×
كتاب لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد - أثابه الله - يتحدث حول بعض اللطائف والخواطر المتفرقة في أمر السفر تدور في مجملها حول بعض أحكام السفر، وآدابه، وما ورد في شأنه، والوقوف على شيء من الممارسات الخاطئة فيه.

 لطائف في السفر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن السفر نوع حركة ومخالطة، وفيه فوائد، وله آفات.

وهو وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه، أو الوصول إلى مطلوب ومرغوب فيه.

وموضوع السفر مادة خصبة للحديث والبحث، وجزءٌ لا يتجزأ من حياة الأمم، وثقافتها وتاريخها؛ فلا غنى عن السفر بحال، بل لا محيد عنه في أكثر الأحيان؛ فالناس محتاجون للحَلِّ والارتحال؛ لقضاء حاجاتهم، ودفع ضروراتهم، ولتحقيق التعاون على مرافق الحياة، وللسعي في الرقي والعمران.

وأفراد الناس يختلفون في مقاصدهم من السفر؛ فمنهم مَنْ مقاصدُه نبيلةٌ عالية، ومنهم من مقاصده دنيئة سافلة، ومنهم من هو بَيْنَ بين.

ويختلفون _أيضاً_ في نظرتهم للسفر؛ فمنهم من هو مُغْرَمٌ بالسفر، كَلِفٌ بالتنقل؛ فلا يكاد يلقي عصا التسيار، ولو أعطي الخيارَ لما مكث في بلدٍ أياماً، ولجعل دهره حَلاًّ وارتحالاً.

ومنهم من يكره السفر، ولا يطيق مفارقةَ بلدِه قِيْدَ أنملة، ولو كان الأمر بيده لما سافر البتة.

ومنهم من هو بين ذلك.

 ولقد اعتنت الشرائع بالسفر من حيث أحكامُه، وآدابُه، وما جرى مجرى ذلك.

وللشريعة الإسلامية عنايةٌ أوسعُ من غيرها بموضوع السفر؛ فلقد تظاهرت آيات الكتاب العزيز، وأحاديث السنة النبوية في ذكر السفر من حيث أحكامه وآدابه ونحو ذلك بصيغ عديدة، فتارة يذكر لَفْظُ السفر، وتارة يذكر ما يرادفه ويدل عليه كالظعْن، والسياحة، والمرور بالديار، والسير في الأرض، والضرب فيها، وغير ذلك.

كما أن كتب التفسير، والفقه، وشروح الحديث حافلة بهذا الشأن.

وكذلك كتب السير، والأخبار، والأدب، والمذكرات مليئة بذكر السفر، وأحواله، ونظرة الناس إليه.

والحديث ههنا سيكون حول بعض اللطائف والخواطر المتفرقة في أمر السفر، دون إطالة، أو تفصيل في مسائله؛ وإنما هي متفرقات تدور في مجملها حول بعض أحكام السفر، وآدابه، وما ورد في شأنه، والوقوف على شيء من الممارسات الخاطئة فيه؛ فإلى تلك اللطائف والخواطر، والله المستعان وعليه التكلان.

محمد بن إبراهيم الحمد

الزلفي: ص.ب: 460

6/ 3/1431هـ

جامعة القصيم _كلية الشريعة والدراسات الإسلامية_

قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة

www.toislam.net

                                            [email protected]    

 أولاً: مقاصد السفر

السفر _كما مر_ وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه، أو الوصول إلى مطلوب ومرغوب فيه.

والبواعث على السفر لا تخلو من هرب أو طلب.

يقول أبو حامدٍ الغزاليُّ×: =المسافر إما أن يكون له مزعجٌ عن مُقامه، ولولاه لما كان له مَقْصِد يسافر إليه، وإما أن يكون له مقصد ومطلب.

والمهروب عنه إما أمر له نِكايةٌ في الأمور الدنيوية، كالطاعون، والوباء إذا ظهر ببلد، أو خوفٍ سَبَبُهُ فِتْنَةٌ، أو خصومةٌ، أو غلاءُ سعر.

وهو إما عامٌّ كما ذكرناه، أو خاص كمن يُقْصَدُ بأذية في بلده، فيهرب منها.

وإما أمر له نكاية في الدين كمن ابتلي في بلده بجاه ومال واتساع أسباب تَصَدُّه عن التجرد لله، فيؤثر الغُربةَ والخمول، ويجتنب السعة والجاه، أو كمن يُدْعى إلى بدعة قهراً، أو إلى ولايةِ عملٍ لا تَحِلُّ مباشرتُه؛ فيطلبُ الفِرارَ منه.

وأما المطلوب فهو إما دنيوي كالمال والجاه، أو ديني والديني إما علم، وإما عمل.

والعلم إما علم من العلوم الدينية، وإما علم بأخلاق نفسه وصفاته على سبيل التجربة؛ وإما علم بآيات الأرض وعجائبها كسفر ذي القرنين وطوافه في نواحي الأرض.

والعمل إما عبادة وإما زيارة.

والعبادة هو الحج والعمرة والجهاد.

والزيارة _أيضاً_ من القربات وقد يقصد بها مكان كمكة والمدينة وبيت المقدس، والثغور فإن الرباط بها قربة+. ( )

فهذه إشارة إلى شيء من مقاصد السفر، وسيأتي مزيد بيان لمقاصد الناس من أسفارهم في فقرات آتية.

 ثانياً: حكم السفر

يختلف حكم السفر باختلاف المقاصد والأعمال، ويقسَّم على هذا النحو باعتبارات، ويمكن حصرها في ثلاثة أقسام، ويدخل تحت كل قسم منها ما لا يمكن حصره من الأفراد.

وهذه الأقسام هي: المحمود، والمذموم، والمباح. ( )

وإليك بيان ذلك بشيء من الإيضاح.

القسم الأول: السفر المحمود شرعاً: وهو ما كان قربة لله _عز وجل_ ومراداً به وجْهُهُ _تبارك وتعالى_ فيكون من جملة الأعمال الصالحة المشروعة التي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله.

ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا توافر فيه شرطا العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول".

قال الله _عز وجل_: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] هود:7.

قال الفضيل بن عياض × في معنى قوله _تعالى_: [أَحْسَنُ عَمَلاً].

قال: =أخلصه وأصوبه.

قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه.

قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة+.( )

وقال النبي": =من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد+.

أي مردود على صاحبه.

وفي رواية: =من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد+.( )

وبناءًا على ذلك فإن السفر المحمود هو ما ورد حمده في الشرع، كالسفر لأداء الحج أو العمرة، أو زيارة مكة أو المدينة أو بيت المقدس، أو لأجل البر والصلة، أو الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لإصلاح ذات بين، أو إغاثة ملهوف، أو زيارة أخ في الله، أو زيارة أهل العلم، والإفادة منهم.

ويدخل في السفر المحمود: السفر لتعليم العِلم، أو تَعَلُّمه.

وأعظم ما يدخل في هذا: العلمُ الشرعيُّ المقربُ إلى الله _عز وجل_ المستمدُّ من الكتاب والسنة.

ويدخل في ذلك العلمِ كلُّ وسيلةٍ تُعِيْنُ عليه من علوم الآلة وغيرها، من العلوم النافعة

ويدخل في العلم النافع وما جاء في فضله كلُّ علمٍ أثمر الثمار النافعة، وأوصل إلى المطالب العالية، فكلُّ ما زكَّى الأعمالَ، ورقَّى الأرواح، وهدى إلى السبيل _ فهو من العلم النافع، لا فرق في ذلك بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فَشَرَفُ الدين لازمٌ لشرف الدنيا، وسعادةُ المعاش مقترنةٌ بسعادة المعاد.

والشريعة بكمالها وشمولها أَمَرتْ بتعلم جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، والطبية، إلى غير ذلك من العلوم التي يكون بها قوام الأمة، وصلاح الأفراد و المجتمعات.( )

ومن السفر المحمود: الفرار بالدين من بلد إلى بلد، فهذه هي الهجرة الشرعية.

ومن السفر المحمودِ: السفرُ لإنشاء المدارس، والمستشفيات، والجمعيات الخيرية، والمشروعات النافعة عموماً.

فكل ما مضى ذكره، وجرى مجراه داخل في السفر المحمود، وهذا النوع من السفر قد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً بحسب الأحوال والأشخاص؛ فهذا هو السفر المحمود.

وإذا حسنت النيةُ فيه كُتِب الأجرُ، وتضاعف لصاحبه، وصار في عبادة منذ خروجه من بلده إلى حين قدومه إليه، وصار كلُّ ما يناله في ذلك السفر من أذىً، أو نصب، أو خسارة مالٍ، أو نحو ذلك _ مكتوباً له، مذخوراً عند الله _عز وجل_.

القسم الثاني: السفر المذموم شرعاً: وهو السفر المحرم، كشد الرحل لغير المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

وكالسفر لأجل الطواف في مكان غير الكعبة المشرفة، أو الحج لغير بيت الله الحرام، كقصد المشاهد والقبور والمزارات التي لم يعظِّمها الشرع، ولم يأمر بقصدها؛ فالسفر إلى البقاع، وشد الرحل لها، وطلب البركة فيها _ كل ذلك محرم؛ لما فيه من الشرك، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.

ومن السفر المحرم: سفر المعصية كمن يسافر لاقتراف الفواحش، وتشراب الخمور، وتعاطي المخدرات.

وكمن يسافر لأجل إفساد ذات البين، وتفريق شمل المسلمين.

ومن السفر المحرم: السفرُ لتعلم العلوم المحرمة كالسفر لأجل تعلم السحر أو تعليمه.

ومن السفر المحرم: السفرُ للاتجار بالمخدرات، وترويجها، وبيعها، وشرائها.

ويدخل في السفر المحرم كل سفر يراد منه جلبُ الضررِ على المسافر أو غيره في دينه أو دنياه.

ويدخل في السفر المذموم شرعاً السفر المكروه، كسفر الإنسان وحده لغير حاجة ونحو ذلك.

القسم الثالث: السفر المباح: وهو ما لم يكن لطاعة، أو معصية؛ فلا قربة فيه، ولا حرمة.

وذلك كحال من يسافر لطلب رزق، أو ابتغاء علاج، أو إجمام نفس، أو مرافقة قريب أو صديق أو نحو ذلك؛ فهذا داخل في المباحِ؛ فإن أعان على طاعة دخل فيها، وإن أعان على معصية أخذ حكمها، وإلا بقي على أصله.

ثم إن مرجع المباحِ إلى النية؛ فإن كان قصده بسفره طلبَ المال؛ لأجل التعفف، ورعاية ستر المروءة على الأهل والعيال، والتصدق بما يَفْضُل على مبلغ الحاجة _ صار هذا المباح بهذه النية من أعمال الآخرة. ( )

ولو سافر وأراد بسفره إجمامَ نفسه؛ ليتقوَّى بعد ذلك على العبادة، وطلب العلم، وتعليمه _ لدخل ذلك السفر في قبيل القربات.

وكذلك الحال لو سافر بوالديه، أو أهله، وأولاده، واحتسب إسعادهم، وإدخال السرور عليهم فإنه يؤجر بتلك النية.

 ثالثاً: محاسن السفر، ومنافعه، وفضائله

فمما ينبغي للإنسان _ خصوصاً _ من يريد السفر أن يستحضر محاسنَ السفرِ، ومساوءه؛ حتى يأخذ بالنافع ويدَعَ الضار، ولأجل أن يوجِّه الآثار التي وردت في مدح السفر، أو ذمِّه.

والحديث في هذه الفقرة سيكون حول محاسن السفر، وفضائله.

أما الحديث عن مساوئه فسيكون في الفقرة التي تليها.

فمما يذكر في فضل السفر ما يلي:

1_ زيادة العلم بقدرة الله وعظمته: يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار _ ما يزيده علماً بقدرة الله وحكمته، ويدعوه إلى تعظيمه، وشكر نعمته.

2_ أن السفر يفتح المذاهب، ويجلب المكاسب، ويُكْسِبُ التجارب، ويُطْلِع على العجائب، ويشُدُّ الأبدان، وينشِّط الكسلان، وينسي الأحزان، ويَحُطُّ سَوْرَةَ الكبْرِ، ويبعث على طلب الذِّكر.( )

3_ الاعتبار بأحوال الأمم الماضية، قال الله _تعالى_: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] الأنعام:11.

ويلحق بأحوال الأمم الماضية أحوالُ الأمم الحاضرة متى كان في النظر إليها عبرةٌ يُنْتفع بها في وجه من وجوه الإصلاح.

4_ رفعة الشأن: فقد يكون السفر سبباً في رفعة الشأن؛ فقد ينشأ الفتى في نبوغ، ويضيق بلده عن أنظاره، فيرحل إلى بلد يكون أوسعَ مجالاً، فتعظم مكانته، ويكثر الانتفاع بحكمته.

ومن الشواهد على ذلك أن القاضي يوسف بن أحمد بن كج الدينوري قد بلغ في العلم مرتبة كبيرة، وقال له بعضُ مَنْ لَقِيه: يا أستاذ! الاسمُ لأبي حامد الغزالي، والعلم لك؟

فقال القاضي: ذاك رفعته بغداد، وأنا حَطَّتْنِي الدِّيْنَوَر. ( )

5_ صقل العقل: فللسفر أثر في صقل العقل، وأصالة الرأي، وبُعْدِ النظر، وسعة الأفق، وقوة الإرادة خصوصاً إذا كان الإنسان ذا فطنة، ونباهة، واعتبار.

يقول الشيخ محمد الخضر حسين ×: =تشهد أساتذةُ الحكمةِ، وجهابذةُ الفلسفة، ويزكيه طولُ الاختبار والتجربة الصادقة _ أنَّ مَن انتشر بالأمصار، وجاس خلالَ البلاد، وعاشر طوائف الناس بنباهة قائمة، وضَبْطِ جَيِّد، وعَقْلٍ لا تأخذه سِنَةُ الذهولِ يكون أبسطَ ذراعاً، وأطولَ باعاً في معرفة ما لنوعه البشري من طباعٍ متباينة، وآراء متشعبة، وعوائدَ مختلفةٍ، وأهواءٍ متفرقةٍ، وأنه أشد تمكناً في التخلق بالأحوال التي تقربه عند أولي الألباب، بحيث لا تصدر أقواله وأفعاله إلا عن إرادة قوية وروية ثابتة، فما يلفظ من قول إلا صادف مرماه، ولا يكسب عملاً إلا كان حسنة في عيون أهل الفضيلة، وذلك لإحاطة مداركه بأوجه السياسة العامة خبراً، يعرف حيثُ يستبدل اللينَ بالحِدَّة، وفي أيِّ حين تُستعمل الشدةُ بدلاً عن الأناة، ولا يخفى عليه في أي المواضع يتعاظم بعزة النفس، وإلى أي حدٍّ ينتهي التواضع، وهلمّ جرا+.( )

6_ تقوية الروابط: وذلك بما يحصل بسببه من التعارف والصداقات بين الأفراد، والشعوب، والدُّول وما يترتب على ذلك من المصالح الكثيرة التي لا تخفى.

7_ اكتساب الأخلاق الحميدة: فالمسافر يفيد أخلاقاً كثيرة من جَرَّاء سفره؛ سواء بالمران أو الاقتداء، كالصبر، والكرم، والمداراة، وحسن التأتي.

8_ نماء العلوم، واتساع دائرتها؛ فكم من كتاب يُعَدُّ في علمه من أمهات الكتب هو وليد الرحلة والسفر.

ومثال ذلك أن أسدَ بنَ الفرات الراحل من القيروان إلى الشرق _ وَرَدَ مِصْرَ بعد أن تَلَقَّى العلمَ في الحجاز والعراق.

وألقى على ابن القاسم أسئلةً يطلب الجواب عنها على مقتضى مذهب الإمام مالك، وجمع تلك الأسئلة وأجوبتها في كتاب كان يسمى الأسدية.

ثم رحل سحنون من القيروان بالأسدية إلى ابن القاسم وعرضها عليه، وهذَّبها، وأضاف إليها مسائل أخرى، وصارت تسمى المُدَوَّنة، وهي المشار إليها بقول بعض أهل العلم:

أصبحت فيمن له علم بلا أدب

                   ومن له أدبٌ عارٍ عن الدين

أصبحت فيهم فقيد الشكل منفرداً

                   كَبيْتِ حسانَ في ديوان سحنون

وبيت حسان الذي لم يَرِدْ في المدونة غيرُه من الشعر هو قوله:

وهان على سراةِ بني لؤي

                   حريقٌ بالبُويرة مستطير( )

9_ أن الرحلة حفظت جانباً عظيماً من التاريخ، حفظته الكتب التي يودعها مؤلفوها ما شاهدوه في أسفارهم من وقائع وأحوال، مثل رحلة ابن بطوطة، ورحلة العبدري، ورحلة ابن جبير، ورحلة خالد بن عيسى البلوي، وغيرها، فإنا نرى في هذه الرحلاتِ أشياءَ لا نجدها فيما بين أيدينا من كتب التاريخ.

10_ للرحلة أثر في ثراء الأدب لا يقل عن أثرها في ثراء العلم، فكم من قصيدة لا ينظمها الشاعر إلا حين يعزم على الرحلة لإلقائها بين يدي ملك، أو وزير، أو وجيه، مثل قصيدة:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

                   إن السبيل إلى منجاتها درسا

فإن صاحبها أبا عبدالله بن الأبار الراحل من الأندلس قد نظمها استنجاداً لأمير تونس، وألقاها بين يديه. ( )

ولعل من أشهر ما يذكر في هذا السياق ما جاء في خبر وزير الأندلس المشهور محمد بن الخطيب السلماني المعروف بـ: لسان الدين بن الخطيب، ذلك الخبر الذي يعد من مناقب الوزير، وذلك أن سلطان غرناطة محمد بن أبي الحجاج بعثه إلى السلطان أبي عنان سلطان المغرب؛ ليستمد منه العون على عدوه، فلما قَدِمَ ابن الخطيب على أبي عنان ارتجل أبياتاً مؤثرة مدحه بها، حيث قال:

خليفةَ الله سـاعـدَ الـقـدرُ

                   عُلاك ما لاح في الدجا قمر

ودافعت عنكَ كفُّ قُدْرَتِه

                   ما ليس يَسْطيع دَفْعَهُ بشرُ

والناس طُرَّا بأرض أندلـس

                   لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا

وقد أهمتهم نـفـوسُـهُـمُ

                   فوجهوني إليك وانتظـروا

وجملةُ الأمرِ أنه وَطَنٌ

                   في غير علياك ما له وطرُ

فاهتز السلطان أبو عنان لهذه الأبيات، وبلغت منه كلَّ مبلغ، وقال لابن الخطيب: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.

