كيف نغتنم رمضان؟
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فها هو الشهر الفضيل قد لاحت أنواره، وفاحت أزهاره، وترنمت أطياره، يحمل في طياته الخير الكثير، والأجر الكبير، والفضل العميم.
وها نهن كعادتنا، نستقبل شهر رمضان بالعاطفة الجياشة، والبهجة الغامرة، والفرحة التامة.
ولكنا نستقبله بلا خطة مدروسة، ولا منهجية صحيحة، ولذلك فإن الكثير منا لا يستمر حماسه لهذا الشهر إلا أيامًا معدودات من أوله، ثم يتكاسل شيئًا فشيئًا، حتى يعود القهقرى، ويترك ما عزم عليه من عبادة, وذكر، بل قد يترك الواجبات، ويفعل المحرمات والمنهيات، وهذا خطر عظيم، لأن النبي ﷺ قال: «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له» [رواه الترمذي, وصححه الألباني].
وهذه – أخي الحبيب، أختي الكريمة – إشارات تعينكما على اغتنام فضائل رمضان, وإدراك كنوزه وجوائزه، وتحذركما من التفريط والإضاعة:
أولاً: رمضان لماذا؟
لماذا كل هذا الاهتمام بشهر رمضان دون غيره من الشهور؟
والجواب: أن لرمضان من الفضائل والمزايا ما ليس لغيره من شهور العام، ومن ذلك، أنه الشهر الذي نزل فيه القرآن، كما قال سبحانه: }شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ{ [البقرة: 185]، وقال تعالى: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ{ [الدخان: 3]، وفيه ليلة خير من ألف شهر: }لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ{ [القدر: 3]. وفيه تصفد الشياطين, وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب الجنان، كما قال ﷺ: «إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» (متفق عليه). ومعنى صدفت: أي: حبست.
* وبصيامه وقيامه تحصل مغفرة الذنوب.
* والأجر فيه يقع مضاعفًا، فقد أخبر النبي ﷺ أن: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (متفق عليه).
* وذكر ﷺ أن: «لله فيه عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة، حتى ينقضي رمضان» (رواه أحمد).
* وأخبر ﷺ أن: «للصائم عند فطره دعوة لا ترد» (رواه ابن ماجة)، فهذا وغيره – أخي الحبيب – يبين لك أن رمضان جدير بأن يهتم به، ويشمر له، ويتفرغ فيه للعبادة والطاعة.
ثانيًا: لك صمت:
لا بد أن يكون صيام رمضان عبادة خالصة لله سبحانه وتعالى، فإن كثيرا من الناس, وبخاصة من الشباب والفتيات يصومون على سبيل العادة، حيث إنهم نشؤوا في وسط يصوم رمضان, فصاموا مثلهم، غير مدركين عظمة هذه الشعيرة، ولا أبعادها النفسية والتربوية والصحية والاجتماعية، ولذلك فإن مثل هؤلاء لا يشعرون بلذة العبادة، ولا حلاوة الطاعة التي يشعر بها من صام, تعظيمًا لله عز وجل, مخلصًا له، مدركًا جوانب العظمة في عبادة الصيام، ولذلك فقد نبه النبي ﷺ على وجوب الإخلاص لله عز وجل في هذه الشعيرة، فقال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
وقال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
وقال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
قال ابن بطال في (شرح صحيح البخاري): (قوله: «إيمانًا» يريد تصديقًا بفرضه، وبالثواب من الله تعالى على صيامه وقيامه. وقوله: «احتسابًا» يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوي بصيامه وجه الله. وهذا الحديث دليل بين على أن الأعمال الصالحة لا تزكو، ولا تتقبل، إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال ﷺ: «الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» (متفق عليه)([1]).
ثالثًا: على خطى الرسول ﷺ:
وحتى نغتنم فضائل رمضان لا بد من اتباع هدي النبي ﷺ في صيامه وقيامه، وكان من هديه ﷺ في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر.
* وكان ﷺ يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور.
* وكان يعجل الفطر، ويحض عليه، ويتسحر، ويحث على السحور, ويؤخره، ويرغب في تأخيره.
* وكان ﷺ يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء.
وكان ﷺ يفطر قبل أن يصلي.
وكان فطره على رطبات – إن وجدها - فإن لم يجدها, فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء.
وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (رواه أبو داود).
رابعًا: رؤية الحكم والفوائد:
ولا بد للمسلم والمسلمة كذلك أن يعرفا شيئًا من حكم الصيام وفوائده، فإن ذلك من دواعي الاهتمام بهذه العبادة، وإيقاعها على الوجه المطلوب، ومن تلك الحكم والفوائد:
1- الصوم طريق لحصول التقوى، كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ [البقرة: 183].
2- وهو سبب للتخلص من كل أنواع الباطل: لقوله ﷺ: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري).
3- وهو يضعف الشهوة، ويعود على الصبر: ويقوي الإرادة، ولذلك أمر النبي ﷺ من لم يستطع الزواج من الشباب بالصيام.
4- أنه يفرغ القلب, ويشغله بما يجلب له السعادة والفلاح: من الذكر والعبادة وتلاوة القرآن.
5- أنه يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان، فتسكن النفس، ويهدأ البال، وتزول الوساوس، ويتفرغ الإنسان لطاعة ربه.
6- أنه يطهر الأمعاء, ويصلح المعدة، وينظف البدن من الفضلات التي قد تسبب الضرر مع الوقت.
7- تعويد الأمة على النظام والاتحاد وحب العدل والمساواة والإيثار والبذل والعطاء، ومواساة الفقراء والمساكين وأهل الفاقة([2]).
خامسًا: الصوم الحقيقي:
ليس الصيام في الإسلام هو مجرد ترك الطعام والشراب والشهوة ساعات النهار، فهذا هو أهون الصيام كما قال أحد السلف، والصوم الحقيقي هو الذي يتضمن كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، بل يتضمن صوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية.
قال النبي ﷺ: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام عن اللغو والرفث» (رواه الحاكم والبيهقي).
وقال جابر: (إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).
آداب الصائم
قال القاسمي عن آداب الصائم: (أن يجتنب من حظوظ جوارحه الشبهات، وذلك بغض البصر عن الاتساع في النظر.
* وصون السمع عن الإصغاء إلى محرم.
* أو القعود مع أهل الباطل.
* وحفظ اللسان عن الخوض فيما لا يعني جملة.
ومراعاة القلب بعكوف الهم عليه، وقطع الخواطر والأفكار التي كف عن فعلها.
* وترك التمني الذي لا يجدي.
* وكف اليد عن البطش إلى محرم من كسب أو فاحشة.
* وحبس الرجل عن السعي فيما لم يؤمر به، ولم يندب إليه من أعمال البر.
* ورفض الشهوات الداعية إلى العادات.
* ولا يفطر إلا على حلال، متقللاً منه، فبذلك يزكو الصيام.
* وليكثر ذكر الله تعالى، وليقلل ذكر الخلق بلسانه.
* ولا يجادل، ولا يخاصم، وإن شئتم لم يكافئ على ذلك؛ لأجل حرمة الصيام.
* وفي الخبر: «كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (رواه أحمد، وحسنه العراقي).
* قيل: هو الذي يجوع بالنهار, ويفطر على حرام.
* وقيل: هو الذي يصوم عن الحلال من الطعام، ويفطر بالغيبة من لحوم الناس.
* وقيل: هو الذي لا يغض بصره، ولا يحفظ لسانه عن الآثام.
* وكانوا يقولون: الغيبة تفطر الصائم.
* قال سفيان: من اغتاب فسد صومه.
* وعن مجاهد قال: خصلتان يفسدان الصوم: الغيبة والكذب.
* قال أبو طالب المكي: فالمراد من الصيام: مجانبة الآثام، لا الجوع والعطش.
فهذا صوم الممدوحين في الكتاب، الموصوفين بالذكرى من أولي الألباب)([3]).
سادسًا: رمضان وسيلة, وليس غاية:
إن بعض الناس يظن أن العبادة في رمضان تكفي عن السنة كلها، ولذلك تراه لا يقبل على الله إلا في رمضان، ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان، ولا يرتاد المساجد إلا في رمضان، فهذا لا يوفق لاغتنام فضائل رمضان، بل ينقطع سريعًا في بدايات الشهر، لأنه لم يقدر الله تعالى حق قدره، ولم يعظمه حق تعظيمه، وإنما أراد خداع نفسه، وكفها عن لومه وتوبيخه لتفريطه في طاعة الله تعالى, وركوب محارمه.
وقد أخطأ هذا من وجوه:
أولاً: أنه جعل رمضان غايته في الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا ما انقضى رمضان، انقطعت معه كل الوسائل التي تقربه من الله تعالى.
ثانيًا: أن هذه نية فاسدة لا يثاب صاحبها، ولا يوفق لما عند الله عز وجل من الأجور والهبات، بل إن من نوى أن يعبد الله عز وجل في رمضان فقط دون بقية الشهور، فإن هذه النية الفاسدة جديرة بعقوبة صاحبها, لا بإثابته.
ثالثًا: أن هذه النية فيها استهانة بالله عز وجل, وعدم تعظيم له، فإن الله تعالى يستحق أن يعبد في كل وقت، بل ما خلق الخلق إلا لعبادته، كما قال: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ [الذاريات: 56]، فيأتي هذا, ويقصر العبادة على شهر واحد في العام، وهذا – بلا شك – من الجهل, وعدم البصيرة, وثقل العبادة على النفس.
سابعًا: رؤية التقصير:
إذا أردت أن تنتفع برمضان أو بغيره من الطاعات، فعليك أن تدخل على الله عز وجل دخول المذنبين المقصرين الخائفين المعترفين بذنوبهم، لا دخول المعجبين المدلين بأعمالهم، (فإن وقوفك بين يدي الله عز وجل ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب، أنفع لك، وخير من صولة طاعتك وتكثرك واعتدادك بها، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه، وإنك إن تبيت نائمًا, وتصبح نادمًا خير من أن تبيت قائمًا, وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك, وأنت معترف، خير من أن تبكي, وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله تعالى من زجل المسبحين المدلين)([4]).
فلو اجتهدت – أخي الحبيب – في طاعة الله عز وجل غاية الاجتهاد، وبذلت وسعك في ذلك غاية البذل، فأنت مقصر مع كل ذلك، وحق الله سبحانه وتعالى أعظم من عملك، وإن عملك مستحق عليك بمقتضى عبوديتك لله، أما إثابته لك على ذلك, فهذا محض فضل وإحسان ومنة منه إليك، ولذلك قال ﷺ: «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (متفق عليه).
ثامنًا: رؤية المنة:
وعليك – أخي الحبيب – أن تشاهد منة الله عليك في أن وفقك لإدراك هذا الشهر، وأقامك هذا المقام، وسر لك سبل الصيام والقيام، مع أن كثيرًا من الناس قد حرموا من ذلك، فمنهم من هلك, وأصبح رهين الجنادل والتراب، ومنهم من جاءته الآفات المانعة، فأصبح معطل الجوارح لا سبيل له إلى الصيام والقيام.
فلولا الله سبحانه وتعالى لكنت أحد هؤلاء، قال تعالى: }يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{ [الحجرات: 17]. فالمنة لله وحده في أن جعلك قائمًا بطاعته، مجتنبًا معصيته، ساعيًا في مرضاته.
وهذا المشهد من أعظم المشاهد, وأنفعها للعبد، وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته.
ومن فوائده: أنه يضيف الحمد إلى وليه ومستحقه، فلا يشهد لنفسه حمدًا، بل يشهده كله لله، كما يشهد النعمة كلها منه، والفضل كله له، والخير كله في يديه، وهذا من تمام التوحيد.
[انظر رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه]