طريق الهجرتين وباب السعادتين
التصنيفات
الوصف المفصل
- طريق
الهجرتين وباب السعادتين
- [تعريف
الفقر ودرجاته عند الهروي، وتفسير كلامه]
- [تفسير الدرجة الأولى من الفقر]
- فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]
- [تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]
- فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]
- [تفسير الدرجة الأولى وهي غنى القلب]
- فصل [في تفسير الدرجة الثانية وهي: غنى النفس]
- فصل [في الدرجة الثالثة وهي: الغنى بالحق سبحانه، ولها ثلاث مراتب]
- فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى
- [أقسام الفناء عند السالكين]
- [تعريف
الفقر ودرجاته عند الهروي، وتفسير كلامه]
طريق الهجرتين وباب السعادتين
تأليف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 - 751) حققه: محمد أجمل الإصلاحي خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري إشراف بكر بن عبد اللَّه أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء سعود بن عبد العزيز العريفي علي بن محمد العمران
(المقدمة/3)
مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1429 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة ص. ب 2928 هاتف 5505305 فاكس 5542309 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
(المقدمة/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد للَّه رب العالمين، القائل في كتابه الحكيم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة/ 15 - 16]. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه في الأميين، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم؛ فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة. ومضى إلى ربه محمودًا بعدما أقام الدين، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. أما بعد، فإن كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى لكتاب نفيس نادر في بابه. فقد وضعه لبيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على الطريقة التي شرعها اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. والمقصود بالهجرتين -كما فسَّر المؤلف في مقدمة هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى- هجرة العبد إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والتوكل والعبودية، وهجرته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمتابعته والتأسِّي به في كل شأن من شؤون حياته من عقائده وعباداته ومعاملاته. وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين لا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. ولا تخفى أهمية الهجرتين المذكورتين في باب الإحسان وتزكية النفس والسير إلى اللَّه. فإنّ الصوفية منذ أن جعلوه سرًّا مكتومًا، زاعمين أنه علم خصّ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعض أصحابه، ثم حكَّموا فيه الذوق
(المقدمة/5)
والوجدان والكشف والإلهام = فتحوا بابًا واسعًا للزيغ والانحراف والتأويل والتحريف. ثمّ تعدَّوا إلى تقسيم الدين إلى شريعة وطريقة، وعلم الظاهر وعلم الباطن، وقرّروا أن الأول حجاب دون الآخر، حتى صار التصوف في بعض صوره دينًا مناهضًا لدين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومن ثم لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه ليصرفا النظر، في المهمة العظيمة التي قاما بها لإصلاح الأمة وتجديد معالم الدين، عن الردّ على مزاعم الصوفية، والكشف عن انحرافاتهم، وبيان هدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التزكية والإحسان. وقد أوتي الشيخان الربّانيّان قدرةً عجيبةً على الخوض في غوامض علوم العارفين ودقائق أحوالهم والكلام عليها. وذلك لما فتح اللَّه عليهما من علوم الكتاب والحكمة، ثم وفقهما للظهور على معارج العبودية والإشراف على مقامات الإحسان. ومن هنا أصبحت كتابات الشيخين في التصوف والسلوك، الجامعة بين خطر الموضوع، وسلفيّة المنهج في التمسّك بالكتاب والسنّة دون تحيّز لأحدٍ كائنًا من كان، وقدرةٍ على الخوض في الدقائق، وقوّة البيان ووضوح التعبير = أصبحت منظومةً نادرةً في المكتبة الإسلامية الزاخرة. ومن أجلّ تلك الكتب كتابنا هذا. وقد افتتحه ابن القيّم رحمه اللَّه "بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلّا منه". ثم تكلم على قواعد نافعة منها قاعدة في الإنابة ودرجاتها، وقاعدة في الابتلاء، وقاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وقاعدة في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة. وختم الكتاب بباب جامع في مراتب
(المقدمة/6)
المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وقد تطرّق الكلام في أثناء البابين والقواعد إلى مباحث عظيمة ومسائل مشكلة اقتضت أهميتها إشباع القول فيها، كمبحث القضاء والقدر الذي استغرق أكثر من مائتي صفحة. ولكن أهمّ أقسام الكتاب وأنفسها -وهو من صميم الموضوع فلا يعدّ استطرادًا- هو القسم الذي تكلم فيه المؤلف رحمه اللَّه على علل مقامات السلوك. وقد اختار لبيان غلط المشايخ في هذا الباب كتاب محاسن المجالس لأبي العباس ابن العريف الصنهاجي من أكابر صوفية الأندلس. فتناوله فصلًا فصلًا بالنقد والنقض، وبيّن ما له وما عليه، فتكلم على ما قاله في منزلة الإرادة مثلًا، من اثني عشر وجهًا، وعلى التوكل من خمسة عشر وجهًا، وعلى الخوف من ثلاثة عشر وجهًا، وهكذا. ومما يستغرب أن المستشرق الإسباني الذي نشر محاسن المجالس في باريس سنة 1933 م لم يكن على علم بنقد ابن القيم إياه في طريق الهجرتين، مع كونه مطبوعًا قبل المحاسن بأكثر من ثلاثين سنة. وقد صدرت أول طبعة من كتابنا عن المطبعة الميمنية سنة 1320 هـ = 1902 م، على حاشية كتاب آخر لابن القيم، وهو إغاثة اللهفان. ثم طبعته إدارة الطباعة المنيرية سنة 1358 هـ، وتلتها طبعة المكتبة السلفية سنة 1375 هـ. ولكن لم تتهيأ لهذه الطبعات نسخة موثقة عالية من الكتاب، فكثرت فيها الأسقاط والتصحيفات والتحريفات، إلا ما صحح منها باجتهاد المشرفين عليها، غير أن اجتهادهم قد أدّى في أحيان كثيرة إلى مزيد من الأخطاء. وعن هذه الطبعات الثلاث -وبخاصة طبعة المكتبة السلفية-
(المقدمة/7)
صدرت عشرات الطبعات، وصوّرت مرّات ومرّات. وزعمت طبعتان منها -وهما طبعة دار ابن كثير بتحقيق يوسف علي البديوي، وطبعة دار البيان بتحقيق بشير محمد عيون- أنهما اعتمدتا على نسخة الظاهرية، وأثبتت الأخيرة أرقام أوراقها أيضًا في الحواشي، ولكن مقارنة متن الطبعتين بالنسخة المذكورة لا تصدّق دعواهما العريضة. ولو اعتمدت إحداهما عليها لكانت خليقةً بأن تكون أصحّ الطبعات، غير أنهما لم تزيدا على مراجعتها في مواضع متفرقة تحلّةً للقسم! وكان من فضل اللَّه سبحانه أن وفقني لإخراج هذه النشرة التي هي أول نشرة علمية للكتاب، وقد اعتمدت فيها على خمس نسخ خطيّة، أهمّها نسختان: إحداهما نسخة الظاهرية التي هي مسودة الكتاب بخط المصنف، والأخرى نسخة منقولة من نسخة المصنف حسب تصريح ناسخها. وقد تبيّن لي أنّ المؤلف رحمه اللَّه قد ترك الكتاب مسوّدة مع إضافاته وإلحاقاته الكثيرة، فلا أمكنه تبييضه، ولا قرئ عليه، ومن ثم قد بقي فيه من السهو وسبق القلم شيء كثير. وقد ضاع بعض كلامه أيضًا لكونه في أطراف الأوراق التي أكل منها البلى. وكان في خطه كذلك من السرعة وإهمال النقط وتداخل الكلمات وغيره ما يؤدي إلى صعوبة واختلاف في القراءة. وقد اجتهدت في قراءة النص مستعينًا بالنسخة المنقولة من الأصل وغيرها، ومستأنسًا بأسلوب المؤلف وعباراته المألوفة، وأرجو أن أكون قد وفقت في خدمة الكتاب وأدائه أداءً مقاربًا لما وضعه المؤلف رحمه اللَّه.
(المقدمة/8)
وقد مهّدت للكتاب بدراسة اشتملت على الفصول الآتية: 1 - توثيق نسبة الكتاب. 2 - عنوان الكتاب. 3 - تاريخ تأليف الكتاب. 4 - مقصد الكتاب. 5 - ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمة، وفيه إشارة إلى بعض طرائق التاليف اللطيفة عند المصنف. 6 - أهمية الكتاب. 7 - موارد الكتاب. 8 - طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته. 9 - مخطوطات الكتاب. 10 - منهج التحقيق، مع نماذج مصورة من النسخ المعتمدة. وأشكر الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري الذي تولّى تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب ما عدا أحاديث الصحيحين، فجزاه اللَّه خير الجزاء. وقبل أن أضع القلم آمل من القراء، لا سيما العلماء والباحثون، إذا وقفوا على خلل أو زلل في خدمة الكتاب، أن لا يضنّوا عليّ بإفاداتهم وتنبيهاتهم. فالأمانة ثقيلة، والإنسان مهما اجتهد وبالغ فإنه إلى الضعف والنسيان ما هو! وخدمة هذا التراث العظيم لا تتم عندي إلا بتعاون
(المقدمة/9)
المحقق الخبير والناقد البصير؛ وإني إذ لم أكن بذاك، أرجو أن لا أعدم ناقدًا بصيرًا يُهدي إليّ عيوبي. أسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لمؤلفه، ويرفع درجاته، ويجزيه عنا خير ما يجزي العلماء الربانيين. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الرياض محمد أجمل أيوب الإصلاحي 22/ 12/ 1427 هـ
(المقدمة/10)
توثيق نسبة الكتاب لم يكن هذا الكتاب بحاجة إلى توثيق نسبته إلى الإمام ابن القيم رحمه اللَّه، فإننا لا نعرف أحدًا شكّ في ذلك، لولا ما وجد على ظهر نسخة منه، وهي محفوظة في مكتبة الدولة في برلين برقم 8795، وناقصة من أولها بقدر ستين ورقة تقريبًا، فكتب بعضهم في أعلى الورقة الأولى: "كتاب نهج العمل لابن حجر"، وفي ورقة أخرى قبلها كتب: "نهج العمل لابن حجر في السلوك". ولعل من كتب هذه العبارة قصد المغالاة في ثمن النسخة وإغراء من يعرضها عليه بالشراء. وذلك لأن النسخة كتبت سنة 816 هـ كما جاء في خاتمتها، فإذا كان مؤلفها الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ، فهي على هذا قد نسخت في حياة المؤلف قبل وفاته بستة وثلاثين عامًا، فلا شكّ إذن في كونها نسخة ثمينة جدَّا! ولكن لا أدري من أين جاء هذا الكاتب بعنوان "نهج العمل"، إذ لم أره عنوانًا لكتاب مطلقًا في كشف الظنون وذيله، فضلًا عن أن يكون عنوانًا لكتاب من كتب الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه. والجدير بالذكر أن في بداية بعض الكراريس تصريحًا بكونه "حادي عشر من طريق الهجرتين" مثلًا. وبعد، فإن الشواهد على نسبة الكتاب إلى ابن القيم كثيرة جدًّا ومتنوعة. ومن أبرزها: (1) أن المخطوطة التي اعتمدنا عليها في هذه الطبعة مسودة الكتاب بخط المؤلف. وفي صفحة العنوان كتب اسمه واسم الكتاب مصرّحًا بأنه من تأليفه، كما سيأتي في وصف المخطوطة.
(المقدمة/11)
(2) أن المؤلف نفسه ذكره أربع مرّات في كتابه مدارج السالكين، والمباحث التي أحال فيها على كتابنا كلها موجودة فيه. فذكر في الموضع الأول (1/ 155) مذهب نفاة الحكمة والتعليل الذين لا فرق عندهم بين المأمور والمحظور في نفس الأمر، والمشيئة هي التي اقتضت أمره ونهيه عن هذا. ثم أشار إلى أنه بيّن فساد هذا الأصل من نحو ستين وجهًا في كتابه مفتاح دار السعادة، وأنه ذكره أيضًا في كتابه المسمى بسفر الهجرتين وطريق السعادتين. وهذا المبحث موجود في كتابنا في ص (246). وفي الموضع الثاني (1/ 480) أورد فصلًا في مشاهد الخلق في المعصية وقال: "ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه إلّا ما ذكرناه في كتابنا المسمى سفر الهجرتين في طريق السعادتين". وهذا الفصل يوجد في كتابنا في ص (350). وفي الموضع الثالث (1/ 567) عندما فسّر ابن القيم كلام صاحب منازل السائرين في رياضة خاصة الخاصة، وأن منها "قطع المعاوضات" نبّه على أن سؤال المحبّ الصادق أن يثيبه اللَّه سبحانه الجنة والقرب منه والتنعم بحبه ليس قادحًا في عبوديته، ثم قال: "وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في كتاب سفر الهجرتين عند الكلام على علل المقامات". ولعل المؤلف يشير إلى المسألة الخامسة من المسائل الخمس في المحبة والشوق، التي تكلم عليها في كتابنا في ص (729). وأشار في الموضع الرابع (2/ 74) إلى مسألة في الشوق، هل يبقى عند لقاء المحبوب أو يزول، فقال: "ولقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة، وفي كتاب سفر الهجرتين". وهذه
(المقدمة/12)
المسألة هي المسألة الثالثة من المسائل الخمس المذكورة. انظر ص (724). (3) ومنها أن ابن القيم أحال في هذا الكتاب على مؤلفات أخرى له نحو قوله في ص (86): "وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر اللَّه لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلق بالذكر، وكل فائدة منها لا خطر لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًّا". والكتاب المذكور معروف مطبوع، وقد صدرت منه نشرة جديدة ضمن هذا المشروع أيضًا بعنوان "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب". وكذلك أحال فيه على كتابه "التحفة المكية" مرتين (425، 454)، وهو من الكتب التي ذكرها الحافظ ابن رجب وغيره من مؤلفات ابن القيم. وقد أشار ابن القيم أيضَا إليه في عدة مواضع من كتابه بدائع الفوائد. وأحال أيضًا على كتاب كبير له في المحبة قائلًا: "وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه "المورد الصافي والظل الضافي" في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها، وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه" (124). وهذا الكتاب هو الذي أشار إليه في مدارج السالكين (2/ 598) -وإن لم يسمّه- فقال: "وجميع طرق الأدلة عقلًا ونقلًا وفطرةً وقياسًا واعتبارًا وذوقًا ووجدًا تدلّ على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، وقد كرنا من ذلك قريبًا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة". وهو غير كتاب "روضة المحبين" المطبوع. وقد أشار أيضًا إلى تابين آخرين لم يسمّهما، فقال في موضع:
(المقدمة/13)
"وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد" (770). ولا يخفى أن المقصود كتاب فضل العلماء الذي ذكره ابن رجب في ترجمة ابن القيم (1). وفي موضع آخر تطرق الكلام إلى الأنفع والأفضل من النخيل والعنب وأنّ طائفة رجحت النخل وأخرى رجحت العنب، فقال: "وذكرت كل طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها في غير هذا الموضع" (808). والظاهر أن المؤلف رحمه اللَّه يشير إلى كتابه مفتاح دار السعادة الذي تضمن هذا المبحث (2/ 117). (4) ومنها المباحث المشتركة بين هذا الكتاب والكتب الأخرى للمؤلف، ولا خلاف بينها إلا في الاختصار والتفصيل أو التقديم والتأخير. أما نفسه وبيانه ومنهجه في ذكر الأقوال والمذاهب والموازنة بينها، فهو هو، بل تجد اللفظ بعينه بعض الأحيان. ومن أمثلتها مبحث طويل في مذاهب الناس في أطفال المشركين (842 - 877). وقد ورد المبحث نفسه في كتاب أحكام أهل الذمة (1086 - 1130)، وفي حاشية المؤلف على سنن أبي داود (12/ 320). ومن ذلك أيضًا تفسير المؤلف لدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال" (605). وقد فسره أيضًا في بدائع الفوائد (714) ومفتاح __________ (1) الذيل على طبقات الحنابلة (5/ 175). وانظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد (282).
(المقدمة/14)
دار السعادة (1/ 375) والداء والدواء (118). ومن ذلك تفسيره لكلام صاحب منازل السائرين على الفقر والغنى والتجريد والشوق. وقد فسره في كتابنا هذا (19، 63، 67، 729) ثم فسره في مدارج السالكين (2/ 497، 503)، (3/ 21، 408). والمقارنة بينهما تكشف عن وجوه المشابهة والمفارقة، ولكن تؤكد في الوقت نفسه أن الكلامين لمؤلف واحد. (5) ومنها نقول المؤلف عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وبعضها من كتبه وبعضها رواية شفوية عنه. وسيأتي الحديث عنها عند الكلام على موارد المؤلف في هذا الكتاب. (6) وأخيرًا اتفاق كتب التراجم على نسبته إلى ابن القيم، وبعضها لتلامذته ومعاصريه، كما سيتبين من الفقرة الآتية.
(المقدمة/15)
عنوان الكتاب ذكر الكتاب في المصادر -ومنها بعض كتب المؤلف- بعدّة عناوين وصلت إلى ستة وجوه، وهي: 1 - سفر الهجرتين وطريق السعادتين. بهذا العنوان سمّاه المؤلف في مدارج السالكين (1/ 156)، فقال: ". . . وذكرنا أيضًا في كتابنا المسمّى بـ (سفر الهجرتين وطريق السعادتين) ". وهذا العنوان هو الذي ذكره الصفدي (764 هـ) في الوافي (2/ 271) وأعيان العصر (4/ 369)، وابن تغري بردي (874 هـ) في المنهل الصافي (3/ 62). 2 - سفر الهجرتين في طريق السعادتين. هذا العنوان أيضًا ورد في كتاب مدارج السالكين (1/ 480) قال: ". . . ذكرناه في كتابنا المسمّى (سفر الهجرتين في طريق السعادتين) ". وغريب أن يختلف العنوان في كتاب واحد في موضعين متقاربين. 3 - سفر الهجرتين وباب السعادتين. ذكره تلميذه الحافظ ابن رجب (795 هـ) في ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (5/ 175). ومنه نقل ابن ناصر الدين (842 هـ) في الرد الوافر (68) والداودي (945 هـ) في طبقات المفسرين (2/ 92) ومرعي بن يوسف الحنبلي (1033 هـ) في الشهادة الزكية (34) وابن العماد (1089 هـ) في شذرات الذهب (3/ 169).
(المقدمة/16)
4 - سفر الهجرتين. بهذا سمّاه المؤلف في موضعين في مدارج السالكين (1/ 567) و (2/ 47). وهو ليس عنوانًا جديدًا، وإنما هو اختصار صالح للعناوين الثلاثة السابقة. وكذا ذكره السيوطي في بغية الوعاة (1/ 63). 5 - طرق السعادتين. وهذا أيضًا جاء على وجه الاختصار. ولكن الذي يلفت النظر أن "الطريق" صارت هنا "طرقًا"، وكذا سمّاه الحافظ ابن حجر (852 هـ) في الدرر الكامنة (3/ 402). وكلمة "طرق" -فيما يظهر- ليست تحريفًا في مطبوعة الدرر، بل كذا ورد في الأصل الذي بخط السخاوي. ثم كذا نقله الشوكاني (1250 هـ) منه في البدر الطالع (2/ 144). 6 - طريق الهجرتين وباب السعادتين. هذا العنوان ورد بخط المصنف مرتين في الأصل الذي اعتمدنا عليه في تحقيق هذا الكتاب: أولًا في صفحة العنوان، وثانيًا في مقدمة الكتاب التي قال فيها: ". . . وسميناه (طريق الهجرتين وباب السعادتين)، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم. . . ". ولعلّ الصيغ الثلاث الأولى التي ذكرها المؤلف ومعاصره الصفدي وتلميذه ابن رجب، كان المؤلف رحمه اللَّه يميّل رأيه بينها، ثم استقرّ على العنوان الأخير الذي أثبته في المقدمة وفي صفحة العنوان. وهذا العنوان هو الوارد في سائر النسخ الخطيّة إلّا نسختين لا يعوّل عليهما. إحداهما نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم الضويّان، وقد كتب
(المقدمة/17)
العنوان في الورقة الأولى: "كتاب سفر الهجرتين وباب السعادتين" مع أن العنوان المعروف هو الثابت في مقدمة المؤلف (ق 2/ ب)، فأخشى أن يكون ذلك من اجتهاد الناسخ. والنسخة الأخرى في مكتبة جامعة ليدن بخط حديث، وقد كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان هكذا: "سفر الهجرتين وطريق السعادتين أو طريق الهجرتين وباب السعادتين".
(المقدمة/18)
تاريخ تأليف الكتاب لم أجد في مخطوطات الكتاب أو غيرها نصَّا على التاريخ الذي فرغ المؤلف فيه من تأليف هذا الكتاب، ولكن أذكر فيما يلي بعض الإشارات التي تعين على تقديره. خرج الإمام ابن القيم رحمه اللَّه من السجن بعد وفاة شيخه فيه سنة 728 هـ. "وكان في مدة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن وبالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة. وتسلّط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم. وتصانيفه ممتلئة بذلك"، كما يقول تلميذه الحافظ ابن رجب في ترجمته (1). وإذا استعرضنا مؤلفات ابن القيم لم نجد كتابًا تصدق عليه كلمة ابن رجب هذه صدقها على كتابنا طريق الهجرتين وكتاب مدارج السالكين. فكلاهما وضع في علم السلوك، وهما يشهدان حقًا بما أوتي المؤلف من "تسلّط" على الكلام في العلوم والحقائق التي تنقطع عندها العبارة، وتجفو عنها الإشارة، كما يقول أصحابها. فالظاهر أن الكتابين من الكتب التي ألّفت بعد خروج المؤلف من السجن سنة 728 هـ. وقد تبيّن ممّا سبق أن طريق الهجرتين ألّف قبل مدارج السالكين لأن المؤلف قد أحال في المدارج أربع مرات على كتابنا هذا. ثم في طريق الهجرتين مبحث طويل في القدر، جاء على سبيل الاستطراد ولكنه طال جدًّا لأهميته البالغة. وللمؤلف كتاب مستقلّ في __________ (1) الذيل على طبقات الحنابلة (5/ 173).
(المقدمة/19)
هذا الموضوع، وهو "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل". فلو كان ألفه قبل طريق الهجرتين لأحال عليه في هذا، ولم يسهب ذلك الإسهاب. وهذا ينبئ بأن شفاء العليل ألّف بعد طريق الهجرتين. ويوجد في حاشية المؤلف على سنن أبي داود (12/ 315) بحث في القدر أيضًا، وهناك قال المؤلف: "وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والردّ على القدرية والمجوسية، فإذا هي تقارب خمسمائة دليل. وإن قدر اللَّه تعالى أفردت لها مصنّفًا مستقلًا، وباللَّه عزّ وجلّ التوفيق". وهذا الكتاب الذي نوى المؤلف تأليفه هو "شفاء العليل" المذكور. ومن حسن الحظ قد عرفنا تاريخ تأليف حاشية السنن، إذ نصّ المؤلف في خاتمته للكتاب أنه فرغ من تأليفه في مكة في آخر شوّال سنة 732 هـ. فلما جاء بحث القدر في طريق الهجرتين ولم يشر المؤلف إلى كتاب شفاء العليل ولا نيته لإفراد الموضوع بتأليف مستقلّ، وبدا له ذلك في أثناء تهذيب مختصر السنن والتعليق عليه الذي فرغ منه سنة 732 هـ = علمنا أن طريق الهجرتين ألّف قبل سنة 732 هـ. واللَّه أعلم.
(المقدمة/20)
مقصد الكتاب موضوع هذا الكتاب قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الشرعي الذي بينه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالمؤمن يجب عليه أن يوحد اللَّه بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأن يكون قدوته في ذلك هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيتبع هديه وشرعه ومنهاجه. وهذان الأمران: إفراد اللَّه بالعبادة، وإفراد الرسول بالمتابعة، هما المقصودان بالهجرتين في عنوان الكتاب. فيقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمته: "فله -يعني للمؤمن- في كل وقت هجرتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفَس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه. وكل عمل سواه، فعيش النفس وحظّها لا زاد المعاد". وقد عني المؤلف في كتبه ببيان أهمية الهجرتين في حياة المسلمين عناية بالغة، فتكلم عليهما في مواطن عديدة؛ لأنهما مضمون الشهادتين ومقتضاهما، ولا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. فقال في مدارج السالكين (2/ 520): "وللَّه على كل قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على [مدى] الأنفاس: هجرة إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية. وهجرة إلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تقيده به أعظم من تقيد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق. فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على
(المقدمة/21)
رأسه الرماد، وليراجع الإيمان من أصله، فيرجع وراء، ليقتبس نورًا قبل أن يحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور، واللَّه المستعان". وقد عقد فصلًا كاملًا في قصيدته النونية (870) بعنوان "فصل في تعيّن الهجرة من الآراء والبدع إلى سنّته، كما كانت فرضًا من الأمصار إلى بلدته -صلى اللَّه عليه وسلم-" يشتمل على 57 بيتًا، افتتحه بقوله: يا قوم فرضُ الهجرتين بحاله ... واللَّهِ لم يُنسخ إلى ذا الآنِ فالهجرة الأولى إلى الرحمن بالـ ... إخلاص في سرّ وفي إعلان إلى أن قال: والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالـ ... إسلام والإيمان والإحسان وفي رسالته التي بعث بها من تبوك إلى أصحابه بالشام، أفاض القول في بيان أهمية الهجرتين بأسلوب أدبي بليغ، وذكر أن الهجرة إلى اللَّه ورسوله فرض عين على كل أحد في كل وقت، وهي مطلوب اللَّه ومراده من العباد. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها. وبعد ما فسّر الهجرة إلى اللَّه قال: "والذي يُقضى منه العجب أنّ المرء يوسّع الكلام، ويفرّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة ربما لا تتعلق به في العمر أصلًا. وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس [فإنه] لا يحصل [فيها] علمًا ولا إرادة. وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له والاشتغال عما لا ينجيه غيره" (20 - 21). وأما الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فكلام المؤلف عليها في الرسالة
(المقدمة/22)
المذكورة ينطوي على تألم شديد لما آل إليه أمر المسلمين في عهده من إعراض عن سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، واشتغال بأفكار ومذاهب وبدع وعادات ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فقال: "وأمّا الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّة سفت عليها السوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها. فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش ممّا [به]، يستأنسون، مستأنس ممّا به يستوحشون. . . والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد" (21 - 22). ثمّ بين حدّ هذه الهجرة بقوله: "فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}. فكل مسألة طلعت عليها شمس الرسالة وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلّا فعدّه من أهل الريب والشبهات. فهذا هو حدّ هذه الهجرة" (23 - 24). فهذه الهجرة شاملة محيطة بحياة المؤمن كلها. فلا تخصّ جانبًا منها دون جانب، ولا يحتاج إليها في وقت دون وقت. وليست أهميتها في أحكام الفقه أكثر منها في مسائل الاعتقاد ومنازل السلوك ومقامات الإحسان. بل لها أهمية خاصة في وادي السلوك، فإن المقرر عند كثير من أصحابه أنّ الشرع فيه معزول، والعقل فيه معقول، والحكم فيه
(المقدمة/23)
للذوق والوجدان والكشف والإلهام، لا للشرع والحجة والبرهان. فالشريعة شيء، وأصحابها أصحاب الظاهر. والطريقة شيء، وأصحابها أصحاب الباطن. هذا علم الصدور، وذاك علم السطور. هذا علم اللبّ وذاك علم القشور. بل هذا العلم حجاب دون ذلك العلم. وبهذا التفريق المزعوم قد انفسح مجال الانحراف والضلال في علم السلوك الذي هو أهمّ العلوم، فإن سعادة الإنسان في الدارين منوطة به، وانفتح الباب لكل دخيل غريب، فتشعبت الطرق، وكثرت المزالق، ولا نهاية للترّهات بعد العدول عن قصد السبيل وسواء الصراط. فالهجرة الثانية -وهي الهجرة إلى ما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكتاب والسنة واتباعُه في كل منازل السلوك- هي التي توصل العبد إلى اللَّه، وتصونه عن الجور والانحراف، وتضمن له السعادة في الدنيا والآخرة. يقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمة هذا الكتاب: "ولما كانت السعادة دائرة نفيًا وإثباتًا مع ما جاء به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادته مقصورة على محابّه. وهذه أعلى همة شمّر إليها السابقون، وتنافس فيها المتنافسون. فلا جرم ضمنًا هذا الكتاب قواعد من سلوك طريق الهجرة المحمدية". فهذا هو مقصود الكتاب، ولكن كيف تناوله المؤلف، وما المباحث التي اشتمل عليها الكتاب؟ هذا سنبينه في الصفحات الآتية.
(المقدمة/24)
ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمّة قد رتب المؤلف رحمه اللَّه معظم كتبه على المنهج المألوف، فقسمها إلى أبواب أو فصول أو مسائل تقسيمًا محكمًا، وصرّح بعددها، وسرد عناوينها في مقدمة الكتاب؛ كما ترى في شفاء العليل، وإغاثة اللهفان، وروضة المحبين، وعدة الصابرين، وغيرها. وقد أشار إلى اجتهاده في الترتيب والتبويب في مقدمة كتاب حادي الأرواح إذ قال: "وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه. . . وقد قسمت الكتاب سبعين بابًا". ثم ذكر عناوينها كلها. أمّا كتابنا هذا فلم يرتبه ذلك الترتيب. بل اقتصر في مقدمته على الإشارة إلى مبحثين، وهما المبحث الأول والمبحث الأخير من الكتاب فقال: "وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه، وختمناه بذكر طبقات المكلفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاء. فجاء الكتاب غريبًا في معناه، عجيبًا في مغزاه. . . ". وهذه نظرة في البناء العام للكتاب: 1 - خطبة الكتاب (5 - 11). 2 - "فصل" في الفقر والغنى (12 - 115). 3 - "قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس، بل وإلى الروح التي بين جنبيه" في كون اللَّه سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه. (116 - 346).
(المقدمة/25)
4 - "قاعدة" في أن كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين (347). 5 - "قاعدة" في الابتلاء (348 - 349). 6 - "قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب" (350 - 372). 7 - "قاعدة" في الإنابة ودرجاتها (373 - 376). 8 - "قاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال" (377 - 382). 9 - "قاعدة شريفة" في أن الطريق إلى اللَّه واحد (383 - 396). 10 - "قاعدة" في أن السير إلى اللَّه لا يتم إلا بقوتين علمية وعملية (397 - 402). 11 - "قاعدة نافعة" في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة، ووصف أحوالهم (403 - 760). 12 - "فصل في مراتب المكلّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمان عشرة طبقة" (761 - 931). ونلاحظ هنا أن المؤلف لم يذكر موضوع الفصل أو القاعدة إلّا في ثلاثة مواضع (6، 8، 12). وفي غيرها اكتفى بكلمة "فصل" أو "قاعدة" أو "قاعدة شريفة" أو "قاعدة نافعة". أما حجم هذه القواعد، فالقاعدة الأولى جاءت في 230 صفحة، والقاعدة الأخيرة في 357 صفحة. وبين هاتين القاعدتين الكبيرتين سبع
(المقدمة/26)
قواعد لطيفة تراوح حجمها بين 6 أسطر و 22 صفحة. والقواعد التسع وقعت بين فصلين استغرق أحدهما 104 صفحة والآخر 170 صفحة. وتحت كل فصل وقاعدة -إلّا القواعد القصار- فصول كثيرة تطول أو تقصر حسب مقتضى الكلام. هذا البناء العام للكتاب قد انطوى على عدد كبير من المباحث العظيمة والمطالب الشريفة والمسائل المشكلة، يستحق بعضها أن يفرد بالتأليف، وبعضها إذا استخرج من هذا الكتاب صار رسالة مستقلة في موضوعها. ونشير هنا بصفة خاصة إلى مبحثين عظيمين، قد وردا في الظاهر عرضًا، ثم استتبع الكلام عليهما مسائل أخرى، وسيقف القارئ من خلال عرضهما على بعض طرائق المؤلف رحمه اللَّه في التأليف. 1 - مبحث في القضاء والقدر: هذا المبحث الذي جاء استطرادًا استغرق نحو 210 صفحة (137 - 346)، ومن المعلوم أن للمؤلف كتابًا مفردًا في هذا الموضوع كما سبق، ولكن الظاهر أنّه لم يكن ألفه إلى ذلك الحين، وإلّا لأحال عليه، وأوجز الكلام على المسألة حسب الاقتضاء. فلننظر كيف تطرق الحديث إلى هذا الموضوع؟ ذكر المؤلف في أحد فصول القاعدة الأولى أن الإنسان ليس عالمًا بمصلحته ولا قادرًا عليها، واللَّه تعالى هو الذي يعلم ويقدر، ويحب الجود والبذل، ويعطي من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة، فإذا حبس فضله عن الإنسان فهناك أمران لا ثالث لهما. وذكر الأمر الأول وهو أن يكون الإنسان نفسه واقفًا في طريق مصالحه ومعوقًا لوصول فضله إليه. فإن نعمة اللَّه لا تنال إلا بطاعته ولا تستدام إلا بشكره، فآفته من نفسه
(المقدمة/27)
وبلاؤه منه. ثم قال (137): "فإن أصررت على اتهام القدر وقلت: فالسبب الذي أُصبتُ به وأُتِيتُ منه ودُهيت منه قد سبق به القدر والحكم، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بدّ منه على الرغم منّي. . . ". وهكذا فتح المؤلف لنفسه بابًا واسعًا للكلام على القدر. فأورد على لسان هذا المحتج بالقدر ما جاء في إثبات القدر من الآيات والأحاديث والآثار. ولما اختلفت الروايات في وقت كتابة المقدور للجنين عقد فصلًا في الجمع بينها، ثم عاد إلى سرد الأحاديث الأخرى في إثبات القدر. وبعدما فرغ من ذلك شرع في الردّ على الذي احتج بالقدر فقال (178): "فالجواب أن ههنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك. زلّت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء. . . ". فهذا الجواب في ص (178) عن قوله: "فإن أصررت على اتهام القدر. . . " الذي سبق في ص (137). وقد ذكر في مقام الضلال حكايات وأقوالًا للمحتجين بالقدر من خصماء اللَّه، ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن القدرية المذمومين في السنة وعلى لسان السلف ثلاث فرق: القدرية النفاة، والقدرية الإبليسية، والقدرية المشركية. وذكر أن أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين، وأن الناس تفرقوا في الكلام على هذه الآيات أربع فرق، وبيّن مذاهبها. ثم ذكر مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة، وأوضح صلة القدر بالقدرة والعلم والحكمة وقال (199): "فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة".
(المقدمة/28)
وهنا واجه مسألة كبيرة أخرى من المعضلات، قد أشكلت على الفلاسفة وغيرهم من أصحاب الديانات والمقالات قديمًا وحديثًا، فخبطوا فيها خبط عشواء. هي مصدر الشرّ الموجود في العالم وحكمة خلق الأضداد. فناقش المؤلف هذه المسألة من وجوه مختلفة، وأعاد فيها وأبدأ ذاكرًا مذاهب الناس في دخول الشر في القضاء الإلهي، والأصول التي تفرّعت عنها تلك المذاهب، وفي أثنائها تعرض لمسألة إيلام الأطفال والبهائم. وفي الأخير نقل فصلًا لفخر الدين الرازي في هذه المسألة من كتابه المباحث المشرقية، وعقّب عليه. وقد اتضح من هذا العرض المقتضب لمسألة القضاء والقدر وما يتصل بها كيف تطرق الكلام إليها، ثم اقتضى خطرها وكثرة التنازع فيها أن يتوسع في مناقشتها. ولعلك تذكر قول المؤلف في بداية الفصل أن اللَّه سبحانه لا يحبس فضله عن الانسان إلا لأمرين، وأنه ذكر الأمر الأول الذي قاده إلى هذه المسألة العظيمة الواسعة الأطراف، فذهب عليه مع استطالة الكلام أن يذكر الأمر الثاني. وهذا الموضع ومواضع أخرى تدلّ على أن المؤلف رحمه اللَّه لم يتمكن من إعادة النظر في الكتاب بعد تسويده. 2 - نقد كتاب محاسن المجالس لابن العريف في علل المقامات أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف من أكابر صوفية الأندلس. ولد في المرية، ومات في مرّاكش. كانت له عناية بالقراءات ومشاركة في عدة علوم. وكان أديبًا شاعرًا، وكانت بينه وبين القاضي عياض مكاتبات حسنة (1). وله كتاب __________ (1) وفيات الأعيان (1/ 168 - 169).
(المقدمة/29)
في علل المقامات سمّاه "محاسن المجالس". وقد نشره المستشرق الإسباني آسين بلاسيوس في باريس 1933 م. وعن هذه النشرة أعاد نشره نهاد خياطة في مجلة المورد العراقية (المجلد 19 العدد 4 سنة 1980) وجاء النص فيها في 25 صفحة. فهو كتاب لطيف. وقد ذكر شيخ الإسلام أنه اعتمد فيه على كتاب "علل المقامات" للشيخ الهروي، فقال في كلام له على التوكل: "فقد تبيّن أنّ من ظنّ التوكل من مقامات عامّة أهل الطريق فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشايخ كصاحب "علل المقامات"، وهو من أجل المشايخ. وأخذ ذلك عنه صاحب "محاسن المجالس"" (1). ويؤكد ذلك المقارنة بين محاسن المجالس ومنازل السائرين. ونذكر هنا مثالًا واحدًا من فصل الرجاء. قال صاحب المنازل: "الرجاء أضعف منازل المريدين، لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه. وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة إلا ما فيه من فائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة، ودخل في مسالك المحققين. وتلك الفائدة هي كونه يبرّد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس". ثم ذكر درجاته حسب طريقته (2). وقال صاحب المجالس: "وأما الرجاء فهو من منازل العوام. وهو انتظار غائب وطلب مفقود، وهو من أضعف منازل القوم في هذا الشأن؟ لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه آخر. وهو وقوع في الرعونة. ولفائدة واحدة نطق بها التنزيل فقال تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} __________ (1) مجموع الفتاوى (10/ 35). (2) مدارج السالكين (2/ 56).
(المقدمة/30)
يريد على العوض من أجر المجاهدة. وقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}، ووردت به السنة لفائدة واحدة، وهي تبريد حرارة الخوف لئلا يفضي بصاحبه إلى اليأس والقنوط. فهو دواء لمرض الخوف، ولا يعرض ذلك المرض إلّا لعوام هذه الطائفة. . . ". فالنصان متفقان في الفكر وكثير من الألفاظ والتعبيرات، مع أنه ليس بين أيدينا كتاب علل المقامات للهروي، وإنما نقلنا كلامه من منازل السائرين. وقد ذكر ابن عبد الهادي أنّ لشيخ الإسلام "قاعدة على كلام ابن العريف في التصوف" (1) ولا نعرف خبرًا عن هذه القاعدة، ولا ندري أتكلم فيها على كتابه محاسن المجالس هذا أم على غيره. يشتمل كتاب المحاسن على فاتحة، و 13 فصلًا، وخاتمة في أربعين كرامة يكرم اللَّه بها أولياءه في الدنيا والآخرة. والفصل الأول في المعرفة والعلم، ثم عشرة فصول في الإرادة، والزهد، والتوكل، والصبر، والحزن، والخوف، والرجاء، والشكر، والمحبة، والشوق. وجعلها جميعًا من منازل عوام السالكين، وقرّر أنها علل أنِف الخواص منها. ثم عقد الفصل الثاني عشر في منازل الخاصة، وذكر فيه حقيقة زهدهم وتوكلهم وصبرهم. . . " إلى آخر المقامات. والفصل الثالث عشر في النظر إلى اللَّه تعالى. لم يتعرض ابن القيم للفصلين الأول والثالث عشر ولا للخاتمة. __________ (1) العقود الدرية (1/ 57).
(المقدمة/31)
وإنما تكلم على الفصول التي بين الفصلين المذكورين. لأن غرضه -وهو الكلام على علل المقامات- كان متعلقًا بها. وقد استغرق الكلام عليها نحو 280 صفحة من نشرتنا هذه، أي نحو ثلث الكتاب. فهو بمنزلة رسالة مستقلة في نقد كتاب ابن العريف. وإذا كان المبحث السابق وهو القضاء والقدر وما إليه قد يشعر القارئ باستطالته مع خطره وجلالته، وبأن ابن القيم رحمه اللَّه لو كان ألّف كتابه الكبير من قبل لأحال عليه وأوجز القول هنا، كما فعل في حاشيته على السنن = فإن هذا المبحث -وهو علل المقامات- قد وقع في حاقّ موضعه، وهو من صميم موضوع الكتاب. وذلك لأن هذه المقامات هي مقامات السلوك ومنازله، فيجب على السالك أن يعرف عللها وقوادحها، فيتجنبها ويتحاشاها، لينجح مسعاه ويحمد مسراه. ومن المصائب أن جميع المقامات التي ذكرت في الكتاب والسنة، ووصف بها الأنبياء وغيرهم من عباد اللَّه الصالحين قد جعلها أرباب الطرق معلولة ومن مقامات العوامّ من السالكين. ومراتب الخاصة فوقها، ثم مراتب خاصّة الخاصّة. فلم يكن محيص من التعرض لهذه العلل في هذا الكتاب الذي قصد به بيان قواعد السلوك الشرعي. وكان من السهل أن يعقد ابن القيم رحمه اللَّه بابًا كاملًا في علل المقامات، ولكنه لم يفعل، بل جاء كلامه عليها عرضًا في الظاهر، كأنه لم يصمد إليها صمدًا، ولم يكن ذلك من همّه ووكده. ولعل هذا رفق منه بقارئ كتابه، وتلطف وإيناس له، لكيلا يستوحش من البداية، فينفر نفورًا. فلننظر كيف دلف ابن القيم إلى هذا البحث النفيس الخطير. عقد ابن القيم فصلًا (403) بعنوان "قاعدة نافعة"، وذكر أن الإنسان
(المقدمة/32)
من حين استقرت قدمه في الدنيا فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له. والناس في سفرهم هذا إما مسافرون إلى دار الشقاء وإما إلى دار السلام. والسائرون إلى دار السلام ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار ومقربون. ثم عقد فصلًا في مسألة أن أصحاب اليمين هل هم الأصناف الثلاثة (المقتصدون والأبرار والمقربون) أو يدخل فيهم الظالمون لأنفسهم أيضًا. وفصّل القول فيها على طريقته من ذكر خلاف العلماء وأدلتهم وردودهم في نحو 32 صفحة، ثم رجع فقال: "والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول. . . " (441). ثم وصف حال الأصناف المذكورة، وأفضلها وأعلاها: السابقون المقربون. وقد تواضع ابن القيم فاعتذر واستغفر قبل وصف حالهم قائلًا: "وأما السابقون المقربون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة" (446). وبعد ذكر هذه الفوائد شرع في وصف حالهم من الجهتين: جهة الإرادة والعمل، وجهة العلم والمعرفة. فلما وصف حالهم مع الأقدار التي تصيبهم بغير اختيارهم بأنهم يقابلونها بمقتضاها من العبودية ذكر أنهم فيها على ثلاث مراتب: إحداها الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. والمرتبة الثانية شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها، ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، والمرتبتان لأهل هذا الشأن.
(المقدمة/33)
والثالثة للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته. ثم قال: "فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته، وأوسطها، وآخرها. فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر في مرتبته، بل الصبر معه، وبه يتحقق الرضا والشكر، لا تصور ولا تحقق لهما دونه. وهكذا كل مقام مع الذي فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب. فإن المقام الأول لا ينعدم بالترقي إلى الآخر. . . وإنما يندرج حكمه في المقام الذي هو أعلى منه" (477). ولما وصل هنا قال: "فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه يزُل عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات، وتعلم أن دعوى المدعي أنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين". وبعد ذكرهما قال: "ولنذكر لذلك أمثلة". وهذا هو المدخل لنقد كتاب ابن العريف، فذكر المثال الأول في الإرادة وقال: إن اللَّه جعلها من منازل صفوة عباده، وقالت طائفة: "الإرادة حلية العوام. . . " (479). ونقل كلامًا طويلًا لابن العريف من كتابه محاسن المجالس ولكن لم يسمّه هنا، بل جعله قول "طائفة" لأن المقصود نقد مذهب، لا نقد شخص بعينه. ثم تكلم عليه من اثني عشر وجهًا. وفي الفصل الثاني ذكر المثال الثاني وهو في الزهد وهنا فجأة قال: "قال أبو العباس رحمه اللَّه" (492). ولكن من أبو العباس هذا؟ لا يعرف القارئ شيئًا عنه إلى أن يصل بعد استطرادات مهمة إلى ص (545). فيجده يقول: "ولنرجع الآن إلى المقصود، وهو الكلام على ما ذكره أبو العباس ابن العريف في علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه في علة مقام الإرادة والكلام عليه، وذكرنا كلامه في مقام الزهد وقوله إنه من مقامات
(المقدمة/34)
العامة، وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه، هذا آخر الوجه الثاني منها. والوجه الثالث: ... ". وهكذا تكلم ابن القيم على فصل فصل من كتاب محاسن المجالس حتى إذا وصل إلى فصل المحبة قال: "والمقصود: الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطأ وصواب. ولما كان أبو العباس ابن العريف رحمه اللَّه قد تعرض لذلك في كتابه "محاسن المجالس" ذكرنا كلامه فيه وما له وما عليه. ثم ذكر بعدها فصلًا في المحبة وفصلًا في الشوق، فنذكر كلامه في ذلك وما يفتح اللَّه به تتميمًا للفائدة، ورجاء للمنفعة وأن يمنّ اللَّه العزيز الوهاب بفضله ورحمته، فيرقي عبده من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف، إنه قريب مجيب" (639). فانظر كيف تدرّج ابن القيم رحمه اللَّه بقارئه، فقال له أولًا: إنه سيذكر أمثلة من علل المقامات، وذكر مثال الإرادة، ونقل (479) كلام "طائفة" (وهو فصل من كلام ابن العريف). وفي المثال الثاني قال (492): "قال أبو العباس". وفي المثال الثالث زاد في تعريفه، فقال (545): "أبو العباس بن العريف". وبعد المثال السادس ذكر (639) مع اسمه اسم كتابه أيضًا، فجاءت الإحالة إحالة كاملة. فهل هذا اتفاق أو أسلوب من أساليب التأليف عند ابن القيم رحمه اللَّه؟ أراني أميل إلى الأمر الثاني. ولعلّ تطرّقه في كتاب "مدارج السالكين" إلى شرح "منازل السائرين" للهروي ونقده أيضًا من هذا. وبقي سؤال، وهو أنّ ابن العريف قد اعتمد في كتابه على كتاب علل المقامات للشيخ الهروي كما ذكر شيخ الإسلام. وقد أشار إليه ابن القيم أيضًا في مدارج السالكين حينما نقل كلام ابن العريف -دون تسميته- في
(المقدمة/35)
التوكل نموذجًا لكلام هذه الطائفة في علل المقامات، وردّ عليه، ثم قال (3/ 471) "وهكذا الكلام في سائر علل المقامات، وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها، وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنّفا لطيفا وجعل غالبها معلولًا". فلماذا اختار ابن القيم للنقد والنقض كتاب ابن العريف، وترك كتاب الهروي الذي هو الأصل؟ يبدو أن ابن القيم لم يقف على كتاب الهروي لا سيما عند تأليفه طريق الهجرتين ومدارج السالكين.
(المقدمة/36)
أهمية الكتاب تكمن أهمية هذا الكتاب بالدرجة الأولى في أمرين معًا، وهما: موضوعه، ومؤلفه. فالموضوع -كما سبق- بيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الذي شرعه اللَّه ورسوله، لأن سعادة العبد في الدارين منوطة بهذا السير المستقيم. ولكن الموضوع متداول مطروق في كتب الصوفية، وكلهم يزعم أن القواعد التي يذكرها مؤسسة على الكتاب والسنة. وهنا يكتسب الكتاب أهميته من الأمر الثاني وهو أنه من تأليف إمام ربّاني يصدر في كل مسألة عن كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو مع تمسكه الشديد بالكتاب والسنة مطلع على كتب القوم، عارف بغوامضها، قادر على الخوض في دقائقها، ذائق لأحوال السالكين، مشرف على مقامات العارفين، ومن الزهد والورع والتعبد والتألّه في مكان مكين. هذا إلى العدل والنصفة في النقد والحكم، وعدم التحيز إلى فرقة أو حزب أو مذهب. فكون هذا الكتاب في بيان قواعد السلوك المحمدي، ومن تأليف الإمام ابن القيم رحمه اللَّه هو الذي أضفى عليه أهمية بالغة. والحقيقة أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما اللَّه في تزكية النفس وطب القلوب لتؤلف "منظومة" لا نظير لها في المكتبة الإسلامية. أمّا المباحث الجليلة التي اشتمل عليها الكتاب فقد سبقت الإشارة إلى أهمية بعضها في الفقرة السابقة. وقد نبّه المؤلف نفسه رحمه اللَّه -نصحًا لقارئ كتابه وشفقة عليه- على أهمية بعض المباحث، نحو قوله خلال الكلام على طبقات المكلفين في الدار الآخرة: "ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقات إلا من عرف ما في كتب الناس، ووقف على
(المقدمة/37)
أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى نهاية مرامهم ونهاية إقدامهم" (902). هكذا في فصل التوكل ختم بيانه لسرّ الاقتران بين التوكل والهداية والحق في القرآن الكريم بقوله: "فتدبّر هذا السر العظيم في اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى، وارتباط أحدهما بالآخر. ولو لم يكن في هذه الرسالة إلّا هذه الفائدة السَّرِيَّة لكانت حقيقة أن توح في خزانة القلب لشدة الحاجة إليها" (561). والمباحث التي وردت في غضون الكلام استطرادًا، قد نبّه المؤلف رحمه اللَّه على أن أهميتها هي التي اقتضت تناولها، بل كان بعض المباحث المعترضة أهم من المبحث الأصلي. فقال في موضع: "ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده -من ذكر مجرد الطبقات- لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم" (811). ولما عاد إلى المقصود بعد بسط الكلام على آيات الإنفاق من سورة البقرة قال: "ولنعد إلى المقصود، فإن هذا من سعي القلم، ولعله أهم مما نحن بصدده" (824). ولقد أحسن المصنف رحمه اللَّه إذ توقف عند هذه المباحث المهمة وتناولها بالبسط، فهذا الاستطراد ينفع القارئ بعض الأحيان نفعًا عظيمًا. فقد حفظ بفضله كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما في كثير من المسائل العظيمة. ومع ذلك لا يظن القارئ أن المؤلف رحمه اللَّه كان زمامه بيد الاستطراد يقوده أنّى شاء. فإذا كانت المسألة تقتضي كلامًا مستفيضًا متشعبًا يكتفي المؤلف بالإشارة إليه ولا يخوض فيه. ومن ذلك أنه لما
(المقدمة/38)
ذكر من أصول المعتزلة "النبوة" قال: "مع أنهم لم يوفوها حقّها، بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها" (836). وهكذا لما ذكر مذاهب الفرق في الطبقة التي رجحت سيئاتها على حسناتها قال: "ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبيّنا تناقض أهلها" (845). وفي تفسير آيات الإنفاق لما وصل إلى آية الدين قال: "ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها". (823).
(المقدمة/39)
موارد الكتاب بالإضافة إلى نصوص القرآن والأحاديث والآثار، يتضمن الكتاب نقولًا من كتب التفسير والحديث والتصوف، وأقوالًا وأشعارًا ومذاهب واحتجاجات لأصحاب المقالات ورجال الفرق. فلا شك أن المصنف رحمه اللَّه كان بين يديه عدد كبير من المصادر التي وقف عليها، منها ما وصل إلينا، ومنها ما لم يصل، وبعض ما وصل ليس بين أيدينا، فليس من السهل أن يكشف عنها جميعًا. ثم لم يكن من منهج العلماء عمومًا التزام الإحالة في كل ما يوردونه في مصنفاتهم من أقوال ومذاهب. ثم المصادر في زمنهم كانت متوافرة، وكثير من تلك الأقوال والمذاهب معروفة لأصحابها، والثقة بالناقل قائمة، فكأنّهم كانوا يرون من التكلف كلّما ذكر مؤلف قولًا من الأقوال أن يصرّح باسم الكتاب الذي نقله منه، بل قد لا يرى داعيًا إلى تسمية القائل نفسه فضلًا عن مصدر قوله، بل قد يتعمد إغفال اسمه لأمر ما. ولنضرب مثالًا من كتابنا هذا، ليتضح القصد. عقد المؤلف رحمه اللَّه فصلًا في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى (96 - 105) أورد فيه أكثر من عشرين كلمة للمشايخ مع التعليق عليها. وهذه كلها مأخوذة من كتاب واحد، وهو الرسالة القشيرية، ولكن لم يشر المؤلف إليها. نعم ذكر في موضع الأستاذ أبا القاسم القشيري، ولكن لا لبيان مصدر الأقوال، بل لأن أبا القاسم علق على كلمة للمظفر القرميسيني، ورأى المؤلف أن في الكلمة شطحًا وفي التعليق غموضًا وخلطًا، مما يستوجب التعقيب، فعقّب عليهما وأبان وجه الصواب. فنلاحظ هنا أن ابن القيم رحمه اللَّه لم يشر إلى مصدر الأقوال لأن غرضه
(المقدمة/40)
كان متعلقًا بالأقوال نفسها، وقد نقلها من مصدرها بأمانة تامة. أما تعليق أبي القاسم فكان بإمكان ابن القيم أن يحيل هنا على رسالته أيضًا، ولكنه لم يفعل، وذلك فيما يبدو نظرًا لشهرة الرسالة، وثقةً بفطنة القارئ. وبعد، فهما طريقان مألوفان للإشارة إلى المصادر، فيصرح حينًا باسم الكتاب، وحينًا آخر يسمّى صاحب الكتاب دون كتابه، وبعض الأحيان يغفل الإحالة. وقدّمنا هذا التنبيه لكيلا يظن القارئ أن الموارد التي سنشير إليها في هذا المبحث هي كل موارد الكتاب أو جلّها، فإنّ الناظر في الكتاب يكاد يجزم أن ما لم يذكر هنا يبلغ عدده أضعاف ما ذكر. هذا، وربما استفاد المؤلف بعض النقول بواسطة. ونذكر أولًا أسماء الكتب المذكورة في المتن ثم أسماء المؤلفين الذين لم تذكر كتبهم، ثم نقول المؤلف عن شيخه ابن تيمية رحمه اللَّه. * أولًا: الكتب أثبتنا بجانب اسم الكتاب أرقام الصفحات التي نصّ فيها على اسمه. ولمعرفة المواضع الأخرى التي نقل فيها عن مؤلفه دون تسمية كتابه المذكور، يراجع فهرس الأعلام. - تفسير ابن مردويه (262، 428، 437). - تفسير منذر بن سعيد (414). - خلق أفعال العباد للبخاري (295). - الرد على الجهمية للإمام أحمد (771).
(المقدمة/41)
- السنة للطبري (149). - السنن الأربعة (165). - سنن الترمذي (166، 168، 170، 541، 626، 686، 784، 920). لم يسمّ المؤلف كتاب الترمذي، ولكن قوله الترمذي بمنزلة تسمية كتابه، وهكذا في كتب الحديث الأخرى. - سنن أبي داود (164). - السنن الكبرى للنسائي (444، 721، 741). - سنن ابن ماجه (162، 164). - الصحيحان (148، 149، 150، 155، 162، 163، 165، 687، 842، 860، 873). - صحيح البخاري (162، 163، 203، 462، 619، 782، 806، 850، 852، 910). - صحيح مسلم (139، 146، 147، 148، 150، 155، 170، 384، 535، 539، 624، 856، 863). - صحيح الحاكم (124). - صحيح ابن حبان (124، 578، 843، 846). - صحيح أبي عوانة (844). - كتاب القدر لأبي داود (151).
(المقدمة/42)
- كتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا (669). - كتاب نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا للدارقطني (464). - الكشاف للزمخشري (414). - المباحث المشرقية للرازي (334). - محاسن المجالس لابن العريف (639). - مستخرج البرقاني على البخاري (853). - مسند أحمد (15، 123، 150، 170، 522، 550، 578، 721، 784، 847، 848، 865). - مسند إسحاق بن راهويه (866). - المعجم الكبير للطبراني (263). - مقالات الإسلاميين للأشعري (872، 912). - منازل السائرين للهروي (74، 585، 701، 714، 729). والجدير بالذكر أنّ نسخة "منازل السائرين" التي رجع إليها ابن القيم هذا الكتاب غير النسخة التي اعتمد عليها في كتاب "مدارج السالكين". * ثانيًا: المؤلفون - البغوي (914). كثيرا ما يعتمد المؤلف على تفسير معالم التنزيل للبغوي، فهناك مواضع أخرى لم يصرّح بنقله عنه، كما سنرى في الحواشي.
(المقدمة/43)
- البيهقي (867، 869، 870، 873). النقل في المواضع الثلاثة الأولى من كتاب الاعتقاد. - الثعلبي (535): الكشف والبيان. - الحاكم (832). يجوز أن تكون الإحالة على معرفة علوم الحديث أو المستدرك. - ابن حزم (840): الدرَّة فيما يجب اعتقاده. - الدارمي (384): نقض الدارمي على بشر المريسي. - الرماني (414). يظهر من السياق أن الإحالة على تفسيره. - الزجّاج (229، 534، 779، 914). نقل قوله في الموضع الأخير من تفسير البغوي، ولعل المواضع الأخرى أيضًا منقولة بالواسطة. - الطبري (145، 148، 167، 169، 171). الظاهر أن هذه النقول كلها ماخوذة من كتاب السنة له، وقد صرّح باسمه في ص (149) كما سبق. - ابن عبد البرّ (841، 872). النقل من الاستذكار، وقد صرّح باسمه في أحكام أهل الذمة (872). - عبد الحق الإشبيلي (866، 869): كتاب العاقبة.
(المقدمة/44)
- أبو عبد الرحمن السلمي (727). - ابن عطية (535): المحرر الوجيز. - الفريابي (440). لعلّ النقل من تفسيره. - ابن قتيبة (859). الظاهر أن النقل من غريب الحديث، والمطبوعة ناقصة، ولكن قد يكون مصدر قوله "الرد على ابن قتيبة للمروزي". - المهدوي (535). لعلّ النقل من تفسيره. - ابن وهب (152، 154، 167): كتاب القدر. - ابن وضاح (772): البدع والنهي عنها. - القاضي أبو يعلى (846). * ثالثًا: النقول عن شيخ الإسلام إنّ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه يغرفان جميعًا من ينبوع واحد، ومنهجهما واحد في تقويم الأقوال والآراء ووزنها بميزان الكتاب والسنة دون التعصب لشخص أو مذهب. ثم من طول الملازمة والمذاكرة والموافقة امتزجت الأفكار وتشابهت العبارات، وكادت تتحدّ بعض الأحيان. وقد يتناول ابن القيم قاعدة من قواعد شيخ الإسلام ويفسرها ويبسط الكلام عليها من غير أن يشير إلى أن أصلها من كلام شيخه، ولا عجب
(المقدمة/45)
في ذلك، فهو حامل علمه وناشره وشارحه. وكذلك بعض أقوال الشيخ وآرائه يعزوها إليه حينًا، ويغفل العزو حينا آخر. ومن ثم يجب على من يريد دراسة أفكار ابن القيم في موضوع من الموضوعات أن يستوعب النظر في مؤلفات شيخه أيضًا. ذكر ابن القيم شيخه في هذا الكتاب في عشرة مواضع. أورد في موضعين (12، 186) ثلاثة أبيات من تائيته. وفي موضعين (328، 518) ذكر كتابه "موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح" وأثنى عليه. وفي موضعين آخرين (184، 658) نقل مناظرة له مع بعض شيوخ الجبرية حكاها له. وفي (849) نقل حكمه على حديث بأنه باطل موضوع. وفي المواضع الأخرى (200، 214، 534) نقل أقوال شيخه في بعض المسائل. أما النصوص التي هي لشيخه بدليل وجودها في كتبه أو أن ابن القيم نفسه عزاها إليه في كتاب آخر له، فمنها أنه ذكر في (29) قول المسيح للحواريين: "إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين" وفسّره واستدل كذلك بقراءة لأبي بن كعب، من غير إشارة إلى شيخه. ولكن في مدارج السالكين (3/ 34) نقل ذلك كله عن الشيخ. ومنها أنه لما فسّر "العزيز" من أسماء اللَّه سبحانه بأن العزة تتضمن القوة قال: "يقال: عز يعَز -بفتح العين- إذا اشتدّ وقوي. ومنه الأرض العزاز للصلبة الشديدة. وعز يعز -بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه. وعز يعُز -بضم العين- إذا غلبَ وقهر. فأعطوا أقوى الحركات -وهي الضمة- لأقوى المعنى، وهو الغلبة والقهر للغير. . . " (231). ونحوه في مدارج السالكين (3/ 238) وجلاء الأفهام (147) أيضًا، ولكن السياق في جلاء الأفهام يدلّ على أنه من كلام شيخ الإسلام، إذ قال فيه:
(المقدمة/46)
"ثم ذكر لي فصلًا عظيم النفع في التنالسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى. . . فيقولون: عز يعَز بفتح العين إذا صلب. وأرض عزاز: صلبة. . . " ونجد الفكرة بعينها مع تفسير الكلمة على هذا الوجه في منهاج السنة (3/ 325). ومنها القاعدة الأولى بعد باب الفقر والغنى، التي عنوانها: "قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. . . ". وخلاصتها أن اللَّه عز وجل هو المعبود المطلوب المحبوب وحده، وهو المعين للعبد على حصول مطلوبه، وهو معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فقد بنى ابن القيم كلامه في هذه القاعدة إلى أول الفصل الثالث (116 - 133) على كلام شيخه، ونقل معظمه بنصه مع بسطه. وكذا فعل في الباب السادس من كتابه إغاثة اللهفان (70 - 96)، ولكنه رتبه هناك على نحو آخر، ولم يشر هنا ولا في الإغاثة إلى شيخ الإسلام. وكلام الشيخ في مجموع الفتاوى (1/ 21 - 33). ولا أستبعد أن يكون نقد ابن القيم لكتاب ابن العريف في علل المقامات مبنيًا على قاعدة الشيخ المذكورة في مؤلفاته، وقد سبقت الإشارة إليها. وفي آخر هذه الفقرة نشير إلى موضعين في تفسير قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد". ذكر في الموضع الأول (240) أن قوله: "ملء ما شئت من شيء بعد" يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه
(المقدمة/47)
اللَّه بعد السماوات والأرض، والثاني أن يكون المعنى: ملء ما شئت من شيء ويقدّر مملوءًا بحمدك، وإن لم يكن موجودًا. ثم أورد وجوهًا تقوي المعنى الأول. وختم الوجه الثاني في المسوّدة (41/ أ) بقوله: "هذا تقرير شيخنا. قلت: وفيه نظر، إذ قوله: "وملء ما شئت من بعد" يحتمل بعدية الزمان وبعدية المكان المغايرة، أي ما شئت غير ذلك. والبعدية مستعملة فيهما". ثم ضرب على هذه العبارة، فبقي تقرير الوجه الثاني دون إشارة إلى أنه من كلام شيخ الإسلام، ودون التعقيب عليه. وفي الموضع الثاني (242) ذكر المؤلف اختلاف الناس في معنى كون حمد اللَّه سبحانه يملأ السماوات والأرض وما بينهما، وأن طائفة ذهبت إلى أن ذلك على وجه التمثيل. ثم كتب في مسودته (41/ أ): "وكان شيخنا رحمه اللَّه يرى أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف، بل الحمد يملؤها حقيقة". ثم ضرب على هذه العبارة واستكمل استدلال الطائفة الأولى، ثم قال: "والصواب أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإن ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوء". ثم أورد استعمالات وشواهد عديدة ليخلص إلى أنه حقيقة في بابه.
(المقدمة/48)
طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته أوّلًا: طبعه وتحقيقه: صدر طريق الهجرتين لأول مرة سنة 1320 هـ في القاهرة من المطبعة الميمنية. وعلى هذه الطبعة اعتمدت طبعة المنيرية ثم طبعة السلفية مع زيادة تعليقات وتحسينات. ثم عن هذه الثلاث وبخاصة عن السلفية صدرت معظم الطبعات، وإن ادّعت بعضها الاعتماد على نسخة خطية. ونذكر فيما يلي الطبعات التي وقفنا عليها: - طبعة المطبعة الميمنية على حاشية إغاثة اللهفان، بتصحيح محمد الزهري الغمراوي. صدرت في شعبان 1320 = 1902 م. عدد صفحاتها 4+ 423. والنسخة التي وقفت عليها ضاعت خاتمتها، فلا أدري أأشير في آخرها إلى المخطوطة التي اعتمد عليها في نشرها أم لا. - طبعة إدارة الطباعة المنيرية. كتب على غلافها: "عنيت بتصحيحه والتعليق عليه للمرة الأولى سنة 1357 هـ إدارة الطباعة المنيرية". وفي آخرها: "تم طبعه في ربيع الآخر سنة 1358 هـ. وهي في 567 صفحة بالإضافة إلى فهرس الموضوعات المرقم بحروف المعجم. - طبعة المكتبة السلفية بعناية الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه اللَّه. ووقف على طبعها يوسف بن عبد العزيز النافع. صدرت سنة 1375 هـ = 1955 م في 432 صفحة. والطبعة الثانية منها صدرت سنة 1394 هـ = 1974 م. - طبعة إدارة الشؤون الدينية في الدوحة (قطر) سنة 1397 هـ = 1977 م (عن ط السلفية) بتحقيق ومراجعة الشيخ عبد اللَّه بن إبراهيم
(المقدمة/49)
الأنصاري رحمه اللَّه في 744 صفحة. - طبعة مكتبة النهضة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة سنة 1399 هـ = 1979 م. قام بتصحيحها محمود غانم غيث (عن ط المنيرية) في 624 صفحة. - طبعة دار الكتب العلمية في بيروت، سنة 1416 هـ، مصورة عن ط السلفية في 432 صفحة. - طبعة مكتبة المعارف بالطائف (عن ط السلفية) دون تاريخ، في 427 صفحة. - طبعة دار الوطن للنشر والإعلام في المملكة العربية السعودية (عن ط السلفية) دون تاريخ في 432 صفحة. - طبعة مكتبة المؤيد بالرياض سنة 1414 هـ = 1993 م، بتحقيق بشير محمد عيون. وبين يديّ طبعته الثانية التي صدرت عن مكتبة دار البيان بدمشق سنة 1419 هـ في 443 صفحة. وقد زعم محققها أنه اعتمد على نسخة الظاهرية ونسخة الكويت والطبعتين المنيرية والسلفية، وقد أثبت أرقام أوراق الظاهرية أيضًا على حواشي الصفحات، ولعل هذا هو المقصود بالاعتماد عليها! - طبعة دار ابن كثير بدمشق، تحقيق يوسف علي بديوي. وبين أيدينا الطبعة الرابعة التي صدرت سنة 1424 هـ في 812 صفحة، ولم أعرف متى صدرت لأول مرة. وقد زعم محققها أيضًا أنه اعتمد فيها على نسخة الظاهرية. وهذه أيضًا دعوى عريضة لا تصدّقها المقابلة بينها وبين النسخة المذكورة! - طبعة دار الخير في بيروت سنة 1419 هـ، بتحقيق وهبة الزحيلي
(المقدمة/50)
عن ط دار ابن كثير! وخرج أحاديثه أسامة حسن عبد المجيد. عدد صفحاتها 498 صفحة. - طبعة دار ابن القيم بالدمام، الطبعة الثانية، سنة 1414 هـ، ضبط وتخريج وتعليق عمر بن محمود أبو عمر، في 632 صفحة. - طبعة المكتبة العصرية في بيروت سنة 1423 هـ باعتناء أبي عبد اللَّه العاملي السلفي، في 488 صفحة، وذكر في المقدمة أنه اعتمد على الطبعة المصرية القديمة، وطبعة دار ابن القيم، وطبعة دار ابن كثير، وهي أصح تلك الطبعات (؟). - طبعة نزار مصطفى الباز في مكة المكرمة، تحقيق أبي الزهراء حازم علي بهجت القاضي سنة 1415 هـ، في 556 صفحة. - طبعة دار الكتاب العربي في بيروت. حققه وخرج أحاديثه أحمد إبراهيم زهوة. الطبعة الأولى سنة 1423 هـ. وذكر أنه اعتمد على طبعة سابقة لدار الكتاب العربي. - طبعة دار ابن حزم في بيروت، الطبعة الأولى سنة 1424 هـ. - طبعة دار المعرفة في بيروت، الطبعة الأولى سنة 1424 هـ، اعتنى بها عبد اللَّه سنده. * وقد حُقّق الكتاب لأول مرة في ثلاث رسائل جامعية (1423 - 1424) في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من إعداد الباحثين: 1 - عايد بن مسفر العقيلي. 2 - عبد اللَّه بن عايض آل مسعود القحطاني.
(المقدمة/51)
3 - خالد بن علي بن عبد اللَّه العايد. وقد أشرف على القسمين الأول والثاني: الشيخ عبد اللَّه بن صالح المشيقح، وعلى الثالث: الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان. وكان اعتمادهم على نسخة المصنف، ونسخة الفاتح، ونسخة الكويت، ونسخة برلين، ونسخة الشيخ ابن سحمان المكتوبة سنة 1285 هـ. والرسائل الجامعية لها منهجها وحدودها. ثانيًا: اختصاره - اختصر الكتاب فؤاد شاكر، وصدر باسم "إني مهاجر إلى ربي - مختصر طريق الهجرتين" في 212 صفحة من مكتبة التراث الإسلامي بالقاهرة سنة 1407 هـ. - اختصر الباب الأخير من الكتاب ونشره عبد اللَّه بن جار اللَّه بن إبراهيم الجار اللَّه بعنوان "مختصر طبقات المكلفين". وقد صدر من مكتبة الطالب الجامعي بمكة المكرمة سنة 1404 هـ في 27 صفحة. - فصل "مشاهد الخلق في المعصية" استلّه نذير حسن عتمة ونشره سنة 1405 هـ. ثالثًا: ترجمته - ترجمه إلى الأردية مع شيء من الاختصار شيخنا الشيخ عبد العليم الإصلاحي، ونشرته رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء في الرياض سنة 1414 هـ = 1994 م في 343 صفحة. - ترجمة أخرى إلى الأردية صدرت من الدار السلفية في بومباي، لم أقف عليها. وقد ذكرها الشيخ محمد عزير شمس دون ذكر اسم المترجم وتاريخ النشر في فهرس أعدّه لمؤلفات ابن القيم (مخطوط).
(المقدمة/52)
مخطوطات الكتاب مخطوطات الكتاب التي وقفت عليها أو علمت بها يبلغ عددها 14 نسخة، وقد اخترت منها خمس نسخ اعتمدت عليها أو استأنست بها في إخراج هذه النشرة، أصفها أولًا ثم أذكر سائرها. 1 - نسخة الظاهرية (الأصل) وهي من مخطوطات دار الكتب الظاهرية برقم 1457 تصوف 139. وصفها الأستاذ محمد رياض مالح رحمه اللَّه في فهرس مخطوطات التصوف (2/ 274) بقوله: "الخط نسخي مقروء، بخطوط مختلفة، الحبر أسود، ق 125، س 24، كلمات السطر 15. هامش 2 سم. 25.5 × 18 سم". ثم ذكر من ملاحظاته عليها: "نسخة قيمة. الورقة الأولى بخط المؤلف، ثم ورقتان بخط حديث. ثم يتخلل الكتاب بعض خطوط مختلفة، ولكن الغالب خط المؤلف. وهو من وقف العمرية". لقد حرصت على نقل هذا الوصف لأنه صادر عن معاينة للأصل لا لصورته التي بين أيدينا. الحق أن هذه النسخة -كما سنرى- تحفة نفيسة وكنز ثمين لا يقوّم، لأنها مسوّدة الكتاب بخط ابن القيم رحمه اللَّه. وفيها تصحيحات وإضافات واستدراكات كثيرة بخطه. أما عدد أوراق النسخة في وضعها الحالي، وهي مرقمة، فقد وصل ترقيمها مع الورقتين اللتين ذكر الأستاذ مالح أنهما بخط حديث إلى 126 ورقة، والظاهر أن تكون معهما 127 ورقة. أما عدد الأسطر فيتراوح ما
(المقدمة/53)
بين 22 و 37 سطرًا. وقد وقع في ترتيبها اضطراب شديد. ويبدو أنها قد تشتّت شملها، فجمعت أوراقها كيفما اتفق، ورقمت، وليعرف مقدار هذا الاضطراب في أوراقها نثبت هنا الأرقام المثبتة عليها على الترتيب الصحيح. 1 - 12، 31، 97، 99، 94، 96، 33، 34، 118، 28، 45، 46، 43، 44، 93، 42، 47، 49، 27، 36، 37، 13، 14، 29، 30، 15، 16، 39، 35، 116، 108، 115، 117، 50، 100 - 107، 51، 52، 18 - 26، 17، 53 - 87، 91، 90، 88، 92، 93، 119 - 126. والنسخة كاملة ما عدا "وريقة" تضمنت جزءًا من استدراك طويل وأشار إليها المؤلف في طرة (58/ أ)، فإنها قد فقدت من النسخة. ومحتواها يبلغ ثلاث صفحات وتسعة أسطر من طبعة السلفية. ثم بعض الإضافات والاستدراكات قد ذهب سطر منها أو أكثر لتأكل أطراف الورق قديمًا قبل أن تنسخ منها نسخة الفاتح الآتية سنة 772 هـ. وذهبت أسطر أخرى فيما بعد. وقد يكون التصوير أيضًا أخفى بعضها. كتب في وجه الورقة الأولى اسم الكتاب في سطرين وتحته اسم المؤلف هكذا: "كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين تأليف العبد الفقير إلى اللَّه تعالى محمد بن أبي بكر بن القيم". وتحته العبارة الآتية: "هذا المكتوب أعلاه هو خط المصنف رحمه اللَّه تعالى. وهو الإمام العلامة شيخ الإسلام ترجمان القرآن، كاشف قناع غوامض المشكلات، ذو التصانيف البديعة، والحد الحديد بالانتصار للسنة الشريفة، أوحد
(المقدمة/54)
العلماء المفوهين، الذائق حلاوة عبارات السالكين، شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد الشهير بابن قيم الجوزية. تغمده اللَّه برضوانه ورحمته، وأحفه بفضله بحبوحة جنته آمين". لم يكتب صاحب هذا البيان اسمه، ولكنه عارف بخط ابن القيم، والعبارة "تأليف العبد الفقير. . . " تدل على أنها بقلم صاحبها، غير أن هذا الفاضل أحبّ أن يؤكد ذلك بشهادته. جاء تحت البيان السابق: "من كتب إلياس بن علي الشافعي" وفي موضع آخر ورد الاسم نفسه على وجه أكمل: "في نوبة الفقير إلى اللَّه سبحانه وتعالى إلياس بن علي بن أبي بكر بن إلياس الشافعي عفا اللَّه سبحانه وتعالى عنهم أجمعين. آمين رب العالمين". ولعل إلياس هذا هو آخر من ملك النسخة من الذين ظهرت أسماؤهم في صفحة العنوان. وفي الجانب الأيسر من اسمه قيد تملك آخر طمس بعضه، وقرئ منه: "الحنفي الخراساني عفا اللَّه عنه". وتحته قيد مطالعة: "الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. طالعه. . . عثمان الحسباني لطف اللَّه به". وفي أسفل الصفحة قيد شراء للنسخة: "انتقل بالابتياع الصحيح الشرعي من مالكه إلى العبد علي بن محمد الفقاعي. . . " (1). وتحته قيد آخر: "ثم انتقل بالابتياع الصحيح الشرعي من تركة مالكه المذكور أمامه رحمه اللَّه بطريق الوكالة بمشترى سيدي الأخ بدر الدين __________ (1) لعله علاء الدين علي بن محمد بن علي الحموي ثم الدمشقي الفقاعي الحنفي الشاعر. ولد في حماة سنة 918 هـ. انظر: شذرات الذهب (4/ 80).
(المقدمة/55)
أبي عبد اللَّه محمد بن فخر الدين لكاتب هذه الأحرف الفقير إلى اللَّه تعالى في الحال والمآل عبد القادر بن محمد بن الحبال. . . ". ولعل على يمين الصفحة قيد وقف النسخة على المدرسة العمرية، ولكن لم يتضح في الصورة. كان المؤلف رحمه اللَّه قد ترك أكثر من النصف الأعلى من ظهر الورقة الأولى فارغًا للمقدمة التي أخّر كتابتها، وبدأ الكتاب بالآية الكريمة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} بيّن سبحانه في هذه الآية. . . ". ولكن لما أخذ في تسويد المقدمة رأى أن المساحة المخصصة لها غير كافية، فصغّر الكتابة، وضيّق بين الأسطر، ومع ذلك اضطرّ إلى تكملتها في حواشي الصفحة الأربع، فاستغرقتها ثم تجاوزت إلى حاشية الورقة الثانية. ولما تمّت في أسفلها كتب: "فصل قال تعالى"، ووضع نقاطًا إلى أن كتب في الحاشية اليسرى من الصفحة: "يرجع إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} وذلك في الصفحة اليمنى". ولما وقف بعض من ملك الكتاب أو اطلع عليه ورأى مقدمة الكتاب على هذا الوجه من التسويد قام بتبييضها في ورقتين (ثلاث صفحات) بعد التصدير الآتي: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. ربّ يسّر وأعن. قال شيخ الإسلام العالم العلامة شيخ الإسلام وقدوة الأنام، أوحد الحفاظ الأعلام، عمدة المفسرين، بقية المجتهدين، كاشف أسرار العلوم، موضح كل مشكل بأعذب نطق مفهوم، شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن الشيخ الإمام العالم تقي الدين أبي بكر، ابن قيم الجوزية الحنبلي غفر اللَّه له وأعاد علينا من بركته".
(المقدمة/56)
وصاحب هذا التبييض أيضًا لم يكتب اسمه، ولكنه ليس بصاحب العبارة المكتوبة في صفحة العنوان تحت عنوان الكتاب واسم المؤلف. وقد ضمت هاتان الورقتان إلى النسخة ورقّمتا معها. وقد وردت في مقدمة المؤلف جملة كتبها المبيض هكذا مع الضبط: "فإذا رُؤيَ ذُكِرَ اللَّه". وعلق في الجانب الأيمن على "رُؤى" حاشية: "صورة خط المصنف فإذا راى ولا ضبط فيه". وهو كما قال. والملاحظ هنا أن الكاتب صرّح في حاشيته هذه بأن المقدمة بخط المصنف. والسؤال الآن: هل اسم الكتاب واسم المؤلف في صفحة العنوان ومقدمة الكتاب فقط بخط المصنف أو سائر النسخة أيضًا؟ الجواب في نسخة الفاتح التي سيأتي وصفها، فإن ناسخها قد صرّح في خاتمتها بأنه نقلها من نسخة المصنّف المسودة، ثم قال مرة أخرى إنه قابله بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه. وقال أيضا: "وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيضها كما ترى في القريب من آخره". ومعارضة نسخة الفاتح على نسخة الظاهرية هذه خصوصًا في المواضع التي ذكر الناسخ أنها أكل الزمان من أطراف الأصل، لا تدع مجالًا للشك في أن المقصود بنسخة المصنف المسودة هي النسخة التي بين أيدينا. وقد سبق قول الأستاذ محمد رياض مالح إن الكتاب يتخلله خطوط مختلفة والغالب خط المؤلف. ولكن يظهر لي -واللَّه أعلم- أن الاختلاف الذي يبدو أحيانا في الخط، إنما هو اختلاف الأقلام وأزمنة الكتابة. والمسودة كلها بخط المصنف إلا موضعًا واحدًا في (ق 55/ ب - 56/ 1). وهو جزء من كلام للرازي في كتابه المباحث
(المقدمة/57)
المشرقية. نقل المؤلف منه 17 سطرًا ثم كلف أحدًا تكملة الباقي، فكتب 33 سطرًا، أي مقدار صفحة. ومما يؤكد أنها مسودة المؤلف كثرة الضرب والتعديل في العبارة في أثناء الكتابة، غير التصحيحات والإضافات بين السطور أو في الحواشي، كما يؤكد وجودها من أول النسخة إلى آخرها أنها بخط المصنف. وبعض الإضافات حصلت بعد مدة من كتابة المسودة. يدل على ذلك أنه قال في موضع: "وفي الباب أحاديث غير هذا لا تحضرني الآن " (90/ ب). ثم ضرب على هذا واستدرك بضعة أحاديث، مما أدى إلى شيء من التكرار أيضًا. ومن المؤكد أن هذه المسودة لم تقرأ على المؤلف، ولا تمكن من تبييضها، فقد وقعت فيها ضروب من الوهم والسهو وسبق القلم، ومنها: - قوله: "وسنفرد إن شاء اللَّه للغيرة فصلًا نذكر فيها أقسامها وحقيقتها (94/ ب). ولا وجود لهذا الفصل في الكتاب. - ومنها أن المؤلف رحمه اللَّه كتب في "قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب" أولًا: "ويجمع ذلك أربعة أقسام أولها. . . " وبعد أسطر: "القسم الثاني" (57/ أ). ثم ضرب على العبارة الأولى، وكتب: "وجماع ذلك ثمانية مشاهد". وغيّر القسم الثاني إلى "المشهد الثاني". ولما فرغ من المشهد الرابع جاء بفصل وقسم المشهد الرابع إلى قسمين. وفي آخرهما زاد في الحاشية طولًا: "فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع
(المقدمة/58)
مشهد الحكمة". وكتب ثلاثة أسطر وبعدها: "الوريقة". يعني أن بقية الكلام فيها، وهي التي سبق أنها مفقودة الآن، ولكنها كانت محفوظة لما نقلت منها نسخة الفاتح وغيرها. فالتكملة موجودة فيها، إلَّا أنها تخلو جميعًا من المشهد الثامن من غير إشارة إلى بياض أو سقط، فلعل المؤلف رحمه اللَّه سها عنه. - ومنها أن المؤلف رحمه اللَّه تكلم على كلام ابن العريف في الخوف من خمسة وجوه. وكتب مكان الوجه الرابع: "الوجه الثالث" مع أن الوجه الثالث قد سبق قبل خمسة أسطر. - ومنها أنه لما أخذ في نقد كتاب ابن العريف ذكر المثال الأول في الإرادة والثاني في الزهد. ثم كتب في (81/ أ): "فصل، المثال الثالث". وهذا صحيح، ولكنه بعد ذلك ضرب على "الثالث" وكتب "الرابع التوكل". واستمرّ الخطأ في الترقيم إلى "المثال السابع الخوف" (87/ أ)، وهو في الواقع المثال السادس. ولعل سبب الخطأ أن التوكل هو الفصل الرابع من كتاب ابن العريف، والفصل الأول منه في المعرفة، ولم يتعرض له ابن القيم، بل بدأ نقده من مقام الإرادة وهو الفصل الثاني عند ابن العريف، والمثال الأول عند ابن القيم، ثم الزهد، ثم التوكل. فلما كتب بعد مثال الإرادة ومثال الزهد: "المثال الثالث" كان مصيبًا، ولكن لما رجع إلى كتاب ابن العريف لنقل كلامه رأى "الفصل الثالث" فضرب على "الثالث" الذي عنده، وكتب "الرابع". - في (92/ ب) وقع سهو في نقل الآية الكريمة {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص/ 28]، فكتب: "أفنجعل الذين آمنوا". وكذا في نسخة الفاتح
(المقدمة/59)
المنقولة عنها. - وهكذا في (76/ أ) كتب الآية الثالثة من سورة يونس هكذا: ". . . ما شفيع إلا من بعد إذنه أفلا تذكرون". والآية الكريمة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}. ولا شك أن ذلك من السهو وسبق القلم. ومن أمثلة ذلك العبارات الآتية: - "اشتد خوف سادة الأمة وسابقوها" (118/ أ). - "وقد علم اللَّه ورسوله والمؤمنون أهل الفتن المفسدون" (1/ 118). - "مخالفًا لمحبوبته مكرم لمن أهانته" (92/ ب). - "مبطلًا لأثر الإنفاق مانع من الثواب" (108/ أ). - "فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرش للمثل الأعلى أي عرش لمعرفة محبوبه" (67/ أ). - "قال" بدلًا من "قالت" (97/ أ). ومن سبق القلم أيضًا كتابة "صبخة" (37/ أ) بالصاد بدلًا من السين. و"أظالعك" (23/ ب) بالظاء مكان الضاد. وظل (43/ أ) والظن (78/ أ، 83 ب) والحظ (81/ ب) مكان ضل، والضن، والحض. ومن سمات خط النسخة أن واو العطف تتصل أحيانًا بالكلمة التالية، فتحتمل أن تقرأ واوًا أو فاءً. وتلتبس الكاف والحاء بعض الأحيان. وكثيرًا ما يهمل النقط وبخاصة في حرف المضارع، فيجوز أن يقرأ ياءً أو
(المقدمة/60)
تاءً. وقد يغمض رأس الميم في بداية الكلمة فلا يتميز "الوجود" من "الموجود". وقد أدى ذلك إلى اختلاف في النسخ. وفي النسخة ظاهرة غريبة، وهي بلاغات المقابلة. انظر مثلًا: 8/ أ، 9/ أ، 9/ ب، 13/ ب، 15/ ب، 17/ أ، 19/ أ، 21/ ب، 28/ أ، 31/ أ، 34/ ب، 38/ أ، وهلم جرّا إلى آخر النسخة. والمعروف أن هذه البلاغات تكتب في حاشية النسخة المنقولة لمعرفة المكان الذي وصل إليه في مقابلتها بالأصل المنقول منه. وقد ظننت في أول الأمر أن أجزاء من الكتاب ربما سوّدت من قبل، ونسخت من المسودة الأولى فقوبلت عليها. ولكن البلاغات تستمر إلى آخر المسودة، فلا شك أن ناسخًا خالف القاعدة المعروفة وكتب البلاغات في المسودة بدلًا من نسخته المنقولة. وقد سبق في وصف الورقة الأولى أنّ فيها قيد مطالعة، وصاحبه عثمان الحسباني، ولم أعرفه، ولكن هل تركت مطالعته أو مطالعة غيره آثارًا في النسخة؟ في آخر باب الفقر والغنى الذي انتهى بانتهاء الورقة (19/ أ) ورد أكثر من مائة بيت من القصيدة الميمية للمؤلف. وكأنه خصص لها الصفحات الثلاث الباقية (19/ ب - 20/ ب) من الكراس الثاني. فكتب في الصفحة الأولى كل بيت في سطر، وفي الثانية كل بيتين في سطر، وكذا في الثالثة، وتمت القصيدة في نصفها، فبقي النصف فارغًا. وهنا حاشية على يمين الصفحة نضها: "علّق منها لنفسه نسخةً علي بن زيد بن علوان بن صَبرَةَ (كذا مضبوطًا) بن مهدي بن حريز الزُّبيدي الأثري اليمني داعيًا لناظمها ومالكها ولكل مسلم بالموت على الإسلام والسنّة".
(المقدمة/61)
وصاحب هذه الحاشية عالم معروف من علماء القرن الثامن. ولد في "رَدْما" قرية بمشارف اليمن سنة 741 هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 813 هـ. ذكر الحافظ ابن حجر أنه جاور بمكة ولقي بالشام الحافظ ابن كثير. وعني بالفقه والحديث والأدب ويستحضر كثيرًا من الحديث، ويميل إلى قول ابن حزم (1). وفي هذه الصفحة زيادة بيتين في آخر القصيدة، ولكنها ليست بخط الشيخ علي بن زيد المذكور. وهي أيضًا قديمة فإنها واردة في نسخة الفاتح، إلا أنها لم توجد في نسخة برنستون، وهذا دليل على أن أصلها نسخ قبل نسخة الفاتح. ثم كتب البيت الآتي في المسودة هكذا (19/ ب): وحي على واد بها أفيح به ... منابر من نور. . . . . . . . فكتب صاحب الزيادة المذكورة نفسه في الحاشية: لعله: "لدى الرسل تعلم" أو "بها الرسل تكرم". وقد أخذ ناسخ نسخة الفاتح بالاقتراح الأول ولكنه نبّه مع ذلك على أنه "ليس هذا من كلام المصنّف رحمه اللَّه". ومن تعليقات القراء ما جاء في ق (44/ ب)، إذ ورد في كلام المؤلف: "وإقرار العبد بأن للعالم إله حيّ جامع" فعلّق بعضهم في الحاشية: "صوابه: إلهًا حيًّا جامعًا". ولكن هناك مواضع أخرى مشابهة كقوله: "فإن لذلك الوقت شأن" (68/ أ)، وقوله: "فإن للقرب من __________ (1) ذيل الدرر الكامنة (209). وفيه "صَيْرة" بالياء، تصحيف. وكذلك نسبة "الردماري" صوابها: "الردماوي". وانظر: شذرات الذهب (4/ 102 - 103).
(المقدمة/62)
الإمام تأثير" (68/ أ) وقوله: "ولا ريب أن فوق هذا مقام" (72/ أ)، ولكن لم يعلق هناك. وكذلك نجد في بعض الصفحات علامة "ظ" أي انظر، عند غموض كلمة أو وجود سهو كما في (9/ ب، 15/ ب، 16/ أ). ومن تعليقات القراء أيضًا أنه ورد في ق (96/ ب): "فإذًا لا نسبة أصلًا بل كمالات العالم وكمال اللَّه جلّ جلاله". فوضع بعضهم إشارة بعد "أصلًا" وكتب في الحاشية: "لعله بين". يعني مكان "بل"، وهو من سبق القلم. وقد افتتح المؤلف رحمه اللَّه نسخته بالبسملة، وختمها حامدًا ومصلّيًا بقوله: ". . . والقول الأول أظهر الأقوال واللَّه أعلم. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على محمد وآله". فذلك البدء وهذا الختام مجرّدين من ألقاب التعظيم ونعوت الإكرام يؤكدان أيضًا أن النسخة التي بين أيدينا نسخة المؤلف رحمه اللَّه. فهي نسخة جليلة نفيسة، وتستحق دراسة "اكتناهية" دقيقة يقوم بها عالم خبير بالمخطوطات. 2 - نسخة الفاتح (ف): أصلها محفوظ في مكتبة الفاتح بإستنبول برقم 2737. عدد أوراقها 226 ورقة. وفي كل صفحة 23 سطرًا. كتبت في بعلبك بخط نسخي جميل سنة 772 هـ، أي بعد وفاة المؤلف بإحدى وعشرين سنة. ثم هي منقولة من مسودة المصنف، ومقابلة عليها، كما صرّح الناسخ في الخاتمة.
(المقدمة/63)
ورد اسم الكتاب واسم المؤلف في صفحة العنوان على الوجه الآتي: "كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين تأليف الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قدوة الأنام أوحد حفاظ الأعلام عمدة المفسرين بقية المجتهدين كاشف أسرار العلوم موضح كل مشكل بأعذب نطق مفهوم شمس الدين أبي عبد اللَّه محمد بن الشيخ الإمام العالم أبي بكر بن قيم الجوزية، قدس اللَّه روحه، وجعل أبواب الجنة في وجهه مفتوحة". والملاحظ أن النعوت والألقاب الواردة في هذه العبارة هي التي صدّر بها من بيّض مقدمة المؤلف من مسوّدته كما سبق. وتحتها باللغة الفارسية: "قيد شد" يعني: تمّ تقييده. ثم سجل تحته عدد الأسطر وعدد الأوراق. وتحته ختم لعله ختم أوقاف السلطان محمود خان. وتحته قيد يفيد أن الكتاب من أوقاف السلطان المذكور، وكاتبه نعمة اللَّه مفتش أوقاف الحرمين الشريفين، وفي آخره ختم المفتش الذي يحمل العبارة الآتية: "المتوكل على اللَّه عبده نعمة اللَّه" وبجانبه الأيسر ختم مكتبة الفاتح. وفوق اسم الكتاب تاريخ وفاة ابن القيم وأسماء بعض مؤلفاته المذكورة في هذه النسخة. وعن يساره نص منقول من شرح صحيح البخاري للكرماني. وتحته الإشارة إلى الورقة التي ذكر فيها كتاب موافقة العقل للنقل لابن تيمية وكذلك الموضع الذي ذكر فيه علل المقامات لابن العريف، وظن هذا الكاتب أن "علل المقامات" عنوان كتاب ابن العريف. وخاتمة النسخة نصّها: "بحمد اللَّه تعالى ومنّه وحسن توفيقه، فرغ من كتابته من نسخة المصنف المسودة العبدُ محمد بن عيسى بن عبد اللَّه بن
(المقدمة/64)
سليمان البعلي الحنبلي غفر اللَّه له ولوالديه وللمصنف ولجميع المسلمين. ووافق الفراغ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشرين شهر رمضان المعظم من عام اثنين وسبعين وسعمائة ببعلبك. والحمد للَّه وصلّى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم". ثم كتب بجانب هذه العبارة عن يسارها في الطول: "قابله كاتبه بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه، فصح بحمد اللَّه. غفر اللَّه له ولمن قابل معه وللمصنف والمالك ولمن نظر فيه ودعا لهم، آمين. وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيضها كما تراها في القريب من آخره. واللَّه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل". والتبييضات التي أشار إليها الناسخ توجد في خمسة مواضع: 204/ أ، 205/ ب، 206/ ب، 209/ ب، 211/ أ. أما الموضع الأول فيتعلق بمسألة أطفال المسلمين، إذ ورد في النسخة: "فقال الإمام أحمد لا يختلف فيهم أحد يعني أنهم في الجنة. وأما أطفال المشركين. . . ". وضع الناسخ إشارة بعد كلمة "الجنة"، وعلق في الحاشية: "وفي حاشية الأصل بخط المؤلف رحمه اللَّه أسطار مصحح على آخرها ذهب الأول منها تأكلًا على طرف الورقة، أخلى الكاتب تحت هذا السطر موضعًا وكتب ما وجد بعده". وكتب بعد بياض سطر: "وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. . . ". والرجوع إلى ق (114/ أ) من المسودة يصدّق ما قاله ناسخ (ف) وذلك أن هذا الاستدراك في ثلاثة أسطر كتبها المؤلف في أعلى الصفحة، فذهب السطر الأول، وما زال السطران الآخران ظاهرين.
(المقدمة/65)
أما الموضع الثاني (205/ ب) فترك فيه الناسخ بياضًا في السطر الحادي عشر بقدر كلمتين، وفي السطر الثاني عشر بقدر تسع كلمات تقريبًا. وذلك لأن المؤلف كتب في الصفحة نفسها (114/ أ) استدراكًا في ثلاثة أسطر في طول الصفحة، وذهب أكثر السطر الأخير الذي في طرف الورقة. عندما نقلت نسخة (ف) منها. أما الآن فلا يرى في الصورة إلا كلمات من أول السطر. وفي الموضع الثالث (206/ ب) بياض أكثر من سطر. وهو الجزء الأخير من استدراك بدأ في الأصل (114/ ب) من وسط حاشية الصفحة اليسرى في طولها، وانعطف إلى أعلاها في العرض، وتم في ثلاثة أسطر، والسطر الأخير قد أكله البلى، ولا يظهر منه الآن في الصورة إلا ثلاث كلمات. والبياض الرابع (209/ ب) بقدر تسع كلمات تقريبًا، وهو جزء من لحق في الحاشية اليسرى من الأصل (115/ ب). والبياض الخامس (211/ أ) بقدر ست كلمات تقريبًا، وهو أيضًا جزء من استدراك طويل مكتوب في الحاشية اليسرى من الأصل (116/ أ). وقد تبين من هذه المقارنة أن نسخة الفاتح منقولة من نسخة الظاهرية، وهي المقصودة بمسودة المصنف في نص خاتمتها. والملاحظ أن التأكل الذي أشار إليه ناسخها البعلي كان قد أصاب ثلاث ورقات من المسودة (ق 114 - 116)، وسائر النسخة كانت سليمة في عهده سنة 772 هـ. وإذا صح تقديرنا أن المسودة قد كتبت قبل سنة 732 هـ، فكان قد مضى عليها حين ذاك 40 سنة. والآن بيننا وبين نسخة الفاتح أكثر من 650 سنة. وقد ضاعت وريقة من الأصل في هذه المدة،
(المقدمة/66)
وذهبت أسطر أخرى من أطراف الأوارق في مواضع عديدة مما زاد من قيمة نسخة الفاتح. هذه النسخة قد قوبلت على الأصك بعد كتابتها كما ذكر الناسخ في الخاتمة. يؤكد ذلك بلاغات المقابلة والتصحيحات. ولكن بقيت فيها ألفاظ كثيرة تختلف عما في الأصل، ووقع أحيانًا سقط أيضًا، ومن الغريب أنه لم يكتشف في المقابلة. ثم أخطأ الناسخ في قراءة النص في مواضع كثيرة، وهو معذور فيها لصعوبة الخط وتشابك الكلمات وإهمال النقط. في آخر النسخة بعد الخاتمة يوجد قيدان للمطالعة. أحدهما بخط فارسي جميل وصاحبه "الفقير السيد مصطفى بن السيد عبد اللَّه الشهير بطريقتجي"، ولكن لم يظهر في الصورة تاريخه. والآخر الذي ذكر أنه طالع في هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرارًا عديدة كتب تاريخه "شهر شوال سنة 989 هـ". والقارئ الأول هو الذي قتد في صفحة العنوان بعض أسماء كتب المصنف وشيخه المذكورة في النسخة. وله عليها تعليقات لغوية وغيرها. 3 - نسخة برلين الأولى (ب). وهي محفوظة في مكتبة الدولة في برلين برقم 8795. عدد أوراقها 148 ورقة. وفي كل صفحة 23 سطرًا. كتبها عمر بن محمد المارديني بخط نسخي جميل سنة 816 هـ كما في خاتمتها التي نصها: "ووافق الفواغ من كتابته بيد مالكه الفقير الحقير المعترف بالتقصير عمر بن محمد المارديني عفا اللَّه عنهما يوم الأحد ثالث عشر صفر من سنة ست عشرة وثمان مائة. والحمد للَّه وحده، وصلواته على رسوله وعبده محمد
(المقدمة/67)
النبي وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وسلامه. آمين يا رب العالمين". لم أجد ترجمة هذا الناسخ، ولكن عبارة الخاتمة تدل على أنه كان من الفضلاء المعتنين بالعربية. والنسخة ناقصة من أولها. وقد كتب في أعلى الورقة الثانية: "السابع"، وبعد عشر ورقات: "الثامن". فإذا كان كل كراس عشر ورقات، وفقدت منها ستة كراريس إلا ورقة واحدة، فذلك يعني أن النسخة كانت في 208 ورقة أي في 21 كراسًا، وبقيت منها 15 كراسًا. وبداية النسخة: "ما بقيت الدنيا في شأن موسى وفرعون وقومه. . . ". وتجد هذا النص في ص (123) من طبعة السلفية. وقد سبق في الكلام على عنوان الكتاب أن بعضهم كتب في أعلى الصفحة الأولى: "كتاب نهج العمل لابن حجر" مع أن في أعلى الورقة (32/ أ) تصريحًا بأنه "العاشر من طريق الهجرتين" يعني: الكراس العاشر. ويوجد هذا التصريح في بداية كراريس أخرى أيضًا. لم يذكر الناسخ الأصل الذي نقل منه نسخته، ولكنها لم تنسخ بلا شك من مسودة المؤلف ولا من نسخة الفاتح. ثم أصل هذه النسخة قد نقل من المسودة قبل نسخة الفاتح، فإن النص الذي أشار ناسخ هذه إلى ذهابه لكونه في طرف الورق وترك له بياضا موجود في نسخة برلين. والنسخة قد قوبلت على أصلها، ويظهر من بعض التعليقات المنتهية بحرف "خ" أنها قوبلت على نسخة أخرى أيضًا. وهي مع جمال خطها وضبطها وعناية ناسخها كثيرة التصحيفات. وقد وقع فيها سقط طويل في ق (2/ أ) يساوي 22 سطرًا من طبعة السلفية، بالإضافة إلى سقوط
(المقدمة/68)
كلمات وجمل وبياض في (13/ أ، 14/ ب، 51/ ب، 118/ أ) وأغلاط أخرى. والظاهر أن ذلك كله راجع إلى الأصل الذي نقلت منه النسخة. وفي آخر النسخة يوجد قيد تملك نصه: "ملك الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير لربه القدير، الفقير شرف الدين بن الفقير يوسف بن الفقير أحمد بن الفقير محمد غزال الفرنوي المؤذنين بمقام القطب الربّاني سيدي عيسى الفرنواني. نفعنا اللَّه ببركاته وبركات علومه في الدنيا والآخرة. آمين". 4 - نسخة برنستون (ن). وهي نسخة قديمة قيمة محفوظة في مكتبة جامعة برنستون برقم 2533، ولكنها ناقصة أيضًا كالنسخة السابقة، إلا أن النقص في هذه من آخرها، فهي تنتهي بانتهاء السطر الأول من ص (143) من طبعة السلفية البالغة صفحات النص فيها 423 صفحة. وذلك يعني أن الموجود من هذه النسخة نحو الثلث فقط من أولها. لم يعرف اسم ناسخها ولا تاريخ نسخها لضياع آخرها، وإن كنا لا ندري أكانت خاتمتها متضمنة لذلك أم لا. ولكن الظاهر أنها قديمة ولعلها من القرن الثامن. ثم قد نسخ أصلها أيضًا قبل نسخة الفاتح. والدليل على ذلك أن البيتين اللذين زيدا في آخر الميمية في المسودة ونقلها ناسخ (ف) لم يكونا موجودين في هذه النسخة، وزادهما بعض القراء بخط حديث. وقد قابل صاحب هذه الزيادة أبيات الميمية (22/ ب - 24/ أ) بنسخة أخرى وقيّد بعض الفروق. والنسخة لا تخلو من السقط والتصحيف. وقد سقط منها سطر كامل
(المقدمة/69)
من مسودة المؤلف في (41/ أ،41 ب، 45/ أ) وثلاثة أسطر في (17/ ب). ومن المستغرب أن ناسخ أصلها أثبت في بعض المواضع ما هو مضروب عليه في المسودة. ومن أمثلة ذلك أنه ورد في النسخة (10/ أ): "وناداك من قبضة اليمين". وهكذا كان في المسودة (9/ أ) ثم ضرب على "ناداك" وكتب فوقه: "وجعلك"، وزيد فوق "من": "أهل". مع علامة "صح". فأصبحت الجملة هكذا: "وجعلك من أهل قبضة اليمين". وكذلك ورد في الصفحة التالية (10/ ب): "فصل فهنا وقفت شهادة العبد". وكلمة "فصل" مضروب عليها في المسودة بصورة واضحة. فلا أدري كيف غفل عنه كاتب أصل هذه النسخة. ثم في الصفحة نفسها زاد الكاتب كلمة "فصل" قبل سبعة أسطر، مع أنها لا وجود لها في مسودة المصنف. 5 - نسخة الكويت (ك). وهي محفوظة في مكتبة وزارة الأوقاف الكويتية برقم خ 52. عدد أوراقها 208 ورقة. وعدد الأسطر في كل صفحة يتراوح بين 21 و 25 سطرًا. كتبها بخط النسخ سنة 1000 هـ عبد القادر بن محمد بن موسى بن حبيش كما يفيد نصّ الخاتمة. وكتب في صفحة العنوان اسم الكتاب والمؤلف هكذا: "كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم الحنبلي رحمه اللَّه". فضرب بعضهم على نسبة "الحنبلي" ضربات! وتحته قيد تملك مطموس. وتحته قيد آخر: "دخل في ملكنا غرة ربيع أول سنة 1344 هـ".
(المقدمة/70)
وبداية النسخة بعد البسملة: "قال شيخنا العالم الرباني خادم السنة وإمامها في عصره [القائم] بأعيان حقائقها والدعوة إليها أبو عبد اللَّه محمد بن الشيخ أبي [بكر] بن أيوب بن سعد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية رحمه [اللَّه] ورضي عنه ونفع بعلمه وبركته". وهذا يدل على أن النسخة التي انحدرت منها نسخة الكويت كانت مكتوبة بخط بعض تلامذة المصنف. ولكن كم نسخةً بين هذه وبين تلك، لا ندري. النسخة كاملة، ولم يذهب منها إلا كلمات وأجزاء من أسطر في الورقتين الأولى والثانية من أجل التمزق. وفي حواشيها تصحيحات واستدراكات بعضها بخط الناسخ، وبعضها بخط شخص قابلها بنسخة أخرى، وكثير منها لم تظهر في الصورة. وأم هذه النسخة أو جدّتها نقلت أيضًا من أصل المصنف قبل نسخة الفاتح، فإن العبارة التي ترك لها ناسخ (ف) بياضًا موجودة في نسخة الكويت. ثم في النسخة أسقاط وتصحيفات كغيرها من النسخ. 6 - نسخة برلين الثانية. رقمها 795، في 315 ورقة، كتبت في جمادى الأولى سنة 1244 هـ كما في فهرس ألورد (3/ 187). 7 - نسخة الأميرة نورة بنت الإمام فيصل بن تركي. وهي من مخطوطات المكتبة السعودية بالرياض، ومحفوظة الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية. وقد سجلت في المكتبة السعودية برقم 45/ 86 في 29/ 6/ 1392 هـ. وهي مما وردها من مكتبة الشيخ محمد
(المقدمة/71)
ابن عبد اللطيف رحمه اللَّه. فرغ من نسخها شريدة بن علي الطيار في جمادى الأولى سنة 1276 هـ للأميرة نورة بنت الإمام فيصل بن تركي، التي جعلتها وقفًا على طلبة العلم من المسلمين في 19 جمادى الأولى سنة 1276 هـ. وهي بخط نسخي جميل في 403 ورقة. وتصديرها مثل تصدير النسخة الكويتية. 8 - نسخة ابن سحمان. فرغ من كتابتها الشيخ سليمان بن سحمان رحمه اللَّه في التاسع من شهر شوال سنة 1285 هـ. وقد سجلت في المكتبة السعودية بالرياض برقم 43/ 86 في 24/ 6/ 1372 هـ. وهي في 421 صفحة، ومحفوظة الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية. 9 - نسخة مكتبة المعهد العلمي بحائل. وهي في 204 ورقة نسخها إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن فرحان بن محمد في شهر رجب 1301 هـ. وصورتها موجودة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برقم 2850 - 1 - ف. 10 - نسخة الضويان. وهي من مخطوطات المكتبة السعودية. وقد سجلت فيها برقم 350/ 86 في 15/ 4/ 1392 هـ. وعليه قيد وقف الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اللَّه المؤرخ في 1391 هـ. عدد صفحاتها 415 صفحة. وفرغ من نسخها الشيخ إبراهيم بن محمد الضويان رحمه اللَّه في 5 ربيع الأول سنة 1314 هـ. وصرّح في خاتمتها أنه كتبها لأخيه عيسى بن حمود المهوس. وعنوان الكتاب في الورقة الأولى: "كتاب سفر الهجرتين
(المقدمة/72)
وباب السعادتين" مع أن العنوان المعروف هو الثابت في مقدمة المؤلف (ق 2/ ب). وهي أيضًا محفوظة في مكتبة الملك فهد الوطنية. 11 - نسخة محفوظة في مكتبة جامعة بولونيا (إيطاليا) برقم 236. ذكرها بروكلمان في الذيل (2/ 127). 12 - نسخة في مكتبة جامعة ليدن في 205 ورقة بخط حديث. رقمها 3002 شرقيات. والأوراق 20 - 27 ساقطة منها. كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان: "سفر الهجرتين وطريق السعادتين أو طريق الهجرتين وباب السعادتين"، كما في فهرس المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ليدن (336). وذكرها بروكلمان أيضًا في الذيل (2/ 127). 13 - نسخة في جامعة الإمام برقم 891/ خ. 14 - نسخة في مكتبة الشيخ علي بن يعقوب في حائل في 150 ورقة. النسختان الأخيرتان ذكرهما الشيخ محمد عزير شمس في فهرس صنعه لمخطوطات كتب ابن القيم (مخطوط). وفي ختام حديثي عن نسخ الكتاب يطيب لي أن أشكر للإخوة القائمين على أقسام المخطوطات في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فقد أتاحوا الفرصة للاطلاع على مخطوطات الكتاب المحفوظة عندهم ثم تصوير ما لزم تصويره منها، فجزاهم اللَّه خير الجزاء.
(المقدمة/73)
منهج التحقيق اعتمدت في تحقيق النص على نسخة الظاهرية التي تأكد أنها مسودة المؤلف كما سبق. واستظهرت بنسخة الفاتح (ف) التي نقلت من المسودة، في قراءة النص واستكمال نص الوريقة التي ضاعت من الأصل، والنقص الذي أدت إليه عوامل البلى في بعض المواضع. وقد حرصت على إثبات كل خلاف من سقط أو تصحيف أو غلط وقع في نسخة الفاتح نتيجة لسهو أو انتقال نظر أو خطأ في القراءة. ثم اخترت ثلاث نسخ من سائر مخطوطات الكتاب، إذ تبين من دراستها أنها نقلت من أصول مختلفة، ثم تلك الأصول نقلت من مسودة المصنف قبل نسخة الفاتح، فقابلت النص عليها: الأولى نسخة برلين (ب) الناقصة الأول وتحوي أكثر من ثلثي الكتاب، والثانية نسخة برنستون (ن) الناقصة الآخر التي تشتمل على نحو الثلث الأول، فكأنهما تؤلفان نسخة كاملة قديمة. وقد استأنست بهما في ترجيح قراءة على أخرى، وأشرت إلى بعض الفروق، ولم أنبه على كثير من أخطائها وأسقاطها. أما النسخة الثالثة من هذه -وهي نسخة الكويت- فرأيت أنها تشبه المطبوعة والنسخ النجدية، فكأن أصلها واحد. فاخترتها لتنوب عن النسخ المتأخرة. ثم قابلت النص على طبعة السلفية (ط)، والطبعة القطرية التي طبعت عن الأولى بعد تصحيح أخطائها بالرجوع إلى بعض النسخ الخطية فيما يبدو. ولما كانت معظم طبعات الكتاب صادرة عن طبعة السلفية، وقد اعتمد فيها أو في أصلها على نسخة متأخرة، قيدت الخلافات بينها وبين
(المقدمة/74)
مسودة المؤلف (غير ألفاظ التسبيح والتمجيد أو ألفاظ الصلاة والسلام)، ليتبين الفرق الشاسع بين هذه النشرة والطبعات السابقة كلها. واخترت من فروق النسخة الكويتية ما شاركت فيه المطبوعة، وصرفت النظر عن غيرها إلا إذا اقتضى الأمر إثباته. وقد رجعت إلى الكتب الأخرى للمؤلف وشيخه، لربط هذا الكتاب بتلك في المسائل المشتركة، والاستفادة منها في خدمة النص من جهة القراءة أو الضبط أو التفسير أو التعزيز أو غير ذلك. ولما كان الأصل مسودة، والنسخ التي وصلت إلينا كلها مع اختلافها راجعة إلى هذه المسودة، وقد وقع فيها شيء كثير من السهو وسبق القلم = كنت مترددًا بين إثبات السهو في النص كما ورد في المسودة وإثبات الصواب في الحاشية، وبين تصحيح النص وإثبات السهو في الحاشية. ثم اخترت الطريقة الأخيرة فيما وقع من ذلك في العبارة والترقيم ونحو ذلك. ولا ضير في ذلك إن شاء اللَّه بعد ما التزمت أن لا أغفل شيئًا مما ورد في نص المسودة وأقيّده في الحواشي. وحاولت أن لا أضع عنوانًا جانبيًّا إلا عند الحاجة، وأحقق هذا الغرض بتحبير الكلمات أو الجمل الواردة في النص. أما تخريج الأحاديث فقد تولّاه -ما عدا أحاديث الصحيحين- الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري، فجزاه اللَّه خيرًا. وسترى في آخر تخريجاته حرف الزاي بين القوسين إشارة إليه. وقد ترجمت لطائفة من الزهاد والمشايخ الذين نقل المؤلف أقوالهم لأن أسماءهم قد تكون غير مألوفة لكثير من قراء هذا الكتاب. وحرصت
(المقدمة/75)
على أن تكون هذه التراجم بألفاظ قليلة مأخوذة من مصدرها ومبينة لمكانة الشخص عند القوم مع الإشارة إلى عهده. وفي آخر الكتاب وضعت فهارس كاشفة متنوعة تعين على الاستفادة من المباحث الجليلة التي انطوى عليها. وبعد، فأرجو أن أكون قد وفقت في أداء هذا النص القيم أداءً مقاربًا، وأن تكون نشرتي هذه أول نشرة علمية وأدناها إلى الصحة. واللَّه ولي التوفيق، وله الحمد في الأولى والآخرة. وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المقدمة/76)
نماذج مصوّرة من النسخ الخطّيّة المعتمدة
(المقدمة/77)
صفحة العنوان من الأصل
(المقدمة/78)
أول الكتاب في الأصل
(المقدمة/79)
ق 114/ أ من الأصل، وفيها إصلاحات وإضافات
(المقدمة/80)
ق 116/ أ من الأصل وفيها إضافات
(المقدمة/81)
خاتمة الأصل
(المقدمة/82)
صفحة العنوان من نسخة الفاتح (ت)
(المقدمة/83)
ق 1/ ب من النسخة (ف)
(المقدمة/84)
خاتمة النسخة (ف)
(المقدمة/85)
بداية النسخة (ب)
(المقدمة/86)
خاتمة النسخة (ب)
(المقدمة/87)
بداية الكتاب في النسخة (ن)
(المقدمة/88)
آخر النسخة (ن)
(المقدمة/89)
بداية الكتاب في نسخة الكويت (ك)
(المقدمة/90)
خاتمة نسخة الكويت (ك)
(المقدمة/91)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا. فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125]. فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم __________ (1) ضمَّن المؤلِّفُ هنا الآية الأولى من سورة الكهف، فظنَّ بعضهم أنَّه سها في نقل الآية، فغيَّر في "ن" وكتب: "والحمد للَّه الَّذي أنزل. . ". (2) "ط": "ووضع قهره على من"!
(1/5)
يرفع به رأسًا (1)، ونبذه وراءَ ظهره، وابتغى الهدى من غيره، وجعله (2) في دَركاتِ الجحيمِ متولِّجًا. فإنَّه الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، والنبأ العظيم، وحبلُ اللَّه المتينُ المديا بينه وبين خلقه، وعهدُه الذي مَن استَمْسَكَ به فاز ونجا. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، ولا سمى له، ولا كفو له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا شبيه له؛ ولا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقُه، شهادةَ مَن أصبحَ قلبُه بالإيمان باللَّه وأسمائه وصفاته مبتهِجًا، ولم يزغْ عنه إلى (3) شُبَهِ الجاحدين المعطّلين مُعَرِّجًا. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وخيرتُه من خلقه، وأمينُه على وحيه، وسفيُره بينه وبين عباده. أرسله اللَّه (4) رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجّةً للسالكين، وحجّةً على العباد أجمعين. أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعتَه ومحبتَه وتعزيرَه وتوقيره والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى جنّته جميعَ الطرق فلم يفتح لأحد إلّا مِن طريقه. فشرح له صدرَه، ورفع له ذكرَه، ووضع عنه وزرَه، وجعل الذلّة والصغارَ على من خالف أمره. فهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعدَ القلَّة، وأعزَّ به بعدَ الذلَّة، وأغنى به بعدَ العَيْلة. وبصَّر به من العمى، وأرشد به من __________ (1) "ط": "رأسه". (2) "ك، ط": "فجعله". (3) "ط": "ولم يدع إلى"، تحريف. (4) سقط لفظ الجلالة من "ط".
(1/6)
الغيّ، وفتح برسالته أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا. فبلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمّة، وجاهدَ في اللَّه حقَّ جهاده، وعَبَدَ اللَّه حتى أتاه اليقين. فلم يدع خيرًا إلَّا دلَّ أمته عليه، ولا شرًّا إلّا حذّر منه، ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإيمان والقرآن، وجاهد أعداءَ اللَّه باليد والقلب واللسان. فدعا إلى اللَّه على بصيرة، وسار في الأُمة -بالعدل والإحسان وخلقه العظيم- أحسنَ سيرة، إلى أن أشرقتْ برسالته الأَرضُ بعد ظلماتها، وتألّفتْ به (1) القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوتُه مسيرَ (2) الشمس في الأقطار، وبلغ دينُه القيّم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت القلوب لدعوة الحق (3) طوعًا وإذعانًا، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أمنًا وإيمانًا. فجزاه اللَّه عن أمته أَفضَل الجزاءِ، وصلّى عليه صلاةً تملأُ أقطارَ الأرض والسماءِ، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد: فإنّ اللَّه سبحانه غَرَسَ شجرةَ محبتِه ومعرفتِه وتوحيدِه في قلوب مَن اختارهم مِن بريّته (4)، واختصّهم بنعمته، وفضّلهم على سائر خليقتَه. فهي (5) {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم/ 24 - 25]. وكَذلِكَ (6) شَجَرَةُ الإِيمان __________ (1) "ك ": "بها". (2) "ف": "سير"، خلاف الأصل، وكذا في ط. (3) "ط": "لدعوته الحق القلوب". (4) "ط": "اختارهم لربوبيته". (5) في مبيضة المقدمة: "فهي شجرة طيبة"، وكذا في "ف، ن". والمثبت من خط المؤلف، ونحوه في "ك، ط". (6) "ك، ط": "فكذلك".
(1/7)
أصلُها ثابتٌ في القلب، وفروعُها من (1) الكلام الطيّب والعمل الصالح في السماءِ، فلا تزال هذه الشجرةُ تُخرِجُ ثمرَها كلَّ وقتٍ بإِذن ربِّها من طيّب القول وصالح العمل ممَّا تقرُّ به عينُ (2) صاحب الأصل وعيونُ حفظته وعيونُ أهله وأصحابه ومَن قرُبَ منه. فإنَّ من قرَّت عينُه باللَّه قرَّت به كلُّ عين، وأَنِسَ به كلُّ مستوحش، وطاب به كلُّ خبيث، وفرِحَ به كلُّ حزين، وأمِنَ به كلُّ خائف، وشهد به كلُّ غائب، وذكَّرتْ رؤيتُه باللَّه، فإذا رُئِيَ ذُكِرَ اللَّه. قد اطمأنَّ (3) قلبُه باللَّه (4)، وسكنت نفسُه إلى اللَّه، وخلصتْ محبته للَّه، وقصَرَ خوفَه من اللَّه (5)، وجعل رجاءَه كلَّه للَّه. فإن سمع سمع باللَّه، وإن أبصرَ أبصرَ باللَّه، وإن بطش بطش باللَّه، وإن مشى مشى باللَّه. فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي. فإذا أحبَّ أحبَّ اللَّه، وإذا أبغضَ أبغض للَّه (6)، وإذا أعطى فللّه، إذا منع فللّه. قد اتخذ اللَّه وحدَه معبودَه ومرجوَّه ومخوفَه وغايةَ قَصْدِه ومنتهى طلبِه، واتخذ رسولَه وحدَه دليلَه وإمامَه وقائدَه وسائقه (7). فوحَّد اللَّه __________ (1) "ك": "فروعها والكلم". ط: "فروعها الكلم". (2) "ك، ط": "ما تقر به عيون". (3) "ط": "فاطمأنَ". (4) "ك، ط": "إلى اللَّه". (5) كذا بخط المؤلِّف. وكتب ناسخ المبيضة فوق "من": "كذا"، وكذا في "ف، ن، ك". وفي "ط": "على اللَّه" وفي نسختي الأميرة نورة وابن كمان: "حضر خوفه. . . ". (6) "ك، ط": "فإذا أحبَّ فللَّه، وإذا أبغض فللَّه". (7) "ف": "شافعه"، ولعلَّه أخطأ في القراءة.
(1/8)
بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرَدَ (1) رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه. فله (2) في كلِّ وقتٍ هجرتان (3): هجرةٌ إلى اللَّه بالطلب والمحبة، والعبودية والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللَّجأ والافتقار في كلِّ نفس إليه. وهجرةٌ إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقةً لشرعه الذي هو تفصيلُ محابِّ اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه، وكل عملٍ سواهُ فعيشُ النفس وحظُّها لا زادُ المعاد. وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدَّس اللَّه روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريقَ من اقتفى آثارَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ اللَّه عزّ وجلَّ يقول: "وعزَّتي وجلالي لو أتوني من كلِّ طريقٍ، واستفتحوا (4) من كل بابٍ، لما فتحتُ لَهُمْ حتَّى يدخلوا خلفك" (5). وقال بعض العارفين: "كل عملٍ بلا متابعة فهو عيش النفس" (6). __________ (1) "ط": " إفراد"، خطأ. (2) "ط": "وله". (3) انظر نحو ذلك في مدارج السالكين (2/ 520)، والكافية الشافية (870)، والرسالة التبوكية (16 - 27). (4) "ك": "واستفتحوني". (5) قول الجنيد في طبقات الصوفية للسلمي (159)، وحلية الأولياء (10/ 276)، ونقله شيخ الإسلام في الاستقامة (1/ 97، 249). والمؤلف في مدارج السالكين (2/ 521). أمَّا "الأثر الإلهي" فأورده المؤلف في جلاء الأفهام (359). (6) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري، كما في الرسالة القشيرية (401)، وانظر مدارج السالكين (2/ 521)، والاستقامة (1/ 95، 249)، ومنهاج السنة (331).
(1/9)
ولمَّا كانت السعادة دائرةً -نفيًا وإثباتًا- مع ما جاءَ به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادتَه مقصورةً على محابّه، وهذه (1) أعلى همَّة شمَّرَ إليها السابقون، وتنافسَ فيها المتنافسون. فلا جرمَ ضمَّنَّا هذا الكتابَ قواعدَ من سلوك طريق (2) الهجرة المحمدية. وسمّيناه "طريق الهجرتين، وباب السعادتين". وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم (3) وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه. وختمناه بذكر طبقات المكلَّفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاء (4). فجاء الكتاب غريبًا فرب معناه، عجيبًا في مغزاه، لكلِّ قومٍ منه نصيب، ولكلِّ واردٍ منه شِرْب (5). وما كان فيه من حق وصوابٍ فمن اللَّه، هو المانُّ به، فإنَّما (6) التوفيق بيده. وما كان فيه من خطأ وزللٍ (7) فمنِّي ومن الشيطان، واللَّه ورسوله منه بريء (8). فيا أيها القارئ له والناظر فيه، هذه بضاعةُ صاحبه (9) المزجاةُ مسوقةٌ إليك، وهذا فهمه وعقلُه معروضٌ عليك. لك غُنْمُه، وعلى مؤلفه __________ (1) "ط": "وهذا". (2) "طريق": ساقط من "ك، ط". (3) "الأعظم": ساقط من "ط". (4) "ط": "الشقاوة". (5) "ط": "مشرب". (6) "ط": "فإن". (7) "خطأو" ساقط من "ط". (8) ط: "براء". والذي ورد في الأصل وغيره صحيح في العربية. (9) "ك، ط": "صاحبه".
(1/10)
غُرْمُه؛ ولك (1) ثمرتُه، وعليه عائدته. فإِنْ عدِمَ منك حمدًا وشكرًا، فلا يعدَمْ منك مغفرةً وعذرًا (2)، وإنْ أبيتَ إلا الملامَ فبابُه مفتوحٌ، وقد: استأثرَ اللَّهُ بالثناء وبالْـ ... ــــحَمْدِ وولَّى الملامةَ الرَّجُلا (3) واللَّه المسؤول أن يجعله لوجهه خالصًا، وأن ينفع (4) به مؤلفه وقارئه وكاتبه في الدنيا والآخرة. إنَّهُ سميع الدعاء. وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل. __________ (1) "ك": "فلك". (2) "مغفرة و" ساقط من "ك، ط". (3) البيت من قصيدة منسوبة إلى الأعشى في مدح سلامة ذي فائش الحميري. الديوان (283). وقد أنشده المؤلف في غير موضع من كتبه، والرواية المشهورة: "بالوفاء وبالعدل". والمؤلف أورده على أنحاء مختلفة. فوقع هنا وفي شفاء العليل (217) "بالثناء وبالحمد". وسيأتي في ص (79): "بالمحامد والفضل". وفي مدارج السالكين (1: 268) "بالمحامد والحمد". وفي الداء والدواء (137) "بالوفاء وبالحمد"، ونحوه في الشعر والشعراء (1: 69). واستدلَّ بعضهم بهذا البيت أنَّ الأعشى كان قدريًّا. انظر: الأغاني (9: 110)، وأمالي المرتضى (1: 21)، ولكن المؤلف أنشده في المدارج في سياق الاحتجاج بالقدر كان قائله من الجبرية خصماء اللَّه، وأرى ذلك أشبه بلفظ البيت من السياق الذي أورده المؤلف فيه هنا وفي المواضع الأخرى. (4) "ك، ط": "وينفع".
(1/11)
فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه] (1) قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر/ 15]. بيَّن سبحانه في هذه الآية أنَّ فقرَ العباد إليه أمرٌ ذاتيٌّ لهم لا ينفك عنهم، كما أنَّ كونَه غنيًّا حميدًا أمرٌ (2) ذاتيٌّ له. فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمرٍ أوجبه، وفقرُ من سواه إليه أمرٌ (3) ثابت لذاته لا لأمرٍ أوجبه. فلا يعلَّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل (4) هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلَّة أوجبت تلك الحاجة؛ كما أنَّ غنى الرب عزَّ وجلَّ لذاته، لا لأمرٍ أوجبَ غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا ... كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي (5) __________ (1) ما بين الحاصرتين من "ط". (2) "أمر" ساقط من "ط". (3) "ك": "سواه أمر" فسقط منها "إليه". وسقط "أمر" من "ط". (4) "ك": "فهو". (5) في "ك": "كما أنَّ الغنى وصف"، وهو خطأ، والبيت من جملة أبيات أوردها المصنف في مدارج السالكين (2: 12)، وذكر أنَّ شيخ الإسلام بعث إليه في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها تلك الأبيات بخطه من نظمه. وانظر أيضًا (2: 494). وقال صاحب المنهج الأحمد: "ومن إنشاد الشيخ رحمه اللَّه لنفسه قبل موته بأيام" ثمَّ ذكر الأبيات. انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (545 - 546).
(1/12)
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذَّات لا بعلَّة، وكلُّ ما يذكَرُ ويقدَّر (1) من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلَّة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك؛ إذ ما بالذات لا يعلَّل. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يذكَر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلَّةٌ على الفقر، لا أسبابٌ له. ولهذا كان الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب تعالى غيرَ القولين اللذين يذكرهما (2) الفلاسفة والمتكلمون، فإنَّ الفلاسفة قالوا: علَّة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علَّة الحاجة الحدوث. والصواب أنَّ الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار. وفقرُ العالم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ أمرٌ ذاتي لا يعلَّل، فهو فقيرٌ بذاته إلى ربِّه الغني بذاته. ثمَّ يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلَّة على هذا الفقر. والمقصود أنَّه سبحانه أخبرَ عن حقيقة العباد وذواتهم بأنَّها فقيرة إليه عزَّ وجلّ، كما أخبر عن ذاته المقدَّسة وحقيقتِه أنَّه غنيٌّ حميد. فالفقرُ المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي. فيستحيل أن يكون العبدُ إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ تعالى إلا غنيًّا، كما أنَّهُ يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا. إذا عُرِف هذا، فالفقرُ فقران: فقرُ اضطرارٍ (3)، وهو فقرٌ عامٌّ لا خروج لِبَرٍّ ولا فاجر عنه. وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا __________ (1) "ط": "يقرّر"، تحريف. (2) "ف": "تذكرهما". والأصل غير منقوط. (3) "ط": "اضطراري".
(1/13)
ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا. والفقر الثاني فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه؛ فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا (1) له (2) فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته. وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل. فاللَّه تعالى أخرج العبد من بطن أُمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيءٍ، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع، ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة؛ فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كمالُه أمرًا مشهودًا محسوسًا لكلِّ أحد، ومعلوم أنَّ هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره. فلمَّا أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلَّمه، وأقدره، وحرَّكه، وصرَّفه (3)، ومكَّنه من __________ (1) كذا في الأصل، و"ف"، يعني العلمين الشريفين. وفي "ك، ط": "أنتجتا" يعني المعرفتين. (2) "له" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "وصرَّفه وحرَّكه".
(1/14)
استخدام بني جنسه، وسخَّر له الخيل والإبل، وسلَّطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء، وقهرِ الوحوش (1) العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجارِ، وشقِّ الأرض، وتعلية البناءِ، والتحيّل على جميع مصالحه (2)، والتحرز والتحفظ ممَّا (3) يؤذيه = ظن المسكينُ أنَّ له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه ملكةً (4) مع اللَّه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتَّى كأنَّه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج المضطر (5)، بل كان ذلك شخصًا آخر غيرَه؛ كما روى (6) الإمام أحمد في مسنده من حديث بُسْر (7) بن جِحَاش القرشي أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصق يومًا في كفِّه فوضع عليها إصبعه ثمَّ قال: "قال اللَّه عزَّ وجلّ: بُنَيَّ (8) آدم، أنَّى تعجزني! وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيد (9)، فجمعتَ __________ (1) "ك، ط": "الوحش". (2) "جميع" ساقط من "ك، ط". (3) "ط": "لما". (4) "ط": "ملكًا". (5) "المضطر" ساقط من "ك، ط"، وفي "ك": "والمحتاج". (6) "ف": "أخبر"، خلاف الأصل. (7) كذا بالسين المهملة في الأصل. وفي غيره بالمعجمة، قال ابن منده: أهل العراق يقولون "بسر" بالمهملة، وأهل الشام يقولونه بالمعجمة. وقال الدَّارقطني وابن زبر وابن ماكولا: لا يصح بالمعجمة، أمَّا أبوه "جحاش" فضبط في الأصل بكسر الجيم، ويقال أيضًا بفتحها وتثقيل الحاء. انظر: الإصابة (1/ 291)، وتوضيح المشتبه (1/ 521). وفي "ن" حاشية لم تظهر كاملة في المصورة، أشير فيها إلى قول ابن منده. (8) "ط": "يا ابن آدم". (9) الوئيد: صوت شدّة الوطء على الأرض يُسمع كالدويّ من بُعد.
(1/15)
ومنعتَ، حتى إذا بلغتِ التراقي قلتَ: أتصدّق، وأنَّى أوانُ الصدقة! " (1). ومن ههنا خُذِلَ مَن خُذِلَ ووُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فحُجب المخذول عن حقيقته وأُنسيَ (2) نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورَته إلى ربه، فطغى وبغى (3) وعتا، فحقّت عليه الشقوة. قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق/ 6 - 7] وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10]. فأكملُ الخلقِ أكملُهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وحاجته (4) وضرورته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين. ولهذا كان من دعائه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصلحْ لي شأني كلَّه، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفةَ عين، ولا إلى أحدٍ مِن خَلْقِك" (5). __________ (1) أخرجه أحمد (17842)، وابن ماجه (2707)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (869، 870)، والحاكم (2/ 545) (3855) وغيرهم. وفيه عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حريز. وقال ابن حجر: مقبول. وقد روى عنه جماعة. وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. ووثَّقه العجلي وابن حبان. والحديث صحح إسناده الحاكم والبوصيري وابن حجر. انظر: مصباح الزجاجة (3/ 143)، والإصابة (1/ 153). (ز). (2) "ك، ط": "نسي". (3) "وبغى" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "ضرورته وحاجته". (5) أخرجه أحمد (20430) مطولًا، وأبو داود (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (651)، وابن حبان (970) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (910) وغيرهم. وليس عندهم: "ولا إلى أحد من خلقك". =
(1/16)
وكان يدعو: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" (1). يعلم (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أن قلبه بيد الرحمن عزَّ وجل لا يملك هو (3) منه شيئًا، وأنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء/ 74]. فضرورته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وبحسب (4) قربه منه ومنزلته عنده، وهذا أمر إنَّما لمن بعده منه (5) ما يرشح من ظاهر الوعاءِ. ولهذا كان أقربَ الخلق إلى اللَّه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلة؛ لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه عزَّ وجلَّ. __________ = والحديث أعلَّه النسائي بجعفر بن ميمون، فقال: ليس بالقوي. ووافقه المنذري. وجعفر له منكرات، وقد تفرَّد بهذا اللفظ في الحديث. والحديث صحَّحه ابن حبان، وحسَّن إسناده الهيثمي، وابن حجر. انظر: مجمع الزوائد (10/ 137)، ونتائج الأفكار (2/ 369)، وجاء عن أنس عند النسائي في عمل اليوم والليلة (570)، قال ابن حجر: "حسن غريب"، وانظر الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 291) (218). (ز). (1) أخرجه أحمد (17630) مطوَّلًا، وابن ماجه (199)، وابن حبان (943)، والحاكم (1/ 706) (1926) وابن منده في التوحيد (120) وغيرهم من حديث النواس بن سمعان رضي اللَّه عنه. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم وابن منده والبوصيري. انظر: مصباح الزجاجة (1/ 27). وجاء هذا المتن عن جماعة من الصحابة. راجع السنة لابن أبي عاصم (237،232، 240) وغيره (ز). (2) "ك": "فعلم". (3) "هو": ساقط من "ط". (4) "بحسب" ساقط من "ك". وفي"ط": "وحسب قربه". (5) "ك": "إنَّما هو لمن بعده ما"، ثم ضرب بعض القراء على "هو". وفي "ط": "إنَّما بدا منه لمن بعده ما".
(1/17)
وكان يقولُ لهم: "أيها النَّاس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي، إنَّما أنا عبد" (1) وكان يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيحَ ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله" (2). وذكره اللَّه عزَّ وجل بسمة العبودية في أشر مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدى (3). فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء/ 1]. وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن/ 19]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة/ 23]. وفي حديث الشفاعة: "إنَّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبدٍ غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (4). فنالَ ذلك المقام بكمال عبوديته للَّه وبكمال مغفرة اللَّه له. وتأمَّل (5) قوله في الآية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر/ 15] فعلَّق الفقر إليه باسمه "اللَّه" (6) دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإنَّه __________ (1) أقرب لفظ لما ساقه المؤلف ورد عن الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (159) بلفظ "يا أيها النَّاسُ لا ترفعوني فوق حقي، فإن اللَّه عزَّ وجلَّ قد اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني نبيًّا". وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138 - 139) (2889)، والحاكم في المستدرك (3/ 197) (4825) بنحوه. والحديث صحَّحه الحاكم وحسَّنه الهيثمي في المجمع (9/ 21) (ز). (2) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3445) وغيره. (3) وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 110). (4) أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه في كتاب التفسير (4476) وغيره. (5) "ك، ط": فتأمَّل". (6) "ك، ط": "باسم اللَّه". وسقط من "ط": "فعلق الفقر إليه".
(1/18)
-كما تقدم- نوعان: فقرٌ إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها؛ وفقرٌ إلى إلاهيته (1)، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده [الصالحين] (2)، وهذا هو الفقر النافع. والذي يشير إليه القوم، ويتكلمون عليه، ويشمرون إليه، هو الفقر الخاص لا العام. وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكلٌّ أخبرَ عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير.
[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي، وتفسير كلامه]
قال شيخ الإسلام الأنصاري: "الفقر اسم للبراءة من رؤية الملَكة، وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: فقر الزهاد، وهو نفضُ اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها ذمًّا أو مدحًا، والسلامةُ منها طلبًا أو تركًا، وهذا هو الفقر الذي تكلَّموا في شرفه. الدرجة الثانية: الرجوعُ إلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال، ويمحّص من أدناس مطالعات (3) المقامات. الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، والوقوعُ في يد التقطع الوحداني، والاحتباس في قيد (4) التجريد، وهو فقر الصوفية" (5). __________ (1) "ك، ط": "ألوهيته". (2) ما بين الحاصرتين من "ك، ط". (3) "ط": "مطالعة" كما في مدارج السالكين (2/ 50). (4) "ط": "في بيداء قيد"، كما في المدارج وبعض نسخ منازل السائرين. (5) منازل السائرين (56). وقارن تفسير المؤلف لكلام الهروي هنا، بما فسره في المدارج (2/ 497 - 502).
(1/19)
فقوله: "الفقرُ اسمٌ للبراءة من رؤية الملكة" يعني أنّ الفقير هو الذي يجرّد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه، لا يرى نفسه مالكًا بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحَقّة عليه بمقتضى كونه مملوكًا عبدًا مستعملًا فيما أمره به سيّده. فنفسه مملوكة، وأعماله مستحَقّة بموجب العبودية، فليس مالكًا لنفسه ولا لشيء من ذرّاته ولا لشيء من أعماله، بل كلّ ذلك مملوك عليه مستحقّ عليه؛ كرجل اشترى عبدًا بخالص ماله ثمّ علّمه بعض الصنائع، فلمّا تعلّمها قال له: اعمل وأدِّ إليَّ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء. فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئًا، بل يراها (1) كالوديعة في يده، وأنّها أموالُ أُستاذه وخزائنُه ونعمُه، بيد عبده مستودعها (2)، متصرّفًا فيها لسيّده لا لنفسه، كما قال عبد اللَّه ورسوله وخيرته من خلقه: "واللَّه إني لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرتُ" (3). فهو متصرّف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرُّفَ العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيّده. فاللَّه هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقِه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية للَّه عز وجلّ، فيبذل (4) أحدهم الشيء رغبةً في ثواب اللَّه، ورهبةً من عقابه، وتقرّبًا __________ (1) "ك، ط": "يراه". (2) "ك، ط": " مستودعًا". (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (3117). وانظر المسند (16: 180) (10257). (4) "ك": "فبذل".
(1/20)
إليه، وطلبًا لمرضاته؟ أم يكون البذل والإمساك منهم صادرًا عن مراد النفس، وغلبة الهوى، وموجب الطبع، فيعطي لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرّفًا تصرّف المالك لا المملوك، فيكون مصدرُ تصرّفه الهوى ومرادَ النفس، وغايتُه الرغبةَ فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ، أو الرهبةَ من فوت شيء من هذه الأشياءِ. وإذا كان مصدر تصرّفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكًا، فادعى الملكة (1)، وخرج عن حدّ العبوديّة، ونسي فقره. ولو عرف نفسه حقّ المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحَن في صورة مالك (2) متصرّف، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس/ 14]. وحقيق بهذا الممتحَن أن يُوكَل إلى ما ادّعته نفسه من الحالات والملكات مع المالك الحقّ سبحانه، فإنّ من ادّعى لنفسه حالةً مع اللَّه وُكِلَ إليها. ومن وُكِل إلى شيء غير اللَّه فقد أتيح (3) له بابُ الهلاك والعطَب، وأغلق عنه بابُ الفوز والسعادة؛ فإنّ كل شيء ما سوى اللَّه باطل، ومن وُكِلَ إلى الباطل بطل عمله، وضل سعيه، ولم يحصل إلّا على الحرمان. فكلّ من تعلّق بشيء غير اللَّه (4) انقطع به أحوجَ ما كان إليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ __________ (1) "ك، ط": "الملك". (2) "ك، ط": "ملِك". (3) "ك، ط": "فتح". (4) "ك، ط": "تعلق بغير اللَّه".
(1/21)
الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة/ 166]. فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي كانت (1) بغير اللَّه ولغير اللَّه، قُطِعت (2) بهم أحوجَ ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلّت وبطلت اضمحلّت أسبابها وبطلت، فإنّ الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها. وكلُّ شيء هالكٌ إلّا وجهه سبحانه، فكل عمل (3) باطلٌ إلّا ما أريد به وجهه، وكلّ سعي لغيره فباطل (4) ومضمحل. وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكدّ والخدمة التي يفعلها العبد لمتولٍّ أو أمير أو صاحب منصب أو مال، فإذا زال ذلك الذي عمل له وعُدِمَ ضلّ ذلك (5) العمل، وبطل ذلك السعي، ولم يبق في يده سوى الحرمان. ولهذا يقول اللَّه تعالى يوم القيامة: "أليس عدلًا منّي أن (6) أُولِّيَ كلَّ رجلٍ منكم ما كان يتولّى في الدنيا؟ " (7) فيتولّى عُبّاد الأصنام والأوثان __________ (1) "كانت": ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "تقطعت". (3) "ك، ط": "وكل عمل". (4) "ك، ط": "باطل". (5) "ك، ط": "عمل له عدم ذلك". (6) "ط": "أني". (7) أخرجه عبد اللَّه في السنة (1203)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (31)، والطبراني (9763)، والحاكم في المستدرك (2: 408) (3424) وغيرهم مطوَّلًا من حديث ابن مسعود. والحديث صحَّحه ابن منده والحاكم. وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجَّح الدَّارقطني رفعه. وقال الذهبي: ما أنكره حديثًا على جودة إسناده! (ز).
(1/22)
أصنامَهم وأوثانَهم، فتتساقط بهم في النار. ويتولّى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم، فإذا كوّرت الشمس، وانتثرت النجوم اضمحلّت تلك العبادة، وبطلت، وصارت حسرةً عليهم {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 167]. ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقةً وأغبنهم يوم معاده، فإنه يحال على مفلس كلَّ الإفلاس بل على عدم، والموحّد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين! وقوله: "البراءَة من رؤية الملكة". ولم يقل "من الملكة" (1) لأنّ الإنسان قد يكون فقيرًا لا ملكة له في الظاهر، وهو عرفي عن التحقّق (2) بنعت الفقر الممدوحِ أهلُه الذين لا يرون مَلَكةً إلّا لمالكها الحقّ ذي (3) الملك والملكوت. وقد يكون العبد قد فُوض إليه من ذلك شيءٌ وجُعِلَ كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود -صلى اللَّه عليه وسلم- أوتي مُلْكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأغنياءُ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أغنياءُ الصحابة. فهؤلاءِ لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر، وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم، فلا يرون لها ملكًا حقيقيًا، بل يرون ما في أيديهم للَّه عاريةً ووديعةً في أيديهم، ابتلاهم به لينظر هل يتصرّفون فيه تصرَّفَ العبيد أو تصرَّفَ الملّاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم. __________ (1) بلى، كذا ورد في بعض نسخ منازل السائرين التي اعتمد المؤلف عليها في مدارج السالكين (2/ 497). (2) "ف، ك": "التحقيق"، خطأ. (3) في الأصل: "ذو"، سهو، وكذا في "ن".
(1/23)
فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره، إنّما يقدح في فقره رؤيته لملكته. فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوّث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره (1)، وكان كالخازن لسيّده الذي ينفّذ أوامره في ماله، فهذا لو كان بيده من المال مثل (2) جبال الدنيا لم يضرّه. ومن لم يُعافَ من ذلك ادّعت نفسه الملكة، فتعلّقت (3) به النفس تعلّقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أكبر همّه ومبلغ علمه، إن أعطي رضي، وإن مُنع سخط. فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهمومًا به (4)، ويمسي كذلك، فيبيت (5) مضاجعًا له. تفرح نفسه إذا ازداد، وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا توهمتْ نفسه الفقر، وقد يؤثر الموت على الفقر. والأول مستغنٍ بمولاه المالك الحيّ (6) الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المالَ الذي في يده نائبةٌ رأى أنّ المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع؟ وإنّما تصرّفَ مالكُ المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله: إن شاءَ أبقاه، وإن شاءَ ذهب به وأفناه، فلا يتّهم مولاه في تصرّفه في ملكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة. فليس لقلبه بالمال تعلّق، __________ (1) في الأصل نقط الخاء وأهمل الباقي. وفي "ن" نقط التاء، وقرأها ناسخ "ف": "واحتيازه". والمثبت من "ك، ط". (2) "ك، ط": "أمثال". (3) "ك، ط": "وتعلقت". (4) "به" ساقط من "ن، ك، ط". (5) "ك، ط": "يبيت". (6) "ك، ط": "الحق".
(1/24)
ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همّته إلى المالك الحقّ، فهو غنيّ به وبحبّه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه. فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق/ 6 - 7] ولم يقل: "أن استغنى"، بل جعل الطغيان ناشئًا عن رؤيته (1) غنى نفسه. ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} [الليل/ 8 - 9] (2). وهذا -واللَّه أعلم- لأنّه ذكر موجب طغيانه وهو رؤيته (3) غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجِب هلَاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربّه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه لتقرّب إليه بما أمره به (4) من طاعته، فعلَ المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفةَ عين ولا يجد بدًّا من امتثال أوامره. ولذلك ذكر معه بخله، وهو تركه إعطاءَ ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبَه بالحسنى، وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس/ 26]. ومن فسّرها بشهادة أن لا إله إلّا اللَّه فلأنّها أصل الإحسان، وبها تنال الحسنى. ومن فسّرها بالخلَف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقَّه، وهو أكبر من ذلك، وإن كان الخلَف جزءًا من أجزاءِ الحسنى. __________ (1) "ك، ط": "رؤية". وفي "ف": "عين نفسه"، تحريف. (2) زاد في "ك، ط" الآية العاشرة. (3) "ك، ط": "رؤية". (4) "به" ساقط من "ك، ط".
(1/25)
والمقصود أنّ الاستغناءَ عن اللَّه سببُ هلاك العبد وتيسيرِه لكلّ عسرى، ورؤيتُه غنى نفسه سببُ طغيانه، وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية.
[تفسير الدرجة الأولى من الفقر]
قوله: "الدرجة الأولى فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أَو طلبًا، [وإسكات اللسان عنها ذمًّا أَو مدحًا، والسلامة منها طلبًا] (1) أو تركًا، وهذا هو الفقر الذي تكلّموا في شرفه". فحاصلُ هذه الدرجة فراغُ اليد والقلب من الدنيا، والذهولُ عن الفقرِ منها والزهدِ فيها. وعلامةُ فراغ اليد نفضُ اليدين من الدنيا ضبطًا أَو طلبًا: فهو لا يضبط يده مع وجودها شحًّا وضنًّا بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالًا وإلحافًا وحرصًا. فهذا الإعراض والنفض دالٌ على سقوط منزلتها من القلب، إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضدّ ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها. وأيضًا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذمًّا أو مدحًا (2) لأن من اهتمّ بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحًا أو ذمًّا، فإنه إن حصلتْ له مدَحَها، وإن فاتته ومُنِعَها (3) ذمَّها. __________ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل وغيره بسبب انتقال النظر. وقد استدرك في "ط". (2) "ك، ط": "ومدحًا". (3) "ومنعها": ساقط من "ك، ط".
(1/26)
وذمُّها (1) علامةُ موضعِها من القلب، لأن الشيء إنّما يُذمّ على قدر الاهتمام به والاعتناءِ بشفاء (2) الغيظ منه بالذم. وكذلك تعظيم الزهد فيها إنَّما هو على قدر خطرها في القلب، إذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر. وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإنَّ من أحبَّ شيئا أكثر من ذكرِه. فصاحب (3) هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها، ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدلُّ على محبتها، ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدلُّ على موقعها وخطرها؛ فإنَّ الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه ذمًّا أو مدحًا (4). وكذلك صاحب هذه الدرجة فانٍ (5) عن النظرِ إلى تركها، وهو الذي تقدَّم من ذكر خطر الزهد فيها؛ لأنَّ نظرَ العبد إلى كونه تاركًا لها زاهدًا فيها، تتشوف (6) نفسه بالترك وتتلذَّذ به = دليل على شغله بها، ولو على وجه الترك (7)؛ وذلك من خطرها وقدرها. ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها، ولو اهتمَّ القلب بمهمٍّ من المهمات المطلوبة التي هي __________ (1) "ك، ط": "ومدحها وذمها". (2) "ط": "والاعتناء شفاء". (3) "ك، ط": "وصاحب". (4) "ك، ط": "مدحًا أو ذمًّا". (5) "ط": "سالم"، ولعلَّه تغيير من الناشر. (6) "ك، ط": "تتشرف". (7) "وتتلذَّذ. . الترك": ساقط من "ط".
(1/27)
فاقات (1) أهل القلوب والأرواح لذهل عن النظر إلى نفسه بالترك والزهد (2). فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلّها: من مرض الضبط، والطلب، والذم، والمدح، والترك. فهي بأسرها، وإن كان بعضها ممدوحًا في العلم مقصودًا يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنَّها آثار وأشكال مشعرة بأنَّ صاحبها لم يذُقْ حال الخلوّ والتجريد الباطن، فضلًا عن أن يتحقق بشيءٍ (3) من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها. فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتي الداخل (4) بكليته في الدنيا قد ركن إليها، واطمأنَّ إليها، واتخذها وطنًا، وجعلها له سكنًا؛ وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وتخلص من قيودها ورعوناتها (5) وآثارها، وارتقى إلى ما يسبي (6) القلبَ ويُحييه ويُفرحه ويُبهجه من جذَبات العزَّة (7). فهو في البرزخ كالحامل المقْرِب، ينتظر ولادة الروح والقلب صباحًا ومساءً، فإن من لم تولد روحه وقلبه، ويخرجْ من مشيمة نفسه، ويتخلّصْ من ظلمات طبعه وهواه وإراداته (8)، فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها. فهكذا هذا الذي __________ (1) "ط": "مذاقات"، تحريف. (2) "ك، ط": "بالزهد والترك". (3) "بشيء" "ساقط من "ك، ط". (4) "ف": "درجتين الداخل"، أخطأ في القراءة. (5) "ط": "رعونتها". (6) "ط": "يسر"، تحريف. (7) "ف": "حدثات الغرة"، تصحيف. (8) "ك، ط": "إرادته".
(1/28)
هو (1) بعدُ في مَشِيمة النفس والظلمات الثلاث التي (2) هي: ظلمة النفس، وظلمة الطبع، وظلمة الهوى. فلا بدَّ من الولادة مرَّتين كما قال المسيح للحواريين: "إنَّكم لن تلِجوا ملكوتَ السماء حتى تولَدوا مرَّتين" (3). ولذلك كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبًا للمؤمنين، كما في قراءة أُبيّ: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم" (4). ولهذا تفرع على هذه الأبوة أن جُعِلت أزواجه أمّهاتِهم، فإن أرواحهم وقلوبهم وُلِدت به ولادةً أخرى غيرَ ولادة الأمهات، فإنّه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغيّ إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهدتْ حقائق أُخر وأمورًا لم يكن لها بها شعور قبله. قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم/ 1]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة/ 2]. وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ __________ (1) "هو": ساقط من "ط". (2) "التي" ساقط من "ط"، وفي "ك": "الذي"، خطأ. المدارج (2/ 497 - 502). (3) سيأتي قول المسيح هذا مرَّة أخرى في ص (397). (4) نقل المصنف قول المسيح المذكور وتفسيره وقراءة أبي بن كعب والاستدلال بها في مدارج السالكين (3/ 34) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وانظر منهاج السنة (5/ 238).
(1/29)
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران/ 164]. والمقصود أنّ القلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلبٌ لم يولد ولم يأنِ له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغيّ والجهل والضلال. وقلبٌ قد وُلِد وخرج إلى فضاءِ التوحيد والمعرفة، وتخلّص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرّتْ عينه باللَّه، وقرّتْ عيونٌ به وقلوب، وأنِستْ بقربه الأرواح، وذكّرت رؤيتُه باللَّه؛ فاطمأنّ باللَّه، وسكن إليه، وعكف بهمّته عليه (1)، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يقَرّ بشيء غير اللَّه، ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئنّ (2) بغيره. يجد من كلّ شيء سوى اللَّه عوضًا، (3) ولا يجد من اللَّه عوضًا أبدًا. فذكرُه حياةُ قلبه، ورضاه نهايةُ (4) مطلبه، ومحبّتُه قوتُه، ومعرفتُه أنيسُه. عدوُّه مَن جذَب قلبه عن اللَّه "وإن كان القريبَ المصافيا" (5)، ووليُّه من ردَّه إلى اللَّه، وجَمَع قلبَه عليه، "وإن كان البعيدَ المناويا". __________ (1) "عليه "ساقط من "ط". (2) "ف": "يظهر"، تحريف. (3) بعده في "ط": "ومحبته قوته"، وهي جملة مقحمة هنا، وستأتي قريبًا في مكانها. (4) "ط": "غاية". (5) كأنَّه اقتبسه من قول أبي قيس صرمة الأنصاري: نعادي الذي عادى من النَّاسِ كلهم ... جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا وقد أنشده في مثل هذا السياق في مدارج السالكين (1/ 234)، والبيت في سيرة ابن هشام (1/ 512).
(1/30)
فهذان قلبان متباينان غاية التباين. وقلبٌ ثالثٌ في البرزخ ينتظر الولادة صباحًا ومساءً، قد أشرف (1) على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أشعّةَ التوحيد. تأبى غلَباتُ الحبّ والشوق إلّا تقرّبًا إلى مَن السعادةُ كلُّها بقربه، والحظُّ كل الحظ في طاعته وحبّه؛ وتأبى غلباتُ الطباع إلّا جذبَه وإيقافَه وتعويقَه، فهو بين الدّاعيَين تارةً وتارةً، قد قطع عقباتٍ وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات. والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقّق به ظاهرًا وباطنًا، وسلِم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي، وليس فيه قادح من القوادح التي تحطّه عن درجة الفقر. واعلم أنّه يحسن إعمالُ اللسان في ذمّ الدنيا في موضعين: أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها، ولا يأمن إجابةَ الداعي، فيستحضر في نفسه (2) قلّة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسّة شركائها (3)، فإنّه إن تمّ عقلُه وحضر رشدُه زهِدَ فيها ولا بدّ. فصل [تفسير الدرجة الثانية من الفقر] وقوله: "الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل. وهو يُورث الخلاصَ من رؤية الأعمال، ويقطع شهودَ الأحوال، ويمحّص من __________ (1) "ط": "قد أصبح". (2) "ف": "فتستحضر نفسُه"، وهو خلاف الأصل. (3) مأخوذٌ من قول بعض الزهاد، كما سيأتي في ص (541).
(1/31)
أدناس مطالعات (1) المقامات". فهذه الدرجة أرفع من الأولى وأعلى، والأولى كالوسيلة إليها؛ لأنَّ في الدرجة الأولى يتخلَّى بفقره عن أن يتألَّه غيرَ مولاه الحق، وأن يضيّع أنفاسَه في غير مرضاته (2)، وأن يفرق همومَه في غير محابّه، وأن يؤثر عليه غيرَه (3) في حالِ من الأحوال. فيوجبُ له هذا الخلوُّ (4) وهذه المعاملةُ صفاءَ العبودية، وعمارة السرِّ بينه وبين اللَّه، وخلوص الوداد والمحبة (5). فيصبح ويمسي، ولا همَّ له غير ربه، قد قطع همُّه بربِّه عنه جميعَ الهموم، وعطَّلت إرادته له (6) جميع الإرادات، ونسخت محبتُه له من قلبه كل محبةٍ لسواه، كما قيل (7): لقد كان يسبي القلبَ في كلِّ ليلة ... ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجحُ يهيمُ بهذا ثمَّ يألفُ غيرَه ... ويسلوهُمُ من فورِه حينَ يُصبِحُ وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبِّكم ... فكان بحبِّ الخلقِ يلهو ويمرَحُ __________ (1) "ط": "مطالعة". (2) "ف": "مرضياته". (3) "غيره" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "الخلق"، ولعلَّه تحريف. (5) "ك، ط": "الود". وسقطت "المحبة" من "ط". (6) "له" ساقط من "ك، ط". (7) الأبيات لسمنون بن حمزة، وقد أورد السلمي أربعة منها برواية مختلفة مع بيت آخر في طبقات الصوفية (198)، ونقلها عنه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 236). وانظر: صفة الصفوة (1/ 485). والأبيات (1، 6، 9) في الزهرة (62) معزوة إلى "بعض أهل هذا العصر". وقد توفي سمنون بعد الجنيد (297 هـ) فهو معاصر لصاحب الزهرة (255 - 297 هـ).
(1/32)
فلمَّا دعا قلبي هواكَ أجابه ... فلستُ أُراهُ عن جَنابِكَ (1) ينزَحُ (2) حُرِمْتُ مُنَايَ (3) منكَ إن كنتُ كاذبًا ... وإن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرحُ وإنْ كان شيءٌ في الوجود سواكمُ ... يقِرُّ به القلبُ الجريحُ ويفرحُ وإنْ (4) لعبتْ أيدي الهوى بمُحِبِّكم ... فليس له عن بابكم مُتزحْزَحُ فإنْ أدركته غربةٌ عن دياركم ... فحبكم بين الحشا ليس يبرَحُ وكم مشترٍ في الخلق قد سام قلبَه ... فلم يره إلا لحبِّك يصلُحُ هوى غيرِكم نارٌ تلظَّى ومحبِسٌ ... وحبُّكم الفردوس أو هو أفسَحُ فيا ضيمَ قلبٍ قد تعلَّق غيرَكم ... ويارحمتا (5) ممَّا يجولُ ويكدَحُ واللَّه عزَّ وجلَّ لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبقدر ما يدخل القلبَ من همٍّ وإرادةٍ وحبٍّ، يخرج منه همٌّ وإرادةٌ وحبٌّ يقابله، فهو إناءٌ واحد والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنَّما يمتلئ الإناءُ بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأمَّا إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتَّى يخرج ما فيه، ثمَّ يسكن موضعه، __________ (1) في حاشية "ن" أنَّ في نسخة: "خباثك"، وكذا في "ط". وفي الطبقات: "فنائك". (2) هذه قراءة "ف". وفي "ن": "يبرح" وكذا في الطبقات و"ك، ط". ويحتمل: "يسرح"، وكذا في تاريخ بغداد. (3) "ك، ط": "منائي". وفي القطرية: "الأماني". والصوابُ ما أثبتنا. (4) في حاشية "ن" أنَّ في نسخة "إذا"، وكذا في "ط". (5) "ط": "رحمة".
(1/33)
كما قال (1): أتاني هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوى ... فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكنا (2) ففقرُ صاحب هذه الدرجة تفريغُه إناءه من كلِّ شراب مسكرٍ، وكلُّ شراب غير شراب المحبة والمعرفة فمسكرٌ (3) ولا بد، "وما أسكر كثيره فقليلهً حرام" (4)، وأين سكر الهوى والدنيا إلى (5) سكر الخمر! وكيف يوضع شرابُ التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى، لا يفيق (6) من سكره ولا يستفيق! ولو فارق هذا السكر القلبَ لطار بأجنحة الشوق إلى اللَّه والدار الآخرة، ولكن رضيَ المسكين بالدون، وباع حظه من قرب اللَّه ومعرفته وكرامته بأخسِّ الثمن صفقةَ خاسرٍ مغبونٍ، فسيعلم أيَّ حظٍّ أضاع إذا فاز المحبون، وخسر المبطلون! __________ (1) "ك، ط": "قال بعضهم". (2) من الأبيات المشهورة، وقد أنشده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 546)، وإغاثة اللهفان (1/ 181)، وروضة المحبين (187، 240)، ونسبه في الموضع الأخير إلى قيس بن الملوّح. وهو في ديوانه (219). وينسب إلى غيره. (3) "ط": "من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأنَّ كل شراب فمسكر". (4) من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. أخرجه أحمد في المسند (6674)، والنسائي (8/ 300)، وابن ماجه (3394) وغيرهم، وسنده حسن. وورد هذا المتن عن جابر وأنس وعائشة وابن عمر رضي اللَّه عنهم (ز). (5) "ك، ط": "من". (6) "ط": "ولا يفيق".
(1/34)
فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]
وإذا كان التلوث بالأعراض (1) قيدًا يقيد القلوبَ عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إلا فيه، ولا سرور لها إلا في منازله، ولا أمن لها إلا بين أهله؛ فكذلك الذي قد باشر (2) قلبُه روحَ التأله، وذاق طعمَ المحبة، وآنسَ نارَ المعرفة، له أعراضٌ دقيقة حاليّة تقيد قلبَه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إليه، والفناء التام به، والبقاء الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التي شمَّر إليها السالكون، والعلَم الذي أمّه العابدون، ودندن حوله العارفون. فجميع ما يحجب عنه أو يقيد القلبَ نظرُه وهمُّه يكون حجابًا يحجب الواصلَ، ويوقف السالك، وينكس الطالب. فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعيِّن تعيُّنَ الواجب المعيّن (3) الذي لا بد منه، وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل. فالأوَّل مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثاني مقيد عن النهايات برؤية الأحوال، فتقيّد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا __________ (1) ضبطت الكلمة في الأصل هنا بالعين المهملة، وفي الموضع التالي بالمعجمة، ثمَّ بالمهملة، وستأتي مرَّة أخرى في ص (45) بالمهملة، وفي "ف" في الموضعين الأولين بالمعجمة ثمَّ بالمهملة، ولعل الصواب بالمهملة كما أثبتنا، وكذا في "ن، ك" في المواضع المذكورة كلها. (2) "ك، ط": "الذي باشر". (3) "المعين": ساقط من "ك، ط".
(1/35)
القيد عدمُ النفوذ (1)، وذلك مؤخّر مخلّف. وإذا عَرَفَ العبدُ هذا وانكشف له علمُه تعيَّن عليه الزهدُ في الأحوال والفقرُ منها، كما تعين عليه الزهدُ في المال والشرف وخلوُّ قلبه منهما. وكما (2) كان موجَبُ الدرجة الأولى من الفقرِ الرجوعَ إلى الآخرة، فأوجب الاستغراقُ في همَّ الآخرة نفضَ اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها مدحًا أو ذمًّا؛ فكذلك (3) كان موجَبُ هذه الدرجة الثانية الرجوعَ إلى فضل اللَّه عزَّ وجلَّ، ومطالعة سبقه للأسباب (4) والوسائط. فبفضل اللَّه وبرحمته (5) وُجِدتْ منهم (6) الأحوال (7) الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته وموالاته. وكان سبحانه هو الأوَّل في ذلك كلّه، كما أنَّهُ الأوَّل في كلِّ شيء؛ وكان هو الآخر في ذلك، كما هو الآخر في كل شيء. فمن عبده باسمه الأوَّل الآخر (8) حصل (9) له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إلى ذلك __________ (1) سيأتي تفسير "النفوذ" في ص (388 - 389). (2) في الأصل وغيره: "لما"، والصواب ما أثبتنا. (3) "ط": "وكذلك". (4) "ك، ط": "الأسباب". (5) "ك، ط": "ورحمته". (6) "ك، ط": "منه". (7) "ك، ط": "الأقوال"، تحريف. (8) "ن، ك، ط": "والآخر". (9) "ك، ط": "حصلت".
(1/36)
عبوديته باسمه "الظاهر الباطن" (1) فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرًا وباطنًا. فعبوديته باسمه "الأوَّل" تقتضي التجردَ من مطالعة الأسباب والوقوف عندها (2) والالتفات إليها، وتجريدَ النظرِ إلى مجرد سبق فضله ورحمته وأنَّه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك! وإنَّما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورًا. فمنه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزَّل اسمه الأوَّل على هذا المعنى أوجبَ له ذلك (3) فقرًا خاصًّا وعبودية خاصة. وعبوديته باسمه "الآخر" تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنَّها تُعدَم (4) لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلُّقٌ بما يُعدَم وينقضي، والتعلق بالآخِر سبحانه تعلقٌ بالحي الذي لا يموتُ ولا يزول فالتعلُّق (5) به حقيق أن لا يزول، ولا ينقطع، بخلاف التعلّق بغيره مما له آخِرٌ يفنى به. فكما (6) نظرُ العارفِ إليه بسبق الأوليّة حيث كان قبل الأسباب كلها، __________ (1) " ن، ك، ط": "والباطن". (2) "عندها": ساقط من "ك، ط". (3) "ذلك" ساقط من "ك، ط". (4) "ط": "تنعدم ". (5) "ط": "فالمتعلّق"، وهو خطأ. (6) "ط": "كذا".
(1/37)
فكذلك (1) نظره إليه ببقاءِ الآخرّية حيث يبقى بعد الأسباب كلها. فكان اللَّه ولم يكن شيءٌ غيره، وكلّ شيءٍ هالك إلّا وجهه. فتأمَّلْ عبوديّةَ هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى اللَّه وحده ودوام الفقر إليه دون كلّ شيءِ سواه، وأنّ الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث (2) تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيءٍ وآخره. وكما أنّه ربُّ كلِّ شيءٍ وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلّا بأن يكون هو غايته وحده. كما أنه لا وجود له إلّا بكونه وحده هو ربّه وخالقه، فكذلك لا كمال له ولا صلاح إلّا بكونه تعالى (3) وحده هو غايته ونهاية مقصوده (4). فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها (5) وإرادتها (6) ومحبتها، فليس وراءَ اللَّه شيءٌ يُقصَد ويُعبَد ويُتألّه، كما أنه ليس قبله شيءٌ يَخلُق ويَبرأ. فكما كان واحدًا في إيجادك، فاجعله واحدًا في تألّهك وعبوديتك (7). وكما ابتدأ وجودك __________ (1) "ط": "وكذلك". (2) "ينتهي الأمر حيث" ساقط من "ط". (3) من قوله "هو غايته وحده" إلى هنا ساقط من "ط". (4) "ط": "نهايته ومقصوده". (5) "ك": "عبوديتها". (6) "ن، ك، ط": "إراداتها". (7) "ط": "تألهك إليه لتصح عبوديتك"، وهو غلط ناشئ من السقط في بعض النسخ.
(1/38)
وخلقك منه، فاجعل (1) نهايةَ حبّك وإرادتك وتألهك (2) إليه لتصحّ لك عبوديته باسمه الأول والآخر. وأكثر الخلق تعبّدوا له باسمه "الأول"، وإنّما الشأن في التعبد له باسمه "الآخر"، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو ربّ العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده. وأما عبوديته باسمه "الظاهر" كما (3) فسّره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - بقوله: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (4). فإذا تحقق العبدُ علوَّه المطلق على كل شيءٍ بذاته، وأنّه ليس شيءٌ فوقه (5) البتة، وأنّه قاهر فوق عباده، يدبّر الأمر من السماءِ إلى الأرض ثم يعرج إليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10] صار لقلبه أَمَمًا يقصده، وربًّا يعبده، وإلهًا يتوجّه إليه؛ بخلاف من لا يدري أين ربه، فإنَّه ضائع مشتَّت القلب، ليس لقلبه قبلةٌ يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قصده. وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبُه إلهًا يسكن إليه ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنَّه ليس فوق العرش شيء إلا العدم، وأنَّه ليس فوق العالم إله يُعبَد ويُصلَّى له ويُسْجَد، وأنَّه ليس على العرش مَن يصعد إليه الكلمُ الطيب ولا يُرفع إليه العملُ الصالحُ. جال قلبُه في الوجود __________ (1) "ك، ط": "فاجعله"، وهو خطأ. (2) قوله "وعبوديتك" إلى هنا ساقط في "ك" "لانتقال النظر. (3) "ك، ط": "فكما". (4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2713). (5) "ك، ط": "ليس فوقه شيء".
(1/39)
جميعِه فوقع في الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبُه بالوجود المطلق الساري في المعيّنات، فاتخذه إلهَه (1) من دون الإله الحق (2)، وظن أنَّه قد وصل إلى عين الحقيقة! وإنَّما تأله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيالٍ (3) نَحَتَهُ بفكره واتخذه إلهًا من دون اللَّه، وإلهُ الرسل وراءَ ذلك كله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس/ 3 - 4]. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة/ 4 - 9]. فقد تعرَّف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفةً لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه، وإن زعم أنَّهُ مقرٌّ به. __________ (1) "ك، ط": "فاتخذ إلهه". (2) "ك، ط": "إله الحق"، وقد صحح في حاشية "ك". (3) "ط": "ولخيال".
(1/40)
والمقصود أنَّ التعبد باسم (1) "الظاهر" يجمع القلبَ على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمُد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه. فإذا استقرَّ ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه "الظاهر" استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفرُّ كل وقتٍ إليه. وأمَّا تعبده باسمه "الباطن" فامرٌ يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكِلّ اللسانُ عن وصفه، وتصطلم الإشارةُ إليه، وتجفو العبارة عنه؛ فإنَّه يستلزمُ معرفةً بريئةً من شوائب التعطيل، مخلَصةً من فرْث التشبيه (2)، منزَّهةً عن رجس الحلول والاتحاد؛ وعبارةً مؤدية للمعنى كاشفةً عنه، وذوقًا صحيحًا، سليمًا من أذواق أهل الانحراف. فمن رُزِقَ هذا فهِمَ معنى اسمه "الباطن"، وصحَّ له التعبد به. وسبحانه اللَّه كم زلَّت في هذا المقام أقدام، وضلَّت فيه أفهام! وتكلَّم فيه الزنديق بلسان الصدِّيق، واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لِنُبوِّ الأفهام عنه، وعزَّةِ تخلّص الحقَّ من الباطل فيه، والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه اللَّه بصيرةً في الحقِّ، ونورًا يميز به بين الهدى والضلال، وفرقانًا يفرِّق به (3) بين الحقِّ __________ (1) "ك، ط": "باسمه". (2) هذا التعبير مأخوذ من قوله تعالى في سوره النحل {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. وقد لهج به المصنف، فورد في غير موضع من كتبه. انظر مثلًا مقدمة النونية: (42)، وبدائع الفوائد: (291)، ومدارج السالكين (3: 122). وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب في ص (54). وانظر نحوه في قول الشاشي في نفح الطيب (5: 286). (3) "به" ساقطة من "ك، ط". وقد استدركت في القطرية.
(1/41)
والباطل، ورُزِقَ مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطا، وتفرق الطرق، ومثار الغلط، فكان (1) له بصيرة في الحقِّ والباطل. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب تبارك وتعالى بالعالم وعظمته، وأنَّ العوالم كلها في قبضته، وأنَّ السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد (2)، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء/ 60]، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج/ 20] ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالّين على هذين المعنيين: اسم العلوّ الدالّ على أنَّهُ الظاهر وأنَّهُ لا شيء فوقه، واسم العظمة الدالّ على الإحاطة وأنَّهُ لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة/ 255، الشورى/ 4]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ/ 23]، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة/ 115] (3). وهو تبارك وتعالى كما أنَّه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهرَ على كلِّ شيء وكان (4) فوقه، __________ (1) "ط": "وكان". (2) يشير إلى قول ابن عباس: "ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد اللَّه إلا كخردلة في يد أحدكم" وقد أخرجه الطبري في في تفسيره (20/ 246). (3) وانظر الصواعق: (1365). (4) "ك": "وهو فوقه". "ن": "فكان"، وكذا في "ط".
(1/42)
وبطن فكان أقرب إلى كلِّ شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس (1) في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة (2). وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقربٌ خاصٌّ من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه "الباطن"، قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة/ 186]، فهذا قربه من داعيه. وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف/ 56] فذكَّر (3) الخبر -وهو"قريب"- عن لفظ "الرحمة" وهي مؤنثة إيذانًا بقربه تعالى من المحسن (4)، فكأنَّهُ قال: إنَّ اللَّه برحمته قريبٌ من المحسنين (5). وفي الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6): "أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد" (7) و"أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل" (8)، فهذا __________ (1) "ط": "وليس شيء". (2) "ط": "أقرب للأحاطة العامة"، غلط. (3) في الأصل: "فوحد"، وهو سهو، وكذا في "ف، ن". (4) "ك، ط": "المحسنين". (5) وانظر كلامًا مستفيضًا للمؤلف على هذه المسألة في بدائع الفوائد (862 - 889). وانظر أيضًا: رسالتي الروذراوري وابن مالك (ط سليمان العايد) ورسالة ابن هشام (ط الحموز). (6) زاد في "ط": "قال". (7) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (482). (8) أخرجه الترمذي (3579)، والنسائي (572)، وابن خزيمة في صحيحه (1147)، والحاكم في المستدرك (1/ 453) (1162) وغيرهم. قال الترمذي: =
(1/43)
قربٌ خاصٌّ غير قرب الإحاطة وقرب البطون. وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنَّهم كانوا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: "أيها النَّاس اربعوا على أنفسكم، فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ، أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته" (1)، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني: فأيُّ حاجة بكم إلى رفع الأصوات، وهو لقربه يسمعها، وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنَّه سميع قريب؟ وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلَّما كان الحب أعظم كان القرب أكثر (2). وقد يستولي (3) محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيره، ويغلب محبوبه على قلبه حتَّى كأنَّهُ يراه ويشاهده، فإنْ (4) لم يكن عنده معرفة صحيحة باللَّه وما يجب له ويستحيل (5) عليه، وإلا (6) طرق بابَ الحلول إن لم يلِجْه. وسببه ضعف تمييزه، وقوة __________ = "حسن صحيح غريب من هذا الوجه". والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم، ولم يتعقبه الذهبي (ز). (1) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2992) وغيره. (2) وانظر: المدارج (2/ 305)، والبدائع (3/ 845)، ومجموع الفتاوى (15/ 17). (3) كذا في الأصل بالياء. وفي "ك، ط": "وقد استولت". (4) "ك": "فإذا". (5) "ط": "وما يستحيل". (6) وقعت "إلا" هنا في غير موقعها، ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها، ولعلَّه من الأخطاء الشائعة في زمن المصنف، فقد تكرَّر في كتبه وكتب شيخه. انظر مثلًا =
(1/44)
سلطان المحبة، واستيلاء المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه (1)، وفي مثل هذه الحال يقول: "سبحاني" أو "ما في الجبة إلا اللَّه" (2)، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن تُغفرَ (3) له ويُعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأن يكون الإله سبحانه أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء. ومن كثُفَ ذهنُه وغلُظ طبعُه عن فهمِ هذا فليضرِبْ عنه صفحًا إلى ما هو أولى به (4)، فقد قيل: إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوِزْه إلى ما تستطيع (5) فمن لم يكن له ذوقٌ مِن قرب المحبة، ومعرفةٌ بقرب المحبوب من محبّه غاية القرب، وإنْ كان بينهما غايةُ المسافة -ولاسيما إذا كانت المحبة من الطرفين، وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها- فإنَّ المحبَّ كثيرًا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره، __________ = هذا الكتاب ص (227، 228)، والداء والدواء (239)، وشفاء العليل (198)، وجامع المسائل (1/ 92، 171) و (2/ 202)، ومجموع الفتاوى (11/ 27). (1) "ط": "ما سواه". وانظر: الوابل الصيب (159). (2) تنسب هذه الكلمات إلى أبي يزيد البسطامي (261 هـ) انظر مجموع الفتاوى (8/ 313)، وسير أعلام النبلاء (13/ 88). (3) "ك، ط": "يغفر". (4) "به" ساقط من "ك"، وبعده فيها: "وقد قيل". (5) البيت لعمرو بن معد يكرب في مجموع شعره (145).
(1/45)
ويفنى عن غيره، ويرِقّ قلبه ولتجرَّد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه، وبينهما من البعد ما بينهما. وفي هذا (1) الحال يكون في قلبه وجودُه العلمي، وفي لسانه وجودُه اللفظي، فيستولي هذا الشهودُ عليه ويغيبُ به، فيظن أنَّ في عينه (2) وجودَه الخارجي، لِغلبة حكم القلب والروح، كما قيل: خيالُك في عيني، وذكرُكَ في فمي ... ومثواكَ في قلبي، فأين تغيب! (3) هذا، ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد ما بينهما (4)، وإن قربت الأبدانُ وتلاصقت الديارُ. والمقصودُ أنَّ المثال العلمي غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابقًا لها، لكنّ المثال العلمي محلُّه القلب، والحقيقة الخارجيَّة محلُّها الخارج. فمعرفة هذه (5) الأسماء الأربعة -وهي: الأوَّل، والآخر، والظاهر والباطن- هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه. واعلم أنَّ لك أنت أوَّلًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا (6)، بل كل شي فله أوَّل __________ (1) "ك، ط": "هذه". (2) "ف": "غيبة"، تصحيف. (3) أنشده المصنف في روضة المحبين (100)، والداء والدواء (285)، ومع بيت آخر في المفتاح (1/ 438)، وهو لأبي الحكم ابن غَلِندو الأشبيلي الطبيب الشاعر (581 أو 587 هـ). انظر: معجم الأدباء (1194). (4) "ك": "ما بينها من البعد". ط: "وما بينهما. . ". (5) "هذه" ساقط من "ط" ومستدرك في القطرية. (6) "ك، ط": "ظاهرًا وباطنًا".
(1/46)
وآخر وظاهر وباطن، حتَّى الخطرة واللحظة والنفس، وأدنى من ذلك وأكبر (1). فأوَّلية اللَّه عزَّ وجلَّ سابقةٌ على أولية كلِّ ما سواه، وآخريته ثابتةٌ بعد آخريةِ كلِّ ما سواه. فأوليته سبقُه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كلِّ شيء. وظاهريتُه سبحانه فوقيته وعلوُّه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونُه سبحانه إحاطته بكلِّ شيء، وبحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه. هذا لون، وهذا لون. فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت (2) أوليتُه وآخريتُه بالقبل والبعد، فكلُّ سابق انتهى إلى أوليته، وكلُّ آخر انتهى إلى آخريته؛ فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر. وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكلِّ ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا اللَّه فوقه، وما من باطن إلا واللَّه دونه، وما من أوَّل إلا واللَّه (3) قبله، وما من آخر إلا واللَّه بعده: فالأوَّل قِدَمه، والآخِر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كلَّ شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كلِّ شيء بظهوره، ودنا من كلِّ شيء ببطونه. فلا تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسرُّ عنده علانية. فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأوَّل في __________ (1) "ن، ك، ط": "أكثر". (2) "ك، ط": "فإحاطة"، خطأ. (3) "ك": فاللَّه".
(1/47)
آخريته، والآخِر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أوَّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. والتعبد بهذه الأسماء له (1) رتبتان: الرتبة الأولى: أن يَشهدَ (2) الأوليةَ منه تعالى في كل شيء، والآخريةَ بعد كل شيء، والعلوَّ والفوقية فوق كل شيء، والقربَ والدنوَّ دون كل شيء. فالمخلوق يحجبه مثلُه عمَّا هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب؛ والربُّ جلَّ جلاله ليس دونه شيء هو (3) أقرب إلى الخلق منه. والمرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كلَّ اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسَبْقَه بفضله وإحسانه الأسبابَ كلَّها، بما يقتضيه ذلك من إفراده، وعدم الالتفات إلى غيره، والوثوق بسواه والتوكل على غيره. فمن (4) الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئًا مذكورًا حتَّى سمَّاك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عِمالاتِ (5) المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك عن (6) التزام الرق لمن له شكل ونديد؟ ثمَّ وَجِّه وجهةَ قلبِك إليه تبارك وتعالى دون ما سواه. __________ (1) "له" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "تشهد". (3) "هو" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "من ذا". (5) أقطع فلانًا أرضًا: أعطاه إياها تمليكًا أو للانتفاع بها. والعمالة: أجرة العامل، والإمارة والولاية. (6) "ك، ط": "مِن".
(1/48)
فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القِدَم، أن يُتِمَّ عليك نعمةَ هو ابتدأها، وكانت أوليتُها منه بلا سبب منك. واسْمُ بهمتك عن ملاحظة الأغيار (1)، ولا تركن (2) إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون. وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة اللَّه، فانَ اللَّه عزَّ وجلَّ قضى أن لا ينالَ ما عنده إلا بطاعته. ومن كان للَّه كما يريد كان اللَّه له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقَّاه من بعيد، ومن تصرّف بحوله وقوَّته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد. ثمَّ اسمُ بسرِّك إلى المطلب الأعلى، واقصُرْ حبَّك وتقربك على من سبق فضلُه وإحسانهُ إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأها لك (3)، وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكَّلْ عليه وحده، وعامِلْه وحده، وآثِرْ مرضاتَه (4) وحده، واجعل حُبَّه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفًا بها، مستلمًا لأركانها، واقفًا بملتزمها. فيا فوزك ويا سعادتك إن اطَّلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخِلَع أفضاله! "اللَّهم لا مانعَ لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" (5)، سبحانَك وبحمدِك. __________ (1) "ط": "الاختيار". وكذا كان في "ك"، فأصلحه بعض القراء. (2) "ك، ط": "ولا تركنن". (3) "ط": "وهيأ لك". (4) "ك، ط": "رضاه". (5) من حديث سيأتي في ص (443).
(1/49)
ثمَّ تعبَّدْ له باسمه "الآخر" بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه. فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعدَ كل آخِر، فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإنَّ إلى ربِّك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات، فليس وراءه مرمى ينتهى إليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه "الظاهر". وأمَّا التعبد باسمه "الباطن" فإذا شهدتَ إحاطته بالعوالم، وقربَ البعيد (1) منه، وظهورَ البواطن له، وبدوَّ السرائر له (2)، وأنَّه لا شيء بينه وبينها، فعامِلْه بمقتضى هذا الشهود، وطهِّر له سريرتك، فإنَّها عنده علانية؛ وأصلحْ له غيبَك، فإنَّه عنده شهادة؛ وزكِّ له باطنك، فإنَّه عنده ظاهر. فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعةُ جمَاعَ المعرفة باللَّه، وجماع العبودية له. فهنا وقفَتْ شهادةُ العبدِ مع فضَل خالقه ومنته، فلَا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوَّته؛ وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو ممَّا كان يستند إليه، أو يتحلَّى به، أو يتخذه عُقدة (3)، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمَّة من مهمَّاته. فكلُّ ذلك من قصورِ نظرِه وانعكاسِه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجَب الظلم والجهل، والإنسان ظلومٌ جهول. فمن جلَّى اللَّه سبحانه صدأَ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح __________ (1) "ك، ط": "العبيد". (2) "له" ساقط من "ك، ط". (3) "ف": "عقده"، وكذا في "ط". وفي "ك": "عمده". ولعلَّ الصواب ما أثبتنا، والعقدة هي المال الذي يقتنيه المرء.
(1/50)
كالمفلس (1) حقًّا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه. يقول: أستغفر اللَّه من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيبتي (2) بهما عن فضل من ذكَرني بهما، وابتدأني بإعطائهما، من غير تقدُّم سبب منِّي يُوجبُ ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبقِ مِنّته ودوامها (3)، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية (4) بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابَين: أحدهما: الخلاصُ من رؤية الأعمال حيث كان يراها، ويمتدح بها، ويستكثرها؛ فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها، ذاهبًا عنها، فانيًا عن رؤيتها. الثواب الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال -أي عن شهود نفسه فيها متكثرةً بها- فإنَّ الحالَ محلُّه الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاءُ في الصدر للقلب (5) وَثَبَتْ (6) النفسُ لتأخذَ نصيبها من العطاء، فتتمدح به، وتُدِلُّ به، وتزهو، وتستطيل، وتقرِّر إنِّيَّتها، لأنَّها جاهلة ظالمة، وهذا مقتضى الجهل والظلم. فإذا وصلَ إلى القلبِ نورُ صفة المِنَّة، وشهد معنى اسمه "المنَّان"، وتجلَّى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه "الأوَّل" ذَهَلَ القلبُ والنفسُ به، وصار العبدُ فقيرًا __________ (1) "ك، ط": "كمفلس". (2) الأصل غير منقوط، وقراءة "ف": "غنيتي"، والمثبت من غيرها. (3) "ك، ط": "دوامه". (4) "ف": "الغالبة لحقيقة"، تصحيف. (5) "ف": "انقلب"، تحريف. (6) "ط": "ثبتت"، تحريف.
(1/51)
إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأوَّل، فصارَ مقطوعًا عن شهود أمرٍ أو حالٍ ينسبه إلى نفسه، بحيث يكون بشهادته لحاله مفصومًا مقطوعًا عن رؤية عزةِ مولاه وفاطِرِه وملاحظة صفاته. فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منَّة خالقِه وفضلِه، ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها؛ وغائب بمشاهدة عزَّة نفسه عن عزَّة مولاه. فينعكس هذا الأمر في حقِّ هذا العبد الفقير، وتشغله رؤيةُ عزَّةِ مولاه ومنّته ومشاهدةُ سبقِه بالأولية عن حالٍ يعتزُ بها العبد أو يشرُف بها. وكذلك الرجوعُ إلى السبق بمطالعة الفضل يمحِّصُ من أدناس مطالعات المقامات، فـ "المقام" ما كان راسخًا فيه، "والحال" ما كان عارضًا لا يدوم. فمطالعاتُ المقامات (1)، وتشرُّفُه (2) بها، وكونُه يرى نفسَه صاحبَ مقام قد حقَّقه وكمَّله، فاستحقَّ أن ينسب إليه، ويوصف به، مثل أن يقال: زاهدٌ صابرٌ خائفٌ راجٍ محبٌّ راضٍ = فكونُه يرى نفسَه مستحقًّا بأن تضاف المقاماتُ إليه وبأن يوصَف بها -على وجه الاستحقاق لها- خروجٌ عن الفقر إلى الغنى، وتعدٍّ لطور العبودية، وجَهلٌ بحقِّ الربوبية. فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرقُ همة العبد، ويمحّصُه، ويُطهّره (3) من مثل هذه الأدناس، فيصير مصفًّى بنور اللَّه عن رذائل هذه الأرجاس. __________ (1) "ك، ط": "المقامة"، ثمَّ أصلحها بعضهم في "ك". (2) "ط": "تشوفه". (3) "ف": "تستغرق. . . تمحصه وتطهره" تصحيف.
(1/52)
[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]
قوله: "والدرجة الثالثة صحةُ الاضطرار، والوقوعُ في يدِ التقطع الوحداني، والاحتباسُ في قيد (1) التجريد، وهذا فقر الصوفية". هذه (2) الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أرباب السلوك، وهي الغاية التي شمَّروا إليها وحاموا حولها. فإنَّ الفقر الأوَّل فقرٌ عن الأعراض الدنياوية (3)، والفقر الثاني فقرٌ عن رؤية المقامات والأحوال، وهذا الفقر الثالث فقرٌ عن ملاحظة الوجود (4) الساتر للعبد عن مشاهدة الموجود (5)، فيبقى الوجودُ الحادثُ (6) في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواءِ، يتقلَّب بتقليبه إيَّاهُ، ويصير (7) في شاهد العبد كما هو في الخارج. فتمحو رؤيةُ التوحيد عن العبد شواهدَ استبدادِه واستقلاله بأمر من الأمور، ولو في النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إلا بإرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته. فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صَولَجَانات القضاء والقدر، تُقلِّبها كيف __________ (1) "ط": "في بيداء قيد". والظاهر أن كلمة "بيداء" زيادة الناشر من مدارج السالكين. ولكن نسخة منازل السائرين التي ينقل المؤلف منها في هذا الكتاب تختلف عن نسخته التي كانت بين يديه عند تأليف المدارج. (2) "ك": "وهذه". (3) "ط": "الدنيوية". (4) "ك، ط": "الموجود". (5) كذا قرأت الأصل، وفي "ف" وغيرها: "الوجود". (6) رسم الكلمة في الأصل غير واضح، وكتب في حاشيته: "ظ"، وكتب ناسخ "ف" في الحاشية: "كذا". وفي "ن": "الحالي"، وفي حاشيتها: "كذا". (7) "ط": "يسير" تحريف.
(1/53)
شاءَت، بصحةِ شهادة قيومية من له الخلقُ والأمرُ، وتفرّدِه بذلك دون ما سواه. وهذا الأمر لا يُدْرَك بمجرَّد العلمِ، ولا يعرفه إلا من تحقَّق به، أو لاح له منه بارق. وربما ذَهَلَ صاحبُ هذا المشهد عن الشعور بوجوده لِغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصحُّ من مثل هذا العبد الاضطرار إلى الحي القيوم، ويشهد (1) في كل ذرَّة من ذرَّاته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه، من جهة كونه ربًّا، ومن جهة كونه إلهًا معبودًا لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى. وإنَّما يصحّ له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر. فإن أعطى هاتين المعرفتين حقَّهما من العبودية اتَّصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناهُ حينئذٍ من فقير! وما أعزَّه من ذليل! وما أقواهُ من ضعيف! وما آنسه من وحيد! فهو الغنيُّ بلا مال، القوي (2) بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفيّ (3) بلا عتاد! قد قرَّت عينه باللَّه، فقرَّت به كلُّ عين؛ واستغنى باللَّه، فافتقر إليه الأغنياء والملوك. ولا يتمُّ له ذلك إلا بالبراءة من فَرْث الجبر ودَمِهِ (4)، فإنَّه إن طرق بابَ الجبر انحلَّ عنه نظامُ العبودية، وخلع ربقةَ الإسلام من عنقه، وشهد __________ (1) "ط": "شهد". (2) تحته في "ف" بخط مختلف: "الغالب" مع علامة "صح". (3) "ف": "المكتفي". أخطأ في القراءة وكتب في الحاشية: "ظ" أي انظر. (4) انظر ما سلف عن هذا التعبير في ص (41).
(1/54)
أفعالَه كلَّها طاعات للحكم القدري الكوني، وأنشد: أصبحتُ منفعلًا لما يختارهُ ... منِّي، ففعلي كلُّه طاعاتُ (1) وإذا (2) قيل له: اتَّق اللَّه ولا تعصِه، يقول: إن كنتُ عاصيًا لأمره فأنا مطيع لحكمه وإرادته! (3) فهذا منسلخ من (4) الشرائع، بريءٌ من دعوة الرسل، شقيقٌ لعدوِّ اللَّه إبليس. بل وظيفةُ الفقير في هذا الموضع وفي هذه الضرورة مشاهدةُ الأمر والشرع، ورؤيةُ قيامِه بالأفعال وصدورِها منه كسبًا واختيارًا، وتعلُّقِ الأمر والنهي بها طلبًا وتركًا، وترتُّبِ الذم والمدح عليها شرعًا وعقلًا، وتعلُّقِ الثواب والعقاب بها آجلًا وعاجلًا. فمتى اجتمع له هذا الشهودُ الصحيحُ إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته، والفاقةِ التامةِ إلى مقلِّب القلوب ومن بيده أزمّة الاختيار ومن إذا شاء وجب وجوده، وإذا لم يشأ امتنع وجوده، وأنَّه لا هادي لمن أضلَّه، ولا مضل لمن هداه، وأنَّه هو الذي يحرك القلوبَ بالإرادات، __________ (1) سيأتي البيت أيضًا في ص (351، 650)، وهو لابن إسرائيل محمد بن سوَّار الشاعر الصوفي الدمشقي (677 هـ). أنشده له شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (8/ 257). وانظر أيضًا (11/ 245)، ومنهاج السنة (3/ 25)، والمدارج (1/ 231، 262، 305) و (2: 233)، وشفاء العليل (19، 40). (2) "ط": "إذ"، خطأ. (3) سيذكر المصنف هذا القول مرة أخرى في (182، 350، 650). وانظر شفاء العليل: (40). ونسبه شيخ الإسلام في الفتاوى (8/ 257) إلى بعض أصحاب علي بن حسين الحريري (645 هـ). (4) "ك": "عن".
(1/55)
والجوارحَ بالأعمال، وأنَّها مدبَّرةٌ تحت تسخيره مذلّلةٌ تحت قهره، وأنَّها أعجز وأضعفُ (1) أن تتحرك بدون مشيئته، وأنَّ مشيئتَه نافذةٌ فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأشجار، وأنَّه حرَّك كلًّا منها بسبب اقتضى تحريكه، وهو خالق السبب المقتضي، وخالقُ السبب خالقٌ للمسبَّب، فخالقُ الإرادة الحادثةِ (2) التي هي سببُ الحركة والفعل الاختياري خالقٌ لهما، وحدوثُ الإرادة بلا خالقٍ مُحدِثِ محالٌ، وحدوثُها بالعبد بلا إرادة منه مُحالٌ، وإنْ كان بإرادة فإرادتُه للإرادة كذلك، ويستحيل هنا (3) التسلسل، فلا بُدَّ من فاعلٍ أوجدَ تلك الإرادة التي هي سبب الفعل. وهنا (4) يتحفق الفقرُ والفاقةُ والضرورةُ التامة إلى مالك الإرادات وربِّ القلوب ومصرِّفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران/ 8]. فهذا هو الفقرُ الصحيح المطابق للعقلِ والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى، وعطَّل مُلْكَ الملِك الحقِّ وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وثوابه وعقابه. وحُكْمُ هذا الفقيرِ المضطرِّ إلى خالقه في كلِّ طرفة عين وكلِّ نفس أنّه إن حُرِّك بطاعةٍ أو نعمةٍ شكرها وقال: هذا من فضل اللَّه ومنِّه وجوده، فله __________ (1) "ط": "أضعف من أن". (2) "ك، ط": "الجازمة"، تحريف. (3) كذا في الأصل و"ن". وفي "ف" وغيرها: "بها". (4) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "فهنا"، وهو مقتضى سياق الكلام الذي طال، فسياقه: "فمتى اجتمع له هذا الشهود. . . فهنا يتحقق الفقر".
(1/56)
الحمد، وإن حُرِّك بمبادئ معصيته صرخ، ولجأ (1)، واستغاث، وقال: "أعوذُ بك منك" (2)، "يا مقلّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك" (3)، "يا مصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك" (4). فإن تمَّ تحريكه بالمعصية التجأ التجاءَ أسير قد أسره عدوُّه، وهو يعلم أنَّه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفتكّه سيّدُه من الأسر، ففكاكه في يد سيِّده، ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ فهو في أسْر العدوِّ ناظرٌ إلى سيده، وهو قادر على تخليصه (5)؛ قد اشتدَّت ضرورته إليه، وصار اعتمادُه كلُّه عليه. قال سهل (6): "إنَّما يكون الالتجاء على معرفة قدر (7) الابتلاء". يعني (8): وعلى قدر معرفة (9) الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي. ومن عرف معنى (10) قوله (11) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأعوذ بك منك" (12)، وقام __________ (1) في "ك" فوق السطر: "إلى اللَّه". (2) من حديث عائشة رضي اللَّه عنها. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (486). (3) تقدم في ص (17). (4) من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. أخرجه مسلم في القدر (2654). (5) "على تخليصه" ساقط من "ك، ط". (6) هو سهل بن عبد اللَّه التستري (283 هـ) من كبار الزهاد. طبقات الصوفية: (206)، سير أعلام النبلاء (13/ 330). (7) "قدر" ساقط من "ط". (8) "ك": "حتى"، تحريف. (9) "معرفة" ساقط من "ك، ط". (10) "معنى" ساقط من "ط". (11) "ف": "قول النبي"، خلاف الأصل. (12) مرَّ آنفًا.
(1/57)
بهذه المعرفة شهودًا وذوقًا، وأعطاها حقَّها من العبودية، فهو الفقيرُ حقًّا. ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن رُزِقَ فهمَها (1) فهِمَ سرَّ الفقر المحمدي. فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ من نفسه (2) بنفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه. فالأمرُ كلّه له، والحكم كلّه له، والخلق كلّه له (3). وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئتُه، وما لم يشأ لم يكن أن يجلبه إلا مشيئتُه. فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107]. والتحقُّق (4) بمعرفة هذا يوجب صحةَ الاضطرار وكمالَ الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله، والاستغناء بها، والخروج عن رِبقة (5) العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدَّعي مع اللَّه حالًا أو ملكةً أو مقامًا مَن قلبُه وإراداتُه (6) وحركاتُه الظاهرةُ والباطنةُ بيد ربِّه ومليكه، لا يملك هو منها شيئًا، وإنَّما هي بيد مقلب القلوب ومصرِّفها كيف شاء (7)، فالإيمانُ بهذا والتحقق به نظام التوحيد، __________ (1) "ك": "فمن فهم سرّها". "ط": " .. سر هذا". (2) "ك، ط": "يعيذ بنفسه من نفسه". (3) وقعت هذه الجملة في "ك، ط" قبل "والأمر كله له". (4) "ن": "التحقيق"، خطأ. (5) "ط": "رفقة"، تحريف. (6) "ك، ط": "وإرادته". (7) "ك، ط": "يشاء".
(1/58)
فمتى (1) انحلَّ من القلب انحلَّ نظامُ التوحيد. فسبحان من لا يوصَل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا يُنال ما عنده من كرامته (2) إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته. فعاد الأمرُ كلُّه إليه، كما ابتدأ الأمرُ كلّه منه، فهو الأوَّل والآخر، وإنَّ إلى ربك المنتهى. ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد التقطع والتجريد، وأشرف على مقام التوحيد الخاصِّي. فإنَّ التوحيد نوعان: عامِّي وخاصِّي، كما أن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القُرَب كذلك خاصِّيَّة وعامِّية. فالخاصِّيَّة ما بذل فيها العاملُ نصحَه وقصدَه بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا اللَّه، وتفاوتُهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقِّها (3) باطنًا وظاهرًا أمرٌ لا يحصيه إلا اللَّه عزَّ وجلَّ. وقد ظنَّ كثيرٌ من الصوفية أنَّ التوحيد الخاص (4) أن يشهد العبدُ المحرِّكَ له، ويغيبَ عن المتحرك وعن الحركة، فيغيبَ بشاهده (5) عن حركته، فيشهدَ (6) نفسَه شبحًا فانيًا تجري عليه (7) تصاريف المشيئة، كمن غرق في البحر فأمواجه ترفعُه طورًا وتخفضه طورًا، فهو غائب بها __________ (1) "ك، ط": "ومتى". (2) "ك، ط": "الكرامة". (3) "بحقها": ساقط من "ط". (4) "ط": "الخاصي". (5) "ط": "بشهوده". (6) "ط": "ويشهد". (7) "ك، ط": "يجري على".
(1/59)
عن ملاحظة حركته في نفسه، بل قد اندرجت حركته في ضمن حركة الموج، فكأنَّه (1) لا حركة له بالحقيقة. وهذا، وإن ظنَّه كثيرٌ من القوم غايةً، وظنَّه بعضهم لازمًا من لوازم التوحيد، فالصواب أنَّ وراءَه (2) ما هو أجل منه. وغاية هذا الفناءُ في توحيد الربوبية، وهو (3) أن لا يشهد ربًّا وخالقًا ومدبِّرًا إلا اللَّه، وهذا حق (4)، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي فى النجاة فضلًا عن أن يكون شهودُه والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم. بل الغاية (5) التي لا غايةَ وراءها ولا نهاية بعدها الفناءُ في توحيد الإلاهية. وهو أن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتألهه عن تأله ما سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، وبالذلِّ له والفقر إليه من جهة كونه معبودَه وإلهَه ومحبوبَه عن الذل والفقر (6) إلى كلِّ ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه. فيرى أنَّه ليس في الوجود ما يصلح له ذلك إلا اللَّه، ثمَّ يتصف بذلك حالًا (7)، وينصبغ به قلبه صبغة، ثمَّ يفنى بذلك عمَّا سواه. فهذا هو التوحيد الخاصّ (8) الذي شمَّر إليه العارفون، والورد الصافي الذي حام __________ (1) "ك، ط": "وكأنَّه". (2) "ط": "من ورائه". (3) "ك": "وهي". (4) "ك، ط": "هو الحق". (5) "ط": "فالغاية". (6) "الفقر" ساقط من "ك، ط"، ومستدرك في حاشية "ك". (7) "ك": "تتصف بذلك حاله". (8) "ط": "الخاصي".
(1/60)
حوله المحبون. ومتى وصل إليه العبدُ صار في يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقي، ومزَّق (1) حبُّ اللَّه من قلبه كلَّ محبَّة، وخوفُه كلَّ مخافة (2)، ورجاؤه كلَّ رجاءٍ، فصار حبُّه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته = كلُّ ذلك واحدًا (3) لواحدٍ، فلم ينقسم طلبُه ولا مطلوبُه. فتعددُ المطلوب وانقسامُه قادحٌ في التوحيد والإخلاص، وانقسامُ الطلب قادحٌ في الصدق والإرادة. فلا بدَّ من توحيد الطلب والإرادة، وتوحيد المطلوب المراد. فإذا غاب بمحبوبه عن حب غيره، وبمذكوره عن ذكر غيره، وبمألوهه عن تأله غيره، صارَ من أهل التوحيد الخاص (4). وصاحبُه مجرَّدٌ عن ملاحظة سوى محبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو رجائه. وصاحبُ توحيد الربوبية في قيد التجريد عن ملاحظة فاعلٍ غير اللَّه، وهو مجردٌ عن ملاحظة وجوده هو، كما (5) كان صاحبُ الدرجة الأولى مجرَّدًا عن أمواله، وصاحبُ الثانية مجرَّدًا عن أعماله وأحواله. وصاحبُ (6) الفناءِ في توحيد الإلهية مجرَّدٌ عن سوى مراضي محبوبه وأوامره، قد فني بحبه وابتغاء مرضاته عن حبِّ غيره وابتغاء مرضاته. __________ (1) "ك، ط": "فرَّق". (2) "ك، ط": "خوف". (3) "ط": "واحد". (4) "ط": "الخاصي". (5) "ك، ط": "وهو كما". (6) "ط": "فصاحب".
(1/61)
وهذا هو التجريد الذي سَمَتْ إليه هممُ السالكين. فمن تجرَّد عن ماله وحاله وكسبه وعلمه (1)، ثمَّ تجرَّد عن شهود تجريده، فهو المجرَّد عندهم حقًّا، وهذا هو (2) تجريد القوم الذي عليه يحومون، وإياهُ يقصدون. ونهايته عندهم التجريد بفناء وجوده، وبقائه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراءَ هذا. ولعمرُ اللَّه إنَّ وراءَه تجريدًا أكملَ منه، ونسبتهُ إليه كتَفْلة في بحرِ، وشَعرةٍ في ظهر بعير. وهو تجريد الحبِّ والإرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبُّه كما توحَّد محبوبه، ويتجرَّد عن مراده من محبوبه بمراد محبوبه منه، بل يبقى مرادُ محبوبه منه هو (3) نفس مراده. وهنا يعقل الاتحاد الصحيح، وهو اتحاد المراد، فيكون عينُ مراد المحبوب هو عينَ مراد المحبِّ. وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرَّد المحبة عن العلل والحظوظ التي تفسدها إلا بهذا. فالفرقُ بين محبَّة حظِّكَ ومرادك من المحبوب وأنَّك إنَّما تحبه لذلك، وبين (4) محبَّة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته وأنَّه أهل أن يُحَبَّ. وأمَّا الاتحاد في الإرادة فمحال، كما أنَّ الاتحاد في المريد محال، فالإرادتان متباينتان. وأمَّا مراد المحب والمحبوب إذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد. فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. __________ (1) "ط": "عمله". (2) "هو" ساقط من "ك، ط". (3) "ك": "هو من نفس". "ط": "محبوبه هو من نفس". (4) كلمة "بين" غير واضحة في الأصل فكتب في حاشيته: "ظ" أي انظر. وكذا في حاشية "ف".
(1/62)
وقد جعله صاحب "منازل السائرين" من قسم النهايات، وحدَّه بأنَّه "الانخلاع عن شهود الشواهد"، وجعله على ثلاث درجات: "الدرجة الأولى: تجريد (1) الكشف عن كسب اليقين، والثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد" (2). فقوله في الأولى (3): "تجريد الكشف عن كسب اليقين" يريد كشفَ الإيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإن حصل باكتساب اليقين من أدلته وبراهينه، فالتجريد أن يشهد سبقَ اللَّه تعالى بمنته لكلِّ سبب يُنال به يقين أو إيمان (4)، فيتجرد (5) كشفُه لذلك عن ملاحظة سبب أو وسيلة، بل يقطع الأسباب والوسائل، وينتهي نظره إلى المسبب. وهذا (6) إن أريد [به] (7) تجريدُها عن كونها أسبابًا فتجريد باطل، وصاحبه ضال، وإن أريد به (8) تجريدُها عن الوقوف عندها، ورؤيةِ انتسابها إليه، وصدورِها منه، وأنَّ (9) اليقين إنَّما كان به وحده، فهذا __________ (1) "ك": "درجة الكشف"، سهو. وفي مدارج السالكين (3/ 408) "تجريد عين الكشف"، وهي نسخة أخرى. (2) في الأصل: "شهود التدريج" سبق قلم. وكذا في "ف، ن". وانظر: منازل السائرين (108)، والمدارج (3/ 408). (3) "ت": "الدرجة الأولى" خلاف الأصل. (4) "ط": "اليقين أو الإيمان". (5) "ط": "فيجرد". (6) "ط": "وهذه". (7) زيادة يقتضيها السياق، ويدلُّ عليها ما يأتي. (8) "به" ساقط من "ن، ك، ط". (9) "ط": "إليه وصيرورتها عنوان اليقين" ولعلَّه تحريف لما جاء في الأصل وغيره.
(1/63)
تجريد صحيح؛ ولكن على صاحبه إثباتُ الأسباب، فإن نفاها عن كونها أسبابًا فسدَ تجريدُه. وقوله في الدرجة الثانية: "تجريد عين الجمع عن درك العلم". لمَّا كانت الدرجة الأولى تجريدًا عن الكسب وانتهاءً إلى عين الجمع الذي هو الغَيبة (1) بتفرد الرب بالحكم عن إثبات وسيلة أو سبب، اقتضت تجريدًا آخر أكمل من الأوَّل، وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإدراك. وهذا يقتضي أيضًا تجريدًا ثالثًا أكمل من الثاني وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث في عين الجمع قد اجتمعت همته على الحقِّ، وشُغِلَ به عن ملاحظة جمعه وذكرِه وعلمِه به. قد استغرق ذلك قلبَه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إلى تجريده؛ ولو بقيَ له التفاتٌ إليه لم يكمل تجريده. ووراءَ (2) هذا كلِّه تجريدٌ نسبةُ هذا التجريدِ إليه كشعرة من ظهر بعير (3) إلى جُمْلته، وهو: تجريدُ الحبِّ والإرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريدُه عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس؛ فيتجرد الطلب والحبُّ عن كلِّ تعلُّقٍ يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا به. __________ (1) الأصل غير منقوط، وكذا في "ن". وفي "ف": "العنية"، ويحتمل: "الغنية"، ورجحت قراءة "ك"، وكذا في "ط". (2) "ك": "ووارى". (3) "ك": "جمل".
(1/64)
فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]
ولمَّا كان الفقرُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ هو عينَ الغنى به، فأفقرُ النَّاس إلى اللَّه أغناهم به، وأذلُهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسِه أعلمُهم باللَّه، وأمقتهم لنفسه أقربُهم إلى مرضاة اللَّه = كان ذكرُ الغنى باللَّه مع الفقر إليه متلازمَين متناسبَين، فنذكر فصلًا نافعًا في الغنى العالي. واعلم أنَّ الغنى على الحقيقة لا يكون إلا للَّه (1) الغني بذاته عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فموسومٌ بسِمَةِ الفقرِ، كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع. فكما (2) أنَّ كونه مخلوقًا أمرٌ ذاتيٌّ له، فكونه فقيرًا أمرٌ ذاتيٌّ له، كما تقدم بيانه (3). وغناهُ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ عارض له، فإنَّه إنَّما استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به فقير إليه. ولا يُوصَف بالغنى على الإطلاق إلا مَن غناهُ من لوازم ذاته، فهو (4) الغني بذاته عمَّا سواه، وهو الأحد الصمد الغني الحميد. والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال، فالغنى السافل: الغنى بالعواريّ المسترَدَّة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث، وهذا أضعف الغنى، __________ (1) "ط": "باللَّه". (2) "ك، ط": "وكما". (3) انظر ما سلف في ص (12). (4) "ف": "وهو"، خلاف الأصل، وكذا في "ن".
(1/65)
فإنَّهُ غنًى بظل زائل، وعاريَّةٍ ترجع عن قريب إلى أربابها، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها، وكأنَّ الغنى بها كان حُلْمًا فانقضى. ولا همَّة أضعفُ من همَّةِ من رضي بهذا الغنى الذي هو ظلٌّ زائلٌ. وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإيَّاه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أحبَّ إلى الشيطان وأبعدَ من (1) الرحمن من قلبٍ ملآنَ بحبِّ هذا الغنى وبالخوف (2) من فقده. قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنًا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر (3). وهذا الغنى محفوفٌ بفقرَين: فقرٍ قبله، وفقرٍ بعده، وهو كالغفوة بينهما، فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغترَّ به ولا يجعله نهايةَ مطلبه، بل إذا حصلَ له جعله سببًا لغناهُ الأكبر ووسيلةً إليه، ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له، وتكون نفسه أعزَّ عليه من (4) أن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمةً لغيره. __________ (1) "ط": "عن". (2) "ك، ط": "والخوف". (3) من كلام حمدون القصَّار النيسابوري شيخ الملامتية (271 هـ). انظر الرسالة القشيرية (272). (4) "من" ساقطة من "ك".
(1/66)
فصل [في الغنى العالي وتفسير كلام الهروي في درجاته] وأمَّا (1) الغنى العالي فقال شيخ الإسلام (2): "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمتُه للحكم، وخلاصُه من الخصومة. والدرجة الثانية: غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتُها من المسخوط (3)، وبراءتها من المراياة (4). والدرجة الثالثة: الغنى بالحقِّ، وهو ثلاث مراتب: الأولى: شهود ذكره إيَّاك، والثانية: دوام مطالعة أوليته، والثالثة: الفوز بوجوده" (5). قلتُ: ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس" (6). ومتى استغنت النفس استغنى القلب. ولكن الشيخ قسَّم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلَّقه فقال: "غنى __________ (1) "ط": "أما"، واستدركت الواو في القطرية. (2) يعني صاحب "منازل السائرين". (3) "ط": "الحظوظ". ولعلَّه تغيير من الناشر اعتمادًا على مدارج السالكين، ولو تروَّى قليلًا لوجد المؤلف يفسر قول الهروي فيما يأتي حسب ما نقله هنا من نسخة المنازل. (4) في "ط": "المراءاة". والذي في الأصل وغيره بالياء على القلب، لغة في المراءاة. انظر: اللسان (رأي 14/ 296). (5) منازل السائرين (57)، وقارن النص وتفسيره في مدارج السالكين (2/ 507 - 503). (6) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6446)، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/67)
القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة". ومعلومٌ أنَّ هذا شرط في الغنى، لا أنَّهُ نفس الغنى؛ بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى. فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أنَّ غناه بها نفسِها، وإنَّما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط، كما سيأتي بيانه (1). فإنَّ الغنيَّ (2) إنَّما يصير غنيًّا بحصول مايسدُّ فاقته ويدفع حاجته. وفي القلبِ فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدُّها إلا فوزُه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كلُّ شيء، وإن فاته فاته كلُّ شيء. فكما أنَّه سبحانه الغنيُّ على الحقيقة ولا غنيَّ سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غِنى بغيره ألبتة. فمن لم يستغن به عمَّا سواه تقطَّعت نفسه على السوى حسراتٍ، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة، وحضره كلُّ سرور وفرح، واللَّه المستعان. وإنَّما قدَّم الشيخُ (3) الكلامَ على "غنى القلب" على الكلام على "غنى النفس"؛ لأنَّ (4) كمال صلاح النفس، وغناها (5) بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب؛ وإصلاحُ (6) النفس متقدمٌ على إصلاح القلب (7). هكذا قيل! وفيه ما __________ (1) بعده في "ك، ط": "إن شاء اللَّه". (2) "ط": "فالغنى". (3) "ك، ط": "شيخ الإسلام". (4) "ف": "أنَّ" أخطأ في القراءة. (5) "ط": "النفس غناها". (6) "ك، ط": "صلاح". (7) "ط": "إصلاحه". "ك": "صلاح القلب".
(1/68)
فيه، لأنَّ صلاحَ كلٍّ منهما مقارنٌ لصلاح الآخر، ولكن لمَّا كان القلب هو الملِك وكان صلاحه صلاحَ جميع رعيته كان أولى بالتقديم. وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب" (1). والقلبُ (2) إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربِّه وعطاياه السنية خلَعَ على الأمراءِ والرعية خِلَعًا تناسبها: فخلعَ على النفس خِلَع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات، فأدَّت الحقوق سماحةً لا كظمًا بل (3) بانشراح ورضًا ومبادرة. وذلك لأنَّها جانست القلب حينئذٍ، ووافقته في أكثر أموره، واتحد مرادهما غالبًا، فصارت له وزير صدق، بعد أن كانت عدوًّا مبارزًا بالعداوة. فلا تسأل عمَّا أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذَّة عيش ونعيم هو رقيقة (4) من نعيم أهل الجنَّة! هذا، ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما، بل عُدّتها وسلاحها كامنٌ متوارٍ، لولا قوْةُ (5) سلطان القلب وقهرُه لحاربت بكلِّ سلاح؛ فالمرابطة __________ (1) من حديث النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599). (2) "ك": "فالقلب". (3) "بل" ساقطة من "ك، ط". (4) أراد أنَّه جزء يسير جدًّا من نعيم أهل الجنَّة. وقد استعمل المؤلف هذا التعبير في مدارج السالكين أيضًا فقال: "وذلك رقيقة من حال أهل الجنَّة في الجنَّة" (2/ 464). وقال: "وهذا رقيقة من حال أهل الجنَّة" (3/ 156)، وقرن بها كلمة "لطيفة" في (3/ 294) قال: "فإنَّ نعيم المحبة في الدنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنة في الآخرة". فالرقيقة هنا اسم. وقد ضبطت في "ك" بضم أولها وفتح ثانيها، وفوقها علامة "صح"، وفي "ط": "دقيقة". والصوابُ ما أثبتنا. (5) "ط": "قدرة".
(1/69)
على ثغري الظاهر والباطن فرضٌ معيَّن (1) مدَّة أنفاس الحياة: وتنقضي الحربُ، محمودٌ عواقبُها ... للصابرين، وحظُّ الهاربِ الندمُ (2) وخَلَعَ على الجوارح خِلَع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعةَ (3) المهابة والنور والبهاء، وعلى اللسان خلعةَ الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغضّ عن المحارم، وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد في معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوَّة وأيدٍ، وعلى الفرج خلعةَ العفَّة والحفظ؛ فغدا العبدُ وراح يرفُلُ في هذه الخِلَع، ويجرُّ لها في النَّاس أذيالًا وأردانًا (4). فغنى النفس مشتقٌ من غنى القلب وفرعٌ عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس. وغنى القلب بما (5) يناسبه من تحقّقه (6) بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تُخلع عليه، فيستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل __________ (1) "ك، ط": "متعين". (2) "ن، ك، ط": "محمودًا". ولم أجد البيت. (3) "ف": "خلع" خلافًا للأصل. (4) من قول ابن إسرائيل الدمشقي: فواحد فى رياض الأنس منبسط ... يجرّ للتّيه أذيالًا وأردانا انظر: ذيل مرآة الزمان (3/ 428). (5) "ط": "ما". (6) "ط": "تحقيقه".
(1/70)
له من آثار الصفات المقدسة و [ما] (1) تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفةٍ صفةٍ (2) على الانفراد ومجموعها قائمةً بالذَّات. وهذا أمرٌ تضيق عن شرحه عدَّةُ أسفار، بل حظُّ العبد منه علمًا وإرادة كما يُدخل إصبعه في اليم، بل الأمر أعظم من ذلك، واللَّه عزَّ وجلَّ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد/ 17]. فإذا استغنى القلبُ بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفسُ غنًى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجبُ ثقلَها وكسلَها وإخلادَها إلى الأرضِ، وصارت [لها] (3) حرارةٌ توجِبُ حركتَها وخفّتَها في الأوامر وطلبَها الرفيق الأَعلى، وصارت برودتُها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها. وذهبت أيضًا عنها (4) اليبوسةُ المضادَّةُ للينها وسرعةِ انفعالها وقبولها؛ فإنَّها إذا كانت يابسةً قاسيةً كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد. فإذا صارت برودتها حرارةً، ويبوستها رطوبةً (5) وسُقيَت بماءِ الحياة الذي أنزله اللَّه على قلوب أنبيائه، وجعلها قرارًا ومعينًا له، ففاض منها على قلوب أتباعهم، فأنبتت من كلِّ زوجٍ كريم = فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤديةً لحقوقه، قائمةً بأوامره، راضيةً عنه، مرضيةً له بكمال طمأنينتها {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر/ 27 - 28]. __________ (1) ما بين الحاصرتين من "ط". (2) "ك، ط": "بكل صفة على". (3) ما بين الحاصرتين زيادة من "ك، ط". وفي الأصل و"ف" علامة "ظ" أي انظر. (4) "ك، ط": "عنها أيضًا". (5) "ط": "يبوستها حرارة، وبرودتها رطوبة"، وهو خطأ.
(1/71)
فلنرجع إلى كلامه.
[تفسير الدرجة الأولى وهي غنى القلب]
فقوله في الدرجة الأولى -وهي غنى القلب- أنَّهُ "سلامته من السبب" أي من الفقر إلى السبب، وشهودِه، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به. فمن كان معتمدًا على سبب غنيًّا به (1) واثقًا به لم يطلق عليه اسم "الغنى"، لأنَّه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمَّى صاحبُه غنيًّا إلا إذا سلِم من علُّة السبب استغناءً بالمسيِّب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير اللَّه عزَّ وجلَّ. فمن كملت له السلامة من علَّة الأسباب، ومن علَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له والمسالمة (2)، أي بالانقياد لحكمه الذي (3) حصَّل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته (4). فإذا وقف العبد على حسن تدبيره (5) واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، إن (6) لم ينضمّ إليه المسالمة للحكم -وهو الانقياد له- فإنَّ المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليلٌ على وجود رعونة الاختيار، وذلك __________ (1) "ط": "سبب غناه"، تحريف. (2) "ف": "المسالة"، تحريف. (3) "الَّذي" ساقط من "ط"، ولعلَّ الناشر حذفه لتقويم النص. (4) العبارة "فمن كملت له السلامة. . . " إلى هنا كذا وردت في الأصل وغيره. وأراها قلقة في هذا الموضع، ولو حذفت لاستقام السياق. (5) من "رحمته" إلى هنا ساقط من "ف" لانتقال النظر. (6) "ن": "الاستغناء وهذا الوقوف إن. . . ". "ط": "وإن"، خطأ.
(1/72)
دالٌّ على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيرًا إلى شيء لم يُرِده اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُطلَق عليه اسمُ الغني بتدبير اللَّه عزَّ وجلَّ. فلا يتمُّ الغنى بتدبير الربِّ عزَّ وجلَّ لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره. ثمَّ يبقى عليه الخلاصُ من معنى آخر، وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الربِّ. فإنَّ مخاصمة (1) الخلق دليلٌ على فقره إلى الأمرِ الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ، يسخَط (2) لفوته، ويخاصم الخلقَ عليه، لا يطلق عليه اسم الغني حتَّى يسلم الخلق من خصومته لكمال (3) تفويضه إلى وليّه وقيومه ومتولي تدبيره. فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علَّة منازعته لأحكام اللَّه عزَّ وجلَّ، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ = استحقَّ أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوِّضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه؛ فتكون مخاصمته للَّه وباللَّه، ومحاكمته إلى اللَّه؛ كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في استفتاح صلاة الليل: "اللهُمَّ لكَ أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ" (4). __________ (1) "ك، ط": "منازعة". (2) "ك": "ينحط"، تحريف. (3) "ك، ط": "بكمال". (4) أخرجه البخاري في كتاب التهجد (1120)، ومسلم في صلاة المسافرين (769) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(1/73)
فتكون مخاصمةُ هذا العبدِ للَّه، لا لهواه وحظِّه؛ ومحاكمتُه خصمَه إلى أمر اللَّه وشرعه، لا إلى شيءٍ سواه. فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتَّبع هواه، وانتصر لنفسه. وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسه قط" (1)، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمَه إلى غيرِ اللَّه ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أُمِر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتَّى يجعل الحُكمَ للَّه وحده، كما هو كذلك في نفس الأمر. والحكم حكمان (2): حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني. فهذا الذي ذكره الشيخ في "منازل السائرين" وشرَحه عليه الشارحون إنَّما مراده به (3) الحكم الكوني القدري. وحينئذٍ فلا بدَّ من تفصيل ما أجملوه من مسألة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإنَّ هذا الإطلاق غيرُ مأمور به، ولا ممكن للعبد في نفسه. بل الأحكام ثلاثة: "حكم شرعي ديني"، فهذا حقه أن يُتلقَّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلًا البتة، وإنَّما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول. فإذا تلقَّى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادةً وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوةٌ تنازعُ مرادَ اللَّهِ من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهةٌ تُعارضُ إيمانَه __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6126) وغيره، ومسلم في الفضائل (2327). (2) "ك، ط": "نوعان". (3) "به" ساقط من "ف".
(1/74)
به (1) وإقرارَه. وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شهبة تعارض الحقَّ، وشهوةٍ تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتّبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل (2) خوضَ الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقُه تحت الأمر، واضمحلَّ خوضُه في معرفته بالحقِّ؛ فاطمأنَّ إلى اللَّه معرفةً به (3)، ومحبةً له، وعلمًا بأمره، وإرادةً لمرضاته، فهذا حقُّ الحكم الديني. الحكم الثاني: الحكمُ الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي حَكَمَ به يَسخطه ويُبغضه ويَذُمّ عليه. فهذا حقُّه أن يُنازَعَ ويُدَافَعَ بكلِّ ممكن ولا يُسالَمَ البتة، بل يُنازعَ بالحكم الكوني أيضًا، فينازعَ حكمُ الحقِّ بالحقِّ للحق، ويدافَع (4) به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي: "النَّاسُ إذا وصلوا (5) إلى القضاءِ والقدر أمسكوا، وأنا انفتحتْ لي فيه (6) رَوزَنة (7) فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ. والعارفُ من يكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر" (8) انتهى. __________ (1) "به" ساقط من "ط"، وكذا من "ك"، ثمَّ استدرك بخط مغاير. (2) "ط": "الباطن" تحريف. (3) "به": ساقط من "ك". (4) "ك، ط": "فيدافع". (5) "ك، ط": "دخلوا". (6) "فيه" ساقط من "ك، ط". (7) الروزنة: الكوَّة النافذة، فارسي معرَّب. انظر: المعرب (336). (8) مدارج السالكين (1/ 272)، مجموع الفتاوى (2/ 458)، (6/ 308) (10/ 158). وانظر تفسير قول الشيخ "نازعت أقدار الحق. . . " في =
(1/75)
فإن ضاق ذرعُكَ عن هذا الكلام وفهمه فتأمَّل قول عمر بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفِرُّ من قدَر اللَّه؟ فقال: "نفِرُّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه" (1). ثمَّ كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له في هذا العالم إلا به، ولا تتمُّ له مصلحة إلا بموجبه. فإنَّه إذا جاءَه قَدرٌ من الجوع والعطش و (2) البرد نازعه، وترك الانقياد له ومسالمته، ودَفَعَ (3) بقدَر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر اللَّه بقدره. وهكذا إذا وقع الحريقُ في داره فهو بقدَر اللَّه، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلماهُ بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتَّى يطفئ قدَر اللَّه بقدر اللَّه، وما خرج في ذلك عن قدر اللَّه. وهكذا إذا أصابه مرض بقدر اللَّه دافع هذا القدر، ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض. فحقُّ هذا الحكم الكوني أن يحرص العبدُ على مدافعته ومنازعته بكلِّ ما يمكنه، فإنْ غلبه وقهرَه حرَص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها اللَّه لذلك (4)، __________ = (8/ 547 - 550). (1) سقط لفظ الجلالة من "ط". وفي القطرية: "قدره". وأثر عمر رضي اللَّه عنه أخرجه البخاري في كتاب الطب (5729)، ومسلم في كتاب السلام (2219). (2) "ط": "أو". (3) "ك، ط": "دفعه". (4) "ط": "بك" خطأ صحح في القطرية.
(1/76)
فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم. وبهذا أُمِرَ، بل هذا حقيقة الشرع والقدر. ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطِها حقَّها لزمَه التعطيلُ للقدر أو الشرع، شاء أم (1) أبى. فما للعبد ينازع أقدارَ الربِّ تعالى بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية (2)، ولا ينازع أقدارَه بأقداره (3) في حقِّ مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروجٌ عن العبودية ونقصٌ في العلم باللَّه وصفاته وأحكامه؟ ولو أنّ عدوًّا للإسلام قَصَده لكان هذا بقدر اللَّه، ويجب على كل مسلم دفعُ هذا القدَر بقدَرٍ يحبُّه اللَّه -وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب- دفعًا لقدر اللَّه بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية؛ اللّهم إلّا إذا بذل العبدُ جهدَه في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري (4) على العبد بغير اختياره، ولا طاقَة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته. فهذا حقُّه أَن يتلقّى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكونَ فيه كالميّت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركبُ في لُجّة البحر، وعجَز عن السباحة، وعن سببٍ يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة. مع أنَّ عليه في هذا الحكم عبودياتٍ أخَر سوى __________ (1) "ن، ك، ط": "أو". (2) "ك": "أسباب مصالحه ومعايشه الدنيوية". (3) "بأقداره" ساقط من "ك، ط". (4) "ك": "جرى".
(1/77)
التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّةَ الحاكم سبحانه في حكمه، وعدلَه في قضائه، وحكمتَه في جريانه عليه، وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1)، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل برء (2) الخليقة، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. ويشهد أن القدر ما أصابه إلّا لحكمة اقتضاها اسمُ الحكيم جلَّ جلالُه وصفة (3) الحكمة، وأنّ القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي أن يحلّ فيه، إذ هو مُوجَب الحكمة البالغة والعلم المحيط والعزّة التامّة، لم يخطئ مواقع الحكمة، ولم يتعدَّ منازله التي ينبغي (4) له أن ينزل بها (5)؛ وأنّ ذلك أوجبه عدلُ اللَّه وحكمتُه وعزّتُه وعلمُه وملكُه العادل، فهو موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى. فله عليه أكملُ حمد وأتمُّه، كما له الحمدُ على جميع أفعاله وأوامره. وإن كان حظُّ العبد من هذا القدر الذمّ، فحقُّ الربِّ جلّ جلالُه منه الحمد والمدح، لأنّه موجَب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجَب نقصِ العبد وجهلِه وظلمِه وتفريطِه. __________ (1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (21589، 21611، 21653)، وعبد بن حميد (247)، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت، وهو حديث صحيح، صححه ابن حبان (ز). (2) "ك، ط": "بدء". (3) "ط": "وصفته". (4) العبارة "أن يحل فيه. . " إلى هنا ساقطة من "ط" لانتقال النظر. (5) "ط": "به"، ولعلَّه تغيير بسبب السقط.
(1/78)
فاقتسم الربِّ والعبدُ الخُطتين (1) في هذا القدَر، فكان (2) للرب تعالى فيه الحمدُ، والنعمةُ، والفضلُ، والثناء الحسن؛ وللعبد خُطَة (3) الذمّ، واللّوم، والإساءة، واستحقاق العقوبة. استأثر اللَّهُ بالمحامِد والْـ ... ــفَضْلِ، وولَّى الملامةَ الرَّجلا (4) ويشفيه في هذا المقام (5) أربعُ آيات: أحدها (6) قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79]. والثانية: قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران/ 165]. والثالثة: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30]. والرابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى/ 48]. __________ (1) "ك، ط": "الحطَّين"، تحريف. وعبارة المصنف ناظرة إلى قول النابغة: إنَّا اقتسمنا خُطَّتَينا بيننا ... فحملتُ برَّةَ واحتملتِ فَجارِ (2) "ك، ط": "وكان". (3) "ك": "وللعبد حظه". وفي "ط": "والعبد حظه"، والصواب ما أثبتنا من الأصل. (4) للأعشى، وقد سبق في ص (11). (5) "ط": "ويتبين هذا المقام في"، تحريف. (6) كذا في الأصل و"ف، ن". وسيأتي مثله في ص (446، 376، 820). وانظر: بدائع الفوائد (308) ومدارج السالكين (2/ 239). وفي "ك، ط": "إحداها".
(1/79)
فمن نزَّل هذه الآيات على هذا الحكم علمًا ومعرفةً، وقام بموجبها إرادةً وعزمًا وتوبةً واستغفارًا، فقد أدَّى عبودية اللَّه في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرَّد التسليم والمسالمة. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه.
فصل [في تفسير الدرجة الثانية وهي: غنى النفس]
قوله في غنى النفس إنَّه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من المسخوط (1)، وبراءتها من المراياة (2) ": يريد به (3) استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه اللَّه ويرضاه، وتجنُّبَها لمناهيه التي يسخطها ويُبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيمًا للَّه وأمره، وإيمانا به، واحتسابًا لثوابه، وخشية من عقابه (4)؛ لا طلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمهم وازدرائهم، وطلبًا للجاه والمنزلة عندهم. فإنَّ هذا دليل على غاية الفقر من اللَّه، والبعد منه (5)، وأنَّه أفقر شيء إلى المخلوق. فسلامةُ النفس من ذلك واتصافُها بضده دليلُ غناها؛ لأنَّها إذا أذعنت منقادةً لأمر اللَّه طوعًا واختيارًا ومحبة وإيمانًا واحتسابًا، بحيث تصير __________ (1) "ط": "الحظوظ"، تغيير من الناشر قد مرَّ التنبيه عليه. (2) انظر ما سلف في ص (67). (3) "به" ساقط من "ك، ط". (4) "ك": "لعقابه". (5) "ك": "عنه".
(1/80)
لذتُها وراحتُها ونعيمُها وسرورُها في القيام بعبوديته، كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (1): "يا بلالُ أرحْنا بالصلاة" (2)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَيْني في الصلاةِ" (3). وقُرَّة العين (4) فوق المحبة، فجعل النساءَ والطِّيب مما يحبه، وأخبر أنَّ قرَّة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها، وتحضره (5) لذتُه وفرحُه (6) وسرورُه وبهجتُه = إنَّما هو (7) في الصلاة التي هي صلةٌ باللَّه وحضورٌ بين يديه، ومناجاةٌ له واقترابٌ منه، فكيف لا تكون قرَّةَ العين، وكيف تقَرُّ عينُ المحبِّ بسواها؟ فإذا حصل للنفس هذا الحظُّ الجليلُ فأيَّ فقرٍ تَخشَى معه، وأيُّ غنًى فاتها حتَّى تلتفتَ إليه؟ ولا يحصل لها هذا حتَّى ينقلبَ طبعُها، ويصير مجانسًا (8) لطبيعة __________ (1) "ك": "كما قال النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-". (2) أخرجه أحمد (23088، 23154)، وأبو داود (4985)، والطبراني في الكبير (6214) وغيرهم. والحديث وقع خلاف في وصله وإرساله، وأشار الدارقطني والخطيب إلى أنَّ إرساله أصح. انظر: علل الدارقطني (4/ 120 - 122)، وتاريخ بغداد (10/ 443). (ز). (3) أخرجه أحمد (12293، 12294، 13057). والنسائي (3940) وابن أبي عاصم في الزهد (235). والحديث اختلف في وصله وإرساله. فصححه موصولًا الحاكم، وقوَّاه الذهبي، وجوّده العراقي، وحسَّنه ابن حجر. ورجح الدارقطني المرسل، فقال: "والمرسل أشبه بالصواب". انظر الأحاديث المختارة للضياء المقدسي (5/ 113) (ز). (4) "ك، ط": "فقرّة". (5) "ط": "ومحض لذته"، تحريف. (6) "ف": "فرحته"، خلاف الأصل. (7) كذا "هو" في الأصل وغيره. والضمير راجع إلى "قرّة العين". (8) "ك": "مجانبًا"، تحريف.
(1/81)
القلب؛ فتصير بذلك مطمئنةً بعد أن كانت لوَّامة. وإنَّما تصير مطمئنة بعد تبدُّل صفاتها، وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحقِّ جلَّ جلاله، فجرى أثرُ ذلك النور في سمعه وبصرِه، وشعرِه وبَشرِه، وعَظْمِه ولَحْمِه، (1) وسائرِ مفاصله؛ وأحاطَ بجهاته من فوقه وتحته، ويمينه ويساره، وخلفه وأمامه؛ وصارت ذاتُه نورًا فصارَ (2) عملُه نورًا، وقولُه نورًا، ومدخلُه نورًا، ومخرجُه نورًا؛ وكان في مبعثه ممن أُتِمَّ (3) له نورُه، فقطَع به الجسر. وإذا وصلت النفسُ إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعدَ عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإنَّ فقرَها إلى الشهوات هو الموجِبُ لها التقاعدَ عن المرغوب المطلوب؛ وأيضًا فتقاعدُها عن المطلوب منها (4) موجِبٌ لفقرها إلى الشهوات، فكلٌّ منهما موجب للآخر. وتركُ الأوامر أقوى لها في (5) افتقارها إلى الشهوات، فإنَّهُ بحسب قيام العبد بالأمر تُدفَع (6) عنه جيوشُ الشهوة، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت/ 45]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (7) [الحج/ 38]، وفي __________ (1) "ك، ط": "لحمه ودمه". (2) "ك، ط": "وصار". (3) "ط": "انبهر"، تحريف شنيع. (4) "ط": "بينهما"، تحريف. (5) "ط": "من"، تحريف. (6) "ك": "يدفع". (7) كذا وردت الآية في الأصل وغيره بلفظ "يدفع" على قراءة ابن كثير وأبي =
(1/82)
القراءة الأخرى: "يُدافِعُ". فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوَّة الإيمان وضعفه. فإذا (1) صارت النفس حرَّةً مطمئنةً غنيةً بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب، ففاض منه إليها = استقامت بذلك الغنى على الأمر المرغوب (2)، وسلِمتْ به عن الأمر المسخوط، وبرئت من المراياة (3). ومدار ذلك كله على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا (4)، ولهذا كان الدِّين كفُه في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود/ 112]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} [الأحقاف/ 13].
فصل [في الدرجة الثالثة وهي: الغنى بالحق سبحانه، ولها ثلاث مراتب]
وهذه الاستقامة تُرَقِّيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كلِّ ما سواه، وهي أعلى درجات الغنى. فأوَّل هذه الدرجة أن تشهد ذكرَ اللَّه عزَّ وجلَّ إيَّاك قبلَ ذكرك له، __________ = عمرو، ثمَّ ذكرت قراءة الباقين: "يدافع". وعلى هذا الترتيب جاء كلام المؤلف: "فكمال الدفع والمدافعة". والناشر قد غير الترتيب في إثبات القراءتين. (1) "ك، ط": "لماذا". (2) "ط": "الموهوب"، تحريف. (3) انظر ما سلف في ص (67). (4) "ك، ط": "باطنًا وظاهرًا".
(1/83)
وأنَّه (1) تعالى ذَكَرَك فيمن ذكَره من مخلوقاته ابتداءً قبلَ وجودِك وطاعتِك وذكرِك، فقدّر خلقَك ورزقَك وعمَلَك وإحسانَه إليك ويعمَه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة. وذكَرك سبحانه بالإسلام، فوفقك له، واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج/ 78] فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قطّ، وإنَّما هو الذي أفَلَك بسابق ذكره، فلولا ذكرُه لك بكل جميلٍ أولاكَه لم يكن لكَ (2) إليه سبيل. ومن الذي ذكَرك باليقظة، حتَّى استيقظتَ، وغيرُك في رقدة الغفلة مع النُّوَّام؟ ومَن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتَّى وفَّقك لها، وأوقعَها في قلبك، وبعث دواعيك عليها (3)، وأحيا عزَماتِك الصادقةَ عليها، حتَّى تُبْتَ (4) إليه، وأقبلتَ عليه، فذقتَ حلاوة التوبة وبردَها ولذَّتَها؟ (5) ومَن الذي ذكرك سواه بمحبَّته حتَّى هاجت من قلبك لواعجُها، وتوجَّهتْ نحوَه سبحانه ركائبُها؛ وعمرَ قلبَك بمحبَّته بعد طول الخراب، وآنسَك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب؟ ومن تقرَّب إليك أوَّلًا حتَّى تقرَّبت إليه، ثمَّ أثابك على هذا التقرب __________ (1) " ك": "وأنَّ اللَّه". (2) "لك" سقط من "ط" واستدرك في القطرية. (3) "عليها" ساقط من "ك، ط". (4) "ط": "ثُبت". (5) "ط": "لذَّاتها".
(1/84)
تقرُّبًا آخر، فصار التقرُّبُ منك محفوفًا بتقرّبَين منه تعالى: تقرُّبٍ قبله، وتقرُّب بعده؛ والحبُّ منك محفوفًا بحبَّينِ منه: حبٍّ قبله، وحُبٍّ بعده؛ والذكرُ منك محفوفًا بذكرَين: ذكرٍ قبله، وذكرٍ بعده؟ فلولا سابقُ ذكره إيَّاك لم يكن من ذلك كلّه شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرّةٌ ممَّا وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبَّته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلُّها آثارُ ذكره لك. ثمَّ إنَّه سبحانه ذَكَرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عينٍ ونفَسٍ نعمٌ عديدةٌ ذكَرك بها قبلَ وجودك، وتعرَّف بها إليك، وتحبَّب بها إليك، مع غناه التامّ عنك وعن كل شيء. وإنَّما ذلك مجرَّد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجوادُ (1) المحسنُ لذاته، لا لمعاوضةٍ، ولا لطلب جزاءٍ منك، ولا لحاجةٍ دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟ فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنَّه ذكرك بها، فَلْتعظُمْ عندك لِذكره لك بها، فإنَّه (2) ما حقَّرك مَن ذكَرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبَّب إليك بنعمته؛ هذا كلّه مع غناه عنك. فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربِّه له، ووصل شاهدُه إلى قلبه شَغَلَه ذلك عمَّا سواه، وحصل لقلبه به غنًى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذُه وسيّدُه يَذكُره ولا ينساه، فهو يحصل له -بشعوره بذكر أستاذه له- غنى زائد على إنعام سيّده عليه وعطاياه السنية له؛ فهذا هو غني ذكر اللَّه للعبد. __________ (1) زاد هنا في "ك، ط": "المفضل". (2) "ط": "فإنَّها".
(1/85)
وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ ذَكَرَني في نَفْسه ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ" (1). فهذا ذكرٌ ثانٍ بعد ذكر العبد لربّه غير الذكر الأوَّل الذي ذكره به (2) حتى جعله ذاكرًا، وشعورُ العبد بكلا الذكرَين يُوجب له غنى زائدًا على إنعام ربّه عليه وعطاياه له. وقد ذكرنا في كتاب "الكلم الطيب والعمل الصالح" (3) من فوائد الذكر استجلابَ ذكرِ اللَّه لِعبده. وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلَّق بالذكر، كل فائدةٍ منها لا خطَر (4) لها. وهو كتاب عظيم النفع جدًّا. والمقصودُ أنَّ شعور العبد وشهودَه لذكر اللَّه له يُغني قلبه ويَسدُّ فاقته، وهذا بخلاف مَن نسوا اللَّه فنسيَهم؛ فإنَّ الفقرَ من كُلّ خير حاصلٌ لهم، وما يظنون أنَّه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر (5) أسباب فقرهم. __________ (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7405) وغيره، ومسلم في الذكر (2675). (2) "به" ساقط من "ف". (3) ص (96). وقد صدر الكتاب في هذه السلسلة بعنوان "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب". (4) كذا في الأصل وغيره. أي لا مثيل لها، ولا عوض عنها. في حديث أسامة بن زيد: "ألا مشمّر للجنة، فإنّ الجنَّة لا خطر لها" رواه ابن ماجه (4332). وقال المصنف في زاد المعاد (4/ 273): "فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلامًا". وانظر: اللسان (خطر). وفي ط: "لا نظير لها"، ولعله تغيير من ناسخ أو ناشر. (5) "ف": "آكد". "ن": "أحد"، والصواب ما أثبتنا.
(1/86)
فصل الدرجة الثانية من درجات الفنى باللَّه عزَّ وجلَّ: دوامُ شهودِ أوَّليته تعالى وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى ممَّا قبله، والغنى به أتمّ من الغنى المذكور؛ لأنَّه من مبادئ الغنى بالحقيقة؛ لأنَّ العبد إذا فتح اللَّه لقلبه (1) شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الحقّ الكامل في أسمائه وصفاته، الغنيّ بذاته عمَّا سواه، الحميد المجيد (2) بذاته قبل أن يخلق مَن يحمده ويعبده ويمجّده، فهو معبود محمود حيّ قيّوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنَّما كان به؛ وهو تعالى بنفسه ليس بغيره، فهو القيوم الذي قيامُ (3) كلِّ شيءٍ به، ولا حاجةَ به في قيومته إلى غيره بوجه من الوجوه = فإذا شهد العبدُ سبقَه تعالى بالأوَّلية (4) ودوام وجوده الحقّ، وغاب بهذا عمَّا سواه من المحدَثات؛ فني في وجوده من لم يكن، كأنَّه لم يكن (5)، وبقي من لم يزل. واضمحلَّت الممكنات في وجوده الأزليّ الدائم، بحيث صارت كالظلال التي (6) يبسطُها ويمدُّها ويقبِضُها، فيستغني العبدُ بهذا __________ (1) "ف": "له"، خلاف الأصل. (2) "المجيد" ساقط من "ك، ط". (3) "ف": "أقام" خلافًا للأصل. (4) في الأصل: "الأولوية" سهو، وكذا في "ف". (5) "كأنَّهُ لم يكن" ساقط من "ط". (6) في الأصل و"ف": "الذي"، وفي حاشيتيهما علامة "ظ" أي انظر. ولعلَّه سبق قلم. وكذا في "ن، ك"، والمثبت من "ط".
(1/87)
المشهد العظيم، ويتغذَّى به (1) عن فاقاته وحاجاته. وإنَّما كان أفضلَ عندهم (2) ممَّا قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبةٌ مشيرةٌ إلى وجود العبد. وهذا الشهود الثاني ساترٌ للموجودات (3) كلِّها سوى الأوَّل تعالى، قد اضمخَلتْ، وفنيتْ فيه، وصارتْ كأوليتها، وهو (4) العدم. فأفنتها أوَّليةُ الحق تبارك وتعالى، فبقي العبد محوًا صرفًا وعدمًا محضًا، وإن كانت إنّيَّتُه متشخصةً (5) مشارًا (6) إليها، لكنَّها لما نُسِبتْ إلى أوَّلية الحق عزَ وجل اضمحلَّتْ وفنيتْ، وبقي الواحد الحقّ الذي لم يزل باقيًا. فاضمحلَّ ما دون الحق تعالى في شهود العبد، كما هو مضمحلّ في نفسه. وشهِد العبدُ حينئذٍ أنَّ كل شيء سوى اللَّه (7) باطل، وأنَّ الحقَّ المبين هو اللَّه وحده. ولا ريب أنَّ الغنى بهذا الشهود أتمُّ من الغنى بالذي قبله. وليس هذا مختصًّا بشهود أوَّليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الربّ جلَّ جلالُه يستغني العبدُ بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديّتها. فمَن شهد مشهدَ علوِّ اللَّه على خلقه وفوقيّته لعباده واستوائه على عرشه، كما أخبر به أعرَفُ الخلق وأعلَمُهم به الصادقُ المصدوقُ، وتعبَّد __________ (1) في الأصل وغيره: "بها"، وهو أيضًا سهو. وفي حاشيتي الأصل و"ف" علامة "ظ". (2) "ط": "كان هذا عندهم أفضل". (3) "ط": "سائر الموجودات" تحريف. (4) "ف": "هي" خلاف الأصل. (5) "ط": "مشخصة". (6) "ك": "ومشارم إليها". (7) "ك، ط": "ما سواه".
(1/88)
بمقتضى هذه الصفة، بحيث يصيرُ لقلبه صَمَدٌ يعرج القلبُ إليه مناجيًا له مطرقًا واقفًا بين يديه وقوفَ العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأنَّ كلِمَه وعملَه صاعدٌ إليه معروضٌ عليه بين خاصَّته (1) وأوليائه، فيستحيي أن يصعد إليه مِن كلمه وعمله (2) ما يُخزيه ويفضحه هناك؛ ويشهدُ نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كلَّ وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، وكشف البلاءِ وإرساله، وتقليب (3) الدول ومداولة الأيام بين النَّاس إلى غير ذلك من التصرّف (4) في المملكة التي لا يتصرّف فيها سواه، فمراسيمُه (5) نافذةٌ فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة/ 5] = فمن أعطى هذا المشهد حقَّه معرفةً وعبوديةً استغنى به. وكذلك من شهِد مشهدَ العلم المحيط الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال؛ بل أحاط بذلك كلّه (6) علمًا تفصيليًّا، ثمَّ تعبَّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره، وإراداته (7)، وعزماته، وجوارحه علمًا __________ (1) "ك": "مع خاصته". ط: "مع أوفى خاصته"! (2) "وعمله" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "تقلب". (4) "ك، ط": "التصرفات". (5) "ك، ط": "فمراسمه". (6) "ط": "علمه"، تحريف. (7) "ك، ط": "وإرادته وجميع أحواله"!
(1/89)
بأنَّ (1) حركاته الظاهرة والباطنة وخواطرَه وإراداته (2) وجميعَ أحواله ظاهرةٌ مكشوفةٌ لديه (3)، علانيةٌ له، باديةٌ له (4) لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إذا أشعرَ قلبَه صفةَ سمعِه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهرَ به، لا يشغله جَهْرُ من جَهَرَ عن سمعه لِصوت مَن أسرَّ، ولا يشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلّطه الأصواتُ على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل (5) هي عنده كلها كصوت واحد، كما أنَّ خلقَ الخلق جميعِهم وبعثَهم عنده بمنزلة نفس واحدة. وكذلك إذا شهد معنى اسمه "البصير" جلَّ جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاءِ في حِنْدِس الظلماء، ويرى تفاصيلَ خلقِ الذرَّة الصغيرة ومخّها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مدَّ البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقَّه من العبودية، فحرَسَ حركاته وسكناته (6)، وتيقَّن أنَّها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها (7) شيء. __________ (1) "ك، ط": "عَلِمَ أنَّ". (2) "ك، ط": "وإرادته". (3) "ن": "لربه". (4) "له" ساقط من "ك، ط". (5) "بل" ساقط من "ف، ن". (6) "ط": "يحرس حركاتها وسكناتها". (7) "منها" ساقط من "ط" واستدرك في القطرية.
(1/90)
وكذلك إذا شهد مشهدَ القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنَّه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت (1)؛ وأنَّه تعالى هو القائم بنفسه، المقيمُ لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاءِ المحسن إليه وجزاءِ المسيء إليه؛ وأنَّه لكمال (2) قيوميَّته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النَّهار وعملُ النَّهار قبل الليل، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يضلّ ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع (3) مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية. وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاءِ. وهو شهادة أن لا إله إلا هو، وأنَّ إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أنَّ ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد سواه يستحق أن يؤلَّه ويُعبَد، ويُصلَّى له ويُسجَد. ويستحقُّ نهاية الحبّ مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده. فكلُّ عبوديةٍ لغيره باطلةٌ وعناءٌ وضلال، وكلُّ محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكلُّ غنًى بغيره (4) فقرٌ وفاقة، وكلُّ عزٍّ بغيره ذلّ وصغار، وكلُّ تكثّر بغيره قلَّة وذلَّة. فكما استحال أن يكون للخلق ربّ غيره، فكذلك يستحيل (5) أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجهت نحوه الطلبات. __________ (1) "بما كسبت" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "بكمال". (3) "ن": "أعلى". (4) "ك، ط": "لغيره"، تحريف. (5) "ط": "استحال".
(1/91)
ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإنَّ الإله على الحقيقة هو الغنيّ الصمَد الكامل في أسمائه وصفاته، الذي حاجةُ كل أحدٍ إليه، ولا حاجة به إلى أحد؛ وقيامُ كلِّ شيءٍ به، وليس قيامُه بغيره. ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظمَ فساد واختلّ أعظمَ اختلال، كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإنَّ استقلالَهما ينافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدهما يمنع ربوبّيةَ الآخر، فتوحيد الربوبيّة أعظم دليل على توحيد الإلهية. ولذلك (1) وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحّة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطَر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبيّة. ولذلك (2) كان عُبّادُ الأصنام يُقِرون به، وينكرون توحيد الإلهية، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص/ 5] مع اعترافهم بأنّ اللَّه وحده هو الخالق لهم وللسماوات والأرض وما بينهما، وأنّه المتفرّد (3) بملك ذلك كله. فأرسل اللَّه تعالى الرسلَ تذكِّرهم (4) بما في فطَرهم الإقرارُ به من توحيده وحده لا شريك له، وأنَّهم لو رجعوا إلى فِطَرهم وعقولهم لدلَّتهم على امتناع إليما آخر معه واستحالته وبطلانه. فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاءِ، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظُّ العباد منه بحسب حظّهم من معرفة الأسماء __________ (1) "ك": "كذلك"، خطأ. (2) "ك، ط": "وكذلك". (3) "ط": "المنفرد"، والأصل غير منقوط. (4) "ك، ط": "فأرسل اللَّه تعالى يذكر بما".
(1/92)
والصفات. ولذلك كان أكملُ الخلق فيه أعرفَهم باللَّه وأسمائه وصفاته (1)، ولذلك (2) كان الاسم الدَّالّ على هذا المعنى هو اسم اللَّه جلَّ جلاله، فإنَّ هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلُّها إليه، فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء اللَّه، ولا يقال: "اللَّه" من أسماء الرحمن. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 185]. فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهدُ كلّها، وكلُّ مشهد سواه فإنَّما هو مشهدٌ لصفة من صفاته. فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهيَّة، وقام بحقّه من التعبَّد الذي هو كمالُ الحبّ بكمالِ الذلّ والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تمَّ له غناه بالإله الحقّ، وصار من أغنى العباد. ولسانُ حالِ مثلِ هذا يقول: غنِيتُ بلا مالِ عن النَّاس كلِّهم ... وإنَّ الغنى العالي عن الشيء لا بِهِ (3) فيا لَه من غنًى ما أعظم خطره، وأجلَّ قدره! تضاءَلتْ دونه الممالكُ فما دونها، فصارت بالنسبة إليه كالظلِّ من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديثُ النفس، ويطرده الانتباهُ من النوم. __________ (1) العبارة "ولذلك. . . " إلى هنا ساقطة من "ك، ط". (2) "ك": "وكذلك". (3) من قصيدة نسبت في المستطرف (2/ 43) إلى الإمام الشافعي. ومنه في ديوانه - نشرة إحسان عباس (17)، والبيت وحده ورد في المستطرف أيضًا (1/ 110) منسوبًا إلى القهستاني، وله في معجم الأدباء (1680). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 419)، ومدارج السالكين (3/ 152).
(1/93)
فصل الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالربّ جلَّ جلاله: الفوز بوجوده. هذا الغنى أعلى درجات الغنى؛ لأنَّ الغنى الأوَّل والثاني كانا من آثار ذكر اللَّه والتوجّه، ففاض على القلب في صدق توجهه (1) أنوارُ الصفات المقدَّسة، فاستغنى (2) القلبُ بذلك، وحصل (3) له أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده، وحسن وكالته له (4)، وقيوميته بتدبيره، وحسن تدبيره، فاستغنت النفس بذلك أيضًا. وأمَّا هذا الغنى الثالث الذي هو "الغنى بالحق" فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إنَّما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات. وإنَّما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عينِ اليقين عندما يطلعِ فجرُ التوحيد، فهذا أوَّله. وكمالُه عند طلوع شمسه، فيتقطع (5) ضبابُ الوجود الفاني، وتُشرق شمسُ الوجود الباقي، فيتقطَّع (6) لها كل ضباب. وهذا عبارة عن نور يُقذَف (7) في القلب يُكشَف له بذلك النور عن عظَمةِ الذَّات، كما كُشِف له بالنور الذي قبلهَ عن عظمة الصفات. فإذا كان أثرٌ من آثار صفات الذَّات أو صفات الأفعال يُغني القلبَ __________ (1) "ن": "من صدق. . . ". "ك، ط": "من صدق التوجه". (2) "ط": "واستغنى". (3) "ك، ط": "وجعل"، تحريف. (4) "له" ساقط من "ك، ط". (5) هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "فينقطع". (6) هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "فينقطع". (7) في حاشية "ف" إشارة إلى أن في نسخة: "يقذفه".
(1/94)
والنفسَ، فما ظنُّك بما تكاشَفُ (1) به الأرواحُ من أنوار قدسِ الذَّات المتَّصفة بالجلال والإكرام. فهذا غنًى لا يناله الوصفُ، ولا يدخل تحت الشرح، فيستغني العبد الفقير بوجود سيّده العزيز الرَّحيم. فيا لكَ من فَقْرٍ تَقَضَّى (2)، ومِن غِنَى ... يدومُ، ومِن عيشٍ ألذَّ من المُنى! (3) فلا تستعجزْ نفسَك عن البلوغ إلى هذا المقام، فبينك وبينه صدقُ الطلب، فإنَّما (4) هي عزمةٌ صادقةٌ، ونهضةُ حُرٍّ لنفسه (5) عنده قدرٌ وقيمةٌ، يغار عليها أن يبيعَها بالدون. وقد جاءَ في أثرٍ إلهي: "يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ابْنَ آدمَ خَلَقْتكَ لنفسي فلا تَلْعَبْ، وَتَكَفلْتُ برزقك فلا تتْعَبْ، ابْنَ آدمَ اطْلُبْني تَجدْني، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شيءٍ، وإِنْ فُتُّكَّ فَاتَكَ كلُّ شيءٍ، وأَنَا أَحَبُّ إليكَ مِنْ كُل شيءٍ" (6). فمن طلَب اللَّه بصدقٍ وجده، ومن وجده أغناه وجودُه عن كلِّ شيءٍ (7). __________ (1) "ك": "يكشف"، خطأ. (2) قرأ ناسخ "ف": "يُقضى"، وكتب في الحاشية: "ينقضي ظ". وفي "ك": "يقضى". وفي "ط": "ينقص"، والصواب ما أثبتنا. (3) لم يفطن ناسخ "ف"، فأثبت هذا البيت نثرًا، وكذا في "ك، ط". (4) "ك، ط": "وإنَّما". (5) "ك، ط": "ممن لنفسه". (6) أثر إسرائيلي، كما نصَّ شيخ الإسلام في الفتاوى (8/ 52)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 400، 507)، والداء والدواء (305)، وروضة المحبين (432). وسيأتي مرة أخرى في ص (526). (7) "عن كل شيء" ساقط من "ك".
(1/95)
فأصبحَ حُرًّا في غنًى ومهابةٍ ... على وجهه أنوارهُ وضياؤه وإن فاتَهُ مولاه جلَّ جلالُه ... تباعدَ ما يرجو، وطال عناؤه (1) ومن وصل إلى هذا الغنى قرَّت به كل عين لأنَّه قد قرَّت عينُه باللَّه والفوز بوجوده، ومن لم يصل إليه تقطعتْ نفسُه على الدنيا حسرات. وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ والدُّنْيَا أكبرُ همِّه جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْه، وَشَتَّتَ عَلَيْه شَمْلَهُ، وَلَمْ يأْتِه من الدُّنْيا إلا ما قُدِّرَ له. ومَنْ أَصْبَحَ والآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّه جَعَلَ اللَّه غِنَاهُ في قَلْبهِ، وَجَمَعَ عليه شَمْلَه، وأَتَتْهُ الدُّنيا وهي رَاغِمَةٌ، وكان اللَّهُ بِكُلِّ خيرٍ إليه أَسْرَعَ" (2). فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرةُ أكبرَ همِّه، فكيف من كان اللَّه عزَّ وجلَّ أكبرَ همِّه، فهذا من باب التنبيه والأَولى.
فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى
* قال يحيى بن معاذ (3): "الفقر أن لا يستغني بشيء غير اللَّه، __________ (1) أثبت ناشر "ط" البيتين نثرًا، والبيت الأوَّلى ذكره المصنف في إغاثة اللهفان (933)، وفيه: "حرًّا عزَّةً وصيانةً". (2) من حديث زيد بن ثابت، أخرجه أحمد (21590) مطوَّلًا، والترمذي (2656)، وأبو داود (3660) مختصرًا، وابن ماجه (4105) مطوَّلًا، وابن حبان (67) مختصرًا. وليس عندهم لفظ "وكان اللَّه بكل خير إليه أسرع"، والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان والبوصيري. وقد جاء الحديث عن أنس وأبي هريرة نحوه (ز). (3) الرَّازي أبو زكريا، الواعظ، من كبار المشايخ. مات في نيسابور سنة (258 هـ). =
(1/96)
ورسمُه عدمُ الأسباب كلها" (1). قلتُ: يريد عدَمَها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها، بل تصير عدمًا بالنسبة إلى سبق مسبِّبها بالأوَّلية، وتفرده بالأزلية. * وسُئِلَ محمد بن عبد اللَّه الفرغاني (2) عن الافتقار إلى اللَّه تعالى والاستغناء به أيهما أكمل (3)؟ فقال: "إذا صحَّ الافتقار إلى اللَّه تعالى صحَّ الاستغناء به، واذا صحَّ الاستغناءُ به صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكملُ لأنَّه لا يتمّ أحدهما إلا بالآخر" (4). قلتُ: الاستغناء باللَّه هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأنَّ كمالَ الغنى به هو كمالُ عبوديته، وحقيقةُ العبوديةِ كمالُ الافتقار إليه من كلِّ وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به. فليس هنا شيئان يُطلَب تفضيلُ أحدهما على الآخر، وإنَّما يُتوهَّم كونُهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقَر إليه. فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يُسمَّى "غنًى" بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية، و"فقرًا" بالنسبة إلى قَصْر همَّته وجمعها على اللَّه عزَّ وجلَّ. فهي همَّة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير "غنى"، وسفرها إلى اللَّه "فقر". فإذا وصلتْ إليه استغنت به لكمال (5) فقرها إليه، إذ يصير لها بعد الوصول __________ = طبقات الصوفية (107)، سير أعلام النبلاء (13/ 15). (1) الرسالة القشيرية (272). (2) نزل بغداد، ولزم الجنيد واشتهر بصحبته، وروى عنه كلامه. الأنساب (4/ 368). (3) "أيهما أكمل" ساقط من "ك، ط". (4) نقله القشيري (273) من كلام الجنيد. (5) "ك، ط": "بكمال".
(1/97)
فقر آخر غير فقرها الأوَّل، وإنَّما يكمل فقرها بهذا الوصول. * وسئل رُويم (1) عن الفقر فقال: "إرسال النفس في أحكام اللَّه تعالى" (2). قلت: إن أراد الحكم الديني فصحيح، وإن أراد الحكم الكونيّ القدريّ فلا يصح هذا الإطلاق، بل لا بدّ فيه من التفصيل كما تقدَّم بيانه (3). وإرسالُ النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها، أو إرسالُها في أحكامه التي يجب منازعتُها ومدافعتُها بأحكامه خروجٌ عن العبودية. * وقيل: "نعتُ الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سرّه، وأداءُ فرضه، وصيانة فقره" (4). قلتُ: حفظُ السرِّ كتمانُه صيانةً له من الأغيار، وغيرةً عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمَن عليه. وأداء الفرض قيامٌ بحقّ العبودية. وصيانةُ الفقر حفظُه عن لَوث مساكنةِ الأغيار، وحفظُه عن كلِّ سببٍ يفسده، وكتمانه ما استطاع. * وقال إبراهيم بن أدهم (5): "طلبنا الفقرَ فاستقبلَنا الغنى، وطلب __________ (1) رُويم بن أحمد بن يزيد البغدادي. من جلَّة المشايخ، كان مقرئًا وفقيهًا على مذهب داود الظاهري، توفي سنة (303 هـ). طبقات الصوفية (180)، سير أعلام النبلاء (14/ 234). (2) الرسالة القشيرية (273). (3) انظر ما سلف في ص (74). (4) القشيرية (273). (5) العجلي -وقيل: التميمي- البلخي، نزيل الشام، الزاهد المشهور، توفي سنة (162 هـ)، طبقات الصوفية (27)، السير (7/ 387).
(1/98)
النَّاسُ الغنى فاستقبلهم الفقرُ" (1). * وسُئِلَ يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: "هو الأمن باللَّه عزَّ وجلَّ" (2). * وسُئِلَ أبو حفص (3): بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربِّه؟ فقال: "ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربِّه بشيء سوى فقره" (4). * وقال بعضهم (5): إنَّ الفقير الصادق لَيخشى من الغنى حِذارًا (6) أن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنيُّ الحريصُ من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه". * وقال بشر بن الحارث (7): "أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر" (8). قلتُ: ومن ههنا قال القائل (9): __________ (1) القشيرية (273). (2) المصدر السابق (274)، وقد تقدم قوله في الفقر في أوَّل الفصل. (3) عمرو بن سلمة النيسابوري الزاهد، شيخ خراسان. قال السلمي: هو أوَّل من أظهر طريقة التصوف بنيسابور، توفي سنة 264 هـ، وقيل غير ذلك. طبقات الصوفية (115)، السير (12/ 510). (4) القشيرية (274)، وسيأتي له قول آخر. (5) وهو ابن الكُرِّيني كما في القشيرية (274)، وهو أبو جعفر محمد بن كثير، من صوفية البغداديين. انظر: تاريخ بغداد (14/ 413)، والأنساب (4/ 63). (6) "ط": "حذرًا". (7) المروزي ثمَّ البغدادي المعروف بالحافي، الزاهد المشهور (152 - 227 هـ)، السير (10/ 469). (8) القشيرية (274). (9) من أربعة أبيات أوردها أبو نعيم في الحلية (10/ 40) لأبي بكر الشبلي (334 هـ)، وهي في القشيرية (278)، وعوارف المعارف (236).
(1/99)
قالوا: غدا العيدُ ماذا أنت لابسُه؟ ... فقلتُ: خلعةَ ساقٍ حِبَّه جُرَعا (1) فقرٌ وصبرٌ هما ثوبان تحتهما ... قلبٌ يرى إلفَه الأعيادَ والجُمَعا (2) الدهر لي مأتمٌ إن غبتَ يا أملي ... والعيدُ مادمتَ لي مرأى ومستمَعا (3) * وسئل ابن الجلّاءِ (4): متى يستحقّ الفقير اسمَ الفقر؟ فقال: "إذا لم يبقَ عليه بقيّةٌ منه". فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: "إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له" (5). قلت: معنى هذا أنّه لا يبقَى عليه بقيّة من نفسه، فإذا كان لنفسه فليس لها، بل قد أضاع حقَّها، وضيَّع سعادتَها وكمالَها. وإذا لم يكن لنفسه، بل كان كلُّه لربّه، فقد أحرز كلَّ حظٍّ له، وحصّل لنفسه سعادتَها. فإنه إذا كان للَّه كان اللَّه له، وإذا لم يكن للَّه لم يكن اللَّه له، فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أنفسهم. * وقيل: "حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقيُر في فقره بشيء إلّا بمن إليه فقرُه" (6). * وقال أبو حفص (7): "أحسنُ ما توسّل به العبدُ إلى مولاه دوامُ الفقر __________ (1) الحلية: أتى العيد. العوارف: "عبدَه الجرعا". (2) العوارف: "يرى ربه". (3) في الحلية والقشيرية: "ما كنت لي". (4) أبو عبد اللَّه أحمد بن يحيى، أصله من بغداد، أقام بالرملة ودمشق، وكان من كبار مشايخ الشام. طبقات الصوفية (176). (5) القشيرية (275). (6) المصدر السابق. (7) قد سبق آنفًا قول آخر لأبي حفص.
(1/100)
إليه على جميع الأحوال، وملازمةُ السنّة في جميع الأفعال، وطلبُ القوت من وجه حلال" (1). * وقال بعضهم (2): "ينبغي للفقير أن لا تسبق همتُه خطوتَه". قلتُ: يشير إلى تعلق همَّته بواجب وقته، وأنَّهُ لا تتخطى همَّته واجبَ الوقت قبل إكماله. وأيضًا يشير إلى قصر أمله، وأنَّ همَّته غيرُ متعلقةٍ بوقتٍ لا يحذث نفسه ببلوغه. وأيضًا يشير إلى جمع الهمَّة على حفظ الوقت، وأن (3) لا يضعفها بتقسيمها على الأوقات. * وقيل: "أقلُّ ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسُه، وورع يحجزُه، ويقين يحمِله، وذكر يؤنسه" (4). * وقال أبو سهل الخشَّاب لمنصور المغربي (5): "إنَّما هو فقر وذلّ"، فقال منصور: "بل فقر وعز"، فقال أبو سهل: "فقر وثرى"، فقال منصور: "بل فقر وعرش" (6). قلتُ: أشار أبو سهل إلى البداية، ومنصور إلى الغاية. * وقال الجنيد: "إذا لقيتَ الفقيرَ فَالْقَه بالرفق ولا تَلْقَه بالعلم، فإنَّ __________ (1) القشيرية (275). (2) وهو أبو محمد المرتعش النيسابوري المتوفى ببغداد سنة (328 هـ). انظر: القشيرية (275) وطبقات الصوفية (349). (3) "ك، ط": "ولا". (4) القشيرية: (276). (5) منصور بن خلف المغربي من شيوخ أبي القاسم القشيري. (6) القشيرية (276).
(1/101)
الرفقَ يؤنسه، والعلم يُوحشه"، فقلتُ (1): يا أبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: "نعم، الفقير إذا كان صادقًا في فقره فطرحتَ عليه العلمَ ذاب كما يذوب الرصاص في النار". * وقال أبو المظفر القِرْمِيسِيني (2): "الفقير هو الذي لا يكون له إلى اللَّه حاجة". قال أبو القاسم القشيري: "وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإنَّما أشار قائله إلى سقوط المطالبات، وانتفاء الاختيار (3)، والرضى بما يُجريه الحقُّ تبارك وتعالى" (4). قلتُ: وبعدُ فهو كلام مستدرَكٌ خطأ، فإنَّ حاجاتِ هذا العبد إلى اللَّه بعدد الأنفاس، إذ حاجاته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام، بل حاجات هؤلاء في حاجة هذا العبد كتَفْلَةٍ في بَحْر. فإنَّ حاجتَه إلى اللَّه في كلِّ طرفة عين أن يحفظ عليه حالَه، ويثبّت قلبَه، ويُرقّيَه في مقامات العبودية، ويصرفَ عنه ما يفسدها عليه، ويعرِّفه منازلَ الطريق ومكامنها وآفاتِها (5)، ويعرِّفه مواقعَ رضاه ليفعلها ويعزم عليها، ومواقعَ سخطه ليعزم على تركها (6) ويجتنبها. فأي حاجاتٍ أكثر وأعظم __________ (1) القائل أبو محمد المرتعش. انظر: القشيرية (276). وطبقات الصوفية (160). (2) كذا في الأصل وغيره. ولعله سهو، فإنَّه في القشيرية -مصدر المؤلف- وغيره "المظفر" لا "أبو المظفر". وهو من كبار مشايخ الجبل، صحب عبد اللَّه الخراز الرازي المتوفى قبل (310 هـ) ومن فوقه من المشايخ. طبقات الصوفية (396). (3) "ك، ط": "الاختيارات". (4) القشيرية (277). (5) "ك، ط": "أوقاتها"، تحريف. (6) "على تركها" سقط من "ف" سهوًا.
(1/102)
من هذه؟ فالصوابُ أن يقال: الفقيرُ هو الذي حاجاته إلى اللَّه بعدد أنفاسه أو أكثر، فالعبدُ له في كلِّ نفس ولحظة وطرفة عين عدَّةُ حوائج إلى اللَّه لا يشعر بكثيرٍ منها، فأفقر النَّاسِ إلى اللَّه من شعر بهذه الحاجات وطلَبها من معدنها بطريقها. وإن كان لا بُدَّ من إطلاق تلك العبارة -على أنَّ منها كلَّ بدّ! - فيقال: هو الذي لا حاجة له إلى اللَّه تُخالِف مرضاتَه وتحطُّه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء. وأمَّا أن يقال: لا حاجة له إلى اللَّه، فشطح قبيح. وأمَّا حملُ أبي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضى بمجاري الأقدار، فإنَّما يحسن في بعض الحالات، وهو في القدَر الذي يجري عليه بغير اختياره ولا يكون مأمورًا بدفعه ومنازعته بقدَرٍ آخر كما تقدم (1). وأمَّا إذا كان مأمورًا بدفعه ومنازعته بقدَر هو أحبُّ إلى اللَّه منه، وهو مأمور به أمرَ إيجابٍ أو استحباب، فإسقاطُ المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعي عينُ العجز، واللَّه تعالى يلوم على العجز. * وقال ابن خفيف (2): "الفقرُ عدمُ الأملاك، والخروجُ عن أحكام الصفات" (3). __________ (1) انظر: ص (77). (2) أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف الشيرازي المتوفى سنة (371 هـ) كان شيخ المشايخ في وقته. طبقات الصوفية (642). (3) القشيرية (277).
(1/103)
قلتُ: يريد به (1) عدمَ إضافةِ شيءٍ إليه إضافةَ ملك، وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه، ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده. مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي تُوجِبُ له دعوى الملَكة (2) والتصرف والإضافات، ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجبُ له العجز والفقر والفاقة، كما في دعاء الاستخارة: "اللَّهمَّ إنِّي أستخيرك بعلمكَ، وأستقدِرُكَ بقدرتِكَ، وأسألك من فضلك، فإنَّك تعلمُ ولا أعلمُ، وتقدِرُ ولا أقدِرُ (3)، وأنت علَّامُ الغيوب" (4)، فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد، وخروج عن أحكام صفات النفس. * وقال أبو حفص (5): "لا يصح لأحدٍ الفقر حتَّى يكون العطاءُ أحبَّ إليه من الأخذ، وليس السخاءُ أن يعطي الواجدُ المعدِمَ، وإنَّما السخاءُ أن يعطي المعدمُ الواجدَ" (6). * وقال بعضهم (7): "الفقيرُ: الذي لا يرى لنفسه حاجةً إلى شيءٍ من الأشياءِ سوى ربه تبارك وتعالى". __________ (1) "به "ساقط من "ك، ط". (2) "ط": "الملك". وفي "ك": "دعوة الملك". (3) "ك، ط": "من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم". وكذا في صحيح البخاري. (4) من حديث جابر رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب التهجد (1162)، وانظر رقم (7390). (5) قد سبق له قولان آخران في ص (99، 100). (6) القشيرية (277). (7) هو محمد المُسُوحي، انظر: المصدر السابق (277).
(1/104)
* وسُئِلَ سهل بن عبد اللَّه (1): متى يستريحُ الفقير؟ فقال: "إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه". *وقال أبو بكر بن طاهر (2): "من حكم الفقير أن لا يكون (3) له رغبة، وإنْ كان لا بدَّ فلا تجاوز رغبتُه كفايتَه" (4). * وسُئِلَ بعضهم (5) عن الفقيرِ الصادق، فقال: "الذي لا يَملِك ولا يُملَك". *وقال ذو النون (6): "دوام الفقرِ إلى اللَّه تعالى مع التخليط أحبُّ إليَّ من دوام الصفاء مع العُجْبِ" (7). فصل فجملة نعت الفقيرِ حقًّا أنَّه المتخلي من الدنيا تظرّفًا (8)، والمتجافي عنها تعفّفًا، لا يستغني بها تكثّرًا (9)، ولا يستكثر منها تملُّكًا. وإن كان __________ (1) التستري، انظر: المصدر السابق. (2) اسمه عبد اللَّه بن طاهر الأبهري، من أقران الشبلي. وكان من أجلِّ المشايخ بالجبل. توفي نحو (330 هـ)، طبقات الصوفية (391). (3) "ف": "تكون"، والأصل غير منقوط. وفي "ك، ط" والقشيرية كما أثبتنا. (4) القشيرية (278). (5) هو أبو بكر المصري كما في القشيرية. وهو محمد بن أحمد بن محمد الكناني المصري الشافعي ابن الحدَّاد، لازم النسائي وتخرَّج به، توفي سنة (345 هـ). السير (15/ 445). (6) القشيرية (278). (7) بعده في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (8) "ك": "تطرقًا"، "ط": "تطرفًا"، وكلاهما تصحيف. (9) "ن": "تكبرًا".
(1/105)
مالكًا لها بهذا الشرط لم تضرَّه (1)، بل هو فقيرٌ غناه في فقره، وغني فقرُه في غناه. ومن نعته أيضًا أن يكون فقيرًا من حاله، وهو خروجه عن الحال تبرِّيًا، وتركُ الالتفات إليه تسلّيًا، وتركُ مساكنة الأحوال، والرجوعُ عن موافقتها؛ فلا (2) يستغني بها اعتمادًا عليها، ولا يفتقرُ إليها مساكنةً لها. ومن نعته أنَّه يعمل على موافقة اللَّه في (3) الصبر والرضى والتوكل والإنابة، فهو عاملٌ على مراد اللَّه منه لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من اللَّه. فالفقيرُ خالص بكلِّيته للَّه عزَّ وجلَّ، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظٌّ ولا نصيب (4)، بل عملُه بقيام شاهدِ الحقِّ وفناءِ شاهد نفسه. قد غيّبه شاهدُ الحقِّ عن شاهد نفسه، فهو يريد اللَّه بمراد اللَّه، فمعوَّله على اللَّه، وهمَّته لا تقف دون شيءٍ سواه. قد فني بحبّه عن حبِّ ما سواه، وبأمره عن هواه، وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه. فهو في وادٍ، والنَّاسُ في واد! خاضع، متواضع، سليم القلب، سلِس القياد (5) للحقِّ، سريع القلب إلى ذكر اللَّه، بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله. زاهدٌ في كلِّ ما سوى اللَّه، راغبٌ في كلِّ ما يقرِّب إلى اللَّه، قريبٌ من النَّاسِ، أبعد شيءٍ منهم، يأنس بما يستوحشون منه، __________ (1) "ف": "لم يضره" تصحيف. (2) "فلا" ساقط من "ط" ومستدرك في القطرية. (3) "ط": "والصبر"، وصحح في القطرية. (4) "ط": "ونصيب". (5) "ط": "القيادة"، وصحح في القطرية.
(1/106)
ويستوحش ممَّا يأنسون به، متفرد (1) في طريق طلبه، لا تقيده الرسوم، ولا تملكه العوائد (2)، ولا يفرح بموجود، ولا يأسف على مفقود. من جالسه قرَّت عينه به، ومن رآهُ ذكَّرتْه رؤيتُه باللَّه. قد حملَ كَلَّه ومُؤنته عن النَّاسِ، واحتمل أذاهم، وكفَّ (3) أذاه عنهم. وبذلَ لهم نصيحته، وسبَّل لهم عِرْضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلَّة وعجز. لا يدخلُ فيما لا يعنيه، ولا يبخلُ بما لا ينقصه. وصفه الصدق والعفَّة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال. لا يتوقع لما يبذله للنَّاسِ منهم عوضًا (4)، ولا مدحة. لا يعاتِب، ولا يخاصم، ولا يطالِب، ولا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يرى له على أحدٍ فضلًا. مقبلٌ على شأنه، مكرمٌ لإخوانه، بخيل بزمانه، حافظ للسانه، مسافرٌ في ليله ونهاره، ويقظته ومنامه، لا يضغ عصا السيرِ عن عاتقه حتَّى يصل إلى مطلبه. قد رُفِعَ له عَلَمُ الحبِّ، فشمَّرَ إليه، وناداهُ داعي الاشتياق، فأقبل بكلّيته عليه. أجابَ منادي المحبة إذ دعاه: حيَّ على الفلاح، وواصل السُّرى (5) في بيداءِ الطلب، فحمِد عند الوصول مسراه (6)، وإنَّما يحمد __________ (1) "ك، ط": "منفرد". (2) "ك، ط": "الفوائد"، تحريف. (3) "ك": "بكف أذاه". (4) "ط": "عوضًا منهم". (5) "ك": "وصل السير". "ط": "وصل السرى". (6) "ط": "سراه".
(1/107)
القوم السُّرى عند الصباح: فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها ... منازلُكَ الأولى وفيها المخيَّمُ (1) ولكنَّنا سَبْيُ العدوّ، فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلِّمُ وحيَّ على روضاتها وخيامها ... وحيَّ على عيشِ بها ليس يُسأَمُ وحيَّ على يوم المزيد وموعدِ الـ ... ــمحبِّين، طوبى للذي هو منهمُ وحيَّ على وادٍ بها [هو أفيَحٌ ... وتربتُه من أذفرِ المسك أعظمُ] (2) منابرُ من نورٍ [هناكَ وفضَّةٍ ... ومن خالص العِقيانِ لا يتفصّمُ] (3) __________ (1) هذه القصيدة الميمية للمصنف رحمه اللَّه. وقد أورد 48 بيتًا منها في حادي الأرواح (30 - 32)، وطبعت كاملة ضمن مجموعة لم أقف عليها بعنوان "أربح بضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة" سنة 1316 هـ في الهند. ثم نشرتها مع النونية مكتبة ابن تيمية بالقاهرة سنه 1407 هـ. (2) كذا ورد البيت في "ك، ط" وحادي الأرواح. وفي الأصل: وحيَّ على واد بها أفيح به ... منابر من نور. . . . . . . . . . كذا ورد ناقضا، وبعده بياض، فأراد بعضهم استدراك النقص فقال في الحاشية: "لعله "لدى الرسل تُعلم" أو "بها الرسل تكرم". وقد أثبت ناسخ "ف" الاقتراح الأوَّل، ولكن نبَّه على أنَّه "ليس هذا من كلام المصنف رحمه اللَّه". وفي "ن" أيضًا ورد البيت كما في الأصل، فضرب بعضهم على "به منابر من نور"، وكتب بعده الشطر الثاني كما ورد في "ك". وقد تبين من "ك" وحادي الأرواح أن "منابر من نور" ليس جزءًا من هذا البيت، بل هو بداية البيت التالي. هذا، وقد كتب بإزائه في الحاشية اليسرى: "تضيء بهم تلك المنابر" كأنَّه بداية بيت جديد لم يكتمل! (3) تكملة هذا البيت من "ك"، ولم يرد في الأصل وغيره إلَّا أوَّله مع صدر البيت السابق. "لا يتفصم": كذا بالفاء في "ك". وتفصم الشيء: انكسر دون بينونة. =
(1/108)
يروَن به الرحمنَ جلَّ جلالُه ... كرؤية بدْرِ التِّمِّ لا يُتَوهَّمُ أو الشمس صحوًا ليس من دون أُفْقِها ... ضَبابٌ ولا غَيْمٌ هناكَ يُغيِّمُ وبيناهمُ في عيشهم وسرورهم ... وأرزاقُهم تُجرى عليهم وتُقسَمُ إذا هُمْ بنورٍ ساطع قد بدا لهم ... فقيل: ارفعوا أبصاركم، فإذا هُمُ بربِّهِمُ مِن فوقِهمْ وهو قائلٌ: ... سلامٌ عليكم طبتُمُ وسلِمتُمُ فياعجبًا، ما عذرُ من هو مؤمنٌ ... بهذا ولا يسعى له ويُقدِّمُ فبادِرْ إذًا ما دام في العمر فسحةٌ ... وعَدْلُك مقبولٌ وصَرْفُك قيِّمُ فما فرحتْ بالوصل نفسٌ مَهينةٌ ... ولا فاز قلبٌ بالبطالة يَنعَمُ فجِدَّ وسارعْ واغتنِمْ ساعةَ السُّرى ... ففي زمن الإمكان يُسْعَى ويُغنَمُ (1) وسِرْ مسرعًا فالسَّيلُ (2) خلفك مسرعٌ ... وهيهاتَ ما منه مفرٌّ ومهزَمُ فهنَّ المنايا أيُّ واد نزلتَه ... عليها القدومُ أو عليك ستقدَم وإن تكُ قد عاقتْك سُعدى فقلبُك الـ ... ــمُعَنَّى رهينٌ في يديها مسلَّمُ وقد ساعدتْ بالوصل غيرَك فالهوى ... لها منكَ والواشي بها يتنعَّمُ فدَعْهَا وسلِّ النفسَ عنها بجنَّةٍ ... من الفقر في روضاتها الدرُّ يَبسمُ ومن تحتها الأنهارُ تخفِق دائمًا ... وطيرُ الأماني فوقها يترنَّمُ __________ = وفي حادي الأرواح بالقاف. (1) "ط": "تسعى وتغنم". (2) "ط": "فالسير"، تحريف.
(1/109)
وقد ذُلِّلتْ منها القطوفُ فمن يُرِدْ ... جناها يَنَلْه كيف شاءَ وينعَمُ وقد فُتِحت أبوابها وتزينت ... لِخُطَّابها (1) فالحسنُ فيها مقسَّمُ أقام على أبوابها داعي الهدى ... هلمُّوا إلى دار السعادة تغنموا وقد طابَ منها نُزْلُها ومقيلُها ... فطوبى لمن حلُّوا بها وتنعموا وقد غرس الرحمنُ فيها غِراسَه ... من النَّاسِ، والرحمن بالغرس أعلمُ فمن كان من غرس الإله فإنَّهُ ... سعيدٌ وإلا فالشقا متحتِّمُ فيا مسرعينَ السيرَ باللَّه ربِّكم ... قِفوا بي على تلك الربوع وسلِّموا وقولوا: محبٌّ قاده الشوقُ نحوَكم ... قضى نحبَه فيكم تعيشوا وتسلَموا قضى اللَّه ربّ العالمين قضيةً ... بأنَّ الهوى يُعمي القلوبَ ويُبكِمُ وحبُّكُمُ أصلُ الهدى ومدارُه ... عليه وفوزٌ للمحبِّ ومغنمُ وتفنى عظامُ الصَّبِّ بعد مماته ... وأشواقُه وقفٌ عليه محرَّمُ فياأيها القلبُ الذي ملَك الهوى ... أعِنّتَه، حتَّامَ هذا التلؤُّمُ وحتَّامَ لا تصحو وقد قرُب المدى ... ودقّت كؤوسُ السير والنَّاسُ نُوَّمُ بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... ويبدو لك الأمرُ الذي كنت تكتمُ ويا موقدًا نارًا لغيرك ضؤوها ... وحرُّ لظاها بين جنبَيك يضرَمُ أهذا جنَى العلمِ الذي قد غرستَه ... وهذا الذي قد كنتَ ترجوه تطعَمُ __________ (1) "ك": "لخاطبها".
(1/110)
وهذا هو الحظُّ الذي قد رضيتَه ... لنفسك في الدَّارين لو كنت تفهَمُ وهذا هو الربحُ الذي قد كسبته ... لعمرُك لا ربحٌ ولا الأصلُ يسلَمُ بخلتَ بشيءٍ لا يضرُّك بذلُه ... وجُدْتَ بشيءٍ مثلُه لا يُقومُ وبعتَ نعيمًا لا انقضاءَ له ولا ... نظيرَ ببخسٍ عن قليلٍ سيُعدَمُ فهلَّا عكستَ الأمرَ إن كنتَ حازمًا ... ولكن أضعت الحزم لو (1) كنتَ تعلمُ وتهدِمُ ما تبني بكفِّك جاهدًا ... فأنتَ مدى الأيام تبني وتهدمُ وعندَ مراد الحق تفنى كميِّتٍ ... وعندَ مراد النفس تُسْدِي وتُلحِمُ وعند خلاف الأمر تحتجُّ بالقضا ... ظهير على الرحمن للجبر يزعُمُ (2) تُنزه تلك النفسَ عن سوءِ فعلها ... وتعتِبُ (3) أقدارَ الإله وتظلِمُ وتزعمُ مَعْ هذا بأنَّكَ عارف ... كذبتَ يقينًا في الذي (4) أنت تزعمُ وما أنت إلا جاهل ثمَّ ظالم ... وإنَّكَ بين الجاهلبن مقدمُ إذا كان هذا نُصْحَ عبدٍ لنفسه ... فمن ذا الذي منه الهُدَى يتعلمُ وفي مثل هذي الحال (5) قد قال من ... مضى وأحسنَ فيما قالَه المتكلِّمُ: __________ (1) "ط": "إن". (2) كذا في الأصل و"ف". وفي غيرهما: "ظهيرًا. . . تزعم". وفي "ن": "ظهير" فزاد قارئ آنفًا! (3) "ط": "وتغتاب". (4) "ك": "بالذي". (5) "ك": "هذا الحال". "ط": "هذا كان".
(1/111)
(فإِن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ) ولو تبصِرُ الدنيا وراءَ ستورها ... رأيتَ خيالًا في منامٍ سيصرَمُ كحُلْم بطيفٍ زارَ في النوم وانقضى الـ ... ـمنام وراح الطيفُ والصَّب مغرمُ وظل أرتْه الشمسُ عند طلوعها ... سيقلِصُ في وقت الزوال ويُفصَمُ ومُزنةِ صيفٍ طاب منها مقيلُها ... فولت سريعًا والحَرورُ تضرَّمُ فجُزْها مَمَرًّا لا مَقرًا، وكنْ بها ... غريبًا تعِشْ فيها حميدًا (1) وتسلَمُ أو ابنَ سبيل قال في ظلِّ دوحةٍ ... وراحَ وخلَّى ظلَّها يتقسَّمُ أخا سفر (2) لا يستقرُّ قرارُه ... إلى أن يرى أوطانَه ويُسلِّمُ فيا عجبًا كم مصرعٍ وعظتْ به ... بنيها (3) ولكن عن مصارعها عَمُوا سقَتْهم بكأس الحبِّ حتَّى إذا انتشَوا (4) ... سقتهم كؤوسَ السُّمَّ والقومُ قد ظَمُوا وأعجبُ ما في العبد رؤية هذه الـ ... ـعظائمِ منها وهو فيها متيَّمُ وأعجبُ من ذا أنَّ أحبابها الأُلي ... تُهينُ ولِلأَعداء تَرْعَى (5) وتُكرِمُ وذلك برهان على أنَّ قدرَها ... جناحُ بَعوضِ أو أدقُّ وألأَمُ وحسبُك ما قال الرسولُ ممثِّلًا ... لها ولدار الخلد والحقُّ يُفْهَمُ __________ (1) "ك": "سعيدًا". (2) رسمه في الأصول: "أخى سفر" غير أن ناسخ "ف" ضبط الخاء بالفتحة. (3) "ط": "عطبوا به بنيها"! الضمير في "وعظت" راجع إلى الدنيا. (4) "ط": "انثنوا"، تصحيف. (5) "ط": "للأعداء تُراعي".
(1/112)
كما يُدخِل الإنسانُ في اليمِّ إصبعًا ... وينزعُها منه فما ذاك يغنمُ ألا ليتَ شعري هل أبيتَنَّ ليلةً ... على حذرٍ منها وأمريَ مُحكمُ وهل أَرِدَنَ ماءَ الحياةِ وأرتوي ... على ظمأٍ من حوضه وهو مُفعَمُ وهل تبدوَنْ أعلامُهم بعدما سَفَتْ ... عليها السوافي (1) تستبينُ وتُعلَمُ وهل أفرُشَنْ خدِّي ثرى عتَباتِهم ... خضوعًا لهم كيما يرِقُّوا ويرحموا وهل أَرَيَنْ نفسي طريحًا ببابهم ... وطيرُ أماني الحبِّ فوقي تُحَومُ فوا أسفا تفنى الحياةُ وتنقضي ... وعتبُكُم باقٍ، بقيتُمْ وعِشْتُمُ فما منكمُ بدٌ ولا عنكمُ غنًى ... وما لِيَ من صبرٍ فأسلوَ عنكمُ فمن شاءَ فليغضبْ سواكم فلا إذًا (2) ... إذا كنتمُ عن عبدكم قد رضيتمُ وعُقْبَى اصطباري في رضاكم حميدةٌ ... ولكنها عنكم عِقَابٌ ومَغرمُ (3) وما أنا بالشاكي لما ترتضونه ... ولكنني أرضى به وأسلمُ وحسب انتسابي من بعيدٍ إليكمُ ... وذلك حظٌ مثلُهُ يتيمَّمُ إذا قيل: هذا عبدهم ومحبُّهم ... تهلَّلَ بِشرًا ضاحكًا يتبسَّمُ وها هو قد أبدى الضراعةَ قائلٌ (4) ... لكم بلسان الحال والحالُ يُعلَمُ __________ (1) السوافي: الرياح التي تحمل الغبار وتذرو التراب. (2) "ط": "أذى"، خطأ. (3) "ط": "رضاكم هوى لكم حميد ولكنه عقاب". (4) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "قائلًا".
(1/113)
أحِبَّتنَا عطفًا علينا فإنَّنا ... بنا ظمأٌ، والموردُ العذبُ أنتمُ فيا ساهيًا في غَمْرةِ الجهلِ والهوى ... صريعَ الأماني عن قليلٍ ستندَمُ أَفِقْ قد دنا الوقتُ الذي ليس بعده ... سوى جنَّةٍ أو حرِّ نارٍ تضرَّمُ وبالسنة الغرَّاءِ كنْ متمسِّكًا ... هي العروة الوثقى التي ليس تُفْصَمُ تمسَّكْ بها مَسْكَ البخيل بمالهِ ... وعَضَّ عليها بالنواجذِ تسلمُ وإِيَّاكَ ممَّا أحدث الناسُ بعدها ... فمرتعُ هاتيكَ الحوادثِ أوخَمُ وهَيِّئْ جوابًا عندما تسمع النِّدا ... من اللَّه يومَ العرضِ: ماذا أجبتمُ بهِ رُسُلي لمَّا أتوكمْ، فمن يُجِبْ ... سواهم سيخزى عند ذاك ويندمُ وخذْ من تقى الرحمن أسبغَ جُنَّةٍ ... ليومٍ به تبدو عيانًا جهنَّمُ ويُنصبُ ذاك الجسرُ من فوق متنها ... فهاوٍ ومخدوشٌ وناجٍ مسلَّمُ ويأتي إلهُ العالمين لوعده ... فَيفْصِلُ ما بين العباد ويحكمُ ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقَّه ... فياويحَ من قد كان للخلق يَظلِمُ ويُنشَر ديوانُ الحساب وتوضَع الـ ... ـموازينُ بالقسط الذي لا يُظَلمُ (1) فلا مُجْرِمٌ يَخْشَى هناكَ ظُلامةً ... ولا مُحسِنٌ من أجره الذرَّ يُهضَمُ وتشهد أعضاء المسيء بما جنى ... لذاك على فيه المهيمنُ يَختِمُ __________ (1) كذا في الأصل وغيره، وضبط في الأصل و"ف" بفتح الظاء واللام المشددة المفتوحة. والمعنى: الذي لا يُنسب إلى الظلم. وفي "ط": "ليس يظلم".
(1/114)
ويا ليتَ شعري كيف حالُكَ عندما ... تَطايرُ كُتْبُ العالمين وتُقسَمُ أتأخُذُ باليمنى كتابَكَ أم [ترى] (1) ... بيُسراكَ خلفَ الظهرِ منك تُسلَّمُ وتقرأ فيه كلَّ شيءٍ عملتَهُ ... فيُشرقُ منك الوجهُ أو هو يُظْلِمُ تقولُ: كتابي هاؤمُ فاقرؤو لي ... يُبَشِّرُ بالجنَّاتِ حقًا ويُعلِمُ (2) وإنْ تكن الأخرى فإنَّكَ قائِلٌ ... ألا ليتني لم أوتَهُ فهو مُغرِمُ فلا والذي شقَّ القلوب وأودع الـ ... ـمحبَّةَ فيها حيث لا تتصرَّمُ وحَمَّلها قلبَ المحبِّ وإنَّهُ (3) ... ليضعفُ عن حمل القميص ويألمُ وذلَلَ فيها أنفسًا دون ذلِّها ... حياضُ المنايا فوقها هي حُوَّمُ [فلقد فازَ أقوامٌ وحازوا مَرابحًا ... بتركهم الدنيا وَالاقبالِ منهُمُ (4) على ربِّهم طولَ الحياة وحبِّهم ... على نهجِ ما قد سنَّهُ فَهُمُ هُمُ] (5) __________ (1) زيادة من "ط" لإقامة الوزن، ولم ترد في الأصل وغيره. (2) "ك، ط": "اقرؤوه. . . تبشر. . . تعلم". (3) "ف": "فإنَّه". (4) قد أضيف هذا البيت والذي يليه إلى الأصل قديمًا قبل أن تنسخ منها "ف". ولم يردا في أصل "ن" أيضًا، فزادهما بعضهم فيها بخط حديث. (5) بعد هذا البيت بياض في الأصل بقدر نصف صفحة؛ لأن هذا الجزء من الأصل نسخ مستقلًّا عما يليه. وكتب في الحاشية اليمنى: "علق منها لنفسه نسخة علي بن زيد بن علوان بن صَبِرة بن مهدي بن حريز الزبيدي الأثري اليمني داعيًا لناظمها ومالكها ولكل مسلم بالموت على الإسلام والسنة". وصاحب الحاشية من علماء القرن الثامن. ولد في "رَدْما" سنة 741 هـ. وتوفي بالقاهرة سنة 813 هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب (4/ 102 - 103).
(1/115)
قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجةُ العبدِ إليها أعظمُ من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس، بل وإلى الروح التي بين جنبيه (1) اعلم أنَّ كلَّ حيٍّ سوى اللَّه فهو فقيرٌ إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللّذة، والمضرَّةُ من جنس الألم والعذاب. فلا بُدَّ له (2) من أمرين: أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي يَنتفعُ ويلتذُّ (3) به، والثاني هو المعين الموصِل المحصِّل لذلك المقصود، والمانع لحصول المكروه، أو الدافع (4) له بعد وقوعه. فهاهنا أربعةُ أشياء: أمرٌ محبوب مطلوب الوجود، والثاني: أمرٌ مكروهٌ مطلوب العدم، والثالث: الوسيلة إلى حصول المحبوب، والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأمور الأربعة ضروريةٌ للعبد، بل ولكلّ حي سوى اللَّه، لا يقوم صلاحُه إلا بها. إذا عرف هذا فاللَّه سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره؛ وما سواه هو المكروهُ __________ (1) من هنا إلى ص (132) قارن بمجموع الفتاوى (1/ 21 - 33)، فقد بنى المصنف كلامه في هذه القاعدة وما تبعها من فصلين وأول الفصل الثالث على كلام شيخه، ونقل معظمه بنصه. وكذا فعل في "إغاثة اللهفان": الباب السادس (70 - 96) غير أنه رتبه هناك على نحو آخر. (2) "له" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "به ويتلذذ". (4) في "ك، ط": "والدافع".
(1/116)
المطلوب (1) بُعْدُه، وهو المعينُ على دفعه. فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]، فإنَّ العبادة (2) تتضمن المقصود المطلوبَ على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يُستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأول من مقتضى ألوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته؛ لأن الإله هو الذي يُؤلَه فيعبَدُ محبَّةً وإنابةً وإجلالًا وإكرامًا، والرب هو الذي يرُب عبدَه فيعطيه خَلْقَه، ثمَّ يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كمالُه، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فسادُه وهلاكُه. وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين: أحدها: قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]. الثاني: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود/ 88]. الثالث: قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود/ 123]. الرَّابع: قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة/ 4]. الخامس: قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان/ 58]. السادس: قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد/ 30]. السابع: قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا __________ (1) "ط": "والمطلوب" وقد صحح في القطرية. (2) "ط": "هذه العبادة".
(1/117)
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل/ 8 - 9]. ومما يقرِّر هذا أنَّ اللَّه سبحانه خلقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاصِ له. فبذكره تطمئنُّ قلوبُهم، وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونُهم. ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحبَّ إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحبَّ إليهم من الإيمان به، ومحبتهم له، ومعرفتهم به. وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألُههم له كحاجتهم إليه -بل أعظم- في خلقه لهم (1)، وربوبيته لهم، ورزقه لهم. فإنَّ ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتُهم وفوزُهم، وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحرّكين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذَّة ولا سرور بدون ذلك بحال. فمن أعرض عن ذكر ربِّه فإنَّ له معيشةً ضنْكًا، ويحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا لا يغفرُ اللَّه لمن يشرك به شيئًا، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ولهذا كانت "لا إلهَ إلا اللَّه" أفضلَ الحسنات، وكان توحيدُ الإلهية الذي كلمته "لا إله إلا اللَّه" رأس الأمر. فأمَّا توحيد الربوبية الذي أقرَّ به كلُّ المخلوقات فلا يكفي وحده، وإن كان لا بُدَّ منه، وهو حجة على من أنكر توحيدَ الألوهية، فحقُّ اللَّه على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه. وهذا كما أنَّهُ غايةُ محبوب العبدِ ومطلوبه، وبه سروره ولذَّته ونعيمه، فهو أيضًا محبوبُ الربِّ من عبده ومطلوبُه الذي يرضى __________ (1) "لهم" ساقط من "ط".
(1/118)
به. ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظمَ من فرحِ من وجَدَ راحلتَه التي عليها طعامُه وشرابُه في أرض مهلكة بعد أن فقدها وأَيِسَ منها (1)، وهذا أعظمُ فرع يكون. وكذلك العبد لا فَرَحَ له أعظمُ من فرحِه بوجود ربه، وأنسِه به، وطاعته له، وإقباله عليه، وطمأنينتِه بذكره، وعمارة قلبه بمعرفته، والشوقِ إلى لقائه. فليس في الكائنات ما يسكن العبدُ إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا اللَّه سبحانه. ومن عبد غيرَه وأحبَّه -وإن حصل له نوع من اللَّذة والمودَّة والسكون إليه والفرَح والسرور بوجوده- ففسادُه به ومضرتُه وعطَبُه أعظمُ من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذبٌ في مبدئه، وعذابٌ في نهايته، كما قال القائل: مآربُ كانت في الشباب لأهلها ... عِذابًا، فصارت في المشيب عَذَابا (2) {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء/ 22]، فإنَّ قوام السماوات والأرضِ والخليقة بأن تأله الإلهَ الحقَّ، فلو كان فيهما آلهة أخر (3) غير اللَّه لم يكن إلهًا حقًّا، إذ الإله الحق لا شريكَ له ولا سمي له ولا مثل له، فلو تألهت غيرَه لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحُها، إذ صلاحُها بتألُهِ الإلهِ الحقِّ. كما أنَّها لا توجَد إلا باستنادها إلى الربِّ الواحد القهَّار، __________ (1) يشير إلى حديث الصحيحين، وسيأتي في ص (512). (2) تمثل به المؤلف في روضة المحبين (633)، والداء والدواء (266، 361)، والفوائد (46). (3) "ط": "إله آخر".
(1/119)
ومستحيلٌ (1) أن تستند في وجودها إلى ربَّين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويَين. إذا عُرفَ هذا فاعلم أنَّ حاجةَ العبد إلى أن يعبد اللَّه وحده، ولا يشرك (2) به شيئًا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب = أعظمُ من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإنَّ حقيقة العبد قلبه وروحه (3)، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إلهَ إلا هو. فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه؛ ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها. ولو حصلَ للعبد من اللذات والسرور بغير اللَّه ما حصلَ لم يدُمْ له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، ثمَّ يتعذب به (4) -ولا بد- في وقت آخر. وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غيرَ منعِمٍ له ولا مُلِذّ، بل قد يؤذيه اتصالُه به ووجودُه عنده (5)، ويضرّه ذلك. وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجَرِب من لذة الأظفار التي تحكُه، فهي تُدمي الجلد __________ (1) "ك، ط": "يستحيل". (2) "ك، ط": "وحده لا يشرك". (3) "ك، ط": "وروحه وقلبه". (4) "ك": "يعذب به". "ط": "يعذب ولابد". (5) في الأصل وغيره: "عنه"، وهو سهو. والصواب ما أثبتنا من "ط".
(1/120)
وتُحْرِقُه (1) وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكّها من اللَّذّة. وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير اللَّه، هو عذابٌ عليه ومضرةٌ وألمٌ في الحقيقة، لا تزيد لذَّتُه على لذة حكّ الجرِب. والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحَهما وأنفعَهما، واللَّه الموفق المعين، وله الحجَّة البالغة، كما له النعمة السابغة. والمقصود أن إله العبد الذي لا بُدَّ له منه في كل حالة وكلِّ دقيقة وكلِّ طرفة عين فهو (2) الإلهُ الحق الذي كلُّ ما سواه باطل، الذي (3) أينما كان فهو معه. وضرورته إليه (4) وحاجته إليه لا تشبهها (5) ضرورةٌ ولا حاجةٌ، بل هي فوق كل ضرورة، وأعظمُ من كل حاجة، ولهذا قال إمام الحنفاء: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام/ 76] (6). __________ (1) "ط": "تخرقه". (2) "ط": "هو". (3) "ط": "والذي". (4) "إليه" ساقط من "ك، ط". (5) "ف، ك": "يشبههَا". (6) زاد بعدها في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(1/121)
فصل وهذا مبني على أصلين أحدهما: أنَّ نفس الإيمان باللَّه، وعبادته، ومحبته، وإخلاص العمل له، وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإنسان وقوتُه وصلاحُه وقِوامُه؛ كما عليه أهل الإيمان، وكما دلَّ عليه القرآن؛ لا كما يقوله من يقوله (1) إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذَّته، بل (2) لمجرد الامتحان والابتلاء، كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل؛ أو لأجلِ التعويض بالأجر لما (3) في إيصاله إليه بدون معاوضةٍ منَّة (4) تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات، كما يقوله من يتقرَّب إلى النبوات من الفلاسفة. بل الأمرُ أعظمُ من ذلك كله وأجلُّ، بل أوامرُ المحبوب قرَّةُ العيون، وسرورُ القلوب، ونعيمُ الأرواح، ولذاتُ النفوس، وبها كمالُ النعيم. فقرةُ عين المحب في الصلاة والحج، وفرَحُ قلبِه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة؛ وأما الصدقة فعجب من العجب. وأمَّا الجهاد، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى اللَّه، والصبر على أعداء اللَّه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوَم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. __________ (1) "ط": "يقول". (2) "بل" ساقط من "ط"، ومستدرك في القطرية. (3) "ف": "كما"، تحريف. (4) "ط": "منه"، وصحح في القطرية.
(1/122)
ومن غلظ فهمُه وكثف طبعُه عن إدراك هذا فليتأمَّلْ إقدامَ القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم، ومحبتهم للقتل، وإيثارهم له على البقاء، وإيثار لوم اللائمين، وذمّ المخالفين على مدحهم وتعظيمهم. ووقوعُ هذا من البشرِ بدون أمر يذوقه قلبُه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع. والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللذّة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه، فهو (1) يلتذ به، ويتنعم به، لما يعلمُ من سرور معشوقه به: فيا منكِرًا هذا تأخَّرْ فإنَّهُ ... حرامٌ على الخُفَّاشِ أن يُبْصِرَ الشَّمْسَا فمن كان مرادُه وجهَ (2) اللَّه، وحياتُه في معرفته ومحبته، ونعيمُه في التوجّه إليه وذكرِه، وطمأنينتِه به وسكونه إليه وحدَه = عرف هذا وأقرَّ به. الأصل الثاني: أنَّ (3) كمال النعيم في الدَّار الآخرة أيضًا به تعالى: برؤيته، وسماع كلامه، وقربه، ورضوانه؛ لا كما يزعمُ من يزعم أنه لا لذَّةَ في الآخرَة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح. بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظمُ مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال. وفي دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان __________ (1) "ف": "وهو"، قراءة محتملة. (2) "ك، ط": "وحبه" تصحيف. (3) "أن" ساقطة من "ط". وفي "ك": "والأصل الثاني أنّ".
(1/123)
والحاكم في صحيحيهما: "وأسألُكَ (1) لذَّة النظَرِ إلى وجهكَ، والشَّوْقَ إلى لقائِكَ، في غيرِ ضراءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة" (2). ولهذا قال تعالى في حقِّ الكفَّار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين/ 15 - 16]. فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذَّب به أعداؤه، ولذة النظر إلى وجهه (3) الكريم أعظمُ أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه، ولا تقومُ حظوظُهم من سائر المخلوقات مقامَ حظِّهم من رؤيته، وسماع كلامه، والدنو منه وقربه. وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنَّة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الطرق العارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وهما من فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، ويحتجّون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة، وبالذوقِ والوجد تارة، وبالفطرة تارةً، وبالقياس والأمثال تارةً. وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبَّة الذي سمَّيناهُ "المورد الصافي، والظل الضافي" (4) في المحبة وأقسامها __________ (1) "ط": "أسألك" دون واو العطف. (2) أخرجه أحمد (18325). والنسائي في الكبرى (1229) وابن حبان (1971) والحاكم (1/ 524 - 525) من حديث عمار. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وأقرّه الذهبي. (ز). وقد شرح المؤلف هذا الحديث في إغاثة اللهفان (1/ 27). (3) "ك، ط": "وجه اللَّه". (4) وهو الذي ذكر المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 216) أنَّه سيتبعه بعد الفراغ =
(1/124)
وأنواعها وأحكامها وبيان وجوب (1) تعلّقها بالإله الحقّ دون ما سواه، وقد ذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه (2). ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرًا أنَّ المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرٌ ولا عطاءٌ ولا منع، بل ربُّه سبحانه الذي خلَقه، ورزقَه، وبصَّره، وهداه، وأسبغَ عليه نِعَمه، وتحبَّب إليه بها مع غناه عنه، ومع تبغُّض العبدِ إليه بالمعاصي مع فقره إليه. فإذا مسَّه اللَّه بِضُرٍّ فلا كاشف له إلا هو، وإذا أصابه بنعمةٍ فلا راد لها ولا مانع؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس/ 107]. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر/ 2]. فالعبدُ لا ينفع ولا يضرّ ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن اللَّه، فالأمر كله للَّه أوَّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، هو مقلِّب القلوب ومصرِّفها كيف يشاء، __________ = منه "كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها. . " وانظر كتاب "ابن قيم الجوزية حياته، آثاره، موارده" (305، 285). (1) "وجوب" ساقط من "ط". (2) قد أحال المصنف على ثلاثة كتب له أفاض الكلام فيها في هذا الموضوع. أحدها: "التحفة المكية" (بدائع الفوائد: 846)، والثاني: "قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين"، (مدارج السالكين: 1/ 156)، ولعلَّه هو الذي أشار إليه بالكتاب الكبير فيما بعد (المدارج 2/ 598). والثالث: "المورد الصافي" هذا، وقد وصفه هنا بالكبير. فيبدو أن "قرة عيون المحبين" و"المورد الصافي" اسمان لكتاب واحد. أما كتاب "روضة المحبين" المطبوع فهو كتاب مستقلّ، ولم تذكر فيه الوجوه التي أشير إليها هنا.
(1/125)
المتفرِّد بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود/ 56]، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف/ 54]. وهذا الوجه أظهرُ (1) لعموم الناس من الوجه الأوَّل، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأوَّل. لكن من تدبَّر القرآن تبين له أنَّ اللَّه سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأوَّل (2). فهذا الوجه يقتضي التوكلَ على اللَّه، والاستعانة به، والدعاء له، ومسألته دون ما سواه. ويقتضي أيضًا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه؛ فإذا عبده وأحبَّه وتوكَّل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأوَّل. وهذا كمن (3) نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أوخوف مقلِق، فجعل يدعو اللَّه ويتضرع إليه، حتَّى فتح له من لذيذ مناجاته له وباب الإيمان به (4) والإنابة إليه ما (5) هو أحبُّ إليه من تلك الحاجة التي قصدها أوَّلًا، لكنَّه لم يكن يعرف ذلك أوَّلًا حتّى يطلبه ويشتاقَ إليه، فعرَّفه إيَّاه بما أقامه له من الأسباب التي أوصلته إليه. والقرآن مملوءٌ من ذكر حاجة العباد (6) إلى اللَّه دون ما سواه، ومن __________ (1) "ط": "أعظم"، ولعله غلط. (2) "ط": "بهذا إلى الوجه الأوَّل". (3) في الأصل: "هكذا كمن"، وهو سهو، وكذا في "ف". وفي "ك، ط": "هكذا من". والصوابُ ما أثبتنا من "ن" غير أنَّه قد سقط منها "نزل". (4) في مطبوعة إغاثة اللهفان (84): "عظيم الإيمان به". (5) "ط": "مناجاته له باب الايمان. . . إليه وما هو". (6) "ك": "العبد". "ط": "العبيد".
(1/126)
ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذّات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على اللَّه، والشكر له، ومحبته على إحسانه. وممَّا يوضح ذلك ويقوّيه أنّ تعلّق (1) العبد بما سوى اللَّه مضرَّةٌ عليه، إذا أخذَ منه القدرَ الزائد على حاجته المعينة له على عبودية اللَّه، ومحبته، وتفريغ قلبه له. فإنَّه إن نالَ من الطعام والشراب فوق حاجته (2) ضرَّه أو أهلكه، وكذلك من النكاح واللباس. وإن أحبَّ شيئا بحيث يخالِله فلا بُدَّ أن يسأمه أو يفارقه، فالضررُ حاصلٌ له إن وُجد أو فُقِدَ، فإن فُقِدَ تعذب بالفراق وتألم، وان وُجدَ فإنهُ يحصل له من الألم أكثر ممَّا يحصل له من اللذة. وهذا أمرٌ معلومٌ بالاعتبار والاستقراء أن كلَّ من أحب شيئًا دون اللَّه لغير اللَّه، فإنَّ مضرته أكثرُ من منفعته، وعذابَه به (3) أعظمُ من نعيمه. يزيدُ (4) ذلك إيضاحًا أنَّ اعتمادَه على المخلوق وتوكُّلَه عليه يُوجب له الضررَ من جهته، فإنَّه يُخْذَل من تلك الجهة. وهذا أيضًا معَلوم بالاعتبار والاستقراءِ. فإنَّه (5) ما علَّق العبدُ رجاءه وتوكلَه بغير اللَّه إلا خابَ من تلك الجهة، ولا استنصرَ بغيره إلا خُذِلَ. قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا __________ (1) "ط": "أن في تعلق". (2) "ط": "حاجاته". (3) "به" ساقط من "ف، ك، ط". وفي "ن": "أكبر من نعيمه". (4) "ف": "سنزيد". ورسم الأصل يحتمل "سيزيد"، ولكن الراجح ما أثبتنا من "ن" وغيرها. (5) "ط": "أنه".
(1/127)
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم/ 81، 82]. وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 74، 75]. وقال تعالى عن إمام الحنفاء إنَّه قال للمشركين: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت/ 25]. ولمَّا كان غايةُ صلاحِ العبدِ في عبادة اللَّه وحدَه، واستعانته به (1) وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غايةُ مضرته. وممَّا يوضح الأمرَ في ذلك ويبينه أنَّ اللَّه سبحانه غني حميد، كريم رحيم، فهو محسِن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعةٍ إليه سبحانه ولا لدفع مضرَّة، بل رحمةً وإحسانًا وجودًا محضًا. فإنه رحيم لذاته، محسن لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته؛ كما أنَّهُ غني لذاته، قادر لذاته، حيٌّ لذاته. فإحسانه وجوده وبرّه ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أنَّ حياته (2) وقدرته وغناه من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك. وأما العباد فلا يتصوَّر أن يُحسِنوا إلا لحظوظهم، فأكثرُ ما عندهم للعبد أن يحبوه، ويعنهموه، ويجلبوا (3) له منفعةً، ويدفعوا عنه مضرَّة. وذلك من تيسير اللَّه وإذنه لهم به، فهو في الحقيقة وليّ هذه __________ (1) "به" ساقط من "ن، ك، ط". (2) "حياته و" ساقط من "ك، ط". (3) "ك": "يجلبوا"، ط: "ليجلبوا".
(1/128)
النعم (1) ومُسْدِيها ومُجرِيها على أيديهم. ومع هذا فإنَّهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواءٌ أحبوه لجماله الباطن أوالظاهر. فإذا أحبوا الأنبياء والأولياءَ، وطلبوا (2) لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك. وإن جلبوا له منفعةً كخدمةٍ ومالٍ (3)، أو دفعوا عنه مضرَّةً كمرض وعدوّ -ولو بالدعاء- فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل للَّه. فأجناد الملوك، وعبِيدُ المالِك (4)، وأُجَراء المستأجرِ، وأعوانُ الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، ولا يعرج أكثرُهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد عُلم وهُذِّبَ من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيه طبعُ عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة؛ وإلا فالمقصودُ بالقصد الأول هو منفعة نفسه. وهذا من حكمة اللَّه التي أقام بها مصالح خلقه، إذ قسَّم بينهم معيشتَهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا (5). __________ (1) "ط": "النعمة". (2) "ك، ط": "فطلبوا". (3) "كخدمة ومال" ساقط من "ك، ط". (4) "ك": "الممالك". "ط": "المماليك"، تحريف. (5) اقتبس من الآية (32) من سورة الزخرف.
(1/129)
فصل إذا تبيَّن هذا ظهر أنَّ أحدًا من المخلوقين لا يقصد منفعتَك بالقصد الأوَّل، بل إنَّما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدلَ، فإذا دعوتَه فقد دعوتَ من ضرُّه أقربُ من نفعه. وأمَّا الربُّ تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها. فتدبَّرْ هذا حقَّ التدبُّر وراعِه حق المراعاة، فملاحظتُه تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك، فإنَّه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأوَّل، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلًا أو آجلًا، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه. فتأمَّل ذلك، فإنَّ فيه منفعةً عظيمةً، وراحة، ويأشا من المخلوقين، وسدًّا (1) لباب عبوديتهم، وفتحًا لباب عبودية اللَّه وحده. فما أعظمَ حظَّ من عرفَ هذه المسألة ورعاها حقَّ رعايتها! ولا يحملنَّك هذا على جفوة النَّاس، وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم، بل أحْسِن إليهم للَّه لا لرجائهم، فكما لا تَخَفْهم فلا ترجُهم (2). وممَّا يبين ذلك أنَّ غالبَ الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإنَّ صاحبَ الحاجة أعمى (3) لا يرى إلا قضاءَها. __________ (1) "ط": "سدًّا" دون واو العطف. (2) كذا في الأصل و"ف". وفي "ن": "لم تخفهم". وفي "ك، ط": "فكما لا تخافهم لا ترجوهم". (3) "أعمى" ساقط من "ط".
(1/130)
فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجاتهم (1)، بل لو كان فيها هلاكُ دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك. وهذا إذا تدبره العاقل علم أنَّه عداوة في صورة صداقة، وأنَّهُ لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة. فهم يريدون أن يُصَيِّروك (2) كالكِير، تنفخ بطنَك وتعصر أضالعَك (3) في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلُك لجزَرُوك كما يجزُرون الشاة! وكم يذبحونك كلَّ وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرًا ومعبرًا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر. وكم بعتَ آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم، وربما علمتَ! وكم بعتَ حظَّك من اللَّه بحظوظهم منك، ورُحْتَ صفر اليدين! وكم فوتوا عليك من مصالح الدَّارين، وقطعوك عنها، وحالوا بينك وبينها؛ وقطعوا عليك (4) طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دُعِيتَ إليها، وقالوا: نحن أحبابك، وخدمك، وشيعتك، وأعوانك، والساعون في مصالحك؛ وكذبوا! واللَّه إنْ هم إلا أعداء (5) في صورة أولياءَ، وحربٌ في صورة مسالمين، وقُطّاع طريق في صورة أعوان. فواغوثاه ثمَّ واغوثاه (6) باللَّه الذي يغيث ولا يغاث! {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ __________ (1) "ط": "حاجتهم". (2) "ك": "يضروك"، تحريف. (3) كتبت الكلمة في الأصل بالظاء، وكذا في "ف". وفي "ك، ط": "أضلاعك"، وفي حاشية "ك" إشارة إلى ما في الأصل. وفيها أيضًا: "ينفخ. . . يعصر". (4) "عليك" ساقط من "ك، ط". (5) "ك، ط": "إنهم لأعداء". (6) "ثم واغوثاه" سقط من "ط" واستدرك في القطرية.
(1/131)
فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن/ 14]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون/ 9]. فالسعيد الرابح من عامل اللَّه فيهم، ولم يعاملهم في اللَّه. وخاف اللَّه فيهم، ولم يخفهم في اللَّه؛ وأرضى اللَّه بسخطهم، ولم يُرضِهم بسخط اللَّه. وراقب اللَّه فيهم، ولم يراقبهم في اللَّه؛ وآثرَ اللَّه عليهم، ولم يؤثرهم على اللَّه. وأماتَ خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب اللَّه وخوفَه ورجاءَه فيه. فهذا (1) هو الذي يكتَب عليهم، وتكون معاملته لهم كلُّها ربحًا، بشرط أن يصبر على أذاهم، ويتخذه مغنمًا لا مغرمًا، وربحًا لا خسرانًا. وممَّا يوضح الأمر أن الخلقَ لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة، إلا بإذن اللَّه ومشيئته وقضائه وقدره. فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107]. قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس: "واعلم أنَّ الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك لم يضروك إلا بشيءٍ كتبه اللَّه عليك" (2). __________ (1) "ن": "وهذا". (2) أخرجه أحمد (2669)، والترمذي (2516). والحديث صححه الترمذي وابن رجب. وأشار العقيلي إلى لين أسانيده عن ابن عباس. انظر: الضعفاء للعقيلي (3/ 54)، وجامع العلوم والحكم (1/ 462) (ز).
(1/132)
وإذا كانت هذه حال الخليقة، فتعليق الخوف والرجاء بهم ضارّ غير نافع (1). فصل وجِمَاعُ هذا أنَّك إذا كنتَ غيرَ عالمٍ بمصلحتك، ولا قادرٍ عليها، ولا مريدٍ لها كما ينبغي، فغيرك أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها. واللَّه سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله (2) لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لِتكثُر بك، ولا لِتعزز بك؛ ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق. ولا يحبس فضلَه عنك لحاجةٍ منه إليه (3) واستغناءً به (4)، بحيث إذا أخرجه أثَّر ذلك في غناه. وهو يحب الجود والبذل والعطاءَ والإحسان أعظمَ ممَّا تحبّ أنت الأخذ والانتفاع بما سألته، فإذا حبسه عنك فاعلم أنَّ هناك أمرَين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوّق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك. وهذا الأمر (5) هو الأغلبُ على الخليقة، فإنَّ اللَّه سبحانه قضى فيما قضَى به أنَّ ما عنده __________ (1) بعده في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (2) انتهى هنا ما نقله المصنف من كلام شيخه مع بسطه، انظر: مجموع الفتاوى (1/ 33). (3) "ك، ط": "إليك". (4) "ن، ك، ط": "استغنائه"، تحريف. (5) "الأمر" ساقط من "ك، ط".
(1/133)
لا يُنال إلا بطاعته، وأنَّه ما استُجلِبتْ نِعَمُ اللَّه بغير طاعته، ولا استُديمتْ بغير شكره، ولا عُوِّقتْ وامتنعتْ بغير معصيته. وكذلك إذا أنعمَ عليك ثمَّ سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنَّما أنت السبب (1) في سلبها عنك، فإنَّ اللَّه لا يغيِّر ما بقومٍ حتَّى يغيروا ما بأنفسهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال/ 53]. فما أُزيلت نعمُ اللَّه بغير معصيته: (2) إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَهَا ... فإنَّ الذنوبَ تُزيلُ النِّعَمْ (3) فآفتُك من نفسك، وبلاؤك منك (4)، وأنت في الحقيقة الذي بالغتَ في عداوتك، وبلغتَ من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدوُّ منك، كما قيل: ما يبلغُ الأعداءُ من جَاهلٍ ... ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِهِ (5) __________ (1) "ك": "المتسبب"، "ط": "المسبب". (2) زاد في "ك": "شعر". (3) من ثمانية أبيات ذكرها المؤلف في الداء والدواء (119)، وهذا البيت وحده في بدائع الفوائد (712) وسيأتي مرة أخرى في كتابنا ص (582). وفي "ك، ط": "فإنَّ المعاصي". وقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق (54/ 70) بسنده أن عمر بن عبد العزيز كان يتمثل بهذا البيت وبيت آخر بعده: ولا تحقرن صغير الذنوب ... فإن الإله شديد النقمْ وانظر أيضًا: تاريخ دمشق (51/ 103). (4) "ك، ط": "من نفسك". (5) ذكره المصنف في الداء والدواء (159)، والمدارج (1/ 264)، والمفتاح =
(1/134)
ومن العجب أنَّ هذا شأنك مع نفسك، وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أقداره وتعاتبها (1) وتلومها! فقد ضيعت فرصتك، وفرَّطت في حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها، ثمَ قعدتَ تعاتب القدرَ بلسان الحال والقال! فأنت المعنيّ بقول القائل: وعاجزُ الرَّأي مِضياعٌ لِفرصته ... حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتَبَ القَدَرا (2) ولو شعرتَ بدائك (3)، وعلمتَ من أين دُهِيتَ ومن أين أُصِبتَ، لأمكنك تداركُ ذلك. ولكن قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه، فأعرضتَ عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه، وأقبلتَ تشكو مَنْ كلُّ إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه. فإذا شكوته إلى خلقه كنتَ كما قال بعض العارفين، وقد رأى رجلًا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به (4): يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك! وإذا عَرَتْكَ مصيبةٌ فاصْبِرْ لها ... صبرَ الكريمِ فإنَّهُ بك أرحَمُ (5) __________ = (3/ 38)، والبدائع (1188). وهو لصالح بن عبد القدوس. انظر: التمثيل والمحاضرة (77)، والحماسة البصرية (874). (1) "ط": "تعانيها"، تصحيف. (2) تمثل به المصنف في الروح (29)، والفوائد (181). وقد أنشده الجاحظ في البيان (2/ 350)، ونسب في المنتخل (1/ 463) إلى الخليل بن أحمد. (3) "ك، ط": "برأيك"، تحريف. (4) زاد في "ط" بعد "به": "فقال". (5) "ط": "وإذا أتتك".
(1/135)
وإذا شكوتَ إلى ابنِ آدمَ إنَّما ... تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ (1) وإذا علمَ العبدُ حقيقة الأمر، وعرف من أين أُتِيَ، ومن أيِّ الطرقِ أُغيرَ على سَرْحه (2)، ومن أي ثَغرَة سُرِقَ متاعُه وسُلِبَ = استحيا من نفسه -إن لم يستحي من اللَّه- أن يشكوَ أحدًا من خلقه، أو يتظلَّمهم، أو يرى مصيبته وآفته (3) من غيره. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30]. وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران/ 165]. هذا، ومن المخاطب بهذا الخطاب؟ (4) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79]. __________ (1) قول العارف مع البيتين في المدارج (2: 192). ونسب البيتان في الكشكول (1: 74) إلى الإمام زين العابدين -مع اختلاف في الألفاظ- والبيت الثاني مع آخر في عيون الأخبار (2/ 260). (2) السرح: الماشية الراعية. (3) "ف": "وافية"، تحريف. (4) "هذا. . . الخطاب" كذا في الأصل وغيره، وهو ساقط من "ط".
(1/136)
[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته] فإن أصررتَ (1) على اتهام القدر، وقلتَ: فالسببُ الذي أُصِبتُ به (2)، وأُتيتُ منه، ودُهيتُ منه، قد سبقَ به القدرُ والحكمُ، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بُد منه على الرغم منِّي. وكيف لي أن أنفكَّ منه، وقد أُودع الكتابَ الأوَّل قبل بدءِ الخليقة، والكتابَ الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم، وأنا في ظلمات الأحشاءِ، حين أُمر الملَكُ بكَتْب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة؛ فلو جريتُ إلى سعادتي ما جريتُ حتَّى بقيَ بيني وبينها شِبْرٌ لغلَب عليَّ الكتابُ، فأدركتني الشقاوة. فما حيلةُ من قلبُه بيدِ غيرِه، يقفبه كيف يشاءُ، ويصرّفه كيف أراد؛ إن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يُزيغه أزاغه. فهو (3) الذي يحول بين المرءِ وقلبه، وهو الذي يثبِّت قلبَ العبد إذا شاءَ، ويُزلزله إذا شاء، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته. قال أعلمُ الخلق بربِّه صلوات اللَّه وسلامه عليه: "ما من قلب إلا وهو بين إصبَعين من أصابع الرحمن، إن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه"، ثمَ قال: "اللَّهم مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك" (4) وكانت (5) أكثر يمينه: "لا، ومقلِّبِ القلوب" (6). __________ (1) سيأتي جواب هذا الشرط، والرد على الاحتجاج بالقدر في ص (177). (2) "ط": "منه". (3) هذه قراءة "ن". وفي "ف" وغيرها: "وهو". (4) تقدم تخريجه في ص (17). (5) "ك، ط": "كان". (6) أخرجه البخاري في كتاب القدر (6617) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.
(1/137)
وقال بعض السلف: "مثل القلب مثل ريشة في أرض فلاة تقلِّبها الرياح ظهرًا لبطن" (1). فما حيلةُ قلب هو بيد مقلبه ومصرفه، وهل له مشيئة بدون مشيئته؟ كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير/ 29]. وروى (2) عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: تلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله عزَّ وجلَّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد/ 24] وغلامٌ جالسٌ عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: بلى، واللَّه يا رسول اللَّه، إنَّ عليها لأقفالها، ولا يفتحُها إلا الذي أقفلها. فلمَّا وُلِّيَ عمرُ بن الخطَّاب طلَبه ليستعمله وقال: "لم يقل ذلك إلا من عقل" (3). وقال طاووس: "أدركتُ ثلاثمائة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: كل شيء بقدر" (4). __________ (1) أخرجه ابن الجعد في مسنده (1499) ومسدّد في مسنده (1/ 60 مصباح الزجاجة). وذكره أحمد في المسند (19757) وغيرهم عن أبي موسى موقوفًا. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف هو الصواب. وقد روى معناه عن أبي عبيدة رضي اللَّه عنه أبو نعيم في الحلية (1/ 102) وغيره، وفيه انقطاع. (ز). (2) "ط": "وروي عن". (3) أخرجه الدارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب والأفراد (3/ 98) (2146)، والبيهقي في القضاء والقدر (386). قال الدارقطني: "غريب من حديثه، عن سهل (يعني أبا حازم)، تفرد به ذؤيب بن عمامة، عن عبد العزيز، عن أبيه". (ز). (4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (535، 661). وسيأتي بلفظ آخر في ص (146).
(1/138)
وقال أيوب السَّخْتِياني: "أدركتُ الناسَ، وما كلامهم إلا: إن قُضِي، إن قُدِّرَ" (1). وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية/ 29] قال: "كتب اللَّه أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة". قال: "والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يومًا بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية/ 29] " (2). وفي الآية قول آخر: إن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أن يعملوه (3). وقد يُقال وهو الأظهر: إنَّ الآية تعمُ الأمرَين، فيأمر اللَّه ملائكته فتنسخ (4) من أم الكتاب أعمالَ بني آدم، ثمَ يكتبونها عليهم إذا عملوها، فلا تزيد على ما نسخوه من أم الكتاب ذرةً ولا تنقصها (5). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر/ 49]: "خلَق اللَّه الخلقَ كلَّهم بقدر، وخلق الخير والشر؛ فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة" (6). وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدِّيلي (7) قال: قال لي عمران بن __________ (1) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (213)، وسنده صحيح. (ز). (2) تفسير الطبري (25/ 156). (3) المصدر السابق، زاد المسير (7/ 365). (4) "ك، ط": "فتستنسخ". (5) وانظر: شفاء العليل (54). (6) تفسير الطبري (27/ 111). (7) "ط": "الدؤلي". وهكذا يقول البصريون. وكان ابن إسحاق وأبو عبيد وابن =
(1/139)
حصين: أرأيتَ ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون ممَّا أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال قلتُ: لا، بل فيما قضي عليهم ومضى. قال: أفيكون ذلك ظلمًا؟ قال: ففزعتُ فزعًا شديدًا وقلتُ: إنه ليس شيء إلا خلقه وملكه، ولا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسْألَون. فقال: سددك اللَّه، إنما سألتك لأحزر (1) عقلك. إنَّ رجلًا من مُزينة -أو جهينة- أتى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت ما يعمل النَّاس ويتكادحون فيه، أشيءٌ قضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون ممَّا أتاهم به نبيُّهم؟ قال: "فيما قضي عليهم ومضى". فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان خلقه اللَّه لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها. وتصديقُ ذلك في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 7، 8] (2). وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة/ 30]. قال: علِم من إبليس المعصية وخلقه لها (3). وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف/ 30]، __________ = حبيب يقولون: "الديلي"، كما جاء في الأصل وغيره. انظر: تقييد المهمل (1/ 249 - 251) وفرحة الأديب (35). (1) أي لأمتحن عقلك، وأصل الحزر: التقدير والخرص. وفي "ط": "لأحرز"، تصحيف. (2) أخرجه مسلم في كتاب القدر (2650). (3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 65) (36) والطبري في تفسيره (1/ 477)، وسنده صحيح (ز).
(1/140)
قال ابن عباس: إنَّ اللَّه سبحانه بدأ خلقَ ابن آدم (1) مؤمنًا وكافرًا، ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن/ 2]، ثمَّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقَهم: مؤمنٌ وكافرٌ (2). وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال/ 24] قال: يحول بين المؤمن والكفر ومعاصي اللَّه، ويحول بين الكافر وبين الإيمان (3) وطاعة اللَّه (4). وقال ابن عباس ومالك وجماعة مني السلف في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود/ 118، 119] قالوا: خلق أهلَ الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف (5). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة/ 253]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس/ 99]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام/ 112]. وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف/ 37]، أي نصيبهم ممَّا كتب لهم (6). __________ (1) "ط": "خلق آدم"، وصحح في القطرية. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 382). وفيه: "مؤمنًا وكافرًا". وسنده حسن. (ز). (3) "بين" لم يرد في "ك، ط". (4) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 468). (5) انظر تفسير الطبري (15/ 535 - 536). (6) تفسير الطبري (12/ 413).
(1/141)
وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)} [الشعراء/ 200]، قال الحسن وغيره: الشرك والتكذيب (1). وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} [المطففين/ 7]، قال محمد بن كعب القُرَظي: رقم اللَّه عزَّ وجلَّ كتاب الفجار في أسفل الأرض، فهم عاملون بما قد رُقِمَ في ذلك الكتاب. ورقم كتابَ الأبرار، فجعله في عليّين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رُقِمَ عليهم في ذلك الكتاب (2). وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد/ 1]: بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ (3). وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس/ 9] قال: "عن الحق" (4). وفي قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الإسراء/ 46] قال: "كالجَعْبة فيها السهام" (5). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية/ 23]، قال: "أضلَّه في سابق علمه" (6). وقال في قوله حكاية عن عدوه إبليس __________ (1) تفسير الطبري (19/ 115). (2) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (534)، وسنده حسن (ز). (3) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (491) بسند صحيح، ولفظه: "أوَّل ما خلق اللَّه القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن، فكتب فيما كتبَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (ز). (4) تفسير الطبري (22/ 152). (5) تفسير الطبري (24/ 91). (6) تفسير الطبري (25/ 151).
(1/142)
{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] قال: "أضللتني" (1). وقال في قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} [الصافات/ 162، 163] قال: "من قضيتُ له أنَّه صالي الجحيم" (2). وقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد اللَّه أن لا يعصى لم يخلق إبليس، وقد فصَّل لكم وبين لكم: ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قدِّر له (3) أن يصلى الجحيم (4). وقال وُهَيب بن خالد: حدثنا خالد قال: قلتُ للحسن: ألهذه خلق آدم -يعني السماء- أم للأرض؟ فقال: "لا بل للأرض". قال: قلتُ: أرأيتَ لو اعتصمَ من الخطيئة فلم يعملها، أكان تُرِكَ في الجنة؟ قال: "سبحان اللَّه كان (5) له بد من أن يعملها؟ " (6). وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ} [الأنبياء/ 73]، وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص/ 41]، وقال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان/ 74]، أي أئمة يُهْتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضالين يَدعُون إلى النار. __________ (1) تفسير الطبري (12/ 332). (2) تفسير الطبري (23/ 109). (3) "له" ساقط من "ط". (4) أخرجه الآجري في الشريعة (230)، والبيهقي في الأسماء والصفات (373) (ز). (5) "ن، ط": "أكان". (6) أخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد (1006) (ز).
(1/143)
وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام/ 28]. وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام/ 110]. وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 111]. وقال زيد بن أسلم: "واللَّه ما قالت القدرية كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ، ولا كما قال رسوله، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان/ 30، التكوير/ 29]، وقالت الملائكة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة/ 32]، وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأعراف/ 89]، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف/ 43]، وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون/ 106]، وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر/ 39] " (1). وقال مجاهد في قوله عزَّ وجلَّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء/ 13] قال: "مكتوب في عنقه شقي أو سعيد" (2). وقال ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة/ 41] "يقول: ومن يرد اللَّه ضلالته لم تغنِ عنه شيئًا" (3). __________ (1) أخرجه اللالكائي (1012) (ز). (2) نحوه في تفسير الطبري (15/ 51). (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1133) (6370، 6371) وسنده حسن (ز).
(1/144)
وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعيد (1) عن سوَّار بن مصعب عن أبي حمزة عن مِقسَم عن ابن عباس: صعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمَّ بسط يده اليمنى فقال: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، كتاب من اللَّه الرحمن الرحيم لأهل الجنَّة بأسمائهم، وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمَلٌ (2) أوَّلُهم على آخرهم، لا ينقَص منهم ولا يُزاد فيهم، فرغ ربكم. وقد يُسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ما أشبههم بهم، بل (3) هم هم، فيردّهم ما سبق لهم من اللَّه من السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها قبل موته بفَواق ناقة. وقد يُسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ما أشبههم بهم، بل هم هم، فيردّهم ما سبق لهم من اللَّه، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفَواق ناقة. فصاحب الجنَّة مختوم له بعمل أهل الجنَّة وإنْ عمِل عملَ أهل النار، وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإنْ عمِل بعمل أهل الجنَّة". ثمَّ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأعمال بخواتيمها" (4). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ __________ (1) "ط": "سعد" خطأ. (2) "ف": "فحمل" بالحاء، وأكد ناسخها بوضع حاء صغيرة تحتها، وهو تصحيف. وفي "ك، ط": "فجمل"، وهي قراءة محتملة. وستأتي الكلمة مرة أخرى في ص (167). جَمَلَ الشيءَ: جمعه عن تفرق. وفي رواية: "أُجمِل على آخرهم" أي أحصوا وجُمعوا. انظر: النهاية (1/ 298). (3) سقطت "بل" من "ط". وفي القطرية: "بلى"! (4) أخرجه اللالكائي (1017). من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وسنده ضعيف جدًّا (ز).
(1/145)
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة/ 6]، وفي قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35]، وقوله (1): {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125]، وفي قوله (2): {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 111]، وقوله (3): {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} (4) [يس/ 8]، وقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف/ 28] ونحو هذا من القرآن: "وإنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحرص أن يؤمن جميعُ النَّاس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللَّه عزّ وجلّ أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللَّه السعادة في الذكر الأوَّل. ثمَّ قال لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء/ 3]، ويقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء/ 4]، ثمَّ قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر/ 2]. ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران/ 128] (5). وفي صحيح مسلم عن طاوس: أدركتُ ناسًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: كلُّ شيءٍ بقدر. وسمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: قال رسول __________ (1) "ك، ط": "وفي قوله". (2) "ط": "وفي قوله تعالى". (3) "ط": "وفي قوله". (4) في الأصل وغيره: "وجعلنا"، وهو سهو. (5) انظر: تفسير الطبري (1/ 252)، والأسماء والصفات (104) للبيهقي، وليس فيها آية فاطر وآية آل عمران.
(1/146)
اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل شيء بقدر، حتَّى العَجْز والكَيْس" (1). وفي صحيح مسلم أيضًا (2) عن عبد اللَّه بن عمرو (3) قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "كتب اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" (4). وفي صحيحه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، فاحرصْ على ما ينفعك واستعنْ باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر اللَّهُ وما شاءَ (5) فعل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان" (6). وفي صحيحه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ النذْرَ لا يُقَدِّرُ لابن آدمَ شيئًا لم يكن اللَّه قدرَه، ولكنِ النذرُ يُوافِقُ القدَر فيُخرِجُ ذلِكَ من البَخيلِ مَا لَمْ يكن يريد أن يُخرجَه" (7). وفي حديث جبريل وسؤاله للنبي (8) -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان قال: "الإيمان أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره" (9). __________ (1) أخرجه مسلم في كتاب القدر (2655). (2) سقط "أيضًا" من "ك، ط". (3) "ك، ط": "عمر"، خطأ. (4) كتاب القدر (2653). (5) "ط": "ما شاء اللَّه". (6) كتاب القدر (2664). (7) كتاب النذر (1640)، وانظر: صحيح البخاري (6694). (8) "ك، ط": "النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (9) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (8) من حديث عمر رضي اللَّه عنه.
(1/147)
وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق، وفيه: "فوالذي لا إله غيره إنَّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النَّارِ، فيدخل النَّار. وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النارِ حتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل الجنَّة، فيدخلها" (1). ذكر (2) الطبري عن الحسن بن علي الطوسي، حدثنا محمد بن يزيد الأسفاطي البصري محدث البصرة قال: رأيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم فقلتُ: يا رسول اللَّه، حديث عبد اللَّه بن مسعود حدَّثني الصادق المصدوق -أعني حديث القدر- فقال: "إي واللَّه الذي لا إله إلا هو حدثتُ به، رحم اللَّه عبد اللَّه بن مسعود حيث حدث به، ورحم اللَّه زيد بن وهب حيث حدَّث به، ورحمَ اللَّه الأعمش حيث حدَّث به، ورحمَ اللَّه من حدَّث به قبل الأعمش، ورحمَ اللَّه من يحدث به بعد الأعمش" (3). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: "الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره" (4). وقد رويَ حديث تقدير السعادة والشقاوة في بطن الأم من حديث عبد اللَّه بن مسعود (5)، وأنس بن مالك (6)، وعبد اللَّه بن __________ (1) أخرجه البخاري في القدر (6594) وغيره، ومسلم في القدر (2643). (2) "ن، ط": "وذكر". (3) انظر اللالكائي (1043). (4) كتاب القدر (2645). (5) انظر التعليق السابق. (6) البخاري (6595)، ومسلم (2646).
(1/148)
عمر (1)، وعائشة أم المؤمنين (2)، وحذيفة بن أُسَيد (3)، وأبي هريرة (4). وقال أبو الحسن علي بن عبيد (5) الحافظ: سمعتُ أبا عبد اللَّه بن أبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرتُ من سُر من رأى إلى بغداد في حاجة لي، فبينما أنا أمشي في بعض الطريق إذا بجُمْجُمةِ قد نخِرت فأخذتُها، فإذا على الجبهة مكتوب: "شقي"، والياء مكسورة إلى خلف! (6) وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ، ذكره الطبري في "السنَّة". وفي الصحيحين حديث علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما منكم من أحدٍ إلا كُتِبَ مقعده من النار ومقعده من الجنَّة، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكلُ على كتابنا، وندعُ العمل؟ فقال: "اعملوا فكل ميسَّرٌ لما خُلِقَ له: أما من كان من أهل السعادة فييسَّر لعمل أهل السعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاوة فييسَّر لعمل أهل الشقاوة" ثمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10] (7). __________ (1) عند ابن وهب في القدر (30) وغيره. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصواب أنَّه موقوف كما في القدر للفريابي (138، 139) والسنة لابن أبي عاصم (188، 190) (ز). (2) عند اللالكائي (1053)، والآجري فى الشريعة (365)، وهو حديث منكر (ز). (3) في صحيح مسلم (2644). (4) عند اللالكائي (1055، 1056) وغيره، وسنده صحيح (ز). (5) "علي" ساقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (6) اللالكائي (1061) (ز). (7) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز وغيره (1362، 4945 - 4948)، ومسلم في =
(1/149)
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أَعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النارِ؟ قال: "نعم"، قيل له (1): ففيم يعمل العاملون؟ قال: "نعم، كلّ ميسَّر لما خلق له" (2). وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: دُعِيَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول اللَّه، طوبى لهذا، عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله. قال: "أو غيرَ ذلك، إنَّ اللَّه تعالى خلق للجنَّة أهلًا، خلقَهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنارِ أهلًا، خلقَهم لها وهم في أصلاب آبائهم" (3). وفي الصحيحين (4) عن ابن عباس عن أبى بن كعب عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الغلام الذي قتله الخضر طُبع يومَ طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهقَ أبوَيه طغيانًا وكفرًا". وفي مسند الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ في ظلمة، ثمَّ ألقى عليهم من نوره". وفي لفظ: "فجعلهم في ظلمة واحدة، فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة، فمن أصابه النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقولُ: __________ = القدر (2647). (1) "له" ساقط من "ك، ط". (2) أخرجه البخاري في القدر (6596)، ومسلم في القدر (2649). (3) كتاب القدر (2662). (4) كذا عزاه المصنف إلى الصحيحين هنا، وفي تهذيب السنن (12/ 320)، وشفاء العليل (50)، ولكن لم يرد هذا اللفظ إلا في صحيح مسلم في كتاب القدر (2661).
(1/150)
جفَّ القلمُ على علم اللَّه" (1). وذكر راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة (2) السلَمي سمع (3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "خلقَ اللَّهُ آدمَ وأخرجَ الخلقَ من ظهره فقال: هؤلاء في الجنَّة ولا أبالي، وهؤلاء في النارِ ولا أُبالي" قال: قيل علامَ (4) نعمل؟ قال: على مواقع القَدَر" (5). وذكر أبو داود في كتاب القدر عن عبد اللَّه بن مسعود أنَّهُ مرَّ على رجل __________ (1) أخرجه أحمد (6644)، والترمذي (2642)، وابن حبان (6169، 6170) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (ز). (2) "أبي قتادة": كذا وقع في الأصل وغيره، وكذا نقله المصنف في إسناد آخر "عن إسحاق بن راهويه، أخبرنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام. . . ". الروح (379)، أحكام أهل الذمة (547)، شفاء العليل (31) (وليس فيه "البصري"). ثمَّ قال في أحكام أهل الذمة (559): "وأبو قتادة البصري، وهو مجهول". قلت: لم أجد من سمَّى أبا عبد الرحمن: "أبا قتادة" سواء في هذا السند أو السند السابق. فالصحابي المعروف: عبد الرحمن بن قتادة السلمي، كما في طبقات ابن سعد (7/ 417)، والإصابة (4/ 352) وغيرهما. أما "البصري" فهو في مطبوعتي الروح وأحكام أهل الذمة تصحيف "النصري". وانظر الكلام على نسب الصحابي واضطراب هذا السند في تفسير الطبري (13/ 246 - 248) (حاشية المحقق). (3) "ط": "راشد بن سعد عن أبي عبد الرحمن السلمي أنَّ أبا قتادة سمع"! (4) رسمها في الأصل وغيره: "على ما". وفي المسند: "على ماذا". (5) أخرجه أحمد (17660)، وابن حبان (338)، والحاكم (1/ 31)، وصححاه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 186): "ورجاله ثقات". وقد وقع فيه اختلاف كثير، راجع القدر للفريابي (22 - 26) (ز).
(1/151)
فقالوا: هذا هذا. . ونالوا منه. فقال عبد اللَّه: أرأيتم لو قطعتم يده، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فلو قطعتم رجله، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلًا؟ قالوا: لا (1)، قال: فلو قُطِعَ رأسُه، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خَلقَه لا تستطيعون أن تغيروا خُلقه. إنَّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث اللَّه إليه (2) ملَكًا، فيكتب أجله، وعمله، ورزقه، وشقيٌّ أو سعيد (3). وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعًا: "إنَّما هُما اثنتان: الهدي والكلام. فأحسن الكلام كلام اللَّه، وأحسن الهدي هدي محمد. وشرُّ الأمور محدثاتها، وإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة، وإنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ. وإنَّ الشقيَّ من شقيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره" (4). وقال ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب أنَّ عبد الرحمن بن هنيدة (5) حدَّثه أنَّ عبد اللَّه بن عمر (6) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أرادَ __________ (1) "قال: فلو قطعتم رجله. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) "إليه" ساقط من "ط". (3) أخرجه الطبراني في الكبير (8884)، والفريابي في القدر (130)، والبيهقي في القضاء والقدر (479) بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (7/ 196) "ورجاله ثقات" (ز). (4) أخرجه ابن ماجه (46) من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. وسنده ضعيف، لضعف عبيد بن ميمون، فقد جهله أبو حاتم الرازي كما في تهذيب الكمال (19/ 237) (ز). (5) في حاشية الأصل: "نسخة: بن أبي هنيدة"، وانظر: تهذيب التهذيب (6/ 291). (6) في الأصل وغيره: "عمرو"، هو سهو.
(1/152)
اللَّهُ أن يخلق النَّسَمة قال ملَكُ الأرحام مُعرضًا (1): يا ربّ، أذَكَرٌ أم أنثى؟ فيقضي اللَّه أمره. ثمَّ يقول: يا ربّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيقضي اللَّه أمره. ثمَّ يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتَّى النكبةَ يُنكبها" (2). وقال الليث عن عُقَيل (3) عن ابن شهاب: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال، فذكره سواء. قال الزهري: وحدَّثني عبد الرحمن بن أذينة (4) عن ابن عمر مثل ذلك. وذكر أبو داود أيضًا عن عائشة ترفعه: "إنَّ اللَّه حينَ يريدُ أن يخلقَ الخلقَ يبعث ملكًا فيدخل على الرحم فيقول: أي رب ماذا؟ فيقول: غلام، أو جارية، أو ما شاء اللَّه أن يخلق في الرحم، فيقول: أي ربّ، أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي، أو سعيد. فيقول: أي رب، ما أجله؟ فيقول كذا وكذا، فيقول: أي رب، ما خلقه؟ فيقول كذا وكذا. قال: [فيقول] (5): يا رب، ما خلائقه؟ فيقول كذا وكذا. قال: "فما من شيءٍ إلا وهو يخلق معه في الرحم" (6). __________ (1) ضبط في الأصل بتشديد الرَّاء، وفي "ف" بتخفيفها، وفي "ك": "تعرضا"، و"ط": "تعرُّفا". (2) القدر لابن وهب (30)، وأخرجه معمر في جامعه (20066)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1051) من حديث ابن عمر موقوفًا. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصحيح الموقوف كما تقدم في ص (147) (ز). (3) "ن": "وقال أحمد بن عقيل"، تحريف. (4) قال ابن حجر: "صوابه: ابن هنيدة، قاله جماعة عن الزهري، وتفرد به هارون بن محمد عن الليث عن عقيل عنه بقوله: ابن أذينة". تهذيب التهذيب (6/ 135). (5) ما بين الحاصرتين من "ك، ط". (6) أخرجه اللالكائي (1053)، وهو حديث منكر كما تقدم في ص (149). =
(1/153)
وذكر ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي ذر أنَّ المنيّ إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرَج به إلى الرب تعالى في راحته فيقول: يا رب، عبدك ذَكَر أم أنثى؟ فيقضي اللَّه ما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين عينيه. قال أبو تميم: وزاد (1) أبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات (2). وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة، عن كعب بن علقمة، عن عيسى ابن هلال، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفةُ في رحم المرأة أربعين يومًا جاءَها مَلَك، فاختلجها (3)، ثمَّ عرَجَ بها إلى الرحمن عز وجل فقال: اخلُق يا أحسن الخالقين، فيقضي اللَّه فيها بما يشاء من أمره، ثمَّ تدفع (4) إلى الملَك، فيسأل الملَك عن ذلك، فيقول: يا ربّ، سِقْط أم تِمّ؟ فيبيّن له، ثمَّ يقول: يا ربّ، واحد أو توأم؟ فيبين له، ثمَّ يقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيبين له، فيقول: يا ربّ، أناقص الأجل أم تامّ الأجل؟ فيبيّن له (5)، ثمَّ يقول: يا ربّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيبين له، ثمَّ يقول: يا ربّ، اقطع رزقَه مع خلقِه، فيهبط بهما جميعًا. فوالذي __________ = انظر: الكامل لابن عدي (3/ 227) (ز). (1) "ط": "وقرأ". (2) أخرجه ابن وهب في القدر (36) من حديث أبي ذر مرفوعًا، والفريابي في القدر موقوفًا. والحديث مداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف، وهذا الاضطراب منه. راجع الفوائد المجموعة للشوكاني مع تعليق المعلمي (451) (ز). (3) يعني: انتزعها. (4) هذه قراءة "ن"، وكذا في القدر لابن وهب. وفي "ف" وغيرها: "يدفع". (5) "ك، ط": "له ذلك".
(1/154)
نفسي بيده ما ينال من الدنيا إلا ما قُسِمَ له، فإذا أكل رزقه قُبِضَ" (1). وفي صحيح مسلم (2): عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص". وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -ورفع الحديث- قال: "إن اللَّه وكّل بالرحم ملكًا فيقول: أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد اللَّه أن يقضي خلقًا قال الملك: أي ربّ، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، فما الرزق، فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه" (3). وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" (4). ففي (5) حديث ابن مسعود أنّ هذا التقدير وهذه الكتابة في الطور __________ (1) أخرجه ابن وهب في القدر (45)، والفريابي في القدر (145). وحسَّنه الحافظ في الفتح (11/ 479). قلتُ: فيه ابن لهيعة ضعيف الحديث. وعيسى بن هلال مجهول (ز). (2) كتاب القدر (2644). (3) أخرجه البخاري في القدر (6595) وغيره، ومسلم في القدر (2646). (4) أخرجه البخاري في القدر (6594)، وغيره، ومسلم في القدر (2643). (5) "ك، ط": "وفي".
(1/155)
الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وفي الأحاديث التي ذكرت (1) آنفًا أنّ ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقةً ومضغةً، وفي رواية صحيحة (2): "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها" (3)، وفي رواية (4): أنّ ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة (5). فصل الجمع بين هذه الروايات أنّ للملَك ملازمةً ومراعاةً لِحال (6) النطفة، وأنّه يقول: ياربّ هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة، في أوقاتها. فكلّ وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر اللَّه تعالى، وهو أعلم بها منه (7). ولِكلام الملَك وتصرُّفِه أوقاتٌ: أحدها حين يخلقها (8) اللَّه نطفةً ثم ينقلها علقةً، وهو أول أوقات علمِ الملك بأنه ولد، لأنه ليس كلّ نطفة تصير ولدًا، وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني. ولهذا -واللَّه أعلم- وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله {اقْرَأْ __________ (1) "ك، ط": "ذكرت أيضًا". (2) "ن": "وفي حديث صحيح". (3) أخرجه مسلم في القدر (2645) من حديث حذيفة بن أسيد. (4) في صحيح مسلم أيضًا. انظر الموضع السابق. (5) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (6) "ك، ط": "بحال". (7) "منه" ساقط من "ك، ط". (8) "ك، ط": "بكلام الملك، فتصرفه في أوقات. . ". "ف": "بكلام الملك، فيصرفه أوقات أخذها حتى يخلقها". والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في "ن" إلا أنَّ فيها: "حين يجعلها"، وهو تحريف.
(1/156)
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق/ 1 - 2] إذ خلقُه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية، وحينئذ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته. ثمّ للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر، وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيته. وهذا إنّما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيه، لأن (1) نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره. فههنا تقديران وكتابتان (2): التقدير الأول عند ابتداءِ تعلّق (3) التخليق في النطفة، وهو إذا مضى عليها أربعون، ودخلت في طور العلقة، ولهذا في إحدى الروايات: "إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة". والتقدير الثاني والكتابة الثانية إذا (4) كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرًا أو أُنثى. فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره. ثم إذا وُلِد قُدّر مع ولادته كلَّ سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدَّر ليلة القدر من العام إلى العام. فهذا التقدير أخصّ من التقدير __________ (1) "ك، ط": "فيها فإن". (2) "ط": "كتابان". (3) "ك، ط": "تعليق". (4) "ك، ط": "الثاني الكتابة إذا".
(1/157)
الثاني، والثاني أخصّ من الأول. ونظير هذا أيضًا أنّ اللَّه سبحانه قدّر مقاديَر الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدّر مقادير هذا الخلق حين خلقه وأوجده (1)، ثم يقدّر كلّ سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام. وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلّقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدّم ذلك (2) تقديرُ شأنها قبل خلق السموات والأرض، فهو تقدير بعد تقدير. ونظير هذا أيضًا رفعُ الأعمال وعرضُها على اللَّه، فإنّ عمل العام يُرفَع في شعبان، كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: "فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم" (3). ويُعرض عملُ الأسبوع يوم الاثنين والخميس، كما ثبت ذلك عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (4). ويُعْرَض عملُ اليوم في آخره والليلة في آخرها، كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري (5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّ اللَّه لا ينامُ ولا ينبغي له أن ينام، يخفض __________ (1) "ك، ط": "خلقهم وأوجدهم". (2) "ط": "تقدم ذكر تقدير"، خطأ. (3) أخرجه أحمد (21753)، والنسائي (2357) واللفظ له، من حديث أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما، وسنده حسن (ز). (4) أخرجه أحمد (21753، 21781)، وأبو داود (2436)، والنسائي في الكبرى (2781، 2782) من حديث أسامة بن زيد، وسنده لا بأس به. وله طريق آخر عن أسامة عند ابن خزيمة (2119) (ز). (5) وكذا في روضة المحبين (565). وفي تهذيب السنن (13/ 24) عزاه إلى الصحيحين، وهو سهو. فإنما أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (179).
(1/158)
القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار وعملُ النهار قبل الليل". فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرضُ فيهما (1) أخص من العرض في شعبان، ثمَّ إذا انقضى الأجلُ رُفِعَ العمل كله، وعُرِضَ على اللَّه، وطويت الصحف، وهذا عرضٌ آخر. وهذه المسائل العظيمة القدرِ هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات اللَّه وسلامه على كاشف الغمّة وهادي الأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإنْ قيل: فما (2) تقولون في قوله: "إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجِلْدها ولَحْمها (3) وعظمها ثمَّ قال: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شَاء، ويكتب الملك، ثمَّ يقول: يا ربّ أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك". وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث. وهذا يوافق الرواية الأخرى "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة (4) وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أشقي أم سعيد (5)؟ "، ويوافق الرواية الأخرى: "إنَّ النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً ثمَّ يتسور عليها الملك". وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى. __________ (1) "ط": "فيها"، خطأ. (2) "ك، ط": "ما". (3) "ف": "ومخها"، خلاف الأصل. (4) كذا في الأصل وغيره، وفي "ط": "خمس". (5) "ط": "أو سعيد".
(1/159)
قيل: لا ريب أنَّ التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأولى، هذا أمرٌ معلوم بالضرورة، فإمَّا أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة، وسمَّى المضغة فيها نطفةً اعتبارًا بأوَّل أحوالها وما كانت عليه. أو يكون المراد بها الأربعين الأولى، وسمَّى كتابةَ تصويرها وتخليقها (1) وتقديرَه تخليقًا اعتبارًا بما يؤول؛ فيكون قوله "صورها وخلق سمعها وبصرها" أي قدَّر ذلك وكتبه وأعلم به، ثمَّ يفعله (2) بعد الأربعين الثالثة. أو يكون المراد به (3) الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها، فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر. فإنَّ النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة، وحينئذٍ يكون أول مبدأ التخليق، فيكون مع هذا المبدأ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس. ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صُورت التصويرَ المحسوس المشاهد. فأحد التقديرات الثلاثة متعيِّن (4)، ولا بُدَّ؛ ولا يجوز غير هذا البتة، إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم. وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدرة (5)، واللَّه أعلم بمراد رسوله. غير أنَّا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم __________ (1) "ط": "تصويره وتقديره"، وفيه سقط وتحريف. (2) "ك، ط": "يفعله به". "ن": "ثم يكون ذلك". (3) "ط": "به أي الأربعين". "ك": "به أي بالأربعين المراد به الأربعين الأولى حقيقة". (4) "ط": "يتعين". (5) "ك، ط": "القدر".
(1/160)
واللحم إنَّما يكون بعد الأربعين الثالثة. والمقصود أنَّ كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاقٍ، عند أوَّل تخليقه. ويحتمل وجهًا رابعًا وهو أنَّ النطفة في الأربعين الأولى لا يُتعرَّض إليها ولا يُعتنى بشأنها (1)، فإذا جاوزتها وقعتْ في أطوار التخليق طَورًا بعد طَور، ووقع حينئذٍ التقدير والكتابة. فحديث ابن مسعود صريحٌ بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة بن أُسَيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنَّما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقِّت فيها البَعدية (2) بل أطلقها، وقد قيدها ووقَّتها في حديث ابن مسعود، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب. فأخبر بما يكون للنطفة (3) بعد الطور الأوَّل من تفاصيل شأنها وتخليقها، وما يقدر لها وعليها، وذلك يقع في أوقات متعددة، وكلّه بعد الأربعين الأولى، وبعضه متقدم على بعض؛ كما أنَّ كونها علقةً متقدم (4) على كونها مضغةً، وكونها مضغة متقدِّم (5) على تصويرها، والتصوير متقدم على نفخ الروح، ومع (6) ذلك فيصح أن يقال: إنَّ النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة، ويصوَّر خلقُها، وتركَّب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح، ويكتب شقاوتها وسعادتها. وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل. __________ (1) قراءة "ف": "ولا يعتبر شأنها". (2) "ف": "التعدية" تصحيف. (3) "ف، ط": "تكون النطفة"، "ك": "يكون بالنطفة". (4) "ف، ك، ط": "يتقدم"، والصوابُ ما أثبتنا، وهي قراءة "ن". (5) "وكونها مضغة" ساقط من "ن، ك". وفي "ن" هنا: "يتقدم". (6) سقطت الواو من "ك، ط".
(1/161)
وهذا وجه حسن جدًّا (1). والمقصود: أنَّ تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا، فأسكنه الجنة والنار وهو في بطن أمه. [أحاديث أخرى في إثبات القدر] وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه كتبَ على ابن آدم حظَّه من الزِّنى أدْرَكَ ذلك لا محالةَ" الحديث (2). وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ما بعثَ اللَّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفة إلا كانَ له بطانتان: بطانة تأمرُه بالخيرِ وتحضُّه عليه، وبطَانةٌ تأمرُه بالشرِّ، وتحضُّه عليه. والمعصومُ من عَصَمَ (3) اللَّه" (4). وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنَّه قال: أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "يا عُدَيُّ أسلِمْ تَسْلَمْ، قلتُ: وما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنِّي رسول اللَّه، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرّها" (5). __________ (1) وانظر: شفاء العليل (46)، والتبيان (219). (2) أخرجه البخاري في القدر (6612) وغيره، ومسلم في القدر (2657). (3) "ط": "عصمه". (4) أخرجه البخاري في الأحكام (7198). (5) أخرجه ابن ماجه (87)، وهو حديث ضعيف جدًّا، ضعَّفه البوصيري لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى بن أبي المساور الزهري، كذبه ابن معين، وكذلك في سنده يحيى بن عيسى الجرَّار، ضعيف. (ز).
(1/162)
وفي صحيح البخاري من حديث الحسن عن (1) عمرو بن تغلب قال: أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مالٌ، فأعطى قومًا ومنع آخرين، فبلغه أنَّهم عتبوا، فقال: "إني أعطي الرجل وأدَع الرجل، والذي أدعِ أحبُّ إليَّ من الذي أُعطي. أُعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهَلع، وأكِلُ أقوامًا إلى ما جعلَ اللَّهُ في قلوبهم من الغِنى (2) والخيرِ" الحديث (3). وفي الصحيحين (4) من حديث عمران بن حصين عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان اللَّه، ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماءِ، ثمَّ خلقَ (5) السماوات والأرض، وكتب في الذكر كلَّ شيء". وفي الصحيح عن ابن عباس أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأشجِّ عبد القيس: "إنَّ فيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهما اللَّه: الحِلم والأناة". قال: يا رسول اللَّه خُلقَين تخلَّقْتُ بهما، أم جُبلتُ عليهما؟ قال: "بل جبلتَ عليهما". قال: الحمد للَّه الذي جَبَلني عَلى خلقين يحبهما اللَّه (6). وقال أبو هريرة: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ". رواه البخاري تعليقًا (7). __________ (1) "الحسن عن" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "القناعة". (3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (923) وغيره. (4) وكذا في تهذيب السنن (12/ 315)، وهو سهو. وإنَّما أخرجه البخاري في بدء الخلق (3191). (5) "ط": "وخلق". وهو لفظ الحديث في الصحيح. (6) أخرجه مسلم في الإيمان (17). (7) في النكاح (5076)، وانظر: كتاب القدر، باب جف القلم على اللَّه. وقد وصله الإسماعيلي في المستخرج، والفريابي في القدر (437)، وابن وهب في =
(1/163)
وذكر البخاري أيضًا (1) عن ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون/ 61] قال: سبقت لهم السعادة. وفي سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت: "أنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم كانت رحمته (2) خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقتَ مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل اللَّه ما قبله اللَّه منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متَّ على غير هذا لدخلتَ النَّار". وقاله زيد بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (3). وفي سنن أبي داود عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنيّ إنَّك لن تجد (4) طعمَ الإيمان حتَّى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم فقال له: اكتب، قال: __________ = القدر (16)، والجوزقي في الجمع بين الصحيحين، كما في تغليق التعليق (4/ 396) والتعليق عليه، وسنده صحيح. (ز). (1) في كتاب القدر، باب جف القلم على علم اللَّه. (2) "ط": "رحمته لهم". (3) أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد (21589)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت. وظاهر سنده حسن، ولكن وقع فيه اختلاف، وأنَّه موقوف على أبي بن كعب. انظر: القدر للفريابي (150)، والقضاء والقدر للبيهقي (199، 482، 483). (ز). (4) "ك، ط": "لم تجد".
(1/164)
ربِّ (1) وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". يا بني، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من مات على غير هذا فليس منِّي" (2). وفي الصحيحين عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا في جنازة فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ببقيع الغرقد، فجاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجلس ومعه مِخصرة، فجعل ينكُت بالمِخصَرة في الأرض، ثمَّ رفع رأسه فقال: "ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كُتِبَ مكانُها من النار أو الجنَّة (3)، إلا قد كُتِبَت: شقيَّة أو سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا نبيّ اللَّه أو لا نمكث (4) على كتابنا، وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونَّن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة (5) لَيكوننّ إلى الشقاوة؟ قال: اعملوا، فكل مُيسَّرٌ، أمَّا أهل السعادة فَيُيَسَّرون لِلسَّعَادة، وأمَّا أهل الشقاوة فيُيسَّرون لِلشَّقَاوة". ثمَّ قرأ نبيُّ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10] (6). وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر بن الخطاب سُئِلَ عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ __________ (1) "ك، ط": "يا رب". (2) أخرجه أبو داود (4700)، وفي سنده جهالة، وقد وقع فيه اختلاف، وروي من غير وجه عن عبادة، وفيها نظر. انظر: القدر للفريابي (31 - 33). (ز). (3) "ك، ط": "في النار أو في الجنة". (4) "ط": "نتّكل". (5) "ط": "الشقاوة". (6) تقدم تخريجه في ص (149).
(1/165)
ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172] (1)، فقال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل (2) عنها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خلقَ آدمَ (3)، ثمَّ مسحَ ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريَّة، فقال: خلقت هؤلاء للجنَّة، وبعمل أهل الجنَّة يعملون. ثمَّ مسحَ ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون". قال رجل: يا رسول اللَّه، ففيم العملُ؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ إذا خلقَ العبدَ للجنَّة استعمله بعمل أهل الجنَّة حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنَّة، فيُدخله به الجنَّة. وإذا خلقَ العبد للنَّارِ استعمله بعمل أهل النَّار حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل النَّارِ، فيدخله به النَّار" (4). وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه خلقَ آدمَ من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاءَ بنو آدمَ على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ والأبيض والأسود وبين ذلك، والسَّهْل والحَزْن، والخبيث والطيب". قال الترمذي: حديث حسن __________ (1) وردت الآية في الأصل والنسخ الأخرى على قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو: "ذرِّياتهم". انظر: الإقناع (2/ 651). (2) كذا في الأصل و"ن". وفي "ف" وغيرها: "قد سئل". (3) "ك، ط": "خلق اللَّه آدم". (4) قول المصنف: "في السنن الأربعة" سهو، فإنَّ الحديث أخرجه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (1190)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا". وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 6): "وجملة القول في هذا الحديث أنَّه حديث ليس إسناده بالقائم لأنَّ مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجوه كثيرة ثابتة. . . " (ز).
(1/166)
صحيح (1). وذكر الطبري من حديث مالك بن عبد أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لابن مسعود: "لا تُكْثِرْ (2) همَّكَ، ما يُقدَّرْ يَكُنْ، وما تُرْزَقْ يأتِك" (3). وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بُعِثْتُ داعيًا ومبلِّغًا، وليس إليِّ من الهدى شيءٌ، وخُلقَ إبليس مُزَيِّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء" (4). وقال ابن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن سلمان (5)، عن عقيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسمع ناسًا من أصحابه يذكرون (6) فقال: "إنَّكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغَور (7)، فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم". ولقد أخرج يومًا كتابًا، فقال: "هذا كتابٌ من اللَّه الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنَّة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمَلٌ (8) على آخرهم لا يُنقصُ منهم أحدٌ: فريقٌ __________ (1) الترمذي (2955)، وأخرجه أبو داود (4693)، وابن حبان (6160) وغيرهما. (2) "ط": "لا يكثر". (3) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2806)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1080). والحديث فيه إرسال مع الاختلاف في أسانيده، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6264) (ز). (4) أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 471 - 472)، وابن حبان في المجروحين (1/ 281)، وهو حديث ضعيف كما في تنزيه الشريعة (1/ 315) لابن عراق. (ز). (5) "ف، ك، ط": "سليمان" تحريف. (6) زاد في "ط": "القدر". (7) "ف": "شعبين بعيدي الغور". (8) "ف، ك": "فجمل". وفي "ط" بالحاء، تصحيف. وانظر ما سلف في =
(1/167)
في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير" (1). وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ردِفتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فقال: يا غلامُ، ألَا أعلِّمُكَ كلماتٍ ينفعك اللَّه بهنَّ؟ احفظ اللَّه يحفظْك، احفظ اللَّه تجده أمامك. تعرَّفْ على اللَّه في الرَّخاءِ يعرفْك في الشدَّة. إذا سألتَ فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه. رُفِعَت الأقلامُ، وجفَّت الصحف. لَوْ جَهَدت الأُمَّة على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه لك، ولو جهدت الأمة على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه عليك. واعلم أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرْبِ، وأنَّ مع العسر يُسْرًا" (2). وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي: "فلو أنَّ النَّاس اجتمعوا على أن يعطوك شيئًا لم يُعْطِه اللَّه لم يقدروا عليه، ولو أنَّ الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئًا قدَّره اللَّه لك وكتبه لك (3) ما استطَاعُوا، فاعبُدِ اللَّه بالصَّبْرِ مع اليقين" (4). __________ = ص (145). (1) تقدم من طريق آخر في ص (145). (2) تقدم في ص (132). (3) "وكتبه لك" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "مع الصبر على اليقين". والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 1231) (11243)، والحاكم (3/ 624) (6304) من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقد ضعفه الذهبي من هذا الطريق فقال: "عيسى -يعني ابن محمد القرشي- ليس بمعتمد". وتقدم الحديث من طريق حنش عن ابن عباس، وهو أصح الطرق عن ابن عباس كما قاله ابن منده وغيره. انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 461) (ز).
(1/168)
وقال علي بن الجعد: حدثنا (1) عبد الواحد بن سليم (2) البصري، عن عطاء بن أبي رباح قال: سألتُ (3) ابن (4) عبادة بن الصامت: كيفَ كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: "يا بنيّ اتّقِ اللَّه، واعلم أنَّك لن تتقيَ اللَّه ولن تبلغ العلم حتَّى تعبد اللَّه وحدَه، وتؤمنَ بالقدر خيره وشرِّه". قلت: يا أبتِ كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: "تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فإنْ متَّ على غير هذا دخلت النَّار. سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتبُ؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد" (5). وذكر الطبري من حديث بقية حدثنا (6) أبو بكر العنسي (7) عن يزيد بن أبي حبيب (8) ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: قالت أم سلمة: يا رسول اللَّه لا تزال نفسك في كل عام وَجِعَةً من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها، قال: "ما أصابني من (9) شَيءٍ منها إلا وهو __________ (1) "ط": "أنبأنا". (2) "بن سليم" لم يرد في "ك، ط". (3) "سألت" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (4) سقطت كلمة "ابن" من "ط"، فزاد بين حاصرتين: "الوليد بن". (5) أخرجه علي بن الجعد في مسنده (3444)، وفيه عبد الواحد بن سليم، ضعيف، وقد تقدم الحديث في ص (164) من طريق آخر. (6) "ط": "أنبأنا". (7) "ن، ط": "العبسي"، تصحيف. انظر: تهذيب التهذيب (12/ 44). (8) "ك، ط": "زيد بن أم حبيب"، تحريف. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 318). (9) "من" ساقط من "ط".
(1/169)
مكتوبٌ على، وآدم في طينته" (1). وفي صحيح مسلم (2) من حديث ابن عباس في خطبة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحمدُ للَّه نحمدُهُ ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله". وفي صحيحه (3) أيضًا عن زيد بن أرقم: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها". وفي صحيحه (4) أيضًا عن علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عنِّي سيِّىَءَ الأخلاق، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلا أنت". وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّم أباه هذا الدعاء: "اللَّهمَّ ألْهِمْني رُشدي، وقنِي شرَّ نفسي" (5). __________ (1) أخرجه ابن ماجه (3546)، والفريابي في القدر (418). قال البوصيري: هذا إسناد فيه أبو بكر العنسي وهو ضعيف. مصباح الزجاجة (3/ 142) (ز). (2) كتاب الجمعة (868). (3) كتاب الذكر والدعاء (2722). (4) كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771). (5) أخرجه أحمد (19992) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 3)، والترمذي (3483)، والطبراني في الكبير (18/ 396)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 165)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب". وفي سنده شبيب بن شيبة، وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (690). (ز).
(1/170)
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء، عن عبد اللَّه بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب بالجابية (1) خطيبًا فقال في خطبته: "من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" وعنده الجاثَليقُ (2) يسمع ما يقول، قال: فنفَضَ ثوبَه كهيئة المنكِر، فقال عمر: ما يقول؟ (3) قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعمُ أنَّ اللَّه لا يضل أحدًا، قال: "كذبتَ يا عدوَّ اللَّه، بل اللَّه خلقك وهو أضلَّكَ، وهو يُدخِلُك النَّارَ إن شاء اللَّه. أما واللَّه، لولا وَلْثُ عهدٍ (4) لك لضربتُ عنقك، إنَّ اللَّه خلقَ الخلقَ فخلَق أهل الجنَّة وما هم عاملون، وخلَقَ أهل النارِ وما هم عاملون، قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه" (5). وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال: "خلق اللَّه الخلقَ فكانوا في قبضته، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنَّة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النَّار ولا أبالي، فذهَبتْ إلى يوم القيامة" (6). وقال ابن عمر: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيتَ الزنى بقدَر اللَّه؟ فقال: نعم. قال: فإنَّ اللَّه قدَّره على ثمَّ يعذبني؟ قال: "نعم يا ابن اللَّخْناءِ، أما واللَّه لو كان عندي إنسان أمرتُ أن يجَأ __________ (1) "الجابية" ساقط من "ك، ط". (2) رئيس الأساقفة عند النصارى. انظر: القول الأصيل (74). (3) "ط": "تقولون". (4) "ولث" ساقط من "طـ". والوَلْث: بقية العهد، وقيل: الضعيف من العهد. اللسان (ولث). (5) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (929)، والآجري في الشريعة (417)، واللالكائي (1197) وغيرهم (ز). (6) أخرجه الآجري في الشريعة (415)، واللالكائي (1204)، وفي سنده انقطاع.
(1/171)
أنفَك" (1). وذكر عن علي رضي اللَّه عنه أنَّه ذُكِرَ عنده القدرُ يومًا، فأدخلَ إصبعيه السبابة والوسطى في فيه، فرقَم بهما باطنَ يده، فقال: أشهد أنَّ هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب (2). وذكر عنه أيضًا أنَّه قال: "إنَّ أحدكم لن يخلُص الإيمانُ إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غيرَ ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ (3) ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويُقِرَّ بالقدَر كله" (4). وذكر البخاري (5) عن ابن مسعود أنَّه قال في خطبته: "الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من وُعِظَ بغيره". وقال ابن مسعود: "لأنْ أعضَّ على جمرٍ (6) أو أقبضَ (7) عليها حتى تبرُدَ في يدي أحبُّ إليَّ من أن أقول لشيءِ قضاه اللَّه: ليته لم يكن" (8). __________ (1) أخرجه اللالكائي (1205)، وسنده ضعيف، وفيه اختلاف. انظر: اللالكائي (1293). (2) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (955)، واللالكائي (1213) وغيرهما، وفي سنده ضعف (ز). (3) "أن" ساقطة من "ك، ط". (4) أخرجه اللالكائي (1214)، وفي سنده انقطاع، ميسرة لم يدرك عليًّا، قاله الإمام أحمد، جامع التحصيل (816). (ز). (5) كذا قال هنا، والصواب أنَّه في صحيح مسلم (2645)، كما ذكر المصنف في ص (148). (6) "ن، ط": "جمرة". (7) "ك، ط": "أو أن أقبض". (8) أخرجه الطبراني في الكبير (9171)، واللالكائي (1217) من طريقين عن ابن =
(1/172)
وقال: "لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنَّه ميت، وأنَّه مبعوث من بعد الموت" (1). وقال الأعمش، عن خيثمة (2)، عن ابن مسعود: "إنَّ العبدَ لَيهُمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة، حتى يتيسَّر له نظرُ اللَّه إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنِّي إن يسرتُه له أدخلته النار. قال: فيصرفه اللَّهُ عنه. قال: فيقول: من أين دُهيتُ؟ أو نحو هذا، وما هو إلا فضلُ اللَّه عزَّ وجلَّ" (3). وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنَّ عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا شديدًا، أغمي عليه فأفاق (4) فقال: أُغمي علي؟ قالوا: نعم، قال: إنَّه أتاني رجلان غليظان، فأخذا بيدي، فقالا: انطلِقْ نحاكِمْك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي، فتلقَّاهما رجل، فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكِمُه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه فإنَّ هذا ممن سبقت له السعادةُ وهو في بطن أمه (5). وقال ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: أشهد لَسمِعتُ ابن __________ = مسعود رضي اللَّه عنه (ز). (1) أخرجه معمر في جامعه (20081)، والفريابي في القدر (195، 196) وغيرهما. وهو لا يثبت، فيه الحارث الأعور. متهم بالكذب، وقد اختلف عليه. (ز). (2) عن "خيثمة" ساقط من "ك، ط". (3) أخرجه اللالكائي (1219)، وفي سنده انقطاع. (4) "ك، طـ": "وأفاق". (5) أخرجه عبد الرزاق (20065)، والآجري (436)، واللالكائي (1220) وغيرهم، والأثر صحيح. (ز).
(1/173)
عباس يقول: "العجز والكَيْس بقدر" (1). وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إنَّ ناسًا يقولون في القدر. قال: "يكذِّبون بالكتاب، لئن أخذتُ بشَعرِ أحدِهم لأنضُوَنَّه (2). إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فخلَقَ القلِمَ، فكتَب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنَّما يجري النَّاسُ على أمرِ قد فُرِغ منه" (3). وقال ابن عباس أيضًا: "القدَرُ نظامُ التوحيد، فمن وحَّد اللَّه ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاءِ نقضًا (4) للتوحيد، ومن وحَّد اللَّه وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها" (5). وقال عطاء بن أبي رباح: كنتُ عند ابن عباس، فجاءَه رجل، فقال: "يا ابن عباس (6)، أرأيت من صدَّني عن الهدى، وأوردني دارَ الضلالة والردى (7)، ألا تراهُ قد ظلمني؟ فقال: "إن كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنَعَكَه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم __________ (1) تقدم تخريجه في ص (147). (2) وردت هذه الجملة في "ط" محرَّفة، وقال في الحاشية: "بياض في الأصل، وفي الجملة تحريف،، ولا بياض في أصولنا. وقوله "لأنضونه" أي: لأنزعنَّه وأخلعنَّه. (3) أخرجه اللالكائي (1223). (ز). (4) "ط": "نقصًا" بالصاد المهملة. (5) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (925)، والآجري (456)، واللالكائي (1224)، وفي سنده ضعف (ز). (6) في الأصل: "يا با عباس" سهو، وكذا في "ف". (7) "ط": "الضلالة واردًا" تحريف.
(1/174)
يظلمك (1). قُمْ، لا تجالسْني (2) " (3). وقال عكرمة عن ابن عباس: "كان الهدهد يدلُّ سليمان على الماء". فقلتُ له: وكيف ذاك والهدهدُ (4) يُنصَب له الفخُّ عليه التراب؟ فقال: "أَعضك اللَّهُ بِهَن أبيك، إذا جاء القضاءُ ذهبَ البصرُ" (5). وقال الإمام أحمد: حدثنا (6) إسماعيل، أنبأنا أبو هارون (7) الغنوي، حدثنا (8) أبو سليمان (9) الأزدي، عن أبي يحيى مولى بني عفراء (10) قال: أتيتُ ابن عباس، ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر، أو ينكرونه، فقلتُ: يا ابن عباس، ما تقول في القدر؟ فإنَّ هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنَى وإن سرق (11) وإن شرب، قال (12): فحسَرَ قميصَه حتى أخرج منكبيه وقال: "يا أبا يحيى (13) لعلَّك من الذين ينكرون __________ (1) "ط": "فلا يظلمك". (2) "ك، ط": "فلا تجالسني". (3) أخرجه اللالكائي (1227). (ز). (4) "ك، ط": "فكيف ذاك؟ الهدهد". (5) أخرجه اللالكائي (1228) وسنده صحيح (ز). (6) "ط": "أنبأنا". (7) "ن": "أبو إبراهيم"، خطأ. (8) "ط": "أنبأنا". (9) سقط "أبو" من "ط". (10) في الأصل: "غفراء" بالمعجمة، ولعله سهو، وكذا في "ف". (11) "ك، ط": "وإن شرب وان سرق". (12) "قال" ساقط من "ك، ط". (13) "ك، ط": "يايحي".
(1/175)
القدر (1) ويكذِّبون به. واللَّه لو أعلم أنَّك منهم أو (2) هذين معك لجاهدكم. إن زنَى فبقدَر، وإن سرقَ فبقدَر، وإن شرِب الخمرَ فبقدَر" (3). وصحَّ عن ابن عمر أنَّ يحيى بن يعمر قال له: إنَّ ناسًا يقولون: لا قدر، وإنَّ الأمر أُنُف (4). فقال: "إذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنَّ ابن عمر منهم بريء (5)، وأنَّهم بُرَآءُ منه" (6). وقد تقدم قول أبيّ بن كعب، وحذيفة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت: "لو أنفقت مثلَ أحُد (7) ذهبًا في سبيل اللَّه ما قُبلَ منك حتَّى تؤمنَ بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ (8) ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وإن متَّ على غير ذلك دخلت النار" (9). وتقدَّم قول عبادة بن الصامت: "لن تؤمن حتَّى تؤمنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطاك لم يكن ليصيبك" (10). __________ (1) "القدر" سقط من "ك"، وزيد في "ط" بين حاصرتين. (2) "ط": "وهذين". (3) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (937)، واللالكائي (1230). (ز). (4) أي مستأنف، من غير أن يكون سبق به قضاء. النهاية (1/ 7). (5) "ك، ط": "بريء منهم". (6) أخرجه مسلم في الإيمان (8). (7) "ط": "مثل جبل أحد". (8) "أن" ساقطة من "ط". (9) انظر: ص (164). (10) انظر: ص (164، 169).
(1/176)
وقال قتادة، عن أبي السوَّار، عن الحسن بن علي قال: "قُضي القضاءُ، وجفَّ القلم، وأمور تُقْضى (1) في كتابٍ قد خَلا" (2). وقال عمرو بن العاص: "انتهى عجبي إلى ثلاث: المرءُ يفِرُّ من القدَر وهو لاقيه. ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبُها، ويكون في عينه مثلُ الجذع فلا يعيبها. ويكون في دابته الضِّغْنُ (3) فيقوِّمها جهدَه، ويكون في نفسَه الضِّغْن فلا يقوِّمها" (4). وقال أبو الدرداء: "ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب" (5). وقال الحجَّاج الأزدي: سألنا سلمانَ ما الإيمان بالقدر؟ فقال: "أن تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطاكَ لم يكن ليصيبك" (6). وقال سلمان أيضًا: "إنَّ اللَّه لمَّا خلقَ آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو __________ (1) "ن، ك، ط": "بقضاء"، تصحيف. (2) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (875، 881)، واللالكائي (1234) (ز). (3) رسمها في الأصل بالظاء (انظر ما سبق في رسم "أضالع" في 131) والغين مع إهمالهما، فتقرأ: "الطعن"، كما في "ف، ن". وكذا في "ط" وفسّرت فيها بالوثوب والاندفاع. وفي كتاب اللالكائي: "الصعر". والصواب ما أثبتنا. و"الضغن" في الدابّة أن تكون عسرة الانقياد. قاله الخطابي في غريب الحديث (2/ 482). وانظر: الفائق (2/ 342). والنهاية (3/ 92). (4) أخرجه اللالكائي (1235)، والبيهقي في القضاء والقدر (501). (ز). (5) أخرجه اللالكائي (1238)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 216). (ز). (6) أخرجه معمر في جامعه (20083)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (923)، وسنده لا بأس به. (ز).
(1/177)
ذارئٌ (1) إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال (2) والشقوة (3) والسعادة. فمِن علَمِ السعادة فعل الخير ومجالس الخير، ومِن علَمِ الشقاوة فعلُ الشر (4) ومجالس الشر" (5). وقال جابر بن عبد اللَّه: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كلِّه خيره وشرّه (6)، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه" (7). وقال هشام (8) عن أبيه عن عائشة: "إنَّ العبدَ ليعمل الزمانَ بعمل أهل الجنَّة، وإنَّهُ عند اللَّه لمكتوبٌ من أهل النَّار" (9). والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر، وإنَّما أشرنا إلى بعضها إشارة. فصل فالجوابُ (10) أنَّ ههنا مقامَين: مقامَ إيمان وهدى ونجاة، ومقامَ ضلال وردى وهلاك، زلَّت فيه أقدام، فهوَتْ بأصحابها إلى دار الشقاء. __________ (1) "ك، ط": "منه ذراري إلى". (2) "ك، ط": "وكتب الآجال والأعمال والأرزاق". (3) "ط": "الشقاوة". (4) "ك، ط": "عمل الشر". (5) أخرجه اللالكائي (1241)، وسنده صحيح (ز). (6) زاد في "ط" بعده بين حاصرتين: "وأن". (7) أخرجه اللالكائي (1242)، وسنده ضعيف (ز). (8) زاد في "ط" بين حاصرتين: "بن عروة بن الزبير". (9) أخرجه اللالكائي (1243)، وسنده ضعيف. (ز). (10) وهو جواب قوله: "فإن أصررت على اتهام القدر. . . " الذي سبق في ص (137). وبدأ المؤلف من هذا الفصل بالرد على الاحتجاج بالقدر، والإجابة عن الإشكال الوارد بسببه.
(1/178)
فأمَّا مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأنَّه (1) ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه (2) الناس. وهذه الآثار التي ذكرت (3) كلها تُحقِّق هذا المقام، وتبيِّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن باللَّه ولم يعرفه، وهذا في كل كتابِ أنزله اللَّه على كلِّ رسولٍ أرسله (4). وأمَّا المقام الثاني -وهو مقام الضلال والردى والهلاك- فهو الاحتجاجُ به على اللَّه (5)، وحملُ العبدِ ذنبَه على ربه، وتنزيهُ نفسه الجاهلة الظالمة الأمَّارة بالسوء، وجعلُ أرحمِ الراحمين وأعدلِ العادلين وأحكمِ الحاكمين وأغنى الأغنياء أضرَّ على العباد من إبليس؛ كما صرَّح به بعضهم، واحتجَّ عليه بما خصَمه فيه من لا تدحَض حجَّتُه ولا تطاق مغالبتُه، حتَّى يقول قائلُ هؤلاء: ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له ... إيَّاكَ إيَّاكَ أن تبتلَّ بالماءِ (6) __________ (1) "ك، ط": "وأنّ". (2) "ك، ط": "شاء". (3) "التي ذكرت": ساقط من "ط". (4) "ط": "على رسله". (5) "ط": "على ذنبه على اللَّه". (6) أنشده المؤلف في مدارج السالكين (1/ 262)، وشفاء العليل (20)، وهو منسوب إلى الحلاج في وفيات الأعيان (2/ 143). وأثبت في "طـ" بيتًا آخر قبله: ما حيلة العبد والأقدارُ جاريةٌ ... عليه في كلِّ حال أيها الرائي وهما في ديوانه (26).
(1/179)
ويقول قائلهم: دعَاني وسدّ البابَ دوني فهل إلى ... دخولي سبيلٌ؟ بيِّنوا لِيَ قِصَّتي (1) ويقول الآخر: وضعوا اللحمَ لِلبُزا ... ةِ على ذِروتَي عَدَنْ ثُمَّ لاموا البُزاة إذ ... خلَعوا عنهم الرَّسَنْ لو أرادوا صِيانتي ... سَتروا وَجْهَك الحسَنْ (2) وقال بعضهم -وقد ذكر له مَن (3) يخاف من إفساده- فقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهِنّ غيره! وصعد رجل يومًا على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجُر بجاريته، فنزل، وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدَعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لَعِلمُك بالقضاء والقدر أحبُّ إليَّ من كلِّ __________ (1) أنشده المؤلف في المدارج (1/ 264). "قصتي": كذا في الأصول. وفي أعيان العصر (3/ 292) وفي المدارج وغيره: "قضيتي". والبيت من قصيدة شاعت في الشام في ذلك العهد، وذكر ابن حجر أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عملها على لسان ذمي (الدرر الكامنة 1/ 156). ويقال إن ناظمها ابن البقَقي المتهم بالزندقة، فانبرى للرد عليها نظفا كبار علماء مصر والشام. منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 8/ 245 - 255) والعلاء الباجي، والعلاء القونوي وغيرهم. انظر قصائدهم في طبقات الشافعية (10/ 352 - 366). (2) ذكرها المؤلف في المدارج (1/ 262)، وهي للشبلي في تاريخ بغداد (12/ 95)، مع اختلاف في بعض الألفاظ. (3) "ط": "ما".
(1/180)
شيء، أنت حرٌّ لوجه اللَّه (1). ورأى آخر رجلًا (2) يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرَب، فأقبل يضرب المرأة، وهي تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوّةَ اللَّه أتزني وتعتذري (3) بمثل هذا؟ فقالت: أوَّهْ تركتَ السنّة، وأخذت بمذهب ابن عبَّاد (4)! فتنبَّهَ ورمى السوط (5) من يده، واعتذر إليها، وقال: لولاكِ لَضلَلْتُ! ورأى آخر رجلًا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ اللَّه وقدره. فقال: الخِيرة فيما قضى اللَّه! فلُقِّب بـ "الخيرة فيما قضى اللَّه"، وكان إذا دعي به غضب! وقيل لبعض هؤلاء: أليس اللَّه عزَّ وجلّ (6) يقول: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر/ 7] فقال: دعنا من هذا، رضيَه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيرُه! __________ (1) نقل ابن النديم حكاية تشبه هذه عن سلام القارئ من متكلمة الجبرية. انظر الفهرست (235). (2) "رجلًا" ساقط من "ك، ط". (3) كذا في الأصل و"ف، ن". وفي "ك، ط": "تزنين وتعتذرين" حسب القاعدة. (4) كذا في الأصل و"ف، ن". وفي "ك، ط": "ابن عباس"، وهو خطأ، فإن المقصود بمذهب ابن عباد هنا إنكار القدر. والمشهور بابن عباد هو الصاحب المتوفى سنة 325. وقد يكون المراد محمد بن عباد بن كاسب صديق ثمامة بن الأشرس (213 هـ). ذكره الجاحظ في البيان (1/ 44) والحيوان (1/ 265). (5) "ط": "بالسوط". (6) "ك، ط": "أليس هو يقول".
(1/181)
ولقد بالغَ بعضهم في ذلك حتى قال: القدرُ عذر لجميع العصاة، وإنَّما مثلنا في ذلك كما قيل: إذا مرِضنا أتيناكم نعودُكُمُ ... وتُذنبون فنأتيكم فنعتذرُ (1) وبلغ بعضَ هؤلاء أنَّ عليًّا مرَّ بقتلى النهروان فقال: "بؤسًا لكم، لقد ضرَّكم من غرَّكم". فقيل: من غرَّهم؟ فقال: "الشيطان، والنَّفس الأمَّارة بالسوء، والأماني". فقال هذا القائل: كان علي قدريًّا، وإلا فاللَّهُ غرَّهم، وفعل بهم ما فعل، وأوردَهم تلك الموارد. واجتمع جماعة من هؤلاء يومًا، فتذاكروا القدر، فجرى ذكرُ الهدهد وقولِهِ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل/ 24] (2)، فقال: كان الهدهد قدريًّا، أضاف العملَ إليهم والتزيينَ إلى الشيطان، وجميعُ ذلك فعلُ اللَّه (3). وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75]: أيمنعه، ثمَّ يسأله ما منعَه؟ فقال (4): نعم، قضَى عليه في السرِّ ما منعه منه (5) في العلانية، ولعَنه عليه! قال له: فما معنى قوله: __________ (1) أنشده المؤلف في المدارج (2/ 396)، وهو من قصيدة مشهورة للمؤمَّل بن أمَيل المحاربي من مخضرمي شعراء الدولتين، توفي نحو 190 هـ. معجم المرزباني (298)، معجم الأدباء (2733). (2) في الأصل و"ف": {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} وهو جزء من الآية (43) من سورة الأنعام، ولكن المقصود هنا آية النمل كما أثبتنا من "ك، ط". (3) "ف": "قول اللَّه"، غلط من الناسخ. (4) "ط": "قال". (5) "منه" ساقط من "ك، ط".
(1/182)
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء/ 39] (1) إذا كان هو الذي منعهم؟ قال: استهزاءً بهم! قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء/ 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جَنَوه، بل ابتدأهم بالكفر ثمَّ عذبهم عليه، وليس للآية معنى! وقال بعض هؤلاء -وقد عوتب على ارتكابه معاصي اللَّه فقال-: إن كنتُ عاصيًا لأمره فأنا مطيع لإرادته (2). وجرى عند بعض هؤلاء ذكرُ إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعةُ يلعنونه ويذمّونه، فقال: إلى متى هذا (3) اللّوم؟ ولو خُلِّيَ لَسَجَدَ، ولكن مُنِعَ. وأخذ يقيم عذره، فقال له (4) بعض الحاضرين: تبَّا لك سائر اليوم، أتذبُّ عن الشيطان، وتلوم الرحمن؟ وجاءَ جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء، فلم يجدوه، فلمَّا رجع قال: كنتُ أصلح بين قوم. فقيل له: وأصلحتَ بينهم؟ قال: أصلحتُ، إن لم يُفسِد اللَّه. فقيل له: بؤسًا لك، أتُحسِن الثناء على نفسك، وتسيء الثناء على ربِّك؟ (5) ومُرَّ بلصٍّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبرَه على السرقة، ثمَّ قطع يده عليها! __________ (1) "ك، ط": {. . . آمنوا باللَّه}. (2) سبق في ص (55). (3) سقط "هذا" من "ط"، واستدرك في القطرية. (4) "له" سقط من "ك، طـ". (5) انظر ترجمة عبد اللَّه بن داود من المجبرة في الفهرست (230).
(1/183)
وقيل لبعضهم: أترى اللَّهَ كلَّف عبادَه ما لا يطيقون، ثمَّ يعذبهم عليه؟ قال: واللَّهِ قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم! (1) وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودَّع أهلَه وبكى. فقيل له (2): استودِعْهم اللَّه، واستحفظهم إيَّاه. فقال: ما أخاف عليهم غيرَه! وقال بعض هؤلاء: زَنيةٌ أزنيها (3) أحبُّ إليَّ من عبادة الملائكة. قيل؟ ولم؟ قال: لعلمي بأنَّ اللَّه قضاها عليَّ وقدَّرها، ولم يقضها إلا والخِيرةُ لي فيها. وقال بعضُ هؤلاء: العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسرِّ اللَّهِ في القدر (4). ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدًا، فأوَّلُ ما بدأ به من المزارات (5) زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم في قدر اللَّه؟ كيف أنتم في قدر اللَّه؟ (6) وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبتُ بعضَ شيوخ هؤلاءِ فقال لي: المحبة نارٌ تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكونُ __________ (1) نقل ابن قتيبة نحوه عن هشام بن الحكم شيخ الإمامية. انظر: تأويل مختلف الحديث (98). (2) "له" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "ذنبة أذنبها"، تصحيف. (4) نقله المصنف في شفاء العليل (39) من إشارات ابن سينا، وسيأتي مرَّة أخرى في ص (735). (5) "ط": "الزيارات". (6) وردت هذه الجملة في "ك، ط" مرَّة واحدة.
(1/184)
كله مراد، فأيِّ شيءٍ أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ من في الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتَهم أنت وواليتهم، أكنتَ وليًّا للمحبوب أو عدوًا له؟ قال: فكأنَّما أُلْقِمَ حجَرًا (1). وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75] فقال: هو واللَّهِ منعه! ولو قال إبليس ذلك كان (2) صادقًا، وقد أخطأ إبليس الحجَّة، ولو كنتُ حاضرًا لقلتُ (3): أنتَ منعته! وسمع بعض هؤلاء قارئًا يقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17] فقال: ليس من هذا شيء، بل أضلَّهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مَخْرَقةٌ يُمَخْرِقُ بها (4). فيقال: اللَّه أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء اللَّه حقًّا الذين ما قدروا اللَّه حقَّ قدره، ولا عرفوه حقَّ معرفته، ولا عظَّموه حقَّ تعظيمه، ولا نزِّهوه عمَّا يليق به، وبغِّضوه إلى عباده وبغِّضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناءَ عليه جهدَهم وطاقتهم. وهؤلاء خصماءُ اللَّه حقًّا الذين جاءَ فيهم الحديثُ: "يُقال يومَ القيامة: أين خصماء اللَّه؟ فيؤمرُ بهم إلى النَّارِ" (5). __________ (1) نقله المؤلف عن شيخ الإسلام في المدارج (2/ 594)، وشفاء العليل (19)، وسينقله مرَّة أخرى في هذا الكتاب (658)، وانظر مجموع الفتاوى (10/ 210، 486). (2) "ط": "لكان". (3) "ك، ط": "لقلت له". (4) المخرقة: الخداع، والشعوذة. (5) أخرجه اللالكائي (1232) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.
(1/185)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته: (1) ويُدعَى خصومُ اللَّه يومَ معادِهم ... إلى النَّارِ طُرًّا فرقةُ القدريةِ سواءٌ نفَوه أو سعَوا لِيخاصِمُوا ... به اللَّهَ أو مارَوا به للشريعةِ (2) وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة (3): نفاته، وهم القدرية المجوسية. والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام/ 148] وهم القدرية المشركية (4). والمخاصمون به للربِّ، وهم أعداءُ اللَّه وخصومه، وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أوَّل من احتجَّ على اللَّه بالقدر فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] ولم يعترف بالذنب وَيُبؤْ به، كما اعترف به آدم. فمن أقرَّ بالذنب، وباءَ به، ونزِّه ربَّه، فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم (5). ومن برَّأ نفسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدر فقد أشبَه إبليس (6). ولا ريبَ أنَّ هؤلاء القدريِّة الإبليسية والمشركية (7) شرٌّ من القدريَّة __________ (1) وهي التي ردَّ بها على أبيات "الذمي" التي سبق ذكرها في ص (178). (2) مجموع الفتاوى (8/ 246). (3) "ط": "الثلاث". والذي في الأصل وغيره صحيح لا غبار عليه. (4) "ط": "الشركية". والصواب ما في الأصل وغيره. وسماهم "المشركية" لكونهم قد تشبهوا بالمشركين في قولهم. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 111)، (8/ 256). (5) انظر: المثل في مجمع الأمثال (3/ 312). (6) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 256 - 261). (7) "ط": "الشركية" هنا وفيما يأتي، تحريف. وانظر ما سلف آنفًا في الحاشية الرابعة.
(1/186)
النفاة، لأنَّ النفاة إنَّما نفوه تنزيهًا للرب تعالى وتعظيمًا له أن يقدّر الذنب ثمَّ يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقِبَ العبد على ما لا صُنعَ للعبد فيه البتة، بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوَله (1) ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية أنَّه حضرَ مجلسَ بعض الولاة فأتيَ بطرَّار (2) أحوَل، فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر سوطًا (3). فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر: بل ينبغي أن يُضْرَب ثلاثين سوطًا: خمسة عشر لِطرِّه، ومثلها لِحَوَله. فقال الجبري: كيف يُضْرَب على الحَوَل، ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطرّ، ولا صنع له فيه عندك، فبُهِتَ الجبري. وأمَّا القدرية الإبليسية والمشركية فكثيرٌ منهم منسلخ من (4) الشرع، عدوٌّ للَّه ورسله، لا يُقِرّ بأمرٍ ولا نهي. وتلك وراثة عن شيوخه (5) الذين قال اللَّه فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام/ 148]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى __________ (1) "وحوله" لم يرد في: "ك، ط". (2) الطرّار: النشّال يشن ثوب الرجل ويسُلّ ما فيه. (3) "ك، ط": "يعني سوطًا". (4) "ك، ط": "عن". (5) "ك، ط": "شيوخهم".
(1/187)
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل/ 35]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20]. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} [يس/ 47]. فهذه أربعة مواضع في القرآن بيّن سبحانه فيها أنَّ الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل. وقد افترق النَّاسُ في الكلام على هذه الآيات أربعَ (1) فرق: الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجَّة حجة صحيحة، وأنَّ للمحتجِّ بها الحجَّةَ على اللَّه. ثمَّ افترق هؤلاء فرقتين: فرقةً كذَّبتْ بالأمرِ والوعد والوعيد، وزعمت أنَّ الأمرَ والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلمًا، واللَّه لا يظلم من خلقه أحدًا. وفرقةً صدَّقت بالأمر والنَّهي والوعد والوعيد، وقالت: ليس ذلك بظلم، واللَّه يتصرَّف في ملكه كما (2) يشاء، ويعذِّب (3) العبدَ على ما لا صنع له فيه، بل يعذِّبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ __________ (1) في الأصل و"ف": "أربعة"، ولعله سهو. وذلك أنّ المؤلف كتب في الأصل أوّلًا: "فرقًا أربعة"، ثم ضرب على "فرقًا"، وترك العدد على حاله، وكتب بعده: "فرق". والمثبت من "ك، ط". (2) "ك، ط": "كيف". (3) "ف": "تعذيب"، تحريف.
(1/188)
العبد لا فعلَ له، والملكُ ملكُه، ولا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. فإنَّ هؤلاء الكفَّار إنَّما قالوا هذه المقالة التي حكاها اللَّه عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقادًا للقضاء والقدر وإسنادًا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم يُنكَر ذلك (1) عليهم! ومضمون قول هذه الفرقة أنَّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء، فيكون للمشركين على اللَّه الحجة. وكفى بهذا القول فسادًا وبطلانًا. الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجَّةً لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة، إذ لو صحَّت المشيئة العامة، وكان اللَّه عزَّ وجلَّ قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان، لكانوا قد قالوا الحقَّ، وكان اللَّه عزَّ وجلَّ يصدِّقهم عليه، ولم ينكر عليهم. فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دلَّ على أنَّ هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنَّهم كاذبون فيه. إذ لو كان علمًا لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام/ 148]. وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجَّةً لها على التكذيب بالقضاءِ والقدر، وزعمت بها أنَّه (2) يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاءُ ما لا يكون، وأنَّه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، بل (3) ولا على أفعال الحيوانات، وأنَّه لا يقدر أن يُضلَّ أحدًا ولا يهديه، ولا يوفقه (4) أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر، __________ (1) "ذلك" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "أن". (3) "بل" لم يرد في "ك، ط". (4) "ف": "يؤتيه". تحريف.
(1/189)
ولا يُلهِمه رُشْدَه، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصلّيًا، والبر برًّا، والفاجر فاجرًا، والمؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيَّزت إلى القدر، وحاربت الشرع. والثانية تحيَّزت إلى الشرع، وكذَّبت بالقدر. والطائفتان ضالَّتان، وإحداهما أضلّ من الأُخرى. الفرقة (1) الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرَّت بالأمر والنَّهي، ونزَّلوا كلَّ واحدٍ منزلته. فالقضاءُ والقدرُ يؤمَن به ولا يُحْتَجّ به، والأمر والنهي يُمتثل ويُطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادةِ أن لا إله إلا اللَّه، والقيامُ بالأمر والنهي موجَبُ شهادةِ أن محمدًا رسول اللَّه. وقالوا: من لم يُقِرَّ بالقضاء والقدر ويَقُمْ (2) بالأمر والنهي فقد كذَّب بالشهادتين، وإن نطق بهما بلسانه. ثمَّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقَتين: فرقة قالت: إنَّما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلًا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه (3)، فإنَّ الحكيم إذا كان قادرًا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفَعه ومنَع من وقوعه. __________ (1) "ك، ط": "والفرقة". (2) في الأصل: "ويقوم"، وكذا في "ف، ن"، والصواب ما أثبتنا من "ك، ط". (3) "ك، ط": "بينه وبينهم".
(1/190)
وإذا (1) لم يمنع من وقوعه لزم إمَّا عدم قدرته وإمَّا عدم حكمته، وكلاهما ممتنع في حقِّ اللَّه، فعُلِم محبتُه لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به! وقد وافق هؤلاء من قال: إنَّ اللَّه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم في أنَّه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم، وخالفهم في الشطر الآخر. وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأنَّ مشيئة اللَّه تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلُّوا بمشيئته على محبته ورضاه كذَّبهم، وأنكر عليهم، وأخبر أنَّه لا علم لهم بذلك وأنَّهم خارصون مفترون، فإنَّ محبة اللَّه تعالى للشيء ورضاه به إنَّما يُعلَم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرَّد خلقِه له (2). فإنَّه خلق إبليسَ وجنودَه، وهم أعداؤه، وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم، وهم خَلْقُه. فهكذا في الأفعال خلَق خيرَها وشرَّها، وهو يُحبُّ خيرَها ويأمر به ويثيب عليه، ويبغض شرَّها وينهى عنه ويعاقب عليه، وكلاهما خلقُه. وللَّه تعالى الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كلٌّ صادرٌ عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته. وقالت الفرقة الثانية: إنَّما أنكر عليهم معارضةَ الشرع بالقدر، ودفعَ الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجةُ اللَّه، ولزمهم أمرُه ونهيُه دفعوه __________ (1) "ك": "وإذ". (2) "له" ساقط من "ك، ط".
(1/191)
بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالًا لدعوة الرسل ودفعًا لما جاؤوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وورثتهم (1) الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم، وخالفوهم في النصف الآخر، وهو إقرارهم بالأمر والنهي. فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إمَّا في جميع تركتهم، وإمَّا في كثير منها، وإمَّا في جزءٍ منها. وهدى اللَّه بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء اللَّه وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنَّه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه مقلِّب القلوب ومصرّفها كيف أراد. وأنَّه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصلِّيًا، والمتقي متقيًا. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار. وأنَّه ألهمَ كلَّ نفس فجورها وتقواها، وأنَّه يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وأنَّه هو الذي وفَّق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه، ولو شاءَ لخذلَهم فعصَوه؛ وأنَّهُ حال بين الكفار وقلوبهم، فإنَّه يحول بين المرءِ وقلبه، فكفروا به، ولو شاءَ لوفَّقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنَّه من يهده (2) اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأنَّهُ لو شاءَ لآمن من في الأرضِ كلهم جميعًا إيمانًا يُثابون عليه، ويقبل منهم، ويرضى به عنهم. وأنَّه لو شاء ما اقتتلوا، ولكنَّ اللَّه يفعل ما يريد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ __________ (1) "ك، ط": "ذريتهم". (2) "ط": "يهد اللَّه".
(1/192)
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام/ 112]. والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب (1) جاء بها نبيهم، وأخبربها عن ربه: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض. الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنَّه لا خالق إلا اللَّه، واللَّه خالق كل شيء، فالخالق عندهم واحد، وما سواه فمخلوق، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق. ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنَّه حكيم في كل ما فعَله وخلَقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامَّة هي التي اقتضت صدورَ ذلك وخلقَه، وأنَّ حكمته حكمةُ حقٍّ عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارةً عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك. وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلَّق محبته وحمدِه، ولأجلها خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأماتَ فأحيا، وأسعد وأشقى، وأضلَّ وهدى، ومنع وأعطى. وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثباتُ الفعل مع نفيها إثباتٌ للوسائل ونفيٌ للغايات وهو محال، إذ نفيُ الغاية مستلزِم __________ (1) انظر: شفاء العليل (65).
(1/193)
لنفي الوسيلة، فنفيُ الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفيُ قيام الفعل والحكمة به نفيٌ لهما في الحقيقة، إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم شيء لا يُعقل. وذلك يستلزم إنكارَ ربوبيته وإلهيته. وهذا لازمٌ لمن نفى ذلك، لا محيدَ (1) له عنه وإن أبى التزامَه. وأمَّا من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حقٌّ، ولازم الحق حق كائنًا ما كان. والمقصود: أنَّ ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاءِ والقدر والحِكَمِ والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمرِ والنهي، وصدَّقوا بالوعد والوعيد. فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثباتُ القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمانُ بالوعد (2) والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب. فصدَّقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر (3) فكانوا (4) أسعدَ النَّاس بالحقِّ (5) وأقربَهم عصبةً في هذا الميراث النبوي. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل __________ (1) "ك، ط": "ولا محيد". (2) "ن": "إثبات الوعد". (3) "وبالقدر" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (4) "ك، ط": "وكانوا". (5) "ط": "بالخلق"، تحريف.
(1/194)
العظيم. واعلم أنَّ الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواصّ الخلق ولبّ العالم. وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسمّيات وجحدِ حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإنَّ القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني (1)، ويجعل قضاءَه وقدرَه هو نفسَ أمره ونهيه، ويفسر (2) مشيئة اللَّه لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك الحكمة، فإنَّ الجبرية تؤمن بلفظها وتجحد (3) حقيقتها، فإنَّهم يجعلونها مطابقةَ علمه تعالى لمعلومه، وإرادته لمراده. فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقةً، ويثبتون حكمةً زائدةً على ذلك، لكنَّهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقًا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقرُّوا بلفظ الحكمة، وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمرُ والشرع، فإنَّ من أنكر كلام اللَّه وقال: إنَّ اللَّه لم يتكلَّم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا يحبُّ شيئًا ولا يبغض شيئًا؛ وجميعُ الكائنات محبوبةٌ له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحِبّ، ولا يحَبّ (4)، ولا يرضى، ولا يغضب؛ ولا فرق في نفس الأمر بين __________ (1) "ف": "والنهي"، تحريف. (2) "ط": "نفس"، تحريف. (3) "ك، ط": "يجحدون". (4) "ولا يحَبّ" ساقط من "ك، ط".
(1/195)
الصدق والكذب، والبرّ والفجور (1)، والسجود للأصنام والشمس والقمر والنجوم وبين (2) السجود له. ولم يكلف أحدًا ما يقدر عليه، بل كلُّ تكاليفه (3) تكليفُ ما لا يطاق، ولا قدرة للمكلَّف عليه البتة. ويجوز أن يعذِّب رجالًا إذ لم يكونوا نساء، ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالًا، وسودًا حيث لم يكونوا بيضًا، وعكسه (4). ويجوزُ أن يُظهر المعجزةَ على أيدي الكذَّابين، ويُرسل رسولًا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريبَ (5) أنَّ هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية، ولو لا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحالُ بعضَ المشي بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقولِ بموجبها. والمقصود: أنَّه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقةَ الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتُهم. والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة اللَّه" (6). واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد __________ (1) "ط": "الصدق والفجور والكذب والفجور"، وحذفت "الفجور" الأولى من القطرية، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره. (2) "النجوم وبين" ساقط من "ط". (3) "ط": "تكليفه". (4) مكان "عكسه" في "ط": "وبيضًا حيث لم يكونوا سودًا". (5) كذا في الأصل وغيره، وهو في المعنى خبر "فإنّ" الواردة في أول الفقرة السابقة. (6) مسائل ابن هانئ (2/ 155)، مجموع الفتاوى (8/ 308).
(1/196)
غايةَ الاستحسان، وقال: إنَّه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر (1). ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذَّبت بالعلم السابق ونفَتْه، وهم غلاتهم الذين كفِّرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورةً للَّه تعالى، وصرَّحت بأنَّ اللَّه لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء كمالَ قدرة الرب تعالى، وأنكرت الأخرى كمالَ علمه. وقابلتهم الجبرية، فحافظت (2) على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة. ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين (3) من هذه الثلاث (4) كثيرًا كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر/ 1]. وقال: {حمَ} [غافر/ 1 - 2]. وقال في حم فصلت (5) بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت/ 12]. وذكر نظير هذا في الأنعام، فقال: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ __________ (1) وانظر شفاء العليل (63). (2) "ط": "فجاءت". (3) "والصفتين" ساقط من القطرية. (4) "ك، ط": "الثلاثة". وانظر في افتران الأسماء المذكورة ما سيأتي في ص (230). (5) "فصلت" ساقط من القطربة.
(1/197)
الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام/ 96] (1). فارتباطُ الخلق بقدرته التامَّة يقتضي أن لا يخرج موجودٌ عن قدرته، وارتباطُه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطُه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط (2) أمره بعلمه وحكمته وعزَّته، فهو عليمٌ بخلقه وأمره، حكيمٌ في خلقه (3) وأمره، عزيزٌ في خلقه وأمره (4). ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة (5) من صفاته العلى. والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والخبر عنه، والأمر به؛ فكل (6) هذا يسمَّى "حكمة". وفي الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن" (7). وفي __________ (1) هذه قراءة عاصم وغيره من الكوفيين، والوارد في الأصل وغيره قراءة الباقين، ومنهم أبو عمرو، ويظهر أنَّ قراءته هي المعتمدة فيها، وهي: "وجاعلُ الليلِ". انظر: الإقناع (2/ 641). (2) سقط "ارتباط" من "ط". (3) "ف": "بخلقه"، سهو. (4) "عزيز في خلقه وأمره" سقط من "ط". وأمَّا القطرية فأسقطت ما قبله أيضًا، وهو: "حكيم في خلقه وأمره". (5) "ف": "فالحكمة"، خلافًا للأصل. وكذا في "ك، ط". (6) "ف": "وكل"، وهي قراءة محتملة. (7) أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه. وأخرجه البيهقي في =
(1/198)
الحديث: "إنَّ من الشعر حكمة" (1). فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو (2) محمود على جميع ما في الكون من خيرٍ وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقُه وأمرُه. فمصدرُ ذلك كله عن الحكمة، فإنكارُ الحكمة إنكارٌ لحمده في الحقيقة (3). فصل وإنَّما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كلِّ ما خلقه اللَّه وأمرَ به، وبيان أنَّه كلّه خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنَّه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأنَّ جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبيّ (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- في دعاءِ الاستفتاح: "لبَّيك وسعديك، الخيرُ في يديك، والشرُّ ليس إليك" (5). فهذا النفي يقتضي امتناعَ إضافةِ الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضافُ إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله. فإنَّ ذاته تعالى منزَّهة عن كلِّ شرٍّ، وصفاته كذلك، إذ كلّها صفات كمال ونعوتُ جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، __________ = المدخل (844) عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. وجاء عن معاوية، وزيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن عبيد بن عمير. انظر: تبييض الصحيفة لمحمد عمرو عبد اللطيف (1/ 67). (ز). (1) أخرجه البخاري عن أُبيّ بن كعب رضي اللَّه عنه في كتاب الأدب (6145). (2) "ف": "فهو" خلافًا للأصل. (3) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (4) "النبي" لم يرد في "ك، ط". (5) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.
(1/199)
وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة؛ وهو المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه. وتحقيق ذلك أنَّ الشرَّ ليس هو إلا الذنوب وعقوبتها، كما في خطبته -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحمدُ للَّه، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا" (1). فتضمّن ذلك الاستعاذةَ من شرور النفوس، ومن سيئات الأعمال وهي عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى "اللام" من باب (2) إضافة المتغايرين. أو يقال: المرادُ السيئاتُ من الأعمال، فعلى هذا الإضافةُ بمعنى "من"، وهي من باب إضافة النوع إلى جنسه. ويدلُّ على الأوَّل قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر/ 9]. قال شيخنا رحمه اللَّه (3): وهذا أشبه، لأنَّه (4) إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنَّما تكون من عقوباتها، إذ الواقع لا يمكن رفعُه؛ وإن استعاذ منها قبل وقوعها لئلا يقع، فهذا هو الاستعاذة (5) من شرِّ النفس. وأيضًا فلا يقال في هذه التي لم توجد بعدُ: "سيئات أعمالنا"، فإنها __________ (1) أخرجه أحمد (3721، 4116)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، وابن ماجه (1892) بإسناد صحيح. (2) "ن": "وهي من باب". (3) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وانظر قوله في مجموع الفتاوى (18/ 289). (4) "لأنَّه" ساقط من "ط". (5) "لا يمكن رفعه. . . الاستعاذة" ساقط من "ط".
(1/200)
لم تكن بعدُ أعمالًا فضلًا عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضي وجودها، إذ ما (1) لم يوجد بعدُ ليس هو من أعمالنا، إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التي إذا عملناها كانت سيئات. ولمن رجَّح التقدير الثاني أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرَّمات منها، والأعمال أعم، وحملُها على المحرمات خاضَةً خلافُ ظاهر اللفظ. بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى "من"، فتكون الأعمال على عمومها، والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها، والأعمال على عمومها (2). ويترجَّح أيضًا بأن (3) الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشرّ كله، وهي (4) شرّ النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشرّ العمل الخارج الذي سوَّلته النفس. فالأوَّل شر الطبيعة والصفة التي في النفس، والثاني شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة. ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاةُ من موجَبهما، وهو العقوبة؛ فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم. وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم، فإنَّ هذا من جوامع كلمه البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرَها إلا أهلُ العلم والإيمان (5). __________ (1) "ما" سقط من "ط" واستدرك في القطرية. (2) "والأعمال على عمومها" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "أنَّ". (4) "ط": "هو". (5) وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 151)، وبدائع الفوائد (716)، والداء والدواء (178).
(1/201)
وإذا عُرِفَ هذا، وأنَّه (1) ليس في الوجود شرٌّ إلا الذنوب وموجباتها، وكونُها ذنوبا ناشئ (2) من نفس العبد، فإنَّ سبَب الذنب الظلمُ والجهلُ، وهما من نفس العبد؛ كما أنَّ سببَ الخير والحمَدِ العلم (3) والحكمة والغنى، وهي أمور ذاتية للرب تعالى. فذاتُ (4) الرب تعالى مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذاتُ العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنَّما حصل له بفضل اللَّه عليه، وهو أمرٌ خارجٌ عن نفسه. فمن أراد اللَّه به خيرًا أعطاه هذا الفضل، فصدرَ منه موجَبه (5) من الإحسان والبر والطاعة. ومن أراد به شرًا أمسكه عنه، وخلَّاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجبُ الجهل والظلم من كلِّ شرٍّ وقبيح. وليس منعه لذلك ظلمًا منه تعالى، فإنَّه فضلُه، وليس من منع فضله ظالمًا، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به. وأيضًا فإنَّ هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده، ويوفقَه، ويعينَه، ولا يخليَ بينه وبين نفسه؛ وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر فيه (6)، ويزكو به. __________ (1) قراءة "ف": "فإنَّه". (2) "ك، ط": "تأتي"، ولعله تصحيف. (3) "ط": "الخير الحمد والعلم". (4) "ك، ط": "وذات". (5) "موجبه من" ساقط من "ط". (6) "ك، ط": "به".
(1/202)
وقد أشارَ تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام/ 53] فأخبر سبحانه أنَّه أعلمُ بمن يعرف قدرَ هذه النعمة ويشكره عليها. فإنَّ أصلَ الشكر هو الاعترافُ بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا بها لم يشكرها؛ ومن عرفها ولم يعرف (1) المنعمَ بها لم يشكرها أيضًا؛ ومن عرفَ النعمة والمنعم لكن جحَدها كما يجحد المنكِر لنعمة المنعِم عليه (2) فقد كفرها. ومن عرف النعمةَ والمنعِمَ، وأقرَّ بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له، ويحبَّه، ويرضَ به (3) وعنه، لم يشكرها أيضًا. ومن عرفها، وعرف المنعِم بها، وأقرّ بها (4)، وخضعَ للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها. فلا بُدَّ في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، كما في صحيح البخاري (5) عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا __________ (1) قوله: "النعمة بل" إلى هنا سقط من "ك" لانتقال النظر. (2) "ك، ط": "عليه بها". (3) "ف": "يرضى". قراءة محتملة. وإثبات حرف العلّة في موقع الجزم لغة لبعض العرب. انظر: شواهد التوضيح (21). (4) "وأقرَّ بها" ساقط من "ط". (5) كتاب الدعوات (6306، 6323)، وسيأتي مرة أخرى مع تفسيره في (352).
(1/203)
بها فماتَ من يومه دخل الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة". فقوله: "أبوءُ لك بنعمتك عليَّ" يتضمن الإقرار والإنابة إلى اللَّه بعبوديته، فإنَّ المباءة هي التي يبوء إليها الشخص، أي يرجع إليها رجوع استقرار، والمباءَة هي المستقر. ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كذبَ عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعدَه من النَّار" (1) أي لِيتَّخِذْ مقعدَه من النَّار مباءَةً يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه. فالعبدُ يبوءُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، فيرجع (2) إليه بالاعتراف بهذا وبهذا، رجوعَ مطمئن إلى ربَّه منيبٍ إليه، ليس رجوعَ من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوعَ من لا يُعرض عن ربه، بل لا يزال مقبلًا عليه، إذ (3) كان لا بد له منه (4). فهو معبوده، وهو مستعانه (5)، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبودَه هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفي الحديث: "مثل المؤمن مثل الفرس في آخيّته (6): يجولُ ثمَّ يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يجولُ ثمَّ يرجع __________ (1) أخرجه البخاري في العلم (110) وغيره، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) "ن": "فرجع". "ك، ط": "ويرجع". (3) "ط": "إذا"، خطأ. (4) "ليس رجوع من أقبل. . . " إلى هنا ساقط من "ن". (5) "ك، ط": "مستغاثه"، تصحيف. (6) الآخيَّة بالمد والتشديد، ويجوز بالتخفيف: العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرضِ. قاله أبو عبيد. اللسان (أخا).
(1/204)
إلى الإيمان" (1). فقوله: "أبوءُ" يتضمن أني وإن جُلْتُ كما يجول الفرس -إمَّا بالذنب وإمَّا بالتقصير في الشكر- فإنِّي راجع منيب أوَّاب إليك، رجوعَ من لا غنى له عنك. وذكر النعمةَ والذنبَ لأنَّ (2) العبد دائمًا يتقلب بينهما، فهو بين نعمةٍ من ربِّه وذنبٍ منه هو، كما في الأثر الإلهي: "ابنَ آدم خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد. كم أتحبَّب إليك بالنعم، وأنا غني عنك! وكم تتبغض إليَّ بالمعاصي، وأنت فقير إلي! ولا يزال الملك الكريم يعرُج إليَّ منك بعمل قبيح" (3). وكان في زمن الحسن البصري شابّ لا يُرى إلا وحده، فسأله الحسن عن ذلك فقال: إنِّي أجدني بين نعمةٍ في اللَّه وذنبٍ منِّي، فأريد أن أحدِثَ __________ (1) أخرجه أحمد (1526)، وابن حبان (616)، وأبو الشيخ في الأمثال (352) وغيرهم. وفي سنده ضعف. تفرَّد به أبو سليمان الليثي عن أبي سعيد الخدري. وأبو سليمان مجهول. وفيه عبد اللَّه بن الوليد، فيه ضعف. قال ابن طاهر المقدسي: حديث غريب لا يذكر إلا بهذا الإسناد. انظر: تعجيل المنفعة (2/ 473). (ز). (2) "ف": "أنّ"، خلافًا للأصل. (3) نقله المصنف في المدارج (1/ 545)، والزاد (2/ 409)، وشفاء العليل (364)، وسيأتي مرّة أخرى في ص (687). أخرجه نعيم في الحلية (4/ 31) عن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت اللَّه تعالى يقول. . . (ص). وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (43) عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب: إن اللَّه عزّ وجّل يقول. . . فذكره. (ز).
(1/205)
للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، فذلك الذي شغلني عن النَّاس، أو كما قال. فقال له: "أنت أفقه عندي (1) من الحسن" (2). فالخيرُ كله من اللَّه كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل/ 53]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ} [الحجرات/ 7 - 8]. وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات/ 17]. وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة/ 6 - 7]. وهؤلاء المنعَم عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69]. فالنعم كلُّها -من (3) نعم الدِّين والدنيا، وثواب الأعمال في الدنيا والآخرة (4) - من نِعَمِ اللَّه ومنِّه (5) وفضله على عبده. وهو تعالى، وإن __________ (1) لم يرد "عندي"، في "ك، ط". (2) نقله المصنف في عدة الصابرين (243)، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (196). (3) "من" ساقط من "ك". (4) قوله "من نعم الدين. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (5) "ومنّه" ساقط من "ط".
(1/206)
كان أجودَ الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإنَّه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جودُه ورحمتُه وفضلُه حكمتَه وعدلَه. ولو رأى العقلاءُ أحدًا منهم قد وضع المِسك في الحشوش والأخلية، ووضَع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتدَّ نكيرهم عليه والقدحُ في عقله، ونسبوه إلى السفَه وخلاف الحكمة. وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، والإحسانَ موضع العقوبة لسفَّهوه، وقدحوا في عقله، كما قال القائل: ووضعُ النَّدى في موضع السَّيف بالعلا ... مُضِرٌّ كوضع السَّيفِ في موضعِ النَّدى (1) وكذلك لو وضع الدواءَ موضع الغذاء، والغذاءَ موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه، والإمساكَ حيث يليق الاستفراغ. وكذلك وضع الماء موضعَ الطعام، ووضع (2) الطعام موضعَ الماء، وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يُخلق له من العلوم والصنائع. فمن بهرت حكمتُه العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها؟ ومن المعلوم أنَّ أجلَّ نعمِه على عبده نعمةُ الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضًا أنَّ الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث __________ (1) للمتنبي في ديوانه (533). (2) "وضع" ساقط من "ط".
(1/207)
منه، ومنها الطيب، وبين ذلك؛ وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي، والقلب الخسيس الخبيث. وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار، والبر والبحر (1)، والحر والبرد (2)، والداءَ والدواء، والعلو والسفل؛ وهو أعلمُ بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها (3) فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم (4) كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذرِ بالبذرِ. فليس من الحكمة أن يبذرَ البُرُّ في الصخور والرمال والسِّباخ (5)، وفاعل ذلك غير حكيم، فما الظنُّ ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحالّ التي هي أخبث المحالّ. فاللَّه عزَّ وجلَّ أعلم حيث يجعل رسالاته أصلًا وميراثًا، فهو أعلمُ بمن يصلح لتحمّلِ رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة، والنصيحة، وتعظيم المرسِل، والقيامِ بحقه، والصبر على أوامره، والشكر لنعمه، والتقرب إليه؛ ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رُسله، والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلَّغوه عن ربِّهم. قال عبد اللَّه بن مسعود: "إنَّ اللَّه تعالى نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خيرَ قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته. ثمَّ نظر في __________ (1) "والبر والبحر" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "البرد والحر". (3) "ط": "بذورها"، وصحح في القطرية. (4) "ط": "النعمة". (5) جمع سَبَخَة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
(1/208)
قلوب العباد، فرأى قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبته" (1). وفي أثر إسرائيلي (2): أنَّ اللَّه تعالى قال لموسى: أتدري لمَ اخترتُك لكلامي؟ قال: لا يا رب. قال: لأنِّي (3) نظرتُ في قلوب العباد، فلم أرَ فيها أخضعَ من قلبك لي. أو نحو هذا (4). فالربُّ سبحانه إذا علمَ من المحلّ (5) أهليَّةً لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبَّبَ إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، ووفَّقه له، وأعانه عليه، ويسَّرَ له طرقَه، وأغلق دونه الأبوابَ التي تحول بينه وبين ذلك. ثمَّ تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظمَ (6) من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسِن لولده الذي هو أحب شيء إليه. فلا يزال يعامله بلطفه، ويختصه بفضله، ويؤثره برحمته، ويمده بمعونته، ويؤيده بتوفيقه، ويُريه مواقع إحسانه إليه وبرّه به؛ فيزداد العبدُ به معرفةً، وله محبَّةً، وإليه إنابةً، وعليه توكلًا؛ ولا يتولى معه غيره، ولا يعبد (7) سواه. وهذا هو الذي عرفَ قدرَ النعمة، وعرف المنعم، وأقرَّ بنعمته، وصرفها في مرضاته؛ فاقتضت (8) حكمة الرب تعالى وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر __________ (1) أخرجه أحمد (3600)، والبزار كما في كشف الأستار (130)، وسنده حسن. (ز). (2) "ط": "أثر بني إسرائيل". وكذا كان في "ك" ثمَّ عدّل في المتن. (3) "ط": "إني". (4) نقل الذهبي نحو هذا عن وهب بن منبه في سير أعلام النبلاء (15/ 498). (5) "ك، ط": "محل". (6) "ط": "أحسن". (7) "ك، ط": "ولا يعبد معه". (8) "ك، ط": "واقتضت".
(1/209)
في هذا القلب بذر الإيمان والمعرفة، وسقاه ماءَ العلم النافع والعمل الصالح، وأطَلع عليه من نوره شمسَ الهداية، وصرف عنه الآفاتِ المانعة من حصولِ الثمرة، فأنبتت أرضُه الزاكية من كل زوجٍ كريم، كما في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مثلُ ما بعثني اللَّه به (1) من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكان منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماءَ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها طائفة أجادبُ أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا. وأصاب منها طائفةً أخرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقُه في دين اللَّه ونفعه بما بعثني اللَّه به، ومثل من لم يرفع في بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللَّه الذي أُرسِلتُ به" (2). فمثَّل القلوب بالأرضِ التي هي محل النبات والثمار، ومثَّل الوحيَ الذي وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماءِ الذي ينزله على الأرضِ. فمن الأرضِ أرضٌ طيبة قابلةٌ للماءِ والنبات، فلمَّا أصابها الماءُ أنبتت ما انتفع به الآدميون والبهائم: أقواتَ (3) المكلفين وغيرهم. وهذه بمنزلة القلبِ القابل لهدى اللَّه ووحيه، المستعدّ لزكائه (4) وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين. ومن الأرضِ أرضٌ صلبةٌ منخفضةٌ غيرُ مرتفعة ولا رابية، قابلةٌ لحفظ الماءِ واستقراره فيها، ففيها قوَّة الحفظ وليس فيها قوَّة النبات؛ فلمَّا __________ (1) لم يرد "به" في "ك، ط". (2) أخرجه البخاري في كتاب العلم (79)، ومسلم في كتاب الفضائل (2282). (3) "ط": "وأقوات" بزيادة الواو. (4) "ف": "لزكاته".
(1/210)
حصلَ فيها الماءُ أمسكته وحفظته، فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم، وسقوا منه زروعهم (1). وهذا بمنزلة القلب الَّذي حفظ الوحيَ، وضبَطَه، وأدَّاه إلى من هو أفهمُ له منه، وأفقه منه فيه (2)، وأعرف بمراده؛ وهذا في الدرجة الثانية. ومن الأرضِ أرضٌ قيعانٌ -وهي المستوية التي لا تنبت إمَّا لكونها سَبَخةً (3) أو رمالًا، ولا يستقر فيها الماء- فإذا وقع عليها الماءُ ذهبَ ضائعًا لم تمسكه لشرب الناس، ولم تُنبت به كلأ، لأنَّها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلأ والعشب. وهذَا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى اللَّه ولم يرفعوا به رأسًا، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين. بل لابد لكلِّ مسلم أن يزكو الوحيُ في قلبه، فينبت من العمل الصالح، والكلم الطيب، ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته. فمن لم ينبت قلبُه شيئًا من الخيرِ البتة، فهذا من أشقى الأشقياء. فصلوات اللَّه وسلامه على مَن الهدى والبيانُ والشفاءُ والعصمةُ في كلامه وفي أمثاله (4). والمقصود: أنَّ اللَّه سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ممن (5) لا يصلح، وأنَّ حكمته تأبى أن تضع (6) ذلك عند __________ (1) "ك": "زرعهم". (2) "فيه" ساقط من "ك، ط". (3) في الأصل: "صبخة"، ولعله سبق قلم، وكذا في "ف، ن". (4) وانظر شرح الحديث المذكور في مفتاح دار السعادة (1/ 246)، والرسالة التبوكية (61). (5) "ط": "ومن". (6) "ط": "يضع".
(1/211)
غير أهله، كما تأبى أن تمنعه (1) من يصلح له. وهو سبحانه الَّذي جعل المحلّ صالحًا وجعله أهلًا وقابلًا، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبَّب. ومن اعترض بقوله: فهلَّا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد! فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأضداد، وهلَّا جعلها كلَّها شيئًا (2) واحدًا! فلم خلق الليل والنهار، والفوق والتحت، والحر والبرد، والداءَ والدواء (3)، والشياطين والملائكة، والروائح الطيبة والكريهة، والحلو والمر، والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطرُ من له أدنى مُسْكةٍ من عقل بمثل هذا السؤال الدَّال على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجَب (4) ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها. وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها إليه؛ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالمِ إلا من لوازم ربوبيته وملكه؛ فهل يكون رزَّاقًا وغفَّارًا وعفوًّا (5) ورحيمًا وحليمًا (6)، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له، __________ (1) "ط": "يمنعه". (2) "ط": "سببًا"، تصحيف. (3) "ك، ط": "الداء والدواء". (4) "ط": "بموجب"، وصحح في القطرية. (5) "ك": "غفورًا"، تحريف. (6) "ط": "حليمًا رحيمًا"، وسقط "رحيمًا" من القطرية.
(1/212)
ويعفو عنه، ويحلم عنه، ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويُري أولياءَه كمال نعمتِه واختصاصه إيَّاهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل في الحكمة الإلهية تعطيلُ الخير الكثير لأجل شرٍّ جزئي يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الَّذي يحيى اللَّه به (1) البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصَّار (2)، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة (3)؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل (4) هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتَفلةٍ في بحر؟ وهل تعطيلُه لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجِبًا (5) لأعظم المفاسد والهلاكِ؟ وهذه الشمس التي سخَّرها اللَّه لمنافع عباده (6) وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها = كم تؤذي مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبةً وكم تُعطِش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تنشِف من مورد، وتحرق من زرع! ولكن أين يقع هذا في جنبِ ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية، والمُكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجلِ الشر __________ (1) "ك، ط": "يحيى به اللَّه". (2) "ط": "قصاد" بالدال، تحريف. والقصار: الَّذي يدُق الثياب بالقَصَرة -قطعة من الخشب- ويبيضها. (3) "ك، ط": "من مصلحة". (4) في "ن": "فهل". (5) كذا بالنصب في الأصل وغيره، وموضعه الرفع لكونه خبر المبتدأ. (6) "ك": "العباد".
(1/213)
اليسير شرٌّ كبير (1)، وهو خلافُ موجب الحكمة الَّذي تنزَّه اللَّه سبحانه عنه. قلتُ لشيخ الإسلام (2): فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجرَّدةً عن المفاسد، مشتملةً على المصلحة الخالصة. فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإنَّ وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خُلِقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالمًا آخر غير هذا. قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفك عنه، كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى. فإذا قيل: لم لم تخلق الحركةُ المعيّنةُ باقيةً؟ قيل: لأنَّ ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هي في ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل/ 78] وإنَّما يأتيها العلم والقدرة والغنى من اللَّه بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن اللَّه، وماحصلَ لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال. والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو خلقت (3) على غير ذلك لم تكن هي هذه النفس الإنسانية بل مخلوقًا آخر. فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشرُّ الَّذي يحصل لها نوعان: عدم، ووجود. __________ (1) هذه قراءة "ف، ن". وفي "ك، ط": "كثير". (2) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه، كما في نسخة "ف" تحت السطر. (3) "ك، ط": "جعلت".
(1/214)
فالأَوَّل كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات، وعدم العمل بها. وهذا العدم ليس له فاعل، إذ العدم المحض لا يكون له فاعل؛ لأنَّ تأثير الفاعل إنَّما هو في أمر وجودي. وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإنَّ العدم ليس بشيءٍ (1) أصلًا، وما ليس بشيءٍ لا يقال إنَّه مفعول لفاعل، فلا يقال إنَّه من اللَّه، إنَّما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية. ولهذا من قول المسلمين كلهم: "ما شاءَ اللَّهُ كان، وما لم يشأ لم يكن"، فكلُّ كائن فبمشيئته كان، وما لم يكن فلعدم مشيئته (2). والعدمُ يعلَّل بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود المانع أخرى. وقد يقال: علَّة العدم عدمُ العلة. وبعضُ الناسِ يقول: الممكن لا يترجح أحدُ طرفيه على الآخر (3) إلا بمرجِّح، فلا يوجد إلا بسبب، ولا يعدم إلا بسبب. قال (4): والتحقيق في هذا أنَّ العدم ليس له فاعل ولا علَّة فاعلة أصلًا، بل (5) إذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة، أي عدمُ العلة استلزمَ عدمَ المعلول، وعدمُ الشرط استلزم عدمَ المشروط، فإذا قيل: عُدِمَ لِعدم علَّته (6)، أي عدمُ علَّته (7) __________ (1) في الأصل: "لشيء" باللام هنا وفي الجملة التالية. وكذا في "ف"، ولعله سهو. (2) انظر: مجموع الفتاوى (14/ 16). (3) "على الآخر" ساقط من "ط". (4) يعني شيخ الإسلام (5) "بل" ساقطة من "ك". وفي "ط": "أصلا وإذا". (6) "ط": "علَّة". (7) "أي عدم علَّته" ساقط من "ف، ط".
(1/215)
مستلزم (1) لعدمه. والنفس تطلب سببَ العدم، فتقول: لِمَ لَمْ يوجَد كذا؟ فيقال: لعدم كذا، فيضاف عدم المعلول (2) إلى عدم علَّته، لا إضافة تأثير، ولكن إضافة استلزام وتعريف. وأمَّا التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضيًا للعدم، وأمَّا إذا أُريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدمَ الحكم سواءٌ كان المقتضى موجودًا أو لم يكن. والمقصود أنَّ ما عدمته النفس من كمالها فمنها، فإنَّها لا تقتضي إلا العدم، أي عدمُ استعداد نفسه (3) وقوَّتَها هو السبب في عدم هذا الكمال. فإنَّه كما يكون أحد الوجودين سببًا للآخر، فكذلك أحد العدمين يكون سببًا لعدم الآخر. والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضي لإيجاده، وأمَّا المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يُحدث العدم، بل يكفي في استمراره عدمُ مشيئة الفاعل المختار له. فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن لانتفاء مشيئته، فانتفاءُ مشيئةِ كونه سببُ عدمه. وهذا معنى قولهم: "عدمُ علَّة الوجود علَّةُ العدم". وبهذا الاعتبار الممكنُ القابلُ للوجود والعدم لا يترجَّح أحدُ طرفيه (4) إلا بمرجِّح، فمرجِّح عدمه عدمُ مرجِّحه، ومعنى الترجيح والسببية ههنا الاستلزام لا التأثير، كما تقدم. فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ. __________ (1) في الأصل: "مستلزمة" ولعله سهو، وكذا في "ف، ك، ط"، والصواب ما أثبتنا من "ن"؛ لأنَّ الخبر للعدم لا للعلَّة. (2) "ط": " المعلوم"، تحريف. (3) "ط": "نفسها"، خطأ. (4) زاد في "ك، ط": "على الآخر".
(1/216)
وأمَّا الشر الثاني، وهو الشر الوجودي -كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم. فإنَّه متى عُدِمَ العلم (1) النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشرُّ والجهلُ وموجبُهما، ولا بدَّ، لأنَّ النفس لا بدَّ لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد. وهذا الشرُّ الوجودي هو من خلقه تعالى، إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كلُّ ما خلقه اللَّه فلا بد أن يكون له في خلقه حكمةٌ لأجلها خلَقَه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة. وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة التي هي أحبُّ إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإنَّ في وجودها من الحكمة (2) والغايات التي يُحمد عليها سبحانه أضعافَ ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع. وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر، مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء (3) لا يكون إلا مع وجود لوازمه وأنتفاءِ أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعًا لغيره، وحينئذٍ فقد يكون هدي هذه النفوس الفاجرة وسعادتها (4) مشروطًا بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضدادٍ لم تنتفِ. فإن قيل: فهلَّا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو __________ (1) "ك": "ذلك العلم". (2) "ن": "الحكم". (3) "ووجود الشيء" ساقط من "ف". (4) "ك، ط": "شهادتها، تحريف.
(1/217)
السؤال الأوَّل، وقد بينَّا أنَّ لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالَم لا بدَّ منها، فلو قُدِّرَ عدمُها لم يكن هذا العالم بل عالمًا آخر ونشأةً أخرى وخلقًا آخر. وبينَّا أنَّ هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلَّا تجرد الغيث والأنهار عمَّا يحصل به من تغريق وتعويق (1) وتخريب وأذى؟ وهلَّا تجردت الشمس عمَّا يحصل منها من حرّ وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عمَّا يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلَّا تجردت الولادة عن (2) مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلَّا تجرَّد بدن الإنسان (3) عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغيّر أحواله؟ وهلَّا تجردت فصول العام عمَّا يحدث (4) فيها من البرد الشديد القاتل، والحر الشديد المؤذي؟ فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لمَ كان المخلوق فقيرًا محتاجًا، والفقرُ والحاجةُ صفةُ نقص، فهلَّا تجرد منها وخُلِعت عليه خلعةُ الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًّا غنًى مطلقًا، ومعلوم أنَّ لوازم الخلق لا بدَّ منها فيه؟ ولا بدَّ للعلو من سفل، وللسفل (5) من مركز. ولوازمُ العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات، وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها، وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوَّة __________ (1) "وتعويق" ساقط من "ط". (2) "ط": "من"، وأصلح في القطرية. (3) "ك": "الحيوان". (4) "يحدث" ساقط من "ك، ط". وفي "ن": "يحصل". (5) "ط": "والسفل".
(1/218)
والتجرد من علائق المواد السفلية (1) لا بدَّ منها. ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر، ولوازم ذلك من الظلمة والغلظ والشر، وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشرِّيرة وأعمالها وآثارها لا بدَّ منها (2). فهما عالمان علوي وسفلي، ومحلَّان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خُلِقَ كلٌّ (3) من المحلّين معمورًا بأهليه وساكنيه، حكمةً بالغةً وقدرةً قاهرةً. وكلٌّ من هذه الأرواح لا يليق بها غيرُ ما خُلِقَتْ له ممَّا يناسبها ويشاكلها. قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء/ 84] أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول النَّاس: "كل إناءٍ بالذي فيه ينضَح" (4). فمن أرادَ (5) من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورةً للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأَعلى فقد أراد ما تأباه حكمةُ أحكم الحاكمين. ولو أنَّ ملِكًا من ملوك الدنيا جعل خاصَّته وحاشيته سِفْلةَ النَّاس وسَقَطَهم وغَرَثَهم (6) الذين __________ (1) "ط": "العلية"، تحريف، وكذا كان في "ك"، فأصلح في المتن. (2) "ك": "منه". (3) "ك، ط": "كلًّا". (4) ويروى "يرشح". انظر: مجمع الأمثال (3/ 58)، وعلى الوجهين روي قول كشاجم (ديوانه: 92): ويأبى الذي في القلب إلّا تبيّنًا ... وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينضَحُ (5) "ط": "أرادت". (6) كذا في الأصل وغيره. وفي ط: "غِرَّتهم". لم تثبت كتب اللغة ما ورد في الأصل، وقد اقتبسه المؤلف من قول الجنّة في حديث المحاجّة بينها وبين النار: "ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وغرثهم وسقطهم". أخرجه مسلم (2846). وضبطه القاضي عياض في إكمال المعلم (8/ 377) بفتح الغين =
(1/219)
تناسبت (1) أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدَحَ النَّاسُ في ملكه وقالوا: لا يصلُح للمُلك. فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالكِ الملوك في داره وتمتُّعِهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيبُ خلقه وأزكاهم وأشرفهم؟ أفَيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روحٌ سفليةٌ أرضيةٌ قد أخلدت إلى الأرضِ، وعكفت على ما تقتضيه طباعها (2) مما يشاركها (3) فيه بل قد يزيد عليها (4) الحيوانُ البهيم، وقصرت همتها عليه، وأقبلت بكليتها عليه، لا ترى نعيمًا (5) ولا لذَّة ولا سرورًا إلا ما وافق طباعها من مأكل (6) ومشربٍ ومنكح من أين كان وكيف اتَّفق. فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلبُ والطبعُ على قلوب (7) هذه الحيوانات __________ = المعجمة وفتح الراء وثاء بعدها مثلّثة، وقال: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا، وفسّرها بمعنى أهل الفاقة والجوع. وقال في مشارق الأنوار (2/ 130): "كذا في حديث عبد الرزاق عند كافة الرواة". وقد رويت الكلمة على وجهين آخرين: "عجزتهم" جمع عاجز، و"غِرّتهم" أي البله الغافلون. قال النووي: وهو الأشهر في نسخ بلادنا. انظر شرحه لصحيح مسلم (17/ 187 - 188). (1) "ك، ط": "تتناسب". (2) "ك، ط": "طبائعها". (3) "ط": "تشارك فيه". (4) "ك، ط": "تزيد على الحيوان". (5) "ن": "مغنما"، تحريف. (6) "ط": "كل مأكل". (7) "ط": "على [شاكلة] قلوب" والزيادة التي بين الحاصرتين لا حاجة إليها. انظر ما سبق في ص (212): "وجعل القلوب على قلب واحد".
(1/220)
وطباعها، وربما كانت طباعُ الحيوانات خيرًا من طباع هؤلاء وأسلمَ وأقبلَ للخير. ولهذا جعلهم سبحانه شرَّ الدواب، فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال/ 22، 23]. فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شرِّ البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حالٍ واحدة من النعيم أو العذاب؛ قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 - 36]. فأنكر عليهم الحكم بهذا، وأخرجه مخرجَ الإنكارِ لا مخرجَ الإخبار، لينبه العقول على أنَّ هذا ممَّا تحيله الفطَر وتأباه العقول السليمة. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر/ 20]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص/ 28]. وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر/ 9]. بل الواحد من الخلق لا تستوي أعاليه وأسافله، فلا يستوي عقِبُه وعينُه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر. واللَّه (1) عَزَّ وَجَلَّ قد خلق الخبيث والطيب، والسهل والحزن، والضار والنافع. وهذه أجزء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين، ومنها ما يصلح للأتُّون (2) والنار. وبهذا ونحوه يُعرَف كمال القدرة وكمال الحكمة. فكمال القدرة __________ (1) "ك، ط": "فاللَّه". (2) وهو الموقد الكبير.
(1/221)
بخلق الأضداد، وكمالُ الحكمة بتنزيلها (1) منازلها ووضع كلٍّ منها في موضعه. والعالِمُ من لا يُلقي الحربَ بين قدرة اللَّه وحكمَته، فإن آمن بالقدرة قدَحَ في الحكمة وعطَّلها، وإن آمن بالحكمة قدَح في القدرة ونقَضها (2)؛ بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولهما لجميع ما خلقه اللَّه ويخلقه، فكما أنَّه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته، فكذلك لا يكون إلا بحكمته. وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلًا، فيكفيها الإيمانُ بما تعلَم وتشاهد منه، ثمَّ تستدل على الغائب بالشاهد، وتعتبر ما علمت بما لم تعلم (3). وقد ضربَ اللَّه سبحانه الأمثال لعباده في كتابه، وبيَّن لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الَّذي به حياتهم وأقواتهم وحياةُ الأرضِ والدوابّ، وما خلقه لهم من النار (4) التي بها صلاحُ أبدانِهم وأقواتِهم وصنائعهم، من الشر الجزِئي (5) المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك، فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد/ 17]. فأخبر سبحانه أنَّ الماءَ بسبب مخالطته الأرض (6) إذا سال فلا بد من __________ (1) "ك، ط": "تنزيلها". (2) الأصل غير منقوط، والمثبت من "ف" وغيرها. (3) كذا في الأصل وغيره، ولعل الصواب: "وتعتبر بما علمت ما لم تعلم". (4) في الأصل: "النار" وهو الصواب هنا، ولكن كأنَّه مضروب عليه، وفي "ف": "المعارف"، وفي "ك، ط": "المعادن "ويشبهه رسمه في "ن". (5) "ك، ط": "الشر والخير وبين المغمور"، تحريف. (6) "ك": "الأرض". "ط": "الماء بمخالطته سبسب الأرض"، تحريف.
(1/222)
أن يحمل السيل من الغثاء والوسخ وغيره زبدًا عاليًا على وجه السيل. فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصرُ نظرَه عليه، ولا يرى إلا غثاءً ووسخًا ونحو ذلك، ولا يرى ما تحته من مادة الحياة. وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس (1) وغيرها، إذا أُوقِد عليها في النار لتتهيأ للانتفاع (2) بها خرَج منها خَبَثٌ ليس من جوهرها ولا يُنتفَع به. وهذا لا بدَّ منه في هذا وهذا (3). وقد ذمّ تعالى من ضعفت بصيرتُه من المنافقين، وعميَ عمّا في القرآن ممّا به يُنال كل سعادة وعلم وهدىً وصلاح وخير في الدنيا والآخرة، ولم يجاوز (4) بصرُه وسمعُه رعودَ وعيده وبروقَها وصواعقَها، وما أعدّ اللَّه لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه، الَّذي هو -بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح، ومن (5) المعارف الإلهية، وتبيين (6) طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد- يسيرٌ (7)، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه. قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ __________ (1) "ف": "النحاس والحديد" خلافًا للأصل وغيره. (2) "ك، ط": "ليتهيأ الانتفاع". (3) في "ط" زيادة: "يجاوزه بصره"، ولعلها من آثار مجاوزة البصر! (4) "ط": "لمن لم يجاوز". (5) "من" ساقط من "ك". (6) ك": "وتبين"، "ط": "يبين". (7) "يسير" سقط من "ك، ط"، فاختلَّ معنى الجملة مع إصلاحها في "ط".
(1/223)
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة/ 17 - 20]. فهكذا حال كل من قصَر نظرَه في بعض مخلوقات الربِّ تعالى على ما لابدّ منه من شرٍّ جزئيّ جدًّا بالإضافة إلى الخير الكثير. ولو لم يكن (1) في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصّته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرًا ومصلحة، ومَن عداهم (2) -وإن كانوا أضعافَ أضعافِهم- فهم كالقَشّ والزبالة وغثاء السيل، لا يُعْبَأ بكثرتهم، ولا يقدح في الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفَر معه آلاف (3) مؤلَّفة من النوع الآخر. فإنّه إذا وُجد واحدٌ يوازن البريّةَ ويرجَح عليها كان الخيرُ الحاصلُ بوجوده والحكَمة والمصلحة أضعافَ الشرّ الحاصل من وجود أضداده، وأثبتَ وأنفعَ وأحبَّ إلى اللَّه من فواته (4)، بتفويت ذلك الشرِّ المقابل له. وهذا كالشمس، فإنّ الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشرّ المقابل له بها. وأين نفعُ الشمس وصلاحُ النبات والحيوان بها مِن نفع الرسلِ وصلاحِ الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفعِ سيّدِ ولدِ آدم، وصلاحِ القلوب و (5) الأبدان والدنيا والآخرة به؟ وقد ضُرب للنفس الإنسانية وما فيها من الخير والشرّ مثَلٌ بدولاب أو __________ (1) "ط": "تكن". (2) "ط": "عاداهم"، وكذا كان في "ك" ثمَّ أصلح في المتن. (3) "ك، ط": "لآلاف". (4) "ط": "فوته"، وأصلح في القطرية. (5) "ك، ط": "صلاح الأبدان والدين والدنيا".
(1/224)
طاحونٍ شديدِ الدوران، أيّ شيء خطَفه ألقاه تحتَه وأفسده، وعنده قيِّمُه الَّذي يديره (1)، وقد أحكمَ أمرَه لينتفع به ولا يضرَّ أحدًا. فربّما جاءَ الغِرّ الَّذي لا يعرف فيتقرّب منه (2)، فيخرق ثوبه أو بدنه، أو يؤذيه. فإذا قيل لصاحبه: لِمَ لَمْ تجعله ساكنًا لا يؤذي من اقترب منه؟ قال: هذه صفته اللازمة التي كان بها دولابًا وطاحونًا، ولو جُعِلَ (3) على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه. وكذلك إذا قدَّرنا (4) نار الأتُّون التي تُحرق ما وقع فيها، وعندها وقَّاد حاذق يحُشها (5)، فإذا غفل عنها أفسدت. وإذا أرادَ أحد أن يقرب منها نهاه وحذَّره، فإذا استغفله مَن قرب منها حتَّى أحرقته لم يقل لصاحب النَّار: هلَّا قلَّلتَ حرَّها لئلا تفسد من يقرب (6) منها وتُحرقه؟ فإنَّه يقول: هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تُحرق أحجارَ الكِلْس (7)، ولم تطبخ الآجُرّ، ولم تُنضِج الأطعمة الغليظة ونحو ذلك. فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النَّارِ من نفعها هو من فضل اللَّه ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خُلِقَت عليها، التي (8) لا تكون نارًا إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارًا، __________ (1) "ك": " يدبره". (2) "ك، ط": "فيقترب"، وأصلح في القطرية. (3) "جعل" سقط من القطرية. (4) كذا في الأصل و"ف". وفي "ك": "أوقد". وفي "ط": "أوقدنا". (5) أي يوقدها. وفي "ك": "يحشيها"، تحريف، وفي "ط": "يحشوها". (6) قراءة: "ف": "تقرب"، وهي غير منقوطة في الأصل. (7) الكِلس: الجير. (8) "ط": "والتي".
(1/225)
وكذلك النفس، ما (1) يحصل لها من شرٍّ فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها، وما حصل لها من خيرٍ فهو من فضل اللَّه ورحمته. واللَّه خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك. فأمَّا (2) الأمور العدمية فهي باقية على ما كانت عليه من العدم، والإنسان جاهل ظالم بالضرورة، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب/ 72]، فإنَّ اللَّه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا. والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف/ 33]، أي لم تنقص منه شيئًا (3)، وهي ظالمة نفسها فهي الظالمة المظلومة، إذ كانت منقوصةً من كمالها بعدم بعض الكمالات أو أكثرها منها (4). وتلك الكمالات التي عدمت كان وجودها سببًا لكمالات أخر، فصار عدمها مستلزمًا لعدم تلك الكمالات، فعَظُمَ النقص، واشتدَّ العيب بحسبه، وفقدت من لذَّاتها وسرورها ونعيمها (5) وبهجتها وروحها بحسب ما فقدت من تلك الكمالات (6) التي لا سعادة لها بدونها، فإنَّ أحد الموجودين قد يكون مشروطًا بالآخر فيستحيلُ وجوده بدونه، لأنَّ عدم الشرط يستلزمُ عدمَ المشروط. فإذا عدمت النفسُ هذا الكمالَ المستلزم لكمالٍ آخر مثلِه أو أعلى منه، وهي موصوفة بالنقص الَّذي هو __________ (1) "ك، ط": "فما". (2) "ك": "وأمَّا". (3) العبارة "والظلم هو النقص" إلى هنا ساقطة من "ط". (4) "ك، ط": "بها". (5) "ف": "ونعيمها وسرورها" خلافًا للأصل. (6) العبارة "فعظم النقص. . . " إلى هنا ساقطة من "ك، ط" لانتقال النظر، وقد استدركت فيما بعد في حاشية "ك".
(1/226)
الظلم والجهل ولوازمها من أصل الخلقة = صارت مستلزمة للشر، وقوَّةُ شرها وضعفُه بحسب قوتها وضعفها في ذاتها. وتأمَّلْ أَوَّلَ نقص دخَلَ على أبي البشر وسرى إلى أولاده كيف كان من عدم العلم والعزمِ. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه/ 115]. والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أو عدم الصبر كما فُسِّر بهما ههنا فهو أمر عدمي، ولهذا قال آدم لما رأى ما دخل عليه من ذلك: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. فإنه (1) اعترف بنقص حظِّ نفسِه (2) -بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الَّذي أوجبَ فواتَ حظِّه من الجنَّة. ثمّ قال: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23] فإنّه سبحانه إن لم يغفر السيئات الوجودية، فيمنعْ أثرها وعقابها، ويقي (3) العبدَ ذلك (4) وإلّا ضرَّتْه آثارُها ولا بدّ، كآثار الطعام المسموم إن لم يتداركه المداوي بشرب التِّرياق ونحوه وإلّا (5) ضرّه ولا بدّ. وإن لم يرحمه سبحانه بإيجاد ما به تصلُح (6) النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به وإلَّا خسِر، فالمغفرةُ (7) تمنع الشرّ، والرحمةُ توجب الخير، والربّ __________ (1) "ك، ط": "فإنَّه إذا". (2) "ط": "بنقصه خص نفسه" تحريف. (3) كذا في الأصل وغيره، وهي لغة، انظر ما سبق في ص (203). وفي "ط" "يقِ" على الجادة. (4) كذا في الأصل. وفي "ف" فوق العبد: "صح". وفي "ك، ط": "من ذلك". (5) "إلَّا" في هذه الجملة، وفي الجملة السابقة وفي الجمل الآتية واقعة في غير موقعها. انظر ما سلف في ص (44). (6) "ك، ط": "يصلح به". (7) "ط": "والمغفرة".
(1/227)
سبحانه إن لم يغفره للإنسان فيقيه السيئاتِ، ويرحمْه فيؤتيه (1) الحسناتِ وإلّا هلك ولا بدّ، إذ كان ظالمًا لنفسه ظلومًا بنفسه. فإنّ نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهي متحرّكة بالذات، فإن لم تتحرّك إلى الخير تحرّكت إلى الشرّ فضرّت صاحبَها. وكونُها متحرّكةً بالذات من لوازم كونها نفسًا لأنّ ما ليس حسّاسًا متحرّكًا بالإرادة فليس نفسًا. وفي (2) الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصدق الأسماء حارث وهمام" (3) فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام: الكثير الهمّ، والهمّ مبدأ الإرادة، فالنفس لا تكون إلّا مريدةً عاملةً؛ فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة وإلَّا وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضارّ (4). وقد قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج/ 19 - 22] فأخبر تعالى أنّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وإنّ من كان على غيرها فلأجل ما زكّاه اللَّه به من فضله وإحسانه. وقال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء/ 28] قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ (5). وقال الحسن: هو خلقه من __________ (1) "فيقيه. . فيؤتيه" كذا ورد الفعلان بثبوت حرف العلة، انظر ما علقناه آنفًا. (2) "ط": "ففي"، "ك": "في". (3) أخرجه أحمد (19032)، وأبو داود (4950)، والبخاري في الأدب المفرد (814) وغيرهم عن أبي وهب الجشمي. وهو معلول. أعلَّه أبو حاتم الرازي بالإرسال. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 312 - 313). (ز). (4) وانظر إغاثة اللهفان (69)، ومجموع الفتاوى (14/ 294)، (20/ 122). (5) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926) (5176، 5177). (ز)، وانظر: معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60).
(1/228)
ماءٍ مهينٍ (1). وقال الزجّاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى (2). والصواب أنّ ضعفه يعمُّ هذا كلّه، وضعفه أعظم من هذا وأكثر، فإنّه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر. والآفات إليه مع هذا الضعف أسرعُ من السيل في الحَدور (3). فبالاضطرار لا بدّ له من حافظ معين يقوّيه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخفى عنه هذا المسعِد (4) المعين فالهلاكُ أقرب إليه من نفسه. وخلقُه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الربُّ جلَّ جلاله ويثنى عليه بها، وهو موجَب حكمته وعزَّته. فكل ما يحدث من هذه الخلقة وما (5) يلزمُ عنها فهو بالنسبة إلى الخالق سبحانه خيرٌ وعدلٌ وحكمة، إذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته. وبالنسبة إلى العبدِ ينقسمُ (6) إلى خير وشر وحسن __________ (1) معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60). (2) زاد المسير (2/ 60). وفي معاني الزجاج (2/ 44): "أي يستميله هواه". (3) الحَدور: الموضع المنحدر. وفي "ك، ط": "صيب الحدور" وهو تصحيف وغلط. وصواب الكلمة الأُولى: "صَبَب" وهو بمعنى الحدور. ولعلّ سبب الغلط أن في الأصل: "الصبب الحدور" وضرب على الكلمة الأُولى، ولكن خط الضرب لم يشملها كفها، فظن بعض الناسخين أن المضروب عليه لام التعريف فقط. وأنّ المقصود: "صبب الحدور"، ثم صحفت الموحدة بالمثناة. وسيأتي المثل مرة أخرى في ص (644) وقد ذكره حمزة الأصفهاني في أمثاله (189) بلفظ ". . . إلى الحدور" (4) من أسعَدَ: أعانَ. وكتب فوقه في (ك): "صح". وفي الحاشية: "ظ المساعد". وفي "ط": "المساعد"، ولعلّه تغيير من الناشر. (5) "ما" ساقط من "ك، ط". وفي "ن": "أو يلزم". (6) "ك، ط": "تنقسم"، والمثبت من "ف".
(1/229)
وقبيح، كما يكون (1) بالنسبة إليه طاعةً ومعصيةً وبرًّا وفجورًا، بل أخص من ذلك، مثل كونه (2) صلاةً وصيامًا وحجًّا وزنًى وسرقةً وأكلًا وشربًا، إذ ذلك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجَب أمر اللَّه له ونهيه. فللَّه (3) سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى ما لم يخلقه ممَّا لو شاء (4) لخلقه، وعلى توفيقه الموجِب لطاعته، وعلى خِذلانَّه الموقع في معصيته. وهو سبحانه سبقت رحمتُه غضبَه، وكتب على نفسه الرحمة، وأحسنَ كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله سبحانه في ذلك أعظم حكمة مطلوبة، وتلك الحكمة إنَّما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأسباب التي لا تُنال غاياتُها إلا بها، فوجود هذه الأسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة. ولهذا يقرُن سبحانه في كتابه بين اسمه "الحكيم" واسمه "العليم" تارةً، وبينه (5) وبين اسمه "العزيز" تارةُ (6)، كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيمٌ} [النساء/ 26، الأنفال/ 71]، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة/ 245، المائدة/ 38]، وقوله: {وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء/ 158، 165، الفتح/ 7، 19]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح/ 4]، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ __________ (1) "ط": "تكون". (2) "ط": "كونها". (3) "ك، ط": "وللَّه". (4) "ك، ط": "شاءه". (5) "وبينه" ساقط من "ط". (6) انظر ما سبق في ص (197).
(1/230)
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، فإنَّ العزَّة تتضمَّن القوَّة، وللَّه القوَّة جميعًا. يقال: عزَّ يعَزّ -بفتح العين- إذا اشتدَّ وقوي، ومنه الأرض العَزاز للصلبة (1) الشديدة؛ وعزَّ يعِزّ -بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، وعزَّ يعُز -بضم العين- إذا غلب وقهر. فأعطوا أقوى الحركات -وهي الضمة- لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفَها -وهي الفتحة- لأضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبًا، ولا يلزمُ من ذلك أن يمتنع عمَّن يرومه؛ والحركة المتوسطة -وهي الكسرة- للمعنى المتوسط وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزمُ منه أن يقهر غيرَه ويغلبه. فأعطوا الأقوى للأقوى، والأضعف للأضعف، والمتوسط للمتوسط (2). ولا ريبَ أنَّ قهر المريد (3) عمَّا يريده من أقوى أوصاف القادر، فإنَّ قهرَه عن إرادته وجعله غيرَ مريد كان أقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة والعزَّة (4)، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذمًّا له، بخلاف الكبر. قال رجلٌ للحسن البصري: إنَّك متكبر. فقال: "لستُ بمتكبر، ولكنِّي عزيز". __________ (1) "ك، ط": "الصلبة". (2) انظر نحو هذا الكلام على "عز" في جلاء الأفهام: (147) ومدارج السالكين (3/ 238) ويظهر من سياقه في جلاء الأفهام أنَّه أفاد ذلك من شيخ الإسلام وانظر: منهاج السنة (3/ 325) والفتاوى (14/ 180). (3) "ط": "المربوب"، تحريف. (4) "العزّة" ساقطة من "ك، ط".
(1/231)
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون/ 8]. وقال ابن مسعود: "ما زلنا أعزَّةً منذ أسلم عمر" (1). وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهم أعِزَّ الإسلامَ بأحد هذين الرجلين: عمرَ بن الخطاب، أو أبي جهل ابن هشام" (2). وفي بعض الآثار: إنَّ النَّاس يطلبون العزَّة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة اللَّه (3). وفي الحديث: "اللَّهم أعِزَّنا بطاعتك ولا تذلّنا بمعصيتك" (4). وقال بعضهم: من أراد عزًّا بلا سلطان، وكثرةً بلا عشيرة، وغنًى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة. فالعزَّة من جنس القدرة والقوَّة. وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهُ قال: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف؛ وفي __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، باب مناقب عمر بن الخطاب (3884). (2) أخرجه الترمذي (3681) وأحمد (5696) وابن حبان (6881) وابن عدي في الكامل (3/ 51) وغيرهم من طريق خارجة بن عبد اللَّه الأنصاري عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: "حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر". قلت: خارجة الأنصاري فيه ضعف، وقد تفرد بهذا عن نافع. (ز). (3) ذكره المؤلف في إغاثة اللهفان (106). (4) ذكره المؤلف في الداء والدواء: (94) "من دعاء بعض السلف". وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 228) من دعاء جعفر الصادق. وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: "اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عزّ طاعتك"، انظر: الحلية (8/ 32).
(1/232)
كلٍّ خير" (1). فالقدرةُ إن لم تكن معها حكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده، بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان فعله (2) فسادًا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الَّذي يفعل بقوّته ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإنَّ هذا وإن كان له قوَّة وعزَّة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونةً على شرِّه وفساده. وكذلك العلمُ كمالُه أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الَّذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه = سفيهٌ غاوٍ، وعلمه عون له على الشرِّ والفساد. هذا إذا كان عالمًا قادرًا مريدًا له إرادة من غير حكمة. وإن قدَّر أنَّه لا إرادة له بحال فهذا أوَّلًا ممتنع من الحي، فإنَّ وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنعٌ كوجود إرادةٍ بدون الشعور. وأمَّا القدرة والقوَّة إذا قدّر وجودها بدون إرادة فهي كقوة الجماد، فإنَّ القوَّة الطبيعية: التي هي مبدأ الفعل والحركة (3)، وقد قال بعض النَّاس: إنَّ لمحلِّها (4) شعورًا يليق به، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا __________ (1) سبق تخريجه في ص (147). (2) "ك، ط": "فعلها". (3) زاد هنا في "ط" بين حاصرتين: "لا إرادة لها" ليكون خبرًا لإنّ، وقال في الحاشية إن في الأصل بياضًا! ولا بياض في أصولنا. (4) في "ط": "إن [للجماد] " وذكر في الحاشية أن في الأصل (تحملها) وهو تحريف". والصواب ما أثبتنا.
(1/233)
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1) [البقرة/ 74]، وبقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف/ 77]. وهذه مسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يليق بهذا الوضع. والمقصود أنَّ العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كلِّ ما خلقه، حكيمٌ في كلِّ ما (2) أمر به. والنَّاس في هذا المقام أربع طوائف: الطائفة الأُولى: الجاحدة لقدرته وحكمته، فلا يثبتون له تعالى قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلًا مختارًا، وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار. وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها "عناية إلهية". وهم من أشد النَّاس تناقضًا، إذْ لا يُعقَل حكيمٌ لا قدرة له ولا اختيار، وإنَّما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع "عناية إلهية" من غير أن يرجع منها إلى الرب تعالى إرادة ولا حكمة. وهؤلاءِ كما أنَّهم مكذبون لجميع الرسل والكتب، فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب تعالى إلى أعظم (3) النقص، __________ (1) وردت الآية في الأصل هكذا: "وإنّ من الحجارة لما يشقق. . . " فسقط جزء منها، وكذا في "ف، ن". (2) "ك": "خلقه وما أمر به". "ط": "خلقه وأمر به". (3) "ط": "للربّ سبحانه أعظم"، وصحّح في القطرية.
(1/234)
وجعلوا كل قادر مريد مختار أكمكَ منه، وإن كان من كان. بل سلبُهم القدرةَ والاختيارَ والفعلَ عن رب العالمين شرٌّ من شرك عبَّاد الأصنام به بكثير، وشرٌّ من قول النصارى إنَّه -تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وإن له صاحبةً وولدًا، فإنَّ هؤلاء أثبتوا له قدرةً وإرادةً وفعلًا اختياريًّا (1) وحكمةً، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به، وأمَّا أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماءً لا حقائق لها ولا معنى. والطائفة الثانية: أقرَّت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات، وجحدت حكمته وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة. وهؤلاء هم النفاة للتعليل والأسباب والقوى والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء. وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باء تسبيب (2)، وكلُّ لامٍ تُوهِم التعليل فهي عندهم لام العاقبة، وكلُّ باءٍ تُشعِر بالتسبيب (3) فهي عندهم باء المصاحبة (4). وهؤلاء سلَّطوا نُفاة القدر عليهم بما نفَوه من الحكمة والتعليل والأسباب، فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا (5) مقالًا واسعًا بالشناعة، فقالوا، وشنعوا. ولعمر اللَّه إنَّهم لمحقّون في أكثر ما شنّعوا عليهم به، إذ نفيُ الحكمة والتعليل والأسباب له لوازم في غاية الشناعة، __________ (1) "ك، ط": "إرادة واختيارًا وحكمة". (2) "ك، ط": "تسبّب". (3) "ك، ط": "بالتسبّب". (4) وانظر: مفتاح دار السعادة (2: 256) وشفاء العليل: (298). (5) "ط": "فوجدوا"، وأصلح في القطرية.
(1/235)
والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامَّة العقلاءِ. والطائفة الثالثة: أقرَّت بحكمته، وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه، وجحدت بكمال (1) قدرته، فنفت قدرتَه على شطر العالم، وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة والجن والإنس وطاعاتهم. بل عندهم هذه (2) كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها، ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه. وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا والمصلي مصليا والموفق موفقًا، بل هو الَّذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أنَّ أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس كانت بغير مشيئته واختياره، تعالى (3) اللَّه عن قولهم. وهؤلاء سلَّطوا عليهم نفاةَ الحكمة والتعليل والأسباب، فمزقوهم كلَّ ممزَّق، ووجدوا طريقًا مَهْيعًا (4) إلى الشناعة عليهم، وإبداء (5) تناقضهم، فقالوا، وشنَّعوا، ورموهم بكلِّ داهية. إذ نفيُ (6) قدرة الربِّ تعالى على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفيُ التزامها تناقضٌ بيِّن. فصاروا مذبذين (7) بين التناقض -وهو أحسن __________ (1) ما عدا الأصل: "كمال". (2) "هذه" سقطت من القطرية. (3) "ك، ط": "فتعالى". (4) طريق مهيَع: واضح واسع بين. وقد أشكلت الكلمة على ناسخ "ف"، فحاكى رسمها في الأصل، وأثبت فوقها: "ظ". وتحرفت في "ك، ط" إلى "وسيعًا". (5) "ك، ط": "وأبدوا". (6) "ك، ط": "ونفي"، وصحح بعضهم في متن "ك". (7) "ك، ط": "فصاروا بذلك بين"، تحريف.
(1/236)
حاليهم- (1) وبين التزام تلك العظائم التي تُخرِج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك. فهدى اللَّه الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة/ 213]، فآمنوا بالكتاب كلُّه، وأقرّوا بالحق جميعه، ووافقوا كلَّ واحدة من الطائفتين على ما معها من الحقِّ، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل. فآمنوا بخلق اللَّه وأمره بقدره وشرعه، وأنَّه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنَّ (2) له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنَّه على كلِّ شيء قدير. فلا يخرج عن مقدوره (3) شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالِها وصفاتِها، كما لا يخرج عن علمه؛ فكل ما تعلَّق به علمُه من العالم تعلَّقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا (4) مع ذلك بأنَّ له الحجة على خلقه، وأنَّه لا حجَّة لأحدٍ عليه بل للَّه الحجة البالغة، وأنَّه لو عذب أهل سماواته وأهلَ أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم (5) عدلًا منه وحكمة، لا بمحض المشيئة المجرَّدة عن السبب والحكمة، كما يقوله الجبرية. ولا يجعلون القدرَ حجَّةً لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به، ويعلمون أن اللَّه سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأنَّها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأنَّ المعاصي من نفوسهم الظالمة __________ (1) "ك، ط": "حالهم". (2) "ك، ط": "وأنَّه". (3) "ن": "قدرته". (4) "ك": "فآمنوا". (5) "ف": "يعذبهم"، أخطأ في قراءة الأصل. وفي "ك، ط": "تعذيبهم منه".
(1/237)
الجاهلة، وأنَّهم هم جُناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاءِ والقدر، مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وطاعة وعصيان وكفر وإيمان؛ وأنَّ مشيئة اللَّه سبحانه محيطةٌ بذلك كإحاطة علمه به، وأنَّهُ لو شاءَ أَلَّا يُعصى لما عُصِيَ، وأنَّه سبحانه (1) أعزّ وأجلّ من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون؛ وأنَّه ما شاء اللَّه كان، وكلُّ كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما (2) لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة البالغة (3). فهذه الطائفة هم (4) أهل البصر التام، والأُولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة عُورٌ (5)، كلُّ طائفة منهما لهم (6) عين عين (7)، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها أو كاد (8). ولا يستنكِر (9) تكرارَ هذه الكلمات من يعلم شدَّة الحاجة إليها __________ (1) "ف": "واللَّه سبحانه"، خلافًا للأصل. (2) "ط": "من"، وأصلح في القطرية. (3) "ط": "الحكمة الشاملة البالغة". وقد اضطربت نسخة "ك" لدخول حاشية (كانت في أصلها) في النص. (4) وقع في الأصل: "هل" سهوًا، فترك ناسخ "ف" مكانها بياضًا. والصواب ما أثبتنا من "ك، ط". (5) "عور" سقط من "ك، ط"، وهو جمع أعوَر وعوراء. (6) "ط": "له"، خطأ. (7) "ط": "عمياء". ورسم الكلمة في الأصل يشبه "عيره" أو "عائرة". وأثبت ناسخ "ف": "عميى"، ولا يقصد تأنيث أعمى، فإنَّ رسمها المعهود في الأصل: "عميا". والمثبت من "ن، ك" مع شك في صحته. (8) "أو كاد" ساقط من "ط". (9) "ك، ط": "يستكثر"، تصحيف.
(1/238)
وضرورة النفوس إليها، فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة، واللَّه المستعان. فصل ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصلٌ ثالثٌ هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته (1) على وجهه يتم بناءُ هذين الأصلين، وهو: إثبات الحمد كلُّه للَّه رب العالمين. فإنَّه المحمود على كل (2) ما خلقه، وأمر به، ونهى عنه. فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم، وايمانهم وكفرهم. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار، والملائكة والشياطين، وعلى خلق الرسل وأعدائهم. وهو المحمود على عدله في أعدائه، كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه. فكل ذرّة من ذرَّات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبَّح (3) بحمده السماوات السبع والأرض ومن فيهنَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 144]. وكان من (4) قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الاعتدال من الركوع: "ربَّنا ولك الحمد، مِلْءَ السماوات (5) وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد" (6). فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاءَ الَّذي بين الأرض والسماوات (7)، ويملأ ما يقدَّر بعد ذلك ممَّا __________ (1) "ف": "إبانته"، تصحيف. (2) "كل" ساقط من "ك، ط". (3) "ن": "يسبح". (4) "ك، ط": "في". (5) "ك، ط": "السماء". (6) أخرجه مسلم في الصلاة (476، 477، 478) عن ابن أبي أوفى وغيره. (7) "ك، ط": "السماوات والأرض".
(1/239)
يشاء اللَّه أن يملأ بحمده. وذاك يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه اللَّه بعد السماوات والأرض، والمعنى: لك الحمد (1) ملء ما خلقتَه وملء ما تخلقه بعدَ ذلك. الثاني: أن يكون المعنى: ملء ما شئتَ من شيء (2) يملؤه حمدك، أي يقدَّر مملوءًا بحمدك، وإن لم يكن موجودًا. لكن قد (3) يقال: المعنى الأوَّل أقوى، لأنَّ قوله: "ما شئتَ من شيءٍ بعد" يقتضي أنَّه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، فالمشيئة (4) متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له، فتأملْه. لكنَّه إذا شاءَ كونَه فله الحمد ملؤه، فالمشيئة راجعة إلى المملوء بالحمد، فلا بدَّ أن يكون شيئًا موجودًا يملؤه حمدُه. وأيضًا فإنَّ قوله: "من شيء بعد" يقتضي أنَّه شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات، كما يخلقه بعد ذلك من مخلوقاته من القيامة وما بعدها. ولو أريد تقديرُ خلقه لقيل: "وملء ما شئت من شيء مع ذلك"، لأنَّ المقدَّر يكون مع المحقَّق (5). وأيضًا. فإنَّه لم يقل: "ملء ما شئت أن يملأه الحمد". بل قال: "ما __________ (1) "ك، ط": "أنَّ الحمد" تحريف. (2) "ك، ط": "شيء بعد". (3) "ك، ط": "ولكن يقال". "ف": "يمكن قد" تحريف. (4) "ك، ط": "والمشيئة". (5) وردت هنا في الأصل عبارة ضرب عليها، أثبتها للفائدة: "هذا تقرير شيخنا. قلت: وفيه نظر، إذ قوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" يحتمل بعدية الزمان، ويحتمل بعدية المكان المغايرة، أي ما شئت غير ذلك. والبعدية مستعملة فيهما".
(1/240)
شئت". والعبد قد حمد حمدًا أخبر به، وأنشأه، (1) ووصفه بأنَّه يملأ ما خلقه الربُّ، وما يشاؤه (2) بعد ذلك. وأيضًا فقوله: "وملء ما شئت من شيءٍ بعد" يقتضي إثباتَ مشيئة تتعلَّق بشيءٍ بعد ذلك. وعلى الوجه الثاني قد تتعلَّق المشيئة بملء المقدَّر، وقد لا تتعلَّق. وأيضًا فإذا قيل: "ما شئتَ من شيء بعد ذلك" كان الحمد مالئًا لما هو موجود يشاؤه الربُّ دائمًا، ولا ريبَ أنَّ له الحمد دائمًا في الأُولى والآخرة. وأمَّا إذا قدّر ما يملؤه الحمد، وهو غير موجود، فالمقدَّرات لا حدَّ لها، وما من شيء منها إلا يمكن تقدير شيء بعده، وتقدير ما لا نهاية له، كتقدير الأعداد. ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: "ملء ما لا يتناهى". فأَمَّا ما شاءه (3) الربّ تعالى فلا يكون إلا موجودًا مقدَّرًا، وإن كان لا آخرَ لنوع الحوادث وبقاءِ (4) ما يبقى منها، فهذا كلُّه ممَّا يشاؤه بعد. وأيضًا فالحمدُ هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له، ومحاسنُ المحمود تعالى إمَّا قائمة بذاته، وإمَّا ظاهرة في مخلوقاته. فأمَّا المعدوم المحض الَّذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة. فالحمدُ للَّه الَّذي يملأ المخلوقات ما __________ (1) "ط": "وإن ثناءه"، تحريف. (2) "ك": "شاءه". "ط": "يشاء". (3) "ك، ط": "يشاؤه". (4) "ك": "وبقي"."ط": "أو بقاء".
(1/241)
وُجِدَ منها وما (1) يوجَد هو حمدٌ يتضمن الثَّناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته. وأمَّا ما لا وجود له فلا محامد فيه (2) ولا مذامّ، فجعلُ الحمدِ مالئًا له جعلُه مالئًا (3) لما لا حقيقة له. وقد اختلف النَّاس في معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما، فقالت طائفة: هذا (4) على جهة التمثيل، أي لو كان أجسامًا لملأ السماوات والأرضِ وما بينهما (5). قالوا: فإنَّ الحمد من قبيل المعاني والأعراض التي لا تُملأ بها الأجسام، ولا تُملأ الأجسام إلا بالأجسام. والصواب أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإنَّ ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوءِ، فإذا قيل: امتلأ الإناءُ ماءً، وامتلأت الجفنةُ طعامًا، فهذا الامتلاء نوع. وإذا قيل: امتلأت الدَّارُ رجالًا، وامتلأت المدينةُ خيلًا ورجالًا، فهذا نوع آخر. وإذا قيل: امتلأَ الكتابُ سطورًا، فهذا نوع آخر. وإذا قيل: امتلأت مسامع الناس حمدًا أو ذمًّا لفلان، فهذا نوع آخر، كما في أثر معروف (6): "أهل الجنَّة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس __________ (1) "ما" ساقطة من "ط". (2) "فيه" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (3) "جعله مالئا" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (4) لم يرد "هذا" في "ك، ط". (5) هنا عبارة مضروب عليها، نثبتها للفائدة: "وكان شيخنا رحمه اللَّه يرى أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف، بل الحمد يملؤها حقيقة". (6) أخرجه ابن ماجة (4224) من حديث ابن عباس مرفوعًا. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (ز).
(1/242)
عليه، وأهل النَّارِ من امتلأت مسامعه من ذمِّ النَّاس له". وقال عمر بن الخطاب في عبد اللَّه بن مسعود: "كُنَيفٌ مُلئ عِلمًا" (1). ويقال: فلان علمه قد ملأ الدنيا، وكان يقال: "ملأ ابنُ أبي الدنيا الدنيا علمًا" (2). ويقال: صيتُ فلانٍ قد ملأ الدنيا فطبق (3) الآفاقَ، وحبُّه قد ملأ القلوب، وبغضُ فلانٍ قد ملأ القلوب، وامتلأ قلبُه رعبًا. وهذا أكثر من أن تستوعب شواهدُه، وهو حقيقة في بابه. وجعلُ الملء والامتلاء حقيقةً للأجسام خاصَّة تحكمٌ باطلٌ ودعوى لا دليل عليها البتة. والأصلُ الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوي هو الغالب على اللغة والأفهام والاستعمال، فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك اللفظي (4). وليس هذا موضع تقرير هذه المسألة (5)، إذ (6) المقصود أنَّ الرب تعالى أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خالٍ عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز __________ (1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 297)، وسنده صحيح. (ز)، والكُنَيف تصغير تعظيم للكِنْف، وهو الوعاء الَّذي يضع فيه الراعي أداته ومتاعه. انظر: اللسان (كنف). (2) "ن": "ابن أبي الدنيا ملأ الدنيا علمًا". (3) "ك، ط": "وضيق"، تحريف. (4) "اللفظي": ساقط من "ط". (5) "ك، ط": "تقرير المسألة". (6) "ك، ط": "والمقصود".
(1/243)
الحكيم. موصوف بصفات (1) الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزَّه عن الشبيه والمثال، ومنزَّه عمَّا يضاد صفاتِ كماله: فمنزَّه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِّنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية. وموصوف بالعلم، منزَه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيءٍ عن علمه. موصوف بالقدرة التامة، منزَّه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء. موصوف بالعدل، منزَّه عن الظلم. موصوف بالحكمة، منزَّه عن العبث والسفه (2). موصوف بالسمع والبصر، منزَّه عن أضدادهما من الصمَم والبكَم. موصوف بالعلو والفوقية، منزَّه عن ضد (3) ذلك. موصوف بالغنى التام، منزَّه عمَّا يضاده بوجه من الوجوه. ومستحق للحمد كلُّه، فيستحيل أن يكون غيرَ محمود، كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي. بل (4) الحمد كلُّه واجب له (5) لذاته، فلا يكون إلا محمودًا، كما لا يكون إلا إلهًا وربًّا وقادرًا. فإذا قيل: "الحمدُ كلُّه للَّه"، فهذا له معنيان: أحدهما: أنَّه محمود على كل شيء، وبكلِّ ما يُحمَد به المحمودُ الحمدَ (6) التامّ. وإن كان بعضُ خلقه يُحمَد أيضًا، كما تُحمَد (7) رسلُه وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود __________ (1) "ك، ط": "بصفة". (2) "والسفه" ساقط من "ك، ط". (3) "ط": "أضداد". (4) "ك، ط": "وله" مكان "بل". (5) "له" ساقط من "ك، ط". (6) "الحمد" ساقط من "ط". (7) "ك، ط": "يحمد".
(1/244)
بالقصد الأوَّل وبالذَّات، وما نالوه من الحمد فإنَّما نالوه بحمده، فهو المحمود أَوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. وهذا كما أنَّه بكلِّ شيءٍ عليم، وقد علم غيرُه من علمه ما لم يكن يعلَمه بدون تعليمه. وفي الدعاء المأثور: "اللَّهم لك الحمدُ كلُه، ولك الملكُ كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه، أسألك من الخير كلِّه وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّه" (1). وهو سبحانه له المُلك، وقد آتى من مُلكه (2) بعضَ خلقه؛ وله الحمد، وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أنَّ مُلك المخلوق داخلٌ في ملكه، فحمدُه أيضًا داخلٌ في حمده، فما من محمود يحمَد على شيء ما (3) -دقَّ أو جلَّ- إلا واللَّه المحمودُ عليه بالذَّات، والأولية (4)، والأولوية أيضًا. وإذا قال الحامد (5): "اللهم لك الحمد" فالمراد به: أنت المستحقُّ لكلِّ حمد، ليس المراد به الحمد الخارجي فقط. المعنى الثاني: أن يقال: "لك الحمد كلُّه" أي الحمد التام الكامل، فهذا مختص باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ليس لغيره فيه شركة. __________ (1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4088). وفي سنده خالد بن يزيد العمري المكي. قال البخاري فيه: ذاهب الحديث. التاريخ الكبير (3/ 184). وجاء أوله عن حذيفة في مسند أحمد (23355) وسنده ضعيف. (ز). (2) "ك": "المملكة"، "ط": "الملكة". (3) "ط": "ممَّا" (4) "والأولية" ساقط من "ك، ط". (5) "الحامد، ساقط من "ط".
(1/245)
والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه. فهو المحمود على كل حال، وعلى كلِّ شيء، أكملَ حمدٍ وأعظمه؛ كما أنَّ له الملك التامّ العامّ، فلا يملك كلَّ شيء إلا هو، وليس الملك التام الكامل إلا له. وأتباع الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد، فإنَّهم يقولون: إنَّه خالق كلِّ شيء وربّه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة، فله الملك كلُّه. والقدرية المجوسية يُخرجون من ملكه (1) أفعالَ العباد، فيخرجون طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمؤمنين من ملكه، كما (2) يخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه. وأتباعُ الرسل يجعلون ذلك كلَّه داخلًا تحت (3) ملكه وقدرته، ويثبتون له (4) كمال الحمد أيضًا، وأنَّه المحمود على جميع ذلك، وعلى كلِّ ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحِكَم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل. وأمَّا نفاةُ الحكمة والأسباب من مثبتي القدر، فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدًا، كما لا يثبتون له الحكمة؛ فإنَّ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنَّما تكون في حقِّ من يفعل شيئًا لشيء، فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله. فأمَّا من لا يفعل شيئًا لشيء البتة، __________ (1) في "ف" هنا وفي السطر التالي: "عن ملكه"، خلافًا لأصلها. (2) العبارة "فيخرجون. . . " إلى هنا ساقطة من "ط"، ومستدركة في حاشية "ك"، بخط متأخر. (3) "ك، ط": "في ملكه". (4) "له" سقط من "ط"، وكتب في "ك" فوق السطر بخط مختلف.
(1/246)
فلا يُتصوَّر في حقه الحكمة. وهؤلاء يقولون: ليس في أفعاله وأحكامه لام تعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإنَّما اقترنت بها اقترانًا عاديًّا، لا أنَّ هذا كان لأجل هذا؛ ولا شاءَ (1) السببَ لأجل المسبَّب، بل لا سببَ عندهم ولا مسببَ البتة، إنْ هو إلا محض المشيئة وصِرف الإرادة التي ترجِّح مِثلًا على مِثلٍ، بلا مرجِّح (2) أصلًا. وليس عندهم في الأجسام طبائع وقوًى تكون أسبابًا لحركاتها، ولا في العين قوَّةٌ امتازت بها على الرِّجْل تبصر بها (3)، ولا في القلب قوَّة يعقل بها امتاز بها على الظهر (4)؛ بل خصَّ سبحانه أحد الجسمَين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصًا لمثل على مثل، بلا سبب أصلًا ولا حكمة. فهؤلاء لم يُثبِتوا له كمال الحمد، كما لم يُثبِت له أولئك كمالَ الملك، وكلا القولين منكَر عند السلف وجمهور الأُمَّة. ولهذا كان منكرو الأسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية، كما قاله القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفرَّاء وأتباعهما. وقد نصَّ أحمدُ على أنَّه غريزة، وكذلك الحارث المحاسِبي وغيرهما (5). وأولئك (6) لا يثبتون غريزةً ولا قوَّة ولا طبيعةً ولا سببًا، __________ (1) "ك، ط": "نشأ"، تحريف. (2) "ك، ط": "بل لا مرجح". (3) "ط": "يبصر بها". وفي "ف": "بصيرتها" كذا، وهو تصحيف. (4) "ك، ط": "عن الظهر". (5) انظر: ذم الهوى (5). والعقل غريزة، أو نوع من العلوم الضرورية، كلا القولين حكاهما شيخ الإسلام وصوّبهما في الاستقامة (2/ 161)، ومجموع الفتاوى (9/ 287). (6) "ط": "فأولئك"، خطأ.
(1/247)
وأبطلوا مسمَّيات هذه الأسماء جملةً، وقالوا: إنَّ ما في الشريعة من المصالح والحِكَم لم يشرع الربُّ سبحانه ما شرع من الأحكام لأجلها، بل اتفق اقترانُها بها أمرًا اتفاقيًّا، كما قالوا نظيرَ ذلك في المخلوقات سواءً، والعلل عندهم أمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقي. وهم فريقان: أحدهما لا يعرّجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإنَّما يعتمدون على تأثير العلة بنص أو إجماع، فإن فقدوا فزِعوا إلى الأقيسة الشبَهية. والفريق الثاني أصلحوا المذهبَ بعض الإصلاح، وقرّبوه بعض الشيء، وأزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأحكامَ بالعلل، والعللَ بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم (1) الكلامُ في الفقه إلا بذلك، ولكن جعلوا اقترانَ أحكام تلك العلل والمناسبات بها اقترانًا عاديًّا غيرَ مقصود في نفسه، والعللَ وَالمناسبات أماراتِ ذلك الاقتران. وهؤلاء يستدلون على إثبات علم الرب تعالى بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان والمصالح، وهذا تناقضٌ بيِّن (2) منهم، فإنَّ ذلك إنَّما يدلُّ إذا كان الفاعل يقصد أن يفعلَ الفعلَ على وجهٍ مخصوص لأجل الحكمة المطلوبة منه. وأمَّا من لم يفعل لأجل ذلك الإحكام والإتقان، وإنَّما اتفق اقترانُه بمفعولاته عادةً، فإنَّ ذلك الفعل لا يدلُّ على العلم. ففي أفعال الحيوانات من الإحكام والإتقانِ والحِكَم ما هو معروفٌ لمن تأمله، ولكن لمَّا لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودةً لها لم تدل على __________ (1) "ن": "لم يلتئم"، تحريف. (2) "ف": "من مذهبهم"، كذا، وهو تحريف.
(1/248)
علمها. والمقصود أنَّ هؤلاء إذا قالوا: إنَّه تعالى لا يفعل لحكمةٍ امتنع عندهم أن يكون الإحكام دليلًا على العلم. وأيضًا فعلى قولهم يمتنع أن يُحمَد على ما فعله؛ لأنَّ (1) ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم، ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنَّما أرادَ مجرد وجوده، لا لأجل كذا، ولا لنفع أحد ولا لضره؛ فكيف يتصوَّر في حق من يكون فعله كذلك (2) حَمْدٌ؟ فلا يُحمَد على فعل عدلٍ، ولا على ترك ظلم؛ لأنَّ الظلم عندهم هو الممتنع الَّذي لا يدخل في المقدور، وذلك لا يُمدَح أحدٌ على تركه. وكل ما أمكن وجودُه فهو عندهم عدل، فالظلم (3) مستحيل عندهم، إذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الَّذي لا يدخل تحت المقدور، ولا يتصوَّر فيه ترك اختياري، فلا يتعلَّق به حمدٌ. وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقتُه عندهم مجرَّد كونِه فاعلًا لا أنَّ هناكَ شيئًا هو قسط في نفسه يمكن وجودُ ضدِّه. وكذلك قولُه: {وَمَا رَبُّك بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت/ 46] نفيٌ عندهم لما هو مستحيل في نفسه لا حقيقه له، كجعل الجسم في مكانين في آنٍ واحدٍ، وجعله موجودًا معدومًا في آنٍ واحدٍ، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الَّذي تنزَّه (4) عنه. وكذلك قوله: "يا عِبَادِي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ __________ (1) "ك، ط": "لأمر"، تحريف. (2) "ك": "ذلك حمدًا"، "ط": "ذلك حمد". (3) "ف": "والظلم"، قراءة محتملة. (4) "ن، ك": "ينزه".
(1/249)
على نفسي، وجعلتُه محرَّمًا بينكم (1)، فلا تظالموا" (2)، فالذي حرَّمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين، وليس هناك ممكن يكون ظلمًا في نفسه وقد حرَّمه على نفسه، ومعلومٌ أنَّه لا يُمدح الممدوحُ بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وأيضًا فإنّه قال: "وجعلته محرَّمًا بينكم"، فالذي حرَّمه على نفسه هو الَّذي جعله محرَّمًا بين عباده، وهو الظلم المقدور الَّذي يستحق تاركُه الحمدَ والثَّناءَ. والذي أوجبَ لهم هذا مناقضةُ القدرية المجوسية وردُّ أصولهم وهدمُ قواعدِهم، ولكن ردُّوا باطلًا بباطل، وقابلوا بدعةً ببدعة، وسلَّطوا عليهم خصومَهم بما التزموه من الباطل. فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سِجَالًا: مرَّة يغلِبون، ومرَّةً يُغلَبون، لم تستقر (3) لهم نصرة. وإنَّما النصرة التامَّة (4) لأهل السنَّة المحضة الذين لم يتحيزوا إلى فئةٍ غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يلتزموا شيئًا (5) غير ما جاءَ به، ولم يؤصِّلوا أصلًا ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلُهم ما دلَّ عليه كتابُ اللَّه، وكلامُ رسوله، وشهدت به الفِطرَ والعقول. فصل والمقصودُ بيانُ شمولِ حمدِه تعالى وحكمتِه لكلِّ ما يحدثه من __________ (1) "ك، ط": "بينكم محرَّمًا". (2) من الحديث القدسي الَّذي أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه في كتاب البر والصلة والآداب (2577). (3) "ط": "لم يستقر". (4) "ك، ط": "الثابتة". (5) "شيئا": ساقط من "ك، ط".
(1/250)
إحسانٍ ونعمة، وامتحانٍ وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، وأنَّه سبحانه (1) محمودٌ على ذلك مشكور حمدَ المدح وحمدَ الشكر. أمَّا حمد المدح فإنَّه محمود (2) على كلِّ ما خلق، إذ هو رب العالمين، والحمدُ للَّه ربِّ العالمين. وأمَّا حمد الشكر فلأنَّ (3) ذلك كلَّه نعمة في حقِّ المؤمن إذا اقترن بواجبه. والإحسانُ (4) والنعمةُ إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والبليةُ إذا اقترن (5) بالصبر كان (6) نعمة. والطاعةُ فمن (7) أجلّ نعمه، وأمَّا المعصيةُ فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتَّب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضًا، وإن كان سببُها مسخوطًا مبغوضًا للربِّ تعالى، ولكنَّه يحب ما ترتب (8) عليها من التوبة والاستغفار. وهو سبحانه أفرَح بتوبة عبده من الرجل إذا أضلَّ راحلته بأرضٍ __________ (1) "ط": "واللَّه تعالى". (2) "ط": "فاللَّه محمود". (3) "ف": "فإنَّ"، خلاف الأصل. (4) "ك، ط": "من الإحسان"، كأنَّهُ كان للواجب، والصواب ما ورد في الأصل. وقراءة "ن": "فالإحسان". (5) كذا في الأصلِ بصيغة الإفراد، والضمير راجع إلى الامتحان دون البلية، كما رجع الضمير في "اقترنت" في الجملة السابقة إلى النعمة، وكان الأُولى أن يرجع إلى الإحسان. وفي "ك، ط": "اقترنا". ولعلَّه مغير في "ك" لأنَّ الجواب فيها "كان" بالإفراد كما في الأصل. (6) "ط": "كان". "ف": "صار"، خلاف الأصل. (7) "ط": "من". (8) "ط": "يترتب".
(1/251)
دوِّيَّةٍ (1) مهلكةٍ عليها طعامه وشرابه، فأيس منها ومن الحياة، فنام، ثمَّ استيقظ، فإذا بها قد تعلَّق خطامُها في أصلِ شجرةٍ، فجاءَ حتَّى أخذها = فاللَّهُ أفرحُ بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته (2). فهذا الفرحُ العظيم الَّذي لا يشبهه شيء أحبُّ إليه سبحانه من عدمه، وله أسباب ولوازم لا بدَّ منها. وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبًا له، فهذا الفرح أحبُّ إليه بكثير، ووجوده بدون لازمه ممتنع. فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة. هذا بالإضافة إلى الرب جلَّ جلاله، وأمَّا بالإضافة إلى العبد فإنَّه قد يكون كمالُ عبوديته وخضوعه موقوفًا على أسباب لا يحصل (3) بدونها. فتقديرُ الذنب عليه إذا اتصل به التوبةُ والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يُعقِبه، وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه؛ والربُّ تعالى محمود على الأمرين. فإن اتصل بالذنب الآثارُ المحبوبةُ (4) للرب سبحانه من التوبة والإنابة والذل والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية. وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خُبث نفسه، وشرّه، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ __________ (1) الدوية: الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها. (2) يشير إلى حديث الصحيحين، وسيأتي في ص (512). (3) "ط": "تحصل"، خطأ. (4) "ف": "المحمودة"، خلاف الأصل.
(1/252)
الأعلى. ومعلوم أنَّ هذه النفس فيها من الشرِّ والخبث ما فيها، فلا بدَّ من خروج ذلك منها من القوَّة إلى الفعل، ليترتَّب على ذلك الآثارُ المناسبة لها ومساكنةُ من تليق مساكنتُه ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحلِّ الأسفل. فإنَّ هذه النفوس إذا كانت مهيَّأةً لذلك فمن الحكمة أن تُستخرَج منها الأسبابُ التي تُوصِلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه. والرب تعالى محمود على ذلك أيضًا، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلًا لنعمته تعالى، فحمده وحكمته يقتضي (1) أن لا يُودِعَ نعمَه وإحسانَه وكنوزَه في محل غير قابل لها. ولا يبقى إلا أن يقال: فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غيرُ قابلةٍ لنعمته؟ فقد تقدَّم من الجوابِ عن ذلك ما فيه كفاية (2)، وأنَّ خلق الأضداد والمتقابلات (3) وترتيب آثارها عليها هو (4) موجَب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزَّته، وأنَّ تقدير عدمِ ذلك هضمٌ من جانب الربوبية. وأيضًا فإنَّ هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنَّها إذا وقعت فهو مأمور أن يُنكِرَها بقلبه ويده ولسانه، أو بقلبه ولسانه فقط، أو بقلبه فقط؛ __________ (1) لم ينقط حرف المضارعة في الأصل، ولا في "ف، ن". وفي "ط": "تقتضي" أي الحكمة، ولعل الأُولى ما أثبتناه من "ك"، ليرجع الضمير إلى الأول وهو الحمد. (2) انظر ما سلف في ص (212). (3) "ك، ط": "المقابلات". (4) "هو" ساقط من "ك، ط". وفي "ف، ن": "من" تحريف.
(1/253)
ومأمور أن يجاهد أربابَها بحسب الإمكان، فيترتَّبُ له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك. والمقصود بالقصد الأَوَّل إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمالُ أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غايةُ الحكمة، وكان في تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أوليائه (1) إلى الكمال الَّذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء، وجهادِهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له. فإنَّ تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنَّما تكون المحبة صادقةً إذا بذل فيها المحبُّ ما يملكه من مال ورئاسة وقوَّة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحَه كان هذا أعلى درجات المحبة. ومن المعلوم أنَّ من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أن يخلق ذواتٍ (2) وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداةَ من يحبه ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها. فكل أحد يحبُّ الإحسان والرَّاحة والدَّعَة واللذّة، ويحب من يوصل إليه ذلك ويُحصّله له، ولكن الشأن في أمرٍ وراءَ هذا، وهو محبتُه سبحانه ومحبةُ ما يحبه ممَّا هو أكرهُ شيءٍ إلى النفوس، وأشقُّ شيء عليها ممَّا لا يلائمها. فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب اللَّه لذاته ويحب ما يحب، ممن يحبُّه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح __________ (1) "أوليائه" ساقط من "ك، ط". (2) في الأصل: "ذواتًا"، ولعله سهو. وكذا في غيره.
(1/254)
والرئاسة، فإن أعطي منها رضي، كان مُنِعها سخط، وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته. فلولا خلقُ الأضداد، وتسليط أعدائه، وامتحان أوليائه بهم (1) لم يستخرَج خالصُ (2) العبودية من عَبيده الذين هم عَبيدُه، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه، والمعاداة فيهَ، والحب فيه، وَالبغض فيه، والعطاء له، والمنع له؛ ولا عبوديةُ بذلِ الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد (3) أعدائه ونصرته (4)، ولا عبودية مفارقة الناس أحوجَ ما يكون إليهم عبده (5) لأجله و (6) في مرضاته. فلا يتحيز (7) إليهم، وهو يرى محابَّ نفسه وملاذَّها بأيديهم، فيرضى بمفارقتهم، ومشاققتهم (8)، وإيثار موالاة الحق عليهم. فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار. وأيضًا فلولا تسليطُ الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر، وجهاد النفس، ومنعها من حظوظها (9) وشهواتها محبَّةً للَّه، وإيثارًا لمرضاته، وطلبًا للزلفى لديه والقرب منه. __________ (1) "بهم" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "خاص"، تحريف. (3) "ك": "وجهاد". (4) " ط": "مضرته" تحريف. (5) "ك، ط": "عنده"، تصحيف. (6) الواو ساقطة من "ك، ط". (7) "ك، ط": "ولا يتحيز". (8) كذا في الأصل وغيره بفكّ الإدغام. (9) "ك، ط": "خوضها"، تحريف.
(1/255)
وأيضًا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانيَّةً، بل كانت ملكيةً، فإنَّ اللَّه سبحانه خلق خلقَه أطوارًا فخلق الملائكة عقولًا لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلافَ ما يراد منها (1)، من مادة نورية لا تقتضي شيئًا من الآثار والطبائع المذمومة. وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها. وخلق الثقلين -الجن والإنس- وركَّب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة المقتضية (2) لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أهل الامتحان والابتلاء، وهم (3) المعرضون للثواب والعقاب. ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة (4) وخلق واحد، ولم يُفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية. ولو كان الخلق كله طبيعةً واحدةً ونمطًا واحدًا لوجد الملحد مقالًا وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلًا بالاختيار لتنوعت أفعالُه ومفعولاتُه، ولفَعَل الشيءَ وضدَّه، والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهودُ هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أيضًا مقالًا وقال: لو كان لهذا العالم خالق مختار (5) لوجدت فيه الحوادثُ على حسب إرادته واختياره، كما رُوِي عن (6) الحسن أو غيره قال: "كان أصحاب محمد __________ (1) سقط "منها" من "ط". (2) "المقتضية" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك". (3) "وهم" ساقط من "ك". (4) "واحدة" ساقط من "ك، ط". (5) في الأصل: "خالقًا مختارًا"، وكذا في "ف، ك، ط". ولعله سهو، والمثبت من "ن". (6) "عن" ساقط من "ك، ط".
(1/256)
-صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: جلَّ ربنا القديم، [لو] (1) لم يتغيَّر هذا الخلق لقال الشاكُّ في اللَّه (2): لو كان لهذا العالم خالق لَحادثَه (3): بينا هو ليل إذ جاء نهار، وبينا (4) هو نهارٌ إذ جاء ليل، وبينا هو صحو إذا جاء غيم، وبينا هو غيم إذ جاءَ صحو" (5) أو نحو (6) هذا من الكلام (7). ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارةً وباختلافها تارةً، إذ هذا وهذا مستلزمٌ لربوبيته (8)، وقدرته، واختياره، ووقوع الكائنات (9) على وفق مشيئته؛ فتنوعُ أفعالهِ ومفعولاته من أعظم الأدلةَ على ربوبيته وحكمته وعلمه. ولهذا -سبحانه- خلق (10) النوع الإنساني أربعةَ أقسام: أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم. الثاني: خلَقه من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى أو يشتمل عليها بطن. الثالث: خلقَه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح __________ (1) زيادة يقتضيها السياق، وقد أثبتناها من "ف، ن". وفي "ك، ط": "إنَّه لو". (2) "ط": "الشاك فيه إنَّه". (3) أي لم يتركه على صفة واحدة، بل تعاهده بالتغيير والإصلاح، من حادث السيفَ: تعاهده بالجلاء والصقال. وفي "ط": "لأحدثه"، ولعلَّه تغيير في النص. (4) في هذه الجملة والتي بعدها في "ط": "بينا" دون الواو. (5) لم أجده. (6) "ك، ط": "ونحو". (7) "ط": "هذا الكلام"، واستدركت "من" في القطرية. (8) "ك، ط": "يستلزم ربوبيته". (9) "ك، ط": "كل الكائنات". (10) "ك، ط": "خلق سبحانه".
(1/257)
عيسى ابن مريم صلى اللَّه على نبينا وعليه. الرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى. وكلُّ هذا ليدلَّ عباده على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأنَّ الأمرَ ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمرٌ طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنَّه ليس للنوع أبٌ ولا أمٌّ، وأنَّه ليس إلا أرحامٌ تدفَع، وأرضٌ تبلع، وطبيعةٌ تفعل ما يُرى ويشاهَد. ولم يعلم هؤلاء الجهَّال الضلَّال أنَّ الطبيعة قوَّة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى حامل لها، وأنَّها من أدل الدلائل على وجود من (1) طبَعها، وخلَقَها، وأودعها الأجسامَ، وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة. فالطبيعةُ مخلوقٌ من مخلوقاته، ومملوكٌ من مماليكه وعبيده، مسخَّرةٌ لأمره، منقادةٌ لمشيئته. ودلائلُ الصنعة، وأماراتُ الخلق والحدوث، وشواهدُ الفقر والحاجة شاهدٌ (2) عليها بأنّها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق، ولا تفعل، ولا تتصرّف في ذاتها ونفسها، فضلًا عن إسناد الكائنات إليها. والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبيّة والملك، وهو أيضًا من موجبات الحمد، فله الحمد على ذلك كلُّه أكمل حمد وأتمّه. وأيضًا (3) فإنَّ مخلوقاته هي موجَباتُ أسمائه وصفاته، فلكلِّ اسمٍ وصفةٍ أثرٌ لا بُدَّ من ظهوره فيه (4) واقتضائه له، فيمتنع تعطيلُ __________ (1) "ط": "وجود أمره"!. (2) كذا في الأصل وغيره. وفي ط: "شاهدة". (3) "ط": "وأتمه أيضًا"، فاختل السياق. (4) "فيه" سقط من "ف".
(1/258)
آثار أسمائه وصفاته، كما يمتنع تعطيلُ ذاته عنها. وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد، كما تقدم التنبيه عليه. وأيضًا فإن تنويع أسباب الحمد أمرٌ مطلوب للرب محبوب له، فكلما (1) تنوعت أسبابُ الحمد تنوع الحمدُ بتنوعها، وكثر بكثرتها. ومعلومٌ أنَّه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة، كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان. فهو محمود (2) على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمدِه على حلمه وعفوه ومغفرته، وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها، والعفو عن كثير من جنايات العبيد. فنبّهَهم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثيرِ الَّذي عفا عنه، وأنَّه لو عاجلهم بعقوبته، وأخذهم بحقه، لقُضِيَ إليهم أجلُهم، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولكنَّه سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوُه انتقامَه، ومغفرته عقابَه. فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه، ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيبُ هذا الموضع حقَّ التدبر، وليعطه حقَّه يُطْلِعْه على أبوابٍ عظيمةٍ من أسرار القدر، ويهبطْ به (3) على رياضِ منه مُعْشِبةٍ وحدائقَ مُؤْنِقة، واللَّه الموفِّق الهادي للصواب. وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه نوَّع الأدلَّة الدَّالّة عليه والتي تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرَّف الآيات، وضرب الأمثال، ليقيمَ عليهم حجَّته البالغة، ويتمَّ بذلك عليهم (4) نعمته السابغة، ولا يكون لأحدٍ بعد ذلك __________ (1) "ط": "فكما". (2) "ط": "محمول"، خطأ. (3) "ن": "يهبطه". (4) "ك، ط": "عليهم بذلك".
(1/259)
حجةٌ عليه سبحانه، بل الحجَّةُ كلها له، والنعمةُ كلها له (1)، والقدرةُ كلها له. فأقام عليهم حجته، ولو شاء لسوَّى بينهم في الهداية، كما قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]، فأخبر أنَّ له الحجَّة البالغة، وهي التي بلغت إلى صميم القلب، وخالطت العقل، واتحدت به، فلا يمكن العقلَ دفعُها ولا جحدُها. ثمَّ أخبر أنَّه سبحانه قادر على هداية خلقه كلِّهم، ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكنَّ حكمته تأبى ذلك وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة، فأقام الحجة، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، ونوَّع الأدلة. ولو كان الخلقُ كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور، ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال، ولا ظهرت عزَّتُه سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله، ولا كان للناس {آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران/ 13]، ولا كان للخق آيةٌ باقيةٌ (2) ما بقيت الدنيا في شأن موسى وقومه، وفرعون وقومه، وفلقِ البحر لهم، ودخولهم جميعًا فيه. ثم أنجى (3) موسى وقومه لم يغرَق منهم أحد (4)، وأغرقَ فرعونَ وقومَه لم ينجُ منهم أحد. فهذا التعرف إلى عباده، وهذه الآيات، وهذه العزَّة والحكمة لا سبيل إلى تعطيلها البتة، ولا توجد بدون لوازمها. __________ (1) "والنعمة كلها له" ساقط من "ط". (2) من هنا تبدأ المقابلة على النسخة "ب" أيضًا. (3) "ط": "إنجاء". (4) "ط": "ولم يغرق أحد منهم".
(1/260)
وأيضًا فإنَّ حقيقة المُلْك إنَّما تتم (1) بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز (2) وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران/ 26، 27]. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كَرْبًا، ويكشف غمًّا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفُكّ عانيًا، ويُغني فقيرًا، ويجبُر كسيرًا، ويشفي مريضًا، ويُقيل عَثرةً، ويستر عورةً، ويُعزّ ذليلًا، ويُذلّ عزيزًا، ويعطي سائلًا، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى، ويداول الأيّامَ بين الناس، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين. يسوق (3) المقادير التي قدّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدّم شيء منها عن وقته (4) ولا يتأخّر، بل كلّ منها قد أحصاه كتابه (5)، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمُه، وسبق به علمُه. فهو المتصرّف في الممالك كلّها وحده تصرُّفَ ملكٍ قادر قاهر عادل رحيم تامّ الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض. فتصرّفُه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان __________ (1) الأصل غير منقوط، وفي غيره: "يتم"، وهو جائز، ولكن رجحت قراءة "ط". (2) "ب": "تليق به العزة". (3) "ن": "فيسوق". (4) "ب": "على وقته". (5) "ب، ك، ط": "قد أحصاه كما أحصاه كتابه".
(1/261)
والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك. وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحِمّاني: حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن معاوية بن يحيى، عن يونس بن ميسرة، عن أبي أدريس، عن أبي الدرداءِ أنّه (1) سئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29]، فقال: سئل عنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين" (2). وفيه أيضًا من حديث حمّاد بن سلمة، حدثنا الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، عن أبيه قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: "إنّ ربّكم عزّ وجلّ ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه، أيّامكم عنده ثنتا عشرةَ ساعةً: تُعرض عليه أعمالُكم بالأمس ثلاثَ ساعاتٍ من أوّل النهار، فيطّلع منها على ما يكره، فيغضب، فيكون أول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبِّح (3) حمَلةُ العرش وسُرادقاتُ العرش والملائكةُ المقرّبون وسائرُ الملائكة، وينفخ جبريل في القَرْن، فلا يبقى خلقٌ للَّه في السماوات ولا في الأرض إلّا سمعه إلّا الثقلين؛ ويسبّحونه ثلاثَ ساعات (4) حتى يمتلئ الرحمن رحمةً، فتلك __________ (1) "ب": "حديث الحماني أنَّه سئل"، فسقط سند الحديث. (2) أخرجه ابن ماجه (202)، وابن حبان (689) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وقد حسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة. وذكر محقق صحيح ابن حبان شواهد للحديث، على أنَّ الحديث روي موقوفًا. (ز). (3) "ب، ك": "فيسبح". (4) في "ط": "ويسبحون لذلك" ثمَّ أثبت "ثلاث ساعات" بين حاصرتين.
(1/262)
ستُّ ساعات (1). ثم يدعو بالأرحام، فينظر فيها ثلاثَ ساعات {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران/ 6] {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى/ 49] فتلك تسعُ ساعات. ثم يدعو بالأرزاق، فينظر فيها ثلاث ساعات فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فتلك ثنتا عشرة ساعة. ثم قرأ عبد اللَّه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29] ثم قال: هذا شأنكم وشأن ربّكم عزّ وجلّ" (2). وذكره الطبراني في المعجم الكبير من وجه آخر (3). وهذا من تمام تصرّفه في ملكه سبحانه، فلو قصر تصرّفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرّفًا تامًّا. والمقصود أنّ الملك والحمد في حقّه متلازمان، فكلّ ما شمِله ملكُه وقدرتُه شمِله (4) حمدُه، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجُها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسَه عند خلقه وأمره، لينبِّه عبادَه على أنّ مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كلّ ما خلقه وأمر به (5) حمدَين (6): حمدَ شكر وعبودية، __________ (1) ذكر ناشر ط أن هنا بياضًا في أصله، ولا بياض في أصولنا. (2) أخرجه الطبراني في الكبير (8886)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 137). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 85): "فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول". انظر نقض الدارمي على بشر المريسي (266 - 268) (ز). (3) انظر: التعليق السابق. (4) "ط": "شمل". (5) "ف": "وأمره" خلاف الأصل. (6) "حمدين" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "أمر به من حمد شكر"، سقط =
(1/263)
وحمدَ ثناءٍ ومدح، ويجمعهما "التبارُك"، فتبارك اللَّه يشمل ذلك كلَّه، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف/ 54]. فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح، والطرقُ إلى العلم به في غاية الكثرة، والسُّبُل (1) إلى اعتباره في ذرات العالم (2) وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًّا، لأنَّ جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله في انتقامه (3) من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه (4) إلى أوليائه حمد. والخلق والأمر إنَّما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان لغاية (5) هي حمده. فحمده سبب ذلك، وغايته، ومظهره، وحامله؛ فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده. وسريانُ حمده في الوجودات (6) وظهورُ آثاره فيه (7) أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر. فمن الطرق الدالّة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات (8) معرفةُ أسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأنَّ للعالم إلهًا حيًّا __________ = وتحريف. (1) "ك، ط": "السبيل". (2) "ب": "كليات العالم". (3) "ك": "وعدله وانتقامه". "ط": "وعدله حمد وانتقامه". (4) "ك": "فضله وإحسانه". (5) "ط": "الغاية". (6) كذا في الأصل و"ن". وفي "ف" وغيرها: "الموجودات". (7) كذا في الأصل وغيره بإفراد الضمير المذكر، ولعله يقصد الوجود. (8) "ب": "المخلوقات".
(1/264)
جامعًا (1) لكل صفة كمال، واسم حسن، وثناء جميل، وفعل كريم؛ وأنَّه سبحانه له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسمع الأصوات، والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملك الأعلى الذي لا يخرج (2) عنه ذرَّة من الذرَّات، والغنى التام المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودُ أثرُها (3) في الكائنات، والعزَّة العالية (4) بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلماتُ التامَّات النافذات التي لا يجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجر من جميع البريّات (5). واحدٌ لا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته. ولا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وليس له من يَشرَكه في ذرَّة من ذرَّات ملكه، أو يخلُفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه ومؤمليه (6) وسائليه (7)، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فِرية أو كذب، كما يكون __________ (1) في الأصل: "إله حي جامع"، وفي حاشيته: "صوابه إلهًا حيًّا جامعًا"، وكذا نقل الأصل مع حاشيته في "ف". وفي "ن" كما في الأصل. وفي "ب، ك، ط" كما أثبتنا. (2) "ب": "لا تخرج"، والأصل غير منقوط. (3) "ف": "المشهودة الرعاية"، وكلمة "الرعاية" تحريف غريب لكلمة "أثرها" المكتوبة في الأصل فوق السطر مع علامة "صح". وفي "ك": "المشهودة آثارها"، وفي "ب": "المشهورة. . . "، وفي "ط": "المشهود. . . ". (4) كذا في الأصل و"ف" بالياء المثناة. وفي "ك، ط": "الغالبة". وفي "ب": "العالمية" وهو تحريف ما في الأصل. (5) "ن": "المخلوقات". (6) "ك، ط": "أو مؤمليه". (7) "ط": "أو سائليه".
(1/265)
بين الرعايا وبين الملوك. ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود، وفسد العالم بأسره فَـ (1) {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء/ 22]، فلو كان (2) معه آلهة أخرى -كما يقوله أعداؤه المبطلون- لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبتُ معه حال، ولا يصلح معه (3) وجود. ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب به (4) حمدَ عباده له أن جعلنا (5) عبيدًا له خاصَّةً، ولم يجعلنا نَهْبًا (6) منقسمين بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلنا عبيدًا لإلهٍ نحتَتْه الأفكار، لا يسمع أصواتنا (7)، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا (8)، ولا تكلَّم قط ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا يصعد إليه (9) الكلمُ الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح. وإنَّه ليسَ داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه، ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا __________ (1) حذفت الفاء في "ط". (2) "ك، ط": "ولو كان". (3) ما عدا الأصل و"ف": "عليه". (4) "ب، ك": "استوجبه حمد"، "ط": "استوجب حمد". (5) "ك، ط": "يجعلنا". (6) "ب، ك، ط": "ربنا"، تحريف. و"النهب" هنا بمعنى المنهوب. (7) "ب": "أقوالنا". (8) من هنا إلى "ترك ما نهوا عنه" في ص (267) سقط من "ب". (9) "إليه" ساقط من "ك".
(1/266)
عنه (1)، ولا مماسًّا (2) له ولا بائنًا (3) ولا مستويًا (4) على عرشه، ولا هو فوق عباده ولا عاليًا عليهم، (5) وحظ العرش منه حظُّ الحُشوش والأخلية. ولا تنزل الملائكة من عنده، بل لا ينزل من عنده شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يقرب من شيء (6). ولا يُحِبُّ ولا يُحَب، ولا يلتذ المؤمنون بالنظر إلى وجهه الكريم في دار الثواب، بل ليس له وجه يُرَى، ولا له يدٌ يقبض بها (7) السماوات وأخرى يقبِض بها الأرض. ولا له (8) فعل يقوم به، ولا حكمة تقوم به، ولا كلَّم موسى تكليمًا، ولا تجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا. ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: "لا أسأل (9) عن عبادي غيري" (10)، ولا يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه. ويجوز في حكمته تعذيبُ أنبيائه ورسله وملائكته وأهل طاعته __________ (1) من هنا إلى "عاليًا عليهم" لم يظهر في مصورة الأصل، وهو مما ألحق في أعلى الورقة، فاعتمدنا على "ف". (2) كذا في ف. وفي "ك": "مجانبًا"، وفي "ط": "محاذيًا"، ولعلَّ صواب ما فيهما: "محايثا"، كما ورد فيما بعد. وهو ساقط من "ن". (3) كذا في "ف". وفي "ك، ط": "مباينًا". وهو ساقط من "ن". (4) "ن، ك، ط": "ولا هو مستوٍ". (5) "ولا عاليًا عليهم" لم يرد في "ن، ك، ط". ومكانه في "ن": "ولا يرى من فوق سبع ويسمع"! (6) "ولا يقرب من شيء" ساقط من "ك، ط". (7) في الأصل: "به" سهو. (8) "له" ساقط من "ط". (9) "لا" ساقط من "ط". (10) كما جاء في حديث رفاعة الجهني في مسند أحمد 26/ 152، 157 (16215، 16218).
(1/267)
أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وتنعيمُ أعدائه من الكفَّار به والمحاربين له والمكذبين له ولرسله. والكلُّ بالنسبة إليه سواءٌ، ولا فرق البتة إلا أنَّه أخبر أنه لا يفعل ذلك، فامتنع للخبر بأنَّه لا يفعله، لا لأنَّه في نفسه منافٍ لحكمته. ومع ذلك فرضاه عينُ غضبه، وغضبُه عينُ رضاه، ومحبته كراهته، وكراهته محبته، إن هو (1) إلا إرادة محضة ومشيئة صرفة يشاء بها، لا لحكمة ولا لغاية ولا لأجل مصلحة. ومع ذلك يعذِّب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه، بل يعذبهم على نفس فعله الذي فعله هو وينسبه إليهم، ويعذبهم إذ لم يفعلوا فعله ويلومهم عليه. ويجوز في حكمته أن يعذب رجالًا إذ (2) لم يكونوا نساءً، ونساءً حيث (3) لم يكونوا رجالًا، وطِوالًا إذ (4) لم يكونوا قصارًا وبالعكس، وسودًا إذ (5) لم يكونوا بيضًا وبالعكس. بل تعذيبُه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس، إذ لا قدرة لهم البتة على فعل ما أُمروا به، ولا ترك ما نُهوا عنه. فله الحمدُ والمنَّة والثناءُ الحسن الجميل، إذ (6) لم يجعلنا عبيدًا لمن هذا شأنُه، فنكون مضيعين، ليس لنا ربٌّ نقصده، ولا صمدٌ نتوجه إليه ونعبده (7)، ولا إله نعول عليه، ولا رب نرجع إليه، بل قلوبنا تنادي في __________ (1) "ط": "هي". (2) "ط": "إذا"، خطأ. (3) "ف": "إذ" خلاف الأصل. (4) "ك، ط": "حيث". (5) "ط": "إذا"، وصحح في القطرية. (6) "ط": "إذا"، خطأ. (7) "ونعبده" ساقط من "ب".
(1/268)
طرق الحيرة: من دلَّنا وجمع علينا ربًّا ضائعًا، لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث (1) له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أحدًا ولا يكلمه أحد. ولا ينبغي لأحد أن يذكر صفاته، ولا يعرّفه بها، بل يهجرها بلسانه فلا يتكلم بها، وبقلبه فلا يعقلها. وينبغي (2) له أن يعاقب بالقتل أو الضرب والحبس من ذكرها، أو أخبر عنه بها، أو أثبتها له، أو نسبها إليه، أو عرَّفه بها. بل التوحيد الصرف (3) جحدُها، وتعطيله عنها، ونفي قيامها به واتصافه بها. وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيُه، وجحده، وتكفير من أثبته، واستحلال دمه وماله، أو تبديعه وتضليله وتفسيقه. وكلَّما كان النفيُ أبلغَ كان التوحيدُ أتم، فليس كذا وليس كذا أبلغ في التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا. فللّه العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه (4) على ما منَّ به (5) من معرفته وتوحيده، والإقرار بصفاته العُلى وأسمائه الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنَّه اللَّه الذي لا إله إلا هو، عالمُ الغيب والشهادة، ربِّ العالمين، قيومُ السماوات والأرضين، إلهُ الأولين والآخرين، لم يزل (6) ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، منزهًا عن أضدادها من __________ (1) "ن": "مجانب"، "ط": "محاذٍ". وهو ساقط من "ب". (2) النص من "لأحد أن يذكر" إلى هنا ساقط من "ب، ط"، ومستدرك في حاشية "ك" بخط متأخر. (3) زاد في "ب": "عندهم". (4) "ب": "أكمل حمد وأتمه وأعظمه". (5) "ب": "منَّ به علينا". (6) "لم يزل" ساقط من "ب، ك، ط".
(1/269)
النقائص والتشبيه والمثال. فهو الحيُّ القيُّوم الذي لكمال حياته، وقيوميته لا تأخذه سنةٌ ولا نوم. مالك السماوات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه. والعالمُ بكل شيء، الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرَّك ذرَّة إلا بإذنه. يعلم دبيبَ الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليها (1) القلب. البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلقِ الذرَّة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبَها على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السماوات السبع. السميع الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعُه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلّطه المسائل، ولا تُبرمه (2) كثرةُ سؤالِ (3) السائلين. قالت عائشة: الحمد للَّه الذي وسع سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ تشكو إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّه (4) لَيَخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة/ 1] (5). __________ (1) "ب، ك، ط": "عليه". (2) هذه قراءة "ف". وفي غيرها: "يبرمه". (3) "سؤال" ساقط من "ب، ك، ط". (4) "ب، ك، ط": "وإنِّي". (5) أخرجه ابن ماجه (188)، والنسائي (6/ 168)، وفي الكبرى له (2654). =
(1/270)
القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، والبر برًّا والفاجر فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومَه أئمةً يدعون إلى النَّارِ. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء سبحانه أن يُعلِّمه إيَّاه. ولكمال قدرته خلَقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسَّه من لغوب. ولا يُعجِزه أحدٌ من خلقه، ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، وإن (1) فرَّ منه فإنَّما يطوي المراحلَ في يديه، كما قيل: وكيف يفِرُّ المرءُ عنك بذنبه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا؟ (2) ولكمال غناه استحال إضافةُ الولد والصاحبة والشريك والظهير (3) والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمال عظمته وعلوه (4) وسِع كرسيُّه السمواتِ والأرضِ، ولم تسعه أرضُه ولا سماواته، ولم تُحِطْ به مخلوقاته، بل هو العالي على كلِّ شيء، الظاهر فوق كل شيء (5)، وهو بكلِّ شيء محيط. __________ = وأحمد (24195). والحديث صححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي. (ز) (1) هذه قراءة "ف". وفي غيرها: "فإن". (2) البيت لأبي العرب مصعب بن عبد اللَّه بن أبي الفرات القرشي العبدري الصقلي المتوفى بميورقة سنة (506 هـ). انظر فوات الوفيات (4/ 145). وفيه: "فأين يفر. . . بجرمه". (3) "والظهير" ساقط من "ب، ك، ط". (4) "ك": "ولعلوه". (5) "الظاهر فوق كل شيء" من الأصل و"ف".
(1/271)
لا تنفد (1) كلماته ولا تبيد، بل (2) لو أنَّ البحر يمده من بعده سبعةُ أبحر مدادٌ، وأشجارُ الأرض أقلامٌ (3)، فكتب بذلك المداد وتلك (4) الأقلام، لَنَفِد المداد (5)، وفنيت الأقلام؛ ولم تنفد كلماته، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق. ولو كان كلامه مخلوقًا -كما قاله (6) من لم يقدُره حقَّ قدره، ولا أثنى عليه بما هو أهلُه- لكان أحقَّ بالفناءِ (7) من هذا المداد وهذه الأقلام، لأنَّه إذا كان مخلوقًا فهو نوعٌ من أنواع مخلوقاته، ولا يحتمل المخلوق إفناءَ هذا المداد وهذه الأقلام، وهو باقٍ غيرُ فانٍ. وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين، ويحبونه (8)، بل لا شيء أحبّ إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقرَّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه. وإنَّه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نقمةٍ منه عدل. وإنَّه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ (9) بتوبة عبده من واجد __________ (1) "ك، ط": "ولا تنفد". (2) "ط": "ولا تبدل" مكان "ولا تبيد، بل"، تحريف. (3) "ب، ك، ط": "مدادًا. . . أقلامًا" خطأ. و"مداد" ساقط من "ن". (4) "ب، ك، ط": "بتلك". (5) "ب": "لفني المداد". (6) "ب": "قال". (7) "ب": "بهذا الفناء". (8) في الأصل: "ويحبونهم" سبق قلم. (9) كذا في "ف، ن". وفي غيرها: "وإنَّه أفرح"، والظاهر أنَّ "إنَّه" مع كلمة أخرى =
(1/272)
راحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ المهلكة بعد فقدها واليأس منها. وإنَّه سبحانه لم يكلِّف عبادَه إلا وسعهم، وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم، فإنَّه (1) ما يسعونه، ويسهل عليهم، وتفضُل (2) قُدَرُهم عنه، كما هو الواقع. وإنَّه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدِر على فعله، ولا على فعل (3) ما لا قدرةَ له على تركه. وإنَّهُ سبحانه حليم (4) كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور، يُطاع فيشكر، ويُعصَى فيغفِر. لا أحدَ أصبرُ على أذى سمعه منه، ولا (5) أحبُّ إليه المدحُ منه، ولا أحب إليه العذرُ منه. ولا أحدَ (6) أحبُّ إليه الإحسانُ منه، فهو محسن يحب المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين. جميلٌ يحب الجمال، طيِّبٌ يحب كلَّ طيب، نظيفٌ يحب النظافة، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ والمؤمن القوي __________ = مضروب عليها في الأصل. (1) "ف": "فإنَّهم" سهو. (2) "ك، ط": "يفضل". (3) "فعل" سقط من "ط" واستدرك في القطرية. (4) "ب، ك، ط": "حكيم". (5) "ف": "ولا أحد" خلاف الأصل. (6) "أحد" ساقط من "ب".
(1/273)
أحب إليه من المؤمن الضعيف، برٌّ يحب الأبرار، عدلٌ يحب أهل العدل، حييٌّ سِتِّيرٌ يحب أهل الحياء والستر، عفوٌّ غفورٌ يحب مَن يعفو عن عباده ويغفر لهم، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحب الرفق، جوادٌ يحب الجود وأهله، رحيمٌ يحب الرحماء، وترٌ يحب الوتر. يحبُّ (1) أسماءَه وصفاتِه، ويحبُّ المتعبدين له بها، ويحب من يسأله بها (2) ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها، ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أحد أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، من أجلِ ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من اللَّه، من أجلِ ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدَ أحب إليه العذرُ من اللَّهِ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين" (3). وفي حديثٍ آخر صحيح: "لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه (4) من اللَّه، يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم" (5). ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم (6) بالعدل والإحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة __________ (1) "ط": "ويحب". (2) "بها" ساقط من "ط". (3) أخرجه البخاري في التفسير (4634) وغيره، ومسلم في التوبة (2760) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (4) هذا في الأصل و"ف"، وهو لفظ مسلم. وفي غيرها: "سمعه"، وهو لفظ البخاري. (5) أخرجه البخاري في الأدب (6099) وغيره، ومسلم في صفات المنافقين (2804) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (6) "ف": "وأمرهم".
(1/274)
والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولمَّا كان سبحانه يحب أسماءَه وصفاته كان أحب خلقه (1) إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم (2) إليه من اتصفَ بالصفاتِ التي يكرهها. فإنَّما أبغضَ من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأنَّ اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروجِ من اتَّصف بها من رِبقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعدّيه طورَه وحدّه. وهذا بخلافِ (3) ما تقدم من الصفات كالعلمِ والعدلِ والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنَّها لا تنافي العبودية، بل اتصافُ العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعدَّ طورَه ولم يخرج بها من دائرة العبودية. والمقصود أنَّه سبحانه لكمال أسمائه وصفاته موصوفٌ بكلِّ صفة كمال، منزَّهٌ عن كلِّ نقص، له كلُّ ثناءٍ حسن، ولا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ جميل، ولا يُسمَّى إلا بأحسن الأسماءِ، ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناءِ. وهو المحمود المحبوب المعظم ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما خلقه وقدَّره (4)، وعلى كلِّ ما أمر به وشرعه. ومن كان له نصيبٌ من معرفة أسمائه الحسنى واستقرى (5) آثارها في الخلقِ والأمر، رأى الخلق والأمر منتظمَين بها أكمل انتظام، ورأى __________ (1) "ك، ط": "الخلق". (2) "ب": "وأبغض خلقه". (3) "ك، ط": "خلاف". (4) "ك، ط": "قدره وخلقه". (5) "ب": "واستقراء"، وهي قراءة محتملة.
(1/275)
سَريان آثارها فيهما، وعلم -بحسب معرفته- ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله وما لا يليق، فاستدلَّ بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنَّه لا يفعل خلافَ موجَب حمده وحكمته. وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه ممَّا لا يليق به. فيعلم أنِّه لا يأمر بخلاف موجَب حمده وحكمته. فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا أو سفهًا وعبثًا أو مفسدة (1) أو ما لا يُوجِب حمدًا وثناءً فَلْيعلَمْ أنَّه ليس من أحكامه ولا دينه، وأنَّه بريء منه ورسولُه، فإنَّه إنَّما يأمرُ بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا بالعبث والسفَه. وإنَّما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإنَّه أرحم الرَّاحمين، ورسولُه رحمةٌ مهداةٌ إلى العالمين، ودينُه كلُّه رحمة، وهو نبي الرحمة، وأمتُه الأمة المرحومة. وذلك كله موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى (2) وأفعاله الحميدة، فلا يُخبَر عنه إلا بحمده، ولا يثنى عليه إلا بأحسن الثناءِ، كما لا يسمَّى إلا بأحسن الأسماء. وقد نبَّه سبحانه على شمول حمده لخلقِه (3) وأمرِه بأن حمِد نفسَه في أوَّل الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع؛ وحمد نفسَه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسَه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسَه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحد من خلقه لحاجة (4) إليه. وحمد نفسَه على علوه وكبريائه، وحمد __________ (1) "ك، ط": "ومفسدة". (2) "ط": "العليا". (3) "ب": "خلقه لحمده"، خطأ. (4) "ب، ك، ط": "لحاجته".
(1/276)
نفسَه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَرَيان حمدِه في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كلِّه في كتابه، وحمد نفسَه عليه؛ فنوّع (1) حمدَه وأسبابَ حمده، وجمعها تارةً، وفرَّقها أخرى، ليتعرَّف إلى عباده، ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبَّب إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة/ 2 - 4]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام/ 1]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)} [الكهف/ 1 - 2]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ/ 1]. وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر/ 1]. وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص/ 70]. وقال: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ __________ (1) "ك، ط": "فتنوع".
(1/277)
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر/ 65]. وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم/ 17 - 18]. وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر/ 75]. وأخبر عن حمد أهل الجنَّة له وأنَّهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أنَّ أهل النَّارِ لم يدخلوها إلا بحمده، فقال أهل الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف/ 43] و {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس/ 10]. وقال عن أهل النَّار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص/ 74 - 75]. وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11]. وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم، وعلموا أنَّهم كانوا كاذبين في الدنيا، مكذبين بآيات ربهم، مشركين به، جاحدين لإلهيته، مفترين عليه. وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم، وأخذهم ببعض حقه عليهم، وأنَّه غيرُ ظالمٍ لهم، وأنَّهم إنَّما دخلوا النَّارَ بعدله وحمده، وإنَّما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما يقول الجبرية.
(1/278)
وتفصيل هذه الجملة (1) ممَّا لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به، ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكلُّ صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكلُّ حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو للَّه عزَّ وجلَّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميعُ ما يوصف به ويُذكر به ويُخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح وتقديس. فسبحانه وبحمده، لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه (2) خلقُه، فله الحمدُ أوَّلًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، ورفيع مجده، وعلو جده. فهذا تنبيه على أحد نوعَي حمده، وهو حمد الصفات والأسماء. والنوع الثاني: حمد النعم والآلاء، وهذا مشهود للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمِنها وكافرها؛ من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته بهم (3)، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كُرُبات المكروبين (4)، وإغاثة (5) الملهوفين، ورحمة العالمين (6)، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه __________ (1) "ب، ك، ط": "الحكمة"، والظاهر أنَّه تحريف. (2) "ف": "عليه به"، خلاف الأصل. (3) "ك، ط": "لهم". (4) "ف": "المحزونين"، تصحيف. (5) "ف": "إعانة". (6) "ب، ك، ط": "رحمته للعالمين".
(1/279)
وإحسانه، ودفعِ المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفِها بعد وقوعها، ولطفِه تعالى في ذلك بإيصاله (1) إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّته وعبادَه (2) إلى سُبُل السلام (3)، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام. وحبَّبَ إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوق والعصيان، وجعلهم من الرَّاشدين. وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمَّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبَّب إليهم بنعمه، مع غناه عنهم (4)، وتبغُّضهم إليه بالمعاصي، وفقرهم إليه. ومع هذا كله فاتخذَ لهم دارًا، وأعدَّ لهم فيها من كلِّ ما تشتهيه الأنفس وتلذُّه الأعين (5)، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَة والسرور والبهجة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر. ثمَّ أرسلَ إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثمَّ يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضيَ منهم باليسير في هذه المدَّة القصيرة جدًا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم، وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن __________ (1) "ب، ك": "باتصاله". (2) "ب": "خاصة عباده". (3) "ك، ط": "سبيل دار السلام". (4) "عنهم" ساقط من "ط". (5) "ب، ط": "تلذ الأعين".
(1/280)
يُثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه (1) أن يغفر لهم، ووعَدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئاتِ بما يفعلونه بعدها من الحسنات. وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمةً منه بهم واحسانًا، لا حاجةً منه إليهم، ونهاهم عمَّا نهاهم عنه حمايةً وصيانةً (2) لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصَّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال، وصرَّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسَّع لهم طرُقَ العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبوابَ الهداية، وعرَّفهم الأسبابَ التي تُدنيهم من رضاه وتُبعِدهم من غضبه (3). ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسميهم (4) بأحسن أسمائهم كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور/ 31]، {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر/ 53]، {قُلْ لِعِبَادِيَ} [إبراهيم/ 31]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة/ 186]. فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف (5) كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ __________ (1) "ب": "استغفروا". (2) "ب": "نهاهم صيانة وحماية". (3) "ك، ط": "عن غضبه". "ن": "من سخطه". (4) "ب": "وسماهم"، وما قبله ساقط منها. (5) "ف": "والتعطف"، خلاف الأصل.
(1/281)
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة/ 22]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر/ 3]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر/ 5]. {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار/ 6 - 7]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103} [آل عمران/ 102 - 103]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمران/ 118]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة/ 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا
(1/282)
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال/ 25 - 26]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج/ 73 - 74]. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف/ 50]. فتحتَ هذا الخطاب: إنِّي عاديتُ إبليسَ، وطردتُه من سمائي، وباعدتُه من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثمَّ أنتم يابنيه توالونه وذريته من دوني، وهم أعداءٌ لكم (1)! فليتأمَّل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدَّة لصوقه بالقلوب، والتباسه بالأرواح. وأكثرُ القرآن جاءَ على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة. وأعلم عباده -سبحانه- أنَّه لا يرضى لهم إلا أكرمَ الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف. قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر/ 7]. __________ (1) "ب": "لكم أعداء".
(1/283)
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3]. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185] (1). {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء / 26 - 28] (2). ويتنضَّل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنّة والتهمة التي ينسبها (3) إليه مَن لم يعرفه حقَّ معرفته ولا قدَره حقَّ قدره، من تكليفِ عباده ما لا يقدِرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتَّة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلقِ السماوات والأرضِ وما بينهما لا لحكمةٍ ولا لغاية؛ وأنَّه (4) لم يخلق خلقَه لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليتكثَر بهم من قلَّة، ولا ليتعززَ بهم من ذلَّة، ولا ليستعينَ بهم (5)، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات/ 56 - 57]. __________ (1) بعد هذه الآية وقع في الأصل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، وكذا في "ف، ن". وهو جزء من الآية التالية، فحذف فى "ط". وزاد فى "ك، ط": "وقال". (2) حذفت الآية الأولى في "ك". (3) "ب، ك، ط": "نسبها". (4) يعني: ويتنصل من أنه. . . وفي "ب": "لغاية، تعالى اللَّه عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. إنَّه جل جلاله لم يخلق". (5) "من ذلة، ولا ليستعين بهم" ساقط من "ك، ط".
(1/284)
فأخبرَ أنَّهُ لم يخلق الجنَّ والإنسَ لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جودًا وإحسانًا ليعبدوه فيربَحوا هم عليه كلّ الأرباح كقوله: {أنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء/ 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم/ 44]. ولمَّا أمرهم بالوضوء والغسل (1) من الجنابة الذي يحطّ عنهم أوزارهم، ويدخلون به عليه، ويرفع به درجاتهم، قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة/ 6]. وقال في الأضاحي والهدايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج/ 37]. وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة/ 267]. يقول سبحانه: إنِّي غني عمَّا تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد (2) كلِّها. فإنفاقكم لا يسدُّ منه حاجةً، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنَّما نفعُه لكم وعائدته عليكم. ومن المتعين على من لم يباشر قلبَه حلاوةُ هذا الخطاب، وجلالتُه، ولطفُ موقعه، وجذبُه للقلوب والأرواح، ومخالطتُه لها = أن يعالجَ قلبَه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من __________ (1) "ب، ط": "بالغسل". (2) "ك، ط": "المحامد".
(1/285)
ذلك، ويتعرَّضَ إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى اللَّه أن يحيى قلبَه، ويزكيَه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب المثت لا يذوق طعمَ الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن أراد مطالعة أصولِ النِّعَم فَلْيُسم سرحَ الفكر (1) في رياض القرآن، ولْيتأمل ما عدَّد اللَّه فيه من نعَمِه، وتعرَّف بها إلى عباده من أوَّل القرآن إلى اخره، حتَّى خلقَ النَّارِ (2)، وابتلاءَهم بإبليس وحزبِه، وتسليطَ أعدائهم عليهم، وامتحانَهم بالشهوات والإرادات والهوى، لِتعظُمَ النعمةُ عليهم بمخالفتها ومحاربة أعدائه (3). فللَّه على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كلِّ ما أحدثه في الأرض من وقائعه (4) بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدَّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلامُ الدنيا وأوراقُها، ولا قوى العباد، وإنَّما هو التنبيه والإشارة. ومن استقرى الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصر بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهامُ عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فللَّه سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناءِ لم تتحرَّك بها __________ (1) "ط": "الذكر". تحريف. (2) "ب": "حين خلق النار". "ك، ط": "حين خلق أهل النار"، والصواب ما أثبتنا من الأصل و"ف". و"خلق النار" معطوف على "ما عدَّد"، فجعل خلق النار وما بعده من النعم التي دعا إلى تأملها. (3) "أعدائه" ساقط من "ك". "ط": "محاربته". (4) "ب": "إيقاع". "ك": "الأرض ووقائعه".
(1/286)
الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر. ففي دعاء أعرفِ الخلق بربه تعالى وأعلمِهم بأسمائه وصفاته ومحامده: "أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن (1) ربيع قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حُزني، وذهابَ همِّي وغمِّي" (2). وفي الصحيح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الشفاعة لمَّا يسجدُ (3) بين يدى ربِّه، قال: "فيفتح عليَّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن" (4). وكان يقول في سجوده: "أعوذ برضاك من سَخَطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ __________ (1) "ب": "القرآن العظيم". (2) أخرجه أحمد (3712)، وابن حبان (972)، والحاكم (1/ 509) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه فإنَّه مختلف في سماعه من أبيه". (ز). (3) "لما يسجد" كذا في الأصل وغيره. و"لما" الحينية مختصة بالماضي، فلا يجوز دخولها على المضارع. وقد أدخلها المصنف على المضارع في نونيته في ثلاثة مواضع، منها قوله في السياق نفسه: ولذاك يثني في القيامة ساجدًا ... لمَّا يراهُ المصطفى بعيانِ بثناء حمدٍ لم يكن في هذه الد ... نيا ليحصيَه مدى الأزمان الكافية الشافية (685). وفي "ك": "لما سجد"، لكنَّه غير مناسب للسياق. (4) أخرجه البخاري في التفسير (4712) وغيره، ومسلم في الايمان (194) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/287)
على نفسك" (1). فلا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماء وأوصاف وحمد وثناءٌ (2) لا يعلمه ملَك مقرَّب، ولا نبي مرسَل. ونسبة ما يعلم العبادُ من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنَقْرَةِ عصفورٍ في بحر. فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماء الدَّالّة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟ قيل: قد تقدَّم من الكلام في ذلك ما يكفي بعضه لذي الفطرة السليمة والعقل المستقيم. وأمَّا من فسدت فطرته، وانتكس قلبه، وضعفت بصيرة عقله، فلو ضُرب له من الأمثال ما ضُرب فإنَّه لا يزيده إلا عمًى وتحيرًا. ونحن نزيد ما تقدم إيضاحًا وبيانًا، إذ بسطُ هذا المقام (3) أولى من اختصاره، فنقول: قد علمتَ أنَّ جميع أسماءِ الربِّ جلَّ جلاله حسنى، وصفاته كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة؛ وله كل ثناءٍ وكلُّ حمدٍ ومدحة (4)، وكلُّ خير فمنه وله وبيده (5)، والشرُّ ليس إليه بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه. وإن كان في مفعولاته __________ (1) تقدم تخريجه في ص (56). (2) "ب": "ثناء وحمد وأسماء وأوصاف". (3) "ب": "بسط الكلام في هذا المقام". (4) "ب": "وكل مدحة وكل حمد". (5) "ب": "وله وبه وبيده".
(1/288)
فهو خيرٌ بإضافته إليه، وشرٌّ بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسَّك بهذا الأصل ولا تُفارِقْه في كلِّ دقيق وجليل، وحكِّمه على كلِّ (1) ما يرد عليك، وحاكِمْ إليه واجعله آخيتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها. واعلم أنَّ للَّه خصائصَ في خلقه، ورحمةً وفضلًا يختص به من يشاءُ، وذلك موجَب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثمَّ إيَّاكَ أن تُصغي إلى وسوسِة شياطين الإنس والجنّ والنفس الجاهلة الظالمة أنَّه هلَّا سوَّى بين عباده في تلك الخصائص، وقسَّمها بينهم على السواء؟ فإنَّ هذا عين الجهلِ والسفَه من المعترض به. وقد بيّنَّا فيما تقدم أنَّ حكمته تأبى ذلك وتمنع منه (2). ولكن اعلم أنَّ الأمرَ قسمةٌ بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا (3). فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولِكلِّ واحدٍ قسطُه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعملٌ فيما هو له مهيَّأ وله مخلوق. وكلُّ ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنَّه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقَسْمه (4)، فلذلك (5) لا تضرهم الأدواءُ __________ (1) "كل": ساقط من "ب". (2) انظر ما سلف في ص (212، 217). (3) "وهذا" ساقط من "ط". (4) "ب، ط": "قسمته"، وقد سقطت من "ف" سهوًا. (5) "ك، ط": "فكذلك".
(1/289)
ولا السُّموم، بل متى وسوس لهم العدو، أو اغتالهم (1) بشيءٍ من كيده، أو مسَّهم بشيء من طيفه {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف/ 201 - 202]. وإذا واقعوا معصيةً صغيرةً أو كبيرةً عاد (2) ذلك عليهم رحمةً، وانقلب في حقهم دواءً، وبُدِّلَ حسنةً بالتوبة النصوح والحسنات الماحية؛ لأنَّه سبحانه عرَّفهم بنفسه وبفضله، وبأنَّ قلوبهم بيده وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم، وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزَّتَه في قضائه، وبرَّه وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجَتهم إليه وافتقارَهم وذلَّهم، وأنَّه إن لم يعفُ عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا. فإنهم لمَّا أعطوه (3) من أنفسهم العزمَ أن لا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبَهم، ثمَّ عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيمَ اقتداره، وجميلَ ستره إيَّاهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبردَ عفوه (4) وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا بالتوبة إليه (5) وجدوه غفورًا (6) رحيمًا __________ (1) "ن، ك، ط": "واغتالهم". (2) "ن": "رد". (3) "ك، ط": "أعطوا". (4) "ب": "وبره وعفوه". "ك، ط": "لهم برد عفوه". (5) ما عدا الأصل و"ف": "إليه بالتوبة". (6) "ب": "عفوًّا".
(1/290)
حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويُقيلهم العثرات، ويودهم بعد التوبة ويحبهم. فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاءِ، وتوسلوا إليه بذلّ العبيد (1) وعزّ الربوبيّة. فتعرّف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءَه، ويسّرهم للتوبة والإنابة، وأقبل بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه. ولم تمنعه معاصيهم وجناياتُهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم، فتابَ قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه. فلمَّا تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرَّف إليهم تعرُّفًا آخر: فعرَّفهم رحمتَه، وحسنَ عائدته، وسعةَ مغفرته، وكريمَ عفوه، وجميلَ صفحه، وبرَّه وامتنانَه وكرمَه، وسرعةَ مبادرته (2) قبولَهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرود (3)، وشدَّة النفور، والإيضاع في طرق معاصيه (4). وأشهدَهم مع ذلك حمدَه العظيم، وبرَّه العميم، وكرمَه في أن خلَى بينهم وبين المعصية، فنالوها بنعمته واعانته، ثمَّ لم يُخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاكِ والفسادِ الذي لا يرجى معه صلاح (5)، بل تداركهم بالدواءَ الشافي (6)، فاستخرج منهم داءَ لو استمرَّ معه لأفضى (7) إلى الهلاك. __________ (1) "ك، ط": "العبودية". (2) "ط": "وشرعه، ومبادرته"، تحريف. (3) "ك، ط": "شرور"، تحريف. (4) "طرق" ساقط من "ب". والإيضاع: الإسراع. (5) "ب، ك، ط": "فلاح". (6) "ك": "النائي الشافي"، "ط": "الثاني الشافي". (7) "ك": "لأخرجهم".
(1/291)
ثمَّ تداركهم بروحِ الرجاءِ، فقدفه في قلوبهم، وأخبر أنَّه عند ظنونهم به. ولو أشهدهم عظيمَ الجناية (1)، وقبحَ المعصية، وغضبه ومقته على من عصاه فقط، لأورثهم ذلك المرضَ (2) القاتل والداءَ العضال من الياس من رَوحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم. ولكن رحمهم قبل البلاء، وفي حَشْو البلاء، وبعد البلاء (3). وجعل تلك الآثار التي تُوجبها معصيتُه (4) من المحن والبلاءِ والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوِّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده. فأشهدهم بالجناية (5) عزَّةَ الربوبية وذلَّ العبيد (6)، ورقَّاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته؛ فهم على كلِّ حال يربحون عليه، ويتقلبون في كرمه وإحسانه، فكلُّ (7) قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير له، يسوقه به (8) إلى كرامته وثوابه. وكذلك عطاياه الدنيوية نعمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبَهم إيَّاها انقلبت من عطايا الآخرة، كما قيل: إنَّ اللَّه يُنعِم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت من (9) عطايا الآخرة. __________ (1) "ك، ط": "عظم الجناية". (2) "ف": "بالمرض"، خلاف الأصل. (3) "وفي حشو البلاء وبعد البلاء" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "المعصية". (5) "بالجناية" ساقط من "ب". (6) "ط": "العبودية". (7) "ك، ط": "وكل". (8) "به" ساقط من "ب، ك، ط". (9) "من" ساقطة من "ك، ط".
(1/292)
والربُّ سبحانه قد تجلَّى لقلوب المؤمنين العارفين، وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه، ومضاء (1) مشيئته، وعظيم سلطانه، وعليّ شأنه (2)، وكرمه وبره وإحسانه، وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية من ذلك (3)، ووراءَه -ممَّا لم تحتمله قواهم، ولا يخطر ببال، ولا يدخل في خلَد- ما (4) لا نسبةَ لما عرفوه إليه. فاعلم أنَّ الذين كان قِسْمُهم أنواع المعاصي والفجور، وفنون الكفر (5) والشرك، والتقلب في غضبه وسخطه = قلوبُهم (6) وأرواحهم شاهدةٌ عليهم بالمعاصي والكفر، مُقِرَّةٌ بأنَّ له الحجَّة عليهم وأنَّ حقَّه قِبَلهم. ولا يدخل (7) النارَ منهم أحدٌ (8) إلا وهو شاهدٌ بذلك، مقِرٌّ به، معترفٌ اعتراف طائع مختار (9) لا مُكرَه مضطهد. فهذه شهادتُهم على أنفسهم وشهادةُ أوليائه عليهم. والمؤمنون يشهدون له (10) فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمتُه أقربَ إليهم من عقوبته. __________ (1) "ط": "مضي". (2) "ك، ب، ط": "علو شأنه". (3) "من ذلك" ساقط من "ط". (4) ما عدا الأصل: "مما". (5) "وفنون الكفر" ساقط من "ب". (6) "ك، ط": "وقلوبهم"، خطأ. (7) "ك، ط": "يذكر" تحريف. (8) "ب، ك، ط": "أحد منهم النار". (9) "مختار" ساقط من "ك، ط". (10) "له" ساقط من "ب، ك، ط".
(1/293)
فيشهدون بأنَّهم (1) عبِيده ومِلكه، وأنَّه أوجدهم ليظهر بهم مجدُه، وينفذَ فيهم حُكمُه، ويمضي فيهم عدلُه، ويحقَّ عليهم كلمتُه، ويصدقَ فيهم وعيدُه، ويبين (2) فيهم سابقُ علمه، ويعمر بها (3) ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته. وشهد (4) أولياؤه عظيم ملكه، وعز سلطانه، وصدق رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدرَ ما اختصّهم به، ومن أي شيء حماهم وصانهم، وأيَّ شيء صرَف عنهم؛ وأنَّه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين. وشهدوا له سبحانه بأنَّ ما كان منه إليهم وفيهم -ممَّا يقتضيه إتمامُ كلماته (5) الصدق والعدل (6)، وصدقُ قوله، وتحقيقُ (7) مقتضى أسمائه- فهو محضُ حقَّه. وكل ذلك منه حسن جميل، له عليه أتمُّ حمدٍ وأكمله وأفضلُه. وهو حُكمٌ عدلٌ، وقضاءٌ فصل. وأنَّه المحمود على ذلك كلَّه فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة، ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقه، وعزٌّ أبداه، وملكٌ أعلنه، ومرادٌ له أنفذه؛ كما فعل بالبُدن وضروب الأنعام: أتمَّ بها مناسكَ أوليائه __________ (1) "ن، ك، ط": "أنَّهم". (2) كذا في "ف" وغيرها. ويحتمل قراءة "يتبين". (3) كذا في الأصل وغيره، ولعلَّ الصواب "بهم" كما في "ط". (4) "ف": "ويشهد"، قراءة محتملة. (5) "ب": "كلمته". (6) في حاشية "ب": "لعله: حكمه" يعني: كلمته الصدق، وحكمه العدل. (7) "ك، ط": "تحقق".
(1/294)
وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام إهلاكًا (1) وإتلافًا. فأعداؤه الكفَّار المشركون به الجاحدون به (2) أولى أن تكون دماؤهم قرابينَ أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله، كما قال حسَّان بن ثابت (3): يتطهَّرون، يَرونَه قُربانَهم ... بدماءِ مَن عَلِقوا من الكفَّار (4) وكذلك لمَّا ضحَّى خالد بن عبد اللَّه القَسْري (5) بشيخ المعطِّلة الفرعونية الجعد بن درهم، فإنَّه خطبهم في يوم أضحى، فلمَّا أكمل خطبته قال: "أيّها النَّاسُ ضَحُّوا، تقبَّل اللَّه ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنَّه زعمَ أنَّ اللَّه لم يكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيمَ خليلًا، تعالى عمَّا يقول الجعدُ علوًّا كبيرًا. ثمَّ نزل، فذبحه، وكان (6) ضحيته. ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال (7). فهذا شهود أوليائه من شان أعدائه، ولكن أعداؤه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانُه __________ (1) "ب، ك، ط": "هلاكًا". (2) "به" ساقط من "ب، ك، ط". (3) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فالبيت من الأبيات المشهورة التي قالها كعب بن زهير في الأنصار. انظر: ديوانه (35)، ورواية صدر البيت فيه وفي السيرة وغيرها: يتطهرون كأنَّه نُسُكٌ لهم (4) في الأصل والنسخ الأخرى: "علقوا به"، وهو خطأ يخلّ بالوزن. (5) "القسري" ساقط من "ب". (6) "ب، ك، ط": "فكان". (7) ص (29). وانظر الفتاوى (8/ 357).
(1/295)
ورحمتُه، ولكن لمَّا حُجِبوا عن معرفته، ومحبته، وتوحيده، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى (1)، ووصفه بما يليق به، وتنزيهه عمَّا يليق به = صاروا أسوأَ حالًا من الأنعام، وضُرِبوا بالحجاب، وأُبعِدوا عنه بأقصى البعد، وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغُيِّبتْ قلوبُهم من (2) الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غيابات (3)، ليتمَّ عليهم أمرُه (4)، وينفذ فيهم حكمُه، واللَّه عليم حكيم (5). فصل واللَّه سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته تعالى أن خلقَ دارًا لطالبي رضاه العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، وهي الجنَّة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كلِّ محبوب ومرغوب ومشتهًى ولذيذ، وجعل الخيرَ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ طيبٍ من الذوات والصفات والأقوال. وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم (6) وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، __________ (1) "ط": "العليا". (2) "ك، ط": "في"، تحريف. (3) "ب": "غايات". "ك، ط": "غابات"، تحريف. وغَيابة الجُب: قعره. (4) "ك، ط": "أمده" تحريف. (5) "واللَّه عليم حكيم" ساقط من "ن". وفيها وفي "ك، ط" زيادة: "واللَّه أعلم". (6) "ط": "لأغراضها". وصحح في القطرية.
(1/296)
الجاحدين لما أخبرتْ به رسلُه من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنَّم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحنَها (1) من كلِّ مؤذٍ (2) ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال. فهاتان الداران هما دار القرار (3). وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثمَّ أخرج إليها من آثار (4) الدارين بعضَ ما اقتضته أعمالُ أربابهما وما يُستدل به عليهما، حتَّى كأنَّهما رأيُ عين، ليصير للإيمان (5) بالدَّارين -وإن كان غيبًا- وجهُ (6) شهادة تستأنس (7) به النفوس، وتستدلّ به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه، والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذّ النفوس ومشتهاها ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال. فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة (8) والسرور والعيش الرخي، كما قيل: __________ (1) "ك": "سجنها"، "ط": "وسجنها مليءٌ". ولعل هذه الزيادة سببها التصحيف السابق. (2) "ب، ك": "شيء مؤذ". (3) كذا في الأصل وغيره به. فراد "الدار". وفي "ط": "دارا القرار". (4) "ك، ط": "أثمار". (5) "ب، ك": في "الإيمان". (6) "وجه" ساقط من "ب". (7) "ف": "تستأثر". "ن": "تستأمن"، والظاهر أنَّ كليهما تحريف. (8) "ب، ك، ط": "الخير".
(1/297)
فإذا رآك المسلمون تيقَّنوا ... حُورَ الجِنانِ لدى النعيم الخالدِ (1) فشمَّروا إليه وقالوا: "اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة" (2). وأحدثت لهم رؤيته عَزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأنَّ النعيم يذكِّر بالنعيم، والشيء يذكِّر بجنسه؛ فإذا رأى أحدُهم ما يُعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: "موعدك الجنَّة، وإنَّما هي عشية أوضحاها". فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمةٌ من اللَّه، يشوّق (3) بها عباده المؤمنين إلى تلك (4) التي هي أكملُ منها، وزاد (5) لهم من هذه الدار إليها. فهي زاد، وعبرة، ودليل، وأثرٌ من آثار (6) رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكنَ عزماته إلى تلك، فنفسه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكملُ منه حتَّى تتوقَ إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم. وأخرجَ سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أنَّ ذلك من آثار النفَسين الشتائي والصيفي (7) اللذين أذِنَ اللَّه سبحانه بحكمته لجهنَّم أن تتنفَّسَ __________ (1) لأبي إسحاق الصابئ في يتيمة الدهر (2/ 259). (2) من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة الخندق. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2961). (3) "ب، ك، ط": "يسوق". (4) "ب، ك، ط": "تلك الدار". (5) في الأصل: "زادًا"، ولعله سهو، وكذا في "ف، ن". والمثبت من "ب، ك، ط". (6) "من آثار" ساقط من القطرية. (7) "ك، ط": "الشتاء والصيف". "ب": "في الشتاء. . . ".
(1/298)
بهما، فاقتضت [بذنيك] النفسين (1) آثارًا ظهرت في هذه الدار كانت دليلًا وعبرة عليها (2). وقد أشار تعالى إلى هذ المعنى، ونبَّه (3) عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة/ 73] تذكرةَ تُذِّكر بنار الآخرة (4)، ومنفعةً للنازلين بالقَواءِ، وهم المسافرون. يُقال: أقوى الرجلُ، إذا نزل بالقِيِّ والقَوَاءِ، وهي الأرض الخالية. وخص المقوين بالذكر (5)، وإن كانت منفعتُها عامَّةً للمسافرين والمقيمين، تنبيها لعباده -واللَّه أعلم بمراده من كلامه- على أنَّهم كلهم مسافرون، وأنَّهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا (6) مقيمين ولا مستوطنين، وأنَّهم عابرو سبيل وأبناء سفر. والمقصود: أنَّهُ سبحانه أشهدَهم (7) في هذه (8) ما أعدَّ لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خيرٍ وشرٍ. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا (9) يسوقُ بها عبادَه المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا __________ (1) في الأصل و"ف، ك": "فاقتضت تلك النفسين"، وفي "ف" تحت "النفسين": "النفس ظ"، وفي الحاشية: "النفسان صح". وفي "ن": "فاقتضت بذلك النفسين". وفي "ب": "فأفاضت بالنفسين". وفي "ط": "فاقتضى ذانك النفسان". (2) "ط": "دليلًا عليها وعبرة". (3) قراءة "ف": "ذنبه". (4) "ب، ك، ط": "بها الآخرة". (5) "ف": "بالدار". خلاف الأصل وهو تحريف. (6) "ط": "ليسوا هم". (7) "هم" ساقط من "ط". (8) "ب": "هذه الدار"، وزاد كلمة "الدار" في "ط" بين حاصرتين. (9) "ف": "سببًا لها" تحريف.
(1/299)
كلَّ الحذَر، واستدلُّوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادُهم إياها، وامتحانُهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرةً وتنبيهًا. ولمَّا كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرها، وأذاها براحتها، ونعيمُها بعذابها اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرَّها، وخصَّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور (1) المحضة. فكتب على هذه الدار حُكمَ الامتزاج والاختلاط، وخلَطَ فيها بين (2) الفريقين، وابتلَى بعضهم ببعض، وجعَل بعضَهم لبعض فتنة؛ حكمةٌ بالغةٌ بهرت العقول وعزَّةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم (3) عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمَع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلَّط بعضَه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك. فلمَّا حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبَه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكلِّ دارٍ ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها وخلَق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلِّطين للأمرين معًا (4): فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل الرحمة __________ (1) "ك، ط": "السرور"، تصحيف. (2) "ف": "من"، تحريف. (3) "ب": "ولم يمكن قيام". (4) "معًا" ساقط من "ك، ب".
(1/300)
والنقمة (1)، وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتَّب على كلِّ قسم من هذه الأقسام (2) حُكمَه اللائقَ به، وأظهر (3) فيه حكمتَه الباهرة (4)، ليعلمَ العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنَّه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنَّه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحلِّ المقتضي لذلك، ولا يظلم (5) أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقِّه، ولا يعاقبه بغير جنايته. هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكَم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراجِ صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج (6) كمالاتهم (7) الكامنة في نفوسهم (8) من القوَّة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله (9) ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثارُ القهر وسماتُ الضعف والعجز، ويستيقنَ (10) العبد أنَّ القهَّار لا يكون إلا واحدًا، وأنَّه يستحيل أن يكون له شريك؛ بل القهر والوحدة متلازمان. __________ (1) "ك، ط": "النقمة والرحمة". وقد غير بعضم "النقمة" في "ك": "النعمة"! (2) زاد في "ط": "الخمسة"، مع أنَّ الأقسام المذكورة أربعة فحسب! (3) "ب": "فأظهر". (4) "ف": "القاهرة"، تحريف. وفي "ب": "لبالغة". (5) "ف": "فلا يظلم". (6) هذه نهاية نسخة "ن" الناقصة. (7) "ف": "حالاتهم"، تحريف. (8) "ط": "نفسهم". (9) "ب": "بمقاتلته". تصحيف. (10) "ب، ك، ط": "ويتيقن".
(1/301)
فالملك والقدرة والقوَّة والعزَّة كلها للَّه الواحد القهَّار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناوٍ (1) ومشارك. فخلقَ الرياحَ، وسلَّطَ بعضها على بعض تُصادمها، وتكسِر سَورتَها، وتذهب بها. وخلقَ الماء، وسلَطَ عليه الرياحَ تصرّفه وتكسره. وخلق النَّار، وسلَّطَ عليها الماءَ يكسرها ويطفئها. وخلقَ الحديد، وسلَّط عليه النار تذيبه وتكسر قوته. وخلق الحجارة، وسلَّط عليه الحديد يكسرها ويفتَتها. وخلق آدم وذريته، وسلَّطَ عليهم إبليس وذريته. وخلَق إبليس وذريته، وسلَّطَ عليهم (2) الملائكة يشرّدونهم كلَّ مشرَّد ويطرّدونهم كلَّ مطرَّد. وخلق الحرَّ والبرد والشتاء والصيف، وسلَّطَ كلًّا منها على الآخر يُذهِبه ويقهره. وخلقَ الليل والنهار، وقهرَ كلًّا منهما بالآخر. وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر، لكل منه مضاد ومغالب. فاستبان للعقول والفطَر أنَّ القاهر الغالب لذلك كلِّه واحدٌ، وأنَّه (3) من تمام ملكه إيجادُ العالم على هذا الوجه، وربطُ بعضه ببعض (4)، وإحواجُ بعضه إلى بعض، وقهرُ بعضه ببعض، وابتلاءُ بعضه ببعض (5)، وامتحانُ (6) خيره بشرّه وجعلُ شره لغيره الفداءَ. ولهذا يُدفع إلى كلِّ مؤمن يوم القيامة كافرٌ فيقال له: "هذا فداؤكَ من النار" (7). وهكذا __________ (1) كذا ورد في الأصل بحذف الهمزة، وهو جائز. وفي "ب، ك، ط": "مناف". (2) "ب": "وسلَّط على إبليس وذريته". (3) "ب، ط": "وأن". (4) "ب، ط": "على بعض". (5) "وإحواج. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (6) "ط": "وامتزاج"، تحريف. (7) أخرجه ابن ماجه (4292) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه بإسناد ضعيف. وله =
(1/302)
المؤمن (1) في الدنيا يسلَّط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءَه من عذاب اللَّه، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرورِ أكبر (2) منها في العالم أيضًا. فَلْيُعطِ اللبيبُ هذا الموضع حقَّه من التدبر يتبين له حكمةُ اللطيف الخبير. فصل وقد تقرَّر أنَّ اللَّه سبحانه كامل الصفات، له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم. وهو سبحانه خلقَ عبادَه على الفطرة، وكل مولود فإنّما يولد على الفطرة التي فُطِرَ الخلائق عليها، ولكنَّ الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم عن الفطرة (3)، ويَعدِلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرَها، ولكن أخرجوهم عن سَنَنِ الحنيفية وأفسدوا فِطَرهم وقلوبهم. وهكذا بالأضداد والأغيار يخرُج بعض المخلوقات عن سَنَن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولود في فطرته، ولذلك أمثلة: المثال الأوَّل: أنَّ الماءَ خلقه اللَّه في الأصل (4) طاهرًا مطهِّرًا، فلو تُرِكَ على حالته التي خُلِقَ عليها ولم يخالطه ما يزيلُ طهارته لم يكن إلا __________ = شاهد في صحيح مسلم (2767) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. وانظر المسند (19485)، تعليق المحقق (32/ 230). (1) "ف": "يكون المؤمن"، خلاف الأصل. (2) "ب، ك، ط": "أكثر". (3) "التي فطر. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ط" لانتقال النظر. (4) "في الأصل" ساقط من "ك، ط".
(1/303)
طاهرًا، ولكن بمخالطته (1) أضدادَه من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلق عليها. فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمنزلة (2) أبوي الطفل وكافليه الذين يهودونه وينصرونه ويمجسونه ويشرِّكونه (3). وكما أنَّ الماءَ إذا فسدَ بمخالطته (4) الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فِطَرُها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس. المثال الثاني: الشرابُ المعتصَرُ من العنب، فإنَّه طيِّب يصلح للدواءِ ولإصلاح الغذاءِ وللمنافع (5) التي يصلح لها. ولو (6) خُلِّيَ على حاله لم يكن إلا طاهرًا طيِّبًا، ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرًا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصارَ أخبثَ شيءٍ وأنجسه. فلو انقلبَ خلًّا، أو زالَ تغيُّر الماءِ، كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإنَّ الحكمَ إذا ثبتَ لعلَّة زال بزوالها (7). المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطنَ الحيوانِ واستقرَّت هناك خرجت عن حالتها التي خُلِقَتْ عليها، واكتسبَتْ بهذه المخالطة والمجاورةِ خبثًا وفسادًا لم يكن فيها، لسلوكها في غير __________ (1) "ب، ك، ط": "بمخالطة". (2) "ب، ك، ط": "بمعنى". (3) الأفعال الأربعة في "ب" بالتثنية: "يهودانه. . . " لضبط "كافلَيه" فيها بالتثنية! (4) "ك": "بمخالطة". (5) "ك، ط": "والمنافع". (6) "ب، ك، ط": "فلو". (7) في "ك، ط" زيادة "واللَّه أعلم".
(1/304)
طرقها (1) التي بها كمالها. ولمَّا أنزلَ اللَّهُ سبحانه الماءَ طاهرًا نافعًا، فمازج الأرضَ، وسالت به أوديتها، أوجدَ -جل جلالُه- بينهما بسبب هذه (2) المخالطة والممازجة أنواعَ الثمارِ والفواكه (3) والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات، وأوجدَ (4) مع ذلك المُرَّ والشوكَ والحنظلَ وغيرَ ذلك. واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة. قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد/ 4]. ثمَّ إنَّه سبحانه يُصرف ما أخرجه من هذا الماءِ، ويُقلِّبه، ويحيل بعضَه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى. وهذا كما خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ، ثمَّ خالفَ بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما تصلح له (5)، وأمشى بعضها (6) على بطنه، وبعضها على رجلين، وبعضها على أربع؛ حكمة بالغة، وقدرة باهرة. وكذلك سبحانه يقلِّب الليل والتهار، ويقلِّب ما يوجد فيهما، ويقلِّب أحوال العالم كما يشاء، ويسلك بذلك كلَّه (7) مسلك الحكمة البالغة التي __________ (1) "ف": "طريقها"، خلاف الأصل. (2) "هذه" ساقط من "ب". (3) "والفواكه" ساقط من "ب". (4) "ف": "وإن وُجِدَ" خلاف الأصل. (5) "ك، ط": "وما يَصلح لها". (6) "ك، ط": "بعضًا" في هذه الجملة وما يليها. (7) "كله" ساقط من "ك، ب، ط".
(1/305)
بها يتم مراده، ويظهر ملكه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/ 54]. وهذا القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب جل جلاله وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعلائه (1) وحكمته وإبداع (2) صَنعه، والتقدّمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقهم (3) بما أقامه من الشواهد والدلالات (4) على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كلّه. وكان من تمام ذلك الإخبارُ عن الكافرين والمكذّبين، وذكرُ ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسلات ربهم، ووصفُ كفرهم وعنادهم وكيف كذَبوا على اللَّه، وكذبوا رسلَه، وردّوا أمره ونصائحه (5). وكان (6) في اجتلاب (7) ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهد الحقّ، وقيامُ أدلته، وتنوّعُها. وكان موقع هذا من خلقه موقعَ تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناءِ عليه، فإن (8) أسماءَه تعالى الحسنى وصفاته العلى (9) هي موضع الحمد، ومن __________ (1) "ب" ك، ط": "عزَّته". (2) "ب، ك، ط": "أنواع". (3) "ك، ط": "تصديقه يفهم"، تحريف. (4) "ب": "الآيات". (5) "ب، ك، ط": "ومصالحه"، تحريف. (6) "ك، ط": "فكان". (7) "ف": "اختلاف"، تصحيف. (8) "ب، ك، ط": "وإن". (9) "ط": "العليا".
(1/306)
تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عمّا وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما (1) في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضادّه ويخالفه. ولهذا كان تسبيحُه تعالى من تمام حمده، وحمدُه من تمام تسبيحه؛ ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين (2). فكان (3) ما نسبه إليه أعداؤه والمعطّلون (4) لصفات كماله -من علّوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلّم به على رسله وغير ذلك من صفات كلامه- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك (5) مما نزّه عنه نفسَه وسبّح به نفسَه. وكان في ذلك ظهورُ حمده لخلقه (6)، وتنوّعُ أسبابه، وكثرةُ شواهده، وسعةُ طرق الثناءِ عليه به، وتقريرُ عظمته ومعرفته في قلوب عباده. فلولا معرفةُ الأسباب التي يسبّح وينزه ويتعالى عنها، وخَلْقُ مَن يضيفها إِليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أيّ شيء يسبّحونه وعمّا ذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه مَن قد نسبه إلى ما لا يليق به، وجحد من كماله ما هو أولى به، سبّحوه حينئذ تسبيحَ مُجِل له، مُعظِّمٍ له، منزِّهٍ له (7) عن أمرٍ قد __________ (1) "ف": "وما"، وكذا في الأصل، ولكن لعل الواو مضروب عليها، ولم يظهر خط الضرب لانتشار الحبر. (2) "ط": "قربتين"، تصحيف. (3) "ب، ك، ط": "وكان". (4) (ب): "إليه المعطلون". (5) "من صفات. . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط". وقد استدرك في حاشية "ك" بخط مختلف. (6) "ب، ط": "بخلقه" (7) "له" ساقط من "ط"، ومستدرك في القطرية.
(1/307)
نسبه إليه أَعداؤه والمعطّلون لصفاته. ونظير هذا اشتمال (1) كلمة الإسلام -وهي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه- على النفي والإثبات. فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يُقصد بنفي الإلهيّة عن كلّ من (2) ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى. فتجريدُ هذا التوحيد من العقد واللسان بتصوّر إثبات الإلهيّة لغير اللَّه -كما قاله أعداؤه المشركون- ونفيُه وإبطالُه من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله، وتقريره (3)، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه. ونظير ذلك أيضًا أنّ تكذيَب أعداءِ الرسل لهم (4) وردَّهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجِبة ظهورَ براهينِ صدقِ الرسل، ودفعَ ما احتجّ به أعداؤهم عليهم من الشبه (5) الداحضة، ودحضَ حججهم الباطلة، وتقريرَ طرق الرسالة، وإيضاحَ أدلتها. فإنّ الباطل كلّما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجهُ الحقّ، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وتقررت براهينه. فكسرُ الباطل ودحضُ حججه وإقامةُ الدليل على بطلانه من أدلّة الحق وبراهينه. فتأمّلْ كيف اقتضى الحقُ وجودَ الباطل، وكيف تمّ ظهورُ الحق __________ (1) "ف": "استكمال"، تحريف. (2) "ك، ط": "ما". (3) "ب": "كمال تقريره". (4) "لهم" ساقط من "ك، ط". (5) "ب، ك": "الشبهة".
(1/308)
بوجود الباطل، وكيف كان كفرُ أعداءِ الرسل بهم (1) وتكذيبُهم لهم ودفعهُم ماجاؤوا به هو (2) من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات اللَّه، وقيام حججه على العباد. ولنضربْ لذلك مثالًا يتبيّن به، وهو: ملِكٌ له عبدٌ قد توحّد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدِّق ومكذب. فمِن قائلِ: هو كذلك، ومِن قائلٍ: هو بخلاف ما يظَنّ به، فإنّه لم يقابل الشجعان، ولا واجه الأقران. ولو نازل (3) الأقران، وقابل الشجعان، لظهر أمرُه، وانكشف حالُه. فسمع به شجعانُ العالم وأبطالُهم، فقصدوه من كلّ أوب، وأمّوه (4) من كلّ قطر، فأراد الملك أن يُظهر لرعّيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن تلك (5) الشجعان والأبطال (6) من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم وإيّاه، وشأنكم به. فهل تسليطُ الملِك لأولئك على عبده ومملوكه إلّا لإعلاءِ شأنه، وإظهار شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به؟ وكما (7) يترتّب على هذا (8) إظهارُ شجاعة عبده وقوّته، وحصولُ مقصوده بذلك؛ فكذلك يترتَّب عليه ظهورُ كذبِ من ادعَّى مقاومته، __________ (1) "ف": "منهم"، خطأ. (2) "ك، ط": "وهو"، خطأ. (3) "ب، ك، ط": "بارز". (4) أي قصدوه. وفي "ب، ك، ط": "أتوه". (5) "ط": "أولئك"."ب": "الشجاعة بين تلك". (6) "والأبطال" ساقط من "ك، ط". (7) "ب": "فكما". "ط": "كما". (8) "هذا": ساقط من "ط" ومستدرك في القطرية.
(1/309)
وظهورُ عجزهم، وفضيحتهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمّات الملِك وحوائجه. فإذا عدَل بهم عن مهمّاته وولاياته (1) وعدَل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرّفه في ملكه، وأنّه لو استعملهم في تلك المهمّات لتشوّش أمرُ المملكة، وحصل الخلل والفساد. فاللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته (2)، وهو أعلم بالشاكرين (3). والمقصود أنّ خلقَ الأسباب المضادّةِ للحقّ وإظهارها في مقابلة الحق من أبيَن دلالاتِه وشواهدِه، فَكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها (4) تلك الحكمةُ، وهي أحبُّ إلى اللَّه تعالى من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. واللَّه أعلم. فصل وللنَّاس في دخولِ الشرِّ في القضاءِ الإلهي طُرُقٌ، فنذكرها ونذكر أصولَهم التي تفرَّعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول: الناسُ قائلان (5): أحدهما قولَ أهل الإسلام وأتباع المرسلين كلِّهم إنَّ اللَّه سبحانه فعَّالٌ لما يريد، يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه "فاعلًا بالاختيار". __________ (1) "ط": "ولايته". (2) "ك": "واللَّه أعلم. . رسالته". والعبارة ساقطة من "ط". (3) "ط": "واللَّه أعلم بالشاكرين". (4) وضع "لفاتت" في "ط" بين حاصرتين. وقد سقط "بها" منها ومن "ك". (5) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "للناس قولان".
(1/310)
والفريق (1) الثاني قولَ من نفى ذلك وقال: صدورُ العالَمِ (2) عنه تعالى صدورًا ذاتيًّا كصدور النور عن الشمس، والحرارة عن النَّار، والتبريد عن الماءِ، ويسمي المتكلمون هذا "الإيجاب الذاتي"، ومصدَره "موجبًا بالذات (3) "، وهذا قول الفلاسفة المشَّائين. وهو الذي يذكره ابن الخطَيب (4) وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكي عنهم غيرَه، وإنَّما هو قول المشَّائين. وقرَّبه متأخرُهم وفاضلُهم ابن سينا إلى الإسلام بعضَ التقريب، مع مباينته لما جاءَت به الرسل ولِمَا دلَّ عليه صريح العقل والفطرة. والفريقان متفقون على أنَّ مصدرَ (5) الكائنات بأسرها خيرٌ محضٌ من جميع الوجوه وكمالٌ صِرْف. ووجود الشرِّ في العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير، فلا جَرَمَ اختلفت طرقُهم في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي، وتنوعت إلى أربعة طرق (6). الطريق الأولى (7): طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنَّهم سدُّوا على أنفسهم هذا الباب، وأثبتوا مشيئةً محضةً لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة يفعل (8) لأجلها، ولا يتوقف فعلُ المختار بها على مصلحة __________ (1) "ك، ط": "وللفريق". (2) "ك": "صدور العلم"."ط": "صدر العلم"، تحريف. (3) "ك، ط": "موجبات الذات"، تحريف. (4) يعني الفخر الرَّازي صاحب التفسير الكبير، المتوفى سنة 656 هـ. (5) "ف": "ضبط"، تحريف. (6) "ب": "أربع طرق". (7) "ط": "الأوَّل". (8) "ط": "تفعل".
(1/311)
ولا حكمة، ولا غاية لها يُفعل (1)، بل كلُّ مقدورٍ يحسن منه فعلُه، ولا حقيقة عندهم للقبيح إلا (2) المستحيل لذاته الذي لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاءِ نفوا مسمَّى الرحمة والحكمة، وإن أقرُّوا بلفظ لا حقيقة له. وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذَّمين (3)، وهم يتقلَّبون في بلائهم، فيقول لهم (4): أرحمُ الرَّاحمين يفعل مثل هذا! يعني أنَّه ليس في الحقيقة رحمة، وإنَّما هو محضُ مشيئة وصِرْفُ إرادة مجرَّدةٍ عن الحكمة والرحمة. وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثاني، وهم الذين أثبتوا له حكمة وغايةً، وقالوا: لا يفعل شيئًا إلا لحكمة وغاية مطلوبة (5)، ولكن حجروا عليه سبحانه في ذلك، وشرعوا له شريعةً وضعوها بعقولهم، وظنُّوا أنَّ ما يحسن من خلقه تعالى يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق. ولهذا كانوا "مشبِّهة الأفعال"، كما أنَّ من شبَّهه بخلقه في صفاته فهو "مشبِّه الصفات"، فاقتسموا التشبيه (6) نصفين: هؤلاء في أفعاله، وإخوانهم في صفاته. وقالوا: إنَّه تعالى لو خصَّ بعض عبيده عن بعض بإعطائه توفيقًا __________ (1) "ط": "تفعل". (2) "ط": "لولا"، خطأ. (3) "ب، ط": "المجذومين". (4) "لهم" ساقط من "ك، ط". (5) "ب": "لغاية وحكمة مطلوبة". (6) في "ف" مكان "التشبيه": "إلى مشبهة"، تحريف.
(1/312)
وقدرةً وإرادةً، ولم يعطها الآخرَ، لكان ظلمًا للذي منعه. وقالوا: لو شاءَ من عباده أفعال المعاصي لكان سفهًا (1) ينزَّه عنه، كما في الشاهد (2)؛ ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثمَّ عذبهم عليه لكان ظلمًا، كما (3) في الشاهد أيضًا. فإنَّ السيد إذا أراد من عبده شيئًا، ففعل العبد ما أراد سيده، فإنَّه إذا عذبه عدَّه الناس ظالمًا له. وجعلوا العدل في حقِّه من جنس العدل في حقِّ عباده، والظلم الذي تنزَّه (4) عنه كالظلم الذي يتنزهون (5) عنه. وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم، وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أرادَ الشرَّ لكان شرِّيرًا كما في الشاهد، فإنَّ مريدَ الشرِّ شرِّير (6). وقالوا: لو ختم على قلوب أعدائه وأسماعهم، وحال بينهم وبين قلوبهم، وأضلهم عن الإيمان، وجعل على أبصارهم غشاوةً، وجعل من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا، ثمَّ عذَّبهم، لكان ذلك ظالمًا لهم؛ لأنَّ أحدنا لو فعل ذلك بعبده، ثمَّ عذَّبه، لكان ظالمًا له. فهؤلاءِ هم (7) المشبِّهة حقًّا في الأفعال، فعدلُهم تشبيه، وتوحيدُهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل. __________ (1) "سفهًا" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك" بخط مختلف. (2) تحرفت هذه الكلمة في "ط" هنا وفي المواضع الآتية كلها إلى "المشاهد". (3) سقط "كما" من "ك، ط". (4) "ب، ك": "ينزه". (5) "ك": "ينزهون". (6) في الأصل: "شريرًا"، سهو. (7) "هم" ساقط من "ب، ك، ط".
(1/313)
وهؤلاء قسموا الشرَّ الواقعَ في العالم إلى قسمين: أحدهما: شرورٌ هي أفعال العباد وما تولّد منها، فهذه لا تدخل عندهم في القضاءِ الإلهي تنزيهًا للرب تعالى عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته (1) ولا تكوينه. والثاني: الشرور التي لا تتعلق بأفعال العباد، كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده، وغير ذلك من شرور المخلوقات، كإيلام الأطفال وذبح الحيوان. فهذا النوع هو الذي كدَّر على القدرية أصولَهم، وشوَّش عليهم قواعدهم، وقالوا: ذلك كلُّه حسنٌ لما فيه من اللطف والمصلحة العاجلة والآجلة. قالوا: أمَّا الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح، وهو ما ضمن الربُّ سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافي. قالوا: وذلك يجري مجرى استئجار أجير في فعل شاقّ، فإنَّه بغرض (2) الاستئجار أخرَجَ الاستئجار عن كونه عبثًا، وبالأجرة أخرجه (3) عن كونه ظلمًا، فكان حسنًا. قالوا: فإن قيل: إذا كان اللَّه قادرًا على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم، فأي حاجة إلى توسطه؛ وأيضًا فإذا حسُن الألمُ لأجل العوض، فهل يحسن منَّا أن نؤلم (4) أحدَنا بغير إذنه لِعوضٍ يصل إليه؟. __________ (1) "ف": "قدرته ومشيئته"، خلاف الأصل. (2) "ط": "بفرض". "ب": "لغرض". (3) "أخرجه" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "يؤلم"، تصحيف، وزاد في "ط" بعد "أحدنا" بين حاصرتين: "غيره".
(1/314)
فالجوابُ أنَّ اللَّه سبحانه لا يُمرِض ولا يُؤلم (1) إلا مَن يعلم من حاله أنَّه لو أطلعه على الأعواض التي تصل إليه لرضيَ بالألم، ولرغب فيه، لوفور الأعواض وعظمها، وليس كذلك في الشاهد استئجار الأجير من غير اختياره. قالوا: وليس كذلك إيلام أحدنا لغيره لأجل التعويض، فإنَّ مَن قطَع يدَ غيرِه أو رجلَه ليعوضه عنها لم يحسن ذلك منه؛ لأنَّ العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاء من يختارُ مُلكَ الدنيا مع ذلك؛ واللَّه يوصل الأعواض في الآخرة إلى الأحياء، وهم أكملُ شيء خلقًا وأتمه أعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب في هذا. قالوا: فإن فرضتموه في ضربٍ وجلدٍ مع سلامة الأعضاء قَبُح لأنَّه عبث (2)، فإن فُرِضَ فيه مصلحة، ورضي المضروبُ بذلك، وعظمت الأعواض عنه، فهو حسن في العقل لا محالة. قالوا: وسرُّ الأمرِ أنَّ بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلمًا لأنَّه نفع عظيم (3) مُوفٍ (4) على مضرَّة الألم؛ وباعتبار كونه لطفًا في الدين يخرج عن كونه عبثًا. قالوا: وقد رأينا في الشاهد حسنَ الألم للنفع، فإنَّه يحسن في الشاهد إيلام أنفسنا وإتعابها في طلب العلوم والأرباح التي لا يُعبر (5) إليها إلا على جسرٍ (6) من التعب والمشقة. __________ (1) "ولا يؤلم" ساقط من "ب". (2) "ب، ك، ط": "عيب" تصحيف. (3) "عظيم" ساقطة من "ط". (4) "ب، ك، ط": "موقوف". (5) "ب": "نصير". "ك": "يصل". "ط": "نصل". (6) "ب": "حُسْن". "ك، ط": "جنس"، وكلاهما تحريف. وهي عبارة مألوفة في =
(1/315)
قالوا: وهذا الوجه هو الذي (1) حسُن لأجله إيلامُ الأطفال والبهائم فإنَّه إيلامٌ للنفع، فإنَّ أبدان الأطفال لا تستقيمُ إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنَّما تكمل بذلك، وإيلامُ الحيوان لنفع الآدمي به غير قبيح. قالوا: وأمَّا الألمُ المستحَق للعقوبة، فإنَّه حسنٌ في الشاهد ولكنَّه غير متحقق في الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها، ولكن لا بدَّ في إيلامها من مصلحة ترجع إليها، وهي ما يحصل لهم من العوض في الآخرة. قالوا: ويجب إعادتها لاستيفاءِ ذلك الحق الذي لها، وهو العوض على الآلام التي حصلت لها. قالوا: وبقاؤها بعد الإعادة موقوف على مقدارٍ معلوم. . . لانقطاعه (2)، ونعيم الأطفال والمجانين دائم. واختلفوا في البهائم فقال __________ = كتب المؤلف، منها قوله في مفتاح دار السعادة (1/ 363): "والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة"، وفيه أيضًا (2/ 347) "والكمالات كلها لا تنال إلا بحظٍّ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب". وأنشد فيه (2/ 307) قول بعضهم: كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تدركها ... فاعبُر إليها على جسرٍ من التعب والأصل قول أبي تمام في بائيته: بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها ... تُنال إلا على جسرٍ من التعب (1) "الذي" سقط من "ط" فاستدرك في القطرية. (2) كتب ناسخ "ف" فوق كلمة "معلوم": "ينظر"، وترك بياضًا بقدر نصف سطر أو يزيد. والعبارة من لحق طويل بدأ في حاشية الأصل اليمنى ثمَّ استمر إلى أعلى الصفحة ويسارها وأسفلها عائدًا إلى يمينها، ومكان البياض في السطر الأوَّل في أعلاها، وقد ذهب هذا السطر كله لتأكل الورقة، فاعتمدنا في إثبات العبارة "على مقدار. . . واختلفوا في" على "ف". وفي "ك": "موقوف ونعيم =
(1/316)
بعضهم: يدوم عوضهم، وقال آخرون بانقطاعه وإنَّهم (1) يصيرون ترابًا. قالوا: فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلًا، وتحسن إعادتها، وما يحسن قد يفعله اللَّه وقد لا يفعله. وهل تجوزُ الآلام للتعويض المجرَّد؟ فيه قولان لهم (2) مبنيان على أصل اختلفوا فيه، وهو أنَّه هل يحسن منه تعالى التفضل بمثل العوض ابتداءً؟ فصار بعضهم إلى امتناعه، كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداءً عندهم، وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوَّى بين العامل وغيره. وصارَ مَن ينتمي إلى التحصيل منهم إلى أنَّ التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع. فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض جوَّز وقوعَ الآلام للتعويض المجرد. ومن جوَّز التفضل بأمثال الأعواض لم تحسُن عنده الآلام (3) لمجرَّد (4) التعويض، بل قالوا: إنَّما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما: أحدهما التزامُ التعويض، والثاني اعتبار غيرِ المؤلَم بتلك الآلام، وكونُها ألطافًا في زجرِ غاوٍ عن غوايته إذا شاهدها في غيره. وذهب عماد الضَّيْمَري (5) ... منهم إلى أنَّ الآلام تحسن __________ = الأطفال. . . " ولم يُترك بياض، ولكن في الحاشية: "كذا سقط من الأصل نصف سطر قطعه المجلد"، ثمَّ استدرك بعضهم الكلمات التي لم ترد في غير "ت" وهي "على مقدار معلوم. . . لانقطاعه". وفي "ب، ط" بياض بقدر كلمتين بين "موقوف" و"نعيم". (1) "ب، ك، ط": "فإنَّهم". (2) "لهم" ساقط من "ب". (3) العبارة "للتعويض المجرد. . " إلى هنا سقطت من "ط"، واستدركت في القطرية. (4) "ب، ك، ط": "بمجرد". (5) أبو سهل عبَّاد بن سلمان، من كبار المعتزلة، كان في أيام المأمون، وكان =
(1/317)
لمجرد (1) الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته، وردَّ عليه جماهيرُ القدَرية ذلك. قالوا: والآلام التي يفعلها سبحانه إمَّا أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة، وإمَّا للتعويض، وإمَّا للمصلحة الرَّاجحة، قالوا: وما يفعله في الآخرة منها فكله للاستحقاق (2)، وما يفعله في الدنيا فللعوض والمصلحة، وقد يفعله عقوبة، وأمَّا ما شرعه من أسباب الألم فعقوبات محضة. وأمَّا مشايخ القوم فقالوا: إنَّما يحسن منه تبارك وتعالى الإيلام لأنَّه المنعم (3) بالصحة والحياة، ولأنَّه في حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها، فله قطعُها إذا شاءَ، ولأنَّه قادرٌ على التعويض عالم بقدره، وليس كذلك الواحد منَّا (4). قالوا: فإذا استرجع عاريَّة الصحة والحياة خلَفَها الألم (5)، ولا بد. وأطالوا الكلام في الآلام وأسبابها، وما يحسن منها وما يقبح، وعلى أي وجه يقع؛ وحصروا أنفسهم غاية الحصر، فاستطالت عليهم الجبرية بالأسولة والمضايقات، وألجأوهم إلى مضايق "تضايَقُ عنها أن تَوَلَّجَها الأبَرُ" (6)، وأضحكوا العقلاءَ منهم بإبداءِ تناقضهم، وألزموهم إلزاماتٍ __________ = أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام ثم يقول: "لولا جنونه! ". الفهرست (215)، لسان الميزان (3/ 229). (1) "ب، ك": "بمجرد". (2) "ب ": "وكل ما يفعل. . فهو للاستحقاق". (3) "ب": "الآلام لأنه منعم". (4) "ط": "من الخلق". (5) "ب": "الألم والموت". (6) عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره: =
(1/318)
لا بدَّ من التزامها أو ترك المذهب. وسأل أبو الحسن الأشعري أبا علي الجُبائي عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيرًا، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختارَ الكفر، فاجتمعوا عند ربِّ العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم، فقال أخوه الصغير: يا ربِّ، ارفع درجتي حتى أبلغ منزلة أخي، فقال: إنَّك لا تستحق، إنَّ أخاكَ بلغ، فعمل أعمالًا استحق بها تلك الدرجة، فقال: يا ربِّ، فهلَّا أحييتني حتى أبلغ، فأعمل عمله؟ فقال: كانت المصلحة (1) تقتضي اخترامك قبل البلوغ، لأنِّي علمتُ أنَّك لو بلغتَ لاخترتَ الكفر، فكانت المصلحة في قبضك صغيرًا. قال: فصاح الثالث من أطباق النَّار (2) وقال: يا ربِّ هلَّا فعلتَ معي هذا الأصلح، وقبضتني صغيرًا، كما قبضت أخي صغيرًا؟ (3) فما جوابُ هذا أيها الشيخ؟ فلم يُحِرْ (4) إليه جوابًا (5). قالوا: وإذا علم اللَّه سبحانه من بعض العبيد أنَّه لا يختار الإسلام وأنَّه لا يكون إلا كافرًا مفسدًا في الأرضِ، فأي مصلحةٍ لهذا العبدِ في إيجاده؟ __________ = رأيتُ القوافى يَتَّلِجْنَ مَوالجًا. انظر: البيان والتبين (1/ 158). (1) "ك، ط": "تلك المصلحة". (2) "ك، ط": "بين أطباق النار". "ب": "من بين أطباق النيران". (3) "ط": "يا رب لم لم تمتني صغيرًا؟ " مكان "هلَّا فعلت. . . أخي صغيرًا". (4) أحار الجوابَ: ردَّه. وفي "ط": "فلم يرد". (5) أورد المؤلف هذه الحكاية في مفتاح دار السعادة (2/ 430)، وشفاء العليل (332). وذكرها شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/ 198)، وقال إنَّها مشهورة. وانظر: سير أعلام النبلاء (15/ 88).
(1/319)
قالوا: وأي مصلحة لإبليس وذريته الكفار (1) في إيجادهم؟ فإن قلتم: عرضهم للثواب، قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد علم (2) أنَّهم لا يفعلونه وأنَّه (3) لا يقع منهم البتَّة؟ ومن هنا أنكرَ غُلاتُهم العلم القديم، وكفَّرهمِ السلف على ذلك، ومن أقرَّ به منهم فإقراره به يبطل مذهبَه (4) وأصله في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح. وهذا معنى قول السلف: ناظِروا القدَريَّةَ بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقرُّوا به خُصِمُوا (5). قالوا: وأمَّا حديث العوض على الآلام، فالرب تبارك وتعالى قادرٌ على إيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام. قالوا: وهذا بخلاف المستأجر، فإنَّ له منفعةً وحاجةً في توسط تعب الأجيرِ واستيفاء منفعته. فأمَّا من يتعالى (6) عن الانتفاع بخلقه، ولا يحتاج إلى أحدٍ منهم البتة، فلا يعقل في حقِّه ذلك. قالوا: وأمَّا وقوع الآلام على وجه العقوبات، فذلك إنَّما يحسن في الشاهد لحصول التشفي من الجناة (7) وإطفاء نار الغيظِ والغضب بالانتقام منهم، وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به؛ وقياس __________ (1) "الكفار" ساقط من "ب". (2) "ك، ط": "يعلم". (3) "أنَّهُ" ساقط من "ط". وفي "ك": "ولأنه"، خطأ. (4) "ك": "مبطل مذهبه"، "ط": "مبطل لمذهبه". (5) نسبه ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية (247) إلى الإمام الشافعي رحمه اللَّه. (6) "ط": "تعالى". (7) "ف": "في الحياة"، تحريف.
(1/320)
الغائب على الشاهد في ذلك ممتنع. قالوا: وأمَّا الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغيرُ بالألم الواقع بغيره، فيكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد؛ فلا ريبَ أنَّ الصبي إذا شاهدَ المعلِّم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحةً واعتبارًا له، ولعلَّه أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثرَ من انتفاع المضروب، أو حيث لا ينتفع المضروب. ولكن إنَّما يحسن ذلك إذا كان المضروبُ مستحقًّا للضرب، فأين استحقاق الأطفال والبهائم؟ قالوا: وكذلك تمكينُه تعالى عبادَه أن يؤلم بعضُهم بعضًا ويضرَّ بعضهم (1) بعضًا -مع قدرته على منعِ المؤلِم المضِر- أيُّ مصلحة لمن مُكِّنَ من ذلك وأُقدر عليه؟ وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأن يحالَ بينه وبين القدرة على الأذى وضرر العباد (2)؟ قالوا: فهذه الشريعةُ التي وضعتموها لربِّ العباد تعالى، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرَّمتم عليه ما حرَّمتم، وحجرتم (3) عليه في تصرفه في مُلكه بغير ما أصَّلتم وفرَّعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيهًا له وتمثيلًا بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح؛ مع أنَّها شريعةٌ باطلة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فإنَّكم لم تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض، خارجون فيها عمَّا يُوجبه كلُّ عقلٍ صحيح وفطرة سليمة. فلا للتشبيه والتمثيل طردتم، ولا بالتعويض قلتم، ولا على حقيقة الحكمة والحمدِ __________ (1) "ويضر بعضهم بعضًا" ساقط من "ب". (2) "ك، ط": "الأداء وصون العباد" تحريف. (3) "ك، ط": "جحدتم"، تصحيف.
(1/321)
وقفتم. بل أثبتم له تعالى نوعَ حكمةٍ لا تقوم به، ولا ترجع إليه، بل هي قائمةٌ بالخلق فقط؛ وقد حتم بها في تمام ملكه. كما أثبتَ له إخوانكم من الجبرية قدرةً مجرَّدةً عن حكمة وحمدٍ وغاية يفعل لأجلها، بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة، ووقوعَها مطابقةً لمشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك في (1) تمام حمده. وقامَ حزبُ اللَّهِ وحزب رسوله وأنصار الحقِّ بـ "لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير" حقَّ القيام، ورَعَوا (2) هذه الكلمة (3) حقَّ رعايتها علمًا ومعرفةً وبصيرةً، ولم يُلقُوا بالحرب بين حمده ومُلكه، بل أثبتوا له الملكَ التامَّ الذي لا يخرج عنه شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالها، والحمدَ التامَّ الذي وسع كلَّ معلوم، وشمِلَ كلَّ مقدور. وقالوا: إنَّ له تعالى في كلِّ ما خلقه وشرعه حكمةً بالغةً ونعمةً سابغةً لأجلها خلَقَ وأمرَ، ويستحقُّ أن يُثنى عليه ويُحمد لأجلها، كما يُثنى عليه ويحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العلى (4). فهو المحمود على ذلك كله أتمَّ حمد وأكمله، لما اشتملت عليه صفاتُه من الكمالِ، وأسماؤه من الحسن، وأفعالُه من الحِكَم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمته، الموافقةِ لمحابِّه. فإنَّه سبحانه كامل الذات، كامل __________ (1) "في" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (2) "ك، ط": "راعوا". (3) "الكلمة حق" تحرفت في "ف" إلى "طريق". (4) "ط": "العليا". "ب": "وصفاته العلى".
(1/322)
الأسماء والصفات، لا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ (1) كريمٍ مطابقٍ للحكمة، موجبٍ للحمد، مرتَّبٍ (2) عليه من محابِّه ما فعل لأجله. وهذا أمرٌ ذهب عن طائفتي الجبرية والقدرية، وحال بينهم وبينه أصول فاسدة أصَّلوها، وقواعد باطلة أسَّسوها، من تعطيل بعض صفات كماله، كما عطَّل الفريقان حقيقة محبته، وقالوا: إنَّه (3) لا يحِبُّ ولا يُحَبُّ، بل حقيقة محبته (4) عند الجبرية: مشيئته وإرادته؛ ومحبةُ العباد له: إرادتهم لما يخلقه من النعيم في دار الثواب، فالمحبة عندهم إنَّما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته. وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه؛ ومحبة العباد له: محبتهم لثوابه المنفصل. وأصَّل الفريقان أنّه لا يقوم (5) بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأجلها، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلًا. وتكايست القدريّةُ بعضَ التكايُس فقالت: يفعل لغاية وحكمة لا ترجع (6) إليه، ولا تقوم به، ولا يعود إليه منها وصف. وأصَّل الفريقان أيضًا أنَّه لا يقوم بذاته فعلٌ البتة، بل فعلُه عينُ (7) مفعوله. فعطَّلو أفعاله القائمة به، وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة __________ (1) "كل" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (2) "ب، ك، ط": "يترتب". (3) "ك": "إنَّ اللَّه". (4) "وقالوا. . " إلى هنا ساقط من "ط". (5) "ط": "لا تقوم". (6) "ف": "لا ترفع"، تحريف. (7) "ب": "غير" تحريف.
(1/323)
التي لا تقوم به. فلم يقم به عندهم فعلٌ البتة. كما عطَّل غلاةُ الجهمية صفاتِه فلم يثبتوا له صفةً تقوم به، وإن تناقضوا. وكما عطَّلت "السينائية" أتباعُ ابن سينا ذاتَه فلم يُثبتوا له ذاتًا زائدة على وجودٍ مجرَّدٍ لا يقارِنُ (1) ماهيةً ولا حقيقةً. وأصَّلت الجبرية أنَّه تعالى لا ينزّه عن فعل مقدور يكون قبيحًا بالنسبة إليه، بل كل مقدور فهو جائزٌ عليه؟ وإن عُلِمَ عدمُ فعله فبالسمع، وإلا فالعقل يقضي بجوازه عليه. فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دلَّ عليه السمعُ (2)، فيكون تنزيهه عنه، لا لقبحه في نفسه، بل لأنَّ وقوعه يتضمن الخلفَ في خبره وخبر رسوله، ووقوع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا (3) حقيقة التنزيه عند القوم. وأصّلت القدرية أنَّ ما يحسن من عباده يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه؛ مع تناقضهم في ذلك غاية التناقض. فاقتضت هذه (4) الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعًا ولوازمَ كثيرٌ (5) منها مخالفٌ لصريح العقل ولسليم الفِطَر (6)، كما هو مخالف لما أخبرت به الرسلُ عن اللَّه؛ فجعل أرباب هذه القواعد والأصول قواعدهم وأصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهًا! __________ (1) "ب ": "لا تقارن". (2) "ك، ط": "بالسمع". (3) "ف": "وهذا"، قراءة مرجوحة. (4) "ف": "تلك". (5) "ط": "كثيرة"، خطأ. (6) "ط": "الفطرة".
(1/324)
ثمَّ أصَّلوا أصلًا في ردِّ هذا المتشابه إلى المحكم، وقالوا: الواجبُ فيما خالف هذه القواطع العقلية -بزعمهم- من الظواهر الشرعية أحدُ أمرين: إمَّا تخريجها (1) على ما يعلم العقلاءُ أنَّ المتكلم لم يُرِدْه بكلامه من المجازات البعيدة، والألغاز المعقَّدة، ووحشي اللغات (2)، والمعاني المهجورة التي لا يُعرَف أحد من العرب عبَّرَ عنها بهذه العبارة، ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنَّما هي محامل أنشأوها هم، ثمَّ قالوا: نحمل (3) اللفظ عليها! فأنشأوا مَحاملَ من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على اللَّه ورسوله (4) بإرادتها بكلامه، فأنشأوا منكرًا وقالوا زورًا. فإذا ضاقَ عليهم المجالُ، وغلبتهم النصوصُ، وبهرتهم شواهدُ الحقيقة من اطِّرادهِا، وعدم فهمِ العقلاءِ سواها، ومجيئها على طريقة واحدة، وتنوع الألفاظ الدالّةَ على الحقيقة، واحتفافِها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك، يقطع (5) كل سامع بأنَّ المراد حقيقتُها وما دلَّتْ عليه = قالوا: الواجب ردُّها، وأن لا يُشتغَل (6) بها! وإن أحسنوا العبارةَ والظن قالوا: الواجب تفويضها، وأن نكِلَ علمَها إلى اللَّه من غير أن يحصل لنا بها هدًى أو علم أو معرفة باللَّه وأسمائه __________ (1) "ك": "نخرجها". "ط": "يخرجها". (2) في "ب": "واللغات"، وبعدها بياض بقدر كلمة. (3) "ب": "يحمل". (4) "ط": "أو رسله"، وفي القطرية: "أو رسوله". (5) "ط": "مما يقطع". (6) "ب ": "نشتغل".
(1/325)
وصفاته، أو ننتفع (1) بها في باب واحد من أبواب الإيمان باللَّه وما يُوصَف به وما يُنزَّه عنه، بل نُجري ألفاظَها على ألسنتا، ولا نعتقد حقيقتها، لمخالفتها للقواطع العقلية! فسمَّوا أصولهم الفاسدة وشُبَههم الباطلة التي هي كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل (2): شُبَهٌ تَهَافَتُ كالزجاج تَخالُها ... حقًّا وكلٌّ كاسِرٌ مكسورُ (3) = "قواطع عقلية"، مع اختلافهم فيها، وتناقضهم فيها، ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول. وسمَّوا (4) كلام اللَّه ورسوله "ظواهر سمعية" __________ (1) "ب ": "ينتفع". (2) "ك": "القائل شعر". "ط": "القائل شعرًا". (3) تمثّل به المصنف في الصواعق (1277)، وقبله تمثل به شيخ الإسلام في درء التعارض (7: 314)، وبيان تلبيس الجهمية (2: 253)، وقال في مجموع الفتاوى (4: 28): "أنشده الخطّابي". وتمثل به السمعاني في الأنساب (3/ 388) بلفظ "حجج تكاسَر". وقد ضمّن المصنّف معظم البيت في قوله في النونية: شُبَه تهافت كالزجاج تخالها ... حقًا، وقد سقطت على صفوانِ ونظم المعنى في بيت آخر: شُبَهٌ يكسِّر بعضُها بعضًا كَبَيْـ ... ـيْتٍ من زُجاجٍ خرَّ للأركانِ انظر: الكافية الشافية (833، 846). ولم أعرف قائل البيت، غير أنّ ابن الرومي له أبيات في المعنى مشهورة: لِذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حُجَجٌ تضِل عن الهدى وتجورُ وهنّ كآنية الزجاج تصادمتْ ... فهوَتْ وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ فالقاتلُ المقتولُ ثَمّ لِضَعفِه ... ولِوَهيِه والآسرُ المأسورُ انظر: ديوانه (3/ 1139). (4) "ط": "فسمّوا".
(1/326)
إزالةً لحرمته من القلوب، ومنعًا للتعلق به والتمسك بحقيقته في باب الإيمان والمعرفة باللَّه وأسمائه وصفاته. فعبَّروا عن كلامهم بأنَّه "قواطع عقلية"، فيظن الجاهل بحقيقته أنَّه إذا خالفه فقد خالف صريحَ المعقول، وخرجَ عن حدِّ العقلاءِ، وخالفَ القاطع (1)! وعبَّروا عن كلام اللَّه ورسوله بأنَّه "ظواهر"، فلا جناح على من صرفه عن ظاهره، وكذَّب بحقيقته، واعتقدَ بطلان الحقيقة؛ بل هذا عندهم هو الواجب! وقد أشهد اللَّه سبحانه عباده الذين أوتوا العلم والإيمان أنَّ الأمر بعكس ما قالوه، وأنَّ كلامه وكلام رسوله هو الشفاء والعصمة والنور الهادي والعلم المطابق لمعلومه (2)، وأنَّه هو المشتمل على القواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية، وأنَّ كلامَ هؤلاء المتهوّكين الحيارى المتضمّن لخلافِ (3) ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة، وأنَّه كالسراب الذي يحسَبه الظمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، ووجد اللَّه عنده فوفَّاهُ حسابَه واللَّه سريع الحساب (4). وهؤلاء هم أهلِ العلم حقًّا الذين شهد اللَّه سبحانه لهم به فقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ/ 6] (5). __________ (1) في حاشية "ب": "خ القواطع". (2) "ط": "لعلومه". (3) "ط": "خلاف". (4) ضمّن المؤلف هنا جزءا من الآية (39) من سورة النور. (5) وقع سهو في نقل الآية في الأصل، فسقط "هو" ثم جاء "ويهدي إلى صراط =
(1/327)
ومَن سواهم (1) من الصم والبُكم الذين قال اللَّه فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك/ 10]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد/ 19]. وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة، لا بمجرد الخبر؛ بل جاءَ إخبارُ الربِّ تعالى وإخبار رسوله مطابقًا لما في فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة. فتظافرَ (2) على إيمانهم به الشريعةُ المنزَّلة، والفطرة المكمَّلة، والعقل الصريح. فكانوا هم العقلاء حقًّا، وعقولهم هي المعيار، فمن خالفها فقد خالفَ صريحَ المعقول والقواطعَ العقلية. ومن أراد معرفةَ صحّة (3) هذا فليقرأْ كتاب شيخنا وهو "بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح (4) "، فإنّه كتاب لم يطرق العالمَ له نظيرٌ في بابه، فإنّه هدم فيه قواعدَ أهل الباطل من أُسِّها، فخرّت عليهم سقوفه من فوقهم؛ وشيّد فيه قواعدَ أهل السنّة والحديث، وأحكمها، ورفع أعلامها، وقرّرها بمجامع الطرق التي تقرّر (5) بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار. فجاءَ كتابًا لا يستغني مَن نصح نفسَه من أهل العلم __________ = مستقيم"، وقد صحح الخطأ في الحاشية بخط مجوّد. (1) "ط": "سواه". "ب": "ما سواه". (2) "ط": "فتضافر". (3) "ك، ط": "معرفة هذا". "ب": "أراد صحة هذا". (4) وهو الكتاب المطبوع بعنوان "درء تعارض العقل والنقل". (5) "ف": "يقرر"، والأصل غير منقوط.
(1/328)
عنه (1)، فجزاه اللَّه عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاءِ، وجزى العلم والإيمان عنه كذلك. فصل عدنا إلى تمام الكلام في كيفية دخول الشرّ في القضاءِ الإلهي، وبيان طرق الناس في ذلك، واختلافهم في إيلام الأطفال والبهائم. وقالت "البكريّة" وهم أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد البصري (2): إنّ البهائم والأطفال لا تألمُ البتّة. والذي حملهم على هذا موجَب التعليل والحكمة، ولم يرتضوا ما قالت الجبريّة من نفي ذلك، ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأعواض وما فزعوه عليه، ولم يمكنهم القول بمذهب "التناسخية" القائلين بأنّ الأرواح الفاجرة الظالمة تُودَع في الحيوانات التي تناسبها، فينالها من ألم الضرب والعذاب بحسبها، ولا بمذاهب "المجوس" من إسناد الشرّ والخير إلى إلهين مستقلّين كلّ منهما يذهب (3) بخلقه، ولا بقول من يقول: إنّ البهائم مكلَّفة مأْمورة __________ (1) في "ط" وضع "عنه" بعد الفعل "لا يستغني". (2) "ب": "ابن أخت زيد البصري" وفيه سقط. انظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 60). وخاله عبد الواحد المتوفى سنة 177 هـ زاهدٌ مشهور، متروك الحديث. العبر (1/ 27)، لسان الميزان (4/ 80). وقول بكر في الأطفال ذكره الأشعري في المقالات (286)، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (96)، ونسبه ابن حزم إلى عبد اللَّه بن عيسى تلميذ بكر. انظر: الفصل (3/ 110). (3) "ب": "يذهب كل منها".
(1/329)
منهيّة مُثابة مُعاقبة، وإنّ (1) في كلّ أمّة منها رسول ونبيّ (2) منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنياوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيّها = فلم يجدوا بدًّا من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها. وقد ردَّ عليهم الناس بأنّهم كابروا الحسَّ، وجحدوا الضرورة، وأنّ العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضروريّ. وقال من أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنّهم ربمّا رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ. فإنّ العاقل إذا أدرك تألُمَ جوارحِه وأحسَّ به تألّمَ قلبُه، وطال حزنه، وكثر همُّ روحه وغمُّها، واشتدت فكرتُه في ذلك وفي الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له؛ وهذه الآلام زائدة على مجرّد ألم (3) الطبيعة، ولا ريب أنّ البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما تحصل (4) للعاقل الممّيز. فإن أراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنّه (5) لا شعور لها بالآلام (6) البتة وأنَّها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإنَّ الواحد منَّا يعلم باضطرار أنَّه كان يتألَّم في طفوليته (7) بمسِّ النار له، وبالضرب، وغير ذلك. __________ (1) "ط": "أنَّه". (2) كذا بالرفع في الأصل على حذف اسم إنّ. وكذا في "ف، ك، ط". وفي "ب": "رسولًا ونبيًّا". (3) "ألم" ساقط من "ب". (4) "ط": "يحصل"، وكذا في "ب، ك" هنا وقبل. (5) "ط": "أنها". (6) "ب": "أنَّه لا يتصور لها الآلام"، تحريف. (7) "ب": "كان سالمًا في طفوليته من النار بمس"، تحريف.
(1/330)
وقالت طائفة: كلُّ ما يتألم به الطفل والبهيمة ليس من قِبَل اللَّه سبحانه، ولا فعَل اللَّهُ فيه الألم، لما ثبت من حكمته. وهذا يشبه (1) قولهم في أفعال الحيوان أنَّها ليست من خلقِ اللَّه، ولا كانت بمشيئته. لكن هذا أشد فسادًا من ذلك، فإنَّ هذه الآلام حوادث لا تتعلَّق باختيار من قامت به ولا بإرادته، فلا بُدَّ لها من مُحدِث، إذ وجودُ حادثٍ بلا محدث محالٌ، واللَّه سبحانه خالقها بأسبابها المفضية إليها، فخالق السبَب خالق للمسيَّب. فإن أرادَ هؤلاء نفيَ فعلها عن اللَّه مباشرةً من غيرِ توسط سبب (2) أصلًا فهذا قد يكون حقًّا، وإن أرادوا أنَّها غير منسوبة إلى قدرته ومشيئته البتَّة فباطل. وذهبت طائفة إلى أنَّ في كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوانات أنبياء ورسل (3)، وأنَّها مستحقة للثوابِ والعقاب، وأنَّ ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها. واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام/ 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]. وقالت طائفة من التناسخية: إنَّ اللَّه تعالى خلق خلقَه كلَّهم جملةً واحدةً بصفة واحدة، ثمَّ أمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة تُبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإبل والبقر والبراغيث والقمل، فما يُسلَّط (4) على هذه البهائم من الآلام فهو __________ (1) "ك": "شبه". (2) "ك، ط": "بسبب". (3) كذا في الأصل و"ف"، وله وجه كما سبق آنفًا. وفي غيرهما: "رسلًا". (4) "ب، ك، ط": "سلط".
(1/331)
للأرواح الآدميَّة التي أودعتْ هذه الأجسادَ. فمن كان منهم زانيًا أو زانيةً كوفئ بأن جُعِل في بدن حيوان لا يمكنه (1) الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفًا عن الزنا مع ظلمه وغشمه (2) كوفئ بأن جعل في بدن تيس أو عصفور أو ديك، ومن كان منهم جبَّارًا عنيدًا كوفئ بأن جعل في بدن قملة أو قُرادة (3) ونحوهما، إلى أن يُقتصَّ منهم ثم يُردّون، فمن عصى منهم بعد كرَّته (4) كُرِّر أيضًا عليه ذلك التناسخ هكذا أبدًا حتى يطيع طاعةً لا معصية بعدها أبدًا، فينتقل إلى الجنَّة من وقته؛ أو يعصي معصيةً لا طاعة معها، فينتقل إلى جهنَّم من وقته (5). وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإسلام رجلٌ يقال له أحمد بن حابط (6) طردًا لأصول (7) القدرية وشريعتهم التي شرعوها للَّه، فأوجبوا بها عليه وحرّموا. وذهب المجوس إلى أنَّ هذه الآلام والشرور من الإله الشرِّير المظلم، فلا تضاف إلى الإله الخير العادل، ولا تدخل تحت قدرته. ولهذا كان أشبهَ أهلِ البدع بهم القدريةُ النفاة. وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، __________ (1) "ط": "ما يمكنه". (2) "ف": "طلبه وتجشمه". (3) "ط": "جرادة". (4) "ب": "كونه". "ك": "كذبه". "ط": "ردّه"، تحريفات. (5) "أو يعصي. . . " إلى هنا سقط من "ط". (6) معتزلي، من أصحاب النظام، وطائفته تسمى الحابطية. انظر: لسان الميزان (1/ 148)، الملل والنحل (63). (7) "ط": "طرد أصول".
(1/332)
وليس لذلك فاعل مختار مدبّر بمشيئته وقدرته، ولا بدَّ في النار من إحراق ونفع، وفي الماءِ من إغراق ونفع، وليس وراء ذلك شيء. فهذه مذاهب أهل الأرض في هذا المقام. ولمَّا انتهى أبو عيسى الورَّاق (1) إلى حيث انتهتْ إليه أربابُ المقالات، طاش (2) عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه، صنَّف (3) كتابًا سمَّاه "النوح على البهائم" (4)، فأقام عليها المآتم وناح، وباخ بالزندقة الصُّراح. وممن كان على هذا (5) المذهب أعمى البصر والبصيرة كلبُ معرّةِ النُّعمان المكنيّ بأبي العلاء المعزي، فإنَّه امتنع من أكل الحيوان، زعمَ لظلمه بالإيلام والذبح (6). وأمَّا ابن خطيب الرَّي (7) فإنَّه سلك في ذلك طريقة مركبةً من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشّائين، وهذَّبها ونقَّحها، واعترف في __________ (1) اسمه محمد بن هارون، كان معتزليًّا ثمَّ خلَّط وانتهى به التخليط إلى أن صار يرمى بمذهب الثنوية، وعنه أخذ ابن الراوندي. توفي ببغداد سنة 247 هـ. الفهرست (216)، مروج الذهب (4/ 105)، لسان الميزان (5/ 412). (2) "ط": "فطاش". (3) في "ب": "فصنّف"، ولعله إصلاح، كما أصلح في "ط" بإدخال الفاء على "طاش". (4) ذكره ابن النديم بعنوان "الغريب المشرقي في النوح على البهائم". (5) "هذا" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية. (6) انظر فصل "القول الفصل في القضية" في كتاب "أبو العلاء وما إليه" للأستاذ عبد العزيز الميمني رحمه اللَّه. (7) هو الفخر الرازي.
(1/333)
آخرها بأنَّه لا سبيل إلى الخلاص عن المطالبات (1) التي أوردها على نفسه إلا بالتزام أنَّه تعالى موجِب بالذات، لا فاعل بالقصد والاختيار! فأقرَّ على نفسه بالعجز عن أجوبة تلك المطالبات إلا بإنكار قدرة اللَّه ومشيئته وفعله الاختياري، وذلك بجحد ربوبيته. ونحن نذكر كلامه بألفاظه. قال في مباحثه المشرقية: "الفصل السَّادس في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. وقبل الخوض فيه لا بدَّ من تقديم مقدمتين: المقدمة الأولى: الأمور التي يُقال لها (2) إنَّها شر إمَّا أن تكون أمورًا عدمية، أو أمورًا وجودية. فإن كانت أمورًا عدمية فهي على أقسام ثلاثة، لأنَّها إمَّا أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده مثل عدم الحياة، وإمَّا أن تكون عدمًا لأمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى (3)، وإمَّا أن (4) لا تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأمَّا الأمور الوجودية التي يُقال إنَّها شرور فهي (5) كالحرارة المفرّقة لاتصال العضو. واعلم أنَّ الشرَّ بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإن الموت والعمى لا حقيقة لهما إلا أنَّهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك __________ (1) "ك": "عن التي". "ط": "من الشبه التي". (2) "لها" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "كالأعمى"، تحريف. (4) "إمَّا" ساقط من "ك"، وفي "ط": "أوأن". (5) "ف": "يقال لها شرور وهي"، أخطأ في القراءة.
(1/334)
شر (1)، فإذن ليس لهما أعتبار آخر بحسبه يكونان شرين. وأمَّا عدم الفضائل المستغنى عنها -مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أنَّ ذلك ليس بشر. وأمَّا الأمور الوجودية فإنَّها ليست شرورًا بالذات بل بالعرض، من حيث إنَّها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئًا من الأفعال التي يُقال لها شرّ إلا وهو كمال (2) بالنسبة إلى الفاعل، وأمَّا شريته فبالقياس إلى شيء آخر. فالظلم مثلًا يصدر عن قوَّة طلَّابة (3) للغلبة وهي القوة الغضبية، والغلبة هي كمالها وفائدة خلقتها. فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنَّها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر، وإنَّما كان شرًّا للمظلوم لفوات المال وغيره عنه. والنَّفس الناطقة (4) كمالها الاستيلاء على هذه القوَّة، فعند قهر (5) القوة الغضبية يفوت النفسَ ذلك الاستيلاء، فلا جرم (6) كان شرًّا لها. وكذلك النَّار إذا أحرقت فإنَّ الإحراق كمالها، ولكنَّه (7) شر بالنسبة إلى من زالت سلامته بسببها. وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطَّاعة في قطع رقبة إنسان، فإنَّ كون الإنسان قويًّا على استعمال الآلة ليس شرًّا له بل خير (8)، وكذلك كون الآلة قطَّاعةً هو خير لها، وكذلك __________ (1) كذا في الأصل وغيره، وفي المباحث المشرقية: "شرّان"، كما جاء فيما بعد. (2) "ب، ك، ط": "وهو كما قال"، تحريف. (3) "ك، ط": "ظلَّامة"، تحريف. (4) "ف": "الباطنة"، تحريف. (5) في المباحث: "فوات"، وهو الصواب. (6) "ك، ط": "ولا جرم". (7) "ك، ط": "ولكنها". (8) في الأصل وغيره: "خيرًا" ولعله سهو. والمثبت من المباحث و"ط".
(1/335)
كون الرقبة قابلة للانقطاع، كل ذلك خيرات، ولكنَّ القتل شرٌّ من حيث إنَّه متضمن لزوال الحياة. فثبت بما ذكرنا أنَّ الأمور الوجودية ليست شرورًا (1) بالذَّات بل بالعرض (2). المقدمة الثانية (3): أنَّ الأشياء إمَّا أن تكون مادية، أو لا تكون. فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوَّة، فلا يكون فيها شر أصلًا. وإن كانت مادية كانت في معرض الشر، وعروض الشر لها إمَّا أن يكون في ابتداء تكونها أو بعد تكونها. أمَّا الأوَّل فهو (4) أن تكون المادة التي يتكون منه إنسان أو فرس (5) يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة. فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأنَّ الفاعل حرَمَ بل لأنَّ المنفعل (6) لم يقبل. وأمَّا الثاني وهو أن يعرض الشر للشيء بطروء (7) طارئ عليه بعد تكونه، فذلك (8) الطارئ إما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم __________ (1) "ب، ك، ط": "شرًّا". (2) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (3) من هنا إلى آخر كلام الرازي مكتوب في الأصل بخط مغاير ضعيف. (4) "ب، ك، ط": "فهو إما". (5) "ك، ط": "تتكون إنسانا أو فرسًا". (6) "ب، ك، ط": "المنفعل له"، وكذا في المباحث. (7) في الأصل: "يعرض الشيء للشيء وطروء" وكذا في غيره، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من المباحث. وفي "ط": "يعرض الشر" فصحح التحريف الأوَّل. (8) في الأصل و"ف": "فكذلك"، تحريف.
(1/336)
السحب وإظلال الجبال الشاهقات إذا صارَ مانعًا من تأثير الشمس في النبات، وإمَّا شيء مفسد مضاد (1) مثل البرد الذي يصل الى النبات فيفسد بسبب ذلك استعداده للنشوء والنمو. وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بيّنَّا أنَّ الشرَّ بالحقيقة إمَّا عدم ضروريات الشيء، وإمَّا عدم منافعه. فنقول: الموجود إمَّا أن يكون خيرًا من كل الوجوه، أو شرًّا من كل الوجوه، أو خيرًا من وجه وشرًّا من وجه. وهذا على ثلاثة أقسام (2): فإنَّه إمَّا أن يكون خيره غالبًا على شرِّه، أو يكون شرُّه غالبًا على خيره، أو يتساويا (3) خيره وشره، فهذه أقسامٌ خمسة. أمَّا الذي يكون خيرًا من كلِّ الوجوه فهو موجود، وأمَّا الذي (4) يكون كذلك لذاته فهو اللَّه تبارك وتعالى. وأمَّا الذي يكون (5) لغيره فهو العقول والأفلاك، لأنَّ هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من كمالاتها. وأمَّا (6) الذي كله شر أو الغالب فيه أوالمساوي فهو غير موجود، لأنَّ كلامنا في الشر (7) بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم __________ (1) "ف، ب، ك": "يفسد وصار"، ويشبهه رسم الأصل، وهو تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث. (2) "ك، ط": "تقدير أقسام"، تحريف. (3) كذا في الأصل و"ف". وفي "ب، ك": "متساويًا". وفي المباحث: "يتساوى". (4) "ط": "وهو موجود أي الذي"، تحريف. (5) زاد في "ط" هنا بين حاصرتين: "خيره". (6) "أمَّا" ساقطة من "ط". (7) في الأصل وغيره: "الشيء"، تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث.
(1/337)
الكمال الزائد. وإذا عنينا بالشر ذلك (1) فلا شكَّ أنَّ ذلك مغلوب والخير غالب. لأنَّ الأمراض وإن كثرت إلا أنَّ الصحة أكثر منها، والحرق (2) والغرق والخسف وإن كانت قد تكثر إلا أنَّ السلامة أكثر منها. فأمَّا الذي يكون خيره غالبًا (3) على شرِّه، فالأولى فيه أن يكون موجودًا لوجهين: الأوَّل: أنَّه إن لم يوجد فلا بدَّ وأن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإذن في عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفي وجوده يكون الخير أغلب من الشر، ويكون (4) وجود هذا القسم أولى. مثاله: النار في وجودها منافع كثيرة، وأيضًا مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكنَّا إذا قابلنا منافعها (5) بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، فكانت (6) مفاسد عدمها أكثر من مصالحه (7)، فلا جرم وجب إيجادها وخلقها. الثاني -وهو الذي يكون خيره ممزوجًا بالشر- ليس إلا الأمور التي تحت كرة القمر، ولا شك أنَّها معلولات العلل العالية (8)، فلو لم يوجد __________ (1) "وإذا عنينا بالشر ذلك" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "فالحرق". (3) في الأصل: "غالب"، والمثبت من "ف" وغيرها. (4) في المباحث: "فيكون"، وهو مقتضى السياق. (5) المباحث: "مصالحها". (6) "ك، ط": "وكانت". (7) "ط": "مصالحها". (8) "ف، ب": "الغالية"، تصحيف.
(1/338)
هذا القسم لكان يلزم من عدمها (1) عدم عللها الموجبة لها، وهي خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة، وذلك شر محض، فإذن لا بدَّ من وجود هذا القسم. فإن قيل (2): فَلِمَ لم يخلق الخالق هذه الأشياء عريَّة عن (3) كلِّ الشرور؟ فنقول: لأنَّه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأوَّل، وذلك مما قد فرغ منه. وبقيَ في العقل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبًا على شرِّه. وقد بينَّا أنَّ الأولى بهذا القسم أن يكون موجودًا". قال: "وهذا الجواب لا يعجبني لأنَّ لقائل أن يقول: إنَّ جميع هذه الخيرات والشرور إنَّما توجد باختيار اللَّه تعالى وإرادته، مثلًا الاحتراق (4) الحاصل عقيب النار ليس موجَبًا عن (5) النار، بل اللَّه تعالى اختار خلقه عقيب مماسَّة النار، وإذا كان حصول الاحتراق عقيبَ مماسة النار (6) باختيار اللَّه وإرادته فكان (7) يمكنه أن يختار خلقَ الإحراق عندما يكون خيرًا ولا يختار خلقه عندما يكون شرًّا. ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه وتعالى فاعلًا بالذات، لا بالقصد __________ (1) "عدمها" سقط من "ط"، فاستدرك في القطرية. (2) نقل المؤلِّف كلام الرَّازي من هنا إلى آخره في شفاء العليل (290) أيضًا وعقب عليه. (3) "ف": "من" خلاف الأصل. (4) "ب": "الإحراق". (5) "ك، ط": "من". (6) "وإذا كان. . " إلى هنا ساقط من "ب". (7) "ف، ب": " وكان".
(1/339)
والاختيار. ويرجع حاصل (1) الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث". قلتُ: لمَّا لم يكن عند الرَّازي إلا مذهبُ الفلاسفة المشائين القائلين بالموجِب بالذات، أومذهب القدرية المعتزلة (2) القائلين بوجوب رعاية الصلاح أو الأصلح، أو مذهبُ الجبرية نفاة الأسباب والعلل والحِكَم؛ وكان الحقُّ عنده مترددًا بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارةً يرجح مذهبَ المتكلمين، وتارةً مذهب المشائين، وتارةً يلقي الحرب بين الطائفتين ويقف في النظارة، وتارةً يتردد بين (3) الطائفتين؛ وانتهى إلى هذا المضيق ورأى أنَّه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريقِ الجبرية -وهي غير مرضية (4) عنده، وإن كان في كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع في مباحثه إليها- أو طريقِ (5) المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهي متناقضة غير مطردة = لم يجد بدًّا من تحيزه إلى أعداءِ الملَّة القائلين بأنَّ اللَّه لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به، ومعلومٌ أنَّ هذه المذاهب بأسرها باطلة متناقضة، وإن كان بعضها أبطل من بعض. وإنَّما ألجأه إلى التزام القول بإنكار الفاعل المختار في هذا المقام تسليمُه لهم الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي قادت إلى التزام بعض أنواع الباطل. __________ (1) "حاصل" ساقط من "ط". (2) "القائلين بالموجب. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (3) "هذه المذاهب .. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (4) "ب": "وهي مرضية"، خطأ. (5) "ك، ط": "وطريق".
(1/340)
ولو أعطى الدليل حقَّه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إلى حق الطائفة الأخرى، وتحيز إلى ما جاءت به الرسل، على علم وبصيرةٍ، وتقريرٍ (1) لما جاؤوا به بجميع طرق الحق، لخلص (2) من تلك المطالبات مع إقراره بأنَّ ربَّ العالمين فعَّال لما يريد، يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته (3)، وأنَّ له المشيئة النَّافذة والحكمة البالغة، وأنَّ تقدير تجريد النَّار عمَّا خُلِقَت عليه من الإحراق، والماءِ عمَّا خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عمَّا هُيِّئت له وخلقت عليه = منافٍ (4) للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب سبحانه؛ وأنَّ هذا تقدير لِعَالمٍ آخر غير هذا العالم، وتعطيلٌ للأسباب التي نَصَبَهَا (5) اللَّه مقتضياتٍ لمسبَّباتها، وأنَّ تلك الأسباب مظهر حكمته وحمده، وموضع تصرفه بخلقه (6) وأمره. فتقديرُ تعطيلها تعطيلٌ للخلق والأمر، وهو أشدُّ منافاةً للحكمة وإبطالًا لها؛ واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلُها عنها (7) قدحٌ في الحكمة، وتفويتٌ لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه. ولكن الرب سبحانه قد يخرق العائدة (8)، ويعطِّلها عن مقتضياتها __________ (1) "ط": "وهو تقرير"، خطأ. (2) "ك": "تخلص"، "ط": "التخلص". (3) "ف": "كلمته"، تحريف. (4) "ف": "سان" كذا دون نقط، فإنَّه لم يتمكن من قراءة الأصل. (5) "سبحانه، وأنَّ هذا. . " إلى هنا سقط من "ط"، فاستدرك في القطرية، ولكن بقي في هذه سقط،. وهو: "غير هذا العالم". (6) "ك، ط": "لخلقه". (7) "ك، ط": "منها". (8) أي العادة كما في "ب، ط".
(1/341)
أحيانًا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطَّل النار التي أُلقيَ فيها إبراهيم وجعلها عليه بردًا وسلامًا عن الإحراق لما في ذلك من المصالح (1) العظيمة. وكذلك تعطيلُ الماءِ عن إغراق موسى وقومه وعمَّا خُلِقَ عليه من الإسالة والتقاءِ أجزائه بعضها ببعض = هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التَّامة التي ظهرت في الوجود، وترتَّب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب. وهكذا -سبحانه- سائر أفعاله (2)، مع أنَّه شهد (3) عبادُه بذلك أنَّه هم (4) مسبِّب الأسباب، وأنَّ الأسباب خَلقُه وملكه (5)، وأنَّه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأنَّ جعلها (6) كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك، وأودعَ فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنَّه إن شاءَ أن يسلبها إيَّاها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين (7) وزنادقة الأطباءِ إنَّه ليس في الإمكان (8) تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها، ويقولون: __________ (1) "النار التي. . . " إلى هنا سقط من "ب". (2) "ك، ب": "فهكذا سائر أفعاله سبحانه". "ب": "فهكذا سبحانه وتعالى. . .". (3) "ط": "أشهد". (4) "هو": ساقط من "ب، ك، ط". (5) "وملكه". (6) كذا في الأصل وغيره. وفي حاشية "ك": "ظ كونها"، وهو أشبه، وكذا في "ط". (7) "ف": "الطبائعية". والكلمة غير واضحة في الأصل لانشار الحبر ولكنَّها أقرب إلى ما أثبتنا، وبعد فالكلمتان كلتاهما شائعتان في كتب المصنف. (8) "ب": "الإنسان"، تحريف.
(1/342)
لا تعطيل في الطبيعة. وليست الطبيعة عندهم مربوبةً مقهورةً تحت قهر قاهر وتسخير مسخِّر يصرِّفها كيف يشاءُ، بل هي المتصرفة المدبِّرة. ولا كما يقول من نقص (1) علمُه ومعرفتُه بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقَه وأمرَه وثوابَه وعقابَه؛ فجحد ذلك كلَّه، وردَّ الأمرَ إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباطَ الأسباب بمسبباتها، والقوى بمحالّها. ثمَّ المحذورُ اللازمُ من إنكارِ الفاعل المختار الفعَّال (2) لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإنَّ القائل بذلك يجعل هذه الشرورَ بأسرها لازمةً له لزومَ الظلِّ (3) لحامله والحرارةِ للنار، لا يمكنه (4) دفعُها ولا تخليص الخيرات منها (5). فهم فرُّوا من إضافة الشر إلى خلقه ومشيئته واختياره، ثمَّ ألزموه إيَّاه، وأضافوه إليه إضافةً لا يمكن إزالتها، مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه وعلمه بتفاصيل أحوال عباده؛ وفي ذلك تعطيل ربوبيته للعالمين. ففرُّوا من محذور بالتزام عدَّةِ محاذير، واستجاروا من الرَّمْضاءِ بالنَّارِ! (6) وهذا كما نزَّهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوه على مخلوقاته __________ (1) "ب": "يقضي"، تحريف، (2) "ف": "والفعال"، سهو. (3) "ك، ب، ط": "الطفل"، تحريف. (4) "ك، ط": "ولا يمكنه". (5) "منها" أي من الشرور. وفي "ك، ط": "الحرارة" بدل "الخيرات"، تحريف. (6) انظر المثل في فصل المقال (377).
(1/343)
فرارًا (1) من التحيز والجهة، ثمَّ جعلوه سبحانه في كلِّ مكان مخالطًا للقاذورات والأماكن المكروهات وكلِّ مكان يأنف العاقلُ من مجاورته. ففرُّوا من تخصصه بالعلو، فعمَّموا به كلَّ مكان! ولمَّا علمت الفرعونيةُ بطلانَ هذا المذهبِ فرُّوا إلى شرٍّ منه، فأخلَوا داخل العالم وخارجه منه البتة، وقالوا: ليس فوق العرشِ ربٌّ يُعبَد، ولا إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا يصعَد إليه الكلِم الطيِّب والعمل الصالح، ولا عُرِجَ بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه بل عرج به إلى عَدَمٍ صِرْف، ولا فرق بالنسبة إليه بين العرش وبين أسفل سافلين (2). ومن المعلوم أنَّه ليس موجودًا في أسفل سافلين، فإذا لم يكن موجودًا فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده. فلمَّا رأت الحلولية وإخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما في ذلك من الإحالةِ قالوا: بل هو هذا الوجود الساري في الوجودات (3)، الظاهرُ فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها (4). فهو في الماءِ ماءٌ، وفي الخمر خمر، وفي النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته. فنزَّهوه عن استوائه على عرشه، وجعلوه وجودَ كلِّ موجود خسيس أو شريف، صغير أو كبير، طيِّب أو غيره، تعالى اللَّه عمَّا يقول أعداؤه علوًّا كبيرًا. __________ (1) "ك، ط": "فإنَّه فرار". (2) "ف": "السافلين" سهو. (3) كذا في الأصل بلا شك. وفي "ف" المنقولة عنه وغيرها: "الموجودات". وما ورد في الأصلِ صحيح لا غبار عليه. انظر: درء التعارض (2/ 347). (4) "ك، ط": "بحسنها"، تصحيف.
(1/344)
وكذلك القائلون بقدم العالم نزَّهوه عن قيام الإرادات والأفعالِ المتجدِّدة به، ثمَّ جعلوا جميعَ الحوادث لازمةً له لا ينفك عنها. ونزَّهوه عن إرادته (1) لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته، وجعلوه لازمًا لذاته كالمضطرِّ إلى صدوره عنه. وكذلك المعتزلة الجهمية نزَّهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا في تشبيه (2)، ثمّ شبَّهوه بخلقه في أفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيهه بها (3) في سلبِ صفات كماله بالجمادات والناقصات. فإنَّ (4) من فرَّ من إثبات السمعَ والبصرِ والكلام والحياة له (5) لئلا يشبهه، فقد شبَّهه بالأحجارِ التي لَا تسمع ولا تبصر ولا تتكلَّم. ومن عطَّله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه يزعمه (6)، فقد شبَّهه بأصحاب الخرَس والآفات الممتنع منهم الكلام (7). ومن نزّهه عن نزوله كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوّه عشيةَ عرفة من أهل الموقف، ومجيئه يوم القيامة للقضاءِ بين عباده، فرارًا من تشبيهه بالأجسام، فقد شبّهه بالجماد الذي لا يتصرّف ولا يفعل ولا يجيء __________ (1) "ب": "إعادته"، تحريف. (2) "ف": "تشبيهه"، خلاف الأصل. (3) "بها" كذا في "ف" وغيرها، وحذفت في "ط". ومن هنا إلى "لئلا يشبهه" لم يظهر في مصورة الأصل، وهو جزء من السطر الأوَّل من لحق طويل كتب في الحاشية اليمنى من أسفلها إلى أعلاها. (4) "ك، ط": "وإن". (5) "له" لم ترد في "ف". (6) "ب، ط": "بزعمه". (7) "ب": "بأصحاب الدنيا الممتنع منهم الكلام بالآفات"!
(1/345)
ولا يأتي ولا ينزل. ومن نزّهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل، حذرًا من تشبيهه بالفاعلين لذلك، فقد شبّهه بأهل السفه والعبث الذين لا يقصدون بأفعالهم غايةً محمودةً ولا غرضًا مطلوبًا محبوبًا. ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرّفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاءَ، حذرًا من الظلم بزعمه، فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلّد في أطباق النيران من استنفد عمره كلّه في طاعته، إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة، فإنّها تُحْبِط جميع تلك الطاعات، وتجعلها هباءً منثورًا، ويخلّد في جهنّم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة. فهذا وأمثالُه فرّوا منه (1)، وهدى (2) اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. __________ (1) "فهذا وأمثاله" لم يظهر في مصورة الأصل لوقوع الحبر عليه، وقد أثبتناه من "ف"، هو ساقط من "ك، ب". وفي "ب": "فرارًا من الحقِّ"، ولعلَّه إصلاح للنص المبتور. والعبارة بكاملها حذفت من "ط". (2) كذا في الأصل و"ف". ولم يقصد المؤلف نقل الآية (213) من البقرة، وإنَّما أراد الاقتباس منها في كلامه. وفي "ب، ك": "فهدى".
(1/346)
قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلّف عنه من أحد (1) جهتين: إمّا أن تكون طبيعته يابسةً قاسيةً غيرَ ليّنة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالُها وفلاحُها (2). وإمّا أن تكون ليّنة منقادة سلسة القياد، لكنّها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلّب. فمتى رُزق العبدُ انقيادًا للحقّ وثباتًا عليه فَلْيُبْشِرْ، فقد يُسِّر لِكلّ خير (3)، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79). وفي "ط": "إحدى". (2) "ب": "فلاحها وكمالها". (3) "ك، ط": "بشر بكل خير"، تصحيف.
(1/347)
قاعدة إذا ابتلى اللَّه عبدَه بشيء من أنواع البلايا (1) والمحن فإنْ ردّه ذلك الابتلاءُ والامتحان (2) إلى ربّه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدّة بَتْراءُ لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عُوِّض منها أجل عوض وأفضلَه، وهو رجوعُه إلى اللَّه بعد أن كان شاردًا عنه، وإقبالُه عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحُه على بابه وقد كان عنه معرضًا (3)، وللوقوف على أبواب غيره متعرّضًا. وكانت البلية في حقّ هذا عين النعمة، وإن ساءَته، وجمرهها طبعه، ونفرت منها نفسه. فربّما كان مكروهُ النفوسِ إلى ... محبوبِها سببًا ما مثله سببُ (4) وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216]. وإن لم يردَّه ذلك البلاءُ إليه، بل شرّد قلبَه عنه، وردّه إلى الخلق، وأنساه ذكرَ ربِّه، والضراعةَ إليه، والتذلّلَ بين يديه، والتوبةَ والرجوع __________ (1) "ب": "عبده بأنواع البلايا". (2) "ك، ط": "المحن". (3) "ب، ك، ط": "بابه بعد أن كان معرضًا". (4) أثبت هذا البيت في "ف، ك، ط" نثرًا. وقد أنشده المؤلف في زاد المعاد (3/ 310) وإغاثة اللهفان (2/ 803)، وشفاء العليل (344)، ومدارج السالكين (1/ 501). وهو من أبيات أوردها ابن العديم في بغية الطلب (3792).
(1/348)
إليه؛ فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به. فهذا إذا أقلع عنه البلاءُ ردّه إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه؛ فجاءَت طبيعتُه عند القدرة بأنواع الأشَر والبطَر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسرّاء، كما أعرض عن ذكره والتضرّع إليه في الضرّاءِ. فبليةُ هذا وبالٌ عليه وعقوبة ونقص في حقّه، وبليةُ الأوّل تطهير له ورحمة وتكميل. وباللَّه التوفيق (1). __________ (1) "ب": "والعصمة".
(1/349)
قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب (1) الناس (2) في البلوى التي تجري عليهم أحكامُها بإراداتهم (3) وشهواتهم متفاوتون -بحسب شهودهم لأسبابها وغايتها- أعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد (4): __________ (1) كتب في الأصل أولًا كلمة "قاعدة" فقط، ثم أضيف في الحاشية بخط مختلف هذا العنوان: "قاعدة. . . الذنوب" مع علامة "صح". وفيه "مشاهدة" بدلًا من "مشاهد". ولكن ناسخ "ف" نقل العنوان كما أثبتنا، وكذا في غيرها. وهو الذي يؤيده كلام المصنف في هذا الفصل، وفي مفتاح دار السعادة ومدارج السالكين. (2) "ط": "والناس"، وصحح في القطرية. (3) "ب، ك، ط": "بإرادتهم". (4) كتب في الأصل أوَّلًا: "ويجمع ذلك أربعة أقسام أحدها. . . القسم الثاني" ثمَّ استبدل به ما في المتن. وقد أشار المؤلف في مفتاح دار السعادة (2/ 254) إلى أنَّه ذكر في كتابه "الفتوحات القدسية" مشاهد الخلق في مواقعة الذنب وأنَّها تنتهي إلى ثمانية مشاهد ثمَّ أوردها بالاختصار، والكتابان (المفتاح والفتوحات) أُلِّفا قبل طريق الهجرتين. وقد عقد المؤلف فصلًا في كتاب مدارج السالكين (1/ 479)، وذكر فيه ثلاثة عشر مشهدًا أربعة منها للمنحرفين والبواقي لأهل الاستقامة، ثم قال: إن هذا الفصل لا تظفر به في كتاب إلا ما ذكره في كتابه "سفر الهجرتين في طريق السعادتين" يعني هذا الكتاب. وقد ذكر هنا أولًا أربعة مشاهد، وقسَّم المشهد الرابع إلى قسمين، ثمَّ زاد عليه في الحاشية: "فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع مشهد الحكمة. . . " وأضيفت إلى الأصل "وريقة" ليست بين أيدينا. والجدير بالذكر أنَّ المشهد الثامن لم يذكر هنا، ثمَّ المشاهد السبعة المذكورة تختلف بعض الاختلاف عما ذكر في مفتاح دار السعادة.
(1/350)
أحدها (1): شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إذ لا تشهد إلّا طريق قضاء (2) وطَرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم في ذلك فرق إلّا تدقيق (3) الحيلة في الوصول إليها، وربّما زاد غيره من الحيوانات عليه في تناولها ولذّته بها (4). المشهد الثاني (5): من يشهد مع ذلك مجرّدَ الحكم القدري وجريانه عليه، ولا يتجاوز (6) شهوده ذلك. وربما رأى أنّ الحقيقة هي توفية هذا المشهد حقَّه، ولا يتمّ له ذلك إلّا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعلَ فيه غيرَه والمحرّكَ له (7) سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلًا، ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد. وربّما زاد على ذلك أنّه يشهد نفسه مطيعًا من وجه، وإن كان عاصيًا من وجه آخر، فيقول: "أنا مطيع للإرادة (8) والمشيئة، وإن كنت عاصيًا للأمر" (9). فإن (10) كان ممَّن يرى الأمر تلبيسًا وضبطًا لِلرَّعاع عن الخبطِ __________ (1) سقاه في المفتاح: "المشهد الحيواني البهيمي". (2) "قضاء" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "بدقيق"، تصحيح. (4) "ك": "مع تناولها ولذّتها". "ط": "مع. . . لذاتها". (5) سمّاه في المفتاح: "مشهد الجبر". وانظر: المدارج (1/ 485). (6) "ب، ك": "يجاوز". "ط": "يجوز". (7) "له" ساقط من "ك، ط". (8) "ك، ط": "الإرادة". (9) سبق في ص (55). (10) "ك، ط": "وإن".
(1/351)
والجريانِ (1) مع حكم الطبيعة الحيوانية فقط (2)، رأى نفسه مطيعًا لا عاصيًا، كما قال قائلهم في هذا المعنى: أصبحتُ منفعلًا لما يختاره ... منّي ففعلي كلُّه طاعاتُ (3) وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده (4) المشركون عبّاد الأصنام، ووقفوا عنده، كما قالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (5) [الأنعام/ 148]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (6) [يس/ 47] فهذا مشهد من أشرك باللَّه وردّ أمِرَه، وهو مشهد إبليس الذي انتهي إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر/ 39] (7). المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبيّ القائم بالعبد فقط (8)، __________ (1) "ك، ط": "الحرمان"، تحريف. (2) "ط": "فقد"، تحريف. (3) سبق في ص (55). (4) "ط": "يشهده". (5) في النسخ كلها: {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وهو جزء من الآية (35) من سورة النحل. (6) في "ب" أكمل الآية: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}. (7) في "ك، ط" زيادة: "واللَّه أعلم". (8) سمّاه في المفتاح: "مشهد القدر" وفي المدارج: "مشهد القدرية النفاة". ولكن ذكر تحت هذا المشهد هنا منكر القدر، ومن ليس منكرًا ولكنه مغلوب مع نفسه.
(1/352)
ولا يشهد إلّا صدورَه عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئةَ الربّ له، ولا جريانَ حكمه القدريّ به، ولا عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره. بل قد فني بشهود معصيته وذنبه (1) وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق، إمّا لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين، فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله، مع أنّه مؤمن بقضاءِ الربّ وقدره، وأنّ العبد أقلّ قدرًا (2) من أن يُحدِث في نفسه ما لم يسبق به مشيئةُ بارئه وخالقه. وإمّا لإنكاره القضاءَ والقدر جملةَ، وتنزيهه للرب تعالى أن يُقدِّر على العبد شيئًا ثمّ يلومه عليه. فأما الأول وإن (3) كان مشهده صحيحًا نافعًا له موجِبًا له أن لا يزال لائمًا لنفسه، مُزريًا عليها (4)، ناسبًا للذنب والعيب إليها، معترفًا بأنّه يستحقّ العقوبة والنكال، وأنّ اللَّه تعالى إن عاقبه فهو العادل فيه وأنّه هو الظالم لنفسه، وهذا كلّه حقّ لا ريب فيه؛ لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غيرُ مُعانٍ عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإنّه لم يشهد عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنّه لو شاءَ لعصمه وحفظه، وأنّه لا معصوم إلّا من عصمه، ولا محفوظ إلّا من حفظه، وأنّه هو محلّ لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأنَّ تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو القادرُ على سَوقه بها (5) إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه. __________ (1) "ط": "بذنبه"، خطأ. (2) "ف": "أمرًا"، خلافًا للأصل. (3) "ب": "فإن". (4) "ب": "لنفسه لائمًا، عليها مزريًا". (5) "ط": "فيها".
(1/353)
فهو لغَيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه، لا يعطي التوحيدَ حقَّه، ولا الاستعانة (1) بربِّه والاستغاثة به واللجأ (2) إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقَّه، بحيث يشهد سرَّ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك" (3). فإنَّه سبحانه ربُّ كل شيء وخالقُ كل شيء، فالمستعاذُ (4) منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاء لم يكن، فالفرار منه إليه، والاستعاذة منه به، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وأمَّا الثاني -وهو منكر القضاء والقدر- فمخذول، محجوب عن شهود التوحيد، مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه، ممنوع عن شهود عزَّة الرب تعالى في قضائه وكمال مشيئته ونفوذ (5) حكمه، وعن شهود عجزه هو وفقره، وأنَّه لا توفيق له إلا باللَّه، وأنَّه إن لم يُعِنْه اللَّه فهو مخذول، وإن لم يوفقه ويخلقْ له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع. فحجابه عن اللَّه غليظ، فإنَّه "لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريقَ إلى اللَّه أقرب من دوام الافتقار إليه" (6). __________ (1) "ط": "الاستعاذة". (2) "ب، ك، ط": "الالتجاء". (3) سبق تخريجه (57). (4) في "ف" وغيرها: "والمستعاذ"، قراءة محتملة. (5) "ب": "نفاذ". (6) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. انظر صفة الصفوة (2/ 234)، ومجموع الفتاوى (7/ 20). وانظر الوابل الصيب (12)، والمدارج (1/ 511). وسيأتي مرة أخرى في ص (366).
(1/354)
المشهد الرَّابع: مشهد التوحيد والأمر (1)، فيشهد انفرادَ الرب تعالى بالخلق، ونفوذَ مشيئته، وتعلقَ الموجودات (2) بأسرها بها (3)، وجريانَ حكمه على الخليقة، وانتهاءها إلى ما سبق (4) في علمه، وجرى به قلمه. ويشهد مع ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباطَ الجزاء بالأعمال واقتضاءها له، ارتباطَ المسبَّبات بأسبابها، التي جُعِلَت أسبابًا مقتضيةَ له (5) شرعًا وقدرًا وحكمة. فشهودُه توحيدَ الرب تعالى وانفرادَه بالخلقِ ونفوذَ مشيئته وجريانَ قضائه وقدره يفتحُ له بابَ الاستعانة به (6) ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه. وذلك يُدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيرًا عاجزًا مسكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. وشهودُه أمرَه تعالى ونهيَه وثوابَه وعقابَه يُوجبُ له الجِدَّ (7) والتشمير، وبذلَ الوسع، والقيامَ بالأمر، والرجوع علَى نفسه باللّوم والاعتراف بالتقصير. فيكون سيرُه بينَ شهودِ العزَّةِ والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنَّة العظيمة، وبينَ شهودِ التقصير والإساءةِ منه وتطلّب عيوبِ __________ (1) سمّى المشهد الرابع في المفتاح: "مشهد أهل العلم والايمان، وهو مشهد القدر والشرع"، ثم سمّى المشهد السادس: "مشهد التوحيد". وانظر المدارج (1/ 491). (2) يحتمل قراءة "الوجودات". (3) "بها" يعني: بمشيئته. وفي "ط": "به". (4) "ط": "سبق لها". (5) كذا في الأصل وغيره، والضمير راجع إلى الجزاء. وفي "ط": "لها". (6) "ك، ط": "الاستعاذة ودوام". (7) "ك، ط": "الحمد"، تحريف.
(1/355)
نفسه وأعمالها. فهذا هو العبدُ الموفق المعان، الملطوف به، المصنوع له، الذي أقيم في مقام (1) العبودية، وضُمِنَ له التوفيق. وهذا هو مشهد الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فهو مشهد أبيهم آدم، إذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. ومشهد أوَّل الرسل نوح، إذ يقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود/ 47]. ومشهد إمام الحنفاءِ وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين، إذ يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 78 - 82]. وقال في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم/ 35] فعلِمَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ الذي يحول بين العبدِ وبين الشرك وعبادة الأصنام هو اللَّه لا ربَّ غيره، فسأله أن يجنِّبَه وبنيه عبادةَ الأصنام. وهذا هو مشهد موسى إذ يقول في خطابه لربِّه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف/ 155] أي إنْ ذلك إلا امتحانُك واختبارُك، كما يقال: فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من __________ (1) "ك، ط": "أقيم مقام".
(1/356)
الفتنة التي هي الفعل السيء (1) كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج/ 10]، وكما في قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة/ 193]، فإنَّ تلك فتنة المخلوق. وموسى (2) أعلم باللَّه تعالى أن يضيف إليه هذه الفتنة. وإنَّما هي كالفتنة في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه/40] أي ابتليناك، واختبرناك، وصرَّفناك في الأحوال التي قصَّها اللَّه سبحانه علينا من لدن ولادته إلى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابَه (3). والمقصود أنَّ موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- شهد توحيدَ الرب وانفرادَه بالخلق والحكم، وفعلَ السفهاء ومباشرتَهم الشرك، فتضرع إليه بعزَّته وسلطانه وأضافَ الذنب إلى فاعله وجانيه. ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16]. وهذا مشهد ذي النون، إذ يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87] فوحَّد ربَّه تعالى، ونزَّهه عن كلِّ عيبٍ، وأضافَ الظلم إلى نفسه. وهذا مشهد صاحب سيِّد الاستغفار، حين (4) يقول في دعائه: "اللَّهم أنت ربِّي لا إلهَ إلا أنتَ، خَلَقْتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عَهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لَكَ بنعمتك __________ (1) "ط": "المسيء". (2) "ك، ط": "فإنَّ موسى". (3) "ف": "كلماته"، سهو. (4) "ك، ط": "إذ".
(1/357)
عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفرُ الذنوب إلا أنتَ" (1). فأقرَّ بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلقِ وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له، والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه. ثمَّ قال: "وأنا على عهدك ووعدك"، فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه -وهو العهد الذي عهِدَه إلى عباده- وتصديقَ وعده، وهو جزاؤه وثوابه (2). فتضمن التزام الأمر، والتصديق بالموعود، وهو الإيمان والاحتساب. ثمَّ لمَّا علم أنَّ العبدَ لا يوفي هذا المقام حقَّه الذي يصلح له تعالى علَّق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعدَّاها، فقال: "ما استطعتُ" أي ملتزم (3) ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي. ثمَّ شهد المشهدين المذكورين، وهما مشهد القدرة والعزَّة (4). ومشهد التقصير من نفسه، فقال: "أعوذُ بكَ من شرِّ ما صنعتُ"، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معًا. ثمَّ أضافَ النعم كلها إلى وليِّها وأهلها والمبتدئ بها، والذنبَ إلى نفسه وعمله، فقال: أبوءُ لك بنعمتك على، وأبوءُ بذنبي". فأنتَ __________ (1) تقدم تخريجه (253). (2) "ط": "من ثوابه". (3) "ط": "ألتزم". (4) "ك، ط": "القوَّة".
(1/358)
المحمود المشكور (1) الذي له الثناءُ كلُّه، والإحسان كلّه، ومنه النعم كلّها. فلك الحمد كلّه، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء، المعترف بذنبه، المقِرُّ بخطائه (2)، كما قال بعض العارفين (3): "العارفُ يسير بين مشاهدة المنَّة من اللَّه، ومطالعة عيب النفس والعمل". فشهودُ المنَّة تُوجبُ (4) له المحبة لربِّه سبحانه وحمدَه والثناء عليه، ومطالعةُ عيب النفس والعمل يوجب استغفارَه ودوامَ توبته وتضرعه واستكانته لربِّه سبحانه. ثمَّ لمَّا قامَ هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: "فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت" (5). فصل (6) ثمَّ أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما (7): من يشهد تسلّط (8) عدوه عليه، وقياده (9) إيَّاه بسلسلة __________ (1) "ب، ت، ط": "والمشكور". (2) "ط": "بخطئه". (3) هو صاحب منازل السائرين. انظر: المنازل (11)، والمدارج (1/ 296). وقد أورد المصنف قوله في الوابل الصيب (10)، وشفاء العليل (41) أيضًا. (4) كذا في الأصل و"ف". وفي "ك، ط": "يوجب". (5) وانظر في تفسير سيد الاستغفار: ما سبق في ص (203)، والوابل الصيب (11)، والمدارج (1/ 5296). (6) "فصل" ساقط من "ب، ط". (7) وهو المشهد الخامس. (8) "ك، ط": "تسليط". (9) "ك، ط": "فساده إياه وسلسلة" تحريف.
(1/359)
الهوى، وكبحَه إيَّاه بلجام الشهوة. فهو أسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربِّه وناصره ووليه، عالم بأنَّ نجاته في يديه، وأنَّ ناصية عدوه بيده (1)، وأنَّه لو شاءَ طرده عنه وخلّصه من يديه. فكلَّما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفاتَ إلى وليِّه وناصره، والتضرع إليه، والتذلل بين يديه. وكلَّما زاد (2) اغترابُه وبعدُه عن بابه تذكر عطفَه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأفته ورحمته، فانجذبت دواعي قلبه هاربةً إليه، متراميةً (3) على بابه، منطرحةً على فنائه؛ كعبد قد شُدَّتْ يداه إلى عنقه، وقُدِّمَ لتضرب عنقُه، وقد استسلمٍ للقتل، فنظرَ إلى سيِّده أمامه، وتذكر عطفه ورأفته به، ووجدَ فُرجةً، فوثب إليه منها. فهَبْه (4) طرَحَ نفسه بين يديه، ومدّ له عنقَه، وقال: أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتي بين يديك، ولا خلاص لي من هذا العدوّ إلّا بك، وإني مغلوب فانتصر. فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف. وفوقه مشهد أجلُّ منه وأعظم وأخصّ (5)، تجفو (6) عنه العبارة، وإن __________ (1) في الأصل: "به"، "مكان "بيده"، وكذا في "ف، ك". وكتب فوقه في "ف": "كذا". والمثبت من "ب". وفي "ط": "بين يديه". وقد كتب أوَّلًا في الأصل: "وأنَّ عدوَّه" ثم ضرب على "عدوه" فوصل خط الضرب إلى حرف النون في "أنَّ". ومن ثم حذف "أنَّ" في "ب، ك". وقد تحرف "عدوه" في "ك" إلى "هدوه" فكتب بعضهم فوقه: "بين يديه"، كما في "ط". (2) "ك، ط": "أراد"، تحريف. (3) "ط": "بتراميه"، تحريف. (4) "ب، ك، ط": "وثبة"، ولعله تحريف. (5) وهو المشهد السادس. (6) "ف": "وهو تجفو"، والظاهر أنَّ "وهو" مضروب عليه في الأصل.
(1/360)
أشارت (1) إليه بعضَ الإشارة. وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل يعبر (2) منه إليه، وذلك مثَلُ عبدٍ أخذه سيّده بيده، وقدّمه ليضرب عنقَه بيده، فهو قد أحكم ربطَه، وشدّ عينيه، وقد أيقن العبد أنَّه في قبضته، وأنّه هو قاتله لا غيره. وقد علم مع ذلك برَّه به ولطفه، ورحمته ورأفته، وجوده وكرمه؛ فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كلُّ سبب (3)، وانقطع (4) تعلّقه بشيء سواه، فهو معرِض عن عدوه الذي كان سببَ غضب سيّده عليه، قد محا شهودَه من قلبه، فهو مقصورُ النظر إلى سيّده وكونه في قبضته، ناظرٌ إلى ما يصنعه به (5)، منتظرٌ منه ما يقتضيه عطفه وبرّه وكرمه. ومثَلُ الأوّل مثلُ عبدٍ أمسكه عدوّه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد خنقَ (6) عدوّه له، ويستغيث بسيّده، وسيّدُه يغيثه ويرحمه. ولكنّ ما يحصل للثاني في مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبُه، فهو يخنقه خنقةً، وهو لا يشهد إلَّا خنقه له، فهو يقول: اخنُقْ خنقَك، فأنت تعلم أنّ قلبي يحبّك! __________ (1) "ك، ط": "الإشارة"، تحريف. (2) "ب، ك، ط": "تعبر". (3) "ك، ط": "نسب"، تحريف. (4) "ط": "فانقطع". (5) "به" ساقط من "ب، ك، ط". (6) "ب، ك، ط": "دنوّ"، تحريف.
(1/361)
وفي هذا المثلِ إشارةٌ وكفاية، ومن غلُظَ حجابُه وكثفت طباعُه لا ينفعه التصريحُ، فضلًا عن ضرب الأمثالِ. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا قوَّة إلا باللَّهِ. فهذه ستَّة مشاهد. المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمةَ اللَّه في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئة (1) أسبابه له، وأنَّه لو شاءَ لعصمه وحالَ بينه وبينه، ولكنَّه خلَّى بينه وبينه لحِكَم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا اللَّه (2): أحدها: أنَّه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثمَّ إذا كان ممَّن سبقت له العنايةُ قضى له بالتوبة. الثاني: تعريف العبد عزَّةَ الرب تعالى (3) في قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه. الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنَّه إن لم يحفظه ويصنه __________ (1) "ط": "تهيئته". (2) أشار المصنف في المفتاح (2/ 255) إلى أنَّه ذكر قريبًا من أربعين حكمة في كتابه الفتوحات القدسية، ثمَّ ذكر نحو (34) حكمة. أمَّا هنا فقد ذكر (31) حكمة لخصها وفرَّعها مما ذكره في المفتاح (2/ 257 - 301)، وانظر: المدارج (1/ 487). (3) من هنا إلى آخر الفصل اعتمدنا على "ف" وغيرها، لأنَّ "الوريقة" التي أضيفت إلى الأصل وكانت مشتملة على هذه الزيادة التي بدأت في الحاشية من قوله: "فهذه ستة. . ." لم توجد في المصورة. ولعلها ضاعت من النسخة الأصلية.
(1/362)
فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدَّت أيديها إليه تمزّقه كلَّ ممزَّق. الرابع: استجلابه من العبد استغاثته (1) به، واستعاذته (2) به من عدوّه وشرّ نفسه، ودعاءه، والتضرع إليه، والابتهال بين يديه. الخامس: إرادته من عبده تكميلَ مقام الذل والانكسار، فإنَّه متى شهد صلاحه واستقامته شمَخ بأنفه، وظنَّ أنَّه. . . وأنَّه. . .! فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسُه وذلَّت، وتيقن (3) أنَّه. . . وأنَّه. . .! السادس: تعريفه بحقيقة نفسه، وأنَّها الظالمة (4) الجاهلة، وأنَّ كلَّ ما فيها من علم أو عدلٍ (5) أو خير فمن اللَّه، منَّ به عليه، لا من نفسه. السابع: تعريفه عبدَه سعةَ حلمه تعالى وكرمَه في ستره عليه، فإنَّه لو شاءَ لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصفُ له معهم عيش. الثامن: تعريفه أنَّه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته. التاسع: تعريفه كرمَه في قبول توبته، ومغفرتَه له على ظلمه وإساءته. العاشر: إقامة الحجة على عبده، وأنَّه (6) له عليه الحجة البالغة، فإن عذَّبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل اليسير منه. __________ (1) "ب، ك، ط": "استعانته". (2) "ب": "استغاثته". (3) "ك، ب، ط": "تيقن وتمنَّى". وانظر نحو هذه العبارة في المفتاح (2/ 268). (4) "ط": "الخطالة"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 270). (5) "ط": "عمل"، تحريف. (6) "ب، ك، ط": "فإن".
(1/363)
الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلَّاتهم معه بما يُحِب أن يعامله اللَّهُ به، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل؛ فيعتمد (1) في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه اللَّه بذنوبه. الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق، وتتسع رحمتُه لهم، مع إقامة أمر اللَّه فيهم (2). فيقيم أمر اللَّه فيهم (3) رحمةً لهم، لا قسوةً وفظاظةً عليهم. الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدَّل برقَّة (4) ورأفة ورحمة. الرابع عشر: أن يُعرّيه من رداءِ (5) العُجْب بعمله، كما قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو لَمْ تُذْنِبُوا لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ منه: العُجْبَ" (6)، أو كما قال. الخامس عشر: أن يعرِّيه من لباس الإدلال الذي يصلح (7) للملوك، ويُلبِسه لباسَ الذل الذي لا يليق بالعبد سواه. __________ (1) كذا في "ف، ب". أي يقصد. وفي "ك، ط": "يعمل". (2) "فيهم" لم يرد في "ب". (3) "فيقيم أمر اللَّه فيهم" من "ب، ك، ط"، ولم يرد في "ف". (4) "ب": "من قلبه رقَّةً". (5) "ب": "داء"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 278). (6) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3633)، وابن عدي في الكامل (3/ 306)، وابن عدي في الكامل (3/ 306) من حديث أنس. قال الهيثمي: "وإسناده جيد". والحديث جعله ابن عدي من منكرات سلَّام أبي المنذر لتفرده به عن ثابت البناني عن أنس (ز). (7) "ف": "التي تصلح". ولعله سهو في النقل.
(1/364)
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاءِ والإشفاق والندم. السابع عشر: أن يُعرّفه (1) مقدار نعمة معافاته (2)، وفضله في توفيقه وعصمته؛ فإنَّ من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار نعمة (3) العافية. الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكرَه لربِّه إذا تابَ إليه ورجعَ إليه، فإنَّ اللَّه يحبه ويُوجب له بهذه التوبة مزيدَ محبَّة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة، وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكنَّ هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة. التاسع عشر: أنَّه إذا شهد إساءَته وظلمَه، استكثر (4) القليلَ من نعمة ربِّه (5)، لِعلمه بأنَّ الواصلَ إليه منها كثيرٌ على مسيء مثله؛ واستقل (6) الكثيرَ من عمله، لعلمه بأنَّ الذي يصلح له أن يغسل به نجاسَتَه وَوضَرَ ذنوبه (7) أضعافُ أضعافِ ما يفعله، فهو دائمًا مستقل لعمله كائنًا ما كان. ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيًا. __________ (1) "ك، ط": "يعرف". (2) "ب": "نعمة العافية في معافاته". "ط": "مقداره مع معافاته". وانظر: المفتاح (2/ 281). (3) "نعمة" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "واستكثر". (5) "ك، ط": "نعمة اللَّه". (6) "ك، ط": "فاستقل". وانظر: المفتاح (2/ 284). (7) "وضر" ساقط من "ب، ك، ط". وفي "ب": "نجاسة ذنوبه".
(1/365)
العشرون: أنَّه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدوّ ومكايده، ويُعرِّفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاقَ المرضَ والدواءَ. الحادي والعشرون: أنَّ مثلَ هذا ينتفع به المرضى، لمعرفته بأمراضهم ودوائها (1). الثاني والعشرون (2): أنَّه يرفع عنه حجابَ الدعوى، ويفتح له طريقَ الفاقة، فإنَّه لا حجابَ أغلَظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية (3)، فإنَّ دوام الفقر إلى اللَّه مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب (4). الثالث والعشرون: أن يكون (5) في القلب أمراض مُزْمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها، فيمُنُّ عليه اللطيفُ الخبيرُ، ويقضي عليه بذنب ظاهر، فيجد ألم مرضه، فيحتمي، ويشرب الدواء النافع، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها. ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فَلِغلظِ (6) حجابه، كما قيل: __________ (1) في "ف" وغيرها: "وأدوائها"، والظاهر أنَّه سهو. وانظر المفتاح (2/ 288). (2) في الأصل (ف): "الثالث والعشرون"، ولعله سهو، وقد استمر عليه، فوصل العدد إلى الثاني والثلاثين. (3) قوله: "لا حجاب. . ." من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. وقد سبق في ص (354). (4) من كلام ذي النون المصري. وقد تقدم في ص (105). (5) "ط": "تكون". "ك": "أنَّه يكون". (6) "ك، ط": "فغلظ"، تحريف.
(1/366)
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه ... وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ (1) الرابع والعشرون: أن (2) يذيقه ألم الحجاب والبعد (3) بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته (4) وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وجمَعه عليه (5)، وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه بذلك (6) -بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن (7) بالماءِ العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه. وإنَّ لطفَ الربِّ تعالى وبرَّه وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربِّه ومحبته! الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنَّه إذا واقع (8) الذنبَ، سُلِبَ حلاوةَ الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت، وأنَّت، وتضرَّعت، واستغاثت (9) بربِّها، ليردَّها إلى __________ (1) للمتنبي في ديوانه (494) وفيه: "فربّما". وسيأتي مرَّة أخرى في ص (508، 602). وانظر: المفتاح (2/ 269)، والمدارج (1/ 370، 375)، والفوائد (67)، والوابل الصيب (25). (2) "ب": "أنَّه". (3) "ب": "والتهديد"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 290). (4) "ب": "نعيمه". (5) "ب": "عليه وجمعه إليه". (6) "ك، ط": "في ذلك". (7) "ب": "الظمآن الشديد الظمأ". (8) "ك، ط": "وقع". (9) "ك، ط": "واستعانت".
(1/367)
ما عوَّدها من بره ولطفه. وإن ركبتْ غيَّها (1)، واستمرَّ إعراضها، ولم تحِنَّ إلى معهدها (2) الأوَّل ومألفها، ولم تحسّ بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها = علم أنَّها لا تصلح للَّه. وقد جاءَ هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه. السادس والعشرون: أنَّ الحكمة الإلهية اقتضت تركيبَ الشهوة والغضب في الإنسان، وفي ذلك حِكَمٌ (3) عظيمة لصانعه تبارك وتعالى. ولا ريبَ أنَّهما داعيان إلى أثريهما وموجَبيهما (4)، فلا بُدَّ من ترتب أثر داعي (5) الشهوة والغضب في الإنسان (6)، أو بعضها، ولو لم تُخلق (7) فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانًا بل ملكًا. فالذنبُ من موجَبات البشرية، كما أنَّ النسيان من موجَباتها، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائين التوابون" (8)، ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك (9). السابع والعشرون: أن يُنسيه رؤيةَ طاعته، ويشغله برؤية ذنبه، فلا __________ (1) "ك، ط": "ركنت عنها"، تصحيف. (2) "ط": "عهدها". (3) "ك": "حكمة". (4) "ب، ك": "أثرها وموجبها". (5) في حاشية "ك": "دواعي"، ولعله تصحيح من قارئ لما سيأتي من قول المصنف: "أو بعضها"، و"هذه الدواعي". (6) "وفي ذلك حكم عظيمة. . ." إلى هنا ساقط من "ط". (7) "ك، ط": "يخلق". (8) أخرجه أحمد (13049)، وابن ماجه (4251)، والترمذي (2499) من حديث أنس. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث علي بن مسعدة، عن قتادة". (ز). (9) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(1/368)
يزال نصب عينيه. فإنَّ اللَّه إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤيةَ أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزالُ نصب عينيه حتَّى يدخله (1) الجنَّة. فإنَّ ما يُقبل (2) من الأعمال رُفِع من القلبِ رؤيتُه، ومن اللسان ذكرُه. وقال بعض السلف: إنَّ العبدَ ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنَّة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال (3): يعمل الخطيئة، فلا تزالُ نصب عينيه: إذا ذكرها ندم، واستقال، وتضرَّع إلى اللَّهِ، وبادرَ إلى محوها، وانكسر، وذلَّ لربِّه، وزال عنه عُجبه وكِبْره. ويعملُ الحسنة فلا تزال نصب عينيه: يراها، ويمنّ بها، ويعتدُّ بها، ويتكبر بها (4)، حتَّى تدخله (5) النار (6). الثامن والعشرون: أنَّ شهودَ ذنبه وخطيئته يُوجِب له أن لا يرى له على أحد فضلًا، ولا له على أحدٍ حقًّا؟ فإنَّه يشهد عيبَ نفسه وخطأها وذنوبها فلا يظن (7) أنَّه خير من مسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر. وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على النَّاس حقوقًا من الإكرام يتقاضاهم إيَّاها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنَّها عنده. أخسّ قدرًا وأقل قيمةً من أن __________ (1) "ب، ك، ط": "يدخل". (2) "ك، ط": "تقبل". (3) "ب": "فقال". (4) "ب": "يغتر بها ويتكثر بها". (5) "ك، ط": "يدخل". (6) أخرجه ابن المبارك في الزهد (162) مرفوعًا من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلًا. وأخرجه فيه (164) من كلام الحسن (ز). (7) "ط": "إذا شهد عيب نفسه بفاحشة. . . لا يظن"!
(1/369)
يكون لها على عباد اللَّه حقوقٌ يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضلٌ يستحق أن يكرموه (1) لأجله. فيرى أنَّ من سلَّم عليه أو لقيه (2) بوجه منبسط قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من تعتّبه (3) وشكايته. فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ بالَه! وما أقرَّ عينه! وأين هذا ممَّن لا يزال عاتبًا على الخلق، شاكيًا ترك قيامهم بحقِّه، ساخطًا عليهم، وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقولَ العالمين (4). التاسع والعشرون: أنَّه يُوجِب له الإمساكَ عن عيوب الناس والفكرِ فيها، فإنَّه في شغلٍ بعيبه ونفسه. و"طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس" (5)، وويلٌ لمن نسيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوب النَّاس! فالأوَّل علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة (6). الثلاثون: أنَّه يُوجِب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه المؤمنين الخطائين (7) فيصيرُ هِجِّيراه: "ربِّ اغفر لي ولوالديّ وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات". فإنَّه يشهد أن إخوته __________ (1) "ك، ط": "يلزموه"، تحريف. (2) "ب": "ولقيه". (3) "ط": "عتبه". (4) "عقول" ساقط من "ب". وانظر: المفتاح (2/ 296). (5) قطعة من خطبة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أخرجها البزار وابن عدي في الكامل (1/ 384)، والبيهقي في الشعب (10089) كلهم عن أنس مرفوعًا، وفيه النصر بن محرز وغيره من الضعفاء. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 229). (ز). (6) وانظر المفتاح (2/ 297). (7) "ك، ب، ط": "الخاطئين من المؤمنين".
(1/370)
الخطَّائين (1) مصابون (2) بمثل ما أصيبَ به، محتاجون (3) إلى مثل ما هو محتاج إليه. فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يجب (4) أن يستغفر هو لأخيه المسلم. وقد قال بعض السلف: إنَّ اللَّه لمَّا عتَب على الملائكة في قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة/ 30] وامتحن منهم (5) هاروتَ وماروتَ جعلت الملائكةُ بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون اللَّه لهم (6). الحادي والثلاثون: أنَّه يوجب له سعةَ بطانِه (7) وحلمه ومغفرته لمن أساءَ إليه. فإنَّه إذا شهد نفسه مع ربِّه سبحانه مسيئًا خاطئًا مذنبًا -مع فرط إحسانه إليه وبرّه به (8)، وشدَّة حاجته إلى ربِّه- فكيف يطمع أن يستقيم له __________ (1) "ط": "إخوانه الخاطئين". (2) "ك، ط": "يصابون". (3) "ط": "ويحتاجون". (4) كذا في "ف، ك". وفي "ب": "يُحَب" مضبوطًا بالمهملة المفتوحة. (5) "منهم" ساقط من "ك، ط". (6) انظر نحوه في المفتاح (2/ 298). وقصة هاروت وماروت على الوجه الذي أشير إليه من امتحانهما هنا وفي المدارج (1/ 490) وشفاء العليل (340) رويت عن جماعة من التابعين، وقصّها خلق من المفسرين، وهي راجعة في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل وخرافاتهم التي لا يعوّل عليها، كما قال ابن كثير رحمه اللَّه في التفسير (1/ 135) والبداية والنهاية (1/ 84). (7) "ب": "عطائه"، "ك، ط": "إبطائه" وكلاهما تحريف. والبِطان: حزام يُشد على البطن، وسعة البطان كناية عن سعة الصدر. (8) "به": "ساقط من "ك، ط".
(1/371)
الخلقُ، ويعاملوه (1) بمحض الإحسان، وهو لم يعامل ربَّه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكُه وولدُه وزوجتُه في كلِّ ما يريد، وهو مع ربِّه ليس كذلك؟ وهذا يُوجِبُ له (2) أنْ يغفرَ لهمِ، ويسامحهم، ويعفو عنهم، ويغضي عن الاستقصاءِ (3) في طلب حقه قِبَلهم (4). __________ (1) "ف، ك": "يعاملونه". (2) "له" ساقط من "ط". (3) "ب": "طلب الاستقصاء"، خطأ. (4) هذه آخر الزيادة التي كتبت في "الوريقة" الملحقة بالأصل.
(1/372)
قاعدة [في الإنابة ودرجاتها] كثيرًا ما يتكرَّر في القرآن ذكر الإنابة والأمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر/ 54]، وقوله حكايةً عن شعيب أنَّه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود/ 88]، وقوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق/ 8]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد/ 27]، وقوله عن نبيِّه داود: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص/ 24]. فالإنابة (1): الرجوع إلى اللَّه، وانصراف دواعي القلب وجواذبه (2) إليه. وهي تتضمَّن المحبَّة والخشية (3)، فإنَّ المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشعٌ ذليلٌ (4). والناسُ في إناباتهم (5) على درجات متفاوتة: فمنهم المنيب إلى اللَّه بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي. وهذه الإنابة مصدرها: مطالعة الوعيد، والحامل عليها: العلم، والخشية، والحذر. ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساعٍ فيها بجهده، وقد حُبِّبَ إليه فعلُ الطاعات وأنواع القربات. وهذه الإنابة __________ (1) "ك، ط": "والإنابة". (2) "ب": "حوادثه"، تصحيف. (3) "ب": "وهو يتضمن الخشية والمحبة". (4) وانظر تفسير الإنابة في مدارج السالكين (1/ 514). (5) "ط": "إنابتهم".
(1/373)
مصدرها الرجاءُ، ومطالعةُ الوعد والثواب، ومحبَّة الكرامة من اللَّه. وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأوَّل، وأشرح صدورًا، وجانبُ الرجاءِ ومطالعةِ الرحمة والمنَّة أغلبُ عليهم؛ وإلا فكلُّ واحدٍ من الفريقين منيبٌ بالأمرين جميعًا، ولكن خوفُ هؤلاء اندرج في رجائهم، فأنابوا بالعبادات. ورجاءُ الأوَّلين اندرجَ تحت خوفهم، فكانت إنابتهم بترك المخالفات. ومنهم المنيب إلى اللَّه بالتضرع، والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة، وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة: شهودُ الفضل، والمنَّة، والغنى، والكرم، والقدرة؛ فأنزلوا به حوائجهم، وعلَّقوا به آمالهم. فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكنَّ إنابتهم الخاصَّة إنَّما من هذه الجهة (1). وأمَّا الأعمال فلم يُرزَقوا فيها الإنابةَ الخاصَّة. ومنهم (2) المنيب إليه عند الشدائد والضراء (3) فقط إنابةَ اضطرار، لا إنابةَ اختيار، كحال الذين قال اللَّه فيهم (4): {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء/ 67]، وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت/ 65]. وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتةً عن اللَّه سبحانه، معرضةً عنه إلى مألوف طبيعي نفساني قد حال بينها وبين إنابتها __________ (1) "مع قيامهم" إلى هنا ساقط من "ب". (2) "ط": "أملهم"، تحريف. (3) "والضراء" ساقط من "ب". (4) "ك، ط": "في حقهم".
(1/374)
بذاتها (1) إلى معبودها وإلهها الحق، فهي ملتفتة إلى غيره. ولها إليه إنابةٌ ما بحسب إيمانها به، ومعرفتها له. فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه بشدة (2) المحبة الخالصة المفنية (3) لهم عمَّا سوى محبوبهم ومعبودهم. وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيءٌ عن الإنابة، فإنَّ الأعضاء كلها رعيتها، وملكها تبع للروح، فلمَّا أنابت الروح بذاتها إليه، إنابةَ محبٍّ صادقِ المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حبٌّ ساكن لمحبوبه، أنابت جميعُ القوى والجوارح. فأناب القلبُ أيضًا بالمحبة والتضرع والذل والانكسار، وأناب العقلُ بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكميه إيَّاها دون غيرها، فلم يبقَ فيه منازعة شبهة معترضة دونها. وأنابت النفسُ بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة. وانقادت للأمر (4) خاضعةً له، راغبةً (5) فيه، مؤثرِةً إيَّاه على غيره، فلم يبقَ فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر. وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضًا إلى مولاها الحق (6)، ورضًى بقضائه، وتسليمًا لحكمه. وقد قيل: إنَّ تدبيرَ العبد لنفسه هو __________ (1) "بذاتها" سقط من "ف" سهوًا. (2) "ك، ط": "لشدة". (3) "ك، ط": "المغنية"، تحريف. (4) "ط": "لأوامره". (5) "ك، ط": "وداعية"، تحريف. "ب": "خاضعة أو راغبة". (6) "الحق" ساقط من "ط".
(1/375)
آخر الصفات المذمومة في النفس. وأنابَ الجسدُ بالأعمالِ (1) والقيام بها فرضِها (2) وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصَّة (3). فلم يبقَ من هذا العبد المنيب عرقٌ ولا مفصلٌ إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كلُّ محبَّةٍ سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عَذْبَةً (4) في مبادئها، فإنَّها عذاب في عواقبها. فإنابةُ العبد -ولو ساعةً من عمره- هذه الإنابة الخالصة أنفعُ له، وأعظمُ ثمرةً من إنابة سنين كثيرة من غيره. فأين إنابة هذا من إنابة من قبله؟ وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. بل هذا (5) روحه منيبة أبدًا، وإن توارى عنه شهودُ إنابتها باشتغالٍ، فهي كامنة فيها كمونَ النَّارِ في الزِّناد (6). وأمَّا أصحابُ الإنابات المتقدمة، فإن أناب أحدهم ساعةً بالدعاءِ والذكر والابتهال، فلنفسه وروحه وقلبه (7) وعقله التفاتٌ عمَّن قد أنابَ إليه. فهو ينيب ببعضه ساعةً، ثمَّ يتركُ ذلك مقبلًا على دواعي نفسه وطبعه. واللَّه الموفق المعين، لا ربَّ غيره، ولا إله سواه. __________ (1) "ك، ط": "في الأعمال". (2) "ب": "فروضها". (3) "ب": "الخاصة بها". وقد سقط من "ك": "فروضها وسننها. . ." إلى "الخاصة". (4) "ب": "عِذابًا". (5) "ط": "هذه"، خطأ. (6) "ف": "الرماد"، تحريف. (7) "وقلبه" ساقط من "ف".
(1/376)
قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل (1) إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال. وهي شيئان: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر كل الحذر (2) من إهمالها والاسترسال معها. فإنَّ أصلَ الفساد كله من قِبلها يجيء؛ لأنَّها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلبِ، فإذا تمكن بذرُها تعاهدها الشيطان بسقيه مرَّةً بعد أخرى حتَّى تصير إرادات، ثُمَّ يسقيها حتَّى تصير (3) عزائم، ثُمَّ لا يزال بها حتى تثمر الأعمال. ولا ريبَ أنَّ دفعَ الخواطر أيسرُ من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبدُ نفسه عاجزًا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرِّط إذ (4) لم يدفعها وهي خاطر ضعيف؛ كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطَبٍ يابسٍ، فلمَّا تمكنت منه عجزَ عن إطفائها (5). فإن قلتَ: فما الطريقُ إلى حفظ الخواطر؟ قلتُ: أسباب عدَّة: __________ (1) "ك، ط": "طريق يوصل". وقد استدركت كلمة "قريب" في حاشية "ك"، والقطرية. (2) "كل الحذر" ساقط من "ك، ط". (3) "ط": "تكون". (4) "ك، ط": "إذا". (5) وانظر: عدة الصابرين (96)، والداء والدواء (236).
(1/377)
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك. الثاني: حياؤك منه. الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلقه (1) لمعرفته ومحبته. الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. الخامس: إيثارك له أن يساكن (2) قلبك غير محبته. السادس: خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرارُها، فتأكلَ ما في القلب من الإيمان ومحبة اللَّهِ، وتذهب (3) به جملةً (4)، وأنتَ لا تشعر. السابع: أن تعلم أنَّ تلك الخواطر بمنزلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أنَّ كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخ منصوب لصيدك، وأنت لا تشعر. الثامن: أن تعلمَ أنَّ تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلًا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلبٍ إلا وغلبَ أحدُهما صاحبَه، وأخرجه، واستوطن مكانه. __________ (1) "ط": "خلق". (2) "ك، ط": "تساكن". (3) "ب، ط": "فتذهب". "ك": "فيذهب". (4) "ف": "كله" تحريف.
(1/378)
فما الظن بقلب غلبت خواطرُ النفس والشيطان فيه خواطرَ الإيمان والمحبة والمعرفة (1) فأخرجتها، واستوطنت مكانها؟ لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك، وأحسَّ بمصابه. التاسع: أن يُعلم (2) أنَّ تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلبُ في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه، فلا يجد إليه سبيلًا. فقلبٌ تملكه الخواطر بعيدٌ من الفلاح، معذَّبٌ، مشغولٌ بما لا يفيد. العاشر: أنَّ تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامةَ والخزيَ. وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوسَ، وعزلته عن سلطانه (3)، وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الأسر الطويل. كما أنَّ هذا معلومٌ في الخواطرِ النفسانية، فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية، هي أصل الخير كلِّه. فإنَّ أرض القلب متى (4) بُذِرَ فيها خواطرُ الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاءِ الثوابِ، وسُقِيَت مرَّةً بعد مرَّةٍ، وتعاهدها صاحبُها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كلَّ فعل جميل، وملأت قلبَه من الخيرات، واستعملت جوارحَه في الطاعات واستقرَّ بها الملك في سلطانه، __________ (1) "ك، ط": "المعرفة والمحبة". (2) الأصل غير منقوط، فيجوز أن يقرأ "تعلم" كما سبق في السابع والثامن. والمثبت من "ف" وغيرها، وقد ضبط في "ب" بضم أوله. (3) "ك، ط": "سلطانها". (4) "ط": "إذا".
(1/379)
واستقامت له رعيته. ولهذا لما تحقَّقت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان (1) ذلك هو سيرَها وعملها (2). وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجبًا ولا سنَّة، الثاني: أن لا يجعلَ مجرَّد حفظِها هو المقصود. بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطرَ الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها. وإلا فمتى عمل على تفريغه منهما معًا كان خاسرًا، فلا بدَّ من التفطن لهذا. ومن هنا غلِطَ أقوامٌ من أرباب السلوك، وعملوا على إلقاءِ الخواطرِ وإزالتها جملةً، فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات، فظنّوها تحقيقًا وفتحًا رحمانيًّا، وهم فيها غالطون، وإنَّما هي خيالات وفتوحات شيطانية (3). والميزان هو الكتاب الناطق، والفطرة السليمة، والعقل المؤيد بنور النبوة، واللَّه المستعان. فصل (4) الثاني (5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عزَّ وجلَّ. وهذا (6) من أنفع ما للعبدِ وأبلغِه في حصول استقامته. فإنَّ من استعدَّ للقاءِ اللَّه انقطعَ قلبه عن __________ (1) "ك، ط": "فكان". (2) "ب، ك": "جلَّ عملها"، وهي قراءة محتملة. "ط": "جلَّ أعمالها". (3) "وفتوحات" ساقط من "ط". (4) "فصل" ساقط من "ب". (5) "ب": "والسبب الثاني". وقد سقط "الثاني" من "ط". (6) "وهذا" ساقط من "ط".
(1/380)
الدنيا (1) ومطالبها، وخمدت من نفسه نيرانُ الشهوات، وأخبتَ قلبُه إلى ربِّه تعالى (2)، وعكفت همته على اللَّه وعلى محبته وإيثار مرضاته. واستحدث (3) همَّةً أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادةً أخرى تكون نسبةُ قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه، فيولد قلبُه ولادةً حقيقية، كما ولد جسمه حقيقة. وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدارِ. وهذا معنى ما يذكر عن المسيح -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يا بني إسرائيل، إنَّكم لن تلجوا ملكوتَ السماء حتَّى تولدوا مرَّتين" (4). ولمَّا كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها -فضلًا عن أن يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أم (5) كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همَّة ولا عزيمة، إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدّقه؟ ولكن إذا كُشِفَ حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنَّه لم يولد قلبُه بعد. والمقصود أنَّ صدق التأهّب للقاءِ اللَّهِ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى اللَّه ومنازل __________ (1) "ك، ط": "الدنيا وما فيها ومطالبها". (2) "ك، ط": "إلى اللَّه". (3) "ك، ط": "واستحدثت". (4) تقدَّم في ص (29). (5) "ط": "أو".
(1/381)
السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمالِ القلوب والجوارح. فمفتاحُ ذلك كلِّه صدقُ التأهب والاستعداد للقاءِ اللَّهِ، والمفتاح بيد الفتَّاحِ العليم، لا إلهَ غيره، ولا ربَّ سواه.
(1/382)
قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد] الناس قسمان: عِلْية، وسِفْلة، فالعلية من عرف الطريق إلى ربِّه، وسلكها قاصدًا للوصول (1) إليه، وهذا هو الكريم على ربِّه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربِّه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال اللَّه تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج/ 18]. والطريق إلى اللَّه في الحقيقة واحد لا تعدُّدَ فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلًا لمن سلكه إليه (2)، قال اللَّه تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام/ 153]. فوحَّد سبيلَه لأنَّه في نفسه واحد لا تعدُّدَ فيه، وجمع السُّبُل المخالفة لأنَّها كثيرة متعدِّدة، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه (3) خطَّ خطًّا، ثُمَّ قال: "هذا سبيل اللَّه". ثُمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثُمَّ قال: "هذه سُبُل، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه"، ثُمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام/ 153] (4). ومن هذا قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى __________ (1) "ط": "الوصول". (2) "إليه" ساقط من "ط". (3) "ب، ك، ط": "ثبت أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خط". (4) أخرجه أحمد (4142)، والنسائي في الكبرى (1174)، وابن حبان (6، 7)، والحاكم (2/ 239) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. وأصله عند البخاري (6054، 6055) عن ابن مسعود وأنس دون ذكر الآية. (ز).
(1/383)
الظُّلُمَاتِ} [البقرة/ 257]. فوحَّد النورَ الذي هو سبيلُه، وجمع الظلمات التي هي سُبُل الشيطان (1). ومن فهم هذا فَهِمَ السرَّ في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام/ 1]، مع أنَّ فيه سرًّا ألطفَ من هذا، يعرفه من عرف (2) منبع النور كلّه (3)، ومن أين فاضَ، وعمَّاذا حصل، وأنَّ أصلَه كله واحد. وأمَّا الظلمات فهي متعددة بتعدُّدِ الحُجُب المقتضية لها، وهي كثيرةٌ جدًّا، لكلِّ حجاب ظلمة خاصَّة. ولا ترجع الظلماتُ إلى النورِ الهادي جلَّ جلاله أصلًا، لا وصفًا ولا ذاتًا، ولا اسمًا ولا فعلًا، وإنَّما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعلُ الظلمات، ومفعولاتُه (4) متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنَّه يرجع إلى اسمه وصفته جلَّ جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيءٌ، فهو (5) نور السماواتِ والأرضِ. قال ابن مسعود: "ليس عندَ ربِّكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرضِ من نور وجهه". ذكره الدارمي عنه (6). وفي صحيح مسلم (7) عن أبي ذرٍّ، قلتُ: يا رسول اللَّه هل رأيت ربَّك؟ قال: "نورٌ، أنَّى أراهُ! ". __________ (1) وانظر: بدائع الفوائد (1/ 208). (2) "ك، ط": "يعرف". (3) "كله": ساقط من "ط". (4) "ط": "مفعولاتها". (5) "ك، ط": "وهو". (6) تقدم في ص (262). (7) في كتاب الإيمان (178).
(1/384)
والمقصودُ أنَّ الطريقَ إلى اللَّه واحد، فإنَّه هو (1) الحقُّ المبين، والحق واحد، مرجعه إلى واحد، وأمَّا الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل (2)، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدِّد، وطرقه متعددة. وأمَّا ما يقع في كلام بعض العلماءِ أنَّ الطرق (3) إلى اللَّهِ متعددة متنوعة، جعلها اللَّه كذلك لتنوع الاستعدادت واختلافها، رحمةً منه وفضلًا فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق. وكشف ذلك وإيضاحه أنَّ الطريقَ (4) واحدة جامعة لكلِّ ما يرضي اللَّه. وما يرضيه سبحانه متعدِّدٌ متنوعٌ، فجميعُ ما يُرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، فكلُّها (5) طرُق مرضاته. فهذه هي (6) التي جعلها اللَّه سبحانه برحمته (7) وحكمته كثيرةً متنوعةً جدًّا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوَّة الاستعدادت وضعفها لم يسلكها إلا واحدٌ بعد واحدٍ. ولكن لمَّا اختلفت الاستعدادت تنوعت الطرق ليسلك كلّ امرئٍ إلى ربِّه طريقًا يقتضيها استعدادُه وقوتُه وقبولُه. __________ (1) "هو" ساقط من "ك، ب، ط". (2) "باطل" ساقط من "ف". (3) "ب، ك، ط": "الطريق". (4) "ب، ك، ط": "الطريق هي". (5) "ب، ك، ط": "وكلها". (6) "هي" ساقط من "ط". (7) "ط": "لرحمته".
(1/385)
ومن هنا يُعلَم تنوُّعُ الشرائع واختلافُها مع رجوعها كلِّها إلى دينٍ واحد، بل تنوعُ الشريعة الواحدة (1)، مع وحدة المعبود ودينه. ومنه الحديث المشهور: "الأنبياءُ أولادُ عَلَّات، دينُهم واحد" (2). فأولادُ العلَّات أن يكون الأبُ واحدًا والأُمَّهاتُ متعدِّدة، فشبَّه دينَ الأنبياءِ بالأب الواحد، وشرائعهم بالأُمَّهاتِ المتعددة. فإنَّها وإن تعددت فمرجعها كلها (3) إلى أب واحد. وإذا عُلِمَ هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي تعبَّد بسلوكه (4) إلى اللَّه طريق العلم والتعليم، وقد وفَّرَ عليه زمانَه مبتغيًا به وجه اللَّه. فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتَّى يصل من تلك (5) الطريق إلى اللَّهِ، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء/ 100]. وقد حكي عن جماعة كثيرة ممَّن أدركه الأجل، وهو حريص طالب للقرآن، أنَّه رُئي بعد موته، وأخبرَ أنَّه في تكميل مطلوبه وأنَّه يتعلَّم في البرزخ؛ فإنَّ العبد يموت على ما عاش عليه. ومن الناس من يكون سيّد عمله الذكر، وقد جعله زادَه لمعاده، __________ (1) "بل تنوع الشريعة الواحدة" ساقط من "ط". أمَّا في "ب" فقد سقط منها من "مع رجوعها" إلى "الواحدة". (2) زاد في "ب": "وأمهاتهم شتَّى". والحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442)، ومسلم في كتاب الفضائل (2365) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (3) "ك، ط": "فمرجعها إلى أب واحد كلها". (4) "ط": "بعد سلوكه". (5) "ب": "ذلك".
(1/386)
ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتَر عنه أو قصّر فيه (1) رأى أنَّه قد غُبِن وخَسِر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصّر في وِرْده (2) منها، أو مضى عليه وقت، وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدٍّ لها، أظلم عليه وقتُه، وضاق صدُره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدّي، كقضاءِ الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات (3)، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقًا إلى ربّه. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، فهي (4) الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر عليه قلبُه، وساءَت حاله (5). ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فُتِح (6) له فيه، ونفذ منه إلى ربّه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحجّ والاعتمار. __________ (1) "فيه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "عنه". (2) "ف": "ورد منها"، خلافًا للأصل. (3) "ف": "اللهفان" خلاف الأصل. (4) "ب، ك، ط": "وهي". (5) العبارة "ومن الناس من يكون طريقه الصوم. . ساءت حاله" مقدمة على العبارة السابقة المتعلقة بالقرآن في "ك، ط". (6) "ك، ط": "فتح اللَّه".
(1/387)
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمّة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة. ومنهم الجامع الفَذّ (1)، السالك إلى اللَّه في كلِّ واد، الواصل إليه من كلّ طريق. فهو قد جعل (2) وظائفَ عبوديته قِبلةَ قلبه ونصبَ عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كلّ فريق بسهم. فأين كانت العبوديةُ وجدتَه هناك: إن كان علمٌ وجدتَه مع أهله، أو جهاد وجدتَه في صفّ المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكر وجدتَه في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدتَه في زمرة المحسنين، أو مراقبة ومحبّة (3) وإنابة إلى اللَّه وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين. يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلَّتْ ركائبُها، ويتوجّه إليها حيث استقرّت مضاربُها. لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفّذ أوامرَ ربّي حيث كانت، وأين (4) كانت، جالبةً ما جلبَتْ، مقتضيةً ما اقتضتْ، جمعتني أو فرّقتني؛ ليس لي مراد إلَّا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسرّ. قد سلّمتُ إليه المبيعَ منتظرًا منه تسليمَ الثمن. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة/ 111]. فهذا هو العبد السالك إلى ربّه، النافذ إليه حقيقة. ومعنى النفوذ إليه __________ (1) "ط": "جامع المنفذ"، تحريف. (2) "ك، ط": "فهو جعل". (3) "ب، ك، ط": "محبة ومراقبة". (4) "ف": "وإن".
(1/388)
أن يتّصل به قلبه ويعلق (1) به تعلّقَ المحبِّ التامِّ المحبّة لمحبوبه (2)، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلَّا اللَّه (3) وأمره وطلب التقرّب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربُّه، فقرَّبه، واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه، وتولّى تربيته أحسن وأبلغ مما يربّي الوالدُ الشفيقُ ولدَه. فإنَّه سبحانه القيّوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميّته بمن أحبّه، وتولاه، وآثره على ما (4) سواه؛ ورضي به من الناس حبيبًا وربًّا، ووكيلًا وناصرًا ومعينًا وهاديًا؟ فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه به (5) وبرّه وصنعه له، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبُه حبًّا (6) له وشوقًا إليه، وتقطّع (7) شكرًا له. ولكن حجب القلوبَ عن مشاهدة ذلك إخلادُها إلى عالم الشهوات والتعلّق بالأسباب، فصُدّت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العلم. وإلّا فأيّ قلب يذوق حلاوةَ معرفة اللَّه ومحبّته، ثمَّ يركن إلى غيره، ويسكن إلى سواه (8)؟ هذا ما لا يكون أبدًا. ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقًا (9) موصلةً إلى اللَّه، ثمّ تركها، __________ (1) "ب": "يتعلّق". (2) "ب، ك، ط": "بمحبوبه". (3) "ك، ط": "محبة اللَّه". (4) "ف": "عليها"، تحريف. (5) "به": ساقط من "ك، ط". (6) "ك، ط": "محبة". (7) "ف": "يقطع". وفي "ط": "يقع"، تحريف. (8) "ك، ط": "ما سواه". (9) "ف": "طريقة"، خلاف الأصل.
(1/389)
وأقبل على إراداته (1) وراحاته وشهواته ولذّاته، وقع في آبار (2) المعاطب، وأودع قلبَه سجونَ المضايق، وعُذِّب في حياته عذابًا لم يعذَّبْه (3) أحدٌ من العالمين. فحياته عجز وغمّ وحزن، وموته كمد (4) وحسرة، ومعاده أسف وندامة. قد فرط عليه أمرُه، وشُتِّت عليه شملُه، وأحضِرتْ (5) نفسُه الغمومَ والأحزان. فلا لذّة الجاهلين، ولا راحة العارفين (6). يستغيث فلا يُغاث، ويشتكي فلا يُشكَى. قد (7) ترحّلت أفراحُه وسروره مدبرةً، وأقبلت آلامُه وأحزانُه وحسراته مقبلةً (8). قد (9) أبدل بأُنسه وحشةً، وبعزّه ذلًّا، وبغناه فقرًا، وبجمعيته تشتّتًا (10). وأبعدوه فلم يظفَرْ بقربهِمُ ... وأبدلوه مكانَ الأنسِ إيحاشا (11) ذلك بأنّه عرف طريقه إلى اللَّه، ثمّ تركها ناكبًا عنها مكِبًّا (12) على __________ (1) "ك، ط": "إرادته". (2) "ب، ك، ط": "آثار"، تصحيف. (3) كذا في الأصل و"ف" وهو صواب محض، وفي غيرهما: "لم يعذب به". (4) "ك، ط": "كدر"، تحريف. (5) "ط": "أحضر". (6) "ف": "الغافلين"، خلاف الأصل. (7) "ط": "فقد". (8) "مقبلة" سقط من "ب، ك، ط". ولعله حذف لأجل الفعل "أقبلت". (9) "ط": "فقد". (10) "ط": " تشتيتًا". (11) أثبت البيت في "ط" منثورًا. وهو من ثلاثة أبيات ذكرها المؤلف في بدائع الفوائد (3/ 847). وهي من قصيدة في ديوان الحلَّاج (50) مع خلاف في الرواية. وفي "ب": "فكان الأنس"، تحريف. (12) "مكبًّا" ساقط من "ك". وفي "ب": "منكبًّا".
(1/390)
وجهه، فأبصر ثمّ عمي، وعرف ثمّ أنكر، وأقبل ثمّ أدبر، ودُعي فما أجاب، وفُتِح له فولّى ظهرَه الباب! قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكلّيّته على هواه. فلو نال بعض حظوظه، وتلذّذ براحاته وشهواته (1)، فهو مقيّد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأُنس، ورياض المحبّة، وموائد القرب. قد انحطّ بسبب إعراضه عن إلهه الحقّ إلى أسفل سافلين، وحصل في عداد الهالكين. فنارُ الحجاب تطّلِع كلّ وقت على فؤاده، وإعراضُ الكون عنه -إذ أعرض ربّه (2) - حائلٌ بينه وبين مراده. قبرٌ (3) يمشي على وجه الأرض، فروحُه (4) في وحشةٍ في جسمه (5)، وقلبُه في مَلالٍ (6) من حياته. يتمنّى الموت ويشتهيه، ولو كان فيه ما فيه؛ حتّى إذا جاءَه الموت على تلك الحال -والعياذ باللَّه- فلا تسأل عمّا يحِلّ به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحقّ (7)، وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه، وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيّته. __________ (1) في "ف" وغيرها: "شؤونه"، ولا معنى له في هذا السياق. ثُمَّ رسمه في الأصل: "شووته" بواوين ونقطتي التاء. وكلمة "الشؤون" في الإملاء القديم تكتب بواو واحدة. ولعلَّ الصواب ما أثبتنا استئناسًا باقتران الشهوات بالراحات قبل أسطر. (2) كذا في الأصل. وفي حاشية "ف": "عنه" مع علامة لم تتضح في الصورة. وفي غيرهما: "عن ربه". (3) تحرف "قبر" في "ك" إلى "فهو". وفي "ط": "فهو قبر". (4) "ك، ط": "وروحه". (5) "ط": "من جسمه". "ب": "وجسمه". (6) "ب، ك": "هلاك"، تحريف. (7) "الحق" ساقط من "ب".
(1/391)
فلو توهّم العبد المسكين هذه الحالَ، وصوّرَتْها له نفسُه، وأرته إيّاها على حقيقتها، لتقطع واللَّهِ قلبُه، ولم يلتذَّ بطعام ولا شراب؛ ولخرج إلى الصُّعُدات (1) يجأَر إلى اللَّه، ويستغيث به، ويستعتبه (2) في زمن الاستعتاب. هذا مع أنَّه إذا آثر شهواته ولذّاته الفانية التي هي كخيال طَيف أو مُزنة صَيف نُغِّصت عليه لذّتُها أحوجَ ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أقدرَ ما كان عليها! وتلك سنّة اللَّه في خلقه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس/ 24]. وهذا هو غِبّ إعراضه وإيثاره شهوتَه (3) على مرضاة ربّه، فيعوّق (4) القدرُ عليه أسبابَ مراده، فيخسر الأمرين جميعًا. فيكون معذَّبًا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قُسِم له منه شيء فحشوه الخوفُ والحزن (5) والنكد والألم. فهمٌّ لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذلّ لا ينتهي، وطمع لا يُقلِع! __________ (1) الصعدات: الطرق أو البراري والصحاري وبكليهما فسرت الكلمة في حديث أبي ذر: "ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه". أخرجه الترمذي في الزهد (2414). انظر: تحفة الأحوذي (6/ 496). (2) "ب": "يستعينه". (3) "ك، ط": "إيثار شهوته". (4) "ط": "يعوق". (5) "ك": "الحزن والخوف".
(1/392)
هذا في هذه الدار، وأمَّا في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك! قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان يتمنّاه من قُرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضِرَ جميعَ غمومه وأحزانه. وأمَّا في دار الجزاءِ فسجن أمثاله من المبعودين (1) المطرودين. فواغوثاه ثمّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين! فمن أعرض عن اللَّه بالكلّية أعرض اللَّهُ عنه بالكلّية. ومن (2) أعرض اللَّه عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس في أحواله وأعماله، وقارنه (3) سوءُ الحال وفسادُه في دينه ومآله. فإنّ الربّ تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وانكسفت أنوارها، وظهر (4) عليها وحشة الإعراض، وصارت مأوى للشياطين، وهدفًا للشرور، ومصبًّا للبلاءِ. فالمحروم كلّ المحروم من عرف طريقًا إليه، ثمَّ أعرضَ عنها؛ أو وجد بارقةً من حبه ثمَّ سُلِبَها، لم ينفذ إلى ربِّه منها، خصوصًا إذا مالَ بتلك الإرادة إلى شيءٍ من اللذات، أو انصرفَ (5) بجملته إلى تحصيل الأعراض (6) والشهوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى. __________ (1) كذا وردت الكلمة في الأصل وغيره، وهي من الألفاظ الدارجة في زمن المصنف وبعده. والفصيح: "المبعدون". (2) "ب": "وإذا". (3) "ب": "قام به"، تحريف. (4) "ط": "ظهرت". (5) "ك، ط": "وانصرف". (6) "ف، ب، ط": "الأغراض".
(1/393)
قد مضت عليه برهةٌ من أوقاته، وكان همه اللَّه، وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كلِّ ما سواه، على ذلك يصبح ويمسي، ويظل ويضحي، وكان اللَّه في تلك الحال وليَّه (1)، لأنَّه وليُّ من تولاه، وحبيب من أحبَّه ووالاه. فأصبحَ في سجن الهوى ثاويًا، وفي أسر العدو مقيمًا، وفي بئر المعصية ساقطًا، وفي أودية الحيرة والتفرقة هائمًا، معرضًا عن المطالب العالية إلى الأغراض (2) الخسيسة الفانية. كان قلبه يجول (3) حول العرش، فأصبحَ محبوسًا في أسفلِ الحُشِّ. فأصبحَ كالبازي المنتَّفِ ريشُه ... يرى حسراتٍ كلَّما طارَ طائرُ وقد كان دهرًا في الرياضِ منعَّمًا ... على كلِّ ما يهوى من الصيدِ قادرُ إلى أن أصابته من الدهرِ نَكبةٌ ... إذا هو مقصوصُ الجناحين حاسِرُ (4) فيا من ذاقَ شيئًا من معرفة ربِّه ومحبته، ثُمَّ أعرضَ عنها، واستبدل بغيرها منها، يا عجبًا له بأي شيءٍ (5) تعوَّضَ! وكيف قرَّ قرارُه، فما طلبَ الرجوعَ إلى أحبّته (6) وما تعرَّض! وكيف اتخذَ سوى أحبّته (7) سكنًا، __________ (1) "وكان اللَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ب". (2) ضبط بالغين المعجمة في الأصل خلافًا لما سبق قبل أسطر. وفي "ك": "الأعراض". (3) "ط": "يحوم". (4) من أربعة أبيات وردت دون عزو في المدهش (458) مفتوحة القافية، والبيت الأوَّل مع آخر أوردهما الثعالبي في ثمار القلوب (455)، والتمثيل والمحاضرة (366). (5) "ب": "بأي عوض". (6) "ط": "أحنيته"، تصحيف، ويشبهه ما في "ك". (7) "ط": "أحنيته".
(1/394)
وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله موطنًا! أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار، ووافقه على مساكنة الأغيار! فيا معرضًا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعًا سعادته العظمى بالعذاب الأليم. ويا مُسْخِطًا مَن حياتُه وراحتُه وفوزُه في رضاه، وطالبًا رضى مَن سعادتُه في إرضاءِ سواه. إنَّما هي لذَّةٌ فانية، وشهوة منقضية، تذهب لذَّاتها، وتبقى تبعاتها. فرحُ ساعةٍ لا شهر، وغمُّ سنة بل دهر. طعامٌ لذيذ مسموم، أوَّلهُ لذَّة وآخره هلاك. فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القزّ، يسدُّ على نفسه (1) المذاهب، بما نسجَ عليها من المعاطب. فيندم حين لا تنفع الندامة، ويستقيل حين لا تُقبَل الاستقالة. فطوبى لمن أقبل على اللَّه بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإنَّ اللَّه يُقبِل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته. وإنَّ اللَّه سبحانه إذا أقبلَ على عبدٍ (2) استنارت جهاتُه، وأشرقت ساحتُها (3)، وتنورت ظلماتُها (4)، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجَّه إليه أهلُ الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنَّهم تبع لمولاهم. فإذا أحب عبدًا أحبوه، وإذا والى وليًّا والَوه. "إذا أحبَّ اللَّه العبد نادى: يا جبريلُ إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه، فينادي جبريل في السماء: إنَّ اللَّهَ يحب فلانًا فأحِبُّوه. فيحبه أهلُ السَّماءِ ثُمَّ يحبه أهلُ الأرضِ، فيوضع له القبول __________ (1) "ك": "تسد على نفسها". (2) في حاشية "ب": "خ العبد". (3) كذا في الأصل و"ب". وفي "ف، ك": "ساحاتها"، وفي "ط": "ساحاته". (4) "ط": "ظلماته".
(1/395)
بينهم" (1)، ويجعل اللَّه قلوب أوليائه تفِدُ إليه بالود والمحبَّة والرحمة. وناهيك بمن يتوجَّه إليه مالك الملك ذو الجلالِ والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرضِ بالتبجيل والتكريم. وذلك فضلُ اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3209) وغيره، ومسلم في كتاب البر والصلة (2637) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(1/396)
قاعدة (1) [السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية] السائر إلى اللَّه والدار الآخرة، بل كلُّ سائرٍ إلى مقصد، لا يتم سيرُه ولا يصلُ إلى مقصوده إلا بقوَّتين: قوَّة علمية، وقوَّة عملية (2). فبالقوَّة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك، فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسبابَ الهلاكَ، ومواضعَ العطب، وطرقَ المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوَّتُه العلمية كنورٍ عظيم بيده، يمشي به (3) في ليلة مظلمة (4) شديدة الظلمة. فهو يبصرُ بذلك النورِ ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوِهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره. ويبصر بذلك النور أيضًا أعلامَ الطريقَ وأدلتها المنصوبة عليها، فلا يضل عنها. فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعاطبها (5). وبالقوَّة العملية يسير حقيقةً، بل السيرُ هو حقيقة القوَّة العملية، فإنَّ السيرَ هو عمل المسافر (6). وكذلك السائر إلى ربِّه إذا أبصرَ الطريق وأعلامَها، وأبصرَ المعاثر (7) والوهاد والطرق الناكبة عنها، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح. وبقيَ عليه الشطر الآخر، وهو أن يضع عصاه __________ (1) في "ب": "قاعدة شريفة". (2) وانظر مفتاح دار السعادة (1/ 214). (3) "به" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "ليلة عظيمة مظلمة". (5) "ب": "معالمها"، تحريف. (6) "ب": "السائر". (7) "ك": "المغايرة"، تصحيف.
(1/397)
على عاتقه، ويشمِّر مسافرًا في الطريق، قاطعًا منازلها منزلةً بعد منزلةٍ. فكلَّما قطع مرحلةً استعدَّ لقطع الأُخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهان (1) عليه مشقَّةُ السفر. وكلَّما شكت (2) نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحل وعَدَها قُربَ التلاقي وبردَ العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمَّة. فهو يقول: يا نفس أبشري، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرتِ وواصلتِ السُّرى (3) وصلتِ حميدةً مسرورةً جذِلةً، وتلقَّتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات. وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعةٍ، فإنَّ الدنيا كلها كساعة من ساعاتِ الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فاللَّه اللَّه لا تنقطعي في المفازة، فهو واللَّه الهلاك والعطب لو كنت تعلمين! فإن استصعبتْ عليه (4) فليذكِّرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاءِ. فإنْ رجعت فإلى أعدائها رجوعُها، وإن تقدَّمت فإلى أحبابها مصيرُها، وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها، فإنَّهم وراءَها في الطلب. فلا بدَّ (5) لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت. __________ (1) "ط": "فهانت". (2) "ك، ط": "سكنت"، تحريف. (3) "ك": "المسير". "ط": "المسرى". (4) "عليه" ساقط من "ب". (5) "ب، ك، ط": "ولا بد".
(1/398)
وليجعلْ (1) حديث الأحبة حاديَها وسائقَها، ونورَ معرفتهم وإرشادهم هاديَها ودليلَها، وصدقَ ودادهم وحبهم غذاءَها وشرابَها ودواءَها. ولا يوحشنَّه (2) انفرادُه في طريق سفره، ولا يغترَّ بكثرة المنقطعين، فألمُ انقطاعه وبعاده واصلٌ إليه دونهم، وحظُّه من القرب والكرامة مختصٌّ به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلمْ أنَّ هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه المتلقون (3) يهنئونه بالسلام والوصول إليهم. فيا قرَّةَ عينه إذ ذاك، ويا فرحته إذ يقول: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس/ 26 - 27]. ولا يستوحشْ ممَّا يجده من كثافة الطبع، ودرَن (4) النفس، وبطءِ سيرها. فكلَّما أدمن السير وواظبَ عليه غدوًّا ورواحًا وسحرًا قرُبَ من المنزل (5)، وتلطفت تلك الكثافة، وذابت تلك الخبائث والأدران، وظهرت (6) عليه همَّة المسافرين وسيماهم، فتبدَّلت وحشتُه أُنسًا، وكثافتُه لطافة، ودرنُه طهارة. __________ (1) "ب، ك": "ولتجعل"، تصحيف. (2) "ب، ك، ط": "ولا يوحشه". (3) في الأصل: "الملتقون"، ولعله سهو، وكذا في "ف، ب". والمثبت من "ك، ط". (4) "ك": "دُؤب"، "ط": "ذوب"، تحريف. (5) "ك، ط": "من الدار". (6) "ك، ط": "فظهرت".
(1/399)
فصل (1) فمن النَّاسِ من تكون (2) له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوَّة أغلبَ القوَّتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوَّة العملية. يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقَّاها. فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجُهَّال في التخلف، وفارقهم في العلم. وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه اللَّه، فلا قوَّة إلا باللَّه (3). ومن النَّاسِ من تكون له القوة العلمية الإراديّة، وتكون أغلبَ القوتين عليه. وتقتضي هذه القوة السير والسلوك (4)، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِدّ والتشمير في العمل. ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأحوال (5) والمقامات، كما كان الأوَّل ضعيف العقل عند ورود الشهوات. فداءُ هذا من جهله، وداءُ الأوَّل من فساد إرادته وضعف عقله. وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة. يُرَى (6) أحدهم أعمى عن __________ (1) انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 378). (2) "ك، ط": "يكون". والأصل غير منقوط. (3) "ط": "ولا قوة". (4) "ب": "السكوت"، تحريف. (5) "ب، ك، ط": "الأقوال". (6) "ب": "ترى".
(1/400)
مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده. فتارةً يعبده بذوقه ووجده، وتارةً يعبده بعادة (1) قومه وأصحابه من لبس معين، أو كشف رأس، أو حلق لحية ونحوها. وتارةً يعبده بالأوضاع التي وضعها بعضُ المتحَذْلقين وليس لها (2) أصل في الدِّين. وتارةً يعبده بما تحبه نفسُه وتهواه كائنًا ما كان. وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا ربُّ العباد (3). فهؤلاءِ كلُّهم عُمْيٌ عن ربِّهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسلَه، وأنزل به كتبَه، ولا يقبل من أحدٍ دينًا سواه؛ كما أنَّهم لا يعرفون صفاتِ ربِّهم التي تعرَّف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته (4) من طريقها، فلا معرفة (5) بالرب ولا عبادة له. فمن (6) كانت له هاتان القوتان استقام له سيرُه إلى اللَّه تعالى، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول اللَّه وقوَّته. فإنَّ القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد. ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورةً بالسالكين. ولو شاء اللَّه لأزالها وذهب بها، ولكن اللَّه يفعل ما يريد. والوقت هو (7) -كما قيل- سيفٌ، فإن قطعتَه وإلا قطعك. فإذا كان __________ (1) "ب": "بعبادة"، تحريف. (2) "ك، ط": "له"، خطأ. (3) "ب": "اللَّه رب العباد". (4) "التي تعرف" إلى هنا ساقط من "ب". (5) "ط": "معرفة له". (6) "ط": "ومن". (7) "هو" ساقط من "ط".
(1/401)
السير ضعيفًا، والهمَّة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا (1)، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرةً شديدة = فإنَّه جهد البلاءِ، ودرك الشقاء، وسوء القضاء (2)، وشماتة الأعداء؛ إلا أن يتدارك (3) اللَّه برحمةٍ منه من حيث لا يحتسب: يأخذ (4) بيده، ويخلصه من أيدي القواطع. واللَّه ولي التوفيق. __________ (1) "والهمة. . ." إلى هنا ساقط من "ب". (2) "سوء القضاء" ساقط من "ط". (3) "ط": "يتداركه". (4) كذا في الأصل و"ف". وفي غيرهما: "فيأخذ".
(1/402)
قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم] العبدُ من حين استقرَّت قدمه في هذه الدار فهو مسافر إلى ربِّه، ومدَّة سفره هي عمره الذي كتب له. فالعمر هو مدَّة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربِّه تعالى، ثُمَّ قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكلُّ يوم وليلة مرحلةٌ من المراحل، فلا يزالُ يطويها مرحلةً بعد مرحلةٍ حتَّى ينتهي السفر. فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه. ولا يطول عليه الأمد، فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحضره (1) التسويفُ والوعد والتأخير والمطل؛ بل يعدّ عمرَه تلك المرحة الواحدة، فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته. فإنَّه إذا تيقن قِصَرَها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، وطوَّعت (2) له نفسه الانقياد إلى التزود؛ فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك. فلا يزالُ هذا دأبه حتَّى يطوي مراحل عمره كلَّها، فيحمد سعيَه (3)، ويبتهج بما أعدَّه ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذٍ يحمد سُراه، وينجلي (4) عنه كَراه. فما أحسنَ ما يستقبل يومَه، وقد لاحَ صباحُه، واستبانَ فلاحُه! __________ (1) "ك، ط": "يحضر بالتسويف". (2) "ب، ك، ط": "فطوعت". (3) "ب": "تعبه". (4) "ب": "ينحل"، تحريف، وفي "ك، ط": "ينجاب".
(1/403)
ثمّ النَّاس في قطع هذه المراحل قسمان: فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلَّما قطعوا مرحلةً منها (1) قربوا من تلك الدَّار، وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته. فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداته، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، والسعي في إطفاء نوره، وإبطال دعوته -دعوة الحق (2) - وإقامة دعوة غيرها. فهؤلاءِ جعلت أيَّامهم مراحل (3) يسافرون فيها (4) إلى الدار التي خلقوا لها، واستعملوا بعملها (5)، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم حتى يسوقونهم (6) إلى منازلهم سوقًا، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم/ 83] أي تزعجهم إلى المعاصي والكفرِ إزعاجًا، وتسوقهم سوقًا. القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها (7) إلى اللَّه وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: ظالمٌ لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن اللَّه. وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعى إلى اللَّه، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفسِ السير وسرعته وبطئه. __________ (1) "ك، ط": "منها مرحلة". (2) "دعوة الحق" ساقط من "ط". (3) "مراحل" ساقط من "ط". (4) "ب": "بها". (5) "ك": "بها بعملها". "ط": "بها"، وأسقط "بعملها". (6) "ب": "يسوقوهم". وقد أسقط "حتى" من "ط". (7) "فيها" ساقط من "ب".
(1/404)
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذٍ منه ما يبلّغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته؛ بل مفرِّط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده. ومع ذلك فهو متزوِّد ما يتأذَّى به في طريقه، ويجد غِبَّ أذاه إذا وصلَ المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضارّ. والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلّغه، ولم يشدَّ (1) مع ذلك أحمالَ التجارة الرَّابحة، ولم يتزود ما يضره. فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرَّابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همُّه في تحصيل الأرباح، وشدِّ أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل. فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا ممَّا بيده، ولا يتجر فيه (2)، فيجدُ ربحَه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم. فهو كرجل قد علم أنَّ أمامه بلدةً يكسب الدرهم (3) فيها عشرةً إلى سبعمائه وأكثر، وعنده حاصل، وله خبرة بطريق ذلك البلد، وخبرة بالتجارة، فهو لو أمكنه بيعُ ثيابه وكلّ ما يملك حتَّى يهيئ به تجارةً إلى ذلك البلد لفعل. فهكذا (4) حال السابق بالخيرات بإذن ربِّه (5) يرى خسرانًا بيَّنًا أن يمرَّ عليه وقتٌ في غير متجر. فنذكر بعون اللَّه وفضله (6) نبذةً من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد __________ (1) "ف": "فشد"، خلافًا للأصل. (2) "ب، ك، ط": "به". (3) "ف": "الدرهم يكسب". (4) "ف": "فهذا"، خلاف الأصل. (5) "ك، ط": "بإذن اللَّه". (6) "ب": "بحمد اللَّه وعونه".
(1/405)
من أي التجار هو: فأمَّا الظالم لنفسه فإنَّه إذا استقبل مرحلةَ يومه وليلته استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكت جوارحَه طالبةً لها ساعيةً فيها (1). فإذا زاحمتها (2) حقوق ربِّه فتارةً وتارةً: فمرَّةً يأخذ بالرخصة، ومرَّةً بالعزيمة، ومرَّةً يقدم على الذنب وتركِ الحقِّ تهاونًا ووعدًا بالتوبة. فهذا حالُ الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد، والإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب. فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران، وهو للأغلب (3) منهما. فإذا وردَ القيامةَ مُيِّزَ ربحُه من خسرانه، وحُصِّل ربحُه وحده، وخسرانُه وحده، وكان الحكم للرَّاجح منهما. وحكم اللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك، لا يعدم عباده (4) منه (5) فضلَه وعدلَه. فصل (6) وأمَّا المقتصدون: فأدوا وظيفةَ تلك المرحلة، ولم يزيدوا عليها، ولم ينقصوا (7) منها. فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحقَّ الذي عليهم. __________ (1) "ساعية فيها" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "زاحمها". (3) "ب، ك": "الأغلب"، وفي حاشية "ك": "لعله للأغلب"، وهو الثابت في الأصل و"ف". (4) "عباده" ساقط من "ك، ط". (5) "ك": "فيه" تحريف. (6) "فصل" ساقط من "ب، ط". (7) "ك، ط": "ولا نقصوا".
(1/406)
فإذا استقبلَ أحدهم مرحلةَ يومه استقبلها بالطهور التامّ والصلاة التامّة في وقتها، بأركانها وواجباتها وشرائطها؛ ثُمَّ ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذنَ اللَّه له (1) فيها مشتغلًا بها، قائمًا بأعبائها (2)، مؤديًا واجبَ الربِّ فيها، غير متفرِّغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكارِ والتوجه. فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأوَّل، فهو كذلك سائر يومه. فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، يأخذ (3) مضجعه حتَّى ينشقّ الفجر، فيقوم إلى عَدَّانه (4) ووظيفته. فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقِّه، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب. وكذلك المعاملة مع الخلق، يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم، ولا يترك حقَّه لهم. فصل (5) وأمَّا السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقرَّبون. وهؤلاءِ __________ (1) "له": ساقط من "ط". (2) "ط": "بأعيانها"، تصحيف، وسقط من "ف": "بها قائمًا". (3) "ب": "فيأخذ". (4) أي إلى عهده. وقد ضبط في "ب" بفتح أوله، ويجوز بكسره، وفي "ك، ط": "غذائه"، تصحيف. وانظر ص (446). (5) "فصل" ساقط من "ب، ط".
(1/407)
الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين، وهم المقتصدون، والأبرار، والمقرَّبون. وأمَّا الظالم لنفسه فليسَ من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنَّه لا يسمَّى مؤمنًا عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه. وقد اختُلِف في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر/ 33] الآية، هل ذلك راجعٌ إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات؛ أو يختص بالقسمَين الأخيرين، وهما: المقتصد، والسابق، دون الظالم = على قولين: فذهبت طائفة إلى أنَّ الأصناف الثلاثة كلهم في الجنَّة، وهذا يروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعائشة أم المؤمنين. قال أبو إسحاق السَّبيعي: "أمَّا الذي سمعتُ مذ ستون (1) سنة فكلهم ناجٍ" (2). قال أبو داود الطيالسي (3): حدثنا الصَّلْت بن دينار، حدثنا عُقبة بن صُهبان الهُنائي قال: سألتُ عائشة عن قول اللَّه تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] فقالت لي: "يا بني، كلُّ هؤلاء في الجنَّة، فأمَّا السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يشهد له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحياة (4) والرزق. وأمَّا __________ (1) "ب": "مذ ستين"، "ك، ط": "منذ ستين". (2) تفسير الطبري (22/ 134). (3) "ك، ط": "الطائي"، تحريف. (4) "ط": "الخيرة"، تحريف.
(1/408)
المقتصد، فمن تبع أثره من أصحابه حتَّى لحق به. وأمَّا الظالم لنفسه، فمثلي ومثلك". قال: فجعلت نفسها معنا (1). وقال ابن مسعود: "هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنَّة بغير حساب، وثلث يحاسَبون حسابًا يسيرًا، ثُمَّ يدخلون الجنَّة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول اللَّه: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنَّهم لم يشركوا، فيقول عزَّ وجلَّ: أدخلوهم في سعة رحمتي" (2). وقال كعب: "تحاكَّتْ (3) مناكبهم وربِّ الكعبة، وتفاضلوا بأعمالهم". وقال الحسن: "السابق من رجحت حسناته (4)، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفَّت موازينه" (5). واحتجت هذه الفرقة بأنَّه سبحانه سمّى الكلَّ "مصطفين"، وأخبر أنَّه __________ (1) أخرجه الطيالسي في مسنده (1592) والحاكم (2/ 462) (3593). قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله: "الصلت، قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي" (ز). (2) تفسير الطبري (22/ 134). (3) كذا في الأصل، وهو الصواب. انظر: زاد المسير (6/ 491)، وقرأ ناسخ "ف": "تحاذت"، وهو تحريف. ومثله في "ب، ك، ط". وفي تفسير الطبري (22/ 134): "تماسّت". وفي المحرر الوجيز (4/ 439): "استوت". (4) "ك، ط": "السابقون. . حسناتهم". (5) زاد المسير (6/ 489). (ص). أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقيُّ في البعث (75، 76) بمعناه، وسنده صحيح. (ز).
(1/409)
اصطفاهم من جملة العباد. ومحال أن يكون الكافر والمشرك من المصطفَين؛ لأنَّ الاصطفاء هو الاختيار، وهو افتعال (1) من صفوة الشيء، وهو خياره. فعُلِمَ أنَّ هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق، وبعضُهم خيرٌ من بعض: فسابقُهم مصطفى عليهم، ثُمَّ مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثُمَّ ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك. واحتجت أيضًا بآثار روتها تؤيد ما ذهبت إليه: فمنها ما رواه سليمان (2) الشاذكوني، حدثنا حصين بن نُمير (3)، عن ابن أبي ليلى (4)، عن أخيه، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية قال: "كلهم في الجنة" (5). ومنها ما رواه الطبراني (6)، حدَّثنا أحمد بن حمَّاد ابن زُغبة (7)، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة، عن أحمد بن حازم __________ (1) "ط": "الافتعال". (2) "ف": "سلمان"، خطأ، وقد سقط من "ب". (3) "ف": "نَهْر" كذا مضبوطًا. "ك": "بهر"، "ب، ط": "بهز". والصواب ما أثبتنا من الأصل وكتب الرجال. وهو حصين بن نمير الواسطي أبو محصن الضرير، كوفي الأصل. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 391). (4) "ط": "عن أبي يعلى"، خطأ. (5) أخرجه الطبراني في الكبير (410) والبيهقي في البعث (63، 64). قال الهيثمي في المجمع: "وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ". (ز). (6) لعله في الكبير في القسم المفقود. وسنده ضعيف. فيه ابن لهيعة. وصالح مولى التوأمة لم يسمع من أبي الدرداء. والحديث له طرق أخرى ستأتي. (ز). (7) لم يضبط في "ب، ك". وفي "ط": "رعية"، تصحيف. و"زغبة" لقب حمَّاد. انظر ترجمة عيسى بن حماد في تهذيب التهذيب (8/ 209).
(1/410)
المعافري (1)، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي الدرداء قال: قرأ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32] فقال: "أمَّا السابق فيدخل الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم فيُحبس (2) في طول المحبس، ثمَّ يتجاوز اللَّه عنه". ومنها ما رواه زكريا الساجي، عن الحسن بن علي الواسطي، عن أبي سعد (3) الخزاعي، عن الحسن بن سالم، عن سعد بن طريف، عن أبي هاشم الطائي قال: "قدمتُ المدينة، فدخلتُ مسجدها، فجلستُ إلى سارية، فجاء حذيفة فقال: لأحدثنَّك (4) بحديث سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، سمعته (5) يقول: "يبعث اللَّه تبارك وتعالى هذه الأمة -أو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32]، فالسابق بالخيرات يدخل الجنَّة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حسابًا يسيرًا، والظالم لنفسه يدخل الجنَّة برحمة اللَّه" (6). __________ (1) "ط": "المعارفي"، تحريف. (2) "ط": "فيجلس"، تحريف. (3) في الأصل نقطة على الحرف الثاني، ويحتمل قراءة "سفيان". وقراءة "ف": "أبي نصر". وفي "ب، ك، ط": "أبي سعيد". ولعلَّ الصواب ما أثبتنا. (4) "ك": "ألا أحدثكم". "ط": "ألا أحدث". (5) "سمعته"ساقط من "ط". (6) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس زهر الفردوس (466) (8774) من طريق أبي الشيخ الأصفهاني عن زكريا الساجي به مثله. وهو ضعيف جدًّا. فيه سعد ابن طريف، وهو متروك، وقد رُمي بوضع الحديث. (ز).
(1/411)
ومنها ما رواه الطبراني عن محمد بن إسحاق (1) بن راهويه، حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن رجلٍ سمَّاه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] الآية، قال: "السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنَّة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرا ثمَّ يدخل الجنَّة" (2). ومنها ما رواه ابن لهيعة عن ابن أبي جعفر (3)، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في (4) هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله: {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: "فأمَّا السَّابقون فيدخلون الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالمون فيحاسبون، فيصيبهم عناءٌ وكرب، ثمَّ يدخلون الجنَّة، ثم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر/ 34] ". ومنها ما رواه الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدثنا طُعْمة (5) بن عمرو __________ (1) "ف": "الحسن"، تحريف. (2) أخرجه الحاكم (2/ 462)، والبيهقي في البعث (62) من طريق جرير عن الأعمش به. وجاء هذا الحديث من طرق أخرى عن الأعمش وغيره عند أحمد (21697) والطبري في تفسيره (22/ 137)، والبخاري في تاريخه (8/ 17 - 18). ولعلَّ أصح الطرق الطريق المرسلة. انظر تفصيل الخلاف في التاريخ الكبير. فالحديث ضعيف الإسناد لجهالة حال الراوي عن أبي الدرداء. (ز). (3) "ك، ط": "عن أبي جعفر". (4) "في": ساقطة من "ط". (5) "ب، ك": "طعيمة"، تحريف.
(1/412)
الجعفري، عن رجلٍ قال: قال أبوالدرداءِ لرجل: ألا أحدثك بحديث أخصُّك به، لم أحدث به أحدًا؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: "جنَّات عدن" (1) قال: "دخلوا الجنَّة جميعًا" (2). واحتجت أيضًا بالآيات والأحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنَّة. واحتجت أيضًا بأنَّ "ظلم النفس" إنَّما يُرادَ به (3) ظلمُها بالذنوب والمعاصي، فإن الظلم ثلاثة أنواع: ظلم في حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها، وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم في حق الرب بالشرك به. فظلم النفس إنَّما هو بالمعاصي، وقد تواترت النصوص بأنَّ العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنّة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية (4) [آل عمران/ 135]. وقالت طائفة: بل الوعد بالجنَّات إنَّما هو للمقتصد والسابق، دون الظالم لنفسه. فإنَّ الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق، والظالم لنفسه هنا هو: الكافر، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: المؤمن التقي. __________ (1) كذا في الأصل وغيره، وقارن بما في "ط". (2) انظر تاريخ البخاري، الموضع السابق. (3) "ك، ط": "بها". (4) "كقوله تعالى. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط"، وهو ثابت في حاشية الأصل.
(1/413)
وهذا يروى عن عكرمة (1)، والحسن (2)، وقتادة (3). وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشَّاف (4)، ومنذر (5) بن سعيد في تفسيره، والرماني (6)، وغيرهم. قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم. وهي نظير آية: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة/ 7 - 10]. قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون، وأصحاب المشأمة هم (7) الظالمون لأنفسهم، والسابقون (8) هم السابقون بالخيرات. قالوا: ولم يصطفِ اللَّه من خلقه ظالمًا لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين ويتناولهم فعل الاصطفاء؟ __________ (1) أخرجه الطبري (22/ 125). (ز). (2) أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقي في البعث (76،75) وهو ثابت عنه (ز). (3) أخرجه الطبري (22/ 135)، وهو ثابت عنه (ز). (4) الكشاف (3/ 612). (5) "ب": "رزين". تحريف. وهو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي (355 هـ) كان فقيهًا محققًا ونحويًا وعالمًا بالتفسير. سير أعلام النبلاء (16/ 173). (6) أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، (384 هـ)، المعتزلي، من كبار النحاة، صاحب التصانيف في التفسير والنحو واللغة. إنباه الرواة (2/ 294)، السير (16/ 533). (7) "هم" ساقط من "ك، ط". (8) "ك، ط": "والسابقون السابقون".
(1/414)
قالوا: وأيضًا فصفوة اللَّه (1) هم أحباؤه، واللَّه لا يحب الظالمين، فلا يكونون (2) مصطفين. قالوا: ولأنَّ الظالم لنفسه، وإن كان ممن أُورث الكتاب، فهو بتركه العمل (3) بما فيه قد ظلم نفسَه، واللَّه سبحانه إنِّما اصطفى من عباده من أورثه كتابَه ليعمل بما فيه. فأمَّا من نبذه وراءَ ظهره فليس من المصطفين من عباده. قالوا: ولأنَّ الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء، وهو خلاصته ولبّه، وأصله اصتفى، فأبُدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه. والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبّهم، فلا يكون مصطفى. قالوا: ولأنَّ اللَّه سبحانه سلَّم على المصطفين من عباده فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل/ 59]. وهذا يقتضي سلامتهم من كلِّ شرٍّ ومن (4) كلِّ عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا، فكيف يكون من المصطفين؟ قالوا: وأيضًا فطريقة القرآن أنَّ الوعدَ المطلق بالثواب إنَّما يكون للمتقين لا للظالمين، كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم/ 63] فأين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ __________ (1) "ط": "صفوة اللَّه". (2) "ك": "فلا يكونوا". (3) "ب": "للعمل". (4) "من" ساقطة من "ك، ط".
(1/415)
جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان/ 15]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران/ 133]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ/ 31 - 36]. والقرآن مملوءٌ من هذا، ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلًا. قالوا: وأيضًا فلم يجيء في القرآن ذكر الظالم لنفسه إلا في معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 74 - 76]، وقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19] (1)، وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة/ 57] (2). وقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة/ 124]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس/ 44] (3). قالوا: وأيضًا فالظالم لنفسه هو الذي خفَّت موازينه، ورجحت سيئاته، والقرآن كلُّه يدلُّ على خساره (4) وأنَّه غير ناج، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ __________ (1) وقع في الأصل وغيره من النسخ: "قالوا ربنا. . . " وهو سهو. (2) "ب، ك، ط": "وما ظلمناهم. . . "، وهي آية أخرى في سورة النحل (118). (3) سقطت هذه الآية والتي قبلها من "ب، ك، ط". (4) "ب، ط": "خسارته".
(1/416)
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف/ 8 - 9]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)} (1) [القارعة/ 8 - 9]. فكيف يذكر وعده بجنَّاته وكرامته للظالمين أنفسَهم، الخفيفة موازينُهم؟ قالوا: وأيضًا فقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر/ 33] (2) مرفوع، لأنَّه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو بدل نكرة من معرفة، كقوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق/ 15 - 16] وحسَّن وقوعَه مجيءُ النكرة موصوفةً لِتخصُّصها (3) بالوصفِ وقربها من المعرفة. ومعلومٌ أنَّ المبدل منه وهو "الفضل الكبير" مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أنَّ سبقَهم بالخيرات بإذنه (4) هو (5) الفضل الكبير، وهو جنَّات عدن يدخلونها؛ وجعل السبق بالخيرات نفسَ الجنَّات لأنَّه سببها وموجبها. قالوا: وأيضًا فإنَّه وصفَ حليتَهم فيها بأنَّها أساور من ذهبٍ ولؤلؤ، وهذه جنَّات السابقين لا جنَّات المقتصدين. فإنَّ جنَّات الفردوس أربع، كما ثبت في الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "جنَّتان من ذهبٍ آنيتُهما وحِليتُهما وما فيهما. وجنَّتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنَّة __________ (1) وقع في الأصل وغيره من النسخ: "ومن خفت. . . "، وهو سهو. (2) "يدخلونها" ساقط من "ك، ط". (3) كذا في الأصلِ، وفي غيره: "لتخصيصها". (4) أشار في حاشية "ط" إلى أن في الأصل بياضًا بعد "بإذنه". ولكن لا بياض في النسخ التي بين أيدينا. (5) "ك، ط": "ذلك هو".
(1/417)
عدن" (1)، ومعلوم أنَّ الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين، فإذا كانت الجنَّتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنَّتين الفضيتين؟ فعُلِمَ أنَّ هذه الجنَّات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم. قالوا: وأيضًا فإنَّ أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات، فوجبَ اختصاصهم بالدخول إلى الجنَّاتِ المذكورة (2). قالوا: وفي اختصاصهم -بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن، إذ يصرِّح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم، وبذكر (3) عقاب الكفَّار والفجَّار والظالمين لأنفسهم ومن خفَّت موازينهم، ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادَّتان. هذه طريقة القرآن، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار/ 13 - 14]، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات/ 37 - 41] وهذا كثير في القرآن. قالوا: وفي السكوت عن شأن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له، فإنَّ (4) أمره مرجأٌ إلى اللَّه، وليس له (5) عليه ضمان، ولا له __________ (1) أخرجه البخاري في التفسير (4878) وغيره، ومسلم في الإيمان (180) عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (2) "ب، ك، ط": "المذكورات". (3) معطوف على "بذكر ثوابهم"، وفي "ف" وغيرها: "يذكر". (4) "ط": "بأنَّ". (5) "له": ساقط من "ك، ط".
(1/418)
عنده وعد، فَلْيحذر (1) كلَّ الحذرِ، ولْيبادر بالتوبة النصوح التي تُلِحقُه بالمضمون لهم النجاةُ والفلاحُ. قالوا: وأيضًا فمن المحال أن يقع على أحدٍ من المصطفين اسمُ الظلم مطلقًا، وإنَّما يقع اسم الظلم مطلقًا على الكافر، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة/ 254]. وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} [الشورى/ 8] مع قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة/ 257]. والظالم لا ولى له فلا يكون (2) من المؤمنين. قالوا: وأيضًا فمن تدبَّر الآيات وتأمَّل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلَّت على مراتبهم في الجزاء. فذكر سبحانه فيها (3) أنَّ النَّاس نوعان: ظالمٌ، ومحسنٌ. ثمَّ قسم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق. ثمَّ ذكر جزاءَ المحسن. فلمَّا فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر/ 36] (4). وقد قال (5) تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء/ 29]، فذكر أنواع العباد __________ (1) "ك، ط": "ليحذر". (2) قراءة "ف": "ولا يكون". (3) "فيها" ساقط من "ب، ك، ط". (4) في "ب" ضبطت الآية على قراءة أبي عمرو البصري، فقد قرأ: "كذلك يُجزَى كلُّ كفور". انظر: الإقناع (2/ 741). ولم تضبط في الأصل وغيره. (5) "ب، ك، ط": "وقال".
(1/419)
وجزاءهم. وقالوا: وأيضًا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة، كما ذكرهم تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان (1). فأمَّا سورة الواقعة، فذكرهم في أولها وفي آخرها، فقال في أولها: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة/ 7 - 12] فأصحاب المشأمة هم الظالمون. وأمَّا أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون. وقال (2) في آخرها: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}. فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أوَّل السورة، ثمَّ ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة. ولهذا قدَّم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح (3)، فقال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}، ثمَّ قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)} إلى آخرها. وأمَّا في أوَّلها فذكر أقسام الخلق عقب (4) قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) __________ (1) "ب": "الواقعة وسورة الإنسان والمطففين". (2) "قال" ساقط من "ك، ط". (3) "في آخر السورة. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (4) "ف": "عقيب" خلاف الأصل.
(1/420)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة/ 2 - 7]. وأمَّا سورة الإنسان فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}، فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة. ثمَّ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ثمَّ قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصَّهم بالإضافة إليه، وأخبرَ أنَّهم يشربون بتلك العين صِرفًا محضًا (1)، وأنَّها تُمزَج للأبرار مزجًا، كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}. وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} ولم يقل: "منها"، إشعارًا بأنَّ رِيَّهم (2) بالعينِ نفسِها خالصةً لا بها وبغيرها. فضمّن "يشرب" معنى "يروى"، فعدَّى بالباء. وهذا ألطف مأخذًا وأحسن معنى من أن تُجعل الباءُ بمعنى"من"، ولكن (3) يُشرَب الفعلُ معنى فعل آخرَ فيعدَّى (4) تعديته. وهذه طريقة الحذَّاق من النحاة، وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه (5). وقال في الأبرار: {مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} __________ (1) "ب، ك": "محضة". (2) "ط": "شربهم". (3) "ط": "ويضمن"، خطأ. (4) "ك": "فتعدَّى"، "ط": "فيتعدى". (5) انظر نحو هذا الكلام في بدائع الفوائد (424)، وحادي الأرواح (264)، وانظر: مقدمة في أصول التفسير (52)، ومجموع الفتاوى (11/ 178)، والتبيان في أقسام القرآن (95)، والخصائص لابن جني (2/ 308 - 311)، =
(1/421)
[الإنسان/ 5]، لأنَّ شرب المقربين لمَّا كان أكمل استعير له الباء الدَّالّة على شرب الري بالعينِ خالصةً. ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر. وقال تعالى في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} إلى قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}، فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال. ثمَّ قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)}، فهؤلاء الأبرار المقتصدون. وأخبر أنَّ المقرَّبين يشهدون كتابَهم، أو يُكتَب بحضرتهم ومشهدهم، لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربِّه. ثمَّ ذكرَ سبحانه نعيم (1) الأبرار، ومجالسهم (2)، ونظرهم إلى ربِّهم، وظهورَ نضرة النعيم في وجوههم. ثمَّ ذكرَ شرابهم فقال: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}. ثمَّ قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} كما قال في سورة الإنسان سواءً. قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا، __________ = وإعراب القرآن للنحاس (5/ 98). (1) "ب": "معين". (2) "ب، ك، ط": "مجالستهم".
(1/422)
وتمزج (1) لأصحاب اليمين مزجًا (2). وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه. فيا لاهيًا في غمرة الجهلِ والهوى ... صريعًا على فُرْشِ الرَّدى يتقلبُ (3) تأمَّلْ -هداك اللَّه- ما ثمَّ وانتبِهْ ... فهذا شرابُ القومِ حقًّا يركَّبُ وتركيبُه في هذه الدار إن يفُتْ ... فليسَ له بعد المنية مطلبُ (4) فيا عجبًا من مُعرضٍ عن حياته ... وعن حظِّه العالي ويلهو ويلعبُ (5) ولو علم المحرومُ أيَّ بضاعةٍ ... أضاعَ لأمسى قلبُه يتلهَّبُ فإنْ كان لا يدري فتلك مصيبةٌ ... وإنْ كان يدري فالمصيبةُ أصعبُ بلى سوف يدري حين ينكشفُ الغطا ... ويصبحُ مسلوبًا ينوحُ ويندُبُ (6) ويعجَبُ ممَّن باعَ شيئًا بدون ما ... يُساوي بلا علمٍ وأمرُك أعجَبُ (7) __________ (1) "ب، ك، ط": "يمزج". (2) تفسير الطبري (30/ 109). (3) "ب، ك": "أيا لاهيًا"."ط": "يا لاهيا".والظاهر أنَّ هذه الأبيات للمؤلف رحمه اللَّه. وقد زيدت في الأصل في حاشيته. (4) "ط": "إن تفت"، خطأ. (5) "ب": "عن جنابه"، تصحيف. (6) "ط": "مصلوبًا"، تحريف. (7) "ب": "وتعجب".
(1/423)
لأنَّك قد بعتَ الحياة وطيبَها ... بلذَّة حُلْمٍ عن قليلٍ ستذهَبُ (1) فهلَّا عكستَ الأمر إن كنتَ حازمًا ... ولكن أضعتَ الحزمَ والحكمُ يغلِبُ تصدُّ وتنأى عن حبيبك دائمًا ... فأينَ عن الأحباب ويحَكَ تذهبُ ستعلَمُ يومَ الحشرِ أيَّ تجارةٍ ... أضعتَ إذا تلك الموازينُ تُنصَبُ قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة، ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون. قالوا: وليسَ في الآيةِ ما يدلُّ على اختصاص الكتاب بالقرآن، والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب (2) التي أنزلها على رسُله، فإنَّه أورثها المصطفَين من عباده من كل أمة، وهم (3) الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم. هم الذين أُورثوه أوَّلًا، ثمَّ أُورثَه المصطفون (4) من أممهم بعدهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)} [غافر/ 53 - 54]، فأخبرَ أنَّه إنَّما يكون هدًى وذكرى لمن له لبٌّ عقَلَ به الكتابَ وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه اللَّه علمَه. وتأمَّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ __________ (1) "ك، ط": "سيذهب". (2) "ب": "لكتبه". (3) "هم": ساقط من "ط". (4) "ط": "أورثوه المصطفين".
(1/424)
مُرِيبٍ (14)} [الشورى/ 14] كيف حذف الفاعلَ هنا، وبنى الفعلَ للمفعول، لما كان في معرض الذمِّ لهم ونفيِ العلمِ عنهم. ولمَّا كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومننه (1) عليهم قال: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)} [غافر/ 53]. ونظيره هذه (2) الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32]. ومن ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف/ 169] فإنَّه (3) لمَّا كان الكلام في سياق ذمّهم على اتباعهم (4) شهواتهم، وإيثارهم العرضَ الفاني على حظّهم من الآخرة، وتماديهم في ذلك؛ لم ينسب التوريثَ إليه، بل نسبه إلى المحلّ، فقال: "ورثوا الكتاب"، ولم يقل: "أورثناهم الكتاب". وقد ذكرتُ نظير هذا في قوله: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة/ 121] أنَّه للمدح، و {أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) إمَّا في سياق الذمِّ، وإمَّا منقسم، في كتاب "التحفة المكية" (6). __________ (1) "ط": "منته". (2) "ط": "ونظير هذه". (3) "ب، ك، ط": "وأنَّه". (4) "ب": "اتباع". (5): "أورثوا"، "ك، ط": "أورثوا الكتاب"، تحريف. (6) سمَّاه في بدائع الفوائد (1597) "التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية". وقد تكلَّم المؤلف في هذا الموضوع في بدائع الفوائد (725) أيضًا، ولكنَّه أحال هناك في بيان الفرق بين {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} على كتاب "الفوائد المكية".
(1/425)
والمقصودُ أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أوَّلًا وآخرًا. قالوا: وأمَّا (1) قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} لا يرجع إلى المصطفين، بل إمَّا أن يكون الكلام قد تمَّ عند قوله: {مِنْ عِبَادِنَا}، ثمَّ استأنف جملةً أخرى، ذكر (2) فيها أقسام العباد، وأنَّ (3) منهم ظالم، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق. ويكون الكلام جملتين مستقلتين، بيَّن في إحداهما أنَّه أورثَ كتابَه مَن اصطفاه من عباده، وبيَّن في الأُخرى أنَّ من عباده ظالم، ومقتصد، وسابق (4). وإمَّا أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب، وأنَّ منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قَبِلَه مقتصدًا فيه، ومنهم من قَبِله سابقًا بالخيرات بإذن ربِّه (5). قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنَّه سبحانه ذكر إرساله في كلِّ أمة نذيرًا ممَّن تقدم هذه الأمة، فقال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]. ثمَّ ذكر أنَّ رسلهم جاءَتهم بالبينات وبالزبُر وبالكتاب المنير. فالبينات (6): الآيات الدَّالّة على صدقهم وصحَّة رسالتهم (7). والزبر: الكتب (8)، واحدها زبور بمعنى مزبور أي __________ (1) "أمَّا" ساقط من "ط". (2) "ب، ك، ط": "وذكر". (3) كذا في الأصل وغيره على أنّ اسم أن محذوف، وفي "ط": "أنَّهم". (4) كذا في الأصل وغيره، وفي "ط": "ظالمًا ومقتصدًا وسابقًا". (5) "ب، ك، ط": "بإذن اللَّه". (6) "فالبينات" ساقط من "ط"، وفي "ك": "والبينات". (7) "ط": "رسالاتهم". (8) "ط": "الكتاب".
(1/426)
مكتوب. و"الكتاب المنير" (1). من باب عطفِ الخاصِّ على العام، لتميزه (2) عن المسمَّى العام بفضيلة وشرف (3) امتاز بها واختص بها (4) عن غيره. وهو كعطف جبريل وميكائل على الملائكة (5)، وكعطف أولي العزم (6) على النبيين من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب/ 7]. والكتاب المنير هاهنا هو (7) التوراة والإنجيل. ثمَّ ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله، فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)} [فاطر/ 26]. ثمَّ ذكر التالين لكتابه، وهم المتبعون له العاملون بشرائعه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} إلى قوله: {غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر/ 29 - 30] (8). ثمَّ ذكر الكتاب الذي خصَّ به خاتمَ أنبيائه ورسله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} [فاطر/ 31]. ثمَّ ذكر سبحانه من أورثهم سبحانه الكتابَ بعد أولئك، وأنَّه اصطفاهم لتوريث كتابه، إذ ردَّه المكذبون ولم يقبلوا __________ (1) "ف، ك": "المبين"، تحريف. (2) "ف، ك، ب": "ليميزه"، وقد ضبط في الأصل بالتاء. (3) "ط": "بفضله وشرفه". (4) "بها" كذا هنا ومن قبل في الأصل وغيره، والضمير عائد إلى "الفضيلة". (5) "ميكائل": كذا في الأصل و"ف". وهي قراءة نافع المدني، وفي "ب": "ميكائيل". وفي "ك": "ميكال". (6) في الأصل: "أولو العزم" بالرفع، سهو. (7) "هو" ساقط من "ط". (8) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط" أكملت الآية.
(1/427)
توريثه. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الاصطفاء افتعال من الصفوة، وهي الخيار، وهي إنَّما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أنَّ الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه اللَّه من عباده، وقد تقدم (1) تقريره. قالوا: وأمَّا الآثارُ التي رويتموها عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد أو منقطعة (2) لا تثبت، كيف وهي معارَضةٌ بآثار مثلها أو أقوى منها. قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا الحسن بن عبيد اللَّه بن الحسن (3)، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلَّى الأدمي، حدثنا حفص بن عمار، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] قال: "الكافر" (4). قالوا: وأمَّا النصوص الدالّة على أنَّ أهل التوحيد يدخلون الجنَّة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنَّها مطلقة، ولها شروط وموانع. كما أنَّ النصوص الدَّالّة على عذاب أهل الكبائر (5) صحيحة متواترة، ولكن (6) لها شروط (7) وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص __________ (1) "ب": "سبق". (2) "ب، ك، ط": "ومنقطعة". (3) "ط": "الحسن بن عبد اللَّه". (4) سنده ضعيف فيه حفص بن عمار المعلم. قال الذهبي: "مجهول". وله أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل (2/ 391 - 392). (ز). (5) "ف": "أهل النار" تحريف. (6) "لكن" ساقط من "ط". (7) "ب": "شروطًا".
(1/428)
الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ "ظلم النفس" إنَّما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكرنا من (1) القرآن ما يدل على أنَّ ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه (2): {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة/ 54] وقوله: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19]، ونظائره كثيرة. قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حقَّ تدبره، وأعطيتم الآيات حقَّها من الفهم، وراعيتم وجوهَ الدلالة (3) وسياق الكلام، لعلمتم أنَّ الصوابَ معنا، وأنَّ هذه الأقسام الثلاثة هي الأقسام التي خلقت للجنَّة، وهم درجات عند اللَّه (4)؛ وأنّ هذا التقسيم الذي دلّت عليه أخصُّ من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطفّفين. فإنّ ذلك تقسيمٌ للناس إلى شقيّ وسعيد، وتقسيمٌ للسعداء (5) إلى أبرار ومقرّبين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه. وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأُمّة إلى محسن ومسيء، فالمسيء (6) هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعان: مقتصد، وسابق بالخيرات. فإنّ الوجود شامل لهذا __________ (1) "ط": "ذكر في". "ك": "ذكرنا في القرآن ما دلَّ". (2) "لقومه" ساقط من "ك، ط". (3) "ط": "وجوهه الدالة". (4) "وأنَّ هذه الأقسام. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (5) "ك، ط": "السعداء". (6) قراءة "ف": "والمسيء".
(1/429)
القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة، فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه؟ ثمّ لمّا استوفى أقسام الأُمة ذكر الخارجين عنهم، وهم الذين كفروا، فعمّت الآية أقسامَ الخلق كلِّهم. وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملَتْ ذِكرَ القسمِ الأغلب الأكثر، وكرّرت ذكر حكم الكافر أوَّلًا وآخرًا. ولا ريبَ أنَّ ما ذكرناه أولى لبيان حكم (1) هذا القسم، وعموم الفائدة. أيضًا فإنَّ قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] صريح في أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده. وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] إمَّا أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإمَّا أن يرجع إلى العباد. ورجوعُه إلى "الذين اصطفينا" (2) أولى (3) لوجهين: أحدهما: أنَّ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} (4) [فاطر/ 32] إنَّما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد، فكذلك قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32]. ولا يقال: بل الضمائر كلّها تعود على العباد، لأنَّ سياق الآية والإتيان بالفاءِ والتقسيم المذكور كلَّه يدلّ على أنَّ المراد بيانُ أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العباد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يُزيل الوهمَ، ولا يلتبس به المراد بغيره، وكان وجهُ الكلام (5) على __________ (1) "حكم" ساقط من "ط". (2) "ك": "اصطفيناهم". "اصطفاهم". (3) "أولى" ساقط من "ط". (4) "ف": "سابق بالخيرات"، خلاف الأصل. (5) "ك": "وجه الكلام عندهم".
(1/430)
هذا أن يقال: "ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ثمَّ أورثنا الكتابَ الذين اصطفينا منهم"، وهذا هو (1) معنى الكلام عندكم، ولا ريب أنَّ سياق الآية لا يدلّ عليه. إنَّما يدلّ على أنَّه أورث الكتابَ طائفةً من عباده، وأنَّ تلك الطائفة ثلاثةُ أقسام. هذا وجه الكلام الذي يدلُّ عليه ظاهره. الثاني: أنَّك إذا قلت: "أعطيتُ مالي للبالغين (2) من أولادي، فمنهم تاجرٌ (3)، ومنهم خازن، ومنهم مبذِّر مسرفٌ (4) ". هل يفهم من هذا أحد قطّ (5) هذا التقسيم لجملة أولاده؟ بل لا يفهم منه إلا أنَّ أولاده كانوا في أخذهم المال أقسامًا ثلاثةً، ولهذا أتى فيها بالفاءِ الدالّة على تفصيل ما أجمله أوَّلًا، كما إذا قلت: "خذ هذا المال فأعطِ فلانًا كذا، وأعطِ فلانًا كذا"، ونظائره متعددة. ولا وجه للإتيان بالفاءِ ههنا إلا تفصيل المذكور أولًا، لا تفصيل المسكوت عنه. والآيةُ قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور (6) ليس إلا. فتأمّله فإنَّه واضح. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ اللَّه لا يصطفي من عباده ظالمًا لنفسه، لأنَّ الاصطفاءَ هو الاختيار من الشيء صفوتَه وخيارَه إلى آخر ما ذكرتم، __________ (1) "هو" ساقط من "ب، ك، ط". (2) كذا في "الأصل ف، ب". وفي "ك، ط": "البالغين". (3) "ب": "فاجر"، تحريف. (4) "ك، ط": "مبذِّر ومسرف". (5) "قط" ظرف مختص بالزمان الماضي، وقد أوقعه المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه موقع "أبدًا". وانظر ما يأتي في ص (519، 576). (6) "ف": "بالتفصيل المذكور". "ك": "فالتفصيل المذكور". وكلاهما خطأ.
(1/431)
فجوابُه أنّ كون العبد مصطفًى للَّه (1) وليًّا له محبوبًا له (2) ونحو ذلك من الأسماء الدالّة على شرف منزلة العبد وتقريب اللَّه له لا ينافي ظلمَ العبدِ نفسه أحيانًا بالذنوب والمعاصي. بل أبلغُ من ذلك أن صدّيقيّته لا تُنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صدِّيق الأمة وخيارها للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: "قل: اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فأغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم" (3). وقد قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران/ 133 - 135]. فأخبر (4) سبحانه عن صفات المتّقين، وأنَّهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة، لكن لا يصرّون على ذلك. وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 33 - 35]. فهؤلاء الصدِّيقون المتّقون قد أخبر سبحانه أنَّ لهم أعمالًا __________ (1) "ف": "مصطفى ربّه". (2) "ط": "مصطفى ووليًّا للَّه ومحبوبًا للَّه". (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2705). (4) "ط": "وأخبر".
(1/432)
سيئة يكفِّرها، ولا ريبَ أنَّها للنفس (1). وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16]. وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. وقال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87]. وقال تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل/ 10 - 11]. وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصدِّيقيّة والولاية، ولا يُخرِج العبد عن كونه من المتّقين، بل يجتمع فيه الأمران: يكون وليًّا للَّه صدِّيقًا متّقيًا، وهو مسيء ظالم لنفسه = عُلِمَ أنَّ ظلمَه لنفسه لا يُخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم اللَّه من عباده وأورثَهم كتابَه، إذ هو مصطفًى من جهة كونه من ورثة الكتاب علمًا وعملًا، ظالمٌ لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما (2) أُمر به وتعدِّيه بعضَ ما نهي عنه. كما يكون الرجل وليًّا للَّه محبوبًا له من جهة، ومبغوضًا له من جهة أخرى. وهذا عبد اللَّه حمار (3) كان يُكثر شربَ الخمر، واللَّه يبغضه من هذه الجهة؛ ويحبُّ اللَّه ورسولَه، واللَّهُ يحبُّه ويواليه من هذه الجهة. ولهذا نهى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من لعنته (4)، وقال: "إنَّه يحبُّ اللَّه ورسوله" (5). __________ (1) "ب": "ظلم النفس". (2) "ط": "ممّا". (3) "حمار" لقب عبد اللَّه كما في صحيح البخاري. وكان يضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وانظر: الإصابة (2/ 117). (4) "ف": "لعنه"، خلاف الأصل. (5) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب =
(1/433)
ونكتةُ المسألة أنَّ الاصطفاء والولاية والصديقيّة وكون الرجل من الأبرار والمتّقين (1) ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزّي (2) والانقسام والكمال والنقصان، كما هو ثابتٌ باتفاق السلف (3) في أصل الإيمان. وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفًى من وجه، ظالمًا لنفسه من وجه آخر. وظلم النفس نوعان: نوعٌ لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية (4) والاصطفاء، وهو ظلمها بالشرك والكفرِ. ونوع يبقى معه حصَّةٌ (5) من الإيمان والاصطفاء والولاية، وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدرِ والوصف. فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل إشكالها بحمد اللَّه. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [فاطر/ 33] مرفوع، لأنَّه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو مختصٌّ بالسابقين، وذكرُ (6) حليتِهم فيها من أساور من ذهبٍ يدلُّ __________ = الحدود (6780). (1) "ك، ط": "ومن المتقين". (2) كذا وردَ في الأصلِ وغيره، وهو مصدر تجزّى بتسهيل الهمزة. (3) "ك، ط": "المسلمين". (4) زاد بعدها في "ب، ك، ط": "والصديقية". (5) كذا في الأصل و"ف". والحصّة: النصبب. وفي "ب، ك، ط": "حظّه". ولا يستبعد كتابة الظاء ضادًا، ولكنِّي رأيت ناسخ الأصل تعود العكس، فهو يكتب الضاد ظاءً، فكتب "الظن" مكان "الضن" (103/ أ)، و"الحظ" مكان. "الحض" (106/ ب). (6) "ذكر" ساقط من "ب".
(1/434)
على ذلك إلى آخره، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ هذا بعينه وارد عليكم، فإنَّ المقتصد من أهل الجنَّات، ومعلوم أنَّ جنَّات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جنَّاته (1). فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإنَّ التفاوت حاصل بين جنَّات الأصناف الثلاثة، ويختصُّ كلُّ صنفٍ بما يليق بهم (2) ويقتضيه مقامُهم وعلمهم. الجواب الثاني: أنَّه سبحانه ذكر جزاءَ السابقين بالخيرات هنا مشوِّقًا لعباده إليه منبِّهًا لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاءِ الظالمين لأنفسهم والمقتصدين، ليحذر الظالمون ويجدَّ (3) المقتصدون. وذكر في سورة الإنسان جزاءَ الأبرار منبِّهًا به (4) على ما هو أعلى وأجل منه، وهو جزاءُ المقرَّبين السابقين، ليدلّ على أنَّ هذا (5) إذا كان جزاء الأبرار (6) المقتصدين فما الظنّ بجزاءِ المقربين السابقين؟ فقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} إلى قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} إلى قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان/ 5 - 21]. __________ (1) "ب": "جنات الظالم"، خطأ. (2) "ف": "به" سهو. (3) "ب": "يحذر"، تحريف. (4) "به" ساقط من "ط". (5) "ب": "أنَّه". (6) "ط": "للأبرار".
(1/435)
فذكر هنا الأساور من الفضّة والأكواب من الفضّة في جزاءِ الأبرار، وذكر في سورة الملائكة (1) الأساور من الذهبِ في جزاءِ السابقين بالخيرات، فعُلِمَ جزاءُ المقتصدين من سورة الإنسان، وعلِمَ جزاءُ السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاءَ المقرَّبين على أتمّ الوجوه. واللَّه أعلم بأسرار كلامه وحكمه. قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إنَّ الضمير يختصّ به أقربُ مذكور إليه. قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الظالم لنفسه إنَّما هو الكافر، فقد تقدَّم جوابه، وذكرنا (2) ما يُبطله. قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ هذه الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقرّبون؛ فلا ريب أنَّ هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر، وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد، فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة. قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الآثار الدالّة على أنَّ الأصناف الثلاثة هم السعداءُ أهل الجنَّة ضعيفة لا تقوم بها حجّة، فجوابه أنَّها قد بلغت في الكثرة إلى حدّ يشدُّ بعضُها بعضًا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق منها آثارًا غيرَ ما ذكرناه (3) تعلم (4) به كثرتَها وتعدّد طرقها. __________ (1) يعني سورة فاطر. (2) "ط": "وذكر". (3) "ب": "ذكرنا". (4) "ك، ط": "يعلم".
(1/436)
فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت أنَّ رجلًا دخل المسجد، فقال: اللَّهم ارحمْ غربتي، وآنسْ وحشتي، وسُقْ لي جليسًا صالحًا، فقال أبو الدرداء: إنْ كنت صادقًا أنا (1) أسعد بذلك منك، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: "أمَّا السابق بالخيرات فيدخل (2) الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم لنفسه فيحاسب (3) في المقام حتى يدخله الهمّ والحزن، ثمَّ يدخل الجنَّة". ثمَّ قرأ هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} (4) [فاطر/ 34]. وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث ابن أبي ليلى (5)، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن أسامة بن زيد في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر/ 32] قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلُّهم من هذه الأمة" (6). وروى ابن مردويه أيضًا من حديث الفضل بن عميرة القيسي (7)، عن ميمون بن سِياه، عن أبي عثمان النهدي قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "سابقنا سابقٌ، __________ (1) "ط": "لأنا". "ب": "لئن. . . لأنا". (2) "ك، ط": "فيدخله". (3) "ب، ط": "فيحبَس". (4) تفسير الطبري (22/ 137). (5) "ط": "حديث أبي ليلى". (6) تقدم في ص (410). (7) "ب، ك، ط": "عمرة العبسي"، تحريف.
(1/437)
ومقتصدنا ناج، وظالمُنا مغفور له" وقرأ عمر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (1) [فاطر/ 32]. وروى أيضًا من حديث أبي داود عن شعبة، عن الوليد بن العيزار، قال: سمعتُ رجلًا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: "كلُّهم في الجنَّة". أو قال؛ "كلُّهمْ بمنزلةٍ واحدة" قال شعبة أحدهما. ورواه داود بن إبراهيم عن شعبة به، وقال (2): "دخلوا الجنَّة كلّهم". أو "كلّهم (3) بمنزلة واحدة". فهذا حديث صحيح إلى شعبة، وإذا كان شعبة في حديث لم يُطرَح، بل شُدَّ يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار، فذكره بمثله (4). وروى محمد بن سعد (5)، عن أبيه، عن عمِّه، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ __________ (1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 443)، والبيهقي في البعث (65)، والواحدي في الوسيط (3/ 505). قال العقيلي: "ولا يتابع على حديثه -يعني الفضل بن عميرة"، وقال أيضًا: "وهذا يروى من غير هذا اللفظ بإسناد أصلح من هذا". وروي موقوفًا على عمر عند البيهقي في البعث (66) وقال: غير قوي. (ز). (2) "ك، ط": "وقالوا". (3) "أو كلّهم" ساقط من "ك، ط". (4) أخرجه الطيالسي (2236) والطبري (22/ 137) والترمذي (3225) وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه". والبيهقي في البعث والنشور (61) وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 563): "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده من لم يسمّ" (ز). (5) "ف": "ورواه محمد بن سعيد" خلاف الأصل.
(1/438)
عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] الآية قال: "جعل اللَّه أهل الإيمان على ثلاث منازل، كقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة/ 41] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة/ 27] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 10 - 11] (1)، فهم على هذا المثال" (2). قلتُ: يريد ابن عباس أنَّ اللَّه قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل، كما قسم الخلقَ في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإنَّ أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفّار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلةً من منازل أهل الإيمان؟ ويجوزُ أن يريد أنَّ الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكنَّ إيمانَهم يجعلهم آخرًا من أهل اليمين. وروي من حديث معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة (3)، عن ابن عباس في هذه الآية قال: "هم أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَّثهم اللَّه سبحانه كلَّ كتاب أنزله، فظالمهم يُغفَرُ له، ومقتصدهم يُحاسَب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنَّة بغير حساب" (4). وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا الحسن بن عبد الرحمن __________ (1) في "ب" وردت مكانها هذه الآيات: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 8 - 11]. (2) تفسير الطبري (22/ 135). (3) "ب، ك، ط": "أبي طالب"، تحريف. وقال ناشر "ط" أن في أصله بياضًا بعد "أبي طالب". ولا بياض في أصولنا. (4) تفسير الطبري (22/ 134).
(1/439)
ابن أبي ليلى، حدَّثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى (1)، حدثنا أبي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب -أو عن رجل عن البراءِ (2) - قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: "كُلُّهُمْ نَاجٍ، وهي هذه الأُمَّة". ورواه الفريابي، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى (3)، عن الحكم، عن رجل، حدَّثه عن البراء قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: "كلٌّ ناجٍ" (4). وقال آدم بن أبي إياس: حدَّثنا أبو فضالة، عن الأزهر بن عبد اللَّه الحَرَازي (5)، حدثنا من سمع عثمان بن عفَّان يقول: "ألا إنَّ سابقنا أهل جهادنا، ألا وإنَّ مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإنَّ ظالمنا أهل بدونا" (6). __________ (1) "ف": "محمد بن إسرائيل"، تحريف. (2) "ك، ط": "البراء بن عازب". (3) "ط": "عن أبي ليلى" خطأ. (4) أخرجهما الفريابي وابن مردويه كما في الدر المنثور (5/ 474). وسنده ضعيف. فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. وقد روي موقوفًا في البعث (67) للبيهقي وسنده ضعيف (ز). (5) "ف": "الخرازي"، وفي "ب، ك": "الأزهري عبد اللَّه الخراز" ومثله في "ط"، إلّا أن فيها "الخزاز" بزايين، والصواب ما أثبتنا من الأصل. وانظر: تهذيب التهذيب (1/ 204). (6) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2308)، والبيهقي في البعث (66)، وسنده ضعيف لإبهام الرجل الذي لم يسمّ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 473) لابن أبي شيبة. وابن المنذر وابن مردويه.
(1/440)
وقد تقدَّم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة (1). قالوا: فهذه الآثار يُسنِد (2) بعضُها بعضًا. فإنَّها (3) قد تعدَّدت طرقها، واختلفت مخارجها؛ وسياق الآية يشهد لها بالصحّة، فلا يُعدل عنها (4). والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إيَّاها، فلنرجع إليه فنقول: أمَّا الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزوّدين غضبَ الربّ سبحانه، ومعاداةَ كتبه ورسله وما بُعثِوا به، ومعاداةَ أوليائه والصدّ عن سبيله، ومحاربةَ من يدعو إلى دينه، ومقاتلةَ (5) الذين يأمرون بالقسط من النَّاسِ، وإقامةَ دعوةٍ غير دعوة اللَّه سبحانه التي بَعث بها رسلَه لتكون الدعوة له وحده. فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضدّ ما يحبّه (6) ويرضاه. وأمَّا السائرون إليه، فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذَّاته على مراضي الربّ وأوامره، مع إيمانه باللَّه وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه، مأسور (7) مع حظِّه وهواه، __________ (1) انظر: ص (408، 411 - 413). (2) "ك، ط": "يشدّ". (3) "ف، ك، ط": "وإنَّها"، قراءة محتملة. (4) "ط": "فلا نعدل عنها". (5) "ك": "معاملة"، تحريف. (6) "ب، ك، ط": "يحبه اللَّه". (7) "ط": "مأسورة".
(1/441)
يعلم سوءَ حاله، ويعترف بتفريطه، ويعزم على الرجوع إلى اللَّه. فهذا حال المؤمن (1) المسلم. وأمَّا من زُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، وهو غير معترفٍ ولا مقرّ ولا عازم على الرجوع إلى اللَّه والإنابة إليه أصلًا، فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحًا أبدًا، ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان، ونعوذ باللَّه من الخذلان. وأمَّا الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر اللَّه، وعقد القلبِ على ترك مخالفته ومعاصيه، فهممُهم مصروفة إلى القيامِ بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة. فأوَّل ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيامُ إلى الوضوءِ والصلاة كما أمره اللَّه. فإذا أدَّى فرضَ وقته (2) اشتغل بالتلاوة والأذكارِ إلى حين تطلع الشمس، فركع (3) الضحى، ثمَّ ذهب إلى ما أقامه اللَّه فيه من الأسباب. فإذا حضر فرضُ الظهر بادر إلى التطهّر (4) والسعي إلى الصفِّ الأوَّل من المسجد، فأدَّى فريضته كما أُمِر مكمِّلًا لها (5) بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرَّبّ. __________ (1) "المؤمن "ساقط من "ب، ك، ط". (2) "ف": "فرض اللَّه"، تحريف. (3) "ك، ط": "فيركع". (4) "ب، ك": "التطهير"، تحريف. (5) "ف": "أمر بكمالها"، تحريف.
(1/442)
فينصرف من الصلاة وقد أثَّرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارًا تبدو على صفحاته ولسانه وجوراحه. ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلَّة التكالب (1) والحرص على الدنيا وعاجلها. قد نهته صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، وحبَّبتْ إليه لقاء اللَّه، ونفَّرته من كلِّ قاطع يقطعه (2) عن اللَّه. فهو مغموم مهموم، كأنَّه في سجن، حتَّى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرَّة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة. هذا، وهم في ذلك كلّه مراعون لحفظ السنن لا يُخِلّون منها بشيء ما أمكنهم. فيقصدون من الوضوءِ أكمله، ومن الوقت أوَّله، ومن الصفوف أوَّلها عن يمين الإمام أو خلف ظهره. ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثًا، وقول: "اللَّهم أنتَ السَّلامُ، ومنكَ السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ" (3)، وقول: "لا إلهَ إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءِ قدير. اللّهم لا مانِعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجدُّ، لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، له النِّعْمَةُ وله الفضلُ وله الثَّناءُ الحسَن (4)، لا إلهَ إلا اللَّهُ مخلصين له الدِّين ولو كَرِهَ الكافرونَ" (5). __________ (1) "ك": "التكاليف"، تحريف. (2) "ب": "يقطع". (3) أخرجه مسلم في المساجد (591) من حديث ثوبان رضي اللَّه عنه. (4) "ف": "الحسن الجميل"، خلاف الأصل. (5) أخرجه مسلم في المساجد (594) من حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه =
(1/443)
ثمَّ يسبِّحون ويحمدون ويكبرون تسعًا وتسعين، ويختمون المائة بـ "لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير" (1). ومن أرادَ المزيدَ قرأ آية الكرسيّ والمعوّذتين عقيب كلِّ صلاة، فإنَّ فيهما (2) أحاديث رواها (3) النسائى وغيره (4)، ثمَّ يركعون السنَّة على أحسن الوجوه. هذا دأبهم في كلِّ فريضة. فإذا كان قبل غروب الشمس توفَّروا على أذكار المساء الواردة في السنَّة نظير أذكار الصباح الواردة في أوَّل النهار، لا يُخِلُّون بها أبدًا. فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الربّ تعالى التي قسمها بين عباده. فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنّة، وهي كثيرةٌ تبلغ نحوًا من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة __________ = عنهما. (1) أخرجه مسلم في المساجد (597) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) "ك، ط": "فيها". (3) "ف": "الحديث رواه"، خلاف الأصل. (4) أخرجه النسائي في الكبرى (9928) وفي عمل اليوم والليلة له (100) من حديث أبي أمامة. وأخرجه الروياني (1268) والطبراني في الكبير (7532) والأوسط (8068)، ومسند الشاميين له (824). والحديث صححه المنذري وابن عبد الهادي، وتكلم فيه الدارقطني وقال: "غريب، تفرَّد به محمد بن حميد". وعدَّه الذهبي من غرائبه. وقال ابن حجر: "حسن غريب". انظر: نتائج الأفكار (2/ 279 - 280). (ز).
(1/444)
سورة الإخلاص والمعوّذتين ثلاثًا، ثمَّ يمسحون (1) بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثًا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ويسبِّحون ثلاثًا وثلاثين، ويحمدون ثلاثًا وثلاثين، ويكبِّرون أربعًا وثلاثين. ثمَّ يقول أحدهم: "اللَّهم إنِّي أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةَ ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيّك الذي أرسلتَ" (2). وإنْ شاءَ قال: "باسمك ربِّي وضعتُ جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نفسي فأغفر لها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (3). وإنْ شاءَ قال: "اللَّهم ربَّ السَّماوات السَّبع وربَّ العرش العظيم، ربِّي وربَّ كلّ شيء، فالقَ الحبِّ والنَّوى، مُنزِلَ التوراة والإنجيل والقرآن (4)، أعوذ بك من شرِّ كلِّ دابَّة أنت آخِذٌ بناصيتها. أنت الأوَّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنِّي الدَّينَ، وأغْنِني من الفقرِ" (5). __________ (1) "ك": "يتمسحون". (2) أخرجه البخاري في الدعوات (6315). وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2710) عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه. (3) أخرجه البخاري في الدعوات (6320) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2714) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) "ك، ط": "والفرقان". (5) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2713).
(1/445)
وبالجملة، فلا يزال يذكر اللَّه على فراشه حتَّى يغلبه النوم وهو يذكر اللَّه. فهذا منامُه عبادةٌ، وزيادةٌ له في قربه من اللَّه. فإذا استيقظ عاد إلى عَدَّانه الأوَّل (1). ومع هذا فهو قائمٌ بحقوق العباد من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة، والمعاونة لهم بالجاه (2) والبدن والنفس والمال، وزيارتهم، وتفقّدهم؛ وقائمٌ بحقوق أهله وعياله. فهو متنقّلٌ في منازل العبوديّة كيف نقله فيها الأمرُ. فإذا وقع منه تفريط في حقٍّ من حقوق اللَّه بادر إلى الاعتذارِ والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يُزيل أثرَه. فهذا وظيفته دائمًا. وأمَّا السابقون المقرَّبون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أوَّلًا من وصف حالهم وعدم الاتّصاف به، بل ما شمِمنا له رائحةً، ولكن محبّة القوم (3) تحمل على تعرّف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفةً (4) منقطعةَ عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة: منها أن لا يزالُ المتخلّف المسكين مُزْرِيًا على نفسه، ذامًّا لها، لائمًا لها (5). ومنها أنَّه (6) لا يزالُ منكسرَ القلب بين يدي ربّه، ذليلًا له حقيرًا، __________ (1) أي إلى عهده الأوَّل. وقد سبقت هذه الكلمة في ص (407). وفي "ب، ك، ط": "عادته الأولى". (2) "ب": "بالجاه والمال والبدن والنفس". (3) "ف": "العلم"، وهو سهو وخلاف الأصل. وكذا في "ك"، فكتب أحد في الحاشية: "ظ بالقوم"، يعني العلم بالقوم. والصواب ما أثبتنا من الأصل وكذا في "ب، ط". (4) "ب": "مختلفة"، تحريف. (5) "لائمًا لها" ساقط من "ب، ك، ط". (6) "ب، ك، ط": "أن".
(1/446)
ويشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائعَ التجّارِ وهو في رفقة المحرومين. ومنها أنَّه عساه أن تنهض همّته يومًا ما (1) إلى التشبّث والتعلّق بساقة القوم ولو من بعيد. ومنها أنَّه لعلَّه أن يصدُقَ في الرغبة واللّجأ إلى مَن بيده الخيرُ كلُّه أن يُلْحِقَه بالقوم ويهيّئه لأعمالهم، فيصادف ساعةَ إجابةٍ لا يسأل اللَّه فيها شيئًا إلا أعطاه. ومنها أنَّ هذا العلم هو من أشرف علوم العباد. ليس (2) بعد علم التوحيد أشرفُ منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة. فإذا رأى نفسَه تناسب هذا العلم، وتشتاق إليه، وتحبّه، وتأنس بأهله (3) فَلْيُبشِرْ (4) بالخيرِ، فقد أُهِّل له، فليقل لنفسه: يا نفس قد (5) حصل لكِ شطرُ السعادة فاحرصي على الشطر الآخر، فإنَّ السعادة في العلم (6) بهذا الشأن والعمل به، فقد قطعتِ نصف المسافة، فهلَّا تقطعين باقيها فتفوزين فوزًا عظيمًا! ومنها أنَّ العلم بكل حالٍ خيرٌ من الجهل. فإذا كان اثنان أحدهما عالمٌ بهذا الشأن غيرُ موصوفٍ به ولا قائم به، وآخر جاهل به غير متّصف __________ (1) "ما" ساقطة من "ك، ط". (2) "ك، ط": "وليس". (3) "ط": "بأقلّه"، تحريف. (4) "ب": "فيبشر". (5) "ك، ط": "فقد". (6) "ب": "بالعلم".
(1/447)
به فهو خِلْوٌ من الأمرين، فلا ريبَ أنَّ العالم به خير من الجاهل، وإن كان العالم المتّصف به خيرًا منهما، فينبغي أن يُعطى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، وينزَّل في مرتبته. ومنها أنَّه إذا كان العلمُ بهذا الشأن همَّه ومطلوبَه، فلا بدَّ أن ينال منه بحسب استعداده، ولو لَمْظَةً (1)، ولو بارقةً، ولو أنَّه يحدِّث نفسَه بالنهضة إليه. ومنها أنَّه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفِع به غيرُه بقصده أو بغير قصده، واللَّه لا يضيع مثقال ذرَّة، فعسى أن يُرحَم بذلك العامل. وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر، فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبّطك (2) عنه، ويقول (3): إنَّه لا ينفع. بل احذره، واستعن باللَّه، ولا تعجز، ولكن لا تغترّ، وفرِّق بين العلم والحال، وإيَّاك أن تظنّ أنَّ بمجرد علم هذا الشأن قد صرتَ من أهله. هيهات! ما أظهر الفرق بين العالم (4) بوجوه الغنى وهو فقير، وبين الغني بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم، وبين الصحيح بالفعل! فاسمع الآن وصفَ القومِ، وأحضِر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم __________ (1) كذا في الأصل و"ف، ك". وفي "ب": "لمعة" ولكن ذكر في الحاشية أنَّ في النسخة: "لمظة". وهي من لَمَظَ الماء: ذاقه بطرف لسانه. والُلماظة: مايبقى في الفم من طعام، وقد يستعار لبقية الشيء القليل. انظر: اللسان (لمظ) (7/ 462). وفي "ط": "لحظة". (2) "ب": "يثبط". (3) "ط": "تقول"، خطأ. (4) "ك، ط": "العلم".
(1/448)
الجليل. فإن وجدتَ من نفسك حركة وهمَّةً إلى التشبّه بهم فاحمد اللَّه، وادخل، فالطريق واضح، والباب مفتوح. إذا (1) أعجبتْك خصالُ امرئٍ ... فكُنْه يكنْ منك (2) ما يُعجِبُكْ فليسَ على الجودِ والمكرماتِ ... إذا جئتَها حاجبٌ يحجُبُكْ (3) فنبأ القومِ عجيب، وحالُهم أعجَب (4)، وأمرُهم أخفى (5) إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنَّه يطّلع من حالهم على ما يريه إيَّاه القدرُ المشترك. وجملة أمرهم أنَّهم قوم قد امتلأت قلوبُهم من معرفة اللَّه، وعُمِرتْ (6) بمحبّته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبّة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحبّ. قد أنساهم حبُّه ذكرَ غيره، وأوحشهم أنسُهم به ممَّن سواه. قد فَنُوا بحبّه عن حبّ مَن سواه، وبذكره عن ذكر من سواه (7)، وبخوفه، ورجائه، والرغبة إليه، والرهبة منه، __________ (1) "ف": "وإذا"، سهو. فقد كتب في الأصل أولًا "وإذا" ثم ضرب على الواو. وكذا في "ك". (2) "ك": "مثل" تحريف. وفي "ط": "تكن مثل". (3) تمثل المؤلف بالبيتين في مدارج السالكين (3/ 10) والفروسية (402) أيضًا. وذكرهما الراغب في محاضراته (1/ 310) من إنشاد أبي العيناء. وهما مع ثالث في ديوان المعاني (262). (4) "وحالهم أخفى" ساقط من "ك، ط". (5) "ك، ط": "خفي". (6) "ط": "غمرت" بالمعجمة. (7) "وبذكره" إلى هنا ساقط من "ب".
(1/449)
والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون (1) إليه، والتذلّل والانكسار بين يديه؛ عن تعلّق ذلك منهم بغيره. فإذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همُّه عليه (2)، متذكِّرًا صفاته العلى وأسماءَه الحسنى، مشاهدًا له في أسمائه وصفاته، قد تجلَّت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبُه بمعرفته ومحبّته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبُه قد أوى إلى مولاه وحبيبه، فآواه إليه، وأسجدَه بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كلِّ جهة من جهاته. فيا لها سجدةً ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاءِ! وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربِّه؟ فقال (3): "إي واللَّه، سجدةً (4) لا يرفع رأسه منها إلى القيامة! " (5). فشتّان بين قلبٍ يبيت عند ربِّه، قد قطع في سفره إليه بيداءَ الأكوان وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علَم، حتَّى دخلَ على ربِّه في داره، فشاهد (6) عزَّ سلطانه، وعظمة جلاله، وعلوَّ __________ (1) "ف": "الشكوى"، تحريف. (2) "ك": "إليه". (3) "ط": "قال" (4) "ك، ط": "بسجدة". (5) "ب، ك، ط": "يوم القيامة". وقد نقل المؤلف هذا القول في مدارج السالكين (1/ 509). وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب ص (662). وهو من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287 و 23/ 138). (6) "ف": "مشاهدًا"، تحريف.
(1/450)
شأنه، وبهاءَ كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبِّر أمر (1) عباده، وتصعد إليه شؤونُ العباد، وتُعْرَض عليه حوائجُهم وأعمالُهم، فيأمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافذًا كما أمر. فيشاهد الملك الحقَّ قيّومًا بنفسه، مقيمًا لكل ما سواهِ، غنيًّا عن كلِّ من سواه (2)، وكلُّ من سواه فقيرٌ إليه. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]: يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويفكّ عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبُر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويميت ويحيي، ويُسعد ويشقي، ويُضِلّ ويهدي، ويُنعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويُعزّ أقوامًا ويذلُّ آخرين، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين. ويَشهده كما أخبر عنه أعلمُ الخلق به وأصدقهم في خبره، حيث يقول في الحديث الصحيح: "يمين اللَّه ملأى، لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الّليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلقَ الخلقَ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يمينه. وبيده الأخرى الميزانُ يخفِضُ ويرفَعُ" (3). فيشاهده (4) كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمنّ بفضله على من يشاء من عباده بيمينه. وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاءُ، ويرفع به من يشاء، عدلًا منه وحكمةً، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فيَشهده وحده القيّوم بأمر السماوات والأرضِ ومن فيهنَّ، ليس له __________ (1) "ف": "يدنو من "، تحريف. (2) "ب": "ما سواه" هنا وفي الجملة التالية. (3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4684) وغيره، ومسلم في كتاب الزكاة (993) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) "ب": "ويشاهده".
(1/451)
بوَّاب فيستأْذَن، ولا حاجب فيُدخَل عليه به (1)، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا وليّ من دونه فيتشفّع (2) به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفَه حوائجَ عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها. بل قد (3) أحاط سبحانه بها علمًا، ووَسِعها قدرةً ورحمةً، فلا تزيده كثرةُ الحاجات إلا جودًا وكرمًا. فلا (4) يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلّطه كثرةُ المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملحّين. لو اجتمع أوَّلُ خلقه وآخرُهم، وإنسُهم وجنّهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ، ثمَّ سألوه، فأعطى كلًّا منهم مسألتَه، ما نقص ذلك ممَّا عنده ذرَّةً واحدةً إلا كما ينقص المِخْيَطُ البحرَ إذا غُمِسَ فيه. ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا (5). ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما نقصَ ذلك من ملكه شيئًا (6). ذلك بأنَّه الغنيّ الجواد الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه كلام (7). {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس/ 82]. ويَشهده كما أخبر عنه أيضًا الصادق المصدوق حيث يقول: "إنَّ اللَّه لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ. يخفضُ القسطَ، ويرفعُه. يُرْفَعُ إليهِ عملُ __________ (1) "به" ساقط من "ك، ط". (2) "ب": "فيستشفع". "ف، ط": "فيشفع". (3) "بل قد" ساقط من "ك، ط". و"قد" ساقط من "ب". (4) "ط": "ولا يشغله". (5) بعد هذا إلى قوله: "من ملكه شيئًا" ساقط من "ك، ط". (6) يشير إلى حديث أبي ذر الذي أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2577). (7) "ط": "من كلام وعذابه من كلام". وصحح في القطرية.
(1/452)
الليلِ قبل النَّهارِ (1)، وعملُ النَّهارِ قبلَ الليل (2). حِجَابُه النُّور، لَوْ كَشَفَه لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما أدركه بصرُه من خلقِهِ" (3). وبالجملة فيَشهده في كلامه، فقد تجلَّى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرَّف إليهم فيه. فبعدًا وتبًّا للجاحدين والظالمين {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم/ 10] لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. فإذا صارت صفاتُ ربِّه (4) وأسماؤه مشهدًا لقلبه أنْسَتْه ذكرَ غيره، وشغلته عن حبِّ سواه (5)، وجذبت (6) دواعي قلبه إلى حبِّه تعالى بكلِّ جزءٍ من أجزاءِ قلبه وروحه وجسمه. فحينئذٍ يكون الربُّ تعالى سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبه يسمع. وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي. كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (7). ومن غلُظ حجابُه، وكثُف طبعُه، وصلُب عوده؛ فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعلَّه أن يفهمَ منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غيرَ المراد منه، فيحرّف معناه ولفظه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا __________ (1) "ب، ك، ط": "عمل النهار". (2) "ب، ك، ط": "عمل الليل". (3) تقدّم تخريجه في ص (158). (4) "ب": "صفاته". (5) "ك، ط": "من سواه". (6) "ط": "حديث"، تصحيف. (7) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/453)
لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور/ 40]. وقد ذكرتُ معنى الحديث، والردّ على من حرَّفه وغلِط فيه في كتاب "التحفة المكّية" (1). وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشًا للمثل الأعلى، أي عرشًا (2) لمعرفة محبوبه ومحبّته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه! فيا له من قلب، من ربّه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه! فهو ينزّه قلبَه أن يساكنِ سواه، أو يطمئنّ بغيره. فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرشِ، وأبدانُهم في فُرُشهم؛ كما قال أبو الدرداءِ: "إذا نام العبد المؤمن عُرِجَ بروحه حتّى تسجدَ تحت العرشِ، فإن كان طاهرًا أذِن لها بالسجود (3)، وإنْ كان جنُبًا لم يؤذَن لها (4) " (5). وهذا -واللَّه أعلم- هو السرّ الذي لأجله أمر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُنُبَ إذا أرادَ النوم أن يتوضّأ (6)، وهو إمَّا واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب (7) على القول الآخر. فإنَّ الوضوء يخفّف حدثَ الجنابة، ويجعله طاهرًا من بعض الوجوه. ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن __________ (1) انظر ما سبق من التعليق في ص (425). (2) وقع في الأصل: "عرش" كذا في الموضعين. ولعله سهو. وكذا في "ف" وكذا في الموضع الثاني في "ب". (3) "ك، ط": "في السجود". (4) "ك، ط": "لها بالسجود". (5) أخرجه عبد اللَّه بن المبارك في الزهد (1245) وسنده ضعيف. "ز". (6) نصّه عند البخاري (287، 289) ومسلم (306) من حديث عمر بن الخطاب. رضي اللَّه عنه (ز). (7) "ف": "للاستحباب".
(1/454)
منصور وغيرهما عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهم إذا كان أحدُهم جنُبًا ثمَّ أراد أن يجلس في المسجد توضَّأ ثمَّ جلس فيه (1). وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أنَّ المساجد لا تحلّ لجنب (2). فدلَّ (3) على أنَّ وضوءَه رفع حكمَ الجنابة المطلقة الكاملة التي تمنع الجسد (4) من الجلوس في بيت اللَّه، وتمنع الروح من السجود بين يدي اللَّه. فتأمَّلْ هذه المسألةَ وفقهَها (5)، واعرف بها مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم. فهل ترى أحدًا من المتأخّرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذي خصَّ اللَّه به خيارَ عباده، وهم أصحاب نبيّه؟ وذلك فضل اللَّه، يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم. فإذا استيقظ هذا (6) القلب من منامه صعد إلى اللَّه بهمّه وحبّه وأشواقه (7) مشتاقًا إليه، طالبًا له، محبًّا له (8)، عاكفًا عليه. فحاله كحال المحبّ الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، وضرورتُه إليه أعظم من ضرورته إلى التنفّس (9) والطعام والشراب. فإذا نامَ غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد __________ (1) أخرجه سعيد بن منصور (646) عن عطاء بن يسار (ز). (2) انظر مجموع الفتاوى (21/ 344). (3) "فدلّ" ساقط من "ك، ط". (4) "ب، ك، ط": "الجنب"، تحريف. (5) "ب": "تفهمها"، تحريف. (6) "هذا" ساقط من "ب". (7) "ب": "شوقه". (8) "ط": "محتاجًا إليه" مكان "محبًّا له". (9) "ك، ط": "النفس".
(1/455)
والحب المقلق، فحبيبُه آخرُ خطراته عند منامه، وأوّلُها عند استيقاظه، كما قال بعض المحبّين لمحبوبته (1): أآخرُ شيءٍ أنتِ في كلِّ هَجْعةٍ ... وأوَّلُ شيءٍ أنتِ عندَ هُبوبي؟ (2) فقد أفصح هذا المحبُّ عن حقيقة المحبّة وشروطها. فإذا كان هذا في محبّة مخلوقٍ، فما الظنّ بمحبّة (3) المحبوب الأعلى؟ فأُفِّ لِقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يصدّق به، لقد صُرِفَ عنه خيرُ الدنيا والآخرة! فصل فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأوَّلُ ما يجري على لسانه ذكرُ محبوبه، والتوجّه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن يخلّي بينه وبين نفسه، وأن لا يكِلَه إليها، فيكلَه إلى ضَيْعةٍ (4) وعجز وذنب وخطيئة، بل يكلأَه كلاءَة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. فأوَّل ما يبدأ به قول (5): "الحمد للَّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشورُ" (6)، متدبِّرَا لمعناها من ذكرِ نعمةِ اللَّه عليه بأن أحياه بعد نومه __________ (1) "ب، ك، ط": "لمحبوبه". (2) ذكره المؤلف في روضة المحبّين (387). وهو من بيتين في حماسة أبي تمام (2/ 75). وقد نسبا في بلاغات النساء (119) وذيل الأمالي (70) إلى امرأة. وأنشده الراغب في محاضراته (2/ 55) لعليّ بن الجهم. (3) "ك، ط": "في محبة". (4) "ك، ط": "ضعة"، تحريف. (5) "قول" ساقط من "ب، ك، ط". (6) أخرجه البخاري في الدعوات (6312) من حديث حذيفة رضي اللَّه عنه.
(1/456)
الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سويًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات التي هو غرض وهدف لسهامها، كلُّها تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي (1) من بعضها أرواح (2) شياطين الإنس والجنّ، فإنَّها تلتقي بروحه إذا نام، فتقصد إهلاكه وأذاه؛ فلولا أنَّ اللَّه سبحانه يدفع عنه لما سلم. هذا، وكم يلقى (3) الروح في تلك الغَيبة من أنواع الأذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداء والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأرواح. فمن الناس من يشعر بذلك لرقة روحه ولطافتها، ويجد آثار ذلك فيها إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحي الذي ربما غلب حتَّى سرى إلى البدن. ومن النَّاس من تكون روحه أغلظ وأكثف (4) وأقسى من أن تشعر بذلك، فهي مثخَنةٌ بالجراح، مزمَنة بالأمراض، ولكن لموتها (5) لا تحسّ بذلك. هذا، وكم من مريدٍ لإهلاك جسمه من الهوامّ وغيرها قد حفظه منه، فهي في أجحارها محبوسة عنه، لو خُلِّيتْ وطبعَها لأهلكته. فمن ذا الذي كلأَه وحرَسه، وقد غاب عنه حسُّه وعلمُه وسمعُه وبصرُه؛ فلو جاءَه البلاءُ من أي مكان جاءَ لم يشعر به. ولهذا ذكَّر سبحانه عبادَه هذه النعمة، واعتدّها (6) عليهم من جملة نعمه، فقال: {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ __________ (1) كذا في الأصل و"ط" مع واو العطف، وفي "ف" وغيرها دونها. (2) "أرواح" ساقط من "ط". (3) "كم" ساقط من "ط". وفي "ب": " تلقى". وفي "ط": "تلتقي". (4) "ب": "أكثف وأغلظ". (5) "ط": "لنومها". (6) "ك": "أعدّها"، "ط": "عدِّها".
(1/457)
وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء/ 42]. فإذا تصوَّر العبدُ ذلك فقال: "للَّه" كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك. ثمَّ يُفكِّر (1) في أنَّ الذي أعاده بعد هذه الإماتة حيًّا سليمًا قادرُ (2) على أن يعيده بعد موتته الكبرى حيًّا كما كان، ولهذا يقول بعدها: "وإليه النشور". ثمَّ يقول: "لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءِ قدير. الحمد للَّه، وسبحان اللَّه (3)، واللَّه أكبر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه" (4). ثمَّ يدعو ويتضرّع. ثمَّ يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحِب لما فيه (5). ثمَّ يصلّي ما كتب اللَّه له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه متذللٍ منكسرٍ بين يديه، لا صلاةَ مُدِلٍّ بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيرَه، واستزاره وطرد غيرَه، وأهَّله وحرَم غيره، فهو يزداد بذلك محبَّةً إلى محبته. يرى (6) أنَّ قرَّة عينه وحياةَ قلبه وجنَّة روحه __________ (1) "ك، ط": "تفكر". (2) "ط": "قادرًا"، خطأ. (3) "ك، ط": "سبحان اللَّه والحمد للَّه". وكذلك ورد فيها بعده "ولا إله إلا اللَّه" ولم ترد هذه الزيادة في صحيح البخاري إلّا في رواية كريمة، وكذا عند الإسماعيلي والنسائي والترمذي وابن ماجه. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 40). وانظر: الوابل الصيب (254). (4) أخرجه البخاري في التهجد (1154) عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه. (5) ما بعد "حاضر" ساقط من "ب". (6) "ط": "ويرى".
(1/458)
ونعيمَه ولذَّته وسرورَه في تلك الصلاة، فهو يتمنَّى طولَ ليله، ويهتمّ بطلوع الفجر، كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك. فهو كما قيل: يودُّ أنَّ ظلامَ اللَّيل دامَ له (1) ... وزِيدَ فيه سوادُ القلبِ والبصَرِ (2) فهو يتملَّق فيها مولاه تملَّقَ المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًا لكلِّ آية حظّها من العبوديّة. فتجذب قلبَه وروحَه إليه آياتُ المحبّة والوداد، والآياتُ التي فيها الأسماءُ والصفات، والآياتُ التي تعرّفَ (3) بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. وتطيِّبُ له السيرَ آياتُ الرجاء والرحمة وسعة البرّ والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيّب له السيرَ ويهوّنه عليه (4). وتُقلِقُه آياتُ الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه، العادلين به غيرَه، المائلين إلى سواه؛ فتجمعه عليه وتمنعه (5) أن يشرد قلبه عنه. فتأمَّلْ هذه النكتةَ (6)، وتفقَّهْ فيها، واللَّه المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلا به (7). وبالجملة فيشاهد المتكلّمَ سبحانه، وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كلَّ آية حظَّها من عبودية قلبه الخاصَّة الزائدة على مجرَّد تلاوتها __________ (1) "ب": "طوّله". (2) البيت لأبي العلاء المعرّي في سقط الزند (56). (3) "ب": "يتعرف". (4) "عليه" ساقط من "ط". (5) "ك، ط": "فيجمعه عليه ويمنعه". (6) "ب، ط": "هذه الثلاثة"، وهو تحريف طريف. وكذا كان في "ك"، ثم عدّل فيها. (7) "ب، ك، ط": "إلّا باللَّه".
(1/459)
والتصديق بأنَّها كلام اللَّه، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها. بلَ (1) ثَمَّ شأن آخر لو فطن له العبد لعلِمَ أنَّه كان قبلُ يلعب، كما قيل: وكنتُ أرى أن قد تناهَى بيَ الهوى ... إلى غايةٍ ما بعدَها ليَ مذهبُ فلَمَّا تلاقَينا وعايَنْتُ حسنَها ... تيفَّنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ (2) فواأسفاه! وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان، وينفد العمر، والقلب محجوب ما شمّ لهذا رائحة! خرج (3) من الدنيا كما دخل إليها (4)، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا، وموته كمدًا، ومعاده حسرةً وأسفًا! اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بك. فصل فإذا صلَّى ما كتب اللَّه (5) جلس مطرقًا بين يدي ربِّه تعالى هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفارَ من قد تيقن أنَّه هالك إن لم يغفر له __________ (1) "بل" ساقط من "ب، ك، ط". (2) "ب": "علمت يقينًا أنني كنت ألعب". وقد ذكر المصنف البيتين في مفتاح دار السعادة (1/ 363) ومدارج السالكين (1/ 592). وأنشدهما مع بيت ثالث أبو بكر محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة (274) "لبعض أهل هذا العصر". (3) "ب، ك، ط": "وخرج". (4) "ب": "فيها". (5) زاد في "ب": "له".
(1/460)
ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطرًا، وكان عليه بعدُ ليلٌ اضطجع على شقّه الأيمن مُجِمًّا نفسَه، مريحًا لها، مقوِّيًا لها (1) على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطًا بجده وهمته كأنِّه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا. فهو يريد أن يستدرك ما فاته في صلاة الفجر، فيصلِّي السنة، ويبتهل بينها وبين الفريضة، فإنَّ لذلك الوقت شأنًا (2) يعرفه من عرفه. ويكثر فيه من قول "يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت"، فلهذا الذكر في هذا الموطن تأثيرٌ عجيب (3). ثمَّ ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصفَّ الأوَّل عن يمين الإمام أو خلف قفاه. فإن فاته ذلك قصدَ القربَ منه مهما أمكن، فإنَّ للقربِ من الإمام تأثيرًا (4) في سرّ الصلاة. ولهذا القرب تأثيرٌ في صلاة الفجر خاصَّةً يعرفه من عرف قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء/ 78]. قيل: يشهده اللَّه عزَّ وجل وملائكته. وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون في صلاة الفجر، وذلك لأنَّها في (5) أوَّل ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهدها ملائكة الليل والنهار. واحتجَّ لهذا القول بما في الصحيح من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَضْلُ صلاة الجميع على صلاة الواحد __________ (1) "ب": "متقويًّا بها". (2) في الأصل: "شأن" بالرفع. والمثبت من "ف" وغيرها. (3) انظر: ما نقله في ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مدارج السالكين (1/ 529 و 3/ 246). (4) هنا أيضًا في الأصل: "تأثير" بالرفع. والمثبت من "ف" وغيرها. (5) "ط": "هي".
(1/461)
خمسٌ وعشرون درجة، وتجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النّهار في صلاة الفجر" يقول أبو هريرة (1): واقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} رواه البخاري في الصحيح (2). قال أصحاب القول الأوَّل: وهذا لا ينافي قولنا، وهو أن يكون اللَّه سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر، وليس المراد الشهادة العامَّة، فإنَّ اللَّه على كلِّ شيءٍ شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنوّ متصل بدنوّ الربّ تعالى ونزوله إلى سماءِ الدنيا في الشطر الأخير من الليل. وقد روى الليث بن سعد، حدّثني زياد (3) بن محمد، عن محمد بن كعب القُرَظي (4)، عن فضالة بن عبيد الأنصاري، عن أبي الدرداء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ في ثلاثِ ساعاتٍ يَبقينَ من اللَّيلِ، فيَفْتَحُ الذِّكْرَ في السَّاعةِ الأولى الذي لم يرَه غيرُه، فيمحو اللَّه ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ. ثُمَّ يَنْزِلُ في السَّاعَةِ الثانية إلى جنَّةِ عَدْن، وهي دارُه التي لم تَرَهَا عيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وهِيَ مَسْكَنُه لا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاث، وهم النبيّون والصدِّيقون والشهداءُ، ثم يقول: طُوبى لمن دَخَلَكِ، ثمَّ ينزلُ في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بِرُوحه وملائكته __________ (1) "ط": "لقول أبي هريرة"، تحريف. (2) في كتاب الأذان (648). وانظر: صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (649). (3) "زياد" كذا في الأصل و"ف"، وهو تحريف، والصواب: "زيادة" كما في الإكمال لابن ماكولا (4/ 196) والمؤتلف والمختلف للدارقطني (1151). وكذا في "ك، ط". (4) "ك، ط": "زيادة بن محمد بن كعب القرظي"، تحريف.
(1/462)
فتنتفضُ فيقول: قومي بعزَّتي. ثمَّ يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفرَ له؟ ألا مِن سائلٍ يسألني فأعطيَه؟ ألا من (1) داع يدعوني فأجيبَه؟ حتّى تكونَ صلاةُ الفجر. ولذلك يقول اللَّه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} يشهدُه اللَّه عزَّ وجلَّ وملائكتُه ملائكةُ الليل والنهار" (2). ففي هذا الحديث أنَّ النزول يدوم إلى صلاة الفجر. وعلى هذا فيكون شهود اللَّه سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له، وهذه خاصَّة لصلاة (3) الصبح ليست لغيرها من الصلوات (4). وهذا لا ينافي دوام النزول في سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر، ولا سيّما وهو معلّق في بعضها على انفجار الصبح، وهو اتساع ضوئه. وفي لفظ: "حتَّى يُضِيءَ الفَجْرُ" (5) وفي لفظ: "حَتَّى يسْطَع الفجر" (6)، وذلك هو وقت قراءة الفجر. وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة __________ (1) "من" ساقط من "ط". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (15548) والعقيلي في الضعفاء (2/ 93) وقال: "والحديث في نزول اللَّه عز وجل إلى السماء الدنيا ثابت، فيه أحاديث صحاح، إلّا أن زيادة هذا جاء في حديثه بألفاظ لم يأت بها الناس، ولا يتابعه عليها أحد" وزيادة بن محمد الأنصاري منكر الحديث، قاله البخاري والنسائي وغيرهما. (ز). (3) "ط": "بصلاة"، تحريف. (4) "ط": "الصلاة"، تحريف. (5) أخرجه مسلم (758) - (169، 172). (ز). (6) أخرجه أحمد (4268) مرفوعًا، والدارقطني في النزول (10) موقوفًا من حديث ابن مسعود. ومداره على إبراهيم الهجري وفيه ضعف. وهذا الاضطراب في رفعه ووقفه منه. (ز).
(1/463)
النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين على تقديمها في أوَّل وقتها، فكان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ فيها بالستّين إلى المائة، ويطيل ركوعها وسجودها، وينصرف منها والنساءُ لا يُعْرَفْنَ من الغلَس (1). وهذا لا يكون إلا مع شدَّة التقديم في أوَّل الوقت، لتقع القراءَهُ في وقت النزول، فيحصل الشهود المخصوص. هذا (2) مع أنَّه قد جاءَ في بعض الأحاديث مصرَّحًا به دوامُ ذلك (3) إلى الانصراف من صلاة الصبح، رواه الدارقطنيّ في "كتاب نزول الربّ كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا" (4) من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ينزلُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ كلَّ ليلةٍ (5) إلى السماءِ الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: مَن ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطيَه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له؟ حتى يطلعَ الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح". رواه عن محمد جماعة: منهم سليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، والدراوردي، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، وعبد الوهاب بن عطاء، ومحمد بن جعفر، والنضر بن شميل، كلّهم قال: "أو ينصرف القارئ من صلاة الفجر". __________ (1) كما في حديث عائشة رضي اللَّه عنها. أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (578) وغيره. (2) "هذا" ساقط من "ك، ط". (3) "دوام ذلك" ساقط من "ب". (4) برقم (13 - 21) (5) "كل ليلة" ساقط من "ب، ك، ط". ثم استدرك في حاشية "ك". وفيها جميعا: "سماء الدنيا".
(1/464)
فإنْ كانت هذه اللفظة محفوظةً عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهي صريحة في المعنى كاشفة للمراد. وإن لم تكن محفوظة، وكانت من شكِّ الراوي هل قال هذا أو هذا، فقد قدَّمنا أنَّه لا منافاة بين اللفظين، وأنَّ حديث الليث بن سعد عن محمد بن زياد (1) يدلُّ على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر، وأنَّ تعليقه بالطلوع لكونه أوَّل الوقت الذي يكون فيه الصعود. كما رواه يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن الأغرّ أبي مسلم قال: شهِدَ لي (2) على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّهما شهدا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذا ذهبَ (3) ثلث الليل هَبَط إلى هذهِ السَّماءِ، ثمَّ أمرَ بأبواب السَّماء ففتحت، ثمَّ قال: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من داعٍ فأجيبَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من مستغيث أغيثه؟ (4) هل من مضطرٍّ أكشفُ (5) عنه؟ فلا يزالُ ذلك (6) مكانه حتى يطلع الفجر في كلِّ ليلة من الدنيا، ثمَّ يصعد إلى السماء". قال الدارقطني (7): فزاد فيه يونس بن أبي إسحاق زيادةً حسنةً. والمقصود ذكر القرب من الإمام في صلاة الفجر وتقديمها في __________ (1) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو خطأ فقد مرّ آنفًا أنّ صوابه: زيادة بن محمد. (2) كذا في الأصل و"ف". فإنْ لم يكن خطأ فالمقصود أنَّ إسحاق قال: شهد لي أبو مسلم، وفي "ب، ك، ط": "شهدتُ". (3) "ط": "كان". (4) "ف": "فأغيثه"، خلاف الأصل. وكذا في "ب، ط". (5) "ب": "فأكشف". (6) "ب": "كذلك". (7) النزول (55)، ولفظة: "ثمَّ يصعد إلى السماء" غريبة غير محفوظة لم يروها الثقات من أصحاب أبي إسحاق، ولا أحد من أصحاب الأغر أبي مسلم. راجع صحيح مسلم (758)، والنزول للدارقطني (52 - 64). (ز).
(1/465)
أوَّل وقتها (1). فصل فإذا فرغَ من صلاة الصبح أقبل بكلّيّته على ذكر اللَّه والتوجّه إليه بالأذكارِ التي شُرِعَت أوَّل النَّهارِ، فيجعلها وِردًا له لا يُخِلُّ به (2) أبدًا، ثمَّ يزيد عليها ما شاءَ (3) من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتّى تطلع الشمس حسنًا (4). فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضّحى وزاد ما شاء، وإن شاء قام من غير ركوع. ثمَّ يذهب متضرّعًا إلى ربِّه، سائلًا له أن يكون ضامنًا عليه، متصرِّفًا في مرضاته بقيّة يومه. فلا يتقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاةُ ربه، وإن كان من الأفعال العاديّة الطبيعيّة قَلَبه عبادةً بالنية، وقصَدَ الاستعانة به على مرضاة الربّ. وبالجملة فيقف عند أوَّل الداعي إلى فعله (5)، فيفتّش ويستخرج منه منفذًا ومسلكًا يسلك به إلى ربّه. فينقلب في حقّه عبادة وقربة. وشتَّان كم (6) بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الربّ لا بدّ له من فعلِه، وفتَّش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعله (7) لأجل ذلك، وجعل الأمر طريقًا له ومنفذًا لمقصده. فسبحان من فاوت __________ (1) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (2) "به" يعني: بالورد. وفي "ط": "بها". (3) وقع "ما شاء" في "ب" بعد "الفاضلة". (4) "ف، ب": "حسناء". والكلمة ساقطة من "ط". (5) "إلى فعله" ساقط من "ب". (6) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو أسلوب غريب. (7) "ط": "ففعل".
(1/466)
بين النفوس إلى هذا الحد والغاية! فهذا عباداته عادات، والأوَّل عاداته عبادات! فإذا جاءَ فرضُ الظهر بادرَ إليه كذلك (1) مكمِّلًا له، ناصحًا فيه لمعبوده كنصح المحبّ الصادق المحبّة لمحبوبه الذي قد طلب منه أن يعمل له شيئًا ما، فهو لا يُبقي مجهودًا، بل يبذل مقدوره كلَّه في تحسينه وتزيينه (2) وإصلاحه وإكماله، ليقع موقعًا من محبوبه، فينال به رضاه عنه وقربه منه. أفلا يستحيي العبد من ربِّه ومولاه ومعبوده أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبّين في أشغال محبوبيهم من الخلقِ كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبّه من الخلق، فلا أقلَّ من أن يكون مع ربِّه بهذه المنزلة. ومن أنصف نفسه وعرف أعمالَه استحيا من اللَّه أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنَّه لو عمل لمحبوب له من النَّاس لبذل فيه نُصْحَه، ولم يَدَعْ من حسنه شيئًا إلا فعَلَه. وبالجملةِ، فهذا حال هذا العبد مع ربِّه في جميع أعماله، فهو يعلم أنَّه لا يوفي هذا المقام حقَّه، فهو أبدًا يستغفر اللَّه عقيب كلّ عمل. وكان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا (3)، وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 18]. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى السحر، ثمَّ __________ (1) "كذلك" ساقط من "ك، ط". (2) "ب": "ترتيبه"، تصحيف، فإنه ضبط في الأصل بالنون. (3) "ط": "استغفر اللَّه. . . "، وقد أخرجه مسلم في كتاب المساجد (591) من حديث ثوبان رضي اللَّه عنه.
(1/467)
جلسوا يستغفرون ربّهم (1)، وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199] فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضئ أن يقول بعد وضوئه: "اللّهُمّ اجْعَلْنِي من التَّوّابينَ واجْعَلْنِي من المتطهرين" (2). فهذه توبة بعد الوضوء، وتوبة بعد الحجِّ، وتوبة بعد الصلاة، وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطرٌّ إلى التوبة والاستغفار كما تبيّن، فهو لا يزال مستغفرًا تائبًا، وكلَّما كثرت طاعاتُه كثرت توبتُه واستغفارُه. فصل وجماع الأمر في ذلك إنَّما هو بتكميل عبوديّة اللَّه عزَّ وجلَّ في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلّها في محبوبات اللَّه، فكمالُ (3) عبوديّة العبد موافقتُه لربِّه في محبَّه (4) ما أحبَّه، وبذلُ الجهدِ في فعله؛ وموافقتُه في كراهة ما كرهه، وبذلُ الجهد في تركه. وهذا إنَّما يكون للنفس المطمئنّة، لا للأمَّارة ولا للّوَّامة. فهذا كمال من جهة الإرادة __________ (1) تفسير الطبري (26/ 198). (2) أخرجه الترمذي (55) من حديث عمر بن الخطاب وقال: "حديث عمر قد خولف زيد بن الحباب في هذا الحديث. وروى عبد اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر؛ وعن ربيعة عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر. وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب كثير شيء" (ز). (3) "ك، ط": "وكمال". وقد سقط ما بعد "عبودية" إلى هنا في "ف" لنزول البصر إلى السطر الثاني. (4) "ك، ط": "محبّته".
(1/468)
والعمل. وأمَّا من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرتُه منفتحةً في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاصّ فيها مطابقٌ لما جاء به الرسول لا مخالفٌ له، فإنّ بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف. ويكون مع ذلك قائمًا بأحكام العبوديّة الخاصَّة التي تقتضيها كلُّ صفة بخصوصها. وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم. وهو (1) طريق سهل قريب مُوصِل، طريق (2) آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه. ولكن يستدعي رسوخًا في هذا (3) العلم، ومعرفةً تامَّةً به، وإقدامًا على ردِّ الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر النَّاس سوى رسومٍ تلقَّوها عن قومٍ معظَّمين عندهم، فهم (4) لإحسان ظنِّهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم، ولم يتجاوزوها إلى غيرها (5)، فصارت حجابًا لهم وأيَّ حجاب! فمن فتح اللَّه بصيرةَ (6) قلبه وإيمانه حتَّى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولا يُخاف عليه إلا مِن ضعفِ همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همَّة عالية فذاك السابق حقًّا، __________ (1) "وهو" ساقط من "ك، ط". (2) "طريق" ساقط من "ب". (3) "هذا" ساقط من "ب، ك، ط". (4) "ب، ك، ط": "ثمّ"، تحريف. (5) "إلى غيرها" ساقط من "ك، ط". (6) "ك": "على بصيرة". "ط": "عليه بصيرة".
(1/469)
واحدُ النَّاس في زمانه (1)، لا يُلحَق شأْوُه، ولا يشقُّ غبارُه. فشتَّان ما بين من يتلقَّى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات، وبين من يتلقَّاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرّد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئًا قال: هذا هو الحقّ. فالسيرُ إلى اللَّه (2) من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحُه عجب (3). صاحبه قد سبق السُّعاة (4)، وهو مستلقٍ على فراشه، غيرُ تعب ولا مكدود، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل/ 88]. وليس العجب من سائر في ليله ونهاره، وهو في السُّرى (5) لم يبرح من مكانه. وإنَّما العجب من ساكنٍ لا يُرى عليه أثرُ السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز! فسائرٌ قد ركبتْه نفسُه، فهو حاملها سائرٌ بها، ملبوك بها (6)، يعاقبها وتعاقبه، ويجرّها وتهرب منه، ويخطو بها خطوةً إلى أمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه؛ فهو معها في جهد وهي معه كذلك. وسائرٌ قد ركب نفسَه، وملك عِنانَها، فهو يسوقها كيف شاءَ وأين شاءَ، لا تلتوي عليه، ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف في يد مالكه __________ (1) "ط": "بزمانه". (2) "إلى اللَّه" ساقط من "ب". (3) "ب": "شأنه عجيب وفتحه غريب". (4) "ب": "سيق للسعادة"، "ط": "سيقت له السعادة"، تحريف وتغيير. وانظر نحوه في مدارج السالكين (2/ 585). (5) "ب": "السير". "ط": "الثرى"، تحريف. (6) "بها" ساقط من "ب، ك، ط". وفي "ب": "مكبول"، تحريف. ويقصد المؤلف أن هذا السائر قد نشب بنفسه وتورّط بها، فيجذبها وتجذبه.
(1/470)
وآسِره، وكالدابّة الريّضة (1) المنقادة في يد سائسها وراكبها، فهي منقادة معه حيث قادها، فإذا رام التقدّم جمَزَتْ (2) به وأسرعت، فإذا (3) أرسلها سارت به وجرت في الحَلْبة إلى الغاية ولا يردّها شيء، فتسير به وهو ساكن على ظهرها؛ ليس كالذي نزل عنها فهو يجرّها بلجامها، ويشحَطها ولا تنشحط (4). فشتَّان ما بين المسافرين! فتأمَّل هذا المثل، فإنَّه مطابق لحال السائرين (5) المذكورين، واللَّه يختصّ برحمته من يشاء. فصل ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربّهم (6) تعالى واختياره، بل قد سلَّموا إليه سبحانه التدبيرَ كلَّه، فلم يزاحم (7) تدبيرُهم تدبيرَه ولا اختيارُهم اختيارَه، لتيقنهم أنَّه الملك القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولِّي لتدبير (8) أمر العالم كلِّه، وتيقّنِهم مع ذلك أنَّه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة. فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفِه __________ (1) "ب": "الرضيّة"، تحريف. (2) أي: وثبت وأسرعت. والجمزى: ضرب من السير سريع. (3) "ب": "وإذا". (4) أي: يسحبها ويمرّغها، فلا تنسحب. من كلام العامّة انظر: متن اللغة "شحط" (3: 83). وفي "ك": "يتشحّط". (5) "ف": "السالكين"، سهو. (6) "ب، ك، ط": "تدبيره". (7) "ط": "فلا يزاحم". (8) "ط": "تدبير".
(1/471)
أمورَ عباده بـ "لو كان كذا وكذا"، ولا بـ "عسى ولعلَّ"، ولا بـ "ليتَ"؛ بل ربُّهم تعالى أجل وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه، أو يسخطوا (1) تدبيرَه، أو يتمنّوا سواه. وهم أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتّهموه في تدبيره أو يظنّوا به الإخلالَ بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظرٌ بعين قلبه إلى بارئ الأشياء وفاطرها ناظرًا (2) إلى إتقان صنعه، مشاهدًا (3) لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر (4) وعوائدهم ومألوفاتهم. قال بعض السلف: "لو قُرِضَ جسمي بالمقاريض كان (5) أحبَّ إليَّ من أن أقولَ لشيء قضاه اللَّهُ: ليتَه لم يقضِه" (6). وقال آخر: "أذنبتُ ذنبًا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة" -وكان قد اجتهد في العبادة- فقيل (7) له: وما هو؟ قال: "قلتُ مرَّةً لشيءٍ كان: ليته لم يكن" (8). وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنَّها صُنْعُه وأثرُ حكمته. وهو سبحانه أحسن كلَّ __________ (1) "ك، ط": "يتسخطوا". (2) "ف": "ناظر"، خلاف الأصل، وكذا في "ب، ك، ط". (3) "ب، ط": "مشاهد". (4) "عقول البشر" ساقط من "ب". (5) "كان" ساقط من "ط". (6) نقله المصنف في مدارج السالكين (2/ 259). وانظر ما سبق من أثر ابن مسعود رضي اللَّه عنه في ص (172). (7) "ك، ط": "قيل". (8) نقله في مدارج السالكين (2/ 258).
(1/472)
شيءٍ خلقه، وأتقن كلَّ شيءٍ، فهو (1) أحكمُ الحاكمين وأحسن الخالقين، له في كلِّ شيءِ حكمةٌ بالغة، وفي كلِّ مصنوعٍ صُنْعٌ متقَن. والرجلُ إذا عابَ صنعة رجل آخر وذمّها سرى ذاك (2) إلى الصانع، لأنَّه كذلك صنعَها، وعن حكمته أظهرَها، إذ كانت الصنعة مجبولةً (3) لم تصنع نفسها، ولا صنع لها في خلقها. فالعارفُ لا يعيب إلا ما عابه اللَّه، ولا يذمّ إلا ما ذمَّه. وإذا سبقَ إلى قلبه ولسانه عيبُ ما لم يعِبْه اللَّه وذمُّ ما لم يذمّه (4)، تاب إلى اللَّه منه كما يتوب صاحبُ الذنبِ من ذنبه، فإنَّه يستحيي من اللَّه أن يكون في داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها. فهو يرى نفسه بمنزلة رجلٍ دخل إلى دار ملِك من الملوك، ورأى ما فيها من الآلات والبناءِ والترتيب، فأقبل يعيب منها بعضها ويذمّه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيرًا، ولو كان هذا في مكان هذا لكان أولى. وشاهدَ الملِك يولِّي ويعزل، ويعطي ويحرِم (5)، فجعل يقول: لو وُلِّيَ هذا مكان فلان كان خيرًا، ولو عُزِلَ هذا المتولِّي لكان أولى، ولو عوفي (6) هذا، ولو أُغني هذا! فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحبٌ له فقدَّم إليه طعامًا فجعل __________ (1) "ك، ط": "وهو". (2) وردت هنا في "ك، ط" زيادة: "إلى صانعها، فمن عاب صنعة الربّ سبحانه بلا إذنه سرى ذلك". (3) "ب": "مجبورة". (4) "ك، ط": "يذمه اللَّه". (5) "ك، ط": "يحرم ويعطي". (6) "ب": "عافى".
(1/473)
يعيب صنعته (1) ويذمّه، أكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة (2): "ما عابَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- طعامًا قطّ، إن اشتهى شيئًا أكله وإلا تركه". والمقصود أنَّ من شأن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همّهم كلّه في إقامة حقّه عليهم. وأمّا التدبير العام والخاصّ فقد سلَّموه لوليّ الأمر كلّه ومالكه الفعَّال لما يريد. ولعلَّك تقول: ومن (3) الذي ينازع اللَّهَ في تدبيره؟ فانظر إلى نفسك -في عجزها وضعفها وجهلها- كيف هي عُرْضةٌ (4) للمنازعة، لكن (5) منازعةَ جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب! فسبحان من أذلَّه بعجزه وضعفه وجهله، وأراه العبر في نفسه لو كان ذا بصر! كيف هو عاجز القدرة، جبان الإرادة (6)، عبد مربوب مدين (7) مملوك، ليس له من الأمرِ شيء، وهو مع ذلك ينازع اللَّهَ ربوبيّتَه وحكمتَه وتدبيرَه، لا يرضى بما رضي اللَّه به، ولا يسكن عند مجاري أقداره. بل هو عبد __________ (1) "ط": "صفته"، تحريف. (2) كذا في الأصل وغيره. والحديث معروف عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه كما ذكر المؤلف في الوابل الصيب (339). أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة (3563)، ومسلم في الأشربة (2064). (3) "ب، ك": "ومن ذا". "ط": "من ذا". (4) أي: تتعرَّض وتتصدَّى للمنازعة. وفي "ط": "عرضت" بالتاء المفتوحة، تحريف. (5) "لكن" ساقط من "ط". (6) في "ف" وغيرها: "جبَّار الإرادة"، ولعلَّ قراءتنا هي المناسبة للسياق. (7) من دانه: أخضعه وساسه، وحاسبه. وفي "ب، ك، ط": "مدبر"، تحريف.
(1/474)
ضعيف مسكين يتعاطى الربوبيّة، فقير مسكين (1) في مجموع حالاته يرى (2) نفسه غنيًّا، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفًا محسنًا، فما أجهله بنفسه وبربِّه! وما أتركه لحقِّه، وأشده إضاعهً (3) لحظه! ولو أُحْضِرَ رشدَه لرأى ناصيته ونواصي الخلائق بيد اللَّه يخفضها ويرفعها كيف شاء (4)، وقلوبهم بيده سبحانه وفي قبضته يقلِّبها كيف يشاءُ، يُزيغ (5) منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ (6)، ولكان هذا غالبًا على شهود قلبه، فيغيب به عن مشيئاته وإراداته (7) واختياره، ولعرف أنَّ التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربّه؛ فينفي العلمُ باللَّه الجهلَ عن قلبه، فتمّحي منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوِّضها إلى مالك القلوب والنواصي، فيصير بذلك عبدًا لربّه تقلّبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتًا آخر يدبر نفسه فيه؛ لأنَّ ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت في قبره ينتظر ما يُفعل به، مستسلمًا (8) للَّه، منقطعَ المشيئة والاختيار. هذا فيما (9) يجري على أحدهم من فعل اللَّه وحكمه وقضائه الكوني. __________ (1) "ب": "ذليل". (2) "ط": "ويرى". (3) "ط": "وأشدّ إضاعته". (4) "ب، ك، ط": "يشاء". (5) "ف": "يرفع"، تحريف. (6) "ويقيم من يشاء" ساقط من "ف". (7) "ك، ط": "إرادته". (8) "ط": "مستسلم". (9) "ط": "ما".
(1/475)
فإذا جاءَ الأمر جاءت الإرادة والاختيار، والسعي والجِدّ (1) واستفراغ الفكر وبذل الجهدِ. فهو قويّ حيّ فعَّال، يشاهد عبودية مولاه في أمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه، قد أخرج مقدوره من القوَّة إلى الفعل. وهو مع ذلك مستعين بربِّه، قائمٌ بحوله وقوته، ملاحظ لضعفه وعجزه، قد تحقَّق بمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]، فهو ناظرٌ بقلبه إلى مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفّقه لما يحبّه ويرضاه، عينُه في كلِّ لحظة شاخصةٌ إلى حقّه المتوجّه عليه لربِّه، ليؤديه في وقته على أكمل أحواله. فإذا وردت عليهم أقدارُه التي تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة: أحدها (2): الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. وهذا ينشأ (3) من مشاهدتهم للطفه فيها وبرّه وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم (4) حكمتَه فيها ونصبَها سببًا لمصالحهم، وسَوقهم (5) بها إلى حبّه (6) ورضوانه. ولهم في ذلك (7) مشاهد أُخر لا تسعها العبارة، وهي فتح من اللَّه على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله. __________ (1) "ط": "الجدّ والسعي". (2) كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79) وفي "ط": "إحداها". (3) "ط": "نشأ". (4) "للطفه فيها. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (5) "ب، ك، ط": "شوقهم". (6) "ب": "فيها إلى جنته". (7) "ط": "من ذلك".
(1/476)
المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها. ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأهل هذا الشأن. والثالثة (1): للمقتصدين وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته، من التسخّط والتشكّي، واستبطاء الفرج، واليأس من الرَّوح، والجزَع الذي لا يفيد إلا فواتَ الأجر وتضاعُف المصيبة. فالصبر أوَّل منازل الإيمان ودرجاته، وأوسطها، وآخرها؛ فإنَّ صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبرَ في مرتبته، بل الصبر معه، وبه يتحقّق الرضا والشكر، لا تصوُّرَ (2) ولا تحقّقَ لهما دونه. وهكذا كلّ مقام مع الذي فوقه، كالتوكّل مع الرضا، وكالخوف والرجاءِ مع الحبِّ، فإنَّ المقام الأوَّل لا ينعدم بالترقّي إلى الآخر -ولو عُدِم لخلفه ضدُّه، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة- وإنَّما يندرج حكمُه في المقام الذي هو (3) أعلى منه، فيصير الحكم له، كما يندرج مقام التوكّل في مقام المحبّة والرضا. وليس هذا كمنازل سير الأبدان الذي إذا قطع منها منزلًا خلَّفه وراءَ ظهره، واستقبل المنزل الآخر معرضًا عن الأوَّل تاركًا له (4). بل هذا بمنزلة (5) التَّاجر الذي كلَّما باع شيئًا من ماله وربح فيه، ثمَّ باع الثاني وربح، فقد ربح بهما معًا، وهكذا أبدًا يكون ربحُه في كلِّ صفقة متضاعفًا بانضمامه إلى __________ (1) "ب": "المرتبة الثالثة". (2) "ب": "ولا يتصوّر". (3) "هو" ساقط من "ب، ك، ط". (4) "ك، ط": "بارتحاله"، تحريف. (5) "ك، ط": "كمنزلة"، تحريف.
(1/477)
ما قبله، فالربح الأوَّل اندرج في الثاني ولم يُعْدَم. فتأمَّل هذا الموضع وأعطه حقَّه يزُلْ عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات، وتعلمْ (1) أنَّ دعوى المدّعي أنَّها من منازل العوامّ ودعوى أنَّها معلولة غلط من وجهين: أحدهما: أنَّ أعلى المقامات مقرون بأدناها مصاحب له كما تقدم، متضمّن له تضمُّن الكلّ لجزئه، أو مستلزم له استلزامَ الملزوم للازمه لا ينفكّ عنه أبدًا، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالي. الوجه الثاني: أنَّ تلك المقامات والمنازل إنَّما تكون من (2) منازل العوامّ وتعرض لها العلل بحسب متعلّقاتها وغاياتها. فإن كان متعلّقها وغاياتها (3) بريئًا من شوائب العلل -وهو أجلُّ متعلَّق وأعظمه- فلا علَّة فيها بحال، وهي من منازل الخواصّ حينئذٍ، وإن كان متعلّقها حظًّا للعبد أو أمرًا مشوبًا بحظّه فهي معلولة من جهة تعلّقها بحظّه. ولنذكر لذلك أمثلة (4): __________ (1) قراءة "ف": "يعلم". (2) "ب": "إنما هي من منازل". "ك، ط": "إنَّما هي منازل"، وقد صحح في حاشية "ك" بخط مختلف. (3) "ف": "غايتها"، خلاف الأصل. (4) نقل المصنف هذه الأمثلة من كتاب محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، وقد وصفه الذهبي بالأمام الزاهد العارف، صاحب المقامات والإشارات، ولد سنة 481 هـ، وتوفي بمراكش سنة 536 هـ. سير أعلام النبلاء (20/ 111). نقلها المصنف من كتابه ثمَّ عقب عليها بالنقد وبيان الغلط فيها. وقد اعتمد ابن =
(1/478)
[أمثلة من الغلط في علل المقامات، ونقد كلام ابن العريف] المثال الأوَّل: الإرادة، فإنَّ اللَّه جعلها من منازل صفوة عباده وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصبر نفسَه مع أهلها، فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف/ 28]. وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل / 19 - 20]. وقال تعالى حكاية عن أوليائه قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان/ 9] وهذه (1) لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهي كثيرٌ في القرآن (2). فقالت طائفة: "الإرادة حلية العوامّ، وهي تجريد القصد، وجزم النية، والجدّ في الطلب. وذلك (3) في طريق الخواصّ: نقص، وتفرُّق (4)، ورجوع إلى النفس. فإنَّ إرادة العبد عينُ حظّه، وهو رأس الدعوى. وإنَّما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107]، فيكون مراده ما يراد به، واختياره ما اختير له، إذ لا إرادة للعبد مع سيّده ولا نظر. كما قال: أريدُ وصالَه ويريد هَجري ... فأتركُ ما أريدُ لِما يُريد (5) __________ = العريف في كتابه المذكور على كتاب علل المقامات للشيخ زكريا الأنصاري الهروي، كما ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 35). (1) "ب، ك": "هو" تحريف "ط": "هي". (2) خلافًا لمن زعم أن القرآن خلو من لام التعليل وباء التسبيب. انظر ما سبق في ص (235). (3) زاد في "ط" بعد "ذلك": "غيره"! (4) "نقص و" ساقط من "ط". (5) البيت لابن المنجم الواعظ المعرّي المتوفى سنة 557 هـ. انظر: فوات الوفيات =
(1/479)
ومن هذا قول أبي يزيد (1): "قيل لي ما تريد؟ قلتُ: أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد" (2). فيقال: ليس المراد من "العوامّ" في كلامهم العامَّة (3) الجهال، وإنَّما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أهل الخصوص الواصلين إلى (4) منازل الفناء وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر في الإرادة من وجوه: أحدها: أنَّ الإرادة هي مَركَب العبودية، وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له. بل أكمل الخلق (5) عبوديّةً ومحبّةً، وأصحّهم حالًا، وأقومهم معرفةً = أتمّهم إرادةً. فكيف يقال: إنَّها حِلية (6) العوامّ أو من منازل العوامّ؟ الوجه الثاني: أنَّه يلزم من هذا أن تكون المحبّة من منازل العوام، وتكون معلولةً أيضًا؛ لأنَّها إرادة تامَّة للمحبوب (7)، ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية، وكوجود (8) مقام الإحسان __________ = (2/ 301). (1) البسطامي، الزاهد المشهور. (2) محاسن المجالس لابن العريف (76 - 77)، وسيصرَّح المؤلف بالنقل عنه بعد قليل. (3) "ب": "العوام". (4) "إلى" ساقط من "ب، ك، ط". (5) زاد في المطبوعة هنا: "أكملهم"، وزاد الواو قبل "أتمهم" فاختلَّ السياق. (6) في الأصل: "حيلة"، وهو سبق قلم. وكذا في "ف، ب". (7) "ب": "إرادة لمحبوبه". (8) "ب": "وجود".
(1/480)
بدون الإيمان والإسلام. فإذا كانت الإرادة معلولةً (1) وهي من منازل العوامّ لزم أن تكون المحبة كذلك. فإن قيل: المحبة التي لا علّة فيها هي (2) تجرُّد المحبّ عن الإرادة، وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته (3) قيل: هذا هو حقيقة الإرادة أن ينفي (4) مرادَه مرادُ محبوبه، فلو لم يكن مريدًا لمراد محبوبه لم يكن موافقًا له في الإرادة، والمحبّة هي موافقة المحبوب في إرادته، فعاد الأمرُ إلى ما أشرنا إليه أنَّ المعلول من ذلك ما تعلق بحظّ المريد دون حقّ (5) محبوبه. فإذا صارت إرادتُه موافِقةً لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادةُ من منازل العوامّ ولا معلولةً، بل هذه أشرفُ منازل الخواصّ وغاية مطالبهم. وليس وراءها إلا التجرّد عن كلِّ إرادة، والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد. وهذا هو الذي يشير إليه السالكون إلى منازل الفناءِ ويجعلونه غايةَ الغايات. وهذا عند الكُمَّل (6) نقص وتغبير (7) في وجه المحبة، وهضم لجانب العبودية، وفناءٌ بحظّ المحبّ من مشاهدته (8) جمالَ محبوبه (9) وفنائه فيه عن حقّ المحبوب ومراده. فهو الوقوف مع __________ (1) في الأصلِ: "من معلولة"، ولعله سهو. وكذا في "ف". (2) "هي" ساقط من "ب". (3) "ف": "إراداته" خلاف الأصل. (4) "ك، ط": "يبقى"، والأصل غير منقوط. (5) "حق" ساقط من "ك، ط". (6) "ك، ط": "أهل الكمال". (7) "ك، ط": "تغيير"، تصحيف. (8) "ب، ك": "مشاهدة". (9) "ف": "كمال محبوبه" خلاف الأصل.
(1/481)
نفس الحظّ، والهروب عن حقّ المحبوب ومراده. وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادَّعيا محبةَ ملِك، فحضرا بين يديه، فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريدُ أن لا أريد شيئًا، بل أفنى عن إرادتي، وأكون أنا المراد، وأنت تريد بي ما تشاء. وقال الآخر: بل (1) أريد أن أنفق أنفاسي وذرّاتي (2) في محابّك ومرضاتك منفِّذًا لأوامرك مشمِّرًا في طاعتك، أتوجّه حيث توجهني وأفعل ما تأمرني، هذا الذي أريده (3). فقال (4) للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنِّي سأبعثكما في أشغالي ومهماتي. فأمَّا أحدهما فقال: لاحظ لي سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك. وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتَك، والنظر إليك، والفناءَ فيك. فهل يكونان في نظره سواءً؟ وهل تستوي منزلتهما عنده؟ ولو أنعموا النظر لعلموا أنَّ صاحبَ الفناء هو طالبُ الحظِّ الواقفُ معه، وأنّ الآخرَ وإن لم ينسلخ من الحظّ، ولكنّ حظَّه مرادُ المحبوب منه، لا مرادُه هو من المحبوب؛ وبين الأمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ (5). فالعجب ممن يفضّل صاحبَ الحظّ الذي يريده من محبوبه على من صارَ حظّه مراد محبوبه منه! بل الفناء الكامل أن يفنى بإرادته عن إرادة ما سواه (6)، وبحبّه عن حبّ ما سواه، وبرجائه عن رجاءِ ما سواه، __________ (1) "بل": ساقط من "ط". (2) "ب": "إرادتي". (3) "ب": "أريد". (4) "ب": "فقال الملك". (5) "ب": "بين السماء والأرض". (6) "ب، ك، ط": "من سواه".
(1/482)
وبالتوكّل عليه عن التوكّل على ما سواه؛ ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علمًا وحالًا وذوقًا إلا على من فتح اللَّه عليه بفرقانٍ (1) بين هذا وهذا. الوجه الثالث: أنَّ الإرادة إنَّما تكون ناقصةً بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف المراد (2) فإرادته أشرف الإرادات. ثمَّ إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل، وأنفعها، وأكملها، فإرادتها كذلك. فلا تخرج إرادته عن إرادةِ أشرف الغايات، وإرادةِ أقرب الوسائل إليه وأنفعها. فأي علَّة في هذه الإرادة (3)؟ وأي شيء فوقها للخواصّ؟ الوجه الرابع: أنَّ نقصان الشيء يكون من وجهين: أحدهما: أن يوجب ضررًا. والثاني: أن تكون له ثمرة نافعة لكن يشغل عمَّا هو أكمل منه. وكلاهما منتفٍ عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإنْ قيل: لمَّا كان الوقوف معها رجوعًا إلى النفس وتفرّقًا ووقوفًا مع حظّ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشا الغلط. وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله "إنَّ الإرادة تفرّق". فإنْ أردتم بالتفرّق شهود المريد لإرادته ومراده (4) ولعبوديته ولمعبوده ولمحبّته ومحبوبه (5)، فلم قلتم إنَّ هذا التفرّق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال؟ وهل تتمّ العبودية إلا بهذا؟ فإنَّ من شهد عبوديته وغاب بها عن __________ (1) في "ب": "أن يفرِّق" وفي حاشيتها: "خ بالفرقان". (2) "ط": "المرادات". (3) "ب": "الإرادات"، خطأ. (4) "ك، ط": "لمراده". (5) "ك، ط": "لمحبوبه".
(1/483)
معبوده كان محجوبًا (1)، ومن شهد المعبودَ وغابَ به عن شهود عبوديته وقيامه بما أمره به كان ناقص (2) العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته؟ فإنَّها عين حقّه ومراده ومحبوبه من عبده. فهل يكون شهود العبد لحقّ محبوبه ومراده منه وأنَّه قائم به ممتثل له نقصًا، وتكون غيبته عن ذلك وإعراضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالًا؟ وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أن يكون معذورًا بضيق قلبه عن شهود هذا وهذا، إمَّا لضعف المحل، أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه. فأمَّا أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلّا. وأين مقامٍ من يشهد (3) عبوديته، ومنَّة اللَّه عليه فيها، وتوفيقَه لها، وجعلَه محلًّا وآلةً لها (4) -وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهدًا له، فانيًا (5) عن شهود غيره في عبوديته- من مقام من لا يتّسع لهذا وهذا؟ وتأمَّل حال أكمل الخلق وأفضلهم (6) وأشدّهم حبًّا للَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كيف كان في عبادته جامعًا بين الشهودين، حتّى كان لا يغيب عن أحوال المأمومين، فضلًا عن شهود عبادته، فكان (7) يراعي أحوالهم وهو في ذلك المقام بين يدي ربِّه تعالى؛ فالكُمَّل (8) من أمّته على منهاجه وطريقته __________ (1) "ط": "محبوبًا"، تحريف شنيع. (2) في الأصل: "ناقصًا"، سبق قلم. (3) "ف": "شهد"، والقراءة المثبتة أرجح. (4) "لها" ساقط من "ك، ط". (5) "ب": "شاهدٌ له فانٍ". (6) "ب": "أفضل الخلق وأكملهم". (7) "ط": "وكان". (8) "ك": "فالكامل". "ط": "فالكملة".
(1/484)
في ذلك -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، فقد جعل اللَّه لكلِّ شيءٍ قدرًا. وإن أردتم بالتفرّق شتات القلب في شعاب الحظوظ وأودية الهوى، فهذه الإرادة لا تستلزم شيئًا من ذلك، بل هي جمعيّة (2) القلب على المحبوب وعلى محابّه ومراداته. ومثل هذا التفرّق هو عين البقاءِ، ومحض العبودية، ونفس الكمال. وما عداه فمحض حظّ العبد، لاحقّ محبوبه. الوجه السادس: أنَّ قوله: "الإرادةُ (3) رجوعٌ إلى النفس، وإنَّ إرادةَ العبد عينُ حظّه" كلام فيه إجمال وتفصيل. فيقال: ما تريدون بقولكم: إنَّ الإرادة رجوع إلى النفس؟ أتريدون (4) أنَّها رجوع عن إرادة الربّ وإرادة محابّه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنَّها رجوع إلى إرادة النفس لربّها ولمرضاته؟ فإن أردتم الأوَّل عُلِمَ أنَّ هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التي نتكلم فيها، وإن أردتم المعنى الثاني فهو عين الكمال، وإنَّما النقصان خلافه. الوجه السابع: أنَّ قولكم: "إنَّ هذه الإرادة عين حظّ العبد"، قلنا: نعم، وهي أكبر حظّ له وأجلّه وأعظمه. وهل للعبد حظّ أشرف من أن يكون اللَّه وحده إلهه ومعبودَه ومحبوبَه ومراده؟ فهذا هو الحظّ الأوفر والسعادة العظمى. ولكن لم قلتم إنَّ اشتغال العبد بهذا الحظّ __________ (1) في "ط" قدَّم الصلاة والسلام على "في ذلك". (2) "ف": "جعبه". كذا كتب ناسخها لعدم تمكنه من قراءة الكلمة. (3) "ك، ط": "إنَّ الإرادة". (4) "أتريدون" ساقط من "ب".
(1/485)
نقص (1) في حقِّه؟ وهل فوق هذا كمال، فيطلبه العبد؟ ثمَّ يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه، لكان اشتغالُ العبد به وطلبُه إيَّاه اشتغالًا بحظّه أيضًا، فيكون ناقصًا، فأين الكمال؟ فإن قلتم: في تركِه حظوظَه كلَّها، قيل لكم: وتركُه هذا الحظّ أيضًا هو من حظوظه، فإنَّه لا يبقى معطَّلًا فارغًا خِلْوًا (2) من الإرادة أصلًا، بل لا بدّ له من إرادة ومراد، وكل إرادة عندكم (3) رجوع إلى الحظّ، فأيّ شيء اشتغل (4) به وبإرادته كان وقوفًا مع حظّه (5)، فياللَّه العجب متى يكون عبدًا محضًا خالصًا لربه؟ يوضِّح هذا (6) الوجه الثامن: أنَّ الحيّ لا ينفكّ عن الإرادة ما دام شاعرًا بنفسه، وإنَّما ينفكّ عنها إذا غاب عنه شعوره بعارضٍ من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة، فدعوى أنَّ الكمال في التجرّد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعًا وحسًّا. بل الكمال في التجرّد عن الإرادة التي تُزاحِم مرادَ المحبوب، لا عن الإرادة التي توافق مرادَه. الوجه التاسع: قوله "الجمع والوجود فيما يراد بالعبد، لا فيما يريد. . . " إلى آخره، فيقال: هذا على نوعين: __________ (1) كتب ناسخ "ف": ". . . العبد به وطلبه إيَّاه نقص" لنزول بصره إلى السطر التالي من الأصل. (2) "خلوًا" ساقط من "ط". (3) "ب، ك، ط": "لكم". (4) سقط "شيء" من "ك". وفي "ط": "فأي اشتغال به". (5) "ب، ك، ط": "عن حظِّه". (6) "ف": "يوضحه"، خلاف الأصل.
(1/486)
أحدهما: ما يراد بالعبد (1) من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره، كالفقر والغنى، والصحّة والمرض، والحياة والموت، وغير ذلك. فهذا لا ريب أنَّ الكمال (2) فناءُ العبد فيه عن إرادته، ووقوفُه مع ما يراد به، لا يكون له إرادةٌ تُزاحِمُ إرادةَ اللَّه منه (3)؛ كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا أحبّ الموت للقاءِ اللَّه، وقال الآخر: أحبّ البقاء لطاعته وعبادته. فقال الثالث: غلطتما، ولكن أنا أحبّ من ذلك ما يحبّ: فإن كان يحبّ إماتتي أحببتُ الموت، وإن كان يحبّ حياتي أحببتُ الحياة، فأنا أحبّ ما يحبّه من الحياة والموت. فهذا أكمل منهما، وأصحّ حالًا. فهذا (4) فيما يراد بالعبد. والنوع الثاني: ما يراد من العبد من الأوامر والقربات. فهذا ليس الكمال إلا في إرادته، وإن فرَّقَتْه، فهو مجموع في تفرقته، متفرّق في جمعيّته. وهذا (5) حال الكُمَّل (6) من النَّاس: متفرّق الإرادة في الأمر، مجتمع على الأمر؛ فهو مجموع عليه، متفرق فيه. ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين. وإنَّما غايتها أن تكون هنا إرادتان: أحدهما (7): إرادة واحدة للمراد المحبوب. __________ (1) "ب": "من العبد"، غلط. (2) "الكمال" ساقط من "ب". (3) "ب": "إرادة تزاحمه إرادة منه". (4) "فهذا" ساقط من "ك، ط". (5) "ب": "فهذا". (6) "ط": "الكملة". (7) كذا في الأصل و"ف، ك". والمقصود: نوعان: أحدهما. . . والثاني. وفي "ب، ط": "إحداهما".
(1/487)
والثاني (1): إرادات متفرّقة لحقّه ومحابّه وما أمر به، فهي (2) وإن تعدَّدت وتكثّرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة واحدة (3) كلية، وكلُّ فعل منها له إرادة جزئية تخصّه (4). الوجه العاشر: أنَّ قول أبي يزيد: "أريد أن لا أريد" تناقض بيِّن، فإنَّه قد أراد عدم الإرادة. فإذا قال: "أريد أن لا أُريد" يقال له: فقد أردت! وأحسن من هذا أن يكون الجواب: "أُريد ما تريد، لا ما لا تريد" (5). وإذا __________ (1) "ب، ط": "الثانية". (2) في الأصل: "فهو"، سبق قلم، وكذا في "ف، ب". والمثبت من "ك، ط". (3) "واحدة" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "محضة"، تحريف. (5) "ب، ك": "لا ما لا أريد"، وهو خلف من القول. وفي "ط": "أريد ما يريد لا ما أريد". وقد نقل المؤلف قول أبي يزيد في مدارج السالكين (2/ 106) وعقَّب عليه بأنَّه "في التحقيق عين المحال الممتنع عقلًا وفطرةً وحسًّا وشرعًا. فإنَّ الإرادة من لوازم الحيّ". لكنَّه حمله من قبل في المدارج نفسه (1/ 549) على محمل حسن. وفسَّره بصون الإرادة وقبضها عمَّا سوى اللَّه سبحانه. وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول "أريد أن لا أريد" ونحوه من الكلام المجمل، فإنَّما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها. وإن أريد بطلان إرادته بالكلية فهو مخالف لضرورة الحسّ والعقل. مجموع الفتاوى (3/ 117). وقول الشيخ عبد القادر "وعلامة فناء إرادتك بفعل اللَّه أنَّك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام لأنَّك لا تريد مع إرادة اللَّه سواها. . . " فسَّره شيخ الإسلام بأن لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته. ثمَّ قال: "وهذا الموضع يلتبس على كثير من المسالكين، فيظنون أنَّ الطريقة الكاملة أن لا يكون للعبد إرادة أصلًا، وأنَّ قول أبي يزيد: "أريد أن لا أريد" -لمَّا قيل له: ماذا تريد؟ - نقص وتناقض، لأنَّه قد أراد! ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ =
(1/488)
كان لا بدَّ من إرادةٍ، ففرْقٌ بين الإرادتين: إرادة سلب الإرادة، وإرادة موافقة المحبوب في مراده. واللَّه أعلم. الوجه الحادي عشر: أنَّه فسَّر الإرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجدّ في الطلب. وهذا هو عين كمال العبد (1)، وهو متضمّن للصدق (2) والإخلاص والقيام بالعبودية. فأيّ نقص في تجريد القصد -وهو تخليصُه من كلِّ شائبةٍ نفسانية أو طبيعية، وتجريدُه لمراد المحبوب وحدَه- والجدِّ في طلبِه وطلبِ مرضاتِه، وجزم النِّية، وهو أن لا يعتريها وقفة ولا تأخُّر (3)؟ وهذا الأَمرُ هو غاية منازل الصدِّيقين، وصدِّيقيَّةُ العبد بحسب رسوخه في هذا المقام، وكلَّما ازداد قربُه وعلا مقامُه قوي عزمُه وتجرد صدقُه. فالصادق لا نهاية لطلبه، ولا فتور لقصده، بل قصدُه أتمّ، وطلبُه أكمل، ونيته أجزم. قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر/ 99]. و"اليقين" هنا: الموت، باتفاق أهل (4) الإسلام، فجاءَه -صلى اللَّه عليه وسلم- اليقين (5) إذ جاءَه، وإرادتُه وقصده ونيته في الذروةِ العليا ونهايةِ كمالها وتمامها. فأين العلَّة في هذه الإرادة؟ ولكنَّ العلَّة والنقص في الإرادة التي يكون __________ = المستقيمين. وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا فإنَّ هذا غلط ممَّن قاله، فإنَّ ذلك ليس بمقدور ولا مأمور. . . " مجموع الفتاوى (10/ 494). (1) "ط": "كمال العين"، تحريف. (2) قراءة "ف": "يتضمن الصدق". وفي "ب": "القصد"، تحريف. (3) "ب، ك، ط": "تأخير". (4) سقط "أهل" من "ط". (5) "اليقين" ساقط من "ط".
(1/489)
مصدرُها النفس والهوى، وغايتُها نيل حظّ (1) المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحبّ إليه منه، وهو أن يكون مراده محضَ حقِّ محبوبه وحصول مرضاته، فانيًا عن حظّه هو من محبوبه (2)، بل قد صار حظّه منه نفس حقّه ومراده. فهذه هي الإرادة والمحبّة التي لا علَّة فيها ولا نقص. نسأل اللَّه تعالى أن يمنّ علينا، ويُحيِيَنا، ولو بنفَسٍ منها، كما منَّ بعلمها (3) ومعرفتها، إنَّه جوادٌ كريم. الوجه الثاني عشر: أنَّه قال بعد هذا: "فصحّة الإرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إلى مجاري الأقدار، فيكون كالميِّت بين يدي الغاسل، يقلِّبه كيف يشاء" (4). فأين هذا من قوله: "وذلك في طريق الخواص نقص وتفرق"؟ وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إلا مع تمام الإرادة؟ وإنَّما الذي يعرض (5) له النقص من الإرادة نوعان: أحدهما: إرادةٌ مصدرها طلب الحظّ، والثاني: اختياره فيما يفعل به بغير اختياره. فعن هاتين الإرادتين ينبغي الفناء، وفيهما يكون النقص. والكمال (6) ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقّه في الأولى، وإلى مجاري أقداره وحكمِه في الثانية. فيكون في الأولى حيًّا فعَّالًا منازعًا __________ (1) "ب": "حظوظ". (2) "وإن كان المحبوب يريد. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (3) "ب، ك، ط": "بتعليمها". (4) محاسن المجالس (77). (5) "ط": "يفرض"، تحريف، وكذا كان في "ك"، فعدَّل بعضهم في متنها. (6) "ب، ك، ط": "فالكمال".
(1/490)
لقواطعه عن مراد محبوبه، وفي الثانية كالميت بين يدي الغاسل يقلِّبه كيف يشاء. وبهذا التفصيل ينكشف سرّ هذه المسألة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظّ النفس. واللَّه الموفق للصواب.
(1/491)
فصل المثال الثاني: الزهد. قال أبو العباس رحمه اللَّه (1): "هو للعوامّ أيضًا؛ لأنَّه حبسُ النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعي الهوى، وترك ما لا يعني (2) من الأشياء. وهذا نقص في طريق الخاصَّة، لأنَّه تعظيم للدنيا، واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلّق الباطن بها. والمبالاةُ بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهودِ حِسك (3) وبقائك معك. ألا ترى إلى من أعطاه اللَّه الدنيا بحذافيرها كيف قال (4): {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص/ 39]؟ وذلك حيث عافى (5) باطنه من شهودها، وظاهره من التعلّق بها، فالزهد صرفُ الرغبة إليه، وتعلّق الهمَّة به، والاشتغال به عن كلِّ شيء يشغل عنه، ليتولَّى هو حسمَ (6) هذه الأسباب عنك. كما قيل: إنَّ بعض المريدين سأل بعض __________ (1) هو ابن العريف صاحب محاسن المجالس. انظر ما سبق في ص (474). (2) في الأصل: "يغني" بالغين المعجمة وكذا في "ف". ولعله سهو، والصواب بالمهملة، كما في "ب، ك"، وفي محاسن المجالس. (3) "ك": "جسك". "ط": "جنسك"، تصحيف. (4) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو غير مستقيم، فإنَّ قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا} ليس من كلام سليمان عليه السلام. والصواب كما ورد في كتاب المحاسن: "ألا ترى إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية وإلى قوله لمن أعطاه الدنيا بحذافيرها. . . ". (5) في الأصل: "غافله" بالغين المعجمة، ولا معنى له. وكذا في "ف". وفي "ب": "عافى له". والمثبت من كتاب المحاسن و"ط". (6) كتب ناسخ "ف": "مسم"، وقال في الحاشية: "لعله فسخ"، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره.
(2/492)
المشايخ فقال: أيها الشيخ بأيّ شيء تدفع إبليسَ إذا قصَدَك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إنِّي لا أعرف إبليسَ فأحتاج إلى دفعه، نحن قوم صَرَفْنَا هِمَمَنا إليه، فكفانا ما دونه. وكما قيل (1): تستَّرتُ عن دهري بظلِّ جناحِه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسألُ الأيام ما اسميَ ما دَرَتْ ... وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني" (2) فيقال: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: أنَّ جعلَ الزهدِ للعوامِّ لما (3) ذكره إنَّما يتمّ إذا كان الزهد ملزومًا لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعي الشهوة والهوى، وحينئذٍ فيكون قلبه مشغولًا بتلك الدواير والجواذب، ونفسُه تطالبُه بها، وزهدُه يأمره باجتنابها. ولا ريبَ أنَّ فوق هذا مقامًا (4) أعلى منه، وهو طمأنينة نفسه وسكونها إلى محبوبها، وانجذابُ دواعيها إلى محابِّه ومرضاته؛ وهذا للخواصّ من المؤمنين، ولكن هذه المنازعة غير لازمة للزهد، وإن كان لا بُدَّ منها في حكم الطبيعة لتحقّق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقّق (5) تركُ العبد حظه وهواه لربّه إيثارًا له على هواه ونفسه. الثاني: أنَّه ولو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من __________ (1) "ط": "قال". البيتان لأبي نواس في ديوانه (469). وقوله: "بظل جناحه" يعني به جناح الممدوح. وقد تمثَّل بهما المصنف في مدارج السالكين (3/ 183). (2) محاسن المجالس (78 - 79). (3) "ب": "كما". "ك": "ما". (4) في الأصل و"ف": "مقام" بالرفع. والمثبت من "ب، ك، ط". (5) "ف": "ولتحقق"، خلاف الأصل.
(2/493)
لوازم الزهدِ لم يكن فيها نقص ولا علَّة، فإنَّها من لوازم الطبيعة وأحكام الجبلة، وهي كالجوع والعطش والألم والتعب. فحبسُ النفس عن إجابة دواعيها إيثارًا للَّه ومرضاته عليها (1) لا يكون نقصًا ولا مستلزمًا لنقص. [مسألة شريفة] (2) وقد اختلف أرباب السلوك وأهل الطريق (3) هنا في هذه المسألة، وهي أيّهما أفضل: مَن له داعية وشهوة، وهو يحبسها (4) للَّه، ولا يطيعها حبًّا له وحياءً منه وخوفًا. أو من لا داعية له تنازعه، بل نفسه خالية من تلك الدواعي والشهوة، قد اطمأنَّت إلى ربِّها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبّه؟ فرجَّحت طائفة الأولَ، وقالت: هذا يدلُّ على قوَّة تعلّقه وشدَّة محبّته، فهو يُعاصي دواعي الطبع والشهوة، ويقهرها سلطانُ (5) محبّته وإرادته وخوفه من اللَّه. وهذا يدلّ على تمكّنه من نفسه، وتمكّن حاله مع اللَّه (6)، وغلبة داعي الحق عنده على داعي الطبع والنفس. قالوا: وأيضًا فله مزيد في حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعي الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوّه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوّه الظاهر. __________ (1) "فحبس النفس. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (2) هذا العنوان من حاشية "ب". (3) "وأهل الطريق" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك" بخط مختلف. (4) في "ط": "يحبسهما. . . يطيعهما" بضمير التثنية. (5) "ط": "بسلطان". (6) "ب": "مع حاله"، خطأ.
(2/494)
قالوا: والذوق والوجد يشهد (1) بمزيده (2) من الحبّ والأنس والسرور والفرح بربِّه عند إيثاره علي دواعي الهوى والنفس، والمطمئنُّ الذي ليس فيه هذا الداعي (3) ليس له مزيد من هذه الجهة. وإن كان مزيده من جهة أخرى، فهي مشتركة بينهما، ويختصّ هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة. قالوا: وأيضًا فهذا مبتلًى بهذه الدواعي والإرادات، وذلك معافًى منها. وقد جرت سنَّة اللَّهِ في المؤمنين من عباده أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانُه زيد في بلائه، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإنْ كان في دينه صلابة شُدِّدَ عليه البلاء، وإنْ كان في دينه رقَّة خفِّف عنه البلاءُ" (4) والمراد بالدين هنا: الإيمان الذي يثبت عند نوازل البلاءِ، فإنَّ المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاءِ. قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعي النفس والطبع من أشدّ البلاءِ، فإنَّه لا يصبر عليه إلا الصدِّيقون. وأمَّا البلاءُ الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقّف على الإيمان، بل يصبر عليه البرّ والفاجر، ولا سيّما إذا علم أنَّه لا معوّل له __________ (1) "ب": "يشهدان"، وما في الأصل وغيره صواب في العربية. (2) "ك، ط": "لمزيده". (3) "ليس فيه هذا الداعي" ساقط من "ب". (4) أخرجه الطيالسي (215)، وأحمد (1481)، وابن حبان (2921)، والحاكم (1/ 99) (120، 121)، والترمذي (2398) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص، والحديث صححه ابن حبان والحاكم. (ز).
(2/495)
إلا الصبر، فإنَّه إن لم يصبر اختيارًا صبر اضطرارًا. ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصدّيق -صلى اللَّه عليه وسلم- لما (1) فعل به إخوتُه من الأذى، والإلقاءِ في الجُبِّ، وبيعه بيع العبيد، والتفريق بينه وبين أبيه؛ وابتلائه بمراودة المرأة له (2) وهو شابّ عزب غريب بمنزلة العبد لها، وهي الداعية له (3) إلى ذلك = فرقٌ عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتبَ (4) البلاءِ (5). فإنَّ الشباب داعٍ إلى الشهوة، والشاب قد يستحيي بين (6) أهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزَبًا كان أشدَّ لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشدّ، وإذا كانت جميلةً كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ (7) من الداخل كان أقوى أيضًا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي الحاكمة (8) عليه الآمرة النَّاهية له (9) كان أبلغ في الداعي، __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "بما". (2) "له" ساقط من "ك، ط". (3) "له" ساقط من "ك، ط". (4) "ب": "نوائب"، تحريف. (5) صرح المؤلف في مدارج السالكين (2/ 187) بأنه سمع ذلك من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه، ثم ذكر الدواعي الآتية. وقد فصّلها في كتابه الداء والدواء (319 - 322) في 13 وجهًا. (6) "ب، ك، ط": "من". (7) "ب": "يغلق الأبواب والاحتياط". (8) "ك، ط": "كمملوكها وهي كالحاكمة". (9) "له": ساقط من "ط".
(2/496)
فإذا (1) كانت المرأة شديدة العشق والمحبّة للرجل قد امتلأ قلبها من حبّه = فهذا الابتلاءُ الذي لا يصبر معه إلا مثل (2) الكريم ابن الكريم ابن الكريم (3) صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. ولا ريب أنَّ هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأوَّل، بل هو من جنس ابتلاءِ الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- بذبح ولده، إذ كلاهما ابتلاءٌ بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم الطبع جملة (4). وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون صلوات اللَّه وسلامه عليه، والتي أصابت أيوب صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه هي النكتة التي من أجلها كان صالحو البشر أفضلَ من الملائكة؛ لأنَّ الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس (5) والشهوات البشرية، فهي صادرةٌ عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، وهي كالنفَس للحيّ. وأمَّا عبادات البشر، فمع منازعات النفوس، وقمع الشهوات، ومخالفة دواعي الطبع؛ فكانت أكمل. ولهذا كان أكثر النَّاس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعي والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خُلِقَت له وأعانه اللَّه على دفعها وقهرها وعصيانها كان أكمل وأفضل. __________ (1) "ب": "فإن". (2) "ك، ط": "الَّذي صبر معه مثل". (3) زاد في "ب، ط": "ابن الكريم". (4) "ط": "حكم طبعه". (5) "ب": "النفوس".
(2/497)
قالوا: وأيضًا فإنَّ حقيقة المحبّة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه. قالوا: وكيف (1) يصحّ الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب؟ قالوا: وليس العجب من قلب خالٍ عن الشهواتِ والإرادات، قد ماتت دواعي طبعه وشهوته، إذا عكفَ على محبوبه ومعبوده، واطمأنَّ إليه، واجتمعت همّتُه عليه (2). وإنَّما العجب من قلبٍ قد ابتُليَ بما ابتُليَ (3) به من الهوى والشهوة ودواعي الطبيعة، مع قوَّة سلطانها وغلبتها، وضعفه، وكثرة الجيوش التي تُغير على قلبه كلَّ وقتٍ، إذا آثر ربَّه ومرضاتَه على هواه وشهوته ودواعي طبعه. فهو هاربٌ إلى ربِّه من بين تلك الجيوش، وعاكفٌ عليه في تلك الزعازع والأهوية التي تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة، يتحمَّل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمَّله (4) الجبال الرَّاسيات! قالوا: وأيضًا فنهيُ النفس عن الهوى عبوديّة خاصَّة لها تأثير خاصّ، وإنَّما يحصل إذا كان ثَمَّ ما ينهى عنه النفس. قالوا: وأيضًا فالهوى عدوُّ الإنسان، فإذا قهر عدوَّه وصارت تحت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممَّن لا عدوّ له يقهره. قالوا: ولهذا كان حالُ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قهره قرينَه حتَّى انقادَ وأسلم له (5) __________ (1) "ب": "فكيف". (2) "عليه" ساقط من "ك، ط". (3) "ب": "قد امتلأ بما امتلأ"، تحريف. (4) "ب": "تحمله". (5) "ب": "انقاد له وأسلم". ويشير المؤلف إلى ما أخرجه مسلم (2814، 2815) =
(2/498)
فلم يكن يأمره إلا بخيرٍ أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفرّ (1) منه، وكان إذا سلكَ فجًّا سلك فجًّا (2) غير فجِّه (3). وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفرّ منه، ومع هذا قد تفلَّت على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعرَّض له وهو في الصلاة، وأراد أن يقطع عليه صلاته (4)، ومعلومٌ أنَّ حال الرسول أكمل وأقوى؟ والجوابُ ما ذكرناه أنَّ شيطان عمر كان يفرّ (5) منه، فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه. وأمَّا الشيطان الذي تعرَّض للنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أخذه وأسره وجعله في قبضته كالأسير. وأين مَن يهرب منه عدوُّه فلا يظفر به إلى مَن يظفر بعدوّه، فيجعله في أسره وتحت قبضته (6)؟ فهذا ونحوه ممَّا احتجَّ به أرباب هذا القول. وأحتجَّ أرباب القول الثاني -وهم الذين رجَّحوا من لا منازعة في __________ = من حديث ابن مسعود ثمَّ عائشة رضي اللَّه عنهما. (ز). (1) "ف، ك": "نفَر"، تصحيف. (2) "فجًّا" ساقط من "ط". (3) كما في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6383)، ومسلم في فضائل الصحابة (2396). (4) "ط": "الصلاة". والحديث في الصحيحين. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (461) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (541) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (5) "ف": "نفر"، تصحيف. (6) "ب": "تحت قهره وقبضته". "ك، ط": "تحت يده وقبضته".
(2/499)
طباعه، ولا هوى له يغالبه- بأن قالوا: كيف تستوي النفسُ المطمئنّة إلى ربِّها، العاكفةُ على حُبِّهِ، التي لا منازعةَ فيها أصلًا ولا داعيةَ تدعوها إلى الإعراض عنه؛ والنفسُ المشغولةُ بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟ قالوا: وأيضًا ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحبُ النفس المطمئنّة قد قطع مراحل من سيره، وفاز بقربٍ فات صاحبَ المحاربة والمنازعة (1). قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين في طريق، فطلع على أحدهما قاطعٌ اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكّن من سيره؛ والآخر سائرٌ لم يعرض له قاطع، بل هو على جادّة سيره، فإنَّ هذا يقطع من المسافة أكثرَ ممَّا (2) يقطع الأوَّل، ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه. قالوا: وأيضًا فإنَّ للقلب قوَّةً يسير بها، فإذا صرفَ تلك القوَّة في دفعِ العوارضِ والدواعي القاطعَة له عن السير اشتغلَ قلبُه بدفعها عن السيرِ في زمن المدافعة. قالوا: ولأنَّ المقصودَ بالقصد الأوَّل إنَّما هو السيرُ إلى اللَّهِ، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره، والاشتغال (3) بالمقصود لنفسه أولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة. قالوا: وأيضًا فالعوارضُ المانعة للقلب من سيره هي من باب المرض، واجتماعُ القلب على اللَّه وطمأنينتُه به وسكونُه إليه بلا __________ (1) "ب": "المنازعة والمحاربة". (2) في الأصل: "ما"، سهو. وكذا في "ك". (3) "ط": "فالاشتغال".
(2/500)
منازعٍ ولا جاذب (1) ولا معارض هو صحّتُه وحياتُه ونعيمُه. فكيف يكون القلبُ الذي يعرض له مرض فهو (2) مشغول بدوائه أفضلَ من القلب الذي لا داء به ولا علَّة؟ قالوا: وأيضًا فهذه الدواعي والميول والإرادات التي في القلب تقتضي جذبَه وتعويقه عن وجهة (3) سيره، وما فيه من داعي (4) المحبَّه والإيمان يقتضي جذبَه عن طريقها، فتتعارض الجواذب، فإنْ لم تُوقِفْه عوَّقَتْه ولا بُدَّ. فأين السيرُ بلا معوّق من السيرِ مع المعوِّق؟ قالوا: وأيضًا فالذي يُسيِّرُ العبدَ بإذن ربه إنَّما هو همَّته، والهمَّة إذا علت وارتفعت لم تلحقها (5) القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع في الجوّ فات الرماةَ، ولم تلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام. وإنَّما تدرك هذه الأشياء الطائرَ (6) إذا لم يكن عاليًا، فكذلك الهمَّة (7) العالية قد فاتت الجوارحَ والكواسرَ، وإنَّما تلحق الآفاتُ والدواعي والإرادات الهمَّةَ النَّازلة، فأمَّا إذا علت فلا تلحقها الآفات. قالوا: وأيضًا فالحسُّ والوجود شاهد بأنَّ قلبَ المحب متى خلا من __________ (1) "ب": "مجاذب". (2) "ب، ك، ط": "وهو". (3) "ب، ك، ط": "وجه". (4) "ف": "دواعي"، سهو. (5) "ك، ط": "لم يلحقه". (6) رسمها في الأصل: "للطائر"، وكذا في النسخ الأخرى والمطبوعة. ولعل القراءة الصحيحة ما أثبتنا. (7) "ولا السهام. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(2/501)
غير المحبوب، واجتمعت (1) شؤونه كلّها على محبوبه، ولم يبقَ فيه التفات إلى غيره، كان أكمل محبَّةً من القلب الملتفت إلى الرقباءِ، المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتواري عنهم. قالوا: فكم بين محبٍّ يجتاز على الرقَباءِ فيُطرِقون من هيبته وخشيته (2) ولا يرفع أحد منهم رأسه إليه، وبين محبٍّ إذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه (3) كالزنابير أو كالكلاب، فاشتغل بدفعهم وحرابهم، أو جدَّ في الهرب منهم؟ فكيف يسوَّى هذا بهذا، أم كيف يفضَّل عليه مع هذا التباين (4)؟ قالوا: وأيضًا فالمحبّة الخالصة الصَّادقة (5) حقيقتها أنَّها نار تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإذا احترق ما سوى مراده عُدِمَ وذهب أثرُه. فإذَا بقيَ في القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبّة تامَّةً ولا صادقةً، بل هي محبة مشوبة بغيرها. فالمحبّ الصادق ليس في قلبه سوى مراد محبوبه حتَّى ينازعه ويدافعه، والآخر في قلبه بقيَّة لغير المحبوب فهو جاهدٌ على إخراجها وإعدامها. قالوا: وأيضًا فالواردات الإلهيّة تَرِدُ على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلبَ فارغًا خاليًا (6) من العوارض والمنازعات ودواعي الطبع والهوى ملأَتْه على قدر فراغه. وإذا امتلأ منها لم يبقَ __________ (1) "ب": "فاجتمعت"، قراءة محتملة. (2) "ب": "خشيته وهيبته". (3) أي: هاجوا ووثبوا عليه. (4) "ف": "البائن"، خطأ. (5) "ب": "الصادقة الخالصة". (6) "ك، ط": "خاليًا فارغًا".
(2/502)
لأضدادها وأعدائها (1) فيه مسلك (2)، وإذا صادفت فيه موضعًا مشغولًا بغيرٍ من الأغيار لم تساكن (3) ذلك الموضع، فيدخلُ الضدُّ والعدوُّ من تلك الثُّلْمة، كما قال القائل: لا كان مَن لِسواكَ فيه بقيَّةٌ ... يجدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ (4) وقال (5): ومهما بقي لِلصَّحْو فيه بقيَّةٌ ... يجد نحوَك اللاحي سبيلًا إلى العَذْلِ (6) قالوا: وأيضًا فدواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إمَّا جهل وإمَّا ضعف. فإنَّها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أو يكون عالمًا بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية. وما كان سببه جهلًا أو عجزًا لا يكون كمالًا ولا مستلزمًا لكمالٍ. وأمَّا القلب الخالي منها ومن الاشتغال بدفعها، فقلب شريف قويّ علويّ رفيع. قالوا: وأيضًا فهذه الإرادات والدواعي لا تُسيِّر العبد، بل إمَّا أن تنكّسه إن أجابها، وإمَّا أن تُعوّقه وتُوقفه إن اشتغل بمدافعتها. وأمَّا __________ (1) "ب": "إعدامها"، تحريف. (2) "ف": "ملك"، تحريف. (3) "ط": "لم يساكن". (4) سيأتي مرَّة أخرى في ص (638). وقد أنشده المؤلف في الفوائد (64). ومدارج السالكين (3/ 254) و (2/ 601) (والقافية: اللوَّم) و (2/ 615) (بعجز مختلف). (5) "ب": "وقال غيره". (6) أنشده المؤلف في مدارج السالكين (3/ 298).
(2/503)
إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنَّة بربّها، فكلُّ إرادة منها تسير به مراحلَ على مَهَلِه (1)، فهو يسيرُ رُويدًا، وقد سبقَ السُّعَاةَ (2)، كما قيل: مَنْ لي بمثل سَيرِكَ المُدَلَّلِ ... تمشي رُويدًا وتجي في الأوَّلِ (3) قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه الدواعي والإرادات إنّما تُحمَد عاقبتُها إذا ردّت صاحبَها إلى حال السليم منها، فيكون كماله في تشبّهه به وسيره معه؛ فكيف يكون أكمل ممّن كمالُه إنّما هو في تشبّهه به؟ قالوا: وأيضًا فالنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنّة. والنفس الأمّارة هي المطيعة لدواعي طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمّارة هي تلك الدواعي والإرادات، فتستحكم، فتصير عزَمات، ثمَّ تُوجِب الأفعال؛ فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعي. وأمَّا النفس المطمئنّة فهي التي عَدِمتْ هذه المبادئ فعدِمت غاياتها. فكيف تكون مبادئ النفس الأمَّارة ممَّا يوجب لها مزيَّةً على النَّفسِ المطمئنّة؟ فهذا ونحوه ممَّا احتجَّت به هذه الطائفة أيضًا لقولها. __________ (1) كذا ضبطت الكلمة في "ب". وفي "ف": "مُهْلة". (2) "ط": "السعادة"، تحريف. وقد تقدَّم قريبًا مثل هذا التحريف. (3) تمثل به المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 302) ومدارج السالكين (3/ 7). وقد أورد الميداني هذا المثل على وجه آخر؟ تسألني أمُّ الخيار جَمَلا ... يمشي رويدًا ويكون أوَّلا وقال إنَّه يضرب في طلب ما يتعذَّر. مجمع الأمثال (1/ 248)، وقال العسكري إنَّ قولهم: "تمشي رويدًا وتكون الأول" يراد به أنه يدرك حاجته في تؤدة. جمهرة الأمثال (1/ 260)، وهو المراد هنا.
(2/504)
والحقّ أنَّ كلا الطائفتين (1) على صوابٍ من القول، لكن كلّ فرقة لحظت غيرَ ملحظِ الفرقة الأخرى، فكأنَّهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ. بل الفرقة الأولى نظرت إلى نهاية خير (2) المجاهدة لنفسه وإراداته (3) وما ترتَّب له عليها من الأحوالِ والمقاماتِ، فأوجب لها شهودُ نهايته رجحانَه، فحكمت بترجيحه، وأسجلَت (4) بتفضيله. والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته في شأنه ذلك ونهاية النفس المطمئنّة، فأوجبَ لها شهودُ الأمرين الحكمَ بترجيحِ القلب الخالي من تلك الدواعي ومجاهدتها. وكلّ واحدة من الطائفتين فقد أدْلَتْ بحججٍ لا تمانَع، وأَتَتْ ببيناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع. [مسألة شريفة أخرى] (5) وفصل الخطاب في هذه المسألة يظهر بمسألة ترتضع معها من __________ (1) كذا في الأصل وغيره بتذكير "كلا". وقد تكرَّر مثله في كتبه وكتب شيخ الإسلام. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 209)، والروح (478)، ومفتاح دار السعادة (2/ 454)، ومجموع الفتاوى (4/ 467)، و (8/ 337)، و (11/ 70). وقاعدة في الاستحسان (89). (2) "ك": "خبر". "ط": "سير المجاهد". (3) "ب، ك، ط": "إرادته". (4) "ف": "انحلت". "ك، ط": "استحلت" وكلاهما تحريف. وقوله "أسجلت" يعني به أنَّها أطلقت القول بتفضيله وحكمت بذلك. ومثله قول المصنف في الصواعق (2/ 791) "أسجل عليهم بالكفر والنفاق" وقوله فيه (2/ 468)، "أسجل عليهم إسجالًا عامًّا. . . بعجزهم عن ذلك" أي: حكم عليهم بذلك حكمًا مطلقًا. وهو من قولهم: أسجل لهم الأمر: أطلقه لهم، وأسجل الكلام: أرسله. انظر: اللسان "سجل" (11/ 326). (5) في حاشية "ب": "مسألة شريفة أيضًا".
(2/505)
لِبانها، وتخرج (1) من مشكاتها، وهي أنَّ العبدَ إذا كان له حال أو مقام مع اللَّه، ثمَّ نزل عنه إلى ذنب ارتكبه، ثمَّ تاب من ذنبه، هل يعود إلى مثل ماكان؟ أو لا يعود، بل إنْ رجع رجعَ إلى أنزلَ من مقامه وأنقصَ من رتبته؟ أو يعود خيرًا ممَّا كان؟ فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأوَّل (2)، فإنَّ "التَّائب من الذنب كمن لا ذنب له" (3)، وإذا مُحي أثرُ الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه، فكأنَّه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله. قالوا: ولأنَّ التوبة هي الرجوع إلى اللَّه بعد الإباق منه، فإنَّ المعصية إباق العبد من ربِّه، فإذا تابَ إلى اللَّه فقد رجع إليه. وإذا كان مسمَّى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأولى مع اللَّه لم تكن توبته تامَّة، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح. قالوا: ولأنَّ التوبة كما ترفع أثرَ الذنب في الحالِ بالإقلاع عنه في المستقبل بالعزمِ على أن لا يعود، فكذلك ترفع أثره في الماضي جملةً. ومن أثره في الماضي انحطاط منزلته عند اللَّه ونقصانه عنده، فلا بدَّ من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله. قالوا: ولأنَّه لو بقي نازلًا من مرتبته منحطًّا عن منزلته بعد التوبة كما __________ (1) "ط": "يرتضع. . يخرج"، تصحيف. (2) "ك، ط": "الأولى". "ب": "إلى حاله الأول". (3) أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني في المعجم الكبير (10281) من طريق أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه مرفوعًا. قال السخاوي في المقاصد الحسنة (182): "ورجاله ثقات، بل حسنه شيخنا يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه".
(2/506)
كان قبلها، لم تكن التوبة قد مَحتْ أثرَ الذنب ولا أفادت في الماضي شيئًا. وإن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها، فبلوغه تلك الدرجة إنَّما كان بالتوبة، فلو ضعف تأثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأولى لَضعُف عن تبليغه تلك المنزلة التي وصل إليها. وإن لم تكن التوبة ضعيفةَ التأثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأثير عن إعادته إلى المنزلة الأولى. قالوا: وأيضًا فاللَّه (1) سبحانه ربط (2) الجزاءَ بالأعمالِ ربطَ الأسبابِ بمسبباتها، فالجزاءُ من جنس العمل. فكما رجع التائب إلى اللَّه بقلبه رجوعًا تامًّا، رجع اللَّه عليه بمنزلته وحاله. بل ما رجع العبدُ إلى اللَّه تعالى حتى رجعَ اللَّه بقلبه إليه أوَّلًا، فرجع اللَّه إليه وتاب عليه ثانيًا. فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبتين من اللَّه: توبةٍ منه إذنًا وتمكينًا، فتاب بها العبد، وتاب اللَّه عليه قبولًا ورضًى. فتوبة العبد بين توبتين من اللَّه، وهذا يدلّ على عنايته سبحانه وبرّه ولطفه بعبده التائب. فكيف يقال: إنَّه لا يعيده مع هذا اللطف والبرّ (3) إلى حاله؟ قالوا: وأيضًا فإنَّ التوبة من أجلِّ الطاعات، وأوجَبِها على المؤمنين، وأعظمها غَناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كلِّ شيء. وهي من أحبِّ الطاعات إلى اللَّه سبحانه، فأنَّه يحب التّوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظم فرح وأكمله. وإذا كانت بهذه المثابة فالآتي بها آتٍ بما هو من أفضل القربات وأجلّ الطاعات. فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاطٌ ونزولُ مرتبةٍ، فبالتوبة يحصل له مزيدُ تقدمٍ وعلوُّ درجةٍ، فإن لم تكن __________ (1) "ف": "فإنَّ اللَّه"، خلاف الأصل. وكذا في "ك". (2) "ط": "ربط سبحانه الجزاء". (3) "ف": "اللطف الأكبر" تحريف.
(2/507)
درجتُه بعد التوبة أعلى فإنَّها لا تكون أنزَل. قالوا: وأيضًا فإنَّا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الأثر (1) الحاصل من التوبة أرجَحَ من الأثرِ الحاصل من المعصية، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح الكاملة؛ وجانب الفضل أرجح من جانب العدل، ولهذا كان جانب (2) العدل آحادًا بآحاد، وجانب الفضل آحادًا بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدلُّ على رجحان جانب الفضل وغلبته. وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة، فإنَّ رحمةَ الربِّ تعالى تغلب غضبَه. قالوا: وأيضًا فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية. والعبد إذا مرض ثمَّ عوفي وتكاملت عافيته رجعت صحّتُه إلى ما كانت، بل ربّما ترجع (3) أقوى وأكمل ممَّا كانت عليه، لأنَّه ربّما كان معه في حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتلَّ ظهرت تلك الأسقام، ثمَّ زالت بالعافية جملةً، فتعودُ قوَّته خيرًا ممَّا كانت وأكمل. وفي مثل هذا قال الشاعر: لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه ... وربّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ (4) وهذا الوجه هو أحد ما احتجَّ به من قال: إنَّه يعود (5) خيرًا ممَّا كان قبل التوبة. __________ (1) "الأثر" ساقط من "ط". (2) "ك": "إلى جانب العدل آحاد". "ط": "في جانب العدل آحاد". (3) "ب، ك": "رجع". "ط": "رجعت". (4) للمتنبي وقد سبق في ص (367)، غير أنَّ في "ب": "صحت الأجساد". (5) "ك، ط": "يعود بالتوبة".
(2/508)
واحتجّوا لقولهم أيضًا بأنَّ التوبة تثمر للعبد محبَّة من اللَّه خاصَّة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط في حصولها. وإن حصل له محبّة أخرى بغيرها من الطاعات فالمحبّة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإنَّ اللَّه يحبّ التوّابين، ومن محبّته لهم فرحُه بتوبة أحدهم أعظمَ فرحٍ وأكملَه. فإذا أثمرت له التوبةُ هذه المحبّة، ورجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أوَّلًا، انضمَّ أثرُها إلى أثر تلك الطاعات، فقوي الأثران، فحصل له المزيد من القرب والوسيلة. وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربّه من أنَّه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبَه فإنَّه لا يعودُ (1) الودّ الذي كان له منه قبل الجناية. واحتجّوا في ذلك بأثر إسرائيليّ مكذوب أنَّ اللَّه سبحانه قال لداود: "يا داود أمَّا الذنب فقد غفرناه، وأمّا الود فلا يعود" (2). وهذا كذب قطعًا، فإنَّ الودّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمَ ممَّا كان، فإنَّه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبّته. وأيضًا فإنَّه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبّه. وتأمَّلْ سرَّ اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} [البروج/ 13 - 14] تجِدْ فيه من الردِّ (3) والإنكار على من قال: لا يعودُ الودّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هوَ من كنوز القرآن ولطائف فهمه. وفي ذلك ما يهيج القلبَ السليمَ، ويأخذ __________ (1) "ف": "لا يعود له الود"، خلاف الأصل. (2) انظر: مجموع الفتاوى (10/ 304). (3) في الأصل: "الرد على والإنكار"، سبق قلم.
(2/509)
بمجامعه، ويجعله عاكفًا على ربِّه -الذي لا إلهَ له غيره (1)، ولا ربَّ له سواه- عكوفَ المحبّ الصادق على محبوبه، الذي لا غنى له عنه، ولا بُدَّ له منه، ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا. واحتجّوا أيضًا بأنَّ العبدَ قد يكون بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، لأنَّ الذنبَ يُحدِث له من الخوف والخشية، والانكسار والتذلّل للَّه، والتضرّع بين يديه، والبكاءِ على خطيئته، والندم عليها، والأسف والإشفاق (2)، ما هو من أفضل أحوال العبدِ وأنفعها له في دنياه وآخرته. ولم تكن هذه الأمور لتحصل بدون أسبابها، إذ حصول الملزوم بدون لازمه محال. واللَّه تعالى يحبّ من عبده كسرتَه، وتضرّعه، وذلّه بين يديه، واستعطافه، وسؤاله أن يعفو عنه، ويغفر له، ويتجاوز عن جرمه وخطيئته. فإذا قضى عليه بالذنب فترتَّبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن. ولهذا قال بعض السلف: "لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى (3) بالذنب أكرمَ الخلق عليه" (4). وقيل: إنَّ في بعض الآثار يقول اللَّه تعالى لداود: "يا داود كنتَ تدخل عليَّ دخولَ الملوكِ على الملوكِ، واليوم تدخل عليَّ دخولَ العبيد على الملوك" (5). قالوا: وقد قال غير واحدٍ من السلف: كان داود بعد التوبة __________ (1) "ب، ك": "لا إله غيره". "ط": "لا إله إلَّا هو". (2) "ط": "الإشفاء"، تحريف. (3) في "ط" بياض مكان "ابتلى". (4) نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة (2/ 432) و (6/ 210)، وضمّنه المؤلِّف كلامه في مدارج السالكين (1/ 373)، وشفاء العليل (341). (5) نقله المصنف في مدارج السالكين (1/ 376) من قول اللَّه تعالى لآدم عليه =
(2/510)
خيرًا منه قبل الخطيئة (1). قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص/ 25]، فزاده على المغفرة أمرين (2): "الزلفى"، وهي درجة القرب منه. وقد قال فيها سلف الأُمَّة وأئمّتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم. ومن أراد معرفتَها فعليه بتفاسير السلف. والثاني: "حسن المآب"، وهو حسن المنقلب وطيب المأوى عند اللَّه. قالوا: ومن تأمَّلَ زيادة القرب التي أعطيها داود بعد المغفرة علم صحَّة ما قلنا، وأنَّ العبدَ بعد التوبة يعود خيرًا ممَّا كان. قالوا: وأيضًا فإنَّ للعبودية لوازم وأحكامًا وأسرارًا وكمالاتٍ لا تحصل إلا بها. ومن جملتها تكميل مقام الذلّ للعزيز الرحيم، فإنَّ اللَّه سبحانه يحبّ من (3) عبده أن يكمل مقام الذلّ له، وهذا هو (4) حقيقة العبودية. واشتقاقها (5) يدل على ذلك، فإنَّ العرب تقول: "طريق معبَّد" أي: مذلَّل بوطءِ الأقدام. والذل أنواع: أكملها (6) ذلّ المحبّ لمحبوبه. الثاني: ذلّ المملوك لمالكه. الثالث: ذلّ (7) الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه، __________ = السلام. وهر من كلام طويل ذكر أنَّه "قيل بلسان الحال في قصة آدم عليه السلام وخروجه من الجنَّة بذنبه". (1) انظر: منهاج السنة (2/ 432). (2) بعده في حاشية "ب": "أحدهما" مع علامة صح. (3) "من" ساقط من "ف". (4) "ط": "هذه هي". (5) "ف": "استقامتها"، تحريف. (6) "ب": "أحدها"، تحريف. (7) "ذل" سقط من الأصل سهوًا، ومن "ف" أيضًا.
(2/511)
المالك له. الرابع: ذلّ العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره. وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذلّه (1) في أن يجلب له ما ينفعه. والثاني: ذلّه (2) في أن يدفع عنه ما يضرّه على الدوام. ويدخل في هذا ذلّ المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن. فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفَّاها العبد حقَّها، وشهدها كما ينبغي، وعرفَ ما يراد به منه، وقام بين يدي ربّه مستصحبًا لها شاهدًا لذلِّه من كل وجه ولعز (3) ربِّه وعظمته وجلاله، كانت قليلُ أعماله قائمةً (4) مقام الكثير من أعمال غيره. قالوا: وهذه أسرارٌ لا تدرَك بمجرّد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضرّه أن يخلّي المطيَّ وحاديها، ويعطي القوسَ باريها. فللكثافة أقوامٌ لها خُلِقوا ... وللمحبَّةِ أكبادٌ وأجفانُ قالوا: وأيضًا فقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدكم أضلَّ راحلتَه" (5). قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإنَّ صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهي مركبه الذي يقطع به مسافة سفره، فلو عَدِمَه لانقطع في طريقه، فكيف إذا عدم مع __________ (1) "ط": "ذلّ له". (2) "ط": "ذلّ له". (3) "ب، ك، ط": "لعزّة". (4) "ط": "كان. . قائمًا". (5) أخرجه البخاري في الدعوات (6309)، ومسلم في التوبة (2747) من حديث أنس رضي اللَّه عنه وغيره.
(2/512)
مركبه طعامَه وشرابَه! ثمَّ إنَّه عدِمَها في أرض دَوِّيَّةٍ لا أنيس بها ولا معين، ولا من يأوي له ويرحمه ويحمله، ثمَّ إنَّها مَهلَكة لا ماءَ بها ولا طعام. فلمَّا أيسَ من الحياةِ بفقدها، وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه، ودنت منه، فأيّ فرحةٍ تعدل فرحةَ هذا؟ ولو كان في الوجود فرحٌ أعظم من هذا لمثَّل به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومع هذا ففرَحُ اللَّه بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمُ من فرحِ هذا براحلته. [قاعدة نافعة في إثبات الصفات] (1) وتحت هذا سرٌّ عظيمٌ يختصّ اللَّه بفهمه من يشاء، فإن كنتَ ممن غلظ حجابه، وكثفت نفسه وطباعه، فعليكَ بوادي الحمقى (2)، وهو وادي المحرّفين الكلمَ (3) عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه. فهو وادٍ قد سلكه خلق، وتفرَّقوا في شِعابه وطرُقه ومتاهاته، ولم تستقرّ لهم فيه قدم، ولا لجؤوا منه إلى ركنٍ وثيق، بل هم فيه (4) كحاطب الليل وحاطم السيل (5). وإن نجَّاك اللَّه من هذا الوادي، فتأمَّل هذه الألفاظ النبويّة المعصومة التي مقصودُ المتكلّمِ بها غايةُ البيان، مع مصدرها عن كمال العلم باللَّه __________ (1) العنوان من حاشية "ب". (2) "ط": "بوادي الخفا"! (3) "ك، ط": "للكلم". (4) "فيه": ساقط من "ك، ط". (5) حَطْمة السيل وطَحمته بفتح الطاء وضمّها: دُفّاع معظمه. والسيول الطواحم: الدوافع. يقال: أشدّ من حطمة السيل تحت طحمة الليل، وهو معظم سواده. انظر: الأساس والتاج (حطم، طحم).
(2/513)
وكمال النصيحة للأمة. ومع هذه المقامات الثلاث -أعني كمالَ بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني، وكمالَ معرفته وعلمه بما يعبّر عنه، وكمالَ نصحه وإرادته لهداية الخلائق- يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيءٍ، وهو لا يريد منهم ما يدلّ عليه خطابه، بل يريد منه (1) أمرًا بعيدًا عن ذلك الخطاب، إنَّما يدلُّ عليه كدلالة الألغاز والأحاجي مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى باحسن (2) عبارة وأوجزها. فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكالِ المزيل للإجمال، ويوقع الأمَّة في أودية التأويلات وشعَاب الاحتمالات (3) والتجويزات؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم! وهل قدَرَ الرسول حقَّ قدره أو مرسلَه حقَّ قدره مَن نسَب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه، وعلمه ومعرفته، ونصحه وشفقته = يحيل عليه (4) أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرّفون للكلم عن مواضعه المتأوّلون له على (5) غير تأويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد للَّه ربِّ العالمين. فإنْ قلتَ: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فيُسلَك (6) فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلتُ: نعم، بحمد اللَّه. الطريق واضحة المنار، بيّنة الأعلام، مضيئة للسالكين. وأوَّلها أن تحذف __________ (1) "ف": "منهم"، سهو. (2) "ف": "بأيسر"، تحريف. (3) "ف": "الإجمالات". (4) "ف": "عليهم"، سهو. "ب": "تحيل عليه". (5) "على" ساقط من "ك، ط". (6) "ك، ط": "فنسلك".
(2/514)
خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفاتِ ربِّ العالمين. فإنَّ هذه العقدة هي أصل بلاءِ النَّاس، فمَن حلَّها فما بعدها أيسرُ منها، ومن هلك بها فما بعدها أشدُّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الربِّ ونعوت جلاله إلا لِسَبْقِ نظرِه الضعيف إليها واحتجابه (1) بها عن أصل الصفة وتجرّدها عن خصائص المحدَث؟ فإنَّ الصفَة يلزمها لوازمُ باختلاف محلّها، فيظنّ القاصر (2) إذا رأى ذلك اللازم (3) في المحلّ المحدَث أنَّه لازم لتلك الصفة مطلقًا، فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرّد في ظنّه عن ذلك اللازم. وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرحَ والمحبَّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردَّها كلَّها إلى الإرادة. فإنَّه فهم فرَحًا مستلزمًا لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذلك فهم محبّةً ورضًى وكراهةً ورحمةً مقرونةً بخصائص المخلوقين؛ فإنَّ ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ولم يُحِطْ علمُه بغيره. ولمَّا كان ذلك (4) هو السابق إلى فهمه لم يجد بدًّا من نفيه عن الخالق تعالى، والصفة لم تتجرَّد في عقله عن هذا اللازم، فلم يجد (5) بدًّا من نفيها. __________ (1) "ب": "احتجاجه"، تحريف. وكذا في "ط"، وصحح في القطرية. (2) "ف": "العاجز"، قراءة محتملة. (3) "اللازم" ساقط من "ب". (4) "ذلك" ساقط من "ب، ط". (5) "من نفيه. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(2/515)
ثمَّ لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البيّن. وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفِت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجرَّدةً عن خصائص المخلوق، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها. فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذورَ الذي فرَّ منه، فكيف لم يستلزمه إثباتُ ما أثبته؟ وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورًا فكيف يستلزمه إثباتُ ما نفاهُ؟ وهل في التناقض أعجب من هذا؟ والمسلك الثاني: مسلك النفي العامّ والتعطيل المحض، هربًا من التناقض، والتزامًا لأعظم الباطل وأمحل المحال (1). فإذن الحقّ المحض في الإثبات المحض الذي أثبته اللَّه تعالى لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تبديل. ومنشأ غلط المحرّفين إنَّما هو ظنّهم أنَّ ما يلزم الصفة في المحلّ المعيَّن يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن اللَّه تعالى، فيضطرّون في نفيه إلى نفي الصفة! ولا ريبَ أنَّ الأمور ثلاثة: أمرٌ يلزم الصفة لذاتها من حيث هي، فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيُه، كما يلزم العلمَ والسمعَ والبصرَ من تعلّقها بمعلوم ومسموع ومبصَر، فلا يجوز نفي هذه التعلّقات عن هذه __________ (1) "المُحال" من "حول" لا من "محل"، فصياكة اسم التفضيل منه "أمحل" على التوهم. وقد تكرر "أمحل المحال" في كتب المؤلف. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 36، 207، 272)، والصواعق (197، 645)، ومدارج السالكين (1/ 129)، وانظر: مجمع الأمثال (3/ 357 - 358).
(2/516)
الصفات، إذ لا تحقُّق لها بدونها. وكذلك الإرادة مثلًا تستلزم العلمَ لذاتها، فلا يجوز نفي لازمها عنها. وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها (1). وكذلك كونُ المرئيّ مرئيًّا حقيقةً له لوازم لا ينفكّ عنها، ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلا بنفي الرؤية. وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بدّ فيه منها، فمن نفى لوازمه لزمه (2) نفي الفعل (3) ولا بدَّ. ومن هنا كان أهل الكلام أكثر النَّاس تناقضًا واضطرابًا، فإنَّهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه. فتتناقض أقوالهم وأدلّتهم، ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشكّ. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشكّ والحيرة، حاشا من هو في خُفارة بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات، وقطع تلك الشبهات، وحكَّم الفطرةَ والشرعةَ والعقلَ المؤيّد بنور الوحي عليها، فنقَدها نقدَ الصيارف، فنفى زغَلَها، وعلم أنَّ الصحيح منها إمَّا أن يكون قد تولَّت (4) النصوص بيانَه، وإمَّا أن يكون فيها غُنْيةٌ عنه بما هو خير منه وأقرب طريقًا وأسهل تناولًا. ولا يستفيد (5) المؤمنُ البصيرُ بما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، العارفُ (6) به؛ من المتكلمين سوى مناقضة بعضِهم بعضًا ومعارضته، وإبداءِ __________ (1) "عنها وكذلك السمع. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (2) "لزمه" ساقط من "ب، ك، ط". (3) "ط": "الفعل الاختياري". (4) "ف": "نزلت"، تحريف. (5) "ف": "تناولا يستفيد"، فاسقط "ولا" قبل الفعل. (6) "ف": "للعارف"، خطأ.
(2/517)
بعضِهم عَوارَ بعض، ومحاربةِ بعضهم بعضًا؛ فيتولَّى (1) بعضُهم محاربةَ بعض، ويسلَمُ ما جاءَ به الرسول. فإذا رأى المؤمنُ العالمُ الناصحُ للَّه ولرسوله أحدَهم قد تعدَّى إلى ما جاءَ به الرسول يناقضه ويعارضه ويضادّه (2)، فليعلمْ أنَّهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدًا، ولا يقع ردّهم إلا على آراء أمثالهم وأشباههم. وأمَّا ما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه. فإن وجدتَ شيئًا من ذلك في كلامهم فبَدارِ بَدارِ إلى إبداءِ فضائحهم، وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم، وتبيينِ كذبهم على العقل والوحي، فإنَّهم لا يردّون شيئًا ممَّا جاءَ به الرسول إلا بزخرف من القول يغترّ به ضعيفُ العقل والإيمان، فاكشفه، ولا تهَبْه (3)، تجده {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور/ 39]. ولولا أنَّ كلَّ مسائل القوم وشُبَههم التي خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقرّ به عيون أهل الإيمان السائرين إلى اللَّه على طريق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه. وإن وفَّق اللَّهُ سبحانه جرَّدنا لذلك كتابًا مفردًا (4). وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه، ونوَّر ضريحه- (5) هذا المقصد (6) في عامّة كتبه، لا سيما كتابه الذي وسمه __________ (1) "ب": "فيُولي بعضَهم. . . ويسلّم". (2) "ويضاده" ساقط من "ط". (3) "ط": "لاتهن"، تحريف. (4) انظر نحو ذلك في الصواعق المرسلة (1008). (5) لم ترد الجملتان الدعائيتان في "ك، ط". (6) "ف": "الفصل" تحريف.
(2/518)
بـ "بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح" (1)، فمزَّق فيه شملَهم كلَّ ممزَّقٍ، وكشف فيه (2) أسرارهم، وهتك أستارهم، فجزاه اللَّه عن الإسلام وأهله أفضلَ الجزاءِ (3). واعلم (4) أنَّه لا تَرِدُ شبهة صحيحة قط (5) على ما جاء به الرسول، بل الشبهة التي يوردها أهل البدع والضلال على أهل السنَّة لا تخلو من أحد (6) قسمين: إمَّا أن يكون القول الذي أوردَت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطًا، وهذا لا يكون متّفقًا عليه بين أهل السنة أبدًا، بل يكون قد قاله بعضهم وغلِطَ فيه، فإنَّ العصمة إنَّما هي لمجموع الأمة لا لطائفة معيَّنة منها. وإمَّا أن يكون القول الذي أُوردتْ عليه قولًا صحيخا لكن لا ترد تلك الشبهة عليه، وحينئذٍ فلا بدَّ لها (7) من أحد أمرين: إمَّا أن تكون لازمة، وإمَّا ألَّا تكون لازمة. فإنْ كانت لازمة لما جاءَ به (8) الرسول فهي حقّ لا شبهة، إذ لازم __________ (1) مطبوع بعنوان "درء تعارض العقل والنقل". (2) "فيه" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "من أفضل الجزاء". (4) "ف": "وأعلمهم"، خلاف الأصل. (5) انظر في استعمال "قطّ" ما سبق في ص (431). (6) "أحد" ساقط من "ب، ك، ط". (7) "ط": "له"، خطأ. (8) "ط": "بها"، خطأ.
(2/519)
الحقّ حق، ولا ينبغي الفرار منها كما يفعل الضعفاء من المنتسبين إلى السنَّة، بل كلُّ ما لزم من الحق فهو حقٌّ يتعيّن القول به، كائنًا ما كان، وهل تسلّط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنَّة (1) إلا بهذه الطريق؟ ألزموهم بلوازمَ تلزم الحقَّ فلم يلتزموها، ودفعوها، وأثبتوا ملزوماتها، فتسلَّطوا عليهم بما أنكروه لا بما أثبتوه. فلو أثبتوا لوازمَ الحق، ولم يفرُّوا منها، لم يجد أعداؤهم إليهم سبيلًا. وإنْ لم تكن لازمةً لهم فإلزامهم إيَّاها باطل. وعلى التقديرين (2) فلا طريق لهم إلى ردِّ أقوالهم. وحينئذٍ فلهم جوابان: مركَّب مجمَل، ومفرَد مفصَّل. أمَّا الأوَّل فيقولون (3) لهم: هذه اللوازم التي تُلزِمونا (4) بها إمَّا أن تكون لازمةً في نفس الأمر، وإمَّا أن لا تكون لازمةً. فإن كانت لازمةً فهي حقّ (5)، إذ قد ثبت أنَّ ما جاءَ به الرسول هو (6) الحقُّ الصريح، ولازمُ الحق حقٌّ. وإنْ لم تكن لازمةً فهي مندفعة، ولا يجوز إلزامها ولا التزامها (7). وأمَّا الجوابُ المفصَّل فيفردون كلَّ إلزام بجواب، ولا يردّونه مطلقًا، ولا يقبلونه مطلقًا (8)، بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام __________ (1) "ف": "إلى السنة"، خلاف الأصل. (2) "ط": "النقدين"، تحريف. وكذا كان في "ك"، فأصلحه بعضهم في متنها. (3) "ب": "فنقول". (4) كذا ورد في الأصل وغيره بحذف نون الرفع للتخفيف. (5) "ف": "أحقّ"، خلاف الأصل. (6) "ب، ك، ط": "فهو". (7) "ولا التزامها"، ساقط من "ط". (8) "ولا يقبلونه مطلقًا" ساقط من "ب، ط".
(2/520)
ومعانيه، فإن كان لفظها موافقًا لما جاءَ به الرسول، يتضمّن إثبات ما أثبته أو نفي (1) ما نفاه، فلا يكون المعنى إلا حقًّا، فيقبلون ذلك الإلزام، وإن كان مخالفًا لما جاءَ به الرسول، متضمّنًا لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه، كان باطلًا لفظًا ومعنًى، فيقابلونه بالردِّ. وإنْ كان لفظًا مجملًا محتملًا لحق وباطل لم يقبلوه مطلقًا، ولم يردّوه مطلقًا (2)،. حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به. فإنْ أراد معنًى صحيحًا مطابقًا لما جاءَ به الرسول قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل (3) إطلاقًا. وإنْ أراد معنًى باطلًا ردّوه ولم يطلقوا نفيَ اللفظ المحتمل أيضًا. فهذه قاعدتهم التي بها يعتصمون وعليها يعوّلون. وبسط هذه الكلمات يستدعي أسفارًا لا سِفرًا واحدًا، ومن لا ضياء له لا ينتفع بها ولا بغيرها. فلنقتصر عليها، ولنعد إلى المقصود، فنقول وباللَّه التوفيق: فرَحُ الربِّ تعالى هذا الفرحَ العظيمَ بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من ملزومات محئته ولوازمها، أعني كونَه محِبًّا لعبادته المؤمنين، محبوبًا لهم. وإنَّما خلق خلقه لعبادته المتضمّنة لكمال محبَّته والخضوع له، ولهذا خلق الجنَّة والنَّار، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب. وهذا هو الحق الذي خلق به السماوات والأرضِ، وأنزل به الكتاب. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} __________ (1) "ك، ط": "ونفي". (2) "ولم يردوه مطلقًا" ساقط من "ب". (3) "ب": "المجمل".
(2/521)
[الحجر/ 85]. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} (1) إلى قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس/ 5] وقوله: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} [آل عمران/ 1 - 3]. فهذا أمرُه وتنزيلُه مصدره الحقّ، والأوَّل خلقه وتكوينه مصدره الحقّ أيضًا. فبالحقِّ كان الخلق والأمر، وعنه صدر الخلق والأمر. وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات/ 56]، فأخبر سبحانه أنَّ الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبّته. وهو سبحانه كما أنَّه يحب أن يُعبَد، يحبّ أن يُحمَد، ويُثنَى عليه، ويذكَر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، ومن أجل ذلك أثنَى على نفسه" (2). وفي المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسولَ اللَّه، إنّي حمدتُ ربّي بمحامد. فقال: "إنّ ربّك يحبّ الحمد" (3). فهو __________ (1) في الأصل: ". . . ما شفيع إلَّا من بعد إذنه أفلا تذكّرون" كذا، وأسقط بعض الآية. (2) تقدم تخريجه في ص (274). (3) أخرجه أحمد (15585)، والبخاري في الأدب المفرد (342)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 46). والحديث ضعيف الأسناد لأنَّ مداره على علي بن زيد بن جدعان، وفي حفظه مقال، وأيضًا عبد الرحمن بن أبي بكر لم يسمع من الأسود. ورواه الحسن البصري عن الأسود عند أحمد (15586) والحسن لم يسمع من الأسود. (ز).
(2/522)
يحبّ نفسه، ومن أجل ذلك يثني على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدّس نفسه، ويحبّ من يحبّه ويحمده ويثني عليه. بل كلّما كانت محبّةُ عبدِه له أقوى كانت محبّة اللَّه له أكمل وأتمّ. فلا أحدَ أحبُّ إليه ممن يحبّه، ويحمده، ويثني عليه. ومن أجل ذلك كان الشركُ أبغضَ الأشياءِ إليه لأنّه ينقص هذه المحبّة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به. ولهذا لا يغفر اللَّه أن يُشرَك به؛ لأنَّ الشرك يتضمّن نقصان هذه المحبّة، والتسوية فيها بينه وبين غيره. ولا ريب أنّ هذا من أعظم ذنوب المحبّ عند محبوبه التي ينقص (1) بها من عينه، وتنحطّ (2) بها مرتبتُه عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل ربّ العالمين أن يُشرَك بينه وبين غيره في المحبّة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبّه أبدًا. وعساه أن يتجاوز لمحبّه عن غيره من الهفوات (3) والزلّات في حقّه، ومتى علم بأنّه يحِبّ غيره كما يحبُّه لم يغتفر (4) له هذا الذنب ولم يقرِّبْه إليه. هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحيي العبد أن يسوّي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبوديّة والمحبّة؟ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ شيئًا دون اللَّه كما يحبّ اللَّهَ، فقد اتّخذه ندًّا. وهذا معنى قول المشركين __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "يسقط". (2) "ب": "تسقط". "ك": "يسقط". "ط": "تنقص". (3) "ف": "النفرات"، تحريف. (4) "ط": "لم يغفر".
(2/523)
في النَّار (1) لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 97 - 98]. فهذه تسوية في المحبَّة والتألُّه (2)، لا في الذات والأفعال والصفات. والمقصود أنَّه سبحانه يحبّ نفسَه أعظمَ محبَّة، ويحبُّ من يحبّه. وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعدَّ الثواب والعقاب لأجل ذلك. وهذا هو محض الحقِّ الذي به قامت السماوات والأرضِ، وكان الخلق والأمر. فإذا قامَ به العبدُ فقد جاء منه الأمر (3) الذي خُلِقَ له، فرضيَ عنه صانعه وبارئه وأحبَّه، إذ كان كما يحب ويرضى. فإذا صدف عن ذلك، وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيّده؛ أبغضه ومقته، لأنَّه خرج عمَّا خُلِقَ له، وصار إلى ضدِّ الحال التي هُيِّئ لها (4)، فاستوجب منه غضبه بدلًا من رضاه، وعقوبته بدلًا من رحمته. فكأنَّه استدعى من ربِّه (5) أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحبّ، فإنَّه سبحانه عفوٌّ يحبُّ العفو، محسنٌ يحبّ الإحسان، جوادٌ يحبُّ الجود، سبقت رحمتُه غضبَه. فإذا أبقَ منه العبدُ، وخامرَ عليه (6) ذاهبًا إلى عدوِّه، فقد __________ (1) "في النار" ساقط من "ك، ط". (2) "ط": "التأليه". (3) كذا في الأصل وفي "ف، ب". وفي "ك، ط": "فقد قام بالأمر". (4) "ك، ط": "التي هو لها"، تحريف. (5) "ط": "من رحمته"، خطأ. (6) المخامرة على فلان: المؤامرة والمواطأة عليه. تعبير مولد لم يذكر في كتب اللغة. قال المصنّف في الداء والدواء (151): "بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه"، وفي بدائع الفوائد (1210): "متى خامر من جنود عزمك عليك =
(2/524)
استدعى منه أن يجعل غضبَه غالبًا على رحمته، وعقوبَته على إحسانه؛ وهو سبحانه يحبُّ من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربِّه فعلَ ما غيرُه أحبُّ إليه منه. وهو بمنزلة عبد السَّوءِ (1) الذي يحمل أستاذَه من المخلوقين المحسنَ إليه، الذي طبيعتُه الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيّته. فأستاذه يحب بطبعه (2) الإحسان، وهو بإساءته ولؤمه يُكلِّفه ضدَّ طباعه، ويحمله على خلاف سجيته. فإذا راجع هذا العبدُ ما يحبُّ سيّدُه، ورجع إليه، وأقبل عليه، وأعرض (3) عن عدوِّه، فقد صار إلى الحالِ التي تقتضي محبَّة سيّده له وإنعامه عليه وإحسانَه إليه، فيفرح به -ولا بُدَّ- أعظمَ فرح، وهذا الفرحُ هو دليلٌ على (4) غاية الكمال والغنى والمجد. فليتدبّر اللبيبُ وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجدْ في طيِّه من المعارف الإلهية ما لا تتّسع له إلا القلوب المهيّأة لهذا الشأن المخلوقةُ له. وهذا فرحُ محسن برّ لطيف جواد غني حميد، لا فرَحُ محتاجٍ إلى حصول ما يفرح به (5)، مستكمل (6) به، مستفيد (7) له من غيره. فهو عين __________ = واحد، لم تأمن قلب الهزيمة عليك". (1) "ب": "العبد السوء". (2) "ب، ك، ط": "لطبعه". (3) "ك، ط": "رجع". (4) "على": ساقط من "ب، ك، ط". (5) "ما يفرح به" ساقط من "ط". (6) "ب، ك، ط": "متكمل". (7) "ط": "مستقبل"، تحريف.
(2/525)
الكمالِ، لازم للكمال، ملزوم له. وألطف من هذا الوجهِ أنَّ اللَّه سبحانه خلق عباده المؤمنين، وخلق كلَّ شيءٍ لأجلهم، كما قال تعالى (1) لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران/ 33]، وقال تعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه/ 41]. واتّخذ منهم الخليلين، والخلَّة أعلى درجات المحبة، وقد جاءَ في بعض الآثار: يقول تعالى (2): "ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقِّي عليك لا تشتغل بما خلقتُه لك عمَّا خلقتُك له" (3). وفي أثر آخر يقول تعالى: "ابنَ آدم، خلقتُك لنفسي، فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ برزقك، فلا تتعَبْ. ابنَ آدمَ اطلبني تجدْني، فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيءٍ، وإنْ فُتُّكَ فاتك كل شيءٍ، وأنا أحبّ إليك من كلِّ شيءٍ" (4). فاللَّه سبحانه خلق عبادَه له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقدٌ لم يعقده مع خَلْقٍ غيرهم -فيما أخبر به على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ليسلِّموا إليه النفوسَ التي خلقها له. وهذا الشِّرَى دليلٌ على أنَّها محبوبةٌ له __________ (1) أثبت في "ط" هنا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان/ 20]، وزاد: "وكرّمهم وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إلى آخر الآية [الإسراء/ 70]. ثمَّ أثبت "وقال" بين حاصرتين لتصحيح السياق. (2) "ب": ". . الآثار أنَّ اللَّه تعالى يقول". (3) ذكره المصنف في روضة المحبين (432) وشيخ الإسلام في الفتاوى (1/ 23) (ص). لم أقف عليه في مظانه، وذكره المناوي في فيض القدير (2/ 305) (ز). (4) تقدم في ص (95).
(2/526)
مصطفاةٌ عنده، مرضيّةٌ لديه. وقدرُ السلعة يُعْرَفُ بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها. هذا إذا جُهِلَ قدرُها في نفسها، فإذا عُرِفَ قدرُ السلعة، وعُرِفَ مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها، عُلِمَ شأنُها ومرتبتُها في الوجود. فالسلعة أنت، واللَّه المشتري، والثمنُ جنَّتُه والنظرُ إلى وجهه وسماعُ كلامه في دار الأمن والسلام. واللَّه سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعزَ الأشياءِ وأشرفها وأعظمها قيمةً. وإذا كان قد اختار العبدَ لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له دارًا في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته؛ ثمَّ إنَّ العبد أبق عن سيِّده ومالكه ذاهبًا عنه (1)، معرضًا عن رضاه؛ ثمَّ لم يكفه ذلك حتى خامر عليه (2)، وصالح عدوّه، ووالاه من دونه، وصارَ من جنده، مؤثرًا لمرضاته على مرضاة وليّه ومالكه = فقد باعَ نفسه -التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعلَ ثمنها جنَّته والنظرَ إلى وجهه- من عدوِّه وأبغضِ خلقه إليه، واستبدل غضبَه برضاه، ولعنتَه برحمته ومحبّته. فأيّ مقت خلَّى هذا المخدوعُ عن نفسه لم يتعرّض له من ربِّه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف/ 50]. فتأمَّل ما تحت هذه المعاتبة وما في طيِّ هذا الخطاب من سوءِ حالِ (3) هذا العبد، وما تعرّض له من المقتِ والخزي والهوان؛ ومن __________ (1) "ب": "واستمرّ ذاهبًا عنه". وهو ساقط من "ط". (2) فسّرناه آنفًا في ص (524). (3) "حال" ساقط من "ك، ط".
(2/527)
استعطافِ ربِّه واستعتابه ودعائه إيَّاه إلى العود إلى وليِّه ومولاه الحقّ الذي هو أولى به. فإذا عادَ إليه وتابَ إليه فهو بمثابة من أسرَ له العدوُّ محبوبًا له (1)، واستولوا عليه، وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب، وجاءَ إلى محبّه اختيارًا وطوعًا حتَّى توسّد عتبةَ بابه، فخرج المحِبّ من بيته، فوجد محبوبه متوسّدًا عتبة بابه واضعًا خدَّه وذقنَه عليها، فكيف يكون فرحه به؟ وللَّه المثل الأعلى. ويكفي في هذا المثلُ الذي ضربه رسوله لمن (2) فتح اللَّه عينَ قلبه، فأبصرَ ما في طيّه وما في ضمنه، وعلم أنَّه ليس كلام مجازفة (3) ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلامُ معصومٍ في منطقه وعلمه وقصده وعمله. كلُّ كلمةٍ منه في موضعها ومنزلتهًا ومقزها، لا يتعدّى بها عنه، ولا يقصّر بها. والذي يزيد هذا المعنى تقريرًا أنّ محبّة الرّب لعبده سبقَتْ محبّةَ العبد له سبحانه، فإنّه لولا محبّةُ اللَّه له لما جعَل محبّتَه في قلبه. فلمّا أحبّه ألهمه (4) حبَّه، وآثره به؛ فلمّا أحبّه العبدُ جازاه على تلك المحبّة محبّةً أعظمَ منها. فإنّه مَن تقرّب إليه شبرًا تقرّب إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليه ذراعًا تقرّب إليه باعًا، ومن أتاه مشيًا أتاه هرولةً (5). وهذا دليل على أنّ محبّة اللَّه لعبده الذي يحبّه فوق محبّة العبد له. فإذا (6) تعرّض هذا __________ (1) كذا ورد "له" مرتين في الأصل وغيره. (2) "ب": "فمن". (3) "ط": "مجاز". (4) "ك، ط": " .. قلبه فإنَّه ألهمه". (5) كما في الصحيحين من حديث أنس رضي اللَّه عنه. انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد (7405) وصحيح مسلم، كتاب التوبة (2675). (6) "ك، ط": "وإذا".
(2/528)
المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرّ من محبّه وآثر غيرَه عليه. فإذا عاوده، وأقبل إليه، وتخلّى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبُّه أعظمَ فرح وأكملَه؟ والشاهد أقوى شاهد بهذا والفطرة (1) والعقل، فلو لم يخبِر الصادقُ المصدوقُ بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت الشرعة المنزلة إلى الفطرة المكفلة (2) إلى العقل الصحيح (3) المنوّر، فذلك الذي لا غاية (4) بعده. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. فصل ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذّة التي تحصل له؛ والجزاءُ من جنس العمل. فلمّا تاب إلى اللَّه، ففرح اللَّه بتوبته، أعقبه فرحًا عظيمًا. وههنا دقيقة قلّ من يتفطّن لها إلّا فقيه في هذا الشأن. وهي أنّ كلّ تائب لا بدّ له في أوّل توبته من عَصرة وضَغطة في قلبه، من همّ أو غمّ أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلّا تألّم (5) بفراق (6) محبوبه، فينضغط لذلك وينعصر قلبه، ويضيق صدره؛ فأكثرُ الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسوا __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": ". . أقوى شاهد تؤيده الفطرة". (2) "إلى الفطرة المكملة" ساقط من "ط". (3) كلمة "الصحيح" ساقطة من "ط". (4) "ك، ط": "غاية له". (5) "ف": "تألمه"، خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط". (6) "ب": "لفراق".
(2/529)
على رؤوسهم لأجل هذه المحنة (1). والعارف الموفّق يعلم أنّ الفرحة والسرور واللذّة الحاصلة (2) عقيبَ التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلّما كانت (3) أقوى وأشدّ كانت الفرحة واللذّة أكمل وأتمّ. ولذلك أسباب عديدة: منها: أنّ هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميّتا واستعداده ضعيفًا لم يحصل له ذلك. وأيضًا: فإنّ الشيطان لصّ الإيمان، واللصّ إنّما يقصد المكان المعمور، وأمّا المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده. فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دلّ على أنّ في قلبه من الخير ما يشتدّ حرص الشيطان على نزعه منه. وأيضًا: فإنّ قوة المعارض والمضاذ تدلّ على قوة معارضه وضدّه (4)، ومثل هذا إمّا أنّ يكون رأسًا في الخير أو رأسًا في الشرّ. فإنّ النفوس الأبيّة القويّة إن كانت خيّرةً رأستْ في الخير (5)، وإن كانت شِرِّيرةً رأست في الشرّ. وأيضًا: فإنّ بحسب مدافعته (6) لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادةَ انشراحه وطمأنينته. __________ (1) "ط": "المحبة"، تصحيف. وكذا كان في "ك"، ثمَّ عدّل. (2) في الأصل: "الحاصل"، سهو. وكذا في "ف، ب". والمثبت من "ك، ط". (3) "ب": "كانت العصرة". (4) "ب": "قوة معارضة ومضادّة"، خطأ. (5) "أو رأسًا في الشرِّ. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (6) "ب، ك، ط": "موافقته"، تحريف شنيع.
(2/530)
وأيضًا: فإنّه كلّما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه. هذه سنّة اللَّه في الخلق. فانظر إلى الجنّة وعِظَمها، وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتّى أوجبَتْ أن ذهب من كلِّ ألف رجلٍ واحدٌ إليها. وانظر إلى محبّة اللَّه، والانقطاع إليه، والإنابة إليه (1)، والتبتّل إليه وحده، والأنس به، واتخاذه وليًّا ووكيلًا وكافيًا وحسيبًا؛ هل يكتسب العبد شيئًا أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتّى قد تعلّق كل قوم بما تعلّقوا (2) به دونه. والطالبون له منهم الواقف مع عمله (3)، والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقِه وجمعيّته وحظِّه من ربّه؛ والمطلوبُ منهم وراء ذلك كلّه. والمقصود أنَّ هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجلِّ الأمور وأعظمها نُصِبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميّز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميّز من يصلح ممَّن لا يصلح (4). قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت/ 1 - 3] وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك/ 2]. ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلًا أفضَتْ به إلى رياضِ الأُنس وجنَّات الانشراح؛ وإنْ لم يصبر لها انقلب على وجهه. واللَّه الموفّق، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه. __________ (1) "إليه" ساقط من "ب". (2) "ب": "قد تعلّقوا". (3) "ب": "علّة"، تحريف. (4) "ب": "ويتميّز من لا يصلح". فأسقط بعض الكلام.
(2/531)
والمقصود أنَّ هذا الفرح من اللَّه بتوبة عبده -مع أنَّه لم يأتِ نظيرُه في غيرها من الطاعات- دليلٌ على عِظَمِ قدرِ التوبة وفضلها عند اللَّه، وأنَّ التعبّد له بها من أشرف التعبّدات. وهذا يدلّ على أنَّ صاحبها يعود أكملَ ممَّا كان قبلها. فهذا بعض ما احتُجَّ به لهذا القول. وأمَّا الطائفة التي قالت: لا يعودُ إلى مثل ما كان، بل لا بدَّ أن ينقص عن حاله (1)، فاحتجّوا بأنّ الجناية تُوجب الوحشةَ وزوالَ المحبّة ونقصَ العبوديّه بلا ريب، فليس العَبد الموفر أوقاتَه على طاعة سيّده كالعبد المفرّط في حقوقه، وهذا ممّا لا يمكن جحده ومكابرته. فإذا تاب إلى ربّه ورجع إليه أثرت توبتُه تركَ مؤاخذته بالذنب والعفوَ عنه، وأمّا مقام القرب والمحبّة، فهيهات أن يعود! قالوا: ولأنّ هذا في زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السيرُ إلى اللَّه. فلو كان واقفًا في موضعه لفاته التقدّمُ، فكيف وهو في زمن المعصية (2) كان سيرُه إلى وراءَ وراءَ؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنَّه يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافةٍ حتّى يصل إلى الموضع الذي تأخّر منه. قالوا: ونحن لا ننكر أنّه قد يأتي بطاعات وأعمال تبلّغه إلى منزلته، وإنّما أنكرنا أن يكون بمجرّد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته (3). وهذا ممّا لا يكون، فإنّه بالتوبة قد وجّه وجهَه إلى الطريق، فلا يصل إلى __________ (1) "عن" ساقط من "ك، ط". (2) "فلو كان واقفًا. . " إلى هنا ساقط من "ب". وفيها: "وكان سيره إلى. . . ". (3) "وإنَّما أنكرنا. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(2/532)
مكانه الذي رجع منه إلّا بسيرٍ مستأنَفٍ يُوصله إليه. ونحن لا ننكر أنّ العبد بعد التوبة يعمل أعمالًا عظيمةً لم يكن ليعملَها قبل الذنب تُوجب له التقدّم. قالوا: وأيضًا فلو رجع إلى حاله التي كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالًا منه، فكيف يكون هذا؟ وأين سيرُ (1) صاحب الطاعة في زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقي رجلان: أحدُهما سَائرٌ نحوَ المشرق، والآخرُ نحوَ المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر، والآخرُ مجدٌ على سيره، فإنّه لا يزال سابقَه ما لم يعرض له فتور أو توانٍ؟ هذا مما لَا يمكن جحده ودفعه. قالوا: وأيضًا فمرضُ القلب بالذنوب على مثال مرضِ الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ. والمريض إذا شرب الدواءَ وصحّ، فإنه لا تعود (2) إليه قوّتُه قبل المرض؛ وإن عادت فبعدَ حين. قالوا: وأيضًا فهذا في زمن معالجة التوبة ملبوك (3) في نفسه، مشغول بمداواتها ومعالجتها؛ وفي زمن الذنب مشغول بشهوتها. والسالم من ذلك مشغول بربّه، قد قرُبَ منه في سيره. فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجّت به هذه الطائفة لقولها. __________ (1) "ط": "مسير". (2) "ف": "لا يعود". والأصل غير منقوط. (3) "ب": "مكبول"، تحريف. وكان في "ك" على الصواب فغيره بعضهم. وانظر ما سلف في ص (470).