قال القاضي أبو القاسم الشريف( ) _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+( ).

ولقد ورد في ذكر فضائل السفر أخبار، وآثار، وأشعار يطول ذكرها.

قال بعضهم: =اطلبوا الرزق في البعد؛ فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً+.(2)

وقال آخر: =لا يألفُ الوطن إلا ضَيِّقُ العطن+.(3)

وقيل: =الفقير من الأهل مصروم، والغني في الغربة موصول+.(4)

وقال الشافعي ×:

ما في المُقَـامِ لـذي عقـل وذي أدب

                   من راحةٍ فَـدَعِ الأوطان واغتربِ

سـافر تجـِدْ عوضـاً عمـن تفارقـه             وانصَب فإنّ لذيذَ العيشِ في النصبِ

إنِّي رأيـتُ وقـوفَ المـاء يُفســده              إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ

والأُسْدُ لولا فـراقُ الأرض ما افترست                 والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ

والشمـس لو وقفت في الفلك دائمـــــــة                لملَّها النّاسُ من عُجْـم ومن عربِ

والتِّبـر( ) كالتُّـربِ ملقًـى في أماكنـه          والعـود في أرضه نوعٌ من الخشبِ

فإن تغـرَّب هــذا عــزَّ مطلبـه

                   وإن تغرَّب ذاك عزَّ كالـذهبِ( )

وقال _أيضاً_:

سأضربُ في طول البلاد وعرضهـا          أنـال مـرادي أو أموت غريبا

فإن تلفت نفسـي فللـه درُّهـا

                   وإن سلمت كان الرجوعُ قريبا( )

وقال:

تغرَّب عن الأوطان في طلب العلا            وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ

تفرُّج هـمٍّ واكتسـاب معيشـةٍ

                   وعلمٌ وآدابٌ وصحبة ماجـدِ( )

وقال ابن قلاقس:

سافر إذا حاولت قَدْرا

                   سار الهلال فصار بدرا

والماء يَكْسَِبُ ما جرى

                   طيباً ويَخْبُثُ ما استقرا

وبِنَقْلَةِ الدُّررِ النفيـ

                   ـسةِ بُدَّلت بالبحر نحرا( )

وأخذه بعضهم فقال:

نقِّل ركابك في الفلا

                   ودَعِ الغوانيَ للقصورْ

لولا التنقل ما ارتقى

                   دُرُّ البحورِ إلى النحورْ

ما الماكثون بأرضهم

                   إلا كَسُكَّان القبور( )

قال النابغة:

إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه                شـكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا

فسِر في بلاد الله والتمـس الغنى               تعِش ذا يسـارٍ أو تمـوت فتعذرا

قال ابن عبدالبر× تعليقاً على بيت النابغة الثاني: =قال بعض العقلاء: أعرف بيتاً قد بيَّت أكثر من مائة ألف رجل في المساجد، وفي غير أوطانهم، وهو:

فسِر في بلاد الله والتمـس الغنى

                   تعِش ذا يسـارٍ أو تمـوت فتعذرا( )

وقيل لأعرابي: أين منزلك؟ قال: بحيث ينزل الغيث.( )

ومن أمثال العامة: البركات مع الحركات.( )

وقال الطُّغرائي في قصيدته المشهورة المعروفة بـ: لامية العجم:

إن العلا حدثتني وهي قائلة

                   فيما تحدثُ أن العز في النُّقل

لو أن في شرف المأوى بلوغَ مُنىً

                   لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارة الحَمَلِ( )( )

 رابعاً: مساوئ السفر ومعايبه

فكما أن للسفر محاسنَ تُذْكَرُ، وتؤيدُ بأقوال، وآثار، وأشعار _ فكذلك له معايب.

ولأجل أن تتسع النظرة للسفر، وما قيل فيه _ هذا ذكر لبعض ما ورد في معايب السفر بعد أن ذُكِرَتْ محاسنه.

ولعل أبلغ ما جاء في شدة السفر قول النبي": =السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه، وطعامه، وشرابه؛ فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَه فَلْيَعْجَلْ إلى أهله+( ).

ولهذا شرع التخفيف للمسافر في أمور كثيرة كالجمع والقصر للصلاة، وكإباحة الإفطار نهار رمضان، وكالمسح على الخفين مدة ثلاثة أيام إلى غير ذلك من رخص السفر.

أما كونه قطعة من العذاب فللمشاق والأخطار التي يتعرض لها المسافر، ولتركه مألوفاتٍ قد اعتادها في حَلِّه. ( )

وقد يكون _كما قال بعضهم_ بسبب فرقة الأحباب كما قال الأول وهو نفطويه:

شيئان لو جرت الدماءُ عليهما                 عيناك حتى يؤذنا بذهاب

لم يبلغِ المعشارَ مِنْ حَقَّيهما

                   فَقْدُ الشبابِ وفُرْقَةُ الأحباب( )

ومن اللطائف أنه لما سئل إمامُ الحرمين الجوينيُّ حين جلس موضع أبيه: =لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟+.

أجاب على الفور: =لأن فيه فِراقَ الأحباب+.( )

ولعل من أسباب كونه عذاباً ما يلقاه المسافر من تعب، ومداراة، وتَحَمُّلٍ لبعض من يصحبهم خصوصاً إذا كانوا ذوي أمزجة متقلِّبة؛ فإن من يُبتلى بأمثال هؤلاء في سفر سيجد ألماً، وعذاباً، ومعاناة لا يعلمها إلا الله.

ولهذا قيل: إن السفر سمي بذلك؛ لأنه يسفر عن الأخلاق( )؛ خصوصاً إذا كان السفر طويلاً؛ حيث تظهر معادن الناس على حقيقتها؛ لأن المسافر تمر به أوقات تعب، وجوع، وإرهاق، ونحو ذلك؛ فيصعب عليه إخفاءُ ما هو عليه من طبائع، بخلاف ما إذا كان غير مسافر.

ولذلك قال عمر ÷ للذي زكَّى عنده بعضَ الشهود: =هل صحبته في السفر الذي يُسْتَدلُّ به على مكارم أخلاقه؟ فقال: لا؛ فقال: ما أراك تعرفه+.( )

قال أبو حامد الغزاليُّ ×: =فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائثُ أخلاقها؛ لاستئناسها بما يوافق طَبْعَها من المألوفات المعهودة؛ فإذا حُمِّلت وعثاءَ السفر، وصُرِفت عن مألوفاتها المعتادة، وامتُحِنَتْ بمشاق الغربة، وانْكَشَفَتْ غوائلُها، ووقَعَ الوقوفُ على عيوبها _ فيمكن الاشتغال بعلاجها+.( )

قال بعض الحكماء: =متاعب السفر سبعة:

الأول: مفارقة الإنسان من يألفه.

الثاني: مقارنة من لا يشاكله.

الثالث: المخاطرة بما يملكه.

الرابع: مخالفة عادته في مأكله ومنامه.

الخامس: مجاهدة الحر والبرد بنفسه.

السادس: احتمال مِنَّةِ الملاَّح والمكاري.

السابع: السعي كل يوم في تحصيل منزل جديد.( )

وهذه المعايب يذكرها الحكماء الأوائل، ولا ريب أن بعضها قد لا يكون موجوداً في عصرنا الحاضر، أو قد يكون موجوداً في بعض الأماكن، وفي حق بعض الأشخاص.

وهناك عيوب أخرى للسفر منها أنه سبب للذلة، وتشتيت الذهن، وربما يتسبب في تشتت الأولاد وضياعهم، خصوصاً إذا كان صاحبه مكثراً من السفر، والبعد عن الأهل.

وقد يكون السفر سبباً في ضياع المال، كحال أولئك الذين يُبَذِّرون المال، ويسرفون في الترف والإغراق في النعيم.

ومما ورد في متاعب السفر ما جاء في حديث دعاء السفر، وفيه: =اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر+ الحديث( ).

والوعثاء في السفر: المشقة.( )

قال أبو عبيد ×: =هو شدة النصب والمشقة+.( )

وقال ابن الأثير ×: =وعثاء السفر:أي شدته، ومشقته.

وأصله: الوعثُ، وهو الرَّمْلُ والمشيُ فيه يشتد على صاحبه ويشق، يقال: رَمْلٌ أوعثُ، ورملةٌ وعثاء+.( )

ومما نطقت به العرب على الثنية قولهم: العذابان: السفر والبناء.

وفي بعض الآثار: عذابان لا يُشعر بهما: السفر والبناء؛ لأن السفر ينهك البدن، والبناء ينهك المال. ( )

قال الثعالبي×: =شيئان لا يعرفهما إلا من ابتلي بهما: السفر الشاسع، والبناء الواسع+.

وقال: =السفر، والسَّقم، والقتال ثلاثةٌ متقاربةٌ؛ فالسفرُ سفينةُ الأذى، والسّقم حريقُ الجسد، والقتالُ مَنْبتُ المنايا+.( )

وقال بعضهم:

كلُّ العذاب قطعة من السفر

                   يارب فارددني إلى رِيف الحضر( )

وقيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية ولزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان.

قيل: فما الذلة؟ قال: التنقُّل في البلدان، والتنحِّي عن البلدان.

وقال بعض الأدباء: الغربةُ ذِلَّة؛ فإن رَدِفتها عِلِّة، وإن أعقبتها قِلَّة _ فتلك نفس مضمحلة.

وقالت العرب: الغربة ذلة، والذلة قلة.

وشبهت العربُ والحكماءُ الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه؛ فلا أمَّ ترأم له، ولا أب يَحْدِبُ عليه. ( )

وكان يقال: =الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشز عن موضعه الذي هو لكل سَبُعٍ فريسة، ولكل كلبٍ قنيصة، ولكل رامٍ رَمِيَّة+.( )

وجاء في كتاب نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس تأليف العباس بن علي بن نور الدين الحسيني الموسوي: دخل الشيخ عبدالرزاق الشيبي سادن بيت الله الحرام على الحسن بن أبي نمي _شريف مكة_ يستأذنه في السفر، وركوب البحر، فأنشده الشريف قول الطغرائي من لاميته:

فِيمَ اقتحامُك لُجَّ البحر تركبه

                   وأنت تكفيك منه مَصَّةُ الوشل

فأنشده الشيخ عبدالرزاق الشيبي على البديهة:

أريد بَسْطَةَ كفٍّ استعين بها

                   على قضاء حقوق للعلا قبلي

فأمر له الشريف بقضاء دينه، وأمر له بألف أحمر، وترك الشيخ السفر.( )

وعن أبي عبيدة أن الحطيئة أراد سفراً، فأتته امرأته، وقد قدمت راحلته؛ ليركب، فقالت:

اذكر تَحنُّنَا إليك وشوقنا

                   واذكر بناتِك إنهن صغارُ

فقال: حُطّوا، لا رحلت لسفر أبداً.( )

وقال ابن عبدالبر×: =أراد أعرابي السفر فقال لامرأته _وقيل: إنه الحطيئة_:

عُدِّي السنين لغيبتي وتصبَّري

                   وذري الشهور فإنهن قصار

فأجابته:

اذكر صبابتنا إليك وشوقنا

                   وارحم بناتِك إنهن صغار

فأقام، وترك سفره+.( )

وقال هَرِمٌ بنُ حيان العبدي:

وجدتُ الفتى ما كان في غير قومه            تُنوصِر مظلوماً عليه وظالماً( )

وقال آخر:

وإنَّ اغتراب المرء من غير حاجـةٍ           ولا فاقـةٍ يسـمو لهـا لعجيب

وحسب الفتى ذلاً وإن أدرك الغنى            ولو نال ملكاً أن يقـال: غريب( )

وقال آخر:

لا ألفينَّك ثاوياً في غربة

                   إن الغريبَ بكلِّ سهمٍ يُرشَقُ( )

وأنشدوا:

إن الغريب له استكانةُ مذنبٍ

                   وخضوعُ مِديانٍ وذلُّ مُريب( )

وقال الطرطوشي معارضاً الشافعي _ رحمهما الله _ محذراً من السفر.

تَخلَّف عن الأسفار إن كنت طالباً              نجاةً ففي الأسفار سبع عوائقِ

تفرقُ إخوانٍ وفقد أحبةٍ

                   وتشتيت أموال وخِيفةُ سارقِ

وكثرةُ إيحاشٍ وقلةُ مؤنسٍ

                   وأعظمها يا صاح سكنى الفنادقِ( )

فإن قيل: في الأسفار كسب معيشةٍ             وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ فائق

فَقُلْ: كان ذا دهراً تقادم عهده

                   وأعقبه دهرٌ كثير العوائق

وهذا مقالي والسلام مؤيدٌ

                   وجرِّب ففي التجريب علم الحقائق

هذا بعض ما قيل في ذم السفر، ولا ريب أن أكثر ما ورد من ذلك صحيح، خصوصاً في الزمن الأول؛ لما في السفر من المشاق والكلفة العظيمة.

وفي عصرنا الحاضر قَرُبَت المسافات، وتيسرت السبل؛ بفضل ما هيأه الله _عز وجل_ من تعبيد الطرق، وتوافُرِ وسائل النقل الحديثة البرية، والبحرية، والجوية، من سياراتٍ، وقطاراتٍ، وسفنٍ، وبواخرَ، وطائرات؛ فحصلت الراحة، والرفاهية من هذه الناحية؛ حيث السرعةُ في الوصول، والتنَعُّمُ بوسائل التكييف الباردة والحارة.

ومع ذلك كله يبقى السفر شاقاً مرهقاً للنفس، والبدن عموماً.

ومن تلك المشقة ما يكون من تعطل هذه المراكب، وكثرة حوادثها التي تُزْهق الأرواح، وتَتَسَبَّبُ في كثير من العاهات، والأمراض؛ فهذه الحوادث تعكِّر صفو تلك المراكب المريحة.

ويعكر صفوَها _أيضاً_ تأخُّرُ الرحلات الجوية في كثير من الأحيان عن مواعيدها، بسبب خلل أو عطل.

وإذا فات موعدُ الرحلة ترتب عليه تأخرٌ، وربما يطول؛ فيبقى السفرُ سفراً مهما كان.

ولعل من حكمة الشريعة، وعظم مقاصدها أن ناطت أحكامَ السفر بكونه سفراً بغض النظر عن راحة المسافر في سفره من عدمها.

 خامساً: أيهما أفضل: السفر أو الإقامة؟

وبعد أن تبين شيء من مفهوم السفر، ومقاصده، وحُكْمِه، ومنافعه، ومعايبه _ لسائل يسأل، فيقول: أيهما أفضل السفر أو الإقامة؟

والجواب _ كما قال الغزالي × أن ذلك يضاهي النظرَ في أن الأفضل هو العزلة أو المخالطة. ( )

ومعنى ذلك أن الأفضل في السفر والحضر يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.

وجماع ذلك أن السفر إن كان فيه تعاون على البر والتقوى فهو مأمور به، وإن كان فيه تعاون على الإثم والعدوان فهو منهي عنه.

وإذا كان السفر مما يزداد به العبد إيماناً إما لانتفاعه به، أو لنفعه له، فهو خير.

وإن كان بالعكس فالإقامة أفضل.

والشخص الواحد قد يكون السفر أفضل في حقه تارة، وقد تكون الإقامة في حقه أفضل تارة أخرى وهكذا...

ومن الناس من هو قَويٌّ على الترحال، مكفيٌّ مؤونة الأهل والأولاد، وعملُه الواجب عليه، أو المُتَطوِّع به يفرض عليه التنقل من بلد إلى بلد _ فالسفر في حق هذا أفضل.

ومن الناس من هو بعكس ذلك تماماً، فتكون الإقامة في حقه أفضل.

 سادساً: التفقه في أحكام السفر

فيحسن بالمسافر أن يتفقه في أحكام السفر ولو على سبيل الإجمال؛ كالعلم بأحكام صلاة المسافر، والمسح على الخفين، والتيمم، وأدعية السفر.

ومن ذلك: الاستخارةُ والاستشارةُ في السفر، وزمانه، ومكانه، ورفقته، والطريق الذي سيسلكه.

ومن ذلك كتابة الوصية قبل السفر، أو إضافة ما يريد إضافته إليها من التخلص من حقوق العباد، وتوصية الأهل بتقوى الله _ عز وجل _.

ومن أحكام السفر معرفة الأوقات التي يستحب فيها السفر؛ فمن الأوقات التي يستحب فيها السفر يومُ الخميس، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي بن كعب ÷ قال: =لَقَلَّما كان رسول الله " يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس+.( )

وفي رواية: =كان يحب أن يخرج يوم الخميس+.( )

ومن ذلك السفرُ أول النهار؛ فقد أخرج أبو داود في سننه عن صخرٍ الغامديِّ عن النبي" قال: =اللهم بارك لأمتي في بكورها+.

وكان إذا بعث سريةً أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته من أول النهار؛ فأثرى وكَثُر مالُه+.( )

ومن أحكام السفر معرفة الأذكار الخاصة به كالتكبير، والتسبيح، قال جابر÷: =إذا صعدنا كبَّرنا، وإذا نزلنا سَبَّحنا+.( )

ومن أحكام السفر كراهية تفرق المسافرين عند النزول حال سفرهم، فقد جاء في سنن أبي داود من حديث أبي ثعلبة الخشني÷ قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً _ قال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله" منزلاً _ تفرقوا في الشعاب والأودية؛ فقال رسول الله": =إن تَفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان+.

فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم. ( )

ومما ينبغي للمسافر أن يستحضر أن دعوته مستجابة، فعن أبي هريرة÷ أن النبي" قال: =ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم+.( )

إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة المتعلقة بالسفر، والتي سيرد ذكر لبعضها في فقرات آتية بحسب ما يتيسر؛ إذ المقام لا يسمح بالتفصيل. ( )

 سابعاً: التأمير

والأصل في التأمير في السفر ما جاء في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري÷ أن رسول الله" قال: =إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم+.( )

فإذا كان المسافرون جماعة فعليهم أن يؤمروا أميراً، وأن يكون ذا خبرة وسداد رأي، وعليهم أن يلزموا طاعته في غير معصية الله، وليحذروا من الاختلاف عليه، كما عليه أن يرفق بهم، وأن يستشيرهم، وألا يستنكف من خدمتهم.

ومن حكمة الأمير أن يكون واسع الصدر، حازماً حكيماً، عالماً بطبائع أصحابه، معاملاً لهم بذلك المقتضى.

قال أبو حامد الغزالي×: =وليؤمروا أحسنَهم أخلاقاً، وأرفقَهم بالأصحاب، وأسرعَهم إلى الإيثار وطلب الموافقة.

وإنما يُحتاج إلى الأمير؛ لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل والطرق ومصالح السفر، ولا نظام إلا في الوَحْدة، ولا فساد إلا في الكثرة.

وإنما انتظم أَمْرُ العالَمِ؛ لأن مدبر الكلِّ واحد [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] الأنبياء:22.

ومهما كان المدبِّرُ واحداً انتظم التدبيرُ، وإذا كثر المدبرون فسدت الأمور في الحضر والسفر إلا أن مواطنَ الإقامةِ لا تخلو من أمير عام كأمير البلد، وأمير خاص كرب الدار.

وأما السفر فلا يتعين له أميرٌ إلا بالتأمير؛ فلهذا وجب التأمير؛ ليجتمع شتاتُ الآراء+.( )

إلى أن قال×: =ثم على الأمير أن لا ينظر إلا لمصلحة القومِ، وأن يجعل نفسه وقاية لهم كما نقل عن عبدالله المروزي أنه صحبه أبو علي الرباطي، فقال: =على أن تكون أنت الأمير أو أنا، فقال: بل أنت، فلم يزل يحمل الزاد لنفسه، ولأبي عليٍّ على ظهره، فأمطرت السماء ذات ليلة، فقام عبد الله طولَ الليل على رأس رفيقه وفي يده كساءٌ يمنع المطر، فكلَّما قال له أبو علي: لا تفعل، يقول: ألم تقل: إنّ الإمارة مسلَّمة لي؟! فلا تتحكم عليَّ، ولا ترجع في قولك، حتى قال أبو علي: وددتُ أنِّي لو متّ ولم أقل له: أنت الأمير، فهكذا ينبغي أن يكون الأمير+.( )

 ثامناً: لزوم التقوى في السفر

فالتقوى هي خير الزاد، وخير اللباس، والإنسان محتاج إلى التقوى أعظم من حاجته إلى مطعمه ومشربه وملبسه سواء كان ذلك في حال إقامته أو سفره.

والمسافر يحتاج إلى الوصية بالتقوى لأسباب كثيرة، منها:

1_ أن التقوى _ كما مر _ مطلوبة بكل حال.

2_ أن المسافر مُعَرَّضٌ للمخاطر في سفره؛ فقد تفجؤه المنيةُ وهو في تلك الحال.

3_ أن المسافر قد يلاقي ما يلاقي من الفتن والصوارف سواء كان ذلك من فتن الشبهات، أو الشهوات؛ فيحتاج إلى إيمان يردعه، وتقوى تزمُّه.

وإلا ولغ في الشرور، وهوى على أُمِّ رأسه.

4_ أن المسافر غريبٌ، والغريبُ لا يجد في سفره من وازع الحياء، والستر ما يجده حال إقامته بين ظهراني أناس يعرفونه ويعرفهم.

5_ أن المسافر قد لا يجد من يعينه على البر والتقوى كما يجدها حال إقامته؛ بل قد يجد من يؤزُّه إلى المعاصي أزاً؛ فقد يقيم في مكان تكثر فيه المنكرات، وقد يتعرض لإغراء؛ فتضعف نفسه، ويتلاعب به الشيطان؛ فإذا لزم التقوى أعانه الله، وصَرَفَ عنه الآفات والشرور.

6_ أن المسافر قد يجد من الهم، والغم، والضيق، وألم الغربة ما يكدر صفوه خصوصاً في بداية سفره؛ فكلما قرب من ربه، وكثر لجؤوه إليه أنس قلبه، وأطمأنت نفسه، ووجد ما يغني قلبه، ويَلُمُّ شعثه؛ ففي الله عوض من كل شيء، وليس عن الله عوض من أي شيء.

لكل شيء إذا فارقته عِوضٌ

                   وليس لله إن فارقت من عوض

7_ أن التقوى ترفع من قدر الإنسان حال سفره، وتنقذه _بإذن الله_ من السقوط والوَرْطات التي يقع فيها كثير ممن يفرطون بجانب التقوى.

فلهذه الأسباب وغيرها تكاثرت الوصية بالتقوى، ولزومها في كل حال؛ فالقرآن الكريم مليء بالأمر بالتقوى، وتعداد ثمراتها قال الله _ عز وجل _:[وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ]النساء:131.

ولما أمر الله _عز وجل_ الحجاج بالتزود بقوله: [وَتَزَوَّدُوا] عقب بقوله: [فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] البقرة:197.

وشرع للمسافر إذا خرج للسفر أن يدعو بدعاء السفر المشتمل على سؤال الله التقوى.

جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله" كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر ثلاثاً، ثم قال: =سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا منقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطْوِ عنا بُعْدَه، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل+.

وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: =آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون+( ).

ويلاحظ في هذا الدعاء أنه جُمِعَ فيه بين البر والتقوى؛ وهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ فإذا اجتمعا صار البر يعني فِعْلَ الأوامر، والتقوى ترك النواهي.

وإذا افترقا دخل كل واحد منهما في الآخر؛ فكأن في هذا الدعاء إشارةً إلى شدة حاجة المسافر إلى فعل الأوامر، وترك النواهي.

ويلاحظ في خاتمة ذلك الدعاء تضمُّنه معنى الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله؛ لأن المسافر قد يعتريه النقص والتقصير والتفريط في شأن التقوى؛ فيحسن به إذا عاد من سفره أن يجدد التوبة والرجوع إلى الله؛ فيكون ذلك الدعاءُ كالطابَع لتلك الرحلة؛ فإن كان محسناً زاد بذلك الدعاء إحساناً، وإن كان مسيئاً كان كالكفارة له كما في دعاء كفارة المجلس، والاستغفارِ بعد الصلاة، والحجِّ، وفي آخر الليل، وفي نهاية الأعمال الصالحة عموماً؛ فإنه يستحب أن تختم بالاستغفار الذي يتممها، ويرقع ما تَخَّرق منها؛ فإذا قرن ذلك الاستغفار بحمد الله _عز وجل_ على تيسير السفر كان ذلك نوراً على نور، كما في قوله _تعالى_ لنبيه" بعد أن أدى الأمانة، وكَمَّل الرسالة، ونصح للأمة: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] النصر:3.

وجاء في سنن الترمذي عن أنس÷ قال: جاء رجل إلى النبي" فقال يا رسول الله! إني أريد سفراً؛ فزودني، قال: =زوَّدك الله من التقوى+.

قال: زدني، قال: =وغفر ذنبك+.

قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: =ويسَّر لك الخير حيثما كنت+.( )

ولما بعث النبي" معاذاً إلى اليمن مبلغاً عنه، داعياً، ومفقهاً، ومفتياً، وحاكماً أوصاه بتلك الوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة( )، فقال ": =اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخلق حسن+( ).

فهذا الحديث العظيم من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وهو جامع لحق الله، وحق عباده، وهو منهج حياة للمسلم في حَلِّه وترحاله.

فقوله _ عليه الصلاة والسلام _: =اتق الله حيثما كنت+ جامع لكل خصال الخير، بل لا وصية أجمع منها.

ومعناها: لازم تقوى الله على أي حال كنت، في أي زمان أو مكان، في حال إقامتك، أو سفرك، أو سوقك، أو متجرك، أو منزلك، أو مقر عملك.

وسواء كان ذلك في سمعك، أو بصرك، أو يدك، أو رجلك، أو في حال خَلْوَتِك، أو جَلْوتك.

ومن كان كذلك فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه.

وما أبصرتْ عيناي أجمل من فتى

                   يخاف مقام الله في الخلوات( )

وإذا حصل تقصيرٌ في جانب من التقوى فليبادر الإنسان إلى الاستغفار والتوبة والأوبة، وإتباع السيئة الحسنة.

وهكذا يتبين أن هذا الحديث جامع لحق الله وحق الناس؛ فحق الله يتحقق في الجملتين الأوليين، وحق الناس يتحقق في قوله: =وخالق الناس بخلق حسن+.

ولعظم شأن هذا الحديث شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية× في الوصية الصغرى( ) المعروفة بـ: سؤال أبي القاسم المغربي.

وأطال في شرحه الحافظ ابن رجب× في كتابه العظيم (جامع العلوم والحكم).

بل يكاد يكون أطول حديث شرحه؛ حيث شرحه في ثلاث وستين صفحة. ( )

فأَجْمِلْ بالمسافر أن يضع ذلك الحديث نصب عينيه؛ فيجعله نبراساً يسير على ضوئه؛ فيكون بذلك قائماً بحق الله، وحق عباده، وذلك سر سعادته، وفلاحه.

ولهذا تتابعت وصايا السلف بالتقوى لعموم الناس، وللمسافر على وجه الخصوص.

قال رجل يريد الحج ليونس بن عبيد× أوصني، فقال له: =اتق الله؛ فمن اتقى الله فلا وحشة عليه+.( )

وقال شعبة بن الحجاج: كنت إذا أردت الخروج قلت للحكم بن عتيبة الكوفي: ألك حاجة؟ فقال: أوصيك بما أوصى به النبي " معاذ بن جبل =اتق الله حيثما كنت+ الحديث.( )

وأوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: =يا بني! إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء، ولعلك لا تلقى غير الأعداء؛ فخالط الناس بجميل البشر، واتق الله في العلانية والسر+.( )

ومن أبدع ما رقمته يراعةُ العلامة الشيخ محمد الخضر حسين من خواطر وهو في غربته في ألمانيا( ) قوله×: =إذا أغلق المحيطُ أعينَ رُقبائك، وختم على أفواهِ عُذَّالك، ثم راودك على أن تَنْزِعَ حليةَ أدبك _ فقل: ليس للفضيلة وطن+.( )

 تاسعاً: المحافظة على الصلاة في السفر

وهذه الفقرة داخلة في عموم لزوم التقوى وإنما أفردت لأهميتها؛ فالصلاة لا يخفى شأنُها، وعظمُ منزلتها في الإسلام، والحديث ههنا سيكون حول أداء الصلاة في السفر؛ لكثرة الأحاديث الواردة في صلاة المسافرين، وفضلها، ولأن السفر مَظِنةُ تضييع الصلاة؛ لكثر التنقل، وضيق الوقت أحياناً، إلى غير ذلك من الأسباب.

فإذا حافظ عليها الإنسان حالَ سفرِه دلَّ ذلك على إيمانه، وإخلاصه، وتعلقه بربه، وقربه منه.

ولهذا جاءت الأحاديث مُبَيِّنةً فضلَ الصلاة في السفر؛ فعن أبي سعيد ÷ قال: قال رسول الله": =الصلاة في جماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة، فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة+.( )

وروى عبدالرزاق عن سلمان÷ مرفوعاً: =إذا كان الرجل بأرض فحانت الصلاة، فليتوضأ، فإن لم يجد فليتيمم؛ فإن قام صلى معه مَلَكَاه، وإن أَذَّن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه+.( )

قال الشوكاني×: =والحكمة من اختصاص صلاة الفلاة بهذه المزية أن المصلي فيها يكون في الغالب مسافراً، والسفر مظنة المشقة؛ فإذا صلاها المسافر مع حصول المشقة تضاعف إلى ذلك المقدار.

وأيضاً الفلاة في الغالب من مواطن الخوف، والفزع؛ لما جُبِلت عليه الطباع البشرية من التوحش عند مفارقة النوع الإنساني؛ فالإقبال _ مع ذلك _ على الصلاة أَمْرٌ لا يناله إلا من بلغ في التقوى حَدٌّ يَقْصُر عنه كثير من أهل الإقبال والقبول.

وأيضاً في مثل هذا الموطن تنقطع الوساوس التي تقود إلى الرياء؛ فإيقاع الصلاة فيها شأنُ أهل الإخلاص.

ومن ههنا كانت صلاة الرجل في البيت المظلم الذي لا يُراد فيه أحدٌ إلا الله _ عز وجل _ أفضل الصلوات على الإطلاق.

وليس ذلك إلا لانقطاع حبائل الرياء الشيطانية التي يقتنص بها كثيراً من المتعبدين؛ فكيف لا تكون صلاةُ الفلاة مع انقطاع تلك الحبائل، وانضمام ما سلف إلى ذلك بهذه المزية؟!+.( )

 عاشراً: إخبار الأهل عن وجهة السفر

فيحسن بالمسافر إذا أراد السفر أن يخبر أهله عن وجهة سفره، ومدة غيبته؛ حتى لا يطول انتظارُهم، ولأجل أن يعرفوا مكانه إذا فقدوه، وطال غيابُه، وانقطع اتصالُه.

يقال هذا لأن كثيراً من الناس يسافر دون علم أهله عن سفره، أو وجهته؛ فربما سافر لنزهة، أو صيد، أو نحو ذلك.

وربما تعرض لأذى، أو مرض، أو حجزٍ في مكانٍ ما، أو أصيبت مَرْكَبَتهُ بعطل، ولم يستطع الاتصال، بل ربما مات في سفره.

فإذا لم يكن عند أهله علم بذلك صاروا في حيرة، وبلاء لا يعلمه إلا الله.

وقد يتعلل بعض الناس بأنه لا يريد تكدير صفو أهله خصوصاً والديه إذا أراد السفر مدة قصيرة.

فيقال: إذاً لا بد من إخبارِ أيِّ أحد كالزوجة، أو أحد الإخوة، أو الأقارب، أو الأصدقاء.

وإذا وصل إلى المكان الذي يريده فَلْيُعْلِمْ أهله بسلامة وصوله إذا كانوا عالمين بسفره، أو يُعْلِم غيرهم مِنْ أَحِبَّتِهِ بذلك.

وبعض الناس وخصوصاً من فئة الشباب لا يأبه بهذا الأمر، إما قلة مبالاة، أو يرى أنه كبير يتحمل المسؤولية، ولا يريد _بزعمه_ أن تكون لأحد وصاية عليه.

ولا ريب أن ذلك خطأ، ونقص.

ومما يذكر في سيرة سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز ابن باز× أنه فَوْرَ وصولِه إلى البلد الذي يسافر إليه سواء كان مكة، أو الطائف، أو غيرهما أنه يبادر إلى الاتصال بأهله الذين ليسوا بصحبته، ويخبرهم بسلامة وصوله.

 الحادي عشر: توديع المسافر

فالتوديع والوداع للمسافر من لحظات العمر المليئة بالدموع، والوفاء، والحب؛ لذا فإن من أروع ما يكون بين الأحبة لحظات الوداع التي يعقبها السفر، والفراق؛ خصوصاً إذا كان السفر طويلاً.

ولعل ما في موقف التوديع من الرقة، والرحمة، والصدق ما يكون سبباً لإجابة الدعاء للمسافر بالتوفيق والسداد.

ولهذا جاءت السُّنةُ بتوديع المسافر، والدعاء له، فعن سالم ابن عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهم _ أن عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_ كان يقول للرجل إذا أراد سفراً: =ادن مني حتى أودِّعك كما كان رسول الله" يودعنا، فيقول: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك+.( )

وعن عبدالله بن يزيد الخطمي÷ قال: كان رسول الله" إذا أراد أن يودع الجيش يقول: =استودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم+.( )

وقول الراوي: =كان رسول الله" يفعل أو يقول كذا وكذا...، يدل على أنه السنة المعتادة.

وعن أنس ÷ قال: جاء رجل إلى النبي " فقال: يا رسول الله! إني أريد سفراً؛ فزودني، قال: =زوَّدك الله من التقوى+.

قال: زدني، قال: =وغفر ذنبك+.

قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: =ويسَّر لك الخير حيثما كنت+.( )

وعقد الإمام البخاري × في كتاب الجهاد والير من صحيحه باباً قال فيه: =باب التوديع+.

وقال ابن وهب أخبرني عمرو بن بكير عن سليمان ابن يسار عن أبي هريرة÷ أنه قال: بعثنا رسول الله " في بعث، وقال لنا: =إذا لقيتم فلاناً وفلاناً _ لرجلين من قريش سماهما _ فحرقوهما بالنار+.

قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج، فقال: =إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما+.( )

قال ابن عبدالبر×: =قالت أعرابية لابنها وقد ودعته وهو يريد سفراً: امضِ مُصاحباً مكلوءًا، لا أَشْمَتَ اللهُ بك عدواً، ولا أرى محبيك فيك سوءًا+.

وودع أعرابي رجلاً فقال: =كَبَتَ اللهُ كلَّ عدوٍّ لك إلا نفسَك، وجعل خيرَ عملِك ما ولي أجَلَكَ+.( )

هذا وإن لكلمة الوداع نصيباً غير منقوص عند أهل العلم والأدب؛ فهي تجري على ألسنة العلماء، والشعراء, وفي منشآت الأدباء؛ فللوداع لوعته, ودموعه, وزفراته, وللشعراء مذاهبهم المختلفة في تصويره, ونظرتهم له.

فعن المعتمر بن إياس× قال: =ودع الحسن رجلاً، وعيناه تهملان، وهو يقول:

وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له

                   رزيئةُ مالٍ أو فراقُ حبيب( )

وقال آخر لرجل ودَّعه: بقي علينا أن نَكُفَّ من غَرْبِ الشؤون( )، ونستعين على فُرقة الوحشة بالكتب؛ فإنها ألسن ناطقة، وعيون رامقة+.( )

وهذا أحدُهم يكره أيام الوصال؛ لأنها مؤذنة بالفراق والوداع, ويحب أيام الهجر والبعاد؛ لأنها قد تفضي إلى اللقاء, فيقول:

أحبُّ لياليْ الهجر لا فرحاً بها                 عسى الدهر يأتي بعدها بوصال

وأكره أيام الوصال لأنني

                   أرى كل وصل محكماً بزوال

وهذا ابن زريق يصور موقف الوداع فيقول:

أستودع الله في بغداد لي قمراً

                   بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودَّعته وبودي لو يودعني

                   طيب الحياة وأني لا أودعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحًى             وأدمعي مستهلات وأدمعه( )

وهذا آخر يؤمل يوم الوداع بالرجوع, واللقاء, فيقلب كلمة الوداع, فتكون كلمة (عادوا) تفاؤلاً بالاجتماع مرة أخرى, فيقول:

لا تأسَ يا قلبُ من وداع

                   فإن قلب الوداع عادوا

ولأبي الطيب المتنبي وقفات مع الوداع تملأ ديوانه؛ فها هو يصور لوعة الوداع، فيقول:

حُشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا

                   فلم أدرِ أيّ الظاعنين أشيعُ

أشاروا بتسليم فجُدْنا بأنفسٍ

                   تسيل من الآماقِ والسِّمُّ أدمعُ

حشاي على جمر ذكي من الهوى

                   وعيناي في روض من الحسن ترتع

ولو حُمِّلت صم الجبال الذي بنا

                    غداة افترقنا أوشكت تتصدع( )

ويقول في موضع آخر:

شوقي  إليك نفى لذيذ هجوعي

                   فارقتني فأقام بين ضلوعي

أوما وجدتم في الصَّراة ملوحةً

                   مما أرقرق في الفرات دموعي

ما زلت أحذر من وداعك جاهداً

                   حتى اغتدى أسفي على التوديع

رحل العزاء برحلتي فكأنما

                   أتبعته الأنفاس للتشييع( )

ويقول في موضع آخر:

ولم أرَ كالألحاظ يومَ رحيلهم

                   بعثن بكل القتل من كل مشفق

أدَرْنَ عيوناً حائراتٍ كأنها

                   مركبةٌ أَحْدَاقُها فوقَ زئبق

عشية يعدونا عن النظر البكا

                   وعن لذة التوديع خوف التفرق( )

ومن أبدع ما قيل في وداع الأصدقاء ما قاله أبو تمام يمدح فيها عليَّ بن الجهم القرشي الشاعر، وقد جاءه يودعه لسفر أراده، وكان أصدق الناس له:

هيَ فُرْقَة ٌ منْ صَاحبٍ لكَ ماجِدِ

                   فغداً إذابةُ كلِّ دمعٍ جامدِ

فافْزَعْ إلى ذخْر الشُّؤونِ وغَرْبِه

                   فالدَّمْعُ يُذْهبُ بَعْضَ جَهْد الجَاهدِ

وإذا فَقَدْتَ أخاً ولَمْ تَفْقِدْ لَهُ

                   دَمْعاً ولاصَبْراً فَلَسْتَ بفاقد

أعليُّ يا بنَ الجهمْ إنكَ دفتَ لي

                   سُمَّاً وخمراً في الزلالِ الباردِ

لاتَبْعَدَنْ أَبَداً ولا تَبْعُدْ فما

                   أخلاقك الخُضْرُ الرُّبا بأباعدِ( )

إنْ يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإننا

                   نغْدُو وَنَسْري في إِخَاءٍ تَالدِ

أوْ يختلفْ ماءُ الوصالِ فماؤنا

                   عذبٌ تحدرَ من غمامٍ واحدِ

أو يفْتَرقْ نَسَبٌ يُؤَلفْ بَيْننا

                   أدبٌ أقمناهُ مقامَ الوالدِ

لو كنتَ طِرْفاً كنتَ غيرَ مدافعٍ

                   للأَشْقَرِ الجَعْدِيِّ أو للذَّائذِ( )

أوْ قدمتكَ السنُّ خلتُ بأنهُ

                   منْ لَفْظكَ اشتُقَّتْ بَلاغَة ُ خالدِ( )

أو كنتُ يَوْماً بالنُّجوم مُصَدقاً

                   لَزَعَمْتُ أنَّكَ أنتَ بِكْرُ عُطارِدِ

صعبٌ فإنْ سومحتَ كنتَ مسامحاً

                   سلساً جَرَيرُكَ في يمينِ القائدِ

أُلبستَ فوقَ بياضِ مجدكَ نعمةً

                   بَيْضاءَ حَلَّتْ في سَواد الحَاسدِ

وَمَوَدَّة ً، لا زَهَّدَتْ في رَاغبٍ

                   يوماً ولا هي رغبتْ في زاهدِ

غَنَّاءُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ أنْ يَغْتَدي

                   في رَوْضها الرَّاعي أمامَ الرَّائد

ما أدَّعي لكَ جانباً من سُؤْدُدٍ

                   إلاَّ وأَنْتَ علَيْه أَعْدَلُ شاهد( )

ومن لطيف ما يذكر في التوديع ما ذكره علامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ت 1385هـ × وذلك في مقالة له عنوانها (من نفحات الشرق: الأستاذ محمد بهجة البيطار).

حيث تكلم في تلك المقالة عن صديقه البيطار× وما كان عليه من علم، وخلق، كما تحدث فيها عن ذكرياته في دمشق، والتي أقام فيها أربع سنين إلا قليلاً، وما كان في تلك الأيام من مجالس علمية، ومسامرات أدبية مع علماء وأدباء، وعلى رأسهم صاحبه الشيخ محمد الخضر حسين التونسي× إذ كان في تلك الفترة مقيماً في الشام.

وفي خاتمة تلك المقالة الماتعة الرائعة قال متحدثاً عن يوم الودائع: = ويا يوم الوداع ما أقساك، وإن كنت لا أنساك.

لا أنسى بعد ثلاثين سنة ولن أنسى ما حييت موقف الوداع بمحطة البرامكة والأستاذ الخضر يكفكف العبرات، وتلامذتي الأوفياء: جميل صليبا، وبديع المؤيد، ونسيب السكري، والأيوبي، يقدّمون إلي بخطوطهم كلمات في ورقات، ما زلت محتفظاً بها احتفاظ الشحيح بماله.

عهود لم يبق إلا ذكراها في النفس، وصداها في الجوانح، والحنينُ إليها في مجامع الأهواء من الفؤاد.

ولولا أن السلوّ كالزمن يتقادم، وأن الهوى مع العقل يتصادم، لقلت مع المتنبي: أبوكم آدم!... ( )

ولقد راجعت = مذكراتي + المنقوشة في ذاكرتي فوجدُتها حافظة لتلك العهود بأيامها ولياليها وأحاديثها، فليت شعري أيذكر الأحياء من إخوان الصفا مثل ما أذكر؟+.( )

ومن طريف ما يذكر في لحظات التوديع ما قَيَّدَهُ العلامةُ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه رحلة الحج إلى بيت الله الحرام حيث قال×: =اعلم أننا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي ذي البطاح، والمياه، والنخيل، وودعنا كل قريب وخليل، والبين يهيج في القلوب الداء الدخيل، فترى ورد الخدود يطله جمود الدموع، والأعين تنكر السِّنَةَ والهجوع، ماء العيون في الجفن حائر حسبما قال الشاعر:

ومما شجاني أنها يوم ودعت

                   تولت وماء العين في الجفن حائر

فلما أعادت من بعيد بنظرة

                   إليّ التفاتاً أسلمته المحاجر

وكان يوم الخروج لهذه القاعدة الكبيرة لسبع مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف، أمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف+. ( )

وآخر ما وقفت عليه في توديع الأحبة قول أخينا الشيخ محمود العمراني في وداع أحد أصدقائه، وكان ذلك الصديق يعاني من مرض شديد مخوف، فأنشأ محمودٌ أبياتاً قال في مقدمتها: =في المطار كنت أتجرع غصص الوداع، وأنا أنظر إلى الروح التي نعمت بصحبتها ليومين، كانا أجمل يومين يمران على العاصمة الرياض، أظنها شعرت بذلك.

كنت أنظر إلى روحه عبر عينيه، وعندما هممت بوداعه، دلف قبلي إلى صالة المسافرين، فمنعني رجل المطار من اللحاق به.

أردت أن أفهمه ماذا يعني لي فراقه، ولكن ملامحه قالت لي: لا تفعل، لا فائدة!

فاكتفينا بعناق الأعين من بعيد.

حتى الوداع حُرِمتُ منه فليتني

                   أطفأت بعض الشوق في توديعه

وقطفت من عينيه آخرَ وردةٍ

                   لتكون ملهمتي ليوم رجوعه

وضممتُه ورحلت في أعماقه

                   وغرقت فيه بدفئه وصقيعه

يا ليتني لكنها أُمْنِيَّةٌ

                   ماتت على كفي لدى تشييعه

وطفقت أنظر والدموعُ غِشاوةٌ

                   وأراه ينظر من وراء دموعه

وأشار لي عند الرحيل بكفه

                   بل قد أشار مودِّعاً بجميعه

فكأنه يمشي على قيثارةٍ

                   مبحوحةٍ والعزفُ من توقيعه

ليت الذي قد حال دون وداعنا

                   يُكوى بلوعة خافق وولوعه

لو كان يدري ما التفرق لم يحل

                   لكنه ما ذاق نزع ضلوعه( )

 الثاني عشر: البعد عن المخاطرات

فبعض الناس يسافر إلى أماكن موحشة، أو يسلك في سفره طرقاً وعرة دون أن يكون له سابقُ خبرةٍ بذلك، ودون أن يكون له حاجة ماسة إلى الذهاب إلى تلك الأماكن، أو سلوك تلك الطرق.

وبعضهم يذهب إلى رحلاتِ صيدٍ برية أو بحرية، فيخاطر مخاطرة خارجة عن الطور، ويعرض نفسه للمعاطب.

وقد يذهب إلى غابات في بعض البلدان، ويكون في تلك الغابات حيوانات مفترسة وهو لا يدري من أين تأتيه، ولا كيف يتَّقيها.

وبعضهم يذهب إلى أماكن غير آمنة، كتلك التي يكثر فيها اللصوص، وقطاع الطريق دون أن يكون هناك حماية للسابلة.

وبعضهم يبيت في طريقه في مجاري السيول غير مبال بالعاقبة؛ فربما سالت تلك الأودية وهو نائم فيها، أو لا يستطيع تفاديَ سيولها، فيحصل ما لا تحمد عقباه.

وقد يبيت في الطريق الذي تمر به السيارات، أو يبيت في الطريق المحاذي له مباشرة.

وفي ذلك خطر، وقد جاء في صحيح مسلم النهي عن ذلك؛ فعن أبي هريرة ÷ قال: =إذا سافرتم في الخِصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير، وإذا عَرَّستم بالليل فاجتنبوا الطريق؛ فإنها مأوى الهوام بالليل+.

وفي رواية: =وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق؛ فإنها طرق الدواب، ومأوى الهوام+.( )

وبعضهم يسلك طرقاً رملية طويلة ليس فيها علامات يُهتدى بها، وإنما يركب فيها مَتْنَ عمياءَ، ويَخْبِطَ خَبْطَ عَشْواءَ؛ فيتوغل في عمقها، وقد يتعرض للعطل، أو عجز المركبة عن السير.

وقل مثل ذلك في الدخول في مفاوز لا يدرك غَوْرَها، ولا بُعْدَ مسافتها دون أن يتزود بالوقود الكافي.

ومن المخاطراتِ القربُ من الأماكنِ الممنوعةِ، أو المحميةِ، أو الدخولُ في حدود دولة أخرى دون أن يشعر، أو التجولُ في أماكن مشبوهة، أو محظورة أمنياً.

وبعضهم يقود سيارته في سفره وهو في حال إجهاد، وإعياء شديد، ومغالبةٍ للنوم.

وبعضهم يواصل سيره في جوٍّ مغطىً بالضباب أو الغبار، أو في جوٍّ مَطِيرٍ جداً، بحيث لا يستطيع رؤية ما أمامه إلا بشق الأنفس.

ويعظم الخَطْبُ على المسافر إذا كان بصحبته أهلُ بيته من زوجة وأطفال، ونساء.

فهذه الأمور وما جرى مجراها داخلة في المخاطرات التي قد تقود إلى الهلكات.

فيجب على المسافر أن ينأى بنفسه عن تلك المخاطرات التي قد تلقي به إلى التهلكة، أو تُسبب له متاعبَ لا قبل له بها.

وإذا كان يشكو من إعياءٍ فليتوقف عن المسير، ويأخذَ قدراً من الراحة، وإذا كان الجو لا يساعد على المواصلة فليقف إن أمكنه في مكان آمن؛ حتى يناسب السير.

وإذا كان يستعين بأجهزة الملاحة التي ترشد إلى الأماكن، وتحدد المسافات _ فَلْيَتَفَقَّدْ تلك الأجهزة، وليطمئن على سلامتها، ثم ليوطنْ نفسه على أنها ربما أصيبت بعطل، فليأخذ أُهْبَتَهُ واستعدادَه.

وكذلك الحال بالنسبة لهاتفه الجوال.

 الثالث عشر: الحرص على إيناس الرفقة في السفر

فإن ذلك من أعظم أخلاق السفر؛ إذ السفر يجتمع فيه التعب، والنصب، وفراق الأحبة؛ فإذا اجتمع إلى ذلك انقباضٌ، وكزازة كان ذلك ظلماتٍ بعضُها فوق بعض.

فيحسن بمن سافر مع أصحابه أن يؤنسهم، ويلاطفهم، ويمازحهم بذوق ولطف، ويتحمَّل جفوتَهم، وتَكَدُّرَ أمزجتهم، وليحتسب ذلك على الله _عز وجل_ وليعلم أن تلك الأخلاقَ أخلاقُ الأكابر والعظماء الذين يتحملون الناس، ولا يحمِّلونهم هَمَّهم.

وسيأتي مزيد بيان لذلك في فقرات آتية _ إن شاء الله_.

 الرابع عشر: التماس الرضا، وقلة الخلاف

لأن رفقة السفر يعتريهم ما يعتريهم من اختلاف وجهات النظر، وتباين الآراء سواء في وقت السفر، أو مكانه، أو أي شأن من شؤونه؛ فيحسن بالرفقة إذا سافروا أن يتطاوعوا، وألا يختلفوا، ويجدر بالعاقل إذا اصطحب رُفْقَةً أن يلتمس رضاهم، وأن يتجنب خلافهم ما أمكنه؛ فذلك من أعظم ما يحفظ الود، ويطفئ نار الحقد.

ولذلك لما بعث النبي" معاذاً وأبا موسى الأشعريَّ إلى اليمن قال: =يسِّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا+.( )

قال الأحنف بن قيس ×: =لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضا كلِّ واحدٍ منهم+.( )

وقال أبو إسحاقَ السبيعيُّ ×: =ثلاثٌ يصفِّين لك وِدَّ أخيك: السلام إذا لقيته، وأن تدعُوَه بأحب أسمائه، وألا تماريه+. ( )

قال أبو غسان غناةُ بنُ كليبٍ: اجتمعت أنا ومحمد بن النَّضْر الحارثي وعبدالله بن المبارك والفضيل ورجل آخر، فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد بن النَّضْر علينا في شيء، فقال له ابن المبارك: ما أقلَّ خِلافكَ، فأنشد:

وإذا صاحبتَ فاصحبْ ماجداً

                   ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمْ

قوله للشيء لا إن قلت لا

                   وإذا قلت: نعم قال: نعم( )

وقال الشافعي ×:

أحبُّ من الإخوان كلَّ مُواتي

                   وكلَّ غضيضِ الطرف عن عثراتي

يساعدني في كل أمر أريده

                   ويحفظني حياً وبعد مماتي

فمن لي بهذا ليت أني أصبته

                   لقاسمته ما لِي من الحسنات( )

وقال ابن حزم ×: =إياك ومخالفة الجليس، ومعارضةَ أهلِ زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا أخراك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة، والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً+.( )

ومما يعين على قلة الخلاف في السفر معرفةُ الرُّفقةِ بعضِهم طبائعَ بعضٍ، وأن يتعاملوا بذلك المقتضى؛ فبعض الناس يكون مِنْ طَبْعِه حُسْنُ الحديث، وقبولُ الناس له، وحُبُّهم لحديثه، فيحسن به ألا يبخل عليهم بذلك، ما لم يصل إلى حدِّ الإملال والإثقال.

ومنهم من لا يحسن الحديث، فيجمل به أن يحسن الاستماع؛ ومنهم من هو مجبول على الخدمة لأصحابه، والقيام على شؤونهم بكل تَدَفُّعٍ ومُتْعَة ؛ فينبغي له ألا يمنَّ عليهم بذلك.

ومنهم من قد يكون كسولاً مُؤْثِراً للبَطَالة؛ فيجمل به ألا يجمع بين الكسل، وثِقَلِ النفس، بل يجدر به أن يستشعر كَسَلَه، وَتَبَرُّمَهُ منه، وأن يطلق لسانه بالدعاء، والثناء والشكر لمن يعمل، ويخدم إخوانه، وهكذا؛ فإن لم تُسْعِد الحالُ فَلْيُسعِدِ النطق.

ومنهم المطبوع على الظُّرف، وسرعة البديهة، وحضور النكتة، وتَقَبُّل المزاح؛ فيكون كالفاكهة للرحلة؛ فلا يحلو لأصحابه إلا استثارتُه، ومداعبتُه؛ لاستخراج ما عنده من نوادر، ومواقف؛ فيحسن به أن يقدِّر هذا الطبعَ المغروزَ فيه؛ وليستحضرْ أن ذلك لا يُنْقِصُ من قيمته؛ فَلْيتحملْ ما يصدر من أصحابه من مزاح، ولْيَحْمِلْه على أحسن المحامل بدلاً من أن يظن أنه مُسْتَخَفٌّ به، مُتجرَّأٌ عليه، وليس الأمر كذلك.

بل إن ذلك دليل على خفة ظله، وطهارة نفسه، وحُبِّ أصحابه له؛ فَلْيُسْعِدْ أصحابه، ولْيحتسب إيناسهم، وطردَ السآمةِ عنهم.

وقديماً قالوا: لا يصلح لِلصَّدْر إلا واسعُ الصدر.

على أنه لا ينبغي الإسفافُ في المزاح، أو الإفراط فيه إلى حَدٍّ يُخْرِجُ عن الطور، أو يترتب عليه تعكر مزاج صاحبهم، أو إهانته، والاستخفاف به.

وهكذا تتنوع الطبائع، وتختلف القدرات.

وبذلك يكون جوُّ الرحلة مفعماً بالحب، والسرور، وانطلاق كل واحد منهم على سجيته، وقبولِ بعضهم بعضاً دون تكرُّهٍ أو ملل.

 الخامس عشر: الحرص على اختيار الرفقة الطيبة الملائمة

لأنك ستغيب عن أهلك الذين أَلِفْتَهم، وألفوك، وبيتك الذي اعتدت العيش فيه، وستواجه أموراً قد لا تَرَوْقُك في سفرك؛ فإذا كنت مع رفقة طيبة تحبهم ويحبونك، ويعرفون طباعك، وتعرف طباعهم _كما مر_ كان سفرك نافعاً، ساراً، ممتعاً.

وإن كانت الأخرى صار سفرك وبالاً عليك.

وكم من أناس سافروا، وعادوا متقاطعين.

وإذا أردت أن تعرف سرورك في سفرك من عدمه فانظر هل تمر عليك أيام سفرك مرور الكرام؟

وإذا رجعت من سفرك هل تشعر بعد مدة يسيرة جداً بشوق إلى لقاء مَنْ سافرت معهم، ووحشةٍ من جَرَّاء فراقهم؟

إذا كنت كذلك فهو سفر محبب إلى النفس.

وإن كانت أيام السفر ثقيلة طويلة، وكنت لا تجد شوقاً إلى من سافرت معهم فإنه سَفَرٌ مُمِلٌّ متعب.

فاختيار الرفقة _إذاً_ مطلب مُلِحٌّ، ما لم تَدْعُ الحاجةُ إلى السفر مع أناس لا تختارهم أنت، بل تفرضهم عليك الحاجة؛ فحينئذ لا بد من توطين النفس على قبولهم، والعرب تقول في أمثالها: =إذا لم يكن ما تريد فَأَرِدْ ما يكون+.

وقال محمد بن الحنفية ×: =ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بُدَّاً حتى يأتيه الله بالفرج، أو المخرج+.( )

أما إذا كان الخيار بيد الإنسان وهو يريد السفر فليحاول قدر المستطاع أن يختار الرفيقَ المناسبَ المساعفَ الذي يلائم الإنسان في سفره.

ولا يعني اختيارك لأحد من الناس أو الأصحاب دون غيره أن ذلك تقليل من مكانة غيره.

وإنما المقصود أن بعض الناس قد يلائم في السفر، ولا يلائم في الحضر، أو العكس، أو قد يكون بعضهم أكثر ملائمة من غيره في الحضر، والعكس.

وقد يناسب في رحلة معينة أن يصحبك فلان من الناس دون فلان.

وقد يناسب في رحلة أخرى أن يرافقك شخص آخر دون الأول وهكذا...

وقد يكون نوع الرحلة أو زمانها، أو مكانها، أو مدتها، أو الناس الذين سترحل إليهم _ كل ذلك قد يكون له دور في اختيار من يناسب للذهاب مع الإنسان.

وقد يناسب رحلة من الرحلات أن يصحبك عدد معين، وقد يناسب في رحلة أخرى أن يصحبك عددٌ أقل أو أكثر من العدد الأول.

وقد يكون بعض الناس مناسباً للرحلة مع كل أحد، وفي كل وقت، وهكذا...

والمقصود من ذلك أن يكون السفر مفيداً نافعاً مسعداً، وأن يكون سبباً في زيادة القربى بين الناس لا أن يكون سبباً في الكدر والفرقة.

وإذا حصل أَنِ اختار إنسانٌ رفيقاً أو أكثر من أصحابه في سفرٍ ما _ فلا يعني ذلك أن يصرم بقية الأصحاب، وإنما يتواصل معهم.

وإذا سافر مجموعة ممن اعتادوا السفر جميعاً، ثم نسوا واحداً منهم _ فعليهم أن يعتذروا منه، ويطيبوا نفسه.

وإذا حصل أن سافر صديق لك مع أحد أصدقائه دون أن يعلمك، أو يطلب منك مرافقته _ فلا يَكْبُر ذلك في نفسك، ولا تفهم من ذلك أنه زاهدٌ بصحبتك، مائلٌ عنك إلى غيرك لا؛ إن الأمر أهون من ذلك؛ فقد لا يريد صاحبك إحراجك، وقد يرى أن فلاناً غيرَك أنسب في هذه الرحلة للذهاب معه، وهكذا...

فلا ينبغي أن تعرِّض علاقاتنا للتوتر بسبب هذه الأمور اليسيرة التي لا تستدعي سوى غض الطرف.

 السادس عشر: لزوم المسافرِ الاعتدالَ والمداراة

وأعني بذلك اعتدالَ المِزاج، وتركَ الاستسلام للعوارض النفسية؛ فالناس خلقوا للاجتماع لا للعزلة, وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفردَ كلُّ واحد منهم بمرافق حياته.

وللإنسان عوارض نفسية كالحب، والبغض،  والرضا، والغضب، والاستحسان، والاستهجان.

فلو سار على أن يكاشف الناسَ بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال _ لاختل الاجتماع،ولم يَحْصُلِ التعارف، ولانقبضت الأيدي عن التعاون.

فكان مِنْ حِكْمة الله في خلقه أَنْ هَيَّأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يُحدث تقاطعاً،أو يدعو إلى تخاذل،ذلك الأدب هو المداراة.

فالمدارة مما يزرع المودة والألفة، ويجمع الآراء المشتتة، والقلوب المتنافرة.

والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولينِ الكلام،وتَجَنُّبِ ما يشعر ببغض، أو غضب، أو استنكار إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراً من كتمانه، وذلك راجع إلى حكمة الإنسان، وحسن تبصُّره في الأمور.

ولا ريب أن المسافر مِنْ أعظم مَنْ يحتاج إلى المداراة؛ فإذا تَمَثَّلها، وأخذ بها كان أُنساً، وسعادةً لأصحابه، وإذا كانت الأخرى كان عليهم كَلاًّ.

ومن الاعتدالِ المطلوب في السفر الاعتدالُ في الأكل والنوم؛ فقد لا يجد المسافر ما يروقه من الطعام، وقد لا ينام النومَ الكافي؛ فيحسن به أن يوطن نفسه على ذلك، وألا يكلف أصحابه ما لا يطيقون؛ بحيث إذا لم يتهيأْ له طعامٌ مناسبٌ، أو نومٌ كافٍ تَكَدَّر، وكَدَّر على من معه.

 السابع عشر: احترام المواعيد

فمن أعظم ما يصفِّي جَوَّ الرحلةِ أن يحترمَ كلَّ واحد من الأصحاب المواعيدَ التي تُضْرَب، فإذا اتفقوا على موعد حَلٍّ أو ارتحالٍ؛ فلا ينبغي لأحد منهم أن يَقْطَعهم بنوم، أو تباطؤ؛ فإذا حصل خطأ في موعد، أو تأخُّرٍ عنه فليعتذِرْ منهم، ولْيتَقَبَّلْ لَوْمَتَهُم.

كما يجمل بالصحبة أن يتعاذروا إن حصل خطأ أو تقصير في موعد؛ حتى لا يكدروا صَفْوَ الرحلة.

ومن احترام المواعيدِ التَقَيُّدُ الدقيق بمواعيد السفر عبر الطائرات أو القطارات؛ لأن أيَّ تأخر عن هذه الرحلات سيترتب عليه فواتُ الرحلة.

وإذا فاتت وقع المسافر في حيص بيص خصوصاً إذا كان في صحبة أهله أو أصحابه، أو كان في دولة غير دولته.

وإذا تأخرت الرحلة، أو فات موعدها _ فلْيتعزَّ المسافرُ بقدر الله، وليتحرَّ الخِيَرَةَ، ولْيَحْتَسِبْ ذلك عند الله؛ فهذا هو الأليق، والأكمل؛ إيماناً بالقدر، وحبساً للشكوى، ورعاية للأدب مع الله.

 الثامن عشر: وضع الخطة للسفر

فإن مما ينبغي للمسافر أن يضع خطة لسفره، تتضمن وقت السفر والعودة، وتتضمن ما يحتاجه ذلك من ميزانية مالية، وتشتمل على تفصيل ما سيجري في تلك الرحلة من زيارات لأشخاص وأماكن، وقضاء بعض الأعمال إلى غير ذلك مما سيكون في الرحلة، فَوَضْعُ الخطة على هذا النحو مطلوب _ولو على سبيل الإجمال_ على أنه لا يلزم أن يصلَ التخطيطُ إلى حَدِّ الصرامة المفرطة التي لا تدع للمفاجآت أو الطوارئ فرصة.

بل يحسن أن يكون فيها شيء من المرونة والقابلية للتعديل بحسب ما يكون من أحوال ومشاورات.

 التاسع عشر: مراعاة أدب الغربة

فقد ترميك الغربةُ في بلد ما، إما لعمل، أو زيارة، أو دراسة، أو تدريس؛ فاستحضر أنك سفير لأهلك، وبلدك، ودينك.

ثم عليك بالآداب السَّنِيَّة؛ فهي كمال الإنسانية، فعلى الإنسان أن يحتفظ بها في وطنه كما يحتفظ بها في غربته.

بل إن مِنَ الحكماء مَنْ يولون الغريبَ ومَنْ رام الغربة عناية خاصةً، فيؤكدون عليه الاحتفاظ بالآداب الشريفة، كما قالوا: (يا غريباً كن أديباً).

ومن هذا القبيل وصية عبدالملك بن سعيد الأندلسي لابنه يحيى عند عزمه على الرحلة إلى بلاد الشرق، تلك الوصية التي يقول فيها:

أُوْدِعُكَ الرحمنَ في غربتك

                   مرتقباً رحماهُ في أوبتكْ

فلا تُطِلْ حَبْلَ النوى إنني

                   والله مشتاقٌ إلى طلعتك

وقال:

وليس يُدرَى أصلُ ذي غربةٍ

                   وإنما تُعْرَف مِنْ شيمتك

ونبهه لآداب سامِيَةٍ فقال:

وامش الهوينا مظهراً عفةً

                   وابغِ رضا الأعينِ عن هيئتكْ

وكلُّ ما يُفْضِي لعذر فلا

                   تجعلْه في الغربة من إِرْبَتِكْ

ولا تجادل حاسداً أبداً

                   فإنه أدعى إلى هيبتك

وانطق بحيث العِيُّ مستقبحٌ

                   واصمُتْ بحيث الخيرُ في سكتتك( )

هذا وإن مما يحسن بالعاقل مراعاته حال غربته ما يلي:

1_ أن يستحضر فوائد الغربة، وأن يحرص على الإفادة منها: فللغربة فوائد كثيرة، ومن أنفس ما يكتسبه الرجل في غربته أن يعلم أشياء لم يكن يعلمها من قبل؛ فكم من عالم لم يبلغ المقام الذي يشار إليه بالبنان إلا بالرحلة، وكم من صاحب موهبة لم تكشف موهبته إلا بالغربة.

كما أن في الغربة عوناً على التمكن من بعض الأخلاق السامية، مثل خلق الصبر؛ لكثرة ما يلاقيه الراحل من متاعب بدنية، وآلام نفسية.

ومثل خلق المداراة؛ فإن البعيد عن وطنه أشد شعوراً بالحاجة إلى الأدب ممن يعيش بين قوم يعرفون مِنْ حَسَبِهِ ومكانةِ بيته ما يجعل صراحتَه خفيفةً على أسماعهم.

كما أن الراحلَ لا يخلو من أن يلاقي في رحلته رجالاً صاروا مُثُلاً عالية في مكارم الأخلاق، فيزدادَ بالاقتداء بهم كمالاً إلى كمال، إلى غير ذلك من فوائد الغربة ومنافعها التي مَرَّ ذكر لشيء منها عند الحديث عن منافع السفر؛ فيحسن بالمتغرب أن يستحضر فوائد الغربة، وأن يسعى سعيه للإفادة منها.

كما عليه أن يستحضر مساوئ الغربة، ومعايبها، ويحذر كل الحذر من الوقوع في شيء من ذلك. ( )

2_ أن يكون ذا فطنة مستيقظة: فمما ينبغي التنبيه عليه أن السفر لا يذكي هِمَّةَ صاحبه، ولا يُرَبِّي له مَلَكَةَ الأدب إلا إذا قارنته فِطْنَةٌ مستيقظة، تبحث عن أسرار الاجتماع، وتدقق النظر في تمييز الحَسَن من المعيب؛ لأن مِنَ الناس مَنْ لا يزيدهم الاغتراب إلا خَوَراً في طباعهم، وانحلالاً في عُقْدَةِ إيمانهم.

بل إن منهم من غمسوا وجوهم في الشرور حتى نَضَب منها ماءُ الحياء، وانْسَدل عليها من السماجة قناعٌ كثيفٌ.

فالسفر النافع _إذاً_ ليس مبارحةَ الأوطان كيفما اتفق، ولا بالجولان بالبلدان كيفما كان الحال. ( )

3 _ الحرص على إفادة الآخرين في الغربة: فتجد من الناس من إذا تغربوا أو اضْطُروا إلى الغربة، وكانوا ذوي فضل وعلم كبعض المعلمين والدعاة ونحوهم_ لا يأبهون بمسألة إفادة الناس، ونشر الخير بينهم.

بل إن من آفاتهم أنهم إذا تغربوا كَثُرَتْ بَطالتُهم، ونَفَدَ صبرُهم، وقَلَّ أو عُدِمَ في الناس أثرُهم.

وما ذلك إلا لضعف هممهم، وركونهم إلى الملذات العاجلة.

وإلا لو استشعروا المسؤولية، وشمروا عن ساعد الجد لسعدوا وأسعدوا.

4 _ الإحسان إلى الزملاء في الغربة: فتكونَ لهم نعم الأنيس والسمير؛ بحيث يجدون عندك من حسن العشرة، وتَحَمُّل الجفاء، وكرم النفس _ ما ينسيهم أهليهم؛ فذلك مما يدل على رسوخ القدم في الفضيلة.

وكل ذلك عائد عليك بالأجر، والمثوبة، وانشراح الصدر، وطيب الذكر.

ومما يعينك على ذلك أن تتذكر أن الأيامَ مُتَصِّرمة، وأن الغربةَ منقضية.

فعن أنس بن مالك ÷ قال: صحبت جرير بن عبدالله، فكان يخدمني، وهو أكبر من أنس، قال جرير: =إني رأيت الأنصار يصنعون شيئاً لا أجد أحداً منهم إلا أكرمته+.( )

وعن أنس ÷ قال: =كنا مع النبي " أكثرنا ظِلاً الذي يُسْتَظل بكسائه، وأما الذي صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذي أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا، وعالجوا، فقال النبي": =ذهب المفطرون اليوم بالأجر+.( )

وعقد الإمام البخاري في صحيحه باباً قال فيه: =باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر+.

ثم ساق الحديث بسنده عن أبي هريرة ÷ عن النبي" قال: =كلُّ سُلامى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته، ويحامله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة+.( )

5 _ التودد للناس: فمما يحسن بك حالَ غربتك أن تتودد للناس، وأن تُنْزِلَ أهلَ البلد الذين حللت بينهم منازلهم؛ فذلك مما يُعَطِّف القلوب إليك، ويصيخ الأسماعَ لقولك؛ فإن كانت غربتك بين مسلمين زادوا حُباً لك، وإقبالاً عليك.

وإن كنت بين قوم غير مسلمين كانت تلك الأخلاق مُحَبِّبةً لهم بدينك، وربما كانت سبباً لدخولهم فيه، ونزوعهم عن كفرهم.

ويتأكد هذا الأدب في حق من سافر لأجل الدعوة إلى الله؛ فحريٌّ به أن يكون يتمثل أدب الدعوة من إخلاص لله، وحرص على تبليغ الخير، واغتنام للفرص، وتواضع للناس، وسعةِ صدرٍ عليهم؛ لأن الناس وخصوصاً في البلدان التي تَخْفُت فيها أنوار الرسالة يحتاجون إلى سعة الصدر، والتودد إليهم، وتَحَمُّلِ ما يراه الداعيةُ من بعض أحوالِهم المنكرةِ التي اعتادوها؛ فتلك الخصال بلسم الجراح الغائرة، وطب الأدواء المستعصية.

بخلاف إذا ما واجههم بما يكرهون، واستعجل في إصلاح أحوالهم.

6_ مراعاة العادات والأعراف: فمن جميل المعاشرة أن ترميك الغربة في بلدٍ ما، فتجد أن خلائقَ أهلها وعاداتِهم على غير ما تعرف، فتترك كثيراً مما كنت تعرف، وتأخذ بما يأخذون به؛ فإن ذلك من جميل المعاشرة، ومن حسن المداراة.

فدارِهم ما دُمتَ في دارهم

                   وأرضِهم ما دمت في أرضهم( )

ومما يدخل في ذلك مراعاة الذوق العام، ونظام ذلك البلد الذي ستذهب إليه.

وكل هذا مشروط بألا يكون فيما تأتي أو تذر محذور شرعيٌّ؛ فإن كان ثم محذورٌ شرعيٌّ تَعَيَّن تقديمُ الأمر الشرعيُّ على كل عادة وعُرف.

