×
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ٢١ رمضان ١٤٣٨هـ، يتحدث فيها الشيخ عبد المحسن القاسم عن رمضان وأن العاقل من اغتنَمَ عشْرَه فعَمَرَها بالقُرَب والطاعاتِ، وحَفِظَ نهاره وأحيَا ليله؛ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (رواه مسلم)، و«إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ أَحْيَا النَّبِيُّ ﷺ اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ» (متفق عليه).

فَضَائِلُ العَشْرِ الأَوَاخِر([1])

إنَّ الحمدَ للَّه، نَحمدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهده اللَّهُ فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحَمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنَّجوى.

أيُّها المسلمون:

أسبَغَ اللَّهُ على عبادِه النِّعَم ووالَى عليهم في العطاء والمِنَن، هِباتُه لا حدَّ لها سَعةً وكثرةً؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لَا تَغِيضُهَا - أَيْ: لَا تَنْقُصُهَا - نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - أَيْ: دَائِمَةٌ بِالعَطَاءِ -» (متفق عليه).

يَجُود بالخيرات والمكارم؛ وسِعَ الخلقَ جُودُه، ودامت عليهم خيراتُه، واتَّصلت مِنَنُه وأرزاقُه، يبدَأُ العبادَ بالنَّوالِ قبل السُّؤال، ويُعطِيهم عليه أكثَر مِمَّا يخطُرُ بالخيال، وليس أحدٌ في السَّماء والأرض بمَعزِلٍ عن تلك الهِباتِ.

واللَّهُ أحقُّ مَن حُمِدَ وذُكِر على آلائِه بإخلاصِ المحبَّةِ والعبادةِ له، ونِسبةِ النِّعَم إليه، وتصرِيفِها في طاعتِه، ومِن هِباتِه سبحانه: عَفْوُه عمَّن يشاءُ مِن عبادِه؛ قال سبحانه: ﴿إنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾، فلم يزَل عفُوّاً عن ذنوبِ عبادِه بترك العقوبةِ على كثيرٍ مِنها؛ قال سبحانه: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، عفُوٌّ يُحِبُّ العفو، ويُحِبُّ مِنْ خَلْقِه السعْيَ في تحصيلِ أسبابِ عفوِه بالاستِغفار والتَّوبةِ والإنابةِ والأعمالِ الصَّالِحة.

وفي رمضانَ تتجلَّى هِباتُ اللَّهِ وعفوُه، فيه تتضاعَفُ الأعمالُ، وتُكفَّرُ الخطايا والآثام، شهرُ الصِّيامِ والقرآنِ والبِرِّ والإحسان، التِّجارةُ فيه مع اللَّه مُضاعَفة، قال ابنُ الجوزيِّ رحمه اللَّه: «ثَوَابُ العَمَلِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الوَقْتِ، كَمَا يَزِيدُ بِحُضُورِ القَلْبِ وَبِخُلُوصِ القَصْدِ».

وصلاةُ اللَّيل لها شأنٌ في رمضان، قال النَّبيُّ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (متفق عليه)، ومَنْ لَزِمَ القيامَ دخل الجنَّةَ بسلامٍ؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (رواه أحمد).

والصَّدقةُ بُرهانٌ على إيمانِ صاحبِها، وكلُّ امرِئٍ في ظلِّ صدقتِه يوم القيامة، والمُنفِقُ موعُودٌ بالعِزِّ والمغفِرة، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾، وأجرُها يعظُمُ في الأيَّام الفاضِلَة؛ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» (متفق عليه).

والعُمرةُ في رمضان ثوابُها عظيمٌ؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» (متفق عليه).

والدُّعاءُ هو العبادةُ ومُخُّها وبه جَلْبُ الرَّخاءِ ودفعُ البلاء، وللصَّائِمِ دعوةٌ لا تُردُّ؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي! لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (رواه الترمذي).

والقرآنُ حُجَّةٌ وشَفيعٌ وهُدىً وشِفاءٌ، وعَدَ اللَّه قارِئه بحُسنِ الجزاءِ والمَزيدِ مِنْ فضلِه؛ فقال سبحانه: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، أنزله اللَّه للتَّدبُّر، فيه العظات والعِبَر، كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي اللَّه عنه إذا صلَّى بالنَّاسِ إماماً لا يكادُ يُسمِعُ مَنْ خَلْفَه مِن خَشيَةِ اللَّه.

رمضانُ ميدانٌ فسيحٌ للمُتسابقِين فيه، زمنُ كثرة البِرِّ والخيراتِ وصِلَةِ الأرحام، فيه تصفو النُّفوسُ، وتزكو الأخلاقُ، ويَتقارَبُ الخَلقُ فيما بينهم، ويَعطِفُ بعضُهم على بعضٍ.

