العلم والعلماء
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
العلم والعلماء
تأليف فضيلة الشيخ
رحمه الله مقدمة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الخلق وسيد ولد آدم، محمد ﷺ وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعدُ:
فإذا كانت الدول الأوربية والأمريكيَّة تباهي بما وصلت إليه من تقدُّم في العمران والصناعات والاختراعات، وما وصلت إليه من علم ومعرفة، فإنَّ المسلمين يعتزُّون بما لديهم من قرآن كريم وسنَّة مطهَّرة، ومن سيرة السلف الصالح التي رسمت نهجًا عظيمًا، وأبقت أثرًا فائقًا يُحتذَى في ميادين العلم والحضارة والازدهار.
وإذا فخر الغرْب بتمجيد العلم وبالنظريات التي يدَّعيها لعلمائه في حقول التربية والتعليم، فإن عند المسلمين من تشويقٍ للعلم، وحثٍّ عليه وسبل نيْله، والأدب في بلوغه ما يسبق تلك النظريات ويبرزها في كلمات واضحات، وأساليب ناصعات، فيها الجمال والتركيز والوضوح.
لقد أراد الغربُ المستعمِر - كجزءٍ من حملته على الإسلام - أن يبعِدَ المسلمين عن تراثهم، فنشأت أجيال جاهلة بأمجادها، معجَبة بثقافة أوروبا وحضارتها ومدنيتها، مستهينة بما خلَّفه السلف الأماجد من علم وثقافة، هما مِن أعظم ما تفخر به الأمم، وتستنير به الشعوب.
وقد آن لأبناء المسلمين أن يدرسوا علمَ أوائلهم، وأن يبحثوا عن الكنوز التي ورثوها لخلفهم بعد عناية فائقة، واجتهاد بالِغ، وتبويب وترتيب، وجرح وتعديل، وتصحيح وتمييز.
وما على أحفاد أولئك العلماء وشباب المسلمين في كل مكان إلاَّ أن يُعْنوا بتاريخهم وتراثهم، فسيَجدون ما لم يكونوا يتصوَّرونه؛ بسبب ما نفثه المستعمِرون والمبشِّرون وأتباعهم من تنقُّص لعلم المسلمين المتقدِّمين، وتمجيدٍ لعلماء الغرب ومفكِّريه.
وفي هذا الكتاب الذي حاولتُ فيه أن أعطي صورة مصغَّرة لحال أولئك العلماء المسلمين الذين قدَّموا للإنسانية علمًا عظيمًا، وتراثًا حافلاً، لقد كان عليَّ أن أرجع إلى كتب كثيرة جمعتُ منها هذه النماذج التي كانت مبعثَرة بين كتب الحديث والتاريخ، والتراجم والمعاجم، وكتب الأدب واللغة، ومِن بعض المجلاَّت والصحف، ورتَّبتُها حسب ما رأيتُ أنه الأنسب، وربطت بينها بأسلوبٍ آمُلُ أن أكون موفَّقًا فيه.
وقد أقف أحيانًا حائرًا في أنواع كثيرة من العلم، هل أضيفها إلى هذا الكتاب؛ لصلتها بموضوعه، أو أكتفي بأبواب منها وفصول وإشارات؛ لئلاَّ يخرج عن إطاره ويصبح في عداد الكتب الضِّخام؟ وأنا أريده كتابًا لا يصعب حمله، ولا يشق شراؤه، ولا يضجر قارِئه.
وأرجو أن أكون بذلك قد أسهمتُ في التذكير بما تضمُّه الكتب النفيسة التي تزخر بها المكتبات من علوم ومعارف يتقاصَر دونها علماءُ الغرب وفلاسفته ومفكِّروه.
وآمل أن يتزوَّد المسلمون في إبان محاولاتهم استعادة أمجادهم بهذه الأنوار الساطعة على مرِّ العصور، منذ بزغ نور الإسلام حتى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله.
وعلى الله قصد السبيل، ومنه نستمدُّ المعونة والتوفيق.
المؤلف
* * *
الرحلة في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله
قال الرسول ﷺ: ((ما من قومٍ يجتمعون في بيْت من بيوت الله يتعلَّمون القرآن، ويتدارَسونه بينهم، إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمَن عنده، وما من رجل يسلك طريقًا يلتمس فيها علمًا، إلا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، ومَن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبُه))[1].
وفي حديث آخر: ((إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[2].
وفي حديث آخر: ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلَكَتِه في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها))[3].
وسُئِل رسول الله ﷺ: مَن أكرمُ الناس؟ قال: ((أتقاهم))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ الناس نبيُّ الله بن نبيِّ الله بن نبيِّ الله بن خليل الله))؛ يعني: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلوات الله عليهم - قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟ إن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، إذا فقهوا))[4].
وفي حديث آخر: ((مَن يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين، وإنَّما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمةً على الحق لا يضرُّهم مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله))[5].
وفي حديث آخر: ((نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه))[6].
وعن أبي سعيد الخدري t أن النبي ﷺ قال: ((إن لله ملائكة سيَّاحين في الأرض، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله - تعالى - تنادوا وقالوا: هلمُّوا إلى بُغْيَتكم، فيجيئون فيحفُّون بهم، فإذا صعدوا إلى السماء، يقول الله - تعالى -: على أيِّ شيءٍ تركتم عبادي يصنعون؟ - وهو أعلم بهم - قالوا: تركناهم يحمدونك ويسبِّحونك ويذكرونك، فيقول: فأي شيء يطلبون؟ فيقولون: الجنة، فيقول الله - عز وجل -: هل رأَوْها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأَوْها، لكانوا أشدَّ لها طلبًا، وأشد عليها حرصًا، فيقول: فمن أي شيء يتعوَّذون؟ فيقولون: يتعوَّذون من النار، فيقول الله - تعالى -: هل رأَوْها؟ فيقولون: لا، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأَوْها لكانوا أشدَّ منها هربًا، وأشد منها خوفًا، فيقول: إني أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم، فيقولون: إنَّ فيهم فلانًا الخاطئ لم يُرِدْهم؛ وإنما جاء لحاجة، فيقول: هم القوم لا يشقى جليسهم))[7].
وروى عبدالله بن مسعود t أنه قال: ((مثَل الجليس الصالح كمثَل حامل المسك، إن لم يعطك منه، أصابك من رِيحه، ومثَل الجليس السوء كمثَل القين، إن لم يحرق ثيابَك أصابك من دخانه))[8].
عن كثير بن قيس قال: كنت مع أبي الدرداء بمسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة رسول الله ﷺ لحديثٍ بلغني أنك تحدثه عن رسول الله ﷺ قال: ما جاء بك حاجة غيره، ولا جئت لتجارة، ولا جئت إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَن سلك طريقَ علمٍ، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ السموات والأرض لتستغفر له والحوت في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلةَ البدر على سائر الكواكب، إن العلماء وَرَثَة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذ به أخذ بحظ وافر))[9].
وقال جابر بن عبدالله t: بلغني حديث عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فابتعتُ بعيرًا فشددت عليه رَحْلي، ثم سرت إليه شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا عبدالله بن أُنَيس الأنصاري، فأتيتُ منزله وأرسلت إليه أنَّ جابرًا على الباب فرجع إليَّ الرسول، فقال: جابر بن عبدالله؟ فقلت: نعم، فخرج إليَّ فاعتنقته واعتنقني، قال: قلت: حديثٌ بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في المظالم لم أسمعه أنا منه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((يَحشر الله - تبارك وتعالى - العِباد، أو قال: الناس - شك همام - (وأومأ بيده إلى الشام) حفاة عراة غرلاً بُهمًا))، قال: قلنا: ما ((بُهمًا))؟ قال: ((ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُد، ويسمعه مَن قرب: أنا الملك الديَّان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلَمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلَمة حتى اللطمة))، قال: قلنا: كيف وإنَّما نأتي الله - عز وجل - حفاةً عراةً غرلاً؟ قال: ((بالحسنات والسيئات))[10].
ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر؛ ليسألَ عقبة بن عامر عن حديثٍ سمعه من رسول الله ﷺ في سِتر المسلم لم يبقَ ممَّن سمعه من الرسول ﷺ غيره وغير عقبة، فلمَّا سأله عن الحديث، ركب راحلته وانصرف إلى المدينة وما حلَّ رحله.
وقال سعيد بن المسيب: إن كنتُ لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
وقال الشعبي: لو أنَّ رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمعَ كلمة حكمة، ما رأيت سفره ضائعًا.
وقال مكحول الشامي: طفتُ الأرض كلَّها في طلب العلم.
وعن الشعبي قال: حدَّثَنا أبو بُرْدَة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: ((أيُّما رجل كانت عنده وليدة، فعلَّمها وأحسن تعليمها، وأدَّبها فأحسن تأديبَها، وأعتقها فتزوَّجها، فله أجران، وأيُّما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وآمن بي، فله أجران، وأيُّما مملوك أدَّى حقَّ مواليه وأدَّى حقَّ ربه، فله أجران))[11]، خذها - يعني: بغير شيء - قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة، كان الشعبي يقوله بعد أن حدث بهذا الحديث.
وعن ابن شهاب أن ابن عباس قال: كان يبلغنا الحديث عن رجل من أصحاب النبي ﷺ فلو أشاء أن أرسل إليه حتى يجيئني فيحدثني، فعلت، ولكنِّي كنت أذهب إليه فأَقيل على بابه، حتى يخرج إليَّ فيحدثني.
وقال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
وقال الشَّعبي: ما علمت أنَّ أحدًا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق.
وعن قيس بن عبادة قال: خرجتُ إلى المدينة أطلب العلم والشرف.
وعن بسر بن عبيدالله الحضرمي قال: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه.
وعن ابن عباس أنه قال: وجدت عامَّة علم أصحاب رسول الله ﷺ عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدِهم، ولو شئت أذن لي، ولكن أبتغي بذلك طِيب نفسه.
قال رجلٌ لأبي هريرة: إني أريد أن أتعلَّم العلم، وأخاف أن أضيعه، فقال أبو هريرة: كفى بتركك له تضييعًا.
قال ابن عباس: منهومان لا تنقضي نهمتهما: طالب علم، وطالب دنيا.
وروي مرفوعًا من حديث أنس وغيره[12].
قال لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات - إن شاء الله - وقيل له مرة أخرى مثل ذلك، فقال: لعلَّ الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد.
وقال ابن مناذر: سألت أبا عمرو بن العلاء: حتى متى يحسُن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة.
وسُئِل سفيان بن عيينة: مَن أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم؛ لأن الخطأ منه أقبح.
وقال المنصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بالشيخ أن يتعلَّم؟ فقال: إن كان الجهل يعيبه، فالتعلُّم يحسن به.
وقال أبو غسان: لا تزال عالمًا ما كنت متعلمًا، فإذا استغنيت كنت جاهلاً.
وسأل عليٌّ الأزدي ابنَ عباس - رضي الله عنهما - عن الجهاد، فقال: ألا أدلُّك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجدًا تعلِّم فيه القرآن وسننَ النبي ﷺ والفقه في الدين.
وقال قتادة: بابٌ من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاحَ نفسه، وصلاح دينه، وصلاح الناس - أفضل من عبادة حول كامل.
وقال أيضًا: لو كان يُكتفَى من العلم بشيء، لاكتفى موسى - عليه السلام - بما عنده من العلم، ولكنَّه طلب الزيادة.
وقال عمر t: تفقَّهوا قبل أن تسوَّدوا.
وقال ابن مسعود t: يا أيُّها الناس، تعلَّموا العلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه أو إلى ما عنده.
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقَّهن في الدين.
وسُئِل الأصمعي: بمَ نلتَ ما نلتَ؟ قال: بكثرة سؤالي، وتلقي الحكمة الشرود.
وقال ابن مسعود: إنَّ الرجل لا يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلُّم.
وعن علي أنه قال في كلام له: العلم ضالَّة المؤمن، فخذوه، ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحِكمة ممَّن سمعها منه.
وقال أيضًا: تزاوروا وتذاكروا الحديث؛ فإنكم إن لم تفعلوا يدرس علمكم.
وعن أبي سعيد قال: تحدَّثوا؛ فإن الحديث يُهيج الحديث.
وقال علقمة: تذاكروا الحديث؛ فإن إحياءه ذكره.
وعن إسماعيل بن رجاء أنَّه كان يأتي صبيان الكتَّاب فيعرض عليهم حديثه؛ كي لا ينسى.
وقال إبراهيم: إذا سمعت حديثًا فحدِّث به حين تسمعه، ولو أن تحدِّث به مَن لا يشتهيه؛ فإنه يكون كالكتاب في صدرك.
وعن عويد بن عبدالله قال: جاء رجل إلى أبي ذرٍّ الغفاري t فقال: إني أريد أن أتعلم وأخاف أن أضيِّعه ولا أعمل به، فقال: أمَا إنك إن توسَّدت العلم خيرٌ لك من أن تتوسَّد الجهل، ثم ذهب إلى أبي الدرداء وقال له مثل ذلك فقال أبو الدرداء: إن الناس يبعثون على ما ماتوا عليه، يبعث العالم عالمًا والجاهل جاهلاً، ثم ذهب إلى أبي هريرة t وقال له مثل ذلك فقال أبو هريرة: ما أنت بواجدٍ شيئًا أضيعَ له من تركِه.
وروي عن علي t أنَّه قال: العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو من النفَقَة، والمال تنقصه النفَقَة، والعلماء باقون في الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
وروي عن أبي هريرة أنه دخل السوق فقال: أنتم ها هنا وميراث محمد ﷺ يقسم في المسجد؟ فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق، فرجعوا فقالوا: يا أبا هريرة، ما رأينا ميراثًا يقسم، فقال لهم: فماذا رأيتم؟ فقال: رأينا قومًا يَذكرون الله - تعالى - ويقرؤون القرآن، قال: فذلك ميراث محمد ﷺ[13].
وعن الضحاك في قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 79]، قال: حقٌّ على كل مَن قرأ القرآن أن يكون فقيهًا.
وقال سعيد بن جبير: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾، قال: علماء فقهاء.
وقال سفيان: ما أعلم عملاً أفضل من طلب العلم وحفظه لِمَن أراد الله به خيرًا.
قال الحسن بن صالح: إن الناس يحتاجون إلى هذا العلم في دينهم كما يحتاجون إلى الطعام والشراب في دنياهم.
وقال ابن شبيب: لا يكون طبعٌ بلا أدب، ولا علم بلا طلب.
وكتب عمر إلى أبي موسى: إنَّ كاتبك الذي كتب إليَّ لحَن، فاضربه سوطًا.
وفي رواية: كتب أبو موسى إلى عمر: "مِن أبو موسى إلى عمر"، فكتب إليه عمر: "أن اجلد كاتبَك سوطًا".
قال الشافعي: تفقَّه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقُّه.
وقال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلَّم، فإذا ترك التعلم وظنَّ أنه قد استغنى، فهو أجهل ما يكون.
قال الشافعي: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن مَن طلبه بذلِّ النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح، وقال: لا يصلح طلب العلم إلاَّ لمفْلس، قيل: ولا الغني المكْفِي، قال: ولا الغني المكْفِي.
وقال مالك: لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضربه الفقرُ، ويؤثِره على كل شيء.
وقال أبو حنيفة: يُستعان على الفقه بجميع العلم، ويستعان على حذف العلائق بأخْذ اليسير عند الحاجة ولا يزيده.
وعن عمرو بن سلمة، قال: كنَّا بماء ممر الناس يجوز بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أنَّ الله أرسله وأوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يُغري في صدري، وكانت العرب تلوَّم بإسلامها، فيقولون: اتركوه وقومه، فإن ظهر عليهم، فهو نبيٌّ صادق، فلمَّا كانت وقفة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر إليه قومي بإسلامهم، فقال وافدهم: والله لقد جئتُكم من عند نبيِّ الله حقًّا، قال: صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلُّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمُّكم أكثركم قرآنًا، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآنًا مِنِّي لما كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ستِّ سنين أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردةٌ إذا صلَّيت وسجدت تقلَّصت عني، فقالت امرأةٌ من الحي: ألا تغطُّون عنا استَ قارئكم، فاشتروا لي قميصًا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص؛ أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي[14].
وعن أبي واقد الليثي أنَّ رسول الله ﷺ بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر؛ فأمَّا أحدهم فرأى فُرْجَةً في الحلقة فجلس إليها، وأمَّا الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلمَّا فرغ رسول الله ﷺ من كلامه قال: ((ألا أخبركم عن النفَر الثلاثة؟ فأمَّا الأوَّل فأوى لله فآواه، وأمَّا الثاني فاستحيا من الله أن يؤذِيَ الناس فاستحيا الله منه، وأمَّا الثالث فأعرض فأعرض الله عنه))[15].
عن أبي العالية قال: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام لأسمع منه، فأوَّل ما أتفقَّد منه صلاتُه، فإن أجده يقيمُها أقمت وسمعت منه، وإن أجده يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلت: هو لغير الصلاة أضيع.
وقال أبو العالية أيضًا: كنا نسمع بالرواية عن أصحاب رسول الله ﷺ بالمدينة وبالبصرة فما نرضى حتى نأتيهم فنسمع منهم.
وقال عبدالله بن مسعود: والذي لا إله غيره لقد قرأتُ من فِي رسول الله ﷺ بضعًا وستين سورة، لو أعلم أحدًا أعلمَ بكتاب الله مِنِّي تبلغني الإبل إليه لأتيتُه.
وقال أيضًا: ما أُنزلت آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أني أعلم أنَّ أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا لأتيته.
وقال سعيد بن المسيب: كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث والواحد.
وقال هشيم: كنت أكون بأحد المصرَين، فيبلغني أنَّ بالمصر الآخر حديثًا، فأرسل فيه حتى أسمعه.
وقال هارون بن المغيرة: عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن قال: لا تشتري مودَّة ألف رجل بعداوة رجل واحد، قال هارون: قَدِم عليَّ ابن المبارك فجاء إليَّ وهو على الرحل فسألني عن هذا الحديث فحدَّثته فقال: ما وضعت رحلي مِن مَرْو إلا لهذا الحديث.
وقال زيد بن الحُبَاب: حدثنا سفيان الثوري، عن أسامة بن زيد، عن موسى بن علي اللخمي، عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو، عن عمرو، أن النبي ﷺ قال: ((فرْق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر))[16]، قال زيد بن الحُبَاب: فلمَّا ذهبتُ لأقوم من مجلس سفيان قال: يا رجل، أنا خلفت أسامة حيًّا بالمدينة فركبتُ راحلتي وأتيتُ المدينة فلقيتُ أسامة فقلتُ: حديث حدثنيه سفيان الثوري عنك، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو، عن عمرو، عن النبي ﷺ– قال: ((فرقُ بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر)).
قال زيد فلمَّا ذهبت لأقوم من مجلس أسامة قال لي رجل: أنا خلفتُ موسى بن علي حيًّا بمصر، فركبتُ راحلتي وأتيتُ مصر فجلستُ ببابه فخرج على فرس قال: ألَكَ حاجة؟ قلت: نعم، حديث حدثنيه سفيان الثوري، عن أسامة بن زيد، عنك، عن أبيك، عن أبي قيس مولى عمرو، عن عمرو، أن النبي ﷺ قال: ((فرقُ بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر))، فقال: نعم، حدثني أبي، عن أبي قيس مولى عمرو، عن عمرو، أن النبي ﷺ قال: ((فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكْلة السَّحَر)).
وقال أبو جعفر التمَّار: سمعت الشاذكوني يقول: دخلت الكوفة نيفًا وعشرين دخلة أكتب الحديث، فأتيتُ حفص بن غياث فكتبتُ حديثه، فلمَّا رجعتُ إلى البصرة وصرتُ في بنائه لقيني ابن أبي خدويه، فقال لي: يا سليمان من أين جئتَ؟ قلت: من الكوفة، قال: حديثُ مَن كتبت؟ قلتُ: حديث حفص بن غياث، قال: أَوَكتبت علمَه كلَّه؟ قلت: نعم، قال: أذَهَبَ عليك منه شيء؟ قلت: لا، قال: قلت: عنه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ ضحَّى بكبش كان يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد[17]؟ قلت: لا، قال: أسخن الله عينيك أيشٍ كنت تعمل بالكوفة؟ قال: فوضعت خرجي عند "البرستين"، ورجعت إلى الكوفة، فأتيت حفصًا فقال: من أين؟ قلت: من البصرة، قلت: إن ابن أبي خدويه ذاكرني بكذا وكذا، قال: فحدثني فرجعتُ ولم يكن لي حاجة بالكوفة غيره.
وقال طاهر بن محمد بن سهلويه النيسابوري: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشرقي، حدثنا عبدالرحمن بن بشر، حدثنا مالك بن سعيد بن الخميس التميمي، حدثنا الأعمش، عن عبدالملك بن عمير والمسيب بن رافع، عن وردان قال: أملى على المغيرة بن شعبة كتابًا إلى معاوية - وقال مرَّة: كتب به إلى معاوية - إني سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا قضى الصلاة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانعَ لِمَا أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد))[18].
قال طاهر: سمعت أبا حامد يقول: سمعت صالح جزرة يقول: قدمت خراسان بسبب هذا الحديث - حديث الأعمش عن عبدالملك بن عمير والمسيب بن رافع.
وقال عمر بن سلمة: قلت للأوزاعي: أنا أكرمتُك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثًا، قال: وتستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام، لقد سار جابر بن عبدالله إلى مصر واشترى راحلة ركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد وانصرف، وأنت تستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام!
وعن عروة بن رويم عن ابن الديلمي الذي كان يسكن ببيت المقدس أنه ركب في طلب عبدالله بن عمرو بن العاص إلى المدينة، فسأل عنه فقالوا: قد سافر إلى مكة فاتبعه فوجده في زرعه الذي يسمى الوهط، قال ابن الديلمي: فدخلت عليه فقلت: يا عبدالله ما هذا الحديث الذي بلغنا عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: أنك تقول صلاة في بيت المقدس خيرٌ من ألف صلاة في غيرها إلا الكعبة، قال: اللهم إني لا أحل لهم أن يقولوا عليَّ ما لم أقل، إن سليمان حين فرغ من بيت المقدس قرَّب قربًا فتقبل الله منه فدعا الله بدعوات منهن: اللهم أيُّما عبد مؤمن زارك في هذا البيت تائبًا إليك إنما جاء يتنصَّل من خطاياه وذنوبه أن تتقبَّل منه وتتركه من خطاياه كيوم ولدته أمه.
وقال سعيد بن جبير: اختلف أهل الكوفة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ [النساء: 93]، فرحلتُ إلى ابن عباس فسألتُه عنها فقال: ما نزل ما نسخها شيء.
وقال عبيدالله بن عدي بن الخيار: حدثني نوفل بن عبدمناف: بلغني حديث عن علي خفتُ إن مات لا أجده عن غيره، فرحلت حتى قدمتُ عليه العراق فسألته عن الحديث فحدثني وأخذ عليَّ عهدًا أن لا أخبر به أحدًا، ولوددتُ لو لم يفعل فأحدِّثكموه، فلمَّا كان ذات يوم جاء حتى صعد المنبر في إزار ورداء متوشِّحًا قرنًا، فجاء الأشعث بن قيس حتى أخذ بإحدى عضادتي المنبر ثم قال علي: ما بال أقوام يكذبون علينا يزعمون أن عندنا عن رسول الله ﷺ ما ليس عند غيرنا ورسول الله ﷺ إن تكلَّم كان عامًّا ولم يكن خاصًّا، وما عندي عنه ما ليس عند المسلمين إلا شيء في قرني هذا، فأخرج منه صحيفة فإذا فيها "مَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل"، فقال له الأشعث بن قيس: دعها فإنه عليك لا لك، فقال: قبَّحك الله، ما يدريك ما عليَّ وما لي، أصبحت هزأ لراعي الضأن يهزأ بي! ماذا يريبك مِنِّي راعي الضأن.
وعن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: إن الله ليكتب لعبده بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فحججت ذلك العام ولم أكن أريد الحج إلا للقائه في هذا الحديث، فأتيت أبا هريرة فقلت: يا أبا هريرة، بلغني عنك حديث فحججت هذا العام ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك، قال: فما هو؟ قلت: إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقال أبو هريرة: ليس هكذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك، فقال أبو عثمان: فظننت أن الحديث قد سقط، قال: إنما قلت: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة، ثم قال: أوَليس في كتاب الله - تعالى - ذلك؟ قلت: كيف؟ قال: لأن الله يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، والكثير عند الله أكثر من ألفي ألف وألف ألف.
وعن الحسن قال: رحلتُ إلى كعب بن عُجْرة من البصرة إلى الكوفة فقلت: ما فداؤك حين أصابك الأذى؟ قال: شاة.
وقال سفيان: سمعتُ عطاء يحدث عن عبدالله بن عبيد بن عمير، وربما قال سفيان: لا أدري ذكر فيه عن أبيه أم لا، قال: قيل لابن عمر: ما لنا لا نراك تستلم إلا هذَين الركنَين؟ فقال: إن رسول الله ﷺ قال: ((إنَّ استلام الركنين يحط الخطايا كما تتحات ورق الشجر))[19]، قال سفيان: حدَّثني بهذا الحديث عطاء وأنا وهو في الطواف، قال: فكأنه لم يرني أعجبت به، فقال: أتزهد في هذا يا ابنَ عيينة؟ حدثت ابنَ الشعبي فقال: لو رحل في هذا الحديث كذا وكذا لكان أهلاً له.
وقال عطاء بن أبي رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله ﷺ فلمَّا قَدِم أتى منزل مَسْلَمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر، فأخبره فعجل، فخرج إليه فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله ﷺ لم يبقَ أحد سمعه غيري وغيرك في سِتر المؤمن، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَن ستر مؤمنًا في الدنيا ستره الله يوم القيامة))[20]، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلاَّ بعريش مصر.
وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: أشهد أنَّ رسول الله ﷺ قال: ((إنَّ الله لا يرفع العلم بقبْضٍ يقبضه، ولكن يرفع بقبض العلماء بعلمهم، حتى إذا لم يبقَ عالِم اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً فسُئِلوا فحدثوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا))[21].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((تظهر الفتن ويكثر الهرج))، قيل: وما الهرج؟ قال: ((القتل، ويُقْبَض العلم))، فسمعه عمر يأثرِه عن النبي ﷺ فقال: ((إنَّ قبض العلم ليس شيئًا يُنْتَزَع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء))[22].
وقام عبدالملك بن مروان خطيبًا يوم الفطر فقال: إنَّ العلم يُقْبَض قبضًا سريعًا، فمَن كان عنده علمٌ فلينشرْه غير جافٍ عنه ولا غالٍ فيه.
وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز: "أمَّا بعد، فمُرْ أهلَ العلم من عندك، فلينشروا ما علَّمهم الله في مجالسهم ومساجدهم، والسلام".
وذكر بعضهم قال: اجتمع أبو العباس بن شريح القاضي وأبو بكر بن داود الأصبهاني وأبو العباس المبرِّد على باب القاضي إسماعيل، فأَذِن لهم فتقدَّم ابن شريح، وقال: قدَّمني العلم والسن، وتأخَّر المبرد، وقال: أخَّرني الأدب، وقال ابن داود: إذا صحَّت المودة سقطت المعاذير"[23].
وقال أبو قلابة: لقد أقمتُ في المدينة ثلاثًا ما لي حاجة إلاَّ وقد فرغت منها، إلا أن رجلاً كانوا يتوقَّعونه كان يروي حديثًا، فأقمتُ حتى قَدِم فسألته؛ رواه الدارمي.
وقال أبو بكر بن زنجويه: قدمت مصر فأتيتُ أحمد بن صالح، فسألني: من أين أتيتَ؟ قلت: من بغداد، قال: أين منزلك من منزل أحمد بن حنبل؟ قلت: أنا من أصحابه، قال: تكتب لي موضع منزلك فإني أريد أن أوافي العراق حتى تجمع بيني وبين أحمد بن حنبل، فكتبتُ له، فوافَى أحمد بن صالح سنة اثنتي عشرة إلى بغداد، فسأل عني فلقيني فقال: الموعد الذي بيني وبينك، فذهبتُ به إلى أحمد بن حنبل، فاستأذنت له فقلت: أحمد بن صالح بالباب، فأذن له فقام إليه ورحَّب به وقرَّبه، وقال له: بلغني عنك أنك جمعتَ حديث الزهري، فتعالَ حتى نتذاكر ما روى الزهري عن أصحاب النبي ﷺ فجعلا يتذاكران لا يُغرِب أحدهما على الآخر حتى فرغَا، قال: وما رأيت أحسن من مذاكرتهما، ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: عند الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالرحمن بن عوف قال: قال النبي ﷺ: ((ما يسرُّني أن لي حمر النعم وأن لي حلف المطيبين))[24]، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا؟ فجعل أحمد يتبسَّم، ويقول: رواه عن الزهري رجل مقبول أو صالح؛ عبدالرحمن بن إسحاق، فقال: مَن رواه عن عبدالرحمن؟ فقال: حدثناه رجلان ثقتان إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: سألتك بالله إلاَّ ما أمليته علي، فقال أحمد: من الكتاب، فقام ودخل وأخرج الكتاب وأملى عليه، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيرًا، ثم ودعه وخرج[25].
وقال أبو زرعة الدِّمَشقي: سألني أحمد بن حنبل قديمًا: مَن بمصر؟ قلت: بها أحمد بن صالح، فسُرَّ بذلك ودعا له[26].
قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقتَ العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طولَ الليل مخافةَ أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه، فرأيت شيخًا في المجلس يبول في طيلسانه ويدرح الطيلسان مخافة أن يؤخذ مكانُه إن قام للبول.
وذكر غيرُ واحد أنه كان في مجلس يزيد بن هارون ما يَزيد على السبعين ألفًا.
وأمر المعتصم بحزر مجلس عاصم بن علي فحزروا المجلس عشرين ألفًا ومائة ألف.
وأملى البخاري في بغداد فاجتمع إليه عشرون ألفًا.
وقال أبو الفضل الزهري: كان في مجلس جعفر الفريابي مِن أصحاب الحديث مَن يكتب حدود عشرة آلاف سوى مَن لا يكتب.
وأملى أبو مسلم الكجي في رحبة غسان، فكان في مجلسه سبعة مستملين يُبلِّغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه، وكتب الناس عنه قيامًا، بأيديهم المحابر، ثم مسحت الرحبة وحسب مَن حضر بمحبرة فبلغ ذلك نيفًا وأربعين ألف محبرة سوى بقية الناس المستمعين[27].
وروى محمد بن سلاَّم الجُمَحي أنه قيل للمنصور: هل من لذات الدنيا شيء لم تنلْه؟ قال: بقيت خصلة، قالوا: وما هي؟ قال: أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: مَن ذكرت - رحمك الله - قال: فغدَا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما الدنِسَة ثيابهم المتشقِّقة أرجلُهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق ونقلة الحديث[28].
خطب زياد ذاتَ يوم على منبر الكوفة فقال: أيُّها الناس، إني بتُّ ليلتي هذه مهتمًّا بخِلالٍ ثلاث: رأيت أن أتقدَّم إليكم فيهن بالنصيحة؛ رأيت إعظام ذوي الشرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، والله لا أُوتَى برجل ردَّ على ذي علم ليضع بذلك منه إلا عاقبته، ولا أُوتَى برجل ردَّ على ذي شرف ليضع بذلك من شرفه إلا عاقبته، ولا أُوتَى برجل ردَّ علي ذي شيبة ليضع بذلك منه إلا عاقبته، إنما الناس بأعلامهم وعلمائهم وذوي أسنانهم.
وقال محمد بن إسحاق عن مكحول: طفت الأرض كلَّها في طلب العلم، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب.
وعن ابن المبارك أنه قيل له: لو أوحى الله إليك أنك ميِّت العشية ما أنت صانع اليوم؟ قال: أطلب فيه العِلم.
وروي عن سالم بن أبي الجعد أنه قال: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم فأعتقني، فقلتُ في نفسي: بأي الحِرَف أحترف: فاحترفت العلم على كل الحِرف فلم يمضِ كثير مُدَّة حتى أتاني الخليفة زائرًا، فلم آذن له.
وذُكِر عن صالح المُرِّي أنَّه دخل على أمير المؤمنين فأجلسه على وسادته، فقال صالِح: قال الحسن وصَدَق الحسن، فقال له أمير المؤمنين: وأيُّ شيء قال الحسن؟ قال: قال الحسن: إن العلم يزيد الشريف شرفًا، ويبلغ بالعبد منازل الأحرار، وإلاَّ فمَن صالح المري حتى يجلس على وسادة أمير المؤمنين لولا العلم؟[29].
وقال سفيان لرجل من العرب: ويحكم، اطلبوا العلم، فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم ويصير إلى غيركم فتذلُّون، اطلبوا العلم فإنه شرف في الدنيا وشرف في الآخرة.
وقال عبدالملك بن مروان لبنيه: يا بَنِيَّ، تعلَّموا العلم فإن استغنيتم كان لكم كمالاً، وإن افتقرتُم كان لكم مالاً.
وقال مصعب بن عبدالله: قال لي أبي: اطلب العلم؛ فإن يكن لك مال أكسبك جمالاً، وإن لم يكن لك مال أكسبك مالاً.
وقال الحسن بن علي لبنيه ولبني أخيه: تعلَّموا العلم؛ فإنكم إن تكونوا صغار قوم تكونوا كبارهم غدًا، فمَن لم يحفظ فليكتب.
قال الفضيل بن عياض: كان يقال: علِّم علمك مَن يجهل، وتعلَّم ممَّن يعلم، فإنَّك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت.
وقيل:
لاَ يُدْرِكُ العِلْمَ إِلاَّ كُلُّ مُشْتَغِلٍ = بِالعِلْمِ هِمَّتُهُ القِرْطَاسُ وَالقَلَمُ
عن ابن القاسم قال: كان مالك يقول: إن هذا الأمر لن يُنَال حتى يذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نَزَل بربيعة من الفقر في طلب العلم، حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يُلقَى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر.
وقالوا: مَن لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدًا إلى قيام الساعة.
وقال أبو علي حسن بن محمد الصدفي: سمعت الإمام أبا محمد التميمي يقول: ما لكم تأخذون العلم عنَّا، وتستفيدون منا، ثم لا تترحَّمون علينا؟! فرَحِم الله جميعَ مَن أخذنا عنه من شيوخنا وغيرهم[30].
قال عبدالوهاب بن عطاء الخفاف[31]: حدَّثني مشيخة أهل المدينة أنَّ فروخًا أبا عبدالرحمن - أبو ربيعة - خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيًا وربيعة حَمْلٌ في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقَدِم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسًا وفي يده رمح، فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعه، فقال له: يا عدو الله أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله أنت رجل دخلت على حُرمتي، فتواثبا وتلبَّب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالكَ بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتُك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج فلمَّا بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعتِ امرأته كلامه فخرجت، فقال: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به، فاعتقنا جميعًا وبكيَا، فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟ قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار، فقال: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.
فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته وأتاه مالك بن أنس والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف أهْل المدينة وأحدق الناس به، فقال امرأته: اخرج صلِّ في مسجد الرسول، فخرج فصلى فنظر إلى حلقة وافرة فأتاه فوقف عليه، ففرجوا له قليلاً ونكَّس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يرَه، وعليه طويلة فشكَّ فيه أبو عبدالرحمن، فقال: مَن هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فقال أبو عبدالرحمن: لقد رفع الله ابني.
فرجع إلى منزله فقال لوالدته: لقد رأيت ولدَك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: أيُّما أحبُّ إليك ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله إلاَّ هذا، قالت: فإني قد أنفقتُ المال كلَّه عليه، قال: فوالله ما ضيعتِه.
وقال عبدالرحمن بن أسلم: كان يحيى بن سعيد يجالس ربيعة بن أبي عبدالرحمن فإذا غاب ربيعة حدَّثهم يحيى أحسن الحديث، وكان يحيى بن سعيد كثيرَ الحديث فإذا حضر ربيعة كفَّ يحيى - إجلالاً لربيعة - وليس ربيعة بأسن منه وهو فيما هو فيه، وكان كل واحد منهما مجلاًّ لصاحبه[32].
كان الإمام مالك بن أنس t يبذل جهده في طلب العلم، ولا يدَّخر وُسعًا في مال أو نفس، وكان يتحمَّل في سبيله كل مشقة، ويبذل أقصى ما يملك حتى كان يبيع سقف بيته ليستمرَّ في طلبه، وكان يتحمَّل حِدَّة الشيوخ، ويذهب إليهم في الحر وفي البرد.
قال t: كنت آتي نافعًا مولى ابن عمر نصف النهار، وما تظللني شجرةٌ من الشمس أتحيَّن خروجه فإذا خرج أدعه ساعةً كأني لم أرَه، ثم أتعرض له فأسلِّم عليه وأدعه حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا، فيجيبني وكان فيه حدَّة[33].
ولما ذهب الإمام الشافعي t إلى مكة كان يتلقَّى الأحاديث الشريفة من شيوخ الحديث بها، وكان حريصًا على حفظها وكتابتها يكتبها على ما تتناوله يده، فيكتبها أحيانًا على الخزف، وأحيانًا على الجلود، وكان يذهب إلى ديوان الحكم يستوهب الظهور وهي الأوراق الديوانية التي كتب على أحد جوانبها؛ وذلك لكي يكتب على الوجه الذي لم يكتب عليه، ثم رحل إلى أستاذه الإمام مالك في رحلته المشهورة.
وجاء في ترجمة المجد الفيروزأبادي صاحب "القاموس" أنه قرأ "صحيح مسلم" - رحمه الله - في ثلاثة أيام بدمشق.
وورد في "تاريخ الذهبي" في ترجمة إسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري الضرير ما نصُّه: وقد سمع عليه الخطيب البغدادي بمكة "صحيح البخاري" بسماعه من الكشميهني في ثلاثة مجالس: اثنان منها في ليلتين كان يبتدئ القراءة وقتَ المغرب، ويختتم عند صلاة الفجر، والثالث من ضحوة النهار إلى طلوع الفجر.
قال الذهبي: وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه.
وقال الحافظ السخاوي: وقع لشيخنا الحافظ ابن حجر أجلُّ ممَّا وقع لشيخه المجد اللغوي، فإنَّه قرأ "صحيح البخاري" في أربعين ساعة رمليَّة، وقرأ "صحيح مسلم" في أربعة مجالس سوى مجلس الختْم في يومين وشيء، وقرأ "سنن ابن ماجه" في أربعة مجالس، وقرأ كتاب النسائي "الكبير" في عشرة مجالس كل مجلس منها نحو أربع ساعات، وقرأ "صحيح البخاري" في عشرة مجالس.
ثم قال السخاوي: وأسرعُ شيء وقع لابن حجر أنَّه قرأ في رحلته الشامية "معجم الطبراني الصغير" في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا الكتاب يقع في مجلَّد يشتمل على نحو ألف حديث وخمسمائة حديث.
وقد رأينا من شغف علماء المسلمين بالعلم والحرص على المعرفة أنَّ منهم مَن يعدُّ مشايخه بالمئات، فشيوخ الإمام أحمد الذين ذكرهم في مسنده مائتان وثلاثة وثمانون رجلاً، واشتمل المسند على نحو ثمانمائة من الصحابة سوى ما فيه ممَّن لم يُسمَّ.
وكتب الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري عن أكثر من ألف شيخ.
قال أبو الوفاء ابن عقيل عن نفسه: أنا أقصِّر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفرًا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها فيه.
ويقول: إنه لا يحلُّ لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعمَلتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرحٌ فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّره، وإني لأجد مِن حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين سَنَة.
وقال الصفدي في كتابه "نكت الهميان" في ترجمة الحافظ محمد بن يوسف بن حبان: "قرأ القرآن بالروايات السبع، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد أفريقية وثغر الإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصَّل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد وطلب وحصَّل وكتب وقيَّد، ولم أرَ في أشياخي أكثر اشتغالاً منه؛ لأني لم أرَه إلا وهو يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أرَه على غير ذلك..." ا.هـ.
وكان أحد علماء آل تيمية يطلب ممَّن عنده أن يقرأ عليه بحيث يسمع وهو في الحمام... إذ إنه لا يتمكَّن من القراءة وهو في الحمام صيانة للعلم.
ذكر أبو بكر بن حجة الحموي في كتابه "ثمرات الأوراق"[34] رحلةَ الإمام الشافعي، وساق بسنده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت الإمام الشافعي t يقول: فارقتُ مكة وأنا ابن أربع عشرة سنة لا نبات بعارضيَّ من الأبطح إلى ذي طُوَى وعليَّ بردتان يمانيتان، فرأيتُ ركبًا فسلمت عليهم فردُّوا عليَّ السلام، ووَثَب إليَّ شيخ كان فيهم قال: سألتُك بالله إلا ما حضرت طعامنا - وما كنت أعلم أنهم أحضروا طعامًا - فأجبت مسرعًا غير محتشم، فرأيت القوم يأخذون الطعام بالخَمس، ويدفعون بالراحة، فأخذت كأخْذهم؛ كي لا يستبشع عليهم مأكلي، والشيخ ينظر إليَّ ثُم أخذت السقاء فشربت وحمدت الله، وأثنيت عليه، فأقبل عليَّ الشيخ وقال: أمكي أنت؟ قلت: مكي، قال: أقرشي أنت؟ قلت: قرشي، ثم أقبلت عليه، وقلت له: يا عمِّ بِمَ استدللت علي؟ قال: أمَّا في الحضر فبالزيِّ، وأمَّا في النسب فبأكل الطعام؛ لأنَّه مَن أحب أن يأكل طعام الناس أحبَّ أن يأكلوا طعامه، وذلك في قريش خصوصًا.
قال الشافعي t: فقلت للشيخ: مِن أين أنت؟ قال: من يثرب مدينة النبي ﷺ فقلت: مَن العالم بها والمتكلِّم في نص كتاب الله - تعالى - والمفتي بأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: سيِّد بني أصبح مالك بن أنس t قال الشافعي t فقلت: واشوقاه إلى مالك، فقال لي: قد بلَّ الله شوقك، انظر إلى هذا البعير الأورق، فإنه أحسن جمالنا، ونحن على رحيل ولك منا أحسن الصحبة، حتى تصل إلى مالك، فما كان غير بعيد حتى قطروا بعضها إلى بعض وأركبوني البعير الأورق، وأخذ القوم في السير وأخذت أنا في الدرس، فختمتُ من مكة إلى المدينة ستَّ عشرة ختمة، بالليل ختمة وبالنهار ختمة، ودخلت المدينة في اليوم الثامن بعد صلاة العصر، فصليت العصر في مسجد رسول الله ﷺ ودنوت من القبر، فسلَّمت على النبي ﷺ فرأيت مالك بن أنس مؤتزرًا ببردة ومتوشِّحًا بأخرى.
قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن صاحب هذا القبر، وضرب بيده إلى قبر رسول الله ﷺ قال الشافعي t: فلمَّا رأيتُ ذلك هبتُه مهابةً عظيمة وجلست حيث انتهى بي المجلس، فأخذت عودًا من الأرض فجعلت كلَّما أملى مالك حديثًا كتبته بريقي على يدي والإمام مالك t ينظر إليَّ من حيث لا أعلم، حتى انقضى المجلس وانتظرني مالك أن أنصرف، فلم يرَني انصرفت فأشار إليَّ فدنوت منه، فنظر إليَّ ساعة ثم قال: أحَرَمِيٌّ أنت؟ قلت: حَرَمِيٌّ، قال: أمكي أنت؟ قلت: مكي، قال: أقرشي أنت؟ قلت: قرشي، قال: كَمُلَتْ أوصافك، لكن فيك إساءة أدب، قلت: وما الذي رأيت من سوء أدبي؟ قال: رأيتك وأنا أملي ألفاظ الرسول - عليه الصلاة والسلام - تلعب بريقك على يدك، فقلت له: عدمت البياض، فكنت أكتب ما تقول، فجذب مالكٌ يدي إليه فقال: ما أرى عليها شيئًا، فقلت: إنَّ الريق لا يثبت على اليد، ولكن فهمت جميع ما حدثت به منذ جلست، وحفظته إلى حين قطعت، فتعجَّب الإمام مالك من ذلك، فقال: أَعِد علي ولو حديثًا واحدًا، قال الشافعي t: فقلت: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القبر وأشرت بيدي إلى القبر كإشارته حتى أعدت عليه خمسة وعشرين حديثًا حدَّث بها من حين جلس إلى وقت قطع المجلس، وسقط القرص، فصلَّى مالك المغرب، وأقبل على عبده وقال: خذ بيد سيدك إليك، وسألني النهوض معه.
قال الشافعي t: فقمتُ غير ممتنع إلى ما دعا من كرمه، فلمَّا أتيت الدار أدخلني الغلام إلى خلوة في الدار، وقال لي: القبلة في البيت هكذا، وهذا إناء فيه ماء، وهذا بيت الخلاء.
قال الشافعي t: فما لبث مالك t حتى أقبل هو والغلام حاملاً طبقًا، فوضعه من يده وسلَّم الإمام عليَّ، ثم قال للعبد: أغسل علينا، ثم وثب الغلام إلى الإناء وأراد أن يغسل عليَّ أولاً فصاح عليه مالك، وقال: الغسل في أول الطعام لرب البيت وفي آخر الطعام للضيف.
قال الشافعي t: فاستحسنتُ ذلك من الإمام مالك t وسألته عن شرحه فقال: إنه يدعو الناس إلى كرمه فحُكمه أن يبتدئ بالغسل، وفي آخر الطعام ينتظر مَن يدخل فيأكل معه.
قال الشافعي t: فكشف الإمام t الطبق فكان فيه صحفتان في إحداهما لبن والأخرى تمر، فسمَّى الله - تعالى - وسميت فأتيت أنا ومالك على جميع الطعام، وعَلِم مالك أنَّا لم نأخذ من الطعام الكفاية، فقال لي: يا أبا عبدالله هذا جهد من مُقِلٍّ إلى فقير معدم، فقلت: لا عذر على مَن أحسن، إنما العذر على مَن أساء.
قال الشافعي t: فأقبل مالك يسألني عن أهل مكة حتى دَنَت العشاء الآخرة، ثم قام عَنِّي وقال: حُكم المسافر أن يقل تعبه بالاضطجاع، فنمت ليلتي، فلمَّا كان في الثلث الأخير من الليل قرع عليَّ مالك الباب، فقال لي: الصلاة - يرحمك الله - فرأيته حامل إناء فيه ماء، فتبشَّع عليَّ ذلك فقال لي: لا يرعك ما رأيتَه، فخدمة الضيف فرض.
قال الشافعي t: فتجهزت للصلاة فصليت الفجر مع الإمام مالك في مسجد رسول الله ﷺ والناس لا يعرف بعضُهم بعضًا من شدَّة الغلس، وجلس كلُّ واحد مِنَّا في مُصلاَّه يسبح الله - تعالى - إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال، فجلس مالك في مجلسه بالأمس، وناولني "الموطأ" أمليه وأقرؤه على الناس وهم يكتبونه.
قال الشافعي t: فأتيت على حفظه من أوله إلى آخره، وأقمت ضيف مالك ثمانية أشهر، فما علم أحد من الإنس الذي كان بيننا أينا الضيف، ثم قدم على مالك المصريون بعد قضاء حجِّهم للزيارة واستماع "الموطأ".
قال الشافعي t: فأمليتُ عليهم حفظًا، ومنهم عبدالله بن عبدالحكم وأشهب وابن القاسم، قال الربيع: وأحسب أنَّه ذكر الليث بن سعد، ثم قَدِم بعد ذلك أهل العراق لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي t: فرأيت بين القبر والمنبر فتًى جميل الوجه، نظيف الثوب، حسَن الصلاة، فتوسَّمت فيه خيرًا فسألته اسمه فأخبرني، وسألته عن بلده فقال: العراق، فقلت: أيُّ العراق؟ فقال لي: الكوفة، فقلت: مَن العالِم بها والمتكلِّم في نصِّ الكتاب والمفتي بأخبار رسول الله ﷺ فقال لي: أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبَا أبي حنيفة - رضي الله عنه.
قال الشافعي t: فقلت: ومتى عزمتُم تظعنون؟ فقال لي: في غداة غدٍ وقت الفجر، فعدت إلى مالك، فقلت له: خرجت من مكة في طلب العلم بغير استئذان العجوز، أفأعود إليها أو أرحل في طلب العلم؟ فقال لي: العلم فائدة يرجع منها إلى فائدة، ألم تعلم أنَّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلبه.
قال الشافعي t: فلمَّا أزمعت على السفر زوَّدني الإمام مالك t فلمَّا كان في السَّحَر سار معي مشيِّعًا إلى البقيع، ثم صاح بعلوِّ صوته: مَن يكري راحلته إلى الكوفة، فأقبلتُ عليه وقلتُ: بِمَ تكتري وليس معك ولا معي شيء؟ فقال لي: انصرفتُ البارحة بعد صلاة العشاء الآخرة إذ قرع عليَّ قارع الباب فخرجت إليه فأصبت ابنَ القاسم، فسألني عن قَبول هدية فقبلتُها، فدفع لي صُرَّة فيها مائة دينار، وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي، فاكترى لي بأربعة دنانير، ودفع إليَّ باقي الدنانير، وودعني وانصرف.
وسرت في حملة الحجاج حتى وصلت إلى الكوفة يوم رابع عشرين من المدينة فدخلتُ المسجد بعد صلاة العصر وصليت فيها، فبينما أنا كذلك إذ رأيت غلامًا دخل المسجد وصلى العصر فما أحسن الصلاة، فقمتُ إليه ناصحًا، فقلت له: أحسن صلاتك لئلاَّ يعذب الله هذا الوجه الجميل بالنار، فقال لي: أنا أظن أنك من أهل الحجاز؛ لأن فيك الغلظة والجفاء، وليس فيكم رقة أهل العراق، وأنا أصلي هذه الصلاة خمس عشرة سنة بين يدي محمد بن الحسن وأبي يوسف، فما عابا عليَّ صلاتي قط، وخرج معجبًا ينفض رداءَه في وجهي، فلقي للتوفيق محمد بن الحسن وأبا يوسف بباب المسجد، فقال: أعلمتما في صلاتي من عيب؟ فقالا: اللهم لا، قال: ففي مسجدنا هذا مَن عاب صلاتي، فقالا: اذهب إليه فقل له بِمَ تدخل في الصلاة.
قال الشافعي t: فقال لي: يا مَن عاب صلاتي، بم تدخل في الصلاة؟ فقلت: بفرضين وسُنَّة، فعاد إليهما وأعلمهما بالجواب، فعلما أنه جواب مَن نظر في العلم، فقالا: أذهب إليه فقل له: ما الفرضان وما السُّنة، فأتى إليَّ فقال: ما الفرضان وما السنة؟ فقلت له: أمَّا الفرض الأول فالنية، والثاني تكبيرة الإحرام، والسنة رفع اليدين، فعاد إليهما فأعلمهما بذلك، فدخلا إلى المسجد، فلمَّا نظرا إليَّ أظنُّهما ازدرياني، فجلسَا ناحية وقالا: أذهب إليه، وقل له: أجب الشيخين.
قال الشافعي t: فلمَّا أتاني علمت أني مسؤول عن شيء من العلم، فقلت: من حكم العلم أن يؤتى إليه، وما علمت لي إليهما حاجة.
قال الشافعي t: فقاما من مجلسهما إليَّ فلمَّا سلما عليَّ قمت إليهما وأظهرت البشاشة لهما، وجلست بين أيديهما، فأقبل عليَّ محمد بن الحسن، وقال: أحرَمِي أنت؟ فقلت: نعم، فقال: أعربي أم مولى؟ فقلت:عربي، فقال: من أيِّ العرب؟ فقلت: من ولد المطلب، فقال من ولد مَن؟ قلت: من ولد شافع، قال: رأيت مالكًا؟ قلت: مِن عنده أتيت، قال لي: نظرت في "الموطأ"؟ قلت: أتيت على حفظه، فعظم ذلك عليه، ودعا بدواة وبياض وكتب مسألة في الطهارة ومسألة في الزكاة ومسألة في البيوع والفرائض والرهان والحج والإيلاء ومن كل باب في الفقه مسألة، وجعل بين كل مسألتين بياضًا ودفع إليَّ الدرج، وقال: أجب عن هذه المسائل كلِّها من "الموطأ".
قال الشافعي t: فأجبت بنص كتاب الله وبسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وإجماع المسلمين في المسائل كلها، ثم دفعت إليه الدرج فتأمَّله، ونظر فيه، ثم قال لعبد: خذ سيدك إليك.
قال الشافعي t: ثم سألني النهوض مع العبد، فنهضت غير ممتنع، فلمَّا صرتُ إلى الباب قال لي العبد: إنَّ سيدي أمرني أن لا تسير إلى المنزل إلا راكبًا.
قال الشافعي t: فقلت له: قدِّم، فقدم إليَّ بغلة بسرج مُحَلًّى، فلمَّا علوت على ظهرها رأيت نفسي بأطمار رثَّة فطاف بي أزقَّة الكوفة إلى منزل محمد بن الحسن، فرأيت أبواب ودهاليز منقوشة بالذهب والفضة، فذكرت ضيق أهل الحجاز وما هم فيه، فبكيت وقلت: أهل العراق ينقشون سقوفهم بالذهب والفضة، وأهل الحجاز يأكلون القديد ويمصُّون النوى!!
ثم أقبل عليَّ محمد بن الحسن وأنا في بكائي فقال: لا يروعك يا عبدالله ما رأيت، فما هو إلاَّ من حقيقة حلال ومكتسب وما يطالبني الله فيها بفرض، وإني أخرج زكاتها في كل عام، فأسرُّ بها الصديق وأكبت العدو.
قال الشافعي t: فما بتُّ حتى كساني محمد بن الحسن خُلْعة بألف درهم، ثم دخل خزانته فأخرج إليَّ الكتاب "الأوسط" تأليف الإمام أبي حنيفة، فنظرت في أوَّله وفي آخره، ثم ابتدأت الكتاب في ليلتي أتحفَّظه، فما أصبحت إلاَّ وقد حفظته، ومحمد بن الحسن لا يعلم بشيء من ذلك.
وكان المشهور بالكوفة بالفتوى والمجيب في النوازل، فأنا قاعد عن يمينه في بعض الأيام إذ سُئِل عن مسألة أجاب فيها، وقال: هكذا قال أبو حنيفة، فقلت: قد وهمتَ في الجواب في هذه المسألة، والجواب عن قول الرجل كذا وكذا، وهذه المسألة تحتها المسألة الفلانية وفوقها المسألة الفلانية في الكتاب الفلاني، فأمر محمد بن الحسن بالكتاب، فأحضر فتصفَّحه، ونظر فيه فوجد القول كما قلت، فرجع عن جوابه إلى ما قلت ولم يخرج إليَّ كتابًا بعد هذا.
قال الشافعي t: واستأذنته في الرحيل، فقال: ما كنت لآذن لضيف بالرحيل عني وبذل لي في مشاطرة نعمته، فقلت: ما لذا قصدت ولا لذا أردت، ولا رغبتي إلا في السفر، قال: فأمر غلامه أن يأتي بكلِّ ما في خزانته من بيضاء وحمراء، فدفع إليَّ ما كان فيها وهو ثلاثة آلاف درهم.
وأقبلت أطوف العراق وأرض فارس وبلاد الأعاجم وألقى الرجال، حتى صرت ابن إحدى وعشرين سنة، ثم دخلت العراق في خلافة هارون الرشيد، فعند دخول الباب تعلَّق بي غلام، فلاطفني، وقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن إدريس الشافعي: فقال: مُطَّلبي؟ فقلت: أجل، فكتب ذلك في لوح كان في كمه وخلى سبيلي، فأويت إلى بعض المساجد أفكر في عاقبة ما فعل، حتى إذا ذهب من الليل النصف كبس المسجد، وأقبلوا يتأمَّلون وجه كل رجل حتى أتوا إليَّ، فقالوا للناس: لا بأس عليكم، هذا هو الحاجة والغاية المطلوبة، ثم أقبلوا عليَّ وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فقمتُ غير ممتنع، فلمَّا بصرت بأمير المؤمنين سلمت عليه سلامًا بينًا فاستحسن الألفاظ وردَّ عليَّ بالجواب، ثم قال: تزعم أنك من بني هاشم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، كلُّ زعم في كتاب الله باطل، فقال: أبِنْ لي عن نسبك! فانتسبت حتى لحقت آدم - عليه السلام - فقال لي الرشيد: ما تكون هذه الفصاحة وهذه البلاغة إلا في رجل من ولد المطلب، هل لك أن أوليك قضاء المسلمين، وأشاطرك ما أنا فيه، وتنفذ فيه حكمك، وحكمي على ما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - واجتمعت عليه الأمة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، لو سألتني أن أفتح باب القضاء بالغداة وأغلقه بالعشي بنعمتك هذه ما فعلت ذلك أبدًا.
فبكى الرشيد وقال: تقبل من عرض الدنيا شيئًا؟ فقلت: يكون معجلاً، فأمر لي ألف دينار فما برحت من مقامي حتى قبضتُها، ثم سألني بعض الغلمان والحشم أن أصلهم مِن صلتي، فلم تسع المروءة أن كنت مسؤولاً غير المقاسمة فيما أنعم الله به عليَّ، فخرج لي قسمٌ كأقسامهم، ثم عدت إلى المسجد الذي كنت فيه ليلتي، فتقدَّم يصلي بنا غلامٌ صلاة الفجر في جماعة فأجاد القراءة ولحقه سهو ولم يدرِ كيف الدخول ولا كيف الخروج، فقلت له بعد السلام: أفسدت علينا وعلى نفسك أَعِدْ، فأعاد مسرعًا وأعدنا، ثم قلت له: أحضر بياضًا أعمل لك باب السهو في الصلاة والخروج منها، فسارع إلى ذلك ففتح الله - عز وجل - عليَّ فألفت له كتابًا من كتاب الله وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وإجماع المسلمين، وسميته باسمه، وهو أربعون جزءًا يعرف بكتاب "الزعفران"، وهو الذي وضعته بالعراق، حتى تكامل في ثلاث سنين.
وولاَّني الرشيد الصدقات بنجران، وقدم الحاج فخرجت أسألهم عن الحجاز، فرأيت فتًى في قُبَّته فلمَّا أشرت إليه بالسلام أمر قائد القُبَّة أن يقف، وأشار إليَّ بالكلام فسألتُه عن الإمام مالك، وعن الحجاز فأجاب بخير، ثم عاودتُه إلى السؤال عن مالك فقال لي: أشرح لك أو أختصر؟ قلت: في الاختصار البلاغة، فقال: في صحة جسم، وله ثلاثمائة جارية، يبيت عند الجارية ليلة فلا يعود إليها إلا في سنة، فقد اختصرت لأخبره.
قال الشافعي t: فاشتهيت أن أراه في حال غناه كما رأيته في حال فقره، قلت: أما عندك من المال ما يصلح للسفر؟ فقال: إنك لتوحشني خاصة وأهل العراق عامَّة، وجميع مالي فيه لك، فقلت له: بِمَ تعيش؟ قال: بالجاه، ثم نظر إليَّ وحكَّمني في ماله، فأخذت منه على حسب الكفاية والنهاية، وسرت على ديار ربيعة ومُضَر، فأتيت حران ودخلتها يوم الجمعة، فذكرت فضل الغسل وما جاء فيه فقصدت الحمام، فلمَّا سكبتُ الماء رأيت شعر رأسي شعثًا، فدعوت لها المزين، فلمَّا بدأ برأسي وأخذ القليل من شعري، دخل قوم من أعيان البلد، فدعوه إلى خدمتهم فسرع إليهم وتركني، فلمَّا قضوا ما أرادوا منه عاد إليَّ فما أردتُه وخرجت من الحمام، فدفعت إليه أكثر ما كان معي من الدنانير وقلت له: خذ هذه، وإذا وقف ببابك غريب لا تحتقره، فنظر إليَّ متعجِّبًا فاجتمع على باب الحمام خلق كثير، فلمَّا خرجت عاتبني الناس، فبينما أنا كذلك إذ خرج بعض مَن كان في الحمام من الأعيان، فقدَّمت له بغلة ليركبها، فسمع خطابي لهم فانحدر من البغلة بعد أن استوى عليها، وقال لي: أنت الشافعي؟ فقلت: نعم، فمدَّ الركاب ممَّا يليني، وقال: بحق الله اركب، ومضى بي الغلام مطرقًا بين يديَّ حتى أتيت إلى منزل الفتى، ثم أتى وقد حصلت في منزله، فأظهر البشاشة ثم دعا بالغسل فغسل علينا، ثم حضرت المائدة فسمى وحبست يدي، فقال: ما لك يا عبدالله؟ فقلت له: طعامك حرام عليَّ حتى أعرف مِن أين هذه المعرفة، فقال: أنا ممَّن سمع منك الكتاب الذي وضعتَه ببغداد وأنت لي أستاذ.
قال الشافعي t: فقلت العلم بين أهل العقل رحم متصلة، فأكلتُ بفرحة إذ لم يعرف الله - تعالى - إلاَّ بيني وبينه أبناء جنسي، وأقمت ضيفَه ثلاثًا، فلمَّا كان بعد ثلاث، قال: إن لي حول حران أربع ضياع ما بحران أحسن منها، أشهد الله إن اخترت المقام فإنها هدية مِنِّي إليك، فقلت: فبِمَ تعيش؟ قال: بما في صناديقي تلك، وأشار إليها وهي أربعون ألف درهم، وقال: أتَّجر بها، فقلت: ليس إلى هذا قصدت، ولا خرجت من بلدي لغير طلب العلم، فقال لي: فالمال إذًا من شأن المسافر، فقبضت الأربعين ألفًا وودعته وخرجت من مدينة حران وبين يديَّ أحمال.
ثم تلقَّاني الرجال وأصحاب الحديث؛ منهم: أحمد بن حنبل، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، فأجزت كلَّ واحد منهم على قدر ما قسم له، حتى دخلت مدينة الرملة، وليس معي إلا عشرة دنانير، فاشتريت بها راحلة، واستويت على كورها، وقصدت الحجاز، فما زلتُ من منهل إلى منهل حتى وصلت إلى مدينة النبي ﷺ بعد سبعة وعشرين يومًا بعدَ صلاة العصر، فصليت العصر، ورأيت كرسيًّا من الحديد عليه مخدة من قباطي مصر مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي t: وحوله أربعمائة دفتر أو يزِدن، وبينما أنا كذلك إذ رأيت مالك بن أنس t قد دخل من باب النبي ﷺ وقد فاح عطرُه في المسجد، وحوله أربعمائة أو يزيدون، يحمل ذيولَه منهم أربعة، فلمَّا وصل قام إليه مَن كان قاعدًا وجلس على الكرسي فألقى مسألة في "جراح العمْد"، فلمَّا سمعت ذلك لم يسعني الصبر، فقمت قائمًا في سور الحلقة فرأيت إنسانًا، فقلت له: قل: الجواب كذا وكذا، فبادر بالجواب قبل فراغ مالك من السؤال، فأضرب عنه مالك، وأقبل على أصحابه فسألهم عن الجواب فخالفوه فقال لهم: أخطأتم وأصاب الرجل، ففرِح الجاهل بإصابته، فلمَّا ألقى السؤال الثاني أقبل عليَّ الجاهل يطلب مِنِّي الجواب، فقلت له: الجواب كذا وكذا فبادر بالجواب، فلم يلتفت إليه مالك، وأقبل على أصحابه واستخبرهم عن الجواب، فخالفوه فقال لهم: أخطأتم وأصاب الرجل.
قال الشافعي t: فلمَّا ألقى السؤال الثالث قلت له: قل: الجواب كذا وكذا فبادر بالجواب، فأعرض مالك عنه، وأقبل على أصحابه، فخالفوه فقال: أخطأتم وأصاب الرجل، ثم قال للرجل: ادخل ليس ذلك بوضعك، فدخل الرجل طاعةً لمالك، وجلس بين يديه فقال له مالك فِرَاسة: قرأت "الموطأ"؟ قال: لا، قال فنظرت ابن جريج؟ قال: لا، قال: فلقيت جعفر بن محمد الصادق؟ قال: لا، قال: فهذا العلم من أين؟ قال: إلى جانبي غلام شاب يقول لي قل: الجواب كذا وكذا فكنت أقول، قال: فالتفت مالك والتفت الناس بأعناقهم لالتفات مالك t فقال للجاهل: قم فأمر صاحبك بالدخول إلينا.
قال الشافعي t: فدخلت فإذا أنا من مالك بالموضع الذي كان الجاهل فيه جالسًا بين يديه، فتأمَّلني ساعة، وقال: أنت الشافعي؟ فقلت: نعم، فضمَّني إلى صدره ونزل عن كرسيه، وقال لي: أتمم هذا الباب الذي نحن فيه حتى ننصرف إلى المنزل الذي هو لك المنسوب إليَّ.
قال الشافعي t: فألقيت أربعمائة مسألة في "جراح العمد" فما أجابني أحد بجواب، واحتجت أن آتي بأربعمائة جواب، فقلت الأول كذا وكذا، والثاني كذا، وكذا، حتى سقط القرص وصلينا المغرب، فضرب مالك بيده إليَّ، فلمَّا وصلت المنزل رأيت بناء غير الأول فبكيت، فقال: ممَّ بكاؤك كأنك خفت يا أبا عبدالله أن قد بعت الآخرة بالدنيا؟ قلت: هو والله ذلك، قال: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، هذه هدايا خراسان وهدايا مصر، والهدايا تجبى من أقاصي الدنيا، وقد كان النبي ﷺ يقبل الهدية ويردُّ الصدقة، وإن لي ثلاثمائة خلعة من رزق خراسان وقباطي مصر، وعندي عبيد بمثلها لم يستكملوا الحلم فهم هدية مِنِّي إليك، وفي صناديقي تلك خمسة آلاف دينار أُخْرِج زكاتها عند كل حول، فلك مِنِّي نصفها، قلت: إنك موروث وأنا موروث، فلا يبت جميع ما وعدتني به إلاَّ تحت خاتمي ليجريَ ملكي عليه، فإن حضرني أجلي كان لورثتي دون ورثتك، وإن حضرك أجلك كان لي دون ورثتك، فتبسَّم في وجهي، وقال: أبيت إلاَّ العلم، فقلت: لا يستعمل أحسن منه، وما بتُّ إلا وجميع ما وعدني به تحت خاتمي.