قال أحد الحكماء:

إن جئت أرضاً أهلُها كلُّهم

                   عُورٌ فَغَمِّضْ عينك الواحده( )

7_ إنصاف بلد الغربة، وذِكْرُه بالخير: فمن أدب الغربة أن ينصف الراحلُ البلدَ الذي ينزل بها، فيذكر محاسِنَها، ويغتبط بما يلاقيه من أهلها من احتفاءٍ ومؤانسة؛ فذلك دالٌّ على الوفاء، وكرم المعدن، وحسن العشرة، وإشراقة النفس؛ لأن من الناس من إذا تغرب أساء إلى نفسه وإلى أهل بلده بِقِلِّةِ نفعه، وبسوء عشرته، وأساء إلى من يتغرب عندهم بذمهم وذكر معايبهم، والتأوه من البقاء بين ظهرانيهم، خصوصاً إذا كانوا ذوي كرم ومروءة.

وما ذلك المسلك برشيد؛ إذ هو دالٌّ على ضيق العَطَن، وقلةِ الوفاء، وسوءِ العشرة.

فاللائق بك _أيها العاقل_ أن تذكر من تَغَرَّبْتَ عندهم بخير، وإن كان ثَمَّ داعٍ لذكر شيء من أخطائهم فليكن لأجل الإصلاح والتصحيح، لا لأجل الغمز واللمز والتجريح.

وإنك لتعجب حين تسأل شخصين كانا في بلدٍ ما عن ذلك البلد، فتجد أن أحدَهما يمدح، والآخرَ يقدح، مع أن البلد هو هو، وأن الناس هُمُ هُمُ، ولكن اختلفت النظرة؛ لاختلاف الأنفس والطبائع.

ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن أن تاج الدين بن حمويه السرخسيَّ وَرَدَ بلادَ المغرب، فسأله سلطان المغرب يعقوب ابن يوسف بن عبدالمؤمن قائلاً: أين هذه البلاد من بلادك الشامية؟

فقال السرخسي: بلادكم حسنة أنيقة، وفيها عيبٌ واحدٌ، فقال السلطان: وما هو: قال: أنها تنسي الأوطان.

وممن قاموا على هذا الأدب الجميل العلامة المُقَرِيُّ صاحب كتاب (نفح الطيب) فقد نظم في الثناء على دمشق أشعاراً، وتمثل فيها بأشعار، ومما أنشده قول شمس الدين الأسدي:

إذا ذُكِرت بقاعُ الأرض يوماً

                   فقل: سُقياً لِجلَّق ( )ثم رُعيا

وقل في وصفها لا في سواها

                   بها ما شئت من دين ودنيا( )

هذه بعض آداب الغربة، وكثير مما مضى وما سيأتي داخل في الغربة، ولكن ما ذكر في هذه الفقرة ألصق بها.

 العشرون: حسن العهد للأحبة، وإظهار الأشواق لهم حال الغربة فحسن العهد من الإيمان، وإظهارُ الأشواقِ، والإعلامُ بالمحبة من مؤكدات الأخوة.

وذلك كله من جميل الأخلاق، ومحاسن الخصال، وعلامات السؤدد والمروءة، ودلائل السمو والألمعية.

فلا بد لدوام المودة، والقضاء على روح البغضاء من إظهار العاطفة المكنونة؛ فلا يكفي مجردُ المحبةِ القلبية، والشعورِ المضمر، بل لا بد من إظهار ذلك؛ حتى تتأكدَ أسبابُ الصلة، ولأجل أن يكونَ المرءُ على ثقة ويقين من مودة أخيه.

ويزداد هذا الباعث _أعني حسن العهد وإظهار الأشواق_ إذا كان ذلك في حال الغربة؛ فإن ذكر الإنسان لأحبته، وإبداءه الشوقَ لهم _ من أقوى دواعي الصلة وتأكيدها؛ فذلك مما يرهف الشعور، ويزيل الوحشة، ويقضي على جراثيم المادية البحتة، ويدل على تأصُّل المروءة في نفس من يتمثل ذلك الخلق الفاضل.

أما العاطل من تلك المعاني فلا يخطر بباله أقرب الأقربين إليه، فضلاً عن تَذَكُّرِ من بَعُدَ بهم العهد.

قال ابن عبدالبر×: =قيل لبعض الحكماء: بأي شيء يعرف وفاءُ الرجلِ دون تَجْرِبَةٍ واختبار؟

قال: بحنينه لأول أوطانه، وتلَهُّفه على ما مضى من زمانه+.( )

وقال ابن عبدالبر×: =روى أبو العلاء زكريا بن يحيى ابن خلاد عن الأصمعي قال: قال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاءَ الرجل، ودوامَ عهده فانظر إلى حنينه إلى أول أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من أزمانه+.( )

ومما يتحقق به ذلك المعنى: الدعاءُ، والسؤالُ، وبعثُ السلام، والتهادي، والمراسلات عبر الكتب، أو الجوال، أو الإنترنت.

ولك أن تتصور ما تفعله الرسالة، وما تحمله من معاني الود في القلب؛ إنها تتسلل إلى سويدائه، وتفعل فيه ما لا يفعله السحر، ولا البابلي المعتق.

ولهذا الأدب العالي مكانته عند العلماء، والأدباء، والفضلاء.

قال أبو طائع الطلحي: =كتب الجراحي إلي مرة: الله يعلم أنك ما خطرت ببالي في وقت من الأوقات إلا مَثَّل الذكْرُ منك لي محاسنَ تزيدني صبابةً إليك، وضَنَّاً بك، واغتباطاً بإخائك+( ).

ومن أحسن ما قيل في التشوق في حال السفر والغربة ما ذكره ابن عبدالبر× قال: قال عوف بن مُحلِّم: عادلت عبدالله بن طاهر إلى خراسان، فدخلنا الرَّيّ _ طهران _ في السحر، فإذا قُمْرِيَّةٌ تُغَرِّد على فَنَن شجرة، فقال عبدالله: أحسن والله أبو كبير( )في قوله:

ألا يا حمامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ

                   وغُصْنُكَ ميَّادٌ ففيم تنوحُ

ثم قال: يا عوف! أَجِزْها، فقلت: شيخ كبير، وحُملت على البديهة، وهي معارضة أبي كبير، ثم انفتح لي شيء، فقلت:

أفي كُلِّ عامٍ غُرْبَةٌ ونُزُوحُ

                   أَمَا للنَّوى مِنْ وَنْيَةٍ فَتُريحُ

لقد طَلَحَ البَيْنُ المُشِتُّ رَكائبي

                   فهل أَرَيَنَّ البَيْنَ وهو طَلِيحُ

وأرَّقني بالرَّيِّ نَوْحُ حمامةٍ

                   فَنُحْتُ وَذُو الشَّجْوِ القَريح يَنُوحُ

على أنها ناحت ولم تَذْرُ عَبْرَةً

                   وَنُحْتُ وأسرابُ الدُّموعِ سُفُوحُ

وناحت وفرْخَاها بِحيثُ تراهما

                   ومن دُونِ أفراخِي مَهَامِهُ فِيحُ( )

ونفثةُ السحر في هذه الأبيات تَكْمُن في البيت الأخير.

ومعناه: أن هذه القُمْريةَ تنوح بالبكاء، وهي ترى أفراخها أمامها، فليس لِنُواحها مسوِّغ!

أما أنا فإن نُواحي على أولادي البعيدين الذين حال بيني وبينهم القِفارُ الواسعة.

ومما يذكر من التشوق في حال الغيبة ما قاله المحدث ابن حجر× متشوقاً إلى زوجته ليلى الحلبية:

رحلت وخلَّفتُ الحبيب بداره

                   بِرُغْمي ولم أجنح إلى غيره ميلا

أشاغل نفسي بالحديث تعللاً

                   نهاري وفي ليلي أحن إلى ليلى( )

ومما كان يجري من العلماء في هذا الشأن ما كان بين عالمين كبيرين من علماء تونس الكبار ومن علماء الزيتونة الذين لم تُخْرِجْ بعدهم مثلَهم؛ حيث انعقدت بينهما زمالةُ دراسة، وصداقةٌ تُعَدُّ مثلاً يحتذى في الصداقة في العصور المتأخرة، وهما الشيخ العلامة محمد الخضر حسين 1293_ 1377هـ، والشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور  1296_1393هـ .

فبعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331هـ بعد أن حكم عليه الاستعمار الفرنسي بالإعدام، وصادروا أملاكه _ بعث إليه صديقه محمد الطاهر وهو كبير القضاة بتونس أنذاك رسالة مصدرة بالأبيات التالية التي تقطر شوقاً، وحباً، ووفاءً:

بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ

                   فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد

وخلَّفت ما بين الجوانح غُصَّةً

                   لها بين أحشاء الضلوع وقود

وأضحتْ أمانيْ القربِ منك ضئيلةً

                   ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد

أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ

                   يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ

وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا

                   وهل بعد هذا البين سوف يعود

ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت

                   أصابِعُهُ بالدر وهو نضيدُ

إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً

                   تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ

إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى

                   ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد

فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا

                   فحسبكِ ما قد كان فهو شديد

ثم كتب تحت هذه الأبيات: =هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم؛ فأبثها على عِلاَّتها، وهي وإن لم يكن لها رونقُ البلاغةِ والفصاحةِ فإن الودَّ والإخاءَ والوجدانَ النفسيَّ يترقرق في أعماقها+.

ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:

أينعم لي بالٌ وأنت بعيد

                   وأسلو بطيف والمنام شريد

إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ

                   لعمري بدمع المقلتين خدود

بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ

                   وللأمد الأسمى عليَّ عهود( )

بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ

                   لديك وللودِّ الصميم قيود

عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا

                   عليَّ بإقبال وأنت شهيد( )

فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ

                   لها بين أحناء الضلوع خلود

لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ

                   وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد

ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ

                   درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ

وقمتَ على الآداب تحمي قديمَها

                   مخافةَ أن يطغى عليه جديد

أتذكر إذ كنا نباكر معهداً

                   حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود( )

أتذكر إذ كنا قرينين عندما

                   يحين صدورٌ أو يحين ورود

فأين ليالينا وأسمارها التي

                   تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ

ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها

                   تعود وجيش الغاصبين طريد( )

ولما مر الشيخ الخضر بتونس أثناء رجوعه من الآستانة مرت الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة ابن عاشور، فقال الخضر:

قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتُنا

                   تُجاهَ واديك والأمواجُ تلتطم

تحيةً أبرقَ الشوقُ الشديدُ بها

                   في سلكِ ودٍّ بأقصى الروحِ ينتظم ( )

وبالجملة فإن التواصل مع الأحبة حال الغربة دليل مروءة، ووفاء.

أما نسيانهم، وقطع الصلة بهم فليس من فعل الكرماء الأوفياء.

 الحادي والعشرون: الحرص على إنجاز العمل الذي سافر من أجله

فعلى المسافر أن يضع في حسبانه إنجاز ما هو بصدده من مهمة؛ فإن كان طالباً مبتعثاً فليضع نصب عينيه إكمال دراسته والتفوق فيها، وليضرب صفحاً عن كل سبب يدعوه إلى البَطالةِ واللهو؛ فلقد تَكَبَّد الغربةَ، وبُذِلَ المالُ من أجله سواء من قِبَلِه، أو من قِبَلِ أهله أو دولته؛ فليكن ما بذل من أجله في محله.

أما أن تكون الغربةُ فرصةً للهو، والفساد، وضياعِ المال والوقت _ فذلك خسارة في الدين والدنيا.

وإذا سافر لأجل تعلم صَنْعَةٍ، أو نحو ذلك فليحرص على إتقانها، وإجادتها.

وإذا سافر لأجل مهمة ما فليبادرْ إلى إنجازها في أسرع وقت.

وإذا قضى نَهْمته فَلْيَعْجَلْ إلى أهله _ كما قال _عليه الصلاة والسلام_.( )

قال الحافظ بن حجر× في شرح الحديث السابق: =في الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع إلى أهله، لا سيما من يُخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المُعِيْنَةِ على صلاح الدين والدنيا+.( )

أما ما يسلكه بعض الناس وخصوصاً من هم في سن الشباب؛ حيث يسافرون للدراسة ولا يبالون بما ذهبوا من أجله_ فليس بمسلك رشيد ولا سديد؛ فبينا أهلُهم وأوطانُهم ينتظرون قدومهم متسلحين بالعلم إذا هم يخلفون الظن، ويرجعون بخسارة الدين والدنيا.

 الثاني والعشرون: مراعاة أدب السفر إلى الحج

فيراعى في تلك الرحلة عامة ما مضى ذكره، وما سيأتي.

ومما تُخَصُّ به رحلةُ الحج، ويؤكَّدُ عليه في شأنها آداب عظيمة، وأخلاق قويمة، يحسن بالحاج أن يقف عليها، ويجمل به أن يأخذ بها؛ ليكون حجه مبروراً، وسعيه مقبولاً مشكوراً، ومن ذلك ما يلي:

1_ إخلاص النية لله _ تعالى _: فلا يقصد في حجه رياء ولا سمعة، ولا ليقال: حج فلان، ولا ليطلق عليه لقب الحاج.

وإنما يحج محبة لله، ورغبة في ثوابه، وخشية من عقابه، وطلباً لرفع الدرجات، وحط السيئات؛ فالإخلاص عليه مدار العمل.

قال _ تعالى _: [وَمَا أُمِرُوا  إِلا  لِيَعْبُدُوا  اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]البينة : 5،  وقال النبي  ": =إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى+.( )

2_ المبادرة إلى التوبة النصوح: وهي التوبة الناصحة الخالصة، التي تأتي على جميع الذنوب؛ فحري بالحاج أن يبادر إلى تلك التوبة، وأن يتحلل من المظالم؛ فذلك أرجى لقبول حجه، ورفعة درجاته، ومغفرة سيئاته، بل وتبديلها حسنات.

3_ التفقه في أحكام الحج: ولو على سبيل الإجمال؛ فإن لم يستطع؛ فليأخذ معه من الكتب أو الأشرطة ما يفيده في معرفة أحكام الحج، وأن يسأل عما يُشكل عليه.

4_ الحرص على اصطحاب الرفقة الطيبة: التي تعينه على الخير إذا تذكَّر، وتذكره بالخير إذا نسي، والتي يستفيد من جرَّاء صحبتها العلم النافع، والخلق الفاضل.

5 _ تَخَيُّرُ النفقة الطيبة: فيختار الحاج النفقة الطيبة من المال الحلال، حتى يُقبل حجه ودعاؤه، قال النبي  ":=إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً+.( )

6_ لزوم السكينة، واستعمال الرفق: قال النبي ": =أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البرَّ ليس بالإيضاع( )+.( )

وقال: =إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه+( ).

7_ الحرص على راحة الحجاج، والحذر من أذيتهم: فعلى الحاج أن يحرص كل الحرص على راحة إخوانه الحجاج، وأن يبتعد عن كل ما فيه أذى لهم، من رفع للصوت، أو إطلاق للأبواق بلا داع، أو أن يزاحمهم، أو يضيق عليهم، أو أن يؤذيهم بالتدخين أو نحو ذلك.

ومما يَجمُل به أيضاً أن: يحب لإخوانه الحجاج ما يحب لنفسه، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيتحمل أذاهم، ويصبر على بعض ما يصدر منهم من زحام، أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة ؛ فالإنسان الكريم يصبر على أذى ضيوفه حرصاً على إكرامهم، فكيف بضيوف ربه؟! إن إكرامهم أولى ثم أولى، وإنه لدليل على إجلال الله وتوقيره، وإنه لدليل على كمال العقل، ومتانة الدين؛ لأنه لا أحسن من درء الإساءة بالإحسان.

8_ حفظ اللسان: وذلك بالبعد عن الغيبة والنميمة، والسخرية بالناس، وبالحذر من كثرة المزاح أو الإسفاف فيه، وبصيانة اللسان من السب والشتم.

ومن ذلك: أن يحذر الحاج من المماحكة، وكثرة المماكسة، وأن يحذر من المخاصمة والجدال إلا إذا كان جدالاً لإحقاق الحق، وإبطال الباطل بالتي هي أحسن.

9_ غض البصر: لأن الحاج يعرض له ما يَعْرِضُ من الفتن، فمن النساء من تخرج سافرة عن وجهها، ويديها، وقدميها وربما أكثر من ذلك؛ فعلى الحاج أن يغض بصره، وأن يحتسب ذلك عند الله _ تعالى _ وبذلك يسلم قلبه من التشوّش، ويسلم حجه من النقص، ويحفظ على نفسه دينه، ويبتعد عن الفتن والبلايا، ويحصل على ثمرات غض البصر المتنوعة، والتي منها: الفراسة الصادقة، والحلاوة التي يجدها في قلبه، إلى غير ذلك من ثمرات غض البصر العديدة.

10_ لزوم النساء الستر والعفاف: فعليهن ذلك،وعليهن الحذر من مخالطة الرجال وفتنتهم، وعليهن الحذر من التبرج والسفور، والسفر بلا محرم.

11_ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: كل ذلك حسب القدرة، والاستطاعة مع لزوم الرفق، واللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والرحمة بالمدعوين والتلطف بهم، والصبر على بعض ما يصدر منهم.

12_ إعانة الحجاج: وذلك بقدر المستطاع، كأن يرشد ضالهم، ويعلم جاهلهم  ونحو ذلك من الإعانات المتعددة.

13_ الاستكثار من النفقة: ليواسي المحتاجين، وليرفد إخوانه إذا احتاجوا، وليبادر إلى إعانتهم إذا شعر بأنهم في حاجة ولو لم يطلبوا.

14_ استشعار عظمة الزمان والمكان: فذلك يبعث الحاج لأداء نسكه بخضوع لله، وإجلال له _ تعالى _:[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ](الحج: 32)، ثم إن ذلك يُصَبِّرُه على بعض ما يلقاه من نصب أو تعب، أو أذى.

15_ اغتنام الأوقات: فعلى الحاج أن يغتنم وقته بما يقربه إلى الله _ تعالى _ من ذكر أو دعاء، وقراءة للقرآن، وذلك في أي مكان من تلك البقاع المباركة، فذلك سبب لانشراح صدره، ومضاعفة أجره، وإمداده بالقوة والطاقة، وشهود تلك الأماكن له يوم القيامة.

يقال هذا لأن فئاماً من الحجاج يغيب عنهم هذا المعنى؛ فتلاحظ _على سبيل المثال_ الغفلةَ عن اغتنام وقت الدعاء عند الصفاء والمروة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، والوسطى، بل بعض الحجاج لا يحلو له النوم إلا عشية عرفة؛ فتراه عصر ذلك اليوم يَغَطُّ في نوم عميق.

ولو أنه استشعر ذلك الموقف، واستعد له الاستعداد الكافي لما ضاعت عليه تلك الفرص التي لا تعوض.

16_ استحضار انقضاء أيام الحج: فهي قليلة معدودة، وسرعان ما تنقضي، فإذا استحضر الحاج ذلك كان دافعاً له إلى اغتنامها، والبعد عما يفسد حجه، أو ينقص أجره.

17_ المحافظة على أداء الفرائض: وذلك بالحرص على أداء الصلوات المكتوبة مع الجماعة، وأن يحذر كل الحذر من تأخيرها عن وقتها.

18_ البعد عن إجهاد النفس فيما لا يعني: فذلك سبب لأن يتوفر الإنسان على النشاط، ويتقوى على أداء المناسك، بيسر وسهولة.

أما إذا أجهد نفسه بلا داع، وفيما لا يعني كان ذلك مدعاة لتعبه، ومرضه، وتكاسله عن أداء النسك على الوجه الذي ينبغي، وذلك كصنيع من يتكلفون صعود الجبال في منى، وعرفات، وغيرها من المشاعر.

19_ ألا يكون هَمُّ الحاج أن يقضي نسكه فحسب: بل عليه أن يستشعر عظمةَ ما يقوم به، وأن يكون قلبه منطوياً على تعظيم أمر الله، وأن يحرص على أن يتلذذ بما يقوم به؛ فذلك من أعظم ما يعينه على انشراح صدره، وإتيانه بالنسك على الوجه الأكمل.

وبالجملة: فليحرص الحاج على كل ما يقربه إلى ربه، وعلى كل ما يعينه على أداء نسكه، وليحذر كل الحذر من كل ما يفسد عليه حجه، أو ينقص أجره من قول أو عمل.

 الثالث والعشرون: مراعاة أدب السفر مع الأهل

فإذا كان السفر بصحبة الأهل فإنه يجدر بالوالد أو المسؤول الأول عن الرحلة أن يوسِّع صدَره عليهم، وألا يُعْجِلَهم، أو يتأفَّف من كثير من التصرفات التي تحدث في السفر خصوصاً إذا كان في صحبتهم أطفال، كما ينبغي له أن لا يضيِّق على الأهل؛ بحيث يُسكنهم في مكان لا يليق بهم إذا كان قادراً مستطيعاً.

كما يجمل به ألا يمنَّ عليهم، وألا يذكِّرهم بين الفينة والأخرى بأنه قد سافر بهم، وصَرَفَ عليهم كذا وكذا، وأن غيرهم لا يسافرون؛ فإن ذلك يؤذيهم، ويكدر عليهم؛ فالمنة تهدم الصنيعة، وتصدع قناة العزة؛ اللهم إلا إذا كان ذلك من باب شكر الله، وتذكيرهم بذلك.

وينبغي على الأهل وخصوصاً ربة الأسرة أن تُعَلِّم أولادها شكر والدِهِمْ، والدعاءَ له، وتركَ تحمِيله ما لا يطيق.

وينبغي على الوالد تَوْجيهُ أولاده أثناء السفر، وتعليمُهم آداب السفر، وإشغالُهم بما يعود عليهم بالمتعة والفائدة.

كما عليه أن يحافظ على صحتهم، وسترهم، وحشمتهم، وإرشادهم إلى الآداب العامة في الأمكنة التي يرتادونها، من خفض الصوت، وتنظيف المكان بعد القيام منه، ونحو ذلك.

وعليه أن يلزم في ذلك كلِّه الحلمَ، وضبطَ النفس، وكظمَ الغيظ، وتجنبَ العنفِ والتلفظِ بالكلمات الجارحة؛ فإن ذلك يُكَدِّر عليهم، ويُعَكِّرُ صَفْوَ رحلتهم.

وهذا بدوره يرجع إلى الوالد أو المسؤول عن الرحلة _ بِالهَمِّ والكدر.

وإن حصل شيء من الغضب، أو التكدير من الوالد فليرجعْ إلى رشده، ولا يسترسلْ مع غضبه وتكديره.

ومما يعين الوالد على لزوم السكينة أن يسعى إلى تهدئة الصغار في السيارة أثناء السفر.

ومن الطرق المجدية في ذلك أن يشغلهم بأنفسهم عن الإزعاج، وذلك بإشغالهم ببعض المسابقات، أو قراءة بعض القصص، أو استعمال بعض المواد الصوتية أو المرئية التي تعود عليهم بالمتعة، والفائدة، ولزوم الهدوء.

كما على الوالد أن يأخذَ النفقةَ الكافية، وأن يتفقد المركبةَ إذا كان سيذهب على سيارة، وأن يحملَ معه أوراقَه الرسميةَ الخاصةَ بالسفر، ويحافظ عليها.

كما يتأكد عليه أن يسأل عن الطريق الذي سيسلكه إذا كان لم يمرَّ به من قبل، وأن يُهيِّيءَ مكاناً للسكن قبل أن يصل إلى البلد الذي سيسافر إليه إن استطاع؛ لأجل ألا يُرهقَ نفسه ومن معه في البحث عن سكن ملائم.

ومن أعظم ما ينبغي لرب الأسرة إذا كان في سفر، وحصل من أحد أفراد الاسرة في الرحلة تأخر، أو قطعٌ لهم عن المسير أن يلزم الهدوء قدر المستطاع؛ لأن أي تكدُّر منه سيعكِّر جوَّ الرحلة _كما مر_.

ومما يحسن ذكره في هذا الصدد موقف لسماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز×.

وقد ذكر لي ذلك الموقف الشيخ محمد الموسى مدير مكتب بيت سماحته، يقول الشيخ محمد _حفظه الله_: =في يوم من الأيام كان سماحة الشيخ عبدالعزيز× يريد السفر في الطائرة، فحضر مبكراً كعادته، وتأخرت إحدى أسرتيه عن موعد تلك الرحلة أكثر من ساعة، وتأخرت بسبب ذلك رحلة الطائرة الخاصة التي ستقلُّه.

ومع ذلك لم يبدُ على سماحته أيُّ تضجُّرٍ أو سآمة، بل كنا نقرأ عليه المعاملات دون انقطاع، وكلما مضى عشر دقائق أو ربع ساعة سألنا: هل جاؤوا؟ فإذا قيل له: لا، واصل الاستماع.

ولما وصلوا لم يُبدِ أيَّ عتاب، ولم تبدرْ منه كلمةٌ واحدة؛ لأنه كان يلتمس لهم العذر، ويدرك أنهم لم يتأخروا إلا لعارض، وإنما ركب الطائرة، وواصل الاستماع لمن يقرؤون عليه المعاملات+.

 الرابع والعشرون: مراعاة أدب السفر مع الوالدين

فمن البر بالوالدين، ومن حسن صحبتهما _ السفر بهما، سواء كان ذلك للعلاج، أو العمرة، أو الحج، أو الزيارة، أو النزهة، أو أي غرض من أغراض السفر المشروعة، أو المباحة.

فحقيقٌ على الإنسان إذا سافر مع والديه أن يخفض لهما الجناح، وأن يترفق بهما غايةَ ما يستطيع، وأن يلزم مداراتَهما، والتلطفَ بهما، وأن يحذر كلَّ الحذر من زجرهما، ونهرهما، والتأفف من أوامرهما، وأن يراعي تَقَلُّبَ مزاجِ الوالدين بسبب السفر.

وربما كان مع السفر زيادةُ مرض، فيحسن به أن يرعاهما خيرَ رعايةٍ، وأن ينظرَ إليهما بعين العطف والرحمة.

وقد يكون بعضُ الوالدين ذا طبيعةٍ حادة، أو يكون ممن يكثر الاقتراحاتِ التي قد لا تكون وجيهة، أو يكون عجولاً ملولاً، أو يكون ممن لا يرى أن ابنَه جديرٌ بحسن التدبير، أو يكون ممن يريد امتحانَ برِّ ولده به، أو يكون ذا طبيعة متقلبة.

وكل هذه الطبائع تثور وتزداد في السفر؛ فإذا كان الولد يعرف طبيعة والده، يعامله بذلك المقتضى، ويلزمُ معه حسنَ الأدب، والتأتي، واللطف، والرفق، دل ذلك على سداد الولد، وتوفيقه، ومروءته.

وقد يكون الوالد _ بالمقابل مما مضى _ حَيِيَّاً، لا يُحِبُّ تكليفَ أحدٍ ولو كان من أبنائه، وقد يكون ممن يعطي مَنْ معه كاملَ الصلاحية في السفر، فلا يُوجِّهُ، ولا يقترحُ، ولا يُعارِض، ولو كان ذلك خلافَ رغبته؛ فيجمل بالولد إذا علم ذلك من والده أن يبادره، وأن يسابق إلى مراده وهواه، وأن يستشيره، وأن يحرص كل الحرص على ما يسعده.

كما يحسن بالوالد إذا سافر مع أولاده وكانوا كباراً أن يعطيهم الثقةَ، والفرصةَ الكافيةَ للتدبير، وتنظيمِ سير الرحلة.

وإذا كان لديه ما يريد إبداءه فَلْيُبْدِه بتلطف، ومشورة؛ حتى يكون صديقاً لأولاده، قريباً منهم.

ومن إيناس الوالد _ أياً كان أباً أو أماً _ أن يُعْرِب الولد بين الفينة والأخرى عن فرحه وسعادته بسفر والده معه؛ وأنه شاكر لله أن يسَّر له هذه الرحلة، وشاكر لوالده أن شرَّفه بذلك؛ فهذه المشاعرُ تقع موقِعَها في قلب الوالد؛ لأنه قد يتصور أنه ثقيلٌ على ولده؛ فإذا سمع هذه الكلماتِ الطيبةَ زال عنه ما قد يعلق بخاطره من ظنون سيئة تُساوره.

ومن جميل ما يُوْصَى به الولدُ إذا سافر معه والده، وكان الوالد فقيراً أو محتاجاً، وكان الولد قادراً مستطيعاً _ أن يرفد والده بشيء من المال؛ حتى يتمكن الوالد من التصدق إن أراد، أو شراء ما يرغبه من هدايا، أو حاجات خاصة به.

وكذلك يحسن بالوالد إذا سافر مع أولاده وهو قادرٌ موسرٌ، وأولاده من قليلي ذات اليد أن يقوم بما تحتاجه الرحلة من تكاليفَ مالية.

ومن حسن الصحبة في السفر مع الوالد _ أن يراعي الولدُ أدب الحديث مع والده، فَيُحْسِنَ الاستماعَ إليه ولو كانت تلك الحكايات التي يسمعها الولد تتكرر على سمعه كثيراً، وبروايات متعددة؛ لأن الإنسان إذا كَبِر في السن صار يردد قصصَه وحكاياتِه دون أن يشعر أنه قالها قبل ذلك في مناسبات سابقة؛ فإذا كان الولد متفنناً في البِرِّ، راسخاً في الفضيلة والعقل_ صار يستمع لتلك الأحاديث وكأنها تطرق سَمْعَه أول مرة؛ إرضاءً لوالده، وحرصاً على إدخال السرور عليه.

وذلك أدبٌ رفيعٌ أشار إليه أبو تمام بقوله:

من لي بإنسان إذا أغضبته

                   وجهلت كان الحلمُ ردَّ جوابه

وتراه يصغي للحديث بقلبه

                   وبسمعه ولعله أدرى به( )

وإذا ترقى الولدُ في الفضيلة صار لا يكتفي بالإنصات لوالده إذا تحدث بحكايات سمعها كثيراً، بل أصبح يستطعم والدَه الحديث، ويطلب منه ذِكْرَ بعضِ القصص والأخبار التي يتلذذ الوالد بذكرها، والتحدث عنها.

أما الذين لا يعرفون هذا المعنى فإنهم لا يحسنون إلى والديهم من هذه الناحية، فيفوتهم خير كثير؛ فكأنهم يقولون لوالديهم بلسان حالهم: لا تتكلموا بشيء؛ فَكُلُّ ما عندكم من أخبار وقصص نعلمها بروايات كثيرة.

ومن أين للوالد أن يأتي بالجديد، وقد صار ثاوياً في بيته، أو قليل الذهاب والإياب؟!

 الخامس والعشرون: مراعاة أدب السفر مع الأكابر

كالعلماء، والوجهاء، ومن لهم قدر سنٍّ، أو علم، أو جاه، أو نحو ذلك؛ فمن حسن الأدب معهم أن يراعي الإنسان عامةَ ما مضى ذكره في فقرات ماضية، وأن يقوم على أولئك بما يستطيع من خدمةٍ، وتلطفٍ، وتركٍ للتقدم بين أيديهم، وأن يحرص على محاولةِ الإفادة من أخلاقهم، وألا يذيع ما يكون بينهم في السفر من مزاح، أو أمور رُبما يَسْتَغرِبُ بعضُ الناس صُدورَها منهم.

بل يجمل به ألا يُنْكِرَها إذا لم يكن فيها مأثم؛ لأن مروءة السفر ليست كمروءة الحضر؛ فلئن كان الحياءُ، وحسنُ السمتِ، والوقارُ غيرُ المتكلفِ مروءةً في الحضر للأكابر _ فإن التطلقَ، والتبسط، ورفعَ الكلفةِ معدودٌ من جملة مروءة السفر.

قال ربيعة بن عبدالرحمن×: =المروءة مروءتان؛ فللِسَّفر مروءة، وللحضر مروءة؛ فأما مروءةُ السفرِ فَبَذْلُ الزادِ، وقلةُ الخلاف على الأصحاب، وكثرةُ المزاح في غير مساخط الله.

وأما مروءة الحضر فالإدمان إلى المساجد، وكثرةُ الإخوانِ في الله، وقراءةُ القرآنِ+.

وفي رواية أخرى عن ربيعة أنه قال: =المروءة ست خصال: ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السفر؛ فأما التي في السفر فَبَذْلُ الزادِ، وحسنُ الخلق، ومداعبةُ الرفيق.

وأما التي في الحضر فتلاوةُ القرآنِ، ولزومُ المساجد، وعفافُ الفرج+.( )

وبالجملة فإن المروءة مما يجمل ويحسن في السفر وغيره، والكلام في حدودها وتفصيلاتها يطول، وجماعها خصلتان _كما يقول ابن حبان_ وهما: =اجتناب ما يكره الله والمسلمون، واستعمال ما يحب الله والمسلمون+.( )

 السادس والعشرون: مراعاة أدب الزيارة في السفر

فقد يسافر مجموعة من الناس، ويكون من ضمن برنامجهم زيارةُ وجيهٍ، أو عالم، أو نحو ذلك؛ فيحسن بهم خصوصاً إذا كانوا كثيرين أن يتأكدوا من أخذِ موعدٍ مع من سيزورونه ممن مضى ذكرهم، وأن يسألوا عن مقر إقامته، كأن يكون ذلك عن طريق أحد معارفهم في ذلك البلد؛ لأنه يحصل كثيراً أن يأتي وفدٌ زائر، ثم يتصلون بمن يريدون زيارته مراراً؛ لأجل أن يعطيهم وَصْفَ منزله.

وفي ذلك حرج، وإثقال، وإملال.

كما يجدر بهم إذا أتوا أن يحددوا الوقت، وإن طلب منهم المزيد من المكث فلا بأس أن ينزلوا عند رغبته ما لم يكن هناك مانع.

كما يجمل بهم أن يأخذوا زينتهم الملائمة؛ لأن بعض المسافرين إذا أرادوا زيارة عالم، أو وجيه، أو كبير _ لم يبالوا بذلك، بل ربما أتوه وعليهم وَعْثَاء السفر، وربما أتوا بثياب غير لائقة بهم.

وهم يفعلون ذلك بحجة أنهم مسافرون، وأن السفر يُغْتَفَرُ فيه ما لا يغتفر في الحضر.

ولكن الأولى أن يتهيؤوا قبل المجيء باللباس، وحسن الهيئة.

ولنا في الأحنف بن قيس × أسوة؛ فإنه لما قدم على عمر÷ في وفد تميم تأخر قبل الدخول عليه، وأخرج ثوباً حسناً من عَيْبته( ) فلبسه، وتهيأ للدخول على عمر؛ فوقع ذلك موقعه من عمر، وتَفَرَّس فيه النجابة والحكمة والعقل، خصوصاً بعدما حاوره.

 السابع والعشرون: تدوين بعض ما يمر أثناء السفر

فيستحسن خصوصاً لمن كان ذا علم وثقافة أن يأخذ معه كُنَّاشةً يسجل فيها بعضَ ما يمر به من خواطرَ، وارتساماتٍ، ولطائفَ، وفوائدَ، وعجائب، وغرائبَ، ومواقفَ أثناءَ السفر؛ سواء كانت فكريةً، أو علميةً، أو جغرافية، أو تاريخية، أو تربوية، أو اجتماعية.

بل يستحسن منه أن يدوِّن ما يستطيع تدوينه من مواقف أو زيارات، أو كلمات ربما تكون تافهة لا تستحق الذكر في نظره.

ولكن قد يكون لها قيمة فيما بعد خصوصاً إذا تقادم عليها العهد.

ولو ألقينا نظرةً في كتب الرحلات لرأينا عجباً، ولو أن أصحابها تركوا التقييد لِمَا رأوه، وسمعوا به، وَجَال في أذهانهم أثناء رحلاتهم لحرمنا من خير كثير، كما في رحلات ابن بطوطة، وابن جبير، وكما في كتاب: الارتسامات اللطاف لأمير البيان شكيب أرسلان، وكتاب: ما سمعت وما رأيت للزركلي، وكتاب مشاهد برلين للشيخ العلامة محمد الخضر حسين، وكتاب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام للشيخ محمد الأمين الشنقيطي _ رحم الله الجميع_.

وقل مثل ذلك أو أكثر فيما دوَّنه معالي الشيخ الأديب الرحالة محمد بن ناصر العبودي _ حفظه الله _ في مؤلفاته الكثيرة التي تتحدث عن مشاهداته في أسفاره.

