الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي
التصنيفات
الوصف المفصل
الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العَصْرية داخِلة في الدّين الإسْلامي
تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الرسالة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله غير الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم تسليماً.
أما بعد، فهذه رسالة تتضمن البراهين القواطع الدالة على أن الدين الإسلامي، وعلومه وأعماله وتوجيهاته، جمعت كل خير ورحمة وهداية وصلاح وإصلاح مطلق لجميع الأحوال، وأن العلوم الكونية والفنون العصرية الصحيحة النافعة داخلة في ضمن علوم الدين وأعماله ليست منافية لها كما زعم الجاهلون والماديون، ولا جاءت الفنون العصرية النافعة بشيء جديد كما ظنه الجاهلون أو المتجاهلون، بل النافع منها للدين والدنيا وللجماعات والأفراد داخل في الدين، والدين قد دل عليه وأرشد الخلق إليه وإلى كل أمر نافع إلى أن تقوم الساعة، وبيان أن الفنون العصرية إذا لم تبنَ على الدين وتُربط به فضررها أكثر من نفعها وشرها أكبر من خيرها، ولكن هذا الأصل الكبير يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً.
والثاني: معرفة بالأمور الواقعة والحقائق الصحيحة التي يعرفها ويعترف بها العقلاء والمنصفون.
فمتى عرف الإنسان الأمرين عرف أنه لا يشذ عن علوم الدين الإسلامي وأعماله وفنونه شيء فيه خير وصلاح أصلاً، واستدل العارف بكل من الأمرين على الآخر، وعرف أن النقص بالإخلال بهما أو بأحدهما، ومتى عرفت الأصول الكلية ردت إليها الجزئيات، ومتى تكلم متكلم بشيء من الجزئيات قبل أن يعرف الكليَّات حصل الغلط الفاحش، وقامت الشبه التي لا تروج إلا على الجاهلين أو يروِّجها المعاندون.
* * *
فصل
قال الله تعالى: {{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}}.
فهذه الآية الكريمة صرَّحت بأن الله تعالى يقول الحق وهو الصدق واليقين في أخباره، والعدل الحكمة في أوامره ونواهيه، فكل ما أخبر به فهو حق وصدق ونافع للعباد في إصلاح عقائدهم وأخلاقهم ودينهم ودنياهم، وكل ما أمر به فهو برٌّ وخير وإحسان ونفع وبركة، وكل ما نهى عنه فهو شر وضرر وفساد لا فرق في هذا بين الأمور الدينية والدنيوية.
وشريعة الإسلام كلها تفصيل لهذا الأصل العظيم الذي ذكره الله في هذه الآية وغيرها، ثم قال: {{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}} وهو الطريق الموصل إلى الحق الذي يقوله ويحكم به، فتكفل الله لعباده أنه لا بد أن يبيِّن لهم هذا الحق النافع بالأدلة الواضحة العقلية والنقلية كما قال في الآية الأخرى: {{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}}، فإنه تعالى لما أخبر بتوحيده وتفرُّده بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وأمر بعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له، وإن قوله حق ووعده ووعيده حق ورسوله وكتابه حق، أخبر أنه لا بد أن يريهم من الآيات في أنفسهم وفي الآفاق ما يتبيَّن لهم أنه الحق وأن ما سواه باطل.
فالآيات الأفقية الكونية، والآيات النفسية، كلها تحقق هذه الأصول العظيمة ويعرف بها أن الله هو الحق، وقوله وكتابه ودينه حق.
فالآيات الأفقية مثل قوله تعالى: {{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *}} الآيات، وفي قوله تعالى: {{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *}}، وآيات كثيرة يخبر فيها عن أحوال الكون وإنه آيات وأدلة على وحدانية الله وصدقه وصدق رسله.
فالذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة بهذه الأوصاف البديعة، وعلى هذا النظام العجيب والخلق الكامل والإحكام والحسن، هو المتفرد بالربوبية والإلهية واسع الرحمة والحكمة. وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، ومن كان هذا شأنه فهو الذي يجب أن يُعبد وحده لا شريك له، ويشكر ويذكر، لما له من عميم الإحسان وسوابغ النعم.
فيها من عظيم الخلق دال على كمال قدرته وعظمة سلطانه، وما فيها من النظام البديع الحسن والخلق الكامل دال على شمول حكمته وحمده، وما فيها من التخصيصات المتنوعة دال على نفوذ مشيئته وإرادته، وما فيها من المنافع والمصالح للعباد التي لا يمكن إحصاؤها ولا تعداد أجناسها فضلاً عن أنواعها فضلاً عن أفرادها دليل على سعة رحمته وعموم فضله وكرمه وجوده وإحسانه.
وكل ذلك دليل على وجوب عبادته وإخلاص العمل له، وإن الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة قادر على أن يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
وأما الآيات النفسية فإن الله قال: {{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *}}، {{أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *}}، {{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *}} ونحوها من الآيات التي ينِّبه الله فيها الإنسان على التأمل والنظر في ابتداء خلقه وتطوره، وكيف تنقلت به الأحوال من النطفة إلى أن صار إنساناً كاملاً في بدنه وفي عقله، وكيف أحسن الله خلقه ونظَمه هذا النظام العجيب، فوضع فيه كل عضو يحتاج إليه في منافعه كلها، ووضع كل عضو في محله اللائق به الذي لا يحسن ولا يليق أن يوضع إلا في محله.
ثم ليتأمل في غذائه وما أودع الله فيه من قوة الشهوة للطعام والشراب وتوابعها، وما وضع فيه من الآلات المعينة على الأكل والشرب، وما أودع فيه من الحرارة العظيمة التي تطبخ الأطعمة الغليظة والخفيفة ثم تنفذها إلى جميع أجزاء البدن، فيأتي كل عضو وحاسة حظها ونصيبها من الغذاء الذي لولاه لتلاشى الإنسان وهلك.
وجعل الله لثِفل الأغذية وما لا ينفع في الغذاء مجاريه تندفع إليها وتخرج من البدن لئلا تبقى فيه فتضره أو تهلكه، ثم لينظر الإنسان ما وضع الله فيه من العقل الذي يتميز به عن الحيوانات كلها، وهدى الله فيه الإنسان إلى هدايات دينية ودنيوية لا يمكن عدها ولا إحصاؤها، وكما هداه بالعقل إلى الانقياد لعلوم الرسل وأديانهم، هداه به إلى تسخير المواد الكونية والمعادن والمخترَعات والصناعات التي لا تزال تتجدد كل وقت.
وقد أخبر تعالى أنه سخر لنا جميع ما في السموات والأرض ننتفع بآياتها ونستخرج منافعها وكنوزها ونشكره على ذلك التسخير والهداية والنعم التي لولا فضله وكرمه لم يحصل لنا منها شيء.
ومن آياته الأفقية النفسية إخباره تعالى أنه سخر للإنسان جميع ما في السموات والأرض ومعادن الكون وعناصره، ثم إخباره بأنه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد وآلات العلم وعلمه ما لم يكن يعلم، فحمل بهذا التسخير وبهذا التعليم من فنون العلم وفنون المخترعات الباهرة ما هو مشاهد معلوم ترقت به الصناعات، وتوسعت به المخترعات وتنوعت به المنافع، وتقاربت به الأقطار الشاسعة، وتخاطب به أهل المشارق والمغارب.
