأبى الطِّباعُ على النَّاقِلِ (1) فتبقى المحبةُ له طبعًا لا تكلُّفًا. وإذا تجلَّى بصفات الرحمة والبرِّ واللطف والإحسان انبعثتْ قوةُ الرجاء من العبد، وانبسط أملُهُ، وقويَ طمَعُهُ، وسار إلى ربِّهِ وحادي الرجاء يحدو ركابَ سيره، وكلَّما قوي الرجاءُ جَدَّ في العمل؛ كما أنَّ __________ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 153).

(1/98)


الباذر كلَّما قويَ طمعُهُ في المغلِّ غلَّق أرضَه بالبذْرِ، وإذا ضعُف رجاؤُهُ قصَّر في البذر. وإذا تجلَّى بصفات العدل والانتقام والغضب والسَّخط والعقوبة انقمعتِ النفسُ الأمَّارةُ، وبَطَلتْ أو ضَعُفتْ قُواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضَتْ أعِنَّةُ رُعوناتِها، فأحضرت المطية حظَّها من الخوف والخشية والحذر. وإذا تجلَّى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرُّسل وإنزال الكتب وشَرْعِ الشرائع؛ انبعثتْ منها قُوَّةُ الامتثال والتنفيذِ لأوامره، والتبليغِ لها، والتواصي بها، وذكرِها وتذكُّرِها، والتصديقِ بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي. وإذا تجلَّى بصفات السمع والبصر والعلم انبعثَ من العبد قُوَّةُ الحياء؛ فيستحيي ربَّه أن يراهُ على ما يكره، أو يسمعُ منه ما يكره، أو يُخفِي في سريرته ما يمقتُهُ عليه، فتبقى حركاتُهُ وأقوالُهُ وخواطرُهُ موزونةً بميزان الشرع، غيرَ مُهملةٍ ولا مُرسَلةٍ تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلَّى بصفات الكفاية، والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسَوْقِ أرزاقهم إليهم، ودفعِ المصائبِ عنهم، ونصرِهِ لأوليائه وحمايته لهم ومعيِّتِهِ الخاصة لهم؛ انبعثتْ من العبد قوةُ التوكل عليه، والتفويض إليه، والرِّضى به في (1) كل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. والتوكُّل معنى يلتئمُ من علمِ العبد بكفاية الله وحسنِ اختياره لعبده، وثقتِه به، ورضاه بما يفعله به ويختارُهُ له. __________ (1) في الأصل: "والرضى به وما في ... ".

(1/99)


وإذا تجلى بصفات العزِّ والكبرياء أعطتْ نفسُه المطمئنةُ ما وصلتْ إليه من الذُّلِّ لعظمته، والانكسار لعزَّته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينةُ والوقارُ في قلبه ولسانه وجوارحه وسمتِهِ، ويَذهبُ طيشُه وتَوْقُه وحدَّتُهُ. وجِماعُ ذلك أنه سبحانه يَتعرَّفُ إلى العبد بصفاتِ إلهيَّتِه تارةً وبصفاتِ ربوبيَّتِه تارةً: فيُوجِب له شهودُ صفاتِ الإلهية: المحبةَ الخاصة، والشوقَ إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودُّد إليه بطاعته، واللَّهَجَ بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصيرُ هو وحدَه همَّهُ دون ما سواه. ويُوجِب له شهودُ صفاتِ الربوبيَّة: التوكلَ عليه، والافتقارَ إليه، والاستعانة به، والذُّلَّ والخضوع والانكسار له. وكمالُ ذلك أن يشهد ربوبيَّتَهُ في إلهيَّتِهِ، وإلهيَّتَهُ في ربوبيَّتِهِ، وحمده في ملكِهِ، وعزَّه في عفوهِ، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبرَّهُ ولطفه وإحسانه ورحمته في قيُّومِيَّتِهِ، وعدلهُ في انتقامه، وجودَهُ وكرمهُ في مغفرته وسترِهِ وتجاوزِهِ، ويشهد حكمتَه ونعمته في أمره ونهيه، وعزَّهُ في رضاهُ وغضبه، وحلمهُ في إمهالِهِ، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه. وأنت إذا تدبَّرتَ القرآن وأجَرتَهُ من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلِّفين؛ أشهدَك مَلِكًا قيُّومًا فوق سماواته، على عرشه، يُدبِّرُ أمرَ عباده، يأمرُ وينهى، ويُرسِلُ الرسل وينزلُ الكتب، ويرضى ويغضبُ، ويُثيبُ ويُعاقبُ، ويُعطي ويَمنعُ، ويُعزُّ ويُذِلُّ،

(1/100)


ويَخفِضُ ويَرفع، يرى من فوق سبعٍ ويسمع، ويعلم السِّرَّ والعلانية، فعَالٌ لما يريدُ، موصوفٌ بكلِّ كمال، منزَّهٌ عن كلِّ عيبٍ، لا تتحرَّكُ ذرَّةٌ فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقطُ ورقةٌ إلا بعلمه، ولا يَشفعُ أحدٌ عنده إلَّا بإذنِهِ، ليس لعباده من دونه وليٌّ ولا شفيعٌ. فصل لما بايعَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- أهلَ العقبةِ (1) أمرَ أصحابَه بالهجرة إلى المدينة، فعلمتْ قريشٌ أنَّ أصحابهُ قد كَثُروا وأنَّهم سيمنعونه، فأَعملتْ آراءها في استخراج الحيل؛ فمنهم من رأى الحبس، ومنهم من رأى النفي، ثم اجتمع رأيُهم على القتل. فجاء البريدُ بالخبر من السماء، وأمره أن يُفارِقَ المضجعَ، فبات عليٌّ مكانَه (2)، ونهضَ الصِّدِّيقُ لرفقة السَّفَرِ. فلمَّا فارقا بيوتَ مكَّةَ اشتدَّ الحَذَرُ بالصِّدِّيق، فجعل يذكُرُ الرَّصدَ فيسيرُ أمامه، وتارةً يذكُرُ الطلَب فيتأخَّرُ وراءه، وتارةً عن يمينِه، وتارةً عن شماله، إلى أن انتهيا إلى الغار. فبدأ الصدِّيقُ بدخولِهِ ليكون وقايةً له إنْ كان ثَمَّ مُؤذٍ، وأنْبَتَ الله شجرةً لم تكن قبلُ، فأظلَّت المطلوب وأضلَّت الطالب، وجاءتْ عنكبوتٌ فحاذَتْ وجهَ الغار فحاكتْ ثوبَ نَسْجِها على منوال السِّتْرِ، فأُحْكِمَت الشُّقَّةُ حتى عُمِّيَ على القائفِ الطلبُ، وأرسل الله حمامتين __________ (1) هذه بيعة العقبة الثانية، وخبرها في مسند أحمد (3/ 322) وسيرة ابن هشام (2/ 41) والبداية والنهاية (3/ 60). (2) كما في قصة الهجرة التي أخرجها أحمد (1/ 348) عن ابن عباس.

(1/101)


فاتَّخَذَتا هناك عُشًّا جعل على أبصار الطالبين غِشاوةً (1) ، وهذا أبلغُ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود. فلمَّا وقف القومُ على رؤوسهم، وصار كلامُهم بسَمْعِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصِّدِّيق؛ قال الصِّدِّيقُ وقد اشتدَّ به القلقُ: يا رسول الله! لَو أنَّ أحدَهم نظرَ إلى ما تحتَ قدميه لأبصَرنَا تحتَ قدمَيْهِ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنينِ اللهُ ثالثُهُما؟ " (2) . لما رأى الرسول حزنَه قد اشتدَّ -لكن لا على نفسه- قَوَّى قلبَه ببشارة {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فظهَر سِرُّ هذا الاقترانِ في المعيَّة لفظًا كما ظهر حكمًا ومعنى؛ إذ يُقالُ: رسول الله وصاحبُ رسول الله، فلما مات قيل: خليفةُ رسولِ الله، ثمَّ انقطعتْ إضافةُ الخلافةِ بموته، فقيل: أميرُ المؤمنين (3) . فأقاما في الغار ثلاثًا، ثم خرجا منه ولسانُ القدرِ يقولُ: لتدخُلنَّها دُخولًا لم يَدْخُله أحدٌ قبلك ولا ينبغي لأحدٍ من بعدك. فلما استقلَّا على البيداء لَحِقَهما سُراقةُ بن مالك، فلما شارفَ الظفَر أرسل عليه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- سهمًا من سِهام الدُّعاء، فساخَتْ قوائمُ فرسِه في الأرض إلى بطنها (4) ، فلما علم أنه لا سبيلَ له عليهما أخذ __________ (1) الخبر الوارد في ذلك لا يصح، وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 229) والبزار في مسنده (كما في مجمع الزوائد 6/ 56) والطبراني في المعجم الكبير (20/ 443). قال ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 181): غريب جدا. (2) أخرجه البخاري (3653) ومسلم (2381) عن أبي بكر. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 79). (4) أخرجه البخاري (3908) ومسلم (2009) عن البراء بن عازب).

(1/102)


يَعرِضُ المال على من قد ردَّ مفاتيح الكنوز، ويُقدِّم الزادَ إلى شبعان، "أبيتُ عند ربِّي يُطعِمُني ويَسقِيني" (1) . كانت تحفةُ {ثَانِيَ اثْنَينِ} [التوبة: 40] مُدَّخرةً للصديق دونَ الجميع؛ فهو الثاني في الإسلام وفي بذل النفس وفي الزُّهد وفي الصُّحبة وفي الخلافة وفي العمر وفي سبب الموت؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات عن أثر السُّمِّ (2) ، وأبو بكر سُمَّ فمات (3) . أسلمَ على يديه من العشرة عثمان وطلحة والزُّبير وعبدُ الرحمن بن عوف وسعدُ بن أبي وقَّاص. وكان عنده يوم أسلم أربعون (4) ألف درهم، فأنفقَها أحوجَ ما كان الإسلامُ إليها؛ فلهذا جَلبتْ نفقتُهُ عليه: "ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر" (5) . فهو خيرٌ من مؤمن آل فرعون؛ لأنَّ ذلك كان يكتُمُ إيمانَه والصديقُ أعلنَ به، وخيرٌ من مؤمن آل ياسينَ؛ لأنَّ ذلك جاهدَ ساعةً والصديقُ جاهدَ سنين. عاينَ طائرَ الفاقةِ يَحُومُ حولَ حبِّ الإيثار ويَصيح {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، فألقى له حبَّ المال على روض الرِّضي، واستلقى على فراش الفقر، فنقلَ الطائرُ الحبَّ إلى حَوصلةِ المضاعفة، __________ (1) أخرجه البخاري (1965) ومسلم (1103) عن أبي هريرة. (2) كما ذكره البخاري (4428) تعليقًا عن عائشة. (3) انظر طبقات ابن سعد (3/ 198) ومستدرك الحاكم (3/ 59). (4) في الأصل: "أربعين". (5) أخرجه أحمد (2/ 253) وابن ماجه (94) من حديث أبي هريرة. وهو صحيح.

(1/103)


ثم علا على أفنان شجرة الصدق يُغرِّدُ بفنون المدح، ثم قام في محاريب الإسلام يتلو: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 17- 18]. نَطقتْ بفضله الآياتُ والأخبار، واجتمعَ على بيعتِه المهاجرون والأنصار، فيا مُبْغِضيه! في قلوبكم من ذكرِه نار، كلما تُلِيتْ فضائلُه عَلا عليهم الصُّفارُ، أتُرى لم يَسمع الروافضُ الكفَّارُ {ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]؟! دُعي إلى الإسلام فما تلعثمَ ولا أبي، وسار على المحجَّة فما زلَّ ولا كبا، وصبر في مُدَّتِهِ من مُدى العِدَا على وقع الشَّبا، وأكثر في الإنفاق فما قلَّل حتى تخلَّل بالعبا، تالله لقد زاد على السَّبْكِ في كلِّ دينار دينارُ {ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]. من كان قرينَ النبي في شبابه؟! من ذا الذي سبقَ إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أولُ من صلَّى معهُ؟! من آخرُ من صلَّى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! فاعرِفُوا حقَّ الجار. نهضَ يوم الرِّدَّةِ بفهم واستيقاظ، وأبانَ من نصِّ الكتاب معنًى دقَّ عن حديد الألحاظ؛ فالمحبُّ يفرحُ بفضائله والمبغضُ يغتاظ، حسرةُ الرافضي أن يفرَّ من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟! كم وَقى الرسولَ بالمال والنفس، وكان أخصَّ به في حياته وهو ضجيعُه في الرمس، فضائلُهُ جليَّةٌ، وهي خليةٌ عن اللبس، يا عجبًا! من يُغطِّي عينَ ضوءِ الشمس في نصف النهار؟!

(1/104)


لقد دخلا غارًا لا يَسكنُهُ لابثٌ، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ما ظنُّك باثنينِ واللهُ الثالث! فنزلت السكينةُ فارتفع خوف الحادث، فزال القلقُ وطاب عيشُ الماكث، فقام مؤذنُ النصر يُنادي على رؤوس منائرِ الأمصار: {ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]. حُبُّه والله رأسُ الحنيفيَّة، وبُغْضُهُ يدُلُّ على خُبْثِ الطَّويَّة، فهو خيرُ الصحابة والقرابة والحُجَّةُ على ذلك قويَّة، لولا صِحَّةُ إمامته ما قَبِلَ ابنُ الحنفيَّة. مهلًا! مهلًا! فإنَّ دم الروافض قد فار. والله ما أحببناهُ لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذْنا بقول عليٍّ رضي الله عنه وكفانا: رضيك رسولُ الله لديننا، أفلا نرضاك لدُنيانَا (1)؟! تالله لقد أخذتَ من الروافض بالثار. تالله لقد وجبَ حقُّ الصدِّيق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونَقَرُّ بما نُقَرِّ بُه من السُّنِّي عينًا؛ فمن كان رافضيًّا فلا يعدْ إلينا، وليقلْ: لي أعذار. تنبيه • اجتنبْ من يُعادِي أهلَ الكتاب والسُّنَّة لئلَّا يُعْدِيك خُسرانُه. • احترزْ من عدُوَّين هلك بهما أكثرُ الخلق: صادٍّ عن سبيل الله بشُبُهاتِه وزُخْرُفِ قوله، ومفتونٍ بدُنياه ورئاستِهِ. • من خُلِقَ فيه قُوَّةٌ واستعدادٌ لشيء؛ كانت لذَّتُهُ في استعمال تلك __________ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 66) وصححه.

(1/105)


القوة فيه. فلذةُ من خُلِقَتْ فيه قوةٌ واستعدادٌ للجماع استعمال قوتِه فيه. ولذَّةُ من خُلِقت فيه قوةُ الغضب والتوثُّب استعمالُ قوته الغضبيَّة في متعلَّقها. ومن خُلِقتْ فيه قوةُ الأكل والشرب؛ فلذَّتُهُ باستعمال قوته فيهما. ومن خُلِقتْ فيه قوةُ العلم والمعرفة؛ فلذَّتُهُ باستعمال قوته وصرفها إلى العلم. ومن خُلِقتْ فيه قوةُ الحبِّ لله والإنابة إليه والعكوف بالقلب عليه والشوق إليه والأنس به؛ فلذتُه ونعيمهُ استعمالُ هذه القوة في ذلك. وسائرُ اللَّذَّات دون هذه اللَّذَّة مضمحلةٌ فانيةٌ، وأحمدُ عاقبتِها أن تكونَ لا له ولا عليه. تنبيه • يا أيُّها الأعزلُ! احذرْ فراسةَ المتَّقي؛ فإنِّه يَرى عورةَ عملك من وراءِ سترِ "اتَّقوا فراسة المؤمن" (1). • سبحان الله! في النفس: كِبْرُ إبليسُ، وحسدُ قابيل، وعُتُوُّ عادٍ، وطغيانُ ثمودَ، وجرأةُ نمرود، واستطالةُ فرعون، وبَغْيُ قارون، وقِحَةُ هامان، وهَوَى بَلْعام، وحِيَلُ أصحابِ السبت، وتمرُّدُ الوليد، وجهل أبي جهل. وفيها من أخلاق البهائم: حِرصُ الغُراب، وشَرَهُ الكلب، ورُعونة الطاووس، ودناءة الجُعَل، وعقوق الضبِّ، وحِقدُ الجمل، ووثوبُ الفهد، وصَولةُ الأسد، وفِسقُ الفأرة، وخُبثُ الحية، وعَبَثُ القرد، وجمعُ النملة، ومكر الثعلب، وخِفَّةُ الفَراش، ونوم الضَّبُع. __________ (1) أخرجه الترمذي (3127) عن أبي سعيد الخدري، وإسناده ضعيف.

(1/106)


غير أنَّ الرياضة والمجاهدة تُذْهِبُ ذلك. فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تَصلُح سِلعتُه لعقدِ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]؛ فما اشترى إلا سِلعةً هذَّبها الإيمانُ، فخرجتْ من طبعها إلى بلدٍ سكانُه التائبون العابدون. • سَلِّم المبيعَ قبلَ أن يَتْلف في يدك فلا يَقبلُهُ المشتري! • قد علمَ المشتري بعيبِ السِّلْعة قبل أن يشتريها فسلِّمْها ولك الأمانُ من الرد. • قَدْرُ السِّلعة يُعرَف بقدرِ مشتريها والثمنِ المبذول فيها والمنادي عليها؛ فإذا كان المشتري عظيمًا والثمن خطيرًا والمنادي جليلًا كانت السلعةُ نفيسةً. يا بائعًا نفسَه بيعَ الهوانِ لو اسْـ ... ــترْجعتَ ذا البيع قبلَ الفوْتِ لمْ تَخِبِ (1) وبائعًا طِيبَ عَيشٍ مالهُ خطرٌ ... بِطَيْفِ عيشٍ من الآلام مُنْتَهَبِ غُبِنْتَ واللهِ غبنًا فاحشًا ولدى ... يَوْمِ التَّغابُنِ تَلْقَى غايةَ الحرَبِ ووارِدًا صَفْوَ عيشٍ كُلُّهُ كدرٌ ... أمامكَ الورْدُ حقًّا ليسَ بالكذبِ وحاطبَ اللَّيْلِ في الظَّلماءِ مُنْتصبًا ... لكُلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَبِ تَرجو الشِّفاءَ بأحْداقٍ بها مرضٌ ... فهل سمعتَ بِبُرءٍ جاء من عَطَبِ ومُفْنيًا نفسَهُ في إثْرِ أقْبَحِهم ... وصْفًا للَطْخِ جمالٍ فيه مُستلَبِ __________ (1) هذه الأبيات ذكرها المؤلف لنفسه في "بدائع الفوائد" (2/ 818 - 819) مع اختلاف في بعضها.

(1/107)


وواهبًا نفسَه من مثلِ ذا سَفَهًا ... لو كُنْتَ تَعْرِفُ قدرَ النَّفسِ لم تَهَبِ شابَ الصِّبا والتَّصابي بعدُ لم يَشِبِ ... وضاعَ وقتُك بين اللَّهو واللَّعبِ وشمسُ عُمْرِك قد حانَ الغُرُوبُ لها ... والفيءُ في الأفُق الشَّرقيِّ لم يَغِبِ وفاز بالوصلِ من قدْ جَدَّ وانْقشعتْ ... عن أُفْقِه ظُلُماتُ اللَّيلِ والسُّحُبِ كم ذا التَّخلُّفُ والدُّنيا قد ارتحلتْ ... ورُسلُ ربِّك قدْ وافَتْك في الطَّلَبِ ما في الدِّيار وقدْ سارتْ ركائبُ منْ ... تهْواهُ للصَّبِّ من شُكْرٍ ولا أَرَبِ فأَفرِشِ الخَدَّ ذَيَّاك التُّرابَ وقُلْ ... ما قالهُ صاحب الأشواق والحُقُبِ (1) ما رَبْعُ مَيَّةَ محفوفًا يُطيفُ به ... غيْلانُ أشْهَى له من رَبْعِكَ الخَرِبِ منازلًا كان يَهواها ويألفُها ... أيَّام كان منالُ الوصل عن كَثَبِ ولا الخُدودُ ولو أُدْمِينَ من ضَرَجٍ ... أشهَى إلى ناظري من رَبْعِك الخَرَبِ (2) وكُلَّما جُلِّيَتْ تلك الرُّبوعُ لهُ ... يَهْوي إليها هُويَّ الماءِ في الصَّبَبِ أحْيا لهُ الشوقَ تذكارُ العُهودِ بها ... فلو دَعا القلبَ للسُّلوانِ لم يُجِبِ هذا وكم منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ ... وما له في سواها الدَّهرَ من رَغَبِ ما في الخيامٍ أخو وَجْدٍ يُرِيْحُك إنْ ... بَثَثْتَه بعضَ شأنِ الحبِّ فاغتربِ وأَسرِ في غمَراتِ الليلِ مهتديًا ... بنفحةِ الطيبِ لا بالعُودِ والحَطَبِ وعادِ كُلَّ أخي جُبْنٍ ومَعْجزةٍ ... وحاربِ النفسَ لا تُلقِيكَ في الحَرَبِ __________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "في الحُقُبِ". ويقصد بصاحب الأشواق أبا تمام الذي ضمَّن له بيتين مع التصرف (ما ربع مية ... ) و (ولا الخدود ... ). (2) في ط وديوان أبي تمام: "من خدك الترب". وتقدم فيها هذا البيت على سابقه.

(1/108)


وخُذْ لنفسِك نورًا تستضيءُ به ... يومَ اقتسامِ الورَى الأنوارَ بالرُّتَبِ غيره: إن كان يُوجِبُ ضُرِّي رحمتي فرِضىً ... بسوءِ حالي وحِلٌّ للضَّنا بدني مَنحْتُك الرُّوحَ لا أَبغِي بها ثمنًا ... إلَّا رِضاك ووافَقْرِي إلى الثَّمَنِ (1) غيره: أَحِنُّ بأطرافِ النَّهارِ صَبابةً ... وباللَّيلِ يَدعوني الهوى فأُجيبُ (2) غيره: وإذا لم يَكنْ من العِشقِ بُدٌّ ... فمن العَجْزِ عِشْقُ غيرِ الجميلِ (3) غيره: فلوْ أنَّ ما أسْعىَ لعيشٍ مُعجَّلٍ ... كفانيَ منهُ بعضُ ما أنا فيهِ ولكِنَّما أسعَى لِمُلكِ مُخلَّدٍ ... فوا أسفَا إنْ لم أكُنْ بمُلاقيهِ (4) • يا من هو من أرباب الخبرة! هل عرفتَ قيمةَ نفسِك؟ إنما خُلِقت الأكوانُ كلُّها لك. • يا من غُذِيَ بِلبَانِ البِرِّ، وقُلِّبَ بأيدي الألطاف! كلُّ الأشياء شجرةٌ __________ (1) البيتان في "المدهش" (ص 423) و "بدائع الفوائد" (3/ 1177). (2) البيت ليزيد بن الطثرية في الأغاني (8/ 163)، ولابن الدمينة في ديوانه (ص 104)، ولسمنون في حلية الأولياء (10/ 311)، وبلا نسبة في طبقات الصوفية (ص 198) والمدهش (ص 420). (3) لم أجد البيت في المصادر التي رجعت إليها. (4) لم أجد البيتين في المصادر التي رجعت إليها. ونظر الشاعر إلى بيتي امرئ القيس.

(1/109)


وأنت الثمرة، وصورةٌ وأنت المعنى، وصَدَفٌ وأنت الدُّرُّ، ومَخِيضٌ وأنت الزُّبْدُ. • منشورُ اختيارِنا لك واضحُ الخطِّ، ولكنّ استخراجَك ضعيفٌ. • متى رُمتَ طلبي فاطلُبْني عندك، واطلُبْني منك تجدْني قريبًا، ولا تطلُبْني من غيرك فأنا أقربُ إليك منه. • لو عرفتَ قدْرَ نفسِك عندنا ما أهنتَها بالمعاصي، إنما أبْعَدْنا إبليسَ إذْ لم يَسجُدْ لك وأنتَ في صُلبِ أبيك؛ فواعجبًا! كيف صالحتَهُ وتركتَنا؟! • لو كان في قلبك محبَّةٌ؛ لبانَ أثرُها على جَسَدِك: ولمَّا ادَّعيتُ الحُبَّ قالتْ كذَبْتَني ... ألستُ أرى الأعضاءَ منك كَواسِيَا (1) • لو تغذَّى القلبُ بالمحبة؛ لَذَهبتْ عنه بِطْنَةُ الشَّهوات: ولو كُنْتَ عُذْرِيَّ الصَّبابةِ لم تكنْ ... بَطِينًا وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ (2) • لو صحَّتْ محبَّتُك لاستوحشتَ ممَّن لا يُذكِّرُك بالحبيب. • واعجبًا لمن يَدَّعي المحبة، ويحتاجُ إلى من يُذَكِّره بمحبوبِه؛ فلا يَذكُرُهُ إلَّا بمُذكِّرٍ! أقلُّ ما في المحبة أنها لا تُنْسِيك تَذكُّرَ المحبوبِ: __________ (1) البيت لأم حمادة في الزهرة (1/ 92) ولامرأة في الموشى (ص 126) وأخبار النساء (ص 61)، وللمجنون في المستطرف (3/ 76). (2) البيت لجميل في ديوانه (ص 182).

(1/110)


ذكرتُك لا أنِّي نَسِيتُك ساعةً ... وأيْسَرُ ما في الذِّكر ذِكْرُ لساني (1) • إذا سافرَ المحبُّ للقاءِ محبوبه ركبتْ جنودُه معه، فكان الحبُّ في مقدِّمة العسكر، والرجاءُ يَحْدُو بالمَطِيِّ، والشوقُ يَسُوقها، والخوفُ يجمعها على الطريق؛ فإذا شارفَ قدومَ بلدِ الوصل خرجتْ تَقادِمُ الحبيبِ للقاءِ. فدَاوِ سُقْمًا بجسمٍ أنت مُتْلِفُهُ ... وابْرُدْ غَرامًا بقلبٍ أنت مُضرِمُهُ ولا تَكِلْني على بُعْدِ الدِّيارِ إلى ... صَبْرِي الضَّعيفِ فصبري أنت تعلمُهُ تَلَقَّ قلبي فقد أرْسلْتُهُ عَجِلًا ... إلى لقائك والأشواقُ تَقْدُمُه (2) فإذا دخل على الحبيب أُفِيضَتْ عليه الخِلَعُ من كلِّ ناحية؛ ليُمْتحَن أيَسكُنُ إليها فتكون حظَّهُ؟ أم يكون التفاتُهُ إلى من ألبسَهُ إيَّاها؟ • مَلَؤوا مراكبَ القلوب متاعًا لا يَنفقُ إلا على الملك، فلما هَبَّتْ رياحُ السَّحرِ أقلعتْ تلك المراكبُ، فما طلعَ الفجرُ إلَّا وهي بالمِيناء. • قطعوا باديةَ الهوى بأقدام الجدِّ، فما كان إلَّا القليلُ حتى قَدِمُوا من السفر، فأعقبَهم (3) الراحةُ في طرَيقِ التلقِّي، فدخلوا بلدَ الوصلِ وقد حَازوا رِبْحَ الأبد. • فَرَّغَ القومُ قُلوبَهم من الشواغل، فضُرِبَتْ فيها سُرادِقاتُ المحبة، فأقاموا العيونَ تَحْرُسُ تارةً وتَرُشُّ أخرى. __________ (1) البيت للشبلي في تاريخ بغداد (14/ 390). (2) الأبيات في المدهش (ص 255)، وما عدا الأول في بدائع الفوائد (3/ 1179). (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "فاعتنقتهم" كما في المدهش.

(1/111)


• سُرادِقُ المحبةِ لا يُضرَبُ إلا في قاعٍ نَزِهٍ فارغٍ. نزِّهْ فؤادَكَ من سوانا والْقَنا ... فجنابُنا حِلٌّ لكُلِّ مُنزِّهِ الصَّبْرُ طِلَّسمٌ لكنزِ وصالِنا ... مَن حَلَّ ذا الطِلَّسمَ فازَ بكنْزِهِ (1) • اعرفْ قدرَ ما ضاع منك، وابكِ بكاءَ من يدري مقدارَ الفائتِ. • لو تَخيَّلْتَ قربَ الأحباب لأقمتَ المأتَمَ على بُعْدِكَ. • لو استنشقتَ ريحَ الأسحار لأفاقَ منك قلبُك المخمورُ. • من استطال الطريقَ ضعُف مشيُهُ: وما أنتَ بالمُشتاقِ إن قُلتَ بيننا ... طِوالُ اللَّيالي أوْ بعيدُ المفاوزِ (2) • أما علمتَ أنَّ الصادق إذا هَمَّ ألْقَى بين عيْنَيْهِ عَزْمَهُ؟! (3) • إذا نزلَ آبُ في القلب حَلَّ آذارُ في العين. • هانَ سَهَرُ الحُرَّاسِ لمَّا علموا أن أصواتَهم بسَمْعِ الملك. • من لاح له حالُ الآخرة هانَ عليه فراقُ الدُّنيا. • إذا لاحَ للباشقِ الصيدُ نَسيَ مألوفَ الكفِّ. • يا أقدامَ الصبرِ! احْمِلي! بَقِيَ القليلُ. __________ (1) سبقا (ص 42). (2) البيت بلا نسبة في بدائع الفوائد (3/ 1180). وهو مأخوذ من قول ابن سنان الخفاجي: وما أنا بالمشتاق إن قلتُ بيننا ... طوال العوالي أو طوال السباسب (3) من قول سعد بن ناشب في الحماسة (1/ 70): إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا

(1/112)


• تَذكَّرْ حلاوةَ الوصالِ يَهُنْ عليك مُرُّ المجاهدة. • قد علمتَ أين المنزلُ؛ فاحْدُ لها تَسِرْ. • أعلى الهِمَم هِمَّةُ من استعدَّ صاحبُها للقاءِ الحبيب، وقَدَّمَ التَّقادِمَ بين يدي المُلْتَقى؛ فاستبشر بالرِّضى عند القدوم، {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223]. • الجنَّةُ تَرضَى منك بأداء الفرائض، والنارُ تَندفعُ عنك بتَرْكِ المعاصي، والمحبَّهُ لا تَقنَعُ منك إلا ببذل الرُّوح. • لله ما أحلَى زمانًا (1) تَسعَى فيه أقدامُ الطاعةِ على أرض الاشتياق. • لمَّا سَلَّم القومُ النفوسَ إلى رائضِ الشرع؛ علَّمَها الوِفاقَ في خلاف الطبع، فاستقامتْ مع الطاعة؛ كيف دارتْ دارتْ معها. وإنِّي إذا اصْطكَّتْ رِقابُ مَطِيِّهمْ ... وثَوَّرَ حَادٍ بالرِّفاقِ عَجُولُ أخالِفُ بين الرَّاحتيْنِ على الحَشَا ... وأَنْظُرُ أنِّي مُلْتَمٍ فأَمِيلُ (2) فصل • عَلَّمْتَ كلبَك فهو يترُكُ شهوتَه في تناوُل ما صادَهُ؛ احترامًا لنعمتك، وخوفًا من سطوتك، وكم عَلَّمك معلِّمُ الشرعِ وأنتَ لا تقبلُ. • حُرِّم صيدُ الجاهلِ والممسكِ لنفسه؛ فما ظنُّ الجاهلِ الذي أعمالُهُ لهوى نفسِه. • جُمِعَ فيك عقلُ الملك، وشهوةُ البهيمة، وهوى الشيطان، وأنت __________ (1) في الأصل: "زمان". (2) البيتان للشريف الرضي في ديوانه (2/ 221).

(1/113)


للغالب عليك من الثلاثة: إن غلبتَ شهوتَك وهواك زِدتَ على مرتبة مَلَكٍ، وإن غلبك هواك وشهوتُك نَقَصْتَ عن مرتبة كلبٍ. • لمَّا صَادَ الكلبُ لربِّهِ أُبِيحَ صيدُهُ، ولما أمْسَكَ على نفسه حَرُمَ ما صادَهُ. • مصدرُ ما في العبد من الخير والشرِّ والصفاتِ الممدوحة والمذمومة من صفة المُعطِي المانع؛ فهو سبحانه يُصرِّفُ عبادَه بين مقتضى هذين الاسمين؛ فحظُّ العبدِ الصادقِ من عبوديَّتِهِ بهما الشُّكْرُ عند العطاء، والافتقارُ عند المنع؛ فهو سبحانه يُعطِيه ليشكُرهُ، ويَمنعُهُ ليفتقرَ إليه، فلا يَزالُ شكورًا فقيرًا. • قوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]؛ هذا من ألطفِ خطاب القرآن وأشرفِ معانيه. وإنَّ المؤمن دائمًا مع الله على نفسه وهواهُ وشيطانه وعدوِّ ربِّه، وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائِهِ؛ فهو مع الله على عدوِّهِ الداخل فيه والخارج عنه؛ يُحارِبُهم ويُعادِيهم ويُغْضِبُهم له سبحانه؛ كما يكونُ خواصُّ الملك معه على حربِ أعدائِهِ، والبعيدون منه فارغون من ذلك غيرُ مهتمِّين به. والكافرُ مع شيطانه ونفسه وهواه على ربِّه. وعباراتُ السَّلَفِ على هذا تدورُ: ذكر ابنُ أبي حاتم (1) عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جُبَيْرٍ قال: عونًا للشيطان على ربِّه بالعداوةِ والشِّركِ. __________ (1) انظر الآثار التالية في تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2711) "الدر المنثور" (11/ 196).

(1/114)


وقال الليثُ عن مجاهدٍ قال: يُظاهِرُ الشيطانَ على معصيةِ الله؛ يُعِينُه عليها. وقال زيدُ بن أسلم: ظهيرًا أي: مُواليًا. والمعنى: أنَّه يُوالي عدُوَّهُ على معصيتِهِ والشركِ به، فيكونُ مع عدوِّهِ مُعِينًا له على مَساخِطِ ربِّه. فالمعيَّةُ الخاصةُ التي للمؤمن مع ربِّه وإلهِهِ قد صارتْ لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقُربانه، ولهذا صدَّر الآية بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55]، وهذه العبادةُ هي الموالاةُ والمحبةُ والرِّضى بمعبوديهم المتضمِّنةُ لمعيَّتِهم الخاصَّة، فظاهَروا أعداءَ الله على مُعاداتِهِ ومخالفته ومساخطه، بخلاف وَليِّه سبحانه؛ فإنَّه معه على نفسه وشيطانه وهواهُ. وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فَهِمهُ وعَقَلهُ. وبالله التوفيقُ. • قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 73]. قال مقاتلٌ: إذا وُعِظوا بالقرآن لم يَقَعوا عليه صُمًّا لم يَسمعوه وعُميانًا لم يُبصِرُوه، ولكنَّهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به. وقالَ ابنُ عباس: لم يكونوا عليها صُمًّا وعُميانًا، بل كانوا خائفين خاشعين. وقال الكلبيُّ: يَخِرُّون عليها سُمَّعًا وبُصَّرًا.

(1/115)


وقال الفرَّاءُ (1): وإذا تُلِي عليهم القرآنُ لم يَقعُدوا على حالهم الأولى؛ كأنَّهم لم يَسمعوه، فذلك الخُرورُ، وسَمعْتُ العرب تقولُ: قَعَدَ يَشتِمُني؛ كقولك: [قامَ] يَشتِمُني، وأقبل يَشتِمُني، والمعنى على ما ذُكِر: لم يَصِيروا عندها صُمًّا وعُميانًا. وقال الزَّجَّاجُ (2): المعنى: إذا تُلِيَتْ عليهم خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا سامعين مبصرين لما أُمِروا به. وقال ابنُ قُتيبة (3): أي لم يَتغافلوا عنها كأنَّهم صُمٌّ لم يَسمَعُوها وعُمْيٌ لم يَرَوها. قلتُ: ها هنا أمران: ذِكْرُ الخُرور، وتسليطُ النفي عليه. وهل هو خُرورُ القلب أو خُرورُ البدنِ للسُّجود؟ وهل المعنى: لم يكن خُرورُهم عن صَمَمٍ وعَمَهٍ؛ فلهُم عليها خرورٌ بالقلب خضوعًا أو بالبدن سُجودًا، أو ليس هناك خرورٌ وعبَّرَ به عن القعود؟ • أصولُ المعاصي كلِّها -كبارها وصغارها- ثلاثةٌ: تعلُّقُ القلبِ بغير الله، وطاعةُ القوة الغضبيَّة، والقوة الشهوانيَّةِ. وهي: الشركُ، والظلمُ، والفواحشُ. فغايةُ التعلُّق بغير الله: الشركُ وأن يُدْعى معه إلهٌ آخرُ، وغايةُ طاعة القوَّة الغضبيَّة: القتلُ، وغايةُ طاعة القوَّةِ الشهوانيَّة: الزِّنى. __________ (1) في معاني القرآن (2/ 274). (2) في معاني القرآن وإعرابه (4/ 77). (3) في تفسير غريب القرآن (ص 315).

(1/116)


ولهذا جمعَ الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]. وهذه الثلاثةُ يدعو بعضُها إلى بعضٍ: فالشركُ يدعو إلى الظُّلم والفواحش؛ كما أنَّ الإخلاص والتوحيد يَصْرِفُهما عن صاحبه، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (1) [يوسف: 24]؛ فالسوءُ العشقُ، والفحشاءُ الزِّنى. وكذلك الظلمُ يدعو إلى الشرك والفاحشة؛ فإنَّ الشرك أظلمُ الظلم؛ كما أنَّ أعدل العدل التوحيدُ؛ فالعدلُ قرينُ التوحيد، والظلمُ قرينُ الشِّرْكِ، ولهذا يجمعُ سبحانهُ بينهما: أمّا الأولُ ففي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، وأمّا الثاني فكقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]. والفاحشةُ تدعو إلى الشرك والظُّلم، ولا سيَّما إذا قَويتْ إرادتُها ولم تحصُلْ إلا بنوع من الظُّلم والاستعانة بالسحر والشيطان، وقد جَمعَ سبحانه بين الزِّنى والشرك في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3]. فهذه الثلاثةُ يَجُرُّ بعضُها إلى بعض ويأمُرُ بعضُها ببعضٍ. ولهذا كلَّما كان القلبُ أضعفَ توحيدًا وأعظمَ شركًا كان أكثرَ فاحشةً وأعظمَ تعلُّقًا بالصُّوَرِ وعشقًا لها. ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ __________ (1) بكسر اللام على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، فإن الاستدلال بهذه القراءة.

(1/117)


خَيرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37} [الشورى: 36 - 37]؛ فأخبر أنَّ ما عنده خيرٌ لمن آمن به وتوكَّل عليه، وهذا هو التوحيد، ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}؛ فهذا اجتنابُ داعي القوة الشهوانيَّة، ثم قال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى: 37]؛ فهذا مخالفةُ القوة الغضبيَّة؛ فجمعَ بين التوحيد والعفَّةِ والعدل التي هي جِماعُ الخيرِ كلِّه. فصل

 هَجْرُ القرآن أنواعٌ:

  أحدها: هجرُ سَماعِهِ والإيمان به والإصغاءِ إليه.

  والثاني: هجرُ العملِ به والوقوفِ عند حلالِهِ وحرامِهِ، وإنْ قرأهُ وآمنَ به.

  والثالث: هجرُ تحكيمِه والتحاكمِ إليه في أصول الدِّين وفروعِهِ، واعتقادُ أنَّه لا يُفِيدُ اليقينَ، وأنَّ أدلَّتهُ لفظيَّةٌ لا تحصِّلُ العلمَ.

  والرابع: هجرُ تدبُّرِه وتفهُّمِه ومعرفةِ ما أراد المتكلِّمُ به منه.

  والخامس: هجرُ الاستشفاءِ والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها؛ فيَطلبُ شِفاءَ دائِهِ من غيره، ويَهجُرُ التداويَ به. وكلُّ هذا داخلٌ في قولهِ: {وَقَال الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وإنْ كان بعضُ الهَجْرِ أهونَ من بعضٍ. وكذلك الحَرَجُ الذي في الصدور منه: فإنه تارةً يكون حرجًا من إنزالِهِ وكونِه حقًّا من عند الله.

(1/118)


وتارةً يكونُ من جهة متكلِّمٍ به أو كونِه مخلوقًا من بعض مخلوقاته ألهمَ غيرَهُ أن تكلَّم به. وتارةً يكون من جهة كفايتِه وعدمِها، وأنَّه لا يَكفي العبادَ، بل هم محتاجون معه إلى المعقولات أو الأقيسة أو الآراء أو السياسات. وتارةً يكونُ من جهة دلالته وهل (1) أُرِيدَ به: حقائقُهُ المفهومةُ منه عند الخطاب؟ أو أُرِيدَ به تأويلُها وإخراجُها عن حقائقها إلى تأويلاتٍ مُستكْرَهةٍ مشتركةٍ؟! وتارةً يكونُ من جهة كون تلك الحقائق، وإن كانت مرادةً فهي ثابتةٌ في نفس الأمر؟ أو أوْهمَ أنَّها مرادةٌ لضربٍ من المصلحة؟! فكلُّ هؤلاء في صدورهم حرجٌ من القرآن، وهم يَعلَمون ذلك من نفوسهم، ويَجِدُونه في صدورهم. ولا تجدُ مبتدعًا في دينه قطُّ إلَّا وفي قلبه حرجٌ من الآيات التي تُخالِفُ بدعتَهُ؛ كما أنك لا تجدُ ظالمًا فاجرًا إلَّا وفي صدرِه حرجٌ من الآيات التي تَحُولُ بينه وبين إرادته. فتدبَّرْ هذا المعنى ثم ارْضَ لنفسِكَ بما تشاءُ. فائدة كمالُ النفس المطلوبُ ما تضمَّن أمرين: أحدُهما: أن يَصيرَ هيئةً راسخةً وصفةً لازمةً لها. الثاني: أن يكون صفةَ كمالٍ في نفسه. __________ (1) في الأصل: "وما".

(1/119)


فإذا لم يكن كذلك لم يكنْ كمالًا؛ فلا يليقُ بمن يَسعَى في كمال نفسه المنافسةُ عليه، ولا الأسفُ على فوْتِهِ. وذلك ليس إلا معرفة بارئِها وفاطرِها ومعبودِها وإلهِها الحقِّ الذي لا صلاحَ لها ولا نعيمَ ولا لذَّةَ إلَّا بمعرفته وإرادةِ وجهه وسلوكِ الطريقِ الموصلةِ إليه وإلى رضاهُ وكرامته، وأن تعتادَ ذلك فيصيرَ لها هيئةً راسخةً لازمة. وما عدا ذلك من العلوم والإرادات والأعمال؛ فهي بينَ ما لا يَنفعُها ولا يُكمِّلُها وما يَعُودُ بضررها ونقصِها وألمِها، ولا سيَّما إذا صار هيئةً راسخةً لها؛ فإنَّها تُعَذَّبُ وتتألَّمُ به بحسب لزومهِ لها. وأما الفضائلُ المنفصلةُ عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال؛ فتلك في الحقيقة عَوَارٍ أُعِيرَتْها مدةً، ثم يَرجعُ فيها المُعِيرُ، فتتألَّمُ وتَتعذَّبُ برجوعه فيها بحسب تعلُّقِها بها، ولا سيَّما إذا كانت هي غايةَ كمالِها؛ فإذا سُلِبَتْها أُحْضِرتْ أعظم النقص والألم والحسرةِ. فليَتَدبَّرْ من يُرِيدُ سعادَة نفسه ولذَّتَها هذه النُّكْتَة؛ فأكثرُ هذا الخلقِ إنما يَسْعَون في حرمانِ نفوسهم وألمِها وحسرتها ونقصها من حيث يظنُّون أنَّهم يُريدون سعادتَها ونعيمَها؛ فلذَّتُها بحسبِ ما حصلَ لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك، وألمُها وحسرتُها بحسبِ ما فاتَها من ذلك. ومتى عَدِمَ ذلك وخَلَا منه؛ لم يَبْقَ فيه إلّا القوى البدنيَّةُ النفسانيَّةُ التي بها يَأكلُ ويَشربُ ويَنكِحُ ويَغضَبُ ويَنالُ سائر لذَّاته ومرافقَ حياته ولا يَلحَقُهُ من جهتها شَرَفٌ ولا فضيلةٌ بل خَساسةٌ ومَنقصةٌ؛ إذا كان إنما يُناسِب بتلك القوى البهائمَ ويَتَّصلُ بجنسها ويَدخُل في جملتها ويَصِيرُ كأحدها، وربما زادتْ في تناولها عليه واختصَّتْ دونَه بسلامةِ عاقبتها والأمن من جَلْبِ الضررِ عليها.

(1/120)


فكمالٌ تُشاركُك فيه البهائمُ وتَزِيدُ عليك وتَختصُّ عنك فيه بسلامة العاقبةِ حقيقٌ أن تَهْجُرَهُ إلى الكمالِ الحقيقيِّ الذي لا كمالَ سواهُ. وبالله التوفيق. فائدة جليلة إذا أصبحَ العبدُ وأمسَى وليس هَمُّه إلا الله وحده؛ تَحَمَّلَ اللهُ سبحانه حوائجَه كلَّها، وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّهُ، وفرَّغَ قلبَه لمحبَّتِه ولسانَه لذكرِه وجوارحَه لطاعتِه. وإن أصبح وأمسى والدُّنيا همُّهُ؛ حَمَّلهُ اللهُ همومَها وغُمومَها وأنكادَها، وَوَكَلَه إلى نفسه، فشَغَلَ قلبَه عن محبَّتِهِ بمحتَّةِ الخلق، ولسانَهُ عن ذكرِه بذكرهم، وجوارحَه عن طاعتِه بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو يَكْدَحُ كَدْحَ الوحشِ في خدمة غيره؛ كالكِيرِ ينفُخ بطنَه ويَعصرُ أضالِعَه في نفعِ غيره. فكلُّ من أعرضَ عن عبوديَّةِ اللهِ وطاعتِه ومحبَّتِهِ بُلِيَ بعبوديَّة المخلوق ومحبَّتِه وخدمتِه. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} [الزخرف: 36]. قال سفيانُ بن عُيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلَّا جئتُكُمْ به من القرآن. فقال له قائلٌ: فأين في القرآن: أعْطِ أخاك تمرةً؛ فإن لم يَقبلْ فأعطِه جَمْرةً؟ فقال: في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيطَانًا} الآية.

(1/121)


فائدة العلمُ: نَقْلُ صورةِ المعلومِ من الخارج وإثباتُها في النفس. والعمل: نقلُ صورةٍ عمليَّةٍ (1) من النفس وإثباتُها في الخارج. فإن كان الثابتُ في النفس مطابقًا للحقيقة في نفسها فهو علمٌ صحيحٌ. وكثيرًا ما يَثبت ويَتراءى في النفس صُورٌ ليس لها وجودٌ حقيقيٌّ، فيظنُّها الذي قد أثْبتَها في نفسه علمًا، وإنَّما هي مقدرةٌ لا حقيقة لها، وأكثرُ علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقًا للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوعٌ تَكملُ النفسُ بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكُتُبِه وأمرِه ونهيه. ونوعٌ لا يَحصلُ للنفس به كمالٌ، وهو كلُّ علم لا يَضرُّ الجهلُ به؛ فإنَّه لا ينفع العلم به، وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يستعيذُ بالله من علم لا ينفع (2). وهذا حال أكثر العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يَضُرُّ الجهلُ بها شيئًا؛ كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاتِه وعددِ الكواكب ومقاديرها، والعلم بعدد الجبال وألوانها ومساحاتها ونحو ذلك. فشرفُ العلم بحسب شرفِ معلومه وشدةِ الحاجة إليه، وليس ذلك إلا العلم بالله وتوابع ذلك. __________ (1) في الأصل: "العلمية". (2) أخرجه مسلم (2722) عن زيد بن أرقم.

(1/122)


وأمَّا العمل (1) فآفتُهُ عدمُ مطابقته لمراد الله الدينيِّ الذي يُحبُّه الله ويرضاهُ، وذلك يكون من فساد العلم تارةً، ومن فساد الإرادة تارةً: ففسادُهُ من جهة العلم: أن يعتقد أن هذا مشروع محبوبٌ لله وليس كذلك، أو يعتقد أنَّه يُقرِّبُه إلى الله وإن لم يكن مشروعًا، فيَظُنَّ أنه يَتقرَّبُ إلى الله بهذا العمل وإنْ لم يَعلمْ أنَّه مشروعٌ. وأمَّا فسادُهُ من جهة القصد فأنْ لا يَقصِدَ به وجهَ الله والدارَ الآخرة، بل يَقصد به الدُّنيا والخلْق. وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيلَ إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادةِ وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة؛ فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسدَ علمُهُ وعملُهُ. والإيمانُ واليقين يُورِثان صحةَ المعرفة وصحةَ الإرادة، وهما يُورِثان الإيمانَ ويُمِدَّانه. ومن هنا يتبيَّنُ انحرافُ أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة. ولا يَتِمُّ الإيمانُ إلا بتلقِّي المعرفة من مشكاة النُّبُوَّة وتجريدِ الإرادة عن شوائب الهوى وإرادةِ الخلق، فيكون علمه مقتبسًا من مشكاة الوحي وإرادتُهُ لله والدار الآخرة؛ فهذا أصحُّ الناس علمًا وعملًا، وهو من الأئمة الذين يَهدُون بأمر الله ومن خلفاء رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أمَّتِهِ. __________ (1) في الأصل: "العلم".

(1/123)


قاعدة الإيمانُ له ظاهرٌ وباطنٌ: وظاهرُهُ قولُ اللسان وعملُ الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقيادُهُ ومحبتُهُ. فلا يَنفعُ ظاهرٌ لا باطنَ له، وإن حقَنَ به الدِّماء وعصَمَ به المال والذُّرِّيَّةَ. ولا يُجزِئُ باطنٌ لا ظاهرَ له إلّا إذا تعذَّرَ بعجزٍ أو إكراهٍ وخوفِ هلاكٍ. فتخلُّفُ العملِ ظاهرًا مع عدم المانع دليلٌ على فساد الباطن وخُلُوِّه من الإيمان، ونقصُهُ دليلُ نقصِه، وقوَّتُهُ دليلُ قوَّتِهِ. فالإيمانُ قلبُ الإسلام ولُبُّه، واليقينُ قلبُ الإيمانِ ولبُّه. وكلُّ علم وعمل لا يَزيدُ الإيمانَ واليقينَ قوةً فمدخولٌ، وكلُّ إيمانٍ لا يَبعثُ على العمل فمدخولٌ. قاعدة التوكُّلُ على الله نوعان: أحدُهما: توكُلٌ عليه في جَلْبِ حوائج العبد وحظوظِه الدُّنيويَّةِ أو دَفْعِ مكروهاتِهِ ومصائبه الدُّنيويَّةِ. والثاني: التوكُّل عليه في حصول ما يُحِبُّه هو ويَرضاهُ من الإيمان واليقين والجهادِ والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل ما لا يُحْصِيه إلا الله، فمتى توكَّل عليه العبدُ في النوع الثاني حقَّ توكُّلِهِ كفاهُ النوعَ الأولَ تمامَ الكفايةِ. ومتى توكَّل

(1/124)


عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضًا، لكنْ لا يكونُ له عاقبةُ المتوكِّل عليه فيما يُحِبُّه ويرضاهُ. فأعظمُ التوكُّل عليه: التوكُّلُ في الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعةِ الرسول، وجهادِ أهل الباطل؛ فهذا توكُّلُ الرُّسُلِ وخاصَّةِ أتباعِهم. والتوكُّل تارةً يكونُ توكُّلَ اضطرارٍ وإلْجَاءٍ؛ بحيثُ لا يَجدُ العبدُ مَلجأ ولا وَزَرًا إلا التوكُّلَ؛ كما إذا ضاقتْ عليه الأسبابُ، وضاقتْ عليه نفسُهُ، وظَنَّ أنْ لا ملجأ من الله إلَّا إليه، وهذا لا يَتخلَّفُ عنه الفَرَجُ والتيسيرُ البتَّةَ. وتارةً يكون توكُّلَ اختيارٍ، وذلك التوكُّلُ مع وجود السببِ المُفْضِي إلى المراد: فإن كان السببُ مأمورًا به ذُمَّ على تركه. وإن قام بالسبب وتركَ التوكُّلَ ذُمَّ على تركه أيضًا؛ فإنَّه واجبٌ باتفاق الأمة ونصِّ القرآن. والواجبُ القيامُ بهما والجمعُ بينهما. وإن كان السببُ محرَّمًا حرُمَ عليه مباشرتُهُ، وتَوحَّدَ السببُ في حقِّه في التوكُّل، فلم يَبقَ له سببٌ سواهُ؛ فإنَّ التوكُّل من أقوى الأسباب في حصولِ المرادِ ودفعِ المكروهِ، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق. وإنْ كان السببُ مباحًا نظرتَ: هل يُضْعِفُ قيامُك به التوكُّلَ أو لا يُضعِفُه؟ فإن أضعفَه وفرَّقَ عليك قلبَك وشتَّتَ همَّك فتركُهُ أوْلى. وإن لم يُضعِفْهُ فمباشرتُه أولى؛ لأنَّ حكمةَ أحكم الحاكمين اقتضَتْ ربط المسبَّب به؛ فلا تُعطِّلْ حكمتَه مهما أمكنك القيامُ بها، ولا سيَّما إذا فعلتَهُ عبوديَّةً، فتكون قد أتيتَ بعبوديَّةِ القلبِ بالتوكُّل، وعبوديَّةِ الجوارحِ

(1/125)


بالسببِ المَنْويِّ به القُرْبَةُ. والذي يُحقِّقُ التوكُّلَ القيامُ بالأسباب المأمورِ بها: فمن عَطَّلَها لم يَصِحَّ توكُّلُه؛ كما أنَّ القيام بالأسباب المُفضِية إلى حصول الخير يُحقِّقُ رجاءه؛ فمن لم يَقُمْ بها كان رجاؤه تمنِّيًا؛ كما أنَّ من عَطَّلها يكونُ توكُّلُه عجزًا وعجزُه توكُّلًا. وسرُّ التوكُّل وحقيقتهُ هو اعتمادُ القلب على الله وحدَه: فلا يَضُرُّهُ مباشرةُ الأسباب؛ مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركونِ إليها، كما لا ينفعه قوله: توكَّلْتُ على الله؛ مع اعتمادِه على غيره ورُكونِه إليه وثقتِه به. فتوكُّلُ اللسانِ شيءٌ، وتوكلُ القلب شيءٌ؛ كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيءٌ، وتوبة القلب وإن لم يَنطِق اللسانُ شيءٌ. فقول العبد: توكلتُ على الله مع اعتماد قلبِه على غيره مثلُ قولهِ: تُبتُ إلى الله وهو مُصِرٌّ على معصيته مرتكبٌ لها. فائدة الجاهلُ يشكو الله إلى الناس، وهذا غايةُ الجهل بالمشكُوِّ والمشكُوِّ إليه؛ فإنَّه لو عرف ربَّه لما شكاهُ، ولو عرفَ الناسَ لما شكَا إليهم. ورأى بعضُ السلف رجلًا يشكو إلى رجلٍ فاقتَه وضرورتَه، فقال: يا هذا! واللهِ ما زدتَ على أن شكوتَ من يَرحمك إلى من لا يَرحمك. وفي ذلك قيل: وإذا شكوتَ إلى ابْنِ آدم إنَّما ... تَشكُو الرَّحيمَ إلى الَّذي لا يَرحَمُ (1) __________ (1) البيت لزين العابدين في الكشكول (ص 154)، ولبعض الشعراء في عيون =

(1/126)


والعارفُ إنما يشكو إلى الله وحده. وأعرفُ العارفين من جعلَ شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس؛ فهو يَشكو من مُوجبات تسليطِ الناس عليه؛ فهو ناظرٌ إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. فالمراتبُ ثلاثةٌ: أخسُّها: أن تشكوَ الله إلى خلقه، وأعلاها: أن تشكوَ نفسَك إليه، وأوسطها: أن تشكو خلقه إليه. قاعدة جليلة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. فتضمنت هذه الآيةُ أمورًا: أحدُها: أن الحياة النافعة إنما تَحصُلُ بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تَحصُلْ له هذه الاستجابةُ فلا حياةَ له، وإن كانت له حياةٌ بهيميَّهٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذلِ الحيوانات. فالحياةُ الحقيقيَّةُ الطيبةُ هي حياةُ من استجابَ لله والرسولِ ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء هم الأحياءُ وإن ماتوا، وغيرُهم أمواتٌ وإن كانوا أحياء الأبدانِ. __________ = الأخبار (2/ 260).

(1/127)


ولهذا كان أكملُ الناسِ حياةً أكملَهم استجابةً لدعوة الرسول؛ فإنَّ كلَّ ما دعا إليه ففيه الحياةُ، فمن فاتَه جزءٌ منه فاتَه جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسبِ ما استجابَ للرسول. قال مجاهدٌ: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني: للحقِّ. وقال قتادةُ: هو هذا القرآنُ، فيه الحياةُ والنجاةُ والعصمةُ في الدُّنيا والآخرة. وقال السُّدِّيُّ: هو الإسلامُ؛ أحياهُم به بعد موتهم بالكفر. وقال ابنُ إسحاق وعُروةُ بن الزبير -واللفظ لهُ-: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني: للحرب التي أعزَّكُمُ الله بها بعدَ الذُّلِّ، وقَوَّاكم بعد الضَّعْفِ، ومنعكم بها من عدُوِّكم بعد القهر منهم لكم. وهذه كلُّها عباراتٌ عن حقيقةٍ واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسولُ ظاهرًا وباطنًا. قال الواحديُّ (1) : والأكثرون على أنَّ معنى قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}: هو الجهادُ، وهو قولُ ابن إسحاق واختيارُ أكثرِ أهل المعاني. قال الفرَّاءُ (2) : إذا دَعاكُم إلى إحياءِ أمركم بجهادِ عدوِّكُم. يريد أن أمرهم إنما يَقوَى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهادَ ضعُف أمرُهم، واجترأ عليهم عدوُّهم. __________ (1) الأقوال السابقة ذكرها الواحدي في "الوسيط" (2/ 452). (2) في "معاني القرآن" (1/ 407).

(1/128)


قلتُ: الجهادُ من أعظم ما يُحيِيْهم به في الدُّنيا وفي البرزخ وفي الآخرة: أما في الدُّنيا فإنَّ قوتَهم وقهرَهم لعدوِّهم بالجهاد. وأمَّا في البرزخ فقد قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. وأمَّا في الآخرة فإن حظَّ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظمُ من حظِّ غيرهم. ولهذا قال ابنُ قُتَيبة (1): {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني الشهادة. وقال بعضُ المفسِّرين: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني الجنةَ؛ فإنَّها دارُ الحيوان، وفيها الحياةُ الدائمةُ الطيبةُ. حكاه أبو عليٍّ الجرجانيُّ. والآيةُ تتناولُ هذا كلَّه؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تُحيِي القلوب الحياة الطَّيِّبة، وكمالُ الحياة في الجنة، والرسولُ داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنَّة؛ فهو داعٍ إلى الحياة في الدُّنيا والآخرة. والإنسانُ مضطرٌّ إلى نوعين من الحياة: حياةُ بدنه التي بها يدرِك النافعَ والضارَّ ويُؤثِرُ ما ينفعُهُ على ما يضُرُّهُ، ومتى نقصَتْ فيه هذه الحياةُ ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياةُ المريض والمحزون وصاحبِ الهمِّ والغمِّ والخوفِ والفقر والذُّلِّ دون حياةِ من هو مُعافىً من ذلك. وحياةُ قلبه وروحه التي بها يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والغَيِّ والرَّشاد والهدى والضلال، فيختارُ الحقَّ على ضدِّه، فتُفِيدُ هذه الحياةُ قوَّةَ التمييز بين النافع والضَّارِّ في العلوم والإرادات والأعمال، وتُفيدُهُ قوَّةَ الإيمان __________ (1) في تأويل مشكل القرآن (ص 151): أي إلى الجهاد الذي يُحيي دينكم ويُعليكم.

(1/129)


والإرادةِ والحبِّ للحقِّ، وقوةَ البغضِ والكراهةِ للباطل؛ فشعورُه وتمييزُه وحبُّه ونفرتُهُ بحسب نصيبه من هذه الحياة؛ كما أنَّ البدنَ الحيَّ يكونُ شعورُهُ وإحساسُهُ بالنافع والمؤلم أتمَّ، ويكونُ ميلُهُ إلى النافع ونفرتُهُ عن المؤلم أعظمَ؛ فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب؛ فإذا بَطلتْ حياتُه بطلَ تمييزُه، وإن كان له نوعُ تمييزٍ لم يكن فيه قوةٌ يُؤثِرُ بها النافعَ على الضَّارِّ. كما أنَّ الإنسان لا حياةَ له حتى يَنفُخَ فيه الملَكُ -الذي هو رسولُ الله- من روحِه فيصيرَ حيًّا بذلك النفخ وكان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك (1) لا حياةَ لروحه وقلبه حتى يَنفُخَ فيه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- من الرُّوح الذي ألْقِي إليه؛ قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]؛ فأخبر أَنَّ وحيَهُ روحٌ ونورٌ. فالحياةُ والاستنارةُ موقوفةٌ على نفخ الرسول المَلَكيِّ [والرسول البشريِّ]؛ فمن أصابه نفخُ الرسول الملكيِّ ونفخُ الرسول البشريِّ حصلتْ له الحياتانِ، ومن حصلَ له نفخُ الملَكِ دون نفخ الرسول حصلتْ له إحدى الحياتين وفاتتْه الأخرى. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فجَمعَ له بين __________ (1) في الأصل: "فذلك".

(1/130)


النور والحياة؛ كما جَمعَ لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابنُ عباس وجميع المفسرين: كان كافرًا ضالًا فهديناه. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يتضمن أمورًا: أحدُها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظُّلمة؛ فمَثلُه ومَثَلُهم كمثل قوم أظلمَ عليهم الليلُ فضلُّوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نورٌ يمشي به في الطريق ويَراها ويَرى ما يَحذرُهُ فيها. وثانيها: أنه يمشي فيهم بنورِه، فهم يَقتبِسُون منه لحاجتهم إلى النور. وثالثها: أنه يمشي بنوره يومَ القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلماتِ شركهم ونفاقهم. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}. المشهورُ في الآية أنه يَحُول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويَحُول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قولُ ابن عباسٍ وجمهور المفسرين. وفي الآية قولٌ آخرُ: إن المعنى أنه سبحانه قريبٌ من قلبه، لا تخفَى عليه خافيةٌ؛ فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحديُّ عن قتادة. وكأنَّ هذا أنسبُ بالسياق؛ لأنَّ الاستجابة أصلها بالقلب؛ فلا تَنفعُ الاستجابة بالبدن دون القلب؛ فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه؛ فيعلم هل استجاب له قلبه؟ وهل أضمرَ ذلك أو أضمرَ خلافه؟ وعلى القول الأول فوجهُ المناسبة أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة

(1/131)


وأبطأتُم عنها؛ فلا تَأمَنوا أن الله يَحُول بينكم وبين قلوبكم، فلا يُمكِّنكم بعد ذلك من الاستجابة؛ عقوبةً لكم على تركها بعدَ وضوح الحق واستبانتِه، فيكون كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101]؛ ففي الآية تحذيرٌ عن تركِ الاستجابةِ بالقلب وإن استجابَ بالجوارح. وفي الآية سرٌّ آخرُ، وهُو أنه جَمعَ لهم بين الشرع والأمر به -وهو الاستجابةُ- وبين القدر والإيمان به؛ فهي كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (29)} [التكوير: 28 - 29]، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 55 - 56]. والله أعلم. فائدة جليلة قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]. فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية. والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبد يكرهُ مواجهةَ عدوه بقوته الغضبية خشيةً على نفسه منه، وهذا المكروهُ خيرٌ له في معاشه ومعاده، ويُحِبُّ الموادعةَ والمتاركةَ، وهذا

(1/132)


المحبوبُ شرٌّ له في معاشه ومعاده. وكذلك يكرهُ المرأةَ لوصفٍ من أوصافها، وله في إمساكها خيرٌ كثير لا يَعرِفُه، ويُحِبُّ المرأة لوصفٍ من أوصافها، وله في إمساكها شرٌّ كثيرٌ لا يَعرِفهُ. فالإنسانُ -كما وصفه به خالقُه- ظَلومٌ جَهولٌ؛ فلا ينبغي أن يجعلَ المعيارَ على ما يضره وينفعه ميلَه وحبَّه ونفرتَه وبُغضَه، بل المعيارُ على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه؛ فأنفعُ الأشياءِ له على الإطلاق طاعةُ ربه بظاهره وباطنه، وأضرُّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيتُه بظاهره وباطنه؛ فإذا قام بطاعته وعبوديَّته مخلصًا له فكلُّ ما يَجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلَّى عن طاعته وعبوديته فكلُّ ما هو فيه من محبوبٍ هو شرٌّ له. فمن صحَّتْ له معرفةُ ربه والفقهُ في أسمائه وصفاته؛ عَلِم يقينًا أن المكروهات التي تُصِيبه والمِحَن التي تَنزل به فيها ضروبٌ من المصالح والمنافع التي لا يُحصِيها علمُه ولا فِكرتُه، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يُحِب؛ فعامةُ مصالح النفوس في مكروهاتها؛ كما أن عامةَ مَضارِّها وأسباب هَلَكَتِها في محبوباتها. فانظُرْ إلى غارسِ جنةٍ من الجنات خبيرٍ بالفلاحة؛ غَرَسَ جنةً، وتعاهدَها بالسقي والإصلاح حتى أثمرتْ أشجارها، فأقبل عليها يَفصِلُ أوصالها ويقطع أغصانَها لعلمه أنها لو خُلِّيتْ على حالها؛ لم تَطِبْ ثمرتُها، فيُطعِّمُها من شجرة طيبة الثمرة. حتى إذا التحمتْ بها واتحدتْ وأعطتْ ثمرتَها؛ أقبل يُقلِّمُها ويقطع أغصانَها الضعيفة التي تُذهِب قوتَها، ويُذِيقُها ألمَ القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتَصلُحَ ثمرتُها

(1/133)


أن تكون بحضرة الملوك. ثم لا يَدَعُها ودواعي طبعِها من الشرب كلَّ وقتٍ، بل يُعطِّشُها وقتًا ويَسقِيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا، وإن كان ذلك أنضرَ لورقها وأسرعَ لنباتها. ثم يَعمِدُ إلى تلك الزينة التي زُيِّنت بها من الأوراق، فيُلقي عنها كثيرًا منها؛ لأنَّ تلك الزينة تَحُول بين ثمرتها وبين كمال نُضْجِها واستوائها؛ كما في شجر العنب ونحوه. فهو يقطع أعضاءها بالحديد، ويُلقي عنها كثيرًا من زينتها، وذلك عينُ مصلحتها؛ فلو أنها ذاتُ تمييزٍ وإدراك كالحيوان؛ لتوهمتْ أن ذلك إفسادٌ لها وإضرارٌ بها، وإنما هو عينُ مصلحتها. وكذلك الأب الشفيق على ولده العالمُ بمصلحته؛ إذا رأى مصلحتَه في إخراج الدم الفاسد عنه؛ بَضَّع جلدَه وقطعَ عروقه وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضوٍ من أعضائه أبانَه عنه؛ كل ذلك رحمةً به وشفقةً عليه. وإن رأى مصلحته في أن يُمسِك عنه العطاءَ لم يُعطِه ولم يُوسِّع عليه؛ لعلمِه أن ذلك أكبرُ الأسباب إلى فساده وهلاكه. وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حِميةً له ومصلحةً لا بخلًا عليه. فأحكم الحاكمين وأرحمُ الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم؛ إذ أنزل بهم ما يكرهون؛ كان خيرًا لهم من أن لا يُنزِله بهم؛ نظرًا منه لهم وإحسانًا إليهم ولطفًا بهم، ولو مُكِّنوا من الاختيار لأنفسهم لعَجَزوا عن القيام بمصالحهم علمًا وإرادةً وعملًا، لكنه سبحانه تولى تدبيرَ أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته؛ أحبُّوا أم كرهوا. فعَرفَ ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته؛ فلم يتهموهُ في شيء من أحكامه. وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته؛ فنازعوه تدبيرَه، وقَدَحُوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه،

(1/134)


وعارضوا حكمَه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة؛ فلا لربهم عَرفوا، ولا لمصالحهم حَصَّلوا. والله الموفق. ومتى ظَفِر العبدُ بهذه المعرفة سَكنَ في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يُشبِه نعيمُها إلا نعيم جنة الآخرة؛ فإنه لا يزال راضيًا عن ربه، والرِّضَى جنةَ الدُّنيا ومُستَراحُ العارفين؛ فإنه طِيبُ النفس بما يَجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له وطمأنينتُها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرِّضى بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا، وما ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ من لم يَحصُل له ذلك (1). وهذا الرِّضى هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسنِ اختياره؛ فكلَّما كان بذلك أعرفَ كان به أرضَى. فقضاء الرب سبحانه في عبده دائرٌ بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يَخرُج عن ذلك البتة؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الدُّعاءِ المشهور: "اللهم! إنِّي عبدك، ابنُ عبدك، ابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألُك بكل اسم هو لك، سَمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك: أن تجعلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حُزني، وذهابَ همّي وغمّي. ما قالها أحدٌ قطُّ إلَّا أذهبَ الله همَّهُ وغمَّهُ، وأبْدلهُ مكانَه فرحًا". قالوا: أفلا نتعلَّمُهنَّ يا رسول الله؟ قال: "بلى! ينبغي لمن سمعَهن أن يتعلمَهُنَّ" (2)، والمقصود قوله: "عدلٌ فيَّ قضاؤك"، وهذا يتناول كل قضاءٍ يَقضِيه على عبده؛ من عقوبة، أو ألم، وسبب ذلك؛ __________ (1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (34) عن العباس. (2) تقدم تخريجه (ص 30).

(1/135)


فهو الذي قضَى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدلٌ في هذا القضاء، وهذا القضاءُ خيرٌ للمؤمن؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا يَقضِي الله للمؤمن قضاءً؛ إلَّا كان خيرًا له، وليس ذلك إلَّا للمؤمن" (1). قال العلَّامة ابن القيِّم: فسألتُ شيخَنا (2): هل يدخُلُ في ذلك قضاءُ الذنب؟ فقال: نعم بشرطه. فأجملَ في لفظة (بشرطه) ما يَترتَّبُ على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذُّلِّ والبكاءِ وغير ذلك. فائدة لا تَتِمُّ الرغبةُ في الآخرة إلا بالزُّهد في الدُّنيا. ولا يستقيم الزُّهدُ في الدُّنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظرٌ في الدُّنيا وسرعةِ زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخِسَّتها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغُصَصِ والنَّغَصِ والأنكادِ، وآخِرُ ذلك الزوالُ والانقطاعُ، مع ما يُعقِبُ من الحسرة والأسف؛ فطالبُها لا يَنفكُّ من هَمٍّ قبل حصولها، وهَمٍّ في حالِ الظَّفرِ بها، وغمٍّ وحزنٍ بعد فواتها. فهذا أحدُ النظرين. النظرُ الثاني في الآخرة، وإقبالِها ومجيئها ولا بُدَّ، ودوامِها وبقائها، وشرفِ ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: {وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]؛ __________ (1) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب. (2) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر "مجموع الفتاوى" (10/ 45).

(1/136)


فهي خيراتٌ كاملةٌ دائمةٌ، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلَّةٌ. فإذا تَمَّ له هذانِ النظرانِ آثرَ ما يَقتضِي العقلُ إيثارَهُ، وزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهدَ فيه. فكلُّ أحدٍ مطبوعٌ على أن لا يتركَ النفعَ العاجلَ واللَّذَّةَ الحاضرةَ إلى النفع الآجل واللَّذَّة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبيَّنَ له فَضْلُ الآجلِ على العاجلِ وقوِيَتْ رغبتُهُ في الأعلى الأفضل. فإذا آثرَ الفانيَ الناقصَ كان ذلك إما لعدم تبيُّنِ الفضل له، وإما لعدم رغبتهِ في الأفضل؛ وكلُّ واحدٍ من الأمرين يدُلُّ على ضعفِ الإيمان وضعف العقل والبصيرة. فإنَّ الراغبَ في الدُّنيا الحريصَ عليها المُؤثِرَ لها: إمَّا أن يُصدِّقَ بأن ما هناك أشرفُ وأفضلُ وأبقى، وإمَّا أن لا يُصدِّقَ. فإن لم يُصدِّق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدَّق بذلك ولم يُؤثِره كان فاسدَ العقل سييّء الاختيارِ لنفسه. وهذا تقسيمٌ حاصرٌ ضروريٌّ لا ينفكُّ العبدُ من أحد القسمين منه؛ فإيثارُ الدُّنيا على الآخرة: إما من فسادٍ في الإيمان، وإما من فسادٍ في العقل، وما أكثرَ ما يكون منهما. ولهذا نبذَها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وراءَ ظَهْرِه هو وأصحابُه، وصَرَفُوا عنها قلوبَهم، واطَّرحُوها ولم يَألَفوها، وهَجَروها ولم يَميلوا إليها، وعَدُّوها سِجْنًا لا جنة (1) ، فزَهِدوا فيها حقيقةَ الزُّهد، ولو أرادوها لنالوا منها كلَّ محبوبٍ، ولوَصَلوا منها إلى كلِّ مرغوبٍ؛ فقد عُرِضتْ عليه __________ (1) إشارة إلى حديث "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، أخرجه مسلم (2956) عن أبي هريرة.

(1/137)


مفاتيحُ كنوزِها فردَّها، وفاضَتْ على أصحابه فآثروا بها ولم يَبيعوا حظَّهم من الآخرة بها، وعلموا أنَّها مَعْبَرٌ ومَمَرٌّ لا دارُ مُقامٍ ومُستقَرّ، وأنها دارُ عبورٍ لا دارُ سُرورٍ، وأنها سحابةُ صَيفٍ تتقشَّعُ عن قليلٍ، وخيالُ طَيفٍ ما استتمَّ الزيارةَ حتى آذنَ بالرحيل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدُّنيا؟ إنما أنا كراكبٍ قال في ظلِّ شجرةٍ ثُمَّ راح وتركَها" (1). وقال: "ما الدُّنيا في الآخرة إلَّا كما يُدْخِلُ أحدُكُمْ إصْبعَهُ في اليَمِّ؛ فلينظُرْ بِمَ تَرجِعُ؟ " (2). وقال خالِقُها سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 24 - 25]، فأخبر عن خِسَّة الدنيا وزَهَّدَ فيها، وأخبر عن دار السلام ودعا إليها. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 45 - 46]. __________ (1) أخرجه أحمد (1/ 391، 441) والترمذي (2377) وابن ماجه (4109) عن ابن مسعود، وقال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه مسلم (2858) عن المستورد بن شداد.

(1/138)


وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) } [الحديد: 20]. وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِـ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) } [آل عمران: 14 - 15]. وقال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلا مَتَاعٌ (26) } [الرعد: 26]. وقد تواعدَ (1) سبحانه أعظمَ الوعيد لمن رضي بالحياة الدُّنيا واطمأنَّ بها وغَفَلَ عن آياته ولم يَرْجُ لقاءه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) } [يونس: 7 - 8]. وعَيَّر سبحانه من رضي بالدُّنيا من المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ (38) } [التوبة: 38]، وعلى قدر رغبة العبد في الدُّنيا ورضاهُ بها __________ (1) ط: "توعد". والمثبت أسلوب المؤلف كما في مسوَّدة طريق الهجرتين.

(1/139)


يكونُ تَثاقُلُه عن طاعة الله وطلبِ الآخرة. ويكفي في الزُّهد في الدُّنيا: قوله تعالى: {أَفَرَأَيتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207]. وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَينَهُمْ} [يونس: 45]. وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 42 - 46]. وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]. وقوله: {قَال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَال إِنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} [المؤمنون: 112 - 114]. وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَينَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلا يَوْمًا (104)} [طه: 102 - 104]. والله المستعان وعليه التكلان.

(1/140)


قاعدة أساسُ كل خيرٍ أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ فتتيقَّن حينئذٍ أن الحسناتِ من نِعَمِه، فتشكره عليها وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خِذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحولَ بينك وبينها ولا يَكِلَكَ في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خيرٍ فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شرٍّ فأصله خِذلانه لعبده. وأجمعوا أن التوفيق أن لا يَكِلَك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يُخليَ بينك وبين نفسك. فإذا كان كل خيرٍ فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد؛ فمفتاحه الدعاء والافتقارُ وصدقُ اللَّجأ والرغبة والرهبة إليه؛ فمتى أعطى العبدَ هذا المفتاحَ فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مُرْتَجًا دونه. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنِّي لا أَحمِلُ همَّ الإجابة، ولكن همّ الدُّعاء؛ فإذا أُلهِمتُ الدُّعاءَ فإن الإجابة معه (1). وعلى قدر نيَّة العبد وهمَّتِهِ ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقُه سبحانه وإعانته؛ فالمعونة من الله تَنزِلُ على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخِذلان يَنزِل عليهم على حسب ذلك. فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضعُ التوفيقَ في __________ (1) ذكره المؤلف في مدارج السالكين، وشيخه في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 229) ومجموع الفتاوى (8/ 193).