موسمٌ مبارَكٌ آذنَت أيامُه بالانصرام، والعاقل من اغتنَمَ عشْرَه فعَمَرَها بالقُرَب والطاعاتِ، وحَفِظَ نهاره وأحيَا ليله؛ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (رواه مسلم)، و«إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ أَحْيَا النَّبِيُّ ﷺ اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ» (متفق عليه).

وفي هذه اللَّيالِي المبارَكة المتبقِّية يُستحبُّ الإكثارُ مِن ذكرِ اللَّهِ وتلاوةِ القرآن، قال ابنُ رجبٍ رحمه اللَّه: «فَأَمَّا الأَوْقَاتُ المُفضَّلَةُ - كَشَهْرِ رَمَضَانَ، خُصُوصاً اللَّيَالِي الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ -، فَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآن اغْتِنَاماً لِلزَّمَانِ».

وحَرِيٌّ بالمسلم فيها الحِرصُ على أَنْفَعِ الدُّعاءِ وأَجْمَعِه؛ قالت عائشةُ رضي اللَّه عنها: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ، تُحِبُّ العَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي» (رواه أحمد).

والاعتكافُ مِن خير الأعمال لتكفِيرِ السَّيِّئات، ورفعِ الدَّرجات، «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» (متفق عليه)، قال الزُّهريُّ رحمه اللَّه: «عَجَباً لِلْمُسْلِمِينَ! تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ المَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ».

وينبَغِي للمُعتكِفِ أن ينقطِعَ للعبادةِ ويَشتغِلَ بمَقصُودِه الأعظَم، بعيداً عن فُضُولِ الخُلطةِ والكلامِ والمنامِ، ولا يخرُجُ مِن المسجِدِ إلَّا لحاجةٍ لا بُدَّ مِنها، قال ابن القيِّم رحمه اللَّه: «وَمَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ وَرُوحُهُ: عُكُوفُ القَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيَّتُهُ عَلَيْهِ، وَالخَلْوَةُ بِهِ، وَالِانْقِطَاعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالخَلْقِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبُّهُ وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ هُمُومِ القَلْبِ وَخَطَرَاتِهِ».

وفي العشر: يَتحرَّى المسلمون ليلةَ القَدر؛ قال النَّبيُّ ﷺ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» (متفق عليه)، ليلةٌ عظيمةٌ ذاتُ قَدْرٍ وشَرَفٍ، أنزلَ اللَّه فيها سُورةً؛ تعظيماً لقَدرِها، وتشريفاً لأمرِها، وإعلاءً لشأنِها، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، جعلها مُباركةً كثيرةَ الخَير؛ فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، ومِنْ بركاتِها: نُزولُ القرآنِ فيها؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، وفيها تتنزَّلُ الملائكةُ إلى الأرضِ؛ قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللَّه: «يَكْثُرُ تَنَزُّلُ المَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؛ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالمَلَائِكَةُ يَتَنزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ البَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ العِلْمِ بِصِدْقٍ؛ تَعْظِيماً لَهُ»، ليلةُ سَلامٍ وأمنٍ واطمئنانٍ؛ قال سبحانه: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ أي: سالِمةٌ مِن الشُّرور، إحياؤُها بالعبادة مغنَمٌ كبيرٌ؛ قال تعالى: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وفيها تُقدَّرُ مقادِيرُ الخلقِ لجميعِ العام؛ قال عز وجل: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا﴾.

وبعدُ، أيُّها المسلمون:

فالأعمالُ بالخواتِيمِ، والعِبرةُ بكمال النِّهاياتِ لا بنَقصِ البداياتِ، ومن أساء فيما مضى فَلْيَتُبْ فيما بقِي؛ فبابُ التَّوبةِ مفتُوحٌ، وعطاءُ اللَّه ممنُوحٌ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾.

أعوذ باللَّه من الشَّيطان الرَّجيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾.

بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …

الخطبة الثَّانية

الحمد للَّه على إحسانه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.

أيُّها المسلمون:

الدُّنيا ساعاتٌ وأيَّام، وهي من صحائِفِ الأعمار، وعُمُر الإنسانِ منها عملُه، والسعيدُ مَن خلَّدَها بأحسَنِ الأعمالِ، والفائِزُ مَن اغتنم بالخير لحظات وقتِه، ولم يُفرِّط في شيءٍ مِن دهرِه، والمَغْبونُ مَنِ انْفَرَطَ أمرُه وغفل قلبُه واتَّبع هواه، والمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الخير في رمضان، قال النَّبيُّ ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ» (رواه الترمذي).

ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …


([1]) أُلقيت يوم الجمعة، الحادي والعشرين من شهر رمضان، سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبويِّ.