ما خافه النبي ﷺ على أمته
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
ما خافه النبي ﷺ على أمته([1])
إنَّ الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيُّها المسلمون:
امتن اللَّه على الخلق بِبِعثة نبيِّنا محمَّدٍ صلى اللَّه عليه وسلم، وجمع له في رسالته بين البِشارة والنِّذارة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}، وأعطاه اللَّه من نعوت الرِّسالة أكملها، قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، أي: يَعِزُّ عليه ما يشق عليكم، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ونفعكم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، قال الثَّعلبي رحمه اللَّه: «لَا يُهِمُّهُ إِلَّا شَأْنُكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا دُخُولُكُمُ الجَنَّةَ».
مشفِق على أُمَّتِه ناصحٌ لهم، ومِن كمال نُصحِه أن بيَّن لأُمَّته ما يخافُه عليهم من الاعتقادات ومشقة التَّشريع وتنفير النَّاس عن الإسلام، والدُّنيا وفتنتِها وما يكون في آخر الزَّمان وتغيُّر الحال، وعقوبات الدُّنيا والآخرة، وبيانُه ذلك لأُمَّتِه دليلٌ على أنَّها تُبتَلى بها، وتَظهرُ فيها.
فأشدُّ ما خافه النَّبي صلى اللَّه عليه وسلَّم على أُمَّتِه من الاعتقادات وقوعها في الرِّياء بتزيين العباداتِ للآخرين، فقال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرِكُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ» (رواه أحمد)، بل خافه عليهم أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدَّجال، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفَ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مَنَ المَسِيحِ الدَّجَالِ؟ قَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الخَفِيُّ؛ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» (رواه أحمد).
وإذا كان خوفُه عليهم من الشِّرك الأصغر شديداً فما الظنَّ بخوفه على أُمَّته من الشِّرك الأكبر، قال ابن القيِّم رحمه اللَّه: «التَّوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يَخْدِشه ويدنِّسه ويُؤَثِّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يُؤَثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها».
وشريعةُ نبيِّنا محمَّدٍ صلى اللَّه عليه وسلم خاتِمة الشرائع، اختصت بالكمال والسهولة واليُسر، قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وبهذا الأصل العظيم بُعث عليه الصَّلاة والسَّلام لهذه الأُمَّة، قال صلى اللَّه عليه وسلَّم: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» (رواه أحمد).
وقد خشي عليه الصَّلاة والسَّلام على أُمَّته ما يُضاد ذلك من العنت والمشقة بأن تُزاد عليهم الفرائض فيعجِزوا عنها، أو أن تَكثُرَ عليهم الأوامر فيُقصِّروا فيها، فراجع ربَّهُ ليلة الإسراء والمعراج لَمَّا فُرِضت الصَّلاة خمسين، وسأَله التَّخفيف لأُمَّته حتى صارت خمس صلوات (متفق عليه).
وكان يَدَعُ بعض الأعمال مخافة أن تفرض عليهم، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيَدَعُ العَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ» (متفق عليه).
وقد يعمل العمل الصالح فإذا تسابق الناس عليه وهو شاق لم يفعله معهم لئلا يُفْرَضَ عليهم؛ فقام ليالي من رمضان في المسجد فائْتمَّ الناس بصلاته فترك الخروج عليهم ثم قال: «خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ؛ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» (متفق عليه).
وكان لا يعمل أمامَ أصحابِه أعمالاً مخافة أن يُثَقِّل على أُمَّته، قالت عائشة رضي اللَّه عنها عن الركعتين بعد العصر «كَانَ يُصَلِّيهِمَا وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ» (رواه البخاري).
وكان يختار لنفسه ولأُمَّته ما كان أيسرَ وأسهلَ من غير أن يُقارب إثماً، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» (متفق عليه).
والإسلامُ يَتَأَلَّف النَّاس ويُرَغِّبَهم الدُّخول فيه لما فيه من سعادتهم في الدَّارين، واللَّه جعل أحد مصارفِ الزكاة: المؤلفةَ قلوبهم، قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلام يعطيهم من الفيء عطاء من لا يخشى الفقر، ويبذل أيضاً للمسلمين ما يُثَبِّتهم على الدين.
وخشي النَّبِيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام على أُمَّتِهِ ما يُنَفِّرها عن الإٍسلام، فترك إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم بعد فتح مكة، وقال: «مَخَافَةَ أَنْ تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ» (متفق عليه).
واللَّه زيَّن الدُّنيا وهيَّأها وجعلَها مَعْبراً للآخرة، وقد خاف النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم على أُمَّته أن تَفْتِنَهم الدُّنيا عن حقيقة الاستعداد لِمَا بعدها، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمْ مَا يُخرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ، قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ؟ قَالَ: زَهْرةُ الدُّنْيَا» (متفق عليه).
وخشي النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم على أُمَّته التَّنافُسَ على الدُّنيا أشدَّ من خشيته عليها من الفقر، فقال: «وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ؛ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (متفق عليه).
والحياةُ دار اختبارٍ وفتنة، يُبتَلى العباد كلُّهم فيها بأنواع الفتن، قال الرسول صلى اللَّه عليه وسلم: «تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُوداً عُوداً» (رواه مسلم)، قال النَّووي رحمه اللَّه: «أي: تُعاد وتُكَرَّر شيئاً بعد شيء».
وأخبر النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم أنَّ الفتن كثيرةٌ كمواقع القطر، ومنها كبارٌ، ومنها فتن تَمُوج كموج البحر، وقد خشي عليه الصَّلاة والسَّلام على أُمته الوقوع فيها والتَّأثر بها فقال: «إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ: شَهَوَاتِ الغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الفِتَنِ» (رواه أحمد)، وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يتعوذ باللَّه منها في صلاته، يقول: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ» (متفق عليه).
وأمرَ أصحابه بالتَّعَوُّذِ منها، قال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه: «أَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ منها وَمَا بَطَنَ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» (رواه مسلم).
والمسيحُ الدَّجال خَلْقُه كبيرٌ، قال عنه تميمٌ الدَّاري رضي اللَّه عنه لَمَّا رآه: «أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقاً»، ويوشِك أن يُؤذَن له في الخروج، «وَإِذَا خَرَجَ يَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُ فِي الجِبَالِ» (رواه مسلم)، وفتنة الدَّجال فتنةٌ كبيرة، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «مَا كَانَتْ فِتْنَةٌ وَلَا تَكُونُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَكْبَرَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَلَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ حَذَّرَهُ أُمَّتَهُ» (رواه أحمد).
وقد خشي عليه الصَّلاة والسَّلام على أُمَّته منه فقال: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ! إِنْ يَخْرُجُ وَأَنَا فِيْكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجُ وَلَسْتُ فِيْكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (رواه مسلم).
والعلماءُ الرَّبانيون ورثةُ الأنبياء، يَخشون ربهم ويُبَيِّنون للنَّاس دينَهم، وقد خاف النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم ممن يُزيِّن الباطل ويكتم الحق، قال عليه الصلاة والسَّلام: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الأَئِمَّةُ المُضِلُّونَ» (رواه أحمد).
وخوفُ الرَّسول صلى اللَّه عليه وسلم على من يُضِلُّ الأمَّةَ أشدُّ مِن خوفِه عليهم من الدَّجال، قال أبو ذرٍ رضي اللَّه عنه: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَغَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَى أُمَّتِي - قَالَهَا ثَلَاثًا -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا هَذَا الَّذِي غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَئِمَّةً مُضِلِّينَ» (رواه أحمد).
واللسانُ أعظم الجوارح خطراً وأقواها أثراً، وقد خاف النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم على أُمَّته غَوَائِلَ ألسنتِها، قال سفيان بن عبداللَّه الثَّقفي رضي اللَّه عنه: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا» (رواه الترمذي).
وكان النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم يَخاف على أُمَّته أن تُعَاجَلَ بالعقوبةِ أو تُفَاجَأَ بالعذاب، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ! كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}» (رواه مسلم).
وكما خاف النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم علينا عقوبات الدُّنيا خاف علينا عذاب الآخرة، قال عبداللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: «تَلَا النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ» (رواه مسلم).
ويومَ القيامة يُكْرمُه ربُّه بالمَقام المحمود؛ فيَأذنُ له في الشَّفاعة لَدَيه، فما يَلْبَثُ أَن يَخِرَّ ساجداً بين يَدَيْ ربِّه فيَفتحُ اللَّهُ عليه من محامِده والثَّناءِ عليه شيئاً لم يكن يُحسِنه قبل ذلك، ثم يقول له ربُّه: «يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي!» (متفق عليه).
ولَمَّا وَصَف صلى اللَّه عليه وسلَّم لأمته مَشْهَد العبور على الصِّراط في الآخرة، وتخطُّفَ الكلاليبِ للعباد تُلْقِيهِم في نار جهنَّم، وما يَعتَري العبادَ عندئذٍ من الهَلَع والفَزَع والخوفِ على أنفسهم؛ بيَّن أنَّه في ذلك الموقف العظيم خائفٌ على أُمَّته فقال: «وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ! سَلِّمْ سَلِّمْ!» (رواه مسلم).
وبعدُ، أيُّها المسلمون:
فاللَّه حذَّر من اقتراف الذنوب كلِّها، وأمَرَ باجتنابها، قال سبحانه: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}، وما خافه النَّبي ﷺ على أُمَّته أحقُّ بالحذر، وممَّا وصَّى به النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم أُمَّته التَّمسك بهديه والعضَّ على نصائحه بالنَّواجذ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (رواه أحمد).
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}
بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللَّه وإيَّاكم بما فيه من آيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}.
الخطبة الثانية
الحمد للَّهِ على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
لا تتم النِّعم إلَّا بالإيمان، قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، وكلُّ مسلم مأمور أن يدعو ربَّه بالهداية في كلِّ صلاة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، وعلى المؤمن أن يخاف من فَقْدِ هذه النِّعمة أو نُقصانها، فالزم هدي النَّبي صلى اللَّه عليه وسلَّم وسُنَّته، واحذر مما حذرك منه، وخف مما خاف عليك؛ لتأمن في الآخرة إذا خاف النَّاس، فطاعة اللَّه ورسوله جالبة للأمن، قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
ثُمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمَّد، وارض اللَّهمَّ عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون - أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ -، وعن سائر الصَّحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، ودمَّر أعداءَ الدِّين، واجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
اللَّهمَّ أنت اللَّه لا إله إلَّا أنت، أنت الغني ونحنُ الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
اللَّهمَّ وَفِّق إمامنا ووليَّ عهده لِمَا تحبه وترضى، وخذ بناصيتهما للبِّر والتقوى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين.
عبادَ اللَّه:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، فاذكروا اللَّه العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمِه يزدكم، ولذكر اللَّه أكبر، واللَّه يعلم ما تصنعون.
([1]) ألقاها الشيخ د. عَبْدُ المُحْسِنِ بْنِ مُحَمَّدٍ القَاسِمِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، يوم الجمعة، الثالث والعشرون من شهر جمادى الآخرة، سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في مسجد الرسول ﷺ.