أما يدل ذلك دلالة قاطعة على كمال قدرة الله وصدق ما أخبر به من الغيوب التي كان المكذبون ينكرونها استبعاداً لها وقياساً منهم لقدرة من يقول للشيء كن فيكون على قدرة الآدمي الضعيف في علمه وفي قدرته وفي أحواله كلها.
فأراهم الله من آثار قدرته على يد هذا الآدمي ما دلهم على كمال قدرة خالقه ومعلمه، وعلى وحدانيته وصدق رسله. وهو لا يزال يريهم آياته شيئاً فشيئاً في الآفاق وفي أنفسهم، فانتفع بذلك الذين يريدون الحق واتباعه، وقامت الحجة البالغة على المعاندين المكابرين؟ وصار علمهم وبالاً عليهم إذ تكبَّروا به وامتلؤا غروراً باطلاً، فالله الذي خلق الإنسان وأعدَّه وأمدَّه بكل وسيلة يدرك بها أنواع العلوم النافعة والفنون المتنوعة الدينية والدنيوية، وربط هذا بهذا، فأمر بالقيام بالدين والاستعانة بهذه الوسائل على قيام الدين والدنيا، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}}، وأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *}} وقال تعالى: {{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}}.
فالمؤمنون تمَّت عليهم النعمة في الدنيا والآخرة واستعانوا بالطيبات وأضاف المنافع التي لا تحصى على عبادة الله وطاعته، وصار اشتغالهم بهذه المنافع التي يُتوسل بها إلى إصلاح الدين والدنيا عبادة من العبادات وقربة من القربات.
وأما من سواهم من الماديين والضالين الغافلين فإنهم عرفوا ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، واشتغلوا بالدنيا عن الدين ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وأنساهم مصالحها، فتمتعوا فيها تمتع الأنعام السائمة، فخسروا الدنيا والآخرة، إن ذلك هو الخسران المبين. فانقطعوا بالأسباب عن مسبِّبها، وانقطعت صلتهم بالله حين قام الكبر في قلوبهم كما قال الله عنهم: {{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *}}.
استعذ بالله من هذا الكبر الذي حال بين الإنسان وبين سعادته، {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *}}.
* * *
فصل
وإذا فكَّر العبد في قوته طعامه وشرابه كيف يدخل من مدخل واحد ويستقر في موضع واحد وهو المعدة، فيقيض الله له في ذلك الموضع من الحرارة والأسباب الأخر ما ينضجه ويتميز جوهره وصافيه ونافعه، فيتفرق في جميع أجزاء البدن لتغذيتها وتنميتها، وما يبقى من الثفل جعل له مخارج يخرج منها لئلا يبقى فيضر ويقتل.
ولا يزال هذا المعمل العظيم يعمل عمله بإذن الله ويؤدي مهماته، فهل هذا من مقتضى الطبيعة والمصادفة كما يقوله الماديون؟ أم هذا تقدير العزيز العليم الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سوَّاه ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد نبه الله على البعث بالتفكر في أطوار الإنسان وتنقلاته فقال: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ *}}.
فجعل الله تنقل الإنسان في هذه الأطوار وإحيائه الأرض بعد موتها دليلاً وبرهاناً على هذه الأمور الخمسة التي يتميز بها المؤمنون ويثبتونها تصديقاً لله ولرسله، واستدلالاً بهذه البراهين العقلية الحسية.
* * *
فصل
قال الله تعالى: {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *}}. وعدَّد الله على العباد في كتابه أصناف النعم وأجناسها وقال: {{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ *}}.
فالنعم الظاهرة والباطنة كلها من الله، الحاصلة بغير سبب منهم والحاصلة بالأسباب التي هداهم إليها ويسَّرها لهم، وهو الذي أوجدها وأوجد أسبابها ووسائلها وذلك شامل لنعم الدين ونعم الدنيا.
فعلوم الكون وفنونه كلها من نعمه وتيسيره، وهو الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم وأقدره على ما لم يقدر عليه لولا إقداره، فعليه أن يشكره على ذلك كله، ومن الشكر اعترافه أنها من الله ومن تيسيره والاستعانة بها على ما خُلِقَ له العبد.
* * *
فصل
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ *}}.
أخبر تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم في وقت تراكم فيه الجهل والظلم والظلمات وأنواع الشرور، ليخرج الناس به من هذه الظلمات المتراكمة فيعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، ويحرِّك عزائمهم ويثير هممهم وحواسهم إلى الخير وإلى الإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسوله، فتستنير معارفهم وتتضح طريقهم ويستقيم سلوكهم وتتم لهم بذلك الخيرات وتندفع عنهم الشرور والمضرات.
فمن تلقى هذا الكتاب الذي هو أكبر النعم بفهم وقبول وانقياد لأوامره وإرشاداته المتفرعة المصلحة للدين والدنيا فقد استقام على الصراط المستقيم، ومن أعرض عنه أو عارضه فهو الكافر الذي فسدت أحواله.
وويل للكافرين من عذب شديد، فإنه لم يكن كفرهم عن اشتباه وخفاء للحق أو اتباع طريق هدى، بل كفرهم صدر عن رغبة في الترف وحب الدنيا الذي صدَّهم عن الهدى والحق، فاستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، أولئك في ضلال بعيد. وأي ضلال أعظم من ضلال من آثر الهوى على الهدى والشقاء على السعادة والشر على الخير.
وقال تعالى: {{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ *}}، وذلك أن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الله ولا يعرف عبادته وتفاصيلها ولا تفاصيل يوم الآخر حتى يهتدي بنور الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله، ويكون له قلب يجعل الأفكار والتصورات إرادات وهمماً تحث صاحبها على اختيار النافع على الضار، والخير على الشر، والهدى على الضلال، والأخلاق الجميلة على ضدها.
فالقلب الحي إذا نظر في الوحي وتأمل ما جاء به الرسل من الحق في عقائده وأخلاقه وأعماله، لم يؤثر على ذلك شيئاً، فإنه يعلم أنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
فالتصورات والعلوم وحدها بلا قلب يتطلع إلى الخير والحق لا تكفي وحدها، بل قد يكون ضررها كثيراً لخلوِّها عن الإيمان، وخلوِّها من التوجيهات الصحيحة، ولتكبِّر أهلها بها كما قال الله عن أمثال هؤلاء: {{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}}.
فجحدهم لآيات الله واستكبارهم عنها واستهزاؤهم بها واحتقارهم لأهلها أوجب لهم فقد الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى حق عليهم العقاب، فانظر كيف كانت علومهم التي لم تبنَ على الإِيمان، وإنما هي علوم جافة منحرفة صارت سبباً لمعارضتهم الرسل وبقائهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب بالحق، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
* * *
فصل
وقال الله تعالى: {{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *}}، أي أعطى كل مخلوق خِلقته اللائقة به المناسبة لحاله، ثم بعد هذا الخلق هدى كل مخلوق لما خُلق له، وهذا يشمل أنواع الهدايات كلها.
فالحيوانات غير الإنسان، هدى كل صنف منها إلى ما يناسبها مما لا تتم حياتها الحيوانية إلا به، من جلب المنافع الخاصة ودفع المضار عن نفسها.
وأما الإنسان، فهداه الله هذه الهداية واختصه بهدايات أخر استكمل بها دينه ودنياه إذا استعملها كلها، وأما إذا استعملها في غير ما خلقت له فهذا قد استحب واختار العمى على الهدى كما قال تعالى: {{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}}.