فلمَّا كان في غداة غدٍ صليت الفجر في جماعة، وانصرفت إلى المنزل أنا وهو وكل واحد منَّا يده في يد صاحبه إذ رأيت كراعًا على بابه من جياد خراسان وبغالاً من مصر، فقلت له: ما رأيت كراعًا أحسن من هذا، فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبدالله، فقلت له: دعْ لك منها دابة، فقال: إني أستحي من الله أن أطأ قرية فيها نبيُّ الله ﷺ بحافر دابة.
قال الشافعي t: فعلمت أن ورع الإمام مالك باقٍ على حاله، فأقمت عنده ثلاثًا، ثم ارتحلت إلى مكة، وأنا أسوق خيرَ الله ونعمَه، ثم أنفذت مَن يعلم بخبري، فلمَّا وصلت إلى الحرم خرجت العجوز ونسوة معها، فضمَّتني إلى صدرها، وضمَّتني بعدها عجوزٌ كنت آلفها دعوها خالتي، وقالت:
مَا أُمَّكَ اجْتَاحَتِ المَنَايَا = كُلُّ فُؤَادٍ عَلَيْكَ أُمُّ
قال الشافعي t: وهي أوَّل كلمة سمعتها في الحجاز من امرأة، فلمَّا هممت بالدخول قالت لي العجوز: إلى أين عزمت؟ فقلت: إلى المنزل، فقالت: هيهات تخرج من مكة بالأمس فقيرًا، وتعود إليها مترفًا تفخر على بني عمك بذلك، فقلت: ما أصنع؟ فقال: نادِ بالأبطح في العرب بإشباع الجائع، وحمل المنقطع، وكسوة العراة فتربح ثناء الدنيا، وثواب الآخرة، فقلت: ما أمرتِ به، وصار بذلك الفعل الرجال على آباط الإبل، وبلغ ذلك مالكًا، فبعث إليَّ يستحثُّني على الفعل، ويعدني أنه يحمل إليَّ في كل عام مثل ما صار إليَّ منه، وما دخلت إلى مكة وأنا أقدر على شيء ممَّا جاء معي إلاَّ على بغلة واحدة وخمسين دينارًا، فوقعت المقرعة فناولتني إيَّاها أمَة على كتفها قِربة فأخرجت لها خمسة دنانير، فقال لي العجوز: ما أنت صانع؟ فقلت: أجيزها على فعلها، فقالت: ادفع إليها جميع ما تأخَّر معك، قال: فدفعت إليها ودخلت إلى مكة، فما بتُّ تلك الليلة إلاَّ مديونًا، والإمام مالك t يحمل إليَّ في كل عام مثل ما كان دفع إليَّ أولاً إحدى عشرة سنة، فلمَّا مات ضاق بي الحجاز، وخرجت إلى مصر، فعوَّضني الله عبدالله بن عبدالحكم فقام بالكلفة.
فهذا جميع ما لقيت في سفري، فافهم ذلك يا ربيع، قال الربيع: وسألني المزني إملاء ذلك بحضرته، فما وجدنا للمجلس فرغة، فما وقع كتاب السفر إلى أحد غيري[35].
* * *
من آداب العلم
قال حسين الكرابيسي: سمعت الشافعي يقول: كنت امرأً أكتب الشعر فآتي البوادي فأسمع منهم، قال: فقدِمت مكَّة فخرجت منها وأنا أتمثَّل بشعر "للبيد"، وأضرب وحشي قدمي بالسوط، فضربني رجلٌ من ورائي من الحجبة، فقال: رجل من قريش ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون معلمًا! ما الشِّعر؟ هل الشعر إذا استحكمت فيه إلا قصدت معلمًا، تفقَّه يعلمْك الله، قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي.
قال: ورجعت إلى مكة، وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم كنت أجالس مسلمَ بن خالد الزنجي، ثم قرأت على مالك بن أنس، فكتبت "موطأه" فقلت له: يا أبا عبدالله أقرأ عليك! قال: يا ابن أخي تأتي برجل يقرأه عليَّ فتسمع، فقلت: أقرأ عليك فتسمع إلى كلامي، فقال لي: أقرأ، فلمَّا سمع قراءتي أذن، فقرأت عليه حتى بلغت كتاب السير، فقال لي: اطوه يا ابن أخي، تفقه تقرأ، قال: فجئت إلى مصعب بن عبدالله فكلمته أن يكلم بعض أهلينا فيعطيني شيئًا من الدنيا، فإنه كان بي من الفقر والفاقة ما الله به عليم، فقال لي مصعب: أتيت فلانًا وكلمته فقال لي: تكلمني في رجل كان منَّا فخالفنا قال: فأعطاني مائة دينار وقال لي مصعب: إن هارون الرشيد كتب إليَّ أن أصير إلى اليمن قاضيًا فتخرج معنا لعل الله أن يعوضك ما كان من هذا الرجل، قال: فخرج قاضيًا على اليمن وخرجت معه، فلمَّا صرنا باليمن وجالسنا الناس، كتب مطرف بن مازن إلى هارون الرشيد: إن أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج من يديك، فأخرج عنه محمد بن إدريس.
وذكر أقوامًا من الطالبيين، قال: فبعث إلي حماد العزيزي فأوثقت بالحديد حتى قدمنا على هارون، فلمَّا أدخلت على هارون فأخرجت من عنده، قال: وقدمت ومعي خمسون دينارًا، قال: ومحمد بن الحسن يومئذ بالرقة، قال: فأنفقت تلك الخمسين دينارًا على كتبهم، قال: فوجدت مثلهم ومثل كتبهم مثل رجل كان عندنا يقال له فروخ، وكان يحمل الدهن في زقٍّ له فكان إذا قيل له: عندك فرشنان؟ قال: نعم، فإن قيل له: عندك زمبق؟ قال: نعم، فإن قيل: عندك حبر؟ قال: نعم، فإذا قيل له: أرني - وللزق رؤوس كثيرة - فيخرج له من الرؤوس، وإنما هي دهن واحد - كذلك وجدت كتاب أبي حنيفة - إنما يقول كتاب الله وسنة نبيه - عليه السلام - وإنما هم مخالِفون له.
قال: فسمعت ما لا أحصيه.
وكان محمد بن الحسن يقول: إن تابعكم الشافعي فما عليكم من حجازي كلفة بعده، فجئت يومًا فجلست إليه وأنا من أشد الناس همًّا وغمًّا من سخط أمير المؤمنين وزادي قد نفد.
قال: فلمَّا أن جلست إليه أقبل محمد بن الحسن يطعن على أهل دار الهجرة، فقلت: على مَن تطعن؟ على البلد أم على أهله؟ والله لئن طعنت على أهله إنما تطعن على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وإن طعنت على البلدة، فإنها بلدتهم التي دعا لهم رسول الله ﷺ أن يبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم، وحرَّمه كما حرَّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مكة لا يقتل صيدها، على أيهم تطعن؟
فقال: معاذ الله أن أطعن على أحد منهم أو على بلدته، وإنما أطعن على حكم من أحكامه، فقلت: ما هو؟ فقال: اليمين مع الشاهد، فقلت له: لِمَ طعنت؟ قال: فإنه مخالف لكتاب الله، فقلت له: فكل خبر يأتيك مخالفًا لكتاب الله أتسقطه؟ قال: فقال: كذا يجب، فقلت له: ما تقول في الوصية للوالدين؟ قال: فتفكَّر ساعة فقلت له: أجب، فقال: لا تجب، قال: فقلت له هذا مخالف لكتاب الله، لم قلت: إنه لا يجوز؟ قال: فقال: لأن رسول الله ﷺ قال: ((لا وصية للوالدين))، قال: فقلت له: فأخبرني عن الشاهدين حتمٌ من الله؟ قال: فما تريد من ذا؟ قال: فقلت له: لئن زعمت أن الشاهدين حتمٌ من الله لا غير كان ينبغي لك أن تقول: إذا زنى زانٍ فشهد عليه شاهدان إن كان محصنًا رجمته، وإن كان غير محصن جلدته، قال: ليس هو حتمًا من الله، قال: قلت له: إذا لم يكن حتمًا من الله فتنزل الأحكام منازلها في الزنا أربعة، وفي غيره شاهدين، وفي غيره رجلاً وامرأتين.
وإنما أعني في القتل: لا يجوز إلا بشاهدين، فلما رأيت قتلاً وقتلاً أعني بشهادة الزنا وأعني بشهادة القتل، فكان هذا قتلاً وهذا قتلاً، غير أن أحكامهما مختلفة، فكذلك كل حتم أنزله الله منها بأربع، ومنها بشاهدَين، ومنها برجل وامرأتين، ومنها بشاهد واليمين، فرأيتك تحكم بدون هذا.
قال فقلت له: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت له: فما تقول في الرجلين إذا اختلفَا في الحائط؟ قال: فقال في قول أصحابنا: إن لم يكن لهم بينة ننظر إلى العقد من أين هو إلينا فأحكم لصاحبه.
قال: فقلت: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟
قلت: فما تقول في رجلين بينهما حصن فيختلفان، لِمَن تحكم إذا لم تكن لهم بينة؟ قال: أنظر إلى معاقده من أي وجه هو فأحكم له، قلت: بكتاب الله هذا أم بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم؟
قال: فقلت له: فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلا امرأة واحدة وهي القابلة ولم يكن غيرها؟ فقال لي: الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها.
قال: فقلت له هذا بكتاب الله أم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم قلت له: أتعجب من حكمٍ حكَم به رسول الله ﷺ وحكم به أبو بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وحكم به عليُّ بن أبي طالب بالعراق وقضى وحكم به شريح؟
قال: ورجل من ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم، قال فأدخل على هارون وقرأه عليه، قال: فقال: هرثمة بن أعين - وكان متَّكئًا فاستوى جالسًا - فقال: اقرأه عليَّ ثانيًا، قال: فأنشأ هارون يقول: صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، قال رسول الله ﷺ: ((تعلموا من قريش ولا تعلموها، قدِّموا قريشًا ولا تقدموها))، ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلمَ من محمد بن الحسن.
قال: فرضي عنِّي وأمر لي بخمسمائة دينار، قال: فخرج بها هرثمة وقال لي بالشرط هكذا، فاتبعته فحدَّثني بالقصة، وقال لي: قد أمر بخمسمائة دينار وقد أضفنا إليها مثلَها، قال: فوالله ما ملكت قبلها ألف دينار إلاَّ في ذاك الوقت، قال: وكنت رجلاً أستتبع، فأغناني الله - عز وجل - على يدي مصعب[36].
وعن محمد بن عبدالحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أو الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف، قال قلت: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، قال قلت: أنشدك الله، أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ قال: إذ أنشدتني بالله فصاحبكم، قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله ﷺ أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قلت: فصاحبنا أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله ﷺ أم صاحبكم؟ فقال: صاحبكم، قال: قلت فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا، قلت: فبحق ندَّعي القياس أكثر ما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس، قال: ويريد بصاحبه مالك بن أنس[37].
وعن الحميدي قال: سمعت الشافعي يقول: كنت أطلب الشعر وأنا صغير وأكتب، فبينما أنا أمشي بمكة أو في ناحية من مكة إذ سمعت صائحًا يقول: يا محمد بن إدريس، عليك بطلب العلم، قال: فالتفتُّ فلم أرَ أحدًا، فرجعت فكنت أطلب العلم وأكتبه على الخِرَق وأطرحه في الزير حتى امتلأ، وكنت يتيمًا ولم يكن لأمي شيء، فولي عم لي ناحية اليمن على القضاء، فخرجت معه، فلمَّا قدمت من اليمن أتيت مسلم بن خالد الزنجي، فسلَّمت عليه فلم يردَّ عليَّ السلام، وقال: أحدهم يجيئنا حتى إذا ظننا أنه يصلح أفسد نفسه، قال: فسرت إلى سفيان بن عيينة، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام، وقال: قد بلغني يا أبا عبدالله ما كنت فيه، وما بلغني إلا خير فلا تعد.
قال: ثم خرجت إلى المدينة فقرأت "الموطأ" على مالك، ثم خرجت إلى العراق فصرت إلى محمد بن الحسن، فكنت أناظر أصحابه، قال: فشكوني إلى محمد بن الحسن، فقالوا: إن هذا الحجازي يَعيب علينا قولنا ويخطئنا، فذكر محمد بن الحسن ذلك فقلت له: إنا كنَّا لا نعرف إلا التقليد فلمَّا قدمنا عليكم سمعناكم تقولون: لا تقلِّدوا واطلبوا الحق والحجاج، فقال لي: فناظِرني، فقلت: أناظِر بعض أصحابك وأنت تسمع، فقال: لا إلاَّ أنا، قال فقلت: لك ذلك، قال: فتسأل أو أسألك؟ قلت: ما شئت، قال: فما تقول في رجل غصب من رجل عمودًا فبنى عليه قصرًا فجاءه مستحق فاستحقَّه؟ قلت: يخير بين العمود وبين قيمته، فإن اختار العمود هدم القصر، وأخرج العمود فردَّه على صاحبه، قال: فما تقول في رجل غصب من رجل خشبة، فبنى عليها سفينة، ثم لج بها في البحر، ثم جاء صاحبها فاستحقَّها؟ قلت: تقدم إلى أقرب المرسيين فيخيَّر بين القيمة وبين الخشبة، فإن أخذ قيمتها وإلا نقض السفينة ورد الخشبة إلى صاحبها.
فماذا تقول في رجل غصب من رجل خيط إبرَيْسِم فخاط به خرجَه، ثم جاء صحابه فاستحقَّه؟ قلت: له قيمته، فكبر وكبر أصحابه، وقالوا: تركت قولك يا حجازي، فقلت له: على رسلك، أرأيت لو أن صاحب القصر أراد أن يهدم قصره ويرد العمود إلى صاحبه ولا يعطيه قيمته كان للسلطان أن يمنعه من ذلك؟
فقال: لا، فقلت: أرأيت إلى صاحب السفينة، لو أراد أن ينقض السفينة، ويرد الخشبة إلى صاحبها، أكان للسلطان أن يمنعه؟ قال: لا، قلت: أرأيت إلى صاحب الخرج لو أراد أن ينقض خرجه ويخرج الخيط الذي خاط به الخرج ويرده على صاحبه، أكان للسلطان أن يمنعه؟ قال: نعم، قلت: فكيف نقيس ما هو محظور بما هو ليس بممنوع؟[38].
كان أبو هفان المهزمي البصري الراوية يقول: لم أرَ قط ولا سمعت مَن أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع في يده كتابٌ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه ليكتري دكاكين الورَّاقين، ويبيت فيها للنظر، كان كثير الحفظ واسع الرواية قويَّ الحجة ناصع البرهان، وأقرب ما يوصف به أنه كان دائرة معارف تبلورت فيها ثقافات عصره[39].
قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل ودرَّس وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم في زمرة الكبار، وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار، وكان دائم التشاغل بالعلم حتى غني رأيت بخطِّه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشر سنين.
قال: وكان له الخاطر العاطر والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى بـ"الفنون" مناظر الخواطر وواقعاته، ومَن تأمَّل واقعاته فيه عرف غَوْر الرجل، وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مُدَّة، فلمَّا كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة جرت فيها فِتَن بين الحنابلة والأشاعرة، فترك الوعْظ واقتصر على التدريس، ومتَّعه الله - تعالى - بسمعه وبصره وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه قال: بلغت الاثنتي عشرة سنة وأنا في سن الثمانين وما أدري نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحِدَّة النظر وقوَّة البصر لرؤية الأهلَّة الخفية، إلاَّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة؛ قال ابن رجب ذلك في "طبقات الحنابلة"، ج1، ص146.
وعن يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب: يا يونس، لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قُطِع بك قبل أن تبلغه، ولكن خُذْه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة؛ فإن مَن رام أخْذَه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي.
وقال حماد بن زيد: كان الزهري يحدِّث ثم يقول: هاتوا من أشعاركم، هاتوا من أحاديثكم، فإن الأذُن بحاجة وإن للنفس حمضة.
وقال الأصمعي: وصلت بالعلم، وكسبت بالمُلَح.
وقال ابن شهاب الزهري: الأذن بحاجة والنفس حمضة، فأفيضوا في بعض ما يخفِّف علينا.
وقال أيوب: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حِجج ما يسأله عن مسألة هيبة له.
وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى الرجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن فأقرِئه مِنِّي السلام.
وقال سعيد بن جبير: لقد كان ابن عباس يحدثني بالحديث لو كان يأذن لي أن أقوم فأقبِّل رأسه لفعلت.
وقال يحيى بن سعيد القطان: سمعت شعبة يقول: كل مَن سمعتُ منه حديثًا فأنا له عبد.
وقال أبو بكر الخلال: خرج أبو بكر المروذي إلى الغزو فشيَّعه الناس إلى سامرَّاء فجعل يردُّهم فلا يرجعون فحزروا فإذا هم بسامراء - سوى مَن رجع - نحو خمسين ألف إنسان، فقيل له: يا أبا بكر، احمد الله، فهذا علم قد نُشِر لك، قال: فبكى ثم قال: ليس هذا العلم لي، إنما هذا علم أحمد بن حنبل[40].
قال أبو عثمان المازني: رأيت الأصمعي جاء إلى أبي زيد الأنصاري وقبَّل رأسه وجلس بين يديه وقال: أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة.
قال الشافعي: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رقيقًا؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها.
قال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له.
وحضر بعض أولاد الخليفة المهدي عند شريك، فاستند إلى حائط وسأله عن حديث فلم يلتفت إليه شريك، ثم عاد فعاد شريك بمثل ذلك، فقال: أتستخفُّ بأولاد الخلفاء؟ قال: لا، ولكن العلم أجلُّ عند الله من أن أضيِّعه، ويروى: العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه.
ولقد بلغ من شأن كثير من العلماء أنه كان يرفض تعليم أولاد الأغنياء والذهاب إليهم في منازلهم؛ لأنه لا يريد العلم وسيلة إلى المال، ولا أن يحرِم منه مَن لا يستطيع الحصول على المال، وقد يكون من هؤلاء العلماء مَن هو في حاجة ماسَّة إلى المال، ولكنه آثر أن يصبر وينشر العلم على أن يختصَّ بعلمه أشخاصًا من أجل نَيْل عرَض من الدنيا.
كان عطاء بن أبي رباح أسود أعور أفطس أشل أعرج ثم عمي بعد ذلك، وكان منادي بني أمية ينادي: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء بن أبي رباح، قال غير واحد إنه أعلم أهل زمانه بالمناسك، وهو أحد كبار التابعين وأئمَّة الأمصار وعلمائهم المعدودين.
وكان الخلفاء والملوك يجتهدون في أن يحظوا بمجالسة العلماء لهم واستفتائهم ومشاورتهم مع إجلالهم، والحرص على أن لا يشقُّوا عليهم.
كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي القضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه إنسانًا يسأله فدعاه فجاءه حتى دخل فقال عمر: أخطأ الرسول إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
قال الخليل بن أحمد: أيامي ثلاثة: يومٌ أخرج فألقى فيه مَن أنا أعلم منه فذلك يوم أجري، ويوم أخرج فألقى فيه مَن هو مثلي فأذاكره فذلك يوم درْسي، ويوم أخرج فألقى فيه مَن هو دوني وهو يرى أنه فوقي، فلا أكلِّمه وأجعله يومَ راحتي.
لا بُدَّ من الاعتدال، فلا يحمل المرء نفسه على الجدِّية الدائمة التي لا تعرف الراحة؛ لأن ذلك يفضي إلى الضجَر والملل، وربما أدَّى إلى النفور والكراهية، ولا يركن إلى الكسل والهزل فيضيع وقته فيما لا جدوى فيه، ولا يهمل الفُرَص السانحة تفلت منه فإنه لو فعل ذلك فيستجرع غُصَص الجهل ومرارة الغفلة، وخير الأمور أوساطها.
قال عبدالله بن مسعود: إن للقلوب نشاطًا وإقبالاً وإن لها تولية وإدبارًا، فحدِّثوا الناس ما أقبلوا عليكم.
وقال أيضًا: ما أنت محدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
وقال علي بن أبي طالب: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!
وقال ابن المنادي: امتنع أحمد عن التحديث قبل أن يموت بثمان سنين أو أقل أو أكثر، وذلك أنَّ المتوكل وجه مَن يقرأ عليه السلام، ويسأله أن يجعل المعتز في حجره ويعلمه العلم فقال للرسول: اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وأعلمه أن عليَّ يمينًا أني لا أتم حديثًا حتى أموت، وقد كان أعفاني ممَّا أكره وهذا ممَّا أكره[41].
بعث خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى إلى محمد بن إسماعيل البخاري ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه، فأرسل إليه قائلاً: في بيته العلم والحلم يؤتى، وأبى أن يذهب إليهم.
وكان تقدير العالم بحسب عمله وتُقَاه، وحفظه وذكائه، أو بمعنى آخر يكون تقديره حسب كفاءته ومؤهلاته.
وقال أبو مسهر: سأل المأمون مالك بن أنس: هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال: اشترِ لك بها دارًا، قال ثم أراد المأمون منه الشخوص، وقال لمالك: تعالَ معنا، فإني عزمت أن أحمل الناس على "الموطأ" كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له: ما لك إلى ذلك من سبيل، وذلك أنَّ أصحاب النبي ﷺ افترقوا بعدَه في الأمصار، فحدثوا فعند كلِّ أهل مصر علم، ولا سبيل إلى الخروج معك فإن النبي ﷺ قال: ((والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون))، وقال: ((المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد))، وهذه دنانيركم، فإن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها[42].
وقال عبدالله بن الحكم: سمعت مالك بن أنس يقول: شاورني هارون الرشيد في ثلاث: في أن يعلق "الموطأ" في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر النبي ﷺ ويجعله من جوهر وذهب وفضة، وفي أن يقدِّم نافع بن أبي نعيم إمامًا يصلي في مسجد رسول الله ﷺ فقلت: يا أمير المؤمنين، أمَّا تعليق "الموطأ" في الكعبة، فإن أصحاب رسول الله ﷺ اختلفوا في الفروع، وتفرَّقوا في الآفاق، وكلٌّ عند نفسه مصيب، وأمَّا نقض منبر رسول الله ﷺ واتِّخاذك إياه من جوهر وذهب وفضة، فلا أرى أن تحرم الناس أثر النبي ﷺ وأما تقدمتك نافعًا إمامًا يصلي بالناس في مسجد رسول الله ﷺ فإن نافعًا إمام في القراءة لا يؤمن أن تندر منه نادرة في المحراب، فتحفظ عليه، قال: وفَّقك الله يا أبا عبدالله[43].
روى ابن وهب عن مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبدالرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة فأبى أن يقبلها فأعطاه خمسة آلاف درهم يشتري بها جارية حين أبى أن يقبلها فأبى أن يقبلها[44].
قال علي: اجمعوا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائق الحكمة، فإنها تملُّ كما تمل الأبدان.
قال أبو وائل: خرج علينا عبدالله بن مسعود فقال: إني لأخبر بمجلسكم فما يمنعني من الخروج إليكم إلا كراهية مللكم، وإن رسول الله ﷺ كان يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
وكان القاسم بن محمد إذا كثروا عليه من المسائل قال: إن لحديث العرب وحديث الناس نصيبًا من الحديث، فلا تكثروا علينا من هذا.
وكان ابن شهاب الزهري يقول: روِّحوا القلوب ساعة وساعة.
وقال أيضًا: كان بعض العلماء يقول: هاتوا من أشعاركم، فإن الأذن مجَّاجة والنفس حمضة.
وقال أبو خالد الوالي: كنا نجالس أصحاب رسول الله ﷺ فيتناشدون الأشعار ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية.
وقال الحسن البصري: كان يقال: حدِّثوا القوم ما أقبلوا عليكم بوجوههم، فإذا التفتوا فاعلم أن لهم حاجات.
لقد أدرك السلف ما للإجازة والراحة من أثر نفسي، وما للجد المستمر والسهر المتواصل من أثر عكسي وبما ينشأ منه النفور والملل؛ لذا كانوا يتيحون للإنسان أن يأخذ قسطًا من الراحة والاستجمام؛ ليكون بعده النشاط والإقبال على العلم بشوق ورغبة.
وقال ابن عباس: العلم أكثر من أن يحاط به؛ فخذوا منه أحسنه.
وقال الشعبي: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شيء أحسنه.
وقال يحيى بن خالد بن برمك لابنه: يا بني، خُذْ من كل علم بحظٍّ وافر؛ فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئًا عاديته، وعزيزٌ عليَّ أن تعادي شيئًا من العلم.
وقال غيره: مَن أراد أن يكون حافظًا نظر في فن واحد من العلم، ومَن أراد أن يكون عالمًا أخذ من كل علم بنصيب.
روى البخاري في "الأدب المفرد": أن عبدالملك بن مروان دفع ولده إلى الشعبي يؤدِّبهم فقال: علِّمهم الشعر يمجُدوا وينجُدوا، وأطعمهم اللحم تشتد قلوبهم, وجُزَّ شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم عِلْيَة الرجال يناقضوهم الكلام.
وقال عمر بن الخطاب لرجل عرَّس: هل كان؟ فقال: لا أطال الله بقاءك، فقال عمر: قد عُلِّمتم فلم تتعلموا، هلا قلت: لا، وأطال الله بقاءك.
وسُئِل العباس بن عبدالمطلب: أنت أكبر أم النبي - صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
وقال معاذ بن سعد: كنت جالسًا عند عطاء بن أبي رباح فحدث بحديث فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ والله إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأُرِيه أني لا أحسن شيئًا منه، وقال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته وقد سمعته قبل أن يولد فأريه أني إنما سمعته الآن منه.
ضجر شعبة من إملاء الحديث فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد:
اسْتَعْجَمَتْ دَارُ مَيٍّ مَا تُكَلِّمُنَا = وَالدَّارُ لَوْ كَلَّمَتْنَا ذَاتُ أَخْبَارِ
إليَّ يا أبا زيد، فجاءه فجعلا يتناشدان الأشعار، فقال له بعض أهل الحديث: يا أبا بِسْطَام نقطع إليك ظهور الإبل نسمع منك حديث النبي ﷺ فتدعنا وتقبل على الأشعار، فغضب شعبة غضبًا شديدًا وقال: يا هؤلاء أنا والله في هذا أعلم مني في ذاك[45].
وروى البخاري في "الأدب المفرد" والنسائي في "اليوم والليلة" والترمذي عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها -: أكان رسول الله ﷺ يتمثَّل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان يتمثَّل بشيء من شعر عبدالله بن رواحة:
وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَا لَمْ تُزَوَّدِ
وروى البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وأحمد عن الشريد قال: استنشدني النبي ﷺ شعر أمية بن أبي الصلت وأنشدته فأخذ النبي ﷺ يقول: ((هيه، هيه))، حتى أنشدته مائة قافية، فقال: ((إن كاد ليسلم)).
وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن عائشة أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح خُذْ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك.
وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبدالله؟ قال: وما روايتي من رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا.
وعن عون بن عبدالله بن عتبة قال: لقد أتينا أم الدرداء فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء، فقالت: ما أمللتموني، لقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئًا أشفى لنفسي من مذاكرة العلم، أو قالت: من مذاكرة الفقه.
وعن أبي بريدة: قال علي: تذاكروا هذا الحديث؛ فإنكم إن لم تفعلوا يدرس.
وقال الزهري: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال الحسن: غائلة العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال الزهري: إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العالم حتى يذهب بعلمه، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه وهو شرُّ غوائله.
وقال خالد بن يزيد بن عبدالله بن المختار: نكر الحديث الكذب فيه، وآفته النسيان، وإضاعته أن تحدِّث به مَن ليس من أهله.
وقال الحسن: لولا النسيان لكان العلم كثيرًا.
إن المتتبِّع لبعض ما قاله العلماء المسلمون من لدن الصحابة إلى يومنا يعجب من دقَّتهم في الملاحظة وعنايتهم بآداب العلم في الصبر والاجتهاد والسؤال من أجل الاستفادة، وكره المراء والجدَل الذي يراد به الاستعلاء والتطاول على الناس، وحرصِهم على أن يكون طالب العلم والعالم مثلاً راقيًا في التواضع ونبذ الغرور، وتعلم العلم النافع، وتقويم اللسان، وهيبة العالم، وغير هذا مما يدعو للإعجاب والتقدير، وهذه أمثلة ممَّا جاء في هذا السبيل:
قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: إن حقًّا على مَن طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متَّبعًا لآثار مَن مضى قبله.
وقال الحسن: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر ممَّا يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا تضرُّوا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا تضرُّوا بالعلم، فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد ﷺ ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا.
وفي الحديث الصحيح: ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون))[46].
قال مالك: المراء يقسِّي القلب ويورث الضغن.
قال ميمون بن مهران: لا تمارِ عالمًا ولا جاهلاً؛ فإنك إذا ماريت عالمًا خزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلاً خشن بصدرك.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: ((ثلاث مهلكات وثلاث منجيات؛ فأما المهلكات: فشُحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والثلاث المنجيات: تقوى الله في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا، والسخط والاقتصاد في الفقر والغنى))[47].
قال مسروق: كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه.
وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ((علِّموا ويسِّروا ولا تعسِّروا - ثلاث مرات - وإذا غضبتم فاسكتوا)) كرَّرها ثلاث مرات[48].
وقال عطاء بن يسار: ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم.
وقال عيسى بن جهاد: كثيرًا ما كنت أسمع الليث بن سعد يقول لأصحاب الحديث: تعلَّموا الحلم قبل العلم.
وذكر محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة قال: الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم.
وقال محمد: ومثل ذلك ما رُوِي عن إبراهيم قال: كنا نأتي مسروقًا فنتعلَّم من هديه ودلِّه.
وقال الشافعي: مَن حفظ القرآن عظُمت حرمته، ومَن طلب الفقه نبل قدره، ومَن عرف الحديث قويت حجته، ومَن نظر في النحو رقَّ طبعه، ومَن لم يصُن نفسه لم يصنه العلم.
وعن الحسن قال: كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشُّعه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الوصية الصغرى"[49]: "وأمَّا وصف الكتب والمصنِّفين فقد سمع منَّا في أثناء المذاكرة ما يسره الله - سبحانه - وما في الكتب المصنفة كتاب أنفع من "صحيح محمد بن إسماعيل البخاري" لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحِّر في أبواب العلم، إذا لا بُدَّ من معرفة أحاديث أُخَر وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختصُّ بعلمها بعض العلماء.
وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابًا، ومَن نوَّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومَن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً، كما قال النبي ﷺ للبيد الأنصاري: ((أَوَليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم))[50].
وعن الزهري قال: كان مسلمة يماري ابن عباس فحُرِم بلك علمًا كثيرًا.
وعن ابن جريج قال: لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به.
وعن ابن طاووس عن أبيه قال: من السنة أن يوقَّر العالم.
وقال الشعبي: جالِسوا العلماء؛ فإنكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأوَّلوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنِّفوكم، وإن جهلتم علَّموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم.
وقال بلال بن أبي بردة: لا يمنعكم سوء ما تعلمون منَّا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منَّا.
قال ابن عمر: أيُّها الناس، إليكم عنِّي فإني قد كنت مع مَن هو أعلم منِّي، ولو علمت أني أبقى فيكم حتى تقتضوا إليَّ لتعلمت لكم.
عن نافع أن ابن عمر كان يسمع بعض ولده يلحن فيضربه.
عن سالم بن عبدالله بن عمر أن أباه قال: ما كنت بشيء بعد الإسلام أشد فرحًا من أن قلبي لم يشربه شيء من هذه الأهواء المختلفة.
وعن سعيد بن المسيب قال: قال لي عبدالله بن عمر: هل تدري لم سميت ابني سالمًا؟ قال: قلت: لا، قال: باسم سالم مولى أبي حذيفة، قال: فهل تدري لم سميت ابني واقدًا؟ قال: قلت: لا، قال: باسم واقد بن عبدالله اليربوعي، قال: هل تدري لم سميت ابني عبدالله؟ قال: قلت: لا، قال: باسم عبدالله بن رواحة.
روى عبدالملك بن عمير عن قزعة قال: أهديت إلى ابن عمر أثواب هروي فردها وقال: إنه لا يمنعنا من لبسها إلا مخافة الكِبْر.
وعن أبي الوازع قال: قلت: لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: فغضب وقال: إني لأحسبك عراقيًّا وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه؟
وعن نافع قال: مرَّ ابن عمر على يهود فسلم عليهم فقيل له: إنهم يهود، فقال: ردُّوا علي سلامي.
وعن مجاهد قال: كنت أسافر مع عبدالله بن عمر فلم يكن يطيق شيئًا من العمل إلا عمله لا يكله إلينا، ولقد رأيته يطأ على ذراع ناقتي حتى أركبها.
عن ميمون قال دسَّ معاوية عمرو بن العاص وهو يريد أن يعلم ما في نفس ابن عمر يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبدالرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك وأنت صاحب رسول الله ﷺ وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم، إلا نفر يسير، قال لو لم يبقَ إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم تكن لي فيها حاجة، قال: فعلم أنه لا يريد القتال، قال: هل لك أن تبايع لِمَن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرَضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أف لك اخرج من عندي ثم لا تدخل علي، ويحك إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.
وكان يقال: العالم النبيل الذي يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ.
وقال الحسن بن عيسى: سمعت أبا بكر بن عياش يقول لابن المبارك: قرأت القرآن على عاصم بن أبي النجود فكان يأمرني أن أقرأ عليه كل يوم آية لا أزيد عليها ويقول: إن هذا أثبت لك، فلم آمن أن يموت الشيخ قبل أن أفرغ من القرآن، فما زلت أطلب إليه حتى أذن لي في خمس آيات كل يوم[51].
وقال يحيى بن سعيد القطان: رآني الأعمش وأنا أحدِّث قومًا فقال: ويحك تعلق اللؤلؤ على أعناق الخنازير.
وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمنًا، قيل: وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند مَن يحفظه ولا يضيعه.
وعن رؤبة بن العجاج قال: أتيت النسَّابة البكري فقال لي: مَن أنت؟ قلت: رؤبة بن العجاج؟ قال: قصرت وعرَّفت فما جاء بك؟ قلت: طلب العلم، قال: لعلك من قوم أنا بين أظهرهم إن سكت لم يسألوني وإن تكلمت لم يعوا عني، قلت: أرجو أن لا أكون منهم، ثم قال: أتدري ما آفة المروءة؟ قلت: لا، فأخبرني، قال: جيران السوء إن رأوا حسنًا دفنوه وإن رأوا سيئًا أذاعوه، ثم قل لي: يا رؤبة، إن العلم آفة وهجنة ونكرًا؛ فآفته نسيانه، وهجنته أن تضعه عند غير أهله، ونكره الكذب فيه.
وقال كثير بن مرة الحضرمي: إن عليك في علمك حقًّا كما أن عليك في مالك حقًّا، لا تحدث العلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدِّث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك.
وقال مسلمة بن عبدالملك: إن الرجل ليسألني الحاجة فتستجيب نفسي له بها، فإذا لحن انصرفت نفسي عنها.
وتقدم رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، إن أبينا هلك وإن أخونا غصبنا ميراثه، فقال زياد: الذي ضيعت من لسانك أكثر مما ضيعت من مالك.
وقال عمر t: علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل.
وقال أبو جعفر المنصور لابنه المهدي: يا بني لا تجلس مجلسًا إلا وعندك من أهل الحديث مَن يحدثك.
وقال الزهري: علم الحديث ذكَر؛ لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم.
جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فأطراه وكان يبغضه، فقال علي: إني ليس كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك.
قال ابن عرابة المؤدب: حكى لي محمد بن عمر الضبي أنه حفَّظ ابن المعتز وهو يؤدبه (والنازعات) وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين أبوك في أي شيء أنت قل في السورة التي تلي عبس، فقال: مَن علمك هذا؟ قال: مؤدبي، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط.
وقال الحسن: إن أزهد الناس في عالم أهله، وشر الناس - أو قال: شر الأهل - أهل ميت يبكون عليه ولا يقضون دينه.
وفي الحديث: ((مَن سُئِل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة))[52].
روى ابن القاسم قال: كنا إذا ودعنا مالكًا يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم ولا تكتموه.
* * *
هيبة العلماء وتوقيرهم
قال ابن عباس: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله ﷺ وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدًا منهم إلا سُرَّ بإتياني إليه؛ لقربي من رسول الله ﷺ فجعلت أسأل أبي بن كعب يومًا - وكان من الراسخين في العلم - عمَّا نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي.
وقال يزيد بن الأصم: خرج معاوية t حاجًّا معه ابن عباس - رضي الله عنهما - وكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممَّن يطلب العلم.
وقال عبدالله بن يزيد الهلالي:
وَنَحْنُ وَلَدْنَا الفَضْلَ وَالحَبْرَ بَعْدَهُ = وَغَيْثَ أَبَا العَبَّاسِ ذَا الفَضْلِ وَالنَّدَى
وفيه يقول حسان بن ثابت الأنصاري:
إِذَا مَا ابْنُ عَبَّاسٍ بَدَا لَكَ وَجْهُهُ = رَأَيْتَ لَهُ فِي كُلِّ أَحْوالِهِ فَضْلاَ
إِذَا قالَ لَمْ يَترُكْ مَقَالاً لِقَائِلٍ = بِمُلتَقَطَاتٍ لاَ تَرَى بَينَهَا فَصْلاَ
كَفَى وَشَفَى مَا فِي النُّفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ = لِذِي إِرْبَةٍ فِي القَوْلِ جَدًّا وَلاَ هَزْلاَ
ومرَّ عبدالله بن صفوان يومًا بدار عبدالله بن عباس فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومرَّ بدار عبيدالله بن عباس فرأى فيها جمعًا يتناوبونها للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:
فَإِنْ تُصِبْكَ مِنَ الأَيَّامِ قَارِعَةٌ = لَمْ نَبْكِ مِنْكَ عَلَى دُنْيَا وَلاَ دِينِ
فقال: وما ذاك يا أعرج؟ فقال: هذان ابنا العباس، أحدهما يفقِّه الناس والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة، فدعا عبدالله بن مطيع وقال له: انطلق إلى ابني العباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: أخرجا عني أنتما ومَن انضوى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت، فقال عبدالله: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان: رجل يطلب فقهًا، ورجل يطلب فضلاً، فأي هذين تمنع؟[53].
وقال ابن عباس: لما قُبِض رسول الله ﷺ وأنا شابٌّ قلت لشابٍّ من الأنصار: يا فلان هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ ولنتعلم منهم فإنهم كثير، قال العجب لك يا ابن عباس؛ أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض مَن ترى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: فتركت ذلك وأقبلت على المسألة وتتبُّع أصحاب رسول الله ﷺ فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله ﷺ فأجده قائلاً فأتوسَّد ردائي على بابه تُسفي الريح على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله ﷺ ما لك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله فأحببت أن أسمعه منك، قال: فيقول فهلاَّ بعثت إليَّ حتى آتيَك، فأقول: أنا أحقُّ أن آتيك، فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله ﷺ واحتاج الناس إليَّ فيقول: كنت أعقل مني.
وروى الشعبي قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ برِكَابه فقال له زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء.
وقال الحسن بن علي لابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلَّم حسن الاستماع كما تتعلَّم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يمسك.
ومَن يمتري في حثِّ الدين على العلم وقد ابتدأ الوحي على رسول الله ﷺ بقوله - تعالى -: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
والقرآن مملوء من الترغيب في العلم وبيان فضيلة أهله، وتقديم ذوي العلم ورفعهم درجات، والنصوص من القرآن ومن الحديث يتعذَّر حصرها ويمتنع إحصاؤها، وحسبنا منها إيراد القليل كدليل على الكثير، واجتزاء بالجزء عن الكل والبعض عن الجميع.
قال الله - جل ذكره -: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وقال - تعالى -: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، وقال - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
قال ابن عبدالبر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله": ورُوِي عن عائشة أن عليًّا t قال في خطبة خطبها: واعلموا أن الناس أبناء مَن يحسنون وقدر كل امرئ ما يحسن، فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.
ويقال: إن قول علي بن أبي طالب قيمة كل امرئ ما يحسن لم يسبقه إليه أحد، وقالوا: ليس كلمة أحضَّ على طلب العلم منها، قالوا: ولا كلمة أضر بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئًا.
قال أبو عمر: قول علي - رحمه الله -: قيمة كل امرئ ما يحسن من الكلام العجيب الخطير، وقد طار الناس إليه كل مطير ونظمه جماعةٌ من الشعراء؛ إعجابًا به وكَلَفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد قوله:
لاَ يَكُونُ السَّرِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ = لاَ وَلاَ ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الغَبِيِّ
لاَ يَكُونُ الأَلَدُّ ذُو المِقْوَلِ المُرْ = هَفِ عِندَ القِيَاسِ مِثْلَ العَيِيِّ
قيمَةُ المَرْءِ كُلُّ مَا يُحسِنُ المَرْ = ءُ قَضَاءً مِنَ الإِمامِ عَلِيِّ
في أبيات له قد ذكرتها في غير هذا الموضع، وقال غيره:
يَلُومُ عَلَى أَنْ رُحْتُ فِي العِلْمِ رَاغِبًا = أُجَمِّعُ مِنْ عِندِ الرُّوَاةِ فُنُونَهُ
فَيَا لاَئِمِي دَعْنِي أُغَالِي بِقِيمَتِي = فَقِيمَةُ كُلِّ النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ
وقال أبو العباس الناشئ:
تَأَمَّلْ بِعَيْنِكَ هَذَا الأَنَا = مَ كُنْ بَعْضَ مَنْ صَانَهُ عَقْلُهُ
فَحِلْيَةُ كُلِّ فَتًى فَضْلُهُ = وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ نُبْلُهُ
فَلاَ تَتَّكِلْ فِي طِلاَبِ العُلَى = عَلَى نَسَبٍ ثَابِتٍ أَصْلُهُ
فَمَا مِنْ فَتًى زَانَهُ قَوْلُهُ = بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ فِعْلُهُ
قال ابن عباس: مكثت سنةً وأنا أشكُّ في ثنتين، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتَين على رسول الله ﷺ وما أجد له موضعًا أسأله فيه حتى خرج حاجًّا وصحبته حتى إذا كنا بمر الظهران ذهب لحاجته وقال: أدركني بإداوة من ماء، فلمَّا قضى حاجته ورجع أتيته بالإداوة أصبُّها عليه فرأيت موضعًا فقلت: يا أمير المؤمنين مَن المرأتان المتظاهرتان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة.
قال أبو عمر بن عبدالبر: لم يمنع ابن عباس من سؤال عمر عن ذلك إلا هيبته، وذلك موجودٌ في حديث ابن شهاب أ.هـ.
ونصه: عن ابن عباس قال: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن حديث ما منعني منه إلا هيبته، حتى تخلَّف في حج أو عمرة في الأراك الذي ببطن مر الظهران لحاجته، فلمَّا جاء وخلوت به قلت: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن سألك عن حديث منذ سنتين ما يمنعني إلا الهيبة لك، قال: فلا تفعل إذا أردت أن تسأل فسلْني، فإن كان منه عندي علم أخبرتك، وإلا قلت: الله أعلم فسألت مَن يعلم، قلت: مَن المرأتان اللتان ذُكر أنهما تظاهرتَا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: عائشة وحفصة، ثم قال: كان لي أخ من الأنصار[54] وكنا نتعاقب النزول إلى رسول الله ﷺ أنزل يومًا وينزل يومًا فما أتي من حديث أو خبر أتاني به وأنا مثل ذلك، ونزل ذات يوم وتخلَّفت فجاءني وذكر الحديث بطوله وتمامه.
وعن سعيد بن المسيب قال لسعد بن مالك إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أهابك، فقال: لا تهبني يا ابن أخي، إذا علمت أن عندي علمًا فسلْني عنه، فقلت: قول رسول الله ﷺ لعلي في غزوة تبوك حين خلفه فقال سعد: قال رسول الله ﷺ: ((يا علي، أما ترضى أن تكون مَنِّي بمنزلة هارون من موسى))[55].
وقال طاووس: إن من السنة أن توقِّر العالم.
وعن محمد بن عطية الشاعر قال: كان يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع الناس إليه فوافَى إسحاق الموصلي فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلَّم في الفقه فأحسَن واحتجَّ وتكلَّم في الشعر واللغة ففاق مَن حضر، فأقبل على يحيى بن أكثم فقال: أعزَّ الله - تعالى - القاضي، أفي شيء ممَّا ناظرت فيه وحكيت نقص أو معطن؟ قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوي: فالتفت إليَّ يحيى بن أكثم فقال: جوابه في هذا عليك، وكان العطوي من أهل الجدل، قال فقلت: نعم أعزَّ الله القاضي جوابه علي، ثم التفتَ إليَّ إسحاق وقلت: يا أبا محمد أنت كالفرَّاء والأخفش في النحو، فقال: لا، فقلت: فأنت في اللغة كأبي عبيدة والأصمعي، قال: لا، قلت: فأنت في الأنساب كالكلبي، قال: لا، قلت فأنت في الكلام كأبي هذيل والنظَّام، قال لا: قلت فمن هاهنا نسبته إلى ما نسبته إليه؛ لأنه لا نظير لك فيه ولا شبيه وأنت في غيره دون أوفَى أهله، فضحك وقام فانصرف، فقال يحيى بن أكتم: لقد وفَّيت الحجة حقها وفيها ظلم قليل لإسحاق وإنه ليقل في الزمان نظيره[56].
دخل اليزيدي يومًا على الخليل وعنده جماعة وهو جالس على وسادة، فأوسع له فجلس مع اليزيدي على وسادته، فقال له اليزيدي: أحسبني قد ضيَّقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق مكان على اثنين متحابَّين، والدنيا لا تسع اثنين متباغضين[57].
ويحكى عن شرقي بن القطامي أنه قال: دخلت على المنصور فقال: يا شرقي على ما يؤتى المرء؟ فقلت: أصلح الله - تعالى - الخليفة على معروف قد سلف، أو مثله مؤتنف، أو قديم شرف، أو علم مطرف[58].
وروى عباس بن الفرج قال: ركب الأصمعي حمارًا ذميمًا فقيل له: بعدَ براذين الخلفاء تركب هذا! فقال متمثلاً:
فَلَمَّا أَبَتْ إِلاَّ طِرَاقًا بِوُدِّهَا = وَتَكدِيرَهَا الشُّرْبَ الَّذِي كَانَ صَافِيَا
شَرِبْنَا بِرِنْقٍ مِنْ هَوَاهَا مُكَدَّرٍ = وَكَيْفَ يَعَافُ الرِّنْقَ مَنْ كَانَ صَادِيَا
وهذا وأملك ديني أحب إلي من ذلك مع فقدهما[59].
* * *
نشر العلم ومذاكرته
روى سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال لعلي: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم))[60].
وفي حديث أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: ((يا علي، لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحدًا خيرٌ لك ممَّا طلعت عليه الشمس))[61].
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له))[62].
وقال علي t: لم يؤخذ على الجاهل عهد بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهد ببذل العلم للجُهَّال؛ لأن العلم كان قبل الجهل به.
وعن أبي القاسم قال: كنا إذا ودعنا مالكًا يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه.
وعن ابن شهاب أنه سمع عبدالملك بن مروان خطيبًا يوم الفطر فقال: إن العلم يُقْبَض قبضًا سريعًا فمَن كان عنده علم فلينشره غير جافٍ عنه ولا غالٍ فيه.
وقال عبدالرحمن بن مهدي: كان أنس بن مالك يقول: بلغني أن العلماء يُسْألون يوم القيامة كما تسأل الأنبياء؛ يعني: عن تبليغه.
وعن سليم بن عامر قال: كان أبو أمامة يحدثنا فيكثر ثم يقول: عقلتم؟ فنقول: نعم، فيقول: بلِّغوا عنا فقد بلغناكم، يرى أن حقًّا عليه أن يحدث بكل ما سمع.
وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز: "أما بعد، فمُرْ أهل الفقه والعلم من عندك فلينشروا ما علَّمهم الله في مجالسهم ومساجدهم، والسلام".
وقال ابن شهاب: ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري.
وعن سفيان بن عيينة في قول الله - عز وجل -: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾[مريم: 31]، قال: معلمًا للخير.
وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبدًا؛ فأوجر عليه ولا يحمدوني.
وعن معاذ بن جبل قال: كنت ردف النبي ﷺ فقال: ((هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟))، قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، تدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حق الناس على الله أن لا يعذبهم))، قال: قلت: يا رسول الله ألا أبشر الناس قال: ((دعهم يعملون))[63].
عن عبادة بن الصامت قال: قال: رسول الله ﷺ: ((خذوا عنِّي، خذوا عنِّي، قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة))[64].
وعن جابر أن رسول الله ﷺ رمى الجمرة يوم النحر على راحلته وقال: ((خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))[65].
وعن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: ((يا معاذ))، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - قالها ثلاثًا - قال: ((بشِّر الناس أنه من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة))[66].
وقال علي: ألا رجل يسأل الناس فينتفع أو ينفع جلساءه.
وقال ابن أبي مليكة: دخلنا على ابن عباس فقال: سلوني؛ فإني قد أصبحت طيبة نفسي.
وقال سعيد بن جبير: إن ممَّا يهمُّني وددت أن الناس قد أخذوا ما معي من العلم.
وكان الحسن يبتدئ الناس بالعلم ويقول: سَلُوني.
وعن عمرو بن دينار قال: قال لي عروة: آتوني فتلقوا مني، وكان عروة يستألف الناس حديثه.
وعن سعيد بن زيد عن عكرمة قال: ما لكم لا تسألوننا؟
وعن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: والله ما يسألني الناس عن شيء حتى لقد نسيت، قال هشام: وكان أبي يقول لنا: إنا كنا أصاغر قوم ثم نحن اليوم كبار قوم، وإنكم اليوم أصاغر قوم وستكونون كبارًا، فتعلموا العلم تسُودوا به قومكم ويحتاجون إليكم.
قال هشام: وكان أبي يدعوني وعبدالله بن عروة وعثمان وإسماعيل وإخوتي وآخر قد سماه هشام فيقول: لا تغشوني مع الناس وإذا خلَوت فسلوني، فكان يحدثنا يأخذ في الطلاق ثم الخلع ثم، الحج ثم الهدي ثم كذا، ثم يقول: كرِّروا عليَّ فكان يعجب من حفظي.
قال هشام: والله ما تعلمنا منه جزءً من ألف جزء من أحاديثه.
وقال عبدالرحمن بن مهدي: كان زائدة يخرج إليهم فيقول: اكتبوا اكتبوا قبل أن أنسى.
وقال سفيان الثوري: والله لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم - يعني: أصحاب الحديث.
وقال الربيع بن سليمان: قال لي الشافعي: يا ربيع، لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك إياه.
قال أبو هريرة: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت بحديث، ثم تلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 174]، و﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ [البقرة: 159]، وإن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله ﷺ ليشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون.
وعن أبي الزناد عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبدالعزيز يأتي عبيدالله بن عبدالله يسأله عن علم ابن عباس، فربما أذن له وربما حجبه.
وسُئِل بعض العلماء أو الحكماء: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يتبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع.
وقال الخليل بن أحمد: كنْ على مدارسة ما في صدرك أحرص منك على مدارسة ما في كتبك.
وقال إبراهيم: إنه ليطول عليَّ الليل حتى أصبح فألقاهم، فربما أدسُّه بيني وبين نفسي أو أحدث به أهلي، قال أبو أسامة: يعني بقوله: أدسُّه يقول: أحفظه.
وقال الرياشي: سمعت الأصمعي وقيل له: حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
وعن أبي سيعد الخدري: قال: تذاكروا الحديث فإن الحديث يهيج الحديث.
وعن سعيد بن عبدالعزيز أن عطاء الخراساني كان إذا لم يجد أحدًا أتى المساكين فحدثهم يريد بذلك الحفظ.
قال الصفدي في "نكت الهميان": أحمد بن عبدالدائم بن نعمة بن أحمد بن نعمة بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير المعمر العالم مسنِد الوقت زين الدين أبو العباس المقدسي الفندقي الحنبلي الناسخ، ولد بفندق السوخ من جبل نابلس سنة 575 هـ وتوفي لتسع خلون من شهر رجب سنة 668 هـ وأدرك الإجازة من السِّلفي التي أجازها لِمَن أدرك حياته، وأدرك الإجازة الخاصة من خطيب الموصل أبي الفضل الطوسي وأبي الفتح بين شاتيل ونصر الله القزاز وخلق سواهم.
وسمع من يحيى الثقفي، وأبي الحسين الموازيني، ومحمد بن علي ابن صدقة، وإسماعيل الجنزوي، والمكرم بن هبة الله الصوفي، وبركات الخشوعي، وابن طبرزد، والحافظ عبدالغني، ورحل إلى بغداد وسمع ابن كليب بقراءته من عبدالخالق بن البندار، وابن سكينة، وعلي ابن يعيش الأنباري، وغيرهم، وتفقَّه على الشيخ الموفق، وكتب بخطه المليح السريع ما لا يوصف لنفسه وبالأجرة، حتى كان يكتب إذا تفرَّغ في اليوم تسع كراريس أو أكثر، ويكتب الكراسين والثلاثة مع اشتغاله في يوم وليلة، وقيل: إنه كان يكتب القدوري في ليلة - وعندي أن هذا مستحيل - وقيل: إنه كان ينظر في الصفحة الواحدة نظرة واحدة ويكتبها، ولذلك يوجد له الغلَط فيما كتبه كثيرًا، ولازم النسخ خمسين سنة، وخطه لا نقط ولا ضبط، وكتب على ما قال في شعره ألفي مجلدة وكان تامَّ القامة حسن الأخلاق والشكل.
ذكر ابن الخباز أنه سمع ابن عبدالدائم يقول: كتبت بخطى ألفي جزء، وذكر أنه كتب بخطه "تاريخ دمشق" مرتين، قال الشيخ شمس الدين الذهبي: منها واحدة في وَقْف أبي المواهب بن حصري، وكتب من التصانيف الكبار شيئًا كثيرًا، وولي خطابة كفر بطنا وأنشأ خطبًا عديدة، وحدث سنين كثيرة، وروى عنه الشيخ محيى الدين، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ شرف الدين الدمياطي، وابن الظاهري، وابن جعوان، وابن تيمية، ونجم الدين بن حصري، وشرف الدين الخطيب، وأخوه تاج الدين، وولده برهان الدين، وشمس الدين إمام الكلاسة، والشرف منيف الدين قاضي القدس، وعلاء الدين بن العطار، وخلق كثير بمصر والشام، ورحل إليه غير واحد وتفرَّد بالكثير وكُفَّ بصره في آخره عمره.
* * *
سؤال العلماء
وقول: لا أدري فيما لا يعلمه
جاء في القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ [الإسراء: 36].
وقال - تعالى -: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 116].
وفي القرآن والحديث الكثيرُ من التحذير والتخويف من القول بلا علم، وقرن القول على الله بلا علم بالشرك في آية من القرآن[67]، وعلى هذا المنوال سار السلف الصالح فحثُّوا على الأمانة في العلم، والتصويب للخطأ، والبحث العميق؛ من أجل الوصول إلى الحقيقة، وحذَّروا من التهاون في ذلك، والتخرُّص في الفتيا، وادِّعاء ما لم يُحِط به المرء علمًا، واعتبروا هذا من آفات العلم وممَّا يجب الابتعاد عنه والتوقِّي لمخاطره.
قال - تعالى -: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وعن ابن عباس أن رجلاً أصابه جرح على عهد رسول الله ﷺ ثم أصابه احتلام فأُمِر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال))[68].
وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين ويتفقَّهن فيه.
وقالت أم سليم: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: ((نعم إذا رأت الماء))[69].
وقال عبدالله بن مسعود: زيادة العلم الابتغاء، ودرك العلم السؤال، فتعلَّم ما جهلت، واعمل بما علمت.
وقال ابن شهاب: العلم خزانة مفاتحها المسألة.
وعن عبدالله بن بريدة أن معاوية بن أبي سفيان دعا دعبلاً النسَّابة فسأله عن العربية، وسأله عن اكتساب الناس، وسأله عن النجوم، فإذا رجلٌ عالم فقال: يا دعبل، من أين حفظت هذا؟ قال: حفظت هذا بقلبٍ عَقول، ولسان سَؤُول، وذكر تمام الخبر.
وقال عمر: مَن علم فليعلِّم، ومَن لم يعلم فليسأل العلماء، ألا إن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف.
وكان الخليل بن أحمد يقول: العلوم أقفال والسؤال مفاتيحها، وقال: إن لم تعلم الناس ثوابًا فعلِّمهم لتدرس بتعليمك علمك، ولا تجزع من تقريع السؤال؛ فإنه ينبهك على علم ما لم تعلم.
وقال وهب بن منبه وسليمان بن يسار: حسْن المساءلة نصْف العلم، والرفق نصْف العيش.
وسُئِل الأصمعي: بِمَ نلْت ما نلْت؟ قال: بكثرة سؤالي، وتلقي الحكمة الشرود.
وقال عبدالعزيز بن عمر: ما شيء إلا وقد علمت منه، إلا أشياء كنت أستحي أن أسأل عنها فكبرت وفيَّ جهالتها.
وعن عكرمة قال: قال علي: خمس احفظوهن: لا يخاف عبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحِ عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له، ولا إيمان لِمَن لا صبر له.
وقال الحسن: مَن استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله، فاقطعوا سرابيل الجهل عنكم بدفْع الحياء في العلم، فإنه مَن رقَّ وجهه رقَّ علمه.
وقال الخليل: الجهل منزلة بين الحياء والأنَفة.
وكان يقال: مَن رقَّ وجهه عن السؤال رقَّ علمه عند الرجال، ومَن ظن أن للعلم غاية فقد بخسه حقه.
وعن عبدالله بن أبي كثير عن أبيه قال: ميراث العلم خيرٌ من ميراث الذهب والفضة، والنفس الصالحة خيرٌ من اللؤلؤ، ولا يستطاع العلم براحة الجسم.
وقال عبدالله بن يحيى بن أبي كثير: سمعت أبي يقول: لا ينال العلم براحة البدن، وروي عن يزيد بن علي بن حسين مثل ذلك.
وقال الأصمعي: يُعَدُّ من العلماء وليس منهم المعدِّد ما عنده، وهو الذي إذا سُئِل عن الشيء قال: هو عندي في الطاق أو في الصندوق.
وقال إبراهيم بن المهدي: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس.
كان الإمام مالك يطيل التفكير في المسألة قبل أن يفتي فيها ويقول: ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامَّة ليلتي، وإذا جاءه السائل ليسأله قال له: انصرف حتى أنظر، ثم يعود إليه السائل بعد حين ليسمع منه الجواب، وحدثه بعض الناس في ذلك فبكى مالك وقال: إني أخاف أن يكون لي من هذه المسائل يوم وأي يوم.
وجاءه ذات يوم أحد الناس وسأله سؤالاً فاستمهله مالك حتى يفكر في الجواب، فقال له السائل: هذه مسألة خفيفة - أي: لا تحتاج إلى تفكير ولا تأجيل - فغضب مالك من ذلك وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾[المزمل: 5]، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.
وقال مالك ذات مرة: ما من شيء أشد عليَّ من أن أسأل عن مسألة الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله.
وقال مَرَّة: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن.
قال عمر بن الخطاب t: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة؛ يعني: يزيد بن الحصين الحارثي، فمَن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صفِّ النساء طويلة فيها فطس قفالت: ما ذاك لك، قال: ولِمَ؟ قالت: لأن الله - عز وجل - يقول: ﴿وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20]، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
وعن محمد بن كعب القُرَظي قال: سأل رجل عليًّا عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا وكذا، فقال علي t: أصبتَ وأخطأتُ ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76].
وروى سفيان بن عينية عن ابن أبي حسين قال: اختلف ابن عباس وزيد في الحائض تنفر فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، فقال ابن عباس لزيد: سلْ نساءك أمَّ سليمان وصُوَيحِباتها، فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك فقال: القول ما قلتَ.
قال القاسم بن محمد: يا أهل العراق، إنا والله لا نعلم كثيرًا ممَّا تسألونا عنه، ولئن يعيش المرء جاهلاً لا يعلم ما افتُرِض عليه خيرٌ له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم.
وقال عبدالرحمن بن مهدي: كنَّا يومًا عند مالك فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن المسألة فقال: لا أُحْسِنُها، قال فبُهِت الرجل كأنه قد جاء إلى مَن يعلم كل شيء، فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم قال مالك: لا أحسن.
وقال ابن وهب: لو كتبنا عن مالك "لا أدري" لملأنا الألواح.
وقال ابن عيينة: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا.
وقال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: يا عبدالله ما علمته فقلْ به ودُلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه، وإياك أن تتقلد قلادة سوء.
وقال الأَوْدي: قال لي الشعبي: قُمْ معي هاهنا حتى أفيدك علمًا بل هو رأس العلم، قلت: أيُّ شيء تفيدني؟ قال: إذا سُئِلت عمَّا لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه علم حسن.
وقال خالد بن يزيد بن معاوية: عُنِيت بجمع الكتب؛ فما أنا من العلماء ولا من الجُهَّال.
وقال الشعبي: ما رأيت مثلي ما أشاء أن أرى أعلم مِنِّي إلا وجدته.
وقال حماد بن زيد: سُئِل أيوب عن شيء فقال: لم يبلغني فيه شيء، فقيل له: قلْ فيه برأيك، فقال: لا يبلغه رأيي.
وقال عبدالرحمن بن مهدي: ذاكرت عبيدالله بن الحسين القاضي بحديث وهو يومئذ قاضي فخالفني فيه، فدخلت عليه وعنده ناسٌ سماطين فقال لي: ذلك الحديث كما قلت أنت، وأرجع أنا صاغرًا.
وقال ابن مسعود: إن من العلم إذا سُئِل الرجل عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم[70].
وقال ابن عمر: العلم ثلاث: آية محكمة، وسنَّة ماضية، ولا أدري.
وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم.
وقال الربيع بن خثيم: إياك أن يقول الرجل: يحرُم هذا ونُهِي عن هذا، فيقول الله له: كذبت.
وقال أحمد بن عبدالرحمن الحميري: لأن أرده مغبة أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّفه.
وقال الشعبي: والله ما أبالي سُئِلت عمَّا أعلم أو عمَّا لا أعلم.
يقول: إنه أسهل عليَّ أن أقول: لا أعلم.
وقال عبدالله بن عتبة بن مسعود: إنك لن تخطئ الطريق ما دمت على الأثر.
وقال معاذ بن جبل: إياكم والتبدُّع والتنطع، وعليكم بالعتيق[71].
* * *
الحرص على جمع الكتب
لقد تأسَّست أوَّل صناعة للورق في بغداد سنة 794 هـ بواسطة الفضل البرمكي، ومن ثم انتشرت بسرعة فائقة في جميع أنحاء العالم العربي، وتحسَّنت الصناعة تحسُّنًا ملموسًا وأدَّى ذلك إلى تسهيل إنتاج الكتب، فبينما يقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": ظل الأوروبيون في القرون الوسطى زمنًا طويلاً لا يكتبون إلا على رقوق من جلد الحيوان، وكان ثمنها المرتفع عائقًا كبيرًا وقف أمام انتشار المؤلَّفات المكتوبة.
يقول ول ديورانت في "قصة الحضارة": كان إدخال هذا الاختراع - يعني الورق - سببًا في انتشار الكتب في كل مكان.
ويدلنا اليعقوبي أنه كان في زمانه أكثر من مائة بائع للكتب - ورَّاق - في بغداد إلى أن يقول: ولقد رفض أحد الأطباء دعوة سلطان بُخَارَى للإقامة ببلاطة؛ لأنه يحتاج إلى أربعمائة بعير لنقل مكتبته.
ولما مات الواقدي ترك ستمائة صندوق من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله.
وربما ملك الصاحب ابن عباد في القرن العاشر كمية من الكتب تقدر بما كان في مكتبات أوروبا مجتمعة[72].
وكان للقاضي الفاضل مكتبة ضخمة، وغيره كثيرون.
* * *
الطب عند المسلمين المتقدِّمين
قال غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": "وابن سينا هو أشهر جميع أطباء العرب، وبلغ ابن سينا من التأثير في عالم الطب عِدَّة قرون ما لُقِّب معه بأمير الطب.
وُلِد ابن سينا سنة 980 وتوفي سنة 1037، وكان في مقتبل عمره جابيًا فارتقى إلى منصب وزير، وكتب ابن سينا ممتازة مع وفاته غير مُسِنٍّ؛ بسبب إفراطه في العمل وانهماكه في اللذات.
ويشتمل "القانون" الذي هو كتاب ابن سينا المهم في الطب على علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وعلم الأمراض، وعلم المعالجة والمادة الطبية، ووصفت فيه الأمراض بأحسن ممَّا وصفت به في الكتب التي أُلِّفت قبله.
ونُقِلتْ كتب ابن سينا إلى أكثر لغات العالم، وظلت مرجعًا للطب ستة قرون، وبقيت أساسًا للمباحث الطبية في جميع جامعات فرنسا وإيطاليا، وكان طبعها يُعَاد حتى القرن الثامن عشر، ولم ينقطع تفسيرها في جامعة مونبلية إلا منذ خمسين سنة.
وأنشأ العرب مشافي للمصابين ببعض الأمراض كالمجانين، وكان عندهم جمعيات للإحسان تقوم بمعالجة فقراء المرضى مجانًا في أيام معينة، وكان يرسل في الحين بعد الحين أطباء وأدوية إلى الأماكن قليلة الأهمية التي لا تستحق أن يقام فيها مشفًى.
والطب مدين للعرب بعقاقير كثيرة كالسليخة، والسنا المكي والراوند، والتمر الهندي، وجوز الطيب، والقرمز، والكافور، والكحول، وما إلى ذلك.
وهو مدين لهم بفن الصيدلة، وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل؛ كالأشربة، واللعوق، واللزقات، والمراهم، والدهان، والمياه المقطَّرة.
والطب مدين لهم كذلك بطرق طريفة في المداواة عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة بعد أن نُسِيَت زمنًا طويلاً؛ ومنها طريقة إمصاص النبات بعض الأدوية كما صنع ابن زهر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنبًا أُشْرِب من بعض المسهلات.
وعلم الجراحة مَدِين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلَّت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدًّا[73].
ومن مشاهير الأطبَّاء العرب والمسلمين الرازي المولود سنة 850م والمتوفى سنة 932م بعد أن زاوَل الطب في بغداد خمسين سنة، وقد ألَّف في شتَّى الموضوعات؛ كالفلسفة، والتاريخ، والكيمياء، والطب.
ونَقَد كتب مَن تقدَّمه من الأطباء، وكان ما كتبه في بعض الحميات ذات البثور كالحصبة والجدري معوَّل الأطباء زمنًا طويلاً، وكان واسع الإطلاع على علم التشريح، وكان كتابه في أمراض الأطفال أوَّل كتاب بحث في هذا الموضوع، ويُرَى في كتبه وسائل جديدة للمداواة كاستخدام الماء البارد في الحُمِّيات المستمرَّة الذي أخذ به علم الطب الحديث، وكاستخدام الكحول والفتائل، وكاستخدام المحاجم لمعالجة داء السكتة... إلخ.
وأشهر كتب الرازي كتاب "الحاوي" الذي جمع فيه صناعة الطب، وكتاب "المنصوري" الذي بعث به إلى الأمير منصور والمؤلَّف من عشرة أقسام هي: التشريح، الأمزجة، الأغذية، والأدوية، الصحة، دواء البشرة، نظام السفر، الجراحة، السموم، الأمراض على العموم، الحمَّى.
وتُرجمت أكثر كتب الرازي إلى اللغة اللاتينية وطبعت عِدَّة مرات، وظلَّت جامعات الطب في أوربا تعتمد على كتبه زمنًا طويلاً، وكانت كتبه مع كتب ابن سينا أساسًا للتدريس في جامعة لوفان في القرن السابع عشر من الميلاد.
وروى مؤرِّخو العرب أن الرازي عَمِي في آخر زمانه بماء نزل على عينيه فقال حينما قيل له: لو قدحت، قال: لا، قد أبصرت من الدنيا حتى مللت منها، فلا حاجة لي إلى عينين.
ومن الأطباء العرب والمسلمين عليُّ بن العباس المعاصر للرازي تقريبًا، ومن كتبه "الملكي المشتمل على الطب النظري والطب العملي"، والذي استند فيه إلى مشاهداته في المشافي لا إلى الكتب.
وأبو القاسم القرطبي المتوفَّى سنة 1107م، وهو أشهر جرَّاحي العرب، وتخيَّل أبو القاسم كثيرًا من آلات الجراحة ورسمها في كتبه، ووصف عملية سحْق الحصاة في المثانة على الخصوص، وكانت كتبه المصدر العام الذي استقى منه جميع مَن ظهر من الجرَّاحين بعد القرن الرابع عشر الميلادي، كما شهد بذلك أحد كبار علماء أوربا.
وابن زهر الإشبيلي الذي عاش في القرن الثاني عشر في الميلاد.
وابن رشد المتوفى سنة 1188م وله كتاب "المداواة" وكتاب في السموم والحميات، وشروح كتب ابن سينا، وغير ذلك، وطبعت كتب ابن رشد في الطب كثيرًا في أوربا.
والمشافي التي أنشأها العرب المتقدِّمون أفضل صحيًّا من المشافي العصرية؛ إذ كانت واسعة، ذات هواء كثير وماء غزير، وكانت مشافي العرب كمشافي أوربا في الوقت الحاضر ملاجئ للمرضى وأماكن لدراسة الطلاب، وكان الطلاب يتلقَّون دروسهم في فرش المرضى أكثر ممَّا يتلقَّونهم في الكتب.
قال صلاح الدين الصفدي في كتابه "نكت الهميان في نكت العميان": "محمد بن زكريا الرازي الطبيب الفيلسوف، كان في صباه مغنيًا بالعود، فلمَّا التحى قال: كل غناء يخرج بين شارب ولحية ما يطرب، فأعرض عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، فقرأها قراءة متعقِّب على مؤلفيها فبلغ من معرفتها الغاية واعتقد صحيحها وعلَّل سقيمها وصنَّف في الطب كتبًا كثيرة، فمن ذلك "الحاوي" يدخل في مقدار ثلاثين مجلَّدة، و"الجامع"، وكتاب "الأعصاب" وهو أيضًا كبير، و"المنصوري" المختصر جمع فيه بين العلم والعمل يحتاج إليه كلُّ أحد، صنَّفه لأبي صالح منصور بن نوح أحد ملوك السامانية، وغير ذلك.
ولم يزل رئيس هذا الفن واشتغل به على كِبَر، قيل: إنه اشتغل فيه بعد الأربعين، وطال عمره وعمي في آخره، وأخذ الطب عن الحكيم أبي الحسن علي بن زيد الطبري صاحب التصانيف التي منها "فردوس الحكمة"، وكان مسيحيًّا ثم أسلم، وقيل: إن سبب عماه أنه صنَّف للملك منصور المذكور كتابًا في الكيمياء فأعجبه ووصله بألف دينار وقال: أريد أن تخرج ما ذكرت من القول إلى الفعل، فقال: إن ذلك يحتاج إلى مؤن وآلات وعقاقير صحيحة وإحكام صنعة، فقال الملك: كل ما تريده أحضره إليك وأمدك به، فلما كعَّ عن مباشرة ذلك وعمله قال له الملك: ما اعتقدت أن حكيمًا يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل بها قلوب الناس ويتعبهم فيما لا فائدة فيه، والألف دينار لك صلة ولا بُدَّ من عقوبتك على تخليد الكذب في الكتب، ثم أمر أن يضرب بالكتاب الذي وضعه عل رأسه إلى أن يتقطَّع، فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه".
وتوفي سنة 311 هـ، قال ابن أبي أصيبعة في "تاريخ الأطباء": "قال عبدالله بن جبريل: إن الرازي عُمِّر إلى أن عاصَر الوزير بن العميد، وهو الذي كان سبب إظهار كتاب "الحاوي" بعد وفاته بأن بذل لأخته مالاً حتى أظهرت المسوَّدات له، فجمع تلاميذه الأطباء بالري حتى رتبوا الكتاب فخرج الكتاب على ما هو عليه من الاضطراب" ا.هـ.
قال ابن النديم في "الفهرست" ص 512- 517: "(أخبار جابر بن حيان وأسماء كتبه): هو أبو عبدالله جابر بن حيان بن عبدالله الكوفي المعروف بالصوفي، واختلف الناس في أمره فقالت الشيعة: إنه من كبارهم وأحد الأبواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق t وكان من أهل الكوفة، وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنفات، وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره وأن أمره كان مكتومًا، وزعموا أنه كان يتنقَّل في البلدان لا يستقرُّ به بلد خوفًا من السلطان على نفسه، وقيل: إنه كان في جملة البرامكة ومنقطعًا إليهم ومتحقِّقًا بجعفر بن يحيى فمَن زعم هذا قال: إنه عنى بسيده جعفر هو البرمكي، وقالت الشيعة: إنه إنما عنى جعفر الصادق.
وحدثني بعض الثقات ممَّن تعاطَى الصنعة أنه كان ينزل في شارع باب الشام في درب يُعْرَف بدرب الذهب، وقال لي هذا الرجل: إن جابرًا كان أكثر مقامه بالكوفة، وبها كان يدبِّر الإكسير لصحة هوائها، ولما أصيب بالكوفي الأزج الذي وجد فيه هارون ذهب نحو مائتي رطل، ذكر هذا الرجل أن الموضع الذي أصيب ذلك فيه كان دار جابر بن حيان، فإنه لم يصب في ذلك الأزج غير الهاون فقط وموضع قد بني للحل والعقد، هذا في أيام عز الدولة ابن معز الدولة، وقال لي أبو اسبكتكين دستار دار: إنه هو الذي خرج ليتسلَّم ذلك.
وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الورَّاقين: إن هذا الرجل - يعني: جابرًا - لا أصل له ولا حقيقة، وبعضهم قال: إنها - أي: كتبه - ما صنفها كلها، وإن كان له حقيقة كتاب "الرحمة"، وإن هذه المصنفات صنفها الناس ونحلوها إليه".
ثم قال ابن النديم: "وأنا أقول: إن رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب فيصنف كتابًا يحتوي على ألفي ورقة يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره إمَّا موجودًا أو معدومًا - ضرب من الجهل، وإن ذلك لا يستمرُّ على أحد، ولا يدخل تحته مَن تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأيُّ فائدة في هذا وأيُّ عائدة والرجل له حقيقة وأمره أظهر وأشهر وتصانيفه أعظم وأكثر، ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة أنا أوردها في مواضعها، وكتب في معانٍ شتى من العلوم قد ذكرتها في مواضعها من الكتاب.
وقد قيل: إن أصله من خراسان، والرازي يقول في كتبه المؤلفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان.
ومن أسماء تلاميذه: الخرقي الذي ينسب إلى سكة الخرقي بالمدينة، وابن عياض المصري والأخميمي.
ومن أسماء كتبه في الصنعة: له فهرست كبير يحتوي على جميع ما ألف في الصنعة وغيرها، وله فهرست صغير يحتوي على ما ألف في الصنعة فقط.
ونحن نذكر جملاً من كتبه رأيناها وشاهدها الثقات فذكروها لنا؛ فمن ذلك كتاب "اسطقس الأس الأول" إلى البرامكة، كتاب "اسطقس الأس الثاني" إليهم، كتاب "الكمال" هو الثالث إليهم، وكناب "الواحد الكبير"، كتاب "الواحد الصغير"، كتاب "الركن"، كتاب "البيان"، كتاب "الرتيب"، كناب "النور"، كتاب "الصبغ الأحمر"، كتاب "الخمائر الكبير"، كتاب "الخمائر الصغير"، كتاب "التدابير الرائية"، كتاب يعرف بـ"الثالث"، كتاب "الروح"، كتاب "الزيبق"، كتاب "الملاغم الجوانية"، كتاب "الملاغم البرانية"، كتاب "العمالقة الكبير"، كتاب "العمالقة الصغير"، كتاب "البحر الزاخر"، كتاب "البيض"، كتاب "الدم"، كتاب "الشعر"، كتاب "النيات"، كتاب "الاستيفاء"، كتاب "الحكمة المصونة"، كتاب "التبويب"، كتاب "الأملاح"، كتاب "الأحجار"، كتاب "إلى قلمون"، كتاب "التدوير"، كتاب "الباهر"، كتاب "التكرير"، كتاب "الدرة المكنونة"، كتاب "البروج"، كتاب "الخالص"، كتاب "الحاوي"، كتاب "القمر"، كتاب "الشمس"، كتاب "التركيب"، كتاب "الفقه"، كتاب "الاسطقس"، كتاب "الحيوان"، كتاب "البول"، كتاب "التدابير" - آخر - كتاب "الأسرار"، كتاب "كيمياء المعادن"، كتاب "الكيفية"، كتاب "السماء أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة"، كتاب "الأرض".
وله بعد ذلك عشر مقالات تتلو هذه الكتب، وهي: كتاب "مصححات فيثاغورس من كتاب مصححات سقراط"، كتاب "مصححات أفلاطون"، كتاب "مصححات أرسطاليس"، كتاب "مصححات أرسنجانس"، كتاب "مصححات أكاغانيس"، كتاب "مصححات أمورس"، كتاب "مصححات ديمقراطيس"، كتاب "مصححات حرى"، كتاب "مصححات تنانحت".
ثم يتلو هذه عشرون كتابًا بأسمائها، وهي: كتاب "الزمردة"، كتاب "الأنموذج"، كتاب "المهجعة"، كتاب "سفر الأسرار"، كتاب "البعيد"، كتاب "الفاضل"، كتاب "العقيقة"، كتاب "البلورة"، كتاب "الساطع"، كتاب "الإشراق"، كتاب "المخايل"، كتاب "المسائل"، كتاب "التفاضل"، كتاب "التشابه"، كتاب "التفسير"، كتاب "التمييز"، كتاب "الكمال والتمام".
ويتلوها أيضًا ثلاثة كتب تتَّصل بها، هي: كتاب "الضمير"، كتاب "الطهارة"، كتاب الأعراض، وبعد ذلك سبعة عشر كتابًا: أولها كتاب "المبدأ بالرياضة"، كتاب "المدخل إلى الصناعة"، كتاب "التوقف"، كتاب "الثقة بصحة العلم"، كتاب "التوسط في الصناعة"، كتاب "المحنة"، كتاب "الحقيقة"، كتاب "الاتفاق والاختلاف"، كتاب "السنن والحيرة"، كتاب "الموازين"، كتاب "السر الغامض"، كتاب "المبلغ الأقصى"، كتاب "المخالفة"، كتاب "الشرح"، كتاب "الإغراء في النهاية"، كتاب "الاستقصاء".
ثم يتلو ذلك ثلاثة كتب هي: كتاب "الطهارة" - آخر - كتاب "التفسير"، كتاب "الأعراض".
قال محمد بن إسحاق: قال جابر في كتاب فهرسته: ألَّفت بعد هذه الكتب ثلاثين رسالة لا أسماء لها، ثم ألَّفت بعد ذلك أربع مقالات هي: كتاب "الطبيعة الفاعلة الأولى المتحرِّكة" وهي النار، كتاب "الطبيعة الثانية الفاعلة الجامدة" وهي الماء، كتاب "الطبيعة الثالثة المنفعلة اليابسة" وهي الأرض، كتاب "الطبيعة الرابعة المنفعلة الرطبة" وهي الهواء.
قال جابر: ولهذه الكتب كتابان فيهما شرح ذلك وهما: كتاب "الطهارة"، كتاب "الأعراض"، ثم ألَّفت بعد ذلك أربعة كتب هي: كتاب "الزهرة"، كتاب "السلوة"، كتاب "الكامل"، كتاب "الحياة"، وألفت بعد ذلك عشرة كتب على رأي بليبسناس صاحب الطلسمات وهي: كتاب "زحل"، كتاب "المريخ"، كتاب "الشمس الأكبر"، كتاب "الشمس الأصغر"، كتاب "الزهرة"، كتاب "عطارد"، كتاب "القمر الأكبر"، كتاب "الأعراض"، كتاب يعرف بخاصية نفسه، كتاب "المثنى".
وله أربعة كتب في المطالب هي: كتاب "الحاصل"، كتاب "ميدان العقل"، كتاب "العين"، كتاب "النظم".
قال أبو موسى: ألَّفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة وألف وثلاثمائة كتاب في الحيل على مثال كتاب تقاطر، وألف وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب، ثم ألَّفت في الطب كتابًا عظيمًا، وألفت كتبًا صغارًا وكبارًا.
وألَّفت في الطب نحو خمسمائة كتاب مثل كتاب "المجسَّة والتشريح"، ثم ألفت في كتب المنطق على رأي أرسطاليس، ثم ألف كتاب "الزيج اللطيف" نحو ثلاثمائة ورقة كتاب "شرح إقليدس"، وكتاب "شرح المجسطي"، وكتاب "المرايا"، وكتاب "الجاروف" الذي نقضه المتكلمون، وقد قيل: إنه لأبي سعيد المصري.
ثم ألفت كتبًا في الزهد والمواعظ، وألفت كتبًا في العزائم كثيرة حسنة، وألفت كتبًا في النيرنجات، وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتبًا كثيرة.
ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقضًا على الفلاسفة، ثم ألفت كتابًا في الصنعة يعرف بكتاب "الملك" وكتابًا يعرف بـ"الرياض" أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة، كتاب "المجردات"، كتاب "البيض الثاني"، كتاب "الحيوان الثاني"، كتاب "الأملاح الثاني"، كتاب "الباب الثاني"، كتاب "الأحجار الثاني"، كتاب "الكامل"، كتاب "الطرح"، كتاب "فضلات الخمائر"، كتاب "العنصر"، كتاب "التركيب الثاني"، كتاب "الخواص"، كتاب "التذكير"، كتاب "البستان"، كتاب "السيول"، كتاب "روحانية عطارد"، كتاب "الاستمام"، كتاب "الأنواع"، كتاب "البرهان"، كتاب "الجواهر الكبير"، كتاب "الرائحة اللطيف"، كتاب "المي"، كتاب "الطين"، كتاب "الملح"، كتاب "الحجر الحق الأعظم"، كتاب "الألبان"، كتاب "الطبيعة"، كتاب "ما بعد الطبيعة"، كتاب "التلميع"، كتاب "الفاخر"، كتاب "الصارع"، كتاب "الإفرند"، كتاب "الصادق"، كتاب "الروضة"، كتاب "الزاهر"، كتاب "التاج"، كتاب "الخيال"، كتاب "تقدمة المعرفة"، كتاب "الزرانيخ"، كتاب "الهي"، كتاب "إلى خاطف"، كتاب "إلى جمهور الفرنجي"، كتاب "إلى علي بن بقطين"، كتاب "مزارع الصناعة"، كتاب "إلى علي بن إسحاق البرمكي"، كتاب "التصريف"، كتاب "الهدى"، كتاب "تليين الحجارة إلى منصور بن أحمد البرمكي"، كتاب "أعراض الصنعة إلى جعفر بن يحيى البرمكي"، كتاب "الباهت"، كتاب "عرض الأعراض"، وهذه الكتب مائة واثنا عشر كتابًا.
وله بعد ذلك سبعون كتابًا منها: كتاب "اللاهوت"، كتاب "الباب"، كتاب "الثلاثين كلمة"، كتاب "المنى"، كتاب "الهدى"، كتاب "الصفات"، كتاب "العشرة"، كتاب "النعوت"، كتاب "العهد"، كتاب "السبعة"، كتاب "الحي"، كتاب "الحكومة"، كتاب "البلاغة"، كتاب "المشاكلة"، كتاب "خمسة عشر"، كتاب "الكفوء"، كتاب "الإحاطة"، كتاب "الرواق"، كتاب "القبة"، كتاب "الضبط"، كتاب "الأشجار"، كتاب "المواهب"، كتاب "المخنقة"، كتاب "الإكليل"، كتاب "الخلاص"، كتاب "الوجيه"، كتاب "الرغبة"، كتاب "الخلقة"، كتاب "الهيئة"، كتاب "الروضة"، كتاب "الناصع"، كتاب "النقد"، كتاب "الطاهر"، كتاب "ليلة"، كتاب "المنافع"، كتاب "اللعبة"، كتاب "المصادر"، كتاب "الجمع"، فهذه أربعون كتابًا من السبعين كتابًا.
ثم يتلو ذلك رسائل في الحجر أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة وعاشرة، ولا أسماء لها، وله بعد ذلك عشر رسائل في النبات أولى إلى العاشرة، وله في الأحجار عشر رسائل على هذا المثال، فذلك سبعون رسالة، ويتلو ذلك عشرة كتب مضافة إلى السبعين وهي: كتاب "التصحيح"، كتاب "المعنى"، كتاب "الإيضاح"، كتاب "الهمة"، كتاب "الميزان"، كتاب "الاتفاق"، كتاب "الشرط"، كتاب "الفضلة"، كتاب "التمام"، كتاب "الأعراض".
جاء في "الأعلام" للزركلي، ج6، ص364: "محمد بن زكريا الرازي أبو بكر: فيلسوف من الأئمَّة في صناعة الطب، من أهل الري، وُلِد وتعلَّم بها، وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين، يسميه كُتَّاب اللاتينية "رازيس" Rhazes أُولِع بالموسيقا والغناء ونظم الشعر في صِغَره، واشتغل بالسيمياء والكيمياء، ثم عكف على الطب والفلسفة في كِبَره فنبغ واشتهر وتولى تدبير مارستان الري، ثم رياسة أطباء البيمارستان العَضُدي في بغداد.
وقال أحد معاصريه: كان شيخًا كبير الرأس مسفطه، وكان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه، ودونهم تلاميذهم، ودونهم تلاميذ أُخَر، فيجيء المريض فيذكر مرضه لأول مَن يلقاه فإن كان عندهم علم وإلا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلَّم الرازي في ذلك، وعَمِي في آخر عمره ومات ببغداد، وفي سنة وفاته خلاف بين نيف و290 و320 هـ، له تصانيف سمى ابن أبي أصيبعة منها 232 كتابًا ورسالة منها: "الحاوي" (خ)[74] في صناعة الطب، وهو أجلُّ كتبه ترجم إلى اللاتينية وطبع فيها، و"الطب المنصوري" (خ) طبع باللاتينية، و"الفصول في الطب" (خ) ويسمى "المرشد"، و"الجدري والحصبة" (ط)[75]، و"برء الساعة" (ط) رسالة، و"الكافي" (خ)، و"الطب الملوكي" (خ)، و"مقالة في الحصى والكلى والمثانة" ط، و"الآخر باذين" خ، و"تقسيم العلل" (خ)، و"المدخل إلى الطب" (خ)، و"خواص الأشياء" (ح)، و"الفاخر في علم الطب" (خ)، و"الباه ومنافعه ومضاره ومداواته" (خ)، و"سر الصناعة" (خ) طبعت ترجمته اللاتينية باسم الأسرار و"أسئلة من الطب" (خ)، و"تلخيص كتاب جالينوس في حيله"، "البرء" (خ)، و"منافع الأغذية ومضارها" (ط)، وكتاب "الفقراء والمساكين" (خ)، و"جراب المجربات"، و"خزانة الأطباء" (خ)، و"الخواص" (خ)، "رسالة ومقال في النقرس" (خ)، و"القولنج" (خ)، و"مجموع رسائل" (ط) نشرته الجامعة المصرية يشتمل على (11) رسالة، وكتاب "من لا يحضره الطبيب" (خ) بالمدينة، وللدكتور داود الجلبي الموصلي كتاب "محمد بن زكريا الرازي" (ط)[76].
* * *
تعلم الفروسية
ثبت عن النبي ﷺ أنه سابق بالأقدام، وثبت عنه أنه سابق بين الإبل، وثبت عنه أنه سابق بين الخيل.
وثبت عنه أنه حضر نضال السهام وصار مع إحدى الطائفتين؛ فأمسكت الأخرى فصار مع الطائفتين كلتيهما.
وثبت عنه أنه رمى بالقوس.
وثبت عن الصديق أنه راهن كفَّار مكَّة على غلبة الروم للفرس، وراهنوه على أن لا يكون ذلك ووضعوا الحظ من الجانبين، وكان ذلك بعلم النبي ﷺ وإذنه.
وثبت عنه ﷺ أنه طعن بالرمح وركب الخيل مسرَّجة ومعراة وتقلَّد السيف[77].
وفي "صحيح مسلم" عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)).
وفي "صحيح البخاري" عن سلمة بن الأكوع قال: مرَّ رسول الله ﷺ بنَفَر ينتضلون فقال: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان))، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال: ((ما لكم لا ترمون؟))، فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ((ارموا وأنا معكم كلكم)).
وكان عقبة بن عامر يختلف بين الغرضين وهو شيخ كبير، فقيل له: لم تفعل هذا وأنت شيخ كبير يشق عليك؟ فقال: لولا كلام سمعته من رسول الله ﷺ لم أعانِه، سمعته يقول: ((مَن تعلَّم الرمي ثم تركه فليس منَّا))، وفي لفظ ((فقد عصى))؛ رواه أهل السنن.
وفي "السنن" عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: ((إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسِب في عمله الخير، والرامي به، والممد به))، وفي راوية: ((ومنبله، فارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كلُّ لهوٍ باطلٌ، ليس من اللهو المحمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله، فإنهن من الحق، ومَن ترك الرمي بعد ما علمه رغبةً فإنها نعمة تركها)) أو قال: ((كفرها)).
وقال مصعب بن سعد: كان سعد يقول: أي بني، تعلموا الرماية فإنها خير لعبكم؛ رواه الطبراني.
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كتب عمر بن الخطاب t إلى أبي عبيدة بن الجراح: أن علموا غلمانكم العوم ومقاتِلتكم الرميَ، فكانوا يختلفون في الأغراض، فجاء سهم غرب فقتل غلامًا وهو في حجر خال له لا يُعلم له أهل، فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إلى مَن أدفع عقله؟ فكتب إليه عمر: أن رسول الله ﷺ كان يقول: ((الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، والخال وارث مَن لا وارث له))؛ رواه الطبراني.
وقال أبو عثمان النهدي: أتانا كتاب من عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان: "أمَّا بعد، فاتَّزروا وارتدوا، وانتعلوا وألقوا الخِفاف، وألقوا السراويلات، وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل، وإيَّاكم والتنعُّم وزيَّ العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا، واخلولقوا واقطعوا الركب، وانزوا على الخيل نزوًا، وارتموا الأغراض.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ((مَن مشى بين الغرضين كان له بكل خطوة حسنة))؛ رواه الطبراني.
وقال إبراهيم التيمي عن أبيه: رأيت حذيفة يعدو بين الهدفين بالمدائن في قميص.
وقال الأوزاعي عن بلال بن سعد: أدركت قومًا يشتدُّون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانًا.
وقال مجاهد: رأيت ابن عمر يشتدُّ بين الغرَضين وهو شيخ كبير.
وروى النسائي في "سننه" عن أنس قال: لم يكن شيء أحبَّ إلى رسول الله ﷺ بعد النساء من الخيل.
وفي "سنن أبي داود" والنسائي من حديث أبي وهب الجشمي قال: قال رسول الله ﷺ: ((ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأكفالها، وقلِّدوها، ولا تقلدوها الأوتار)).
وعن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَن رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر))، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله ﷺ وهو محاصر الطائف: ((مَن رمى بسهم فله درجة في الجنة، فبلغت ستة عشر سهمًا))، رواه الطبراني.
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((ستفتح لكم الأرض وتكفوا المؤنة، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه))[78].
* * *
مؤلفون مكثرون
* أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوري: المتوفى سنة 276هـ، من أكثر الناس تأليفًا.
نقل ابن تيمية عن صاحب كتاب "التحديث بمناقب أهل الحديث" قوله: وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، وأجودُهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلاثمائة مصنف.
وقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": ولابن قتيبة مصنفاتٌ كثيرة جدًّا، رأيت فهرسها، ونسيت عددها، أظنُّها تزيد على ستين في أنواع العلوم[79].
* قال حنبل بن إسحاق: جمعَنا عمي - أنا وصالح وعبدالله - وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه - يعني تامًّا - غيرُنا، وقال لنا: إن هذا الكتابَ قد جمعتُه وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون فيه من حديثِ رسول الله ﷺ فارجعوا إليه، فإن كان فيه، وإلا فليس بحجة.
وقال عبدالله بن أحمد: قلتُ لأبي - رحمه الله تعالى -: لِمَ كرهتَ وضْع الكتب وقد عملتَ المسند؟ فقال: عملتُ هذا الكتاب إمامًا، إذا اختلف الناسُ في سنة رسول الله ﷺ رُجِعَ إليه.
وقال عبدالله بن أحمد أيضًا: خرج أبي المسندَ من سبعمائة ألف حديث.
وقال أبو بكر الخطيب: قال ابن المنادي: لم يكن في الدنيا أروى عن أبيه منه - يعني عبدالله بن أحمد بن حنبل - لأنه سمع المسند، وهو ثلاثون ألفًا، والتفسيرَ، وهو مائة ألف وعشرون ألفًا، سمع منه ثمانين ألفًا والباقي وجادة.
وذكر أبو عبدالله الحسين بن أحمد الأسدي في كتاب "مناقب أحمد بن حنبل" أنه سمع أبا بكر بن مالك يذكر أن جملة ما وعاه المسند أربعون ألف حديث، غيرَ ثلاثين أو أربعين، قال: وسمعته - يعني أبا بكر بن مالك - سمعت عبدالله بن أحمد بن حنبل يقول: أخرج أبي هذا المسند من جملة سبعمائة ألف حديث.
وقال أبو عبدالله الأسدي: وقد أفردتُ لذلك كتابًا في جزء واحد، وسميته: "كتاب المدخل إلى المسند"، أثبتُّ فيه ذلك أجمع.
* محمد بن جرير الطبري: ولد سنة 244، وتوفي سنة 310هـ، له كتاب تفسير القرآن المسمى "جامع البيان في تفسير القرآن"، وكتاب "أخبار الرسل والملوك"، وهذان الكتابان من أهمِّ الكتب في بابهما.
قال عنه بعض من له به صلة: إنه مكث أربعين سنةً يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
وفي كتاب "ثمرات الأوراق": كان نظمُ القاضي الفاضل - رحمه الله - ونثرُه كفرسَيْ رهان، ولكن نثر أكثر ما نظم، وأجمع الناسُ أنه أتى مع الإكثار بالعجائب.
وذكر قاضي القضاة شمس الدولة ابن خَلِّكان: أن مسودات رسائله إذا جمعتْ، ما تقصر عن مائة مجلد، وهو يجيد في أكثرها[80].
* أبو الوفاء ابن عقيل: له كتبٌ كثيرة، منها كتاب "الفنون"، الذي قيل: إنه يقارب أربعمائة مجلد، وقال عنه الحافظ الذهبي: لم يصنَّف في الدنيا أكبرُ من هذا الكتاب؛ بل قال بعضهم عن هذا الكتاب: إنه يبلغ ثمانمائة مجلد، ومهما قيل عن عدد مجلداته، فلا ريب أنه أشبه بدائرة معارف.
* والحافظ أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا، له المصنفات المشهورة في فنون كثيرة، قيل: إن مصنفاته تزيد على ثلاثمائة مصنف.
* وللخطيب البغدادي من المؤلفات قريب من مائة مصنف، منها "تاريخ بغداد".
* وأبو محمد علي بن حزم الظاهري صنَّف نحو أربعمائة مجلد، في قريب من ثمانمائة ألف ورقة.
* وأبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، صاحب "تاريخ الشام" الذي يقع في ثمانين مجلدة.
* ومحمد بن عمر بن الحسين الفخر الرازي، صاحب التفسير المعروف، مصنفاته تقارب المائتين.
* وجلال الدين عبدالرحمن السيوطي، له من المؤلفات ما بين صغير وكبير نحو ستمائة كتاب.
* وابن حيان مؤلفاته تقارب الستين كتابًا.
* وأبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي: من المصنِّفين المكثرين، قيل: إنه لو قُسمتِ الكراريسُ التي ألَّفها على أيام حياته، لحَظِيَ كلُّ يوم تسعَ كراريس، وقدَّرها بعضهم بثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلدة.
* وأحمد بن حجر العسقلاني مؤلفاته أكثر من مائة وخمسين مصنفًا.
* وابن عروة الحنبلي الذي ألَّف كتاب "الداري في ترتيب مسند الإمام أحمد على صحيح البخاري" في أكثر من مائة وخمسين مجلدًا.
* علي بن أحمد بن سيده، أبو الحسن اللغوي الأندلسي الضرير: من تصانيفه كتاب "المحكم والمحيط الأعظم في اللغة"، وكتاب "المخصص" مرتب على الأبواب كالغريب المصنف، وكتاب "شرح إصلاح المنطق" وكتاب "الأنيق في شرح الحماسة" كبير إلى الغاية، كتاب "العالم في اللغة على الأجناس" في غاية الاستيعاب نحو مائة مجلد (بدأ فيه بالفلك، وختم بالذرة)، وكتاب "العالم والمتعلم على المسألة والجواب"، وكتاب "الوافي في علم القوافي"، وكتاب "شاذ اللغة" في خمس مجلدات، وكتاب "شرح كتاب الأخفش"، توفي سنة 458 هـ[81].
وقال ابن خزيمة لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ، ولم يتفق له سماع من ابن جرير؛ لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد: لو كتبتَ عنه لكان خيرًا لك من كل من كتبتَ عنه.
* صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (من صفد بفلسطين): مؤرخ كثير التصانيف الممتعة، وله زهاء مائتي مصنف.
* شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية: قال الذهبي: وله من المصنفات الكبار التي سارتْ بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر.
وقال الذهبي في موضع آخر مترجمًا لشيخ الإسلام ابن تيمية: ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الردِّ على الفلاسفة والأوائل - نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد.
وقال تلميذه ابن عبدالهادي: وللشيخ - رحمه الله - من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل، وغير ذلك من الفوائد - ما لا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من متقدمي الأمة ولا متأخِّريها جَمَعَ مِثلَ ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنف، ولا قريب من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفْظه، وكثيرٌ منها صنفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب.
* أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني: أحد أئمة الدين، وحفَّاظ الإسلام للحديث، رحل إلى الآفاق في طلب الحديث، ثم جمع وصنَّف، وخرج وألف، وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان، وغير ذلك، له كتاب "السنن" الذي قال فيه أبو حامد الغزالي: يكفي المجتهدَ معرفتُها من الأحاديث النبوية.
سكن أبو داود البصرة، وقدم بغداد غير مرة، وحدث بكتاب السنن، وعرَضَه على الإمام أحمد فاستحسنه.
قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبتُ عن رسول الله ﷺ خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضمَّنتُه كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة، حيث ذكرتُ الصحيح وما يشبهه ويقاربه.
كان ثبتًا عارفًا بالحديث سنده ومتنه وتخريجه، ورعًا صالحًا مقدَّمًا، روى عنه الإمام أحمد حديثًا واحدًا.
قال إبراهيم الحربي: أُلين لأبي داود الحديث، كما أُلين لداود الحديد.
* أبو عبدالرحمن بقي بن مخلد الأندلسي الحافظ: له المسند المبوَّب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، وبالغ ابن حزم ففضَّله على مسند الإمام أحمد، وقد رحل بقي بن مخلد في طلب الحديث إلى العراق وغيرها، فسمع على الإمام أحمد وعلماء كثيرين يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخًا، وله مؤلفات أخرى، كان رجلاً صالحًا زاهدًا مجاب الدعوة.
* أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي الإمام الواعظ: له المصنفات في الفنون المختلفة، منها "زاد المسير في علم التفسير" في أربعة أجزاء، و"المنتظم في التاريخ"، و"الموضوعات" في أربعة أجزاء، و"تلقيح فهوم أهل الأثر"، و"لقط المنافع في الطب"، و"جامع المسانيد"، و"التبصرة"، و"تلبيس إبليس"، و"صيد الخاطر".
قال ابن خلكان: وبالجملة فكتبُه أكثرُ من أن تُعَدَّ، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا، والناس يغالون في ذلك حتى يقولون: إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت على المدة، فكان ما خص كلَّ يوم تسع كراريس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل، ويقال: إنه جمعت براية الأقلام التي كتب بها حديثَ رسول الله ﷺ فحصل منه شيءٌ كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسَّل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفتْ وفضل منها[82].
* أبو حامد الإسفراييني: إمام الشافعية في زمانه، كان عظيمَ الجاه عند السلطان والعوام، وكان فقيهًا إمامًا جليلاً نبيلاً، شرح المزني في تعليقه حافلة نحوًا من خمسين مجلدًا.
قال الخطيب البغدادي: ورأيته غير مرة، وحضرت تدريسه بمسجد عبدالله بن المبارك في صدر قطيعة الربيع، وحدثنا عنه الأزجي والخلال، وسمعت مَن يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به[83].
* وللأصمعي من التصانيف: كتاب "خلق الإنسان"، وكتاب "الأجناس"، وكتاب "الأنواء"، وكتاب "الهمزة"، وكتاب "المقصور والممدود"، وكتاب "الفرق"، وكتاب "الصفات"، وكتاب "الأثواب"، وكتاب "الميسر والقداح"، وكتاب "خلق الفرس"، وكتاب "الخيل"، وكتاب "الإبل"، وكتاب "الشاء"، وكتاب "الأخبية"، وكتاب "الوحوش"، وكتاب "فعل وأفعل"، وكتاب "الأمثال"، وكتاب "الأضداد"، وكتاب "الألفاظ"، وكتاب "السلاح"، وكتاب "اللغات"، وكتاب "مياه العرب"، وكتاب "النوادر"، وكتاب "أصول الكلام"، وكتاب "القلب والإبدال"، وكتاب "جزيرة العرب"، وكتاب "الاشتقاق"، وكتاب "معاني الشعر"، وكتاب "المصادر"، وكتاب "الأراجيز"، وكتاب "النحلة"، وكتاب "النبات"، وكتاب "ما اتفق لفظه واختلف معناه"، وكتاب "غريب الحديث"، وكتاب "نوادر الأعراب"، وغير ذلك[84].
* أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي: قال ابن كثير في تاريخه: أحد أكابر حفاظ الحديث، ومن عُنِي به سماعًا وجمعًا، وتصنيفًا واطِّلاعًا، وحفظًا لأسانيده ومتونه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه.
صنَّف "تاريخ الشام" في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلَّدة، وقد ندر على من تقدَّمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمَّله، رأى ما وصفه فيه وأصَّله، وحكم بأنه فريد دهره في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائف الحميدة، فله "أطراف الكتب الستة"، و"الشيوخ النبل"، و"تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري"، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار، والأجزاء والأسفار، وقد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الحفاظ، نسخًا واستنساخًا ومقابلة وتصحيح الألفاظ، وكان من أكابر سروات الدماشقة، ورياستُه فيهم عالية باسقة، من ذوي الأقدار والهيئات، والأموال الجزيلة والهبات[85].
* محمد بن عمر بن الحسين الفخر الرازي: من مشاهير فقهاء الشافعية، له المصنَّفات الكثيرة، فله نحو مائتي مصنف، منها التفسير المعروف، كان غنيًّا واسع الثراء، ذا خدم وحشم وأبهة في المساكن والملابس والأثاث والمراكب، وله أربعون مملوكًا من الترك، له مكانة سامية عند الملوك والعامة، وكانت تركتُه يوم مات تزيد على مائتي ألف دينار، عدا ما يملكه من عقار وآلات ودواب وغيرها، وكان توسُّعُه في مباهج الحياة مما أثار بعضَ العلماء عليه وانتقاد طريقته، وفي آخر عمره تراجع عن آراء الفلاسفة، وحبَّذ طريقة السلف.
ومن كتاب "تاريخ قضاة الأندلس"، ص112: ومن صدور القضاة وأعلام الفقهاء الحافظُ أبو محمد عبدالله بن سليمان بن داود بن عبدالرحمن بن حوط الله الأنصاري المالقي، كان - رحمه الله - إمامًا في العلوم، عارفًا بالأحكام، متقدمًا في علم الحديث وما يتعلق به من التاريخ والأنساب وأسماء الرجال، بصيرًا بالأصول، أديبًا ماهرًا، معتنيًا بالرواية، زاهدًا فاضلاً.
* جلال الدين عبدالرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ: من المؤلفين المكثرين، قال السيوطي في كتاب "حسن المحاضرة": وشرعتُ في التصنيف في سنة ستة وستين وثمانمائة (مولده سنة 849هـ)، وبلغت مؤلفاتي إلى الآن ثلاثمائة كتاب، سوى ما غسلته ورجعت عنه، وهذه المؤلفات في التفسير والقراءات، والحديث والفقه، والأجزاء المفردة، والعربية والآداب.
وعدَّ له الأستاذ بروكلمان 415 مصنفًا بين مطبوع ومخطوط، والعلامة فلوغال 560 مصنفًا، وذكر له الأستاذ جميل بك العظم 576 مصنفًا بين كتب كثيرة، ورسائل، ومقامات.
وذكره ابن إياس فيمن توفي في عصر الغوري، وقال: بلغت مؤلفاته ستمائة مؤلف.
وقال الشعراني في ذيل طبقاته: له من المؤلفات أربعمائة وستون مؤلفًا، مذكورة في فهرس كتبه.
وقد طُبع من هذه الكتب كثيرٌ، أحصى له الأستاذ يوسف سركيس في "معجم المطبوعات العربية" 94 كتابًا لعهد تأليف معجمه (1339هـ /1919م)، وقد طبع له بعد هذا التاريخ مؤلفات أخرى، على أن الكثير من كتب السيوطي يقع في رسائل صغيرة، قال عنها السخاوي: رأيت منها ما هو في ورقة، وأمَّا ما فوق الكراسة، فكثير.
وقد رأينا له أخيرًا مجموعة من الكتب مطبوعة بعنوان "الحاوي للفتاوى، في الفقه وعلوم التفسير، والحديث والأصول، والنحو والإعراب، وسائر الفنون"، يقع في قريب من 750 صفحة، ويحوي 78 كتابًا، مذكور معظمها في جملة ما ذكره السيوطي في حسن المحاضرة، ومهما يكن من شيء فإن للسيوطي مؤلفاتٍ لم يتطرق الشكُّ في صحة نسبتها إليه، وهي في ذاتها تعدُّ مفخرةً من مفاخر التأليف والتصنيف، منها: "الإتقان في علوم القرآن"، و"المزهر في علوم اللغة"، و"همع الهوامع"، و"الأشباه والنظائر في النحو"، و"بغية الوعاة في تراجم النحاة"، و"أسباب النزول"، وغير ذلك مما يجعل السيوطيَّ في مقدمة العلماء والمصنفين[86].
قال السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة" في ترجمته لنفسه: ولو شئتُ أن أكتب في كل مسألة مصنفًا لها، بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقَدَرتُ على ذلك من فضل الله.
* محمد بن علي بن عبدالله الشوكاني، المتوفى سنة 1250هـ: عدَّ له في الترجمة المذكورة في مقدمة كتابه "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" حوالي سبعين مصنفًا، ثم قيل: إلى غير ذلك من التصانيف التي لا يتَّسع المقام لبسطها وذِكرها، وأما الأبحاث التي اشتملت عليها فتاواه المسماة "بالفتح الرباني"، فكثيرة جدًّا.
* وعباس محمود العقاد مؤلفاته تزيد على الثمانين كتابًا.
ومن المؤلفين المكثرين:
* محمد الغزالي: مصنفاته تربو على الثلاثين كتابًا أو يزيد.
* وأبو الأعلى المودودي: له مؤلفات كثيرة.
* وسيد قطب: له مؤلفات كثيرة، منها كتابه "في ظلال القرآن".
* وأبو الحسن الندوي: من ذوي التآليف الكثيرة.
* ومحمد فريد وجدي: له مؤلفات كثيرة، منها كتابه "دائرة المعارف في القرن العشرين".
* والشيخ عبدالحي بن عبدالحليم اللكنوي: مؤلفاته نحو مائة وعشرة كتب.
* ومحمود حسن خان التونكي: له مصنف سماه "معجم المصنفين" كدائرة معارف، يقع في ستين مجلدًا، يحتوي على عشرين ألفًا من الصفحات المطبوعة، وعلى تراجم أربعين ألفًا من المصنفين، منهم ألفان باسم أحمد.
* والأستاذ أحمد عبدالغفور عطار: له مؤلفات كثيرة، وتبلغ مؤلفاته والكتب التي حققها حوالي ستين كتابًا.
* والأستاذ أنور الجندي: مؤلف مكثر.
* والشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم: له مؤلفات كثيرة، منها جمعه فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في 35 مجلدًا.
* والشيخ عبدالرحمن الناصر السعدي: كتبه تقارب الخمسين.
* والأستاذ محمد عبدالمنعم خفاجي: له نحو خمسمائة كتاب، طبع منها نحو 300 كتاب.
* الأستاذ عبدالملك بن عبدالكريم بن أمر الله: الزعيم الإندونيسي المعروف باسم "همكا"، وأحد قادة حزب ماشومي الإسلامي في إندونيسيا، المولود في سومطرا في سنة 1326هـ، وجَّهتْ إليه مجلة رابطة العالم الإسلامي عدةَ أسئلة، وأجاب عليها في العدد الأول من السنة السادسة، الصادر في ربيع الأول سنة 1388هـ، الموافق مايو (آيار) 1968م.
وقال في إحدى إجاباته: وإني كخادم بسيط من خدَّام الدعوة الإسلامية، جندتُ كلَّ طاقاتي وإمكانياتي طول عمري لنشر اللغة العربية بين قومي، وقد ألَّفتُ ما لا يقل عن مائة وخمسين كتابًا منوعًا في الدين والفلسفة، والتفسير والتاريخ؛ بل ألفت وأنا في عنفوان شبابي 12 كتابًا وروايات قصصية.
وفي المدة الأخيرة التي قضيتُها في السجن سنتين وأربعة أشهر، قمت بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإندونيسية في ثلاثين مجلدًا، وقد اعتمدتُ على المراجع العربية، فقرأت الكتب القديمة والحديثة، من تفسير الطبري إلى تفسير رشيد رضا وسيد قطب.
إن كتب الغزالي حسنت روحي وشعوري؛ ولكن ابن تيمية بعث لي روحًا قويًّا، ومحمد بن عبدالوهاب ثم جمال الدين الأفغاني أوجدا في نفسي روح التطلُّع، ومحمد عبده جعلني أحبُّ العمل والحركة بأسلوب نظامي، وحسن البنا فتح بصري على إمكانيات البعث الإسلامي من جديد، ومجابهة العهد الجديد.
* وفي كتاب "الذيل على طبقات الحنابلة"، لابن رجب، ج1، ص 155- 156: ولابن عقيل تصانيفُ كثيرةٌ في أنواع العلم، وأكبر تصانيفه كتاب "الفنون"، وهو كتاب كبير جدًّا، فيه فوائدُ كثيرة جليلة في الوعظ والتفسير، والفقه والأصلين، والنحو واللغة والشعر، والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعتْ له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد، وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة.
وقال عبدالرزاق الرسعني في تفسيره: قال لي أبو البقاء اللغوي: سمعت الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب "الفنون".
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يصنَّف في الدنيا أكبرُ من هذا الكتاب، حدَّثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة قلت: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد قال: سمعت بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة، وله في الفقه كتاب "الفصول" ويسمى "كفاية المفتي" في عشر مجلدات، وكتاب "عمدة الأدلة"، وكتاب "المفردات"، وكتاب "المجالس النظريات"، وكتاب "التذكرة" مجلد، وكتاب"الإشارة" مجلد لطيف، وهو مختصر.
* الحافظ أبو بكر عبدالله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا: كان صدوقًا حافظًا، له المصنفات المشهورة في فنون كثيرة، قدَّرها بعضهم بمائة مصنف، وقيل: بل تزيد على ثلاثمائة مصنف، كان أصحابه يومًا ينتظرونه فحال بينه وبينهم المطرُ، فكتب إليهم رقعة فيها:
أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَى رُؤْيَتِكُمْ = يَا أَخِلاَّيَ وَسَمْعِي وَالبَصَرْ
كَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَقَلْبِي عِنْدَكُمْ = حَالَ فِيمَا بَيْنَنَا هَذَا المَطَرْ
وللحافظ أبي بكر أحمد بن علي البغدادي الخطيب صاحب "تاريخ بغداد" من المؤلفات قريب من مائة مصنف.
* مسلم بن الحجاج القشيري النَّيْسابوري: صاحب الصحيح الذي هو ثاني كتاب بعد صحيح البخاري في الحديث، اتَّفق العلماء على صحته وتلقَّوْه بالقبول.
كان الإمام مسلم قد رحل في طلب العلم إلى خراسان والري والعراق، والحجاز ومصر والشام، وجدَّ في الطلب، وبلغ في هذا العام شأوًا بعيدًا.
وكان له مصنفات عديدة، منها: "الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال"، و"كتاب الجامع الكبير على الأبواب"، وكتاب "العلل"، وكتاب "أوهام المحدثين"، وكتاب "التمييز"، وكتاب "من ليس له إلا راوٍ واحد"، وكتاب "طبقات التابعين"، وكتاب "المخضرمين"، وغير ذلك.
وقال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
* ولأبي الفرج علي بن الحسين الأموي الأصبهاني المصنفاتُ المستملحة، منها كتاب "الأغاني" الذي وقع الاتفاق على أنه لم يُعمل في بابه مثلُه، يقال: إنه جمعه في خمسين سنة، وحمله إلى سيف الدولة ابن حمدان، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه.
وحُكي عن الصاحب ابن عباد أنه كان في أسفاره يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب "الأغاني" لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه؛ استغناءً به عنها.
* أبو محمد علي بن حزم الظاهري: قرأ القرآن واشتغل بالعلوم الشرعية وبرز فيها، وصنف الكتب الكثيرة، يقال: إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة، وكان أديبًا طبيبًا، شاعرًا فصيحًا، له مؤلفات في الطب والمنطق، وكان من بيت وزارة ورياسة، ومال وثروة، كان كثير الوقوع في العلماء؛ مما سبَّب له عداءهم، ونُفي عن بلده.
قال صاعد الأندلسي: أخبرني ابنه الفضل المكني أبا رافع، قال: اجتمع عندي بخطِّ أبي - أي: ابن حزم - من تواليفه في الفقه والحديث والأصول، والنِّحل والملل، وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب، والرد على المعارضين نحو أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه عن أحدٍ ممن كان في دولة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر بن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تأليفًا.
وقال الحافظ فتح الدين أبو الفتح ابن سيد الناس اليَعمُري المصري - بعد أن ذكر ترجمة الحافظ أبي الحجاج المزي -: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام، شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، فألفيتُه ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلَّم في التفسير فهو حاملُ رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم يُرَ أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته.
برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تَرَ عينُ مَن رآه مثلَه ولا رأتْ عينُه مثلَ نفسه، كان يتكلَّم في التفسير، فيحضر مجلسه الجمّ الغفير، ويَرِدُون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دبَّ إليه من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه في حنبليته من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجْلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذَكَر لها على ما زعموا بوائق، فآضتْ إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الطعن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمرَه، وأعمل كل منهم في نصرة فكره، فكتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعَوْا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عمار الزوايا وسكان المدارس، من مُحَامل في المنازعة مُخاتل بالمخادعة، ومن مجاهرٍ بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون؛ ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [القصص: 69]، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبَّت إليه عقارب مكره، فردَّ الله كيد كلٍّ في نحره، فنجَّاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره.
ثم لم يخلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره لبعض القضاة، فقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله - تعالى - وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور، وهو المطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق.
* * *
نماذج من العلماء
* ذكر أبو عبيدة في كتاب "مثالب أهل البصرة":
أن النضر بن شميل النحْوي البصري كان عالمًا بفنونٍ من العلم، صاحبَ غريب وفقه وشعر، ومعرفةٍ بأيام العرب، ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد، فاتَّفق أنْ ضاقتْ به المعيشةُ، ورقَّ حالُه، فخرج يريد خراسان، فشيَّعه من أهل البصرة ثلاثةُ آلاف رجل، ما فيهم إلا محدِّثٌ، أو نحوي، أو عروضي، أو لغوي، أو إخباري، أو فقيه، فلمَّا بعدوا عن المدينة، جلس فقال: يا أهل البصرة، يعزُّ عليَّ فراقُكم، والله لو وجدتُ كلَّ يوم أكلةَ باقلاء، ما فارقتُكم، قال: فلم يكن أحد فيهم يتكلَّف له ذلك القدرَ اليسير، وسار حتى وصل إلى خراسان، فاستفاد بها مالاً عظيمًا.
فمن ذلك أنه أخذ على حرفٍ ثمانين ألف درهم، وهذه القصة نقلها الحريري صاحب "المقامات" في كتابه المسمى بـ"درة الغواص في أوهام الخواص".
قال: حكي عن محمد بن ناصح الأهوازي قال: حدَّثني النضر بن شميل المازني قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلتُ ذات ليلة وعليَّ قميصٌ مرقوع، فقال: يا نضر، ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف، وحرُّ مرو شديد، فأتبرَّد بهذه الخلقان، قال: ولكنك قشف.
ثم أجرينا الحديث، فأجرى ذكر النساء، فقال: حدَّثني هشام، عن مجاهد، عن الشعبي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ: ((إذا تزوَّج الرجل المرأة لجمالها ولدينها، كان فيها سَداد من عوز))[87] - بفتح السين من سداد - فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشام، حدثنا عوف، عن ابن أبي جميلة، عن الحسن، عن علي ابن أبي طالب t قال: قال رسول الله ﷺ : ((إذا تزوَّج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سِداد من عوز)) - بكسر السين.
قال: وكان أمير المؤمنين متكئًا فاستوى جالسًا وقال: يا نضر، كيف قلت: سِداد؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ لأن سَدادًا بالفتح هنا لحْن، قال: أوَتلحِّنني؟ قلتُ: إنما لحَن هشام وكان لحَّانة، فتَبِع أميرُ المؤمنين لفْظَه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السَّداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسِّداد بالكسر: البُلغة وكلُّ ما سددتَ به شيئًا فهو سداد، قال: أوَتعرف العربُ ذلك؟ قلتُ: نعم، هذا العرجي يقول:
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا = لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
فقال المأمون: قبَّح الله مَن لا أدب له، وأطرق مليًّا ثم قال: ما مالُك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو، قال: أفلا نفيدك معها مالاً؟ قلت: إني لذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تقول إذا أمرت أن يُتْرَب؟ قلت: أتربه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: أطنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: هذا أحسن من الأول، ثم قال: يا غلام أتربه، ثم صلى بنا العشاء، ثم قال لغلامٍ: تبلغ النضر إلى الفضل بن سهل، قال: فلما قرأ الفضل الكتاب، قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرتُه ولم أكْذبه شيئًا، فقال: أكنتَ ألحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلاَّ، إنما لحن هشام - وكان لحَّانة - فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار، ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم، فأخذتُ ثمانين ألف درهم بحرف واحد؛ انتهى[88].
* قال محمد بن إسماعيل البخاري: إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ يطلبني أني اغتبتُه، فذُكر له التاريخ وما فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك، فقال: ليس هذا من هذا، قال النبي ﷺ ((ائذنوا له، فلبئس أخو العشيرة))[89]، ونحن إنما روينا ذلك رواية، ولم نقُلْه من عند أنفسنا.
* وعن عيسى بن يونس قال: ما رأينا في زماننا مثلَ الأعمش، ولا الطبقة الذي كانوا قبلنا، ما رأينا الأغنياءَ والسلاطين في مجلس قط أحقرَ منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاجٌ إلى درهم[90].
وقال الحارث بن أبي أسامة: قلت لحفص بن أبي حفص الأبَّار: رأيت الأعمش؟ قال: نعم، وسمعته يقول: إن الله يرفع بالعلم - أو بالقرآن - أقوامًا، ويضع به آخرين، وأنا ممن يرفعني الله به، لولا ذلك لكان على عنقي دن صحنا أطوف به في سكك الكوفة[91].
عن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا الأعمش، قال: دخل عليَّ إبراهيم يعودني وكان يمازحني، فقال: أمَّا أنت، فيعرف من في منزله أنه ليس برجل من القريتين عظيم[92].
قال شريك: ما كان هذا العلم إلا في العرب وأشراف الملوك، فقال رجلٌ من جلسائه: وأيُّ نبل كان للأعمش؟ قال شريك: أما لو رأيتَ الأعمش ومعه لحم يحمله، وسفيان الثوري عن يمينه، وشريك عن يساره، وكلاهما ينازعه حمل اللحم، لعلمتَ أن ثَمَّ نبلاً كبيرًا[93].
وعن سفيان بن عيينة قال: رأيت الأعمش لبس فروًا مقلوبًا، وتبَّانًا تسيل خيوطه على رجليه، ثم قال: أرأيتم لولا أنني تعلَّمتُ العلم، مَن كان يأتيني؟ لو كنتُ بقالاً كان يقذرني الناس أن يشتروا مني[94].
وقال أبو بكر بن عيَّاش: رأيت الأعمش يلبس قميصًا مقلوبًا، فيقول: الناس مجانين؛ يلبسون الخشن مقابل جلودهم[95].
وعن الأعمش قال: استعان بي مالك بن الحارث في حاجة، فجئتُ في قباء مخرَّق، فقال: لو لبست ثوبًا غيره، فقلت: امشِ، فإنما حاجتك بيد الله، قال: فجعل يقول في المسجد: ما صرت مع سليمان إلا غلامًا[96].
وقال أبو ثور: ما رأينا مثل الشافعي، ولا هو رأى مثلَ نفسه.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي[97].
ولما احتضر ابن إدريس بكتِ ابنتُه، فقال: علامَ تبكين؟ فقد ختمتُ في هذا البيت أربعة آلاف ختمة[98].
* قال الذهبي مترجمًا لشيخ الإسلام ابن تيمية: قرأ القرآن والفقه، وناظر واستدلَّ وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين سنة، وصنَّف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله من المصنَّفات الكبار التي سارتْ بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسَّر كتاب الله - تعالى - مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقَّد ذكاء، وسماعاتُه من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله، وصحته وسقمه، فما يلحقه فيه أحد، وأمَّا نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين - فضلاً عن المذاهب الأربعة - فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرًا، ويدري جملةً صالحة من اللغة وعربية قوية جدًّا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه، فأمرٌ يتجاوز الوصف، ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يُضْرَب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس.
* الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: صاحب الصحيح الذي أجمع العلماء على تلقِّيه بالقبول، وعلى صحة ما روي فيه، نشأ في حجر أمِّه؛ لكون أبيه مات وهو صغير، وطلب علم الحديث منذ يفاعته، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا، وحجَّ وعمرُه ثمانيةَ عشرَ عامًا، فأقام بمكة يطلب الحديث بها، ثم رحل إلى بلدان عديدة لطلب الحديث، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، وروى عنه خلق كثير.
قال الفربري - راوي الصحيح -: سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفًا، لم يبق منهم أحد غيري.
كان البخاري حريصًا على العلم، حتى إنه كان يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمرُّ بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدَّد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة.
وقال البخاري عن نفسه: فكَّرتُ البارحة، فإذا أنا قد كُتِبت لي مصنفات نحوًا من مائتي ألف حديث مسندة، وكان يحفظها كلها.
ودخل مرَّة إلى سمرقند، فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركَّبوا أسانيدَ، وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرؤوها على البخاري، فردَّ كلَّ حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلها وما تعنتوا فيها، ولم يقدروا أن يعلقوا عليه سقطة في إسناد ولا متن.
وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة، فيحفظه من نظرة واحدة.
قال فيه الإمام أحمد: ما أخرجتْ خراسان مثلَه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ما رأينا مثله.
وقال أبو نعيم: هو فقيه هذه الأمة.
وقال قتيبة بن سعيد: رحل إليَّ من شرق الأرض وغربها خلقٌ، فما رحل إليَّ مثلُ محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال مرجى بن رجاء: هو آية من آيات الله تمشي على الأرض.
وقال عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي: محمد بن إسماعيل أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبًا.
وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلمُ مَن دخل العراق.
وقال الترمذي: لم أرَ بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري، وكنا يومًا عند عبدالله بن منير فقال للبخاري: جعلك الله زين هذه الأمة، قال الترمذي: فاستُجيب له فيه.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ﷺ ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال الفلاَّس: كلُّ حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث.
وقال محمود بن النضر بن سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة، ورأيت علماءها كلَّما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فضَّلوه على أنفسهم[99].
* وقال صالح بن أحمد بن حنبل: عزم أبي على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: نحجُّ ونمضي إلى صنعاء إلى عبدالرزَّاق، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبدالرزاق في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبدالرزاق، فسلَّم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل، فقال: حيَّاه الله، إنه ليبلغني عنه كلُّ ما أسرُّ به، ثبَّته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد؟ فأبى أحمد وقال: لم أغيِّر النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجْله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه.
وقال محمد بن إسحاق بن راهويه: سمعت أبي يقول: قال لي أحمد بن حنبل: تعالَ حتى أريك رجلاً لم ترَ مثله، فذهب بي إلى الشافعي، قال أبي: وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل، ولولا أحمدُ وبذْل نفسه لما بذلها له لذهب الإسلام.
وقال المروذي: قلت لأبي عبدالله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا، بأي شيء هذا؟
وقال المروذي أيضًا: قلت لأبي عبدالله: إن فلانًا قال: لم يزهد أبو عبدالله في الدراهم وحدها؛ بل قد زهد في الناس، فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟! الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.
* بعث بعض السلاطين إلى محمد بن إسماعيل البخاري - وهو خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى - ليأتيَه حتى يسمع أولاده عليه، فأرسل إليه: "في بيته العلم والحلم يؤتى"، وأبى أن يذهب إليهم[100].
* سعيد بن المسيب: قال الزهري: جالستُه سبع حجج وأنا لا أظن عند أحدٍ علمًا غيره.
وقال محمد بن إسحاق: عن مكحول قال: طفتُ الأرض كلَّها في طلب العلم، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب.
وقال سعيد بن المسيب: كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
قال مالك: وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامِه.
وقال أحمد بن عبدالله العجلي: كان سعيد رجلاً صالحًا فقيهًا، كان لا يأخذ العطاء، وكانت له بضاعة أربعمائة دينار، وكان يتَّجر في الزيت.
جاء رجل إلى سعيد بن المسيب وهو مريض، فسأله عن حديث، فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعنَّ، فقال: إني كرهتُ أن أحدِّثك عن رسول الله ﷺ وأنا مضطجع.
وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتَّجر فيه ويقول: اللهم إنك تعلم أني لم أمسكْه بخلاً ولا حرصًا، ولا محبةً للدنيا ونيل شهواتها؛ وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصِل منه رحمي، وأؤدِّي الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار.
وقال يحيى بن سعيد: كان يقال: ابن المسيب راوية عمر، قال ليث: لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته.
وقال قدامة بن موسى الجمحي: كان سعيد بن المسيب يفتي وأصحابُ رسول الله ﷺ أحياء.
وقال محمد بن يحيى بن حبان: كان رأس مَن بالمدينة في دهره، المقدَّم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب، ويقال له: فقيه الفقهاء.
وقال مكحول: سعيد بن المسيب عالم العلماء.
وقال علي بن حسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدَّمه من الآثار، وأفقههم في رأيه.
وقال ميمون بن مهران: أتيتُ المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدُفعت إلى سعيد بن المسيب فسألتُه.
وقال مالك بن أنس: كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه أناسًا يسأله، فدعاه فجاءه حتى دخل، فقال عمر: أخطأ الرسول؛ إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
وقال عمرو بن عاصم: كان سعيد بن المسيب يحبُّ أن يسمع الشعر ولا ينشده.
* قال أبو بكر القرشي: حدثنا ابن مثنى أن ابن عون كان في جيش، فخرج رجل من المشركين فدعا للبراز، فخرج إليه ابنُ عون وهو متلثِّم فقتله ثم اندس، فجهد الوالي أن يعرفه فلم يقدر عليه، فنادى مناديه: أعزم على مَن قتَلَ هذا المشرك إلا جاءني، فجاءه ابن عون، فقال: وما على الرجل أن يقول: أنا قتلته[101].
* قال عبدالعزير بن أبي رجاء: سمعت الربيع يقول: مرض الشافعي فدخلت عليه، فقلت: يا أبا عبدالله، قوَّى الله ضعفك، فقال: يا أبا محمد، واللهِ لو قوَّى الله ضعفي على قوَّتي أهلكني، قلت: يا أبا عبدالله، ما أردت إلا الخير، فقال: لو دعوتَ الله عليَّ، لعلمتُ أنك لم ترد إلا الخير[102].
* عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل: طلب العلم صغيرًا، وسمع الحديث في سن مبكرة، وشيوخه يزيدون على الأربعمائة، روى عن أبيه المسند والتفسير، والزهد والتاريخ، والعلل والسنة والمسائل، وغيرها، وجمع وصنَّف ورتب مسند أبيه وهذَّبه بعض التهذيب، وزاد فيه أحاديثَ كثيرةً عن مشايخه.
قال عباس الدوري: كنت يومًا عند أحمد بن حنبل فدخل ابنه عبدالله، فقال: يا عباس، إن أبا عبدالرحمن قد وعى علمًا كثيرًا.
وقال أبو زرعة: قال لي أحمد: ابني عبدالله محظوظ من علم الحديث، لا يكاد يذاكراني إلا بما لا أحفظ.
وقال ابن عدي: نبل عبدالله بأبيه، وله في نفسه محل من العلم، أحيا علم أبيه بمسنده الذي قرأه أبوه عليه خصوصًا قبل أن يقرأه على غيره، ولم يكتب عن أحد إلا من أمَرَه أبوه أن يكتب عنه.
وقال ابن المنادي: لم يكن أحد أروى عن أبيه منه، روى عنه المسند ثلاثون ألفًا، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفًا، من ذلك سماع، ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله، والتاريخ، وحديث السبعة، وكرامات القراء، والمناسك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخ.
وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يومًا - فقال: رحمه الله في الدين ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره، وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عُرضت عليه الدنيا فأباها، والبدعُ فنفاها.
وقال قتيبة: إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة، قال البيهقي: يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله.
وقال بشر الحافي: أُُدخل أحمدُ الكير، فخرج ذهبًا أحمر.
وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصالٌ ما رأيتها في عالم قط، كان محدِّثًا، وكان حافظًا، وكان عالمًا، وكان ورعًا، وكان زاهدًا، وكان عاقلاً.
وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة: بالشافعي؛ فَهِم الأحاديث وفسرها، وبيَّن مجملها من مفصلها، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، وبأبي عبيد؛ بيَّن غريبها، وبيحيى بن معين؛ نفى الكذب عن الأحاديث، وبأحمد بن حنبل؛ ثَبَتَ في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك الناس.
وقال علي بن المديني: إن الله - تعالى - أيَّد هذه الدنيا بأبي بكر الصديق t يوم الرِّدة، وبأحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يوم المحنة.
وقال الحافظ الذهبي: انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث، والإخلاص والورع، وأجمعوا على أنه ثقة حُجة إمام.
وقال أحمد بن داود أبو سعيد الحداد: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلتُ له في بعض كلامي: يا أبا عبدالله، عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور، كأني أسهِّل عليه الإجابة، فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحت[103].
وقال المروذي: دخلت يومًا على أحمد، فقلت: كيف أصبحت؟
فقال: كيف أصبح مَن ربُّه يطالبه بأداء الفرض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكانِ يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسُه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملكُ الموت يطالبه بقبض روحه، وعيالُه يطالبونه بنفقتهم؟[104]
* عبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل: قال عنه الذهبي: له من التصانيف كتاب "السنة" مجلد، وكتاب "الجمل والوقعة" مجلد، وكتاب سؤالاته أباه، وغير ذلك، وقال: ولو أنه حرَّر ترتيب المسند وقرَّبه وهذَّبه، لأتى بأسنى المقاصد، فلعل الله - تبارك وتعالى - أن يقيِّض لهذا الديوان السامي من يخدمه، ويبوِّب عليه، ويتكلَّم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتوٍ على أكثر الحديث النبوي، وقلَّ أن يثبت حديثٌ إلا وهو فيه.
قال: وأما الحسان، فما استوعبت فيه؛ بل عامتها - إن شاء الله تعالى - فيه، وأما الغرائب وما فيه لين، فروى من ذلك الأشهر، وترك الأكثر مما هو مأثور في السنن الأربعة، ومعجم الطبراني الأكبر والأوسط، ومسند أبي يعلى، ومسند البزار، ومسند بقي بن مخلد، وأمثال ذلك.
قال: ومِن سعْد مسند الإمام أحمد أنه قلَّ أن تجد فيه خبرًا ساقطًا.
قال شمس الدين ابن الجزري في كتابه "المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد"، تعقيبًا على ما قاله الذهبي: قلت: أمَّا ترتيب هذا المسند، فقد أقام الله - تعالى - لترتيبه شيخَنا، خاتمة الحفَّاظ، الإمام الصالح الورع أبا بكر محمد بن عبدالله بن المحب الصامت - رحمه الله تعالى - فرتَّبه على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك كترتيب كتاب الأطراف، تعب فيه تعبًا كثيرًا، ثم إن شيخنا الإمام، مؤرخ الإسلام، وحافظ الشام، عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير - رحمه الله تعالى - أخذ هذا الكتاب المرتب من مؤلفه، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وأجهد نفسه كثيرًا، وتعب فيه تعبًا عظيمًا، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة؛ فإنه مات قبل أن يكمله، فإنه عوجل بكف بصره، وقال لي - رحمه الله تعالى -: لا زلت أكتب في الليل والسراج يُنونص، حتى ذهب بصري معه، ولعل الله يقيض له من يكمله، مع أنه سهل؛ فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيء من مسند أبي هريرة - رضي الله عنه.
وقد بلغني أن بعض فضلاء الحنابلة بدمشق اليومَ رتَّبه على ترتيب صحيح البخاري، وهو الشيخ الإمام الصالح العالم أبو الحسن علي بن زكنون الحنبلي - جزاه الله تعالى خيرًا، وأعانه على إكماله في خير - فإنه أنفع كتاب في الحديث، ولاسيما أنه عزا أحاديثه.
وأما رجال المسند، فما لم يكن في "تهذيب الكمال"، فقد أفرده المحدث الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن الحسين الحسيني، بإفادة شيخنا الحافظ أبي بكر محمد بن المحب، فما قصر، وما فاته فإني استدركته وأضفته إليه في كتاب سميته "المقصد الأحمد في رجال مسند أحمد"، وقد تلف بعضه في الفتنة، فكتبتُه بعد ذلك مختصرًا؛ ا.هـ.
قال: وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى، والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك، حتى إن بعضهم أسرف في تقريظه له بالمعرفة وزيادة السماع للحديث عن أبيه.
* محمد بن جرير الطبري: روى عن عدد كثير من العلماء، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف الكتب النافعة.
قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويُحكَم بقوله، ويُرجَع إلى معرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في الأحكام، عالمًا بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه "تهذيب الآثار" لم أرَ سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرَّد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الإسفرائيني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري، لم يكن ذلك كثيرًا، أو كما قال.
وروى الخطيب عن الإمام أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمتْه الحنابلة.
* وحدَّث الربيع بن سليمان أنه قال: كان الشافعي - رحمه الله - يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئُه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى، تفرَّقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف - رضي الله عنه[105].
وحدث ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول: كان الشافعي إذا أخذ في العربية قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلَّم في الشعر وإنشاده، قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه، قلت: هو بهذا أعلم[106].
قال الأصمعي: صححتُ أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي، وحكي عن مصعب الزبيري أنه قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظًا، وقال: لا تُعلِم بهذا أحدًا من أهل الحديث؛ فإنهم لا يحتملون هذا[107].
* قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة لأبي بكر بن بالويه: بلغني أنك كتبتَ التفسير عن محمد بن جرير، قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاء، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين، قال: فاستعاره مني أبو بكر وردَّه بعد سنين، ثم قال: نظرتُ فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمتْه الحنابلة، قال: وكانت الحنابلة تمنع ولا تترك أحدًا يسمع عليه[108].
قال أبو جعفر بن جرير الطبري لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون مقداره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل إتمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله ماتتِ الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير[109].
* قال ياقوت في "معجم الأدباء"[110]: حدَّث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحْوي في الستور، عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي، قال: دخلت على أبي الريحان (البيروني) وهو يجود بنفسه، قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يومًا حساب الجدات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي: يا هذا، أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا أن أخليها وأنا جاهل بها؟ فأعدت ذلك عليه، وحفظ وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده فسمعت الصراخ وأنا في الطريق.
قال ياقوت في "معجم الأدباء"، ج6، ص308، في ترجمة محمد بن أحمد أبي البركات البيروني: وبلغني أنه لما صنف "القانون المسعودي"، أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي، فردَّه إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه، ورفض العادة في الاستغناء به.
* أرسل المعتضد لإبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم، فردَّها، فعاد الرسول فقال: فرِّقها في جيرانك، فقال: هذا ما لم نشغل أنفسها بجمعه، فلا نشغلها بتفريقه[111].
وكان له ابن فمات، فقال: كنت أشتهي موته، فقيل له: أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي قد أنجبتَه ولقنتَه القرآن والحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبيانًا بأيديهم قلال يستقبلون الناس يسقونهم واليوم حارٌّ، فقلت لأحدهم: اسقني، فنظر إليَّ وقال: ليس أنت أبي، نحن الصبية الذين متنا وخلفنا آباءنا، نستقبلهم فنسقيهم[112].
* قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل ودرَّس، وناظر الفحول، واستفتي في الديوان في زمن القائم في زمرة الكبار، وجمع علم الفروع والأصول وصنف فيها الكتب الكبار، وكان دائم التشاغل بالعلم، وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى "بالفنون" مناطًا لخواطره وواقعاته، ومن تأمَّل واقعاته عرف غور الرجل.
وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة، فلما كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة، جرت فيها فتن بين الحنابلة والأشاعرة، فترك الوعظ واقتصر على التدريس، ومتَّعه الله - تعالى - بسمعه وبصره وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه قال: بلغت الاثنتي عشرة سنة وأنا في سن الثمانين، وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر وقوة البصر برؤية الأهلة الخفية، إلا أن القوة بالإضافة إلى قوة الشيبة والكهولة ضعيفة.
قال: وكان ابن عقيل قويَّ الدين، حافظًا للحدود، وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يُتعجب منه، وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه، وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دَيْنه.
قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه؛ لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، ولقد تكلَّم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهراسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك، فقال: أنا لي اجتهاد، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال شيخنا: كذلك الظن بك.
وكان ابن عقيل عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك، وكان شهمًا مقدامًا، يواجه الأكابر بالإنكار بلفظه وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس - مع شهرته بالزهد والمكاشفات وعكوف العامة عليه - يتهدَّده في أمر كان يفعله، ويقول له: إن عدتَ إلى هذا، ضربتُ عنقك.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: وعانيت من الفقر والنسخ بالأجرة مع عفة وتقًى، ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة، وتقلَّبتْ عليَّ الدول، فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم، وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس، فيا من خفتُ الكل لأجْله، لا تخيب ظني فيك، وعصَمني الله - تعالى - في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطت لُعَّابًا قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم.
قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة.
وكان ابن عقيل من أفاضل العلماء، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم، وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين، وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله شيءٌ كثير، كما ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيتَ أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت.
وذكر عنه أنه قال: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب، وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم، وله من الكلام في السنة، والانتصار لها، والرد على المتكلمين شيءٌ كثير، وقد صنف في ذلك مصنفًا.
وكان - رحمه الله - بارعًا في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة، وكانت له يد طولى في الوعظ والمعارف، وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبط من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارفَ جليلةً، وإشاراتٍ دقيقةً، ومن معاني كلامه يستمد أبو الفرج ابن الجوزي في الوعظ، ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم، وكان مع ذلك يتكلَّم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتِّباع الدليل الذي يظهر له، ويقول: الواجب اتِّباع الدليل لا اتباع أحمد، وكان يخونه قلةُ بضاعته في الحديث، فلو كان متضلعًا من الحديث والآثار، ومتوسعًا في علومهما، لكملت له أدوات الاجتهاد، والكمال لله وحده.
وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب، وقد يخالفه في بعض تصانيفه ويوافقه في بعضها، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع.
ومن كلامه:
لقد عظَّم الله - سبحانه - الحيوان، لاسيما ابن آدم؛ حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه، فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].
يعظمك وهو هو، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لك.
ووعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهدًا؛ فإن الله - تعالى - يقول: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة: 13].
وسئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه، فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، تَرِدُ الماء، وترعى الشجر إلى أن يلقاها ربُّها.
ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدت إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم، وقال: كأن الأرض أيام زهرتها، مرآة السماء في انطباع صورتها.
وكان لابن عقيل ولدان ماتا في زهرة العمر، ذوا دين وفضل وأدب، فصبر واحتسب، توفي عقيل وعمره سبع وعشرون سنة، وتوفي هبة الله وعمره أربع عشرة سنة.
قال أبو الوفاء: مات ولدِي عقيل وكان قد تفقَّه وناظر، وجمع أدبًا حسنًا، فتعزيت بقصة عمرو بن عبد وُد الذي قتله علي t فقالت أمُّه ترثيه:
لَوْ كَانَ قَاتِلُ عَمْرٍو غَيْرَ قَاتِلِهِ = مَا زِلْتُ أَبْكِي عَلَيْهِ دَائِمَ الأَبَدِ
لَكِنَّ قَاتِلَهُ مَنْ لاَ يُقَادُ بِهِ = مَنْ كَانَ يُدْعَى أَبُوهُ بَيْضَةَ البَلَدِ
فأسلاها وعزَّاها جلالةُ القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتول، فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتلُ والمقتول؛ لجلالة القاتل.
وذكر عن الإمام أبي الوفاء أنه أكبَّ عليه وقبَّله وهو في أكفانه، وقال: يا بُني، استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعُه، الربُّ خيرٌ لك مني، ثم مضى وصلى عليه بجَنَانٍ ثابت - رحمه الله.
أما الابن الثاني لأبي الوفاء، فهو منصور هبة الله، كان قد حفظ القرآن وتفقَّه، وظهرتْ منه دلائلُ النبوغ، ثم مرض وأنفق عليه والدُه أموالاً طائلة في معالجته، ولكن ذلك لم يردَّ القَدَر.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني لما تقارب أجلُه: يا سيدي، قد أنفقتَ وبالغت في الأدوية والطب والأدعية، ولله - تعالى - فيَّ اختيار، فدعْني مع اختياره، قال: فوالله ما أنطق الله - سبحانه وتعالى - ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قولَ إسحاق لإبراهيم: افعل ما تؤمر، إلا وقد اختاره للحظوة[113].
وكان أبو الوفاء يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ، لتفطَّرتِ المرائرُ لفراق المحبوبين.
وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه وغيرهم -: قد حمدتُ ربي إذ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت؛ لأن التخلُّف مع غير الأمثال عذابٌ، وإنما هوَّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين، وثقتي إلى وعد المبدئ لهم، فلَكأنِّي أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيَهم وقد نعى، حاشا المبدئ لهم على تلك الأشكال والعلوم، أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك، لا واللهِ، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولذَّات بغير نغصة.
توفي أبو الوفاء بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، وصُلِّي عليه في جامعي القصر والمنصور، وكان الجمع الذي صلى عليه يفوت الحصر، قال ابن ناصر: حزرتهم بثلاثمائة ألف، وذكر المبارك بن كامل الخفاف أنه جرت فتنة على حمله وتجارحوا، قال ابن الجوزي: وحدَّثني بعض الأشياخ أنه لما احتضر ابن عقيل بكى النساء، فقال: قد وقَّعتُ عنه خمسين سنة، فدَعوني أتهنَّأ بلقائه[114].
* أبو السعادات المبارك محمد بن محمد بن عبدالكريم بن الأثير: له مؤلفات كثيرة، منها جامع الأصول الستة: الموطأ، والصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وله كتاب "النهاية في غريب الحديث"، وشرح مسند الشافعي، والتفسير في أربع مجلدات.
وكان معظَّمًا لدى ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه "لؤلؤًا" أن يستوزره، فأبى، فركب السلطان إليه، فامتنع أيضًا وقال له: قد كبِرتْ سني، واشتهرت بالعلم، ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه.
* ألَّف أبو غالب اللغوي كتابًا، فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألفَ دينار، ومركوبًا، وكسوة، على أن يجعل الكتاب باسمه، فلم يَقبَل ذلك أبو غالب وقال: كتاب ألفتُه؛ لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسمَ غيري، وأصرف الفخر له؟! لا أفعل ذلك، فلما بلغ هذا مجاهدًا استحسن أنفتَه وهمَّتَه، وأضعف له العطاء، وقال: هو في حلٍّ من أن يذكرني فيه، لا نصدُّه عن غرضه[115].
* بدر الدين الحسني: كبير علماء الشام في وقته وشيخهم، المحدث التقي، يحفظ الصحيحين بأسانيدهما، توفي بدمشق عام 1354هـ[116].
* كتب الأمير مجيد أرسلان في رسالة إلى صديقه هاشم الأتاسي عام 1935م، إحصائيةً لما كتبه ذلك العام:
1871 رسالة خاصة.
176 مقالة في الجرائد
1100 صفحة كتبًا طبعت، ثم قال: هذا محصول قلمي كل سنة[117].
* لما احتاج المنصور بن أبي عامر ملك الأندلس أن يأخذ أرضًا محبسة، ويعاوض عنها خيرًا منها، استحضر الفقهاء في قصره فأفتَوْه بأنه لا يجوز، فغضب السلطان وأرسل إليهم رجلاً من الوزراء مشهورًا بالحدة والعجلة، فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلِّي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلمًا، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، ومتلفي الخصوم، وملقحي الشرور، وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لاتباع الشهوات، تبًّا لكم ولآرائكم، فهو - أعزَّه الله - واقف على فسوقكم قديمًا وخونكم لأماناتكم، مغضٍ عنه، صابر عليه، ثم احتاج إلى دقَّة نظركم في حاجة مرَّة واحدة في دهره، فلم تسعفوا إرادته، ما كان هذا ظنَّه بكم، والله ليعارضنكم، وليكشف ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم.
وأفحش عليهم بهذا ونحوه، فأجابه شيخ منهم ضعيف المُنَّة، فقال: نتوب إلى الله مما قاله أمير المؤمنين، ونسأله الإقالة، فردَّ عليهم زعيمُ القوم محمد بن إبراهيم بن حيويه - وكان جلْدًا صارمًا - فقال للمتكلم: ممَّ نتوب يا شيخ السوء؟! نحن براء من متابك، ثم أقبل على الوزير فقال: يا وزير، بئس المبلِّغُ أنت، وكل ما نسبتَه إلينا عن أمير المؤمنين، فهو صفتُكم معاشرَ خَدَمه؛ فأنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلُّون ظلمهم بغير الحق، وأما نحن فليستْ هذه صفاتنا ولا كرامة، لا يقولها لنا إلا متَّهمٌ في الديانة، فنحن أعلام الهدى، وسرج الظلمة، بنا يتحصَّن الإسلام، ويفرَّق بين الحلال والحرام، وتنفذ الأحكام، وبنا تُقام الفرائض، وتَثبت الحقوق، وتُحقن الدماء، وتُستحل الفروج، فهلاَّ إذا عتب علينا سيدُنا أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ ما قاله، تأنَّيت لإبلاغنا رسالتَه بأهونَ من إفحاشك، وعرضتَ لنا بإنكاره حتى فهمنا منك، فأجبناك عنه بما يصلُح الجواب عنه به، فكنت تزين على السلطان ولا تفشي سرَّه، وتستحيينا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين لا يتمادى على هذا الرأي فينا، ولا يعتقد هذا المعتقد في صفاتنا، وأنه سيراجع بصيرته في إيثارنا وتعزيزنا، فلو كنا عنده على هذه الحال التي وصفتَها عنا - والعياذ بالله من ذلك - لبطَل عليه كل ما صنعه وعقده من أول خلافته إلى هذا الوقت، فما يثبت له كتابٌ من حرب ولا سلم، ولا شراء ولا بيع، ولا صدقة ولا حبس، ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا، هذا ما عندنا، والسلام.
ثم قاموا منصرفين، فلم يكادوا يبلغوا باب القصر إلا والرسلُ تناديهم، فأُدخلوا القصر، فتلقَّاهم الوزراء بالإعظام، ورفعوا منازلهم، واعتذروا لهم مما كان من صاحبهم، وقالوا لهم: أمير المؤمنين يعتذر إليكم من فرط موجدته، ويستجير بالله من الشيطان الرجيم ونزعته التي حملتْه على الجفاء عليكم، ويُعلِمكم أنه نادمٌ على ما كان منه إليكم، وهو مستبصر في تعظيمكم وقضاء حقوقكم، وقد أمر لكل واحد منكم ما ترون من صلة وكسوة عامة لرضاه عنكم، فدَعُوا له، وقبضوا ما أمر لهم، وانصرفوا غالبين لم يسسهم سوء[118].
* * *
من طرائف العلماء
* قال ابن الجوزي: وبلغنا أن رجلاً جاء إلى أبي حنيفة، فشكا أنه دَفَن مالاً في موضع ولا يذكر الموضع، فقال أبو حنيفة: ليس هذا فقهًا فأحتال لك فيه، ولكن اذهب فصلِّ الليلةَ إلى الغداة، فإنك ستذكره - إن شاء الله تعالى - ففَعَلَ الرجلُ ذلك، فلم يمضِ إلا أقلُّ من ربع الليل حتى ذَكَر الموضع، فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال: قد علمتُ أن الشيطان لا يدَعُك تصلِّي حتى تذكر، فهلا أتممتَ ليلتك؛ شكرًا لله - عز وجل[119].
* قال إبراهيم بن أبي عبلة: أراد هشام بن عبدالملك أن يولِّيني خراج مصر، فأبيتُ، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينه الحول، فنظر إليَّ نظر منكِر وقال: لتأتينَّ طائعًا أو لتأتين كارهًا، فأمسكتُ عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله قال في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا﴾ الآية [الأحزاب: 72]، فوالله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبَيْنَ، ولا أكرههن إذ كرِهْنَ، وما أنا بحقيق أن تغضب عليَّ إذ أبيتُ، وتكرهني إذا كرهتُ، فضحك وأعفاني[120].
* أحمد بن مسعود الضرير السنهوري: المعروف بالمادح؛ لأنه كان يكثر من مدائح النبي ﷺ وكان حَفَظَةً، وله قدرة على النظم، ينظم القصيدة وفي كل بيت حروف المعجم، وفي كل بيت طاء، وفي كل بيت ضاد، وهكذا من هذا اللُّزوم، وكان أولاً كثير الأهاجي للناس، ثم إنه رفض ذلك ورجع إلى مدائح النبي - صلى الله عليه وسلم.
* وكان الوجيه بن الدهَّان أعمى قد أتقن العربية، وحفظ شيئًا كثيرًا من أشعار العرب، وسمع الحديث، كان حنبليًّا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم إلى مذهب الشافعي، وكان يحفظ الكثير من الحكايات والملح والأمثال، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكان له يدٌ طولى في نظم الشعر.
وكان لا يغضب، وتراهن اثنان على إغضابه، فصار أحدهما يسأله ويسيء إليه، فتبسَّم ضاحكًا وقال: إن كنتَ راهنتَ فقد غُلبت، وإنما مَثَلُك مثل البعوضة، سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادتْ أن تطير، قالت له: استمسك؛ فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسستُ بكِ حين سقطتِ، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرتِ.
* الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي: من أئمَّة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، أخذه من الموسيقا، وكان عارفًا بها، وهو أستاذ سيبويه النحْوي.
ولد ومات في البصرة، وعاش فقيرًا صابرًا، كان شعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، متمزِّق الثياب، متقطِّع القدمين، مغمورًا في الناس، قال بعضهم: أبدع الخليل بدائعَ لم يُسبق إليها، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى بكتاب العين، فإنه هو الذي رتب أبوابه، وتوفي قبل أن يحشوه، وهو الذي اخترع العروض، وأحدث أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب[121].
قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع، فيفتضح في البلد.
وقال الواحدي في تفسيره: الإجماع منعقدٌ على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل[122].
قال النضر بن شميل: أقام على خص بالبصرة لا يقدر على فلس، وعِلمُه قد انتشر وكسب به أصحابه الأموال، قال: وسمعته يقول: إني لأغلق بابي علي ما يجاوزه همِّي.
* خَلَف الصفَّار أمير سجستان: تفقَّه وروى الحديث، جمع كبار العلماء في بلاده فصنفوا معه تفسيرًا للقرآن الكريم من أكبر الكتب، اشتمل على أقوال مَن تقدم من المفسرين والقراء والنحاة والمحدِّثين.
قال العتبي: أنفق على العلماء مدة اشتغالهم بمعونته على تصنيفه عشرين ألف دينار، ونسخته بنيسابور موجودة في مدرسة الصابونية، تستغرق عمر الكاتب، وتستنفذ حبر الناسخ[123].
* محمد بن الحسن بن دريد: من أئمة اللغة والأدب، كان مَن تقدم من العلماء يقولون: ابن دريد أشعر العلماء، وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، له كتب عديدة.
* شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة الحجار المعروف بابن الشحنة: قُرِئ البخاري عليه نحوًا من ستين مرة وغيره، وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أممٌ لا يحصَوْن كثرة، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخًا حسنًا، بهيَّ المنظر، سليم الصدر، ومتمتعًا بحواسِّه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققًا وزاد عليها، وتوفي سنة 730هـ[124].
وكان من الزهد في طبقة لا تُدْرَك، حتى قيل: إن بعض الملوك طلبه يؤدِّب له أولاده، فأتاه الرسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها، فقال له: قل لمرسلك: ما دام يلقى مثل هذه، لا حاجة به إليك، ولم يأت الملك[125].
* عامر الشعبي: يُضْرَب به المثل في حفظه، اتَّصل بعبدالملك بن مروان، فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم، وكان ضئيلاً نحيفًا، وقيل له: ما لنا نراك ضئيلاً؟ قال: إني زوحمت في الرَّحم، وكان ولد هو وأخ له في بطن واحد.
* نفطويه: قال الثعالبي: لقب نفطويه؛ لدمامته وأدمته، تشبيهًا بالنفط، وزيد "ويه" نسبة إلى سيبويه؛ لأنه كان يجري على طريقته، ويدرس كتابه.
* مكِّي بن ريان بن شبه الماكسيني النحوي: قرأ على علماء الموصل، ثم تتلمذ عليه عددٌ كثير من أهلها، ثم مضى إلى الشام وعاد إلى الموصل، وكان عارفًا بالقراءات السبع، وسمع الحديث فأكثر، وقد أخذ من كل علم بطرف، وكان أوَّل حياته في ماكاسين يعرف بمُكيك تصغير مكي، فلما ارتحل عن ماكسين واشتغل في طلب العلم، اشتاق إلى وطنه فعاد إليها، ففرح الناس به؛ لعلمه وأدبه وفضله، وكان ينوي الإقامة في بلده، وفي تلك الليلة سمع امرأةً تقول لأخرى: ما تدرين مَن جاء؟ قالت: لا، قالت: مكيك بن فلانة، فقفل راجعًا وقال: واللهِ لا أقمت في بلد أدعى فيه بمكيك، وسافر من وقته إلى الموصل.
* أبو علي الحسن بن شهاب العكبري: سمع الحديث وهو كبير السن، له اليد الطولى في الفقه والأدب، والإقراء والحديث، والشعر والفتيا.
قال العكبري: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية، وكنت أشتري كاغدًا بخمسة دراهم، فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليالٍ، وأبيعه بمائتي درهم، وأقله بمائة وخمسين درهمًا.
له مصنفات في الفقه والفرائض والنحو، خلف أموالاً طائلة، وأخذ السلطان من تركته ما قدره ألف دينار، وكان قد ترك ثروةً من الأموال والعقار والكروم، وأوصى بثلث ماله لمتفقِّهة الحنابلة، فلم تُنفذ وصيته ولم يُعطَوْا شيئًا.
* قال أبو بكر الخلال - وذكر الأثرم - فقال: جليل القدر حافظ، وكان عاصم بن علي بن عاصم لما قدم بغداد طلب رجلاً يخرج له فوائد يمليها، فلم نجد له في ذلك الوقت غير أبي بكر الأثرم، فكأنَّه لما رآه لم يقع منه بموقع؛ لحداثة سنِّه، فقال له: أخرجْ كتبك، فجعل يقول له: هذا الحديث خطأ، وهذا الحديث كذا، وهذا غلط، وأشياء نحو هذا، فسُرَّ عاصم به، وأملاه قريبًا من خمسين مجلسًا[126].
* الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي: ارتحل إلى بلدان كثيرة في طلب الحديث، فرحل إلى بغداد ودمشق ومصر وإسكندرية والجزيرة وأصبهان، وله مؤلفات كثيرة نافعة، منها: "الكمال في أسماء الرجال"، والأحكام الكبرى والصغرى، و"عمدة الأحكام"، وغيرها، وقد قيض له حُسَّاد آذَوْه وألبُوا عليه.
لما رحل إلى أصفهان وسمع فيها الكثير من الحديث، وجد مصنفًا لأبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته واعترض عليه في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في آزاد، ثم دخل الموصل وسمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه.
وكان رقيق القلب، سريع الدمعة ،فحصل له قَبول من الناس جدًّا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكلم فيه تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه؛ حتى يشوش عليه، فحوَّل عبدالغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدته على الكرسي، فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتكلَّموا معه في مسألة العلو، ومسألة النزول، ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة، وأنت على الحق؟! قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد، فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبكَّ ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديث بها، فثار عليه الفقهاء بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأمر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب.
وكان هذا العالم الجليل من أحذق المحدِّثين، ومن المشهورين بالعبادة والورع، والسخاء والصدقات على الفقراء والأرامل والأيتام، وفي آخر عمره ضعف بصرُه؛ من كثرة المطالعة والبكاء من خشية[127].
وكان موفَّق الدين عبدالله بن قدامة، وأخوه أبو عمر محمد بن أحمد بن قدامة، وابن خالهم عبدالغني لا يتخلَّفون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الإفرنج.
* أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن الجوزي: العالم الواعظ المتفنِّن، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "برز في علوم كثيرة وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلدة، وتفرَّد بفن الوعظ الذي لم يُسبق إليه، ولا يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته، وعذوبة وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعْظه، وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة، في الكلمة اليسيرة.
هذا، وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث، والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكانُ عن تَعدادها وحصر أفرادها، منها كتابه في التفسير المشهور بـ"زاد المسير"، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله "جامع المسانيد" استوعب به غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب "المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم" في عشرين مجلدًا، قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرًا منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخًا، وما أحقَّه بقول الشاعر:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا = حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وله مقامات وخطب، وله "الأحاديث الموضوعة"، وله "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، وغير ذلك، وقد حضر مجلسَ وعظه الخلفاءُ والوزراء، والملوك والأمراء، والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرةُ آلاف، وربما اجتمع فيه مائةُ ألف أو يزيدون.
وله من النظم والنثر شيء كثير جدًّا، وله كتاب سماه "لفظ الجمان في كان وكان".
مات أبوه وعمره ثلاث سنين، وحفظ الوعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، كان شغوفًا بالعلم منذ الصغر، وكان لا يلعب مع الصبيان، وبلغ في الوعظ شأوًا لا يلحق فيه.
التفت مرَّة إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ خفتُ منك، وإن سكتُّ خفت عليك، وإن قول القائل لك: اتَّقِ الله، خيرٌ لك من قوله لكم: إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عاملٍ لي أنه ظلم فلم أغيِّره، فأنا الظالم.
يا أمير المؤمنين، وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط؛ حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول: قرقر أو لا تقرقر، والله لا ذاق عمرُ سمنًا ولا سمينًا، حتى يخصب الناس، فبكى المستضيء وتصدَّق بمالٍ، كثير وأطلق المحاسبي، وكسا خلقًا من الفقراء.
وقد ابتُلي ابن الجوزي بولدٍ له عاق، اسمُه علي، كان يبيع كتب والده بأبخس الأثمان في غيبة أبيه بواسط، ولكن ابنه الأصغر كان نجيبًا، اسمه محيي الدين يوسف، ووعظ بعد أبيه وصار له شأن عند الخلفاء والملوك، وابتنى المدرسة الجوزية[128].
* قال محمد بن سعد يذكر علي بن الحسين: كان ثقة مأمومًا، كثير الحديث، عاليًا رفيعًا ورعًا، وكان كثير الصدقة بالليل، ويقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنوِّر القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمةَ يوم القيامة.
* وقال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومَن يعطيهم، فلمَّا مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثرَ حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل، وقيل: إنه كان يعول أهل مائة بيت بالمدينة، ولا يدرون بذلك حتى مات.
ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده، فبكى ابن أسامة، فقال له: ما يبكيك؟ قال: عليَّ دين، قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال: هي عليَّ.
ونال منه رجلٌ يومًا، فجعل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له: وعنك أغضي.
وخرج يومًا من المسجد فسبَّه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال: دعُوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء.
واختصم عليُّ بن الحسين وحسن بن حسن - وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله فقال: يا ابن العم، إن كنتَ صادقًا يغفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا يغفر الله لك، والسلام عليكم، ثم رجع، فلحقه فصالحه.
وقال علي بن الحسين لابنه: يا بُني، لا تصحب فاسقًا؛ فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها، يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا بخيلاً؛ فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذابًا؛ فإنه كالسراب، يقرب منك البعيد، ويباعد عنك القريب، ولا أحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا قاطع رحم؛ فإنه ملعون في كتاب الله، قال - تعالى -: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22، 23].
وروى المقبري قال: بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف، فكَرِه أن يقبلها، وخاف أن يردَّها، فاحتبسها عنده، فلما قُتل المختار، كتب إلى عبدالملك بن مروان: إن المختار بعث إليَّ بمائة ألف، فكرهتُ أن أقبلها، وكرهت أن أردَّها، فابعث من يقبضها، فكتب إليه عبدالملك: يا ابن العم، خذها فقد طيبتُها لك، فقَبِلها.
وقال علي بن الحسين: إني لأستحي من الله - عز وجل - أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: فإذا كانتِ الجنة بيدك، كنتَ بها أبخلَ وأبخل وأبخل.
وقال عبدالرزاق: سكبتْ جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال: قد كظمتُ غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال: عفا الله عنك، فقالت: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: أنت حرة لوجه الله.
* قال ابن كثير في ترجمة عبدالله بن المبارك: وكان موصوفًا بالحفظ والفقه والعربية، والزهد والكرم، والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمِّن حكمًا جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتَّجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف، ينفقها كلَّها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.
قال سفيان بن عيينة: نظرتُ في أمره وأمر الصحابة، فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثلُه، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، وقدم مرَّة الرقة وبها هارون الرشيد، فلمَّا دخلها احتفل الناس به، وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك، فقالت: ما للناس؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له: عبدالله بن المبارك، فانجفل الناس إليه، فقالت المرأة: هذا هو المُلْك، لا مُلْك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا، والرغبة والرهبة.
وخرج مرَّة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلَّف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خرجتْ من دار قريبة منها، فأخذتْ ذلك الطائر الميت، ثم لفَّتْه، ثم أسرعتْ به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخْذها الميتة، فقالت: ذلك أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلِم وأُخذ ماله وقُتل، فأمر ابن المبارك بردِّ الأحمال وقال لوكيله: كم معك من الفضة؟ قال: ألف دينار، فقال: عُدَّ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي؛ فهذا أفضل من حجِّنا في هذا العام، ثم رجع.
* كان محمد بن سيرين إذا ذُكِر عنده أحدٌ بسوء، ذَكَره بأحسن ما يعلم، وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا، وكان الناس إذا رأَوْه ذَكَروا الله.
وقال ابن سيرين: ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأَ ما تعلم منه وتكتم خيرَه.
وكان إذا سُئِل عن الرؤيا قال للسائل: اتَّقِ الله في اليقظة، ولا يغرَّك ما رأيتَ في المنام.
وقال أنس بن مالك: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين: الحسن، وابن سيرين.
* وقال عبدالله بن أحمد: حدَّثنا علي بن الجهم، قال: كان لنا جار فأخرج إلينا كتابًا، فقال: أتعرفون هذا الخط؟ قلنا: هذا خط أحمد بن حنبل، فكيف كتب لك؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمدَ أيامًا، ثم جئنا لنسأل عنه، فإذا الباب مردود عليه وعليه خلقان، فقلت: ما خبرك؟ قال: سُرِقت ثيابي، فقلت له: معي دنانير، فإن شئت صلة، وإن شئت قرضًا، فأبى، فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت دينارًا، فقال: اشترِ لي ثوبًا واقطعه نصفين - يعني إزارًا ورداء - وجئني ببقية الدينار، ففعلتُ وجئت بورق، فكتب لي هذا.
* عطاء بن أبي رباح المكي: أحد كبار التابعين الثقات، يقال: إنه أدرك مائتي صحابي.
وقال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشلَّ أعرج، ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة فقيهًا كثير الحديث.
وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد: ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، قيل: إنه حج مائة حجة، وعمَّر مائة سنة.
وكان ينادي منادي بني أمية: لا يفتي الناسَ في الحج إلا عطاءُ بن أبي رباح.
وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيت فيمن لقيتُ أفقهَ منه.
وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عندهم.
وكان عطاء من أحسن الناس صلاة.
قال قتادة: كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء، هؤلاء أئمة الأمصار.
وقال عطاء: إن الرجل ليحدِّثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يُولَد، فأريه أني إنما سمعته الآن منه، وفي رواية: أنا أحفظ منه له، فأريه أني لم أسمعه[129].
* الشيخ الإمام، وحيد عصره، تاج الدين، أبو اليمن، زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الكندي: ولد ببغداد ونشأ بها، واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها، وفاق أهل زمانه شرقًا وغربًا في اللغة والنحو، وغير ذلك من فنون العلم، وعلوم الإسناد، وجيد الطريقة والسيرة، وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه، وأثنَوا عليه وبجَّلوه، وكان حنبليًّا ثم صار حنفيًّا.
ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات وعني به، وتعلَّم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها، وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء، وتردد إليه العلماء والملوك وأبناؤهم.
كان الأفضل بن صلاح الدين - وهو صاحب دمشق - يتردد إليه في منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق كان ينزل إليه إلى درب العجم، يقرأ عليه في "المفصل" للزمخشري، وكان المعظم يعطي لمن حفظ "المفصل" ثلاثين دينارًا جائزة، وكان يحضر مجلسَه بدرب العجم جميعُ المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي، ويحيى بن معطي الوجيه اللغوي، والفخر التركي، وغيرهم.
وكان القاضي الفاضل يثني عليه.
قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره.
ومن العجب أنه قد شرح كتاب سيبويه، واسم سيبويه عمرو، واسم الشارح زيد، فقال السخاوي في ذلك:
لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ عَمْرٍو مِثْلُهُ = وَكَذَا الكِنْدِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ
فَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو إِنَّمَا = بُنِيَ النَّحْوُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرِو
قال أبو شامة: وهذا كما قال فيه ابن الدهان المتوفى سنة 592هـ:
يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ = نُعْمَى يُقَصِّرُ عَنْ إِدْرَاكِهَا الأَمَلُ
لاَ بَدَّلَ اللَّهُ حَالاً قَدْ حَبَاكَ بِهَا = مَا دَارَ بَيْنَ النُّحَاةِ الحَالُ وَالبَدَلُ
النَّحْوُ أَنْتَ أَحَقُّ العَالَمِينَ بِهِ = أَلَيْسَ بِاسْمِكَ فِيهِ يُضْرَبُ المَثَلُ
وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة، وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي فقال: قرأت عليه وكان حسن العقيدة، ظريف الخلق، لا يسأم الإنسانُ من مجالسته، وله النوادر العجيبة، والخطُّ المليح، والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال سنة 613هـ وله ثلاث وتسعون سنة وسبعة عشر يومًا، وصلِّي عليه بجامع دمشق، ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها.
وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وواحدٌ وستون مجلدًا على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية، المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرَّقت وبِيعَ كثيرٌ منها، ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليلُ الرث، وهي بالمقصورة الحلبية، وكانت قديمًا يقال لها: مقصورة ابن سنان.
وقد ترك نعمة وافرة، وأموالاً جزيلة، ومماليكَ متعددة من الترك الحسان، وكان رقيق الحاشية، حسنَ الأخلاق، يعامل الطلبة معاملةً حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبِر ترك القيام لهم، وأنشأ يقول:
تَرَكْتُ قِيَامِي لِلصَّدِيقِ يَزُورُنِي = وَلاَ ذَنْبَ لِي إِلاَّ الإِطَالَةُ فِي عُمْرِي
فَإِنْ بُلِّغُوا مِنْ عشر تِسْعِينَ نِصْفَهَا = تَبَيَّنَ فِي تَرْكِ القِيَامِ لَهُمْ عُذْرِي[130]
فكاهات وملح
عن أبي هريرة: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا، قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا))؛ رواه الترمذي والبُخاري في "الأدب المفرد".
وروى أبو داود والترمذي والبخاري في "الأدب المفرد" عن أنس بن مالك، قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ يستحمله فقال: ((أنا حاملك على ولد ناقة))، قال: يا رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله ﷺ: ((وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ))؟
وروى البُخاري في "الأدب المفرد" عن بكر بن عبدالله، قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يَتَبَادَحُون بالبِطِّيخ، فإذا كانت الحقائقُ كانوا هم الرِّجال.
قال علي t: أجمُّوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنَّها تمل كما تمل الأبدان.
وكان القاسم بن محمد إذا أكثروا من المسائل، قال: إنَّ لحديثِ العرب وحديث الناس نصيبًا من الحديث، فلا تكثروا علينا من هذا.
وقال ابن شهاب الزهري: روِّحوا القلوب ساعة وساعة.
وقال أبو خالد الوالي: كنا نجالس أصحاب النبي ﷺ فيتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية.
كان رجلٌ يضحك النبي ﷺ اسمه عبدالله ويلقب حمارًا، وكان كثيرًا ما يؤتى به من الخمر، فقال رجل: اللهم أخْزِه، فقال النبي ﷺ ((لا تعينوا عليه الشيطان، إنه رجل يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله))[131].
قال مطرف بن الشخير: صحبت عمران بن الحصين من الكوفة إلى البصرة، فما أتى علينا يوم إلاَّ أنشدنا فيه شعرًا.
عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر في تجارة إلى بُصرى قبل موت رسول الله ﷺ بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدرًا، وكان نعيمان على الزاد، وكان سويبط رجلاً مَزَّاحًا، فقال لنعيمان: أطعمني، قال: حتى يجيء أبو بكر، قال: أما لأغيظنك، قال: فمروا بقوم، فقال لهم سويبط: أتشترون مني عبدًا لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إنِّي حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا بل نشتريه منك، قال: فاشتروه بعشر قلائص، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم، إنِّي حر ولست بعبد، فقالوا: قد أخبرنا بخبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر، فأخبره بذلك، فاتَّبع القومَ، فرد عليهم القلائص، وأخذ نعيمان، فلما قدموا على النبي ﷺ أخبروه، فضحك النبي ﷺ وأصحابه منه حولاً.
وعن ابن عباس أن عبدالله بن رواحة كان مضطجعًا إلى جنب امرأته، فخرج إلى الحجرة فواقع جارية له، فانتبهت المرأة فلم تَرَه، فخرجت فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت فأخذت شفرة، فلقيها ومعها الشفرة، فقال لها: ما بك؟ فقالت: مهيم، أَمَا إنِّي لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها، قال: وأين كنت؟ قالت: على بطن الجارية، قال: ما كنت، قالت: بلى، قالت: فإن رسول الله ﷺ نهى أن يقرأ أحدُنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأ، فقال:
أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ = كَمَا لاَحَ مَنْشُورٌ مِنَ الصُّبْحِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا = بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ = إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
قالت: آمنت بالله، وكذَّبْتُ بَصري، قال: فغدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته، فضحك حتى بدت نواجذه.
وأنشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس:
مَا هَوًى إِلاَّ لَهُ سَبَبٌ = يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَتَنَتْ قَلْبِي مُحَجَّبَةٌ = وَجْهُهَا بِالْحُسْنِ مُنْتَقِبُ
خُلِّيَتْ وَالْحُسْنَ تَأْخُذُهُ = تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طَرَائِفَهُ = وَاسْتَرَدَّتْ بَعْضَ مَا تَهَبُ
فَهِيَ لَوْ صَيَّرَتْ فِيهِ لَهَا = عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ
صَارَ جِدًّا مَا مَزَحَتْ بِهِ = رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ
فقال ابن عيينة: آمنت بالذي خلقها.
حضر القاضي منذر بن سعيد عند الخليفة الحكم المستنصر بالله يومًا في خلوة له وهو في البستان على بركة من زمان صيف شديد الحر والوهج، وذلك حين منصرف القاضي من صلاة الجمعة، فشَكَا إلى الخليفة من قوة الحَرِّ جهدًا، فأمره بخلع ثيابه والتخفيف من جسمه ففعل، فلم يطفئ ذلك ما به.
فقال له الحكم: مِنَ الصَّواب أن تنغمس في هذا الصهريج انغماسة تبرد جسمك وتعدله، فقم فليس ها هنا من تحتشمه، وإنَّما كان معهما جعفر الصقلبي أثير الخلافة لا رابع لهم، فكأنه استحيا من ذلك، وانقبض عنه وقارًا.
فأمر الحكم حاجِبَه جعفرًا أن يسبقه إلى النُّزول في الصهريج؛ ليسهل الأمر فيه على القاضي، فبادر جعفر إلى ذلك واتَّزر وألقى بنفسه في الماء، وكان يُحسن السباحة، فلم يسع القاضي عند ذلك إلا إنفاذ أمر الخليفة، فقام واتَّزر وتَجرد وألقى بنفسه خلف جعفر، ولاذ بالقعود في درج الصهريج متبردًا، فلم ينشط في السباحة وجعفر يجول فيه مجاله مصعدًا في الصهريج ومصوبًا.
وأخذ الحكم يمزح مع القاضي، فهو يدعوه إلى المساجلة في العوم، ويعجزه في إخلاده إلى القعود، ويناغيه بإلقاء الماء عليه والرش له، والآخر لا ينبعث ولا يفارق مكانه إلى أن كلمه الحكم، وقال: ما لك أيها القاضي؟ لا تساعد الحاجب في فعله وتعوم معه، فمن أجلك تبذَّل فيما تبذَّل فيه.
فقال له: يا سيدي، الحاجب - سلمه الله - مطلق لا هوجل معه، وأنا بالهوجل الذي معي يعقلني ويَمنعني من الإعماق في الصهريج - يريد بمقالته: أُنْثَيَيْهِ - وأنَّ جعفرًا مجبوب، فاستفرغ الحكم ضحكًا من نادرته ولطف تعريضه، فخجل الحاجب من قوله وسبه سب الأشراف وخرجا عن الماء، فأمر لهما الخليفة - رحمه الله - بكسوة تشاكل كلاًّ منهما ووصلهما بصلة سنية[132].
أجوبة طريفة
قال مُجاهد: دخل الشعبي الحمام، فرأى داود الأزدي بلا إزار، فغمض عينيه، فقال داود: متى عميتَ يا أبا عمرو، فقال: منذ هَتَكَ الله سِتْرَك[133].
وحكي أن النضر بن شميل مرض فدخل عليه قوم يعودونه، فقال له رجل منهم يُكنَّى أبا صالح: مسح الله ما بك؟ فقال: لا تقل مسح بالسين، ولكن قل: مَصَحَ الله بالصاد - أي: أذهبه وفرقه - أما سمعت قول الأعشى:
وَإِذَا مَا الْخَمْرُ فِيهَا أَزْبَدَتْ = أَفَلَ الْإِزْبَادُ فِيهَا وَمَصَحْ
فقال له الرجل: إنَّ السين قد تبدل بالصاد، كما يقال: الصراط والسراط، وصقر وسقر، فقال له النضر: فأنت إذًا أبو سالح.
قال ابن حجة الحموي: ويشبه هذه النادرة ما حُكِيَ أنَّ بعض الأدباء جوَّز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات أن تقام السين مقام الصاد في كل مَوضع، فقال الوزير: أتقول: جنات عدن يدخلونها ومن صَلَحَ من آبائهم أم سَلَحَ؟ فخجل الرجل وانقطع.
والذي ذكره أربابُ اللغة في جواز إبدال الصاد من السين أنَّه في كل كلمة كان فيها سين، وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة، وهي الطاء والخاء والغين والقاف، فتقول: الصراط والسراط، وفي سخر لكم صخر لكم، وفي مسغبة مصغبة، سيقل صيقل، وقس على هذا[134].
ومن المنقول عن بعض الفقهاء: أنَّ رجلاً قال له: إذا نزعت ثيابي، ودخلت النهر أغتسل، أتوجه إلى القبلة أم إلى غيرها؟ قال: توجه إلى ثيابك التي نزعتها[135].
قيل لأبي العيناء: بَقِي من يُلْقى؟ قال: نعم، في البئر[136].
سئل أبو العيناء عن حماد بن زيد بن درهم وعن حماد بن سلمة بن دينار، فقال: بينهما في القدر ما بين أبوابهما في الصَّرف[137].
رُوي أن المتوكل قال: أشتهي أنْ أنادم أبا العيناء لولا أنَّه ضرير، فقال أبو العيناء: إن أعفاني أمير المؤمنين من رُؤية الهلال ونقش الخواتيم، فإنِّي أصلح[138].
قال ابن الجوزي: وبلغنا عن أبي العيناء أنَّه شكا تأخُّر رزقِه إلى عبدالله بن سليمان، فقال: ألم يكن كتبنا لك إلى فلان؟ فما فعل في أمرك؟ فقال: جرَّني على شوك الْمَطْلِ، قال: أنت اخترته؟ قال: وما عليَّ، وقد اختار موسى قومَه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رشيد، فأخذتهم الرجفة، واختار رسولُ الله ﷺ ابن أبي سرح كاتبًا، فلحق بالكفار مُرتدًّا، واختار عليٌّ أبا موسى فحكم عليه[139].
قال ابن حميد: عطس رجل عند ابن المبارك، فلم يَحمد الله، فقال له ابن المبارك: أيُّ شيء يقول العاطس إذا عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله[140].
أقبل الخليفة عمر بن الخطاب t وصِبْيَان يلعبون فهربوا كلهم إلا عبدالله بن الزبير، فقد تنحَّى عن الطريق ووقف، فسأله عمر: لماذا لم يهرب كغيره من الصبيان؟ فقال بلا خوف ولا تردُّد: لم أُسِئْ فأهرب، ولست ظالمًا فأخافك، فتعجب عمر من ذكائه وسُرعة بديهته.
قال معاوية لعمرو بن سعيد بن العاص قبل أن يبلغ ويَحتلم: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلَيَّ ولم يوصِ بي، قال: فيمَ أوصاك؟ قال: أوصاني أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
قال رجل من أهل الحجاز لرجل: العلم خرج من عندنا، قال: نعم إلا أنه لم يرجع إليكم.
قال أبو جعفر المنصور لرجل من أهل الشام: احمد الله يا أعرابي، الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا، فقال الرجل: إنَّ الله لا يجمع علينا حشَفًا وسوءَ كَيْلٍ: ولايتكم والطاعون.
وسئل ابن الجوزي وهو في درس الوعظ - على إثر خلاف بين أهل السنة والشيعة -: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال ابن الجوزي: أفضلهما من كانت ابنته تحته، وأسرع نازلاً من على المنبر، وتخلص من الموقف المحرج، وانصرفوا وكل يظنُّ أن الحق معه.
كان أبو جعفر المنصور قد مَرَّ بالمدينة، وأمر الوالي أن يحضر له أديبًا لبيبًا يتجوَّل معه في المدينة، فلا يبدأ بكلام حتى يسأله المنصور، ووعده المنصور بعد ذلك بجائزة فلم ينلها، ثم عاد المنصور إلى المدينة، وبينما كان يَمشي معه بادره قائلاً: يا أمير المؤمنين، وهذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الشاعر الأحوص:
يَا بَيْتَ عَاتِكَةَ الَّذِي أَتَغَزَّلُ = حَذَرَ الْعِدَا وَبِهِ الْفُؤَادُ مُوَكَّلُ
فأنكر عليه أمير المؤمنين المنصور ذلك؛ لأنَّه تكلم من غير أن يسأل، فقرأ المنصور القصيدة، وكان يحفظها حتى وصل إلى قوله فيها:
وَأَرَاكَ تَفْعَلُ مَا تَقُولُ وَبَعْضُهُمْ = مَذِقُ اللِّسَانِ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ
فعلم المنصور أنَّه أشار إلى هذا البيت، فتذكر ما وعده به وأنجزه واعتذر إليه[141].
كان السري الرفاء من مداح سيف الدولة، وجرى في مجلسه يومًا ذكر أبي الطيب، فبالغ سيف الدولة في الثَّناء عليه، فقال له السري: أشتهي أنَّ الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها، ويتحقق الأمير بذلك أنَّه أركب المتنبي في غير سرجه، فقال له سيف الدولة على الفور: عارض قصيدته التي مَطلعها:
لِعَيْنَيْكِ مَا يَلْقَى الْفُؤَادُ وَمَا لَقِي = وَلِلْحُبِّ مَا لَمْ يَبْقَ مِنِّي وَمَا بَقِي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة، فلم أجدها في مُختارات أبي الطيب، لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه:
إِذَا شَاءَ أَنْ يَلْهُو بِلِحْيَةِ أَحْمَقٍ = أَرَاهُ غُبَارِي ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْحَقِ
فقلت: والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت[142].
حُكِي أن أبا العلاء المعري كان يتعصَّب لأبي الطيب المتنبي، فحضر يومًا فجلس المرتضى فجرى ذكرُ أبي الطيب، فهضم من جانبه المرتضى، فقال أبو العلاء: لو لم يكن لأبي الطيب من الشعر إلاَّ قوله:
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ مَنَازِلٌ... لكفاه
فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج، وبعد إخراجه قال المرتضى: هل تعلمون ما أراد بذكر البيت؟ قالوا: لا، قال: عني به قولَ أبي الطيب في القصيدة:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ = فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلُ[143]
وفد بعضُ علماء بغداد على دار الخليفة العلية في أيام السُّلطان سليم بن السلطان عثمان خان، ونزل في دار صاحب المشيخة العُظمى إذ ذاك، فاتَّفق له أنْ رأى السلطان سليمان في القائق بين أسكي دار وإسلامبول، فمر قائق الشيخ بالقرب من قائق السلطان، فلما وقع عليه نَظَرُ الملك ورأى عليه سيما أهلِ العلم، أحبَّ أن يداعِبَه، فقال عندما ناداه:
فِيمَ اقْتِحَامُكَ لُجَّ الْبَحْرِ تَرْكَبُهُ = وَأَنْتَ تَكْفِيكَ مِنْهُ مَصَّةُ الْوَشَلِ
فأجاب على الفور:
أُرِيدُ بَسْطَةَ كَفٍّ أَسْتَعِينُ بِهَا = عَلَى قَضَاءِ حُقُوقٍ لِلْعُلَى قِبَلِي
وبعد أيام اجتمعَ السلطان سليم بشيخ الإسلام، وسأله عن الشيخ، وذكر له صفةً ثم أمره أن يسأله عن مُراده، فسأله من غير أن يُعلمَه أن ذلك عن أمر الملك، فقال: بُغيتي القرية الفلانية في محل كذا وكذا، إن أقطعنيها كفتني، ولا أريدُ سواها، فأخبر الملك بذلك فأقطعه القرية، وعاد وقد ربحت تجارته ببضاعة أدبه[144].
جاء قومٌ من أهل العراق، فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدؤوا في عثمان، فقال لهم عليُّ بن الحسين: أخبروني، أأنتم من المهاجرين الأولين ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: 8]؟ قالوا: لا، قال: فأنتم من الذين ﴿تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ [الحشر: 9]؟ قالوا: لا، فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنَّكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنَّكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم: ﴿الَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا...﴾ [الحشر: 10] الآية، فقوموا عني لا باركَ الله فيكم ولا قَرَّب دورَكم، أنتم مستهزئون بالإسلام ولستم من أهله[145].
وسأله رجل: متى يبعث علي؟ فقال: يبعث والله يومَ القيامة وتهمه نفسه.
وعن جرير قال: جئنا الأعمش يومًا، فوجدناه قاعدًا في ناحية فجلسنا في ناحية أخرى، وفي الموضع خليج من ماء المطر، فجاء رجلٌ وعليه فروة حقيرة، قال: قم عبرني في هذا الخليج وجذب بيده فأقامه وركبه، وقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: 13]، فمضى به الأعمش حتى توسط به الخليج، ثم رمى به، وقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ [المؤمنون: 29]، ثم خرج وترك المسود يتخبط في الماء[146].
قال أبو الحسن المدائني: جاء رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد، اشتريت حمارًا بنصف درهم، فأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا، فقال: اكترِ بالنصف وارجع[147].
وقال محمد بن عبيد الطنافسي: جاء رجل نبيل كبير اللحية إلى الأعمش، فسأله عن مسألة خفيفة من الصلاة، فالتفت إلينا الأعمش، وقال: انظروا إليه، ألحيته تتحمَّل حفظَ أربعة آلاف حديث، ومسألته مسألة صبيان الكتاب؟![148].
قال سفيان: جاء شبيب بن شيبة وأصحاب له إلى الأعمش، فنادَوْه على بابه: يا سليمان، اخرج إلينا، فقال الأعمش من داخل: مَن أنتم؟ قالوا: نحن من الذين ينادونك من وراء الحجرات، فقال الأعمش من داخل: أكثرهم لا يعقلون[149].
وقال رجل لبشار بن برد: لِمَ يهابك الناس ولست جميلَ الشكل؟ قال: ليس من حسنه يُهاب الأسد.
قال نفطويه يهجو ابن دريد:
ابْنُ دُرَيْدٍ بَقَرَهْ = وَفِيهِ لُؤْمٌ وَشَرَهْ
قَدِ ادَّعَى مِنْ جَهْلِهِ = جَمْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَهْ
وَهْوَ كِتَابُ الْعَيْنِ إِلاَّ = أَنَّهُ قَدْ غَيَّرَهْ
فرد عليه ابن دريد بقوله:
لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَوَيْهْ = لَكَانَ ذَاكَ الْوَحْيُ سُخْطًا عَلَيْهْ
أَحْرَقَهُ اللَّهُ بِنِصْفِ اسْمِهِ = وَصَيَّرَ الْبَاقِي صُرَاخًا عَلَيْهْ
قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون - القسم الأول - المطبوع، ص 72: بعث زياد إلى معاوية رجلاً من بني تَميم يقال له: أنجد بن قيس، وكان له غناء يومَ صفين مع أمير المؤمنين علي t فقال له مُعاوية: أنت القائم في الفتنة علينا والمكثر عدونا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّها كانت فتنة عمياء نزا فيها الرضيع، وخف الرفيع، واحتدمت وأكلت علينا ثم شربت، حتى إذا حسرت ظلماؤها، وكشف غطاؤها، وآل الأمرُ إلى مآله، وصرح الحق عن محضه، عرفنا خليفتنا، وتركنا فتنتنا، ولزمنا عصمتنا، ومن يُحدث مَتابًا لم يُرِد الله به عقابًا، فقربه معاوية وأحسن إليه.
قال القاضي أبو يوسف عبدالسلام القزويني: قال المعري: لم أهج أحدًا قطُّ، فقلت له: صدقت إلاَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فتغير لونه.
ودخل عليه القاضي المنازي، فذكر له ما يسمعه عن الناس من الطَّعن عليه، فقال: ما لي وللناس وقد تركت لهم دُنياهم، فقال له القاضي: وآخرتهم، فقال: يا قاضي، وآخرتهم وجعل يُكررها.
جوائز
كان أبو جعفر المنصور قد طلب من الإمام مالك أن يضع كتبًا يضمنها ما اجتمع عليه الصَّحابة والأئمة، ويأخذ بالقول الوَسَط من اختلاف العلماء لينشرها في الآفاق، وتُوفي المنصور وولي الخلافة بعده ابنه المهدي، ولما قدم المدينة، سأل مالكًا عما صنع فيما أمره به أبو جعفر، فأتاه بالكتب وهي كتب الموطأ، فأمر المهدي باستنساخها، وقرئت على مالك، فلما أتم قراءتها أَمَر له بأربعة آلاف دينار ولابنه بألف دينار.
ومن الجوائز على الشعر ما يلي:
دخل جرير بن عطية الخطفي على عبدالملك بن مروان، فأنشده قصيدته التي أولها:
أَتَصْحُو أَمْ فُؤَادُكَ غَيْرُ صَاحِ = عَشِيَّةَ هَمَّ صَحْبُكَ بِالرَّوَاحِ
تَقُولُ الْعَاذِلاَتُ عَلاَكَ شَيْبٌ = أَهَذَا الشَّيْبُ يَمْنَعُنِي مِزَاحِي
تَعَزَّتْ أُمُّ حَزْرَةَ ثُمَّ قَالَتْ = رَأَيْتُ الْوَارِدِينَ ذَوِي لِقَاحِ
ثِقِي بِاللَّهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ = وَمِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ بِالنَّجَاحِ
سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِلَيَّ رِيشِي = وَأَنْبَتَّ الْقَوَادِمَ فِي جَنَاحِي
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا = وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
قال جرير: فلما انتهيتُ إلى هذا البيت، كان عبدالله متكئًا فاستوى جالسًا، وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم التفت إليَّ، وقال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائةُ ناقة من نَعَمِ بني كلب؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن لم تروِها، فلا أرواها الله، قال: فأمر لي بها كلها سود الحدق، قلت: يا أمير المؤمنين، نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، والإبل أباق، فلو أمرت لي بالرِّعاء، فأمر لي بثمانية، وكان بين يديه صِحاف من الذهب وبيده قضيب، فقلت: يا أمير المؤمنين، والمحلب؟ وأشرت إلى إحدى الصِّحاف فنبذها إليَّ بالقضيب، وقال: خُذها لا نفعتْكَ.
وإلى ذلك يشير جرير بقوله:
أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ تَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ = مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلاَ سَرَفُ
وهنيدة: اسم على المائة من الإبل.
ولما أنشد أبو تمام محمد بن الهيثم بن شبابة الخراساني قصيدته التي يقول فيها:
جَادَتْ مَعَاهِدَهُمْ عِهَادُ سَحَابَةٍ = مَا عَهْدُهَا عِنْدَ الدِّيَارِ ذَمِيمُ
قال: فلما فرغ منها أمر له بألف دينار، وخلع عليه خلعة حسنة، ثم كتب له أبو تمام:
قَدْ كَسَانَا مِنْ كِسْوَةِ الصَّيْفِ خِرْقٌ = مُكْتَسٍ مِنْ مَكَارِمٍ وَمَسَاعِ[150]
حُلَّةً سَابِرِّيَّةً وَرِدَاءً = كَسَحَا الْقَيْضِ أَوْ رِدَاءِ الشُّجَاعِ
كَالسَّرَابِ الرَّقْرَاقِ فِي الْحُسْنِ إِلاَّ = أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْخِدَاعِ
قَصَبِيًّا تَسْتَرْجِفُ الرِّيحُ مَتْنَيْـ = ـهِ بِأَمْرٍ مِنَ الْهُبُوبِ مُطَاعِ[151]
رَجْفَانًا كَأَنَّهُ الدَّهْرُ مِنْهُ = كَبِدُ الصَّبِّ أَوْ حَشَا الْمُرْتَاعِ
لاَزِمًا مَا يَلِيهِ تَحْسَبُهُ جُزْ = ءًا مِنَ الْمَتْنَتَيْنِ وَالْأَضْلاَعِ
يَطْرُدُ الْيَوْمَ ذَا الْهَجِيرِ وَلَوْ شُبْـ = ـبِهَ فِي حَرِّهِ بِيَوْمِ الْوَدَاعِ
خِلْعَةً مِنْ أَغَرَّ أَرْوَعَ رَحْبِ الصْـ = صَدْرِ رَحْبِ الفُؤَادِ رَحْبِ الذِّرَاعِ
سَوْفَ أَكْسُوكَ مَا يُعَفِّي عَلَيْهَا = مِنْ ثَنَاءٍ كَالْبُرْدِ بُرْدِ الصَّنَاعِ
حُسْنُ هَاتِيكَ فِي الْعُيُونِ وَهَذَا = حُسْنُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ
فقال محمد بن الهيثم: من لا يعطي على هذا ملكه؟ والله لا بقي في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام، فأمر له بكل ثوب يَملكه في ذلك الوقت.
قيل: لما استخلف عمر بن عبدالعزيز t وفد الشعراء إليه، وأقاموا ببابه أيامًا لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك إذ مرَّ بهم رجاء بن حيوة وكان جليس عمر، فلما رآه جرير داخلاً قام إليه وأنشده:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ = هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عُمَرَا
فدخل عليه ولم يذكر له شيئًا من أمرهم، ثم مر بهم عدي بن أرطاة، فقال جرير أبياتًا آخرها قوله:
لاَ تَنْسَ حَاجَتَنَا لَاقَيْتَ مَغْفِرَةً = قَدْ طَالَ مُكْثِيَ عَنْ أَهْلِي وَأَوْطَانِي
قال: فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي ما لي وللشعراء؟ قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ امتُدح وأعطى، ولك في رسول الله أسوة حسنة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي، فأعطاه حلة فقطع بها لسانه، قال: أوَتروي من قوله شيئًا؟ قال: نعم، قوله:
رَأَيْتُكَ خَيْرًا لِلْبَرِيَّةِ كُلِّهَا = نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا
شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا = عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الحقُّ مُظْلِمَا
وَنَوَّرْتَ بِالْبُرْهَانِ أَمْرًا مُدَمَّسًا = وَأَطْفَأْتَ بِالْإِسْلاَمِ نَارًا مُضَرَّمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا = وُكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ = وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنُهُ قَدْ تَهَدَّمَا
فقال عمر: ويلك يا عدي، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن أبي ربيعة، قال: أليس هو الذي يقول:
ثُمَّ نَبَّهْتُهَا فَمَدَّتْ كِعَابًا = طفْلَةً مَا تُبِينُ رَجْعَ الْكَلاَمِ
سَاعَةً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدُ قَالَتْ = وَيْلَتَا قَدْ عَجِلْتَ يَا ابْنَ الْكِرَامِ
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه، لكان أستر له، لا يدخل والله عليَّ أبدًا، فمن بالباب سواه، قال: الفرزدق، قال: أَوَليس الذي يقول:
هُمَا دَلَّتَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً = كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلاَيَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا = أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُه
لا يدخل عليَّ والله، فمن بالباب سواه، قال الأخطل، قال: يا عدي هو الذي يقول:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا = وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِزَاجِرٍ عَنْسًا بِكُورٍ = إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا عَتِيقًا = بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلاَحِي
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولاً = وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
والله لا يدخل عليَّ وهو كافر أبدًا، فمن بالباب سوى من ذكرت؟ قال: الأحوص، قال: أليس الذي يقول:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا = يَفِرُّ عَنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فما هو دون مَن ذكرت، فمن هنا أيضًا؟ قال: جميلُ بن معمر، قال: أليس هو الذي يقول:
أَلاَ لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ أَمُتْ = يُوَافِقُ فِي الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحَهَا
فلو كان عدوُّ الله تمنى لقاءَها في الدُّنيا ليعمل بعد ذلك صالحًا لكان أصلح، والله لا يدخل علي أبدًا، فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال: جرير: قال: أما هو الذي يقول:
طَرَقَتْكِ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا = وَقْتَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلاَمِ
فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل، فلما مَثُلَ بين يديه، قال: يا جرير، اتَّقِ الله، ولا تقل إلا حقًّا، فأنشده قصيدته الرائية المشهورة التي منها:
إِنَّا لَنَرْجُو إِذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا = مِنَ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ الْمَطَرِ
نَالَ الْخِلاَفَةَ إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا = كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا = فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ
الْخَيْرُ مَا دُمْتَ حَيًّا لاَ يُفَارِقُنَا = بُورِكْتَ يَا عُمَرَ الْخَيْرَاتِ مِنْ عُمَرِ
فقال: يا جرير، ما أرى لك فيما ها هنا حقًّا، قال: بلى يا أمير المؤمنين، إنِّي ابن سبيل ومنقطع، فقال له: ويْحك يا جرير، قد ولينا هذا الأمر ولا نَملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبدالله، ومائة أخذتها أم عبدالله، يا غلام، أعطه المائة الباقية، قال: فأخذها جرير، وقال: والله لهي أحبُّ مالٍ اكتسبته، ثم خرج، فقال الشعراءُ: ما وراءَك؟ فقال: ما يسوءكم، خرجت من عند خليفة يُعطي الفقراء ويَمنع الشعراء، وإنِّي عليه لراضٍ، وأنشد:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لاَ تَسْتَفِزُّهُ = وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقيًا[152]
اتَّفق في بعض الأحيان أنَّ المهدي استدعى الشُّعراء إلى مجلسه، وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن بُرد الأعمى، فسمع صوتَ أبي العتاهية، فقال بَشَّار لجليسه: أثَمَّ ها هنا أبو العتاهية؟ قال: نعم، فانطلق يذكر قصيدته التي أولها:
أَلاَ مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا = أَدَلَّتْ فَأَحْمِلَ إِدْلاَلَهَا
فقال بشار لجليسه: ما رأيت أجسر من هذا، حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله:
أَتَتْهُ الْخِلاَفَةُ مُنْقَادَةً = إِلَيْهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلاَّ لَهُ = وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلاَّ لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ = لَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ = لَمَا قَبِلَ اللَّهُ أَعْمَالَهَا
فقال بشار لجليسه: انظر أطار الخليفة عن فراشه أم لا؟ قال: فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره[153].
قال سلم الخاسر يَمدح الربيع لما أخذ البيعة للمهدي:
يَا ابْنَ الَّذِي جَبَرَ الْإِسْلاَمَ يَوْمَ وَهَى = وَاسْتَنْقَذَ النَّاسَ مِنْ عَمْيَاءَ صَيْخُودِ
قَالَتْ قُرَيْشٌ غَدَاةَ انْهَاضَ مُلْكُهُمُ = يَا ابْنَ الرَّبِيعِ وَأَعْطَوْا بِالْمَقَالِيدِ
فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِئْنَاسٌ بِوَحْدَتِهِ = مَاضِي الْعَزِيمَةِ ضَرَّابُ الْقَمَاحِيدِ
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا ضَاقَتْ مَسَالِكُهَا = حَلَّتْ يَدُ الْفَضْلِ مِنْهَا كُلَّ مَعْقُودِ
إِنَّ الرَّبِيعَ وَإِنَّ الْفَضْلَ قَدْ بَنَيَا = رُوَاقَ مَجْدٍ عَلَى الْعَبَّاسِ مَمْدُودِ
فوهب له الفضل خمسة آلاف دينار.
ولما عقد الرشيد البيعة لابنه محمد الأمين أنشد سلم:
قَدْ بَايَعَ الثَّقَلاَنِ فِي مَهْدِ الْهُدَى = لِمُحَمَّدِ بْنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعْفَرِ
وَلَّيْتَهُ عَهْدَ الْأَنَامِ وَأَمْرَهُمْ = فَدَمَغْتَ بِالْمَعْرُوفِ رَأْسَ الْمُنْكَرِ
فأعطته زبيدة مائة ألف درهم.