ولا تبالغ إذا قلت: إنه لا يضاهيه أحد في هذا المضمار.

بل إن من أعظم الكتب التي كتبت في السيرة النبوية، كتابَ: (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن قيم الجوزية.

وإنما كتب في السفر؛ حيث كتبه × وهو في طريقه إلى مكة المكرمة.

ولقد كان سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز× نسيج وحده في العصور المتأخرة في اغتنام الوقت في السفر؛ فبمجرد ركوبه السيارة وذكره لدعاء السفر، يلتفت إلى من بجانبه من الكُتَّاب، ويقول له: ما معك ؟ فيبدأ بسماع أخبار الصحف، أو قراءة بعض الكتب، أو عرض بعض القضايا والمعاملات.

وهكذا حاله وهو ينتظر موعد إقلاع الطائرة، وبعد أن تقلع؛ حيث يكون معه كاتب، أو كاتبان أو أكثر، فيتعاقبون القراءة عليه إلى حين وصول الطائرة إلى مكان هبوطها في الرياض، أو الطائف، أو غيرهما.

ومما يحضرني من القصص في هذا القبيل ما ذكره لي الشيخ عبدالرحمن بن دايل × وهو من قدامى كتاب سماحة الشيخ، وقد عاش مع سماحته ما يقارب أربعين سنة؛ يقول الشيخ ابن دايل: =كنا في المدينة إبَّان عمل سماحته في الجامعة الإسلامية، وذات يوم سافر سماحته إلى قرية بدر التي تقع على الطريق بين جده والمدينة على الطريق القديم؛ حيث ذهب لمهمة دعوة يلقي خلالها محاضرة، وكنت أنا والشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن الحصين×معه في السيارة؛ فلما بدأ سيرنا ودعا سماحته بدعاء السفر التفت×وقال: توكلوا على الله _ يعني ابدؤا بقراءة المعاملات _ فقلنا: يا شيخ _غفر الله لك_ نحن دائماً نقرأ، ولا نتمكن من الخروج خارج المدينة، وهذه هي فرصتنا؛ دَعْنا نستمتعْ بالرحلة، وننظر إلى الجبال والأودية، ونتفكر في مخلوقات الله.

فضحك سماحته وقال: اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت؛ ليقرأ الشيخ إبراهيم، وأنت تَفَكَّر في مخلوقات الله كما تقول، وبعد أن ينتهي الشيخ إبراهيم، أملي عليك، وينظر الشيخ إبراهيم، ويتفكر وقت الإملاء، وهكذا؛ فما زال ذلك دأبنا حتى وصلنا إلى قرية بدر+اهـ.

ولقد أجرى الله _ عز وجل _ الخير العظيم بسبب اغتنام هذه الأوقات اليسيرة التي كان سماحة الشيخ يقتنصها في سفره.

ولكن لا يعني أن يكون كل أحد كسماحة الشيخ في السفر؛ فالناس مواهب، ومشارب، ويليق بسماحة الشيخ ما لا يليق بغيره.

وإنما المقصود ألا يغفل الإنسان موضوع الكتابة في السفر قدر استطاعته.

ولهذا فإنه يحسن بمن أراد ذلك أن يضع دفتراً صغيراً في جيبه، أو عند رأسه قبل النوم، فيسجلَ خُلاصةَ ما مرَّ به في يومه، وكتابةَ تاريخ ذلك اليوم، أو يدوِّن ما يجيش في ذهنه من خواطر؛ تمليها البديهة، أو ترهفها الغربة.

ومن لطيف ما يذكر في هذا الصدد ما ذكره الشيخ العلامة محمد الخضر حسين في كتابه مشاهد برلين ص42، حيث قال×: =وأذكر أني كنت ذات يوم في مقعد من أحد المنازه العامة، وفي يدي صحيفةٌ أكتب بها بعض ما يسنح من الخواطر، فوقف عليَّ أحدُ الأساتيذ، فسألني عما أكتب، فقرأت عليه من حديث تلك الصحيفة الجمل الآتية:

1_ يقولون: تَفَرَّقُ الأمةِ يُفْضي إلى موتها، وأقول: التفرق أثرُ الموتِ؛ فإن الجسم يموت، فتفرقُ أجزاؤه.

2_ اربط نفسَك باعتقاداتك تَعْمَلْ لمن يَشِبُّ أو ينشأُ بعد موتك؛ حتى لا يكونَ في صدرك حرج؛ إذ تكون بضاعتك بين أهل عصرك كاسدة.

3_ يتلذذ المستقيمُ بعفته، كما يتلذذ الفاسقُ ببلوغ شهوته، ولكن أمامَ لذة الاستقامة عقبةٌ لا يقتحمها إلا قويُّ الإرادة.

4_ لا تثق في نفسك فيما تدعي من الإخلاص لأمتك، حتى يَلَذَّ لك أن تصلحَ الخلل في نظامهم وهم لا يشعرون.

5_ إذا وثقت بعرى التوكل على الله لم تَحْتَجْ أن تمرَّ إلى الحق على جَسْر من الباطل.

6_ إن الرَّجُلَ يعجب مما يصنع الساحرون، أفلا يعجب من لذةٍ تَمُرُّ على قلبه مَرَّ السحاب، ثم تنقلب مخازيَ تلبثُ في صحيفة حياته أحقاباً.

7_ يكفيك فيما تجتني من ثمرة العلم الصحيح أن يرفع همتك عما فُتِن به الجاهلون من زهرة هذه الحياة.

8_ إذا أغلق المحيطُ أعينَ رُقَبائك، وختم على أفواه عُذَّالك، ثم راودك على أن تَنْزِعَ حليةَ أَدَبِك، فقل: ليس للفضيلة وطن.

9_ كيف تسترسل مع الأصحاب إلى أن تحيد عن جانب الفضيلة وهم لا يرقبون ذمتك، فيقفوا لك عندما تقف في دائرتها.

10_ أسير مع الرجل على قدر ما أدرك من قيمته؛ فإن نظرتُ إليه على حسب وجاهته أو كساد سمعته عند الناس_ فقد ألقيت بنفسي في حَمْأةٍ من التقليد.

11_ إذا أحببت الذي يجاملك وهو يحارب الله _ لم يكن بُغْضُك لمن حارب الله، وأمسك عن مصانعتك من قبيل الغيرة على حرم الشريعة.

12_ لا يدرك قصير النظر من الحدائق المتناسقة غير أشجارٍ ذاتِ أفنانٍ، وثمارٍ ذاتِ ألوانٍ، وإنما يُنَقِّبُ عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة.

13_ لا تُحَمِّل نَفْسَك ما لا تطيق من مِنّةِ وضيعٍ أو نخوةِ فَخورٍ، فإذا أحَسَسْتَ في صدرك بالحاجة إليه _ فاصنع ماذا تصنع لو بقي في موتته الأولى، أو أدركته موتَتُه الثانيةُ.

14_ لا تعجبْ لذوقٍ يُنْكِرُ ما أَلِفْتَه أو يألف ما أنكرته، حتى يتقلب في التجارب والمشاهدات التي تَقَلَّبَ فيها ذوقُك أطواراً.

15_ قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة، حتى إذا حلّ في وطنك غالباً دفعك إلى دركٍ أسفلَ، واتخذ من عنقك موطئاً.

16_ في الناس مَنْ لا يلاقيك بثغرٍ بَاسمٍ إلا إذا دخلت عليه من باب الغباوة، أو خرجت له عن قصد السبيل؛ فاحتفظ بألمعيتك واستقامتك؛ فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يفقهون.

17_ إن مِن الجهال مَنْ يرمي على مَقامِ وَجيهٍ، فعلّمه بسيرتك القَيِّمةِ أن الجهالةَ لا ترجح على العلم وزناً، وإن وُضع بإزائها السلطةُ الغالبةُ، أو الثروةُ الطائلة.

18_ يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة وهو يلاحظ من ورائها منفعة لنفسه _ أن يكون في حِلٍّ من وخزاتٍ أقلامها، أما أطواق الشكر الصادق فإنما يتقلدها المخلصون.

19_ ألا ترى الماء الذي تلقى في مجاريه الأقذار، كيف يتجهم منظره، ويخبث طعمه؛ فاطردْ عن قلبك خواطرَ السوءِ؛ فإنه المنبع الذي تصدر عنه أعمالُكَ الظاهرة.

20_ لا تَنْقُلْ حديثَ الذي يفضى به إليك عن ثقة بأمانتك، ويمكنك _ متى كان يرمي إلى غاية سيئة _ أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله، فتحفظ للمروءة عهدها، وتقضي للمصلحة العامة حقها.

21_ لو فكرت في لسانك حين يعرض لاطراء نفسك لم تُمَيِّزْهُ عن ألسنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيصةً لا يحتاج إثباتها إلى بينة.

22_ إذا رَكِبْتَ في السياسة مَرْكَبَ الشعرِ فقلت ما لا تفعل، أوهِمْتَ في وادٍ لا تُعَرِّجُ فيه على حق _ فانْفُضْ ثَوْبَك من غبارها؛ فإنه ليس بالغبار الذي يصيبك في سبيل الله.

أصغى ذلك الأستاذ الألماني إلى هذه الخاطرات، فابتسم لها ابتسام المستحسن، ولكنه ناقشني في الخاطرة الأخيرة منها قائلاً: إن مجال السياسة أو سعُ من دائرة الحقيقة.

فلم يسعني في الجواب عن هذا النقد سوى أن قلت: إن الوقائعَ النادرةَ لا تمنع من سبك المقالات الموجزة، وصياغتها في أساليبها المطلقة+.( )

وقد أوردت هذا الكلام لما فيه من الحكمة، ولكونه يبعث على تقييد الخواطر، ولأن هذه الحكم تنفع المسافر وغيره.

 الثامن والعشرون: الإتيان بالهدايا حال القدوم من السفر

فالمسافر الذي يبتعد عن أهله، ووالديه، وأولاده، وإخوانه، وسائر أحبابه _ يكون له وحشةٌ، وشوق بقدر منزلته عندهم، ومنزلتهم عنده؛ فهم يَعُدُّون الليالي ليلةً بعد ليلة ينتظرون إطلالَتَهُ عليهم، ويدعون الله بأن يرده سالماً إليهم؛ فمما يزيد تلك الرابطة، ويدل على كرم نفس الإنسان ألا يُغْفِلَ باب الهدايا؛ فَيَحْرِصَ على شراء بعض ما يراه مناسباً من البلد الذي سافر إليه؛ ليكون هديةً لبعض من يحب من نحو والد، أو زوج، أو ولد، أو أخ، أو صديق، وذلك بحدود طاقته، وما لا يُكلِّف عليه.

ويحسن به ألا يحقرَ شيئاً من ذلك ولو كان قليلاً في نظره، ولو كانت قطعةَ حلوى، أو عودَ سواكٍ؛ فالهديةُ بمعناها لا بقيمتها، وهي مما يجتذب القلوب، ويستل السخائم، ويُكَذِّب سوء الظن.

بل إن لها أثر السحر في نفس المُهْدَى إليه، قال النبي ": =تهادوا تحابوا+.( )

وقال الحكيم العربي:

إن الهدية حلوة

                   كالسحر تجتذب القلوبا

تدني البعيد من الهوى

                   حتى تصيِّره قريبا

وتعيد مضطغن العدا

                   وة بعد بغضته حبيبا

تنفي السخيمة عن ذوي الشـ

                   ـحنا وتمتحق الذنوبا( )

وقال أعرابي: =الهدية سحر+.

بل إن لها أثراً وفرحة في نفس المُهْدِي، وجرِّب ذلك من نفسك إذا اشتريت بعض الهدايا في سفرك، كيف تتمنى أَنْ تطوى لك الأرض؛ كي تصلَ إلى من تحب؛ لتهدي إليهم ما أتيت به معك.

وهذا الأثر لا يكون في نفسك إذا لم تصحبْ معك هدايا.

فلا تكن ممن إذا قدم إلى أهله بعد سفره قال: احمدوا اللهَ أنني وصلت إليكم بالسلامة؛ فأنا أعظم من كل هدية!

 التاسع والعشرون: استقبال المسافر بعد عودته

فالمسافر إذا قدم من سفر سيجد شوقاً إلى أهله، وأحبته سواءً كان قادماً من سياحة، أو علاج، أو عمل.

ومما يسعده، ويفرح قلبه، ويشعره بقيمته، ويزيده قرباً إلى أحبته _ أن يُستقبل فَوْرَ وصوله خصوصاً إذا كان قادماً عبر الجو أو البحر؛ فإذا وطأت قدماه أرضَ بلاده، وقَرَّ عيناً بالإياب، ورأى أول ما رأى أحبته بانتظاره في صالات الاستقبال وهم في لهفة وشوق إليه _ كان ذلك أدعى لمزيد سروره، وفرحه.

لذا فإنه يحسن بأهل المسافر وأحبته خصوصاً إذا قدم من سفر طويل، أو كان قادماً من سفر نال خلاله نجاحاً، أو شفي من مرض _ أن يعرفوا موعد وصوله؛ ليكونوا أمامه أولَ ما يصل؛ فلا تقع عينهُ إلا عليهم؛ فلذلك موقعهُ الذي لا يجهل؛ فيكون سرورُ التواصل منسياً حسرةَ التفاصل، وتكون فرحةُ اللقاء مُذْهِبَةً لوعةَ الفراق؛ فما موقفك وأنت ترى والديك، أو أهلك، أو أولادك، أو إخوانك، أو أعزة أصحابك ينتظرون مجيئك على أحر من الجمر، ويترقبون طلعتَك، ويعدونها من أَنْعُمِ الله التي لا تكفر؟!

لا شك أن تلك اللحظات من أسعد لحظات العمر.

لذلك فإنه يحسن بالمسافر إذا قدم، واستقبله أحبَّتُه أن يقابلهم بشوق، وحفاوة، وحرارة، ولسانٍ رطبٍ، وجبين وضاحٍ؛ حتى يشعرهم من خلال ذلك أنه فرِحٌ بهم، متشوقٌ إلى لقائهم، شاكرٌ لهم حسن استقبالهم.

يقال هذا لأن بعض الناس يتكلف أحبابُه لاستقباله ثم يقابلهم ببرود وهمود؛ فيرجعون بخيبة أملٍ، وقد لا يعاودون استقباله مرة أخرى إلا إذا كان يساقون إلى ذلك سوقاً.

 الثلاثون: طروق الأهل بعد طول الغيبة والسفر

فمن الأزواج من يغيب عن زوجته فترة من الزمن، كأن يسافرَ لتجارة، أو عمل، أو نحو ذلك.

فإذا عاد من غيبته فاجأ زوجته بالدخول عليها دون إعلام لها، أو إشعار بأنه سيأتي.

وذلك ناتج عن قلة مبالاة الزوج، أو لرغبته في مفاجأة الزوجة؛ حتى تفرحَ بما لم تكن قد توقعته، أو لجهله بعواقب المفاجأة، أو غيرِ ذلك من دواعي المفاجأة وأسبابها.

وهذا العملُ مخالفٌ للسنة؛ لما قد يترتب عليه من عواقب وخيمة؛ فالذي ينبغي للزوج أن يتجنب مفاجأة زوجته بعد طول الغياب قدرَ المستطاع.

والأصل في ذلك ما جاء عن جابر ÷ قال: كنا مع رسول الله"في غزوة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخُلَها، فقال رسول الله": =أمهلوا، لا تدخلوا ليلاً ـ يعني عشاءً ـ حتى تمتشطَ الشَّعِثة( )، وتستحدَّ المَغِيبَةُ( )+( ).

والهدف من هذا التشريع إبقاء الرغبة في الزوجة قوية؛ بحيث لا يحدث منها ما يُطْلِعُ الزوج على شيء من عيوبها، أو ما ينافي كمال زينتها من تَشَعُّثِ الشعر، وإهمال الزينة، ونحو ذلك.

بل يجدها دائماً في حال من الجمال والزينة، وما شأنُه أن يبقي على سرور النفس، وشدة الرغبة.

وفي رواية للبخاري: =إذا أطال أحدكم الغيبةَ فلا يَطْرُقْ أهله ليلاً+( ).

قال ابن حجر×: =الطُّروق بالضم المجيءُ ليلاً من سفر أو من غيره على غفلة.

يقال لكل آتٍ بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازاً+( ).

ففي هذا الحديث دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله، حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع فيه التجمل والاستعداد؛ فلربما كانت الزوجةُ في حال انفرادها على وضع لا يليق، وربما كانت مشغولة ببعض أعمال المنزل، فأهملت بعض زينتها، واستعدادها للقاء الزوج.

 والزوجُ راغب فيها، فإذا دخل على زوجته وهي على هيئة تقذفها العين، وتنفر منها النفس ـ كان ذلك مدعاة للنفور من الزوجة، وقلة الرغبة فيها.

ومن هنا كان تنبيهُ الزوجة وإعلامها بقدوم الزوج أولى وأدوم لتعلق قلبه بها، وأحفظ من النفور والملل ونبوِّ العين عنها( ).

قال  ابن حجر×في شرح الحديث السابق: =فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً، ويرجع ليلاً لا يتأتَّى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة ـ كان طولُ الغيبة مَظِنَّةَ الأمنِ من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره( )، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبباً للنفرة بينهما+( ).

والحاصل أن الزوج لا ينبغي له أن يفاجأ زوجته إذا قدم من غيبته؛ اتباعاً للسنة، وتلافياً لما ذكر؛ فعليه أن يرسل من يخبرهم بقدومه، وأن يتريثَ بعد وصول الخبر لأهله، أو أن يرسل إليهم بأنه سيأتي في اليوم الفلاني إن يسر الله له القدوم.

وفي هذا الوقت تيسرت السبل؛ فبإمكان الزوج أن يتصل عبر الهاتف، أو الجوال، أو الرسالة، ويخبرَ أهلَه بأنه قادم في اليوم الفلاني أو الساعة الفلانية.

ثم إن على الزوجة إذا علمت بقدوم زوجها أن تأخذ زينتها، وأن تستعدَ له أتم الاستعداد.

هذا ما تيسر تقييده من لطائف السفر، والحمد لله رب العالمين.