وبهذه الهداية الخاصة بالإنسان سخر له جميع ما وصلت إليه قدرته من علوم الكون، وهذه الهداية تشمل الهداية المجملة والمفصلة في علوم الشرع وأعماله، وفي علوم الكون وأعماله. فعلَّمه العلوم الشرعية وهداه إلى معرفتها ثم إلى العمل بها، وعلمه علوم الكون ثم يسَّر له سبلها فسلكها، وكل أحد أعطاه من هذه الأمور ما هو اللائق به وما تقتضيه حكمته التي منها إن عرف الأمور النافعة وحرص عليها وعلى اتباع الحق واستعان الله عليها يسّرها عليه وفتح عليه منها بحسب حاله وقوته وكفاءته، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»، وهذا الحديث في الصحيح.
فقوله: احرص على ما ينفعك، دخلت فيه الأمور الدينية والدنيوية، فمن حرص عليها واجتهد في تحصيلها وسلك الطرق الموصلة إليها واستعان الله عليها تم له ما أراد، ومن لم يحرص على الأمور النافعة أو لم يستعن بالله في تحصيلها خاب وخسر.
وقد أخبر الله في عدة آيات أن القرآن هدى للناس وأنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويهدي للتي هي أقوم. فكل أمر فيه خير وصلاح ونفع فالقرآن يهدي إليه ويرشد العباد إليه.
* * *
فصل
وقال تعالى: {{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *}}.
فأخبر تعالى أنه أرسل الرسل لهداية الخلق وأيَّدهم بالآيات البينات المبينة للحقائق الدالة على صدقهم وحقيقة ما جاؤوا به، وأنزل معهم الكتاب الذي فيه الهدى والرحمة، وأنزل معهم أيضاً الميزان الذي هو العدل وما يعرف به العدل من أصول العدل وفروعه، وذلك ليقوم الناس بالقسط إذا عملوا بها في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وسلوكهم وجميع أمورهم.
فمتى عملوا بما أنزله الله من الكتاب والميزان صلحت منهم هذه الأمور واستقامت أحوالهم.
وأخبر تعالى أنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، فخص منافعه في أمور الحرب ثم عمَّمها في سائر الأمور. فالحديد أنزله الله لهذه المنافع الضرورية والكمالية الخاصة والعامة.
فجميع الأشياء إلا النادر منها تحتاج إلى الحديد وقد ساقها الله في سياق الامتنان على العباد بها، ومقتضى ذلك الأمر باستخراج هذه المنافع بكل وسيلة، وذلك يقتضي تعلم الفنون العسكرية والحربية وصناعة الأسلحة وتوابعها، والمراكب البحرية والبرية والهوائية وغير ذلك مما ينتفع به العباد في دينهم ودنياهم، كما قال تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}}.
وقال تعالى: {{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}}، فهذا يتناول الأمر بإعداد المستطاع من القوة العقلية والسياسية والمادية والمعنوية، وأخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة وبكل طريق، فجميع الصناعات الدقيقة والجليلة والمخترعات والأسلحة والتحصنات داخلة في هذا العموم.
فهذا الدين الإسلامي يحث على الرقي الصحيح والقوة من جميع الوجوه، عكس ما افتراه أعداؤه أنه مخدِّر مفتِّر، وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم عنه، ولكن المباهتات والمكابرات سهلت عليهم وظنوا من جهلهم أنها تروج على العقلاء وكل عاقل يعلم كذبهم وافتراءهم، وإنما يغتر بهم الجاهلون الضالون الذين لا يعرفون عن الإسلام لا قليلاً ولا كثيراً، بل يصوِّر لهم هؤلاء الأعداء الإسلام بصور شنيعة ليروِّجوا ما يقولونه من الباطل، وإلا فمن عرف الإسلام معرفة صحيحة عرف أنه لا يستقيم أمور البشر دينها ودنيويها إلا به، وإن تعاليمه الحكيمة أكبر برهان على أنه تنزيل من حكيم حميد، عالم بالغيب والشهادة، رحيم بعباده، حيث شرع لهم هذا الدين الذي قال فيه: {{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *}}. وقال: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}} وقال تعالى: {{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}}، وقال: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}}، وقال تعالى: {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}}.
وقال في وصف النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ووصف ما جاء به من الدين: {{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *}}.
فأخبر أنه لم يبق معروف عقلاً وشرعاً إلا أمر به، ولا منكر إلا نهى عنه، ولا طيب نافع إلا أحله، ولا خبيث ضار إلا نهى عنه، وأنه مع ذلك سهل ميسَّر قد وضعت عن أهله الآصار والأغلال وأنواع المشاق، وأن من التزمه وآمن به واتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح في دينه ودنياه.
والفلاح هو الفوز بكل مطلوب مرغوب، والنجاة من كل هلاك ومرهوب، لأنه يهدي للتي هي أقوم من الأخلاق والأعمال وصالح الأحوال.
وقال تعالى: {{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *}}.
فالحق هو ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أصول الدين وفروعه وفي أمور الدين والدنيا، والباطل ما خالفه وناقضه.
فكل ما خالف الدين الإسلامي فهو باطل لا يثبت للحق عند المقابلة، وإنما يروج إذا غاب الحق عنه عند الجهال بدين الإسلام، وإلا فمتى عرف الدين الإسلامي على ما هو عليه فإن أهل العقول الوافية والألباب الصافية لا يبتغون به بدلاً، ولا يختارون عليه سواه، لأنه يدعو إلى سعادة الدنيا والدين، فيجمع بين السعادتين.
فهؤلاء يقولون: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وهم الذين وصفهم الله بقوله: {{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}}، {{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}}.
وهم حين قاموا بالإيمان والعمل الصالح الذي يشمل شرائع الدين كلها أنجز لهم ما وعدهم من الاستخلاف في الأرض والتمكين والعز والكمال، وحين قصروا في ذلك عوقبوا بتسلط الأعداء. فكان هذا العز إذ قاموا بدينهم وهذا الذل الذي أصابهم حين ضيَّعوه أكبر برهان على أن الدين هو الحق وأنه مدار السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، وأن الشقاء والخذلان بتضييعه. وأما ما حصل لأعدائه من عزٍّ مؤقت على وجه الاستدراج فكما قال الله عنهم: {{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *}} {{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ *فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}}.
* * *
فصل
وقد أمر الله بالتفكر والتدبر في السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وحثَّ على استعمال الفكر في آياته المخلوقة وفي آياته القرآنية: {{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ}} {{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ}} {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *}}.
فقد أمر باستعمال العقل والفكر في آياته المخلوقة وفي آياته المتلوة، ليدرك العبد بعقله ما في المخلوقات من المنافع والآيات فيفقهها ويستعملها وينتفع بها بحسب أحوالها وأخبر أنها آيات لقوم يؤمنون ولقوم يعقلون ولقوم يوقنون.
فأهل الإيمان والعقل الصحيح واليقين الصادق تفكروا فيها وانتفعوا وارتفعوا في الدنيا والآخرة وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، فالذين لا ينتفعون بآيات الله إما رجل في غاية الجهل والضلال قد حُرم نعمة العقل والفهم، وإما رجل معاند مكابر قد غرَّه عقله وذكاؤه وتكبر عن آيات الله.