ولما قال سلم في المهدي قصيدته التي يقول فيها:
لَهُ شِيمَةٌ عِنْدَ بَذْلِ الْعَطَا = ءِ لاَ يَعْرِفُ النَّاسُ مِقْدَارَهَا
وَمَهْدِيُّ أُمَّتِنَا وَالَّذِي = حَمَاهَا وَأَدْرَكَ أَوْتَارَهَا
فأمر له المهدي بخمسين ألف درهم.
وقال منصور بن أبي مزاحم: شهدت المهدي، وقد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم، وفرض له على أهل بيته وجلسائه ثلاثين ألف درهم، وأمر الرشيد بعد ذلك لما ولي الخلافة لسلم الخاسر، وقد مدحه، بسبعين ألف درهم، قال له: يا أمير المؤمنين، إن أكثر ما أعطى المهدي مروان سبعون ألف درهم، فزدني وفضلني عليه، ففعل ذلك وأعطاه تتمة ثمانين ألف درهم، فقال سلم:
أَلاَ قُلْ لِمَرْوَانٍ أَتَتْكَ رِسَالَةٌ = لَهَا نَبَأٌ لاَ يَنْثَنِي عَنْ لِقَائِكَا
حَبَانِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَفْحَةٍ = مُشَهَّرَةٍ قَدْ طَأْطَأَتْ مِنْ حِبَائِكَا
ثَمَانِينَ أَلْفًا حُزْتُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ = وَلَمْ يَكُ قِسْمًا مِنْ أُولِي وَأُولاَئِكَا
فأجابه مروان فقال:
أَسَلْمَ بْنَ عَمْرٍو قَدْ تَعَاطَيْتَ غَايَةً = تُقَصِّرُ عَنْهَا بَعْدَ طُولِ عَنَائِكَا
فَأُقْسِمُ لَوْلاَ ابْنُ الرَّبِيعِ وَرِفْدُهُ = لَمَا ابْتَلَّتِ الدَّلْوُ الَّتِي فِي رِشَائِكَا
فَمَا نِلْتَ مُذْ صُوِّرْتَ إِلاَّ عَطِيَّةً = تَقُومُ بِهَا مَصْرُورَةً فِي رِدَائِكَا
وحدث في أيام الرشيد أمرٌ، فاحتاج فيه إلى الرأي فأشكل، وكان الفضل بن يحيى غائبًا، فورد في ذلك الوقت فأخبره بالقصة، فأشار بالرأي في وقته وأنفذه الأمر على مشورته.
فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده:
بَدِيهَتُهُ وَفِكْرَتُهُ سَوَاءٌ = إِذَا مَا نَابَهُ الْخَطْبُ الْكَبِيرُ
وَأَحْزَمُ مَا يَكُونُ الدَّهْرَ رَأْيًا = إِذَا عَيَّ الْمُشَاوِرُ وَالْمُشِيرُ
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ولما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه:
حَضَرَ الرَّحِيلُ وَشُدَّتِ الْأَحْدَاجُ، أمر له بمائة ألف[154].
ربيعة بن ثابت بن لجاء الأسدي أبو شبانة، من أهل الرقة كان شاعرًا ضريرًا يلقب بالغاوي، أشخصه المهدي إليه فمدحه بعدة قصائد، وأثابه عليها ثوابًا كثيرًا، وهو الذي يقول في العباس بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس قصيدته التي لم يُسْبَق إليها حُسنًا، منها:
لَوْ قِيلَ لِلْعَبَّاسِ يَا ابْنَ مُحَمَّدٍ = قُلْ لاَ وَأَنْتَ مُخَلَّدٌ مَا قَالَهَا
مَا إِنْ أَعُدُّ مِنَ الْمَكَارِمِ خَصْلَةً = إِلاَّ وَجَدْتُكَ عَمَّهَا أَوْ خَالَهَا
وَإِذَا الْمُلُوكُ تَسَايَرُوا فِي بَلْدَةٍ = كَانُوا كَوَاكِبَهَا وَكُنْتَ هِلاَلَهَا
إِنَّ الْمَكَارِمَ لَمْ تَزَلْ مَعْقُولَةً = حَتَّى حَلَلْتَ بَرَاحَتَيْكَ عِقَالَهَا
ولما مدحه بهذه القصيدة بعث إليه بدينارين، فقال:
مَدَحْتُكَ مِدْحَةَ السَّيْفِ الْمُحَلَّى = لِتَجْرِيَ فِي الْكِرَامِ كَمَا جَرَيْتُ
فَهَبْهَا مِدْحَةً ذَهَبَتْ ضَيَاعًا = كَذَبْتُ عَلَيْكَ فِيهَا وَافْتَرَيْتُ
فَأَنْتَ الْمَرْءُ لَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ = كَأَنِّي إِذْ مَدَحْتُكَ قَدْ رَثَيْتُ
فلما وقف عليها العباس، غضب وتوجه إلى الرشيد وكان عظيمًا، فقال: إنَّ ربيعة الرقي قد هجاني، فأحضره الرشيد وهَمَّ بقَتْله، فقال: يا أمير المؤمنين، مُره بإحضار القصيدة فأحضرها، فلما رآها استحسنها، وقال: والله ما قال أحدٌ في الخلفاء مثلَها، فكم أثابك؟ قال: دينارين، فغضب الرشيد على العباس، وقال: يا غلام، أعطِ ربيعةَ ثلاثين ألف درهم وخلعة، واحمله على بغلة، وقال له: لا تذكره في شعرك لا تعريضًا ولا تصريحًا، وكان الرَّشيد قد هَمَّ بأن يزوج العباسَ ابنته، ففتر عنه بعد ذلك[155].
المؤمل بن أميل المحاري الكوفي الضرير المتوفى سنة 190هـ تقريبًا، كان شاعرًا مجيدًا، مدح المهديَّ مرة فأجازه ألف دينار، وقد كان مدح المهدي وهو ولي عهد، فأمر له بعشرين ألف درهم، فبلغ المنصور ذلك، فكتب إليه يلومه، وقال: إنَّما كان ينبغي أن تعطيَه أربعة آلاف درهم بعد أن يقيم ببابك سنة.
وأجلس قائدًا من قواده على جسر النَّهروان يتصفح وجوهَ الناس حتى مرَّ به المؤمل بن أميل، فأخذه ودخل به على المنصور فسلم، فقال: من أنت؟ قال: المؤمل بن أميل، قال: أتيت إلى غلام رغب خدعته؟ قال: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا كريمًا فخدعته فانخدع، فكأن ذلك أعجب المنصور، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشده القصيدة التي منها:
هُوَ الْمَهْدِيُّ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ = مُشَابَهَةٌ مِنَ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ
تَشَابَهَ ذَا وَذَا فَهُمَا إِذَا مَا = أَنَارَا مُشْكِلاَنِ عَلَى الْبَصِيرِ
فَهَذَا فِي الظَّلاَمِ سِرَاجُ لَيْلٍ = وَهَذَا فِي النَّهَارِ ضِيَاءُ نُورِ
وَلَكِنْ فَضَّلَ الرَّحْمَنُ هَذَا = عَلَى ذَا بِالْمَنَابِرِ وَالسَّرِيرِ
وَبِالْمُلْكِ الْعَزِيزِ فَذَا أَمِيرٌ = وَمَا ذَا بِالْأَمِيرِ وَلاَ الْوَزِيرِ
وَبَعْضُ الشَّهْرِ يَنْقُصُ ذَا وَهَذَا = مُنِيرٌ عِنْدَ نُقْصَانِ الشُّهُورِ
فقال: والله أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ فقال: هو ذا، فقال: يا ربيع، امضِ معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذِ الباقي، ففعل فلما تولى المهديُّ رفع المؤمل رقعة ذكر فيها واقعته، فضحك، وقال: رُدُّوا إليه عشرين ألف درهم فردت.
روى هشام بن سليمان المخزومي عن أبيه قال: أذن مُعاوية للناس يومًا فدخلوا عليه، فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم، فقال: أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها العرب، ثم قال: يا أبا خبيب، فقال: مهيم، قال: أنشد ذلك، فقال: نعم يا أمير المؤمنين بثلاثمائة ألف، كل بيت بمائة ألف، قال: نعم: إن ساوت، قال: أنت بالخيار وأنت وافٍ كافٍ، فأنشده للأفوه الأزدي:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ = فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ
فقال معاوية: صدق.
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا = وَكَيْدًا مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
فقال معاوية: صدق.
وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا = فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ
ثم قال معاوية: هيه يا أبا خبيب، قال: إلى ها هنا انتهى، فدعا معاوية بثلاثين عبدًا على عنق كل واحد منهم بدرة وهي عشرة آلاف درهم، فمروا بين يدي ابن الزُّبير حتى انتهوا إلى داره.
ولما أنشد أبو تمام أبا دلف العجلي قصيدته البائية المشهورة التي أولها:
عَلَى مِثْلِهَا مِنْ أَرْبُعٍ وَمَلاَعِبِ = أُذِيلَتْ مَصُونَاتُ الدُّمُوعِ السَّوَاكِبِ
استحسنها وأعطاه خمسين ألف درهم، وقال: والله، إنَّها لدونَ شِعرك، ثم قال له: والله، ما مثل هذا القول في الحسن إلا ما رثيت به محمد بن حميد الطوسي، فقال أبو تمام: وأي ذلك أراد الأمير؟ قال: قصيدتك الرائية التي أولها:
كَذَا فَلْيَجِلَّ الْخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الْأَمْرُ = فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ مَاؤُهَا عُذْرُ
وددت والله أنَّها لك فيَّ، فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي وأكون المقدم قبله، فقال: إنه لم يَمت من رُثِي بمثل هذا الشعر.
مدح الشاعر بكر بن النطاع أبا دلف العجلي، فقال:
يَا طَالِبًا لِلْكِيمِيَاءِ وَعِلْمِهِ = مَدْحُ ابْنِ عِيسَى الْكِيمِيَاءَ الْأَعْظَمُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ دِرْهَمٌ = وَمَدَحْتُهُ لَأَتَاكَ ذَاكَ الدِّرْهَمُ
فيقال: إنه أعطاه عشرة آلاف درهم؛ مكافأة له على هذين البيتين.
كان أبو دلف من الكرماء الشجعان، ولي دمشق في خلافة المعتصم، وقد أكثر الشعراء في مدحه، ومدحه بعض الشعراء فقال:
أَبَا دُلَفٍ إِنَّ الْمَكَارِمَ لَمْ تَزَلْ = مُغَلَّفَةً تَشْكُو إِلَى اللَّهِ حَلَّهَا
فَبَشَّرَهَا رَبِّي بِمِيلاَدِ قَاسِمٍ = فَأَرْسَلَ جِبْرِيلاً إِلَيْهَا فَحَلَّهَا
فأمر له بمال، فقال الخازن: لم يكن هذا القدر ببيت المال، فأمر له بضعفه، فقال: هذا غير ممكن، فأمر له بضعفه، فلما حمل إليه المال، قال أبو دلف:
أَتَعْجَبُ إِنْ رَأَيْتَ عَلَيَّ دَيْنًا = وَإِنْ ذَهَبَ الطَّرِيفُ مَعَ التِّلاَدِ
وَمَا وَجَبَتْ عَلَيَّ زَكَاةُ مَالٍ = وَهَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْجَوَادِ[156]
وقال آخر:
إِنْ سَارَ سَارَ الْمَجْدُ أَوْ حَلَّ وَقَفْ = انْظُرْ بِعَيْنَيْكَ إِلَى أَسْنَى الشَّرَفْ
هَلْ نَالَهُ بِقُدْرَةٍ أَوْ بِكَلَفْ = خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ سِوَى أَبِي دُلَفْ
فأعطاه خمسين ألف درهم[157].
وفيه يقول العكوك بن علي بن جبلة:
إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دُلَفٍ = بَيْنَ بَادِيهِ وَمُحْتَضَرِهْ
فَإِذَا وَلَّى أَبُو دُلَفٍ = وَلَّتِ الدُّنْيَا عَلَى أَثَرِهْ
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ = بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ
مُسْتَعِيرٌ مِنْكَ مَكْرُمَةً = يَكْتَسِيهَا يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ
فأعطاه أبو دلف مائة ألف درهم[158].
قيل: إن خالد بن عبدالله القسري كان جالسًا في مظلة، إذ نظر إلى أعرابي يخب على بعيره مقبلاً نحوه، فقال لحاجبه: إذا قدم لا تحجبه، فلما قدم أدخله، فسلم فقال:
أَصْلَحَكَ اللَّهُ قَلَّ مَا بِيَدِي = فَمَا أُطِيقُ الْعِيَالَ إِذْ كَثُرُوا
أَنَاخَ دَهْرٌ رَمَى بِكَلْكَلِهِ = فَأَرْسَلُونِي إِلَيْكَ وَانْتَظَرُوا
فقال خالد: إذا أرسلوك إلي وانتظروا، والله لتعودن إليهم بما يَسُرُّهم، فأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة[159].
حكى صاحب "العقد الفريد" قال: دخل أبو دارة على عدي بن حاتم، فقال: إنِّي مدحتك، قال: أمسك حتى آتيك بمال؛ فإنِّي أكره أن أعطيك ثمن ما تقول، هذه ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبُد وثلاث إماء، وفرسي هذا حبس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أجزْتُك[160].
حينما التقى أبو الطيب المتنبي بالأمير سيف الدولة ابن حمدان لأول مرة، ورغب الأمير في أن يمدحه أبو الطيب، فاشترط عليه المتنبي أن لا ينشده وهو واقف، وأن لا يقبل الأرض بين يديه، فقبل سيف الدولة شَرْطه، وكان ذلك مما تميز به أبو الطيب عن الشعراء الذين يمدحون سيف الدولة، ونال عنده حُظْوة وتقدمًا لم ينلهما غيره؛ مما أغرى الشعراء بحسده وعمل المكايد له.
وصحب المتنبي سيف الدولة ثماني سنين، مدحه خلالها بثمانٍ وثلاثين قصيدة، وإحدى وثلاثين قطعة، ثم مدحه بقصيدتين وعزاه عن أخته، وكان سيف الدولة يغدق على أبي الطيب ويستحثه على الإسراع في مدحه، ويغتم إذا تأخَّر المتنبي عن إنشاده.
وقد كان في المتنبي علوُّ همة وترفُّع وكبرياء، وشديد العنف في انتقاصه لشراء وقته، حتى غمز أبا فراس مع ما له من قرابة ومكانة لدى سيف الدولة.
ولما أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدته التي أولها:
وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ = وَمَنْ بِحَالِي وَجِسْمِي عِنْدَهُ سَقَمُ
ثارت عليه حاشية الأمير وكادوا يفتكون به، ولم يكدْ يفلت منهم.
وقال أبو فراس لسيف الدَّولة مرة: إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كلَّ سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تغدق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتونك بما هو خير من شعره.
ولقد أثرت دسائس الحاسدين في التفريق بين سيف الدولة وأبي الطيب، ثم رحل المتنبي إلى مصر، ثم فارق كافورًا بعد أنْ وجد وَعْدَه سرابًا، وعاد إلى العراق.
لقد كان سيف الدولة يعرف للمتنبي فضلَه وأدبَه، وما يَمتاز به شعره من قدر يتقاصر دونه الشعراء المنافسون له، فحينما حصل لأبي الطيب ما حصل بعد إنشاده القصيدة الميميَّة المشار إليها آنفًا، وأوشك على الهلاك، ظل متخفيًا تسعة عشر يومًا، وراسل الأمير، فأنكر أن يكون أراده بسوء، ثم بعث إليه الشاعر الأبيات التي مطلعها:
أَلاَ مَا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْيَوْمَ عَاتِبًا = فَدَاهُ الْوَرَى أَمْضَى السُّيُوفِ مَضَارِبًا
ودخل على الأمير، فخلع عليه، ورحب به، وسأله عن حاله، فقال: رأيت الموت عندك أحب من الحياة عند غيرك، فقال الأمير: بل يطيل الله بقاءَك، ثم ركب الشاعر وأتبعه الأمير بالهدايا، فقال القصيدة:
أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى طَلَلٍ = دَعَا فَلَبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ وَالْإِبِلِ
وكان الملوك والوزراء والكبراء يتمنَّون أن يَمدحهم أبو الطيب، ويسعون لذلك بكل وسيلة، ولكنَّ أبا الطيب شديد المراس، عزيز النفس، فهو كما يقول - مخاطبًا ابن العميد عندما طلب منه أن يقصد عَضُدَ الدولة ويشيد به -: يأتي مَلقِي من هؤلاء الملوك، أقصد الواحدَ بعد الواحد، وأُملِّكُهم شيئًا يبقى ببقاء النيِّرَيْن، ويُعطونني عَرَضًا فانيًا.
وعندما ذهب أبو الطيِّب لملاقاة الوزير ابن العميد الأديب الفاضل، وقف بظاهر البلد وأرسل أحدَ غِلمانه إليْه، فقال الغلام: مولاي خارج البلد، فثار من مضجعِه، ثمَّ أمر حاجبه باستِقْباله، فركب واسترْكب مَن لقيه في الطريق، فتلقَّوا الشَّاعر، وقضَوا حقَّه، وأدخلوه البلد، فدخل على أبي الفضْل ابن العميد، فقام له وطُرح له كرسي عليه وسادة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقًا إليْك يا أبا الطيّب.
مدحه وأعطاه الجوائز.
ثمَّ ذهب أبو الطيب إلى عضد الدولة ابن بويه، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز، استقبله ممثل عن عضد الدولة، ولمَّا دخل البلد أنزل دارًا مفروشة، ثم مدح عضد الدولة بمدائح، فأجزل له الهبات والجوائز والخلع، حتَّى قدِّرت صِلاته له بأكثر من مائتي ألف درهم.
لم يجتمع عند باب أحد من الملوك بعد الخلفاء من فطاحل العلماء، وكبار الشعراء والأدباء ما اجتمع عند باب سيف الدولة، وكان يقربهم ويجزل صلاتهم.
قصد أبو الطيب بلاد فارس ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي، فأجزل جائزته، ولما رجع من عنده قاصدًا الكوفة، عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدَّة من أصحابه، وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه فقاتلوهم، ولمَّا شعر أبو الطيب بالغلبة لعدوِّه، أراد الفرار، فقال له غلامه: مفلح لا ينجد.
روى ياقوت في "معجم الأدباء" أن المتنبي لما مدح محمد بن زريق الطرسوسي بقصيدته:
هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا = ثُمَّ انْثَنَيْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسَا
وصلَه عليها بعشرة دراهم، فقيل له: إنَّ شعره حسن، فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح، ولكن أزيدُه لقولك هذا عشرةَ دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهمًا.
وروى الثعالبي أن عليَّ بن منصور الحاجب أعطى أبا الطيب دينارًا حينما مدحه بقصيدته:
بِأَبِي الشُّمُوسُ الجَانِحَاتُ غَوَارِبَا = اللاَّبِسَاتُ مِنَ الحَرِيرِ جَلابِبَا
فسُمِّيت القصيدة الديناريَّة.
قال أبو بكر الحسن بن علي المعروف بابن العلاف الضَّرير الشَّاعر: بتّ ليلةً في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتانا خادم ليلاً فقال: أمير المؤمنين يقول: أرقت الليلة بعد انصرافكم، فقلت:
وَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلخَيَالِ الَّذِي سَرَى = إِذَا الدَّارُ قَفْرٌ وَالمَزَارُ بَعِيدُ
وقد أرتج عليَّ تمامه فمَن أجازه بما يوافق غرضي أمرتُ له بجائزة، قال: فأُرْتِج على الجماعة، وكلّهم شاعر فاضل، فابتدرتُ وقلت:
فَقُلْتُ لِعَيْنِي عَاوِدِي النَّوْمَ وَاهْجَعِي = لَعَلَّ خَيَالاً طَارِقًا سَيَعُودُ
فرجع الخادم ثم عاد، فقال: وأمير المؤمنين يقول: قد أحسنت، وقد أمر لك بجائزة.
أرسل الحسن بن طغج إلى المتنبي رسولاً وركوبةً يركبها، فامتنع الشَّاعر عن الذهاب، فأقسم الرَّسول أن لا يبرحه، فدخل أبو الطيّب فكتَب قصيدةً وعاد ومدادها لم يجف ثمَّ ركب مع الرَّسول، فدخلا على ابن طغج فأنشده إيَّاها، وهي:
أَيَا لائِمِي إِنْ كُنْتَ وَقْتَ اللَّوَائِمِ = عَلِمْتَ بِمَا بِي بَيْنَ تِلْكَ المَعَالِمِ
وقد منحه الممدوح على هذه القصيدة ألف دينار جائزة له، وهذه أوَّل قصيدة يعطى عليْها جائزة كبيرة.
وقد ألحَّ ابن طغج على أبِي الطيِّب أن يمدح أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي، وكان يمتنِع من ذلك، ثمَّ سأله أن يمدحه بقصيدة كان المتنبي يريد أن يَمدح بها ابن طغج، فرضِي أبو الطيّب، ولمَّا ذهب الشَّاعر إلى أبي القاسم ومعه حاشية، وجَده في فريق من أشراف قومه يَجلس على سريره وقد نزل لأبي الطيّب عن سريره ولقيه بعيدًا، وأقبل عليه يحدِّثُه ويؤنسه ويُجلسه على سريره ثم يجلس هو بين يديْه، وقد كان هذا بدعًا في المديح حقًّا، فلم يسمع أحدٌ قبل أبي الطيب أنَّ شاعرًا جلس الممدوح بين يديْه، وهذا مطلع القصيدة التي مدحه بها:
أَعِيدُوا صَبَاحِي فَهْوَ عِنْدَ الكَوَاعِبِ = وَرُدُّوا رُقَادِي فَهْوَ لَحْظُ الحَبَائِبِ
وفي كتاب "ثمرات الأوْراق في المحاضرات"، قيل: إنَّ أبا القاسم الزعفراني مدح الصَّاحب بن عباد بقصيدة نونية، وانتهى إلى قوله منها:
وَحَاشِيَةُ الدَّارِ يَمْشُونَ فِي = صُنُوفٍ مِنَ الخَزِّ إِلاَّ أَنَا
فقال الصَّاحب: قرأتُ في أخبار معن بن زائدة الشيباني أنَّ رجلاً قال له: احملني أيّها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثمَّ قال: لو علمتُ أنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلق مركوبًا غير هذا لحملتُك عليه، وقد أمرْنا لك من الخزّ بجبَّة وقميص وعمامة ودرَّاعة وسراويل ومنديل ومطرف وكساء وجورب وكيس، ولو علمنا لباسًا من الخزّ لأعطيْناكه[161].
تشجيع ذوي المواهب والذكاء
قال نافع: لقد رأيتُ المدينة وما فيها شابٌّ أشدُّ تَشميرًا ولا أفْقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك بن مروان.
وقال الأعمش عن أبي الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذويب، وعبدالملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة.
وقال الشعبي: ما جالستُ أحدًا إلاَّ وجدتُ لي الفضل عليْه إلاَّ عبدالملك بن مروان فإنّي ما ذاكرتُه حديثًا إلاَّ زادني منْه، ولا شعرًا إلاَّ زادني فيه.
وعن أبي سعيد قال: خطب رسولُ الله ﷺ فقال: ((إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله - عزَّ وجلَّ -))[162]، قال: فبكى أبو بكر فعجِبْنا من بكائه أن أخبر رسولُ الله ﷺ عن عبدٍ خيّره، فكان رسول الله ﷺ هو المخيَّر وكان أبو بكر أعلَمَنا به.
عن عبدالله بن عمر أنَّ رسول الله ﷺ قال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مثل الرجل المسلم، حدِّثوني ما هي؟))، قال عبدالله: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، قال فاستحييْت، فقالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: ((النخلة))، قال عبدالله بن عمر: فحدَّثت عمر بن الخطَّاب بالَّذي وقع في نفسي، قال عمر: "لأن تكونَ قلتَها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا"[163].
وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما صلاة يجلس في كل ركعة منها؟ ثمَّ قال سعيد: هي المغرِب إذا فاتتْك منها ركعة، قال: وكذلك سنَّة الصَّلاة كلّها.
قال أبو عمر بن عبدالبر: يعني إذا فاتتْك منها ركعة أن تَجلس مع إمامك في ثانيتِه وهي لك أولى، وهذه الصَّلاة كلّها إذا فاتتك منها ركعة.
وقال سالم بن عبدالله بن عمر للحجَّاج: إن كنت تريد السنَّة فاقصر الخطبة، وعجّل الوقوف، قال: فجعل ينظر إلى عبدالله بن عمر كيما يسمع ذلك منه، فلمَّا رأى عبدالله قال: صدق.
وعن حجَّاج بن عمرو بن غزية أنه كان جالسًا عند زيد بن ثابت فجاءه ابن فهد - رجل من اليمن - فقال: يا أبا سعيد، إنَّ عندي جواري ليس نسائي اللائي أكنُّ بأعجب إليَّ منهن، وليس كلهنَّ يعجبني أن تحمل مني، أفأعزل؟ فقال زيد: أفتِه يا حجَّاج، قال قلتُ: غفر الله لك إنَّما نجلس إليك لنتعلَّم منك، فقال: أفتِه، قال: قلتُ هو حرثُك إن شئت سقيتَه، وإن شئت عطشته - وكنت أسمع ذلك من زيد بن ثابت - فقال زيد: صدق.
أهدى أبو الفرج الأصفهاني كتابَه الأغاني إلى سيف الدولة الحمداني فأعطاه ألف دينار.
وقال فضيل بن عياض ومحمَّد بن النضر الحارثي وسفيان: أوَّل العلم الاستماع، ثم الحفظ، ثم العمل، ثمَّ النشر.
ذكر أبو بكر الصولي في كتاب "أخبار أبي تمَّام" أنَّه لما أنشد قصيدةً في أحمد بن المعتصم ووصل إلى قوله:
إِقْدَامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةِ حَاتِمٍ = فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ
قال له أبو يوسف يعقوب بن الصباح الكندي الفيلسوف - وكان حاضرًا -: الأمير فوق مَن وصفت، فأطرقَ قليلاً ثم أنشد البيتين:
لا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ = مَثَلاً شَرُودًا فِي النَّدَى وَالبَاسِ
فَاللَّهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ = مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
ولمَّا أخذتِ القصيدة من يدِه لم يجدوا فيها هذيْن البيتيْن، فعجِبوا من سرعتِه وفطنته، ولمَّا خرج قال أبو يوسف - وكان فيلسوف العرب -: هذا الفتى يموت قريبًا.
قصد أبو تمام البصرة فخاف شاعرُها عبدالصمد بن المعذَّل أن يَميل النَّاس إلى أبي تمام ويعرضوا عنه، فكتب إليه هذه الأبيات:
أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ لِلنَّا = سِ وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ
لَسْتَ تَنْفَكُّ رَاجِيًا لِوِصَالٍ = مِنْ حَبِيبٍ أَوْ طَالِبًا لِنَوَالِ
أَيُّ مَاءٍ يَبْقَى لِوَجْهِكَ هَذَا = بَيْنَ ذُلِّ الهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ
فلمَّا وقف أبو تمام على الأبيات قال من فوره:
أَفِيَّ تَنْظِمُ قَوْلَ الزُّورِ وَالفَنَدِ = وَأَنْتَ أَنْقَصُ مِنْ لا شَيْءَ فِي العَدَدِ
أَشْرَجْتَ قَلْبَكَ مِنْ غَيْظٍ عَلَى حَنَقٍ = كَأَنَّهَا حَرَكَاتُ الرُّوحِ فِي الجَسَدِ
أَقْدَمْتَ وَيْلَكَ مِنْ هَجْوِي عَلَى خَطَرٍ = كَالعِيرِ يُقْدِمُ مِنْ خَوْفٍ عَلَى الأَسَدِ
فلمَّا قرأ عبدالصَّمد البيت الأوَّل قال: ما أحسنَ عِلْمَه بالجدل! ولمَّا قرأ البيت الثاني قال: الإشراج من عمل الفرَّاشين ولا مدخل له ها هنا، فلمَّا قرأ البيت الثَّالث عضَّ على شفته.
ولمَّا مدح أبو تمَّام محمَّد بن عبدالملك الزيَّات الوزير بقصيدته التي منها:
دِيمَةٌ سَمْحَةُ القِيَادِ سَكُوبُ = مُسْتَغِيثٌ بِهَا الثَّرَى المَكْرُوبُ
لَوْ سَعَتْ بُقْعَةٌ لإِعْظَامِ أُخْرَى = لَسَعَى نَحْوَهَا المَكَانُ الجَدِيبُ
قال ابن الزيَّات: يا أبا تمَّام، إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظِك وبديع معانيك ما يزيد حسنًا على بهيّ الجواهر في أجياد الكواعب، وما يدَّخر لك شيء من جزيل المكافأة إلاَّ ويقصر عن شعرك في الموازاة.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أنَّ عُمر بن الخطَّاب استعمل المغيرة بن شعبة على البحْرين فكرِهوه وأبغضوه، قال: فعزل عنهم فخافوا أن يردَّ عليهم فقال دهقانهم: إن فعلتم ما أمرتُكم به لم يردَّ علينا، قالوا: مُرْنا بأمرك، قال: تَجمعون مائةَ ألف درهم حتَّى أذْهب بها إلى عمر وأقول: إنَّ المغيرة اختان هذا فدفعه إليَّ، قال: فجمعوا المائة ألف درهم وأتى عمر، فقال: إنَّ المغيرة اختان هذا ودفعه إليَّ، قال: فدعا عمر المغيرة فقال: ما يقول هذا؟ قال: كذَب - أصلحك الله - إنَّما كانت مائتَي ألف، قال: فما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للعِلْج: ما تقول؟ قال: لا والله لأصدقنَّك أصلحك الله، والله ما دفع إليَّ قليلاً ولا كثيرًا، فقال عمرُ للمغيرة: ما أردتَ إلى هذا العِلْج؟ قال: الخبيث كذَب عليَّ فأحببتُ أن أخزيه.
قال ابن الكلبي: لمَّا فتح عمرو بن العاص قيسارية، سار حتَّى نزل على غزَّة، فبعث إليه علجُها أنْ أرسل رجلاً من أصحابِك أكلِّمه، ففكَّر عمرو فقال: ما لهذا العلج أحدٌ غيري، فقام حتَّى دخل على العلج فكلَّمه، فسمع كلامًا لم يسمع مثله قطّ، فقال له العلج: حدِّثْني هل من أصحابِك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هواني عندهم إذْ بعثوني إليك وعرَّضوني إلى ما عرضوني، فلا يدْرون ما تصنع بي، قال: فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البوَّاب: إذا مرَّ بك فاضرب عنقه وخُذ ما معه، فمرَّ برجُل من النَّصارى من غسَّان فعرفه فقال: يا عمرو قد أحسنت الدّخول فأحسن الخروج، فرجع، فقال له الملك: ما ردَّك إليْنا؟ قال: نظرتُ فيما أعطيتَني فلم أجد ذلك ليسعَ بني عمّي، فأردتُ أن آتيَك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرًا من أن يكون عند واحد، قال: صدقت أعجِلْ بهم، وبعث إلى البوَّاب: خلّ سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفِت حتَّى إذا أمن، قال: لا عدتَ لمثلِها أبدًا، فلمَّا صالحه عمرٌو ودخل عليه العلج، فقال له: أنت هو؟ قال: على ما كان من غدْرك.
قال الشعبي: دخلتُ على عبدالملك بن مروان فجعل يلقمني بيدِه ويقول: يا شعبي، لحديثُك أشهى إليَّ من الماء البارِد، ثمَّ قال: كم عطاك فقلت: ألفي درهم، فجعل يسارّ أهل الشَّام ويقول: لحَنَ العراقي، ثمَّ قال: كم عطاؤُك؟ لأردّ قولي فيغلطني، فقلت: ألفَا درهم، فقال: ألم تقُل: ألفي درهم؟ فقلت: لحنتَ يا أميرَ المؤمنين فلحنتُ؛ لأنّي كرهْتُ أن تكون راجلاً وأكون فارسًا، فقال: صدقت، واستحيا[164].
تكلَّم شابّ عند الشَّعبي، فقال الشَّعبي: ما سمعنا بهذا! فقال الشَّابّ: كلّ العلم سمعتَ؟ قال: لا، قال: فشطره؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا في الشَّطر الَّذي لم تسمعْه، فأفحم الشعبي.
قال ابن الجوزي: بلغَنَا عن عمارة بن حمزة أنَّه دخل على المنصور فجلس على مرتبته المرسومة له، فقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومَن ظلمك؟ قال: عمارة غصبني ضيْعتي، فقال المنصور: قم يا عمارة فاجلس مع خصمِك، قال: ما هو لي بِخصم، قال: وكيف وهو يتظلَّم منك؟ قال: إن كانت الضَّيعة له لم أنازعْه فيها، وإن كانت لي فقد تركتُها له، ولا أقوم من مجلس شرَّفني أمير المؤمنين بالرِّفْعة فيه فأجلس في أدناه بسبب ضيْعة[165].
قال المبرّد: سأل المأمونُ يحيى بن المبارك عن شيء، فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درُّك ما وضعت واو قطّ موضعًا أحسن منها في هذا الموضع، ووصله وجمله[166].
قال غيلان القدري لربيعة بن عبدالرحمن: أنشدك الله أترى الله يحب أن يُعْصى؟ فقال ربيعة: أنشدك الله أترى الله يُعْصَى قسرًا، فكأنَّ ربيعة ألقم غيلان حجرًا.
أبو عليّ بن سينا الرَّئيس:
كان ذا ذهن حادّ، وذكاء خارق، وبرز منذ الصّغر، اشتغل في طلب العلم صغيرًا، وحصل عدَّة علوم قبل أن يحتلِم، وتنقَّل في مدائن كثيرة من أجل العلْم والتَّحصيل، ولمَّا بلغ عشر سنين كان قد أتْقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهند والجبر والمقابلة، ثمَّ توجَّه نحوهم الحكيم أبو عبدالله الناتلي فأنزله أبو الرئيس عنده، وكان ذا مال ووجاهة، وابتدأ أبو علي يقرأ على الناتلي فقرأ عليه كتاب "إيساغوجي" وأحكم عليه علم المنطق وإقليدس والمجسطي وفاقه أضعافًا كثيرة، حتَّى أوضح له رموزه وفهمه إشكالات لم يكن الناتلي يدريها، وكان أبو عليّ يَختلف إلى غير هذا العالم من أجْل العلم والمعرفة في فنون عديدة حتَّى حذقها، ثمَّ رغب بعد ذلك في علم الطّبّ وتأمّل الكتب المصنفة فيه، وعالج الناس لا رغبة في التكسّب، ونال في الطب المنزلة الرفيعة والشّهرة الذَّائعة في أقلّ مدَّة، وتردَّد عليه فضلاء هذا الفنّ يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المقتسبة من التجربة وسنُّه إذ ذاك نحو ستّ عشرة سنة، ولم يستكمل ثمانيَ عشرة سنة من عمره إلاَّ وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرِها التي عاناها.
وكان أبو علي بن سينا في مدَّة اشتغاله بطلب العلم لم ينَم ليلة واحدة بكمالها، ولا اشتغل في النَّهار بشيء سوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضَّأ وقصد المسجد الجامع وصلَّى ودعا الله - عزَّ وجلَّ - أن يسهِّلها عليه ويفتح مغلقها له.
وذكر عند الأمير نوح الساماني صاحب خراسان في مرضِه فأحضره وعالجه حتى برئ، واتَّصل به وقرب منه، ودخل دار كتبه وكانت عديمة المثل، فيها من كلّ فنّ الكتُب المشهورة بأيدي النَّاس وغيرها، وحصل نخب فرائدِها واطَّلع على أكثر علومها، واتَّفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة فتفرَّد أبو علي بما حصله من علومها.
وبلغت مصنَّفات أبي علي بن سينا حوالي مائة مصنَّف ما بين مطوَّل ورسائل في فنون شتَّى، ومن مؤلَّفاته كتاب "الشفاء في الفلسفة"، "النجاة" و"الإشارات" و"القانون"، وغير ذلك، وله من الرسائل رسالة "حي بن يقظان"، ورسالة "سلامان" ورسالة "الطير"، وسواها.
وقال الأصمعي: قال أبو الدرداء: إنِّي لأستجمّ نفسي ببعض الباطل؛ كراهةَ أن أحمل عليها من الحق فأكلها.
نبوغ العميان
عَقيل بن أبي طالب أبو يزيد الهاشمي أخو علي - رضي الله عنهما - قال له رسول الله ﷺ: ((يا أبا يزيد، إنّي أحبّك حبَّين: حبًّا لقرابتك منّي، وحبًّا لما كنت أعلم من حبّ عمّي إيَّاك))[167].
قدم البصرة ثمَّ أتى الكوفة ثمَّ الشَّام، وتوفي في خلافة معاوية وله دار بالمدينة مذْكورة، وكان قد أخرج إلى بدْرٍ مكْرهًا ففداه عمّه العبَّاس، ثمَّ إنَّه أتى مسلمًا قبل الحديْبية وشهد غزوة مؤتة، وتوفِّي في حدود الخمسين وقد أضرَّ بصره، وروى له النَّسائي وكان أسنَّ من أخيه جعفر بعشر سنين، وجعفر أسنّ من عليّ بعشر سنين.
وكان عَقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيَّامهم، ولكنَّه كان مبغَّضًا إليْهم؛ لأنَّه كان يعدّ مساوئهُم، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله ﷺ يصلِّي عليها، ويجتمع إليْه في علم النَّسب وأيَّام العرب، وكان أسرع النَّاس جوابًا، وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك.
وكان الَّذين يتحاكم إليْهِم ويوقف عند قولِهم في علم النَّسب أربعة: عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزُّهري وأبا جهم بن حذيفة العدوي وحويطب بن عبدالعزى، وعقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب قريْش، فعادَوه بذلك وقالوا فيه الباطل، ونسبوه إلى الحُمق واختلقوا عليه أحاديث مزوَّرة، وكان ممَّا أعانَهم عليه في ذلك مغاضبته لأخيه عليّ وخروجه إلى معاوية وإقامته معه.
وقال معاوية يومًا بحضرته: هذا أبو يزيد لوْلا علمه بأنِّي خيرٌ له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي وأسأل الله خاتمة خير.
ولمَّا التحق عَقيل بمعاوية بالغ في إكرامه إرْغامًا لعلي، فلمَّا قُتِل عليّ واستقلَّ معاوية بالأمر ثقل عليه أمر عقيل، فكان يسمعه ما يكره لينصرف عنه، فبيْنما هو يومًا في مجلس حفل بأعيان النَّاس من الشَّاميين إذ قال معاوية: أتعرِفون أبا لهب الَّذي أنزل الله في حقِّه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1] مَن هو؟ فقال أهل الشَّام: لا، فقال معاوية: هو عمّ هذا، وأشار إلى عقيل، فقال عقيل: أتعرفون امرأتَه الَّتي قال الله في حقِّها: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4] مَن هي؟ فقالوا: لا، فقال عقيل: هي عمَّة هذا وأشار إلى معاوية، وكانت عمَّته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف هي زوْجة أبي لهب عبدالعزى.
ويَحسن أن نذكر هنا بعضًا من مشاهير العميان سواء مَن وُلِد أعمى أو حصل له العمى بعد ذلك، فمِن الصحابة - رضي الله عنهم -: البراء بن عازب، جابر بن عبدالله، حسان بن ثابت، الحكم بن أبي العاص، سعد بن أبي وقاص، سعيد بن يربوع، صخْر بن حرب أبو سفيان، العبَّاس بن عبدالمطلب، عبدالله بن الأرقم، عبدالله بن عمر، عبدالله بن العباس، عبدالله بن عمير، عبدالله بن أبي أوْفى، عتبان بن مالك، عتبة بن مسعود الهذلي، عثمان بن عامر أبو قحافة، عقيل بن أبي طالب، عمرو بن أم مكتوم، قتادة بن النعمان، كعب بن مالك، مالك بن ربيعة، أبو أسيد الساعدي، مخرمة بن نوفل.
ومن التَّابعين: عطاء بن أبي رباح، أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، قتادة بن دعامة، أبو عبدالرحمن السُّلمي، أبو هلال الراسبي[168].
وعن قتادة بن النّعمان قال: أُهْدي إلى رسول الله ﷺ قوسٌ فدفعها رسولُ الله ﷺ إليَّ يوم أحُد فرميت بها بين يدَي رسول الله ﷺ حتَّى اندقَّت ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله ﷺ ألقى السهام، وكلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله ﷺ استقبلته، فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي على خدّي، وافترق الجمع، فأخذت حدقتي بكفّي فسعيت بها في كفّي إلى رسول الله ﷺ فلمَّا رآها رسول الله ﷺ في كفّي دمعت عيناه فقال: اللهُمَّ إنَّ قتادة فدى وجْه نبيِّك بوجهِه، فاجعلها أحسن عينيْه وأحدَّهما نظرًا، فكانت أحسن عيني وأحدَّهما نظرًا.
وقال في ذلك الخرنق الأوسي:
وَمِنَّا الَّذِي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عَيْنُهُ = فَرُدَّتْ بِكَفِّ المُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ
فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لأَحْسَنِ حَالِهَا = فَيَا طِيبَ مَا عَيْنٍ وَيَا طِيبَ مَا يَدِ
قال صلاح الدين الصفدي في "نكت الهميان":
أميَّة بن الأشكر الكناني، من بني ليث، الصَّحابي t شاعر مخضرَم كان من سادات قومِه، وكان له ابنٌ اسمه كلاب، اكتتب نفسَه في الجند الغازي مع أبي موسى الأشعري في خلافة عمر t فاشتاقه أبوه وكان قد أضرَّ فأخذ قائده بيدِه ودخل به على عمر وهو في المسجد فأنشده:
أَعَاذِلَ قَدْ عَذَلْتِ بِغَيْرِ قَدْرٍ = وَمَا تَدْرِينَ عَاذِلَ مَا أُلاقِي
فَإِمَّا كُنْتِ عَاذِلَتِي فَرُدِّي = كِلابًا إِذْ تَوَجَّهَ لِلعِرَاقِ
فَتَى الفِتْيَانِ فِي عُسْرٍ وَيُسْرٍ = شَدِيدُ الرُّكْنِ فِي يَوْمِ التَّلاقِ
فَلا وَأَبْيكَ مَا بَالَيْتَ وَجْدِي = وَلا شَغَفِي عَلَيْكَ وَلا اشْتِيَاقِي
وَإِيقَادِي عَلَيْكَ إِذَا شَتَوْنَا = وَضَمَّكَ تَحْتَ نَحْرِي وَاعْتِنَاقِي
فَلَوْ فَلَقَ الفُؤَادَ شَدِيدُ وَجْدٍ = لَهَمَّ سَوَادُ قَلْبِي بِانْفِلاقِ
سَأَسْتَعْدِي عَلَى الفَارُوقِ رَبًّا = لَهُ عَمَرَ الحَجِيجُ إِلَى بُسَاقِ
وَأَدْعُو اللَّهَ مُحْتَسِبًا عَلَيْهِ = بِبَطْنِ الأَخْشَبَيْنِ إِلَى دُقَاقِ
إِنِ الفَارُوقُ لَمْ يَرْدُدْ كِلابًا = عَلَى شَيْخَيْنِ هَامُهُمَا زَوَاقِ
فبكى عمر t وكتب إلى أبي موسى الأشعري بردّ كلاب إلى المدينة، فلمَّا قدم ودخل عليْه، قال عمر: ما بلغ من برِّك بأبيك؟ قال: كنت أوثره وأكفيه أمرَه، وكنت إذا أردتُ أن أحلب له لبنًا أجيء إلى أغْزَر ناقة في إبله فأريحها وأتركها حتَّى تستقرَّ ثمَّ أغْسل أخلافَها حتَّى تبرد ثمَّ أحلب له فأسقيه، فبعث عمر t إلى أميَّة فجاءه، فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى، فقال له: كيف أنتَ يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم، كنت أشتهي أن أرى كلابًا فأشمّه شمَّة وأضمّه ضمَّة قبل أن أموت، فبكى عمر t وقال: ستبلغ في هذا ما تُحبُّ إن شاء الله تعالى، ثمَّ أمر كلابًا أن يحلب لأبيه ناقةً كما كان يفعل ويبعث بلبنِها إليه، ففعل وناوله عمر t الإناء وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب، فأخذه فلمَّا أدناه من فيه قال: والله يا أمير المؤمنين إنّي لأشمّ رائحة يدي كلاب، فبكى عمر t وقال: هذا كلاب عندك وقد جئْناك به، فوثب إلى ابنِه وضمَّه وجعل عمر t والحاضرون يبكون وقالوا لكلاب: الزَم أبويك، فلم يزل مقيمًا عندهما إلى أن ماتا، والله أعلم.
قتادة بن دعامة السدوسي: أبو الخطَّاب الأعمى أحد علماء التَّابعين والأئمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التَّابعين، منهم سعيد بن المسيب والبصْري وأبو العالية وزرارة بن أبي أوْفى وعطاء ومجاهد ومحمَّد بن سيرين ومسروق وأبو مجلز وغيرهم، وحدَّث عنه جماعات من الكبار، كأيّوب وحمَّاد بن سلمة وحُميد الطَّويل وسعيد بن أبي عروبة والأعمش وشعبة والأوزاعي ومسعر ومعمر وهمام.
قال ابن المسيب: ما جاءني عِراقي أفضل منه.
وقال بكر المزني: ما رأيتُ أحفظ منه.
وقال محمَّد بن سيرين: هو من أحفظ الناس.
وقال مطر: كان قتادة إذا سمِع الحديث يأخذه العويل والزَّويل حتَّى يحفظه.
وقال الزُّهري: هو أعلم من مكحول.
وقال معمر: ما رأيتُ أفقه من الزُّهري وحماد وقتادة.
وقال قتادة: ما سمعت شيئًا إلاَّ وعاه قلبي.
وقال أحمد بن حنبل: هو أحْفظ أهل البصرة لا يسمع شيئًا إلاَّ حفظه، وقُرئتْ عليه صحيفة جابر مرَّة فحفِظَها.
وذُكِر يومًا فأثْنى على عمله وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتَّفسير وغير ذلك[169].
اليمان بن أبي اليمان أبو بشْر البندنيجي، أصلُه من الأعاجم من الدهاقين، وُلِد أكمه لا يرى الدنيا في سنة 200 هـ وتوفي سنة 284هـ.
نشأ بالبندنيجين، وحفظ هناك أدبًا كثيرًا، وأشعارًا كثيرة، وكان بها أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم صاحب أبي عبيدة يروي كتُبه كلها، وكتب الأصمعي، فلزم أبو بشر ذلك النمط وحفظ من كتب الأثرم علمًا كثيرًا.
قال: حفِظْت في مجلس واحد مائة وخمسين بيتًا من الشعر، وخرج إلى بغداد وسُرَّ من رأى ولقي العلماء، وقرأ على محمَّد بن زياد الأعرابي، وسمع منه، ولقي أبا نصر صاحب الأصمعي وهو ابن أخته، وحفِظ كتاب الأجناس الأكبر، وكانت لأبي بشر ضياع كثيرة وبساتين خلفها أبوه فباعها، وأنفقها في طلب العلم.
ولقي يعقوبَ بن السكيت ولقي الزيادي والرياشي بالبصرة، وقرأ عليهما من حفظه كتبًا كثيرة، ومِن تصانيفه: كتاب التقفية، كتاب معاني الشعر، كتاب العروض، ومن شعره:
أَنَا اليَمَانُ بْنُ أَبِي اليَمَانِ = أَسْعَدُ مَنْ أَبْصَرْتُ فِي العُمْيَانِ
إِنْ تَلْقَنِي تَلْقَ عَظِيمَ الشَّانِ = تُلاقِنِي أَبْلَغَ مِنْ سَحْبَانِ
فِي العِلْمِ وَالحِكْمَةِ وَالبَيَانِ
وقد اشتهر عن كثيرٍ من العميان الذَّكاء، منهم الحافظ الترمذي، والفقيه منصور المصري الشَّاعر، وأبو العيناء، والشَّاطبي المقرئ، وأبو العلاء المعرّي، والسُّهيلي صاحب "الرَّوض الأنف"، وابن سِيده اللغوي، وأبو البقاء العكبري، وابن الخباز النحوي، والنيلي شارح الحاجبية وغيرهم.
وأورد الميداني في الأمثال: أحفظ من العميان.
هبة الله بن عبدالحليم بن إبراهيم: شيخ الإسلام، ومفتي الشام، القاضي شرف الدين أبو القاسم بن القاضي نجم الدين بن القاضي الكبير شمس الدين بن الطاهر بن المسلم الجهني الحموي البارزي، قاضي حماة، صاحب التصانيف.
ولد سنة 645 هـ وتوفي سنة 738 هـ، سمع من أبيه وجده وابن هامل، والشيخ إبراهيم بن الأرموي، وتلا بالسَّبع على التاذفي، وأجاز له نجم الدين البادرائي والكمال الضرير والرشيد العطار وعماد الدين الحرستاني، وعزّ الدين بن عبدالسلام، وبرع في الفقه وغيره.
شارك في الفضائل وانتهت إليه الإمامة في زمانه ورُحل إليه، وكان من بحور العلم قوي الذَّكاء مكبًّا على الطلب لا يفتر ولا يملّ مع الصَّون والدين، والفضل والرزانة والخير والتواضع، وكان جم المحاسن كثير الزيارة للصالحين حسن المعتقد اقتنى من الكتب شيئًا كثيرًا.
وأذِن لجماعة بالإفتاء وحكم بحماة دهرًا، ثمَّ إنَّه ترك لحكم وذهب بصره وحجَّ مرَّات، وحدّث بأماكن، وحمل عنه خلق، ولما توفي أغلقت حماة لمشهده.
وله من التصانيف: تفسيران، وكتاب البديع في القرآن، وشرح الشاطبية، وكتاب الشرعة في السبعة، والناسخ والمنسوخ، ومختصر جامع الأصول، والوفا في شرف المصطفى، والأحكام على أبواب التنبيه وغريب الحديث، وشرح الحاوي أربع مجلدات ومختصر التنبيه والزبدة في الفقه، وكتاب المناسك، وكتاب عروض وغير ذلك.
ووقف كتبه وهي تساوي مائة ألف درهم، وباشر القضاء بلا راتِب لغناه عنه، ولا اتَّخذ درَّة ولا عزَّر أحدًا قط، ولا ركب بمهماز ولا بمقرعة، وعيِّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وكانت جلالته عجيبة مع تواضعه.
وقال صلاح الدين الصفدي بعد أن أوْرد ترجمته: وقال لي غير واحد: إنَّ الشيخ برهان الدين بن تاج الدين الغزَّاوي شيخ دمشق، كان يقول مع جلالته: وددتُ لو سافرت إلى حماة وقرأت التَّنبيه على القاضي شرف الدين البارزي، وله ما يقرأ معكوسًا "سور حماة بربِّها محروس".
قال الصفدي في "نكت الهميان":
وحكى لي الشيخ يحيى بن محمد الخباز الحموي قال: كان عندنا في حماة أعمى يعرف بنجم يلعب بالحمام ويصيد الطير الغريب، فاستبعدتُ صيد الطائر الغريب، فقال لي: سألتُه عن ذلك، فقال: إنَّ طيوري أبخرها ببخور أعرفه، وأطيرها، فإذا طارت ونزلت ومعها الطير الغريب هدرتْ حوله فأعرف أنَّ معها غريبًا فأرمي العب[170] على الجميع وآخذها واحدًا بعد واحد فأشمه، فالَّذي ليس فيه شيء من بخوري أعرف أنَّه غريب فأصطاده.
ثم قال الصفدي: وأما أنا فقد رأيتُ بالديار المصرية إنسانًا يعرف بعلاء الدين بن قيران أعمى، وهو عالية في الشّطرنج يلعب ويتحدَّث وينشد الشِّعْر، ويتوجَّه إلى بيت الخلاء ويعود إلى اللعب ولا يتغيَّر عليه نقل شيء من القطع، وهذا معروف يعرفه أصحابنا في القاهرة.
جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم المتوفى سنة 711 هـ هو أنصاري من ولد رويفع بن ثابت الصحابي، سمع من يوسف بن المخيلي وعبدالرحمن بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم وابن المقير وطائفة، وقد عمِّر، وأكثروا عنه، كان فاضلاً عنده تشيع بلا رفض، خدم في ديوان الإنشاء بمصر ثم ولي نظر طرابلس، وكتب عنه الشيخ شمس الدين الذهبي، ولد يوم الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة 630 هـ وتوفي سنة 711 هـ، وقد ترك بخطِّه خمسمائة مجلد.
قال الصفدي: وما أعرف في كتُب الأدب شيئًا إلاَّ وقد اختصره، من ذلك كتاب الأغاني الكبير رتَّبه على الحروف مختصرًا، وزهر الآداب للحصْري، واليتيمة، والذَّخيرة، ونشوان المحاضرة، واختصر تاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، وذيل ابن النجَّار عليه، وجمع بين صحاح الجوهري، وبين المحكم لابن سيده، وبين الأزهري في سبع وعشرين مجلدة.
قال الصفدي: ورأيتُ أنا أوَّلها بالقاهرة، وقد كتب عليه أهل ذلك العصر يقرِّظونه ويصفونه بالحسن، كالشيخ بهاء الدين بن النحَّاس، وشهاب الدين محمود، ومحيى الدين بن عبدالقاهر وغيرهم[171].
واختصر صفوة الصفوة، ومفردات ابن البيطار، وكتاب التيفاشي فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب، اختصره في عشر مجلدات، وسماه سرور النفس.
قال الصفدي: ورأيت كتاب الصِّحاح للجوهري في مجلَّدة واحدة بخطِّه، في غاية الحسن، ولم يزل يكتب إلى أن أضرَّ وعمِي في آخر عمره، رحمه الله تعالى.
عبدالملك بن إبراهيم المقدسي المتوفى سنة 489 هـ ببغداد، فقيه زاهد ورع فرضي، كان إمامًا في الفرائض والحساب وقسمة التركات، وإليه مرجع الناس في ذلك، طلبه الوزير أبو شجاع للقضاء فاعتذر بالعجْز وعلوّ السّنّ، وقال: لو كانت ولايتي متقدِّمة لاستعفيتُ منها، وأنشد:
إِذَا المَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا = فَمَطْلَبُهَا كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
وكان يحفظ "المجمل" لابن فارس و "غريب الحديث" لأبي عبيدة، ولم يعرف أنَّه اغتاب أحدًا قط[172].
قال الصفدي في كتاب "نكت الهميان في أخبار العميان".
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبدالله الذهبي، حافظ لا يُجارى، ولافظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإيهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصحُّ إلى الذهب نسبته وانتماؤه، جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف.
وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى تاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء، إلى أن أنْهاه مطالعة، وقال: هذا كتاب علم.
اجتمعت به وأخذت عنْه وقرأت عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدِّثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف، وأرباب المقالات، وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّن ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواة، وهذا لم أر غيره يعاني هذه الفائدة فيما يورده، توفِّي - رحمه الله - ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة 748 هـ ودفن في مقابر باب الصغير.
أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السُّبكي الشَّافعي قال: عُدته ليلة مات فقلت له: كيف تجِدك؟ فقال: في السياق، وكان قد أضرَّ - رحمه الله تعالى - قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، فكان يتأذَّى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا رجع إليْك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء وأنا أعرف بنفْسي؛ لأنَّني ما زال بصري ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه.
وأخبرني عن مولده فقال: في ربيع الآخر سنة 673 هـ، وارتحل وسمع بدمشق وبعلبكَّ وحمص حماة وحلب وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغير ذلك.
ومن تصانيفه: "تاريخ الإسلام" - وقد قرأت منه عليه المغازي والسيرة النبوية إلى آخِر أيام الحسن رضي الله عنه، وجميع الحوادث إلى آخر سنة 700 هـ - والثَّلاثين البلدية ومن تكلِّم فيه وهو موثق - وقد كتبتُهما بخطي وقرأتهما عليه - وتاريخ النبلاء والدول الإسلامية، وطبقات القراء - وسمَّاه القرَّاء الكبار على الطبقات والأعصار.
تناولته منه وأجازني روايته عنه وكتبتُ عليه:
عَلَيْكَ بِهَذِهِ الطَّبَقَاتِ فَاصْعَدْ = إِلَيْهَا بِالثَّنَا إِنْ كُنْتَ رَاقِ
تَجِدْهَا سَبْعَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ = كَنَظْمِ الدُّرِّ فِي حُسْنِ اتِّفَاقِ
تُجَلِّي عَنْكَ ظُلْمَةَ كُلِّ جَهْلٍ = بِهِ أَضْحَى مَقَالُكَ فِي وَثَاقِ
فَنُورُ الشَّمْسِ أَحْسَنُ مَا تَرَاهُ = إِذَا مَا لاحَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ
وطبقات الحفاظ مجلدان، وميزان الاعتدال في الرجال في ثلاثة أسفار، وكتاب المشتبه في الأسماء والأنساب مجلد، نبأ الرجال مجلد، تذهيب التهذيب، اختصار تهذيب الكمال للشيخ جمال الدين المزي، واختصار كتاب الأطراف أيضًا للمزي، والكاشف اختصار التذهيب، اختصار السنن الكبير للبيهقي، تنقيح أحاديث التعليق لابن الجوزي، المستحلى في اختصار المحلى، المقتنى في الكنى، المغني في الضعفاء، العبر في خبر من غبر مجلدان، اختصار تاريخ نيسابور مجلد، اختصار المستدرك للحاكم، اختصار تاريخ ابن عساكر في عشرة أسفار، اختصار تاريخ الخطيب مجلدان، الكبائر جزآن، تحريم الإدبار جزآن، أخبار السد، أحاديث مختصر ابن الحاجب، تدقيق أهل التَّوفيق على مناقب الصديق، نعم السمر في سيرة عمر، التبيان في مناقب عثمان، فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب - وقرأتُه عليه من أوَّله إلى آخره - معجم أشياخه وهم ألف وثلاثمائة شيخ، اختصار كتاب الجهاد لبهاء الدين بن عساكر، ما بعد الموت مجلد، اختصار كتاب القدر للبيهقي ثلاثة أجزاء، هالة البدر في عدد أهل بدْر، اختصار تقويم البلدان لصاحب حماة، نفض الجعبة في أخبار شعبة، قض نهارك بأخبار ابن المبارك، أخبار أبي مسلم الخراساني، وله في تراجم الأعيان لكل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمَّة الأربعة ومَن جرى مجراهم، لكنَّه أدخل الكلَّ في تاريخ النبلاء، وقد أجازني رحِمه الله - تعالى - رواية جميع ما يجوز له تسميعه.
أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي: أحد الأئمة الأعلام صاحب السنن المعروفة المشهور، إحدى الكتب الستَّة، كان ضريرًا، ويقال: بل كان أكمه، وله من المؤلفات غيرها الشمائل، وأسماء الصَّحابة، والعلل.
قال أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي القزويني في كتابه علوم الحديث: محمد بن عيسى بن سورة بن شدَّاد الحافظ متَّفق عليه، له كتاب في السنن، وكتاب في الجرح والتعديل، وروى عنه أبو محبوب والأجلاَّء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم.
قال الترمذي: صنَّفت هذا المسند الصَّحيح وعرضته على علماء الحجاز، فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب، فكأنما في بيته نبي ينطق.
أبو البقاء عبدالله بن الحسين بن عبدالله العكبري الضرير النحوي الحنبلي، صاحب إعراب القرآن العزيز، وكتاب اللباب في النحو، وله حواشٍ على المقامات، ومفصَّل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحًا دينًا، مات وقد قارب الثمانين.
وكان إمامًا في اللغة، فقيهًا مناظرًا، عارفًا بالأصلين والفقه[173].
أبو القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع التي لم يُسبق إليها ولا يلحق فيها.
وبلده شاطبة في الأندلس، وقد أريد منه أن يلي الخطابة، فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصْف الملوك، خرج إلى الحج وقدم الإسكندرية فولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة فكانت وفاته بها، وكان دينًا ورعًا وقورًا، لا يتكلَّم فيما لا يعنيه[174].
قال صلاح الدين الصفدي في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان):
محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل القاضي جمال الدين قاضي حماة الشافعي الحموي، أحد الأئمَّة الأعلام، ولد بحماة ثاني شوال سنة 604 هـ وعمر دهرًا طويلاً وتوفي سنة 697 هـ، وبرع في العلوم الشرعية والعقلية، والأخبار وأيام الناس، وصنف ودرس وأفتى واشتغل وبعد صيتُه واشتهر اسمه.
وكان من أذكياء العالم، ولي القضاء مدة طويلة وحدَّث عن الحافظ زكي الدين البِرزالي بدمشق وبحماة، وتخرج به جماعة، وما زال حريصًا على الاشتغال، وغلب عليه الفكر إلى أن صار يذهب عن أحوال نفسه وعمَّن يجالسه، ولما مات رحمه الله - تعالى - يوم الجمعة رابع عشر شوال من السنة المذكورة، توفي عن عمر يبلغ 94 سنة.
وصنف في الهيئة وله تاريخ، واختصر الأغاني، قال صلاح الدين الصفدي: وملكتُ باختصاره نسخة عظيمة إلى الغاية في ثلاثة مجلدات، وخطُّه عليها بعدما أضرَّ، وهي كتابة مَن قد عمي رحمه الله، وله مختصر الأربعين، وشرح المرجز للأفضل الخونجي، وشرح الجمل له، وهداية الألباب في المنطق، وشرح قصيدة ابن الحاجب في العروض والقوافي، والبارع الصالي، ومختصر الأدوية لابن البيطار.
وقيل إنَّه جهزه بعض ملوك مصر (أظنه الصالح) إلى الأنبرور ملك الفرنج في الرسيلة، فلتقاه وعظَّمه وأحضر له الأرغل يومًا وضرب به قدَّامه، وأراد بذلك ليستخفَّه فيقال: إنَّه ما تحرَّك ولا اهتزَّ وثبت وما أظهر لهم خفَّة لذلك ولا طربًا، إلاَّ أنَّه لمَّا قام وجدوا تحتَه نقط دم، يقال: إنَّه بقي يحكُّ كعبيْه في الأرض إلى أن أدماها، فعظم أمره عند الأنبرور، ثم قال له: يا قاضي، أنا ما عندي ما أسألك عنه لا فقه ولا عربيَّة، وسأله ثلاثين سؤالاً من علم المناظر فبات تلك الليلة وصبَّحه بالجواب عنْها، فصلب الأنبرور على وجهه، وقال: هكذا يكون قسيس المسلمين؛ لأنَّ القاضي لم يكن معه كتب في تلك السفرة، وإنَّما أجابه عن ظهر قلب.
وله أيضًا كتاب "مفرج الكروب في دولة بني أيوب"، وغير ذلك، وقيل إنه كان يُشغل في حلقته في ثلاثين علمًا، وحضر حلقته نجم الدين دبيران الكاتبي المنطقي، وأورد عليه إشكالاً في المنطق، وحكى لي عنه الإمام البارع شمس الدين بن الأكفاني غرائبَ عن حفظه وذكائه.
وحكى لي الحكيم السديد الدمياطي اليهودي قال: جاء ليلةً إليَّ عند الشيخ علاء الدين بن النفيس في بعض سفراته إلى القاهرة، ونام عنده تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة وانفتح بينهما باب البحث، فلم يزالا إلى أن طلع الضَّوء والشَّيخ علاء الدين يبحث معه من غير انزعاج، والقاضي جمال الدين بن واصل يحتد في البحث، ويحمارّ وجهه، فلما طلع الضوء التفت إلى الشيخ علاء الدين، وقال له: يا شيخ علاء الدين، نحن عندنا نكت ومسائل وأطراف، وأما خزائن علم هكذا فما عندنا.
وحكى لي العلامة أثير الدين أبو حيان قال: قدم عليْنا القاهرة مع المظفر فسمعت منه وأجاز لي رواياته ومصنَّفاته، وذلك بالكبش من القاهرة يوم الخميس التاسع والعشرين من المحرم سنة تسعين وستمائة، وهو مِن بقايا من رأيناه من أهل العِلْم الذين ختمت بهم المائة السابعة.
من نوادر العميان
شافع بن علي بن عباس بن إسماعيل بن عساكر الكناني العسقلاني، ثم المصري، له النظم الكثير، والنثر الكبير.
كان جماعة للكتب، قاله الصفدي، وقال: أخبرني الشهاب البوتيجي الكتبي المعروف بزحل، قال: خلف ثمانية عشر خزانة كتبًا نفائس أدبية، وكانتْ زوجته تَعْرف ثمن كل كتاب، وبقيتْ تبيع منها إلى أن أخرجت أنا من القاهرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وأخبرني المذكور أيضًا قال: كان إذا لمس الكتاب وجسه قال: هذا الكتاب الفلاني ملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أيَّ مجلدٍ كان، قام إلى الخزانة التي هو فيها، وتناوله منها كأنه الآن وضعه فيها[175].
قال الصفدي: أحمد بن إبراهيم بن حسن بن إبراهيم بن جعفر بن أحمد بن هشام بن يوسف بن توهيبت القرشي الأموي البهنسي، علم الدين القمني الضرير المفتي الفقيه، ولد سنة عشرين وستمائة، وتوفِّي - رحمه الله تعالى - سَنة ست وثمانين وستمائة، روى عن ابن الجميزي وغيره، وأعاد بالظاهرية بالقاهرة، وكانوا يكتبون عنه في الفتوى.
أخبرني من لفظه الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان - رحمه الله تعالى - قال: كان فقيهًا فاضلاً، له مشاركة في نحو وأصول، وكان في الحفظ آية، يحفظ السُّطور الكثيرة والأبيات مِن سمعة واحدة، وكان يقعد يومَ الجمعة تحت الخطيب فيحفظ الخطبة من إنشاء الخطيب في مرة واحدة، ويمليها بعد ذلك، إلا أنه كان لا يثبت له الحفظ، وكان فيه صلاحٌ وديانة، وله أدب ونَظْم ونَثْر.
قال الصفدي: أحمد بن محمد بن علي بن نمير أبو سعيد الخوارزمي الضرير الفقيه العلامة الشافعي، تلميذ الشيخ أبي حامد، قال الخطيب: درس وأفتى، ولم يكن بعد أبي الطيب الطبري أفقهُ منه، وتوفِّي - رحمه الله - سنة 448 هـ.
قال الصفدي: أحمد بن المختار بن محمد بن عبيد بن جبر بن سليمان أبو العباس بن أبي الفتوح بن أخي مهذب الدولة، كان أحمد هذا وأبوه من أمراء البطيحة، وكان كثير الشعر، قدم بغداد ومدح الإمامين المسترشد والمستظهر، ومدح المقتفي لأمر الله، وتوفي - رحمه الله - سنة 548 هـ، وكان قد مات له ابن فبكى عليه إلى أن ذهبتْ عينه، ثم تلتها العين الأخرى، فقال يشكو الزمان:
كَأَنَّمَا آلَى عَلَى نَفْسِهِ = أَلاَّ يَرَى شَملاً لاثْنَيْنِ
لَمْ يَكْفِهِ مَا نَالَ مِنْ مُهْجَتِي = حَتَّى أَصَابَ العَيْنَ بِالعَيْنِ
قال الصفدي: أحمد بن مسعود بن أحمد بن ممدود بن برسق الأديب الفاضل شهاب الدين أبو العباس الضرير السنهوري، المعروف بالمادح؛ لأنه كان يكثر من مدائح النبي ﷺ كان حافظًا للشعر، وله قدرة على النظم، ينظم القصيدة، وفي كل بيت حروف المعجم، وفي كل بيت طاء، وفي كل بيت ضاد، وهكذا من هذا اللزوم.
وأخبرت عنه أنه كان أولاً كثير الأهاجي للناس، ثم إنه رفض ذلك، ورجع إلى مدائح النبي - صلى الله عليه وسلم.
قال الصفدي: أحمد بن يوسف بن حسن بن رافع، الإمام العلامة الزاهد الكبير، موفق الدين أبو العباس الموصلي الكواشي، ولد بكواشة (وهي قلعة من أعمال الموصل) سنة تسعين أو إحدى وتسعين وخمسمائة، وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمانين وستمائة.
قرأ القرآن على والده، واشتغل وبرع في القراءات والتفسير والعربية والفضائل، سمع من أبي الحسين بن روزبة، وقدم الشام، وأخذ عن السخاوي وغيره، وحج وزار القدس وعاد إلى بلده وتعبَّد.
وكان عديم المثل، زهدًا وصلاحًا، وصدقًا وتبتلاً، وكان السلطان ومن دون يزورونه، ولا يعبأ بهم، ولا يقوم لهم، ولا يقبل منهم شيئًا، وله كشف وكرامات، وأضر قبل موته نحو عشرين سنة.
صنف التفسير الكبير والصغير، وأرسل نسخة إلى مكة، وإلى المدينة نسخة، وإلى القدس نسخة، وكان كثيرَ الإنكار على بدر الدين صاحب الموصل، وإذا شفع عنده لا يرده.
قال رجل للقاسم بن محمد - وقد ذهب بصره - لقد سلبت أحسن وجهك، قال: صدقت، غير أني منعت النظر إلى ما يُلهي، وعوضت الفكرة في العمل فيما يجدي.
وكتب مبارك أخو سفيان الثوري إليه يشكو ذهاب بصره، فكتب إليه سفيان: أما بعد فقد فهمت كتابك، فيه شكاية ربك، فاذكر الموت يهن عليك ذَهاب بصرك.
قال بعضهم لبشار بن برد: ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيرًا منها، فبم عوضك؟ قال: بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
قيل: إن الأعمش كان يقوده النخعي وهو أعور، فيصيح بهما الصبيان: عين بين اثنين، فكان النخعي إذا انتهى إلى مجامعهم خلى عنه، فقال له الأعمش: ما عليك يأثمون وتؤجر، فقال النخعي، وما عليك أن يسلموا وتؤجر!
وعن أبي يوسف قال: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب المنصور - وكان يعادي أبا حنيفة: - يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدك، (كان عبدالله بن عباس يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلاَّ متصلاً باليمين)، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف؟ يحلفون لك، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور وقال: يا ربيع، لا تعرض لأبي حنيفة، فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تشيط بدمي؟! قال: لا ولكنَّك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك، وخلصت نفسي[176].
حدَّث عبدالواحد بن غياث قال: كان أبو العباس الطوسي سيئ الرأي في أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يعرف ذلك، فدخل أبو حنيفة على أبي جعفر أمير المؤمنين، وكثر الناس فقال الطوسي: اليوم أقيد أبا حنيفة، فأقبل عليه فقال: يا أبا حنيفة، إن أمير المؤمنين يدعو الرجل منا فيأمره بضرب عنق الرجل لا يدري ما هو؟ أيسعه أن يضرب عنقه؟ فقال: يا أبا العباس، أمير المؤمنين يأمر بالحق أو الباطل؟ قال: بالحق، قال: أنفذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه، ثم قال أبو حنيفة لمن قرب منه: إنَّ هذا أراد أن يوثقني فربطته[177].
أبو بكر بن سعيد بن الدهان النحوي الأعمى الملقَّب بالوجيه، ولد بواسط، وقدم بغداد فاشتغل بالعربية، فأتقن ذلك وحفظ شيئًا كثيرًا من أشعار العرب، وسمع الحديث، وكان حنبليًّا، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة ثم صار شافعيًّا، وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر:
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الوَجِيهَ رِسَالَةً = وَإِنْ كَانَ لاَ تُجْدِي إِلَيْهِ الرَّسَائِلُ
تَمَذْهَبْتُ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ = وَذَلِكَ لمَّا أَعْوَزَتْكَ المَآكِلُ
أَخَذْتُ بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ دِيَانَةً = وَلَكِنَّمَا تَهْوَى الَّذِي هُوَ حَاصِلُ
وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لاَ شَكَّ صَائِرٌ = إِلَى مَالِكٍ فَانْظُرْ لِمَا أَنْتَ قَائِلُ
وكان يحفظ كثيرًا من الحكايات والأمثال والمُلَح، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يدٌ طولى في نظم الشعر.
وله مدائح حسنة وأشعار رائعة، ومعانٍ فائقة، وربما عارَض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا: وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا كذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية، فأجاب فيها بالجواب، فقال له السائل: أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى فقال: كذبت، وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال الوجيه: أيها الرجل، فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال: بلى، ولكنك تخطئ في الجواب، فقال: فقل أنت ما عندَك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكًا، وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل البعوضة سقطتْ على ظَهْر الفيل، فلما أرادتْ أن تطير قالت له: استمسك، فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسستُ بك حين سقطت فما أحتاج أن أستمسك إذا طرت[178].
أبو الحسين علي بن إسماعيل بن سيده: كان إمامًا حافظًا في اللغة، وكان ضرير البصر، وأبوه من قَبلِه كان ضريرًا، وقد تلقَّى علم العربية واللغة عن أبيه، وقرأ على أبي العلاء صاحب البغدادي.
ألف ابن سيده "المحكم" في مجلدات عديدة، وله شرح الحماسة في ست مجلدات وغير ذلك، وقرأ على الشيخ أبي عمرو بن الطلمنكي كتاب "الغريب"؛ لأبي عبيد سردًا من حفظه، فتعجَّب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب فسمع الناس بقراءته من حفظه.
قال الصفدي في نكت الهميان:
مكي بن ريان بن شبه الماكسيني النحوي أبو الحرم المتوفَّى سنة 603 هـ بالموصل، ضر في آخر عمره، وكان قد قدم بغداد وجالس شيوخها، وقرأ بها على أبي محمد بن الخشاب وأبي الحسن بن العطار، وأبي البركات ابن الأنباري، وقرأ في الموصل على أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي، وغيره، وقرأ عليه أهل الموصل، وتخرج به أعيان زمانه من أهلها، ومضى إلى الشام وعاد إلى الموصل.
كان صالحًا كريمًا، صبورًا على المشتغلين، يجلس لهم من سحر إلى أن يصلِّي العشاء الآخرة، وكان مِن أحفظ الناس للقرآن، ناقلاً للسبع، وكان قد أخذ من كل علم طرفًا، وسمع الحديث فأكثر.
وكان أول حياته في ماكسين[179] يعرف بمُكَيْك (تصغير مكي)، فلما ارتحل عن ماكسين وتميز، واشتغل في طلب العلم، اشتاق إلى وطنه، فعاد إليها وتسامع به الناس فمن كان قد بقي يعرفه زاره وفرح بفضله، فبات تلك الليلة فلما كان من الغد خرج إلى الحمام سحرًا، فسمع امرأة تقول من غرفتها لأخرى: ما تدرين مَن جاء؟ قالت: لا، قالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا أقمت في بلد أدعى فيه بمكيك، وسافَر من وقته إلى الموصل بعدما كان قد نوى الإقامة في وطنه.
قال الصفدي في نكت الهميان: ونقلت من بعض المجاميع قال بعض السادة: كنا في جنازة وحضرها معنا أبو بكر الضرير، وبين يدي الجنازة صبيان يبكون ويقولون من لنا بعدك يا أبتِ؟! فلما سمعهم أبو بكر يقولون ذلك قال: الذي لأبي بكر الضرير، فسألته عن سبب ذلك، فقال: كان أبي من فُقراء المسلمين، وكان يبيع الخزف، وكانت لي أخت أسن مني، وكنت قد أتي عليَّ في بصري، فانتبهت ليلةً فسمعت أبي يقول لأمي: أنا شيخ كبير، وأنت أيضًا قد كبرت وضعفت، وقد قرب منا ما بَعُد، ثم أنشد:
وَإِنَّ امْرَأً قَدْ سَارَ خَمْسِينَ حِجَّةً = إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
وهذه الصبية تعيش بصحة جسمها، وتخدم الناس، وهذا الصبي ضرير قطعة لحم ليت شعري ما يكون منه؟ ثم بكيا وداما على ذلك وقتًا من الليل، فأحزنا قلبي فأصبحتُ ومضيت إلى المكتب على عادتي، فما لبثت إلا يسيرًا إذ جاء غلام للخليفة، وقال للمعلم: السيدة تسلم عليك، وتقول لك: قد أقبل شهر رمضان، وأريد منك صبيًّا دون البلوغ حسن القراءة، طيب الصوت، يُصَلِّي بنا التراويح، فقال: عندي من هذه صفته، وهو مكفوف البصر، ثم أمرني بالقيام معه فأخذ الرسول بيدي وسرنا حتى وصلنا الدار فاستأذن فأذنت السيدة لي بالدخول، فدخلت وسلمت واستفتحت، وقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم، فبكت، واسترسلت في القراءة، فزاد بكاؤها وقالت: ما سمعت قط مثل هذه التلاوة، فرقَّ قلبي فبكيت فسألتني عن سبب ذلك، فأخبرتها بما سمعت من أبي، فقالت: يا بني يكون في ذلك ما لم يكن في حساب أبيك، ثم أمرت لي بألف دينار، فقالت: هذه يتجر بها أبوك، ويجهز أختك، وقد أمرت لك بإجراء ثلاثين دينارًا في كل شهر إدرارًا، وأمرت لي بكسوة وبغلة مسرجة ملجمة، وسرج محلى، فهو سبب قولي جوابًا للصبيان عندما قالوا: من لنا بعدك يا أبتِ؟
منصور بن إسماعيل بن عمر بن أبي الحسن، الفقيه الشافعي التميمي، له مصنفات في المذهب مليحة، وتوفِّي سنة 306 هـ بمصر، ومن طرائف ما روي عنه أنه أصابه مسغبة شديدة في سني القحط، فرقى سطح داره، ونادى بأعلى صوته في الليل.
الغِيَاثَ الغِيَاثَ يَا أَحْرَارُ = نَحْنُ خلْجَانُكُمْ وَأَنْتُمْ بِحَارُ
إِنَّمَا تَحْسُنُ المُوَاسَاةُ فِي الشِّدْ = ـدَةِ لاَ حِينَ تَرْخُصُ الأَسْعَارُ
فسمع جيرانه فأصبح على بابه مائة حمل من بر، وكان جنديًّا قبل عماه، ويظهر في شعره التشيُّع.
حين بلغ العز بن عبدالسلام الملقب بسلطان العلماء بالإقامة الجبرية في بيته، ومنعه من الفتيا، قال للوزير الذي بلغه: يا غرز، إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علي الموجبة للشكر على الدوام، أما الفتيا فقد كنتُ والله بها متبرمًا وأكرهها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا اعتقادي أن الله أوجبها عليَّ في هذا الزمان، لما كنتُ تلوثت بها، والآن قد عذرني الحق وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة، وأما ترك اجتماعي بالناس ولزوم بيتي فما أنا في بيتي الآن، وإنما أنا في بستان ومن سعادتي لزوم بيتي وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى.
وهذا تسْلية من الحق وهدية من الله إليَّ، أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك لهذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة وصل عليها فقبلها وقبلها[180].
ابتلاءات ومِحَن
كان لعليِّ بن الحسين غلام، فسقط من يده سفود، وهو يشوي شيئًا في التنُّور على رأس صبي لعلي فقتله، فنهض علي بن الحسين مسرعًا، فلما نظر إليه قال للغلام: إنك لم تتعمد أنت حر، ثم شرع في جهاز ابنه.
الأمير الشاعر أحمد بن المختار بن محمد بن عُبَيد بن جبر، كان قد مات له ابن فبكى عليه إلى أن ذهبت عينه، ثم تلتها العين الأخرى .
لما خرج عروة بن الزبير من المدينة متوجهًا إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة، وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل دمشق إلا وهي قد أكلت نصفَ ساقه، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها، وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه، وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها، وقالوا له: ألا نسقيك مرقدًا حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر؟ فقال: لا والله ما كنت أظن أنَّ أحدًا يشرب شرابًا أو يأكل شيئًا يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين، فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحسُّ بذلك ولا أشعر به، قال: فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي احتياطًا أنه لا يُبقي منها شيئًا وهو قائم يصلي، فما تضور ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدًا، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت.
وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد وكان أحبَّهم إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات، فأتوه فعزوه فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحدًا، وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت، فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت، فلمَّا قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، فما سمعناه ذَكَر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المدينة الذي أصابته الأكلة فيه قال: "لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا"، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلِّمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أنَّ بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب أحدثه، فأنشد عروة في ذلك - والأبيات لمعن بن أوس:
لَعَمْرُكَ مَا أَهْوَيْتُ كَفِّي لِرِيبَةٍ = وَلاَ حَمَلَتْنِي نَحْوَ فَاحِشَةٍ رِجْلِي
وَلاَ قَادَنِي سَمْعِي وَلاَ بَصَرِي لَهَا = وَلاَ دَلَّنِي رَأْيِي عَلَيْهَا وَلاَ عَقْلِي
وَلَسْتُ بِمَاشٍ مَا حَيِيتُ لِمُنْكَرٍ = مِنَ الأَمْرِ لاَ يَمْشِي إِلَى مِثْلِهِ مِثْلِي
وَلاَ مُؤْثِرًا نَفْسِي عَلَى ذِي قَرَابَةٍ = وَأُوثِرُ ضَيْفِي مَا أَقَامَ عَلَى أَهْلِي
وَأَعْلَمُ أَنِّي لَمْ تُصِبْنِي مُصِيبَةٌ = مِنَ الدَّهْرِ إِلاَّ قَدْ أَصَابَتْ فَتًى مِثْلِي[181]
سيبويه إمام النحاة، ومعنى سيبويه رائحة التفاح، وكانت أمُّه - إمعانًا في تدْليله - تُطلق عليه هذا الوصْف، فغلب على اسمه عمرو.
جرتْ مناظرة بينه وبين الكسائي، لم يلبث أن توفي من أثر الحزن، إذ شعر بالحيف في الحكم[182].
حصل بين الإمامين محمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وحشة بسبب اختلافهما في مسألة: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، وكان الصواب مع البخاري، وقد أيد مسلم البخاري، وأوذي البخاري في ذلك إيذاءً شديدًا.
وكان مسلم مرة في دار محمد بن يحيى الذهلي بنيسابور، فقال الذهلي يومًا لأهل مجلسه، وفيهم مسلم بن الحجاج: ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسَنا، فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه، وأرسله إليه، وترك الرواية عن الذهلي بالكلية، فلم يروِ عنه شيئًا، لا في صحيحه، ولا في غيره، واستحكمتِ الوحشة بينهما؛ علمًا أنَّ البخاري قد روى في كتابه الصحيح عن الذهلي، وروى عنه أيضًا في غير الصحيح.
كان سعيد بن جُبير قد خرج مع ابن الأشعث، فلمَّا وقعت عليهم الهزيمة ذهب سعيد إلى مكَّة مستخفيًا، وعلم به خالد بن عبدالله القسري أمير مكة، فأرسله مشدودًا في وثاقه إلى الحجاج، ودارت بين سعيد وبين الحجاج المحاورة التالية:
الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: سعيد.
الحجاج: ابن من؟
سعيد: ابن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي.
الحجاج: شقيت وشقيت أمك.
سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
الحجاج: لأوردنك حياض الموت.
سعيد: أصابت إذًا أمي اسمي.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارًا تلظَّى.
سعيد: لو أنِّي أعلم أنَّ ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا.
الحجاج: فما قولك في محمد؟
سعيد: نبي الرحمة، ورسول رب العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل، كل امرئ بما كسب رهين.
الحجاج: أشتمهم أم أمدحهم؟
سعيد: لا أقول ما لا أعلم، إنما استحفظت أمر نفسي.
الحجاج: أيهم أعجب إليك؟
سعيد: حالهم يفضِّل بعضهم على بعض.
الحجاج: صف لي قولك في علي، أفي الجنة هو أم في النار؟
سعيد: لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت، ولو رأيت من في النار علمت، فما سؤالك عن غيْب قد حفظ بالحجاب؟
الحجاج: فأي رجل أنا يوم القيامة؟
سعيد: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيْب.
الحجاج: أبيت أن تصدقني؟
سعيد: بل لم أرد كذبك.
الحجاج: فدع عنك هذا كله، أخبرني ما لك لم تضحك قط؟
سعيد: لم أر شيئًا يضحكني، وكيف يضحك مخلوق من طين، والطين تأكله النار، ومنقلبه إلى الجزاء، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء؟!
الحجاج: فأنا أضحك.
سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارًا.
الحجاج: هل رأيت شيئًا من اللهو؟
سعيد: لا أعلمه.
فدعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد، قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج، ذكرتني أمرًا عظيمًا، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسبت ولا زلت حزينًا لما رأيت.
الحجاج: وما كنت رأيت هذا اللهو؟
سعيد: بل هذا والله الحزن يا حجاج، أما هذه النغمة فذكرتني يوم النفخ في الصور، وأما هذا المطران، فمن نفس ستحشر معك إلى الحساب، وأما هذا العود فنبت بحقٍّ، وقطع لغير حق.
الحجاج: أنا أحب إلى الله منك.
سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم.
الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مكاني هذا وأنا مع إمام الجماعة، وأنت مع إمام الفرقة والفِتنة؟
سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة، ولا أنا راضٍ عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذ لا مردَّ له.
الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟
سعيد: لم أر.
فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر فوضع بين يديه.
سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه.
الحجاج: وما شرطه؟
سعيد: أن تشتري له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلاَّ فإن كل مرضعة تذهل عما أرضعت، ويضع كل ذي حمل حمله، ولا ينفعه إلا ما طاب منه.
الحجاج: فترى جمعنا طيبًا؟
سعيد: برأيك جمعته، وأنت أعلم بطيبه.
الحجاج: أتحب أن لك شيئًا منه؟
سعيد: لا أحب ما لا يحب الله.
الحجاج: ويلك.
سعيد: الويل لمن زُحزح عن الجنة فأدخل النار.
الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه.
سعيد: إني أشهدك يا حجاج، أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، استحفظكهن يا حجاج، حتى ألقاك، فلما أدبر ضحك.
الحجاج: ما يضحكك يا سعيد؟
سعيد: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك!
الحجاج: إنما أقتل من شقَّ عصا الجماعة، ومال إلى الفرقة التي نهى الله عنها، اضربوا عنقه.
سعيد: حتى أصلي ركعتين، فاستقبل القبلة وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين.
الحجاج: اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرقوا واختلفوا بغيًا بينهم، فإنه من حزبهم، فصرف عن القبلة.
فقال سعيد: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ الكافي بالسرائر.
الحجاج: لم نوكل بالسرائر، وإنما وكلنا بالظاهر.
سعيد: اللهم لا تترك له ظلمي، واطلبه بدمي، واجعلني آخر قتيل يقتل من أمَّة محمد، فضربت عنقه.
الحجاج: يضطرب ويصيح من غير شعور: قيودنا قيودنا، وماذا يهم الحجاج من قيود الحديد في رجل سعيد بن جبير.
الجلاوزة يلبون صيحات الحجاج الهستيرية، فيسرعون الانتزاع القيود فلا تتهيأ لهم بالعجلة التي يريدون، فيقطعون رجلي سعيد بقيودها.
وتمر سبعون ليلة مليئة بفزَع الحجاج وأحلامه المزعجة، وهو في كل ليلة يهب مذعورًا من نومه صائحًا، ما لنا ولسعيد بن جبير؟!
وكأنما كانت نهاية الحجاج فيها عِبرة عسى أن يرعوي عن سفْك الدماء، والتجرؤ على قتل المسلمين.
لقد ضجَّ الناس لقتل سعيد بن جبير، ونقموا على الحجاج، وساءهم أن يرضى الخليفة بتصرفات الحجاج واستهانته بعلماء المسلمين، واستباحته الدماء لأهون الأسباب، وقد يكون لذلك دوره أيضًا في تغيُّر خطة الحجاج وتقليل شره.
وقال بكر بن عبدالله الشرود الصنعاني: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي بن أبي عبدالصمد، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، فأتينا ربيعة فأنبهناه، فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبدالرحمن؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: بلى، قلنا: هذا الذي يحدِّث عنك مالك بن أنس؟ قال: بلى، قلنا له: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ قال: أما علمتم أنَّ مثقالاً من دولة خير من حمل علم[183]؟
ولي الإمام محمد بن إدريس الشافعي الحكم بنجران، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخِلافة، فحمل على بغلٍ في قيد إلى بغداد، فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة، فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة، وقيل بسنتين، وأكرمه محمد بن الحسن، وكتب عنه الشافعي وقر بعير، ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار، وقيل: خمسة آلاف دينار، وعاد الشافعي إلى مكة، ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه.
قال جرثومة الباهلي: كنا في دهليز بلال بن أبي بردة، إذ أتى ابن عون فجاء قتادة فدخل فقال: يا ابن عون، تزوجت إلى قوم من العرب، ثم لم ترض حتى بخطاب إلى قومي بني ثعلبة، ستعلم، وصعد إلى بلال، ثم أصعد بابن عون، فقال له بلال: طلقها، فقال ابن عون قد طلقتها تَطْلِيقة بتتها، فقال: تفقه علي؟ فأنت عندي عبد، وأنا قاضٍ ابن قاضٍ، فأمر به فضرب، فقال قتادة: لو ضربته ألفًا ما طلقها إلا السنة إنه ابن عون، فقال: إني قد طلقتها طلقة لا رجعة لي فيها[184].
وعن عبدالله بن زياد المنقري قال: لما رفع قتادة إلى بلال خبر ابن عون فضربه حتى طلق السدوسية، قيل لقتادة: ضرب الأمير ابن عون، قال: كان ينبغي أن يجبه[185].
وذكر ابن عباس الزينبي أن رجلاً من بني صبير قال: كنتُ حاضرًا حين دخل قتادة إلى دهليز بلال، فقام إليه ابن عون فقال: يا أبا الخطاب، اتَّقِ الله، قال: وجدتها بدار مضيعة.
تَعْدُو الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لاَ كِلاَبَ لَهُ = وَتَتَّقِي صَوْلَةَ المُسْتَنْفِرِ الحَامِي
ثم دخل على بلال فأفتاه بضربه، فضربه أربعة وأربعين سوطًا، ونحن نعدها وإني لأدلي له من إزار صغير كان عليه والدم يسيل.
وقال النميري: إن قتادة لما ضرب ابن عون قال له: وأنت أيضًا فتزوجها سدوسية، ويقال: إن بلالاً إنما يغضب لقتادة؛ لأن بني سدوس انتقلوا في الجاهلية إلى بكر بن وائل وأصلهم من الأشعريين، وفي ذلك يقول السرادق الذهلي ينتمي إليهم، وينتفي من بكر بن وائل:
وَقَوْمِي الأَشْعَرُونَ وَإِنْ نَأَوْنِي = أَحِنُّ إِلَى لِقَائِهُمُ حَنِينًا
فَلَوْ أَنِّي تُطَاوِعُنِي سدُوسٌ = لَزُرْنَا الأَشْعَرِينَ مُغَرِّبِينَا
مَعَ الضَّحَّاكِ وَهْوُ إِمَامُ عَدْلٍ = تُخَيِّرُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَا
نُكَاثِرُ حَيَّ بَكْرٍ مَا أَتَيْنَا = مُكَاثَرَةً وَنَأْخُذُ مَا هَوِينَا
وَإِنْ عَرَضُوا لَنَا ضَيْمًا أَبَيْنَا = وَيَمَّمْنَا مَنَاكِبَ أَوّلِينَا
وَلَسْتُ بِبَائِعٍ قَوْمِي بِقَوْمٍ = وَلَوْ أَنَّا اعْتَرَيْنَا أَوْ حَفِينَا
فَيَا لَلنَّاس كَيْفَ أَلُومُ نَفْسِي = وَأُصْلَى مِنْ سُرَاةِ الأَشْعَرِينَا[186]
استعمل عبدالله بن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا حتى يجتمع الناس، فضربَه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه يقول: ما لنا ولسعيد، دعه.
قال عبدالواحد بن أبي عون: كان جابر بن الأسود وهو عامل ابن الزبير على المدينة قد تزوج الخامسة قبل أن تنقضي عِدَّة الرابعة، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: والله ما ربعت على كتاب الله، يقول الله ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3]، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلاَّ ليال فاصنع ما بدا لك فسوف يأتيك ما تكره، فما مكث إلا يسيرًا حتى قتل ابن الزبير.
ولما توفِّي عبدالعزيز بن مروان، وكان ولي العهد بعد أخيه، وكانت وفاته بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، عقد عبدالملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة لهما فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أن يبايع لهما فأبى، قال: حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطًا، وطاف به في تبان من شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: والله لولا أني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان أبدًا، فردُّوه إلى السجن وحبسه، وكتب إلى عبدالملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبدالملك يلومه فيما صنع به، ويقول: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف.
ودخل أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام على سعيد بن المسيب في السجن فجعل يكلم سعيدًا، ويقول له: إنك خرقت به، فقال: يا أبا بكر، اتق الله وآثره على ما سواه، فجعل أبو بكر يرد عليه، إنك خرقت به ولم ترفق، فجعل سعيد يقول: إنك والله أعمى البصر، أعمى القلب، فخرج أبو بكر من عنده، وأرسل إليه هشام بن إسماعيل فقال: هل لان سعيد بن المسيب منذ ضربناه؟ فقال أبو بكر: والله ما كان أشد لسانًا منه منذ فعلت به ما فعلت، فاكفف عن الرجل، وجاء هشام بن إسماعيل كتاب من عبدالملك بن مروان يلومه في ضربه سعيد بن المسيب ويقول: ما ضرك لو تركت سعيدًا أو وطئت ما قال؟ وندم هشام بن إسماعيل على ما صنع بسعيد فخلَّى سبيله.
وصنعت ابنة سعيد بن المسيب طعامًا كثيرًا حين حبس، فبعثت به إليه، فلما جاء الطعام دعا أسلم أبا أمية فقال: اذهب إلى ابنتي فقل لها: لا تعودي لمثل هذا أبدًا، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي، فابعثي إلي به، فكانتْ تبعث إليه بذلك.
قال أبو يونس القزي: دخلت مسجد المدينة فإذا سعيد جالس وحده، فقال: ما شأنه؟ قالوا: نهي أن يجالسه أحد.
كان أبو علي بن سينا قد تولَّى الأعمال للسلطان وهو صغير السن، ثم سار إلى همذان فتولى الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره ونهبوها، وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى ثم مرض شمس الدولة بالقولنج، فأحضره لمداواته وأعاده وزيرًا، ثم مات شمس الدولة وتولى تاج الجولة فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان وبها علاء الدولة ابن كاكويه فأحسن إليه.
كان أبو علي بن سينا قوي المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع حتى أنهكته ملازمته وأضعفته، ولم يكن يداوي مزاجه، فعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج واتفق سفره مع علاء الدولة فحدث له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم، فازداد السحج به من حدة الكرفس، وطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئًا كثيرًا من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء فخافوا عاقبة أمره عند برئه، وكان منذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يصح أسبوعًا، ويمرض أسبوعًا، ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الرئيس، فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان وقد ضعف جدًّا، وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال: المدير الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات.
أحمد بن إسماعيل بن يوسف أبو الخير القزويني الشافعي المفسر: قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قول الأشعري في الأصول، وجلس في يوم عاشوراء، فقيل له: الْعن يزيد بن معاوية، فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر، فاختفى ثم هرب إلى قزوين[187].
ومنهم يحيى بن عبدالرحمن بن وافد اللخمي: ولي القضاء سنة 401 هـ، فاستقل به خير استقلال على ما كان بذلك الزمان مِن فتن واعتلال، قال ابن حيَّان: كان آخر كملاء القضاة بالأندلس علْمًا وهدْيًا، ورجاحة ودينًا، جامعًا لخلال الفضل، تقلد الشورى بعهد العامرية، فكان مبرزًا في أهلها، وتقلد الصلاة بالزهراء مدة إلى أن استعفاها، ولما قامت فتنة البرابر كان ابن وافد أحدَ الأشداء عليهم، وأكبر الناس نفارًا منهم، فتغلَّبوا على قرطبة وخلعوا أميرها، واشتد طلبهم على القاضي، وقد استخفى، فعثر عليه عند امرأة، فسيق راجلاً مكشوفَ الرأس نهارًا، يقاد بعمامته في عنقه، والمنادي ينادي عليه: هذا جزاء قاضي النصارى، ومسبب الفتنة وقائد الصلاة، وهو يقول مجاوبًا: بل والله ولي المؤمنين وعدو المارقين، أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون، والناس تتقطَّع قلوبهم لما نزل به، فلقيه في هذه الحالة بعضُ عداه، فقال له: كيف رأيت صنع الله بك؟ فقال: ما أنتم قضاة، كان ذلك في الكتاب مسطورًا.
ولقيه بعضُ أصحابه فقال: أرى أن أبلغ أمرك أبا العباس بن ذكوان؛ فإنه مقبول القول عند البرابرة، فقال: لا حاجةَ لي بذلك، فأدخل على المستعين سليمان بن الحكم في تلك الحالة فأكثر توبيخه وأغرته به البرابرة، فأمر بصلبه، فشرع في ذلك فوردتْ عليه شفاعات من الفقهاء والصالحين الذين لا يرى ردهم، يرغبون إليه في شأنه، ويقبحون إليه ما أمر فيه، فرفع عنه الصلب والمثلة، وأمر بضمه إلى المطبق وتثقيفه، وكان السلطان يجري وظيفة على مَن فيه، فكان ابن وافد لا يأكل منها، ولم يبعد - رحمه الله - أن اعتل في محبسه فأخرج ميتًا في نعْش منتصف ذي الحجة سنة 404 هـ، فوضعه الأعوان بالساقية موضع غسل المجاذم، فاحتمله قوم إلى دار صهره، فسد بابه في وجه النعْش، وتبرأ منه تقية، وسمع الزاهد حماد بن عمار بالقصة، فبادر وصار بنعشه إلى منزله فقام بأمره.
قال صحاب المدارك: وكان من عجيب الاتفاق أن ابن وافد كان قد أودع عند هذا الصالِح كفنه وحنوطه، وقارورة من ماء زمزم لجهازه، فتمَّ مرادُه وعدت من كراماته، وجاء بنعش وصلى عليه في طائفة من العامة عند باب الجامع، ثم ساروا به فواروه التراب - غفر الله لنا وله[188].
"لمعت في كل عصر من العصور وفي مختلف بقاع المعمورة ومضات فكر، وبرقت كبرق العارض المتهلل بوارق آراء، دوَّنها تاريخ الإسلام خلال أكثر من ألف سنة مما تعدون، ولم تزل هذه سنة الله في البلاد والعباد أن تكون هنالك أفكار، وأن تكونَ هناك مُعارضات ومخالَفات؛ لينتفيَ الخبث، وينصع الطيب في المعترك.
وما خلا أيضًا عصر من الجمود الذي عبث بالعقل، ولا من الجهل الذي اضطهد أهل العلم، وكان في ذلك اختبار للعلماء ليبلوهم الله أيهم أحسن عملاً، فوقعتْ مِحَن كثيرة، وثارتْ فِتَن أخرى يفصلها التاريخ ولا يجملها، ويَرثي لها الفؤاد، ولا ينفك إيلام ذكراها، والتبعة بعد ذلك تقع على ذَوي المعرفة وأرباب التمييز.
ولم يزل العلماء في مختلف العهود يتقلبون في شتى النكبات والمحن التي عرضت لهم، فتارة اضطهدوا في سبيل العقيدة والمذهب والإصلاح، وتارة تقلصت عنهم الدنيا ولم يحظوا منها بطائل، وآخرون زهدوا فيها فلم يتعلَّقوا بأعْراضها، وسُعي ببعضهم إلى الولاة لإنزال العقوبة، فصمدوا وثبتوا، لَم تلنْ لهم قناة حتى قضوا نَحْبهم، ومن ذلك ما كان من الحوادث أيامَ ظهور الزندقة ومسائل القدر والقرآن، وما كان قبلَها وبعدها مما قد يرجع سببه إلى غير أمور الدِّين أيضًا، كضرب الحجاج عبدالرحمن بن أبي ليلى الفقيه أربعمائة سوط ثم قتله.
وصدق أبو هلال في تاريخ الوزراء؛ إذ يقول: ليس تكليفُ العقلاء كتكليف الجُهَلاء، ولا آلة الفريقين في الأفعال واحدة ولا مؤاخذتهما بالأعمال متساوية، وكذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]؛ لأن الله كلف كل نفس بحسب قوتها، وأخذها بما جعله في قدرتها، ولو أن أحدًا غلط غلطًا جاهلاً لحكمه، وأخطأ خطأ خارجًا عن علمه لَمَا تعيَّن عليه حكمٌ، ولا تعلق به حد، وعلى ذاك فمتى كان علم الإنسان أكثر من عقله كان حتفه في علْمه، أو عقله أكثر من علمه أمكن به جبر عجزه وإتمام نقصه.
ومن بواعث الشجن أن نتذكر اليوم أمثلة من ضحايا الأفكار، ممن قضوا نحبهم فيها، وتمالأ عليهم الجهلة فعذبوهم وآذوهم، وأثاروها عليهم شعواء، وذهبوا يناوِئُون كل باحث خالف لهم أمرًا.
ولو جئنا نُعدِّد هؤلاء وأولئك، لطال بنا المسير؛ لأن التاريخ مَلِيء بما نال العلماء من إرهاق وقتْل، وتشريد وسجن، في سبيل المبدأ، ولم يدرِ من كان يرتكب هذا أن في ذلك قضاءً على الفكر، ووأدًا للعقل وإطفاءً للنور، فحالوا دون ظهور النبوغ، والسبب هو التعصُّب، كما يُعَلِّل المقْدسي في كتاب: "أحسن التقاسيم".
غير أنا نضرب هنا أمثلة من هذا الصنف، ولو تتبع الباحث لوجَد منها في المدونات الكبرى ما يملأ منه سفرًا ضخْمًا.
فممن امتحن في سبيل الله: الإمام أحمد بن حنبل، أحد أئمة المسلمين، أحضره المعتصم وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقِه، فجلده حتى غاب عقله، وتقطع جلدُه، وقيد وحبس، ومحنته مشهورة، وقصتها أنه استحوذ على المأمون جماعةٌ من المعتزلة، وقولوه بخلق القرآن، فعن له أن يكتب إلى نائب بغداد بدعاء الناس إلى القول بذلك، فكان ذلك أول الفتنة، فلمَّا وصل الكتاب استدعى العلماء، فأجاب أكثرهم مُكرَهين، واستمر على الامتناع الإمام أحمد ومحمد بن نوح، فحملا على بعير مقيدين، ثم جاء الصريخ بموت المأمون وولاية المعتصم، فردا إلى بغداد مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، وأودع الإمام أحمد السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره، وقال نائب بغداد للمعتصم: ليس من التدبير أن تخلي سبيله فيغلب خليفتين، فعند ذلك حمى واشتد غضبه، فأخذ وجيء له بالعقابين والسياط، وضربه ضربًا مبرحًا شديدًا، حتى أغمي عليه، وحمل إلى أهله وهو لا يشعر.
قال أبو تراب: وكان - رحمه الله - شديدَ الحيطة، حتى إنه هجر الحارث المحاسبي بسبب تصنُّعه في الردِّ على المبتدعة، وقال له: ويحك، ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم تردُّ عليها؟! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟!
وامتحن الإمام أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت الكوفي صاحب المذهب، وكان يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراقين أراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وسجنه ولَم تخرج جنازته إلا من غيابات الجبِّ في أحد القولين.
وضرب الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وأحد أئمة الإسلام سبعين سوطًا، ومدت يداه حتى انخلع كتفاه، وذلك في مسألة طلاق المكرَه، قال فيها مالك: إنه غير واقع، ولم توافق الفتوى غرض السلطان، فسعى به إلى جعفر بن سليمان عمّ أبي جعفر المنصور، وقالوا: إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه بشيء، فدعا به وجرده، قيل: وركب على حمار وطيف به، وسوِّد وجهه، وكان يقول: من عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، وطلاق المكره غيرُ واقع.
وقال السيوطي في "حسن المحاضرة": إن أبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي الذي كان يحيل عليه في المسائل، حمل إلى بغداد في أيام الواثق مغلولاً مقيدًا، ففي عنقه غُلّ، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوق وزنتها أربعون رطلاً، وأريد على القول بخلق القرآن، فامتنع فحبس إلى أن مات في القيد والسجن.
ونُفي الإمام البخاري إمام المحدِّثين وحافظ الدنيا، وكان خالد بن أحمد الذهلي أراد منه أن يأتي في بيته ليسمعَ أولاده فأبى، وقال: في بيته يؤتى الحكم، فاتفق أن جاءه كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول بأن لفظي بالقرآن مخلوق، وكان قد وقع بينه وبين الذهلي في ذلك كلام حتى صنَّف البخاري كتاب: "خلْق أفعال العباد"، وإنما قال البخاري غير ذلك، واتهم بمسائل أخرى غيرها، فأراد الأمير أن يصرف الناس عنه فلم ينصرفوا، فأمر بنفيه فخرج، ودعا على خالد فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادي على خالد الذهلي على أتان وزال ملكه، وسجن ببغداد حتى مات، أما البخاري فبرح إلى بليدة يقال لها: خرتنك، ومات بها ليلة عيد الفطر.
وأوذي الإمام النسائي، قالوا: إنه دخل دمشق، فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية، فامتنع، فجعلوا يطعنون فيه حتى أخرج من الجامع، فسار إلى مكة، وسئل بالرملة عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه بالجامع بالسياط والحجارة، فقال: أخرجوني إلى مكة، فتوفِّي بها شهيدًا.
وتمالأ الفُقهاء على الحافظ الإمام أبي محمد بن حزم، وسعوا به لنُصرته السنة النبوية، وتركه التقليد الأعمى، حتى أحرقت كتبه ومزقتْ علانية بإشْبِيليَة، وهاجر إلى ليلة من ضياعه فمات بها - نضر الله ضريحه.
وأوذي الإمام محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ العظيمَين، من أجْل كتاب ألَّفَه في اختلاف الفقهاء، فاشتد عليه الناس وشغبوا ورموه بالحجارة والدوى وملؤوا بيته أحجارًا، فلما مات منعوا من دفنه نهارًا، وادعوا عليه الرفض والإلحاد، وحاشاه من ذلك.
وضرب الإمام سحنون؛ لأنه اشتد على ابن أبي جواد حين قال بخلق القرآن في إفريقية، ومات تحت السياط.
قال الجحوي في "تاريخ الفقه الإسلامي": ولما ولي محمد بن عبدون القضاء بعد موت سحنون بالقيروان، ضرب طائفة من أهل العلم من أصحابه وطيف بهم على الجمال بغضًا منه في مذهب مالك وأصحابه، وكان ابن عبدون حنفيًّا، فلو ساعده أمير البلاد لملأ من العلماء الذين أراد القضاء عليهم مقبرة كبيرة.
وفي كتاب "البيان المغرب"؛ لابن عذاري، وكتاب "المؤنس"؛ لابن أبي دينار: أنَّه لما قدم المعز في القرن الرابع حمل الناس على مذهب مالك في إفريقية، ولم يبق في أيامه غيره، وكان قبل ذلك من مذاهب أهل السُّنة الحنفيَّة.
وقال ياقوت في "معجم البلدان": إنه جاء زمن وليس في الأندلس إلا مذهب مالك، فإن ظهروا على شافعي أو حنفي نفوه.
قال أبو تراب: وأول مَن أدخل كتب الحديث إلى تلك الديار بقي بن مخلد - رحمه الله.
وقد أُوذي الإمام الشاطبي في سبيل التمسُّك بالسنة وطرْح البدع، كما أُوذي أبو بكر بن العربي؛ لأنه التزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأُخِذتْ كتبُه ومالُه وصُرِف عن القضاء.
وابتُلِي شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، وسُجِن مرارًا، وعُذِّب في سبيل الله، ومثله وقع لتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - وعاملوهما معاملة جائرة بغيةَ القضاء على كتب ابن تيمية ومصنفاته؛ لإقامته الحجَّة على الخصوم، وإظهاره الحق في مسائل الصفات والعقائد والتوحيد والزيارة والتوسُّل وغيرها، وكتب السلطان أنَّ مَن اعتقد عقيدته حلَّ ماله ودمه، وحُبِس سنين في الإسكندرية والقاهرة ودمشق، ولم يخرجوه إلا إلى قبره، ونكبوا ابن القيم وحبسوه آخر مرَّة مع شيخه في حجرة منفردة، وحاكموا الشيخ على اعتقاده، واعتقلوه بعدها في جبِّ يوسف هو وإخوته بالقاهرة.
وقال الخطيب البغدادي في "التاريخ": إن ابن حبان البستي وهو من أعلم أهل عصره، ومن طبقة البخاري في الحديث، قُتِل بدعوى أنه يعرف بعض العلوم الرياضية في 354 هـ، ولعلَّ السبب أنه ألَّف كتابًا في القرامطة، وقال حاسدو فضله: إن هواه كان معهم.
وقال أبو الفداء في "التاريخ": إن أحمد بن نصر قال للواثق أثناء المناقشة في خلق القرآن: مه يا صبي، فأمَر به أن يوضع هو ومَن كان مشايعًا له في الحُبُوس المظلمة، وضيَّق عليهم.
وقال المقريزي في "الخطط": إن الكاظميين قتلوا أبا بكر بن هذيل وأبا إسحاق البرذون من فقهاء السُّنة، وسحبوهما في أذناب الخيل؛ لعدم إفتائهما بمذهب جعفر الصادق.
وفي "طبقات علماء إفريقية" أن ابن البرذون ضرب خمسمائة سوط، ثم ضم إلى السجن هو وابن هذيل، ثم ضربت رقبتاهما، وربطت أرجلهما بالحبال وجُرَّا مكشوفَين غير مستورَين من دار الإمارة، ثم صُلِبَا ثلاثة أيام.
وهكذا حدثت فتن مظلِمَة كقطع الليل في عهود مختلفة بين أهل الملل والأهواء وحصلت مناظرات وقُطعت ألسن، ولا شكَّ في أن الحق يعلو ولا يُعْلَى عليه، فرَحِم الله علماء الإسلام الذين أُوذوا في سبيل إظهار كلمته وقمع الباطل ودحر الضلال، ولقَّاهم من لدنْه نضرة ونعيمًا، وثبَّت خلفهم على الحق المبين والنهْج القويم، فلا زال أهل الحق في محنة يؤذَون في سبيله، لكن لا يزعزعهم عنه سطوةُ الطغيان ولا صوْلة الشيطان، فهم أبدًا معتصِمون بحبل الله المتين، لا يعتري عقيدتهم عطَب، ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: 10]، ولنعم ما قال الفقيه ابن حزم:
فَطُوبَى لِأَقْوَامٍ يَؤُمُّونَ نَحْوَهَا = بِخِفَّةِ أَرْوَاحٍ وَلِينِ عَرَائِكِ
فَعَاشُوا كَمَا شَاؤُوا وَمَاتُوا كَمَا اشْتَهَوْا = وَفَازُوا بِدَارِ الخُلْدِ رَحْبَ المَبَارِكِ
فَلَوْ أَعْمَلَ النَّاسُ التَّفَكُّرَ فِي الذي = لَهُ خُلِقُوا مَا كَانَ حَيٌّ بِضَاحِكِ
فَلاَ تَتَّبَعُ دََارًا قَلِيلاً لُبَاثُهَا = فَقَدْ أَنْذَرَتْنَا بِالفَنَاءِ المُوَشَّكِ[189]
كتب محمد عطية خميس[190]: "محمد الأودن" العالم الأزهري الذي عاش طول حياته مرفوع الرأس، فما استماله وعْد، ولا أرهبه وعيد، ورفَض مشيخة الأزهر؛ حتى لا يدفع ثمنها من دينه ومن كرامته.
كان من أسرة كريمة ميسورة الحال في الدقهلية، ودفعه والده إلى الأزهر الشريف؛ ليتلقَّى علوم الدين، وليؤدِّي رسالة العالم الصادق، وكان الذي ينظر إلى هذا الشاب الأزهري يرى عليه دلائل البيوت الكريمة الأصل، الواسعة الرزق والحال، كانت تبدو عليه آثار النعمة والرخاء في ملبسه وفي مظهره، وأقبل على العلم بشغَف فأثمر العلم في قلبه إيمانًا وصدقًا، وتخرَّج في الأزهر عالمًا مرموقًا في علمه، ومرموقًا في صدقه مع ربه، آماله كلها أن يرى كتاب الله مطبَّقًا، والأخلاق الكريمة سائدة، والمجتمع الإسلامي مؤمنًا طاهرًا.
تخرج وقد برز نجم سعد زغلول زعيمًا للحركة الوطنية بمصر، ألقيت في يده مقاليد الوزارة والزعامة، كان السلطان والصولجان في يده؛ سلطان الحكم، وصولجان الزعامة الوطنية والشعبية، فتوجَّه إليه العالم الشاب محمد الأودن في بيت الأمَّة يطلب مقابلته، وتمَّت المقابلة وقال الأودن له: يا باشا، ألا تحب أن تكون كعمر بن الخطاب في هذا الزمان؟ قال سعد: وكيف يكون هذا؟ فقال الأودن: تردُّ إلى الأزهر أوقافَه التي اغتصبها الاستعمار والحكَّام المستبدُّون بالمكر والخديعة، وتحمل الأمَّة على الأخلاق الكريمة، وتطبِّق شريعةَ الله كاملة... واستدار سعد بكرسيه وأعطى للأودن ظهرَه قائلاً: لا أريد أن أكون كعمر.
هكذا أخبرني - رحمه الله - بما كان بينه وبين سعد، لقد صُدِم في هذا الزعيم الذي كان يحسن الظنَّ فيه، ولكنه لم ييأس، لقد راح يشعل في قلوب العلماء جذوة العمل الصادق، وعقد معهم الاجتماعات تلوَ الاجتماعات في بيت الشيخ الدجوي حينًا، وفي بيته حينًا آخر، وفي بيوت علماء آخرين أحيانًا كثيرة، والبوليس السياسي يرقُبهم ويطاردهم، حتى استطاع أن يحمل الأزهر على التظاهر من أجْل تحقيق رسالة العلماء، ولكن القصر والاستعمار والبوليس السياسي استطاعوا أن يقضوا على هذه الحركات؛ فاشتروا منهم مَن استطاعوا شراءه، وأرهبوا منهم مَن خاف على منصبه، إلاَّ الشيخ الأودن.
ولم ييأس الرجل، لكنه اختطَّ خطَّة أخرى؛ احتضن بعض تلاميذه، كان يعلمهم ويؤويهم، وينفق عليهم ويشحذ هممهم، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يؤازروه في سبيل إعزاز الإسلام وإقامته، كان يظن أنه قد يستعبد الإحسان الإنسان، ولكنَّه للأسف كان يُصاب بخيبة الأمل فيهم، كان إذا تخرَّج تلميذه ومريده وصنيعته، ويصبح عالمًا له مكانته، ينسى المواثيق والعهود، ويَثِب إلى الدنيا ويجعلها همَّه الأكبر وشغله الشاغل.
كان مقبلاً على ربه، منشغلاً بالعلم ودراسته، مهمومًا برسالة العالم الذي يحمل ميراث النبوَّة، فزهِد في الدنيا، وإذا بالشاب الذي كان يلبس أفخرَ الثياب لا يلبس وهو عالم وأستاذ إلا الملابس العادية المتوسطة الثمن، إن لم تكن الرخيصة، فما كان يهتمُّ بأبهة المظهر، وإنما همُّه كله صفاء ونقاء المَخْبَر، فكان العالِم الزاهد في وقت ندُر فيه العلماء الزاهدون.
كان عالمًا عظيمًا، يقول فيه الداعية الإسلامية الكبير الشيخ محمد الغزالي السقَّا وهو ينعاه: "الذين تتلمذوا على الشيخ الأودن - وما أكثرهم - يعرفون أن لدى الرجل العظيم ثروة علمية طائلة، ولكن هذه الثروة لم تكن الشيء البارز في حياته، بل كان السر وراء توقيره والالتفاف حوله شيئًا آخر، إنه يمزج العِلم بالتقوى، والإرشاد بالإخلاص، وكان درسه معراجًا يرقِّي سامعيه إلى رقابة الله، والحماس لدينه، وإجماع النية على الجهاد لنصرته، وقد مكث نصف قرْن في القاهرة يخدم الإسلام على هذا النحو، يحسبه الناس وهو يدرس بركانًا يقذف الحِمَم وهو يهدر وينذر ويوقظ النيام، ويزعج القاعدين، ويرد قُوَى الشر المتألِّبة على هذا الدين".
كان أستاذ الحديث الذي لا يضاهى، بلغ من أدبه مع حديث رسول الله ﷺ أنه إذا بدأ في الشرح يخلع نعليه ويتربع تأدبًا مع ذكر رسول الله ﷺ وكان يتصبَّب عرقًا في أشدِّ أيام الشتاء برودة، وهو ملتهب بوجدانه وروحه في جو الحديث النبوي الشريف.
كان يعتزُّ بكرامة العلم والعالم إلى أبعد حدود الاعتزاز، فحينما عين الشيخ محمد مصطفى المراغي - رحمه الله - شيخًا للأزهر، قام بجولة في الكليات الأزهرية، ودخل قاعات المحاضرات، فكان كل أستاذ يوقف الدرس عند دخول الشيخ المراغي في قاعة المحاضرة، ويسارع إلى إحسان استقباله وتقديمه للطلاب.
ودخل الشيخ المراغي قاعةَ محاضرة الشيخ الأودن، وكان - رحمه الله - يشرح حديثًا لرسول الله ﷺ فلم يتوقَّف عن الشرح، ولم يهرول نحو الشيخ، بل ولم يتحرك من مكانه، ولكن استطرد في الشرح والحديث، حتى إذا انتهى من محاضرته ودرسه، استأذنه الإمام الأكبر وسأل الطلاب، والشيخ الأودن لم يَقُم من مكانه، حتى انتهى المراغي من أسئلته توجَّه إلى حيث يجلس الشيخ وصافحه شاكرًا ثم انصرف.
وسمع الدعاة والمخلصون عن الشيخ ودروسه، وكيف كان يملأ القلوب إيمانًا، ويشعل الأرواح غَيْرة وصدقًا، فكانوا يطرقون بابه يجلسون إليه، ويتعلمون منه ويدرس معهم قضايا المسلمين، ومشاكل المجتمع، ويرسم لهم طريقَ الخلاص، فكان بيته مقرًّا للدعاة يقصده عشرات الوافدين كل يوم ينزع منهم اليأس، ويجدِّد فيهم الأمل والرجاء.
من تلاميذه ومريديه البطل أحمد عبدالعزيز الذي ضرب مثلاً عاليًا في البطولة في حرب فلسطين سنة 1948م، ومعروف الحضري الذي حطَّم حصار اليهود حول جيشنا في الفالوجا، وأوصل إليهم التموين، ورشاد مهنَّا الوصي السابق على الملك أحمد فؤاد الثاني، ومصطفى راغب أحد رجال ثورة 23 يوليو.
وسمع به الضباط الأحرار فقصدوه في داره، وتردَّدوا عليه عشرات المرات، وشجَّعهم على السير في طريق تحرير الأمة، والخلاص من أجهزة الفساد في الحكم، على شريطة أن يُطبِّقوا كتاب الله، ويعملوا على سيادة الأخلاق، وأخذ عليهم العهد ألا يسفكوا دمًا، ولا حتى دم الملك نفسه، وأخذ عليهم العهد أن يعملوا في الأمة بسيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
وفي ليلة 23 يوليو 1952 صلُّوا في بيته صلاة الاستشهاد، جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر وغيرهما، ونجحت الثورة.
وعرضتْ عليه الثورةُ المشيخةَ فأبى؛ لأنه لم يكن طالب دنيا، ولأنه كان يفتقد الرجال الذين يعملون معه ويعاونوه.
فعيَّنته الثورة عضوًا في لجنة الدستور، وكان من أبرز شخصيات هذه اللجنة، ونادى لأوَّل مرة في تواريخ الدساتير المصرية وغير المصرية إلى إرساء قواعد الأخلاق الفاضلة وتقرير أحكام لها في الدستور، حتى تسري في جميع موادها كما يسري الدم في العروق.
وشعرت الثورة بخطورة دستور يشترك الأودن في وضْعه، إنه يطلب أن تكون الأخلاق والعناية بها أساسَ المجتمع والتشريعات، فصدر قرار بحلِّ لجنة الدستور كلها، وقام خلاف بين رجال الثورة، بين رشاد مهنا ورجاله، وجمال عبدالناصر وأصحابه، ودبَّرت محاكمة لرشاد مهنا، وأعدت العدة لإعدامه لولا تدخُّل الأودن.
وشعرت الثورة بخطورة الأودن أنه يريد أن يعيد عهدَ السلف، وحديثه إلى الناس لا يميت القلوب الحية، ولكن يحيى القلوب الميتة، فحلَّت الجفوة بين الشيخ ورجال الثورة محلَّ الود فانقطعوا عن التردُّد عليه وهو لا يعبأ بهم؛ لأنه ليس ممَّن يطرق أبواب الحكام.
لقد فشلت محاولة شرائه بمشيخة الأزهر، وفشلت محاولة استمالته إلى الثورة في تيَّارها الجديد، فكانت الجفوة ثم التآمر عليه، لا لحبسه وتعذيبه فحسب، ولكن لقتله والخلاص منه.
كان الشيخ t قد أوهنته الشيخوخة وحنى ظهره المرض، ولكنه ظل أسدًا هصورًا، جهير الصوت قوي الإيمان لا يهدأ عن قولة الحق.
تردَّد عليه الشهيد سيد قطب - رحمه الله - والسيدة زينب الغزالي وعبدالفتاح إسماعيل وشمس الدين الشناوي وغيرهم من رجال الدعوة الإسلاميَّة، وقامت في هذه الأثناء حرب اليمن وجهر الشيخ في كل المترددين منكرًا هذه الحرْب محتجًّا - وهو رجل الحديث - بحديث رسول الله ﷺ في قوة وفي شرح فياض: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))[191]، فأرهب الطغاة وخشوه ودبَّروا طريقًا للخلاص منه، فقبضوا عليه وعلى جميع أبنائه وتآمروا على إعدامه، ولكن كيف؟
لقد قبضوا على الأستاذ شمس الدين الشناوي المحامي، وكان يتردَّد على الشيخ، وألقوا به في السجن الحربي، ثم ناداه السفَّاح شمس بدران، وقال له: إذا أردت أن يفرج عنك وتنجو بنفسك، فعليك أن تعترف بأن الشيخ الأودن أرسلك إلى عبدالفتاح الشريف في طنطا لتطلب إليه أن يحضر لمقابلته للاتفاق على قلْب نظام الحكم، وأن الشيخ عنده مجموعة من ضباط الجيش، وعبدالفتاح الشريف عنده الإخوان المسلمون.
- لم يحدث شيء من هذا.
- أريدك أن تقول هذا.
- والله ما حصل.
- أريد أن تقول ما أقوله أنا الآن، ولا أريد أن تقول ما تعرفه أنت.
واتَّصل شمس بدران بجمال عبدالناصر أمامَ شمس الدين الشناوي، وقال للرئيس الراحل: أستأذنك يا "بابا" في إلغاء قرار الإفراج عن شمس الدين الشناوي، وأعدك أن أحصل منه على اعتراف كامل يَدين الشيخ الأودن.
وبدأت علميات التعذيب مع شمس الدين الشناوي، علق كما يعلق الجزار الذبيحة، وجلدوه حتى غاب عن وعيه، وجيء إليه بالكلاب المتوحشة، ولكن الرجل الشجاع الذي ملأ الإيمان قلبه فضل كل هذا العذاب، بل الموت على أن يقبل على ربه وعلى يديه دم ولي من أولياء الله، بشهادة زُور وإثم وبهتان.
أما الشيخ القعيد فقد لاقى من العذاب ما لاقى، وقلوب الطغاة لا ترحم شيخوخته ولا مرضه، ولم تخشَ الله، ولم يستطيع شمس بدران أن يقدِّمه إلى المشنقة كما وعد جمال عبدالناصر، وكل ما استطاع أن يصنعه أن زيَّف له اتهامًا فارغًا: علم بوجود مؤامرة لقلْب نظام الحكم ولم يبلغ، وكان الشيخ الوقور الذي وهن عظمه يحمل إلى المحكمة أمام الدجوي حملاً ليزيدوا من عذابه.
ويقول محمد شمس الدين الشناوي المحامي: كان الحقد والضغينة يملآن قلب شمس بدران على الشيخ الأودن، مما جعل شمس يصمِّم على قتل الشيخ في جريمة كاملة لا تترك أيَّ أثر لتعذيب على جسد الشيخ، وخاصَّة أن الشيخ كان قد ناهز الثمانين من عمره وقتئذ، فاتبع مع الشيخ الأودن أسلوبًا فريدًا في التعذيب، لم ينفذ إلا معه ومع حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين - رحمه الله - الذي كان في مثل سنِّ الشيخ الأودن أو يزيد.
لقد حبس مع الشيخ الأودن عشرة كلاب لمدَّة شهرين تأكل وتنام وتتبرز وتتبول مع الشيخ في الزنزانة، حتى أصبحت الرائحة الكريهة تنبعث من الزنزانة بصور مفزِعة، وقد أصيبت الكلاب بشلل في أطرافها وأصبحت لا تكفُّ عن العواء والنباح ليلاً ونهارًا بصوت مزعج لكلِّ من في السجن، فما بالك بالشيخ الذي يعيش معها وتحوطه برائحتها الكريهة!
وكان للشيخ طقم أسنان فطلب من زبانية السجن الحربي أن يحضروه له من منزله حتى يستطيع أن يأكل، فأحضروه ولكن بدلاً من إعطائه له سحقوه، وعاش الرجل بدون طقم أسنان، وكان معنى ذلك الجوع حتى الموت.
ويقول محمد شمس الدين الشناوي المحامي: كان العساكر في ليالي الشتاء القارسة يخرجون الشيخ الأودن من زنزانته ويغرقونه في الماء البارد، أو يلقون عليه بالماء البارد في الزنزانة.
ولكن الشيخ t ما كان ليجزع، كانت ابتسامة المؤمن الراضي بقضاء الله لا تفارق وجهه حين قبض عليه، وفي السجن، وفي قفص الاتهام، حتى حينما حكم عليه الدجوي بالحبس سنة مع الشغل ابتسم وقال: الحمد لله.
وهكذا يكون العلماء؛ علم وعمل، وإخلاص وصبر على البلاء، ورضا بقضاء الله.
وسمع الملك فيصل بقصة الرجل فأراد أن يكرمه وينقذه من براثن الوحوش البشرية، فطلب من مصر رسميًّا أن تأذن بالسفر إلى السعودية ليعمل بجامعة مكة، وسافر الشيخ الأودن في أوائل سنة 1967 إلى مكة وطيَّب الملك فيصل خاطره.
ومضت الأيام وإذا فجأة يموت جمال عبدالناصر الذي كان يتعجَّل موت الأودن، بينما يعيش الأودن الشيخ المسن ليؤديَ رسالة ربه، يعلم ويربي وينصح، وبينما يموت عبدالناصر في مصر يموت الأودن في مكة خير بقاع الأرض، ونرى لأول مرة في تاريخ المملكة العربية السعودية يسمح لجسد ميِّت مات في مكة أن ينقل ويدفن بالمدينة.
لقد كان في موت الأودن كرامة، وفي دفنه كرامة، لقد كان أستاذَ الحديث الشريف الذي عمل على خدمته، فلا غرو أن يكرمه الله بأن يكون مدفنه في البقيع بجوار رسول الله ﷺ أول مَن تنشق عنه الأرض يومَ القيامة، فيشفع - أوِّل ما يشفع - لأهل البقيع.
رحم الله الأودن رحمة واسعة، وأعاننا على أن نواصِل السير على دربه، درب الجهاد في سبيل الله، إعزازًا لدينه ورفعًا للواء الإسلام".
ظهر في أسواق القاهرة كتاب جديد[192] هو حديث المجالس وكل المجتمعات؛ لأنه أول محاولة من نوعها في التعبير عن حالة مسجون سياسي، فقد شاهدت المكتبات عددًا كبيرًا من الكتب خلال الأعوام الأخيرة تتحدث عمَّا حدث للمسجونين السياسيين داخل السجون، ابتداء من ليمان طره، وأبي زعبل، إلى سجن الاستئناف، ومرورًا بالمعتقلات في كل مكان، وما حدث للمسجونين السياسيين من مختلف أنواع الإهانات، ولكن أن يصدر كتاب لزوجة مسجون سياسي تتحدَّث فيه عن الظروف التي مرت بها وما عانته من معاملة (البشر)، وما قاسته وهي أم لعدد من البنات، فهذا هو الأمر الجديد.
والكتاب محاولة صادقة ورائدة لكاتبة جديدة تأثَّرت بما حدث لها، وأيًّا كان الرأي من نقد الكتاب إلا أنه بداية لسلسلة تفتقدها المكتبة العربية والسياسية في عصرنا الحديث.
وقد ظهر الكتاب في 86 صفحة من القطع المتوسط، وفي سطور دامعة تهزُّ العواطف الإنسانية، وهي تتابع خطى زوجة واحد من الكتاب المسلمين الذين يرفعون الدعوة بـ(اتحاد مسلمي العالم)، وتحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وقد أهدت المؤلفة الكتاب إلى النموذج الرائع للزوجة الأم، المكافحة الصابرة، أم المؤمنين الطاهرة السيدة خديجة - رضي الله عنها.
وتقول المؤلفة في مقدمة كتابها أنها ترددت كثيرًا في كتابة هذه المذكرات، وكانت تؤجلها لأمرين؛ أولهما: أن لا يساء فهم ما جاء فيها أو يكون فيها ما يسيء لأحد، وثانيهما: أن أطمئن للعدالة الموجودة في بلادنا، وبمعنى أصح أطمئن على زوجي ونفسي وعيالي.
وأمسكت القلم لأكتب وكل دعائي إلى الله أن أوفَّق فيما أكتبه، وكل هدفي أن أقول الحقيقة، الحقيقة من مشاعري، وفي ذكرياتي، وفي الأحداث التي مرَّت بي.
وبعد أن تتحدث المؤلفة عن مكانة المرأة مع الرجل تعود قبل نهاية المقدمة لتسأل: وإني إذا أكتب هنا عن دوري كزوجة وأم، أتساءل وأسأل نفسي إذا كنا لا نستطيع رفع دعوى للمطالبة بالتعويض اللازم لنا من الدولة إزاء ما تحملناه وما تكبدناه، أليس من حقنا أن نطالب بتعويض الأزواج أنفسهم، كل الأزواج الأبطال الذين حوربوا في رزقهم وأفكارهم وعملهم، فتفتح أمامهم الأبواب، وليأخذوا في الحسبان ما مسَّهم في أنفسهم وفي أرواحهم من الإساءات، شأنهم في ذلك شأن جرحى الحرب الذين نضمد جراحهم بكل ما أوتينا من قوة، علينا أن نضمِّد جراح هؤلاء الأبطال الذين تركوا في تاريخ مصر بصمات تتناقلها الأجيال، ولتعرف الأجيال القادمة أن رجالاً كانوا هنا في أشد الأوقات حرجًا من تاريخ مصر.
ثم بدأت فصول الكتاب الـ 21 وكلها تتحدث عن رحلة البحث عن الزوج الذي ذهب يومًا إلى عمله وليحضر معه دواء ابنته المريضة ذات 7 أشهر من العمر، ولم يعد، ومضت الساعات وجاء الليل وانتصف الليل، ولم يعد الزوج، وكانت عند أسرتها مع ابنتها المريضة فاخترقت حواجز الليل وعادت إلى منزلها تسأل كل مَن تلقاه: (هل رأيته)، ثم فوجئت بأن (زوار الليل والنهار) قد عاثوا في البيت، وأنهم قلبوا كل شيء فيه، وأن ملابسه موجودة وبقايا نقود لا تتجاوز الجنيهات تركها لها ولبناتها فقد يحتجن لها حتى يقضي الله أمره.
وذهبت إلى المباحث العامة، وذهبت إلى المخابرات العامة، وكل فريق منهم يؤكِّد أنه لم يأخذه وأنه ليس عندهم، ولكنها - أي الزوجة - تقسم لضابط المخابرات أنه عندهم؛ لأنها تشم رائحة زوجها وتحس بقلبها أنه موجود عندهم، ولكنهم ينفون وإن كانت الحقيقة أنه موجود فعلاً.
وتتحدث الزوجة عن المعاناة التي عاشتْها وحدها، كل الناس خائفون إلا ما ندر، تركوها وحدها في دوَّامة الحياة تبحث عن الزوج بلا سند ولا مال معها، إلا ما بدأ أهلها يقدمونه لها.
وقصة البشرية في أروع صور مآسيها ورمضان يقبل والعيد من بعده، والأيام تجري والزوج غير معروف المكان، ولا متى يعود... وأخيرًا عرفت مكانه بعد أن نقلوه إلى سجن آخر، ثم سمحوا لها بزيارته، وتقص المؤلفة السيدة زينب حسن عبدالقادر كيف رأته وكيف قابلته وراء الأسوار ولأول مرة في حياتها.
ثم تُطالب الزوجة بضرورة تكوين جمعيات للرفق بالإنسان المسجون السياسي، فالحيوانات تجد مَن يرفق بها، وتشكل جمعيات لها، أمَّا الإنسان وفي ظل ظروف معينة - فإنه لا يجد.
وبين صفحات الكتاب تعريف بتهمة الزوج من غير تعرُّض لما لاقاه، وهذا هو الجديد في هذه البداية الجديدة من الكتب الجديدة، وتقول الزوجة: إن جيل زوجي جيل صاحب مبدأ تعلَّم من سابقيه من الرجال، وكان المفروض أن يستقي هذا الجيل أفكاره ومبادئه من الحديث والقديم؛ ليكونوا رجالاً هم الآخرين، عرفت من زوجي حرصه الشديد على أن لا يذكر أسم أحد من أصدقائه ومعارفه وتلاميذه، عرفت أنه نفَى بشدة عند مواجهته بأحد المتَّهمين معه أنهم يعرفون فلانًا أو زاروا فلانًا... كان رجلاً في محنته، وكانت جريمته أنه يدعو إلى الإسلام وإلى وحدة الصف الإسلامي وإلى عودة الأحزاب.
ثم.... وبعد مُدَّة تقرر الإفراج عن الزوج، ومع ذلك لم يعد إلى البيت، فقد كان عليه أن يمر برحلة أخرى بين الظُّلمات قبل الإفراج عنه... وتقص الزوجة مراحل وخطوات هذه الرحلة التي أضنتْها.
ثم... عاد الغائب إلى بيته محطَّمًا مريضًا، يعاني من آلام جسدية ونفسية؛ لتصرخ رفيقة العمر: ماذا تفعل إلا أن تبدأ مرحلة جديدة من النضال لتعيدَه إلى ما كان عليه.
و"أين زوجي" كتاب جديد ومشرق لصورة الزوجة الفاضلة، وليته ظهر في عام المرأة لتقول للنساء، كل النساء: هكذا يجب أن تكون الزوجات.
العلم يقوي الإيمان
إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشَّش ببابك يهاجر جنوبًا في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه القديم الربيع التالي.
وفي شهر سبتمبر تطير أسرابُ معظم طيورنا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق عرض البحار ولكنها لا تضل طريقها، والحمام الزاجل إذا تحير من جرَّاء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص يحوم برهة، ثم يقصد قدمًا إلى موطنه دون أن يضلَّ، والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل ذلك دليل يرى، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة، ونحن في حاجة إلى هذه الغزيرة وعقولها تسد هذه الحاجة، ولا بُدَّ أن للحشرات الدقيقة عيونًا ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الإحكام وأن للصقور بصرًا تلسكوبيًا.
وهنا أيضًا يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية؛ فهو بتلسكوبه يمكن أن يبصر سديمًا بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوَّة إبصاره مليوني مرة ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية، بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها.
وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدَّت ظلمة الليل، وهو يستطيع أن يرى ولو في غير وضوح، ولكنَّه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه بعينين تأثَّرتا قليلاً بالأشعَّة تحت الحمراء التي للطرق، والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارًا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها بالضوء.
إن عدسات عينك تلقي صورة على الشبكة فتنظِّم العضلات العدسات بطريقة آلية إلى بؤرة محكَمة، وتتكوَّن الشبكية من تسع طبقات منفصلة هي في مجموعها ليست أسمك من ورقة رفيعة.
وكل هذه التنظيمات العجيبة للعدسات والعيدان والمخروطات والأعصاب وغيرها، لا بُدَّ أنها حدثت في وقت واحد؛ لأنه قبل أن تكمل كل واحدة منها كان الإبصار مستحيلاً، فكيف استطاع كلُّ عامل أن يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويوائم بين نفسه وبينها؟!
إن المحَّار العادي الذي نأكل عضله، له عيون عِدَّة تشبه عيوننا كثيرًا وهي تلمع؛ لأن كل عين منها لها عاكسات صغيرة لا تُحْصَى، ويقال: إنها تساعدها على رؤية الأشياء من اليمين إلى فوق، وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية، فهل رتبت للمحار تلك العاكسات؛ لأنه لا يملك كالإنسان قوة ذهنية؟
ولما كان عدد العيون في الحيوانات يتراوح بين اثنتين وعدَّة آلاف وكلها مختلفة؛ فلا ريب أن الطبيعة كانت تلقى مشقة كبيرة في أحكام علم المرئيات، اللهم إلا إذا وجدت عونًا من الخالق.
إن نحلة العسل لا تجذبها الأزهار الزاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضوء فوق البنفسجي الذي يجعلها أكثر جمالاً في نظرها، وفيما بين أشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة الفوتغرافية وما وراءها عوالم من الجمال والبهجة والإلهام بدأنا نقدرها ونسيطر عليها، فلنتأمَّل أن يأتي علينا يوم نستطيع فيه أن نستمتع بعالم الضوء عن طريق النبوغ في الابتكار، وها نحن أولاء قد أصبحنا قادرين على أن نكشف اهتزازات الحرارة في كوكب بعيد، ونقيس طاقاتها.
إنَّ العاملات من النَّحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية، وتعد الحجرات الصغيرة للعمال والأكبر منها لليعاسيب، وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل.
والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرَّ وليس ثمَّة أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري أين نبدأ لنفحص امتدادها، ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا هي على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرَّات الميكروسكوبية البالغة الدقة، وكيف نعرف أننا نتأثر تأثرًا واحدًا، كذلك حاسَّة الذوق تعطي كلامنا شعورًا مختلفًا عن شعور الآخر، والغريب أن اختلافات الإحساس هذه هي وراثية.
والجندبة (النطيط) الأمريكية Katydid تحكُّ ساقها أو جناحيها معًا فيسمع صريرها هذا في الليلة الساكنة على مسافة نصف ميل، إنها تهز بها ستمائة طن من الهواء وتنادي رفيقها.
وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر Lobster الذي إذا فقد مخلبًا عرف أن جزءًا من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة، ومتى تمَّ ذلك كفَّت الخلايا عن العمل؛ لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان.
وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفَين، وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلاً منه، ونحن نستطيع أن ننشِّط التئام الجروح، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحرِّكون الخلايا لتنتج ذراعًا جديدة أو لحمًا أو عظمًا أو أظافر أو أعصابًا، هذا إذا كان حقًّا في حيز الإمكان؟!
وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصَّة بنا، وذلك بدقَّة تفوق كثيرًا حاسَّة السمع المحدودة عندنا، وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة على بُعْد أميال كما لو كانت فوق طبلة أذنه، ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجِّل وقع شعاع شمسي.
إن جزءًا من أذن الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية - قوس - دقيقة معقَّدة متدرِّجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الحنية تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها مُعَدَّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة من قصف الرعد إلى حفيف الشجر.
ويبدو أن الحيوانات لها القدرة على تبادل الشعور، مَن ذا الذي يراقب طائر الطيطوى - أو زمار الرمل - ولم يعجب به وهو يحلق في الجو ويدور حتى تطير كل طيور ذوات الصدر الأبيض في أشعة الشمس في وقت واحد؟
وإذا حملت الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك فإنها لا تلبث أن ترسل إشارة خفية، وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى تلك الإشارة ويجاوبها مهما أحدثت أنت من رائحة بمعملك لتضليلها، ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطَّة إذاعة؟ وهل لذكَر الفراشة جهاز راديو عقلي فضلاً عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟
وما دامت عقولنا محدودة فإننا لا نقدر أن ندرك ما هو غير محدود، وعلى ذلك لا نقدر إلا أن نؤمن بوجود الخالق المدبر الذي خلق كل الأشياء بما فيها تكوين الذرَّات والكواكب والشمس والسدم - جميع سديم - والزمن والفضاء هما عنصران في هذا الإدراك، وإن محاولة معرفة حقيقة الخالق لتحير أذكى الأذكياء.
كذلك لا يمكننا أن نحسب أن الإنسان هو الغرض الوحيد أو النهائي، ولكننا يمكننا أن ننظر إلى الإنسان على أنه أعجب مظهر لذلك الغرض، على أننا لسنا مضطرين لأن نفهم ذلك كله حتى نتقدم كثيرًا، وإن زيادة العلم لتشير إلى هذه النهاية.
إننا نقترب فعلاً من عالم المجهول الشاسع، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربية، ولكن ممَّا لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون؛ لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون[193].
* * *
متفرقات ... يجمعها حب العلم
قرأ الحافظ ابن حجر في رحلته الشامية "معجم الطبراني الصغير" وهو كتاب فيه ألف وخمسمائة حديث في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، كما أنه قد قرأ "صحيح الإمام البخاري" في أربعين ساعة رملية.
ومجد الدين الفيروزأبادي اللغوي صاحب "القاموس المحيط" قد قرأ "صحيح الإمام مسلم" بدمشق في ثلاثة أيام.
كان الإمام الشافعي يضع يده اليسرى على الصفحة اليسرى حين يقرأ الصفحة اليمنى؛ كي لا يسبق نظره إليها، فإذا قرأ اليسرى وضع يمناه على اليمنى.
قرأ الحاكم صاحب "المستدرك" وغيره على ألفي شيخ[194].
كانت خزانة كتب الصاحب ابن عباد حمل أربعمائة جمل[195].
أصابت الجوهري العالم اللغوي في أواخر عمره وسوسة فمضى إلى الجامع القديم بنيسابور وصعد إلى سطحه محاولاً الطيران، ويروى أنه قال بعد أن صعد السطح: أيها الناس إني عملت في الدنيا شيئًا لم أسبق إليه، وضمَّ إلى جنبيه مصراعي باب وتأبطهما بحبل، وزعم أنه يطير، فألقى بنفسه من أعلى مكان في الجامع فمات[196].
وقال هارون بن عبدالعزيز: قال أبو جعفر - ابن جرير الطبري -: لما دخلت مصر لم يبقَ أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقَّق به، فجاءني يومًا رجل فسألني عن شيء من العروض ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: علي قول أن لا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غدٍ فصِرْ إليَّ، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضيًّا[197].
قال ياقوت في "معجم البلدان"[198]: قال الخطيب البغدادي: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنَّة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
وحدَّث عبدالله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب "الصلة"، وهو كتاب وصل به "تاريخ ابن جرير"، أن قومًا من تلاميذ ابن جرير حصلوا[199] أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسَّموا عليها أوراق مصنَّفاته فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيَّأ لمخلوق إلا بعناية الخالق.
مرَّ أبو الدرداء يومًا على رجل قد أصاب ذنبًا والناس يسبُّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة، ألم تكونوا مخرجيه منها؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوه إذًا واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فإنه أخي.
وكان سعد بن مالك بن أبي وقاص t مجاب الدعوة، عن قيس بن حازم قال: نُبِّئت أن رسول الله ﷺ قال لسعد بن مالك : ((اللهم استجب دعاءه إذا دعاك)).
سمع سعد بن أبي وقاص رجلاً يسب عليًّا وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينتهِ فقال له: إذًا أدعو عليك، فقال الرجل: أراك تهددني كأنك نبي، فانصرف سعد وتوضَّأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبَّ أقوامًا سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطني سبُّه إيَّاهم فاجعله آية وعبرة، فلم يمضِ غير وقت قصير حتى خرجت من إحدى الدُّور ناقة لا يردها شيء حتى دخلت في زحام الناس كأنَّها تبحث عن شيء ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها وما زالت تتخبطه حتى مات.
قال سعد بن أبي وقاص t: ما أسلم رجلٌ قبلي إلا رجل أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد أتى عليَّ يوم وإني لثلث الإسلام.
وقال سعد بن أبي وقاص: أنا أول مَن رمى في الإسلام بسهم، خرجنا مع عبيدة بن الحارث ستين راكبًا سرية.
وعن علي بن أبي طالب t قال: ما سمعت رسول الله ﷺ يفدي أحدًا بأبويه إلا سعدًا؛ فإني سمعته يقول يوم أحد: ((ارمِ سعد، فداك أبي وأمي)).
ومن شعر سعد:
أَلاَ أَبْلِغْ رَسُولَ اللهِ أَنِّي = حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَا عَدُوَّهُمُ ذِيَادًا = بِكُلِّ حزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ
فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ مِنْ مَعَدٍّ = بِسَهْمٍ مَعْ رَسُولِ اللهِ قَبْلِي
طلحة بن عبيدالله: من خيار الصحابة وأكثرهم مالاً، وكان ينفق أمواله في سبيل الله، لقَّبه رسول الله ﷺ طلحة الخير، وطلحة الجواد، وطلحة الفياض.
قالت زوجته سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة يومًا فرأيته مهمومًا فسألته: ما شأنه؟ فقال: المال الذي عندي قد كَثُر حتى أهمَّني وأكربني، وقلت له: ما عليك، اقسمه، فقام ودعا الناس، وأخذ يقسمه بينهم حتى ما بقي منه درهم.
محمد الأمين الشنقيطي (آبه)[200] عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، والمدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ولد محمد الأمين بن محمد المختار في مدينة شنقيط عام 1325 هـ ونشأ في بيت علم من رجال ونساء، ودرس العلوم الشرعية واللغوية على أخواله، والسيرةَ على نساء أخواله.
وفي عام 1367 هـ بدأ التدريسَ في المسجد النبوي الشريف، وفي عام 1371 هـ بدأ التدريس في المعهد العلمي بالرياض ثم الكليات هناك، وفي عام 1381 هـ انتقل للتدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وبقي يحاضر في معهد القضاء العالي بالرياض.
توفي فجر يوم الخميس 17 ذي الحجة 1393 هـ وتمَّ دفنه في مقابر المعلاَّة.
والشيخ (آبه) وهذه هي شهرته بين تلامذته المنتشرين في أنحاء العالم الإسلامي، عالم من علماء المدينة المنورة المبرَّزين، وقد قضى حياته كلها في طلب العلم ونشرِه حتى بلغ في العلوم النقلية والعقلية مكانًا قلَّ أن يبلغه عالم في العصر الحديث.
وقد قضى حياته في تدريس كافَّة علوم اللغة العربية والشريعة الإسلامية والأصول والمنطق وما إلى ذلك، وله مؤلَّفات منها ما هو مخطوط ومنها ما هو مطبوع.
وفي السنوات الأخيرة من حياته كرَّس جهوده في وضْع مؤلَّف صدرت منه عِدَّة مجلَّدات، وهناك أخرى مخطوطة منه بعنوان "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن"، الكتاب يجسِّد مقدرة الشيخ (آبه) وتطويعه لعلوم القرآن واللغة، كما عكست عبقريته في تخريج الأحكام والاستدلال عنها والتوفيق بينها، ومعالجة المتشابه من القرآن الكريم.
ومن مؤلفاته المخطوطة "أنساب العرب"، "فروع مالك"، "الغين في المنطق"، "الفرائض"، ومن مؤلفاته المطبوعة "شرح مراقي السعود"، و"شرح على مسلم"، "رفع إيهام الاضطراب"، "منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبُّد والإعجاز"، "مذكرة في أصول الفقه على روضة الناظر"، "مذكرة في آداب البحث والمناظرة" (جزءان)، عِدَّة محاضرات منها حكمة التشريع، المُثُل العليا في الإسلام، آيات الصفات في القرآن الكريم... (هذه كلها طبعتها الجامعة الإسلامية)، محاضرة حول شبهة الرق، المصالح المرسلة.
كتب أنيس منصور في "صحيفة عكاظ"[201] السعودية بتاريخ 20 ذي الحجة 1393 هـ قال: في المدينة المنورة طلبت من الأستاذ عبدالعزيز إلياس - مدير المراسم الملكية - أن يبحث لي عن أحد علماء المدينة وأن يضع يدي على كتفه؛ لكي أتفرج على الآثار الباقية لهذه المدينة المقدَّسة التي أرسيت فيها كل قواعد الإسلام في الصلاة والصوم والزكاة والمعاملات، وكل أصول الدولة الحديثة، وكانت السنوات العشر التي أقامها الرسول ﷺ في هذه المدينة أصعب وأعظم عشر سنوات في تاريخ العالم.
وكان الأستاذ عبدالعزيز إلياس في سرعة البرق، فما طلبت منه شيئًا إلا قال: الأمير عبدالله قال لي: أحضر له كل ما يريد من الكتب ومن المقابلات.
وجاءت سيارة وتخطَّت السيارة كلَّ الحواجز، ووقفت أمام أحد البيوت، وطال الوقوف وطال، ورأيت على الرصيف رجلاً يتوكَّأ على عصًا ويخطو بصعوبة ويلهث، ويساعده رجلان آخران ويسنده من الخلف رجل ثالث، وتساءلت طبعًا: ما هذا؟ مَن هذا؟ لماذا هذا؟ فقيل لي: هذا هو أعلم علماء المدينة.
وسألت: إن كان من عادة أهل المدينة أن يمشوا في جنازة الميت قبل أن يموت؟ وهل نحن في الطريق إلى دفن هذا الرجل؟ وقالوا: بل إنه سعيد جدًّا.
مَن هذا السعيد؟
هذا الرجل، إنه مريض، حبيس المرض، وهذه فرصة سعيدة لكي يرى الدنيا.
هو سعيد؟ ومن أين يستمد هذا الرجل سعادته؟
إن أحدًا لا يدق بابه، وهذا يحزنه، ولذلك فهو سعيد أنك جئت تسأله، تستوضحه، تكلمه.
ونهضت بسرعة لأصافح الرجل، وكاد الرجل يلفظ آخر أنفاسه وهو يقول: أهلاً وسهلاً يا أستاذ.
ولا أعرف أين هم "الأهل" وأين هو "السهل"، وأين "الأستاذ"؟ واعتذرت له عن هذه الرغبة الطائشة، وقلت: والله يا أستاذ إن أحدًا لم يخبرني بذلك - أي بحالتك - وإلا لجلست إليك ولما اضطررتك إلى الخروج إلى الشارع، فأنا شديد الأسف.
ولكن الأستاذ الشريف إبراهيم العياشي أعلم العلماء بآثار المدينة أكَّد - على قدر طاقته - بأنه سعيد جدًّا، رغم أمراضه الكثيرة، في ساقيه وفي البنكرياس، ورغم أنه كان يبكي على نفسه وعلى جسمه وعلى أسرته وعلى ما أصابه على أيدي الناس، رغم هذا كله فهو سعيد لأنني أخرجته من هذا العذاب، وأنه لم يكن قد رأى الشارع منذ أربعة أشهر، وأنه شديد الامتنان لذلك، منتهى الرقَّة واللطف من هذا العالم الجليل، ومنتهى القسوة أن أرى ذلك وأن أسمع ساعتين كاملتين في سيارة تجوب أطراف المدينة من مسجد قباء إلى حيث الخندق وجبل أحد وأحياء بني النضير وبني قينقاع.
ولم يكن الأستاذ العياشي يتحدَّث عن اليهود في المدينة حتى سألته: أريد أن أتحقَّق من كلمة قرأتها في تاريخ المدينة يا أستاذ، فقال دون أن يلتفت ناحيتي؛ لأنه عاجز عن تحريك عنقه تمامًا، وفي صوت صارخ كأنه صوت طفل صغير: ما هي يا أستاذ؟ تفضَّل، والله إنني مريض والله كنت أبكي قبل أن تجيئ يا أستاذ، فتفضل إنني تحت أمرك يا أستاذ.
قلت - دون أن أنظر إليه وقد أوجعني صوته وحالته تمامًا: كلمة قفوص أو قفاص أو قفاصي، قرأت أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد استولى على قلعة من قلاع اليهود لها هذا الاسم، فأجاب الرجل: نعم لها هذا الاسم، ولم يدرك الأستاذ العياشي أن كلمة قفاص أو قفاس هي الكلمة المدوَّنة الآن "قبوتص أو قبوتس" ومعناه المستعمرة السكنية عند اليهود، والتي تكتب الآن باللغة الحديثة هكذا: كبوتز، ولكن الأصح أن تنطق هكذا: قبوتص.
ومعنى ذلك أن اليهود في المدينة كانت لهم مستعمرات سكنية، وكان الناس يعيشون فيها معًا يملكون الأرض معًا؛ أي: لا يملك أحد منهم شيئًا.
وراح الأستاذ العياشي يبهرني بعلمه الغزير المؤكِّد، فهو يقول: هنا ثنيات الوداع يا أستاذ، وفي المدينة ثلاث ثنيَّات، وهنا - ويشير إلى جبل صغير - هنا وقف اليهود، وهنا سقط اليهود، وهنا كان الطريق يلتوي ثلاثة أمتار ثم ينعطف أربعة أمتار.
وتمضي السيارة، ويقول الأستاذ العياشي: شيء غريب يا أستاذ، هذه المباني لم تكن موجودة منذ أربعة أشهر، إن المدينة تتغيَّر معالمها بسرعة عجيبة.
وهنا - ويشير إلى شارع مرصوف - هنا يا أستاذ كان الخندق الذي حفره رسول الله ﷺ وأصحابه في ستة أيام، وفي منتصف الخندق كان حجر، الحجر كان هنا بالضبط، وهنا كانت تنطلق قوَّات خالد بن الوليد، وهنا كان الرماة حيث وضعهم رسول الله ﷺ والناس يخلطون يا أستاذ بين معركة أحد ومعركة الخندق، إن الأماكن متقارِبة، وهنا عقارب كثيرة يا أستاذ، كنت أقتل منها كل يوم ثلاثين أو أربعين.
وتمنيت لو يسكت الأستاذ العياشي؛ فإنني أخشى أن يموت ويكون موته نوعًا من الاستشهاد، إنني لا أعترض على دخوله الجنة - أستغفر الله - ولكن أخاف أن يدخل الجنة وأدخل أنا النار؛ لأنني قاتل هذا الرجل، وإن رغبتي في أن أعرف قد جاءت على حساب حياة هذا الرجل!
ومررنا على مسجد الغمامة، ومررنا على مساجد أخرى كثيرة، ولم يتوقف الأستاذ العياشي عن السُّعال، وأنا لا أكفَّ عن القول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله يا أستاذ عياشي أنا لم أقصد إلى تعذيبك، فأنا شديد الأسف، وهو ينكر ذلك بكل ما عنده من قوة - وما عنده منها إلا قليل جدًّا.
وقبل أن نصل إلى بيته كنت قد جدَّدت الاعتذار له، وكنت قد قلت له: إن الأستاذ عبدالعزيز إلياس لا يعرف حالتك بالضبط، وإنما هو فقط نفَّذ أوامر الأمير عبدالله الفيصل بالحرف الواحد: افعل كل ما تستطيع من أجل راحتي، وهو لم يقصد أن تكون راحتي في القضاء على راحتك أو القضاء عليك، أو في أن أستريح بعض الوقت لأتعذب بسببك كل الوقت.
وأصر الأستاذ العياشي على أن نزوره في البيت، وقاومت ولكنه أصر، وزحفنا وراءه وهو يجر نفسه جرًا ويتوكأ على عصاه، ودخلنا بيتًا هو الفوضى كلها، فليس في البيت أحد، طفلان صغيران، أمَّا بقية الأطفال فقد أخذتهم الأم، وأما الأم فقد تركت البيت لهذا الرجل العالم المريض، وتركت غرفة بها ست مراتب كانت لسبعة من الأطفال، والمقاعد فوق المراتب، وتحت المراتب زجاجات فارغة، وعلى الأرض أنابيب المياه من المطَّاط كأنها أحشاء البيت، وكأن هذا البيت حيوان ضخم ذبحوه وسلخوه وأكلوه ولم تبقَ منه إلا هذه العظام، وإلا هذا الرجل المريض الذي يتساند على جدرانه، هذا العالم الذي يعرف كلَّ طوبة وكل بئر في المدينة، لا يعرف أين يوجد المقعد أو الكوب أو الطريق إلى دورة المياه في هذا البيت، إنه وحده تمامًا.
وطلب منِّي أن احضر له لوحة على الحائط وخريطة على المنضدة، وهنا مأساة هذا الرجل، هذه اللوحة أعدَّها في عشر سنوات، وهذه الخريطة أعدَّها الرجل في 15 عامًا، وهذه المخطوطات التي أحرقتها زوجتُه قد أنفق عليها كلَّ ثروته - وهي قليلة - وأنفق عليها أكثر سنوات شبابه، وثارت الزوجة على جنون هذا العالم جنونه بالتاريخ والآثار والمدينة المنورة.
وجُنَّ جنوننا نحن عندما عرفنا أنه أمضى مئات الليالي يحقِّق في موقعة بدر وموقعة أحد، ويرصدها على الخريطة جنديًّا جنديًّا، وسيفًا سيفًا، ورمحًا رمحًا، ويمكن لكل زوجة أن تقول: إنه مجنون، ولكن العلماء الذين خدموا الإنسانية كلها من هذا الطراز من الناس، الذي تهون عليهم الدنيا من أجْل شيء ما، والذين تهون عليهم حياتهم من أجل التأكُّد من شيء ما، وراحت على الرجل دنياه وأسرتُه، ولم يبقَ إلا البكاء على الجميع.
وتذكَّرت أينشتين الذي اكتشف نظرية "النسبية" والتي تقول بأن أي شيء له طول وعرض وارتفاع وزمن، وأن الزمن هو البعد الرابع للأشياء، هذا الرجل كان مدرِّسًا للرياضيات في إحدى جامعات سويسرا، وكان يستأجر شقة، ثم جاء طالب فاستأجر منه غرفة في هذه الشقة، وفي أحد الأيَّام جاء الطالب يدق بابه ويسأله: كم الساعة من فضلك؟ ويضحك أينشتين قائلاً: إنَّني وضعت ساعة على كل مليمتر في هذا العالم ولكن نسيت أن أضع في يدي ساعة!
وهذا الأستاذ العياشي يعرف كلَّ حجَر في أرض المدينة المنورة، لكنه لا يعرف ولا يستطيع أن يهتدي إلى أيِّ شيء في بيته.
ولم أكن قد رأيت صورة زوجة الفيلسوف اليوناني سقراط، ولكن كتبت عن هذه السيدة الكثير جدًّا، وأعدت الآن وجه الشبه بين زوجة الأستاذ العياشي وزوجة سقراط، إن سقراط كان أسعد حالاً، فهو أعظم الفلاسفة على الإطلاق، ولكنَّه لم يكتب سطرًا واحدًا، وإنما جاء تمليذه أفلاطون وسجَّل محاوراته مع كل الناس، ولذلك لم يكن لدى زوجة سقراط ما تحرقه من الكتب لو أرادت، وإنما كانت فقط تلقي الماء القذر فوق صدره العريان.
ولكنه لأنه رجل عاطل والناس كلهم مشغولون، وكان سقراط له صناعة تافهة؛ فهو كان يمسك قطعة من القماش المبلل ويمسح بها التماثيل التي تلوَّثت بمخلَّفات العصافير، وكأنه يقول عن زوجته: إن زوجتي تشبه السماء، ترعد وتبرق ثم تمطر!
وكانت زوجة سقراط تجمع أولادها أيضًا وتذهب إلى بيت أسرتها، ولكن سقراط لم يكن يهتمُّ كثيرًا بأولاده أو زوجته، ولا يهمُّه كثيرًا ما تفعله بعد ذلك، فلم يكن في حاجة إلى ماله؛ لأن تلامذته من أغنياء أثينا، ولم تكن عنده كتب يخاف عليها.
ولا أعرف في النهاية إن كان الأستاذ العياشي قد أراحني أو أوجع قلبي، إنه أراحني قليلاً وعذبني طويلاً، ليس هو الذي عذَّبني ولكنها تلك الشريرة التي تفرَّدت بتعذيب هذا العالم الجليل.
إن كل العلماء والناس الطيبين يجب أن ينهضوا لحماية هذا الرجل الفريد، إن الحزن عليه لا يكفي، إن الانبهار أمام علمه الغزير ليس أفضل من أن ينقلوه إلى أحد المستشفيات وأن يدخلوا زوجته أحد السجون، فمن أجلها ومن أجل زوجة سقراط ابتدع الإنسان المشانق والمحارق، فليرحمك الله يا أستاذ عياشي، ميتًا وحيًّا قبل ذلك.
حماد الرواية[202]: هو حماد بن ميسرة وقيل إنه حماد بن سابور، وهكذا اختلفوا في اسم أبيه ونسبه، فسموه حمادًا الراوية، وقد سأله الوليد بن زيد عن سبب تسميته بالراوية فقال: إني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر ممَّن تعرف أنك لا تعرفه ولم تسمع به، وقال: إنني أستطيع أن أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة طويلة، عدا المقطَّعات من شعر الجاهلية، دون شعر الإسلام.
وقيل: إن الوليد أراد امتحانه فيما قال فأنشد ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين ("الأغاني" 6- 2151).
نشأ حماد صعلوكًا متشرِّدًا، وصاحَب من أجل هذا اللصوص والسرَّاق، وكان يسطو معهم على أموال الناس في بادئ حياته، وفي أحد الأيام سطا على منزل رجل فوقع في يده شعر للأنصار، فأخذه وقرأه، ويبدو أنه كان شهر مواعظ فتاب من ساعته واستقام وبدأ يجمع الشعر ويحفظه، وربما لا تكون هذه الرواية صحيحة، ذلك أنَّ حمادًا الرواية واجه أعداءً لا حصر لهم، طعنوا فيه كثيرًا وأساؤوا إلى سُمْعته، وهذه الرواية عن ابن النطاح.
ها هو أبو عمرو الشيباني يقول: ما سألت أبا عمرو بن العلاء عن حماد إلا قدَّمه على نفسه، وما سألت حمادًا عن أبي عمرو إلا قدَّمه على نفسه ("الأغاني" 6- 2153).
ونحن نعلم أن أبا عمرو بن العلاء رجل فاضل، ما كان يفعل ذلك لو أن حمادًا فاسقًا كما تقول الروايات، وكان يؤخذ على حماد أنَّه يلحن، وهذا ما فعله يونس بن حبيب حينما رفض الأخذ برأيه، وقد برَّر حماد موقفه من اللحن حين قال: إننا نتحدَّث إلى العامَّة ونتكلَّم بكلامها، لكن لم ينكر أحد على حماد أنه راوية، وأنه روى الكثير الكثير من الشعر.
وقد أرادوا الطعن في روايته للشعر فقالوا إنه كان يتزور على الشعراء، واخترعوا قصصًا منها ما هي على لسان حماد نفسه في هذا الخصوص، وأغلب الظن أن هذا يعود إلى الحسد، فقد كسب حماد من روايته للشعر أموالاً طائلة، وكان الخلفاء من بني أمية يطلبونه ليرحل إليهم ولينشدهم ما يحفظ من الأشعار، ثم يجيزونه على ذلك.
وربما أوغر ذلك صدور بعض الناس فدسُّوا عليه أن روايته كاذبة، وأنه كان يضيف من شعره إلى شعر أولئك الشعراء، ولو كان الأمر كذلك - أي لو أن حمادًا كان قادرًا على قول شعر جاهلي متين - لا ندري ماذا كان يمنعه أن ينسب شعره إلى نفسه، وبالتالي يكون أفضل شعراء عصره، وأقدرهم وينال على شعره ما كان سيفوق ما ناله من رواية الشعر.
يقول حماد: صرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فرمى إليَّ كتابًا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أمَّا بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلي حماد الراوية مَن يأتيك به غير مروَّع ولا متمنِع، وادفع إليه خمسمائة دينار، وجملاً مهريًّا يسير عليه إلى دمشق.
ويقول: سرت إلى هشام واستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حُمْر، وقد تضمَّخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفثوث في أواني ذهب، يقلِّبه بيده فتفوح روائحه، فسلَّمت فردَّ عليَّ واستدناني، وإذا جاريتان لم أرَ قبلهما مثلهما، في أذنَي كل واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤتان تتوقَّدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: أتدري فيمَ بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدرِ مَن قاله، قلت: وما هو؟ فقال:
فَدَعَوْا بِالصَّبُوحِ يَوْمًا فَجَاءِتْ = قَيْنَةٌ فِي يَمِينِهَا إِبْرِيقُ
قلت: هذا يقوله عديُّ بن زيد في قصيدته المطوَّلة التي أوَّلها:
بَكَّرَ العَاذِلُونَ فِي وَضَحِ الصُّبْـ = ـحِ يَقُولُونَ لِي أَلاَ تَسْتَفِيقُ
وَيَلُومُونَ فِيكِ يَا ابنَةَ عَبْدِ الْـ = ـلَهِ وَالقَلْبُ عِنْدَكُمْ مَوْثُوقُ
إلى آخر القصيدة.
فما كان من هشام إلا أن وهب حمادًا الجاريتين وأمدَّه بمائة ألف دينار ومسكن فخم أقام فيه مُدَّة من الزمن.
تلك رواية حماد، لكن أدخلوا عليها أنه سكر مع هشام، والدليل على كذبهم أن هشامًا معروف عنه أنه لم يشرب قط.
هذا نموذج من الدس على حماد، أتيت به لكي لا نصدق الروايات التي تمس بالتراث، وهو أساس بنيان الأمم.
حماد الراوية هو أوَّل مَن أطلق لفظ (المعلقات) على القصائد الشعرية للشعراء الجاهليين، وربما يكون هو أوَّل مَن قال بأنها كانت معلقة بالكعبة وتبعه ابن الكلبي، وحين تعرض "نولدكه" المستشرق الألماني لهذا الأمر أنكر ذلك رغم أن الإغريق كانوا يعلقون القصائد العظام في معابدهم.
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات أن تعليق الصحائف الخطيرة على الكعبة كان سنة في الجاهلية بقي أثرها في الإسلام، وضرب مثلاً بتعليق هارون الرشيد وصيَّته بتولية الخلافة مَن بعده لولديه الأمين فالمأمون، راجع "تاريخ الأدب العربي"؛ أحمد حسن الزيات 34- طبعه دار الثقافة لبنان.
فإذا صح أن حمادًا قد أطلق عليها المعلَّقات فهذا يعني: أنه اشتق ذلك الاسم ممَّا كانت عليه وممَّا علمه عنها.
وقال أبو جعفر النحاس في القرن الرابع الهجري: إن أوَّل من جمع السبع الطوال هو حماد الراوية، وهو ممَّن ساعدوا الوليد بن يزيد على جمع ديوان العرب الذي لا يعرف عنه شيء حتى اليوم، وكل الذي هو معروف أن حمادًا وجنادًا ساعدا الوليد على جمعه، حسب رواية ابن النديم ("الفهرست" 140).
وكان لحماد ديوان جمع فيه أشعارًا مختلفة، أو كانت له كتب مختلفة مدوَّن بها أشعار القوم، فها هو يقول: أرسل الوليد إليَّ بمائتي دينار وأمر بحملي على البريد، فنظرت في كتابي قريش وثقيف فلمَّا قدمت عليه سألني عن أشعار، فأنشدته منها ما استحسنه.
وإذا علِمنا أن حمادًا كان يُعَدُّ من رؤوس مدرسة الكوفة، وكانوا هم أكثر الناس رواية للشعر، ويقال: إنهم استحوذوا على الطنوج التي كانت للنعمان بن المنذر؛ أي: الكراريس التي دونت للنعمان بن المنذر - فإن رواية حماد تصبح مقبولة، خاصَّة إذا وجدنا أن يونس بن حبيب - وهو بصري - أكثر الناس طعنًا في حماد، وجناد ويليه خلف الأحمر في ذلك الطعن.
لم يكن حماد شاعرًا حتى تجوز عليه دسيسة أنه أدخل شعرًا على شعراء الجاهلية، فمن الأبيات القليلة التي نجدها هنا وهناك يتَّضح أن شعر حماد ضعيف، وأنه لا يرقى إلى مرتبة الشعر الجاهلي بحيث يجوز أن يدس في أشعارهم، ومن شعر حماد:
إِذَا سِرْتَ فِي عِجْلٍ فَسِرْ فِي صَحَابَةٍ = وَكِندَةَ فَاحْذَرْهَا حِذَارَكَ لِلْخَسْفِ
إلى أن قال:
مَتى كُنتُ فِي حَيَّيْ بَجِيلَةَ فَاِستَمِعْ = فَإِنَّ لَهَا قَصْفًا يَدلُّ عَلَى حَتْفِ
إِذَا اعْتَزَموا يَوْمًا عَلَى قَتْلِ زَائِرٍ = تََدَاعَوْا عَلَيْهِ بِالنُّبَاحِ وَبِالعَزْفِ
فهذا شعر حماد، وهو شعر سطحي عادي، إخباري أو تقريري ليس به أيُّ عمق.
ومن شعر حماد مخاطبته للشاعر أبي العطاء السِّندي، الذي كان بلسانه لحن حين ينطق العربية، وفي ذلك قال حماد:
فَمَا صَفْراءُ تُكْنَى أُمَّ عَوْفٍ = كَأَنَّ رُجَيلَتَيْهَا مِنْجَلاَنِ
فرد عليه أبو العطاء:
أَرَدْتَ زَرَادَةً وَأَزُنُّ زَنًّا = بِأَنَّكَ مَا أَرَدْتَ سِوَى لِسَانِي
و(زرادة) هي جراده، و(أزن زنًّا) أظن ظنًّا، (راجع "الحيوان" 5/558).
فليس إذًا في شعر حماد كبير معنًى أو أيُّ عمق، وما كان له ليستطيع أن يدخل شعرًا له في الشعر الجاهلي.
والادِّعاء بأن حمادًا أقحم بيتين على زهير بن أبي سلمى في قصيدته "دع ذا" فإن البيتين يؤكِّدان من خلال ما احتويا من معان وأسماء أماكن ومطلع جاهلي يؤكِّدان أنهما جاهليان في كل الفروض، وهذان البيتان هما:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ = أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ
قَفْرًا بِمُنْدَفَعِ النَّحَائِتِ مِن = ضَفْوَى أُولاَتِ الضَّالِ وَالسِِّدْرِ
ثم قال:
دَعْ ذَا وَعَدِّ القَوْلَ فِي هَرِمٍ = خَيْرِ الكُهُولِ وَسَيِّدِ الحَضْرِ
تتواتر الروايات عن حماد بأنه عالم بالعربية، كما تواترت بأنه كثير اللحن، وهي روايات متناقضة، فالمفضَّل الضبِّي قال: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا، فلمَّا سُئِل: وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن، قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردُّون مَن أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح إلا عند عالم ناقد وأين ذلك ("الأغاني" 6- 2169).
وفي هذا مدح وذم؛ مدح لحماد بأنه عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء، وذم للادِّعاء بأنه يدخل في أشعارهم ما يشاء.
وقال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح ("الأغاني" 6- 2150).
فحماد إذا كان عالمًا باللغات ومذاهب الشعراء وبالشعر، لكن هذا العالم لم يكن يتعرَّض كثيرًا لنقد الشعر، كان يدرك أنه محارب، وأنه ربما لو تعرَّض للشعر والشعراء لأثار حفيظة أناس آخرين عليه، وهو يكفيه ما هو فيه، متَّهم بسوء الخلق وغير ذلك، من هنا نجد أن نقده لا يأخذ شكل النقد الموضوعي، ولكنه نقد تهكُّمي تفهم منه إرضاء أذواق أناس معينين أو الاستهتار بعقولهم.
فحين فضَّل أبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب الأخطل على الفرزدق وجرير من الشعراء المحدَثين آنذاك، كان هو يرى غير ذلك؛ فكان يرى أن جريرًا أفضل من الأخطل، لكنه حين سُئِل عن ذلك قال متهكِّمًا: الأخطل، ألست ترى أنه حبَّب إلينا النصرانية في شعره، وهذا الكلام نقْد جارح لشعر الأخطل، وتحطيم له في شكل تجاوب مع السائل، وهو أراد أن يقول: إن شعر الأخطل نوعٌ من التبشير لا أكثر ولا أقل.
إنني أضرب كفًّا بكفٍّ؛ كيف تغلبت الظروف على حماد فأسكتته عن نقد الشعر وهو ناقد من الجوارح؟ لكن كيف نطلب ممَّن حبس نفسه في داره عامًا كاملاً لا يخرج منها تخوُّفًا من الناس ومن حقدهم عليه، كيف نطلب منه أن ينشب مخالبه بقرض أبيات الشعر الركيكة وينهش ما سقط منها معنى وقالبًا، ويلحق بالجديد الجيد؟
وحين تعرَّض حماد للشعراء الجاهليين فضَّل النابغة الذبياني؛ لأنه كان يرى أن معانيه يمكن أخذها في البيت الواحد أو نصف البيت أو ربعه، فهي موجَزة مستقلَّة، لا ترتبط بما حولها من محسنات أو تتعلق بسبب أعمال اللغة، فشعره في نظره موجز وفصيح.
ومن هذا النقد يتَّضح أن حمادًا كان يرى أن الإفصاح ضروري في الشعر، وأن المعاني يلزم أن تأتي مباشرة، وأن لا تضيع في كنَف المحسنات أو البديع، وهو ما كان قد بدأ يرى ظهوره في عصره.
ونحن إذ تعمَّقنا في هذا الذي قاله عن النابغة، نجد أنه في الحقيقة أراد انتقاد شعر وشعراء عصره الذين بدؤوا يأتون بشعر تغلب عليه المحسنات اللفظية".
كتب عبدالله العباسي[203]: "ابن الأعرابي" هو أبو عبدالله محمد ابن زياد الأعرابي، ربيب المفضَّل الضبي، وكانت أمه تحته.
عالم بليغ ملمٌّ بالشعر وروايته وناقد.
أخذ عنه ثعلب الذي قال: قد أملى على الناس ما يحمل على جمال ولم يرَ أحد في الشعر أغزر منه، وأخذ عنه أبو عكرمة وإبراهيم الحربي، وله كتب منها "النوادر"، وكتاب "الأنواء"، وكتاب "صفة الخيل" ("الفهرست" 69، و"البيان" 1- 157 حا).
كان أبو عبدالله ابن الأعرابي: ممَّن استهوتهم القراءة، وتُروى عنه هذه الرواية: بعث إليه أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع غلامًا من غلمانه يسأله المجيء إليه، لكنَّه لم يلبِّ الطلب، وقال للغلام: عندي قومٌ من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت، وقال الغلام: ما رأيت عنده أحدًا إلا أني رأيت بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذه مرَّة وفي هذه مرَّة، وأظنُّه لم يكن ينظر إلا في دواوين شعر بحكم قوله: "عندي قوم من الأعراب".
ولقد كان متحمِّسًا كبيرًا للمفضَّل الضبِّي، وهو الذي نقل إلينا الكثير من أقواله، وتُعَدُّ الأشعار المروية عنه عن المفضل الضبي عند كثير من الدارسين أنها الأكثر صحَّة ودقَّة.
ورد في "الصناعتين": أخبرنا أحمد عن أبي بكر الصولي قال: كان ابن الأعرابي يأمر بكتابة جميع ما يجري في مجلسه، قال: فأنشده رجل يومًا أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب على أنها لبعض العرب، وهي:
سَارِيَةٌ لَمْ تَكْتَحِلْ بِغَمْضِ = كَدْرَاءُ ذَاتُ هَطَلاَنٍ مَحْضِ
موْقَرَةٌ مِنْ خُلَّةٍ وَحَمْضِ = تَمْضِي وَتُبْقِي نِعَمًا لاَ تَمْضِي
قَضَتْ بِهَا السَّمَاءُ حَقَّ الأَرْضِ
فقال ابن الأعرابي: اكتبوها، فلمَّا كتبوها قيل له: إنها لحبيب بن أوس - أبي تمام - قال: خرِّق خرِّق، لا جرم أن أثر الصنعة فيها بيَّن ("الصناعتين" 51، راجع أيضًا: "أخبار أبي تمام"؛ للصولي 175 حيث تروى أرجوزة أخرى).
هذه الرواية تعطي مفهومين؛ الأول: أن لفظًا جديدًا أصبح يستعاض به عن معنى التكلُّف، وهو لفظ الصنعة أو التصنُّع أو الصناعة... الخ، والثاني: أن مدلول هذا اللفظ عندهم أوسع من مدلول لفظ التكلُّف؛ لأنهم قد دخلوا مرحلة اقتصادية جديدة بظهور الكثير من الصناعات اليدوية، فاستعاروا اللفظ واستخدموه بدلاً من التكلُّف ليعطي مفهومًا أكثر دقَّة بأن هناك مثابرة واجتهاد وتأنٍّ ودقة، تصل في مرتبتها إلى مرتبة الصانع في إخراج العمل المصنوع، وهو في نظرهم عيب من عيوب الشعر الذي يجب أن ينساب من النفس دون صناعة.
وبالرغم من أن هذا اللفظ قد ذكره النابغة الذبياني حين نبَّه إلى الإقواء في شعره، حيث قال: دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة، وبالرغم من أن الفرزدق قد استخدم أيضًا هذا اللفظ بمعنى العيب؛ حيث قال "القصائد تصنعًا"، إلا أن هذا اللفظ أخذ مدلوله أو بدأ في أخذ مدلوله في عصر ابن الأعرابي وما تلاه من عصور، حتى إننا سوف نجد الجاحظ في مرحلة لاحقة يصف شعر الحطيئة بأنه من الشعر المصنوع.
نستدل من هذا أن الشعر المصنوع مرفوض لدى نقاد ذلك العصر ومنهم ابن الأعرابي.
لكن ابن الأعرابي - كما يقولون - كان يتحامل على أبي تمام، وأرادوا من الرواية السابقة أن يبيِّنوا بأن النقد لم يكن نقدًا صادقًا، ولكن به تحامل على الشعراء المعاصرين لهم.
ولما كنَّا نذهب إلى ما ذهب إليه الأقدمون أن "المعاصرة حجاب"، فإن تحامل ابن الأعرابي على أبي تمام ربَّما يكون صحيحًا من ناقد اهتم كثيرًا بالشعر القديم ودراسته وتدريسه وتفسير غريبه، في الوقت الذي جاء أبو تمام ليقول شعرًا بلغة العصر ليس به غريب ولا وحشي، ولهذا قال ابن الأعرابي عن شعره: لو كان هذا شعرًا، فإنَّ ما قالته العرب باطل.
فابن الأعرابي كان يرى أن شعر أبي تمام لا يصل في مرتبته إلى شعر الأقدمين من الشعراء، إلاَّ أنَّنا يمكن أن نستنتج أسباب الذهاب إلى هذا الحدِّ من القول، فالنقَّاد في ذلك الزمان كان نقدهم يدور في فلك المقارنة باستمرار؛ بمعنى: أن الناقد وقد درس وحفظ شعر الأقدمين ما إن ينظر في شعر محدَث إلا وقارنه بالشعر القديم الذي عنده، فتكون النتيجة أنه يُسقط ما بيده من الشِّعر المحدَث ويُعلِي الشعر القديم؛ وذلك لما للشِّعر القديم في نفسه من مكانة، وهم حين كانوا يفعلون ذلك ينسون الظروف الموضوعية للشعر وللشعراء، ويضعون نصْبَ أعينهم اللغة القديمة التي بهرتهم، وجمال الألفاظ الذي استحوَذ على قلوبهم.
لكننا يجب أن نفرِّق بين نوعين من المقارنة - إذا كان لا بُدَّ من مقارنة - المقارنة العمياء التي لا ترى أكثر من صورة تاريخية تعشِّش في الذاكرة، والمقارنة التي ترفع حجابَ الظلام عن الحاضر وشعر وشعراء العصر الذي يقارن بالماضي، فإذا ما رُفِع حجاب الظلام أمكن أن يعطى حتى على ضوء المقارنة لشعراء أيِّ عصر من العصور حقوقهم التي يستحقونها.
قد يكون النقد القديم في بعض جوانبه فيه تحامُل كما رأينا، لكن لا يعني هذا أن ذلك التحامل في كل الظروف مقصود إليه قصدًا، وإنما كما قلنا لم يكونوا بمستطيعين أن ينسوا النابغة وزهيرًا وعدي بن زيد وامرأ القيس وغيرهم.
كانوا بالنسبة لهم الكنوزَ التي عثروا عليها، وجمعوها من أشتات وأصقاع، فهم غير مفرطين فيها مهما جاء لهم الشعراء المحدَثون بشعر محدَث.
ولقد كانت حركة الدفاع عن الشعر القديم في جانبٍ من جوانبها نفسيَّةً، بمعنى أننا نجد هذا الموقف في كل الأزمنة، ما أن يأتي جيل جديد بجديد، إلا وانتصبتْ أمامه صفوفٌ من المدافعين عن القديم، وبعضهم قد لا يعرف القديم أبدًا.
وإذا خلتْ هذه المواقف من الجاهلين بالقديم، تصبح ظاهرةً مقبولة؛ لأنها تخفف من غلواء التطرف والاندفاع وراء الجديد، بحيث يُختار من الجديد أكثرُه أصالة، أما إذا قاد لواءها الجاهلون بالقديم، فإنهم يؤدُّون إلى نتيجة عكسية خطرة على الجديد والقديم سواء بسواء.
ابن الأعرابي: كان من الذين ألمُّوا بالقديم إلمامًا واسعًا، فهو الذي فتح لهم ضوابط اللغة والجمال اللغوي، ومن هنا فوقوفه في وجه أبي تمام وغيره من الشعراء الجدد في زمانه، كان عن غيرة متفهمة، وليست غيرةً جاهلة كما نرى اليومَ في كثير من الجدل الذي نقرؤه.
ابن الأعرابي الناقد أراد للشعر أن يحافظ على فخامة ألفاظه، وجمال صوره، وبُعد مراميه.
أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار، الملقب بثعلب: قال ابن خلكان: وكان سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه، وكان قد أصابه صممٌ شديد، فصدمتْه فرس فألقتْه في هوة، فاضطرب دماغه فمات في اليوم الثاني - رحمه الله[204].
إبراهيم بن عبدالله بن مسلم الكجي: أحد المشايخ المعمَّرين، كان يحضر مجلسَه خمسون ألفًا ممن معه محبرة سوى النظارة، ويستملي عليه سبعة مستملين كلٌّ يبلغ صاحبه، ويكتب بعض الناس وهم قيام، وكان كلما حدَّث بعشرة آلاف حديث تصدَّق بصدقة، ولما فرغ من قراءة السنن عليه، عمل مأدبة غرم عليها ألف دينار، وقال: شهدت اليوم على رسول الله ﷺ فقُبلت شهادتي وحدي، أفلا أعمل شكرًا لله - عز وجل؟![205]
وروى الخطيب البغدادي بسنده عن صافي الجرمي الخادم، قال: انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث، وابنه المقتدر جعفر جالس فيه، وحوله نحوٌ من عشرة من الوصائف والصبيان من أصحابه في سنه عنده، وبين يديه طبقٌ من فضة فيه عنقود عنب، وكان العنب إذا ذاك عزيزًا، وهو يأكل عنبة واحدة، ثم يفرِّق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة، فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهمومًا، فقلت له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ويحك! والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام؛ فإن في قتله صلاحًا للأمة، فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك، فقال: ويحك يا صافي، هذا الغلام في غاية السخاء؛ لما أراه يفعل مع الصبيان، فإن طباع الصبيان تأبى الكرم، وهذا في غاية الكرم، وإن الناس من بعدي لا يولُّون عليهم إلا من هو من ولدي، فسَيلي عليهم المكتفي، ثم لا تطول أيامُه؛ لعلته التي به - وهي داء الخنازير - ثم يموت، فيلي الناسَ جعفر هذا الغلام، فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا؛ لشغفه بهن، وقرب عهده من تشبُّبِه بهن، فتضيع أمور المسلمين، وتعطل الثغور، وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور، قال صافي: والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء[206].
أبو أحمد العسال، محمد بن أحمد العسال الأصبهاني: من أكابر العلماء، قال ابن منده: كتبت عن ألف شيخ، لم أرَ أفهمَ ولا أتقنَ من أبي أحمد العسال[207].
أبو الحسين بن المنادى أحمد بن جعفر بن محمد بن يزيد: نقل ابن الجوزي عن أبي يوسف القدسي أنه قال: صنف أبو الحسين بن المنادى في علوم القرآن أربعمائة كتاب ونيفًا وأربعين كتابًا، ولا يوجد في كلامه حشوٌ؛ بل هو نقي الكلام، جمع بين الرواية والدراية[208].
وقال الفريابي: اجتمع سفيان والأوزاعي وعباد بن كثير بمكة، فقال سفيان: أيا أبا عمرو، حدثنا حديثك مع عبدالله بن علي عم السفاح، فقال: لما قدم الشام وقتل بني أمية، وجلس يومًا على سريره، دعا أصحابه أربعة أصناف: صنف بالسيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافر كوب، ثم بعث إليَّ، فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ قال: قد كان بينك وبينهم عهود وكان ينبغي أن يثقوا به[209]، قال: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجشهت نفسي وكرهت القتل، فذكرتُ مقامي بين يدي الله فلفظتها فقلتُ: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفختْ أوداجه، واحمرَّت عيناه، فقال لي: ويحك ولِمَ؟ قلت: قال رسول الله ﷺ: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زانٍ، ونفس بنفس، وتارك لدينه))[210]، قال: ويحك، أليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله ﷺ أوصى لعليٍّ؟ قلت: لو أوصى له لما حكّم الحكمين.
فسكتَ وقد اجتمع غضبًا، فجعلتُ أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا أومى أنْ أخرِجوه، فخرجت فما ابتعدت حتى لحقني فارس، فنزلت وقلت وقد بعث ليأخذ رأسي: أصلي ركعتين، فكبَّرت وأنا أصلي، فسلم وقال: إن الأمير بعث إليك هذه الدنانير، قال: ففرقتُها قبل أن أدخل بيتي[211].
تذاكر مالك والأوزاعي مرة في المدينة من الظهر حتى صلَّيَا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الأوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه أو في شيء من الفقه.
وقال ابن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدَّثَنا وأخبرنا.
وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة.
وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله ذاك[212].
حج الأوزاعي مرةً فدخل مكة وسفيان الثوري آخذٌ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ، حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه[213].
يحكى أن الإمام سفيان الثوري دخل على الخليفة المهدي، فأقبل عليه بوجه طلق وقال له: يا سفيان، تفرُّ منا ها هنا وها هنا، أتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم فيَّ، يحكم فيك ملكٌ قادر، يفرِّق بين الحق والباطل، فقال الربيع وهو القائم على رأس الخليفة: ائذن لي يا أمير المؤمنين بضرب عنقه، فقال المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ ثم كتب له عهدًا على قضاء الكوفة، وأمر بألاَّ يعترض عليه بحكم، فأخذه سفيان وخرج ورمى به في دجلة.
قيل لمكحول: مَن أعلم مَن رأيت؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب.
وقال العباس بن الوليد بن مزيد العذري البيروتي[214]: ما رأيت أبي يتعجَّب من شيء ما رآه في الدنيا تعجُّبَه من الأوزاعي، كان يقول: سبحان الله! يفعل ما يشاء، وكان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حجر أمه، فخرجت به أمُّه من بلد إلى بلد، إلى أن بلغته حيث رأيته، ثم يقول: يا بُني، عجزتِ الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدبَه في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط إلا احتاج مستمعُها إلى إثباتها، ولا رأيته ضاحكًا قط حتى يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد، أقول في نفسي: أيرى في المجلس قلب لم يَبكِ؟
قال مسعر بن كدام: كنت أمشي مع سفيان الثوري فسأله رجل، فلم يكن معه ما يعطيه فبكى، فقال له: ما يبكيك؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجلٌ خيرًا، فلا يصيبه عندك؟
كان الصاحب بن عباد يقول: لم أسمع جوابًا أطرف وأوقع وأبلغ من جواب عبادة، فإنه قال لرجل: من أين أقبلتَ؟ قال: من لعنة الله، فقال: ردَّ الله عليك غربتك.
قال ابن مفلح في كتابه "الآداب الشرعية"، ج2، ص148، 150، فصل في مكانة حفاظ الحديث، وإقبال الألوف على مجالسهم، وحَسَد الخلفاء لهم:
قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقتَ العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل؛ مخافةَ أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه، فرأيت شيخًا في المجلس يبول في طيلسانه، ويدرج الطيلسان؛ مخافة أن يؤخذ مكانُه إن قام للبول.
وذكر غير واحد أنه كان في مجلس يزيد بن هارون عددٌ يحزر بسبعين ألفًا.
وأمر المعتصم بحزر مجلس عاصم بن علي، فحزروا المجلس عشرين ألفًا ومائة ألف.
وأملى البخاري ببغداد، فاجتمع له عشرون ألفًا.
وقال أبو الفضل الزهري: كان في مجلس جعفر الفريابي من أصحاب الحديث مَن يكتب حدود عشرة آلاف، ما بقي منهم غيري، سوى من لا يكتب.
وأملى أبو مسلم الكجي في رحبة غسان، فكان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه، وكتب الناس عنه قيامًا بأيديهم المحابر، ثم مسحت الرحبة وحسب من حضر بمحبرة، فبلغ ذلك نيفًا وأربعين ألف محبرة، سوى العطارة.
قال ابن الجوزي: قد كانت الهمم في طلب العلم كما قد ذكرنا، ثم ما زالتْ تقلُّ الرغبات حتى اضمحلت، فحكى شيخنا أبو حفص عمر بن طفر المغازلي، قال: كنا في حلقة ابن يوسف نسمع الحديث، فطلبنا محبرة نكتب بها السماع، فما وجدنا، قال: وقد كان الخلفاء والكبراء يغبطون المحدثين على هذه المرتبة، ثم روى بإسناده عن محمد بن سلام الجمحي أنه قال: قيل للمنصور: هل من لذَّات الدنيا شيء لم تنلْه؟ قال: بقيتْ خصلةٌ، أنْ أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: من ذكرتَ - رحمك الله؟ قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابُهم، المتشققة أرجلُهم، الطويلة شعورُهم، برد الآفاق، ونَقَلة الحديث.
وقال يحيى بن أكثم: قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجلَّ مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه: رجلٌ في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان، قال: قال رسول الله ﷺ قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خيرٌ منك، وأنت ابن عم رسول الله ﷺ وولي عهد المسلمين؟! قال: نعم، ويلك هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله ﷺ لا يموت أبدًا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
وقال المأمون: ما طلبتْ مني نفسي شيئًا إلا وقد نالتْه، ما خلا هذا الحديث، فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال لي: من حدثك؟ فأقول: حدثني فلان، قيل له: يا أمير المؤمنين، فلِمَ لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث.
وقال يحيى بن أكثم: وليت القضاء، وقضاء القضاء، والوزارة، وكذا وكذا، ما سررتُ لشيء كسروري بقول المستملين: مَن ذكرت - رضي الله عنك؟
بينما ابن عباس جالسٌ في مجلس رسول الله ﷺ بعد ما كفَّ بصرُه، وحوله ناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرف خز، وجبَّة وعمامة خز، حتى سلم على القوم، فردُّوا عليه السلام، فقال: أيا ابن عم رسول الله، أفتني، قال: في ماذا؟ قال: أتخاف عليَّ جناحًا إن ظلمني رجل فظلمته، وشتمني فشتمته، وقصّر بي فقصرت به؟ فقال: العفو خير، ومن انتصر فلا جناح عليه، فقال: يا ابن عم رسول الله ﷺ أرأيت امرأ أتاني فوعدني وغرَّني ومنَّاني، ثم أخلفني واستخف بحرمتي، أيسعني أن أهجوه؟ قال: لا يصلح الهجاء؛ لأنه لا بد لك من أن تهجو غيرَه من عشيرته، فتظلم من لم يظلمْك، وتشتم من لم يشتمك، وتبغي على من لم يبغِ عليك، والبغي مرتعٌ وخيم، وفي العفو ما قد علمتَ من الفضل، قال: صدقتَ وبرِرتَ.
فلم ينشب أن أقبل عبدالرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش، فلما رأى الأعرابي، أجلَّه وأعظمه وألطف في مسألته، وقال: قرَّب الله دارك يا أبا مليكة، فقال ابن عباس: أجرول؟ قال: جرول، فإذا هو الحطيئة، فقال ابن عباس: لله أنت، أي مردي قذاف وذائد عن عشيرته، ومثنى بعارفه تؤتاها أنت يا أبا مليكة، والله لو كنت عركت بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزبرقان كان خيرًا لك، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك، وشتمت من لم يشتمك، قال: إني والله بهم يا أبا العباس لَعالمٌ، قال: ما أنت بأعلم بهم من غيرك، قال: بلى والله - يرحمك الله - ثم أنشأ يقول:
أَنَا ابْنُ بَجْدَتِهِمْ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً = فَسَلْ بِسَعْدٍ تَجِدْنِي أَعْلَمَ النَّاسِ
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ كَثِيرٌ إِنْ عَدَدْتَهُمُ = وَرَأْسُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ آلُ شَمَّاسِ
وَالزِّبْرِقَانُ ذُنَابَاهُمْ وَشَرُّهُمُ = لَيْسَ الذُّنَابَى أَبَا العَبَّاسِ كَالرَّاسِ
فقال ابن عباس: أقسمت عليك ألا تقول إلا خيرًا، قال: أفعل، ثم قال ابن عباس: يا أبا مليكة من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ قال: من الماضين؟ قال: الذي يقول:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ = يَفِرْهُ وَمَنْ لاَ يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وما بدونه الذي يقول:
وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ = عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ
ولكن الضراعة أفسدتْه كما أفسدت جرولاً - يعني نفسه - واللهِ يا ابن عم رسول الله، لولا الطمع والجشع لكنتُ أشعر الناس الماضين، فأما الباقون فلا تشكك أني أشعرهم وأصوبهم سهمًا إذا رميت[215].
كان أبو بكر بن الأنباري يحفظ كل جمعة عشرة آلاف ورقة[216].
كان أبو العلاء الهمذاني يحفظ من جملة محفوظاته كتاب "الجمهرة"[217].
محمد بن يحيى الزبيدي القرشي: صنف كتبًا في فنون العلم تزيد على مائة تصنيف[218].
أبو النجيب السهروردي حفظ كتاب الوسيط في التفسير للواحدي[219].
ابن حمويه اليزدي علي بن أحمد بن الحسين: زادت مصنفاته على خمسين مصنفًا[220].
عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد أبو القاسم السهيلي: استخرج "الروض الأنف" من نيف وعشرين ومائة ديوان[221].
ابن يونس موسى بن محمد بن منعة، المعروف بابن يونس الموصلي الشافعي: أحد المتبحرين في العلوم المتنوعة، قيل: إنه كان يتقن أربعة عشر علمًا، كان يقرأ عليه الحنفيون كتبهم، وكان يقرأ عليه أهل الكتاب التوراة والإنجيل، فيقرُّون أنهم لم يسمعوا بمثل تفسيره لها، وكان الشيخ تقي الدين بن الصلاح يبالغ في الثناء عليه، فقيل له يومًا: من شيخُه؟ فقال: هذا الرجل خلقه الله عالمًا، لا يقال: على من اشتغل؟ فإنه أكبر من هذا، قال ابن خلكان: وكان يتهم في دينه؛ لكون العلوم العقلية غالبة عليه، توفي سنة 639هـ[222].
أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صحب أبا العباس ثعلبًا فعُرف به، وله تصانيفُ كثيرة، وكانت تسعه روايتُه وحفظه، يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر يقول أبو عمر: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا كثيرًا، وكان أغلب تصانيفه من حفظه، حتى إنه أملى في اللغة ثلاثين ألف ورقة؛ فلهذا الإكثار نُسب إلى الكذب، قال الملك المؤيد صاحب حماة في تاريخه: وكان اشتغاله بالعلوم قد منعه من اكتساب الرزق، فلم يزل مضيقًا عليه، توفي سنة 345هـ.
ابن مقلة الوزير: أحد المشاهير الكتاب، محمد بن علي بن الحسين بن عبدالله أبو علي، المعروف بابن مقلة الوزير، كان له بستان كبير جدًّا، وعليه جميعه شبكة من أبريسم، وفيه من الطيور والقمارى والهزار والطواويس شيءٌ كثير، وفيه من الغزلان وبقر الوحش وحميره والنعام والأيل شيء كثير أيضًا، ولي الوزارةَ لثلاثة من الخلفاء: المقتدر والظاهر والراضي، وبنى له دارًا، فجُمع عند بنائها خلقٌ كثير من المنجمين، فاتَّفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشاروا، فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرًا، وقد أنشد فيه بعض الشعراء:
قُلْ لاِبْنِ مُقْلَةَ مَهْلاً لاَ تَكُنْ عَجِلاً = وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أَحْلاَمِ
تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا = دَارًا سَتَنْقَضُّ أيَضًا بَعْدَ أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدًا تَطْلُبُهُ لَهَا = فَلَمْ تُوَقَّ بِهَا مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ القُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا = فِي حَالِ نَقْضٍ وَلاَ فِي حَالِ إِبْرَامِ
ثم عزل عن وزارته، وأحرقتْ دارُه، وانقلعت أشجاره، وقُطعت يده، ثم قُطع لسانه، وأغرم ألف ألف دينار، ثم سجن وحده، مع الكبَر والضعف والضرورة، وكان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق يدلي الحبل بيده اليُسرى ويمسكه بفيه، وقاسى جهدًا جهيدًا، حتى مات في الحبس سنة 328هـ، ومن نظمه وهو يبكي على يده:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا = فَإِنَّ البَعْضَ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ[223]
ابن الدهان: ناصح الدين أبو محمد سعيد، المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي، شارح كتاب "الإيضاح والتكملة" وكتاب "اللمع" لابن جني، وكان يفضل على أبي محمد الجواليقي وابن الخشاب الشجري المعاصرينِ له، انتقل إلى الموصل قاصدًا جناب الوزير جمال الدين الأصفهاني المعروف بالجواد، وكانت كتبه ببغداد، واستولى الغرق في تلك السنة على البلد فغرقت كتبه، وكان خلف داره مدبغة، ففاضت بالغرق إلى بيته، فتلفت كتبُه بهذا السبب زيادة على تلف الغرق، فأرسل من أحضرها له وكان قد أفنى عمره فيها، فأشاروا عليه أن يطيبها بالبخور ويصلح ما أمكنه فيها، فبخرها باللاذن ولازمها بالبخور، إلى أن بخَّرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذنًا، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى، توفي سنة 569هـ[224].
محمد بن الزيات: أبو جعفر بن عبدالملك، وزير المعتصم ثم ابنه هارون الواثق، ثم لما مات الواثق أشار هو بتولية ولده، وأشار القاضي أحمد بن أبي دؤاد بتولية أخيه المتوكل، وتم أمر المتوكل فحقد ذلك عليه، مضمومًا إلى حقده عليه القديم؛ لأنه كان يغلظ عليه في حياة الواثق تقرُّبًا إليه، وكان ابن الزيات قد صنع تنورًا من حديد في أيام وزارته، وله مسامير محددة إلى داخله، يعذِّب فيه الناس، وكان يقول إذا استرحم: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أدخله التنور، وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، ومات في التنور سنة 333هـ[225]، فوجد قد كتب في التنور بفحمة:
مَنْ لَهُ عَهْدٌ بِنُو = رٍ يُرْشِدُ الصَّبَّ إِلَيْهِ
سَهِرَتْ عَيْنِي وَنَامَتْ = عَيْنُ مَنْ هُنْتُ عَلَيْهِ
رَحِمَ اللَّهُ رَحِيمًا = دَلَّ عَيْنِي عَلَيْهِ
أبو حامد الإسفرايني: أحمد بن محمد بن أحمد، أبو حامد الإسفرايني، طبق الشيخ أبو حامد الأرض بالأصحاب، وجمع مجلسه ثلاثمائة متفقِّهٍ، واتَّفق الموافق والمخالف على تفضيله، حتى قال أبو الحسين القدوري: هو عندي أفقه أو أنظر من الشافعي، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام يفتي إلى ثمانين سنة، انتهتْ إليه رئاسة الدين والدنيا، حتى إنه قال للخليفة: إنك لست بقادر على عزلي من ولايتي التي أولاني الله - تعالى - إيَّاها، وأنا أقدر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاثة، أعزلك عن خلافتك، وأرسل إلى مصر فاشترى أمالي الشافعي بمائة دينار.
قال السبكي في الطبقات عن سليم الرازي: إن الشيخ أبا حامد كان يحرس في درب، وكان يطالع في زيت الحرس، ويأكل من أجرة الحرس، توفي في شوال سنة 456هـ.
محمد بن عبدالرزاق بن رزق بن أبي بكر العدل العالم شمس الدين بن محمد المحدث الرسعني الحنبلي: كان من أعيان الشهود تحت الساعات، ومن شعره:
وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا يُبَلِّغُ لَوْعَتِي = وَوَجْدِي وَأَشْجَانِي إِلَى ذَلِكَ الرَّشَا
لأَسْكَنْتُهُ عَيْنِي وَلَمْ أَرْضَهَا لَهُ = وَلَوْلاَ لَهِيبُ القَلْبِ أَسْكَنْتُهُ الحَشَا
سافر إلى مصر في شهادة، ثم عاد على حمار، فسُرق حماره وما عليه في الطريق، فرجع إلى القاهرة شاكيًا فلم يحصل له مقصود، فخرج متوجهًا إلى دمشق، فأتى ليسقي فرسه بالتشريعة فغرق، ولم يظهر له خبر، توفي سنة 689هـ.
أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه الكوفي: أحد الأئمة المتبوعين، كان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أميرَ العراقين، فأراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى فضربَه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وبقي على الامتناع وسجنه فتوفي بالسجن في أحد القولين سنة 150 هـ ببغداد[226].
أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس بن المنذر أبو حاتم الحنظلي الرازي، أحد الأَثْبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة الرازي - تغمَّدهما الله برحمته - سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق من الكبار، وحدَّث عنه الربيع بن سليمان ويونس بن عبدالأعلى وهما أكبر منه، قال لابنه عبدالرحمن: يا بني مشيتُ على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وذكر أنه لم يكن له شيء ينفق منه في بعض الأحيان، وأنه مكث ثلاثًا لا يأكل شيئًا حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار، توفي سنة 277 هـ[227].
ابن الخشَّاب: أبو محمد عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي، العالم المشهور في الأدب والنحو والتفسير والحديث والنسب والفرائض والحساب، له في العلوم اليد الطولى، كان فيه بذاذة وقلَّة اكتراث بالمأكل والملبس، زاد الحافظ الذهبي ناقلاً له عن ابن النجار وجمال الدين القفطي أنه كان بخيلاً قذرًا تبقى عمامته على رأسه حتى تتقطع مما يلي رأسه من الوسخ، ويرمي عليها العصافير ذرقها، فيتركه على حاله، ولم يتزوج قط ولا تسرَّى، وكان يستقي بجرة مكسورة، ويلعب بالشطرنج حيثما وجده، ويقف على المشعبذ وأصحاب النرود، ويستعير الكتاب فلا يعيده متعللاً بضياعه بين كتبه، وكان مزَّاحًا...[228].
أبو الوقت السجزي، عبدالأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم ابن إسحاق أبو الوقت السجزي الأصل، الهروي الصوفي مسند العصر ورحلة الدنيا، روى عن خلائق، وروى عنه أمم لا يحصون، حكى عنه والده أنه أخذ ماشيًا من هراة إلى بوشنج ليسمعَه الحديث، وكان أبوه أيضًا ماشيًا، فكان إذا أعيا حمله على كتفه وعمره إذ ذاك دون عشر سنين قال: وكنا نلتقي على أفواه الطرق فلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى، ادفع إليه هذا الطفل نركبه وإياك، فيقول: معاذ الله أن يركب في طلب حديث رسول الله ﷺ قال: فلحسن نية الوالد صارتِ الوفود ترحل إليَّ من الأمصار، توفي سنة 553 هـ[229].
أبو الطيب الطبري طاهر بن عبدالله بن طاهر بن عمر أبو الطيب الطبري: شيح الشافعية، أخذ عن أبي حامد الإسفرايني وأبي الحسن الماسرجسي، وصنَّف في الأصول والجدل وغير ذلك، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت، وقد قال في ذلك القاضي أبو الطيب:
قَوْمٌ إِذَا غَسَلُوا ثِيَابَ جمَالِهِمْ = لَبِسُوا البُيُوتَ إِلَى فَرَاغِ الغَاسِلِ
بلغ مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يُفتي ويقضي ويشتغل، توفي سنة 450 هـ.
مالك بن أنس بن أبي عامر بن الحارث بن غياث بن غيمان - بالغين المعجمة - أبو عبدالله الإمام المدني أحد أئمة الإسلام سعى به آل جعفر بن سليمان بن علي ابن عمِّ أبي جعفر المنصور، فدعا به وجرَّده وضربه سبعين سوطًا، ومدتْ يداه حتى انخلع كتفاه، وسبب ضربه أنهم سألوه عن مبايعة محمَّد بن عبدالله بن حسن، وقالوا له: إنَّ في أعناقنا مبايعة أبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرَهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضُرِب لذلك، ثم لم يزل بعده في علوٍّ ورفعة، كأنما كانت تلك السياط حليًّا تحلَّى بها، توفي سنة 174 هـ[230].
قال الزِّركلي في "الأعلام": ابن سريج (249- 306 هـ): أحمد بن عمر بن سريج البغدادي أبو العباس، فقيه الشافعية في عصره، مولده ووفاته في بغداد، له نحو 400 مصنف، وكان يلقَّب بالباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز وقام بنصرة المذهب الشافعي فنشره في أكثر الآفاق حتى قيل: بعث الله عمر بن عبدالعزيز على رأس المائة من الهجرة، فأظهر السنة وأمات البدعة، ومَنَّ الله في المائة الثانية بالإمام الشافعي، فأحيا السنة وأخفى البدعة، ومَنَّ بابن سريج في المائة الثالثة فنصر السنن وخذل البدع، وكان حاضرَ الجواب، له مناظرات ومساجلات مع محمد بن داود الظاهري، وله نظم حسن[231].
كان الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي لا يرى منكرًا إلا غيَّره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، قال ضياء الدين المقدسي: ولقد رأيته مرة يهريق خمرًا فجبذ صاحبه السيف فلم يخف من ذلك وأخذه مِن يده، وكان - رحمه الله - قويًّا في بدنه وفي أمر الله، وكثيرًا ما كان ينكر المنكر، ويكسر الطنابير والشبابات.
قيل لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخرى مثل ذلك فقال: لعلَّ الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد.
وسُئِل أبو عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلَّم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة.
وسُئِل سفيان بن عيينة: مَن أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم؛ لأن الخطأ منه أقبح.
وقال ابن أبي غسان: لا تزال عالمًا ما كنت متعلمًا، فإذا استغنيت كنت جاهلاً.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلَّمها وأحسن تعليمها، وأدَّبها فأحسن تأديبها وأعتقها فتزوَّجها، فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدَّى حقَّ مواليه وأدى حق ربه فله أجران))[232].
قال الشعبي بعد روايته لهذا الحديث: خذْها بغير شيء قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة.
وروى خالد بن خداش البغدادي قال: ودعت مالك بن أنس فقلت: يا أبا عبدالله أوصني فقال: عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم، وكتابة العلم من عند أهله.
وعن الأعمش قال: قال لي إبراهيم وأنا شاب في فريضة: احفظ هذه لعلك أن تُسْأَل عنها.
وكان عروة بن الزبير يقول لبنيه: يا بني إن أزهد الناس في عالمٍ أهلُه، فهلمُّوا إليَّ فتعلموا منِّي، فإنكم توشكون أن تكونوا كبارَ قوم، إني كنت صغيرًا لا يُنْظَر إليَّ فلمَّا أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما شيء أشد على امرئ من أن يُسْأَل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
وكان يقال: من أدَّب ولده أرغم أنفَ عدوِّه.
وقال ابن عون عن محمد قال: كانوا يقولون: أكرم ولدك، وأحسن أدبه.
وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: قال لنا ابن شهاب ونحن نسأله: لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدَّة عقولهم.
وقال عبدالملك بن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون: أتيت المنذر بن عبدالله الخزامي وأنا حديث السن، فلما تحدَّثت إليه اهتز إليَّ على غيري؛ لما رأى فيَّ بعض الفصاحة فقال لي: مَن أنت؟ فقلت له: عبدالملك بن عبدالعزيز بن أبي سلمة، فقال: اطلب العلم فإن معك حذاءك وسقاءك.
قال إبراهيم بن المنذر الخزامي: ما رأيت شابًّا قط لا يطلب العلم ولا سيما إذا كانت له حدة إلا رحمتُه.
وروى ابن أبي الزناد عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبدالعزيز يأتي عبيدالله بن عبدالله يسأله عن علم ابن عباس فربما أذن له وربما حجبه.
وكان مالك يقول: إنَّ هذا الأمر لن ينال حتى يذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم، حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر.
وكان سحنون يقول: لا يصلح العلم لِمَن يأكل حتى يشبع، ولا لِمَن يهتم بغسل ثوبه.
وقال أيوب: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالِسَ غيره.
وقال قتادة: لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى - عليه السلام - ولكنه قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا.
وقال علي t: تزاوروا وتذاكروا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس علمكم.
وعن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء أنه كان يأتي صبيان الكُتاب فيعرض عليهم حديثه كي لا ينسى.
وقال إبراهيم: إذا سمعت حديثًا فحدِّث به حين تسمعه، ولو أن تحدث به مَن لا يشتهيه، فإنه يكون كالكتاب في صدرك.
وقال يزيد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى: إحياء الحديث مذاكرته، فقال له عبدالله بن شداد: يرحمك الله، كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.
وقال الخليل بن أحمد: كن على مدارسة ما في صدرك أحرص منك على مدارسة ما في كتبك.
وقال الرياشي: سمعت الأصمعي وقيل له: كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
عن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب: يا يونس، لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قطع قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة؛ فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي.
وعن أبي سعيد قال: تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيج الحديث.
التوحيدي[233]: النهضة التي نشرت فيها نفائس المخطوطات تجلت بها شخصية (أبي حيان التوحيدي) في كتبه المتعددة بين الدراسات الأدبية والاجتماعية، فهي الآن بعد نحو ألف سنة من وفاته يذكر بها، كان هذا الأديب منكودًا يشكو القلة وضَعَة الحال، فلم يلقَ ممَّن صحبهم من الأمراء والوزراء إلا جحود فضله وإساءة معاملته، حتى ضاق بأمره واستبدَّت به المحنة فأدَّت به إلى أزمة نفسية غضب فيها عن عمله ونقم من كتبه فأحرقها جميعًا.
وما ينشر اليوم من مؤلفاته هو مما كتب عنه في حياته، ومما خرجت نسخه من يده قبل هذا الحريق المشؤوم، وقد كتب إليه القاضي أبو سهل يعذله على سوء صنيعه في إحراق كتبه، فأجابه برسالة طويلة تفيض يأسًا وكمدًا يقول فيها:
"... هذه الكتب حوَت من أصناف العلم سره وعلانيته؛ فأما ما كان سرًّا فلم أجد له مَن يتحلَّى بحقيقته راغبًا، وأما ما كان علانية فلم أجد مَن يحرص عليه طالبًا.
إني فقدت ولدًا نجيبًا وصديقًا حبيبًا وصاحبًا قريبًا وتابعًا أديبًا ورئيسًا مشيبًا، فشق علي أن أدع كتبي للقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي في أجلها.
ولي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، هذا داود الطائي طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول، وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنُّور، وزجَّ به في النار، ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك، وهذا وهذا.
على أنك لو علمت في أي حال غلب عليَّ ما فعلت وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقة، لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته".
قالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين ويتفقهن فيه.
وروى عبدالله بن بريرة أن معاوية بن أبي سفيان سأل دعبلاً النسَّابة فسأله عن العربية وسأله عن أنساب الناس وسأله عن النجوم فإذا رجل عالم، فقال: يا دعبل من أين حفظت هذا؟ قال: حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول.
وسئل الأصمعي: بم نلت ما نلت؟ قال: بكثرة سؤالي وتلقي الحكمة الشرود.
وقال الحسن: مَن استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله، فاقطعوا سرابيل الجهل عنكم بدفْع الحياء في العلم؛ فإنه مَن رقَّ وجهه رقَّ علمه.
وقال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة البدن.
قال الشعبي: ما علمت أنَّ أحدًا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق.
وقال بسر بن عبدالله الحضرمي: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في طلب الحديث الواحد لأسمعه.
وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع.
وقال مالك بن أنس: لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم.
أبو علي عبدالرحيم بن علي بن الحسن اللخمي البيساني ثم العسقلاني ثم المصري، محي الدين، وقيل: مجير الدين، الوزير صاحب ديوان الإنشاء وشيخ البلاغة، ولد سنة 529 هـ وقيل: إن مسودات رسائله لو جمعت بلغت مائة مجلد، وكان له حدبة يخفيها الطيلسان، وله آثار جميلة وأفعال حميدة، مات في سابع ربيع الآخرة سنة 596 هـ ودفن بالقرافة[234].
وقال سفيان الثوري: لا أعلم من العبادة شيئًا أفضل من أن يعلم الناس العلم.
وقال ميمون بن مهران: بنفسي العلماء هم ضالَّتي في كل بلد وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وقال الحسين: مَن طلب الحديث يريد به وجه الله كان خيرًا مما طلعت عليه الشمس.
وقال ابن مسعود: نعم المجلس مجلس تنشر فيه الحكمة، وترجى فيه الرحمة.
وقال الزهري: ما عبد الله بمثل العلم.
وقال الحسن: إن الرجل ليتعلم الباب من العلم فيعمل به خيرٌ من الدنيا وما فيها.
وقال ميمون: إن مثَل العالم في البلد كمثَل عين عذبة في البلد.
وقال سفيان الثوري: ما يراد الله - عز وجل - بشيء أفضل من طلب العلم، وما طلب العلم في زمان أفضل منه اليوم.
وقال الحسن: إن كان الرجل ليصيب الباب من أبواب العلم فينتفع به فيكون خيرًا له من الدنيا لو جعلها في الآخرة.
وقال سفيان لرجل من العرب: ويحكم، اطلبوا العلم فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فيصير إلى غيركم فتذلون، اطلبوا العلم فإنه شرف في الدنيا وشرف في الآخرة.
وقال بعض العلماء: من شرف العلم وفضله أن كل منه نسب إليه فرح بذلك، وإن لم يكن من أهله، وكل مَن دفع عنه ونسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه، وإن كان جاهلاً.
وقال ابن شهاب: العلم ذكَر يحبه ذكورة الرجالة ويكرهه مؤنثوهم.
ويقال: مثَل العلماء مثَل الماء حيثما سقطوا نفعوا.
وقال أبو الأسود الدؤلي: الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال عبدالملك بن مرْوان لبنيه: يا بني، تعلموا العلم؛ فإن استغنيتم كان لكم كمالاً، و إن افتقرتم كان لكم مالاً.
وعن زيد بن ثابت أن النبي ﷺ قال: ((نضَّر الله امرأ سمع منَّا حديثًا فحفظه وبلغه غيره، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))، وفي رواية أخرى: ((نضَّر الله امرأ سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))[235].
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ : ((نضر الله امرأ سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه فرب مبلَّغ أوعى من سامع))[236].
وروى يحيى بن أبي كثير عن الأزدي قال: سألت ابن عباس عن الجهاد؟ فقال: ألا أدلك على خيرٍ من الجهاد؟ فقلت: بلى، قال: تبني مسجدًا وتعلم فيه الفرائض والسنة والفقه في الدين.
وقال أبو الدرداء: ما من أحد يغدو إلى المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه إلا كتب له أجر مجاهد لا ينقلب إلا غانمًا.
وروى أبو يوسف عن أبي عن أبي حنيفة قال: حججت مع أبي سنة ثلاث وتسعين ولي ست عشرة سنة، فإذا شيخ قد اجتمع الناس عليه، فقلت لأبي: مَن هذا الشيخ؟ فقال: هذا رجلٌ قد صحب النبي ﷺ يقال له: عبدالله بن الحارث بن جزء، فقلت لأبي: فأي شيء عنده؟ قال: أحاديث سمعها من رسول الله ﷺ فقلت لأبي: قدِّمني إليه حتى أسمع منه، فتقدم بين يدي وجعل يفرج الناس حتى دنوت منه فسمعته يقول: قال رسول الله ﷺ : ((مَن تفقَّه في دين الله كفاه الله همَّه ورَزَقه من حيث لا يحتسب))[237].
وقال علي: العلم خيرٌ من المال؛ لأن المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خُزَّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة.
وقال المبرد: كان يقال: تعلموا العلم فإنه سببٌ إلى الدين، ومنبهة للرجل، ومؤنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، ووصلة في المجالس، وجالب للمال، وذريعة في طلب الحاجة.
وقال ابن المقفع: اطلبوا العلم، فإن كنتم ملوكًا برزتم، وإن كنتم سوقة عشتم.
وقال أيضًا: إذا أكرمك الناس بمال أو سلطان فلا يعجبك ذلك؛ فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لعلم أو دين.
قال رسول الله ﷺ : ((مَن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة))[238].
وقال رسول الله ﷺ: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له))[239].
وقال الشافعي: لطلبُ العلم أفضل من الصلاة النافلة.
وقال سفيان الثوري: ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحَّت النية، وقال أيضًا: لا أعلم من العبادة شيئًا أفضل من أيٍّ يعلِّم الناس العلم.
وقال الحسن: اغدُ عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن رابعًا فتهلِك.
وقال ابن مسعود: اغدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تغدُ إمَّعة بين ذلك.
قال أبو بكر بن دريد:
أَهْلاً وَسَهْلاً بِالَّذِينَ أُحِبُّهُمْ = وَأَوَدُّهُمْ فِي اللهِ ذِي الآلاَءِ
أَهْلاً بِقَوْمٍ صَالِحِينَ ذَوِي تُقًى = غُرِّ الوُجُوهِ وَزَيْنِ كُلِّ مَلاَءِ
يَسْعَوْنَ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ بِعِفَّةٍ = وَتَوَقُّرٍ وَسَكِينَةٍ وَحَيَاءِ
وَمِدَادُ مَا تَجْرِي بِهِ أَقْلاَمُهُمْ = أَزْكَى وَأَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ
يَا طَالِبِي عِلْمِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ = مَا أَنْتُمُ وَسِوَاكُمُ بِسَوَاءِ
قال ابن شهاب الزهري: إن للعلم غوائل؛ فمن غوائله أن يترك حتى يذهب بعلمه، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شرُّ غوائله.
وقال أيضًا: إنما يُذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال الحسن: غائلة العلم النسيان وترك المذاكرة.
وكان علقمة يقول: كرِّروه لئلاَّ يدرس.
وعن طاووس قال: إن من السنَّة أن توقِّر العالم.
قال ابن شهاب الزهري: إني لأمرُّ بالبقيع فأسدُّ آذاني؛ مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا، فوالله ما دخل أذني شيءٌ قط فنسيته.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة، وكان يقول: وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي.
وذكر محمد بن عبدالله بن نزار قال: أقام شهاب بن عبدالملك كاتبَين يكتبان عن الزهري، فأقامَا سنة يكتبان عنه.
وقال الخليل بن أحمد: ما سمعت شيئًا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني.
وعن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: كتبت؟ قلت: نعم، قال: عارضت؟ قلت: لا، قال: لم تكتب.
وقال عبدالرزاق، سمعت معمرًا يقول: لو عورض الكتاب مائة مرة ما كاد يسلم من أن يكون فيه سقط، أو قال: خطأ.
ومما ينسب إلى منصور الفقيه:
عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ أَحْمِلُهُ = بَطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لاَ بَطْنُ صُنْدُوقِ
إِنْ كُنْتُ فِي البَيْتِ كَانَ العِلْمُ فِيهِ مَعِي = أَوْ كُنْتُ فِي السُّوقِ كَانَ العِلْمُ فِي السُّوقِ
وقيل للأعمش: يا أبا محمد، قد أحييت العلم بكثرة مَن يأخذه عنك، فقال: لا تعجبوا؛ فإن ثلثًا منهم يموتون قبل أن يدركوا، وثلثًا يلزمون السلطان فهم شر من الموتى، ومن الثلث الثالث قليل مَن يفلح.
قال ابن وهب: ما تعلمت من أدب مالك أفضلُ من علمه.
ويقال: ثلاثة لا بُدَّ لصاحبها أن يسود: الفقه، والأمانة، والأدب.
وقال الحجَّاج لخالد بن صفوان: مَن سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن، فقال: وكيف ذلك وهو مولًى؟ فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدًا من أشراف أهل البصرة إلا وهو يروم الوصول في حلقته ليستمع قوله، ويكتب علمه، فقال الحجاج: هذا والله السؤدد.
وحجَّ معاوية في بعض الحجات فابتنى بالأبطح مجلسًا، فجلس عليه ومعه زوجته ابنة قرظة بن عبدعمرو بن نوفل، فإذا هو بجماعة على رحال لهم، وإذا شابٌّ منهم قد رفع عقيرة يغني:
وَأَنَا الأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي = أَخْضَرُ الجِلْدَةِ مِنْ بَيْتِ العَرَبْ
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا = يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدِ الكرَبْ
فقال معاوية: مَن هذا؟ فقالوا: فلان بن جعفر بن علي بن أبي طالب، قال: خلُّوا له الطريق فليذهب، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يغني:
بَيْنَمَا يَذْكُرْنَنِي أَبْصَرْنَنِي = دُونَ قَيْدِ المَيْلِ يَعْدُو بِي الأَغَرّْ
قُلْنَ تَعْرِفْنَ الفَتَى قُلْنَ نَعَمْ = قَدْ عَرَفْنَاهُ وَهَلْ يَخْفَى القَمَرْ
قال: مَن هذا؟ قالوا: عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة، قال: خلُّوا له الطريق فليذهب، ثم إذا هو بجماعة حول رجل يسألونه، فبعضهم يقول: رميت قبل أن أحلق، وبعضهم يقول: حلقت قبل أن أرمي، يسألونه عن أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: مَن هذا؟ قالوا: هذا عبدالله بن عمر، فالتفت إلى زوجته ابنة قرظة فقال: هذا وأبيك المُشرَّف، وهذا والله شرف الدنيا والآخرة.
قال أبو العتاهية:
مَنْ مُنِحَ الحِفْظَ وَعَى = مَنْ ضَيَّعَ الحِفْظَ وَهِمْ
وقال أبو معشر في الحفظ:
يَا أَيُّهَا المُضَمِّنُ الصَّحَائِفَا = مَا قَدْ رَوَى يُضَارِعُ المَصَاحِفَا
احْفَظْ وِإِلاَّ كُنْتَ رِيحًا عَاصِفَا
وسمع يونس بن حبيب رجلاً ينشد:
اسْتَوْدَعَ العِلْمَ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ = وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ العِلْمِ القَرَاطِيِسُ
فقال يونس: قاتله الله، ما أشد صيانته للعلم وصيانته للحفظ، إن علمك من روحك، وإن مالك من بدنك، فصُنْ علمك صيانتك روحك، وصُنْ مالك صيانتك بدنك.
وقد حفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ = غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ
عندما سمعها مرة واحدة، وكانت تقارب سبعين بيتًا.
قال ابن عباس: قيِّدوا العلم بالكتاب.
وقال الضحَّاك: إذا سمعت شيئًا فاكتبه، ولو في حائط.
وكان سعيد بن جبير يكون مع ابن عباس فيستمع منه الحديث، فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه.
وقال أبو قلابة: الكتاب أحب إلينا من النسيان.
وقال أبو المليح: يعيبون علينا الكتاب، وقد قال الله: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ [طه: 52].
وعن عبدالله بن خنيس قال: رأيتهم عند البراء يكتبون على أيديهم بالقصب.
وعن عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كلَّ ما سمع، فلمَّا احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس.
وعن يحيى بن أبي كثير أنه حدَّث معمرًا بأحاديث ثم قال له: اكتب لي حديث كذا وحديث كذا، فقلت له: أما يُكْرَه أن تكتب العلم؟ قال: اكتب؛ فإنك إن لم تكن كتبت فقد ضيَّعت، أو قال: عجزت.
قال أبو العلاء المعري: كتب أبو عمرو الشيباني شعر سبعين قبيلة، وكان كلَّما كتب شعر قبيلة كتب مصحفًا، فكتب سبعين مصحفًا، وعاش مائة وستين[240].
ولما غنى علوية للمأمون قول الشاعر:
وَإِنِّي لَمُشْتَاقٌ إِلَى ظِلِّ صَاحِبٍ = يَرُوقُ وَيَصْفُو إِنْ كَدَرْتُ عَلَيْهِ
استعاده المأمون مرَّات، ثم قال: هات يا علوية، هذا الصاحب وخذ الخلافة[241].
وقال عبدالملك بن مروان: من كل شيء قد قضيت وطرًا إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر على التلال العفر[242].
كتب محمد عبدالله السمان مقالة في "مجلة المجتمع الكويتية"[243]، بعنوان "الأزهر في مهبِّ الريح" جاء فيها: "أكرِّر هنا قبل كل شيء أن أي مسلم خالص الإسلام في مشارق الأرض ومغربها لا يحمل للأزهر إلا كل خير، ويتمنى من أعماق نفسه أن يصبح الأزهر في المكان اللائق به، وأن يؤدِّي رسالته المَنُوط بها والملقاة على عاتقه، ولكن أي أزهر نعني؟ بالطبع الأزهر الشخصية المعنوية لا الأزهر الإدارة والأشخاص والمباني.
وأودُّ أن أشير هنا إلى أن الدافع إلى هذه المقالة هو حبنا للأزهر وحرصنا عليه، ونعوذ بالله أن يكون الدافع هوًى أو حاجة في نفس يعقوب، وحرصنا على الأزهر نابع من أن الأزهر لا يزال له مكانة في نفوس المسلمين، ولاسيما الشعوب المسلمة خارج مصر وخارج العالم العربي، التي لم يقدَّر لها أن تحتك بالأزهر الإدارة والأشخاص والمسار، ولقد قال لنا المهندس أحمد الشرباصي الذي كان وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر لبضع سنين، وأشهد أنه كان من أخلص وزراء الأوقاف للإسلام والأزهر، قال لنا عندما كُنَّا نزور الهند والباكستان، وكان معنا الشيخ الباقوري بزيِّه الأزهري، لمسنا مدى تقدير الشعوب المسلمة للشيخ، لا شيء إلا لأنه في نظرهم بزيِّه ممثِّلاً للأزهر، ولقد تمنيت أن لو كنت قد ارتديت الزيَّ الأزهري لأكون موضع الحفاوة التي لا تقدر.
لعل القرَّاء يذكرون موقفًا مجيدًا للشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر الأسبق، والعالم السلفي الكبير - رحمه الله - كان يطالب الحكومة بأن تحقق للأزهر حاجته من المال، والحكومة تماطِل، وكان الملك يقضي الصيف بإيطاليا ولا حديث للصحف العالمية إلا بذَخ الملك فاروق وإسرافه، وإنفاق الأموال الطائلة على موائد المَيْسِر، وعلى فتيات الليل، وفاض الكيل بالشيخ فأدلى بتصريحٍ كان قنبلة مدوية، قال: تقتير هنا وإسراف هناك، وكان الشيخ يدرك أنه سوف يدفع ثمن تصريحه التضحية بمنصبه، ولكنه لم يتردد في أن يقول كلمة الحق، وأُبْعِد عن منصبه ومات الشيخ، ولكن موقفه العظيم لم يمت ولن يموت.
ونظرة معاصرة من ناحيتين، الأولى: ما يعانيه الأزهر من اختناق؛ بسبب ميزانيته وبسبب التفرقة في المعاملة بين الأزهر وبين غيره من المؤسسات، فمثلاً ما تزال كليات الأزهر الثلاث في مدينة أسيوط الشريعة واللغة وأصول الدين، تحتلُّ المعهد الديني القديم هناك، والمباني قديمة متهالِكة، بينما جامعة أسيوط العلمانية تضارع أحدث جامعات أوربا، ولولا أن جلالة الملك فيصل - غفر الله له - تبرَّع بعشرين مليون دولارٍ لإنشاء جامعة جديدة للأزهر في أسيوط لكان مقدرًا لجامعة الأزهر أن تظلَّ تشغل المباني القديمة المتهالِكة، وإذا نحن نظرنا إلى كليات الأزهر العتيقة في القاهرة وجدنا الفرق شاسعًا بينها وبين مبنى معاهد الموسيقى مثلاً، وقد أُقِيم أفخم مبنًى شهدته القاهرة لدار الكتب المصرية، بينما مكتبة الأزهر التي تضمُّ زهاء أربعين ألفًا من المخطوطات آيلة للسقوط، وقد نُهِب من تراثها الكثير وتوقَّف العمل فيها منذ سنوات.
النظرة الأخرى: ما تعانيه السياسة المصرية من تضخُّم في الإسراف الذي لا مبرِّر له، ومثلاً مؤسسة السينما خسرت في عام واحد زهاء ثمانية ملايين من الجنيهات، والمهرجانات التي تقام في مصر، ومنها مهرجان السينما تكلف الدولة ملايين الجنيهات، بل إن نقل مباريات كرة القدم في كأس العالم عن طريق القمر الصناعي تكلف زهاء مائتي ألف من الجنيهات، وعلاج الممثلين والممثلات في أوروبا وأمريكا يكلِّف الدولة مئات الألوف من الجنيهات، وكذلك جوائز المسرح والسينما وبرامج التليفزيون الهابطة، وإنشاء مقابر للخالدين، وإقامة التماثيل لكل مَن هب ودب... وما خفي كان أعظم.
ومع هذا فالأزهر قابع ساكت لم يوجد فيه بعدُ مَن يصرخ في وجه الدولة: تقتير هنا وإسراف هناك.
استقبل خديوي مصر البعثة المصرية المسافرة إلى باريس في طلب العلم، وكان من بين أفراد البعثة الدكتور طه حسين، ورحَّب به الخديوي ترحيبًا خاصًّا، وكان الشيخ محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهر - وهو والد المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر والأستاذ المحقق محمود محمد شاكر - كان يصلي الجمعة بمسجد محمد أبي الذهب المجاور للأزهر، وسمع خطيب الجمعة يثني على خديوي مصر ويقول: وجاءه الأعمى، فما عبس وما تولى، فاعتبر الشيخ محمد شاكر أن في هذا القول تعريضًا برسول الله ﷺ وما أن انتهت الصلاة حتى وقف الشيخ محمد شاكر يقول للمصلين: أيها الناس، أعيدوا صلاتكم فإن صلاتكم خلف هذا الإمام باطلة، ولم يقف عند هذا الحد، بل كتب مذكرة ورفعها إلى المسؤولين، وكان أن أبعد الخطيب عن المسجد.
وكان عبدالناصر في مؤتمر شعبي في أسيوط، ووقف محافظها يخطب وكان مما قاله: اللهم إننا نحبك ولكننا نحب جمالاً، فما حيلتنا؟! ووقف مدير جامعة أسيوط يومئذ يخطب وقارن بين معجزات جمال، ومعجزات الرسل، فإذا معجزات جمال تفوق معجزات الرسل: لئن كان عيسى قد أحيا ميتًا أو ميتَين، فأنت يا جمال أحييت مائة مليون عربي، وإذا كان موسى قد شُقَّ له البحر فأنت يا جمال شققت النيل، وأقمت السد العالي، وإذا كان محمد قد أُعْطِي القرآن فأنت يا جمال قد أعطيت الميثاق، كان المؤتمر مذاعًا بالتليفزيون والإذاعة على الهواء، وألقم الأزهر حجرًا ولم يتفوَّه بعبارة واحدة.
ومنذ سنوات كتب أحمد محمد الصاوي بالأخبار يمتدح كتابًا لصلاح نصر مدير المخابرات السابق السفَّاح المعروف، وكان مما قاله الكاتب: لقد تأكَّد لديَّ أن السيد صلاح نصر مدير المخابرات كان يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومنذ سنوات قال العقيد معمَّر القذافي في حديث له بتليفزيون مصر: يجب أن تقوم راية الناصرية وراية الإسلام جنبًا إلى جنب.
ومنذ ثلاثة شهور قال الشيخ الشعراوي وزير الدولة لشؤون الأوقاف والأزهر: لو كان الأمر بيدي لاعتبرت السيد رئيس الجمهورية في مقام الذي لا يُسأل عما يفعل.
وإزاء هذا كله تصنع الأزهر الصمم، وعدم الأزهر رجلاً واحدًا يصرخ في هؤلاء قائلاً: فض الله أفواهكم.
وفي عام 1953م حدث اعتداء فرنسي على سلطان المغرب محمد الخامس - رحمه الله - وعُزِل عن العرش، وسانَد ذلك بعض الخوَنة من المغاربة، وكان شيخ الأزهر هو الشيخ محمد الخضر حسين، فجمع هيئة كبار العلماء وأصدروا بيانًا اتهموا فيه المغاربة الخوَنة بالخروج على الإسلام، وأرسل البيان إلى الصحف، ومنع نشر البيان بأمر عالٍ، فكتب شيخ الأزهر استقالته وأرفقها بالبيان وأرسلها إلى رئيس الجمهورية، وكان أن نُشِر البيان.
ومنذ سنوات قلائل صدر في الصومال قانون للأحوال الشخصية اعتبره علماء الدين هناك تحديًا لشريعة الله، وخطبوا في المساجد ضدَّ القانون وشنَّ زياد بري حملة مسعورة على العلماء استشهد خلالها شنقًا ورميًا بالرصاص بضعةٌ وعشرون عالمًا، وقبل تنفيذ حكم الإعدام أرسل الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر برقية هادئة يطلب فيها وقْف حكم الإعدام، وأمر الدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام يومئذ بعدم نشر البرقية في الصحف، وكان أن التزم شيخ الأزهر الصمت.
والأمثلة كثيرة لا حصْر لها، وإنما قدَّمت بعضها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وإننا لا ننسى يوم أن وجَّه عبدالناصر في مؤتمر عام مُذاعٍ على الهواء شتائمه وسبابه لعلماء الدين المشايخ الذين يملؤون بطونهم بدين الله، يأكلون الديوك الرومي ثم يصدرون الفتوى، وكان يقصد عالمًا جليلاً شجاعًا هو الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق؛ لأنه أدلى للصحف السعودية بحديثٍ أنكر فيه باسم الإسلام الاشتراكية الناصرية، وعمليات التأميم، وتحديد الملكية، وتثاءب الأزهر ولكنه عجز عن أن ينطق ببنت شفة".
وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة حاجًّا، فكان يخرج إلى الطواف من آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به أحد، فإذا طلع الفجر رجع، فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهورَ البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من نواحي المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول، وقال له: أجب أمير المؤمنين، فصلى ركعتين وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتُك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أهمَّني وأقلقني.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض هو أنت، فقال: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي؟ فقال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين، إن الله استرعاك أمور المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا وأبوابًا، وبعثت عُمَّالك في جمع الأموال وجبايتها، واتخذت وزراء وأعوانًا ظلَمة؛ إن نسيت لم يذكِّروك، وإن ذكرت لم يعينوك، وقوَّيتهم على ظلم الناس بالأموال والسلاح وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سمَّيتهم، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك تجني الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فأتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرًا إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويضعف قدره، فلمَّا انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، فاتقِ الله يا أمير المؤمنين فإنه يرى منك ما عُقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك، فماذا تقول غدًا إذا انتُزِع ملك الدنيا من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور بكاءً شديدًا ثم قال: ليتني لم أُخلَق ولم أكُ شيئًا.
وذكر ابن كثير في "تاريخه" في ترجمة العاضد العبيدي آخر خلفاء العبيديين بمصر وذكر مخلفاته: "قال ابن أبي طي: ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير تشتمل على ألفي ألف مجلد، قال: ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون مجلد منها "تاريخ الطبري"، وكذا قال العماد الكاتب: كانت قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد، وقال ابن الأثير: كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلَّمها القاضي الفاضل وأخذ منها شيئًا كثيرًا مما اختاره وانتخبه".
قال ابن النديم في "الفهرست" ص 150: قال محمد بن إسحاق: قرأت بخط عتيق قال: خلف الواقدي بعد وفاته ستمائة قمطر كتبًا، كل قمطر منها حمْل رجلين، وكان له غلامان مملوكان يكتبان الليل والنهار، وقبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار.
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟": ومما روى لنا الشيوخ من ذلك أنه وقع نزاع بين الهنادك والمسلمين في قرية كاندهلة من مديرية مظفر نكر في الولايات المتحدة الهندية على أرض، فادَّعى الهنادك أنها معبد لهم والمسلمون أنها لهم مسجد، وتحاكموا إلى حاكم البلد الإنجليزي، فسمع الحاكم القضية ودلائل الفريقين ولم يطمئن إلى نتيجة فسأل الهنادك هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته أحكم على رأيه؟ قالوا: نعم فلان، وسموا شيخًا من علماء المسلمين وصالحيهم، فأرسل إليه الحاكم وطلبه إلى المحكمة، فلما جاءه الرسول قال: لقد حلفت أن لا أرى وجه إفرنجي، ورجع الرسول فقال الحاكم: لا بأس ولكن أحضر وأدلِ برأيك في القضية، فحضر الشيخ وولى دبره إلى الحاكم وقال: الحق مع الهنادك في هذه القضية والأرض لهم، وبذلك قضى الحاكم، وخسر المسلمون القضية، ولكن كسبوا قلوبَ الهنادك، وأسلم منهم جماعة.
أرسل يزيد بن عبدالملك عمر بن هبيرة لما كان واليًا على البصرة إلى العالم الفقيه الحسن بن يسار البصري أنَّه سوف يزوره في منزله من أجل استشارته في بعض الأمور، وقام الأمير بزيارة الحسن البصري وقال له: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبدالملك ينفذ إليَّ كتبًا - رسائل - أعرف أن في إنفاذها الهلَكة فإن أطعته عصيت الله وإن عصيته أطعت الله - عز وجل - فهل ترى في متابعتي إياه فرجًا؟
فقال له الحسن: يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله - تعالى - فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة: إن تتقِ الله - تعالى - يعصمك من يزيد بن عبدالملك، ولا يعصمك يزيد بن عبدالملك من الله - عز وجل - يا عمر بن هبيرة، لا تأمن أن ينظر الله - تعالى - إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبدالملك نظرةَ مَقْت، فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة: لقد أدركت ناسًا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبِلة أشد إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة: إني أخوِّفك مقامًا خوَّفكه الله - تعالى - فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 14]، يا عمر بن هبيرة: إن تكُ مع الله - تعالى - في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبدالملك، وإن تكُ مع يزيد بن عبدالملك على معاصي الله وكلك الله - تعالى - إليه، فبكى وقام بعبرته.
ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" ص 361: اشتهر نبأ وفاة الأستاذ الشهير العلامة نظام الدين اللكهنوي (م 1161 هـ) صاحب منهاج الدرس النظامي الجاري تطبيقه في الهند وخراسان، فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال الدين العظيم آبادي مات من شدة الحزن، وعمي تلميذه الآخر ظريف العظيم آبادي من كثرة البكاء، وتحقَّق بعد ذلك أن الإشاعة غير صحيحة.
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه هذا (ص 354- 355): ومما حكى لنا الثقات وقرأناه في التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري (م1234 هـ) كان يعمل في بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من الإمارة الإسلامية لا يزيد على عشر روبيات - أقل من جنيه مصري - فقدَّم إليه حاكم الولاية الإنجليزي المستر هاكنس وظيفة عالية في كلية برلي، راتبها مائتان وخمسون روبية (تسعة عشر جنيهًا مصريًّا) وذلك يساوي خمسين جنيهًا في هذا العهد، ووعد بالزيادة في الراتب بعد قليل، فاعتذر الشيخ عن قبوله وقال: إني أتقاضى عشر روبيات، وإنها ستنقطع إذا تحوَّلت إلى هذه الوظيفة، فتعجب الإنجليزي وقال: ما رأيت كاليوم أنا أقدم راتبًا يزيد على راتبك الحالي بأضعاف أضعاف وتترك الأضعاف المضاعفة وتقنع بالنزر اليسير، فتعلل الشيخ بأن في بيته شجرة سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام في بريلي، ولم يفطن الإنجليزي إلى مقصود الشيخ فقال: أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إلى بريلي، فتشبَّث ثالثة بأن حوله طلبة وتلاميذ يقرؤون عليه في بلده، فلو انتقل إلى هذه الوظيفة انقطعت دروسهم، ولم ييأس الإنجليزي المناقش من إقناعه فقال: أنا أجري لهم جرايات في بريلي ويواصلون دروسهم هناك.
وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال: وماذا يكون جوابي غدًا إذا سألني ربي: كيف أخذت الأجرة على العلم؟ وهنا بهت الإنجليزي وأُسقِط في يده، وعرف نفسية العالم المسلم، وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر.
وذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه المذكور آنفًا (ص 352) وقد روى لنا التاريخ الهندي طرائف في هذا الباب لا بُدَّ أن تكون أمثلتها متوافرة في تاريخ جميع البلاد الإسلامية، منها: أن الشيخ رضي الله البداوني اتُّهم بالاشتراك في الثورة على الإنجليز عام 1857م وحُوكِم أمام حاكم إنجليزي كان من تلاميذه، فأوعز إليه الحاكم على لسان بعض الأصدقاء أن يجحد الاتِّهام فيطلقه، ولكن الشيخ أبى وقال: قد اشتركتُ في الخروج على الإنجليز فكيف أجحد؟ واضطرَّ الحاكم فحكم عليه بالإعدام، ولما قُدِّم للشنق بكى الحاكم وقال له: حتى في هذه الساعة لو قلت مرة: إن القضية مكذوبة عليَّ وإني برئ لاجتهدت في تخليصك، فغضب الأستاذ وقال: أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي؛ لقد خسرت إذًا وضلَّ عملي، بل لقد اشتركت في الثورة فافعلوا ما بدا لكم، وشُنِق الرجل.
محمد بن محمد بن يوسف الميداني شمس الدين، فقيه أصله من حماة (في سورية)، ومولده في الميدان بدمشق، جاور في الأزهر بمصر تسع سنين، وعاد إلى دمشق فتصدَّر للتدريس نحو أربعين سنة، وعظم شأنه حتى كان الحكام لا يستطيعون الظلم خوفًا منه مع قلة اكتراثه بهم، وتوفي بدمشق، له حاشية على شرح التحرير في فقه الشافعية، ولم يعنَ بالتأليف، توفي سنة 1033 هـ.
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" ج12 ص 70 في ترجمة علي بن أحمد بن علي الغالي: هذه الأبيات:
لَمَّا تَبَدَّلَتِ المَجَالِسُ أَوْجُهًا = غَيْرَ الَّذِينَ عَهِدْتُ مِنْ عُلَمَائِهَا
وَرَأَيْتُهَا مَحْفُوفَةً بِسِوَى الأُلَى = كَانُوا وُلاَةَ صُدُورِهَا وَفَنَائِهَا
أَنْشَدْتُ بَيْتًا سَائِرًا مُتَّقَدِّمًا = وَالعَيْنُ قَدْ شَرِقَتْ بِجَارِي مَائِهَا
أَمَّا الخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ = وَأَرَى نِسَاءَ الحَيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
ومن شعره أيضًا:
تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوِّسٍ = بَلِيدٍ تَسَمَّى بِالفَقِيهِ المُدَرِّسِ
فَحُقَّ لِأَهْلِ العِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا = بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ مَجْلِسِ
لَقَدْ هُزِلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِها = كُلاَهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلِّ مُفْلِسِ
قال ابن كثير في حوادث سنة 276 هـ[244]: بقي بن مخلد، له "المسند" المبوَّب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، رحل بقي إلى العراق فسمع من الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخًا، كان رجلاً صالحًا عابدًا زاهدًا مجاب الدعوة.
المعتمد على الله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد[245]: مكث في الخلافة ثلاثًا وعشرين سنة وستة أيام، وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهرًا، وكان أسنَّ من أخيه الموفق بستة أشهر وتأخَّر بعده أقل من سنة، ولم يكن إليه مع أخيه شيء من الأمر، حتى إن المعتمد طلب في بعض الأيام ثلاثمائة دينار فلم يَصِلْ إليها، فقال الشاعر في ذلك:
أَلَيْسَ مِنَ العَجَائِبِ أَنَّ مِثْلِي = يَرَى مَا قَلَّ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ
وَتُؤْخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا = وَمَا مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ
إِلَيْهِ تُحَمَّلُ الأَمْوَالُ طُرًّا = وَيُمْنَعُ بَعْضَ مَا يُجْبَى إِلَيْهِ
قال عبدالله بن ثابت بن يعقوب المقري النحوي[246]:
إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا = فَعِلْمُكَ فِي البَيْتِ لاَ يَنْفَعُ
وَتَحْضُرُ بِالجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ = وَعِلْمُكَ فِي الكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ
وقال محمد بن خلف بن حيان الضبي المعروف بوكيع[247]:
إِذَا مَا غَدَتْ طلاَّبةُ العِلْمِ مَا لَهَا = مِنَ العِلْمِِ إِلاَّ مَا يُخَلَّدُ فِي الكُتْبِ
غَدَوْتُ بتَشْمِيرٍ وَجِدٍّ عَلَيْهِمُ = وَمحْبَرَتِي سَمْعِي وَدَفْتَرُهَا قَلْبِي
قال عبدالله بن المعتز يرثي الخليفة المعتضد المتوفى سنة 288 هـ:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا = وَأَنْتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ الوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ = رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَاحِدًا صَمَدَا
يَا سَاكِنَ القَبْرِ فِي غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ = بِالظَّاهِرِيَّةِ مُقْصَى الدَّارِ مُنْفَرِدَا
أَيْنَ الجُيُوشُ الَّتِي قَدْ كُنْتَ تُشَحِّنُهَا = أَيْنَ الكُنُوزُ الَّتِي لَمْ تُحْصِهَا عَدَدَا؟
أَيْنَ السَّرِيرُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَمْلَؤُهُ = مَهَابَةً مَنْ رَأَتْهُ عَيْنُهُ ارْتَعَدَا؟
أَيْنَ القُصُورُ الَّتِي شَيَّدْتَهَا فَعَلَتْ = وَلاَحَ فِيهَا سَنَا الإِبْرِيزِ فَاتَّقَدَا؟
استدعى الرشيد إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم؛ ليسمع منه الحديث فقال أبو معاوية: ما ذكرت عنده حديثًا إلا قال: صلى الله وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يومًا ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء علي وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية أتدري مَن يصب عليك الماء؟ فقلت: لا، قال: يصب عليك أمير المؤمنين، قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال: إنما أردت تعظيم العلم.
وحدثه أبو معاوية يومًا عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى فقال له عم الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبًا شديدًا وقال له: أتعترض على الحديث؟ عليَّ بالنطع والسيف فأُحْضِر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه فقال الرشيد: هذه زندقةٌ ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج منه حتى يخبرني مَن ألقى إليه هذا، فأقسم عمُّه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منِّي، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها، فأطلقه[248].
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" ج11، ص 196 في ترجمة محمد بن القاسم الأنباري: "وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة أحمال جمال، وكان لا يأكل إلا النقالي ولا يشرب ماء إلا قريب العصر مراعاة لذهنه وحفظه، ويقال: إنه كان يحفظ مائةً وعشرين تفسيرًا وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة واحدة، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة".
وقال أبو محمد عبدالله بن محمد البطَلْيَوسي ثم التنيسي صاحب "شرح أدب الكاتب" وغيره، المتوفى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة من الهجرة:
أَخُو العِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ = وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَذُو الجَهْلِ مَيْتٌ وَهْوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى = يُظَنُّ مِنَ الأَحْيَاءِ وَهْوَ عَدِيمُ[249]
[1] أخرجه أحمد (2/407).
[2] أخرجه مسلم (1631).
[3] أخرجه البخاري (73) و(14098) و (7141) و (7316)، ومسلم (816).
[4] أخرجه البخاري (3353) و (3374) و (3383) و ( 3490) ، ومسلم (2387).
[5] أخرجه مسلم (1037).
[6] أخرجه أحمد (1/437) و(5/183)، والترمذي (2656) و (2657)، وابن ماجه (230) و (232)، وأبو داود (3660).
[7] أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689) من حديث أبي هريرة.
[8] أخرجه البخاري (2191) و (5534)، ومسلم (2628) من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا بنحوه.
[9] أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود (3641) و (3642)، وابن ماجه (223)، والدارمي (1/98)، وابن حبان (88).
[10] أخرجه أحمد (3/495)، والبخاري في "الأدب المفرد" (970)، وفي "خلق أفعال العباد" (59).
[11] أخرجه البخاري (3011)، ومسلم (154).
[12] أخرجه أبو خيثمة في "العلم" (141) عن ابن عباس.
[13] "تنبيه الغافلين".
[14] أخرجه البخاري (4302).
[15] أخرجه البخاري (66) و (474)، ومسلم (2176).
[16] أخرجه مسلم (1096).
[17] أخرجه أبو داود (2796)، والترمذي (1496)، والنسائي (7/220)، وابن ماجة (3128)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب".
[18] أخرجه البخاري (844) و (7292)، ومسلم (593) و (138).
[19] أخرجه أحمد (2/3/)، والبيهقي (5/110).
[20] أخرجه أحمد (4/153 و 159).
[21] أخرجه البخاري (100) و (7307)، ومسلم (2673).
[22] أخرجه أحمد (2/481 و539).
[23] "تاريخ قضاة الأندلس": ص34.
[24] أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/185).
[25] "طبقات الحنابلة"؛ لابن أبي يعلى، ج1، ص 48- 49.
[26] "طبقات الحنبالة"؛ لابن أبي يعلى، ج1، ص48.
[27] كتاب "العلم والعلماء"؛ للشيخ محمد محمود الراميني، ص 152.
[28] كتاب "العلم والعلماء"؛ للشيخ محمد محمود الراميني.
[29] انظر: كتاب "تنبيه الغافلين".
[30] "تاريخ قضاة الأندلس": ص 101.
[31] "تاريخ بغداد"؛ للخطيب البغدادي، ج8، ص 421- 422.
[32] "تاريخ بغداد": ج8، ص423.
[33] "الديباج المذهب".
[34] ج1، ص235، المطبوع على هامش "المستطرف في كل فن مستظرف"، المطبوع سنة 1361 هـ.
[35] ذكر ياقوت في "معجم الأدباء" ج2 ص368- 375 رحلة الشافعي في طلب العلم.
[36] "حلية الأولياء"؛ لأبي نعيم، ج9، ص70 -73.
[37] "الحلية"؛ لأبي نعيم، ج9، ص74.
[38] "الحليلة"؛ لأبي نعيم، ج9، ص 75- 76.
[39] انظر كتاب: "فصول من الفكر المعاصر"، ص33.
[40] "طبقات الحنابلة": ج1، ص57 -58.
[41] "طبقات الحنابلة": ج1، ص12.
[42] "حلية الأولياء"؛ لأبي نعيم، ج6، ص331.
[43] "حلية الأولياء"؛ لأبي نعيم، ج6، ص232.
[44] "تاريخ بغداد"؛ للخطيب البغدادي، ج8، ص425.
[45] من مقدمة للأستاذ محمد عبده عزام على "ديوان أبي تمام" ص 11، ونسبه لمقدمة نوادر أبي زيد.
[46] أخرجه مسلم (2670).
[47] أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/343)، وحسنه المنذري في "الترغيب" (1/62) بمجموع شواهده.
[48] أخرجه أحمد (1/283) و (265).
[49] ج1، ص239 من "رسالة الوصية الصغرى"، مجموعة رسائل ابن تيمية المطبوعة سنة 1323 هـ بالمطبعة العامرة الشرقية بمصر.
[50] أخرجه أحمد (6/26 -27 )، وابن حبان (4572)، وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند الترمذي (2653).
[51] "طبقات الحنابلة": ج1، ص42.
[52] أخرجه أحمد (2/263 و305 و 495و 499و 508، وأبو داود (3658)، والترمذي (2649) من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن عبدالله بن عمرو.
[53] "نكت الهميان": ص 181.
[54] هو عتبان بن مالك.
[55] أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404)، (31).
[56] من كتاب "نزهة الألباء في طبقات الأدباء"؛ للأنباري.
[57] من كتاب "نزهة الألباء في طبقات الأدباء"؛ للأنباري.
[58] "نزهة الألباء في طبقات الأدباء"؛ للأنباري.
[59] المرجع السابق.
[60] أخرجه البخاري (2942) و (3009) و (3071)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعيد.
[61] تقدم من حديث سهل بن سعد.
[62] تقدم تخريجه.
[63] أخرجه البخاري (128) و (5967) و (6267) و (2856) و (7373)، ومسلم (32).
[64] أخرجه مسلم (1690) (12).
[65] أخرجه مسلم مطولاً من حديث جابر.
[66] أخرجه أحمد 5/230).
[67] وذلك في الآية 33 من سورة الأعراف.
[68] أخرجه أحمد (1/330)، وأبو داود (337)، وابن ماجة (572) عن ابن عباس.
[69] أخرجه مسلم (32).
[70] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص70.
[71] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص70 - 71.
[72] من مقال للدكتور محمد أمين المصري، نشر في "جريدة الندوة"، العدد (2931) في 26/6/1388هـ.
[73] من كتاب "حضارة العرب"؛ لغوستاف لوبون، مع تلخيص وتصرف وإضافة.
[74] أي: مخطوط.
[75] أي: مطبوع.
[76] ابن النديم، ج1، ص299، و"طبقات الأطباء"، ج1، ص 309- 321، و"نكت الهميان": ص 249، "الوفيات"، ج2، ص 78، و"تاريخ حكماء الإسلام": ص 21، و"آداب اللغة"، ج2، ص216، و"مجلة المنهل"، المجلد الثالث، و"دائرة المعارف الإسلامية"، ج9، ص451- 457، و"مفتاح السعادة"، ص 268، و"الطب العربي"، ص 129- 137، و"أخبار الحكماء"، ص 178، وابن العبري، ص 274، و"الوافي بالوفيات"، ج3، ص76.
[77] كتاب "الفروسية"؛ لابن القيم، ص2.
[78] أخرجه مسلم (1918).
[79] مقدمة كتاب "عيون الأخبار"، للأستاذ أحمد زكي العدوي، وعد منها سبعة وأربعين كتابًا.
[80] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص117، بهامش "المستطرف".
[81] من "نكت الهميان"، ص 204 - 205.
[82] توفي سنة 597هـ ببغداد.
[83] "البداية والنهاية"، ج 12، ص 2 - 3.
[84] توفي سنة 216هـ، وانظر: "وفيات الأعيان"، ج2، ص 344 - 349.
[85] وكانت وفاته سنة 571هـ.
[86] من ترجمة السيوطي المطبوعة في آخر الجزء الثاني من كتاب "المزهر".
[87] "كنز العمال" (44520).
[88] "ثمرات الأوراق في المحاضرات"، لتقي الدين أبي بكر ابن حجة الحموي، ج1، ص113 - 115.
[89] أخرجه البخاري (10/393)، ومسلم (2591).
[90] "الحلية"، لأبي نعيم، 5 /47 - 48.
[91] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص54.
[92] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص50.
[93] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص48.
[94] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص47.
[95] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص51.
[96] "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص49 -50.
[97] "البداية والنهاية"، ج10، ص253.
[98] المصدر السابق، ج10، ص209.
[99] "البداية والنهاية"، ج11، ص24 - 27.
[100] "البداية والنهاية"، ج11، ص27.
[101] كتاب "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص 94.
[102] كتاب "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص 97.
[103] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص43.
[104] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص57.
[105] "معجم الأدباء"، لياقوت، ج6، ص 383.
[106] "معجم الأدباء"، لياقوت، ج6، ص380.
[107] "معجم الأدباء"، لياقوت، ج6، ص380.
[108] "معجم الأدباء"، ج6، ص425.
[109] "معجم الأدباء"، لياقوت، ج6، ص425.
[110] "معجم الأدباء"، لياقوت، ج6، ص309.
[111] انظر: "أحاسن المحاسن مختصر صفة الصفوة".
[112] نفس المصدر.
[113] أثبتنا ذلك مثل ما ذكره أبو الوفاء، والصحيح أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام - وهو الذي قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102].
[114] "الذيل على الطبقات"، لابن رجب، ج1، ص145 - 146.
[115] من رسالة إسماعيل بن محمد الشقندي، ص 32، من كتاب "فضائل الأندلس وأهلها"، جمعها ونشرها الدكتور صلاح الدين المنجد.
[116] مجلة الفكر الإسلامي التي تصدر ببيروت، في عددها 6، السنة 3، جمادى الأولى 1392هـ.
[117] "الأعلام"، للزركلي، ج3، ص 251، الطبعة الثالثة، ومجلة الفكر الإسلامي، العدد 6، للسنة الثالثة، جمادى الأولى 1392هـ.
[118] "سراج الملوك"، لأبي بكر الطرطوشي، ص 58 - 60.
[119] "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص94.
[120] "تاريخ الخلفاء"، للسيوطي، ص 248 - 249.
[121] "الأعلام"، للزركلي مع تصرف واختصار، ج2، ص363.
[122] "شذرات الذهب"، ج1، ص277.
[123] "الأعلام"، للزركلي، ج2، ص357.
[124] "البداية والنهاية"، ج14، ص150.
[125] "شذرات الذهب"، ج1، ص276.
[126] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص 72.
[127] توفي سنة ستمائة، عن عمر يناهز السابعة والخمسين.
[128] وفاة ابن الجوزي سنة 597هـ.
[129] توفي سنة 114هـ.
[130] من تاريخ ابن كثير بتلخيص وتعديل طفيف اقتضاه سبك الكلام.
[131] أخرجه البخاري، (6777).
[132] "تاريخ قضاة الأندلس"، ص 72 - 73.
[133] "الأذكياء"، ص 87 - 88.
[134] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص115 - 116.
[135] "الأذكياء"، ص103.
[136] "الأذكياء"، ص101.
[137] "الأذكياء"، ص101.
[138] "الأذكياء"، ص 101 في باب المنقول عن علماء الأمة وفقهائها.
[139] الأذكياء، ص 101.
[140] الأذكياء، ص 95.
[141] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص139 وغيره.
[142] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص 140، بهامش "المستطرف".
[143] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص139، بهامش "المستطرف".
[144] ذكره محمد بن إبراهيم الأحدب، على هامش "المستطرف"، ج2، ص 280 - 281.
[145] "الحلية"، لأبي نعيم، ج3، ص137.
[146] كتاب "الحلية"، لأبي نعيم، ج5، ص53، وكتاب "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص 88 - 89.
[147] كتاب "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص 89.
[148] "الحلية"، لأبي نعيم، ج 5، ص 47.
[149] "الحلية"، لأبي نعيم.
[150] خِرْق بكسر الخاء: هو السخي الكريم.
[151] القصبي: ثوب ناعم من كتان.
[152] "ثمرات الأوراق" المطبوع على هامش "المستطرف"، ج1، ص 71 - 74.
[153] "البداية والنهاية"، ج1، ص266.
[154] الأغاني، ج1 ، ص186 -190.
[155] "نكت الهميان"، ص 151 - 152.
[156] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص111 - 112 بهامش "المستطرف".
[157] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص112.
[158] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص112 - 113.
[159] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص132.
[160] "ثمرات الأوراق"، ج1، ص112.
[161] "ثمرات الأوراق" في المحاضرات، المطبوع على هامش "المستطرف"، ج1 ، ص70.
[162] أخرجه البخاري (466) و (3654) و (3904).
[163] أخرجه البخاري (61) ، ومسلم (2811) (63).
[164] كتاب الأذكياء، ص 88.
[165] الأذكياء، ص 95، في باب المنقول عن علماء هذه الأمة وفقهائها.
[166] الأذكياء، ص 100.
[167] أخرجه الحاكم (3/576).
[168] انظر نكت الهميان في نكت العميان، لصلاح الدين الصفدي.
[169]- توفي بواسط سنة 117هـ وعمره ست وخمسون سنة.
[170] العب: عصا طويلة في أحد طرفيها دائرة فيها شبكة ترمى على الطائر فيمسكه.
[171] وهذا الكتاب هو لسان العرب.
[172] نكت الهميان في نكت العميان.
[173]- توفي سنة 616 هـ.
[174]- وفاته سنة 590 هـ.
[175] نكت الهميان، ص 164.
[176] كتاب الأذكياء، ص 91.
[177] كتاب الأذكياء، ص91.
[178] كانتْ وفاته سنة 612 هـ.
[179] ماكسين بليدة على نهر الخابور من أعمال الجزيرة.
[180] انظر كتاب: "الإسلام بين العلماء والحكام"؛ للأستاذ عبدالعزيز البدري، ص 217 - 218، وقد نسبه إلى "طبقات السبكي"، ج5، ص80.
[181] وفيات الأعيان، والبداية والنهاية.
[182] وفيات الأعيان، ج3، ص134، بتلخيص وتصرف.
[183] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج8، ص424.
[184] أخبار القضاة، ج2، ص28.
[185] أخبار القضاة، ج2، ص28.
[186] أخبار القضاة، ج2، ص29.
[187] توفي سنة 590هـ.
[188] كتاب "تاريخ قضاة الأندلس"، ص88، 89.
[189] مقال أبي تراب الظاهري، "جريدة المدينة"، العدد 1820 في 18/1/1390 هـ.
[190] "مجلة البلاغ الكويتية"، العدد 354 في 10/5/1396 هـ والعدد 364 في 21/7/1396 هـ.
[191] أخرجه البخاري (31) و (6875) و (7083)، و مسلم (2888).
[192] "مجلة البلاغ الكويتية"، العدد 354 بتاريخ 10/5/1396 هـ.
[193] "العلم يدعو للإيمان"، ص189.
[194] "طبقات السبكي".
[195] مقدمة كتاب "الصحاح"، ص 87.
[196] "معجم الأدباء لياقوت"، ج6، ص434.
[197] ج6، ص424- 426.
[198] انظر: "كتاب الصحاح ومدارس المعجمات".
[199] لعله حصروا.
[200] "صحيفة المدينة المنورة"، العدد 2967، الجمعة 18 ذي الحجة 1393 هـ.
[201] "صحيفة عكاظ"، 20 ذي الحجة 1393 هـ، ص 7.
[202] "صحيفة المدينة المنورة"، العدد 4725، الأربعاء 19 ذو القعدة 1399 هـ.
[203] "صحيفة المدينة المنورة"، العدد 4788، الأربعاء 7 صفر 1400 هـ، ص7.
[204] "البداية والنهاية"، ج11، ص98.
[205] "البداية والنهاية"، ج 11، ص99.
[206] "البداية والنهاية"، ج11، ص87 - 88.
[207] "البداية والنهاية"، ج 11، ص237.
[208] "البداية والنهاية"، ج 11، ص219.
[209] لعل الصحة أن تفوا بها.
[210] أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
[211] "محاسن المساعي".
[212] "محاسن المساعي في مناقب الإمام الأوزاعي"، ص 72.
[213] "محاسن المساعي في مناقب الإمام الأوزاعي"، ص 69.
[214] "محاسن المساعي في مناقب الإمام الأوزاعي"، ص 60 - 61.
[215] "الأغاني"، ج2، ص110 - 111.
[216] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص127.
[217] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص99.
[218] كتاب افلاكة والمفلوكون، ص98.
[219] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، 98.
[220] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص 87.
[221] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص 87.
[222] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص84.
[223] كتاب "الفلاكة والمفلوكون".
[224] كتاب "الفلاكة والمفلوكون".
[225] كتاب "الفلاكة والمفلوكون".
[226] كتاب "الفلاكة والمفلوكون"، ص 123.
[227] المرجع السابق، ص 82 - 83.
[228] "الفلاكة والمفلوكون"، ص 78 - 79.
[229] "الفلاكة والمفلوكون"، ص 96.
[230] "الفلاكة والمفلوكون"، ص 123.
[231] طبقات الشافعية للسبكي 2/87، والبداية والنهاية 11/129، ووفيات الأعيان 1/17 وتاريخ بغداد 4/287، والشريشي 1/166.
[232] تقدم تخريجه.
[233] "صحيفة الرياض"، 12/7/1395 هـ، ص7.
[234] حسن المحاضرة للسيوطي، ج1، ص 270.
[235] أخرجه أحمد (5/183)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجة (230) من حديث زيد بن ثابث.
[236] أخرجه أحمد (5/183)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجة (230) من حديث زيد بن ثابث.
[237] أخرجه أحمد (1/ 437)، والترمذي (2657)، وابن ماجة (232)، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (26).
[238] تقدم تخريجه.
[239] تقدم تخريجه.
[240] "تاريخ ابن الوردي"، ج 2، ص218.
[241] ص 50 من كتاب "الصداقة والصديق"؛ لأبي حيان التوحيدي.
[242] ص 23 من كتاب "الصداقة والصديق"؛ لأبي حيان التوحيدي.
[243] "مجلة المجتمع الكويتية"، العدد 416 في 15/11/1398 هـ.
[244] "البداية والنهاية"، ج11، ص 56.
[245] "البداية والنهاية"، ج 11، ص65.
[246] "البداية والنهاية"، ج 11، ص 131.
[247] "البداية والنهاية"، ج 10، ص130.
[248] البداية والنهاية"، ج 10، ص215.
[249] "البداية والنهاية"، ج12، ص198.