(1/141)


مواضعه اللائقة به، والخذلانَ في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم، وما أُتِيَ من أُتِيَ إلَّا من قبل إضاعة الشُّكر وإهمال الافتقار والدُّعاء، ولا ظَفِرَ من ظفر بمشيئة الله وعونه إلَّا بقيامه بالشُّكر وصدق الافتقار والدُّعاء. ومِلاكُ ذلك الصبرُ؛ فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ فإذا قطع الرأس فلا بقاءَ للجسد. • ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوة القلب والبعدِ عن الله. • خُلِقت النارُ لإذابة القلوب القاسية. • أبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي. • إذا قسا القلبُ قَحَطَتِ العينُ. • قسوةُ القلب من أربعة أشياء إذا جاوزتْ قدرَ الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة. • كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعامُ والشرابُ؛ فكذلك القلبُ إذا مرض بالشهوات لم تَنْجَعْ فيه المواعظُ. • من أراد صفاءَ قلبه فليُؤْثِر الله على شهوته. • القلوب المتعلقةُ بالشهوات محجوبةٌ عن الله بقدر تعلُّقها بها. • القلوب آنيةُ الله في أرضه؛ فأحبُّها إليه أرقُّها وأصلبها وأصفاها. • شَغلوا قلوبهم بالدُّنيا، ولو شَغلوها بالله والدار الآخرة لجالتْ في معاني كلامه وآياته المشهودة، ورَجعتْ إلى أصحابها بغرائب الحكم وطُرَفِ الفوائد.

(1/142)


• إذا غُذِيَ القلبُ بالتذكُّر، وسُقِي بالتفكُر، ونُقِّيَ من الدَّغل؛ رأى العجائبَ وأُلهِمَ الحكمةَ. • ليس كلُّ من تَحلَّى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهلُ المعرفة والحكمة الذين أَحيَوا قلوبَهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى؛ فالمعرفة والحكمة عاريَّةٌ على لسانه. • خَرابُ القلبِ من الأمن والغفلة، وعِمارتُهُ من الخشية والذِّكْرِ. • إذا زَهِدَت القلوبُ في موائد الدُّنيا؛ قعدتْ على مَوائدِ الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رَضِيتْ بموائد الدُّنيا؛ فَاتَتْها تلك الموائدُ. • الشوقُ إلى الله ولقائه نسيمٌ يَهُبُّ على القلب يُرَوِّحُ عنه وَهَجَ الدُّنيا. • من وَطَّنَ قلبَه عند ربِّه سكنَ واستراح، ومن أرسله في الناس اضطربَ واشتد به القلقُ. • لا تَدخلُ محبةُ الله في قلب فيه حبُّ الدُّنيا إلا كما يدخل الجملُ في سَمِّ الإبرة. • وإذا أحبَّ الله عبدًا اصطنَعه لنفسِه، واجتباهُ لمحبَّتِهِ، واستخلصه لعبادته، فشَغلَ همَّهُ به، ولسانهُ بذكره، وجوارحَهُ بخدمته. • القلب يَمرضُ كما يمرض البدنُ، وشفاؤهُ في التوبة والحِمْية، ويَصْدَأ كما تَصْدأ المرآةُ، وجلاؤهُ بالذكر، ويَعْرَى كما يَعْرَى الجسمُ، وزينتُهُ التَّقوى، ويجوعُ ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة والخدمةُ. • إياك والغفلةَ عمَّن جعلَ لحياتك أجلًا، ولأيَّامِك وأنفاسِك أمدًا،

(1/143)


ومن كل ما سواه بُدٌّ ولا بُدَّ لك منه. • من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في طلب زيادة دُنيا أو جاهٍ أو في خوف نقصان أو في التخلُّص من عدوٍّ توكُلًا على الله وثقةً بتدبيره له وحسن اختياره له، فألقى كنفَهُ بين يديه، وسلَّم الأمرَ إليه، ورضي بما يقضيه له؛ استراح من الهموم والغُموم والأحزان. ومن أبى إلَّا تدبيرَهُ لنفسه؛ وقعَ في النَّكَدِ والنَّصَبِ وسوء الحال والتعب؛ فلا عيشَ يصفو، ولا قلبَ يفرح، ولا عملَ يزكو، ولا أملَ يقوم، ولا راحةَ تدومُ. والله سبحانه سهَل لخلقه السبيلَ إليه، وحجبَهم عنه بالتدبير؛ فمن رضي بتدبير الله له وسكنَ إلى اختياره وسلَّم لحُكمه؛ أزالَ ذلك الحجاب، فأفضى القلبُ إلى ربِّه واطمأنَّ إليه وسكن. • المتوكِّلُ لا يسألُ غيرَ الله، ولا يرُدُّ على الله، ولا يدَّخِرُ مع الله. • من شُغل بنفسه شُغِلَ عن غيره، ومن شُغِل بربِّه شُغِل عن نفسه. • الإخلاصُ: هو ما لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا عدوُّ فيُفسِدهُ، ولا يُعجَبُ به صاحبه فيُبطِله. • الرِّضى سكون القلب تحت مجاري الأحكام. • الناس في الدُّنيا معذَّبون على قدر هممهم بها. • للقلب ستة مواطنَ يجولُ فيها لا سابعَ لها؛ ثلاثةٌ سافلة، وثلاثةٌ عاليةٌ: فالسافلةُ: دنيا تتزيَّنُ له، ونفسٌ تحدِّثُه، وعدوٌّ يوسوسُ له. فهذه مواطنُ الأرواح السافلة التي لا تزالُ تجولُ فيها. والثلاثة العاليةُ: علمٌ يتبيَّنُ له، وعقلٌ يرشدُه، وإلهٌ يعبدُه. والقلوب جوَّالةٌ في هذه المواطن. • اتِّباعُ الهوى وطولُ الأمل مادةُ كلِّ فسادٍ؛ فإنَّ اتِّباعَ الهوى يُعمِي

(1/144)


عن الحقِّ معرفةً وقصدًا، وطول الأمل يُنسِي الآخرةَ ويصُدُّ عن الاستعداد لها. • لا يشمُّ عبدٌ رائحةَ الصدق و [هو] يُداهِنُ نفسَه أو يُداهِنُ غيرَه. • إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا جعله معترفًا بذنبه ممسكًا عن ذنب غيره، جوادًا بما عنده زاهدًا فيما عند غيره، محتملًا لأذى غيره. وإنْ أراد به شرًّا عكس ذلك عليه. • الهمَّةُ العليَّةُ لا تزالُ حائمةً حول ثلاثة أشياء: تعرُّفٌ لصفةٍ من الصفات العليا تزدادُ بمعرفتها محبةً وإرادةً، وملاحظةٌ لمِنَّةٍ تزدادُ بملاحظتها شُكرًا وطاعة، وتذكُّرٌ لذنبٍ تزدادُ بتذكُّرِهِ توبةً وخشية؛ فإذا تعلَّقتِ الهمةُ بسوى هذه الثلاثة جالتْ في أودية الوساوس والخطرات. • من عَشِقَ الدُّنيا نظرتْ إلى قدرها عنده، فصيَّرتْه من خَدَمِها وعبيدِها وأذلَّتْه. ومن أعرض عنها نظرتْ إلى كبر قدره، فخدمته وذلَّت له. • إنما يُقطَع السفرُ ويَصِلُ المسافرُ بلزوم الجادَّة وسيرِ الليل؛ فإذا حادَ المسافرُ عن الطريق، ونام الليل كلَّه؛ فمتى يَصِلُ إلى مقصده؟! فائدة جليلة كلُّ من آثر الدُّنيا من أهل العلم واستحبَّها؛ فلا بدَّ أن يقول على الله غيرَ الحقِّ؛ في فتواه وحكمِه، في خبرِه وإلزامِه؛ لأنَّ أحكام الربِّ سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيَّما أهل الرئاسة والذين يتَّبعون الشَّهوات؛ فإنَّهم لا تَتِمُّ لهم أغراضُهم إلَّا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا؛ فإذا كان العالم والحاكم مُحِبًّا للرئاسة، متَّبعًا

(1/145)


للشَّهوات لم يتمَّ له ذلك إلا بدفع ما يضادُّه من الحقِّ، ولا سيَّما إذا قامت له شبهةٌ، فتتَّفقُ الشبهةُ والشهوةُ، ويَثُورُ الهوى، فيَخفَى الصوابُ، ويَنطمِسُ وجهُ الحقِّ! وإن كان الحقُّ ظاهرًا لا خفاءَ به ولا شبهةَ فيه أقدمَ على مخالفته، وقال: لي مَخرجٌ بالتوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]. [وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ] وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} [الأعراف: 169]. فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرضَ الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيُغفَر لنا! وإن عَرضَ لهم عرضٌ آخُر أخذوه؛ فهم مُصِرُّون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحقِّ، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينُهُ! وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلافُ ذلك، أوْ لا يعلمون أن ذلك دينُهُ وشرعُهُ وحكمُهُ! فتارةً يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارةً يقولون عليه ما يعلمون بطلانه! وأمَّا الذين يتَّقون فيعلمون أنَّ الدار الآخرة خيرٌ من الدُّنيا، فلا يَحمِلُهم حبُّ الرئاسة والشهوة على أن يُؤثِروا الدُّنيا على الآخرة. وطريقُ ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسُّنَّة، ويستعينوا بالصبر والصلاة، ويتفكَّروا في الدُّنيا وزوالها وخسَّتها، والآخرةِ وإقبالِها ودوامِها. وهؤلاء لا بدَّ أنَّ يبتدِعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران؛ فإنَّ اتِّباع الهوى يُعْمِي عينَ القلب؛ فلا يُميِّزُ بين السنة

(1/146)


والبدعة، أو يُنْكِسُهُ؛ فيرى البدعة سنةً والسنة بدعةً. فهذه آفةُ العلماء إذا آثروا الدُّنيا واتَّبعوا الرئاسات والشَّهوات. وهذه الآياتُ فيهم إلى قوله: {وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175 - 176]. فهذا مَثَلُ عالمِ السوء الذي يعمل بخلاف علمه. وتأمَّلْ ما تضمَّنته هذه الآية من ذمِّه، وذلك من وجوهٍ: أحدُها: أنه ضَلَّ بعد العلم، واختار الكفرَ على الإيمان عمدًا لا جهلًا. وثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقةَ من لا يعود إليه أبدًا؛ فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخُ الحيَّةُ من قِشْرِها، ولو بقي معه منها شيءٌ لمَ ينسلِخْ منها. وثالثُها: أنَّ الشيطان أدْرَكهُ ولحقهُ بحيثُ ظَفِرَ به وافترسَهُ، ولهذا قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيطَانُ}، ولم يقلْ: تبعهُ؛ فإنَّ في معنى {فَأَتْبَعَهُ} أدركه ولَحِقَه، وهو أبلغ من (تبِعَهُ) لفظًا ومعنى. رابعُها: أنَّه غَوَى بعد الرُّشد، والغيُّ: الضَّلالُ في العلم والقصد، وهو أخصُّ بفساد القصد والعمل؛ كما أنَّ الضَّلال أخصُّ بفساد العلم والاعتقاد؛ فإذا أُفرِدَ أحدُهما دخلَ فيه الآخرُ، وإن اقترنا فالفرقُ ما ذُكِر. وخامسُها: أنَّه سبحانه لم يشأ أن يرفعهُ بالعلم، فكان سبب هلاكه؛

(1/147)


لأنه لم يُرفَعْ به، فصار وبالًا عليه، فلو لم يكن عالمًا كان خيرًا له وأخفَّ لعذابه. وسادسُها: أنَّه سبحانه أخبر عن خِسَّةِ همَّته وأنَّه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى. وسابعُها: أنَّ اختيارَه للأدنى لم يكن عن خاطرٍ وحديث نفس، ولكنَّهُ كان عن إخلادٍ إلى الأرض، وميل (1) بكلِّيَّتِهِ إلى ما هناك، وأصلُ الإخلاد اللزومُ على الدَّوام، كأنَّه قيل: لزِم الميلَ إلى الأرض، ومن هذا يقالُ: أخلد فلانٌ بالمكان: إذا لزم الإقامةَ به، قال مالك بن نُوَيْرة (2) . بأبْناء حيٍّ مِنْ قَبائلِ مالِكٍ ... وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخْلَدوا وعبَّرَ عن ميله إلى الدنيا بإخلادِهِ إلى الأرض؛ لأنَّ الدُّنيا هي الأرضُ وما فيها وما يُسْتَخْرَجُ منها من الزينةِ والمَتاع. وثامنُها: أنَّه رَغِبَ عن هداهُ، واتَّبع هواهُ، فجعل هواهُ إمامًا له يقتدي به ويتَبِعُهُ. وتاسعُها: أنَّه شبَّهَهُ بالكلب الذي هو أخسُّ الحيوانات هِمَّةً، وأسقطُها نفسًا، وأبخلُها وأشدُّها كَلَبًا، ولهذا سُمِّي كلبًا. وعاشرُها: أنه شبَّه لَهَثَهُ على الدُّنيا، وعدمَ صبرِه عنها، وجَزَعَهُ لفقدها، وحرصه على تحصيلها؛ بلَهَثِ الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطَّرْدِ، وهكذا هذا: إن تُرِكَ فهو لَهْثَانُ على الدُّنيا، وإن وُعِظ وزُجِر فهو كذلك؛ فاللَّهَثُ لا يُفارِقُهُ في كلِّ حال كَلَهَثِ الكلب. __________ (1) في الأصل: "ولربما". (2) من قصيدة له في الأصمعيات (ص 193).

(1/148)


قال ابنُ قتيبة (1): كلُّ شيءٍ يَلْهَثُ فإنَّما يَلْهَثُ من إعياءٍ أو عطش؛ إلَّا الكلب؛ فإنه يلهثُ في حال الكلال وحال الراحة، وحال الرِّيِّ وحال العطش، فضربهُ الله مثلًا لهذا الكافر، فقال: إن وعظتَهُ فهو ضالٌّ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ؛ كالكلب؛ إن طردْتَهُ لَهَثَ، وإنْ تركتَهُ على حالِهِ لهَثَ. وهذا التمثيلُ لم يَقَعْ بكلِّ كلبٍ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاهثِ، وذلك أخسُّ ما يكون وأشنعُهُ. فصل فهذا حالُ العالم المُؤثِر الدُّنيا على الآخرة. وأما العابد الجاهلُ فآفتُهُ من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووَجْدِه وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان بن عُيينة وغيره: احذروا فتنةَ العالم الفاجر وفتنةَ العابد الجاهل؛ فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتونٍ. فهذا بجهله يَصُدُّ عن العلم وموجبه، وذاك بغيِّه يدعو إلى الفُجور. وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله: {كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذْ قَال لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)} [الحشر: 16 - 17]. وقصتُهُ معروفةٌ (2)، فإنه بنى أساسَ أمرِه على عبادة الله بجهلٍ، __________ (1) في تأويل مشكل القرآن (ص 369). ونقله ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 290 - 291) والقرطبي (7/ 322). (2) أخرجها الطبري في تفسيره (22/ 541) والحاكم (2/ 484) عن علي.

(1/149)


فأوقعه الشيطانُ بجهله، وكفَّره بجهله. فهذا إمامُ كلِّ عابدٍ جاهل؛ يَكفُرُ ولا يَدْرِي، وذاك إمام كلِّ عالم فاجرٍ يختارُ الدُّنيا على الآخرة. وقد جعل سبحانه رِضَى العبد بالدُّنيا وطمأنينتهُ وغفلتهُ عن معرفةِ آياتِهِ وتدبُّرِها والعملِ بها سبَب شقائِهِ وهلاكه. ولا يجتمع هذان -أعني: الرضى بالدُّنيا والغفلة عن آيات الربِّ- إلَّا في قلب من لا يؤمنُ بالمعاد ولا يرجو لقاء ربِّ العباد، وإلا فلو رَسَخِ قدمُهُ في الإيمان بالمعاد؛ لما رضي بالدُّنيا ولا اطمأنَّ إليها ولا أعرض عن آيات الله. وأنت إذا تأمَّلْتَ أحوال الناس وجدتَ هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم عُمَّارُ الدُّنيا، وأقلُّ الناس عددًا من هو على خلاف ذلك، وهو من أشدِّ الناس غُربةً بينهم؛ لهم شأنٌ وله شأنٌ، علمُه غيرُ علومهم، وإرادتُهُ غير إرادتِهم، وطريقه غير طريقهم؛ فهو في وادٍ وهم في وادٍ. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8]، ثم ذكر وصف ضدِّ هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]؛ فهؤلاء إيمانهم بلقاء الله أورثَهم عدَم الرِّضى بالدُّنيا والطُّمأنينة إليها ودوامَ ذكرِ آياته. فهذه مواريثُ الإيمان بالمعاد، وتلك مواريثُ عدمِ الإيمان به والغفلة عنه.

(1/150)


فائدة عظيمة أفضلُ ما اكتسبتْه النفوسُ وحصَّلتْهُ القلوب ونال به العبدُ الرِّفْعةَ في الدُّنيا والآخرة هو العلم والإيمان. ولهذا قرنَ بينَهما سبحانَه في قوله: {وَقَال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه والمؤهَّلون للمراتب العالية. ولكنَّ أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمَّى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعةُ وفي حقيقتهما، حتى إن كلَّ طائفةٍ تظنُّ أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تُنال السعادة، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان يُنجي ولا علمٌ يرفع، بل قد سَدُّوا على نفوسهم طرقَ العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا إليهما الأمةَ وكان عليهما هو وأصحابُهُ من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم. فكلُّ طائفة اعتقدتْ أنَّ العلم ما معها، وفَرِحتْ به، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَينَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون: 53]، وأكثرُ ما عندهم كلامٌ وآراءٌ وخَرْص! والعلم وراء الكلام؛ كما قال حمادُ بن زيد: قلتُ لأيوب: العلم اليوم أكثرُ أو فيما تقدَّم؟ فقال: الكلامُ اليومَ أكثرُ والعلمُ فيما تقدَّم أكثر! ففرَّق هذا الراسخُ بين العلم والكلام. فالكتبُ كثيرةٌ جدًّا، والكلام والجدالُ والمُقدَّراتُ الذِّهْنيَّةُ كثيرةٌ، والعلم بمعزلٍ عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله. قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61]، وقال: {وَلَئِنِ

(1/151)


اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الذِي مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120]، وقال في القرآن: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]؛ أي: وفيه علمه. ولمَّا بَعُدَ العهدُ بهذا العلم؛ آلَ الأمرُ بكثيرٍ من الناس إلى أن اتَّخذوا هواجسَ الأفكار وسوانحَ الخواطر والآراء علمًا، ووضعوا فيها الكتبَ، وأنفقوا فيها الأنفاسَ، فضيَّعوا فيها الزمان، وملؤوا بها الصحفَ مدادًا والقلوب سوادًا، حتى صَرَّح كثيرٌ منهم أنَّه ليس في القرآن والسنة علمٌ! وأن أدلَّتهما لفظيةٌ لا تفيدُ يقينًا ولا علمًا!! وصَرَخَ الشيطانُ بهذه الكلمة فيهم، وأذَّنَ بها بين أظهرهم، حتى أسمعَها دانِيهم لقاصيهم، فانسلختْ بها القلوبُ من العلم والإيمان كانسلاخ الحيَّة من قِشْرها والثوب عن لابسه. قال الإمام العلَّامةُ شمس الدين ابن القيم: ولقد أخبرني بعضُ أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغلُ في بعض كتُبهم ولم يحفظ القرآن، فقال له: لو حفظتَ القرآن أولًا كان أولى! فقال: وهل في القرآن علمٌ؟! قال ابن القيِّم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديثَ لأجل البركة، لا لنستفيدَ منه العلم؛ لأنَّ غيرنا قد كفانا هذه المؤونةَ؛ فعمدتُنا على ما فهموه وقرَّروه. ولا شكَّ أنَّ من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائلُ: نَزلوا بمكةَ في قبائلِ هاشمٍ ... ونزلْتُ بالبَطْحاءِ أبْعدَ منْزِلِ (1) __________ (1) البيت بلا نسبة في وفيات الأعيان (1/ 73) نقلًا عن طبقات الفقهاء للشيرازي (ص 124). والرواية "بالبيداء"، وهي التي تكون أبعد منزل.

(1/152)


قال: وقال لي شيخُنا مرَّةً في وصف هؤلاء: إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخسِّ المطالب، ويكفيك دليلًا على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } [النساء: 82]، وهذا يدُلُّ على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلفُ، وأنَّ ما اختلف وتناقض فليس من عنده. وكيف تكونُ الآراءُ والخيالاتُ وسوانحُ الأفكار دينًا يُدانُ به ويُحكَم به على الله ورسوله؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ! وقد كان علمُ الصحابة الذي يتذاكرون فيه غيرَ علومِ هؤلاء المختلفين الخرَّاصين؛ كما حكى الحاكمُ في ترجمة أبي عبد الله البخاري؛ قال: كان أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيِّهم، ليس بينهم رأيٌ ولا قياسٌ. ولقد أحسن القائلُ (1) : العِلْمُ قال الله قال رسولُهُ ... قال الصَّحابةُ ليْسَ بالتَّمويهِ ما العِلْمُ نَصْبَكَ للخِلافِ سَفاهةً ... بَين الرَّسولِ وبَيْنَ رأي فَقيهِ كلَّا ولا جَحْدَ الصِّفاتِ ونَفْيَها ... حَذرًا مِنَ التَّمْثيلِ والتَّشْبيهِ __________ (1) هي خمسة أبيات لبعض أهل العلم في "أعلام الموقعين" (1/ 79). ومنها بيتان نُسِبا للذهبي في الوافي بالوفيات (2/ 166) وفوات الوفيات (3/ 317) والروض الباسم (1/ 11) والرد الوافر (ص 67).

(1/153)


فصل وأما الإيمان فأكثر الناس -أو كلُّهم- يَدَّعونه، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]. وأكثرُ المؤمنين إنما عندهم إيمانٌ مجملٌ، وأما الإيمانُ المفصلُ بما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- معرفةً وعلمًا وإقرارًا ومحبةً ومعرفةً بضدِّه وكراهيته وبُغْضِهِ؛ فهذا إيمانُ خواصِّ الأمة وخاصَّةِ الرسول، وهو إيمانُ الصِّدِّيقِ وحزبِهِ. وكثيرٌ من الناس حظُّهم من الإيمان الإقرارُ بوجود الصانع، وأنَّه وحده هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن يُنكرِه عُبَّادُ الأصنام من قُريش ونحوهم! وآخرون الإيمانُ عندهم هو التكلُّمُ بالشهادتين، سواءٌ كان معه عملٌ أو لم يكن، وسواءٌ وافقَ تصديقَ القلب أو خالفه! وآخرون عندهم الإيمانُ مجرَّدُ تصديق القلب بأن الله سبحانه خالقُ السماوات والأرض وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وإنْ لم يُقِرَّ بلسانه ولم يَعملْ شيئًا، بل ولو سَبَّ اللهَ ورسولَه وأتى بكلِّ عظيمةٍ وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله؛ فهو مؤمنٌ! وآخرون عندهم الإيمانُ هو جحدُ صفات الربِّ تعالى من علوِّه على عرشه، وتكلُّمِه بكلماته وكُتُبهِ، وسمعِهِ وبصرِهِ ومشيئتِهِ وقدرتِهِ وإرادتِهِ وحُبِّهِ وبُغضِهِ، وغيرِ ذلك مما وصفَ به نفسَه ووصفه به رسولُه؛ فالإيمانُ عندهم إنكارُ حقائقِ ذلك كلِّه وجَحْدهُ والوقوفُ مع ما تقتضيه آراءُ المتهوِّكين وأفكارُ المخرِّصين، الذي يرُدُّ بعضهم على بعض ويَنقُض

(1/154)


بعضُهم قول بعض، الذين هم كما قال عمرُ بن الخطاب والإمام أحمدُ: مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متَّفقون على مفارقةِ الكتاب. وآخرون عندهم الإيمانُ عبادةُ الله بحُكْمِ أذواقِهم ومواجيدِهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسولُ. وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنًا ما كان، بل إيمانهم مبنيٌّ على مقدِّمتين: إحداهما: أن هذا قولُ أسلافنا وآبائنا. والثانية: أن ما قالوه فهو الحقُّ. وآخرون عندهم الإيمان مكارمُ الأخلاق وحسنُ المعاملة وطلاقةُ الوجه وإحسانُ الظنِّ بكل أحدٍ وتخليةُ الناسِ وغفلاتِهم. وآخرون عندهم الإيمان التجرُّدُ من الدُّنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزُّهد فيها؛ فإذا رأوا رجلًا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخًا من الإيمان علمًا وعملًا. وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمانَ هو مجرد العلم وإن لم يُقارِنْه عملٌ. وكلُّ هؤلاء لم يَعرِفوا حقيقةَ الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم. وهم أنواعٌ: منهم من جعل الإيمانَ ما يضادُّ الإيمانَ، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يُعتبرُ في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرطٌ فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يُناقِضُه ويُضادُّه، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه. والإيمان وراء ذلك كلِّه.

(1/155)


وهو حقيقةٌ مركبةٌ من: معرفة ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- علمًا، والتصديق به عقدًا، والإقرار به نُطقًا، والانقياد له محبَّةً وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان. وكماله في: الحبِّ في الله، والبُغْضِ في الله، والعطاءِ لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهَهُ ومعبوده. والطريق إليه: تجريدُ متابعة رسولهِ ظاهرًا وباطنًا، وتغميضُ عين القلبِ عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله. وبالله التوفيق. من اشتغل بالله عن نفسه كفاهُ الله مؤونَة نفسِه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونةَ الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وَكَلهُ الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وَكَلهُ الله إليهم. فائدة جليلة إنما يَجِدُ المشقةَ في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، فأما من تركَها صادقًا مخلصًا من قلبه لله؛ فإنه لا يجد في تركها مشقةً إلّا في أول وهلة، ليُمْتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذبٌ؟ فإن صبرَ على تلك المشقة قليلًا استحالتْ لذَّةً. قال ابن سيرين: سمعتُ شُريحًا يَحلِفُ بالله ما تركَ عبدٌ لله شيئًا فوجدَ فَقْدَه. وقولهم: "من ترك لله شيئًا عوَّضَه الله خيرًا منه" (1) حقٌّ، والعوضُ __________ (1) جاء هذا في حديث مرفوع سبق تخريجه (ص 63).

(1/156)


أنواعٌ مختلفة، وأجلُّ ما يعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينةُ القلب به، وقوَّتُه، ونشاطُه، وفرحُه، ورضاهُ عن ربِّه تعالى. • أغبى الناس مَن ضَلَّ في آخر سفره وقد قاربَ المنزلَ. • العقولُ المؤيَّدةُ بالتوفيق تَرى أنَّ ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- هو الحقُّ الموافقُ للعقل والحكمة، والعقولُ المضروبة بالخِذْلانِ ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع. • أقربُ الوسائل إلى الله ملازمةُ السُّنَّة والوقوفُ معها في الظاهر والباطن، ودوامُ الافتقار إلى الله، وإرادةُ وجهه وحده بالأقوال والأفعال. وما وصلَ أحدٌ إلى الله إلَّا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحدٌ إلّا بانقطاعه عنها أو عن أحدها. • الأصولُ التي انبنَى عليها سعادةُ العبد ثلاثةٌ، ولكل واحد منها ضدٌّ؛ فمن فقدَ ذلك الأصلَ حصلَ على ضدِّه: التوحيدُ وضدُّه الشركُ، والسنة وضدُّها البدعة، والطاعة وضدُّها المعصيةُ. ولهذه الثلاثة ضدٌّ واحدٌ، وهو: خُلوُّ القلب من الرغبة في الله وفيما عنده ومن الرهبة منه وممَّا عنده. قاعدة جليلة قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 55]. وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115]. والله تعالى قد بيَّن في كتابه سبيلَ المؤمنين مفصلةً وسبيلَ المجرمين

(1/157)


مفصلةً، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفَّق بها هؤلاء والأسباب التي خَذَل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشَفَهما وأوضحَهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتْهما البصائرُ كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام. فالعالمون بالله وكتابه ودينه عَرفوا سبيلَ المؤمنين معرفةً تفصيليةً وسبيلَ المجرمين معرفةً تفصيليةً، فاستبانتْ لهم السبيلانِ كما يستبين للسالك الطريقُ الموصلُ إلى مقصوده والطريقُ الموصلُ إلى الهلكة؛ فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأَدِلَّاءُ الهداةُ. وبذلك برَّزَ الصحابةُ على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة؛ فإنهم نشؤوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسُّبُل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسولُ، فأخرجهم من تلك الظُّلُمات إلى سبيل الهُدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظُّلمة الشديدة إلى النور التامِّ، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغيِّ إلى الرشاد، ومن الظُّلْم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهُدى والبصائر، فعرفوا مقدارَ ما نالوه وظفروا به ومقدارَ ما كانوا فيه؛ فإنَّ الضِّدَّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ، وإنما تتبينُ الأشياءُ بأضدادها، فازدادوا رغبةً ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرةً وبُغضًا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحبَّ الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغضَ الناس في ضدِّه، عالمين بالسبيل على التفصيل. وأما من جاء بعد الصحابة؛ فمنهم من نشأ في الإسلام غيرَ عالمٍ تفصيلَ ضدِّه، فالتبس عليه بعضُ تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل

(1/158)


المجرمين؛ فإنَّ اللَّبس إنما يقع إذا ضَعُفَ العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطَّاب: إنما تُنْقَضُ عُرى الإسلام عُروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهليةَ. وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه؛ فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه من الجاهلية؛ فإنها منسوبة إلى الجهل، وكلُّ ما خالف الرسول فهو من الجهل؛ فمن لم يعرِفْ سبيلَ المجرمين ولم تستبن له؛ أوشك أن يظنَّ في بعض سبيلهم أنَّها من سبيل المؤمنين؛ كما وقع في هذه الأمة من أمورٍ كثيرةٍ في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلَها من لم يَعرِفْ أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفَّر من خالفها، واستحلَّ منه ما حرمه الله ورسوله؛ كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممَّن ابتدع بدعةً ودعا إليها وكفَّر من خالفها. والناس في هذا الموضع أربعُ فرقٍ: الأولى: من استبانَ له سبيلُ المؤمنين وسبيلُ المجرمين على التفصيل علمًا وعملًا، وهؤلاء أعلمُ الخلق. الفرقةُ الثانيةُ: من عَمِيَتْ عنه السبيلانِ من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أخصُّ ولها أسلَكُ. الفرقةُ الثالثة: من صَرَفَ عنايتَه إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدِّها؛ فهو يَعرِف ضدَّها من حيثُ الجملة والمخالفة، وأن كلَّ ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطلٌ، وإن لم يتصوَّرْه على التفصيل، بل إذا سمع شيئًا مما يخالف سبيلَ المؤمنين صَرَفَ سمعَه عنه، ولم يَشْغَلْ نفسَه بفهمه ومعرفةِ وجهِ بطلانه.

(1/159)


وهو بمنزلة من سَلِمَتْ نفسُه من إرادة الشهوات فلم تَخْطُر بقلبه ولم تَدْعُه إليها نفسه؛ بخلاف الفرقة الأولى؛ فإنهم يعرفونها وتميلُ إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله. وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة: أيُّهما أفضلُ: رجلٌ لم تَخْطُرْ له الشهواتُ ولم تَمُرَّ بباله، أو رجلٌ نازعتْهُ إليها نفسُه فتركها لله؟ فكتب عمرُ: إنَّ الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عزَّ وجلَّ من {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) } [الحجرات: 3] (1) . وهكذا من عَرف البدعَ والشرك والباطل وطُرُقَهُ؛ فأبغضَها لله، وحَذِرَها، وحَذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يَدَعْها تَخْدِشُ وجهَ إيمانه ولا تُورِثُهُ شبهةً ولا شكًّا، بل يزدادُ بمعرفتها بصيرةً في الحقِّ ومحبةً له، وكراهةً لها ونفرةً عنها: أفضلُ ممَّن لا تخطُرُ بباله ولا تَمُرُّ بقلبه؛ فإنَّه كلما مرت بقلبه وتصوَّرتْ له ازداد محبةً للحقِّ ومعرفة بقدره وسُرورًا به، فيَقْوَى إيمانُهُ به؛ كما أن صاحب خواطر الشَّهواتِ والمعاصي كلَّما مرَّت به فرغب عنها إلى ضدِّها؛ ازداد محبَّةً لضدِّها ورغبةً فيه وطلبًا له وحرصًا عليه؛ فما ابتلى الله سبحانه عبدَهُ المؤمنَ بمحبة الشهوات والمعاصي وميلِ نفسِه إليها؛ إلا ليَسُوقَه بها إلى محبَّهِ ما هو أفضلُ منها وخيرٌ له وأنفعُ وأدومُ، وليُجاهِدَ نفسَه على تركها له سبحانه، فتُورِثُه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى؛ فكلما نازعتْه نفسُه إلى تلك الشهوات واشتدَّت إرادتُه لها وشوقُه إليها؛ صَرَفَ ذلك الشوقَ والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبُه له أشدَّ، __________ (1) انظر تفسير ابن كثير (7/ 3263) والدر المنثور (13/ 538).

(1/160)


وحرصُه عليه أتمَّ؛ بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبةً للأعلى، لكن بين الطلبين فرقٌ عظيم! ألا ترى أن من مشى (1) إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظمُ ممَّن مشى (2) إليه راكبًا على النجائب؟ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو سبحانه يبتلي عبده بالشَّهوات؛ إمَّا حجابًا له عنه، أو حاجبًا له يُوصِلُه إلى رضاهُ وقُربِه وكرامتِهِ. الفرقة الرابعة: فرقةٌ عرفتْ سبيلَ الشرِّ والبدع والكفر مفضَّلةً، وسبيلَ المؤمنين مجملةً. وهذا حالُ كثيرٍ ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يَعرِفْ ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفهُ معرفةً مجملةً، وإن تفصَّلتْ له في بعض الأشياء، ومن تأمَّل كُتبهم رأى ذلك عيانًا. وكذلك من كان عارفًا بطرق الشر والظُّلم والفساد على التفصيل سالكًا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار؛ يكونُ علمه بها مجملًا، غير عارفٍ بها على التفصيل معرفةَ من أفنى عُمُرَهُ في تصرُّفها وسلوكها. والمقصودُ أنَّ الله سبحانه يُحِبُّ أن تُعرَفَ سبيلُ أعدائه لتُجتنَب وتُبْغَض كما يُحِبُّ أن تُعرَف سبيلُ أوليائه لتُحَبَّ وتُسلَكَ. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله؛ من معرفة __________ (1) في الأصل: "من مشى من سار". (2) في الأصل: "من مشى من سار".

(1/161)


عمومِ ربوبيَّته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته، وتعلُّقها بمتعلَّقاتها، واقتضائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدِّلالة على ربوبيَّتِهِ ومُلكِهِ وإلهيَّتِهِ، وحُبِّهِ وبُغْضِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ. والله أعلم. • أربابُ الحوائج على باب الملك يسألون قضاءَ حوائجهم، وأولياؤُهُ المحبُّون له الذين هو همُّهم ومُرادُهم جُلساؤُهُ وخواصُّه؛ فإذا أراد قضاءَ حاجة واحدٍ من أولئك؛ أذِنَ لبعض جلسائه وخاصَّتِهِ أن يشفع فيه رحمةً له وكرامةً للشافع، وسائرُ الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البُعْدِ. فصل عشرةُ أشياء ضائعةٌ لا يُنتفع بها: علمٌ لا يُعمَل به، وعملٌ لا إخلاصَ فيه ولا اقتداء، ومالٌ لا يُنْفَقُ منه فلا يَستمتِعُ به جامعُه في الدُّنيا ولا يُقدِّمُه أمامَه إلى الآخرة، وقلبٌ فارغٌ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدنٌ معطَّلٌ من طاعته وخدمته، ومحبةٌ لا تتقيَّدُ برِضىَ المحبوب وامتثال أوامره، ووقتٌ معطَلٌ عن استدراك فارطٍ أو اغتنام برٍّ وقُربةٍ، وفكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ، وخدمةُ من لا تُقرِّبُك خدمتُه إلى الله ولا تعودُ عليك بصلاح دُنياك، وخوفُك ورجاؤُك لمن ناصيته بيد الله وهو أسيرٌ في قبضته ولا يَملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. وأعظمُ هذه الإضاعات إضاعتان هُما أصلُ كلِّ إضاعةٍ: إضاعةُ القلب وإضاعةُ الوقت؛ فإضاعة القلب من إيثار الدُّنيا على الآخرة، وإضاعةُ الوقت من طول الأمل.

(1/162)


فاجتمع الفسادُ كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاحُ كلُّه في اتِّباع الهدى والاستعداد للِّقاء. والله المستعانُ. • العجب ممن تَعرِضُ له حاجةٌ، فيَصْرِفُ رغبتَه وهمتَه فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يَتصدَّى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات! ولكن إذا مات القلبُ لم يَشْعُرْ بمعصيته! فصل لله سبحانه على عبده أمرٌ أمرَهُ به وقضاءٌ يقضيه عليه ونعمةٌ يُنْعِمُ بها عليه؛ فلا ينفكُّ من هذه الثلاثة، والقضاءُ نوعان: إمَّا مصائبُ وإما معايبُ، وله عليه عبوديةٌ في هذه المراتب كلِّها. فأحبُّ الخلق إليه: من عرفَ عبوديتَهُ في هذه المراتب ووفَّاها حقَّها؛ فهذا أقربُ الخلق إليه. وأبعدُهم منه: من جَهِلَ عبوديتَهُ في هذه المراتب فعطَّلها علمًا وعملًا. فعبوديتُهُ في الأمر: امتثالُه إخلاصًا واقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي النهي: اجتنابُهُ خوفًا منه وإجلالًا ومحبَّةً. وعبوديتُهُ في قضاء المصايب: الصبرُ عليها، ثم الرِّضَى بها وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرِّضى. وهذا إنما يتأتَّى منه إذا تمكن حبُّهُ من قلبه وعلم حُسْنَ اختياره له وبرَّه به ولطفَه به وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كره المصيبة.

(1/163)


وعبوديته في قضاء المعايب: المبادرة إلى التوبة منها والتنصُّل والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يرفعُها عنه إلا هو، ولا يَقِيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرَّت أبعدتْه من قربه وطَردتْه من بابه، فيراها من الضُّرِّ الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن؛ فهو عائذٌ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجيرٌ به منه، وملتجئٌ منه إليه، يعلم أنه إذا تخلى عنه وخلَّى بينه وبين نفسه فعنده أمثالُها وشرٌّ منها، وأنه لا سبيلَ له إلى الإقلاع والتوبة إلَّا بتوفيقه وإعانته، وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد؛ فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أو يأتي بمرضاة سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته؛ فهو ملتجئٌ إليه، متضرِّعٌ، ذليلٌ، مسكين، مُلْقٍ نفسَه بين يديه، طريحٌ ببابه، مستخذٍ له، أذلُّ شيءٍ وأكسره له، وأفقره وأحوجه إليه، وأرغبُهُ فيه، وأحبه له، بدنه متصرفٌ في أشغاله، وقلبه ساجدٌ بين يديه، يعلم يقينًا أنه لا خير فيه ولا له ولا به ولا منه، وأن الخير كله لله وفي يديه وبه ومنه؛ فهو وليُّ نعمته، ومبتدئه بها من غير استحقاق، ومُجرِيها عليه مع تمقُّته إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته؛ فحظُّه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظُّ العبد الذمُّ والنقصُ والعيب، قد استأثر بالمحاميد والمدح والثناء، وولي العبدُ الملامةَ والنقائص والعيوب؛ فالحمدُ كلُّه له، والخير كلُّه في يديه، والفضلُ كلُّه له، والثناءُ كلُّه له، والمنةُ كلُّها له؛ فمنه الإحسانُ ومن العبد الإساءةُ، ومنه التودُّدُ إلى العبد بنعمه ومن العبد التبغُّضُ إليه بمعاصيه، ومنه النُّصح لعبده ومن العبد الغشُّ له في معاملته. وأمَّا عبودية النِّعم فمعرفتها والاعتراف بها أولًا، ثم العياذُ به أن يقع في قلبه نسبتُها وإضافتُها إلى سواه وإن كان سببًا من الأسباب؛ فهو مسبّبه

(1/164)


ومقيمه؛ فالنعمة منه وحده بكلِّ وجه واعتبار، ثم الثناء بها عليه ومحبتُه عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته. ومن لطائف التعبُّد بالنعم أن يَستكثِرَ قليلَها عليه، ويَستقِلَّ كثيرَ شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها، ولا وسيلةٍ منه توسَّل بها إليه، ولا استحقاقٍ منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيدُهُ النعم إلا انكسارًا وذلًّا وتواضعًا ومحبةً للمنعم. وكلَّما جدَّد له نعمةً أحدثَ لها عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذلًّا، وكلما أحدثَ له قبضًا أحدثَ له رضىً، وكلما أحدثَ ذنبًا أحدثَ له توبةً وانكسارًا واعتذارًا، فهذا هو العبد الكيِّسُ، والعاجزُ بمعزلٍ عن ذلك. وبالله التوفيقُ. فصل من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحةٍ أو فرارٍ من سقم، وعلمَ أنَّ الله على كل شيء قديرٌ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأنَّ تدبيره لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرُّ به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخَّر عن تدبيره له خطوةً واحدةً؛ فلا متقدمَ له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر؛ فألقى نفسه بين يديه، وسلَّم الأمرَ كلَّه إليه، وانطرحَ بين يديه انطراحَ عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرفُ فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحملَ كَلَّه وحوائجَه ومصالحه

(1/165)


من لا يبالي بحملها ولا تُثقِله ولا يَكترِثُ بها، فتولَّاها دونه، وأراه لطفَه وبِرَّهُ ورحمته وإحسانه فيها؛ من غير تعب من العبد ولا نَصَبٍ ولا اهتمام منه؛ لأنَّه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها؛ فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ قلبَه وأعظمَ سرورَه وفرحَه!. وإن أبى إلا تدبيرَه لنفسه، واختيارَه لها، واهتمامَه بحظِّه، دون حقِّ ربه؛ خلَّاه وما اختاره، وولَّاه ما تولى، فحضره الهمُّ والغمُّ والحزن والنكَدُ والخوف والتعب وكسفُ البال وسوءُ الحال؛ فلا قلبَ يصفو، ولا عملَ يزكو، ولا أملَ يحصل، ولا راحةَ يفوزُ بها، ولا لذةَ يتهنَّأُ بها، بل قد حِيْلَ بينه وبين مسرَّته وفرحه وقرَّة عينه؛ فهو يَكدَحُ في الدنيا كَدْحَ الوحشِ، ولا يظفر منها بأمل، ولا يَتزوَّدُ منها لمعادٍ. والله سبحانه قد أمر العبد بأمر، وضَمِنَ له ضمانًا؛ فإن قام بأمره بالنُّصح والصدق والإخلاص والاجتهاد؛ قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر وقضاء الحوائج؛ فإنه سبحانه ضَمِنَ الرزقَ لمن عبده، والنصرَ لمن توكل عليه واستنصر به، والكفايةَ لمن كان هو همَّه ومرادَه، والمغفرةَ لمن استغفرهُ، وقضاءَ الحوائج لمن صدقه في طلبها ووَثِقَ به وقوي رجاؤهُ وطمعُه في فضله وجودِهِ؛ فالفَطِنُ الكيِّسُ إنما يَهتمُّ بأمره وإقامته وتوفيقه لا بضمانه؛ فإنه الوفيُّ الصادقُ، ومن أوفى بعهده من الله؟! فمن علامات السعادة صرفُ اهتمامه إلى أمر الله دون ضمانه، ومن علامات الحرمان فراغُ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه. والله المستعانُ.

(1/166)


قال بشر بن الحارث: أهل الآخرة ثلاثةٌ: عابدٌ وزاهدٌ وصديقٌ؛ فالعابدُ يعبد الله مع العلائق، والزاهد يعبده على ترك العلائق، والصديق يعبده على الرضى والموافقة: إن أراه أَخْذَ الدُّنيا أخذَها، وإن أراه تَرْكَها تَرَكها. إذا كان الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في جانب؛ فاحذَرْ أن تكون من الجانب الآخر؛ فإن ذلك يُفضِي إلى المشاقَّة والمحادَّة، وهذا أصلها، ومنه اشتقاقها؛ فإن المشاقة أن يكون في شقٍّ ومن يخالفه في شقٍّ، والمحادَّة أن يكون في حدٍّ وهو في حدٍّ. ولا تَستسهِلْ هذا؛ فإن مبادئه تَجُرُّ إلى غايته، وقليلُه يدعو إلى كثيره! وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان الناسُ كلُّهم في الجانب الآخر؛ فإن لذلك عواقبَ هي أحمدُ العواقبِ وأفضلُها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته. وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر، ولا سيما إذا قَويت الرغبةُ والرهبة؛ فهناك لا تكاد تجد أحدًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، بل يَعدُّه الناس ناقصَ العقل سيئَ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرُّسل؛ فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شقٍّ وجانبٍ والناسُ في شقٍّ وجانب آخر. ولكن من وطَّن نفسَه على ذلك؛ فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينًا له لا ريبَ عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومةِ من لامه، ولا يَتِمُّ له ذلك إلا برغبةٍ قوية في الله والدار الآخرة؛ بحيث تكون الآخرة أحبَّ إليه من الدنيا وآثرَ عنده منها، ويكون الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه مما سواهُما.

(1/167)


وليس شيءٌ أصعب على الإنسان من ذلك في مبادئ الأمر؛ فإنَّ نفسه وهواهُ وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل؛ فإذا خالفهم تَصدَّوا لحربه؛ فإن صبر وثبت جاءه العونُ من الله، وصار ذلك الصعب سهلًا، وذلك الألم لذَّةً؛ فإن الرب شكورٌ؛ فلا بدَّ أن يُذِيقَه لذَّةَ تحيُّزِه إلى الله وإلى رسوله ويُرِيَه كرامةَ ذلك؛ فيشتدَّ به سرورُه وغبطتُهُ، ويبتهج به قلبه، ويظفر بقوَّته وفرحه وسروره، ويبقَى من كان محاربًا له على ذلك بين هائبٍ له ومسالمٍ له ومساعدٍ وتارك، ويَقوَى جندهُ، ويضعُف جندُ العدوِّ. ولا تَستصعِبْ مخالفةَ الناس والتحيُّز إلى الله ورسوله ولو كنتَ وحدك؛ فإن الله معك، وأنت بعينه وكَلاءتِه وحفظِه لك، وإنما امتحن يقينَك وصبَرك. وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجردُ من الطمع والفزع؛ فمتى تجرَّدتَ منهما هان عليك التحيُّزُ إلى الله ورسوله، وكنتَ دائمًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزعُ فلا تَطمَعْ في هذا الأمر، ولا تُحدِّثْ نفسَك به. فإن قلتَ: فبأيِّ شيءٍ أستعينُ على التجرُّد من الطمع ومن الفزع؟ قلتُ: بالتوحيد، والتوكُّل، والثقة بالله، وعلْمِك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلَّا هو، وأنَّ الأمر كلَّه لله ليس لأحد مع الله شيءٌ. نصيحة هلمَّ إلى الدُّخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصبٍ ولا تعبٍ ولا عناءٍ، بل من أقرب الطُّرُقِ وأسهلها!

(1/168)


وذلك أنَّك في وقتٍ بين وقتين، وهو في الحقيقة عمُرُكَ، وهو وقتُك الحاضرُ بين ما مَضَى وما يُستقبَلُ: فالذي مضى تُصلِحه بالتوبة والنَّدم والاستغفار، وذلك شيءٌ لا تعبَ عليك فيه ولا نصبَ ولا معاناةَ عملٍ شاق، إنما هو عملُ قلبٍ. وتمتنع فيما يُستَقبل من الذُّنوب، وامتناعُك تركٌ وراحةٌ، ليس هو عملًا بالجوارح يَشُقُّ عليك معاناتُه، وإنما هو عزمٌ ونيَّةٌ جازمةٌ تُريحُ بدنَك وقلبَك وسرَّك. فما مضى تُصلِحُهُ بالتوبة، وما يُستقبل تُصلِحُه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصبٌ ولا تعبٌ، ولكن الشأن في عمرك، وهو وقتك الذي بين الوقتين؛ فإن أضعتَه أضعتَ سعادتَك ونجاتك، وإن حفظتَه مع إصلاح الوقتين اللَّذين قبله وبعده بما ذُكِرَ نجوتَ وفُزتَ بالراحة واللَّذَّةِ والنعيم، وحفظُهُ أشقُّ من إصلاح ما قبله وما بعده؛ فإن حفظه أن تُلزِمَ نفسَك بما هو أولى بها وأنفعُ لها وأعظمُ تحصيلًا لسعادتها، وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوتٍ. فهي والله أيامك الحالية التي تَجمع فيها الزادَ لمعادك؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار: فإن اتَّخذْتَ منها سبيلًا إلى ربك بلغتَ السعادةَ العظمى والفوزَ الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد، وإن آثرتَ الشهواتِ والراحات واللهو واللعب انقضتْ عنك بسرعةٍ، وأعقبتْك الألمَ العظيمَ الدائم الذي مُقاساتُهُ ومعاناتُهُ أشقُّ وأصعبُ وأدومُ من معاناة الصبرِ عن محارم الله والصبرِ على طاعته ومخالفةِ الهوى لأجله.

(1/169)


فصل علامة صحة الإرادة: أن يكون همُّ المريد رِضَى ربه، واستعداده للقائه، وحزنه على وقت مرَّ في غير مرضاته، وأسفه على قربه والأنس به. وجماعُ ذلك أن يُصبح ويُمسي وليس له همٌّ غيره. فصل • إذا استغنى الناسُ بالدُّنيا فاستغنِ أنت بالله، وإذا فرحوا بالدُّنيا فافرح أنت بالله، وإذا أَنِسُوا بأحبابهم فاجعلْ أنسَك بالله، وإذا تعرَّفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزَّ والرفعة؛ فتعرَّفْ أنت إلى الله وتودَّدْ إليه؛ تنالُ بذلك غاية العز والرفعة. • قال بعض الزُّهاد: ما علمتُ أن أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعةٌ لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان. فقال له رجلٌ: إني أُكثِرُ البكاء. فقال: إنك إن تضحك وأنت مُقِرٌّ بخطيئتك خيرٌ من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ بعملك؛ إنَّ المُدِلَّ لا يصعد عمله فوق رأسه. فقال: أوصني. فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة: إن أكلتْ أكلتْ طيبًا، وإن أطعمتْ أطعمتْ طيبًا، وإن سقطتْ على شيء لم تَكسِرْه ولم تَخدِشْه. فصل الزهد أقسامٌ: زهدٌ في الحرام، وهو فرضُ عين. وزهدٌ في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة: فإن قويتْ التحقتْ بالواجب، وإن ضعُفتْ كان مستحبًا. وزهدٌ في الفضول. وزهدٌ فيما لا يَعنِي من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره. وزهدٌ في الناس. وزهدٌ في

(1/170)


النفس بحيث تَهُون عليه نفسُه في الله. وزهدٌ جامعٌ لذلك كله، وهو الزهدُ فيما سوى الله وفي كل ما شَغَلك عنه. وأفضل الزهد إخفاء الزهد. وأصعبه الزهدُ في الحظوظ. والفرق بينه وبين الورع: أن الزهد تركُ ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. والقلب المعلَّق بالشهوات لا يصح له زهدٌ ولا ورعٌ. قال يحيى بن معاذ: عجبتُ من ثلاث: رجلٌ يُرائي بعمله مخلوقًا مثلَه ويتركُ أن يعمله لله، ورجلٌ يبخلُ بماله وربُّه يَستقرِضه منه فلا يُقرِضه منه شيئًا، ورجلٌ يَرغب في صحبة المخلوقين ومودَّتهم، والله يدعوه إلى صحبته ومودته. فائدة جليلة قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأنَّ آدم نُهِي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمِر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يُتَب عليه. قلت: هذه مسألة عظيمةٌ لها شأنٌ، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي (1)، وذلك من وجوه عديدة: أحدُها: ما ذكره سهلٌ من شأن آدم وعدوِّ الله إبليس. __________ (1) لشيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة في هذه المسألة أطال فيها الكلام من وجوه، انظر "مجموع الفتاوى" (20/ 85 - 158).

(1/171)


الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنبُ ترك الأمر مصدره في الغالب الكِبْرُ والعزَّةُ، و"لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه مثقال ذرة من كبرٍ" (1) ، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق. (2) الثالث: أن فعل المأمور أحبُّ إلى الله من ترك المنهي؛ كما دلَّ على ذلك النصوصُ: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أحبُّ الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها" (3) . وقوله: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"؟. قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "ذكرُ الله" (4) . وقوله: "واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة" (5) . وغير ذلك من النصوص. وترك المناهي عملٌ؛ فإنه كفُّ النفسِ عن الفعل. ولهذا علَّق سبحانه المحبةَ بفعل الأوامر؛ كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ __________ (1) أخرجه مسلم (91) عن ابن مسعود. (2) أشار إلى حديث أبي ذر الذي أخرجه البخاري (1237) ومسلم (94). (3) أخرجه البخاري (527) ومسلم (85) عن ابن مسعود. (4) أخرجه أحمد (5/ 195) والترمذي (3377) وابن ماجه (3790) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث صحيح. (5) أخرجه أحمد (5/ 282) والدارمي (1/ 168) وابن ماجه (277) والحاكم (1/ 130) من حديث ثوبان. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو صحيح لطرقه وشواهده.

(1/172)


الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]، وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران: 146]. وأما في جانب المناهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة؛ كقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]، وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، وقوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36] ونظائره. وأخبر في موضع آخر أنه يكرهها ويسخطها؛ كقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد: 28]. إذا عُرِفَ هذا؛ ففعلُ ما يحبُّه سبحانه مقصود بالذات، ولهذا يُقدِّرُ ما يكرهه ويَسخَطُه لإفضائه إلى ما يحب؛ كما قدَّر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها؛ من الجهاد، واتخاذ الشهداء، وحصول التوبة من العبد والتضرع إليه والاستكانة، وإظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله، وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره لما يكره أحبّ إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها، وهو سبحانه لا يُقدِّر ما يُحِبُّ لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدِّر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه، فعُلِمَ أن فعلَ ما يُحِبُّه أحبُّ إليه مما يكرهه. يوضحه الوجه الرابع: أن فعل المأمور مقصود لذاته، وترك المنهيِّ مقصودٌ لتكميل فعل المأمور؛ فهو منهيٌّ عنه لأجل كونه يُخِلُّ بفعل

(1/173)


المأمور أو يُضعِفه وينقصه؛ كما نبَّه سبحانهُ على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يَصُدَّانِ عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فالمنهياتُ قواطعُ وموانعُ صادَّةٌ عن فعل المأمورات أو عن كمالها؛ فالنهي عنها من باب المقصود لغيره، والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه. ويوضحه الوجه الخامس: أن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان وبقائها، وترك المنهيات من باب الحِمْية عما يُشوِّش قوةَ الإيمان ويُخرِجها عن الاعتدال، وحفظ القوة مقدَّمٌ على الحمية؛ فإن القوة كلما قويتْ دفعت الموادَّ الفاسدة، وإذا ضعفتْ غلبت الموادُّ الفاسدة؛ فالحمية مرادةٌ لغيرها، وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها، ولهذا كلما قويتْ قوة الإيمان دفعت الموادَّ الرديئة ومنعتْ من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها، وإذا ضعُفت غَلبتِ الموادُّ الفاسدة. فتأمل هذا الوجه. الوجه السادس: أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤهُ وزينته وسروره وقُرَّةُ عينه ولذته ونعيمه، وترك المنهيَّات بدون ذلك لا يُحصِّلُ له شيئًا من ذلك؛ فإنه لو ترك جميع المنهيَّات، ولم يَأتِ بالإيمان والأعمال المأمورِ بها لم ينفعه ذلك الترك شيئًا، وكان خالدًا مخلَّدًا في النار. وهذا يتبينُ بالوجه السابع: أن مَن فعلَ المأموراتِ والمنهيَّاتِ؛ فهو: إما ناجٍ إن غلبتْ حسناتُه سيئاتِه، وإما ناجٍ بعد أن يُؤخذَ منه الحقُّ ويُعاقَب على سيئاته؛ فمآلُهُ إلى النجاة، وذلك بفعل المأمور. ومن ترك المأمورات والمنهيَّات فهو هالكٌ غير ناجٍ. ولا ينجو إلا بفعل المأمور، وهو التوحيد.

(1/174)


فإن قيل: فهو إنَّما هلك بارتكاب المحظور، وهو الشركُ. قيل: يكفي في الهلاك تركُ نفسِ التوحيد المأمور به وإن لم يأتِ بضدٍّ وجوديٍّ من الشرك، بل متى خلا قلبُهُ من التوحيد رأسًا؛ فلم يُوحِّد اللهَ فهو هالكٌ، وإن لم يَعبُد معه غيرَه، فإذا انضاف إليه عبادةُ غيره؛ عُذِّبَ على تركِ التوحيد المأمور به وفعلِ الشرك المنهيِّ عنه. يوضِّحه الوجه الثامن: أنَّ المدعوَّ إلى الإيمان إذا قال: لا أُصدِّقُ ولا أكذِّبُ ولا أُحِبُّ ولا أبغضُ ولا أعبده ولا أعبد غيره! كان كافرًا بمجرد الترك والإعراض؛ بخلاف ما إذا قال: أنا أصدِّقُ الرسولَ وأحبُّه وأؤمنُ به وأفعل ما أمرني، ولكنَّ شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمةٌ عليَّ لا تَدَعُني أترُكُ ما نهاني عنه، وأنا أعلمُ أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي، ولكن لا صبر لي عنه! فهذا لا يُعَدُّ كافرًا بذلك، ولا حكمُهُ حكمُ الأوَّل؛ فإنَّ هذا مطيعٌ من وجهٍ، وتاركُ المأمور جملةً لا يُعَدُّ مطيعًا بوجهٍ. يوضِّحُه الوجهُ التاسعُ: أن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلًا وبالنهي تبعًا؛ فالمطيعُ ممتثلُ المأمور، والعاصي تاركُ المأمور: قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]. وقال موسى لأخيه: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيتَ أَمْرِي (93) } [طه: 92 - 93]. وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرْتَني فعصيتُ، ولكن لا إله إلا أنت (1) . __________ (1) انظر طبقات ابن سعد (4/ 260) ومسند أحمد (4/ 199 - 200).

(1/175)


وقال الشاعرُ (1) : أمرْتُك أمرًا حازمًا فعصيْتَني والمقصودُ من إرسال الرُّسُل طاعةُ المرسل، ولا تحصلُ إلا بامتثال أوامره، واجتنابُ المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه، ولهذا لو اجتنبَ المناهي ولم يفعل ما أُمر به لم يكن مطيعًا وكان عاصيًا؛ بخلاف ما لو أتى بالمأمورات وارتكب المناهي؛ فإنه وإن عُدَّ عاصيًا مذنبًا؛ فإنه مطيعٌ بامتثال الأمر عاصٍ بارتكاب النهي؛ بخلاف تارك الأمر؛ فإنه لا يُعَدُّ مطيعًا باجتناب المنهيَّات خاصةً. الوجه العاشر: أنَّ امتثال الأمر عبوديةٌ وتقرُّبٌ وخدمةٌ، وتلك العبادة التي خُلق لأجلها الخلقُ؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56) } [الذاريات: 56]، فأخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبهُ ليعبدوه؛ فالعبادة هي الغايةُ التي خُلِقوا لها، ولم يُخلَقوا لمجرَّد الترك؛ فإنه أمرٌ عدميٌّ لا كمال فيه من حيثُ هو عدمٌ؛ بخلاف امتثال المأمور؛ فإنه أمرٌ وجوديٌّ مطلوبُ الحصول. وهذا يتبيَّنُ بالوجه الحادي عشر: وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل، وهو أمرٌ عدميٌّ، والمطلوبُ بالأمر إيجادُ فعل، وهو أمرٌ وجوديٌّ، فمتعلقُ الأمر الإيجاد، ومتعلق النهي الإعدام أو العدم، وهو أمرٌ لا كمال فيه؛ إلَّا إذا تضمَّن أمرًا وجوديًّا؛ فإنَّ العدم -من حيثُ هو عدمٌ- لا كمال فيه ولا مصلحةَ؛ إلَّا إذا تضمَّن أمرًا وجوديًّا مطلقًا، وذلك __________ (1) صدر بيت للحضين بن المنذر في شرح الحماسة للمرزوقي (2/ 814) وتمامه: فأصبحتَ مسلوب الإمارة نادما.

(1/176)


الأمر الوجوديُّ مطلوبٌ مأمورٌ به، فعادتْ حقيقةُ النهي إلى الأمر، وأنَّ المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجوديِّ المطلوب به. وهذا يتَّضحُ بالوجه الثاني عشر: وهو أنَّ الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال: أحدُها: أن المطلوب به كفُّ النفس عن الفعل وحبسُها عنه. وهو أمرٌ وجوديٌّ. قالوا: لأن التكليف إنما يتعلقُ بالمقدور، والعدمُ المحضُ غيرُ مقدورٍ. وهذا قولُ الجمهور. وقال أبو هاشم وغيرُهُ: بل المطلوب عدمُ الفعل، ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم، وإن لم يَخطُرْ بباله الفعلُ، فضلًا أن يقصد الكفَّ عنه، ولو كان المطلوبُ الكفَّ؛ لكان عاصيًا إذا لم يأتِ به، ولأنَّ الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يَخْطُر بباله فعلُه والكفُّ عنه. وهذا أحدُ قولي القاضي أبي بكر، ولأجله التزم أنَّ عدم الفعل مقدورٌ للعبد وداخلٌ تحت الكسب؛ قال: والمقصود بالنهي الإبقاء على العدم الأصلي وهو مقدورٌ. وقالتْ طائفةٌ: المطلوب بالنهي فعلُ الضدِّ؛ فإنه هو المقدور وهو المقصودُ للناهي؛ فإنَّه إنما نهاه عن الفاحشة طلبًا للعفة وهي المأمور بها، ونهاه عن الظلم طلبًا للعدل المأمور به، وعن الكذب طلبًا للصدق المأمور به، وهكذا جميع المنهيات. فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلبُ لضد المنهي عنه، فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور. والتحقيق أن المطلوب نوعان: مطلوب لنفسه، وهو المأمور به.

(1/177)


ومطلوبٌ إعدامه لمضادته المأمورَ به، وهو المنهي عنه؛ لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به. فإذا لم يَخطُرْ ببال المكلف، ولا دعتْه نفسُه إليه، بل استمر على العدم الأصلي؛ لم يُثَبْ على تركه. وإن خطر بباله، وكفَّ نفسه عنه لله، وتركه اختيارًا؛ أُثيب على كف نفسه وامتناعه؛ فإنه فعل وجوديٌّ، والثواب إنما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحض. وإن تركه مع عزمه الجازم على فعله، لكن تركه عجزًا؛ فهذا وإن لم يُعاقَب عقوبةَ الفاعل، لكن يُعاقَب على عزمه وإرادته الجازمة التي إنما تخلَّف مرادُها عجزًا. وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة؛ فلا يُلتَفت إلى ما خالفها: كقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]. وقوله في كاتم الشهادة: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]. وقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) } [الطارق: 9]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تواجهَ المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: "إنه أراد قتل صاحبه" (1) . وقوله في الحديث الآخر: "ورجل قال: لو أن لي مالًا؛ لعمِلْتُ بعمل فلان؛ فهو بنيته، وهما في الوِزر سواءٌ" (2) . __________ (1) أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888) عن أبي بكرة. (2) أخرجه أحمد (4/ 231) والترمذي (2325) عن أبي كبشة. وللحديث طرق =

(1/178)


وقول من قال: "إن المطلوب بالنهي فعل الضِّدِّ" ليس كذلك؛ فإن المقصود عدم الفعل والتلبس بالضِّد (1)؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو غير مقصود بالقصد الأوَّل، وإن كان المقصود بالقصد الأول المأمور الذي نهي عما يمنعه ويضعفه؛ فالمنهي عنه مطلوبٌ إعدامه طلبَ الوسائل والذرائع، والمأمور به مطلوبٌ إيجاده طلبَ المقاصد والغايات. وقولُ أبي هاشم: "إن تارك القبائح يُحمَد وإن لم يخطر بباله كفُّ النفس"، فإن أراد بحمده أن لا يُذَمَّ فصحيحٌ، وإن أراد أن يُثنى عليه بذلك ويُحمَد عليه ويَستحقَّ الثوابَ فغيرُ صحيح؛ فإن الناس لا يَحمدون المجبوب على ترك الزِّنى ولا الأخرس على عدم الغيبة والسبّ، وإنما يَحمدون القادر الممتنع عن قدرةٍ وداعٍ إلى الفعل. وقولُ القاضي: "الإبقاءُ على العدم الأصلي مقدورٌ"، فإن أراد به كفَّ النفس ومنعها فصحيحٌ، وإن أراد مجرَّدَ العدم فليس كذلك. وهذا يتبيَّنُ بالوجه الثالث عشر: وهو أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه من طريق اللُّزوم العقلي لا القصد الطلبي؛ فإن الآمر إنما مقصوده فعل المأمور؛ فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودًا لغيره. وهذا هو الصوابُ في مسألة الأمر بالشي؛ هل هو نهيٌ عن ضدِّه أم لا؟ فهو نهيٌ عنه من جهة اللُّزوم لا من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشي؛ مقصود الناهي بالقصد الأوَّل الانتهاءُ عن المنهي عنه، وكونه __________ = يرتقى بها إلى الصحة. (1) في الأصل: "بالضدين".

(1/179)


مشتغلًا بضدِّه جاء من جهة اللزوم العقليِّ، لكن إنما نهي عما يضادُّ ما أمر به كما تقدم. فكان المأمور به هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين. وحرف المسألة: أن طلب الشيء طلبٌ له بالذَّات ولما هو من ضرورته باللُّزوم، والنهي عن الشيء طلبٌ لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللُّزوم، والمطلوب في الموضعين فعلٌ وكفٌّ، وكلاهما أمرٌ وجوديٌّ. الوجه الرابع عشر: أنَّ الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي والإثبات في باب الخبر، والمدح والثناءُ لا يحصلان بالنفي المحض إن لم يتضمن ثبوتًا؛ فإن النفي كاسمه عدمٌ لا كمالَ فيه ولا مدحَ، فإذا تضمَّنَ ثبوتًا صحَّ المدحُ به؛ كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه، ونفي اللُّغوب والإعياء والتعب المستلزم لكمال القوة والقدرة، ونفي السِّنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقيُّومية، ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والرُّبوبية، ونفي الشريك والوليِّ والشفيع بدون الإذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرُّد بالكمال والإلهيَّة والملك، ونفي الظلم المتضمِّن لكمال العدل، ونفي إدراك الأبصار له المتضمن لعظمته وأنه أجلُّ من أن يُدرَك وإن رأته الأبصارُ، وإلَّا؛ فليس في كونه لا يُرى مدحٌ بوجهٍ من الوجوه؛ فإن العدم المحض كذلك. وإذا عُرف هذا؛ فالمنهيُّ عنه إن لم يتضمن أمرًا وجوديًّا ثبوتيًّا لم يُمدَح بتركه ولم يُستحقَّ الثواب والثناء بمجرَّد الترك؛ كما لا يستحقُّ المدح والثناء بمجرَّد الوصف العدميِّ. الوجه الخامس عشر: أن الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرةَ

(1/180)


أمثالِ فعلِها، وجزاءُ المنهيَّات مثلٌ واحدٌ، وهذا يدلُّ على أن فعل ما أمر به أحبُّ إليه من ترك ما نهى عنه، ولو كان الأمرُ بالعكس لكانت السيئةُ بعشرةٍ والحسنةُ بواحدةٍ أو تساويَا. الوجه السادس عشر: أنَّ المنهيَّ عنه المقصودُ إعدامُه وأن لا يدخل في الوجود، سواءٌ نوى ذلك أو لم يَنْوه، وسواءٌ خطر بباله أو لم يخطر؛ فالمقصود أن لا يكون، وأما المأمورُ به فالمقصودُ كونه وإيجادُه والتقرُّبُ به نيةً وفعلًا. وسرُّ المسألة: أنَّ وجود ما طلب إيجادَهُ أحبُّ إليه من عدم ما طلب إعدامهُ، وعدم ما أحبَّه أكره إليه من وجود ما يُبْغِضُهُ؛ فمحبتُه لفعل ما أمر به أعظمُ من كراهته لفعل ما نهى عنه. يوضحُه الوجهُ السابع عشر: أنَّ فعل ما يُحِبُّه والإعانة عليه وجزاءه وما يترتَّبُ عليه من المدح والثناء من رحمته، وفعل ما يكرهه وجزاءه وما يترتَّبُ عليه من الذَّمِّ والألم والعقاب من غضبه، ورحمتُه سابقةٌ على غضبه غالبةٌ له، وكل ما كان من صفةِ الرحمة فهو غالبٌ لما كان من صفة الغضب؛ فإنَّه سبحانه لا يكون إلَّا رحيمًا، ورحمتُهُ من لوازم ذاته؛ كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه، فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك، وليس كذلك غضبه، فإنه ليس من لوازم ذاته، ولا يكون غضبانَ دائمًا غضبًا لا يُتَصَوَّرُ انفكاكُه، بل يقولُ رُسُلُه وأعلمُ الخلق به يوم القيامة: "إن ربي قد غضبَ اليوم غضبًا لم يَغْضَبْ قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" (1) ، ورحمته وسعت كلَّ شيءٍ وغضبُهُ لم يسع كلَّ __________ (1) قطعة من حديث الشفاعة المشهور، وقد أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

(1/181)


شيءٍ، وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمةَ ولم يكتُب على نفسه الغضب، ووسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا ولم يَسَعْ كلَّ شيءٍ غضبًا وانتقامًا؛ فالرحمةُ وما كان بها ولوازمُها وآثارُها غالبةٌ على الغضب وما كان منه وآثاره؛ فوجودُ ما كان بالرحمة أحبُّ إليه من وجود ما كان من لوازم الغضب، ولهذا كانت الرحمةُ أحبُّ إليه من العذاب، والعفوُ أحبَّ إليه من الانتقام؛ فوجود محبوبه أحبُّ إليه من فوات مكروهه، ولا سيَّما إذا كان في فوات مكروهه فواتُ ما يحبُّه من لوازمه؛ فإنَّه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكرهُ وجود ذلك الملزوم المكروه. الوجهُ الثامن عشر: أن آثار ما يكرهُهُ -وهو المنهياتُ- أسرعُ زوالًا بما يُحبُّه من زوال آثار ما يحبُّه بما يكرهُه. فآثارُ كراهته سريعةُ الزوال، وقد يُزيلُها سبحانه بالعفو والتجاوز، وتزولُ بالتوبة، والاستغفار، والأعمال الصالحة، والمصائب المُكَفِّرة، والشفاعة، والحسناتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات، ولو بلغتْ ذنوبُ العبدِ عَنانَ السماءِ، ثم استغفره غفر له، ولو لقيَهُ بِقُرابِ الأرض خطايا، ثم لقيَهُ لا يُشرِكُ به شيئًا؛ لأتاهُ بقُرابها مغفرة، وهو سبحانه يَغفرُ الذنوب -وإن تعاظمت- ولا يُبالي، فيبطِلُها ويبطلُ آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبةٍ نصوح وندمٍ على ما فعل، وما ذاك إلا لوجود ما يُحِبُّه من توبة العبد وطاعته وتوحيده، فدلَّ على أنَّ وجود ذلك أحبُّ إليه وأرضى له. يوضِّحُه الوجهُ التاسعَ عشرَ: وهو أنَّه سبحانه قدَّر ما يُبْغِضُهُ ويكرهُهُ من المنهيَّاتِ لما يترتَّب عليها مما يحبُّه ويفرحُ به من المأمورات. فإنَّه سبحانه أفرحُ بتوبة عبده من الواجد الفاقد والعقيم الوالد والظمآن الوارد، وقد ضربَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لفرحه بتوبة العبد مثلًا

(1/182)


ليس في المفروح به أبلغُ منه (1)، وهذا الفرحُ إنَّما كان بفعل المأمور به، وهو التوبةُ، فقدَّر الذنب لما يترتَّبُ عليه من هذا الفرح العظيم الذي وجودُهُ أحبُّ إليه من فواته، ووجوده بدون لازمه ممتنع فدلَّ على أن وجود ما يحب أحبُّ إليه من فوات ما يكرهُ. وليس المرادُ بذلك أنَّ كلَّ فردٍ من أفراد ما يحبُّ أحبُّ إليه من فوات كل فردٍ مما يكرهُ، حتى تكون ركعتا الضُّحى أحبَّ إليه من فوات قتل المسلم، وإنما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضلُ من جنس ترك المحظورات؛ كما إذا فُضِّلَ الذكَرُ على الأنثى والإنسيُّ (2) على الملك؛ فالمرادُ الجنسُ لا عمومُ الأعيانِ. والمقصودُ أنَّ هذا الفرح الذي لا فرح يُشبِهُهُ بفعل مأمور التوبة يَدُلُّ على أنَّ هذا المأمور أحبُّ إليه من فوات المحظور الذي تفوتُ به التوبةُ وأثرُها ومُقتضاها. فإن قيل: إنما فرح بالتوبة لأنَّها تركٌ للمنهي، فكان الفرحُ بالترك! قيل: ليس كذلك؛ فإن الترك المحض لا يُوجب هذا الفرحَ بل ولا الثواب ولا المدح، وليست التوبة تركًا، وإن كان التركُ من لوازمها، وإنما هي فعلٌ وجوديٌّ، يتضمنُ إقبال التائب على ربِّه وإنابتهُ إليه والتزام طاعته، ومن لوازم ذلك ترك ما نهي عنه، ولهذا قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ} [هود: 3]؛ فالتوبة رجوعٌ مما يكره إلى ما يحبُّ، وليست مجرد الترك؛ فإن من ترك الذنب تركًا مجردًا ولم يرجع __________ (1) أخرجه البخاري (6309) ومسلم (2747) من حديث أنس بن مالك. (2) في الأصل: "الأنثى" تحريف.

(1/183)


منه إلى ما يحبُّه الربُّ تعالى لم يكنْ تائبًا؛ فالتوبة رجوعٌ وإقبالٌ وإنابةٌ لا تركٌ محضٌ. الوجه العشرون: أن المأمور به إذا فات فاتت الحياة المطلوبةُ للعبد، وهي التي قال تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وقال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]. وقال في حقِّ الكفَّار: {أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21]، وقال: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]. وأما المنهيُّ عنه فإذا وُجِد فغايتُهُ أن يوجد المرضُ، وحياةٌ مع السَّقم خيرٌ من موتٍ. فإن قيل: ومن المنهيِّ عنه ما يُوجِب الهلاك، وهو الشِّرْكُ. قيل: الهلاكُ إنما حصل بعدم التوحيد المأمور به الذي به الحياةُ، فلما فُقِد حصلَ الهلاكُ؛ فما هلك إلَّا من عدم إتيانه بالمأمور به. وهذا وجهٌ حادٍ وعشرون في المسألة: وهو أنَّ في المأمورات ما يُوجِب فواتُهُ الهلاكَ والشقاء الدائم، وليس في المنهيَّات ما يقتضي ذلك. الوجهُ الثاني والعشرون: أنَّ فعل المأمور يقتضي ترك المنهيِّ عنه إذا فُعِل على وجهه من الإخلاص والمتابعة والنُّصح لله فيه؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، ومجرَّدُ ترك المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه. الوجهُ الثالثُ والعشرون: أنَّ ما يحبُّه من المأمورات فهو متعلِّقٌ بصفاته، وما يكرهه من المنهيات فمتعلقٌ بمفعولاته.

(1/184)


وهذا وجهٌ دقيقٌ يحتاجُ إلى بيان، فنقولُ: المنهياتُ شرورٌ وتُفضي إلى الشرور، والمأموراتُ خيرٌ وتُفضي إلى الخيرات، والخيرُ بيديه سبحانه والشرُّ ليس إليه (1)؛ فإنَّ الشرَّ لا يدخلُ في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، وإنما هو في المفعولات، مع أنه شرٌّ بالإضافة والنسبة إلى العبد، وإلَّا من حيثُ إضافتهُ ونسبتهُ إلى الخالق سبحانه فليس بشرٍّ من هذه الجهة. فغايةُ ارتكاب المنهيِّ أن يوجب شرًّا بالإضافة إلى العبد مع أنه في نفسه ليس بشرٍّ، وأما فواتُ المأمور فيفوتُ به الخيرُ الذي بفواته يحصُلُ ضدُّه من الشر، وكما كان المأمور أحبَّ إلى الله سبحانه؛ كان الشرُّ الحاصلُ بفواته أعظم؛ كالتوحيد والإيمان. وسرُّ هذه الوجوه: أنَّ المأمور به محبوبُهُ والمنهيَّ مكروهُهُ، ووقوعُ محبوبه أحبَّ إليه من فوات مكروهه، وفواتُ محبوبه أكرهُ إليه من وقوع مكروهه. والله أعلم. فصل مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر: قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ: "والله إنِّي لأحبُّك؛ فلا تنسَ أن تقول دُبُر كُلِّ __________ (1) كما في حديث علي الذي أخرجه مسلم (771).

(1/185)


صلاةٍ: اللهمَّ! أعِنّي على ذِكْركَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادَتِكَ" (1). وليس المرادُ بالذِّكْرِ مجرد ذكر اللسان، بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكرَ أسمائِهِ وصفاته، وذكرَ أَمرهِ ونهيهِ وذِكْرَهُ بكلامه، وذلك يستلزمُ معرفتَهُ والإيمان به وبصفات كمالهِ ونعوتِ جلالِهِ والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتمُّ إلا بتوحيده. فذكره الحقيقيُّ يستلزمُ ذلك كلَّه ويستلزم ذكر نعمهِ وآلائِهِ وإحسانِهِ إلى خلقه. وأما الشكرُ فهو القيامُ له بطاعته والتقرُّبُ إليه بأنواع محابِّه ظاهرًا وباطنًا. وهذان الأمران هما جِمَاعُ الدِّين؛ فذكره مستلزمٌ لمعرفته، وشكره متضمنٌ لطاعته. وهذان هما الغايةُ التي خَلقَ لأجلها الجنَّ والإنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكُتُبَ، وأرْسل الرُّسُلَ، وهي الحق الذي به خُلِقَتِ السماواتُ والأرضُ وما بينهما، وضدُّها هو الباطلُ والعبثُ الذي يتعالى ويتقدَّسُ عنه، وهو ظنُّ أعدائه به. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]. __________ (1) أخرجه أحمد (5/ 244، 247) وأَبو داود (1522) والنسائي (3/ 53) عن معاذ. وإسناده صحيح.

(1/186)


وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} [الحجر: 85]. وقال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]. وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36]. وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَينَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. [وقال:] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَينَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97]. فثبت بما ذُكِر أنَّ غاية الخلق والأمْرِ أن يُذْكَرَ وأن يُشكرَ؛ يُذْكَر فلا يُنْسى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر. وهو سبحانه ذاكرٌ لمن ذكرهُ، شاكرٌ لمن شكرهُ؛ فذِكْرُه سببٌ لذِكره، وشُكْرُهُ سببٌ لزيادته من فضله. فالذِّكْرُ للقلب واللسان.

(1/187)


والشكرُ للقلب محبةً وإنابةً، وللِّسان ثناءً وحمدًا، وللجوارح طاعةً وخدمةً. فصل تكرَّر في القرآن جعْلُ الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سببَ الهداية والإضلال، فيقومُ بالقلب والجوارح أعمالٌ تقتضي الهُدى اقتضاء السببِ لمسبَّبه والمؤثِّر لأثره، وكذلك الضلالُ؛ فأعمالُ البر تُثْمِرُ الهدى، وكلَّما ازداد منها ازداد هدًى، وأعمالُ الفجور بالضدِّ. وذلك أنَّ الله سبحانه يُحِبُّ أعمال البرِّ فيجازي عليها بالهُدى والفلاح، ويُبْغِضُ أعمال الفجور ويُجازي عليها بالضَّلال والشَّقاءِ. وأيضًا فإنه البَرُّ، ويحبُّ أهل البِرِّ، فيُقرِّبُ قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر، ويُبْغِضُ الفجور وأَهله؛ فيبعدُ قلوبهم منه بحسب ما اتَّصفوا به من الفجور. فمن الأصل الأول: قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2]. وهذا يتضمَّنُ أمرين: أحدهما: أنَّه يَهدي به من اتَّقى مساخطَه قبل نزول الكتاب؛ فإنَّ الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقرَّ عندهم أن الله سبحانه يكره الظُّلم والفواحش (1) والفساد في الأرض ويَمقُتُ فاعلَ ذلك، ويُحبُّ العدل والإحسان والجود والصدق والإصلاح في الأرض ويُحبُّ فاعل __________ (1) في هامش الأصل: "والفحش".

(1/188)


ذلك؛ فلما نزل الكتابُ أثاب سبحانه أهل البرِّ بأن وَفَّقَهم للإيمان به جزاءً لهم على برِّهم وطاعتِهِم، وخذل أهل الفجورِ والفُحْش والظُّلم بأنْ حال بينهم وبين الاهتداء به. والأمرُ الثاني: أنَّ العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملًا وقَبِلَ أوامرهُ وصدَّق بأخباره؛ كان ذلك سببًا لهدايةٍ أُخرى تحصُلُ له على التفصيل؛ فإنَّ الهداية لا نهاية لها، ولو بلغ العبدُ فيها ما بلغ؛ ففوق هدايته هدايةٌ أخرى، وفوق تلك الهداية هدايةٌ أخرى إلى غير غاية؛ فكلما اتَّقى العبد ربَّهُ ارتقى إلى هداية أخرى؛ فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التَّقْوى، وكلَّما فوَّتَ حظًّا من التقوى فاته حظٌّ من الهداية بحسبه؛ فكلَّما اتَّقى زاد هداه، وكلما اهتدى زادت تقواه. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16]. وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 10]. وقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]؛ فهداهم أولًا للإيمان، فلما آمنوا هداهُم بالإيمان هدايةً بعد هدايةٍ.

(1/189)


ونظيرُ هذا قولُه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفُرقان: ما يُعطيهم من النُّور الذي يُفرِّقون به بين الحقِّ والباطل، والنصر والعزِّ الذي يتمكنون به من إقامة الحقِّ وكسر الباطل؛ فُسِّرَ الفرقان بهذا وهذا. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)} [سبأ: 9]. وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(31)} في: سورة لقمان [31]، وسورة إبراهيم [5]، وسبأ [19]، والشورى [33]؛ فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهلُ الصبر والشُّكر؛ كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومن كان قصده اتباع رضوانه، وأنها إنما يتذكرُ بها من يخشاهُ سبحانه؛ كما قال: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} [طه: 1 - 3]. وقال في الساعة: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45]، وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها؛ فلا تنفعه الآياتُ العيانيَّةُ ولا القرآنيةُ. ولهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذِّبين للرسل وما حلَّ بهم في الدُّنيا من الخزي؛ قال بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103]، فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما من لا يؤمن بها ولا يخاف عذابها؛ فلا يكون ذلك عبرة وآية في حقه، وإذا سمع ذلك قال: لم يزل في الدهر الخير والشر والنعيم والبؤس والسعادة والشقاوةُ!! وربما أحال ذلك على

(1/190)


أسباب فلكيَّةٍ وقُوى نفسانية!! وإنما كان الصبر والشكر سببًا لانتفاع صاحبهما بالآيات؛ [لأنَّ الإيمان] ينبني على الصبر والشكر؛ فنصفُهُ صبرٌ ونصفه شكرٌ؛ فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوةُ إيمانِه، وآياتُ الله إنما ينتفع بها من آمن بالله وآياته، ولا يتم له الإيمان إلا بالصبر والشكر؛ فإن رأس الشكر التوحيد، ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى؛ فإذا كان مشركًا متبعًا هواه لم يكن صابرًا ولا شكورًا، فلا تكون الآياتُ نافعةً له ولا مؤثِّرةً فيه إيمانًا. فصل وأمَّا الأصل الثاني -وهو اقتضاءُ الفجور والكبر والكذب للضَّلال- فكثيرٌ أيضًا في القرآن: كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26 - 27]. وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. وقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]. وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} [البقرة: 88].

(1/191)


وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]؛ فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان لما جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه، بأن قلَّب أفئدتَهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الإيمان؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]؛ فأمرهم بالاستجابة له ولرسوله حين يدعوهم إلى ما فيه حياتُهم، ثم حذَّرهم من التخلُّف والتأخُّر عن الاستجابة الذي يكون سببًا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم؛ وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) } [الصف: 5]. وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) } [المطففين: 14]؛ فأخبر سبحانه أن كسبهم غطَّى على قلوبهم وحال بينها وبين الإيمان بآياته، فقالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) } [المطففين: 13]. وقال تعالى في المنافقين: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} [التوبة: 67]؛ فجازاهم على نسيانهم له أن نَسِيَهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة، وأخبر أنه أنساهم أنفسهم (1) ، فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحق، فأنساهم طلبَ ذلك ومحبته ومعرفته والحرصَ عليه عقوبةً لنسيانهم له. وقال تعالى في حقهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) } [محمد: 16 - 17]، فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع __________ (1) في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19].

(1/192)


للمهتدين بين التقوى والهدى. فصل وكما يَقرِن سبحانه بين الهُدى والتُّقى، والضلال والغيِّ؛ فكذلك يقرن بين: الهُدى والرحمة، والضلال والشَّقاء: فمن الأول: قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [لقمان: 5]. وقال: {أُولَئِكَ عَلَيهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 157]. وقال عن المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. وقال أهل الكهف: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} [الكهف: 10]. وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]. وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ إلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النحل: 64]. وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ

(1/193)


وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57 - 58،]، وقد تنوَّعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة (1)، والصحيح أنهما الهدى والنعمة؛ ففضله هداه، ورحمته نعمتُه، ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة. كقوله في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]. ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 - 8]؛ فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه وإغنائه. ومن ذلك قول نوح: {يَاقَوْمِ أَرَأَيتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28]. وقولُ شعيبٍ: {أَرَأَيتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88]. وقال عن الخضر: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَينَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف: 65]. وقال لرسوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3]. وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ __________ (1) انظر تفسير الطبري (12/ 194 وما بعدها) والدر المنثور (7/ 667 وما بعدها).

(1/194)


وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113]. وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]؛ ففضله هدايته، ورحمته إنعامه وإحسانه إليهم وبِرُّه بهم. وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]؛ والهدى منعَه من الضلال، والرحمة منعتْه من الشقاء، وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 1 - 2]، فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفي الشقاء عنه؛ كما قال في آخرها في حقِّ أتباعه: {فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]. فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازماتٌ لا يَنفكُّ بعضُها عن بعض؛ كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخر. قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} [القمر: 47]، والسُّعر: جمع سعيرٍ، وهو العذابُ الذي هو غايةُ الشقاء. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. وقال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]. ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة وبين الضلال وضِيق الصدر والمعيشة الضَّنْك:

(1/195)


قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. وكذلك يجمع بين الهدى والإنابة وبين الضلال وقسوة القلب: قال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. وقال تعالى: {فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. فصل والهدى والرحمة وتوابعهما من الفضل والإنعام كله من صفة العطاء، والإضلال والعذاب وتوابعهما من صفة المنع، وهو سبحانه يُصرِّف خلقَه بين عطائه ومنعه، وذلك كله صادرٌ عن حكمةٍ بالغةٍ ومُلكٍ تامٍّ وحمدٍ تامٍّ؛ فلا إله إلا الله. فصل إذا رأيتَ النفوس المُبطِلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبَّث بها هذا العالمِ السُّفْليُّ وقد تشبَّثتْ به؛ فكِلْها إليه؛ فإنه اللائقُ بها لفساد تركيبها، ولا تَنقُشْ عليها ذلك؛ فإنه سريع الانحلال عنها، ويبقى تشبُّثُها به مع انقطاعه عنها عذابًا عليها بحسب ذلك التعلُّق، فتبقى شهوتُها وإرادتُها فيها؛ وقد حِيْلَ بينها وبين ما تشتهي على وجهٍ يئستْ معه من حصول شهوتها ولذَّتها.

(1/196)


فلو تصور العاقلُ ما في ذلك من الألم والحسرة لبادرَ إلى قطع هذا التعلُّق كما يُبادِرُ إلى حَسْم موادِّ الفساد، ومع هذا فإنه ينالُ نصيَبه من ذلك؛ وقلبُه وهمُّه متعلقٌ بالمطلب الأعلى. والله المستعانُ. فصل إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك تصوُّرَ المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرَها وتعليمَها للناس! فإن الكاذب يُصوِّرُ المعدومَ موجودًا والموجودَ معدومًا، والحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا، والخير شرًّا والشرَّ خيرًّا؛ فيفسُدُ عليه تصوُّرُه وعلمه عقوبةً له. ثم يُصوِّر ذلك في نفس المخاطب المغترّ به الراكن إليه؛ فيُفسِدُ عليه تصوُّرَه وعلمه. ونفس الكاذب معرضةٌ عن الحقيقة الموجودة، نزَّاعةٌ إلى العدم، مُؤثِرةٌ للباطل. وإذا فسدتْ عليه قوةُ تصوُّره وعلمه التي هي مبدأ كلِّ فعل إراديٍّ؛ فسدتْ عليه تلك الأفعالُ، وسَرى حكم الكذب إليها، فصار صدورُها عنه كصدور الكذب عن اللسان؛ فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله. ولهذا كان الكذبُ أساسَ الفجور؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار" (1). وأولُ ما يَسرِي الكذبُ من النفس إلى اللسان فيُفسِدُه، ثم يسري إلى __________ (1) أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607) عن ابن مسعود.

(1/197)


الجوارح فيُفسدُ عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله، فيَعُمُّ الكذبُ أقواله وأعمالَه وأحوالَه، فيَستحكِمُ عليه الفسادُ ويَترامَى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدقِ يَقلَعُ تلك المادَّة من أصلها. ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلِّها الصدق، وأضدادُها من الرِّياء والعُجْب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبن والمهانة وغيرها أصلها الكذبُ؛ فكلُّ عمل صالح ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الصدق، وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الكذبُ. والله تعالى يعاقب الكذابَ بأن يُقعِده ويُثبِّطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيِب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته؛ فما استُجِلبَتْ مصَالحُ الدُّنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدُهما ومضارُّهما بمثل الكذب. قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]. وقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ} [محمد: 21]. وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)} [التوبة: 90]. فصل في قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}.

(1/198)


في هذه الآية عدةُ حِكَم وأسرار ومصالح للعبد: فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه؛ لم يأمن أن تُوافِيَه المضرةُ من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب؛ فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد؛ أوجب له ذلك أمورًا: منها: أنَّه لا أنفعَ له من امتثال الأمر، وإن شقَّ عليه في الابتداء؛ لأنَّ عواقبه كلها خيراتٌ ومسراتٌ ولذاتٌ وأفراح، وإن كرهته نفسه؛ فهو خيرٌ لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضرٌ عليه من ارتكاب النهي، وإن هَوِيتْه نفسه ومالت إليه؛ فإن عواقبه كلها آلامٌ وأحزانٌ وشرورٌ ومصائبُ. وخاصّةُ العقل تحمّلُ الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل. فنظر الجاهل لا يُجاوز المبادئَ إلى غاياتها، والعاقل الكيِّس دائمًا ينظرُ إلى الغايات من وراء سُتور مبادئها، فيرى ما وراء تلك السُّتورِ من الغايات المحمودة والمذمومة، فيرى المناهي كطعام لذيذٍ قد خُلِط فيه سُمٌّ قاتلٌ؛ فكلما دعتْه لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مُفْضٍ إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه كراهةُ مذاقه عن تناوله أمرهُ نفعُه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تُدرَك به الغاياتُ من مبادئها، وقوةِ صبر يُوطِّنُ به نفسَه على تحمُّلِ مشقَّة الطريق لما يُؤمِّلُ عند الغاية؛ فإذا فقد اليقين والصبر تعذَّر عليه ذلك، وإذا قوي يقينُهُ وصبرُهُ هإن عليه كل مشقَّةٍ يتحمَّلُها في طلب الخير الدائم واللَّذَّة الدائمة. ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويضَ إلى من يعلم

(1/199)


عواقبَ الأمور، والرِّضى بما يختارُهُ له ويقضيه له؛ لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يَقترِحُ على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علمٌ؛ فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختارُ على ربه شيئًا، بل يسأله حُسْنَ الاختيار له، وأن يُرضِيه بما يختاره؛ فلا أنفعَ له من ذلك. ومنها: أنه إذا فَوَّضَ إلى ربه ورضي بما يختاره له؛ أمدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصَرَفَ عنه الآفاتِ التي هي عُرضة اختيارِ العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يُرِيحه من الأفكار المُتعِبة في أنواع الاختيارات، ويُفرِّغ قلبَه من التقديرات والتدبيرات التي يَصعد منها في عقبةٍ وينزلُ في أخرى، ومع هذا فلا خروجَ له عما قُدِّر عليه؛ فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمودٌ مشكورٌ ملطوفٌ به فيه، وإلَّا جري عليه القدرُ وهو مذمومٌ غيرُ ملطوفٍ به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه. ومتى صحَّ تفويضُهُ ورضاه اكتنفَه في المقدور العطفُ عليه واللطفُ به، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفهُ يَقِيه ما يحذره، ولطفُهُ يُهوِّنُ عليه ما قدَّرَهُ. إذا نَفَذَ القدرُ في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيُّلُهُ في ردِّه؛ فلا أنفعَ له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحًا كالميتة؛ فإن السَّبُعَ لا يرضى بأكل الجِيَفِ.

(1/200)


فصل لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرفَ نفسه، ووقف بها عند قدرها، ولم يَتجاوزهُ إلى ما ليس له، ولم يَتَعدَّ طورَه، ولم يقل: هذا لي، وتيقَّن أنه لله ومن الله وبالله؛ فهو المانُّ به ابتداءً وإدامةً بلا سبب من العبد ولا استحقاقٍ منه، فتُذِلُّه نِعمُ الله عليه، وتَكْسِره كسرةَ من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتُحدِثُ له النعمُ ذلًّا وانكسارًا عجيبًا لا يُعبَّرُ عنه؛ فكلما جدَّد لهُ نعمةً ازداد له ذُلًّا وانكسارًا وخشوعًا ومحبّةً وخوفًا ورجاءً. وهذا نتيجةُ علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبِرِّه وغناه وجُودِه وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه؛ يُؤتي منه من يشاءُ ويمنع منه من يشاءُ، وله الحمدُ على هذا. وهذا أكملُ حمدٍ وأتمُّهُ. وعلمُه بنفسه، ووقوفه على حدِّها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، وأنها لا خير فيها البتة، ولا لها ولا بها ولا منها، وأنها ليس لها من ذاتها إلّا العدم؛ فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلَّا العدم الذي لا شيء أحقرُ منه ولا أنقص؛ فما فيها من الخير تابعٌ لوجودها الذي ليس إليها ولا بها. فإذا صار هذان العلمان صبغةً لها لا صبغةً على لسانها؛ علمتْ حينئذٍ أن الحمد كلَّه لله، والأمر كلَّه له، والخير كلَّه في يديه، وأنه هو المستحقُّ للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذمِّ والعيب واللوم. ومن فاته التحقُّقُ بهذين العلمين تلوَّنتْ به أقواله وأعماله وأحواله، وتَخبَّطتْ عليه، ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له

(1/201)


إلى الله. فإيصالُ العبدِ بتحقيق هاتين المعرفتين علمًا وحالًا، وانقطاعُهُ بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرفَ نفسه عَرفَ ربه (1)؛ فإنه من عرف نفسه بالجهل والظُّلْم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذُّلِّ والمسكنة والعدم؛ عرف ربَّه بضدِّ ذلك، فوقف بنفسه عند قدرها، ولم يَتعدَّ بها طورَها، وأثنى على ربِّه ببعض ما هو أهله، وانصرفتْ قوة حُبِّهِ وخشيته ورجائه وإنابته وتوكُّله إليه وحدَه، وكان أحبَّ شيءٍ إليه وأخوفَ شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقةُ العبودية. والله المستعانُ. ويُحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته: إنه لن يَنتفع بحكمتنا إلَّا من عرف نفسَه ووقف بها عند قدرها؛ فمن كان كذلك فليدخُلْ، وإلَّا فليرجِعْ حتى يكون بهذه الصفة. فصل الصبرُ على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُهُ الشهوةُ؛ فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبةً، وإمّا أن تقطع لذَّةً أكملَ منها، وإما أن تُضيِّع وقتًا إضاعتُهُ حسرةٌ وندامةٌ، وإما أن تَثْلم عِرضًا توفيرُهُ أنفعُ للعبد من ثَلمِه، وإما أن تُذهِبَ مالًا بقاؤُهُ خيرٌ له من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامُهُ خيرٌ من وضعه، وإما أن تَسْلُب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيبُ من قضاء الشهوة، وإما أن تُطرِّق لوضيعٍ إليك طريقًا لم يكن يجدُها قبل ذلك، وإما أن تَجلِب همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقاربُ لذَّةَ الشهوة، وإمَّا أن __________ (1) لا يُعرف مرفوعًا، وإنما يُحكى عن يحيى بن معاذ الرازي من قوله. انظر "المقاصد الحسنة" (ص 198).

(1/202)


تُنسِي علمًا ذِكرُه ألذُّ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمِّت عدوًّا وتُحزِن وليًّا، وإما أن تقطع الطريقَ على نعمةٍ مقبلةٍ، وإما أن تُحدِثَ عيبًا يبقى صفةً لا تزولُ؛ فإن الأعمال تُورِثُ الصفاتِ والأخلاقَ. فصل للأخلاق حدٌّ متى جاوزتْه صارت عُدوانًا، ومتى قصَّرتْ عنه كان نقصًا ومهانةً. فللغضب حدٌّ، وهو الشجاعةُ المحمودةُ والأَنفةُ من الرذائل والنقائص، وهذا كماله. فإذا جاوز حدَّه تعدَّى صاحبُه وجار، وإن نقصَ عنه جبُن ولم يأْنَفْ من الرذائل. وللحرص حدٌّ، وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها. فمتى نقص من ذلك كان مهانةً وإضاعةً، ومتى زاد عليه كان شَرَهًا ورغبةً فيما لا تُحمَد الرغبةُ فيه. وللحسد حدٌّ، وهو المنافسةُ في طلب الكمال والأنفةُ أن يتقدَّم عليه نظيرُه. فمتى تعدَّى ذلك صار بغيًا وظلمًا يتمنَّى معه زوال النعمة عن المحسود ويَحرِصُ على إيذائه، ومتى نقصَ عن ذلك كان دَناءةً وضعفَ همةٍ وصِغَرَ نفس. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسدَ إلّا في اثنتين: رجُلٌ آتاهُ الله مالًا فسلَّطهُ على هَلَكتِه في الحق. ورجلٌ آتاهُ الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلِّمُها الناسَ" (1) فهذا حسدُ منافسةٍ يُطالبُ الحاسدُ به نفسَه أن يكون مثل __________ (1) أخرجه البخاري (73) ومسلم (817) عن ابن مسعود.

(1/203)


المحسود، لا حسدُ مَهانةٍ يتمنَّى به زوالَ النعمة عن المحسود. وللشهوة حدٌّ، وهو راحةُ القلب والعقل من كَدِّ الطاعةِ واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك فمتى زادت على ذلك صارت نَهْمةً وشَبَقًا والتحقَ صاحبُها بدرجة الحيوانات، ومتى نقصتْ عنه ولم يكن فراغًا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفًا وعجزًا ومهانةً. وللراحة حدٌّ، وهو إجمامُ النفس والقُوى المدرِكة والفعَّالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفُّرها على ذلك، بحيثُ لا يُضعِفُها الكدُّ والتعبُ ويضعفُ أثرها. فمتى زاد على ذلك صار توانيًا وكسلًا وإضاعةً وفات به أكثرُ مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مُضرًّا بالقُوى مُوهِنًا لها، وربَّما انقطع به؛ كالمُنبتِّ الذي لا أرْضَا قطع ولا ظهرًا أبْقى (1) . والجود له حدٌّ بين طرفين؛ فمتى جاوز حدَّه صار إسرافًا وتبذيرًا، ومتى نقصَ عنه كان بُخلًا وتقتيرًا. وللشجاعة حدٌّ؛ متى جاوزته صارت تهوُّرًا، ومتى نقصتْ عنه صارتْ جُبنًا وخَوَرًا. وحدُّها الإقدام في مواضع الإقدام والإحجامُ في مواضع الإحجام؛ كما قال معاويةُ لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرفَ شُجاعًا أنت أم جبانًا (2) تُقدِمُ حتى أقول: من أشجع الناس، وتَجبُن حتى __________ (1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 19) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده ضعيف، ومعناه صحيح، ويُضرَب مثلًا. (2) كذا في الأصل، والصواب: "شجاع أنت أم جبان". والحكاية هنا مقلوبة، وفي المصادر أن عمرو بن العاص قال ذلك لمعاوية، ويُروى أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد قال ذلك لمعاوية. انظر عيون الأخبار (1/ 163) والفاضل =

(1/204)


أقول: من أجبن الناس؟! فقال: شُجاعٌ إذا ما أمْكنتْنيَ فُرْصةٌ ... فإن لم تكن لي فُرْصةٌ فجَبانُ والغيرةُ لها حدُّ؛ إذا جاوزته صارتْ تهمةً وظنًّا سيئًا بالبريء، وإن قصَّرتْ عنه كانت تغافلًا ومبادئ دياثةٍ. وللتواضع حدٌّ؛ إذا جاوزه كان ذُلًّا ومهانةً، ومن قصَّر عنه انحرف إلى الكبر والفخر. وللعزِّ حدٌّ؛ إذا جاوزهُ كان كبرًا وخُلُقًا مذمومًا، وإن قصَّرَ عنه انحرف إلى الذُّلِّ والمهانة. وضابط هذا كُلِّه العدلُ، وهو الأخذُ بالوسطِ الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناءُ مصالح الدُّنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلَّا به؛ فإنه متى خرج بعضُ أخلاطِه عن العدل وجاوزه أو نقصَ عنه ذهبَ من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعيةُ كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك؛ إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفتْ إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرتْ نقصًا. فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي؛ فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخلٌ فيها. __________ = للمبرد (ص 52) والعقد الفريد (1/ 199) والتذكرة الحمدونية (2/ 466) ولباب الآداب (ص 193). وفيها البيت الآتي.

(1/205)


قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97]. فأعدلُ الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفةً وفعلًا. وبالله التوفيقُ. فصل قال أبو الدرداءِ رضي الله عنه: يا حبَّذا نومُ الأكياس وفِطْرُهم؛ كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم؛ والذرةُ من صاحب تقوى أفضلُ من أمثال الجبال عبادةً من المُغترِّين (1)؟! وهذا من جواهر الكلام وأدلِّه على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم. فاعلمْ أن العبد إنما يَقطع منازلَ السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنِه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. وقال: {لَنْ يَنَال اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التقوى ها هنا"، وأشار إلى صدره (2). __________ (1) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص 137) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 211). (2) أخرجه مسلم (2564) عن أبي هريرة.

(1/206)


فالكيِّسُ يَقطعُ من المسافة بصحة العزيمة وعلوِّ الهمَّةِ وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعافَ أضعافِ ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر المُشِقّ؛ فإن العزيمة والمحبة تُذهِب المشقة وتُطيِّب السيرَ، والتقدمُ والسبقُ إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدمُ صاحبُ الهمة مع سكونه صاحبَ العمل الكثير بمراحل؛ فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله. وهذا موضعٌ يحتاجُ إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان: فأكمل الهدي هديُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان موفِّيًا كلَّ واحدٍ منهما حقَّه؛ فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقومُ حتى تَرِمَ قدماهُ، ويصوم حتى يُقال: لا يُفطِرُ، ويجاهدُ في سبيل الله، ويُخالِط أصحابه ولا يَحتجِبُ عنهم، ولا يترك شيئًا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تَعجِزُ عن حملها قُوى البشر. والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه. وفي "المسند" مرفوعًا: "الإسلام علانيةٌ والإيمانُ في القلب" (1). فكل إسلام ظاهرٍ لا يَنفُذُ صاحبُه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيءٌ من الإيمان الباطن، وكل حقيقة باطنة __________ (1) أخرجه أحمد (3/ 134) عن أنس. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 57): رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأَبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين، وضعفه آخرون.

(1/207)


لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت؛ فلو تمزَّق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبَّدْ بالأمرِ وظاهر الشرع لم يُنْجِهِ ذلك من النار؛ كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقةُ الإيمان لم يُنجِه ذلك من النار. وإذا عُرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان: قسمٌ صَرَفوا ما فضلَ من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنيَّة وجعلوها دأبهم؛ من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها، وإن لم يكونوا خالين من أصلها، لكن هِمَمَهم مصروفةٌ إلى الاستكثار من الأعمال. وقسمٌ صرفوا ما فضَلَ عن الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكوفها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه، وجعلوا قوة تعبُّدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكُّل والإنابة، ورأوا أن أيسر نصيبٍ من الواردات التي تَرِدُ على قلوبهم من الله أحبُّ إليهم من كثير من التطوعات البدنيَّة؛ فإذا حصل لأحدهم جمعيةٌ وواردُ أُنسِ أو حبٍّ أو اشتياقٍ أو انكسارٍ وذُلٍّ؛ لم يَستبدلْ به شيئًا سواه البتة؛ إلَّا أنْ يجيء الأمرُ، فيُبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه، وإلَّا بادرَ إلى الأمر ولو ذهب الوارد؛ فإذا جاءت النوافل فها هنا معتركُ التردُّد؛ فإن أمكن القيام إليها به فذاك، وإلَّا نظرَ في الأرجح والأحبِّ إلى الله؛ هل هو القيامُ إلى تلك النافلة ولو ذهب واردُهُ؛ كإغاثة الملهوف وإرشاد ضالٍّ وجَبْر مكسورِ واستفادة إيمانٍ ونحو ذلك؛ فها هنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة، ومتى قدَّمها لله رغبةً فيه وتقرُّبًا إليه فإنَّه يَرِدُ عليه ما فات من واردِهِ أقوى مما كان في وقتٍ

(1/208)


آخر، وإن كان الواردُ أرجحَ من النافلة فالحزمُ له الاستمرارُ في واردِهِ حتَّى يتوارى عنه؛ فإنه يفوتُ والنافلةُ لا تفوت. وهذا موضعٌ يحتاجُ إلى فضل فقهٍ في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهمِّ منها فالأهمِّ. والله الموفقُ لذلك، لا إله غيره ولا ربَّ سواهُ. فصل أصلُ الأخلاق المذمومة كلِّها الكِبرُ والمهانة والدَّناءةُ. وأصلُ الأخلاق المحمودة كلِّها الخشوعُ وعلوُّ الهمَّة. فالفخرُ والبطرُ والأشرُ والعُجْبُ والحسدُ والبغيُ والخُيَلاءُ والظُّلمُ والقسوةُ والتجبُّرُ والإعراضُ وإباءُ قبول النصيحة والاستئثارُ وطلبُ العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يُحمَد بما لم يفعل وأمثالُ ذلك؛ كلُّها ناشئةٌ من الكبر. وأمَّا الكذبُ والخِسَّةُ والخيانةُ والرِّياءُ والمكرُ والخديعةُ والطمع والفزعُ والجُبْنُ والبخلُ والعجزُ والكسلُ والذُّلُّ لغير الله واستبدالُ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ونحوُ ذلك؛ [فكلُّها] من المهانة والدَّناءة وصغر النفس. وأمَّا الأخلاقُ الفاضلةُ؛ كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفَّة والصِّيانة والجود والحلم والعفو والصَّفْح والاحتمال والإيثار وعزَّة النفس عن الدَّناءات والتواضع والقناعة والصِّدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضلَ والتغافُل عن زلَّات الناس وترك الاشتغال بما لا يَعنِيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك؛ فكلُّها ناشئةٌ عن الخُشوع وعلوِّ الهمة.

(1/209)


والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنَّها تكونُ خاشعةً، ثم يَنزِلُ عليها الماء، فتهتزُّ وتربو وتأخذُ زينتها وبهجتها؛ فكذلك المخلوق منها إذا أصابهُ حظُّه من التوفيق. وأمَّا النارُ فطبعُها العلوُّ والإفسادُ، ثم تخمُدُ فتصيرُ أحقرَ شيءٍ وأذلَّهُ، وكذلك المخلوقُ منها؛ فهي دائمًا بين العلو إذا هاجت واضطربت، وبين الخِسَّة والدَّناءة إذا خَمَدتْ وسكنتْ. والأخلاق المذمومةُ تابعةٌ للنار والمخلوق منها، والأخلاقُ الفاضلةُ تابعةٌ للأرض والمخلوق منها؛ فمن عَلتْ همَّتُهُ وخشَعتْ نفسُه اتَّصف بكل خلق جميل، ومن دَنَتْ همته وطغَتْ نفسه اتَّصف بكلِّ خلق رذيل. فصل المطلبُ الأعلى موقوفٌ حصولُه على همةٍ عاليةٍ ونيةٍ صحيحةٍ؛ فمن فقدهما تعذَّر عليه الوصولُ إليه. فإن الهمَّة إذا كانت عاليةً تعلَّقتْ به وحده دون غيره، وإذا كانت النيةُ صحيحةً سلك العبدُ الطريقَ الموصلة إليه؛ فالنية تُفرد له الطريقَ، والهمةُ تُفرد له المطلوبَ؛ فإذا توحَّدَ مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصولُ غايتَه. وإذا كانت همَّتُهُ سافلةً تعلقتْ بالسُّفليات ولم تتعلَّق بالمطلب الأعلى، وإذا كانت النيةُ غيرَ صحيحة كانت طريقُهُ غير موصلةٍ إليه. فمدارُ الشأن على همة العبد ونيَّته، وهما مطلوبُهُ وطريقُهُ، ولا يتمُّ له إلا بتركِ ثلاثة أشياء: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثَها الناس.

(1/210)


الثاني: هجرُ العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها. الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب. والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية، والعلائق هي التعلُّقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تَشْغَلُ عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة؛ فيأخذُ من ذلك ما يُعِينه على طلبه، ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يُضعِفُ طلبَه. والله المستعانُ.

  فصل: من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

• قال رجلٌ عنده: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين، أُحِبُّ أن أكون من المقرَّبين! فقال عبد الله: لكن ها هنا رجلٌ ودَّ أنه إذا مات لم يُبْعَثْ. يعني نفسَه (1). • وخرج ذات يوم، فاتَّبَعهُ ناسٌ، فقال لهم: ألكُم حاجةٌ؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك. قال: ارجِعوا فإنه ذِلَّةٌ للتابع وفتنةٌ للمتبوع (2). • وقال: لو تعلمون مني ما أعلمُ من نفسي لحَثَوتُم على رأسي __________ (1) انظر الزهد لأحمد (ص 156) وحلية الأولياء (1/ 133). (2) انظر التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (52).

(1/211)


التراب (1). • وقال: حبَّذا المكروهانِ الموتُ والفقرُ. وأيمُ الله إنْ هو إلَّا الغنَى والفقرُ، وما أبالي بأيِّهما بُلِيتُ، أرجو الله في كل واحدٍ منهما: إن كان الغنى إنَّ فيه للعطف، وإن كان الفقرُ إن فيه للصبر (2). 3 - وقال: إنكم في ممرِّ الليل والنهار؛ في آجالٍ منقوصةٍ، وأعمالٍ محفوطةٍ، والموتُ يأتي بغتةً؛ فمن زرع خيرًا فيُوشِكُ أن يَحصُد رغبةً، ومن زرع شرًّا فيوشكُ أن يَحصُد ندامةً، ولكلِّ زارعٍ مثل ما زرع؛ لا يسبقُ بطيءٌ بحظِّه، ولا يُدرِك حريصٌ ما لم يُقدَّر له؛ من أُعطي خيرًا فالله أعطاهُ، ومن وُقي شرًّا فالله وقاهُ. المتقون سادةٌ، والفقهاءُ قادةٌ، ومجالستُهم زيادة (3). • إنَّما هما اثنتان: الهدْيُ والكلام؛ فأفضلُ الكلام كلامُ الله، وأفضَلُ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرُّ الأمور مُحدثاتُها، وكلُّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ؛ فلا يَطولَنَّ عليكم الأمدُ، ولا يُلهينَّكُمُ الأملُ؛ فإن كل ما هو آت قريبٌ، ألا وإن البعيد ما ليس آتيًا. ألا وإنَّ الشقي من شَقِيَ في بطنِ أمه، وإن السعيد من وُعِظَ بغيره. ألا وإنّ قتال المسلم كُفْرٌ، وسبابَهُ فُسوقٌ. ولا يَحلُّ لمسلم أن يَهجُرَ أخاهُ فوق ثلاثة أيام، حتَّى يُسلِّم عليه إذا لقيهُ، ويُجيبهُ إذا دعاهُ، ويعوده إذا مرض. ألا وإن شرَّ الرَّوايا روايا الكذب. ألا وإنَّ الكذب لا يصلُحُ منه جدٌّ ولا هزلٌ ولا أن يَعِدَ الرجلُ صَبيَّهُ شيئًا ثم لا __________ (1) انظر المستدرك (3/ 315) والحلية (1/ 133). (2) انظر الزهد لوكيع (132) والزهد لأحمد (ص 156) والحلية (1/ 132). (3) انظر الزهد لأحمد (ص 161) والمعجم الكبير للطبراني (8533) والحلية (1/ 133) والمدخل للبيهقي (439).

(1/212)


يُنْجِزُهُ. ألا وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجورُ يهدي إلى النار، والصدق يهدي إلى البر، والبرُّ يهدي إلى الجنة، وإنّه يُقالُ للصادق: صدق وبرَّ، ويقالُ للكاذب: كذب وفجر، وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حدثنا أن الرجل ليَصدُق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، ويكذبُ حتَّى يُكتَب عند الله كذَّابًا (1). • إنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وأوثق العُرى كلمةُ التَّقْوى، وخيرَ الملل ملةُ إبراهيم، وأحسن السُّنن سُنَّةُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وخير الهدي هديُ الأنبياء، وأشرف الحديث ذكرُ الله، وخير القصص القرآنُ، وخير الأمور عواقبها، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، ونفسٌ تُنْجيها خيرٌ من إمارة لا تُحْصِيها، وشرُّ المعذرة حين يَحضرُ الموتُ، وشرُّ الندامة ندامةُ يوم القيامة، وشرُّ الضَّلالة الضَّلالةُ بعد الهُدى، وخيرُ الغنى غنى النَّفس، وخيرُ الزَّاد التَّقْوى، وخيرُ ما أُلقيَ في القلب اليقينُ، والرَّيبُ من الكفر، وشرُّ العمى عمى القلب، والخمر جِماعُ الإثم، والنساءُ حبائلُ الشيطان، والشبابُ شعبةٌ من الجنون، والنَّوْحُ من عمل الجاهلية، ومن الناس من لا يأتي الجمعةَ إلا دُبُرًا ولا يذكر الله إلا هُجرًا، وأعظم الخطايا الكذبُ، ومن يعفُ يَعفُ الله عنه، ومن يَكظِم الغيظَ يأْجُرْهُ الله، ومن يَغفِرْ يغفر الله له، ومن يصبر على الرَّزيَّة يُعْقِبْه الله، وشرُّ المكاسب كسبُ الرِّبا، وشرُّ المآكل مالُ اليتيم، وإنما يكفي أحدكم ما قنِعتْ به نفسُه، وإنما يصيرُ إلى أربعة أذرع، والأمر إلى آخره، وملاكُ العمل خواتمهُ، وأشرف الموت قتلُ الشُّهداءِ، __________ (1) انظر مصنف عبد الرزاق (11/ 159) والمعجم الكبير للطبراني (9/ 96) والحلية (1/ 138). وروي مرفوعًا بإسناد ضعيف.

(1/213)


ومن يَستكبِر يَضَعْه الله، ومن يَعصِ الله يُطعِ الشيطانَ (1). • ينبغي لحامل القرآن أن يُعَرفَ بليله إذا الناسُ نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصَمْتِه إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا سخَّابًا ولا صَيَّاحًا ولا حديدًا (2). • من تطاول تعظُّمًا حَطَّهُ الله، ومن تواضع تخشُّعًا رفعه الله (3). • وإنَّ للملَكِ لَمَّةً وللشيطان لَمَّةً: فلَمَّةُ الملك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحقِّ؛ فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله. ولَمَّةُ الشيطان إيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ؛ فإذا رأيتُم ذلك فتعوَّذوا بالله (4). • إنَّ الناس قد أحسنوا القولَ؛ فمن وافق قولُه فعلَه فذاك الذي أصابَ حظَّه، ومن خالف قولُهُ فعلَه فذاك إنما يُوبِّخُ نفسه (5). • إني لأُبغِضُ الرجلَ أن أراهُ فارغًا ليس في شيءٍ من عمل الدُّنيا ولا عمل الآخرة (6). __________ (1) انظر المدخل للبيهقي (796) والحلية (1/ 138 - 139) والزهد لأبي داود (170). (2) انظر الزهد لأحمد (ص 162) والحلية (1/ 130). (3) انظر الزهد لوكيع (216) ولأحمد (ص 156) والحلية (1/ 130). (4) انظر الزهد لأحمد (ص 157). وروي مرفوعًا بإسناد ضعيف. (5) انظر الزهد لوكيع (266) ولأحمد (ص 160). (6) انظر الزهد لأحمد (ص 159) والمعجم الكبير للطبراني (9/ 102) والحلية (1/ 130).