فالعاقل الموفق كلما تفكر في الكون وفهم أسراره وحكمه امتلأ قلبه إيماناً ويقيناً، وقال سبحان الله عن أن يخلق شيئاً عبثاً أو سدى، وسبحانه أن تكون أفعاله البديعة خالية من الحِكم والغايات الحميدة، وسبحان من خلق هذا الكون العجيب المحكم في نظامه واتساقه وارتباط بعضه ببعض ما بين أرضه وسمائه وإنسانه وحيوانه ونباته، فعرف أن خالقها ومدبِّرها رب واحد وإله واحد، فتوجه إليه بالإيمان والاعتراف والشكر والطاعة، وخضع لحكمته وعظمته وسلطانه ولم يكن ككثير ممن انقطعوا بالمخلوقات عن خالقها وبالمسببات عن مسبِّبها، ولم ينفذوا في علمهم من السبب إلى المسبب ومن الخلق إلى الخالق، كحالة أكبر الماديين القاصرين في علمهم وعقلهم.
والعاقل يحمد الله على العافية من هذا الداء العُضال الذي هلك فيه كثير من الخلق.
* * *
فصل
قال الله تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}}، وقال عن المؤمنين: {{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}}.
وهذا الأمر الذي أمر الله نبيه فيه بالمشاورة وأخبر عن المؤمنين أنهم يتشاورون فيه، يشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية المتعلقة بهم وبغيرهم، فدل ذلك أن الأمور التي توضحت مصلحتها ومنفعتها تتعين المبادرة إلى فعلها، وما وضحت مضرَّته يتعين البعد عنه، وما اشتبه منها يستعينون عليه بالمشاورة والمراودة حتى يتضح فيه الصواب ويتبين فيه النفع أو الضرر.
ولا يستريب عاقل أن هذا الأصل العظيم الذي أمر الله به ومدحه وهو المشاورة في الأمور هو السبيل الوحيد لصلاح الأحوال كلها، وأنه كما تدخل فيه العلوم والأعمال الشرعية فكذلك العلوم والأعمال المادية، وكما يدخل فيه أمور الأفراد يدخل فيه أمور الجماعات.
وفوائد المشاورة الضرورية والكمالية لا تعد ولا تحصى، وتوقف كثير من الأمور عليها أمر معلوم لكل أحد، وكل أمر من الأمور يشاوَر فيه أهله وأهل الخبرة به والمعرفة والقوة عليه.
وقال تعالى: {{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}}، {{وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ *}} {{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ}}.
والصراط المستقيم الذي يدعو إليه الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم ويدعو إليه هذا القرآن العظيم، هو الطريق المعتدل الذي يتضمن استقامة العقائد والأخلاق والأعمال المصلحة للدين والدنيا وللأفراد والأمة، وهي تتضمن العلوم والأعمال الشرعية والكونية، لأن جميعها لا تتم الاستقامة إلا بها، وأمور المادة وحدها لا تغني شيئاً وضررها أكبر من نفعها، ولهذا قال تعالى: {{وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ *}}.
* * *
فصل
إذا أردت أن تعرف ضلال الملحدين الماديين الذين يقولون وُجدت الموجودات والحوادث مصادفة بلا خالق خلقها ولا مبتدع أحدثها، وأنه مع ضلالهم المبين في حمق وجنون لا يخفى إلا على من ليس له عقل ولا سمع ولا بصر، إذا أردت أن تعرف ذلك منهم وتعرف أن الأمور كلها بخلق الله وتقديره وتدبيره، فانظر إلى هذا العالم العظيم شمسه وقمره وكواكبه وأرضه وما فيها من الحوادث، وتأملها ببصرك وبصيرتك تجدها كلها في غاية الحسن والإِحكام والنظام البديع الدال دلالة قاطعة أن خالقها واحد أحد، فرد صمد، حكيم عليم وأنه على كل شيء قدير، وأن العقول والألباب لتَحَار إذا توجهت إلى حكمته وبديع نظامه في بعض مخلوقاته فضلاً عن جميعها، فتبارك الذي أحسن كل شيء خلقه وقدره تقديراً.
انظر إلى الشمس والقمر ومقدار بعدهما من الأرض، وأنهما لو قربتا من الأرض زيادة عن هذا الواقع أو بعدتا كذلك لحدث الضرر الكثير في الأبدان والنباتات وجميع ما على وجه الأرض.
وانظر ما يترتب على سيرهما من تعاقب الفصول الأربعة المضطر إليها الإنسان والحيوان والنبت، وما فيها من منافع الضوء والإنضاج والمنافع الأخر.
وانظر إلى نفسك وما فيها من العبر العظيمة وكيف وضع كل عضو في موضعه اللائق به بحيث لو وضـع في غيره لتشوشت الخلقـة وفاتت
المنفعة، وكذلك جميع الحيوانات بهذا الوصف.
فهل يتصور أن يكون ذلك مصادفة بلا خالق خلقها ولا مبتدع ابتدعها.
إن تناسب عناصر الحياة، وأنها كلها بوزن ومقدار لو زاد أو نقص لاختلت الحياة لأكبر دليل على توحيد الباري وعلى إبطال مذهب الماديين، وإن الذي أوجد الحياة في الأشياء الحية وجعل من آثارها ما جعل، لهو على كل شيء قدير.
ومن نظر إلى الحيوانات الكبار والصغار وإلهام الله لها كل ما تحتاجه وتحيلها على مصالحها وما أعطاها من الفطنة والذكاء والأعمال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان عرف بذلك أن هذا لا يصدر إلا من إلهام من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
* * *
فصل
قال الله تعالى: {{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}}، {{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}}، {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}}.
والآيات في الثناء على الصلاح والإصلاح والأمر به كثيرة، وكذلك في النهي عن الفساد وذم المفسدين في الأرض بعد إصلاحها.
والإصلاح يشمل إصلاح الأمور الدينية والدنيوية. فكل أمر هو صلاح وإصلاح أو يتوسل به إلى ذلك فهو داخل في هذه النصوص، كما أن ضده الإفساد يدخل فيه النهي عن الشر والفساد والضرر في الدين والدنيا والأعمال كلها، ونظير ذلك قوله تعالى: {{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}}، وقال تعالى: { {{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}} {{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }}، وغير ذلك.
وحيث أطلق العلم شمل العلوم الشرعية، وهي الأصل وهي أشرف العلمين وشمل العلوم الكونية، فكل علم نافع في الدين أو في الدنيا فهو داخل في مدح العلم وأهله.
* * *
فصل
قال الله تعالى في بيان جلال أحكام الشرع وحسنها وعدالتها ورحمتها: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *}}.
وقال تعالى: {{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *}}، {{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}}.
وقال تعالى: {{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}}، وقوله: {{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيمًا}}.
وقال تعالى {{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *}}، إلى غير ذلك من الآيات المفصِّلة للأحكام الشرعية المأمور بها والمنهي عنها، وبيان أن الله ما أمر إلا بالأوامر النافعة المحتوية على كل خير وبركة ورحمة، ولا نهى إلا عن كل خبيث ضار ليس فيه نفع.
وتتبع أوامر الشريعة من الكتاب والسنة وتأمل حكمها وحسنها من أكبر البراهين على أن الدين الإسلامي هو الدين الحق الصحيح، حيث أمر بما هو حسن نافع طيب، ونهى عن ضده.
وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}}. قال في الاقتصاد: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}}، {{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *}}.
وقال في الجمع بين مصلحة الدين والدنيا: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}}، {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ}} الآية.
* * *
فصل
قال الله تعالى: {{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}} الآيات {{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ *}} {{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ *}}، وقال: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}}، {{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}}.
وقال: {{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ }} الآيات، {{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}}.
