×
خطبة الإستسقاء بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ٢٩ ربيع الأول ١٤٤٣هـ، وفيها الشيخ يسأل الله ان ينزل المطر ويوضح أن المعاصي تسبب الجدب وأن الاستغفار والتوبة من اسباب الرزق.


إنَّ الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعد:

فاتَّقوا اللَّه - عباد اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السَّرَّاء والضَّرَّاء.

أيُّها المسلمون:

الخلق فقراءُ إلى اللَّه، لا غنى لهم عنه في جميع أحوالهم، يلجئون إليه في الشِّدَّة والرَّخاء، وهو سبحانه واسع حميد، يُعطي من سأله بسخاءٍ مديد، يداه مبسوطتان بالإنفاق، سحَّاءُ اللَّيل والنَّهار، ويكشف كلَّ كربٍ شديد، نجَّا ذا النُّونِ من لُجَجِ البحار وظَلْماءِ القِفار.

مرجوٌّ للعطاء والإحسان؛ سخَّر مع سليمانَ عليه السلام جنوداً من الجنِّ والإنس والطَّير فهم يوزعون، لا راحمَ ولا واسع للعبيد سواه؛ رَحِم أيُّوبَ عليه السلام فكَشف عنه الضُّرَّ وأكرمه بِجَرَادٍ من ذهب، لا مَلْجَأَ ولا مفرَّ منه إلَّا إليه؛ استغاث به نبيُّنا صلى اللَّه عليه وسلم في بدرٍ فأغاثه بماءٍ وأنزل جنوداً لم يَرَوها، وهو فارجُ الكربات ومغيثُ اللَّهفات؛ أنزل على نبيِّنا صلى اللَّه عليه وسلم أَمْناً بعد خوفٍ في الغار، وهو العالِمُ بالظَّواهر والنِّيَّات، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن النَّاس.

مستوٍ على عرشه، كبيرٌ كَوَّن الأكوان ودبَّر الأزمان، وأغشى اللَّيل على النَّهار، مَلِكٌ عظيمٌ يقول للشَّيء: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾، صمدٌ قهَّار، إذا تكلَّم بالوحي أخذت السمواتِ منه رعدةٌ ورجفةٌ شديدة فَرَقاً من الواحد الأحد.

يحبُّ الأوَّاب، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، ويتوب على من تاب؛ فتاب على آدم بعد النِّسيان.

قائمٌ بأرزاق جميع المخلوقات؛ فرَزَقَ الطُّيورَ في علوِّ أَوْكَارها، والحيتانَ في بحارها، وأرزاقه دارَّةٌ من السَّماء والأرض على عباده، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾، وأغدق عليهم النَّعم والآلاء، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، وإذا لَجَأَ العبادُ إليه وشكروه؛ منحهم مزيداً ممَّا نالوه، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

قويٌّ متينٌ، قال للسَّموات وللأرض: ﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، لا يُعْجِزه إنزال القَطْر من السَّماء، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ولكن العباد بخطاياهم يَمْنَعون رزقَ اللَّهِ إليهم، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

وما يُصاب به العباد من القَحْط وقِلَّةِ الأرزاق، إنَّما هو ببعض ذنوبٍ وخطايَا اقترفوها، قال جل وعلا: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، والبُعْدُ عن الاستقامة يَمْنع القَطْر من السَّماء، قال جلَّ شأنه: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾، والذي يفوت بارتكاب المعاصي من خَيْرَيِ الدُّنيا والآخرة أضعافُ ما يحصل من السُّرور واللَّذَّة بها، قال سبحانه: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، والألم فيمن أسخط ربَّه ومولاه بتدنيس نفسه بالذُّنوب والآثام؛ فمَنَع الرِّزق عن نفسه وعن غيره، ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾.

والمعاصي والذُّنوب مُهْلِكةٌ للأوطان والشُّعوب، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ أي: قلَّةُ الأرزاق ﴿فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾، وهي جالبةٌ للشُّرور والمصائب، بها تزول النِّعم وتَحِلُّ النِّقم، ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾، وبسببها تتوالى المِحَن، وتتداعى الفتن ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.

وبالمعصية تتعسَّر الأمورُ على العاصي، وتُمْحَق بركةُ عُمُره، ويعودُ حامدُه من النَّاس ذامّاً له، وقد توهَّم بعض النَّاس في أمر الذنب إذْ لم يروا تأثيرَه في الحال، وقد يتأخَّرُ تأثيرُه فَيَنسوا أنَّه من الذَّنب، ولم يَعْلَم أنَّ عقوبةَ الذَّنب تَحِلُّ ولو بعد حين، قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

ومن عَمِل سوءاً؛ جُزي به، لُعن إبليس وأُهبط من منزل العزِّ بترك سَجدة واحدة، وأُخرج آدمُ من الجنَّة بأَكْلةٍ تناولها، ودخلت امرأةٌ النَّارَ في هِرَّة حبستها، وبينما رجلٌ يجرُّ إزاره إذ خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة.

وهوانُ الذَّنب على العاصي من علامة الهلاك، وإذا صَغُر الذَّنب في عين العبد؛ عَظُم عند اللَّه، وصغائر الذُّنوب إذا اجتمعت على الرَّجل أهلكته، قال أنس رضي اللَّه عنه: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ» (رواه البخاري).

والذَّنْبُ على الذَّنْبِ يُعْمِي، والمُجَاهَرَةُ به مِنْ أعظمِ الأوزار؛ قال عليه الصَّلاة والسلام: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ» (متفق عليه).

والذَّنب لا يقتصر على ارتكاب المناهي فحسب؛ بل إنَّ التَّقصير في أداء الواجب من جملةِ المآثم، ومن لم يتقدمْ بالطَّاعة فقد تأخَّرَ بالتَّقصير، وَمِنْ أعظم الاغترارِ: التَّمادي في الذُّنوب مع رجاءِ العفوِ من غير ندامة.

وربُّنا سبحانه الرَّؤوف اللَّطيف الحليم، إذا أخطأ العبادُ أنذرهم، فيمنع عنهم القطرَ؛ ليلجؤوا إليه بالاستغفار والإنابة، وإذا كَثُر الاستغفار وصدر عن قلوب مطمئنَّةٍ؛ دفع اللَّه عنها ضروباً من النَّقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن، قال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وأنزل عليهم الخير والرَّحمات، ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

وبالاستغفار تُنال السَّعادة ويُعطى كلُّ ذي فضلٍ فضلَه، ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾، وبالاستغفار يَنْهَمِر المطر من السَّماء فَيَنْعَم الخلق بالقَطْر، ويستبشرون بالزُّروع والأبناء والعيون، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾.

ومعَ الاستغفارِ لَازِمُوا التَّوبة؛ فلا تَظْلِمُوا خَلْقاً، ولا تُمزِّقوا بالغيبة عِرْضاً، وتَسَامَحُوا وتَرَاحَمُوا، ولا تَشَاحَنُوا ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا تَقَاطَعُوا، واحْفَظُوا أموالَكُم مِنْ دَنَسِ المُحرَّماتِ والشُّبُهَات، وأَكثروا من الصَّدقةِ بِكَسْبِكم الحلالَ تُرْزقوا، وأْمُرُوا بالمعروف تُخْصَبُوا، وَانْهَوْا عن المُنْكَر تُنْصَرُوا، وَاسْعَوْا إلى الْتِمَاسِ هِبَاتِ الوهَّاب، فربُّنا كريمٌ ودودٌ، مَنْ لَجَأَ إليه أَعْطَاه، ومَنْ قَرُبَ منه أَدْنَاه، ومَنْ سَأَلَهُ أَرْضَاه

وما ضاق على العباد أمرٌ ولَجَؤُوا إليه؛ إلَّا رَزَقَهُم بغير حسابٍ، ولا عَظُم عليهم خَطْبٌ إلَّا جَعلَ لهم مَعَهُ فَرَجاً قريباً، وأبوابُ فضْلِه وَاسِعةٌ: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾، جَعل مع الاستغفار أرزاقاً، ومع الدُّعاءِ عطاءً، ومع الاستكانة سخاءً، فتوجَّهوا إلى اللَّه مُسْتَغْفِرِين رَاغِبِين، مُؤمِّلين دَاعِين، مُتَوَكِّلين رَاجِين، مُنِيبِين تَائِبين؛ تَنَالُوا العَطَايَا من الكريم.

فاللَّهمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إِنَّك كُنتَ غفَّاراً؛ فأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَاراً.

اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الغَنيُّ وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ.

اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لا سُقْيَا عَذَابٍ ولا هَدْمٍ ولا غَرَقٍ ولا بَلَاءٍ، يَا أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَغِثْنا، اللَّهُمَّ أَغِثْنا، اللَّهُمَّ أَغِثْنا.

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِين﴾.

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾.

واقْلِبُوا أَرْدِيَتَكُم؛ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ نبيِّكم، تَفَاؤُلاً بتغيُّرِ حَالِكُم.


([1]) أُلقيت يوم الخميس، التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النبوي.