×
التذكر و الاعتبار بقضية الزمن و سرعة دورانه وإنقضاء الآجال خلاله من أعظم المحفزات للعمل للدار الآخرة و الزهد في الدنيا وهذه الخطبة للشيخ عبد الرحمن السحيم فيها من الفوائد الرائعة في هذه المسألة

    خُطبة الاعتبار بتصرم الأعوام

    الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الليلَ والنهارَ آيتين ، وجَعَلَ فيهما عِبرةً لكلِّ مُعتبرٍ

    وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا .

    أما بعدُ :

    فإنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا .

    وجَعَلَ في تعاقُبِ الليلِ والنهارِ آيةً لأصحابِ البصائرِ النافذةِ ، فقَالَ : (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ) .

    وإنَّ في تَصَرُّمِ الأعوامِ وانقضاءِ الأيامِ عِبَرًا ، وفي تَسَارُعِ الزمانِ مُدَّكَرًا .

    والعاقِلُ مَن اتَّعَظَ بِمرورِ الأيامِ ، والسعيدُ مَن وُعِظَ بِغيرِه .

    والغافِلُ مَن اتَّبَعَ سُنَّةَ النصارى في الاحتفال بِمرورِ الأعوامِ ، وتعاقبِ السِّنِين ، وإقامةِ الْحَفلاتِ بأعيادِ الميلادِ ، غافلا عنْ هَدْمِ عُمُرِهِ .

    والأيامُ إنِّما هِيَ منازِلٌ تُقرِّبُ إلى الآخرةِ .

    وما مضى مِنَ العُمرِ لا يَعُودُ .

    قيل لابنِ يزيدَ الرَّقَاشِي: أكانَ أبوكَ يتمثلُ مِنَ الشعرِ شيئًا ؟ قَالَ : كانَ يتمثلُ:

    إنَّا لَنَفْرحُ بالأيامِ نقطعُها ...

    وكلُّ يومٍ مَضى يُدْني مِن الأجَلِ

    وقدْ كثُرَتْ مَواعِظُ السَّلفِ بالاعتبارِ بِتصرُّمِ الأعوامِ ، ومرورِ الليالي والأيامِ ، والحرصِ على اغتنامِ الأوقاتِ بأفضلِ الطاعاتِ .

    قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِرَجُلٍ يَرْتَحِلُ كُلَّ يَوْمِ مَرْحَلَةٍ إِلَى الآخِرَةِ ؟

    وَقَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ بَيْنَ مَطِيَّتَيْنِ يُوضِعَانِكَ، يُوضِعُكَ النَّهَارُ إِلَى اللَّيْلِ، وَاللَّيْلُ إِلَى النَّهَارِ، حَتَّى يُسْلِمَانِكَ إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَعْظَمُ مِنْكَ يَابْنَ آدَمَ خَطَرًا .

    وَقَالَ: الْمَوْتُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيكُمْ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكُمْ .

    قَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَافْعَلْ، فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ، وَالأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِكَ، وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِكَ، فَكَأَنَّكَ بِالأَمْرِ قَدْ بَغَتُّكَ .

    وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: يَا أَخِي يُخَيَّلُ لَكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ، بَلْ أَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ، تُسَاقُ مَعَ ذَلِكَ سَوْقًا حَثِيثًا، الْمَوْتُ مَوَجَّهٌ إِلَيْكَ، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ، وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ، فَلَيْسَ بِكَارٍّ عَلَيْكَ .

    سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ ...

    وَلا بُدَّ مِنْ زَادٍ لِكُلِّ مُسَافِرِ

    وَلا بُدَّ لِلإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ ...

    وَلا سِيَّمَا إِنْ خَافَ صَوْلَةَ قَاهِرِ

    قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ ؟ كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ ؟

    وقَالَ آخَرُ : مَنْ كَانَتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ مَطَايَاهُ، سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ .

    وَكَتَبَ الأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ .

    قَالَ أبو الْعَتَاهِيَةِ :

    وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا ...

    لَعَلِّي حِينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي

    أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ ...

    وَعُمْرُكَ فِيهِ أَقْصَرُ مِنْهُ أَمْسِ

    قَالَ غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ: كُنَّا نَتَوَاعَظُ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ: ابْنَ آدَمَ اعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَفِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَفِي صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَفِي دُنْيَاكَ لآخِرَتِكَ، وَفِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.

    رُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ سُورَةَ مريمَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الآيَةِ : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ إِلَى ابْنِ السِّمَاكِ أَنْ يَعِظَهُ ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الأَنْفَاسُ بِالْعَدَدِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدٌ ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدُ .

    وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

    حَيَاتُكَ أَنْفَـاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا ...

    مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا

    يُمِيتُكَ مَا يُحْيِيكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ...

    وَيَحْدُوكَ حَادٍ مَا يُرِيدُ بِهِ الْهُزْءَا

    عبادَ اللهِ :

    جَاءَ في الحديثِ : لا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ . رَوَاهُ الترمذيُّ ، وَحَسَّنَهُ الألبانيُّ .

    عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟

    فأعِدَّ للسؤالِ جوابا على أنْ يَكونَ الجوابُ صوابا

    تأملْ في عُمُرِكَ

    كمْ مَضَى مِنْهُ ؟

    وهل انْتَفَعْتَ بما مَضَى مِن عُمُرِكَ ؟ أوْ مضى سَبَهْللاً وضاعَ سُدىً ؟

    لقَدْ كَرِهَ السَّلفُ إضاعةَ الأوقاتِ في غيرِ الطاعاتِ .

    كانَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يقولُ : إنِّي لأكْرَهُ أنْ أرى الرَّجُلَ فارِغا ، لا في عَمَلِ الدنيا ، ولا في عَمَلِ الآخرةِ .

    وقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبَتْ شَمْسُه ، نقصَ فيه أجلِي ولم يَزِدْ فيه عَمَلِي .

    وذَلِكَ أنَّ كلَّ يومٍ مكسبٌ ، والمغبونُ مَنْ فرَّطَ فيهِ .

    قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ غَنِيمَةٌ .

    وكانوا يغتنمونَ أوقاتَهُم بِما يُقرِّبـُهم إلى مولاهُم .

    قَالَ الحسنُ البصريُّ : أدْرَكْتُ أقواما كانوا على أوقاتِهم أشدُّ منكم على دراهِمِكُم ودنانيرِكُم !

    وقَالَ ابنُ الجوزيِّ : الزمانُ أشرفُ شيءٍ ، والواجبُ انتهابُهُ بِفعلِ الخيرِ .

    أيُّها المؤمنونَ :

    كَانَ النبيُّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أكملُ الناسِ وأفضلُ الناسِ وأخشاهُم للهِ ، وقَدْ غُفِرَ لهُ ما تقدّمَ مِن ذنبِهِ وما تأخَّرَ ، ومع ذَلِكَ كَانَ مِنْ أكثرِ الناسِ ذِكْرا واستغْفارا .

    قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنه لَيُغانُ على قَلْبي ، وإنِّي لأستغفرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مَرَّةٍ . رَوَاهُ مَسْلِمٌ .

    قَالَ النوويُّ : والمرادُ هُنا ما يَتَغَشَّى القلبَ . اهـ .

    وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رسولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : يا أيَّها الناسُ توبوا إلى اللهِ ، فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مائةَ مرةٍ . رَوَاهُ مَسْلِمٌ .

    وفي روايةٍ : إنْ كُنّا لَنَعُدُّ لرسولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في المجلسِ الواحِدِ مائةَ مرةٍ : ربِّ اغفرْ لي وتُبْ عليَّ إنك أنتَ التوابُّ الرَّحيمُ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجه .

    وفي حديثِ أبي هريرةَ قَالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ : واللهِ إنِّي لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِنْ سبعينَ مرةٍ . رَوَاهُ البُخاريُّ .

    وهكذا كانَ الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم

    فقد أخرجَ ابنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ صحيحٍ عنْ عِكْرمةَ أنَّ أبا هَريرةَ كانَ يُسَبِّحُ كلَّ يومٍ اثنتي عشرةَ ألفَ تسبيحةٍ ، يقولُ : أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي . ذَكَرَه ابنُ حجرٍ في الإصابةِ .

    فكم سبّحتَ اللهَ ، أو استغفرتَ اللهَ في عامِكَ الذي مَضَى ؟

    وكم هِيَ الذنوبُ التي كُتبتْ عَليْنا ؟

    كَمْ نظرةٍ نَظَرْناها ؟

    كَمْ مُحَرَّمٍ سَمِعناه ؟

    كَمْ ساعةٍ أضَعْنَاها ؟

    كَمْ مرةٍ خَتَمْنا فيها كِتابَ ربِّنَا ؟

    كثيرون يقرأونَ كُتبًا وصُحفًا يوميَّةً ، قد تضرُّ ولا تَنفعُ ، لكنهم لا يَختِمونَ القرآنَ إلاَّ في رمضانَ – هذا إذا خَتَمُوه !

    وآخرونَ يُشاهِدُونَ المبارياتِ ويُضيِّعونَ الأوقاتِ أمامَ الشاشاتِ .. ولكنَّهُم مُقصِّرونَ في التبكيرِ إلى الْجُمَعِ والجماعاتِ ..

    كَمْ طاعةٍ قصَّرْنا فيها ؟ وكَمْ .. وكَمْ ..؟؟

    كمْ ليلَةٍ أودَعْتَها ... مآثِمًا أبْدَعْتَها

    لشَهوَةٍ أطَعْتَها ... في مرْقَدٍ ومَضْجَعِ

    وكمْ خُطًى حثَثْتَها ... في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَها

    وتوْبَةٍ نكَثْتَها ... لمَلْعَبٍ ومرْتَعِ

    وكمْ تجرّأتَ على ... ربّ السّمَواتِ العُلى

    ولمْ تُراقِبْهُ ولا ... صدَقْتَ في ما تدّعي

    وكمْ غمَصْتَ بِرّهُ ... وكمْ أمِنْتَ مكْرَهُ

    وكمْ نبَذْتَ أمرَهُ ... نبْذَ الحِذا المرقَّعِ

    وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ ... وفُهْتَ عمْداً بالكَذِبْ

    ولمْ تُراعِ ما يجِبْ ... منْ عهْدِهِ المتّبَعِ

    فالْبَسْ شِعارَ النّدمِ ... واسكُبْ شآبيبَ الدّمِ

    قبلَ زَوالِ القدَمِ ... وقبلَ سوءِ المصْرَعِ

    واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ ... ولُذْ مَلاذَ المُقترِفْ

    واعْصِ هَواكَ وانحَرِفْ ... عنْهُ انحِرافَ المُقلِعِ

    الثانية :

    أيَّها المؤمنونَ

    ها نَحنُ نستقبِلُ عاما جديدا ، لا ندري ما اللهُ صانعٌ فينا وَفِيهِ .

    فعلينا أنْ ننويَ الخيرَ فَيهِ ، ليُكتَبَ لنا ما نوينا إنْ عَجِزْنا أو ضَعُفْنا أو نَسِينا .

    فَفِي الحديثِ : إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا . رَوَاهُ البُخاريُّ .

    قَالَ عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدِ لأبيه : أوْصِنِي . قَالَ : يا بُنيَّ انوِ الخيرَ ، فإنَّك بخيرٍ ما نويتَ الخيرَ .

    وقَالَ زيدُ الشَّامِيُّ : إنِّي لأُحِبُّ أنْ تَكُونَ لي نِيَّةٌ في كُلِّ شيءٍ حتى في الطعامِ والشَّرابِ.

    وعَنْ داودَ الطائيِّ قَالَ : رأيتُ الخيرَ كُلَّهُ إنِّما يَجْمَعُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ ، وكَفاكَ بِها خيرا وإنْ لم تَنْصَبْ . ذَكَرَه ابنُ رجبٍ .

    أي : وإنْ لَمْ تَتْعبْ فإنَّكَ تُؤجَرُ عَلى حُسنِ نِيّتِك .

    أيُّها الكِرامُ :

    يومُ القيامةِ لا يتحسّرُ النَّاسُ على مِثلِ ساعةٍ قَضَوْها في غيرِ طاعةٍ .

    قَالَ معاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلاَّ عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهَا . رَوَاهُ الطبرانيُّ .

    وإذا اصطرَخَ أهلُ النارِ في النارِ .. ذُكِّرُوا بِما مضَى لَهُمْ في الدُّنيا مِنَ الأعمارِ .

    فيُقَالَ لَهُمْ توبيخا وتقريعا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)

    لَقَدْ جاءتْهُم الـنُّذُرُ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِم ، فما اتَّعَظُوا ولا ارْعَوَوا .

    جاءَهُم مِنَ الـنُّذُر ما أعْذَرَ اللهُ به إليهِم .

    قَالَ القرطبيُّ : فَالشَّيْبُ وَالْحُمَّى وَمَوْتُ الأَهْلِ كُلُّهُ إِنْذَارٌ بِالْمَوْتِ .

    وقَالَ : وَأَمَّا مَوْتُ الأَهْلِ وَالأَقَارِبِ وَالأَصْحَابِ وَالإِخْوَانِ ؛ فَإِنْذَارٌ بِالرَّحِيلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَحِينٍ وَزَمَانٍ . قَالَ:

    وَأَرَاكَ تَحْمِلُهُمْ وَلَسْتَ تَرُدُّهُمْ ... فَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ حُمِلْت فَلَمْ تُرَدَّ

    (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قَالَ الإمامُ البُخاريُّ : يَعني الشيبَ .

    وقَالَ ابنُ جُزي في تفسيرِهِ : وقيلَ : يَعني الشيبَ ، لأنَّهُ نذيرٌ بالموتِ . اهـ .

    وقَالَ ابنُ كَثيرٍ: أيْ : أوَ ما عِشْتُم في الدُّنيا أعمارًا لو كُنتُم مِمَنْ ينتفعُ بالحقِّ لانتفعتُم بهِ في مُدَّةِ عُمُرِكِم ؟

    ولذا كانَ قُتادةُ رحِمَهُ اللهُ يقولُ : اعلموا أنَّ طولَ العُمُرِ حُجَّةٌ ، فنعوذُ باللهِ أنْ نُعيَّرَ بِطولِ العُمُرِ .

    قَالَ ابنُ الجوزيِّ: لا نَوْمٌ أَثْقَلُ مِنَ الْغَفْلَةِ , وَلا رِقٌّ أَمْلَكُ مِنَ الشَّهْوَةِ , وَلا مُصِيبَةٌ كَمَوْتِ القلبِ , ولا نذيرٌ أَبْلَغُ مِنَ الشَّيْبِ .

    وقَالَ : فَتَنَبَّهْ أَنْتَ مِنْ رَقَدَاتِكَ , وَكُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ , فَلَقَدْ بَالَغَتِ الزَّوَاجِرُ فِي عِظَاتِكَ , كَمْ تَسْمَعْ مَوْعِظَةً ، وَكَمْ تَجْلِسُ تَحْتَ مِنْبَرٍ , يَا لَهَا مِنْ نَصِيحَةٍ لَوْ وَجَدَتْ نَفَاذًا , هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَلاذًا , وَالشَّيْءُ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ فَرُبَّمَا آذَى , وَأَنْتَ يَا هَذَا بَعْدَ هَذَا بِنَفْسِكَ أخبر . [ التبصرة – ص 322]