فهذه الآيات الكريمات وغيرها مما يشبهها إذا تأملها العبد، وعرف ما دلت عليه وما شملته من العلوم الشرعية والكونية وأعمالها، وعرف سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم الجارية مجرى التفسير لكتاب الله، وتأمل هديه في جميع شؤون حياته، عرف أنه لا يشذ عن دين الإسلام مصلحة من المصالح ومنفعة وخير وصلاح، وعرف أن القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأن الأمور إذا بنيت عليه تمت مصلحتها، وكل أمر فقده فسد ونقص والواقع يشهد ذلك.
وقد دلت أيضاً هذه الآيات وغيرها أن العقل الصحيح مؤيد للشرع وشاهد له، وأن من خالف الشرع فقد خالفه بغير عقل صحيح بل بجهل وضلال كما قال تعالى عن جميع من حكم عليهم بالخلود في النار ممن عاندوا الشرع: أنهم قالوا: {{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}}.
فأخبر أنهم فقدوا السمع وهو الأدلة النقلية، وفقدوا العقل، وكيف يكون له عقل من أشرك بالله الخالق الرازق المدبر للأمور كلها، المتفرد بكل كمال، أحداً من المخلوقين الناقصين من كل وجه.
بل كيف يكون عقل لمن حجه الباري الذي لو شكر الإنسان بكل شيء من المحسوسات والمعقولات لم يكن له أن يستجيز عقله الشك في الله، ولهذا قالت الرسل لأممهم: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }، وهذا استفهام إنكار متقرر عند كل من له مسة من عقل أن الشك في الله حمق وجنون ومكابرة ليس أكبر منها مكابرة.
وقول بعضهم: إذا تعارض العقل والشرع قدَّمنا العقل، هذا جهل عظيم بما دلت عليه عقول العقلاء، فإن العقل للشرع شاهد له، وهل يظن العاقل أن الشارع الحكيم يحكم بأحكام تخالف العقل الصحيح فضلاً عن أن يخبر بأخبار ينافيها الواقع؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولهذا ينبه الله العقول والفطر على المطالب العظيمة والتوحيد والنبوة والمعاد مثل قوله تعالى: {{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ *} {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}}.
فنبه العقول على أمر تعرفه ولا تنكره، وهو أن كل ما عبد من دونه ليس له ملك ولا شركة في الملك ولا مظاهرة ولا شفاعة. وإذا انتفت هذه الأمور الأربعة ثبت بطلان عبادة من سوى الله.
وكذلك قوله تعالى: {{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ *}}.
وكذلك قوله تعالى: {{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *}} كما نبه على تفرده بالخلق والربوبية والوحدانية بقوله: {{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ *}}.
وكما نبه على المعاد بالخلق الأول، وخلقه السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، وبإحياء الله الأرض بعد موتها، وكما برهن على صدق الرسول وما جاء به من القرآن بتحديه الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور مثله أو بسورة واحدة، واحتج على الخلق بحسن ما جاء به الرسول من أخباره الصادقة وأحكامه العادلة، وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، وإن كنت في ريب من ذلك فتتبع كل خبر أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم تجدها أعلى درجات الصدق وأنفع ما يكون للعباد، فإن تصديقها واعتقاد مخبرها من أكبر مغذيات الإيمان.
وتأمل ثانياً هل في خبر الله وخبر رسوله شيء يخالف الحس والواقع والعقل الصحيح، أم تجد هذه الأمور من أكبر الشواهد على تحقيق خبر الله ورسوله؟
وتأمل ثالثاً هل تجد في أحكام الله ورسوله الأوامر والنواهي شيئاً ينافي الحكمة والمصلحة للعباد، أم تجدها هي الغاية في كمال الخلق وعلو مراتبهم وتخلقهم بالأخلاق الجميلة وتنزههم من الأخلاق الرذيلة، فهي التي ترفع أهلها إلى أعلى مراتب الكمال ولا يكون النقص والضرر إلا بالإخلال بها أو ببعضها، وقد اعترف بذلك الأولياء وألقى شبهة روجها على الجاهلين بالإسلام.
وبالواقع متى فعل ذلك في بعض فروعه النادرة ظهر كذبه وافتراؤه وظهرت المصلحة للخلق والفوائد الكثيرة في القول الذي دلَّت عليه شريعة الإسلام، لأنها شريعة أحكم الحاكمين عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من مصالح عباده ما لا يعلمون، وشرع لهم ما يصلحهم في كل زمان ومكان في دينهم ودنياهم، وهو الحكيم العليم الرحيم.
* * *
فصل
ومن الأدلة العقلية النقلية الأمثال التي ضربها الله في القرآن، فإنها كلها تنبه العقول وتوضح البراهين العقلية على وحدانية الله وتوحيده، وعلى صدق رسوله وصحة ما جاء به.
فمن زعم أن شيئاً من الأدلة العقلية التي يسلمها العقلاء تخالف ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو مغتر وليأت بمثال واحد ولن يستطيع ذلك، نعم قد يأتي بنظريات وخيالات إذا حققت عقلاً وجدت جهليات وضلالاً مبيناً مثل قول كثير من الملحدين: إن العقوبات والحدود التي جاء بها دين الإسلام على الجرائم غير لائقة ولا مناسبة للقوانين، والأحسن عندهم أن يستبدل بها الحبس والغرامة المالية.
وهذا سفسطة ومكابرة للواقع، فإن القوانين التي يسنها الملحدون ومن قلدهم على الجرائم لم تغن شيئاً، وظهر نقصها وفشلها العظيم، وأنه لا أثر لها في ردع المجرمين، وأن السبب الوحيد لردع كل مجرم تطبيق الحدود الشرعية والعقوبات الدينية فهي الكفيلة بردع المجرمين، وهي عقوبات ونكال وموعظة لو طبقت في قطر من الأقطار لصلحت أحوالهم وقلَّ الجناة والمجرمون، وحصل الأمن على الدماء والأموال والأعراض، لأنها تشريع من حكيم بأحوال العباد وما يصلحهم ويقيهم الشرور.
ومثل قول كثير من الماديين الملحدين ومن قلَّدهم تقليداً أعمى: أنه يجب أن تكون الأفكار حرة، وأن لكل أحد حريته في الرأي الذي يرتئيه والاقتراح الذي يبديه على أي حال يكون.
وهذا قد ظهر أيضاً ضرره العظيم، وإن حرية الأفكار وإعطاء كل أحد حريته فيها قد تبين أنها السبب الوحيد في الفوضوية، وأنها أعظم من حرية الأفعال بل هي أصلها، فإنه متى أعطي الناس حريتهم فيها انحلت أخلاقهم وعقائدهم ومرجت أعمالهم وصارت البهائم أحسن حالاً منهم، وهذا هو الواقع في كل قطر أطلقت فيه الحريات ولم تقيد بالقيود الشرعية العقلية.
فإن النفوس أمَّارة بالسوء وطبيعتها الأشر والبطر والانطلاق خلف كل شهوة ضرَّت الأفراد والجماعات أو لم تضرهم.
فكما أن إطلاق الحريات في الأفعال مطلقاً لا يمكن البقاء معه، فلو ترك لكل أحد حريته وأن له أن يقتل أو يجرح أو يضرب أو يأخذ أموال الناس وأعراضهم لفسدت الأحوال واختلت الدنيا ووقع الهرج والمرج والضرر الكبير، فكذلك حريات الأفكار متى أطلقت أتت بالمنكرات والفظائع الشنيعة، وكان من ثمرتها الخبيثة الاستغناء عن الدين وعن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وإنكار ما جاءوا به وكذلك إنكار ما دلت عليه العقول الصحيحة من وجوب التقيد والتحرز عن الأمور الضارة في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
ومن جراء حريات الأفكار ما تسمعه في الصحف الإلحادية والصحف الخليعة من المقالات التي تقشعر منها قلوب العقلاء وقد ضرَّت ضرراً كبيراً في العقائد والأخلاق بل ضرت الحكومات والجماعات والأفراد.
أما شريعة الإسلام فإنها ولله الحمد جاءت بتنبيه العقول والحث على التفكر في الأمور التي ينفع التفكير فيها، كآيات الله المخلوقة وآياته المتلوة، وسلكت في تفكرها ونظرها المسالك الصحيحة، فأقرت العلوم النافعة والمعارف الصادقة والحث على كل خلق جميل والحذر عن كل خلق رذيل، وجعلت للأفكار حداً صحيحاً إن تجاوزته وقعت في المهالك وأنواع الضلالات.
فالأفكار إن لم تقيدها العقول الصحيحة والدين الصحيح الذي وضعه الله للعباد فيه صلاح شؤونهم وكمال أحوالهم، فإنها تحدث الفوضى والخطأ والضلال والشقاء والحمق والجنون.
وكذلك ما افتراه كثير من أعداء الإسلام والمنافقين، أن الإيمان بقضاء الله وقدرته يحدث الفتور والاستسلام وعدم الحركة، وهذا الزعم منهم افتراء ظاهر وكذب صريح، فإن الدين الإسلامي قد أمر بأصلين عظيمين لا تتم الأمور كلها إلا باجتماعهما:
أحدهما: الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور كلها والأسباب مربوطة بالقضاء والقدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الأصل الثاني: الأمر بالأعمال النافعة في الدين والدنيا والبعد عن الأسباب الضارة.
وكل واحد من الأصلين يمد الآخر، فالإيمان بالقضاء والقدر يمد العاملين وينشطهم ويوجب لهم اقتحام الأمور الصعبة اتكالاً على الله واستمداداً من حوله وقوته، ويزيل من قلوبهم خوف المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. والسعي والعمل هو من قضاء الله وقدره، فإنه أخبر أنه يوجد الأشياء بأسبابها ولهذا يجمع الله بين الأصلين في مواضع كثيرة من كتابه مثل قوله: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *}}، وقوله: {{كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *}{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}}، وقوله تعالى: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}}، فأمر بالأعمال ورغب فيها ووعد التيسير لليسرى لمن قام بالأسباب النافعة، والتيسير للعسرى لمن ترك الأسباب النافعة.
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»، وهذا شامل للحرص على الأمور النافعة في الدين والدنيا، فعلم أن دين الإسلام يكذب ما افتراه عليه أعداؤه من أنه مثبِّط مخدِّر، وإنما هو منشط وحاث على كل عمل نافع.
وإن الإيمان بالقدر من أعظم المنشطات لكل عمل نافع وأعظم المسهلات لها، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خُلق له. أما من كان من أهل السعادة فسيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة»، وتلى صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك هذه الآية. {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *}} الآيات.
ولهذا كان الدين الإسلامي يعتبر من يترك العمل اتكالاً على القدر أحمق مجنون، وينكر على المشركين الذين يحتجون على تركهم العمل بالأسباب النافعة بالقدر والمشيئة. ويخبر أن الاحتجاج بذلك دأب الأمم الطاغية الذين عوقبوا بأنواع المثُلات، فما من عمل نافع دقيق أو جليل إلا حثَّ الشارع عليه وعلى وسائله ومكملاته، ولا عمل ضار وكسل وتقاعد إلا حذر عنه غاية التحذير، ونصوص الشرع في هذا الأصل لا تعد ولا تحصى، ومن أنكر ذلك فهو مكابر مباهت وهو من أعظم الناس ضلالاً.
* * *
فصل
ومما روَّج به الملحدون باطلهم وعلومهم المخالفة للدين أنهم زخرفوا لها العبارات فسمَّوها تجديداً ورقياً وتقدماً، ونحوها من الأسماء التي يغرِّرون بها من لا بصيرة عنده، وتسميتهم للحق الذي جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم جموداً ورجعية وتخديراً ورجوعاً إلى الوراء، كما قال تعالى عن أسلافهم: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ *}}.
فأخبر تعالى إن هذا دأب أعداء الرسل في كل زمان، وأنهم يزخرفون العبارات لتحسين باطلهم وتقبيح ما جاءت به الرسل، وأنهم يتواصون بذلك ويفترون على الله الكذب، وأنه يغتر به من لا علم له ولا بصيرة ولا إيمان، فهؤلاء أخذوا كل ما افتراه الأولون من أسلافهم المكذبين، وزادوا زيادات كم اصطادوا بها ضعفاء البصائر، وليس ما جاء به الرسول جحوداً ولا رجوعاً إلى الوراء، وإنما هو الحق والنور والحياة والرشد الذي لا حياة للوجود ولا للقلوب ولا للدنيا إلا به، ولا نور إلا باقتباس نوره، وهو الموقظ للهمم والعزائم إلى كل خصلة حميدة، وإلى كل رقي صحيح وتقدم نافع.
فإن من أصول الشريعـة الكبرى وجـوب العمل بالأسباب النافعـة،
مقاصدها ووسائلها، والحث على كل عمل صالح ومصلحة، والاستعانة بالله في تحقيق ذلك مع بذل الجهد.
ومن المعلوم أن من تحقق بهذين الأصلين بذل المجهود في كل أمر نافع. والاستعانة بالمعبود، فإنه لا يزال في تقدم ورقيّ مطرد في إصلاح الدين وفي إصلاح الدنيا المعينة على الدين كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله».
وكم في كتاب الله وسنة الرسول من الأمر بكل عمل نافع والحث على التقدم الصحيح النافع للأفراد والجماعات والشعب والحكومات، وأما العلوم المادية الخالية من روح الدين ورحمته فإنها تقدم إلى الهلاك والدمار، وتقدم إلى هدم كل خلق جميل والاتصاف بكل خلق رذيل، والمشاهدة والحس أكبر شاهد على ذلك، فإنه محال أن يحصل التقدم الصحيح إلا إذا صحبه الدين الصحيح الملازم للحق، فإن الباطل وإن كان له نوع صولة فعاقبته الزوال والاضمحلال ومنتهاه الخسارة والهلاك.
فعند هؤلاء الملحدين أن التجديد والرقي هو الاندماج في معنوية الأجانب أعداء الأديان كلها، وزوال شخصياتهم في شخصيات أولئك والتشبه بهم في أخلاقهم ولباسهم وحركاتهم وعوائدهم الدقيقة والجليلة، فيرون الانسلاخ من دين الله الذي هو الحق ومن أخلاقه الجميلة هو التقدم والرقي، فاستبدلوا الأدنى الخسيس بالأعلى الكامل النفيس، وصاروا مع أعدائهم في ظاهرهم وباطنهم وكانوا بذلك أكبر سلاح للأعداء على دينهم وقومهم، ولهذا كانوا يقلدون الأجانب في الأمور الضارة، وأما ما عندهم من الأمور التي تنفع إذا انضم إليها الدين فهم أبعد الناس عنها كما هو معروف من أحوالهم.
* * *
فصل
ومما يروِّج به المنحرفون باطلهم لهجهم الشديد بالثقافة العصرية زاعمين أن الأخلاق لا تتهذب ولا تتعدل إلا بها، ويطنبون في مدحها ومدح المثقفين فيها وفي ذم من لم تكن له هذه الثقافة والسخرية منهم، وهم يفسرونها تفاسير متباينة منحرفة، كلٌّ يتكلم بما يخطر له، لأن العلوم إذا كانت فوضى والأخلاق تتبعها هكذا يكون أهلها لا يتفقون في آرائهم ونظرياتهم على شيء.
وكل أقوالهم ترجع إلى هبوط الدين والأخلاق، وإنما الثقافة الصحيحة والتهذيب النافع هو ما جاء به الدين الإسلامي الذي هذب العقائد عن الشرك والوثنيات، وهذب الأخلاق عن كل خلق رذيل، وهذَّب الأعمال والآداب حتى استقامت بها الأمور وصلحت بها الأحوال، وجمعت بين الدين والدنيا، وبين تقويم المعنويات النافعة والماديات المعينة عليها.
وذلك أن المشاهدة شاهدة بما ذكرنا، فإن العلوم العصرية والمخترعات مع توسعها وتبحُّرها حيث كانت خالية من الدين، عجزت كل العجز عن إصلاح الأخلاق واكتسابها للفضائل الصحيحة وعن ترفعها عن الرذائل، وإنما الذي يتكفل بهذا الإصلاح ويتولى هذا التهذيب النافع ويوجه إلى كل خير ويزجر عن كل شر هو دين الإسلام، فإنه مصلح للظاهر والباطن، لأمور الدين والدنيا، ومن نظر إلى أصوله وفروعه وإلى ما دعى إليه وحث، وإلى ما زجر عنه، وجد الأمر كما ذكرنا، بل فوق ذلك والله الموفق.
ولا تنظر إلى من تسمَّى بالإسلام ونبذ أخلاقه وراء ظهره وتحتج به على الإسلام والمسلمين في ضعته وجموده وهبوط أخلاقه.
فإن الإسلام بريء ممن هذه حاله، وإن تسمَّى بالإسلام فليس له منه إلا رسمه، فإن دين الإسلام دين الرفعة والرقي الصحيح، فتعاليمه وإرشاداته وأخلاقه وأعماله كلها في غاية الإحكام والانتظام في رسائلها ومقاصدها، وهي الغاية في توجيه المتصفين بها إلى كل خير وصلاح وإصلاح كما هو معروف من حال أول هذه الأمة القائمين به حقيقة، الذين ملأوا الدنيا عدلاً ورحمة وصلاحاً وإصلاحاً للأحوال كلها، وبهم يضرب المثل في الكمال الإنساني، فمن أراد أن يعرف آثار الدين فلينظر إلى أمثال هؤلاء، وأما من أراد المكابرة والتغرير فله نظر آخر.
* * *
فصل
يقول كثير من الناس: هذا وقت العلم والمعارف والرقي، ومقصودهم بهذا الإعراض عن الماضي وعن علوم الدين والتزهيذ فيها، وقد صدقوا من جهة وكذبوا من جهات أخر.
قد صدقوا أنه وقت ترقت فيه علوم الصناعات والمخترعات وما يرجع إلى الماديات والطبيعيات، وقد كذبوا أفظع الكذب حيث حصروا العلم بهذا النوع ولم يعلموا أن العلم الحقيقي النافع هو العلم بما جاء به الكتاب والسنة الكفيل بكل خير ديني ودنيوي وأخروي.
والعلم النافع من علوم الصناعات والمخترعات داخل في ضمن هذا، بل العلم الديني هو الذي يصيِّر العلوم الطبيعية والصناعية نافعة نفعاً صحيحاً، وهو الذي يوجِّهها إلى نفع النوع الإنساني ويمنعها من التهور المهلك. ولهذا نقول وقد كذبوا أيضاً من جهة أن هذه العلوم التي افتخروا بها لم يوجهوها التوجيه النافع، بل استعملوها فيما يضر الخلق في الإِهلاك والإِفناء والتدمير، فهي من أعظم النعم ولكنها باستعمالهم إياها كانت من أكبر النكبات والنقم.
وهذا من المعلوم الذي لا ريب فيه أن الشيء الذي لا يتولى الدين الصحيح توجيهه فهو منعكس ضرره أكبر من نفعه.
وقد صدقوا أنه زمان ترقي الماديات الجافة، وقد كذبوا في إطلاقهم الترقي، فيظن الظان أنه ترق في كل شيء، إنما ترق في الصناعات والمخترعات لا في الأخلاق الفاضلة والديانات، فلا ينفع الترقي في الماديات إذا هبطت الأخلاق التي عليها المدار في كل شيء، وهي التي تصلح الأشياء ولا تصلح الأمور بدونها كما هو مشاهد محسوس، فأي ترقي صيَّر أهله بمنزلة السباع الضارية، دأبها الظلم والفتك والاستعمار للأمم الضعيفة وسلبها حقوقها؟
فالترقي الصحيح الذي هو من آثار الدين من آثاره العدل والرحمة والوفاء بالحقوق والحث على كل خير والتحذير من كل شر، هذا هو الترقي الذي لم يشموا له رائحة ولا خطر بقلوبهم، وكيف يخطر بقلوبهم وقلوبهم ملأى بالهلع والجشع والزهو والكبر والغرور ومن كل خلق رذيل.
وقد كذبوا أيضاً في زعمهم أن العلوم العصرية والفنون الاختراعية النافعة هم الذين ابتدؤها، وأن الشريعة الإسلامية لم تهد إليها ولم ترشد إلى أصولها. وهذا بهت عظيم ومكابرة يعرفها من له أدنى نظر في الدين الإسلامي، وكيف أصَّل للعباد أصولاً عظيمة نافعة بها صلاح دنياهم، كما أصَّل لهم أصولاً نافعة فيها صلاح دينهم.
وقد ذكرنا بعض النصوص من الكتاب والسنة الدالة على هذا الأصل كما سبقت الإشارة إليه، نعم لو قالوا أن الناس في هذا الوقت انتفعوا بهذه الأصول والتعاليم الدينية في ترقية الصناعات وابتكار المخترعات ومعرفة طرق الاقتصاديات وما أشبه ذلك، ولكنهم رقوها ترقية مبتورة مقطوعة الصلة بالله وبدين الله، فلهذا نفعت من جهة وضرّت من جهات.
نفعت بما اشتملت عليه من منافع العباد الدنيوية ونفعت من استعان بها على الدين والخير.
وضرت من جهة أنها سببت لأهلها الوحشية والهمجية الذي من آثاره الإهلاك والتدمير والشرور التي لم يوجد لها نظير فيما سبقت. وضرت أيضاً من جهة ما أحدثت في نفوس أهلها من الزهو والغرور والكبرياء واستعباد الضعفاء وظلمهم وهضم الحقوق والشرور المتنوعة.
فلو أن هذه المخترعات تولى الدين توجيهها لحصل فيها من المنافع أضعاف أضعاف ما شوهد، ولاندفعت مضارها وشرورها، ولكانت مبنية على الخير والصلاح، وآثارها الخير والإصلاح للدين والدنيا، ولكن لله في خلقه شؤون.
* * *
فصل
أعظم آفات العلم وقواطعه الانخداع بالوقوف مع المخلوقات دون خالقها، وبالآثار عن مؤثرها، وبالأسباب عن مسببها، وبالوسائل عن مقاصدها. وهذا النوع نقصه كثير وضرره كبير، فإن كثيراً من الملحدين والمغترين بهم يمهرون في العلوم الطبيعية، ولكنهم يقفون معها ويعمون عن ارتباطها بخالقها ومسبِّبها والذي أودع فيها من العجائب والأسرار ما أودع، فيرون أنفسهم قد عرفوا من عجائب علوم الطبيعة ما لم يعرفه غيرهم.
ومن الأسرار التي أودعها الله في الطبائع ما زادوا به على غيرهم فيأخذهم الزهو والغرور ويقفون معها ويرونها هي الحاصل وهي المقصود وهي الغاية فيحصل الانحراف العظيم والنقص في العلم والعقل.
فلو أنهم عرفوا وأثبتوا الموجد الحقيقي والمدبِّر للأمور كلها، وربطوا الأسباب بقضائه وقدره، وعلموا أن الأسباب محل حكمته، فإنه تعالى حكيم يضع الأمور مواضعها ويجعل الأمور الدقيقة والجليلة منتظمة بنظام عجيب وارتباط وثيق، وجعل لكل مطلوب ومقصود سبباً ووسيلة وطريقاً يوصل إليه، ولذلك نتيجة وثمرة بحسب قوة الأسباب وضعفها وبحسب قوة العامل بها وضعفه، ثم ربطوا هذه الأسباب والوسائل والنتائج بقدر الله وقضائه، لو أنهم فعلوا ذلك في عملهم لتم علمهم وحصل لهم من اليقين ما لا يحصل لمن لم يصل إلى ما وصلوا إليه.
ولكنهم فرحوا بما عرفوه من الوسائل التي يعرفون نتائجها الدنيوية ملموسة وتكبَّروا بها فانطبق عليهم قوله تعالى: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *}}، وقوله تعالى: {{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}}، وهذا أعظم آفات العُجب والكبر على الإطلاق وأعظم الطرق التي اغترَّ بها وانخدع كثير من الخلق.
فنسأل الله أن يرزقنا العلم الصحيح المؤيد بالعقل والنقل والفطرة، وهو العلم النافع الذي يعرفه العبد من جميع نواحيه، وهو العلم الذي يربط الفروع بأصولها ويرد الأسباب وآثارها ونتائجها إلى مسببها وإلى الذي جعلها كذلك، وهو العلم الذي لا ينقطع صاحبه بالمخلوق عن خالقه، وبالآثار عن مؤثرها، بالحكم والأسرار والنظامات العجيبة عن محكمها ومنظمها ومبدعها.
وهذا العلم هو الذي يثمر اليقين وتحصل به الطمأنينة وتتم به السعادة والفلاح ويثمر الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة المُصلحة للدين والدنيا.
أما علوم المنحرفين فإنها كما ذكرنا مقطوعة مبتورة جافة، نهاية نفعها كنفع الصناعات المادية كما هو مشاهد محسوس، لا تثمر إيماناً ولا أمانة ولا رحمة ولا أخلاقاً جميلة، بل ثمراتها ضد ذلك، يؤسف غاية الأسف لكل ذي عقل كبير وذكاء مفرط أن تكون هي غايته وثمراته.
فإن العقلَ الصحيحَ فهمُ الأشياء والإحاطة بها من جميع نواحيها، ثم العمل بالأمور النافعة واستغلال الخيرات والمواهب التي وُهبها العبد والجمع بين مصالح الدارين ومنافع البدن والروح، والنظر الصحيح للمبادئ والعواقب، وربط الأمور المتصلة بعضها ببعض، فكل من لم يتصف بهذه الأوصاف نقص من عقله بحسب ذلك، فكيف بدينه؟..
* * *
فصل
ومن علامات المنحرفين في أديانهم وعقولهم اغترارهم بآرائهم وعقولهم السخيفة واحتقارهم لعقول صفوة الخلق وخلاصتهم من الأنبياء وأتباعهم وأهل الهدى، وبهذا تعرف مكابرتهم ومبالغتهم وإنكارهم ما لا يمكن إنكاره، وجحدهم فضل من قبلهم ليتوصلوا بذلك إلى رد الحق، يصدوا العباد عن دين الله وسبيله.
فيعبرون عن الحقائق التي جاءت بها الرسل يقولون: هذا عقل قديم، هذا رأي عتيق، هذا أساطير الأولين، كما قابلت الرسل أعداؤهم بهذه الأقوال الخبيثة الساقطة. وقد اغتر بأقوالهم هذه كثير من النشأة والشبيبة الذين لا بصيرة لهم ولا عقول ناضجة.
أما علموا أن العقول لا تكمل ولا تزكوا إلا بالوحي والقرآن، ولا تكون عقولاً نافعة حتى تغتذي بالهدي واليقين الذي جاء به الرسول، قال تعالى: {{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُِوْلِي النُّهَى}}، {{لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ}}. وهم أهل العقول الوافية والآراء السديدة والأخلاق الزاكية.
فهل يوجد عقول صحيحة تقارب عقل النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي لم تستنر العقول والآراء إلا بعقله ورأيه وعلمه وتعليمه وإرشاده، فحسب العقول الكاملة أن تستمد من عقله صلّى الله عليه وسلّم وآرائه وهداه ورشده، وتغتذي بنوره وتوجيهه وإرشاده.
قال تعالى: {{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}}، وهذا وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم بكمال العلم والهدى وكمال الرشد وكمال العصمة في أقواله وأفعاله، وبذلك يعلم أن كل ما خالف هديه ورشده وإرشاده فهو ضلال وغي وسفاهة وشر وهلاك، والواقع أكبر شاهد على ذلك.
فهل حصل لأحد مثقال ذرة من الخير الظاهر والباطن ومن الثمرات النافعة الجليلة إلا على يده وبتعليمه صلوات الله وسلامه عليه، وهل اهتدى أحد بامتثال أمره واجتناب نهيه، وهل صلح شيء من أمور الدين والدنيا صلاحاً لا فساد معه إلا بالمشي خلفه واتباعه في أصول الدين وفروعه، وفي الوسائل والمقاصد؟ فلا خير وهدى ورحمة وصلاح وإصلاح للظاهر والباطن إلا دل الخلق عليه وأرشدهم إلى مسالكه، ولا شرر وضرر إلا حذرهم عنه، قال تعالى: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}}.
فمن كماله أنه هدى للتي هي أقوم في عقائده وأخلاقه وأعماله، فكملت به العقائد والأخلاق والأعمال فلا يعتريه النقص بوجه من الوجوه.
ومن كماله أنه صالح لكل زمان ومكان وحالٌّ لجميع المشاكل الاجتماعية والشخصية.
ومن كماله أن جميع الحقائق العقلية والحسية والتجارب الصادقة كلها داخلة فيه وفي ضمنه.
ومن كماله أن النظريات المتباينة والاختلافات المتضادة بيَّن صحيحها من سقيمها، وصالحها من فاسدها، وعدلها من ظلمها، وحقها من باطلها.
ومن كماله أنه كملت به العقول واستنارت به الآراء واستمدت من هدايته ما أصلحت به دينها ودنياها، فكل خير ديني ودنيوي وظاهر وباطن من نتائجه وثمراته، ولذلك تمت به النعمة على المؤمنين وحصل به الخير المنوع على جميع العالمين.
والحمد لله الذي تفضل به على العباد، وجعله هدى ورحمة في مصالح المعاش والمعاد، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن الناصر بن سعدي.
في 10 محرم سنة1375هـ