(1/214)


• ومن لم تأمره الصلاةُ بالمعروف وتَنْهَه عن المنكر لم يزددْ بها من الله إلا بعدًا (1). • من اليقين أن لا تُرضي الناسَ بسخطِ الله، ولا تَحْمد أحدًا على رزق الله، ولا تلوم أحدًا على ما لم يُؤتِك الله؛ فإنَّ رزقَ الله لا يسوقه حرصُ حريصٍ ولا يَرُدُّهُ كراهةُ كارهٍ. وإن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الرَّوحَ والفرحَ في اليقين والرضى، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشكِّ والسخط (2). • ما دُمتَ في صلاة فأنت تَقْرَعُ بابَ الملك، ومن يَقْرَعْ بابَ الملك يُفتَحْ له (3). • إني لأحسبُ الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها (4). • كونوا ينابيعَ العلم، مصابيحَ الهُدى، أحلاسَ البيوت، سُرُجَ الليل، جُدُدَ القلوب، خُلقانَ الثياب، تُعرفون في السماء وتَخْفَون على أهل الأرض (5). • إنَّ للقلوب شهوةً وإدبارًا؛ فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودَعُوها عند فترتها وإدبارها (6). __________ (1) انظر الزهد لأحمد (ص 159) ولأبي داود (134) والمعجم الكبير للطبراني (9/ 103). (2) انظر الزهد لهناد (536) واليقين لابن أبي الدنيا (23). (3) انظر مصنف عبد الرزاق (3/ 47) والمعجم الكبير (9/ 205) والحلية (1/ 130). (4) انظر العلم لأبي خيثمة (140 - 141) والزهد لأحمد (ص 156). (5) انظر سنن الدارمي (1/ 80) والتواضع والخمول (11). (6) انظر مصنف عبد الرزاق (11/ 159) والحلية (1/ 134).

(1/215)


• ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية (1). • إنكم ترون الكافر من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتَلْقَون المؤمنَ من أصح الناس قلبًا وأمرضهم (2) جسمًا. واللهِ لو مرضتْ قلوبكم وصحتْ أجسامُكم لكنتُمْ أهونَ على الله من الجُعْلان (3). • لا يَبلُغ العبدُ حقيقةَ الإيمان حتى يَحُلَّ بذِرْوته، ولا يحُلُّ بذروته حتى يكون الفقرُ أحبَّ إليه من الغني والتواضعُ أحبَّ إليه من الشرف، وحتى يكون حامدُه وذامُّه عنده سواء (4). • وإنَّ الرجل ليخرُجُ من بيته ومعه دينه فيرجعُ وما معه منه شيءٌ؛ يأتي الرجل، ولا يملك له ولا لنفسه ضَرًّا ولا نفعًا، فيُقسِمُ له بالله إنك لذَيْتَ وذَيتَ، فيرجع وما حُبِيَ من حاجته بشيءٍ وبسخط الله عليه (5). • لو سَخِرتُ من كلبٍ لخشيتُ أن أُحوَّل كلبًا (6). • الإثم حَوازُّ القلوب (7). • ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعًا (8). __________ (1) انظر الزهد لأحمد (ص 158) والمدخل للبيهقي (485). (2) في الأصل: "أمرضه". (3) انظر الزهد لهناد (427) ولأحمد (ص 163) والحلية (1/ 135). (4) انظر الزهد لأحمد (ص 158) والحلية (1/ 132). (5) انظر المعجم الكبير (9/ 107) والمستدرك (4/ 437). (6) انظر مصنف ابن أبي شيبة (8/ 790) والزهد لهناد (1193). (7) انظر الزهد لهناد (934) والحلية (1/ 135). (8) انظر المعجم الكبير له (9/ 150).

(1/216)


• مع كل فرحةٍ تَرْحةٌ، وما مُلئَ بيتٌ حبرةً إلَّا مُلئَ عبرةً (1). • ما منكم إلا ضيفٌ وما له عاريةٌ؛ فالضيف مرتحلٌ، والعارية مؤداةٌ إلى أهلها (2). • يكون في آخر الزمان أقوامٌ أفضلُ أعمالهم التلاوُمُ بينهم، يُسمَّون الأنتانَ (3). • إذا أحب الرجل أن يُنصِف من نفسه فليأتِ إلى الناس الذي يُحِب أن يؤتى إليه (4). • الحقُّ ثقيل مريءٌ، والباطلُ خفيفٌ وبيءٌ، رُبَّ شهوةٍ تُورِثُ حزنًا طويلًا (5). • ما على وجه الأرض شيءٌ أحوجُ إلى طول سَجْنٍ من لسان (6). • إذا ظهر الزِّنى والرِّبا في قريةٍ أُذِنَ بهلاكها (7). • من استطاعَ منكم أن يجعل كنزَه في السماء حيثُ لا يأكله السوسُ ولا تناله السرَّاقُ فليفعل؛ فإن قلب الرجل مع كنزه (8). __________ (1) انظر الزهد لوكيع (507) ولأحمد (163). (2) انظر الزهد لأحمد (ص 163) والحلية (1/ 134). (3) انظر الزهد لأبي داود (192) والحلية (7/ 297). (4) انظر مصنف ابن أبي شيبة (8/ 164). (5) انظر الزهد لابن المبارك (98) ولهناد (499) والحلية (1/ 134). (6) انظر الزهد لأحمد (ص 162) ولوكيع (2/ 285). (7) انظر المعجم الكبير (10/ 163). وروي مرفوعًا بإسناد ضعيف. (8) انظر مصنف ابن أبي شيبة (8/ 159) والزهد لأبي داود (177) والحلية (1/ 135).

(1/217)


• لا يُقلِّدنَّ أحدُكم دينَه رجلًا؛ فإن آمن آمنَ؛ وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بدَّ مقتدين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة (1). • لا يكن أحدكم إمَّعةً! قالوا: وما الإمعةُ؟ قال: يقولُ: أنا مع الناس؛ إن اهتَدوا اهتديتُ، وإن ضلُّوا ضللتُ، ألا لِيوطِّنْ أحدُكم نفسَه على أنه إن كفَر الناسُ لا يكفر (2). • وقال له رجلٌ: علِّمني كلماتٍ جوامعَ نوافعَ! فقال: اعبُدِ الله لا تشرك به شيئًا، وزُلْ مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبلْ منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فارْدُدْ عليه وإن كان حبيبًا قريبًا (3). • يُؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقالُ له: أدِّ أمانتك! فيقول: يا ربِّ! من أين وقد ذهبت الدُّنيا؟ فتُمثَّل على هيئتها يوم أخذَها في قعر جهنم، فيَنزِل فيأخذها فيضعُها على عاتقه فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خارج بها هَوتْ وهوى في أثرها أبدَ الآبدين (4). • اطلبْ قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالِس الذِّكر، وفي أوقات الخلوة؛ فإن لم تجدهُ في هذه المواطن فسَلِ الله أن يَمُنَّ عليك بقلبٍ؛ فإنه لا قلبَ لك. __________ (1) انظر المعجم الكبير (9/ 152) والزهد لأبي داود (140) والحلية (1/ 136). (2) انظر الحلية (1/ 137) وجامع بيان العلم (2/ 112). (3) انظر الحلية (1/ 134) والمعجم الكبير (9/ 102). (4) انظر مصنف ابن أبي شيبة (13/ 368) وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 985).

(1/218)


• قال الجنيدُ: دخلتُ على شابٍّ فسألني عن التوبة؟ فأجبتُه، فسألني عن حقيقتها؟ فقلتُ: أن تَنصِبَ ذنبَك بين عينيك حتى يأتيك الموتُ. فقال لي: مه! ما هذا حقيقةَ التوبة. فقلتُ له: فما حقيقةُ التوبة عندك يا فتى؟! قال: أن تَنسَى ذنبك. وتركني ومضى. [فقال رجلٌ:] فكيف هو عندك يا أبا القاسم؟ فقلتُ: القولُ ما قال الفتى. قال: كيف؟ قلتُ: إذا كنتُ معه في حال، ثم نقلني من حال الجفاء إلى حال الوفاء؛ فذكري للجفاء في حال الوفاء جفاء (1). فصل لا يجتمع الإخلاصُ في القلب ومحبةُ المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلَّا كما يجتمع الماءُ والنار والضبُّ والحوتُ. فإذا حدَّثتْك نفسُك بطلب الإخلاص فأقبِلْ على الطمع أولًا فاذبحْه بسكين اليأس، وأقبِلْ على المدح والثناء فازهد فيهما زهدَ عُشاق الدُّنيا في الآخرة؛ فإذا استقام لك ذبحُ الطمع والزُّهدُ في الثناء والمدح؛ سَهُلَ عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يُسهِّل عليَّ ذبحَ الطمع والزهدَ في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيُسهِّله عليك علمُك يقينا أنه ليس من شيء يُطمَع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنُهُ؛ لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبدَ منها شيئًا سواهُ. __________ (1) انظر الحلية (10/ 274).

(1/219)


وأما الزهدُ في الثناء والمدح فيُسهِّلُه عليك علمُك أنه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه وَيزِيْن ويَضرُّ ذمُّه وَيشينُ إلَّا الله وحده؛ كما قال ذلك الأعرابيُّ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن مدحي زَينٌ وَذمِّي شَينٌ. فقال: "ذلك الله عزَّ وجلَّ" (1)؛ فازهد في مدح من لا يَزِينُك مدحه وفي ذمِّ من لا يَشِينك ذمُّهُ، وارغبْ في مدح مَن كلُّ الزين في مدحه وكل الشين في ذمِّه. ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين؛ فمتى فقدتَ الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركبٍ. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. فصل لذَّةُ كل أحدٍ على حسب قدره وهمته وشرفِ نفسه: فأشرفُ النَّاس نفسًا وأعلاهم همةً وأرفعهم قدرًا من لذَّتُهُ في معرفة الله ومحبَّته والشوق إلى لقائه والتودُّد إليه بما يحبُّه ويرضاه؛ فلذَّتُه في إقباله عليه وعكوف همَّته عليه. ودون ذلك مراتبُ لا يُحصيها إلَّا الله، حتى تنتهي إلى من لذَّتُهُ في أخسِّ الأشياء من القاذورات والفواحش في كلِّ شيءٍ من الكلام والفعال والأشغال؛ فلو عُرض عليه ما يلتذُّ به الأولُ لم تَسمَح نفسُه بقبوله ولا الالتفات إليه وربما تألَّمتْ من ذلك؛ كما أن __________ (1) أخرجه الترمذي (3267) من حديث البراء بن عازب. وقال: "هذا حديث حسن". وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.

(1/220)


الأول إذا عُرِض عليه ما يلتذُّ به هذا لم تسمَحْ نفسه به ولم تلتفتْ إليه ونفرتْ نفسه منه. وأكمل الناس لذةً من جُمِع له بين لذَّة القلب والروح ولذة البدن؛ فهو يتناول لذَّاته المباحة على وجهٍ لا ينقُصُ حظّه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذَّةَ المعرفة والمحبة والأنس بربِّه؛ فهذا ممن قال تعالى فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. وأبخسُهم حظًّا من اللذة من تناولها على وجهٍ يحولُ بينه وبين لذَّات الآخرة، فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللَّذَّاتِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات، وأولئك تمتعوا بالطيبات. وافترقوا في وجه التمتع: فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أُذِن لهم فيه، فجُمِعَ لهم بين لذَّة الدُّنيا والآخرة. وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواءٌ أُذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذَّةُ الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة؛ فلا لذَّةُ الدنيا دامتْ لهم ولا لذَّةُ الآخرة حصلتْ لهم. فمن أحبَّ اللذة ودوامها والعيشَ الطيب فليجعلْ لذة الدُّنيا موصلًا له إلى لذة الآخرة؛ بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه، لا بحكم مجرَّد الشهوة والهوى. وإن كان ممن زُوِيَتْ عنه لذَّاتُ الدُّنيا وطيباتُها فليجعل ما نُقِصَ منها زيادةً في لذَّة الآخرة، ويُجِمَّ نفسَه ها هنا بالترك ليستوفيها كاملةً هناك.

(1/221)


فطيباتُ الدنيا ولذَّاتُها نِعمَ العونُ لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همتُه لما هناك، وبئسَ القاطعُ لمن كانت هي مقصوده وهمته وحولها يُدَندِن. وفواتُها في الدنيا نعم العونُ لطالب الله والدار الآخرة، وبئسَ القاطع للنازعِ من الله والدار الآخرة. فمن أخذ منافع الدنيا على وجهٍ لا ينقص حظّه من الآخرة ظَفِرَ بهما جميعًا، وإلَّا خَسِرَهما جميعًا. سبحان الله رب العالمين! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلَّا إقامةُ المروءة، وصونُ العِرض، وحفظُ الجاه، وصيانةُ المال الذي جعله الله قِوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبةُ الخلق، وجوازُ القول بينهم، وصلاحُ المعاش، وراحةُ البدن، وقوةُ القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُسَّاق والفُجَّار، وقلةُ الهمّ والغمّ والحزن، وعزُّ النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصونُ نور القلب أن تُطفئهُ ظلمةُ المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ، وتيسير ما عَسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدُّعاء له، والحلاوةُ التي يكتسبها وجهه، والمهابةُ التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارُهم وحميتُهم له إذا أُوذي وظُلِم، وذبُّهم عن عِرْضِه إذا اغتابه مغتابٌ، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُربُ الملائكة منه، وبعدُ شياطين الإنس والجنِّ منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودَّته وصحبته، وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربِّه

(1/222)


ولقائه له ومصيره إليه، وصِغَرُ الدُّنيا في قلبه، وكِبَرُ الآخرة عنده، وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجدُ حلاوة الإيمان، ودعاءُ حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤُهم له كلَّ وقتٍ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرورٍ لا نسبةَ له إلى فرحِه وسروره بالمعصية بوجهٍ من الوجوه. فهذه بعضُ آثار ترك المعاصي في الدُّنيا. فإذا مات تلقَّتْهُ الملائكةُ بالبُشرى من ربِّه بالجنة، وبأنَّه لا خوف عليه ولا حُزْن، وينتقلُ من سجن الدُّنيا وضيقها إلى روضةٍ من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة. فإذا كان يومُ القيامة كان الناسُ في الحرِّ والعرَقِ، وهو في ظلِّ العرش. فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذَ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين. و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. فصل ذكر ابنُ سعد في "الطبقات" (1) عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا خطب على المنبر، فخاف على نفسه العُجْبَ قطعهُ. وإذا كتب كتابًا، فخاف فيه العُجْبَ مزَّقه. ويقولُ: اللهمَّ! إنِّي أعوذُ بك من شرِّ نفسي. __________ (1) 5/ 332 بمعناه.

(1/223)


اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل؛ يبتغي به مرضاة الله، مطالعًا فيه منَّةَ الله عليه به وتوفيقَه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوَّته، بل هو بالذي أنشأ له اللسانَ والقلب والعين والأذن، فالذي منَّ عليه بذلك هو الذي مَنَّ عليه بالقول والفعل؛ فإذا لم يَغِبْ ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يَحضُره العُجْبُ الذي أصلُهُ رؤيةُ نفسه وغيَبتُهُ عن شهود مِنَّة ربِّه وتوفيقه وإعانته. فإذا غابَ عن تلك الملاحظة وَثَبتِ النفسُ وقامت في مقام الدَّعوى، فوقع العُجب، ففسد عليه القول والعملُ: فتارةً يُحال بينه وبين تمامه ويُقطَع عليه، ويكون ذلك رحمةً به، حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق. وتارةً يتمُّ له، ولكن لا يكون له ثمرةٌ، وإن أثمَر أثمرَ ثمرةً ضعيفةً غير محصلةٍ للمقصود. وتارةً يكون ضررُه عليها أعظمَ من انتفاعه، ويتولَّدُ له منه مفاسد شتَّى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤيته نفسَه وأن القول والفعل به. ومن هذا الموضع يُصلِحُ اللَّهُ سبحانه أقوالَ عبده وأعماله ويُعظِم له ثمرتَها أو يُفسِدُها عليه ويمنعه ثمرتها؛ فلا شيءَ أفسدُ للأعمال من العُجْب ورؤية النفس. فإذا أراد الله بعبده خيرًا أشهده منتَه وتوفيقه وإعانتَه له في كل ما يقوله ويفعله، فلا يُعجَب به، ثم أشهده تقصيره فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه منه ويستغفره ويستحيي أن يطلب عليه أجرًا. وإذا لم يُشهِده ذلك، وغيَّبهُ عنه، فرأى نفسه في العمل، ورآه بعين الكمال والرضى، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرِّضى والمحبة. فالعارفُ يعمل العمل لوجهه، مشاهدًا فيه منته وفضلهُ وتوفيقه،

(1/224)


معتذرًا منه إليه، مستحييًا منه إذ لم يُوفِّه حقَّهُ. والجاهل يعمل العمل لحظِّه وهواهُ، ناظرًا فيه إلى نفسه، يمُنُّ به على ربِّه، راضيًا بعمله. فهذا لونٌ وذاك لونٌ آخرُ. فصل الوصول إلى المطلوب موقوف على هَجْر العوائد وقطع العوائق [والعلائق]: فالعوائدُ: السكونُ إلى الدَّعَةِ والراحة وما أَلِفهُ الناس واعتادوهُ من الرسوم والأوضاع، التي جعلوها بمنزلة الشرع المتَّبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفّروه أو بدّعوه وضلَّلوه أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السُّنن، ونصبوها أندادًا للرسول يُوالون عليها ويُعادون؛ فالمعروفُ عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها. وهذه الأوضاعُ والرسومُ قد استولتْ على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفيَّة والفقراء والمطوِّعين والعامة؛ فرُبِّي فيها الصغير، ونشأ عليها الكبير، واتُّخِذت سننًا، بل هي أعظم عند أصحابها من السنن، الواقفُ معها محبوسٌ، والمتقيِّدُ بها منقطعٌ، عمَّ بها المُصابُ، وهُجِر لأجلها السنة والكتاب، من استنصر بها فهو عند الله مخذولٌ، ومن اقتَدى بها دون كتاب الله وسنَّةِ رسوله فهو عند الله غيرُ مقبول. وهذا أعظم الحُجُب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.

(1/225)


فصل وأما العوائقُ فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها؛ فإنها تَعُوق القلبَ عن سيرِه إلى الله وتقطع عليه طريقَه. وهي ثلاثة أمورٍ: شركٌ، وبدعةٌ، ومعصيةٌ؛ فيزولُ عائقُ الشرك بتجريد التوحيد، وعائقُ البدعة بتحقيق السنة، وعائقُ المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق لا تتبيَّنُ للعبد حتى يأخذ في أُهبة السفر ويتحقَّقَ بالسير إلى الله والدار الآخرة؛ فحينئذٍ تظهر له هذه العوائقُ ويُحِسُّ بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرُّده للسفر، وإلَّا فما دام قاعدًا لا تظهرُ له كوامنُها وقواطعُها. فصل وأما العلائقُ فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا وشهواتها ورئاساتها وصحبة الناس والتعلق بهم. ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوَّة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلَّا فقطعُها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنعٌ؛ فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلَّا لمحبوب هو أحبُّ إليها منه وآثرُ عندها منه، وكلما قوي تعلقُه بمطلوبه ضعُفَ تعلقه بغيره، وكذا بالعكس، والتعلقُ بالمطلوب هو شدَّةُ الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله على ما سواه. فصل لما كمَّل الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- مقامَ الافتقار إلى الله سبحانه أحوجَ الخلائقَ

(1/226)


كلهم إليه في الدُّنيا والآخرة: أمَّا حاجتهم إليه في الدُّنيا فأشدُّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفَس الذي به حياةُ أبدانهم. وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرُّسل إلى الله حتَّى يُرِيْحَهم من ضيق مقامهم؛ فكلهم يتأخر عن الشفاعة، فيشفع لهم، وهو الذي يَستفتحُ لهم باب الجنة (1) . فصل من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زِيدَ في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقصَ من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قُربه من الناس وقضاءِ حوائجهم والتواضع لهم. وعلاماتُ الشقاوة: أنه كلما زيد في علمه زيد في كِبْره وتِيْهِه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنِّه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في مالِه زيد في بخله وإمساكِه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه. وهذه الأمورُ ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يَبْتَلي بها عبادَه فيَسعَدُ بها أقوامٌ ويَشقى بها أقوامٌ. __________ (1) حديث الشفاعة سبق تخريجه، وحديث استفتاح باب الجنة أخرجه مسلم (197) عن أنس.

(1/227)


وكذلك الكراماتُ امتحانٌ وابتلاءٌ كالملك والسلطان والمال؛ قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]. فالنعم ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يظهر به شكر الشكور وكفر الكفور؛ كما أن المحن بلوى منه سبحانه؛ فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب. قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]؛ أي ليس كل من وسَّعتُ عليه وأكرمتُه ونعَّمته يكون ذلك إكرامًا مني له، ولا كل من ضيَّقتُ عليه رزقه وأبليتُه يكون ذلك إهانةً مني له. فصل من أراد علوَّ بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به؛ فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه. فالأعمال والدرجات بنيانٌ، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقًا حملَ البنيانَ واعتلى عليه، وإذا تهدَّم شيءٌ من البنيان سهُل تداركُه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيانُ ولم يثبتْ، وإذا تهدَّم شيءٌ من الأساس سقط البنيانُ أو كاد. فالعارف همَّته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهلُ يرفع في البناء عن غير أساس؛ فلا يلبث بنيانه أن يسقط. قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]. فالأساسُ لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان؛ فإذا كانت القوة قويَّةً

(1/228)


حملت البدنَ ودفعتْ عنه كثيرًا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفةً ضعُف حملُها للبدن وكانت الآفاتُ إليه أسرع شيءٍ. فاحملْ بنيانَك على قوَّة أساس الإيمان؛ فإذا تشعَّثَ شيءٌ من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهلَ عليك من خراب الأساس. وهذا الأساس أمران: صحةُ المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته. والثاني: تجريدُ الانقياد له ولرسوله دون ما سواه. فهذا أوثق أساسٍ أسَّس العبدُ عليه بنيانَه، وبحسبه يعتلي البناء ما شاء. فأحْكِم الأساسَ، واحفظ القوة، ودُمْ على الحِمْية، واستفرِغْ إذا زاد بك الخلط، والقصدَ القصدَ وقد بلغتَ المراد، وإلَّا فما دامت القوة ضعيفةً والمادةُ الفاسدة موجودةً والاستفراغُ معدومًا: فاقْرَ السَّلامَ على الحياة فإنَّها ... قد آذنتْك بسرعةِ التَّوْديعِ فإذا كملَ البناءُ؛ فبيِّضْه بحسن الخلق والإحسان إلى الناس، ثم حُطْهُ بسُورٍ من الحذر لا يقتحمه عدوٌّ ولا تبدو منه العورة، ثم أَرْخِ السُّتورَ على أبوابه، ثم أقْفِلِ البابَ الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته، ثم رَكِّبْ له مفتاحًا من ذكر الله به تفتحه وتغلقه؛ فإن فتحتَ فتحتَ بالمفتاح، وإن أغلقتَ الباب أغلقتَه به، فتكون حينئذٍ قد بنيتَ حِصنًا تحصَّنتَ فيه من أعدائك؛ إذا طاف به العدو لم يجد منه مدخلًا، فييأس منك. ثم تعاهدْ بناءَ الحصن كلَّ وقت؛ فإن العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نَقَبَ عليك النقوبَ من بعيد بمعاول الذُّنوب. فإن أهملتَ أمرهُ وصل إليك النَّقبُ؛ فإذا العدو معك في داخل الحصن، فيصعب عليك

(1/229)


إخراجه، وتكون معه على ثلاث خلال: إما أن يغلبك على الحصن ويستولي عليه، وإما أن يُساكنك فيه، وإما أن يَشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك وتعود إلى سَدِّ النقب ولَمِّ شَعَثِ الحصن. وإذا دخل نقبُه إليك نالك منه ثلاث آفات: إفسادُ الحصن، والإغارة على حواصله وذخائره، ودلالة السراق من بني جنسه على عورته. فلا يزال يُبلَى منه بغارة بعد غارة حتى يُضعِفوا قواه ويُوهِنوا عزمَه فيتخلَّى عن الحصن ويُخلِّي بينهم وبينه. وهذه حالُ أكثر النفوس مع هذا العدوِّ، ولهذا تراهم يُسخِطون ربهم برضى أنفسهم بل برضى مخلوقٍ مثلهم لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، ويُضيِّعون كسبَ الدِّين بكسب الأموال، ويُهلِكون أنفسهم بما لا يبقى لهم، ويَحرِصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم، ويزهدون في الآخرة وقد هَجَمتْ عليهم، ويخالفون ربهم باتباع أهوائهم، ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت، ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله إليهم، ويهتمون بما ضَمِنَه الله لهم ولا يهتمون بما أمرهم به، ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها، ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدِّرهم والدينار، ويُفسِدون حقَّهم بباطلهم وهداهم بضلالهم ومعروفَهم بمنكرهم، ويَلبِسُون إيمانَهم بظنونهم، ويَخلِطُون حلالَهم بحرامهم، ويترددون في حيرَة آرائهم وأفكارهم، ويتركون هدى الله الذي أهداه إليهم. ومن العجب أن هذا العدو يَستعمل صاحبَ الحصن في هدم حصنه بيديه!!

(1/230)


فصل أركان الكفر أربعةٌ: الكبرُ، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقيادَ، والحسد يمنعه قبولَ النصيحة وبذلها، والغضبُ يمنعه العدلَ، والشهوة تمنعه التفرُّغَ للعبادة. فإذا انهدم ركنُ الكبر سَهُلَ عليه الانقياد، وإذا انهدم ركنُ الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبرُ والعفافُ والعبادةُ. وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بُلِي بها، ولا سيما إذا صارت هيئاتٍ راسخةً وملكاتٍ وصفاتٍ ثابتة؛ فإنه لا يستقيم له معها عملٌ البتة، ولا تزكو نفسه مع قيامها بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وكل الآفات متولدةٌ منها، وإذا استحكمت في القلب؛ أرتْه الباطلَ في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل، والمعروفَ في صورة المنكر والمنكرَ في صورة المعروف، وقَرَّبتْ منه الدنيا وبعَّدتْ منه الآخرةَ. وإذا تأملتَ كفرَ الأمم رأيتَه ناشئًا منها، وعليها يقع العذابُ، وتكون خفتُهُ وشدته بحسب خفتها وشدتها؛ فمن فتحَها على نفسه فتَحَ عليه أَبوابَ الشرور كلها عاجلًا وآجلًا، ومن أغلقَها على نفسه أغلقَ عنه أبوابَ الشرور؛ فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه. ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربِّه وجهله بنفسه؛ فإنه لو عرفَ ربَّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسَه بالنقائص والآفات؛ لم

(1/231)


يتكبْر ولم يغضبْ لها ولم يحسُدْ أحدًا على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوعٌ من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويُحِبّ زوالَها عنه والله يكره ذلك؛ فهو مضادٌّ لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوَّه حقيقةً؛ لأنَّ ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلْعُ هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضى به وعنه والإنابة إليه. وقَلْع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تَستحقُّ أن يغضب لها وينتقم لها؛ فإن ذلك إيثارٌ لها بالرضى والغضب على خالقها وفاطرها. وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يُعوِّدها أن تَغضَب له سبحانه وترضى له؛ فكلما دخلها شيءٌ من الغضب والرضى له خرجَ منها مقابله من الغضب والرِّضى لها، وكذا بالعكس. أما الشهوةُ فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتِها أعظمُ أسباب حرمانها إياها ومنعها منها، وحِمْيتها أعظم أسباب اتصالها إليها؛ فكلما فتحتَ عليها بابَ الشهوات كنتَ ساعيًا في حرمانها إياها، وكلما أغلقتَ عنها ذلك الباب كنتَ ساعيًا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه. فالغضب مثل السَّبُع؛ إذا أفلتَه صاحبُه بدأ بأكله، والشهوة مثل النار، إذا أضرمها صاحبها بدأتْ بإحراقه، والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه؛ فإن لم يُهلِكْك طردَك عنه، والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك. والذي يَغلِبُ شهوتَه وغضبَه يَفْرَقُ الشيطانُ من ظله، ومن تَغلِبه شهوتُه وغضبُه يَفرَقُ من خياله.

(1/232)


فصل عظيم النفع الجهال بالله وأسمائه وصفاته، المعطلون لحقائقها؛ يُبغِّضون اللهَ إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريقَ محبته والتودُّدِ إليه بطاعته من حيث لا يعلمون. ونحن نذكر من ذلك أمثلة تَحتذي عليها: فمنها: أنهم يُقرِّرون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعةٌ وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهرهِ وباطنه، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمنٍ من مكره، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار، ويُقلِّب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر. ويروون في ذلك آثارًا صحيحة لم يفهموها، وباطلة لم يَقُلْها المعصوم، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، وقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة، وأنه كان طاووس الملائكة، وأنه لم يترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة أو ركعة، لكن جَنَى عليه جاني القدر وسَطَا عليه الحكم، فقلبَ عينَه الطيبة وجعلها أخبثَ شيء، حتى قال بعض عارفيهم: إنك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسدَ الذي يَثِبُ عليك بغير جرم منك ولا ذنبٍ أتيتَه إليه!! ويَحتجُّون بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل

(1/233)


النار، فيدخلها" (1) ، ويروون عن بعض السلف: أكبر الكبائر: الأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله (2) . وذكر الإمام أحمدُ عن عون بن عبد الله أو غيره؛ أنه سمع رجلًا يدعو: اللهم! لا تُؤمِنِّي مكرَك! فأنكر ذلك وقال: قُلْ: اللهم! لا تجعلني ممَّن يأمن مكرَك. وبنوا هذا على أصلهم الباطل، وهو إنكارُ الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمةٍ ولا بسبب، وإنما يفعل بمشيئة مجردةٍ من الحكمة والتعليل والسبب؛ فلا يفعل لشيءٍ ولا بشيءٍ، وأنه يجوزُ عليه أن يُعذِّب أهل طاعته أشدَّ العذاب، ويُنعم أعداءه وأهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواءٌ، ولا يُعلَم امتناعُ ذلك إلا بخبر من الصادق أنه لا يفعله؛ فحينئذٍ يُعلَم امتناعُهُ؛ لوقوع الخبر بأنه لا يكون، لا لأَنَّه في نفسه باطلٌ وظلمٌ؛ فإن الظلم في نفسه مستحيلٌ؛ فإنه غير ممكن، بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحدٍ، والجمع بين الليل والنهار في ساعةٍ واحدةٍ، وجعل الشيء موجودًا معدومًا معًا في آنٍ واحد؛ فهذا حقيقةُ الظُّلم عندهم. فإذا رجع العامل إلى نفسه قال: من لا يَستقرُّ له أمرٌ، ولا يُؤمَن له مكرٌ؛ كيف يُوثَق بالتقرب إليه؟! وكيف يُعوَّلُ على طاعته واتِّباع أوامره؟! وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة؛ فإذا هجرنا فيها اللَّذات، وتركنا الشهوات، وتكلفنا أثقال العبادات، وكُنَّا مع ذلك على غير ثقةٍ منه أن يقلب علينا الإيمان كفرًا والتوحيد شركًا والطاعة معصيةً والبِرَّ فجورًا ويُديم علينا العقوباتِ؛ كنا خاسرين في الدنيا والآخرة!! __________ (1) أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود. (2) روي من كلام علي وابن مسعود وغيرهما، انظر: الدر المنثور (4/ 366).

(1/234)


فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمَّر في نفوسهم؛ صاروا إذا أُمروا بالطاعات وهَجْر اللَّذَّات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده: معلمك إن كتبتَ وأحسنتَ وتأدبت ولم تَعصه ربما أقام لك حجةً وعاقبك، وإن كسلتَ وبطلتَ وتعطلتَ وتركتَ ما أمرك به ربما قرَّبك وأكرمك! فيُودِعُ بهذا القول قلبَ الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيدِ المعلم على الإساءة ولا وعدِه على الإحسان! وإن كبرَ الصبيُّ وصلح للمعاملات والمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا؛ يأخذُ اللصَّ من الحبس فيجعله وزيرًا أميرًا، ويأخذ الكيِّسَ المحسن لشغله فيُخلّدُهُ الحبسَ ويقتله ويصلبه! فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافةَ الظالم الذي يأخذ المحسنَ بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلسَ هذا المسكينُ من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة؛ فلا بفعل الخير يستأنس ولا بفعل الشر يستوحش! وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟! ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أَتوا بأكثر من هذا؟! وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويردُّ على أهل البدع وينصر الدين، ولعَمْر اللهِ العدوُّ العاقل أقل ضررًا من الصديق الجاهل. وكتبُ الله المنزلة كلها ورسلُه كلهم شاهدةٌ بضد ذلك، ولا سيما القرآن؛ فلو سَلَكَ الدعاءَ المسلكَ الذي دعا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- به الناسَ إليه لصلحَ العالمُ صلاحًا لا فساد معه.

(1/235)


فالله سبحانه أخبر -وهو الصادق الوفيُّ- أنه إنما يُعامل الناسَ بكسبهم، ويُجازيهم بأعمالهم، ولا يَخاف المحسنُ لديه ظلمًا ولا هَضْمًا، ولا يخاف بخسًا ولا رَهَقًا، ولا يُضيّع عملَ محسن أبدًا، ولا يُضيّع على العبد مثقالَ ذرة ولا يَظلمها {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يُضيعها عليه، وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويُحبِطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويَجزي بالحسنة عشرَ أمثالها ويُضاعفها إلى سبع مئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، وهو الذي أصلح الفاسدين، وأقبل بقلوب المعرضين، وتاب على المذنبين، وهَدى الضالين، وأنقذ الهالكين، وعلَّم الجاهلين، وبصَّر المتحيرين، وذكّر الغافلين، وآوى الشاردين، وإذا أوقع عقابًا أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه ودعوة العبد إلى الرجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة، حتى إذا أيِسَ من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته؛ أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده؛ بحيث يَعذِرُ العبدُ من نفسه ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه. كما قال تعالى عن أهل النار: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11]. وقال عمن أهلكهم في الدنيا: إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: {يَاوَيلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)} [الأنبياء: 14 - 15]. وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)} [القلم: 29].

(1/236)


قال الحسن: لقد دخلوا النار وإنَّ حمدهُ لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا. ولهذا قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (45)} [الأنعام: 45]؛ فهذه الجملة في موضع الحال؛ أي قُطِع دابرهم حالَ كونه سبحانه محمودًا على ذلك، فقُطِعَ دابرُهم قطعًا مصاحبًا لحمده؛ فهو قطع وإهلاكٌ يُحمَد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووَضْعِه العقوبةَ في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعها في الموضع الذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة. ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار: {وَقُضِيَ بَينَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (75)} [الزمر: 75]، فحذف فاعل القول إشعارًا بالعموم وأن الكون كله قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (75)} لما شاهدوا من حكمة الحقِّ وعدله وفضله، ولهذا قال في حق أهل النار: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]، كأن الكون كلُّه يقول ذلك، حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤُهم. وهو سبحانه يخبر أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه، ولا يَعمُّهم بالهلاك بمحض المشيئة. ولما سأله نوح نجاةَ ابنه أخبر أنه يُغرِقه بسوء عمله وكفرِه، ولم يقل: إني أُغرِقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب!! وقد ضَمِنَ سبحانه زيادةَ الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يُخبر أن

(1/237)


يُضِلّهم ويُبطِل سعيَهم، وكذلك ضَمِنَ زيادة الهداية للمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنه إنما يُضلُّ من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذٍ على سمعه وقلبه، وأنه يُقلِّبُ قلبَ من لم يرضَ بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعَه وردَّه، فيقلبُ فؤادَه وبصرَه عقوبةً له على ردِّه ودفعِه لما تحقَّقه وعَرفَه وأنه سبحانَه لو عَلِمَ في تلك المحالِّ التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيرًا لأفهمَها وهداها، ولكنها لا تَصلُح لنعمته ولا تليق بها كرامته؛ وقد أزاح سبحانه العللَ وأقام الحججَ ومكَّن من أسباب الهداية، وأنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين والظالمين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يُركِسُ في الفتنة إلَّا المنافقين بكسبهم، وأن الرينَ الذي غطَّى به قلوبَ الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم؛ كما قال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]، وقال عن أعدائه من اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وأخبر أنه لا يُضلُّ من هداه حتى يُبين له ما يتقي، فيختار -لشقوته وسوء طبيعته- الضلالَ على الهدى والغيَّ على الرَّشاد ويكون مع نفسه وشيطانه وعدوِّ ربه عليه. وأما المكر الذي وصفَ به نفسه؛ فهو مجازاتُهُ للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبحَ شيءٍ، ومنه أحسن شيءٍ؛ لأنه عدلٌ ومجازاةٌ. وكذلك المخادعة منه جزاءٌ على مخادعة رسله وأوليائه. فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر. وأما كون الرجل "يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها

(1/238)


إلا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكتاب"؛ فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملًا مقبولًا صالحًا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يُبطِله عليه. وقوله: "لم يبقَ بينه وبينها إلَّا ذراعٌ" يُشكِل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته؛ لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفةٌ كامنةٌ ونكتةٌ خُذِلَ بها في آخر عمره، فخانتْه تلك الآفةُ والداهيةُ الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملتْ عملها، ولو لم يكن هناك غشٌّ وآفةٌ لم يقلب الله إيمانه كفرًا ورِدَّةً (1) مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سببٍ منه يقتضي إفسادَه عليه، والله يعلم من سرائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض. وأما شأن إبليس فإن الله سبحانه قال للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) } [البقرة: 30]؛ فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا تعلمه الملائكة، فلما أُمِروا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوِّه من الكبر والغش والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين. وأما خوف أوليائه من مكره فحقٌّ؛ فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء؛ فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته. وقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] إنما هو في حق __________ (1) في الأصل: "لقداورده" تحريف.

(1/239)


الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يَعصِي ويأمنُ مقابلةَ الله له على مكر السيئات بمكره به إلَّا القوم الخاسرون. والذي يخافه العارفون بالله من مكره: أن يؤخّر عنهم عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع اغترارٍ، فيأنسوا بالذُّنوب، فيجيئهم العذابُ على غِرَّةٍ وفترة. وأمرٌ آخر: وهو أن يغفلوا عنه ويَنسَوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلَّوا عن ذكره وطاعته، فيُسرِع إليهم البلاءُ والفتنة، فيكون مكره بهم تخلّيه عنهم. وأمرٌ آخرُ: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون. وأمرٌ آخرُ: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه، فيُفتنون به، وذلك مكرٌ. فصل • السَّنة شجرةٌ، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعته فثمرة شجرته طيبةٌ، ومن كانت في معصيةٍ فثمرته حنظلٌ، وإنما يكون الجَدَادُ يوم المعاد؛ فعند الجَدَاد يتبينُ حلو الثمار من مُرّها. • والإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعةٌ ولا ممنوعةٌ؛ فثمرة التوحيد والإخلاص في الدُّنيا كذلك.

(1/240)


• والشركُ والكذبُ والرياءُ شجرةٌ في القلب؛ ثمرها في الدنيا الخوف والهمُّ والغمّ وضيق الصدر وظلمةُ القلب، وثمرها في الآخرة الزقُّوم والعذابُ المقيم. وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم. فصل إذا بلغ العبد أُعطِيَ عهدَه الذي عَهِدَه إليه خالقه ومالكه. فإذا أخذ عهده بقوة وقبول وعزمٍ على تنفيذ ما فيه؛ صَلُح للمراتب والمناصب التي يَصلُح لها الموفون بعهودهم. فإذا هزَّ نفسه عند أخذ العهد وانتخاها وقال: قد أُهِّلتُ لعهد ربي؛ فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني؟! فحَرَصَ أولًا على فهم عهده وتدبره وتعرفه وصايا سيده له، ثم وطَّن نفسَه على امتثال ما في عهده والعمل به وتنفيذه حسبما تضمنه عهده، فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمَّنه، فاستحدث همَّةً أخرى وعزيمةً غير العزيمة التي كان فيها وقت الصِّبا قبل وصول العهد، فاستقال من ظلمة غِرَّةِ الصِّبا والانقياد للعادة والمنشأ، وصبر على شرف الهمة، وهتكَ ستر الظلمة إلى نور اليقين، فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه الله له من فضله. فأوَّلُ مراتب سعادته أن تكون له أذنٌ واعيةٌ وقلبٌ يَعقِل ما تَعِيْه الأذُن. فإذا سمع، وعقلَ، واستبانتْ له الجادَّة، ورأى عليها تلك الأعلامَ، ورأى أكثر الناس منحرفين عنها يمينًا وشمالًا، فلزمها، ولم ينحرف مع

(1/241)


المنحرفين، الذين كان سببُ انحرافهم عدمَ قبول العهد، أو قبلوه بكُرهٍ ولم يأخذوه بقوةٍ ولا عزيمةٍ ولا حدَّثوا أنفسَهم بفهمه وتدبره والعمل بما فيه وتنفيذ وصاياه، بل عُرِضَ عليهم العهدُ ومعهم ضَراوة الصبا ودين العادة وما ألفوا عليه الآباء والأمهات، فتلقَّوا العهدَ تلقيَ من هو مكتفٍ بما وجدَ عليه آباءه وسلفه وعادتهم، لا تلقّي من يجمع همَّه وقلبه على فهم العهد والعمل به، حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده وقيل له: تأملْ ما فيه ثم اعملْ بموجبه! فإذا لم يتلقَّ عهدَه هذا التلقي أخلَد إلى سيرة القرابة وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده! فإن عَلَتْ همته أخلد إلى ما عليه سلفه ومن تقدمه من غير التفاتٍ إلى تدبر العهد وفهمه، فرضي لنفسه أن يكون دينه دينَ العادة! فإذا شامَه الشيطان، ورأى هذا مبلغَ همته وعزيمته؛ رماه بالعصبية والحمية للآباء وسلفه، وزيَّن له أن هذا هو الحق وما خالفه باطلٌ، ومثَّل له الهدى في صورة الضلال والضلالَ في صورة الهدى بتلك العصبية والحمية التي أُسِّستْ على غير علم، فرِضاه أن يكون مع عشيرته وقومه له ما لهم وعليه ما عليهم، فخُذِل عن الهدى، وولَّاه الله ما تولى؛ فلو جاءه كل هدى يخالف قومَه وعشيرته لم يَره إلا ضلالة. وإذا كانت همته أعلى من ذلك ونفسه أشرف وقدره أعلى أقبلَ على حفظ عهده وفهمه وتدبره، وعلم أن لصاحب العهد شأنًا ليس كشأن غيره، فأخذ نفسه بمعرفته من نفس العهد، فوجدَه قد تعرف إليه وعرَّفه نفسَه وصفاتِه وأسماءه وأفعاله وأحكامه، فعرف من ذلك العهد: قيومًا بنفسه مقيمًا لغيره، غنيًّا عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، مستوٍ على عرشه فوق جميع خلقه، يرى ويسمع، ويرضى ويغضب، ويحب ويبغضُ، ويدبر أمر مملكته وهو فوق عرشه متكلمٌ آمرٌ ناهٍ، يُرسل رسلَه

(1/242)


إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يُسمِعه من يشاء من خلقه، وأنه قائمٌ بالقسط مُجازٍ بالإحسان والإساءة، وأنه حليمٌ غفور شكور جوادٌ محسنٌ، موصوفٌ بكل كمال، منزَّهٌ عن كل عيب ونقص، وأنه لا مِثلَ له، ويشهد حكمته في تدبير مملكته، وكيف يقدر مقاديره بمشيئةٍ غير مضادةٍ لعدله وحكمته، وتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة فصدَّق كل منهما صاحبيه، وفَهِمَ عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي بها نزل الكتاب وبها نطقَ ولها أثبتَ وحققَ وبها تعرَّفَ إلى عباده حتى أقرَّتْ به العقولُ وشهدتْ به الفِطرُ. فإذا عرفَ بقلبه وتيقنَ صفاتِ صاحب العهد أشرقَتْ أنوارها على قلبه فصارت كالمعاينة له: فرأى حينئذ تعلُّقَها بالخلق والأمر وارتباطهما بها وسريانَ آثارهما (1) في العالم الحسي والعالم الروحي. ورأى تصرفها في الخلائق؛ كيف عمَّتْ وخصَّتْ وقرَّبتْ وأَبعدتْ وأعطتْ ومنعتْ، فشاهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وفضله ورحمته، واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته، وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته، ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته، ومعيته، وعظمته وجلاله وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجُوده وعفوه وحلمه. ورأى لزومَ الحجة مع قهر المقادير التي لا خروجَ لمخلوق عنها، وكيف اصطحاب الصفات وتوافقُها وشهادة بعضها لبعض، وانعطاف __________ (1) في الأصل: "آثارها".

(1/243)


الحكمة التي هي نهايةٌ وغاية على المقادير التي هي أولٌ وبدايةٌ، ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى غاياتها، حتى كأنه يشاهد مبادئَ الحكمة وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان، لا تَخرجُ قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفصل بين العباد وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة؛ إنسِها وجنِّها مؤمنها وكافرها، وحينئذٍ يتبينُ من صفات جلاله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، حتى إن أعرف خلقه به في الدنيا يُثني عليه يومئذٍ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يُحسِنه في الدنيا (1) ، وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضلَّ الضالون وانقطع المنقطعون، فيكون الفرق بين العلم يومئذٍ بحقائق الأسماء والصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار ومشاهدتهما وأعظم من ذلك. وكذلك يفهم من العهد: كيف اقتضتْ أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وأن لا يترك خلقه سُدىً، وكيف اقتضتْ ما تضمنتْه من الأوامر والنواهي، وكيف اقتضتْ وقوعَ الثواب والعقاب والمعاد، وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته؛ بحيث يُنزَّهُ عما زعم أعداؤُهُ من إنكار ذلك. ويرى شمولَ القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يَشِذَّ عنها مثقال ذرة، ويرى أنه لو كان معه إلهٌ آخرُ لفسدَ هذا العالم، فكانت تفسد السماوات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدكَ هذا العالم بأسْرِه ولم يثبتْ طرفةَ عين. __________ (1) كما في حديث الشفاعة الطويل، وقد سبق تخريجه.

(1/244)


ويرى مع ذلك الإسلام والإيمان اللَّذين تعبَّد الله بهما جميعَ عباده؛ كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة، وكيف اقتضيا الثوابَ والعقاب عاجلًا وآجلًا. ويرى مع ذلك أنه لا يستقيم قبولُ هذا العهد والتزامُه لمن جحدَ صفاتِه وأنكر علوَّه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده؛ كما لا يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياته وإرادته وقدرته، وأن هؤلاء هم الذين ردُّوا عهدَه وأبَوا قبولَه، وأن من قبله منهم لم يقبله بجميع ما فيه. وبالله التوفيق. فصل خُلِق بدنُ ابنِ آدم من الأرض وروحُه من ملكوت السماء، وقُرِنَ بينهما: فإذا أجاع بدنَه وأسهَره وأقدمه في الخدمة وجدتْ روحُه خفةً وراحة، فتاقتْ إلى الموضع الذي خُلِقتْ منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي. وإذا أشبَعه ونعَّمه ونوَّمَه واشتغل بخدمتِه وراحتِه أخلد البدنُ إلى الموضع الذي خُلِق منه، فانجذبت الروحُ معه، فصارتْ في السجن؛ فلولا أنها ألِفت السجنَ لاستغاثتْ من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خُلِقت منه كما يستغيث المعذَّبُ. وبالجملة فكلَّما خفَّ البدنُ لَطُفتِ الروحُ وخفَّتْ وطلبت عالمها العلوي، وكلما ثَقُل وأخلدَ إلى الشهوات والراحة ثقلتِ الروحُ وهبطتْ من عالمها وصارتْ أرضيةً سُفْليةً. فترى الرجلَ روحُه في الرفيق الأعلى وبدنُه عندك، فيكون نائمًا على

(1/245)


فراشِه وروحُه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش، وآخرُ واقفٌ في الخدمة ببدنِه وروحُه في السفل تجول حول السفليات. فإذا فارقت الروحُ البدنَ التحقتْ برفيقها الأعلى أو الأدنى؛ فعند الرفيق الأعلى كلُّ قرةِ عين وكلُّ نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كلُّ همّ وغمّ وضيق وحزن وحياة نكِدةٍ ومعيشة ضَنْكٍ. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]؛ فذِكْره كلامه الذي أنزله على رسوله، والإعراض عنه ترك تدبره والعملِ به، والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير: أنها عذاب القبر. قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابنُ عباس (1)، وفيه حديث مرفوع (2)، وأصل الضنك في اللغة الضيق والشدة، وكل ما ضاقَ فهو ضَنْكٌ، يقال: منزلٌ ضنكٌ وعيشٌ ضنك؛ فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة؛ فإن النفس كلما وسّعت عليها ضيَّقت على القلب حتى تصير معيشةً ضنكا، وكلما ضيَّقت عليها وسَّعت على القلب حتى ينشرحَ وينفسحَ؛ فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضَنْكها في البرزخ والآخرة. فآثِرْ أحسَن المعيشتين وأطيَبهما وأدومَهما! وأَشْقِ البدنَ بنعيم الروح __________ (1) انظر تفسير الطبري (16/ 196) والدر المنثور (10/ 255). (2) أخرجه ابن حبان (3119) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(1/246)


ولا تُشْقِ الروحَ بنعيم البدن! فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون. والله المستعان. فصل العارفُ لا يأمر الناسَ بترك الدنيا؛ فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم؛ فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضةٌ؛ فكيف يُؤمَر بالفضيلة من لم يُقِم الفريضة؟! فإن صعُب عليهم ترك الذنوب؛ فاجتهد أن تحبّب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله؛ فإن القلوب مفطورةٌ على محبته؛ فإذا تعلقتْ بحبه هانَ عليها ترك الذنوب والاستقلال منها والإصرار عليها. وقد قال يحيى بن معاذ: طلبُ العاقلِ للدنيا خيرٌ من ترك الجاهل لها. العارف يدعو الناسَ إلى الله من دنياهم فتسهُلُ عليهم الإجابة، والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا فتشُقُّ عليهم الإجابة؛ فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقلَ الإنسانُ نفسَه إلا وهو يرتضع منه شديد، ولكن تخيّر من المرضعات أزكاهن وأفضلهن؛ فإن للبن تأثيرًا في طبيعة المرتضع، ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد، وأنفع الرضاعة ما كان من المجاعة. فإن قوِيتَ على مرارة الفطام، وإلَّا فارتضِعْ بقدر؛ فإن من البَشَم ما يقتل.

(1/247)


فصل • بين رعاية الحقوق مع الضرّ ورعايتها مع العافية بونٌ بعيدٌ. • "إن عبدي -كل عبدي- الذي يذكرني وهو ملاقٍ قِرنَه" (1). • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45]. • ليس العجب من صحيح فارغ واقفٍ مع الخدمة، إنما العجب من ضعيف سقيم تَعتَوِره الأشغال وتختلف عليه الأحوال وقلبه واقف في الخدمة غير متخلِّفٍ بما يقدر عليه. فصل • معرفة الله سبحانه نوعان: الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس؛ البر والفاجر، والمطيع والعاصي. والثاني: معرفة تُوجب الحياءَ منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم، وتفاوتُهم فيها لا يُحصيه إلا الذي عرفَهم بنفسه وكشفَ لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم، وكلٌّ أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كُشِفَ له منها، __________ (1) أخرجه الترمذي (3580) عن عمارة بن زعكرة في حديث قدسي، وقال: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الحديث الواحد".

(1/248)


وقد قال أعرفُ الخلق به: "لا أُحصِي ثناء عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك" (1)، وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن. • ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله. والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة، وتأملُ حكمتِه فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه. وجِماعُ ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر؛ فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيهًا في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. فصل الدراهم أربعةٌ: درهمٌ اكتُسِبَ بطاعة الله وأُخرِج في حقِّ الله؛ فذاك خير الدراهم، ودرهم اكتُسِب بمعصية الله وأُخرج في معصية الله؛ فذاك شر الدراهم، ودرهم اكتُسِب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم؛ فهو كذلك، ودرهم اكتسب بمباح وأُنفق في شهوة مباحة؛ فذاك لا له ولا عليه. __________ (1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (486) عن عائشة.

(1/249)


هذه أصول الدراهم، ويَتفرَّعُ عليها دراهمُ أُخر؛ منها: درهم اكتُسِب بحق وأُنفِق في باطل. ودرهم اكتُسِب بباطل وأنفق في حق؛ فإنفاقه كفارته. ودرهم اكتُسِب من شبهة؛ فكفارته أن ينفق في طاعة. وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم؛ فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يُسأَل عن مستخرجه ومصروفه؛ من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه (1)؟ فصل المواساةُ للمؤمنين أنواعٌ: مواساةٌ بالمال، ومواساةٌ بالجاه، ومواساةٌ بالبدن والخدمة، ومواساةٌ بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساةٌ بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة؛ فكلما ضَعُفَ الإيمان ضعفت المواساةُ، وكلما قوي قويتْ. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ النالس مواساةً لأصحابه بذلك كله؛ فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له. ودخلوا على بِشر الحافي في يوم شديد البرد، وقد تجرَّد، وهو يَنتفِضُ، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرتُ الفقراء وبردَهم، وليس لي ما أواسيهم به، فأحببتُ أن أواسيَهم في بردهم. __________ (1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي (2417) عن أبي برزة الأسلمي، وقال: حسن صحيح.

(1/250)


فصل الجهل بالطريق وآفاتها والمقصودِ يُوجب التعبَ الكثير مع الفائدة القليلة؛ فإن صاحبه إما أن يجتهد في نافلة مع إضاعة الفرض، أو في عمل بالجوارح لم يواطئه عمل القلب، أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد بالاقتداء، أو همةٍ إلى عمل لم ترق بصاحبها إلى ملاحظة المقصود، أو عمل لم يحترز من أفاته المفسدة له حال العمل وبعده، أو عملٍ غفلَ فيه عن مشاهدة المنة فلم يتجرَّد عن مشاركة النفس فيه، أو عمل لم يشهد تقصيرهُ فيه فيقوم بعده في مقام الاعتذار منه، أو عمل لم يُوفِّه حقَّه من النصح والإحسان وهو يظنُّ أنه وفَّاه؛ فهذا كله مما ينقص الثمرة مع كثرة التعب. والله الموفق. فصل إذا عزم العبدُ على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضَتْ له الخوادع والقواطع، فينخدع أولًا بالشهوات والرئاسات والملاذِّ والمناكح والملابس. فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتُلِي بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته ونحو ذلك. فإن وقف معه انقطعَ به عن الله وكان حظّه منه، وإن قطعهُ ولم يقفْ معه ابتُلِي بالكرامات والكشوفات. فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الموحدة والفراغ من الدنيا. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه وسار ناظرًا إلى مراد الله منه وما يحبه منه؛ بحيث يكون عبده الموقوف على محابِّه ومراضيه أين كانت وكيف كانت؛ تعبَ بها أو استراح،

(1/251)


تنعَّم أو تألم، أخرجتْه إلى الناس أو عزلتْه عنهم، لا يختار لنفسه غيرَ ما يختاره له وليُّه وسيدُه، واقفٌ مع أمره ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهونُ عليه أن يُقدِّم راحتَها ولذَّتها على مرضاة سيده وأمرِه؛ فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيءٌ البتة. وبالله التوفيق. فصل النعم ثلاثةٌ: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمةٌ منتظرةٌ يرجوها، ونعمةٌ هو فيها لا يَشعُر بها. فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرَّفَه نعمتَه الحاضرة وأعطاه من شكره قيدًا يُقيِّدُها به حتى لا تَشرُد؛ فإنها تَشرد بالمعصية وتُقيَّدُ بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصَّره بالطرق التي تسُدُّها وتقطع طريقها ووفَّقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافتْ إليه على أتم الوجوه. وعرَّفه النعمَ التي هو فيها ولا يشعر بها. ويُحكى أن أعرابيًّا دخل على الرشيد، فقال: أمير المؤمنين! ثبَّتَ الله عليك النعمَ التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقَّق لك النعمَ التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرَّفك النعمَ التي أنت فيها ولا تَعرِفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسنَ تقسيمَه! قاعدة جليلة مبدأُ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوعَ الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادة.

(1/252)


فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها. فصلاحُ الخواطر بأن تكونَ مراقِبةً لوليها وإلهها، صاعدةً إليه، دائرةً على مرضاته ومحابِّه؛ فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشدٍ، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاءٍ. فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته، وإنزاله إيَّاه حاضرًا معه مشاهدًا له ناظرًا إليه رقيبًا عليه مطلعًا على خواطره وإراداته وهمّه؛ فحينئذٍ يَستحيي منه ويُجِلُّه أن يُطلِعه منه على عورةٍ يكره أن يطلع عليها مخلوقٌ مثله أو يرى في نفسه خاطرًا يَمقُته عليه. فمتى أنزل ربَّه هذه المنزلةَ منه رفَعَه وقرَّبهُ منه وأكرمه واجتباه ووالاه، وبقدر ذلك يَبعُد عن الأوساخ والدَّناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة؛ كما أنه كلما بَعُد منه وأعرض عنه قَرُب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويُقطَع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص. فالإنسان خيرُ المخلوقات إذا تقرَّب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشرُّ المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته؛ فمتى اختار التقربَ إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكَّم قلبَه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانِه، وحكَّم رشدَه على غيِّه وهداه على هواه، ومتى اختار التباعدَ منه فقد حكَّم نفسَه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.

(1/253)


واعلم أن الخطراتِ والوساوسَ تُؤدِّي متعلقاتُها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤدِّيها إلى التذكُّر، فيأخذها الذِّكر فيؤدِّيها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤدِّيها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهلُ من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يُعطَ الإنسانُ إماتةَ الخواطر ولا القوةَ على قطعها؛ فإنها تَهجُم عليه هجومَ النفس؛ إلَّا أن قوة الإيمان والعقل تُعِينُهُ على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دَفْع أقبحها وكراهته له ونفرته منه؛ كما قال الصحابة: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يَحترِقَ حتى يصير حُمَمةً أحبُّ إليه من أن يتكلم به؟ فقال: "أوقد وجدتموه؟ ". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان" (1). وفي لفظ: "الحمد لله الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسة" (2). وفيه قولان: أحدهما: أن ردَّه وكراهته صريح الإيمان. والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان؛ فإنه إنما ألقاهُ في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان وإزالته به. وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهةً بالرَّحى الدائرة التي لا تَسكُن ولا بد لها من شيء تطحنه؛ فإذا وُضع فيها حَبٌّ طحنتْه، وإن وُضع فيها ترابٌ أو حصى طحنتْه. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي __________ (1) أخرجه مسلم (132) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (1/ 235، 340) وأبو داود (5112) عن ابن عباس، وإسناده صحيح.

(1/254)


بمنزلة الحب الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلةً قط، بل لا بد لها من شيءٍ يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حَبًّا يخرج دقيقًا ينفع به نفسَه وغيره، وأكثرهم يطحن رملًا وحصىً وتْبِنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العَجْن والخَبْز تبيَّن له حقيقةُ طحينه. فصل فإذا دفعتَ الخاطر الوارد عليك اندفعَ عنك ما بعده، وإن قبلتَه صار فكرًا جوالًا، فاستخدَم الإرادةَ، فتساعدتْ هي والفكر على استخدام الجوارح؛ فإن تعذَّر استخدامُها رجعا إلى القلب بالمُنَى والشهوة وتَوجُّهِه إلى جهة المراد. ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهلُ من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تَشغلَ نفسَك بالفكر فيما يَعنِيك دون ما لا يَعنِيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه. فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحقُّ شيءٍ بإصلاحه من نفسك؛ فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعدُ بها أو تقرُبُ من إلهك ومعبودك الذي لا سعادةَ لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكلُّ الشقاء في بعدك عنه وسخطِه عليك. ومن كان في خواطره ومجالاتِ فكره دنيئًا خسيسًا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.

(1/255)


وإياك أن تُمكِّن الشيطانَ من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يُفسِدها عليك فسادًا يَصعُب تداركُه، ويُلقِي إليك أنواعَ الوساوس والأَفكار المضرة، ويَحُول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنتَه على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك؛ فمثالك معه مثال صاحب رحًى يطحن فيها جيدَ الحبوب، فأتاه شخصٌ معه حِمْلُ ترابٍ وبَعرٍ وفحم وغُثاء ليطحنه في طاحونه؛ فإن طرده ولم يُمكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمرَّ على طحن ما ينفعه، وإن مكنَّه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسدَ ما فيها من الحَبّ وخرج الطحين كله فاسدًا. والذي يُلقِيه الشيطانُ في النفس لا يَخرُج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما لم يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام، أو في خيالات وهميةٍ لا حقيقة لها، إمّا في باطل، أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طُوي عنه علمه، فيُلقِيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غايةً ولا يقف منها على نهايةٍ، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرحَ وهمِه. وجِمَاع إصلاح ذلك: أن تَشغَل فكرَك في باب العلوم والتصورات بمعرفةَ ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرُّز منها. وفي باب الإرادات والعُزوم أن تَشغَل نفسَك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطَرْحِ إرادة ما يضرُّك إرادتُهُ. وعند العارفين أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضرُّ على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها؛ فإن تمنّيها يَشغَل القلبَ بها ويملؤه منها ويجعلها همَّه ومرادهُ.

(1/256)


وأنت تجد في الشاهد: الملِك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخَدَمِه من هو مُتمنٍّ لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئٌ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله؛ فإذا اطلع على سرِّه وقصدِه مَقَتَه غايةَ المقت، وأبغضَه، وقابله بما يستحقه، وكان أبغضَ إليه من رجل بعيد عنه جَنَى بعضَ الجنايات وقلبُه وسِرُّه مع الملك غير منطوٍ على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها؛ فالأول يتركها عجزًا واشتغالًا بما هو فيه وقلبه ممتلئٌ بها، والثاني يفعلها وقلبه كارهٌ لها ليس فيه إضمارُ الخيانة ولا الإصرار عليها؛ فهذا أحسنُ حالًا وأسلمُ عاقبةً من الأول. وبالجملة فالقلب لا يخلو قطُّ من الفكر: إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدَّرات المفروضة. وقد تقدَّم أن النفس مَثلُها كمثل الرَّحَى تدور بما يُلقى فيها؛ فإن ألقيتَ فيها حبًّا دارتْ به، وإن ألقيتَ فيها زجاجًا وحصىً وبعرًا دارت به، والله سبحانه هو قيِّم تلك الرحى ومالكها ومُصرِّفُها، وقد أقام لها ملَكًا يُلقِي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانًا يلقي فيها ما يضرُّها فتدور به؛ فالملك يلمُّ بها مرةً والشيطان يلمُّ بها مرة؛ فالحَبّ الذي يُلقيه الملك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالوعد، والحَبّ الذي يُلقيه الشيطان إيعادٌ بالشر وتكذيبٌ بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحبّ المُضِرّ لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغةً من الحب النافع، وقيِّمها قد أهملها وأعرض عنها؛ فحينئذ يُبادِر إلى إلقاء ما معه فيها. وبالجملة فقَيِّمُ الرَّحى إذا تخلَّى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحَبّ النافع فيها وجدَ العدوُّ السبيلَ إلى إفسادها وإدارتها بما معه.

(1/257)


وأصل صلاح هذه الرَّحى بالاشتغال بما يعنيك، وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك. وما أحسن ما قال بعض العقلاء: لما وجدتُ أنواع الذخائر منصوبةً غرضًا للمتالف، ورأيتُ الزوال حاكمًا عليها مدركًا لها، انصرفتُ عن جميعها إلى ما لا يُنازِع فيه ذو الحِجَا أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر. والله المستعانُ. • قال شقيق بن إبراهيم: أُغلِقَ بابُ التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها. قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعفُ البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ، وإلَّا فلو كانت النفس شريفةً كبيرةً لم ترضَ بالدُّون. فأصلُ الخير كله -بتوفيق الله ومشيئته- شرفُ النفس ونُبلها وكِبَرها، وأصلُ الشر خِسَّتها ودناءتها وصِغَرها. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10]؛ أي أفلح من كبَّرها وكثَّرها ونمَّاها بطاعة الله، وخاب من صغَّرها وحقَّرها بمعاصي الله. فالنفوسُ الشريفةُ لا ترضى من الأشياء إلَّا بأعلاها وأفضلها

(1/258)


وأحمدها عاقبةً، والنفوسُ الدنيئة تحومُ حولَ الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار. فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنَّها أكبر من ذلك وأجلُّ، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك. فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]؛ أي: على ما يشاكله ويناسبه؛ فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألِفَها وجُبِلَ عليها؛ فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودُّد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله. فصل: من لم يَعرِف نفسَه كيف يَعرِف خالقَه؟ فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتًا وهو القلب، ووضعَ في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى؛ فهو مستوٍ على عرشه بذاته بائنٌ من خلقه، والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوٍ على سرير القلب، وعلى السرير بِساطٌ من الرضى، ووضع عن يمينه وشماله مَرافقَ شرائعِه وأوامره، وفتَح إليه بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبتَ فيه أصنافَ الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة؛ فهي {تُؤْتِي أُكُلَهَا

(1/259)


كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يَسقِيها من تدبر كلامه وفهمه والعمل بوصاياهُ، وعلَّق في ذلك البيت قنديلًا أسرجَه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده؛ فهو يَستمِدُّ من {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]، ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان؛ فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه؛ فهو دائمًا همُّه إصلاح السكن ولمُّ شَعَثِه ليرضاه الساكن منزلًا، وإذا أحسَّ بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمّه خشيةَ انتقال الساكن منه؛ فنعم الساكن والمسكن. فسبحان الله رب العالمين! كم بين هذا البيت وبيتٍ قد استولى عليه الخرابُ وصار مأوى للحشرات والهوامِّ ومحلًّا لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه؛ فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربةً لا ساكن فيها ولا حافظ لها، وهي مُعدَّة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتةُ الرائحة، قد عمَّها الخرابُ وملأتْها القاذوراتُ؛ فلا يأنس بها ولا يَنزِل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوامِّ؛ الشيطان جالسٌ على سريرها، وعلى السرير بساطٌ من الجهل، وتَخفِقُ فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مَرافقُ الشهَوات واتباع الهوى، وقد فُتح إليه بابٌ من حَقْلِ الخذلان والوحشة والركونِ إلى الدنيا والطمأنينة بها والزهد في الآخرة، وأُمطِرَ من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أنبتَ فيه أصنافَ الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات

(1/260)


والأشعار الغزليات والخمريات التي تُهيِّج على ارتكاب المحرمات وتُزهِّد في الطاعات، وجُعِلَ في وسط الحقل شجرةُ الجهل به والإعراض عنه؛ فهي تؤتي أُكلَها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح واتباع كل شهوة، ومن ثمرِها الهمومُ والغموم والأحزان والآلام، ولكنها متواريةٌ باشتغال النفس بلهوها ولعبها؛ فإذا أفاقتْ من سكرها أُحضرتْ كلَّ همٍّ وغمٍّ وحزنٍ وقلق ومعيشة ضَنْك، وأُجرِيَ إلى تلك الشجرة ما يَسقِيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور، ثم تُرِكَ ذلك البيتُ وظلماته وخراب حيطانه؛ بحيث لا يُمنَع منه مفسِدٌ ولا حيوانٌ ولا مؤذٍ ولا قذرٌ. فسبحانَ خالقِ هذا البيت وذلك البيت! فمن عرف قدرَ بيته وقدر الساكن فيه وقدرَ ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات؛ انتفع بحياته ونفسه، ومن جَهِلَ ذلك جهل نفسَه وأضاع سعادته. وبالله التوفيق. فصل • سئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلةً؟ قال: أكل الصديقين. قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين. قيل له: فثلاث أكلاتٍ؟ فقال: قل لأهله يَبنُوا له مِعْلفًا. • قال الأسود بن سالم: ركعتين (1) أصلِّيهما لله أحبّ إليَّ من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأٌ. فقال: دَعُونا من كلامكم؛ الجنة رضَى __________ (1) كذا في الأصل منصوبا.

(1/261)


نفسي، والركعتان رضَى ربي، ورضى ربي أحبُّ إليَّ من رضي نفسي. • العارف في الأرض ريحانةٌ من رياحين الجنة، إذا شمَّها المريد اشتاقتْ نفسُه إلى الجنة. • قلبُ المحب موضوعٌ بين جلال محبوبه وجماله؛ فإذا لاحظ جلاله هابهُ وعظَّمهُ، وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه. فائدة من الناس من يَعرِف اللَّهَ بالجود والإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف، ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته. وأعمُّ هؤلاء معرفةً من عرفَهُ من كلامه؛ فإنه يعرف ربًّا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزَّهٌ عن المثال، بريءٌ من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعَّالٌ لما يريد، فوق كل شيء، ومع كل شيء، وقادر على كل شيء، ومقيمٌ لكل شيء، آمرٌ، ناهٍ، متكلمٌ بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء، وأجمل من كل شيءٍ، أرحم الراحمين، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين. فالقرآن أُنزِلَ لتعريف عباده به، وبصراطه المُوصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه. فائدة من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعمَ الله بها عليه

(1/262)


واختارها له، فَيمَلُّها العبدُ ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خيرٌ له منها، وربُّه برحمته لا يُخرِجه من تلك النعمة ويَعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعًا بتلك النعمة وسَخِطَها وتبرَّمَ بها واستحكم مَللُه لها سَلَبه الله إياها؛ فإذا انتقل إلى ما طلبه، ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه؛ اشتدَّ قلقُه وندمه وطلبَ العودة إلى ما كان فيه. فإذا أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهدَه أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورَضَّاهُ به وأوزعَه شكره عليه؛ فإذا حدَّثتْه نفسُه بالانتقال عنه استخار ربَّه استخارةَ جاهلٍ بمصلحته عاجزٍ عنها مُفوِّضٍ إلى الله طالبٍ منه حسنَ اختياره له. وليس على العبد أضرُّ من مَلَلِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يَسخَطها ويشكوها ويعدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه. فأكثر الناس أعداءُ نِعَمِ الله عليهم، ولا يَشعُرون بفتح الله عليهم نِعمَه، وهم مجتهدون في دفعها وردَّها جهلًا وظلمًا؛ فكم سَعَتْ إلى أحدهم من نعمةٍ وهو ساعٍ في ردِّها بجهده! وكم وصلتْ إليه وهو ساعٍ في دفعها وزوالها بظلمه وجهله! قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. فليس للنعم أعدى من نفس العبد؛ فهو مع عدوه ظهير على نفسه،

(1/263)


فعدوه يطرح النارَ في نعمه وهو ينفخ فيها؛ فهو الذي مكَّنه من طرح النارِ ثم أعانهُ بالنفخ؛ فإذا اشتد ضرامُها استغاثَ [من] الحريق، وكان غايته معاتبة الأقدار: وعاجزُ الرأي مِضياعٌ لفرصته ... حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القدرا (1) فصل من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال، وهي معرفة خواصِّ الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمُّهم معرفةً من عرفه بكماله وجلاله وجماله، سبحانه ليس كمثله شيءٌ في سائر صفاته. ولو فرضتَ الخلقَ كلهم على أجملهم صورةً، وكلهم على تلك الصورة، ونسبتَ جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه؛ لكان أقلَّ من نسبة سراج ضعيف إلى قُرْصِ الشمس. ويكفي في جماله أنه لو كشفَ الحجابَ عن وجهه لأحرقتْ سُبُحاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه (2). ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته؛ فما الظنُّ بمن صدر عنه هذا الجمال؟! ويكفي في جماله أنه له العزة جميعًا، والقوة جميعًا، والجود كله، والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت __________ (1) البيت ليحيى بن زياد في معجم الشعراء (ص 498)، وللخليل بن أحمد في المنتحل (ص 139)، وبلا نسبة في البيان والتبيين (2/ 350) وعيون الأخبار (1/ 34، 2/ 141) والعقد الفريد (1/ 64) (2) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري.

(1/264)


الظلمات؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعاء الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلماتُ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة" (1). وقال عبد الله بن مسعود (2): ليس عند ربكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه؛ فهو سبحانه نور السماوات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تُشرِق الأرضُ بنوره. ومن أسمائه الحسنى: الجميل. وفي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال" (3). وجماله سبحانه على أربعة مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء؛ فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ ورحمةٌ. وأما جمال الذات وما هو عليه فأمرٌ لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرَّف بها إلى من أكرمه من عباده؛ فإن ذلك الجمال مَصُونٌ عن الأغيار، محجوبٌ بستر الرداء والإزار؛ كما قال رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عنه: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري" (4)، ولما كانت الكبرياء أعظمَ وأوسع كانت أحقَّ باسم الرداء؛ فإنه سبحانه الكبير المتعال؛ فهو سبحانه العلي العظيم. __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (قطعة من الجزء 13/ 52) عن عبد الله بن جعفر. قال الهيثمي (6/ 38): فيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات. (2) أخرجه الطبراني (9/ 179)، قال الهيثمي (1/ 85): فيه أبو عبد السلام مجهول. (3) أخرجه مسلم (91) عن ابن مسعود. (4) أخرجه أحمد (2/ 248، 376) وأبو داود (4090) وابن ماجه (4174) من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح.

(1/265)


قال ابن عباس: حجب الذَّات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال؛ فما ظنك بجمال حُجِبَ بأوصاف الكمال، وسُتِرَ بنعوت العظمة والجلال؟! ومن هذا المعنى يُفهَم بعضُ معاني جمال ذاته؛ فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات؛ فإذا شاهد شيئًا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن ها هنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحدًا من خلقه لا يحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق أن يُعبَد لذاته ويُحَبّ لذاته ويُشكَر لذاته، وأنه سبحانه يُحِبّ نفسه ويُثني على نفسه ويحمد نفسه، وأن محبته لنفسه وحمده لنفسه وثناءه على نفسه وتوحيده لنفسه هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد؛ فهو سبحانه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه، وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله؛ فكل أفعاله حسن محبوب، وإن كان في مفعولاته ما يُبغضه ويكرهه؛ فليس في أفعاله ما هو مكروهٌ مسخوطٌ، وليس في الوجود ما يُحَب لذاته ويُحمَد لذاته إلا هو سبحانه، وكل ما يُحَبّ سواه؛ فإن كانت محبته تابعةً لمحبته سبحانه بحيث يحب لأجله فمحبته صحيحةٌ، وإلَّا فهي محبةٌ باطلةٌ، وهذا هو حقيقة الإلهية؛ فإن الإله الحق هو الذي يُحَبّ لذاته ويُحمَد لذاته؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبره ورحمته؟! فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا مُحسِن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا

(1/266)


هو، فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك؛ فيحبه من الوجهين جميعًا. وكما أنه ليس كمثله شيءٌ؛ فليس كمحبته محبةٌ. والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها؛ فإنها غاية الحب بغاية الذُّل، ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه، والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملًا. وحمده يتضمن أصلين: الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها؛ فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدًا، ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامدًا؛ حتى يجمع الأمرين. وهو سبحانه يَحمد نفسَه بنفسه، ويَحمد نفسَه بما يُجرِيه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين؛ فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا؛ فإن حمدهم له بمشيئته وإذنه وتكوينه؛ فإنه هو الذي جعل الحامد حامدًا والمسلم مسلمًا والمصلي مصليًا والتائب تائبًا؛ فمنه ابتدأت النعم وإليه انتهت، فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظمَ فرح وهي من فضله وجوده، وألهم عبدَه الطاعةَ وأعانَه عليها ثم أثابهُ عليها وهي من فضله وجوده. وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقيرٌ إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إليه لذاته في الأسباب والغايات؛ فإن ما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع.

(1/267)


فصل • وقوله في الحديث: "إن الله جميل يُحِبُّ الجمال" (1) يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء. كما في الحديث الآخر: "إن الله نظيفٌ يحب النظافة" (2). وفي الصحيح: "إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا" (3). وفي السنن: "الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (4). وفيها: عن أبي الأحوص الجُشَمي، [عن أبيه]؛ قال: رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليَّ أطمارٌ، فقال: "هل لك من مال؟ ". قلت: نعم. قال: "من أي المال؟ ". قلت: من كل ما آتى الله من الإبل والشاء. قال: "فلتُرَ نعمتُه وكرامتُه عليك" (5). فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده؛ فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن؛ فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها. __________ (1) سبق تخريجه (ص 265). (2) أخرجه الترمذي (2799) عن سعد بن أبي وقاص، وقال: هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يُضعَّف. (3) أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة. (4) أخرجه الترمذي (2819) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث حسن. (5) أخرجه أحمد (3/ 473) وأبو داود (4063) والترمذي (2006) والنسائي (8/ 180) بهذا الطريق. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(1/268)


ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسًا وزينةً تُجمِّل ظواهرهم وتقوى تُجمِّل بواطنهم فقال: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيرٌ} [الأعراف: 26]، وقال في أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً (12)} [الإنسان: 11 - 12]؛ فجمَّلَ وجوهَهم بالنضرة وبواطنَهم بالسرور وأبدانَهم بالحرير. وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة يُبغِضُ القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة؛ فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله. ولكن ضل في هذا الموضع فريقان: فريق قالوا: كل ما خلقه جميل؛ فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه؛ فلا نبغض منه شيئًا. قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة. وأنشد منشدهم: وإذا رأيتَ الكائناتِ بعينهم ... فجميعُ ما يَحوِي الوجودُ مليحُ واحتجوا بقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ} [النمل: 88]، وقوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]. والعارف عندهم هو الذي يُصرِّح بإطلاق الجمال ولا يرى في الوجود قبيحًا. وهؤلاء قد عُدِمَتِ الغيرةُ لله من قلوبهم والبغضُ في الله والمعاداة فيه وإنكار المنكر والجهاد في سبيله وإقامة حدوده! ويَرى جمال الصور من الذُّكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله، فيتعبدون بفسقهم! وربما غلا بعضهم حتى يزعم أن معبوده

(1/269)


يظهر في تلك الصورة ويَحُلُّ فيها! وإن كان اتحاديًّا قال: هي مظهر من مظاهر الحق، ويسميها المظاهر الجمالية!! فصل وقابلهم الفريقُ الثاني، فقالوا: قد ذمَّ سبحانه جمالَ الصور وتمام القامة والخلقة؛ فقال عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]، وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} [مريم: 74] أي أموالًا ومناظر؛ قال الحسن: هو الصور. وفي "صحيح مسلم" (1) عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". قالوا: ومعلومٌ أنه لم يَنفِ نظرَ الإدراك، وإنما نفى نظر المحبة. قالوا: وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا. وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]. وفي الحديث: "البذاذة من الإيمان" (2). وقد ذمَّ الله المسرفين، والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس. وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يُحمَد، ومنه ما يُذَمّ، ومنه ما لا يتعلق به مدحٌ ولا ذمٌّ: فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجمل للوفود (3)، وهو نظير لباس آلة __________ (1) برقم (2564) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه أبو داود (4161) وابن ماجه (4118) والحاكم (1/ 9) من حديث أبي أمامة. (3) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (886) ومسلم (2068) عن ابن عمر.

(1/270)


الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه؛ فإن ذلك محمودٌ إذا تضمَّنَ إعلاءَ كلمة الله ونصرَ دينِه وغيظَ عدوِّه. والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه؛ فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همةٌ في سوى ذلك. وأما ما لا يُحمَد ولا يُذم فهو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين؛ فأوله معرفة، وآخره سلوكٌ؛ فيُعرَف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيءٌ، ويُعبَد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق؛ فيحب من عبده أن يُجمِّل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار؛ فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة؛ فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه؛ فجمعَ الحديثُ قاعدتين: المعرفة، والسلوك. فصل ليس للعبد شيءٌ أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة؛ فيَصدُقه في عزمه وفي فعله؛ قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ (21)} [محمد: 21]؛ فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل. فصدق العزيمة جَمْعُها وجزمُها وعدم التردد

(1/271)


فيها، بل تكون عزيمةً لا يشوبها ترددٌ ولا تلوُّمٌ. فإذا صدقتْ عزيمتُه بقي عليه صدق الفعل، وهو استفراغُ الوسع وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشيءٍ من ظاهره وباطنه. فعزيمةُ القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور. ومن صَدَقَ اللَّهَ في جميع أموره صنعَ الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصدق التوكل؛ فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله. فائدة جليلة في القدر ربٌّ ذو إرادة أمر عبدًا ذا إرادة: فإن وفقه أراد من نفسه أن يُعِينه ويُلهِمه فعلَ ما أمر به. وإن خَذلَه خلَّاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعُه؛ فهو من حيث هو إنسانٌ لا يريد إلا ذلك، ولذلك ذمَّه الله في كتابه من هذه الحيثية، ولم يمدحه إلا بأمر زائدٍ على تلك الحيثية، وهو كونه مسلمًا ومؤمنًا وصابرًا ومحسنًا وشكورًا وتقيًّا وبرًّا ونحو ذلك، وهذا أمرٌ زائدٌ على مجرد كونه إنسانًا وإرادته صالحة، لكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيَّد بقدر زائد على ذلك، وهو التوفيق؛ كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يَحصُلْ سببٌ آخر من النور المنفصل عنها. فصل من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبُك خالٍ من تعظيم الله وتوقيره؛ فإنك تُوقِّر المخلوقَ وتُجِلُّه أن يراك

(1/272)


في حال لا تُوقِّر الله أن يراك عليها! قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13]؛ أي لا تعاملونه معاملةَ من توقِّرونه، والتوقير: العظمة، ومنه قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]؛ قال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقًّا ولا تشكرونه؟! وقال مجاهدٌ: لا تبالون عظمة ربكم. وقال ابن زيد: لا ترون لله طاعة. وقال ابن عباس: لا تعرفون حقَّ عظمته (1). وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظَّموا الله وعرفوا حقَّ عظمته وحَّدوه وأطاعوه وشكروه؛ فطاعته سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب. ولهذا قال بعض السلف: لِيعظُم وقارُ الله في قلب أحدكم أن يذكره عند ما يستحيي من ذكره فَيقرِن اسمه به؛ كما تقول: قبح الله الكلب والخنزير والنتن، ونحو ذلك! فهذا من وقار الله. ومن وقاره أن لا تَعدِلَ به شيئًا من خلقه، لا في اللفظ بحيث تقول: واللَّهِ وحياتِك ما لي إلا الله وأنت، وما شاء الله وشئتَ، ولا في الحب والتعظيم والإجلال، ولا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله، بل أعظم؛ كما عليه أكثر الظلمة والفجرة، ولا في الخوف والرجاء؛ ويجعله أهونَ الناظرين إليه، ولا يستهين بحقه ويقول: هو مبنيٌّ على المسامحة، ولا يجعله على الفضلة ويقدم حق المخلوق عليه، ولا يكون الله ورسوله في حدٍّ وناحيةٍ، والناس في ناحية وحد، فيكون في الحد والشِّقِّ الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله __________ (1) انظر تفسير الطبري (23/ 295) والدر المنثور (14/ 707).

(1/273)


ورسوله، ولا يُعطي المخلوق في مخاطبته قلبَه ولبَّه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه، ولا يجعل مراد نفسه مقدمًا على مراد ربه، فهذا كله من عدم وقار الله في القلب. ومن كان كذلك فإن الله لا يُلقي له في قلوب الناس وقارًا ولا هيبة، بل يُسقِط وقارَه وهيبته من قلوبهم، وإن وقَّروه مخافةَ شره؛ فذاك وقارُ بغضٍ لا وقارُ حب وتعظيم. ومن وقار الله أن يستحيي من اطلاعه على سِرِّه وضميره فيرى فيه ما يكره. ومن وقاره أن يستحيي منه في الخلوة أعظم مما يستحيي من أكابر الناس. والمقصود أن من لا يُوقِّر الله وكلامَه وما آتاه من العلم والحكمة كيف يَطلب من الناس توقيَره وتعظيمه؟! القرآن والعلم وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلاتٌ من الحق وتنبيهاتٌ وروادعُ وزواجر واردةٌ إليك، والشيب زاجرٌ ورادعٌ وموقظٌ قائمٌ بك؛ فلا ما ورد إليك وعظك، ولا ما قام بك نصحك، ومع هذا تطلب التوقيرَ والتعظيم من غيرك!! فأنت كمصابٍ لم تؤثر فيه مصيبته وعظًا وانزجارًا، وهو يطلب من غيره أن يتعظ وينزجر بالنظر إلى مُصابه؛ فالضرب لم يُؤثِّر فيه زجرًا، وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه!! من سمع بالمَثُلات والعقوبات والآيات في حق غيره ليس كمن رآها عيانًا في غيره؛ فكيف بمن وجدها في نفسه؟! {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53]؛ فآياته في الآفاق مسموعة معلومة، وآياته في النفس مشهودة مرئية؛ فعياذًا بالله من الخذلان.

(1/274)


قال تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97]. وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيهِمْ كُلَّ شَيءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا ويُتمِّم نقائصَ خِلقته بفضائل أخلاقه وأعماله؛ فكلما امتَحِىَ من جُثمانه أثرٌ زاد في إيمانه أثرٌ، وكلما نقص من قوى بدنه زاد في قوة إيمانه ويقينه ورغبته في الله والدار الآخرة. وإن لم يكن هكذا فالموت خيرٌ له؛ لأنه يقف به على حد معين من الألم والفساد؛ بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر؛ فإنها زيادةٌ في ألمه وهمه وغمه وحسرته، وإنما حَسُنَ طول العمر ونفعَ ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الفرص والتوبة النصوح؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]. فمن لم يُورِثه التعميرُ وطول البقاء إصلاحَ معايبه وتداركَ فارطه واغتنامَ بقية أنفاسه؛ فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم، وإلَّا فلا خيرَ له في حياته، فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ فإذا طال عمره وحسُنَ عمله كان طول سفره زيادةً له في حصول النعيم واللَّذَّة؛ فإنه كلما طال السفر إليها كانت الصبابة أجل وأفضل، وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادةً في ألمه وعذابه ونزولًا له إلى أسفل؛ فالمسافرُ إما صاعدٌ وإما نازلٌ. وفي الحديث المرفوع: "خيركم من طال عمرُه وحسُنَ عملُه،

(1/275)


وشركم من طال عمرُه وقبُحَ عملُه" (1). فالطالب الصادق في طلبه كلما خَرِبَ شيءٌ من ذاته، جعله عمارةً لقلبه وروحه، وكلما نقص شيءٌ من دنياهُ جعله زيادةً في آخرته، وكلما مُنِعَ شيئًا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته، وكلما ناله همٌّ أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته؛ فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته: إن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده كان رحمةً به وخيرًا له، وإلَّا كان حرمانًا وعقوبة على ذنوب ظاهرةٍ أو باطنةٍ أو ترك واجب ظاهرٍ أو باطن؛ فإن حرمانَ خيرِ الدنيا والآخرة مرتَّبٌ على هذه الأربعة. وبالله التوفيق. فائدة الناس منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار. والعاقل يعلم أن السفر مبنيٌّ على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادةً أن يُطلَب فيه نعيمٌ ولذَّةٌ وراحةٌ، إنما ذاك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل وطأةِ قَدَمٍ أو كل آنٍ من آناتِ السفر غير واقفةٍ، ولا المكلف واقفٌ، وقد ثبت أنه مسافرٌ على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدمِ الاستعداد للسير. __________ (1) أخرجه أحمد (5/ 40، 43) والترمذي (2330) عن أبي بكرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(1/276)


فائدة عند العارفين أن الاشتغال بالمشاهدة عن البِرِّ في السير وقوف؛ لأنه في زمن المشاهدة لو كان صاحبَ عمل ظاهر أو باطن أو ازدياد من معرفة وإيمان مفصل كان أولى به؛ فإن اللطيفة الإنسانية تُحشَر على صورة عملها ومعرفتها وهمتها وإرادتها، والبدن يُحشَر على صورة عمله الحسن أو القبيح؛ وإذا انتقلت من هذه الدار شاهدتْ حقيقة ذلك. وعلى قدر قرب قلبك من الله تَبعُد من الأنس بالناس ومساكنتهم، وعلى قدر صيانتك لِسرِّك وإرادتك يكون حفظه، وملاك ذلك صحةُ التوحيد، ثم صحة العلم بالطريق، ثم صحة الإرادة، ثم صحة العمل. والحذرَ كلَّ الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يَعثُروا على موضع غرضك؛ فإنها الآفة العظمى. فصل كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات: أحدها: التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فضلةً، وهي حظُّ الشيطان ومدخله إلى القلب. وطريق الاحتراز [منه الاحتراز] من إعطاء النفس تمامَ مطلوبها من غذاءٍ أو نوم أو لذةٍ أو راحة؛ فمتى أغلقتَ هذا البابَ حصلَ الأمان من دخول العدو منه. الثانية: الغفلة؛ فإن الذاكر في حصن الذكر؛ فمتى غَفَل فتح باب الحصن، فولجَه العدوُّ، فيعسُر عليه أو يصعبُ إخراجه. الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء.

(1/277)


فائدة طالبُ النفوذ إلى الله والدار الاخرة -بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسًا في ذلك مُقتدىً به فيه- يحتاج أن يكون شجاعًا، مِقدامًا، حاكمًا على وهمه، غيرَ مقهور تحت سلطان تخيُّله، زاهدًا في كل ما سوى مطلوبه، عاشقًا لما توجه إليه، عارفًا بطريق الوصول إليه والطرق القواطع عنه، مِقدامَ الهمة، ثابت الجأش، لا يَثنيِه عن مطلوبه لومُ لائم ولا عذلُ عاذل، كثير السكون، دائم الفكر، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائمًا بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تَستفِزُّه المعارضات، شعارُه الصبر، وراحته التعب، محبًّا لمكارم الأخلاق، حافظًا لوقته، لا يخالط الناس إلا على حذر كالطائر الذي يلتقط الحبَّ بينهم، قائمًا على نفسه بالرغبة والرهبة، طامعًا في نتائج الاختصاص على بني جنسه، غيرَ مرسلٍ شيئًا من حواسِّه عبثًا، ولا مُسرِّحًا خواطره في مراتب الكون. ومِلاكُ ذلك هجر العوائد وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب. وعند العوام أن لزوم الأدب مع الحجاب خير من اطِّراح الأدب مع الكشف. فائدة من الذاكرين من يبتدئُ بذكرِ اللسان، وإن كان على غفلة، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه، فيتواطأ على الذكر. ومنهم من لا يرى ذلك، ولا يبتدئُ على غفلةٍ، بل يسكن حتى يحضر قلبه، فيشرع في الذكر بقلبه؛ فإذا قوي استتبع لسانه، فتواطأ جميعًا.

(1/278)


فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه. والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه، من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولًا حتى يحس بظهور الناطق فيه؛ فإذا أحس بذلك نطق قلبه، ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرًا. وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده. فصل أنفع الناس لك رجل مكَّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تَصنع إليه معروفًا؛ فإنه نِعمَ العونُ لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر. وأضر الناس عليك من مكَّن نفسَه منك حتى تعصي الله فيه؛ فإنه عونٌ لك على مضرتك ونقصك. فصل اللذَّةُ المحرمة ممزوجةٌ بالقبح حال تناولها، مُثمِرة للألم بعد انقضائها؛ فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكِّرْ في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها؛ ثم وازِنْ بين الأمرين، وانظر ما بينهما من التفاوت. والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن، مثمرٌ للذَّة والراحة؛ فإذا ثقلتْ على النفس ففكِّرْ في انقطاع تعبها وبقاء حسنها ولذَّتها وسرورها، ووازِنْ بين الأمرين، وآثرِ الراجحَ على المرجوح.

(1/279)


فإن تألَّمتَ بالسبب فانظرْ إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذَّة يَهُنْ عليك مُقاساته. وإن تألمتَ بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه، ووازِنْ بين الألمين. وخاصيةُ العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما، واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما. وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها، وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها؛ فمن وَفَرَ قسمُه من العقل والعلِم اختار الأفضل وآثرَه، ومن نقصَ حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافَه، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدًا منهما إلا بمشقة؛ فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما. فصل لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمرٌ، وله عليه فيه نهيٌ، وله فيه نعمةٌ، وله به منفعةٌ ولذةٌ. فإن قام لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيَه فقد أدَّى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به. وإن عطَّل أمر الله ونهيه فيه عطَّلهُ الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته. وله عليه في كل وقت من أوقاته عبوديةٌ تُقدِّمه إليه وتُقرِّبه منه، فإن شَغَل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه. وإن شغله بهوى أو راحة وبطالةٍ تأخر. فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر، ولا وقوفَ في الطريق البتة. قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 37].

(1/280)


فصل أقام الله سبحانه هذا الخلقَ بين الأمر والنهي والعطاء والمنع؛ فافترقوا فرقتين: فرقة قابلتْ أمرَه بالترك، ونهيَه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط. وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك. وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك؛ فإن أمرتَنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتَنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتَنا حمدناك، وإن منعتَنا تضرَّعنا إليك وذكرناك. فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا؛ فإذا مزَّقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين؛ كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة؛ فإذا مزَّقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمتْ جيوشُ الدُّنيا والآخرة في قلبك، وأردتَ أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر: مع من تَميل منهما ومع من تُقاتل، إذْ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين؛ فأنت مع أحدهما لا محالةَ. فالفريق الأول استغشُّوا الهوى فخالفوهُ، واستنصحوا العقلَ فشاوروه، وفرَّغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له، وجوارحهم للعمل بما أُمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يَعمُر منازلَهم في الآخرة، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها، فعجَّل لهم

(1/281)


سبحانه من نعيم الجنة وروحها أن آنسَهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوَّقهم إلى لقائه، ونعَّمهم بقربه، وفرَّغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها والغمّ من خوف ذهابها، فاستلانوا ما استوعرَه المُترَفون، وأَنِسوا بما استوحش منه الجاهلون؛ صَحِبُوا الدنيا بأبدانهم، والملأَ الأعلى بأرواحهم. فصل التوحيد ألطفُ شيءٍ وأنزهه وأنظفه وأصفاه؛ فأدنى شيءٍ يَخدِشُه ويُدنِّسه ويُؤثر فيه؛ فهو كأبيض ثوبٍ يكون يُؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا أدنى شيءٍ يُؤثر فيها، ولهذا تُشوِّشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيَّة؛ فإن بادر صاحبه وقلعَ ذلك الأثرَ بضده، وإلَّا استحكمَ وصار طبعًا يتعسَّر عليه قلعُهُ. وهذه الآثار والطبوع التي تحصُل فيه: منها ما يكون سريعَ الحصول سريعَ الزوال، ومنها ما يكون سريعَ الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال. ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرًا عظيمًا، يَنغمِرُ فيه كثيرٌ من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وَسَخ، فيغترُّ به صاحبُ التوحيد الذي هو دونه، فيَخلِط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده، فيظهر من تأثيره ما لم يظهر في التوحيد الكثير. وأيضًا فإن المحل الصافي جدًّا يظهر لصاحبه مما يُدنَّسه ما لا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا؛

(1/282)


فإنه لا يشعُر به. وأيضًا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قويةً جدًّا أحالتْ الموادَّ الرديئة وقهرتْها؛ بخلاف القوة الضعيفة. وأيضًا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات يُسامَحُ بما لا يُسامَح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل تلك المحاسن؛ كما قيل: وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيعِ (1) وأيضًا فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يُحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه؛ كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يُحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه؛ كما يُشاهَد ذلك في الأخلاط الغالبة وإحالتها لصالح الأغذية إلى طبعها. فائدة ترك الشهوات لله وإن أنجى من عذاب الله وأوجبَ الفوزَ برحمته؛ فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به لا تَحصُل في قلبٍ فيه غيره وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم؛ فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلبٍ فيه سواه وهمتُه متعلقةٌ بغيره، وإنما يودِع ذخائرَه في قلب يرى الفقر غنى من الله والغنى فقرًا دون الله، والعزَّ ذلًّا دونه والذُلَّ عزًا معه، والنعيمَ عذابًا دونه والعذاب نعيمًا معه. __________ (1) البيت بلا نسبة في الأمالي الشجرية (ص 151 ط. الرسالة) ونفح الطيب (6/ 25) وغيرهما.

(1/283)


وبالجملة فلا يرى الحياةَ إلا به ومعه، والموت والألم والهمَّ والغمَّ والحزن إذا لم يكن معه؛ فهذا له جنتان: جنةٌ في الدنيا معجَّلةٌ، وجنةٌ يوم القيامة. فائدة الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يُفارِقه. وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته، وذِكْره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله. ومن لم يَعكُف قلبه على الله وحده عكَف على التماثيل المتنوعة؛ كما قال إمام الحنفاء لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52]. فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف؛ فكان حظُّ قومه العكوفَ على التماثيل، وكان حظُّه العكوفَ على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال وهي الصور الممثلة. فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوفٌ منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإراداتهم على تماثيلهم. فإذا كان في القلب تماثيلُ قد ملكتْه واستعبدتْه بحيث يكون عاكفًا عليها؛ فهو نظير عكوف [عبَّاد] الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم-

(1/284)


عبدًا لها ودعا عليه بالتَّعَس والنكس، فقال: "تَعِسَ عبدُ الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ وانتكس، وإذا شِيْكَ فلا انتقش" (1). الناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم، وكلُّ مسافر فهو ظاعنٌ إلى مقصده ونازلٌ على من يُسَرُّ بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعنٌ إلى الله في حال سفره ونازلٌ عليه عند القدوم عليه؛ فهذه همته في سفره وفي انقضائه. {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. وقالت امرأةُ فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]؛ فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة؛ فإن الجار قبل الدار. من كلام الشيخ علي (2) قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم: • لا تُبدِ فاقةً إلى غيري فأضاعفَها عليك، مكافأةً لخروجك عن حدك في عبوديتك. • ابتليتُك بالفقر لتصير ذهبًا خالصًا؛ فلا تَزِيْفَنَّ بعد السبك. • حكمتُ لك بالفقر ولنفسي بالغنى؛ فإن وصلتَها بي وصلتُك __________ (1) أخرجه البخاري (2886، 2887) عن أبي هريرة. (2) لم أعرف من هو.

(1/285)


بالغنى، وإن وصلتَها بغيري حسمتُ عنك موادَّ معونتي طردًا لك عن بابي. • لا تركَنْ إلى شيءٍ دوننا؛ فإنه وبالٌ عليك وقاتلٌ لك: إن ركنتَ إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى المعرفة نكَّرناها عليك، وإن ركنتَ إلى الوجد استدرجناك فيه، وإن ركنتَ إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنتَ إلى المخلوقين وكَلْناك إليهم، ارْضَنا لك ربًّا نرضاك لنا عبدًا. فائدة الشهقةُ التي تَعرِض عند سماع القرآن أو غيره لها أسبابٌ: أحدُها: أن يَلُوح له عند السماع درجةٌ ليست له، فيرتاح إليها، فتَحدُث له الشهقةُ؛ فهذه شهقة شوق. وثانيها: أن يَلُوح له ذنبٌ ارتكبه، فيشهَق خوفًا وحزنًا على نفسه، وهذه شهقة خشية. وثالثها: أن يلوح له نقصٌ فيه لا يَقدِرُ على دفعه عنه، فيُحدِث له ذلك حزنًا، فيشهَق شهقة حزن. ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودةً عنه، فيُحدِث ذلك شهقَة أسفٍ وحزنٍ. وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبُهُ، واشتغل بغيره، فذكَّره السماعُ محبوبَه، فلاح له جماله، ورأى الباب مفتوحًا والطريق ظاهرةً، فشهق فرحًا وسرورًا بما لاح له. وبكل حالٍ فسبب الشهقة قوةُ الوارد وضعف المحل عن الاحتمال،

(1/286)


والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلًا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم؛ فإنه إذا أظهره ضعُفَ أثره وأوشك انقطاعه. هذا حكم الشهقة من الصادق؛ فإن الشاهق إما صادقٌ وإما سارقٌ وإما منافقٌ. قاعدة نافعة أصل الخير والشر من قبل التفكر؛ فإن الفكر مبدأُ الإرادة والطلب والزهد والترك والحب والبغض. وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها؛ فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار. ويليها أربعةٌ: فكرٌ في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها. فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأول: الفكر في آلاء الله ونعمه، وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما. وهذا الفكر يُثمِر لصاحبه المحبةَ والمعرفة؛ فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخسَّتها وفنائها؛ أثمرَ له ذلك الرغبةَ في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكَّر في قِصَر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجدَّ والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت. وهذه الأفكار تُعلِي همته، وتُحييها بعد موتها وسفولها، وتجعله في وادٍ والناس في وادٍ. وبإزاء هذه الأفكار الأفكارُ الرديئة التي تَجُول في قلوب أكثر هذا الخلق:

(1/287)


فالفكر فيما لم يُكلَّف الفكرَ فيه ولا أُعطِيَ الإحاطةَ به من فضول العلم الذي لا ينفع؛ كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيلَ للعقول إلى إدراكه. ومنها: الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضرُّ؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير. ومنها: الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يُعطِ الفكرُ فيها النفسَ كمالًا ولا شرفًا؛ كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي وأكثر علوم الفلاسفة، التي لو بلغ الإنسان غاياتها لم يكمُلْ بذلك ولم تَزْكُ نفسُه. ومنها: الفكر في الشهوات واللَّذَّات وطرق تحصيلها، وهذا وإن كان للنفس فيه لذَّةٌ، لكن لا عاقبة له، ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعافُ مسرته. ومنها: الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ كالفكر فيما إذا صار ملكًا أو وجدَ كنزًا أو ملك ضيعةً ماذا يصنع؟ وكيف يتصرف ويأخذ ويعطي وينتقم؟ ونحو ذلك من أفكار السفل. ومنها: الفكر في جزئيات أحوال الناس وماجرياتهم ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة. ومنها: الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوصَّل بها إلى أغراضه وهواه؛ مباحةً كانت أو محرمة. ومنها: الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء

(1/288)


والغزل والمراثي ونحوها؛ فإنه يَشْغَل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياتُه الدائمة. ومنها: الفكر في المقدَّرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجةٌ إليها البتَّةَ، وذلك موجودٌ في كل علم، حتى في علم الفقه والأصول والطب. فكل هذه الأفكار مضرتُها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شَغْلُها عن الفكر فيما هو أولى به وأعوَدُ عليه بالنفع عاجلًا وآجلًا. فصل • الطلب لِقاحُ الإيمان؛ فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العملَ الصالح. • وحسن الظن بالله لِقاح الافتقار والاضطرار إليه؛ فإذا اجتمعا أثمرا إجابةَ الدعاء. • والخشية لِقاح المحبة؛ فإذا اجتمعا أثمرا امتثالَ الأوامر واجتناب المناهي. • والصبر لِقاح اليقين؛ فإذا اجتمعا أورثا الإمامةَ في الدين؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. • وصحة الاقتداء بالرسول لِقاح الإخلاص؛ فإذا اجتمعا أثمرا قبولَ العمل والاعتداد به. • والعمل لِقاح العلم؛ فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة، وإن انفرد

(1/289)


أحدهما عن الآخر لم يُفِدْ شيئًا. • والحلم لِقاح العلم؛ فإذا اجتمعا حصلتْ سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع. • والعزيمة لِقاحُ البصيرة؛ فإذا اجتمعا نال صاحبهما خيرَ الدنيا والآخرة، وبلغتْ به همتُه من العلياء كلَّ مكان؛ فتخلُّف الكمالاتِ إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة. • وحسن القصد لِقاحٌ لصحة الذهن؛ فإذا فُقِدا فُقِد الخيرُ كلُّه، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات. • وصحة الرأي لِقاح الشجاعة؛ فإذا اجتمعا كان النصرُ والظفر، وإن فُقِدا فالخذلان والخيبة، وإن وُجد الرأي بلا شجاعة فالجبنُ والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأي؛ فالتهور والعطب. • والصبر لِقاح البصيرة؛ فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما؛ قال الحسن: إذا شئتَ أن ترى بصيرًا لا صبرَ له رأيتَه، وإذا شئت أن ترى صابرًا لا بصيرةَ له رأيتَه، فإذا رأيتَ صابرًا بصيرًا فذاك. • والنصيحة لِقاح العقل، فكلما قويتِ النصيحةُ قوي العقلُ واستنار. • والتذكُّر والتفكر كل منهما لِقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا الزهدَ في الدنيا والرغبة في الآخرة. • والتقوى لِقاح التوكل؛ فإذا اجتمعا استقام القلب. • ولِقاحُ أخذِ أُهبة الاستعداد للقاء قِصَرُ الأمل؛ فإذا اجتمعا فالخير

(1/290)


كله في اجتماعهما، والشر في فرقتهما. • ولِقاح الهمة العالية النية الصحيحة؛ فإذا اجتمعا بلغ العبدُ غايةَ المراد. قاعدة للعبد بين يدي الله موقفان: موقفٌ بين يديه في الصلاة، وموقفٌ بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يُوفِّه حقَّه شُدِّد عليه ذلك الموقف. قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيلًا طَويلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)} [الإنسان: 26 - 27]. قاعدة اللَّذةُ من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكلِّ حيٍّ؛ فلا تُذَمُّ من جهة كونها لذَّةً، وإنما تُذَمُّ ويكون تركها خيرًا من نيلها وأنفعَ إذا تضمنتْ فَواتَ لذَّةٍ أعظمَ منها وأكملَ، أو أعقَبتْ ألمًا حصوله أعظم من ألم فواتها؛ فها هنا يظهر الفرق بين العاقل الفَطِن والأحمق الجاهل؛ فمتى عرف العقلُ التفاوتَ بين اللَّذَّتين والألمين، وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر؛ هانَ عليه تركُ أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتمالُ أيسرِ الألمينِ لدفع أعلاهما. وإذا تقررتْ هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدومُ، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا. والمُعوَّل في ذلك على الإيمان واليقين؛ فإذا قوي اليقينُ وباشرَ القلب آثرَ الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتملَ الألمَ الأسهلَ

(1/291)


على الأصعب. والله المستعان. فائدة قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]: جمع في هذا الدعاء بين: حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره. ومتى وجدَ المبتلى هذا كُشِفتْ عنه بلواه. وقد جُرِّبَ أنه من قالها سبع مراتٍ -ولا سيما مع هذه المعرفة- كشفَ الله ضرَّه. فائدة قوله تعالى عن يوسف نبيه: إنه قال: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]: جمعتْ هذه الدعوةُ: الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجلّ غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء. فائدة قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] متضمنٌ لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيءٍ لا يُطلَب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلبٌ ممن ليس عنده ولا

(1/292)


يَقدِرُ عليه. وقوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} [النجم: 42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يُرَدْ لأجله ويتصلْ به فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه؛ فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوبٍ لا يُحَبُّ لأجله فمحبته عَناءٌ وعذابٌ، وكل عمل لا يُراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقيٌّ محجوبٌ عن سعادته وفلاحه. فاجتمع ما يُراد منه كله في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}، واجتمع ما يُراد له كله في قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}؛ فليس وراءه سبحانه غاية تُطلَب، وليس دونه غايةٌ إليها المنتهى. وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئنُّ ويَسكُن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يُحَبّ ويُراد فمرادٌ لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحدٌ إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين؛ كما يستحيل أن يكون ابتداءُ المخلوقات من اثنين. فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطلَ عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوجَ ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفِرَ بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبدَ الآباد. العبد دائمًا متقلبٌ بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل؛ فهو محتاجٌ -بل مضطرٌّ- إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل؛ فإن كمل

(1/293)


القيام بالأوامر ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا، وإن قام بصُوَرها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقلَّ نصيبُه من اللطف في الباطن. فإن قلت: وما اللطف الباطن؟ فهو ما يحصُلُ للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيَستخذِي بين يدي سيده ذليلًا له مستكينًا ناظرًا إليه بقلبه ساكنًا إليه بروحه وسِرِّه، وقد شَغَله مشاهدةُ لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيَّبه عن شهود ذلك معرفتُه بحسن اختياره له وأنه عبدٌ محضٌ يُجرِي عليه سيدُه أحكامَه رضي أو سخط؛ فإن رضي نال الرضى، وإن سخط فحظُّه السخط. فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة؛ يزيد بزيادتها، وينقص بنقصانها. فائدة جليلة لا يزال العبدُ منقطعًا عن الله حتى تتصل إرادته ومحبته بوجهه الأعلى. والمراد بهذا الاتصال: أن تُفضيَ المحبةُ إليه وتتعلق به وحده، فلا يَحجُبها شيءٌ دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فلا يَطمِس نورَها ظلمةُ التعطيل؛ كما لا يَطمِس نورَ المحبة ظلمةُ الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه؛ فيزول بين الذاكر والمذكور حجابُ الغفلة والتفاتُه في حال الذكر إلى غير مذكوره؛ فحينئذٍ: يتصلُ الذكر به.

(1/294)


ويتصل العمل بأوامره ونواهيه؛ فيفعل الطاعة لأنه أُمر بها وأحبّها، ويترك المناهي لكونه نُهي عنها وأبغضها؛ فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه. وحقيقته زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة. ويتصل التوكل والحب به؛ بحيث يصير واثقًا به سبحانه، مطمئنًا إليه، راضيًا بحسن تدبيره له، غير متّهم له في حال من الأحوال. ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه. ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده؛ فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يُسَرُّ به غايةَ السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور؛ فليس الفرح التامُّ والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرِحَ به وسُرَّ به، وإن حجَبَ عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحقُّ منه بأن يفرح به؛ فلا فرحةَ ولا سرورَ إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحبّ الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن؛ كما فسَّره الصحابة والتابعون. والمقصود أن من اتصلتْ له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوعٌ عن ربه، متصلٌ بحظه ونفسه، ملبَّسٌ عليه في معرفته وإرادته وسلوكه.

(1/295)


قاعدة جليلة فكَّرتُ في هذا الأمر؛ فإذا أصله: أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده؛ نِعم الطاعات ونِعم اللَّذَّات، فترغب إليه أن يُلهمك ذكرَها ويُوزِعَك شكرَها، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]، وقال: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} [الأعراف: 69]، وقال: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} [النحل: 114]، وكما أن تلك النعم منه ومن مجردِ فضله؛ فذِكرُها وشكرُها لا يُنال إلَّا بتوفيقه. والذنوب من خِذلانه وتخلِّيه عن عبده وتَخليتِه بينه وبين نفسه، وإن لم يكشفْ ذلك عن عبده فلا سبيلَ له إلى كشفه عن نفسه؛ فإذا هو مضطرٌّ إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه، وإذا وقعتْ بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها. فلا ينفكُّ العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاحَ له إلا بها: الشكر، وطلب العافية، والتوبة النصوح. ثم فكَّرتُ فإذا مدارُ ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد، بل بيد مقلِّب القلوب ومصرِّفها كيف يشاء؛ فإن وفَّق عبدَه أقبل بقلبه إليه وملأهُ رغبةً ورهبةً، وإن خذلَه تركه ونفسَه، ولم يأخذ بقلبه إليه، ولم يشأ له ذلك، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ثم فكَّرتُ: هل للتوفيق والخذلان سببٌ؟ أم هما بمجرد المشيئة لا سببَ لهما؟ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها؛ فهو سبحانه خالق

(1/296)


المحالِّ متفاوتةً في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت؛ فالجمادات لا تَقبل ما يقبله الحيوان، وكذلك النوعانِ كل نوعٍ منهما متفاوت في القبول؛ فالحيوان الناطق لا يقبل ما يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت، وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول، لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني. فإذا كان المحلُّ قابلًا للنعمة بحيث يعرفها، ويعرف قدرها وخطرها، ويشكر المنعمَ بها، ويُثني عليه بها، ويُعظِّمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنّة من غير أن يكون هو مستحقًّا لها ولا هي له ولا به، وإنما هي لله وحده وبه وحده؛ فوحده بنعمته إخلاصًا، وصرفها في محبته شكرًا، وشهدها من محض جوده منةً، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزًا وضعفًا وتفريطًا، وعلِم أنه إن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه، وإن سلبَه إياها فهو أهلٌ لذلك مستحق له، وكلما زاده من نعمه ازداد ذُلًّا له وانكسارًا وخضوعًا بين يديه وقيامًا بشكره وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها، كما سلبَ نعمتَه عمن لم يعرفها ولم يَرْعَها حقَّ رعايتها. فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سَلبَه إياها ولا بدَّ. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنْ بَينِنَا أَلَيسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]، وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبُّوها وأثنَوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره. وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ

(1/297)


رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ} [الأنعام: 124]. فصل وسببُ الخِذلان عدمُ صلاحيةِ المحلّ وأهليته وقبوله للنعمة؛ بحيث لو وافتْه النعم لقال: هذا لي! وإنما أوتيِتُه لأنِّي أهله ومستحقه! كما قال تعالى: {قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]؛ أي على علمٍ عَلِمَه اللهُ عندي أستحقُّ به ذلك وأستوجبه وأستأهله. قال الفراء (1) : أي على فضلٍ عندي، أي كنت أهله ومستحقًا له إذ أُعطِيتُه. وقال مقاتل: يقول على خيرٍ عَلِمَه الله عندي. وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمانَ بن داود فيما أوتي من الملك، ثم قرأ قوله تعالى: {قَال هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، ولم يقل: هذا من كرامتي! ثم ذكر قارون وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. يعني: أن سليمان رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به شكره، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه. وكذلك قوله سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50]؛ أي: أنا أهله وحقيقٌ به؛ فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه! والمؤمن يرى ذلك ملكًا لربه وفضلًا منه منَّ به على عبده من غير استحقاقٍ منه، بل صدقةً تصدق بها على عبده وله أن لا يتصدق بها؛ فلو منعه إياها؛ لم يكن قد منعه شيئًا هو له يستحقه عليه. __________ (1) في معاني القرآن (2/ 311).

(1/298)


فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أهلًا ومستحقًّا، فأعجبتْه نفسه، وطغَتْ بالنعمة، وعلَتْ بها، واستطالتْ على غيرها، فكان حظها منها الفرح والفخر؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 9 - 10]؛ فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء، وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء، واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشفَ عنه البلاءَ قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}، ولو أنه قال: أذهبَ الله السيئاتِ عني برحمته ومنِّه لما ذُمَّ على ذلك، بل كان محمودًا عليه، ولكنه غَفلَ عن المُنعِم بكشفِها ونسبَ الذهابَ إليها وفرح وافتخر. فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبدٍ فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخلِّيه عنه؛ فإن محلَّه لا تناسبه النعمة المطلقة التامة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22 - 23]، فأخبر سبحانه أن محلَّهم غير قابل لنعمته، ومع عدم القبول ففيهم مانعٌ آخر يمنع وصولها إليهم، وهو تولِّيهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها. ومما ينبغي أن يُعلَم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خُلِقَتْ عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها؛ فأسباب الخذلان منها وفيها، وأسباب التوفيق من جَعْلِ الله سبحانه لها قابلةً للنعمة؛ فأسبابُ التوفيق منه ومن فضلِه، وهو الخالق لهذه وهذه؛ كما خلق أجزاءَ الأرض؛ هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له، وخلق الشجرَ؛ هذه تَقبلُ الثمرة وهذه لا

(1/299)


تقبلها، وخلق النحلةَ قابلةً لأن يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه، والزُّنبور غير قابلٍ لذلك، وخلق الأرواحَ الطيبة قابلةً لذكره وشكره ومحبتِه وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواحَ الخبيثة غيرَ قابلةٍ لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم.

(1/300)