(2/533)
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيميّة، فسمعتُه يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجزدة. فإمّا سألتُه، وإمّا سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أنّ من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود أكمل مما كان (1)، ومنهم من يعود أنقص (2) ممّا كان. فإن كان بعد التوبة خيرًا ممّا كان قبل الخطيئة، وأشدّ حذرًا، وأعظم تشميرًا، وأعظم ذلًّا وخشيةً وإنابةً، عاد إلى أرفع ممّا كان. وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور، ولم يعُدْ بعد التوبة إليها، عاد إلى أنقصَ ممّا كان عليه. وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه رضي اللَّه عنه (3). [مسألة أخرى] قلتُ: وههنا مسألةٌ، هذا الموضعُ أخصُّ المواضعِ ببيانها. وهي أنّ التائب إذا تاب إلى اللَّه توبةً نصوحًا، فهل تمُحى تلك السيئات، ويذهب لا له ولا عليه، أوإذا مُحِيتْ أُثبِت له مكان كلّ سيّئةٍ حسنةٌ؟ (4) هذا مما اختلف الناس فيه من المفسّرين وغيرهم قديمًا وحديثًا. فقال الزجّاج: "ليس يُجعَل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة" (5). __________ (1) "ب، ك، ط": "يعود إلى أكمل منها". (2) "ب، ك، ط": "إلى أنقص". (3) حكى المصنف كلام شيخ الإسلام في الداء والدواء (137)، ومدارج السالكين (1/ 368) أيضًا. وانظره بعينه في منهاج السنة (2/ 432). (4) انظر في هذه المسألة أيضًا: مدارج السالكين (1/ 378). (5) قول الزجاج بهذا اللفظ في معاني القرآن للنحاس (841)، وتفسير القرطبي =
(2/534)
قال ابن عطية: "يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة. فيكون ذلك سببًا لرحمة اللَّه إئاهم. قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن" وردّ على من قال: هو في يوم القيامة. قال: "وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذرّ يقتضي أنّ اللَّه سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحّدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذي والطبري. وهذا تأويل سعيد بن المسيّب في هذه الآية". قال ابن عطية: "وهو معنى كرم العفو" (1). هذا آخر كلامه. قلت: سيأتي إن شاءَ اللَّه ذكرُ الحديث بلفظه، والكلام عليه. قال المهدوي: "وروي معنى هذا القول عن سلمان الفارسي وسعيد ابن جبير وغيرهما". وقال الثعلبي: "قال ابن عبّاس وابن جريج والضحّاك وابن زيد: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]: يبدّلهم اللَّه بقبائح (2) أعمالهم في الشرك محاسنَ الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم (3) بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتلَ المشركين، وبالزنى عفّةً وإحصانًا. وقال الآخرون (4): يعني يبذل اللَّه سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسناتٍ يوم القيامة" (5). __________ = (7/ 53). وانظر: معاني القرآن وإعرابه (4/ 76). (1) المحرر الوجيز (4/ 221). (2) "ك، ط": "بقبيح". (3) "ب": "فيبدلهم اللَّه". (4) " ب، ك، ط": "آخرون". (5) الكشف والبيان (4/ 433).
(2/535)
وأصل القولين أنّ هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال إنه في الدنيا قال (1): هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهي حسنات؛ وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجّوا بأنّ السيّئة لا تنقلب حسنةً، بل غايتها أن تُمْحى وتُكَفَّر ويذهب أثرها. فأما أن تنقلب حسنةً فلا، فإنّها لم تكن طاعة، وإنّما كانت بغيضة (2) مكروهة للربّ، فكيف تنقلب محبوبة له (3) مرضيّة؟ قالوا: وأيضًا فالذي دلّ عليه القرآن إنّما هو تكفير السيّئات ومغفرة الذنوب، كقوله: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران/ 193]، وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى/ 25]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر/ 53]. والقرآن مملوءٌ من ذلك. وفي الصحيح من حديث قتادة، عن صفوان بن مُحرِز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعتَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في النجوى؟ قال: سمعتُه يقول: "يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربّه حتّى يضعَ عليه كنَفَه، فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ (4) فيقول: ربِّ أعرِفُ (5). قال: فإنّي قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطَى صحيفةَ حسناتِه. وأمّا الكفّار والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاءِ الذين كذبوا على اللَّه عزّ وجلّ" (6). فهذا الحديث المتفَق عليه الذي __________ (1) "ف": "هل"، سهو. (2) "ب": "معصية"، تحريف. (3) "له": ساقط من "ط". (4) "ب": "أتعرف ذنب كذا". (5) "ب": "فكيف". (6) أخرجه البخاري في كتاب المظالم (2441) وغيره، ومسلم في كتاب التوبة =
(2/536)
يتضمّن (1) العنايةَ بهذا العبد إنّما فيه سترُ ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتُها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيُتك بكلّ سيّئة منها حسنة؛ فدل على أن غاية السيّئات مغفرتُها وتجاوزُ اللَّه عنها. وقد قال تعالى في حقّ الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 35]. فهؤلاءِ خيار الخلق، وقد أخبر (2) أنّه يكفر عنهم سيئاتِ أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما عملوا (3)، وأحسن ما عملوا إنّما هو الحسنات لا السيّئات؛ فدلّ على أن الجزاء بالحسنى إنّما يكون على الحسنات وحدها. وأمّا السيّئات فحسبُها أن تلغى (4) ويبطلَ أثرها. قالوا: وأيضًا فلو انقلبت السيّئات أنفسها حسناتِ في حق التائب لكان أحسن حالًا من الذي لم يرتكب منها شيئًا، وأكثرَ حسناتِ منه، لأنّه إذا (5) شاركه في حسناته التي فعلها، وامتاز عنه بتلك السيّئات، ثمّ انقلبت له حسناتٍ، ترجَّحَ عليه. وكيف (6) يكون صاحبُ السيّئات أرجحَ ممّن لا سيّئة له؟ قالوا: وأيضًا فكما أنّ العبد إذا فعل حسناتٍ، ثمّ أتى بما يُحبِطها، __________ = (2768). (1) "ب، ك، ط": "تضمن". (2) "ك، ط": "أخبر عنهم". (3) "ط": "يعملون". (4) "ط": "السيئات فان تلغى". (5) "ب": "إذا أسيء". "ك، ط": "إذا أساء" وهي زيادة لا معنى لها. (6) "ب": "فكيف".
(2/537)
فإنّها لا تنقلب سيّئاتِ يعاقَبُ عليها، بل يبطل أثرُها، ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبتُه عدمَ ترتُّب ثوابِه عليها؛ فهكذا من فعل سيّئاتٍ ثمّ تاب منها، فإنّها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائبُ يكون ثوابه عدمَ ترتُّب العقوبة على سيّئاته، لم نُنازِعْكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة، فإنّ الحسنة تقتضي ثوابًا وجوديًّا. واحتجّت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيّئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيّئة. وهذا إنّما يكون في السيّئة المحقّقة، وهي التي قد فُعِلتْ ووقَعتْ؛ فإذا بُدِّلت حسنةً كان معناه أنّها مُحِيت وأُثبتَ مكانها حسنةٌ. قالوا: ولهذا قال سبحانه: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكَّر الحسناتِ ولم يُضفها إليهم لأنَّها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرَّد فضل اللَّه وكرمه. قالوا: وأيضًا فالتبديل في الآية إنَّما هو فعل اللَّه، لا فعلهم؛ فإنَّه أخبر أنَّه هو يُبدِّل سيّئاتِهم حسناتٍ. ولو كان المراد ما ذكرتم لأضافَ التبديل إليهم، فإنَّهم هم الذين بدَّلوا (1) سيّئاتهم حسنات. والأعمال إنَّما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة/ 59]. وأمَّا ما كان من غيِر الفاعل فإنَّه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ/ 16]. فلمَّا أخبر سبحانه أنَّه هو الذي يبدِّل سيئاتهم حسنات، دلَّ على أنَّه شيء فعله __________ (1) "ك، ط": "يبدّلون".
(2/538)
هو سبحانه بسيّئاتهم، لا أنَّهم فعلوه من تلقاءِ أنفسهم، وإن كان سببُه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. قالوا: ويدلّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه (1) من حديث الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لأعلم آخرَ أهلِ الجنَّة دخولًا الجنَّة، وآخِرَ أهل النَّارِ خروجًا منها: رجلٌ يُؤتَى به يومَ القيامة فيقال: اعرضُوا عليه صغارَ ذنوبه، وارفعوا عنه كبارَها. فتُعرَضُ عليه صغارُ ذنوبه فيقال: عملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، وعملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم. لا يستطيع أن يُنكر، وهو مشفِق من كبار ذنوبه أن تُعرَضَ عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً. فيقول: ربِّ، قد عملتُ أشياءَ لا أراها ههنا" فلقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحِكَ حتَّى بدَتْ نواجذُه. وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يؤتى بالرجل يومَ القيامة، فيقال: اعرِضوا عليه صغارَ ذنوبه. قال: فتُعرَض عليه، ويُخَبَّأ عنه كبارُها. فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ وهو مُقِرٌّ لا ينكر، وهو مشفِق من الكبار. فيقال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيئةٍ عمِلَها حسنةً. قال: فيقول: إنَّ لي ذنوبًا ما أراها". فلقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحك حتَّى بدت نواجذُه (2). قالوا: وأيضًا فروى أبو حفص المستملي، عن محمد بن عبد العزيز __________ (1) في كتاب الإيمان (190). (2) المسند (21393) وقال محققه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". ومن طريقه أخرجه مسلم في الإيمان (190/ 315).
(2/539)
ابن أبي رِزْمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعي، عن أبي العنبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيَتَمَنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثروا من السيّئات". قيل: مَن هم؟ قال: "الذين بدّل اللَّهُ (1) سيّئاتِهم حسناتٍ" (2). قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة، فإنَّهم إنَّما سُمُّوا "أبدالًا" لأنهم بدَّلوا أعمالهم السيّئة بالأعمال الحسنة، فبدَّل اللَّهُ سيّئاتِهم التي عملوها حسناتٍ. قالوا: وأيضًا فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدَّلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدَّلها اللَّهُ من (3) صُحُفِ الحَفَظة حسناتٍ جزاءً وفاقًا. قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاجُ بحديث أبي ذرّ على صحّة قولكم، وهو صريح في أنَّ هذا الذي قد بُدِّلت سيّئاته حسنات قد عُذِّبَ عليها في النَّار حتَّى كان آخرَ أهلها خروجًا منها؟ فهذا قد عوقب على سيّئاته، فزال أثرُها بالعقوبة، فبُدِّل مكانَ كلّ سيّئة منها حسنةً. وهذا حكمُ غير (4) ما نحن فيه، فإنَّ الكلام في التائب من السيّئات، لا فيمن مات مصرًّا عليها غيرَ تائب منها (5)، فأين أحدهما من الآخر؟ __________ (1) لفظ الجلالة ساقط من "ط". (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (15429)، والحاكم (4/ 252) وقال: "أبو العنبس هذا سعيد بن كثير وإسناده صحيح ولم يخرجاه". وأبو العنبس ثقة، لكن فيه كثير بن عبيد والد أبي العنبس، رضيع عائشة، تابعي سمع عائشة وروى عنه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يبعد سماعه من أبي هريرة. (ز). (3) "ف": "في"، خلاف الأصل. (4) "ب": "على غير". (5) "منها" ساقط من "ب، ك، ط".
(2/540)
وأمَّا (1) حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسنادًا ومتنًا، إلا أنَّه مختصر. وأمَّا حديث أبي هريرة فلا يثبت مثلُه. ومن أبو العنبس ومن أبوه حتّى يُقبَل منهما تفرّدُهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصحّ مثل هذا الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع شدَّة حرصه على التنفير من السيّئات، وتقبيح أهلها، وذفهم وعيبهم، والإخبار بأنَّها تنقص الحسنات وتضادّها؟ فكيف يصحّ عنه (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه يقول: "ليتمنينَّ أقوام أنَّهم أكثروا منها"؟ ثمَّ كيف يتمنَّى المرءُ إكثاره منها، مع سوء عاقبتها، وسوءِ مغبّتها؟ وإنَّما يُتمنَّى الإكثارُ من الطاعات. وفي الترمذيّ مرفوعًا: "لَيتمنينَّ أقوامٌ يومَ القيامة أنَّ جلودَهم كانت تُقرَض بالمقاريض، لِما يَرون من ثواب أهل البلاءِ" (3). فهذا فيه تمنّي البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله (4). وأمَّا تمنِّي الحسناتِ، فهذا لا ريب فيه؛ وأمَّا تمنِّي السيئات، فكيف يتمنَّى العبدُ أنَّه كان (5) أكثرَ من السيّئات؟ هذا ما لا يكون أبدًا. وإنَّما يتمنَّى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأمَّا تمنّيه أنَّه __________ (1) "ف": "فأما"، خلاف الأصل. (2) "ب": "عن رسول اللَّه". (3) أخرجه الترمذي (2402) من حديث جابر وقال: "وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من هذا الوجه، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق قوله شيئًا من هذالا. والصواب أنَّه من قول مسروق مقطوع كما أشار إليه الترمذي، وأخرجه ابن أبي شيبة (10829) وسنده صحيح إلى مسروق. وجاء من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفًا عند ابن أبي شيبة (35590) وفيه جهالة الرجل من النخع. (ز). (4) زاد في "ط": "وهو تمني الحسنات". (5) "كان" ساقط من "ط".
(2/541)
ازداد من إساءته، فكلَّا! قالوا: وأمَّا ما ذكرتم من أنَّ التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيّئه، فحقٌّ، وكذلك نقول إنَّ الحسنة المفعولة صارت في مكان السيّئة التي لولا الحسنة لحلَّت محلّها. قالوا: وأمَّا احتجاجكم بإضافةِ السيّئاتِ إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيّئات الواقعة؛ وتنكير الحسنات، وهو يقتضي أن تكون حسناتٍ من فضل اللَّه = فهو حقٌّ بلا ريب، ولكن من أين يُنفَى (1) أن يكون فضلُ اللَّه بها مقارنًا لكسبهم إيَّاها بفضله؟ قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ التبديل مضاف إلى اللَّه لا إليهم، وذلك يقتضي أنَّه هو الذي بدَّلها سبحانه من الصحف، لا أنَّهم هم الذين بدَّلوا الأعمال بأضدادها؛ فهذا (2) لا دليلَ لكم فيه (3)، فإنَّ اللَّه تعالى خالق أفعال العباد، فهو المبدّل للسيّئات حسناتٍ خلقًا وتكوينًا، وهم المبدّلون لها فعلًا وكسبًا. قالوا: وأمَّا احتجاجكم بأنَّ الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدّلوا سيّئات أعمالهم بمحاسنهم (4)، بدَّلها اللَّهُ كذلك في صحف الأعمال؛ فهذا حقّ، وبه نقول، وأنَّه بُدِّلت السيّئات التي كانت مهيّأة معدَّة (5) أن تحلّ في الصحف بحسناتٍ حلَّت موضعها. __________ (1) "ب، ط": "يبقى"، تصحيف. (2) "ب": "وهذا". (3) "فيه": ساقط من الأصل، "ف، ك". (4) "ب، ك، ط": "بحسناتهم". (5) "ك، ط": "ومعدة".
(2/542)
فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحطّ نظر الفريقين. وإليك أيّها المنصف الحكمَ بينهما، فقد أدلى كلّ منهما بحجّته، وقام ببيّنته (1)، والحقُ لا يعدوهما ولا يتجاوزهما (2). فأرشدَ اللَّهُ من أعانَ (3) على هدًى، فنال به درجةَ الدَّاعين إلى اللَّه القائمين ببيان حججه ودينه؛ أو عذَرَ طالبًا منفردًا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق، فغايةُ أمنيّته أن يُخلَّى بينه وبين سيره، وأن لا يُقطع عليه طريقُه. فمن رُفع له مثل هذا العَلَم، ولم يشمّر إليه، فقد رضي بالدون، وحصل على صفقة المغبون. ومن شمَّر إليه، ورامَ أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدّى له ممانع، فقد منَّى نفسه المحال! وإن صبر على لأوائها وشدّتها، فهو -واللَّه- الفوز المبين والحظّ الجزيل. وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب. فالصواب (4) -إن شاء اللَّه- في هذه المسألة أن يقال: لا ريب أنَّ الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنَّما هي أمرٌ وجوديّ يقتضي ثوابًا، ولهذا كان تارك المنهيّات إنَّما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي، وذلك الكفّ والحبس أمرٌ وجوديّ هو (5) متعلَّق الثواب. وأمَّا من لم يخطر بباله الذنبُ أصلًا، ولم يحدّث به نفسَه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثلُ هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابًا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما __________ (1) "ك، ط": "أقام بينته". (2) "ب": "لا يجاوزهما". (3) "ف": "دل"، خلاف الأصل. (4) "ب": "والصواب". (5) "ط": "وهو".
(2/543)
لا يحصى، فإنَّ الترك مستصحَب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كلّه؟ هذا ممَّا لا يُتوهَّم. وإذا كانت الحسنة لا بدّ أن تكون أمرًا وجوديًّا، فالتائب من الذنوب التي قد عملها (1) قد قارن كلَّ ذنب منها ندمًا عليه، وكفَّ نفسِه عنه، وعزمَه (2) على تركِ معاودته، وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثرَ الذنب، وخلَفَه هذا الندم والعزمُ، وهو حسنة، فقد بُدِّلت (3) تلك السيّئةُ حسنةً. وهذا معنى قول بعض المفسِّرين: "يجعل مكان السيّئة التوبة، والحسنة مع التوبة" (4). فإذا كانت كلُّ سيّئةٍ من سيّئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلَّت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أنَّ السيّئة نفسها تنقلب حسنة. ولهذا (5) قال بعض المفسّرين في هذه الآية: "يعطيهم بالندم على كلّ سيّئة أساؤوها حسنة". وعلى هذا فقد زالَ بحمد اللَّه الإشكالُ، واتَّضح الصوابُ، وظهر أنَّ كلَّ واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجَب العلم والحجّة. وأمَّا حديث أبي ذرّ -وإن كان التبديل فيه في حقّ المصرّ الذي عُذِّب على سيئاته- فهو يدلّ بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيّئاته. فإنَّ الذنوب التي عُذِّب عليها المصرُّ لمَّا زال أثرُها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه اللَّه مكان كلّ سيئة منها حسنةً، لأنَّ __________ (1) "ط": "التي عملها"، فحذف "قد". (2) "ب": "وكفًّا عنه وعزمًا على". "ط": "وعزم". (3) "ك، ط": "قد بدلت". (4) وهو قول الزجاج، كما سبق. (5) "ولهذا" ساقط من "ك، ط".
(2/544)
ما حصلَ له يوم القيامة من الندم المفرِط عليها مع العقوبة اقتضى (1) زوال أثرها وتبديلها حسناتٍ، فإنَّ النَّدم لم يكن في وقت ينفعه، فلمَّا عوقب عليها وزال أثرُها بدَّلها اللَّه له حسناتٍ، فزوالُ أثرها بالتوبة النصوح أعظمُ من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زواله بالعقوبة حسناتٍ، فلأن تُبَدَّل بعد زوالها بالتوبة حسناتٍ أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة، لأنَّ التوبة فعل اختياري أتى به العبدُ طوعًا ومحبَّة للَّه وفرَقًا منه. وأمَّا العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره (2)، بل بفعل اللَّه، ولا ريب أن تأثيرَ الأفعال الاختيارية التي يحبها اللَّه ويرضاها في محو أثر الذنوب (3) أعظمُ من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره. ولنرجع الآن إلى المقصود، وهو الكلام على (4) ما ذكره أبو العبّاس ابن العريف في علل المقامات. فقد ذكرنا كلامَه في علَّة مقام الإرادة والكلامَ عليه، وذكرنا كلامه في مقام الزهد وقوله إنَّه من مقامات العامَّة (5)، وذكرنا أنَّ الكلامَ على ذلك من وجوه، هذا آخرُ الوجه الثاني منها (6). الوجه الثالث أن يقال: قوله: "الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن __________ (1) "ط": "لا يقتضي"، ولعلَّه تغيير من الناشر. (2) "ب": "بلا اختياره". (3) "ك، ط": "محو الذنوب". "ب": "محو أثر الذنب". (4) "الكلام على" ساقط من "ط". (5) "والكلام عليه. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط". (6) وقد سبق أوّله في ص (493).
(2/545)
انتقادها (1) " إلى آخر الفصل، إن أراد به أنَّ زهده دليلٌ على (2) تعظيمه للدنيا (3) وأنَّ لها في قلبه من القدرِ والمنزلة ما يُكرِه لأجله نفسَه على تركها، أو مستلزم (4) لذلك؛ فالزهدُ (5) لا يدلُّ على هذا التعظيم، ولا يستلزمه، وإن كان من عوارض غلبات الطباع (6) التي تُذَمّ مساكنتُها وانحجابُ القلب بها. بل زهده فيها دليلٌ على خروج عظمتها (7) من قلبه، وقلَّة (8) مبالاته بها، وترك الاهتبال بشأنها؛ فكيفَ يكون هذا نقصًا بوجه؟ بلى (9)، النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة (10): إمَّا (11) أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوَّةً له على سيره، ومعونةً له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هي أن تزهد فيما لا ينفعك. والورع أن تتجنَّب (12) ما قد يضرّك. فهذا الفرق بين الأمرين. الثاني: أن يكون زهده مشوبًا إمَّا بنوع عجز أو ملالة وسآمة __________ (1) "ط": "عن الانتفاع بها"، تحريف غريب. (2) "تعظيم للدنيا. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (3) "ب، ط": "تعظيم الدنيا". "ك": "تعظيم للدنيا". (4) "ف": "أن يستلزم"، تحريف. (5) "ط": "فإنّ الزهد". (6) "ب، ك، ط": "الطبع". (7) في "ف" وغيرها: "عظمها"، ولعل صواب قراءة الأصل ما أثبت. (8) "قلة" ساقط من "ط". (9) كذا في الأصل و"ف". وفي غيرها: "بل". (10) "ثلاثة" ساقط من "ط". (11) "ط": "أولها". (12) "ف": "تجتنب"، خلاف الأصل. وكذا في "ك".
(2/546)
وتأذّيه بها وباهلها، وتعَبِ قلبِه بشغله بها، ونحو هذا من المزهّدات فيها. كما قيل لبعضهم: ما الذي أوجبَ زهدَك في الدنيا؟ قال: قلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها، وخِسَّةُ شركائها (1). فهذا زهد ناقص، فلو صفَتْ للزاهد من تلك العوارض لم يزهد فيها؛ بخلاف من كان زهده فيها لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته في اللَّه وقربه؛ فهذا لا نقص في زهده، ولا علَّة من جهة كونه زهدًا. الثالث: أن يشهد زهدَه ويلحظه، ولا يفنى عنه بما زهِد لأجله؟ فهذا نقص أيضًا. فالزهدُ كلّه أن تزهد في رؤية زهدك، وتغيب (2) برؤية الفضل ومطالعة المنَّة، وأن لا تقف عنده فتنقطع (3). بل أعرِضْ عنه جادًّا في سيرك، غيرَ ملتفتٍ إليه، مستصغرًا لحاله بالنسبة إلى مطلوبك (4). مع أنَّ هذه العلَّة مطردة في جميع المقامات على ما فيها، كما سيُنبّه (5) عليه إن شاء اللَّه. فإنَّ ربطَ هذا الشأن بالنصوص النبويّة والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهمِّ الأمور، فلا يحسن بالنَّاصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرّد تقليد أهله، فما أكثرَ غلطهم فيه، وتحكيمَهم فيه (6) مجرَّدَ الذوق، وجَعْلَ حكمَ ذلك الذوقِ كلّيًّا عامًّا! __________ (1) ذكره المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 429)، ومدارج السالكين (2/ 32). (2) "ط": "تغيب عنه". (3) "ف": "فينقطع"، والصواب ما أثبتنا من "ب، ط". وفي "ك": "منقطع" تحريف. (4) "إلى مطلوبك" سقط من "ف". (5) ضبط في الأصل بالياء، وفي "ب، ك، ط": "سننته". (6) "فيه": ساقط من "ب، ك، ط".
(2/547)
فهذه ونحوها (1) من مثارات الغلط. الوجه الرَّابع: أنَّ الزهد على أربعة أقسام: أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام. وهذا متى أخلَّ به انعقد سبب العقاب، فلا بدَّ من وجود مسبَّبه، ما لم ينعقد سبب آخر يضادّه. الثاني: زهد مستحبّ، وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنّن (2) في الشهوات المباحة. الثالث: زهد الدَّاخلين في هذا الشأن، وهم المشمّرون في السير إلى اللَّه. وهو نوعان: أحدهما: الزهد في الدنيا جملةً، وليس المراد تخليتها (3) من اليد ولا إخراجها وقعوده صِفْرًا منها، وإنَّما المراد إخراجها من قلبه بالكلّية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكِن قلبَه وإن كانت في يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك؛ وإنَّما الزهد أن تتركها من قلبك، وهي في يدك. وهذا كحال الخلفاء الرَّاشدين، وعمر بن العزيز الذي يضرب بزهده المثل، مع أنَّ خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيّد ولد آدم -صلى اللَّه عليه وسلم- حين فُتِحَ عليه (4) من الدنيا ما فُتِحَ، ولا يزيده ذلك إلا __________ (1) "ك، ط": "فهذا ونحوه"، وقد سقط "نحوها" من "ب". (2) "ف": "اليقين"، تصحيف. (3) "ف": "عليها"، تحريف. "ط": "تخليها". (4) "ط": "فتح اللَّه عليه".
(2/548)
زهدًا فيها. ومن هذا الأثر المشهور، وقد روي مرفوعًا وموقوفًا: "ليس الزهدُ في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعةِ المال، ولكنّ الزهدَ في الدنيا أن تكون بما في يد اللَّه أوثقَ منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ بها أرغبَ منك فيها لو أنَّها بقيتْ لك" (1). والذي يصحّح هذا الزهد ثلاثةُ أشياء: أحدها: علم العبد أَّنها ظلٌّ زائل، وخيالٌ زائر، وأنَّها كما قال تعالى فيها: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد/ 20] (2). وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس/ 24]. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ __________ (1) أخرجه الترمذي (2340) وقال فيه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلآ من هذا الوجه. . . وعمرو بن واقد منكر الحديث"، وابن ماجه (4100)، وابن عدي في الكامل (6/ 208) من حديث أبي ذر مرفوعًا، وسنده ضعيف جدًّا. والصواب أنَّه من قول أبي مسلم الخولاني، أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (18) من حديث الخولاني موقوفًا عليه. (ز). (2) أثبت الآية في "ط" من أولها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا. . .}.
(2/549)
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف/ 45]. وسمَّاها سبحانه "متاع الغرور" (1)، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوءِ عاقبة المغترّين بها (2)، وحذَّرنا مثل مصارعهم، وذمّ من رضي بها واطمأنَّ إليها. وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا! إنَّما أنا كراكبٍ قال في ظلّ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتَرَكَها" (3). وفي المسند عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث معناه: أنَّ اللَّه جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلًا للدنيا، فإنَّه وإن قزَحه (4) وملَحه فلينظر إلى ماذا يصير! (5) فما اغترَّ بها ولا سكن إليها إلا ذو همَّة دنيّة، وعقل حقير، وقدر خسيس! __________ (1) في الآية المذكورة من سورة الحديد وفي سورة آل عمران (185). (2) "بها" ساقط من "ط". (3) أخرجه أحمد (3709)، والترمذي (2377) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (4109) والحاكم (7858). والحديث صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي. (ز). (4) "ك، ط": "فوّحه"، تصحيف. وقزح الطعام وقزّحه: تَوبَلَه من القِزح، وهو التابل الذي يطرح في القدر كالكمّون والكزبرة ونحو ذلك. النهاية (4/ 58). (5) ولفظ الحديث: "إن مطعم ابن آدم جُعِل مثلًا للدنيا، وإن قزَحه وملَحه، فانظروا إلى ما يصير" أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائده (21239)، وابن حبان (702)، وابن أبي عاصم في الزهد (205) وغيرهم من حديث أبي بن كعب. والحديث اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف هو الصواب. انظر: تحقيق المسند (35/ 162). (ز).
(2/550)
الثاني: علمُه أنَّ وراءها دارًا أعظمَ منها قدرًا وأجلّ خطرًا، وهي دار البقاء؛ وأنَّ نسبتها إليها كما قال النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخِل (1) أحدُكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بمَ ترجع؟ " (2). فالزاهد فيها بمنزلة رجل في يده درهم زغَل قيل له: اطرحه ولك (3) عوضه مائة ألف دينار مثلًا، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزاهد فيها لكمال رغبته فيما هو أعظم منها زَهِد فيها (4). الثالث: معرفته أنَّ زهدَه فيها لا يمنعه شيئًا كُتِبَ له منها، وأنَّ حرصه عليها لا يجلُب له ما لم يُقضَ له منها. فمتى تيقّن ذلك، وصار له (5) علم اليقين، هان عليه الزهد فيها. فإنّه متى تيقَّن ذلك، وثلَج له صدرُه، وعلم أنَّ مضمونه منها (6) سيأتيه، بقي حرصه وتعبه وكدّه ضائعًا؛ والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك. فهذه الأمور الثلاثة تُسهّل على العبد الزهدَ فيها، وتُثبّت قدمَه في مقامه. واللَّه الموفّق لمن يشاء. النوع الثاني (7): الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقّها، __________ (1) "ك، ط": "يجعل". (2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي اللَّه عنه. (3) "ب، ك، ط": "فلك". والمثبت من "ف". وهو أقرب إلى الأصل. (4) "ط": "فالزهد فيها لكمال الرغبة. . زهد فيها"! (5) زاد في "ط" بعد "له ": "به". (6) "ف": "فيها"، خطأ. (7) من زهد المشمّرين في السير إلى اللَّه. والنوع الأول قد سلف في ص (548).
(2/551)
وأكثر الزاهدين إنَّما وصلوا إليه ولم يلِجوه (1)، فإنَّ الزاهد يسهِّل عليه الزهدَ في الحرام سوءُ (2) مغبّته وقبحُ ثمرته، وحمايةً لدينه، وصيانةً لإيمانه، وإيثارًا للّذة والنعيم على العذاب، وأنفةً من مشاركة الفساق والفجرة، وحميّةٌ من أن يستأسرَ (3) لعدوّه. ويسهِّل عليه الزهدَ في المكروهاتِ وفضولِ المباحات علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم. ويسهّل عليه زهدَه في الدنيا معرفتُه بما وراءها وما يطلبه من العوض التامّ والمطلب الأعلى. وأمَّا الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكَين، وهو نوعان: أحدهما وسيلة وبداية. وهو أن تميتَها، فلا تُبقيَ لها عندك من القدر شيئًا (4)، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها. قد سبَّلتَ (5) عِرضَها ليوم فقرها وفاقتها، فهي أهوَنُ عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبَها إذا دعتك، أو تكرمَها إذا عصتك، أو تغضبَ لها إذا ذُمَّتْ، بل هي عندك أنجسُ (6) ممَّا قيلَ فيها، أو ترفّهها __________ (1) "ف": "ولم يلحقوه"، تحريف. (2) كذا في الأصلِ، وقد ضُبطَ فيه الفعل "يسهّل" بالتشديد، وهو موافق لصياغة الجملتين التاليتين. ولكن المشكل "إيثارًا" الذي وقع في آخر السطر في الأصل، و"للذة، في أول السطر التالي، فضبط ناسخ "ف": "حماية" بالنصب ليكون ما بعدها معطوفًا عليه، ولعلّ المؤلف نصب "حماية" وما بعده على التوهم ناظرًا إلى المعنى. وفي "ب، ط": "لسوء مغبته وقبح ثمرته وحمايةً"، ولا إشكال فيه. (3) استأسر له: استسلم لأسره. (4) "ط": "فلا يبقى. . . شيء". (5) سئل الشيء: أباحه وجعله في سبيل اللَّه. (6) كان النقطة في الأصل فوق الخاء، ووضع ناسخ "ف" تحت الحاء علامة الإهمال وكذا في "ب". فقراءتهما: "أنحس". وفي "ك، ط": "أخسّ"، ولعلّه =
(2/552)
عمَّا فيه حظّك وفلاحك وإن كان صعبًا عليها. وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عينُ حياتها وصحّتها، ولا حياة لها بدون هذا البتّة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرِف منها على منازل المقرّبين، وينحدر منها إلى وادي البقاء، ويشرب من عين الحياة، وتخلص (1) روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلَّق بربِّها ومعبودها ومولاها الحق. فيا قرَّةَ عينها به! ويا نعيمها وسرورها بقربه! ويا بهجتها بالخلاص من عدوّها، ومصيرها إلى وليّها ومولاها (2) ومالك أمرها ومتولِّي مصالحها! وهذا الزهد هو أوَّل نَقْدةٍ من مَهر الحبّ، فيا مفلسُ تأَخَّرْ! والنوع الثاني: غاية وكمال. وهو أن تبذلها (3) للمحبوب جملةً بحيث لا تستبقي منها شيئًا، بل تزهد فيها زهدَ المحبّ في قدر خسيس من ماله، قد تعلَّقت رغبةُ محبوبه به، فهل يجد (4) من قلبه رغبةً في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحبّ الصادق في نفسه، قد خرج عنها، وسلَّمها لربّه، فهو يبذلها له دائمًا يتعرّض (5) منه لقبولها. __________ = أنسب لكثرة دوران مادة الخشة في كلام المولف، ولكنّي أثبتّ ما هو أقرب إلى رسم الكلمة في الأصل. (1) "ك، ط": "يخلص". (2) "ط": "من عدوّها و [اللجوء إلى] مولاها" لبياض كان -فيما يبدو- في أصل الناشر. (3) في "ك، ط": "يبذلها" و"يستبقي" و"يزهد" وهي في الأصل بالتاء. (4) "ف": "تجد"، تصحيف. (5) "ك": "متعرض"."ط": "بتعرض".
(2/553)
وجميع مراتب الزهد المتقدّمة مبادٍ (1) ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصحّ إلا بتلك المراتب. فمن رامَ الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعنٍّ (2) متمنٍّ، كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم، كما (3) قال بعض السلف: "إنَّما حُرموا الوصول بتضييع الأصول" (4)، فمَن ضيَّع الأصولَ مُنِعَ (5) الوصول. وإذا عُرِفَ هذا فكيف يُدَّعى أنَّ الزهد من منازل العوامّ وأنَّه نقص في طريق الخاصَّة؟ وهل الكمال إلا في الزهد، وما النقص إلا في نقصانه؟ واللَّه الموفق للصواب. __________ (1) كذا في الأصل وغيره بتنوين الكسر، وأصله "مبادئ" بالهمزة، فلمّا سهّلها أجراها كمجارٍ. (2) "ط": "فتمعن"، تحريف. (3) "كما" ساقط من "ب، ك، ط". (4) كذا نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/ 212). وهو من كلام محمد ابن أبي الورد المتوفى سنة 263 هـ، وكان هو وأخوه أحمد من جلّة مشايخ العراقيين ومن جلساء الجنيد وأقرانه. ونصّ قوله كما نقله أبو نعيم: "آفة الخلق في حرفين: اشتغال بنافلة وتضييع فريضة، وعمل جوارح بلا مواطأة القلب. وإنّما منعوا الوصول بتضييع الأصول". انظر: الحلية (10/ 336)، وصفة الصفوة (1/ 468)، وطبقات الصوفية (249). (5) "ب، ك، ط": "حرم".
(2/554)
فصل المثال الثالث (1): التوكّل. قال أبو العبّاس: "هو للعوامّ أيضًا؛ لأنَّه كِلتُكَ أمرَك (2) إلى مولاك، والتجاؤكَ إلى علمه ومعرفته (3) لتدبير أمرك وكفاية همّك. وهذا في طريق الخواصّ عمًى عن الكفاية (4)، ورجوعٌ إلى الأسباب؛ لأنَّك رفضتَ الأسبابَ، ووقفتَ مع التوكّل، فصارَ بدلًا عن تلك الأسباب؛ فكأنَّك (5) معلَّق بما رفضتَه من حيث معتقدك الانفصال. وحقيقة التوكّل عند القوم: التوكّلُ في تخليص القلب من علّة التوكّل، وهو أن يعلم أنَّ اللَّه تعالى لم يترك أمرًا مهملًا، بل فرغ من الأشياء وقدرها. وإن اختلف __________ (1) تقدّم من قبل المثال الأول للإرادة، والمثال الثاني للزهد، فهذا المثال الثالث للتوكل، ولكن المؤلف رحمه اللَّه كتب أولًا: "الثالث" ثمَّ ضرب عليه وكتب "الرابع"، ومشى على هذا الترقيم! وكذا في النسخ الأخرى و"ط". ونته في حاشية "ب" على الخطأ. ولعلّ سبب الخطا أن التوكل هو الفصل الرابع في كتاب ابن العريف، والفصل الأوّل في المعرفة والعلم ولم يتكلّم عليه ابن القيّم. فلما كتب "الثالث " -وكان مصيبًا في ذلك- ثم رجع إلى كتاب ابن العريف لينقل من كلامه رأى أنّ التوكل هو الفصل الرّابع، فضرب على الثالث وكتب "الرابع"، واللَّه أعلم. (2) "ب": "وكلك أمرك". "ط": "وكل أمرك". (3) محاسن المجالس: "رأفته". (4) "ب، ك، ط": "الكفاية به"، وهو وهم فإنَّ رسم "الكفاية" في الأصل "اللفابه" والنقطة التي تحت الكلمة هي نقطة الفاء لكلمة "فكأنك" في السطر التالي. فظنها ناسخ نقطة الباء وقرأ: "به". (5) "ب، ك، ط": "فإنك". والصواب قراءة "ف". وكذا في المجالس.
(2/555)
منها شيء في المعقول (1)، أو تشوّش في المحسوس، أو اضطرب في المعهود، فهو المدبّر له، وشأنه سَوقُ المقادير إلى المواقيت. والمتوكّل من أراح نفسه من كدِّ (2) النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواء الحالين عنده، وهو أن يعلم أنَّ الطلبَ لا يجمع، والتوكّل لا يمنع. ومتى طالع بتوكّله عرَضًا (3) كان توكّلُه مدخولًا، وقصدُه معلولًا. فإذا خلص من رقّ هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكّله سوى خالص حقِّ اللَّه، كفاه اللَّه تعالى كلَّ مهمٍّ". ثمَّ ذكر حكايةَ عن موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه في رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ، فوجد الذئب واضعًا عصاه على عاتقه يرعاها، فعجب من ذلك، فأوحى اللَّه إليه: "يا موسى، كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد" (4). فيقال: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: أنَّ جعلَه التوكّلَ من منازل العوامّ باطلٌ كما تقدّم، بل الخاصّة أحوَج إليه من العامَّة، وتوكّل الخواصّ أعظم من توكّل العوامّ. __________ (1) "ب، ك، ط": "العقول"، والمثبت من "ف" والمجالس. وقد سبق أنّ رأس الميم يكاد يخفى أحيانًا في رسم الأصل. (2) "ك، ط": "كلّ". وفي المجالس: "عن كد". (3) في المجالس: "عوضًا". (4) محاسن المجالس (79 - 80). وقد نقل المصنف معظم كلام ابن العريف هذا بلفظه في مدارج السالكين (3/ 471 - 472) دون نسبته إليه، ثمَّ ردّ عليه. وقال في بدائع الفوائد (767): "وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدّة حاجة العبد إليه في كتاب "الفتح القدسي" وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنَّه من مقامات العوام، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة، وبيّنا أنّه من أجلّ مقامات العارفين. . . ".
(2/556)
والتوكّلُ مصاحبٌ للصادق من أوّل قدم يضعه في الطريق إلى نهايته، وكلَّما ازداد قربُه وقوِي سيرُه ازداد توكّله. فالتوكّل مَركَبُ السائر الذي لا يتأتّى له السيرُ إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته. وهو من لوازم الايمان ومقتضياته. قال اللَّه تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة/ 123]. فجعل التوكّل شرطًا في الإيمان، فدلَّ على انتفاءِ الإيمان عند انتفاء التوكّل. وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس/ 84] فجعل دليل صحّة الإسلام التوكّل. وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران/ 122] فذكرُ اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليلٌ على استدعاءِ الإيمان للتوكّل، وأنَّ قوَّة التوكّل وضعفه بحسب قوَّة الإيمان وضعفه. فكلَّما (1) قوي إيمان العبد كان توكّله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكّل، وإذا كان التوكّل ضعيفًا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بدّ. واللَّه تعالى يجمع بين التوكّل والعبادة، وبين التوكّل والإيمان، وبين التوكّل والتقوى (2)، وبين التوكّل والإسلام، وبين التوكّل والهداية. فأمَّا التوكّل والعبادة، فقد جمع سبحانه بينهما في سبعة مواضع من كتابه: __________ (1) "ب، ك، ط": "وكلّما". (2) "بين التوكّل والتقوى" مؤخر في "ط" على "بين التوكّل والإسلام"، ولعلّ الناشر أو ناسخ أصله نظر إلى ترتيب الأمثلة الآتية التي قدّمت فيها أمثلة الجمع بين التوكّل والإسلام.
(2/557)
أحدها: في سورة أمّ القرآن فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]. الثاني: قوله حكايةً عن نبيّه (1) شعيب أنَّه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود/ 88]. الثالث: قوله حكاية عن أوليائه وعباده المؤمنين أنَّهم قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة/ 4]. الرابع: قوله تعالى لنبيّه محمّد -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل/ 8 - 9]. الخامس: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} (2) [هود/ 123]. السادس: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج/ 78]. السابع: قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد/ 30]. فهذه السبعُ مواضع (3) جمعت الأصلين: التوكّل وهو الوسيلة، __________ (1) لفظ "نبيّه" ساقط من "ط". (2) ضبط "يَرجع" في "ف، ب" بالبناء للمعلوم وهي قراءة غير نافع وحفص. ثم في "ف، ك": "يعملون" بالياء، وقرأ بها غير نافع وابن عامر وحفص. انظر: الإقناع (2/ 667). (3) كذا في الأصل و"ف، ب". ولعلّه ذكّر العدد لأنّ المقصود بها الآيات. وأما تحلية العدد المضاف باللام دون المضاف إليه، فعلى نحو ما جاء في حديث =
(2/558)
والإنابة وهي الغاية، فإنَّ العبد لا بدَّ له من غايةِ مطلوبة، ووسيلةٍ (1) مُوصِلة إلى تلك الغاية. فأشرفُ غاياته التي لا غاية له أجلّ منها عبادةُ ربِّه والإنابة إليه، وأعظمُ وسائله التي لا وسيلة له غيرها البتّة التوكّلُ على اللَّه والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة. فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل. وأمَّا الجمع بين الإيمان والتوكّل، ففي مثل قوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك/ 29]. ونظيره قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة/ 23] وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران/ 122]. وأمَّا الجمع بين التوكّل والإسلام، ففي قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس/ 84]. وأمَّا الجمعُ بين التقوى والتوكّل، ففي مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} إلى قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} [الأحزاب/ 1 - 3]، وقوله تعالىِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق/ 2 - 3]. وأمَّا الجمع بين التوكّل والهداية، ففي قول (2) الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا __________ = أبي هريرة رضي اللَّه عنه: "فأتى بالألف دينارٍ". انظر: البخاري، كتاب الكفالة (2291). وفي "ك": "السبعة مواضع"، وفي "ط": "السبعة المواضع". (1) "ف": "فضيلة"، تحريف. (2) "ك، ط": "مثل قول".
(2/559)
سُبُلَنَا} [إبراهيم/ 12]. وقال عزَّ وجلَّ لنبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل/ 79]، فأمر سبحانه رسولَه (1) بالتوكّل عليه، وعقَّب هذا الأمر بما هو موجبٌ للتوكّل، مصحّحٌ له، مستدعٍ لثبوته وتحقّقه، وهو قوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}. فإنّ كون العبد على الحقِّ يقتضي تحقيق مقام التوكّل على اللَّه، والاكتفاء به، والإيواء (2) إلى ركنه الشديد. فإنَّ اللَّه هو الحقّ، وهو وليّ الحق وناصره ومؤيّده، وكافي من قام به؛ فما لصاحب الحقّ أن لا يتوكّل عليه؟ وكيف (3) يخاف وهو على الحقّ؛ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم/ 12]، فعجبوا من تركهم التوكّلَ على اللَّه وقد هداهم، وأخبروا أنَّ ذلك لا يكون أبدًا. وهذا دليل على أنَّ الهداية والتوكّل متلازمان. فصاحبُ الحقِّ -لعلمه بالحقّ ولِثِقته بأنَّ اللَّه وليّ الحق وناصرُه- مضطرٌّ إلى توكله على اللَّه، لا يجد بدّا من توكله. فإنَّ التوكّل يجمع أصلين: علم القلب وعمله. أمَّا علمه، فيقينه بكفايةِ وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأنَّ غيره لا يقوم مقامه في ذلك. وأمَّا عمله، فسكونه إلى وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، ورضاه بتصرّفه له فوق رضاه بتصرّفه هو لنفسه. فبهذين الأصلين يتحقّق التوكّل، وهما جِماعه، وإن كان التوكّل أدخلَ (4) في عمل القلب من __________ (1) "ك": "نبيّه"، وهو ساقط من "ط". (2) "ب": "والإكفاء والإيواء". تحريف. (3) "ب": "فكيف". (4) "ك، ط": "دخل".
(2/560)
علمه، كما قال الإمام أحمد: "التوكّل عمل القلب" (1)؛ ولكن لا بدَّ ف يه من العلم، وهو إمَّا شرط فيه، وإمَّا جزءٌ من ماهيّته. والمقصود أنَّ القلب متى كان على الحقِّ كان أعظمَ لطمأنينته، ووثوقه بأنَّ اللَّه وليّه وناصره، وسكونه إليه، فما له أن لا يتوكّل على ربِّه؟ وإذا كان على الباطل علمًا وعملًا أو أحدهما لم يكن مطمئنًّا واثقًا بربِّه، فإنَّه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده؛ فإنَّ اللَّه سبحانه لا يتولّى الباطل ولا ينصره، ولا يُنسب إليه بوجه، فهو منقطع النسبة (2) إليه بالكليّة. فإنَّه سبحانه هو الحق (3)، وقوله الحقّ، ودينه الحقّ، ووعده حقّ، ولقاؤه حقّ، وفعله كلّه حقّ. ليس في أفعاله شيء باطل، بل أفعاله بريئة من الباطل، كما أقواله سبحانه كذلك (4). فلمَّا كان الباطل لا يتعلّق به سبحانه، بل هو مقطوع عنه (5) البتّة، كان صاحبه كذلك. ومن لم يكن له تعلّق باللَّه (6)، وكان منقطعًا عن ربّه، لم يكن اللَّه وليّه ولا ناصره ولا وكيله. فتدبّر هذا السرّ العظيم في اقتران التوكّل والكفاية بالحقّ والهدى، __________ (1) كذا نسبه المؤلف هنا وفي مدارج السالكين (2/ 142) إلى الإمام أحمد. وهو من كلام الجنيد فيما ذكر القشيري، قال: "وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين: التوكّل عمل القلب، والتوحيد قول القلب" انظر: الرسالة (47). وقد نقله شيخ الإسلام عن القشيري في الاستقامة (1/ 209). (2) "ك، ط": "النسب". (3) "ك، ط": "الموفق". (4) "ب": "كما أقواله بريئة منه". (5) "عنه" ساقط من "ب، ك، ط". (6) "ك، ط": "باللَّه العظيم".
(2/561)
وارتباط أحدهما بالآخر، ولو لم يكن في هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السَّرِيّة (1) لكانت حقيقةً أن تودَع في خزانة القلب؛ لشدَّة الحاجة إليها. واللَّه المستعان وعليه التكلان. فظهر أنَّ التوكّل أصلٌ لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأنَّ منزلته منها منزلة الجسد من الرأس. فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكّل. واللَّه أعلم. الوجه الثاني: أنَّ قوله في التوكّل: "إنَّه في طريق الخواص عمًى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب. . " إلى آخر كلامه، مضمونه أنَّ التوكّل لا يتمّ إلا برفض الأسباب، والإعراض عنها جملةً؛ والتوكّل من أقوى الأسباب وأعظمها في حصول المطلوب، فكأنَّه قد رفض سببًا، وتعلق بسبب، وقد ناقض في أمره. ولهذا قال: "فصار بدلًا عن تلك الأسباب، فكأنَّك (2) تعلَّقت بما رفضتَه". فهذه هي النكتة التي لأجلها صار التوكّل عنده من منازل العوامّ. وهذه هي عين (3) مسألة الجمع بين التوكّل والسبب، بل هذه مسألة تعليل نفس التوكّل. فيقال: قولك: "إنَّه عمًى عن الكفاية" ليس كذلك، بل هو نظرٌ إلى نفس الكفاية وملاحظةٌ لها. ولا ريب أنَّ الكفاية من اللَّه لا تُنال إلا بأسبابها من عبوديّته، وسببُها المقتضي لها هو التوكّل، كما قال اللَّه __________ (1) أي: الشريفة الجليلة. (2) "ب، ك، ط": "وكأنك". (3) رسمها في الأصل يشبه "غير"، وكذا في "ف" وغيرها. ولكن السياق يقتضي ما أثبتنا.
(2/562)
تعالي: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق/ 3]. أي: كافيه. فجعل التوكّل سببًا للكفاية، فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: "إنَّ التوكّل عمًى عن الكفاية"؟ وهل التوكّل إلا محض العبودية التي جزاؤها الكفاية، وهي لا تحصل بدونه؟ بلى (1)، العلَّة هاهنا شهود حصولها بفعلك وتوكّلك، غيرَ ناظر إلى مسبِّب الأسباب الذي أجرى عليك هذا السببَ ليوصلك به إلى الكفاية. فأولُ الأمر وآخرُه منه، فهو المنعم بالسبب والمسبَّب جميعًا؛ ولكن لا يُوجب نظرُ العبد إلى المسبِّب المنعِم بالسبب (2) قطعَ نظره عن السبب والقَيامِ به، بل الواجبُ القيامُ بالأمرين معًا. الوجه الثالث: أنَّ قوله: "إنَّه رجوع إلى الأسباب" إن أراد به (3) أنَّه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويُضعِف التوكّل، فليس كذلك؛ وظاهر أنَّ الأمر ليس كذلك. وإن أراد به أنَّه رجوع إلى سبب نصبَه اللَّه مقتضيًا للكفاية منه، ورتَّب عليه جزاءً لا يحصل بدونه، فهذا حقّ؛ ولكنَّ القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسبابًا مقتضيةً للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسبابًا مقتضيةً لما رُتِّب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التي تكون مباشرتُها نقصًا هي الأسباب التي تُضعِف التوكّل، وأمَّا أن يكون التوكّل نفسُه ناقصًا لكون التحقّق به تحقّقًا بالسبب، فقلبٌ للحقائق! __________ (1) كذا في الأصلِ و"ف". وفي غيرهما: "بل". وانظر نحو ذلك في ص (546). (2) "والمسبّب جميعًا. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (3) "به" ساقط من "ب".
(2/563)
الوجه الرَّابع: أنَّ قوله: "لأنَّك رفضتَ الأسباب ووقفتَ مع التوكّل" إن أراد به رفض الأسباب جملةً، فهذا كما أنَّه ممتنع عقلًا وحسًّا، فهو محرَّم شرعًا ودينًا، فإنَّ رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين. وإن أراد به. رفضَ الوقوف معها والوثوقِ بها، وأنَّه يقوم بها قيامَ ناظرٍ إلى مسبِّبها (1)، فهذا حقّ؛ ولكنّ النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به، وإنَّما يكون في الإعراض عن المسبِّب تعالى، كما تقدّم. فمنعُ الأسباب أن تكون أسبابًا قدحٌ في العقل والشرع. وإثباتُها والوقوفُ معها وقطعُ النظر عن مسبِّبها قدحٌ في التوحيد والتوكّل. والقيامُ بها، وتنزيلُها منازلَها، والنظرُ إلى مسبِّبها، وتعلُّق القيام به = جمعٌ بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر؛ وهو الكمال، واللَّه أعلم. الوجه الخامس: قوله: "فصار التوكّل بدلًا عن تلك الأسباب". هذا حقّ، فإنَّ التوكّل من أعظم الأسباب، ولكنَّه بدل عنها؛ كما تكون الطاعة بدلًا عن المعصية، والتوحيد بدلًا عن الشرك. فهو بدل واجب، مأمور به، مطلوب من العبد. والمذموم أن يجعل العبدُ الأسبابَ بدلًا عن التوكّل، لا أن يجعل التوكّلَ بدلًا عن الأسباب. الوجه السادس: قوله: "فكأنَّك تعلَّقَت (2) بما رفضتَه من حيث معتقدك الانفصال" ليس كذلك، فإنَّ المرِفوض هو التعلّق بغير اللَّه والالتفات إلى سواه (3)، فهذا هو الذي رفَضه. وأمَّا الذي تعلّق به فهو __________ (1) في "ط": "إلى سببها"، وهو خطأ. وعطف "أنَّه يقوم" على "رفضَ". (2) كذا نقل هنا وفي الوجه الثاني. ولفظه في أول الفصل: "فكأنّك معلّق". (3) "ف": "إلى ما سواه"، خلاف الأصل.
(2/564)
التوكّل على اللَّه، واللجأ إليه، والتفويض إليه، والاستعانة به. فقد رفَضَ المخلوقَ، وتعلَّق بالخالق، فكيف يقال: إنَّه تعلَّق بما رفضه؟ الوجه السابع: أنَّ قوله: "من حيث معتقدك الانفصال" يشير به إلى أنَّ التوكّلَ نوعُ تفرِقةٍ وانفصالٍ يشهد فيه مع اللَّه غيرَه، وهذا منافٍ للفناء في التوحيد، وأن لا يشهد مع اللَّه غيرَه أصلًا. وهذا قطب رحى السير الذي يشير إليه القوم، والعلَم الذي يشمّرون إليه، ولأجله يجعلون كلّ ما دونه من المقامات معلولًا. ولا بدَّ من فصل القول فيه بعون اللَّه وتأييده، فإنَّه نهايةُ إقدامهم وغايةُ مرماهم. فنقول وباللَّه التوفيق:
[أقسام الفناء عند السالكين]
الفناء الذي يشار إليه على ألسنة السالكين ثلاثة أقسام: فناءٌ عن وجود السِّوى، وفناءٌ عن شهود السِّوى، وفناءٌ عن عبادة السِّوى وإرادته؛ وليس هنا قسم رابع (1). فأمَّا القسم الأوَّل: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود. وهو (2) فناءٌ باطل في نفسه، مستلزِم جحدَ الصانع وإنكارَ ربوبيّتِه وخلقِه وشرعِه، وهو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا هو الذي يشير (3) إليه علماءُ الاتحادية، ويسمّونه "التحقيق". وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد ربًّا وعبدًا، وخالقًا ومخلوقًا، وآمرًا ومأمورًا، وطاعةً ومعصيةً؛ بل الأمرُ كلّه واحد! فيكون السالك عندهم في بدايته يشهد طاعةً ومعصيةً، ثمَّ يرتفع __________ (1) وانظر في أقسام الفناء هذه مدارج السالكين (1/ 222). (2) "ك، ط": "فهو". (3) "ف": "يسير"، تصحيف.
(2/565)
عن هذا الفرق الكثيف (1) عندهم (2) إلى أن يشهد الأفعال كلَّها طاعةً للَّه لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهدها طاعةً لموافقتها الحكمَ والمشيئةَ. وهذا ناقص عندهم أيضًا إذ هو متضمن للفرق. ثمَّ يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعةً ولا معصيةً، إذ الطاعة والمعصية إنَّما تكون من غيرٍ لغيرٍ، وما ثَمَّ غيرٌ. فإذا تحقَّق بشهود ذلك، وفني فيه، فقد فني عن وجود السوى. فهذا هو غاية التحقيق عندهم، ومن لم يصل إليه فهو محجوب (3)! ومن أشعارهم في هذا قول قائلهم: وما أنت غيرُ الكون، بل أنتَ عينُه ... ويَفهَم هذا السرَّ من هو ذائقُ (4) وقولُ الآخر: ما الأمرُ إلا نسقٌ واحدٌ ... ما فيه مِن مَدحٍ ولا ذمِّ وإنَّما العادةُ قد خصَّصَتْ ... والطبعُ والشارعُ بالحُكمِ (5) وقولُ الآخر: __________ (1) "ك، ط": "للكشف"، تحريف. (2) "عندهم" ساقط من "ب". (3) "ب": "محجوب عندهم". (4) البيت لابن إسرائيل، انظر: فوات الوفيات (3/ 383)، والفتاوى (2/ 80)، والجواب الصحيح (4/ 500). وفي الفتاوى (2/ 473): "ذائقُه". (5) ذكرهما المصنف في الروح (575). وقد نسبه شيخ الإسلام في الفتاوى (2/ 99) إلى القاضي تلميذ صاحب الفصوص. وقد أنشده إياه ابن عمه. وفي جامع الرسائل (1/ 105): "وكان صاحبه القاضي يقول. . . ". وانظر: الفتاوى (2/ 82، 473) و (16/ 61).
(2/566)
وما الموجُ إلا البحرُ لا شيء غيرُه ... وإنْ فرَّقَتْه كثرةُ المتعدّدِ (1) والقسم الثاني من أقسام الفناء هو الذي يشير إليه المتأخّرون من أرباب السلوك، وهو الفناءُ عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الربّ والعبد وبين الطاعة والمعصية، وجعلِهم وجودَ الخالق غيرَ وجودِ المخلوق. ثمَّ هم مختلفون في هذا الفناء على قولين: أحدهما: أنَّه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات والمنازل معلولة. والقول الثاني: أنَّه من لوازم الطريق لا بدّ منه للسالك، ولكنَّ البقاءَ أكمل منه. وهؤلاء يجعلونه ناقصًا ولكن لا بدَّ منه، وهذه طريقة كثير من المتقدّمين. وهؤلاء يقولون: إنَّ الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته؛ ولكن لقوَّة الوارد وضعف المحلّ وغلبة استيلاء الوارد على القلب حتَّى يملكه من جميع جهاته، يقع الفناء. والتحقيق أنَّ هذا الفناءَ ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم. وسببه أمورٌ ثلاثة: أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنَّه إذا علم أنَّه (2) الغاية المطلوبة شمَّر سائرًا إليه عاملًا عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه، ونزل بِواديه، وطلَب مساكنتَه، فهؤلاء إنَّما يحصل لهم الفناءُ لأنَّ سيرَهم كان __________ (1) ذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (2/ 169، 372، 474) غير منسوب. (2) "أنّه" ساقط من "ب".
(2/567)
على (1) طلب حظّهم ومرادهم من اللَّه، وهو الفناء؛ لم يكن سيرهم على تحصيل مراد اللَّه منهم، وهو القيامُ بعبوديته والتحقّقُ بها. والسائر على طلب تحصيل مراد اللَّه منه لا يكاد الفناءُ يحلّ بساحته ولا يعتريه. والسبب الثاني: قوَّة الوارد، بحيث يغمره، ويستولي عليه، فلا يبقى فيه متَّسَعٌ لغيره أصلًا. السبب الثالث: ضعف المحلّ عن احتمال ما يَرِدُ عليه. فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناء. ولمَّا رأى الصادق (2) في طريقه السالكُ إلى ربِّه أنَّ أكثر أصحاب الفرق محجوبون عن هذا المقام، مشتَّتون في أودية الفرق؛ وشهدوا نقصهم، ورأوا ما هم فيه من الفناءِ أكملَ = ظنُّوا أنَّه لا كمال وراء ذلك، وأنَّه الغاية المطلوبة؛ فمن هنا جعلوه غاية. ولكن أكمل من ذلك وأعلى وأجلّ هو القسم الثالث، وهو الفناءُ عن عبادةِ السوى، وإرادتِه، ومحبّتِه (3)، وخشيتِه، ورجائِه، والتوكّلِ عليهِ، والسكون إليه. فيفنى بعبادة ربِّه ومحبته وخشيته ورجائه، وبالتوكّل (4) عليه. وبالسكون إليه، عن عبادة غيره وعن محبّته ورجائه والتوكّل عليه، مع شهود الغير ومعاينته. فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته، مع عدم شهوده له وغَيبته عنه. فإنَّه إذا (5) شهد الغيرَ في مرتبته __________ (1) "على" سقطت من "ط"، واستدركت في القطرية. (2) "الصادق" ساقط من "ب". (3) "ومحبته" سقطت من "ط"، واستدركت في القطرية. (4) "ط": "والتوكل". (5) "ك، ط": "فإذا" مكان "فإنّه إذا".
(2/568)
أوجبَ شهودُه له زيادةً في محبّة معبوده وتعظيمًا له وهروبًا إليه وضنًّا (1) به، فإنَّ نظر المحبّ إلى مُناوئ محبوبه ومُضادّه (2) يوجب زيادَة حبّه له. وفي هذا المعنى قال القائل: وإذا نظرتُ إلى أميري زادني ... حُبًّا له نظري إلى الأُمراء (3) وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم لك أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ" (4). وفي سجوده: "اللهمّ لك سجدتُ، وبك آمنتُ" (5) وكذلك في ركوعه: "اللهمّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ" (6). فهذا دعاءُ من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده، ولم يغب بأحدهما عن الآخر. وهل هذا إلّا كمال العبوديّة: أن يشهد ما يأتي به من العبودية موجِّهًا لها إلى المعبود الحق، مُحْضِرًا لها بين يديه، متقرّبًا بها إليه. فأمّا الغَيبة عنها بالكلّية، بحيث تبقى الحركات كأنّها طبيعية غير واقعة بالإرادة، فهذا وإن كان أكملَ من حال الغائب بشهود عبوديّته عن معبوده، فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكملُ منهما. وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أنّ تعليلَه التوكّلَ بما ذكر تعليلٌ باطلٌ. __________ (1) في الأصل والنسخ الأخرى: "ظنًّا"! (2) "ك، ط": "مبادي محبوبه. . "."ب": "مبادي محبوبه ومصادره"، تحريف. (3) البيت لعديّ بن الرقاع العاملي في ديوانه (162). وفيه وفي التمثيل والمحاضرة (68): "ضنًّا به" مكان "حبًّا له". وقد ذكره المؤلف في الصواعق (865) أيضًا. (4) تقدم تخريجه (73). (5) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (771). (6) المصدر السابق.
(2/569)
الوجه الثامن: أن التوكّل على اللَّه نوعان: أحدهما: توكّلٌ عليه في تحصيل حظّ العبد من الرزق والعافية وغيرها (1). والثاني: توكّلٌ عليه في حصول (2) مرضاته سبحانه. فأمّا النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادةً -لأنّها محض حظّ العبد (3) - فالتوكّل على اللَّه في حصوله عبادة، فهو منشأٌ لمصلحة دينه ودنياه. والنوع (4) الثاني فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة؛ فلا علَّة فيه بوجه، فإنَّه استعانة باللَّه على ما يرضيه. فصاحبه متحقِّق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، فتركُه تركٌ لشطر الإيمان، والعلَّة إنَّما هي في ضعف هذا التوكّل. فهبْ أنَّ التوكّل في حصول الحظّ معلول، أفيلزم (5) من هذا أن يكون التوكّل في حصول مراد الرب تعالى ومرضاته معلولًا؟ الوجه التاسع: قوله: "وحقيقةُ التوكّل عند القوم: التوكّلُ في تخليص القلب (6) من علّة التوكّل". فيقال: إذا كان هذا التوكّل عندك ليس بمعلول، ولا هو عمًى عن الكفاية، ولا رجوع إلى الأسباب بعد رفضها؛ بطل تعليلك التوكّل (7) بما علَّلْته به. وإن كانت هذه العلّة بعينها موجودةً في هذا التوكّل بطل أن يكون علَّةً، فلزم بطلان (8) كونه معلولًا __________ (1) "ط": "غيرهما". (2) "ط": "تحصيل". (3) "من الرزق. . . " إلى هنا ساقط من "ب". (4) "ط": "وأمّا النوع". (5) "ك، ط": "فيلزم" دون همزة الاستفهام قبله. (6) "ط": "القلوب"، خطأ. (7) "ب، ك، ط": "تعليل التوكّل". (8) "ف": "فيلزم"، خلاف الأصل.
(2/570)
على التقديرين. وظهر أنَّ العلَّة في التوكّل لا تخرج عن أحد شيئين: إمَّا أن يكون متعلَّقه حظًّا من حظوظك، وإمَّا وقوفك معه وركونك إليه فقط. فإذا خلص التوكّل من هذا وهذا فلا علَّةَ تلحقه، ولا نقيصةَ تدركه. الوجه العاشر: أنَّ علَّة التوكّل عنده هي ترك التوكّل كما فسَّره، فكيف يتوكّل في ترك التوكّل؟ وهل هذا إلا جمعٌ بين متضادّين؟ الوجه الحادي عشر: قوله: "وهو أن تعلم (1) أنَّ اللَّه تبارك وتعالى لم يترك أمرًا مهملًا، بل فرغ من الأشياء وقدرها. وإن اختلف منها شيء في المعقول (2)، أو تشوّش في المحسوس، أو اضطرب في المعهود؛ فهو المدبِّر له، وشأنُه سَوقُ المقادير إلى المواقيت. والمتوكّل من أراح نفسه من كدِّ النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده" إلى آخر كلامه. فيقال: هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها (3)، فكما أنَّ المسبَّبات من قدره الذي فرغ منه، فأسبابها أيضًا من قدره الذي فرغ منه؛ فتقديره المقادير بأسبابها لا ينافي القيامَ بتلك الأسباب، بل يتوقّف حصولُها عليها. وقد سئل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، هل تَرُدُّ مِن قدرِ اللَّه شيئًا؟ فقال: "هي من قدر اللَّه" (4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَعُلِمَ أَهلُ الجنَّة والنَّار؟ فقال: __________ (1) كذا في الأصل، "ف، ب". وقد سبق في أول الفصل بصيغة الغائب، وكذا في "ك، ط". (2) "ف" وغيرها و"ط": "العقول". وانظر التعليق على الكلمة في أول الفصل (551). (3) "ف": "المقتضية لها"، خلاف الأصل. (4) أخرجه ابن ماجه (3437)، والترمذي (2065) و (2065 - م) و (2148) من =
(2/571)
"نعم". قالوا: ففيمَ العمل؟ قال: "اعملوا فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له" (1). فأمرهم بالأعمال، وأخبرهم أنَّ اللَّه يسَّر كلَّ عبدٍ لما خُلِقَ له، فجعل عملَه سببًا لنيل ما خُلِقَ له من الثواب والعقاب؛ فلا بدَّ من إثبات السبَب والمسبّب جميعًا. الوجه الثاني عشر: قوله: "المتوكّل من أراح نفسه من كدِّ النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده". فهذا الكلام إن أُخِذَ على إطلاقه فهو باطل قطعًا، فإنَّ السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب في أعمال البِرّ عينُ العجز وتعطيلٌ للأمر (2) والشرع؛ ولا يجوز شرعًا ولا عقلًا التسوية بين الحالين. وأمَّا السكون إلى ما سبق من القسمة في أسباب المعيشة فهو حقٌّ، ولكنّ الكمال أن يكون ساكنًا إلى ما سبق مع قيامه بالسبب (3)، وهذه حال الكُمَّل (4) من الصحابة ومَن بعدهم. فالكمال هو تنزيل الأسباب منازلَها علمًا وعملًا، لا الإعراضُ عنها ومحوُها، ولا الانتهاءُ إليها والوقوفُ عندها. __________ = حديث أبي خزامة عن أبيه. قال الترمذي عقب (2065): "هذا حديث حسن". وقال عقب (2065 - م): وقد روي عن ابن عيينة كلتا الروايتين وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وهذا أصح، ولا نعرف لأبي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث. (ز). (1) سبق تخريجه (150). (2) "ك، ط": "الأمر". (3) "بالسبب" ساقط من "ك، ط". (4) "ط": "الكملة".
(2/572)
الوجه الثالث عشر: قوله: "مع استواءِ الحالين عنده، وهو أن يعلم أنَّ الطلب لا يجمع، والتوكّل لا يمنع" يشير به إلى استواءِ الحالين في مباشرة السبب وتركِه نظرًا إلى ما سبق. وهذا ليس بمأمور ولا مقدور (1)، فإنَّه لا تستوي الحالتان شرعًا ولا قدرًا، وكيف يستوي ما لم يسوِّه اللَّهُ شرعًا ولا قدرًا؟ (2) الوجه الرَّابع عشر: قوله: "الطلب لا يجمع، والتوكّل لا يمنع". فقد تبيّن (3) أنَّ التوكّل لا ينافي الطلب، بل حقيقةُ التوكّل وكمالُه: مقارنتُه للطلب ومصاحبتُه للسبب. وأمَّا توكُّلٌ مجرَّدٌ عن الطلب والسبب، فعجزٌ وأمانيّ! فتوكّل الحرَّاث إنَّما هو بعد شقِّ الأرض وبذرها، وحينئذٍ يصح منه التوكّل في طلوع الزرع. وأمَّا توكّلُه من غير حرث ولا بذر، فعجز وبطالة. الوجه الخامس عشر: قوله: "ومتى طالع بتوكّله عرضًا كان توكّله مدخولًا وقصدُه معلولًا. فإذا خلص من رقّ هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكّله سوى خالص حقِّ اللَّه، كفاه اللَّه كلَّ مهمّ" (4). فيقال: التوكّل يكون في أحد شيئين: إمَّا في حصول حظّ العبدِ ورزقه ونصره وعافيته، وإمَّا في حصول مراد ربِّه منه، وكلاهما عبادة مأمور بها، والثاني أكمل من الأوَّل بحسب المتوكَّل فيه. ولكن توكّله في الأوَّل لا يكون معلولًا من حيث هو توكّل، وإنَّما تكون علَّته أنه صرف توكّلَه إلى ما __________ (1) "ك، ط": "معذور"، تحريف. (2) "وكيف يستوي. . . " إلى هنا ساقط من "ف". (3) "ك، ط": "بيّن". (4) "ك، ط": "كفاه كل مهم".
(2/573)
غيرُه (1) أولى بالتوكّل منه. وهذا إنَّما يكون نقصًا إذا أضعَفَ توكّلَه في الأمر ومرادِ اللَّه منه. وأمَّا إن لم يُضعِفْه بل أعطى كلَّ مقام حقَّه من التوكّل، فهذا محضُ العبوديّة. واللَّه أعلم. __________ (1) "ط": "أن صرف توكله إلى غيره. . " عبارة لا معنى لها.
(2/574)
فصل المثال الرَّابع (1): الصبر. قال أبو العباس: "وهو من منازل العوامّ أيضًا؛ لأنَّ الصبر حبسُ النفسِ على المكروه، وعقلُ اللسان عن شكوى (2)، ومكابدةُ الغصص في تحمّله، وانتظارُ الفرج عند عاقبته. وهذا في طريق الخاصَّة تجلّد ومناوأة (3) وجرأة ومنازعة. فإنَّ حاصلَه يرجع إلى كتمان الشكوى في تحمل الأذى بالبلوى. والحقيقةُ (4): الخروجُ عن الشكوى بالتلذّذ بالبلوى، والاستبشارُ باختيار المولى. وقيل: إنَّه على ثلاث مقامات مرتّبة بعضُها فوق بعض: فالأوَّل: التصبّر. وهو تحمُّل مشقَّةٍ، وتجرُّع غصّةٍ في الثبات (5) على ما يجري من الحكم. وهذا هو التصبّر للَّه، وهو صبر العوامّ. والثاني: الصبر، وهو نوعُ سهولةٍ تُخفِّف على (6) المبتلى بعضَ الثقل، وتسهّل عليه صعوبةَ المراد. وهو الصبر للَّه (7)، وهو صبر __________ (1) في الأصل وغيره: "الخامس"، وهو خطأ تقدّم التنبيه عليه في أول الفصل السابق (555). (2) محاسن المجالس: "شكواه". (3) في المجالس: "مقاومة"، وذكر المحقق أنّ في نسخة: "مغاواة"، ولعلّ صوابها: "مقاواة". (4) "ط": "وتحقيقه". (5) "ط": "والثبات". (6) في "ب" والقطرية: "عن". (7) في المجالس: "الصبر باللَّه".
(2/575)
المريدين. والثالث: الاصطبار. وهو التلذّذ بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على اللَّه، وهو صبر العارفين" (1). والكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: الصبر نصف الدين، فإنَّ الإيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصف شكرٌ. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)} [سبأ/ 19] وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لا يقضي اللَّه للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له: إن أصابته سرَّاءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ، فكان خيرًا له. وليس ذِلك إلا للمؤمن " (2) فمنازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر. والذي يوضِّح هذا: الوجه الثاني: وهو أنَّ العبد لا يخلو قطُّ (3) من أن يكون في نعمة أو بليّة. فإن كان في نعمة ففرضُها الشكر والصبر. أمَّا الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيلُ بمزيدها. وأمَّا الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلُبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظُها؛ فهو أحوجُ إلى الصبرِ فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سرّ مسألة الغنيّ الشاكر والفقير الصابر (4) وأنَّ كلًّا __________ (1) محاسن المجالس (80 - 81). (2) أخرجه مسلم في كتاب الرقائق والزهد، باب المؤمن أمره كلّه خير (2999) من حديث صهيب رضي اللَّه عنه. (3) انظر في استعمال "قطّ" ما سلف في ص (431). (4) عقد المؤلف بابًا كاملًا في هذه المسألة في كتابه عدة الصابرين (285).
(2/576)
منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنَّه قد يكون صبرُ الغنيّ أكملَ من صبر الفقير، كما قد يكون شكر الفقير أكمل من شكر الغنيّ. فليس التفضيل بينهما بالغنى ولا بالفقر، وإنَّما هو بالأعمال (1). فأفضلهما أعظمُهما شكرًا وصبرًا، فإن فضل أحدُهما في ذلك فضل صاحبُه. فالشكر مستلزم للصبر لا يتمّ إلا به. والصبر مستلزم للشكر لا يتمّ إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر. وإن كان في بليّة ففرضها الصبر والشكر أيضًا. أمَّا الصبر فظاهر، وأمَّا الشكر فللقيام بحقّ اللَّه عليه في تلك البليّة. فإنَّ للَّه على العبد عبوديّةً في البلاء، كما له عليه عبوديةٌ في النعماءِ، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا، فعُلِمَ أنَّه لا انفكاك له عن الصبر ما دام سائرًا إلى اللَّه. الوجه الثالث: أنَّ الصبر ثلاثة أقسام: إمَّا صبرٌ عن المعصية فلا يرتكبها، وإمَّا صبرٌ على الطاعة حتَّى يؤدّيها، وإمَّا صبرٌ على البليّة فلا يشكو ربَّه فيها. وإذا (2) كان العبد لابدَّ له من واحد من هذه الثلاث (3)، فالصبر لازم له أبدًا، لا خروجَ له عنه البتة. الوجه الرَّابع: أنَّ اللَّه تعالى ذكر الصبر في كتابه في نحو تسعين موضعًا (4)، فمرَّةً أمر به، ومرَّةً أثنى على أهله، ومرَّةً أمر نبيَّه أن __________ (1) "من شكر الغني. . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) في "ط": "وإن"، وصحح في القطرية. (3) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "الثلاثة". وقد غيّر بعضهم في "ك" في النصّ ليكون "الثلاثة". (4) كذا نقله المؤلف في مدارج السالكين (2/ 183) عن الإمام أحمد. وعنه في المدارج أيضًا (1/ 174) قال: "أو بضعًا وتسعين". وانظر أيضًا: عدة الصابرين (115)، والفتاوى (10/ 39). وهي ثلاثة ومائة موضع حسب المعجم =
(2/577)
يبشّرهم (1)، ومرَّةً جعله شرطًا في حصول النصر والكفاية، ومرَّةً أخبر أنَّه مع أهله. وأثنى به على صفوته من العالمين، وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيّه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص/ 44]، وقال تعالى لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف/ 35]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127]، وقال يوسف الصدّيق وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} [يوسف/ 90]. وهذا يدلُّ على أنَّ الصبر من أجلّ مقامات الإيمان، وأنَّ أخصَّ النَّاس باللَّه وأولاهم به أشدُّهم قيامًا وتحقّقًا به، وأنَّ الخاصَّة أحوج إليه من العامّة. الوجه الخامس: أنَّ الصبر سبب في حصول كلّ كمال ممكن (2)، فأكملُ الخلقِ أصبرُهم، ولم يتخلف عن أحد كمالُه الممكن إلا من ضعف صبره. فإنَّ كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم تكن (3) له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص. فإذا انضمَّ الثبات إلى العزيمة أثمرَ كلَّ مقامٍ شريفٍ وحالٍ كاملٍ، ولهذا في دعاء النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد وابن حبَّان في صحيحه: "اللهمّ إنِّي أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد" (4). ومعلوم __________ = المفهرس للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. (1) "ط": "أن يبشر به أهله"! (2) "ممكن"ساقط من "ط". (3) "ب، ك، ط": "يكن". (4) أخرجه أحمد (17114)، والترمذي (3407)، والنسائي (3/ 54)، وفي =
(2/578)
أنَّ شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علِم العبدُ الكنزَ الذي تحت هذه الأحرف الثلاثة -أعني اسم "الصبر"- لما تخلَّف عنه. قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر" (1). وقال عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه: "خيرُ عيشٍ (2) أدركناه بالصبر" (3). وفي مثل هذا قال القائل: نزِّهْ فؤادَكَ عن سوانا وَالْقَنا ... فجنابُنا حِلٌّ لِكلِّ منزِّهِ والصبرُ طِلَّسْمٌ لكنزِ وصالنا ... مَن حَلَّ ذا الطِّلَّسْمَ فاز بكنزِه (4) فالصبر طلَّسم على كنز السعادة، مَن حلّه ظفِر بالكنز. __________ = الكبرى له (1227)، وابن حبان (935) من حديث شداد بن أوس. وفيه اختلاف كثير، وصوابه أنّه منقطع. وله إسناد آخر لا بأس به عند أبي نعيم في الحلية (1/ 266 - 267). (ز). (1) أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (2) "خير عيش" تحرف في "ك، ط" إلى "حين غشي عليه"! (3) نقله المصنف بهذا اللفظ في زاد المعاد (4/ 333). ونقل في عدة الصابرين (155) أثرين عن عمر رضي اللَّه عنه: أحدهما بلفظ "وجدنا خير عيشنا بالصبر"، وهو الذي أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم اللَّه. والآخر: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا". (4) الطلّسم: السرّ المكتوم، وقد كثر استعماله في كلام الصوفية. وأصله لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم كالألغاز. انظر: القول الأصيل (153) والمعجم الوسيط. والبيتان أنشدهما المؤلف في الفوائد (30، 78)، ومدارج السالكين (3/ 235). وانظرهما على وجه آخر ضمن تسعة أبيات في المدارج (1/ 535)، وانظر البيت الثاني وحده في زاد المعاد (4/ 333).
(2/579)
الوجه السادس: قوله: "الصبرُ حبس النفس على مكروه، وعقل (1) اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمّله، وانتظار الفرج عند عاقبته". فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبرُ على البلاءِ. وأمَّا الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، بل يتحلَّى بها ويأتي بها محبَّةً ورضًى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنَّه حبسِ النفس على مداومتها والقيام بها. قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف/ 28]. وأمَّا الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكّن (2) الصابر من قهر داعيها وغلبته. وإذا كان ما ذكر من الأمور الأربعة إنَّما يعرض في الصبر على البلية، فقوله: "إنَّه في طريق الخاصّة تجلّد ومناوأة وجرأة ومنازعة" ليس كذلك، وإنَّما فيه التجلّد، فأين المناوأة والجرأة والمنازعة؟ وأمَّا لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تُعدَم، فلا يصحّ أن يقال: إنَّ وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخّط واللسان عن الشكوى جرأة ومنازعة، بل هو محض العبوديّة والاستكانة وامتثال الأمر، وهو من عبودية اللَّه سبحانه المفروضة على عبده في البلاء، فالقيام بها عين كمال العبد. ولوازمُ الطبيعة لا بدَّ منها، ومن رامَ أن لا يجد البرد والحرّ (3) والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها __________ (1) "ف": "عقد"، خلاف الأصل. (2) قراءة "ف": "ليمكن"، والصواب ما أثبتنا من غيرها. (3) "ب": "الحرّ والبرد".
(2/580)
فقد رام الممتنع. وهل ترتَّب (1) الأجر إلّا على وجود تلك الآلام والمشاق، والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "أشدّ النَّاس بلاءً الأنبياءُ، ثمَّ الأمثل فالأمثل" (2). وقيل له في مرضه: إنَّك لَتُوعَكُ وَعْكًا شديدًا، قال: "أجلْ، إن لي أجرَ رجلين منكم" (3) يعني في وعكه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا ريب أنَّ ذلك الوعك كان مؤلمًا (4) له -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأيضًا فإنَّه (5) في مرض موته قال: "وارأساه! " (6) وهذا إنَّما هو من وجود ألم الصداع. وكان يقول في غمرات الموت: "اللَّهم أعنِّي على سكرات الموت". ويدخل يده في قدح الماء (7)، ويمسح بها وجهه من كرب الموت (8)، وهذا كلّه لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهل كان ذلك إلا محض العبوديّة وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا في ترك الصبر، وفي __________ (1) "ب": "يترتب". "ط": "يكون". (2) تقدم تخريجه في ص (495). (3) أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5647)، ومسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب (2571) من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (4) "ك، ط": "الوعك مؤلم". (5) "فإنّه" ساقط من. (6) أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5666) من حديث عائشة رضي اللَّه عنها. (7) في الأصل: "القدح الماء"، وكذا في "ف"، ولعله سهو. والمثبت من "ب". (8) ويدخل يده. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط". والحديث أخرجه أحمد (24356) وابن ماجه (1623) والترمذي (978)، والحاكم (4386) والنسائي في الكبرى (7101، 10932) من حديث عائشة. والحديث صححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي، وضعفه الترمذي، وهو كما قال، لجهالة موسى بن سرجس. (ز).
(2/581)
التسخّط والشكوى؟ الوجه السابع: قوله: "فإنَّ حاصله (1) يرجع إلى كتمان الشكوى في تحمّل (2) الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى". فيقال: الذي يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأمّا أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجدَه، أو يتلذَّذ بها (3)، فهذا غير ممكن، ولا هو في الطبيعة. وإنَّما الممكن أن يشاهد العبدُ في تضاعيف البلاءِ لطفَ صنع اللَّه به، وحسنَ اختياره له، وبرَّه به في حمله عنه فيخفّ عنه (4) مؤنة حمَله؛ وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنعِ اللَّه به وبرِّه وحسنِ اختياره عن شهود حمله، فتحصل (5) له لذَّة بما شهده من ذلك. وفوق هذا مرتبة أرفعُ منه، وهي أن يشهد أنَّ هذا مراد محبوبه، وأنَّه بمرأى منه ومستمع (6)، وأنَّه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليرفُلَ له في أذيال التذلّل والمسكنة والتضزع لعزّته وجلاله؛ فيعلم العبد أن حقيقة المحبّة هي موافقة المحبوب في محابّه، فيحبّ ما يحبّه محبوبُه. فيحبّ العبد تلك الحال من حيث موافقة المحبوب (7)، وإن __________ (1) "ك، ط": "حامله"، تحريف. (2) في الأصل: "تحامل"، ولعله سبق قلم. فالذي تقدم في أول الفصل: "تحمّل". وهو الوارد في المجالس. (3) "ط": "به"، خطأ. (4) "فيخفّ عنه" ساقط من "ط". (5) "ب، ك، ط": "فيحصل". والمثبت من "ف". (6) "ط": "مسمع". (7) في الأصل: "المحبوبة"، ولعله سبق قلم، كما أشار ناسخ "ف" بكتابة "ب" فوق "به". وفي "ب": "المحبوبيّة". وفي "ك، ط": "موافقته لمحبوبه".
(2/582)
كرهها من حيث الطبع البشري، فإنّ هذه الكراهة لا تنافي محبّتَه لها؛ كما يكره طبعُه الدواءَ الكريه، وهو يحبّه من وجه آخر. وهذا لا ينكر في المحبّة المتعلّقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل في ذلك: أهوى هواه وبُعدي عنه يعجِبه ... فالبعدُ قد صار لي في حُبِّه أرَبا (1) وقال آخر (2): أريدُ وصاله ويُريد هَجري ... فأتركُ ما أُريد لما يُريدُ (3) وقال آخر (4): وأهَنْتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا ... ما مَن يَهونُ عليكِ ممّن أُكرِمُ (5) وإنّه لَتبلغ المحبّة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أحبّه وإن كان كريهًا إليه. فهذا لا ينكَر ولكن (6) لا ينافي التألّمَ بمراد المحبوب المنافي للمحبّ وصبره عليه، بل يجتمع في حقّه الأمران. __________ (1) من بيتين للقاضي أبي محمد المرتضى عبد اللَّه بن القاسم بن المظفر الشهرزوري (465 - 521 هـ) انظر: خريدة القصر - قسم شعراء الشام (2/ 310). وقد ذكرهما المؤلف في روضة المحبين (453) أيضًا. (2) "ب، ك، ط": "الآخر". (3) لابن المنجّم الواعظ. وقد سبق في ص (479). (4) "ب، ط": "الآخر". (5) لأبي الشيص الخزاعي من أبيات ستأتي في ص (659). (6) "لكن" ساقط من "ط".
(2/583)
وتقوى هذه المحبّة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة. فكلّما قوي علمُه بذلك، وقويت محنته لمن ذكره بابتلائه، ازداد تلذّذُه بها، مع الكراهية الطبيعية التي هي من لوازم الخلقة؛ ولا سيّما إذا علم المحبُّ الذي أحُّط الأشياءِ إليه أن يجري ذكرُه على بال محبوبه أنَّ محبوبَه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنّه يفرح بذكره له، وإن ساءَه ما ذكره به، كما قال القائل: لئن ساءَني أن نلتني بمساءَة ... لقد سرني أني خطرتُ ببالكا (1) الوجه الثامن: قوله: "وهو على ثلاث مقامات مرتّبة بعضُها فوق بعض. فالأول: التصبر" إلى قوله: "وهو صبر العوام". فيقال: لا ريب أنّ التصبّرَ مُوذِن بتكلف وتحمل (2) على كره، ولكن هذا لا بدّ منه في الصبر، وهو سببُه الذي يُنال به. فالتصبّر من العبد، والصبر ثمرته التي يفرغها اللَّه عليه (3) إذا تعاطاه وتكففه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومَن يتصبِّر يُصبِّرْه اللَّه" (4). فمنزلة التصبّر من الصبر منزلة التعلّم والتفهم من العلم والفهم، فلابدّ منه في حصول الصبر. __________ (1) كذا ورد البيت في الأصل وغيره وفي مدارج السالكين (2/ 198، 373). والصواب في روايته: "ببالكِ"، كما في روضة المحبين (164، 402، 583). وإغاثة اللهفان (921). وهو من قصيدة لابن الدمينة في ديوانه (17). وانظر: حماسة أبي تمام (2/ 61). (2) "ب": "بتحمل وتكلف". (3) "عليه" ساقط من "ك، ط". (4) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. وقد سبق تخريجه في ص (579).
(2/584)
الوجه التاسع: قوله: "والثاني: الصبر، وهو نوع سهولة تخفّف على المبتلى بعضَ الثقل، وتسهّل عليه صعوبةَ المراد، وهو الصبرُ للَّه، وهو صبرُ المريدين". فقد تقدّم أن الصبر ثمرة التصبّر، وكلاهما إنّما يُحمَد إذا كان للَّه. وإنما يكون إذا كان باللَّه، فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر؛ فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصودُه إلّا أن يكون باللَّه وللَّه. قال تعالى في الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127]. وقال في الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48]. واختلف النَّاس أيّ الصبرَين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحبُ كتاب (1) منازل السائرين: "وأضعفُ الصبرِ الصبرُ للَّه، وهو صبر العامة. وفوقه الصبر باللَّه، وهو صبر المريد، وفوقهما الصبر على اللَّه، وهو صبر السالك" (2). ووجه هذا القول أنَّ الصبر للَّه (3) هو صبر العابد الذي يُصبِّر نفسَه لأمر اللَّه طالبًا لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل، صابر عن المحرمات. وأمَّا الصبر به فهو تبرّؤٌ من الحول والقوَّة، وإضافةُ ذلك إلى اللَّه عزَّ وجلّ وهو صبر المريد. وأمَّا الصبرُ على اللَّه فصبر السالك على ما تجيء به أقداره (4) وأحكامه. والصواب أنَّ الصبرَ للَّه أكملُ من الصبر به، فإنَّ الصبر له متعلّق __________ (1) "كتاب" ساقط من "ب، ك، ط". (2) انظر: منازل السائرين (39)، ومدارج السالكين (2/ 199). (3) "وهو صبر المريد. . . " إلى هنا ساقط من: "ط". (4) "ط": "يجيء به متعلق أقداره".
(2/585)
بإلهيته ومحبّته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته. وما له (1) أكملُ ممَّا به، فإنَّ ما له هو الغاية، وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة، والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل. وأيضًا فإنَّ الصبر له متعلق بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والصبر به متعلّق بقوله (2): {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين اللَّه، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يروي عن ربه. و"إياك نعبد" هي التي للَّه، "وإياك نستعين" هي التي للعبد (3)؛ وما للَّه أكمل ممَّا للعبد، فما تعلّق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد. وأيضًا فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة، والمحبّة أكمل من الاستعانة. وأمَّا الصبر على اللَّه سبحانه فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية. فهو يرجع إلى الصبر (4) على أوامره، والصبر على ابتلائه، فليس في الحقيقة قسمًا ثالثًا (5)، واللَّه أعلم. فقد تبيّن أنَّ الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل كمال العبد (6) الذي لا كمال له بدونه. ولا يذَمّ منه إلا قسم واحد، وهو __________ (1) "ط": "وما هو له" وكذلك في الجمل اللاحقة زيد فيها "هو" بعد "ما". (2) "والصبر به متعلق بقوله" ساقط من "ب، ط". (3) نص الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصلاة (395) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) "ف": "التصبر". (5) "ب": "قسم ثالث". (6) "ك، ط": "لكمال العبد".
(2/586)
الصبر عن اللَّه سبحانه، فإنَّه صبر المعرضين المحجوبين. فالصبرُ عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤه، وهو الذي يُسقط المحبَّ من عين محبوبه، فإنَّ المحبّ كلَّما كان أكمل محبه كان صبره عن محبوبه متعذرًا. الوجه العاشر: قوله: "الثالث الاصطبار، وهو التلذّذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على اللَّه، وهو صبر العارفين". فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر، كالاكتساب والاتخاذ، وهو مُشعِر بزيادة المعنى على الصبر، كأنَّه صار سجيّةً وملكةً، فإنَّ هذا البناء مُوذِن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر/ 27]. فالاصطبار (1) أبلغ من الصبر، كما أنَّ الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان في العمل الذي يكون على صاحبه، والكسب (2) فيما له. قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة/ 286] تنبيهًا على أنَّ الثواب يحصل لها بأدنى سعي وكسب، وأنَّ العقاب إنَّما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه. وإذا عُلِمَ هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار اللَّه سبحانه لا يخص الاصطبار (3)، بل يكون مع الصبر ومع التصبّر؛ ولكن لمَّا كان الاصطبار أبلغَ من الصبر وأقوى، كان بهذا التلذّذ والاستبشار أولى. واللَّه أعلم. __________ (1) "ف": "والاصطبار"، والمثبت من غيرها أقرب. (2) "ف": "وذلك" تحريف. (3) "ب": "لا يختص بالاصطبار".
(2/587)
قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة: أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأنّ اللَّه إنّما حرَّمها ونهى عنها صيانةً لعبده (1) وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرّه. وهذا السبب يحمل العاقلَ على تركها، ولو لم يعلَّق عليها وعيدٌ بالعذاب. السبب الثاني: الحياءُ من اللَّه عزّ وجل، فإنّ العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنّه بمرأى منه ومستمع (2)، وكان حَيًّا (3) حَيِيًّا، إستحيا من ربّه أن يتعرّض لمساخطه. السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإنّ الذنوب تزيل النعمَ ولا بدّ. فما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلّا زالت عنه نعمةٌ من اللَّه بحسب ذلك الذنب. فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلُها، وإن أصرّ لم ترجع إليه. ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتّى يُسلَب (4) النعمَ كلها، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/ 11]. وأعظم النعم الإيمان، وذنبُ الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة تزيلها وتسلبها (5). __________ (1) "لعبده" ساقط من "ك، ط". (2) "ط": "مسمع". (3) "حيًّا" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "تسلب". (5) "ط": "يزيلها ويسلبها".
(2/588)
وقال بعض السلف (1): "أذنبتُ ذنبًا فحُرِمتُ قيامَ الليل سنةً". وقال آخر: "أذنبتُ ذنبًا، فحُرِمتُ فهمَ القرآن". وفي هذا (2) قيل: إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها ... فإن المعاصي تُزيل النِّعَمْ (3) وبالجملة فإنّ المعاصي نارُ النعم تأكلها، كما تأكل النارُ الحطبَ، عياذًا باللَّه من زوال نعمته وتحويل (4) عافيته. السبب الرابع: خوف اللَّه وخشية عقابه. وهذا إنّما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر/ 28]. وقال بعض السلف: "كفى بخشية اللَّه علمًا، وبالاغترار باللَّه جهلًا" (5). السبب الخامس: محبة اللَّه سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإنّ المحب لمن يحب مطيع (6)، وكلما قوي سلطانُ المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبّة وسلطانها. __________ (1) "ب": "بعض العارفين". (2) "ط": "مثل هذا". (3) سبق في ص (134). (4) "ب": "تحول". (5) من كلام عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وسيأتي جزء منه في ص (615). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 225). (ص). أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (46) والطبراني في الكبير (8927). (ز) (6) من قول محمود الوراق أو غيره، وسيأتي في ص (646).
(2/589)
وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيّده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيّده. وفي هذا قال عمر: "نعم العبد صهيب، لو لم يخَفِ اللَّهَ لم يعصِه" (1) يعني أنّه لو لم يخف من اللَّه لكان في قلبه من محبّة اللَّه وإجلاله ما يمنعه من معصيته. فالمحبّ الصادق عليه رقيبٌ من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبّة شهودُ هذا الرقيب ودوامه. وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبّة المجرّدة لا توجب هذا الأثَر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها الإجلالُ (2) والتعظيمُ أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلّا فالمحبة الخالية عنهما إنّما توجب نوعَ أُنس وانبساط وتذكّر واشتياق. ولهذا يتخلّف عنها أثرها وموجَبها (3)، ويفتّش العبد قلبَه فيرى نوع محبّة للَّه، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم. فما عمر القلبَ شيءٌ كالمحبّة المقترنة بإجلال اللَّه وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب اللَّه لعبده أو أفضلها، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. السبب السادس: شرفُ النفس وزكاؤها وفضلُها وأنَفتهُا وحميّتُها أن تختار الأسباب التي تحطّها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتُحقَرها، وتسوّي بينها وبين السَّفِلة. __________ (1) وهو أثر مشهور، ولكن لم يوقف له على أصل. انظر: المقاصد الحسنة (526). وانظر في تأويله: بدائع الفوائد (92) وجامع المسائل لشيخ الإسلام (3/ 315). (2) "ط": " بالإجلال". (3) "وموجبها" ساقط من "ب".
(2/590)
السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها (1): من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمّه (2)، وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدّة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعزيه من زينته بالثوب الذي جمّله اللَّه وزيّنه به، والعصرة التي تناله، والقسوة والحيرة في أمره، وتخلي وليّه وناصره عنه، وتوئي عدؤه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعذًا له عنه، ونسيان ما كان حاصلًا له أو ضعفه ولابدّ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولابدّ، فإنّ الذنوب تميت القلوب (3). ومنها: ذلّة بعد عزة. ومنها: أنّه يصير أسيرًا في يد أعدائه بعد أن كان ملكًا متصرفًا يخافه أعداؤه. ومنها: أنّه يضعف تأثيرُه، فلا يبقى له نفوذ في رعيَّته ولا في الخارج، فلا رعيّته تطيعه إذا أمرها، ولا ينفذ في غيرهم. ومنها: زوال أمنه وتبدّله به مخافةً، فأخوفُ الناس أشدُّهم إساءَة. ومنها: زوال الأنس والاستبدال به وحشةً، وكلَّما ازداد إساءةً ازداد وحشةً (4). __________ (1) قد أفاض المصنف في بيان أضرار المعصية في الداء والدواء (85 - 169). (2) "ب": "وضيقه وهمه وغمه". (3) قال عبد اللَّه بن المبارك: رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ... وقد يورث الذلّ إدمانُها انظر: زاد المعاد (4/ 203). (4) هذه الفقرة ساقطة من "ب".
(2/591)
ومنها: زوال الرضا واستبداله بالسخط. ومنها: زوال الطمأنينةِ باللَّه والسكون إليه والإيواءِ عنده، واستبدال الطرد والبعد منه. ومنها: وقوعه في بئر الحسرات. فلا يزال في حسرة دائمة، كلَّما نال لذَّةً نازعته نفسُه إلى نظيرها (1) إن لم يقضِ منها وطرًا، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما يقدر عليه، وكلَّما اشتدَّ نزوعُه وعرف عجزَه اشتدَّت حسرته وحزنه. فيا لها نارًا قد عُذبَ بها القلبُ في هذه الدار قبل نار اللَّه الموقَدة التي تطّلع على الأفئدة! ومنها: فقره بعد غناه. فإنَّه كان غنيًّا بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يتّجر به ويربح الأرباح الكثيرة؛ فإذا سُلِبَ رأسَ ماله أصبح فقيرًا معدِمًا. فإلى أن يسعى في تحصيل رأس مالٍ آخرَ بالتوبة النصوح والجدّ والتشمير، قد فاته (2) ربح كثير، بما أضاعه من رأس ماله. ومنها: نقصان رزقه، فإنَّ العبد يُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبه (3). __________ (1) "ب": "نظيرتها". (2) كتب في الأصل أولًا: "فإمّا أن يسعى. . . التشمير وإمّا أن لا يسعى في ذلك قد فاته" ثم ضرب على "وإما أن لا يسعى في ذلك" وأصلح "فإما" فقرأتها كما أثبت. وقرأ ناسخ "ف": "فأنّى أن يسعى. . . "، وفي "ب، ك": "فإما. . . وقد فاته". وفي "ط": "فإما أن يسعى بتحصيل. . . التشمير [وإلّا] فقد فاته". (3) يشير إلى ما أخرجه أحمد (22386)، وابن ماجه (4022)، وابن حبان (872)، والحاكم (1814) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه البوصيري، قلت: فيه عبد اللَّه بن أبي الجعد، فيه جهالة، ولا يدرى أسمع من ثوبان أم لا (ز).
(2/592)
ومنها: ضعف بدنه. ومنها: زوال المهابة والحلاوة التي أُلْبِسَها (1) بالطاعة، فتبدَّل بها مهانةً وحقارةً. ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس. ومنها: ضياع أعز الأشياء عليه وأنفَسِها وأغلاها (2)، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود عليه (3) أبدًا. ومنها: طمعُ عدوّه فيه، وظفرُه به. فإنَّه إذا رآه منقادًا له (4) مستجيبًا لما يأمره به (5) اشتدَّ طمعُه فيه، وحدَّث نفسه بالظفر به وجَعْلِه من حزبه، حتَّى يصير هو وليّه دون مولاه الحقّ. ومنها: الطبع والرّيْن على قلبه. فإنَّ العبد إذا أذنب نُكِتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تاب منها صُقِلَ قلبُه؛ وإن أذنب ذنبًا آخر نكِتَ فيه نكتةٌ أخرى، ولا تزال حتّى تعلو قلبَه؛ فذلك هو الران. قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين/ 14] (6). __________ (1) "ك، ط": "لبسها". (2) "ك، ط": "أعلاها" بالمهملة. (3) "ب، ك، ط": "إليه". (4) "له" ساقط من "ط". (5) "به" ساقط من "ك، ط". (6) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، وابن حبان (930)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (418) والحاكم (2/ 562) (3908) من حديث أبي هريرة. والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي. (ز).
(2/593)
ومنها: أنَّه يُحرَم حلاوةَ الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوَّة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإنَّ الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابدَّ. ومنها: أنَّها (1) تمنع قلبَه من ترحّله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة. فإنَّ القلب لا يزال مشتَّتًا مضيعًا حتَّى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفودُ التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده. وما لم يترحَّلْ إلى الآخرة ويحضُرْها فالتعبُ والعناءُ والتشتّت والكسل والبطالة لازمةٌ له لا محالة. ومنها: إعراض اللَّه وملائكته وعباده عنه. فإنَّ العبد إذا أعرض عن طاعة اللَّه واشتغل بمعاصيه أعرض اللَّه عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعبادُه؛ كما أنَّه إذا أقبل على اللَّه أقبل اللَّه عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه. ومنها: أنَّ الذنبَ يستدعي ذنبًا آخر، ثمّ يقوى أحدهما بالآخر، فيستدعيان ثالثًا، ثمَّ تجتمع الثلاثة، فتستدعي رابعًا، وهلّم جرًّا، حتَّى تغمره ذنوبه، وتحيط به خطيئته. قال بعض السلف: "إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومن عقوبة السيئةِ السيّئةَ بعدها". (2). ومنها: علمُه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها. فإنَّه لا يجمع اللَّه لعبده بين لذَّة المحرمات في الدنيا ولذَّة ما في الآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي __________ (1) "ك، ط": "أن". (2) نسبه شيخ الإسلام إلى سعيد بن جبير. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 11).
(2/594)
حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف/ 20]. فالمؤمن لا يُذهِبُ طيّباته في الدنيا، بل لابدَّ أن يتركَ بعضَ طيّباته للآخرة. وأمَّا الكافر فلأنَّه (1) لا يؤمن بالآخرة، فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيّباته في الدنيا. ومنها: علمه بأنَّ أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته. فإن تزوّد من معصية اللَّه أوصله ذلك الزادُ إلى دار العصاة والجناة. وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته. ومنها: علمه بأنَّ عملَه هو وليُّه في قبره وأنيسُه فيه، وشفيعُه عند ربه، والمخاصم والمحاجّ عنه؛ فإن شاء جعله له، وإن شاءَ جعله عليه. ومنها: علمه بأنَّ أعمال البرّ تنهض بالعبد، وتقوم به، وتصعد إلى اللَّه به؛ فبحسب قوَّة (2) تعلّقه بها يكون صعوده مع صعودها. وأعمالُ الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية، وتجرّه إلى أسفل سافلين؛ وبحسب قوَّة (3) تعلّقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث تستقرّ به (4). قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف/ 40]. فلمَّا لم تفتَحْ أبواب السماء لأعمالهم بل أُغلِقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لمَّا كانت أبوابُ السماءِ مفتوحةً لأعمالهم حتى __________ (1) "ب، ك، ط": "فإنه". (2) "قوة" ساقط من "ب". (3) "قوة" ساقط من "ب". (4) "ك، ط": "يستقر"، تصحيف.
(2/595)
وصلت إلى اللَّه سبحانه، فُتِحَتْ لأرواحهم حتى وصلت إليه سبحانه، وقامت بين يديه، فرحمها، وأمر بكتابة اسمها في علّيّين. ومنها: خروجه من حصن اللَّه الذي لا ضيعة على من دخله. فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهبًا للّصوص وقُطَّاع الطريق. فما الظنّ بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة، إلى خِرْبةٍ موحشةٍ (1) مأوى اللصوص وقطاع الطريق، فهل يتركون معه شيئًا من متاعه؟ ومنها: أنَّه بالمعصية قد تعرَّض لِمَحْقِ بَرَكتِه في كلِّ شيءٍ من أمر دنياه وآخرته. فإنَّ الطاعة تجلب للعبد بركاتِ كل شيء، والمعصية تمحق عنه كل بركة (2). وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثرُ من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثارُ الطاعة الحسنة أكثرُ من أن يحيط بها علمًا. فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة اللَّه، وشرّ الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته (3). وفي بعض الآثار يقول اللَّه تعالى: "من ذا الذي أطاعني، فشقِيَ بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني، فسعدَ بمعصيتي؟ " (4) السبب الثامن: قِصَر الأمل، وعلمُه بسرعة انتقاله، وأنَّه كمسافر دخلَ قريةَ وهو مُزمِعٌ على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثمَّ سار وتركها، فهو لعلمه بقلَّة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما __________ (1) زاد بعدها في "ط": "هي". (2) "في كلِّ شيءٍ من أمر. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (3) "ب": "معصية اللَّه". (4) أخرجه الطبري في تفسيره (16673) من حديث وهب بن منبه. (ز).
(2/596)
يُثقِلُه حملُه ويضرّه ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته. فليس للقلب (1) أنفعُ من قِصَر الأمل، ولا أضرُّ من التسويف وطول الأمل. السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس. فإنَّ قوَّة الداير إلى المعاصي إنَّما تنشأ (2) من هذه الفضلات، فإنَّها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباحُ، فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالتُه وفراغه، فإنَّ النَّفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شَغَلَتْه بما يضرّه ولابدّ. السبب العاشر، وهو الجامع لهذه الأسباب كلّها، وهو (3): ثبات شجرة الإيمان في القلب. فصبر العبد عن المعاصي إنَّما هو بحسب قوَّة إيمانه، فكلَّما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر. فإنَّ من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام اللَّه عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرَّم عليه، وبغضِه له، ومقتِه لفاعله؛ وباشر قلبَه الايمانُ بالثواب والعقاب والجنَّة والنَّار = امتنع منه (4) أن لا يعمل بموجَب هذا العلم. ومن ظنَّ أنَّه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الرَّاسخ الثابت (5)، فقد غلط. فإذا قوي سراج الإيمان في القلب، وأضاءَت جهاته كلها به، وأشرقَ نورُه في أرجائه؛ سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداير الإيمان، وانقادت له __________ (1) "ط": "للعبد"، تحريف. (2) "ف، ب": "ينشأ". (3) "وهو" ساقط من "ك، ط". (4) "ط": "من". (5) "ب": "الثابت الراسخ".
(2/597)
طائعةً مذلَّلةً غيرَ متثاقلةٍ ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محلّ كرامته. فهو كل وقت يرقب (1) داعيه، ويتأهَّب لموافاته. واللَّه يختص برحمته من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. فصل والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة. ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبّه، فكلَّما قوي داير الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه. وههنا مسألة تكلَّم فيها النَّاس، وهي: أيّ الصبرين أفضل: صبرُ العبد عن المعصية، أم صبرُه على الطاعة؟ فطائفة رجَّحت الأوَّل، وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: "أعمال البرّ يفعلها (2) البَرّ والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق" (3). قالوا: ولأنَّ في داعي المعصية أشدّ من داعي ترك الطاعة، فإنَّ داعي المعصية داعٍ (4) إلى أمر وجوديّ تشتهيه النفس وتلتذّ به، والداير إلى __________ (1) "ب، ك، ط": "يترقب". (2) "ب": "يعملها". (3) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري، كما في طبقات الصوفية (209)، ومجموع الفتاوى (17/ 24). (4) "داعٍ" سقط من "ط".
(2/598)
ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريبَ أنَّ داعي المعصية أقوى. قالوا: ولأنَّ العصيان قد اجتمع عليه داير النفس والشيطان (1) والهوى، وأسباب الدنيا، وقرناءُ الرجل، وطلب التشبه والمحاكاة، وميل الطبع. وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية، ويطلب (2) أثره؛ فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأيّ صبر أقوى من صبره (3) عن إجابتها؟ ولولا انَّ اللَّه يُصبّره لما تأتَّى منه الصبر. وهذا القول -كما ترى- حجَّته في غاية الظهور. ورجّحت طائفةٌ الصبرَ على الطاعة بناءً منها على أنَّ فعل المأمورات (4) أفضل من ترك المنهيّات، واحتجّت على ذلك بنحو من عشرين حُجَّة (5). ولا ريب أن فعل المأمورات إنَّما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل. وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية، فالصبر على الطاعة العظيمة (6) الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية __________ (1) "ط": "والهوى والشيطان". (2) "ط": "صبر". (3) "ف": "تجذب. . . تطلب". والأصل غير منقوط. (4) "ك، ط": "المأمور". (5) ذكر المصنف في مدارج السالكين (2/ 188) أن شيخ الإسلام كان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، وأن له في ذلك مصنّفًا قرره فيه بنحوِ من عشرين وجهًا. وقد ذكر في عدة الصابرين (68 - 75) عشرين وجهًا، ولكن لم يشر إلى أنّه قول شيخ الإسلام. وهكذا ذكر في الفوائد (119 - 128) قول سهل بن عبد اللَّه التستري: "إن ترك الأمر عند اللَّه أعظم من ارتكاب النهي"، ونصره بثلاثة وعشرين وجهًا. (6) "ك، ط": "المعظمة".
(2/599)
الصغيرة الدنيّة، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة. فصبر (1) العبد على الجهاد مثلًا أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى (2) وصوم يوم تطوعًا ونحوه. فهذا فصل النزاع في المسألة. واللَّه أعلم. فصل والصبر على البلاءِ ينشأ (3) من أسباب عديدة: أحدها: شهود جزائها وثوابها. الثاني: شهود تكفيرها للسّيئات ومحوها لها. الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنَّها مقدّرة في أمّ الكتاب قبل أن تخلق، فلابد منها؛ فجزعه لا يزيده إلا بلاءً. الرابع: شهوده حقَّ اللَّه عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو (4) الصبرُ بلا خلاف بين الأمّة، أو الصبر والرضا على أحد القولين. فهو مأمورٌ بأداء حقّ اللَّه وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلابدَّ له منه، وإلا تضاعفت عليه. الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ __________ (1) "ط": "وصبر". (2) "ط": "الصبح". (3) "ف": "نشأ". (4) "وهو": ساقط من "ط".
(2/600)
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى/ 30]. وهذا (1) عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله (2) شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع (3) تلك المصيبة. قال علي بن أبي طالب: "ما نزل بلاءٌ إلّا بذنب، ولا رُفِع بلاءٌ إلّا بتوبة" (4). السادس: أن يعلم أنّ اللَّه قد ارتضاها له واختارها وقسَمها، وأنّ العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سندُه ومولاه. فإن لم يُوفِ هذا المقام (5) حقَّه، فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها. فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدَّي الحق. السابع: أن يعلم أنّ هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيبُ العليمُ بمصلحته الرحيمُ به، فليصبر على تجرّعه، ولا يتقيّأْه بتسخطه وشكواه، فيذهبَ نفعه باطلًا. الثامن: أن يعلم أنّ في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحّة وزوال الألم ما لا يحصل (6) بدونه. فإذا طالعت نفسه __________ (1) "ط": "فهذا". (2) "ط": "فشغله". (3) "ك، ط": "دفع". (4) نقله المصنّف في كتاب الداء والدواء (118) أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ولكن نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (8/ 163) عن عمر بن عبد العزيز. (5) "ك، ط": "قدر المقام"، خطأ. (6) "ط": "لم يحصل"، خطأ.
(2/601)
كراهية (1) هذا الدواءِ ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال اللَّه تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216]. وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء/ 19]. وفي مثل هذا قال القائل: لعلَ عتَبك محمودٌ عواقبُه ... وربّما صحّت الأجسامُ بالعِلَلِ (2) التاسع: أن يعلم أنّ المصيبة ما جاءَت لِتُهلِكَه وتقتلَه، وإنّما جاءَت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه (3) أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خِلَع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءَه وحزبه خدَمًا له وعونًا له. وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ، وصُفِع قفاه، وأُقصي، وتضاعفت عليه المصيبة. وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها (4) وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأنّ المصيبة في حقّه صارت (5) مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقّه صارت نعمًا عديدة. وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلّا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بدّ أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان. __________ (1) "ب، ك، ط": "كراهة". (2) "ب": "الأجساد بالعلل". والبيت لأبي الطيب، وقد سبق (367، 508). (3) "وحزبه" ساقط من "ب". (4) "ف": "بتضاعيفها"، خطأ (5) "ب": "صارت في حقه".
(2/602)
ذلك (1) تقدير العزيز العليم، وفضل اللَّه يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم. العاشر: أن يعلم أنّ اللَّه سبحانه يربّي عبده على السرّاءِ والضرّاءِ، والنعمة والبلاءِ؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإنّ العبد على الحقيقة من قام بعبودية اللَّه على اختلاف الأحوال. وأمّا عبد (2) السرّاءِ والعافية الذي يعبد اللَّه على حرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه (3)؛ فليس من عَبيده الذين اختارهم لعبوديته. ولا (4) ريب أنّ الإيمان الذي يثبت على محكّ (5) الابتلاءِ والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأمّا إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازلَ المؤمنين، وإنّما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاء والعافية. فالابتلاءُ كِيرُ العبد ومحكّ إيمانه: فأمَّا أن يخرج تِبرًا أحمر، وإمَّا أن يخرج زَغَلًا محضًا، وإما أن يخرج فيه مادّتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتَّى يخرج المادّة النحاسية من ذهبه (6)، ويبقى ذهبًا خالصًا. فلو علم العبد أنَّ نعمة اللَّه عليه في البلاء ليست بدون نعمته (7) عليه __________ (1) "ط": "لأن ذلك". (2) "ف": "عند"، تصحيف. (3) اقتباس من الآية (11) من سورة الحج. (4) "ك، ط": "فلا ريب". (5) "ط": "محل"، تحريف. (6) "ب": "الذهبية". (7) "ك، ط": "نعمة اللَّه".
(2/603)
في العافية لشغلَ قلبَه بشكره ولسانه بقوله (1): "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وكيف لا يشكر مَن قيَّضَ له ما يستخرج به (2) خَبَثه ونحاسه، ويُصيّره (3) تِبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبرَ على البلاءِ، فإنْ قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل اللَّه أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه. __________ (1) "بقوله" ساقط من "ك، ط". وهو من حديث معاذ بن جبل، أخرجه أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، والنسائي (3/ 53)، وفي الكبرى له (2226) و (9937)، وابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1010) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. (ز). (2) "به" ساقط من "ط"، ومستدرك في "ك". (3) "ط": "وصيّره".
(2/604)
فصل المثال الخامس: الحزن. قال أبو العبّاس: "وهو من منازل العوامّ. وهو انخلاعٌ عن السرور وملازمةُ الكآبة لتأسُّفٍ عن (1) فائت، أو توجُّع لممتنع، وإنَّما كان من منازل العامَّة (2) لأنَّ فيه نسيانَ المنّة، والبقاءَ في رِقِّ الطبع. وهو في مسالك الخواصّ حجاب؛ لأنَّ معرفةَ اللَّه جلا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غُمَّة؛ فبذلك فليفرحوا. وقيل: أوحى اللَّه تعالى إلى داود: بي (3) فافرَحْ، وبذكري فتلذَّذْ، وبمعرفتي فافتخِرْ. فعمَّا قليل أفرِغُ الدار من الفاسقين، وأنزِلُ نقمتي على الظالمين" (4). اعلم أنَّ الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأمر اللَّه به في موضع قطّ، ولا أثنى عليه (5)، ولا رتَّب عليه جزاءً وثوابًا (6). بل نهى سبحانه عنه في غير موضع (7)، كقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران/ 139]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل/ 127]. وقال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وفي محاسن المجالس: "على". (2) "ط": "العوام". (3) "ك، ط": "يا داود بي. . . ". (4) محاسن المجالس (82). (5) "ب": "على أهله". (6) "ك، ط": "ولا ثوابًا". (7) وانظر: مدارج السالكين (1/ 598)، ومجموع الفتاوى (10/ 16).
(2/605)
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} [المائدة/ 26]. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40]. فالحزن هو بليَّة من البلايا التي نسأل اللَّه دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر/ 34] فحمدوه سبحانه (1) على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجَّاهم منها. وفي الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يقول في دعائه: "اللّهم إنِّي أعوذُ بك من الهمِّ والحزَن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلَع الدَّيْن وغلبة الرِّجال" (2). فاستعاذَ -صلى اللَّه عليه وسلم- من ثمانية أشياءَ كلُّ شيئين منها قرينان. فالهمُّ والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهمّ. فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضي أثَّرَ الحزنَ، وإن كان مصدره خوف الآتي أثَّر الهمَّ. والعجز والكسل قرينان، فإن تخلّف مصلحةِ العبد وكماله عنه (3) إن كان من عدم القدرة فهو عجز. وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل. والجبن والبخل قرينان، فإنَّ الإحسان يفرح القلب، ويشرح الصدر، ويجلب النعم، ويدفع النقم. وتركه يوجب الغمّ (4) والضيق، ويمنع __________ (1) "ط": "فحمده على". (2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2893) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2706) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. وضلع الدين: ثقله. (3) "ط": "مصلحة العبد وبعدها عنه". (4) "ط": "الضيم"، تحريف.
(2/606)
وصول النعم إليه. فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال. وضلع الدَّين وغلبة الرجال (1) قرينان، فإنَّ القهر والغلبة الحاصلة للعبد إمَّا منه، وإمَّا من غيره. وإن شئت قلت: إمَّا بحقٍّ، وإمَّا بباطل. فضلعُ الدين غلبةٌ سببها منه، وهي غلبة (2) بحقٍّ. وغلبةُ الرجال قهرٌ بباطل (3) من غيره (4). والمقصود أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الحزن مما يستعاذ منه. وذلك لأنَّ الحزن يُضعِف القلب، ويُوهِن العزم، ويغيّر (5) الإرادة؛ ولا شيء أحبُّ إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة/ 10]. فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب (6) على المصائب التي يُبتلى العبدُ بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما. وأمَّا أن يكون عبادةً مأمورًا بتحصيلها وطلبها فلا. فَفرْقٌ [بين] (7) ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه __________ (1) "ك، ط": "وغلبة الدَّين وقهر الرِّجال". وهي رواية أخرى في الحديث. ومن هنا قال المؤلف في الجملة التالية: "فإنَّ القهر والغلبة". (2) "ف": "عليه"، تصحيف. (3) "فضلع الدين. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (4) وانظر في شرح الحديث أيضًا: مفتاح دار السعادة (1/ 375)، وبدائع الفوائد (714). (5) "ب": "يفتر"، قراءة محتملة. وفي "ك، ط": "يضر". (6) "ثواب" ساقط من "ك، ط". (7) ما بين الحاصرتين من "ف" وغيرها، ولعله سقط من الأصل سهوًا. وفي =
(2/607)
من البليَّات. ولكن يُحمَد في الحزن سببُه ومصدرُه ولازمُه، لا لذاته. فإنَّ المؤمن إمَّا أن يحزنَ على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وإمَّا أن يحزن على تورّطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدلُّ على صحّة الإيمان في قلبه وعلى حياته، حيث شعر (1) قلبُه بمثل هذا الألم، فحزن عليه. ولو كان قلبه ميّتًا لم يحسّ بذلك، ولم يحزن، ولم يتألَّم، فما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلام (2). وكلَّما كان قلبُه أشدَّ حياةً كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكنَّ الحزن لا يجدي عليه، فإنَّه يُضعِفه، كما تقدّم. بل الذي ينفعه أن يستقبل السيرَ، ويجدّ، ويشمِّر، ويبذل جهده. وهذا نظيرُ من انقطع عن رُفْقتِه في السفر، فجلس في الطريق حزينًا كئيبًا يشهد انقطاعَه وسبقَ رفقته، فقعودُه لا يجدي شيئًا. بل إذا عرف الطريق فالأولى له أن ينهض، ويجدّ في السير (3)، ويحدّث نفسَه باللَّحاق بالقوم. وكلَّما (4) فترَ وحزِن حدّث نفسَه باللحاق برفقته، ووعدها -إن صبرَتْ- أن تلحق بهم، وتزول عنها وحشةُ الانقطاع. فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقرَّبين. __________ = "ب": "فقرن بين"، تحريف. (1) "ك، ط": "شغل"، تحريف. (2) من قول المتنبي (ديوانه 245): من يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ... ما لجُرْحٍ بميِّتٍ إيلَامُ (3) "وسبق رفقته. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط". وقد استدركها بعضهم في حاشية "ك". (4) "ك، ط": "فكلّما".
(2/608)
وأخمصُّ من هذا الحزنُ (1) على قطع الوقت بالتفرقة المضعِفة للقلب عن تمام سيره وجدّه في سلوكه، فإنَّ التفرقة من أعظم البلاءِ على السالك، ولا سيما في ابتداءِ أمره. فالأول حزن على التفريط (2) في الأعمال، وهذا حزن على نقص حاله مع اللَّه، وتفرقة قلبه عنه (3)، وكيف صار ظرفًا لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده؟ وأخصُّ من هذا الحزنِ حزنُه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خالٍ من محبة اللَّه؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو متصرّف (4) في غير محابّ اللَّه؟ فهذا حزن الخاصَّة. ويدخل في هذا حزنهم على كلِّ معارض يشغلهم عمَّا هم بصدده، من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج. فهذه المراتب من الحزن لا بدَّ منها في الطريق، ولكن الكيِّس من (5) لا يدعها تملكه وتُقعِده، بل يجعل عوضَ فكرتَه فيها فكرتَه فيما يدفعها به. فإنَّ المكروه إذا وردَ على النفس، فإن كانت صغيرةً اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي تدفعها (6) به، فأورثَها الحزن. وإن كانت نفسًا كبيرةً شريفةً لم تفكّر فيه، بل تصرف فكرَها إلى ما ينفعها. فإن علمتْ منه مخرجًا فكّرتْ في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمتْ أنه لا مخرجَ منه، فكَّرت في عبودية اللَّه فيه، __________ (1) "ك، ط": "من هذا الحزن حزنُه". (2) "ف": "التوسط"، تحريف. (3) "عنه" ساقط من "ك، ط". (4) "ط": "منصرف". (5) "من" ساقط من "ك، ط". (6) في "ف" وغيرها: "يدفعها" والأصل غير منقوط. والسياق يقتضي قراءتنا.
(2/609)
فكان (1) ذلك عوضًا لها من الحزن. فعلى كلّ حالٍ لا فائدة لها في الحزن أصلًا. واللَّه أعلم. وقال بعض العارفين: "ليست الخاصَّة من الحزن في شيءٍ" (2). وقوله رحمه اللَّه: "معرفة اللَّه جلا نورُها كلّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غمَّة" كلام في غاية الحسن. فإنَّ من عرف اللَّه أحبَّه ولا بدَّ، ومن أحبَّه انقشعتْ عنه سحائبُ الظلمات، وانكشفتْ عن قلبه الهمومُ والغمومُ والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفودُ التهاني والبشائر من كلِّ جانب، فإنَّه لا حزن مع اللَّه أبدًا. ولهذا قال تعالى حكايةً عن نبيّه أنَّه قال لصاحبه (3): {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40]. فدلَّ على (4) أنَّه لا حزنَ مع اللَّه، وأنَّ من كان اللَّه معه فما له وللحزن؟ وإنَّما الحزن كلّ الحزن لمن فاته اللَّه، فمن حصل اللَّهُ له، فعلى أيّ شيءٍ يحزَن؟ ومن فاته اللَّه، فبأيّ شيءٍ يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس/ 58]. فالفرحُ بفضله وبرحمته (5) تبعٌ للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربّه أعظمَ من فرح كلّ أحد بما يفرح به، من حبيب أو جاه (6) أو مال أو نعمة __________ (1) "ط": "وكان". (2) من كلام الهروي في منازل السائرين (20). وانظر: مدارج السالكين (1/ 603). (3) "ط": "لصاحبه أبي بكر". (4) "على" ساقط من "ك، ط". (5) "ك، ط": "ورحمته". (6) "ك، ط": "حياة"، تحريف.
(2/610)
أو مُلك، ففرحُ (1) المؤمن بربِّه أعظمُ من هذا كلّه. ولا ينال القلبُ حقيقةَ الحياة حتّى يجدَ طعمَ هذه الفرحة والبهجة، فيظهرَ سرورُها في قلبه ونضرتُها (2) في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقَّاهم اللَّه نضرةً وسرورًا. فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون! فهذا هو العلَم الذي شمَّر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم. تلك المكارمُ لا قَعْبان من لبَنٍ ... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا (3) __________ (1) "ك، ط": "يفرح". (2) "ط": "مضرّتها"، تحريف. (3) البيت لأميّة بن أبي الصلت في ديوانه (459).
(2/611)
فصل والمثال السادس: الخوف. قال أبو العبّاس: "هو الانخلاعُ عن طمأنينة الأمن، والتيقّظُ لنداءِ الوعيد، والحذرُ من سطوة العقاب. وهو من منازل العوامّ أيضًا. وليس في منازل الخواصّ خوف، لأنَّه لا أمان للغافل، إنَّما يعبد (1) مولاه على وحشة من نظره، ونفرة من الأنس به عند ذكره. {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى/ 22]. وأمَّا الخواصّ أهل الاختصاص (2)، فإنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا، والعذابَ فيه عَذْبًا، لأنَّهم شاهدوا المبتلي في البلاءِ، والمعذِّب في العذاب، فاستعذبوا ما وجدوا في جنب ما شاهدوا. وفي ذلك (3) قال قائلهم: سَقَمي في الحبِّ عافيتي ... ووجودي في الهوى عدَمي وعذابٌ ترتضون به ... في فمي أحلى من النِّعم (4) ومن كان مستغرقًا في المشاهدة حلَّ (5) في بساط الأنس، فلا يبقى للخوف بساحته ألم (6)؛ لأنَّ المشاهدة تُوجِب الأنس، والخوف يُوجِبُ __________ (1) في محاسن المجالس: ". . خوف؛ لأنه لا يليق للعبد أن يعبد". (2) "ف": "وأهل الاختصاص"، سهو. (3) "ك، ط": "شاهدوا في ذلك". (4) البيتان مع ثالث في المدهش (451). وذكر في نفح الطيب (5/ 598) أنَّها تنسب إلى الحلّاج. (5) في المجالس: "حالّ" وفي نسخة منه: "جائلًا". (6) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: "إلمام". وهو الصواب الظاهر.
(2/612)
القبض". ثمَّ ذكر حكاية المضروب الذي ضُرِب مائةَ سوط فلم يتألّم لأجب نظرِ محبوبه إليه، ثمَّ ضُرِبَ سوطًا، فصاحَ لمَّا توارى عنه محبوبُه. قال: "وقد قيل في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى/ 26]: دليلُ خطابه أنَّ المؤمنين لهم عذاب، ولكن ليس بشديد. وإنَّما كان عذاب الكافرين شديدًا لأنّهم لا يشاهدون المعذِّب لهم. والعذابُ على شهود المعذِّب عَذْبٌ، والثوابُ على الغفلة من المعطي صَعْبٌ. فالخوفُ إذًا من منازل العوامّ" (1). والكلام على ما ذكره من وجوه: أحدها: أنَّ الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي: الخوف، والرجاءُ، والمحبَّة. وقد ذكره سبحانه في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 56 - 57]. فجمع بين المقامات الثلاثة، فإنَّ ابتغاءَ الوسيلة إليه هو التقرّب إليه بحبّه وفعلِ ما يحبّه. ثمَّ قال (2): {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فذكر الحبّ، والخوف، والرجاءَ. والمعنى أنَّ هؤلاء (3) الذين تدعونهم من دون اللَّه من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقرّبون إلى ربّهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده، كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه، __________ (1) محاسن المجالس (83 - 84). (2) "ط": "يقول". (3) "هؤلاء" ساقط من "ط".
(2/613)
وأنتم وهم عبيد له؟ وقد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} (1) [آل عمران/ 175]، فجعل الخوف منه شرطًا في تحقّق الإيمان، وإن كان الشرط داخلًا في الصيغة على الإيمان فهو المشروط في المعنى، والخوف شرط في حصوله وتحقّقه. وذلك لأنَّ الإيمان سبب الخوف الحامل (2) عليه، فحصول (3) المسبَّب شرط في تحقّق السبب، كما أنَّ حصول السبب موجب لحصول مسبَّبه. فانتفاءُ الإيمان عند انتفاءِ الخوف انتفاءٌ للمشروط عَند انتفاء شرطه، وانتفاءُ الخوف عند انتفاءِ الإيمان انتفاءٌ للمعلول عند انتفاء علَّته. فتدبَّره! والمعنى: إن كنتم مؤمنين فخافوني. والجزاءُ محذوف مدلولٌ عليه بالأوَّل عند سيبويه وأصحابه، أو هو المتقدّم نفسه، وهو جزاءٌ وإن تقدّم كما هو مذهب الكوفيين. وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضي للخوف وهو الإيمان. وكل منهما مستلزمٌ للآخر، لكنَّ الاستلزام مختلف؛ وكلٌّ منهما منتفٍ عند انتفاء الآخر، لكن جهة الانتفاءِ مختلفة، كما تقدّم. والمقصود: أنَّ الخوف من لوازم الإيمان وموجباته، فلا يتخلَّف (4) عنه. وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة/ 44]. وقد __________ (1) في الأصل و"ف": "وخافوني" على قراءة أبي عمرو في الأصل. انظر: الإقناع (626). (2) "ك، ط": "الحاصل"، تحريف. (3) "ط": "وحصول". (4) "ط": "يختلف"، تحريف.
(2/614)
أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال تعالى عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء/ 90]. فالرغَب: الرجاءُ والرغبة، والرهب: الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل/ 50]. وفي الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنِّي أعلمُكم باللَّه وأشدُّكم له خشيةً" (1). وفي لفظ آخر: "إنِّي أخوَفُكم للَّه وأعلمُكم بما أتَّقِي" (2). وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي ولصدره أزيزٌ كأزيز المِرجَل من البكاءِ (3). وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر/ 28] فكلَّما كان العبد باللَّه أعلَم كان له أخوفَ. قال ابن مسعود: "كفى بخشية اللَّه علمًا" (4). ونقصان الخوف من اللَّه إنَّما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم للَّه. ومن عرف اللَّه اشتدَّ حياؤه منه وخوفه له وحبّه له، وكلَّما ازداد معرفةً ازداد حياءً وخوفًا وحبًّا. فالخوف من أجلّ منازل الطريق، وخوفُ الخاصّة أعظم من خوف __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6101) وغيره، ومسلم في الفضائل (2356) عن عائشة رضي اللَّه عنها. (2) أخرجه مسلم في الصيام (1110) عن عائشة رضي اللَّه عنها. ولفظه: "وإنّي لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه وأعلمكم بما أتَّقي". (3) أخرجه أبو داود (904)، والنسائي (3/ 13)، وفي الكبرى له (544، 545)، وابن خزيمة (900)، وابن حبان (655، 753)، والحاكم (971) وغيرهم من حديث عبد اللَّه بن الشخير. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. (ز). (4) تقدم تخريجه في ص (589).
(2/615)
العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم ألصق (1)، ولهم ألزم. فإنَّ العبد إمَّا أن يكون مستقيمًا، أو مائلًا عن الاستقامة. فإن كان مائلًا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على مَيله، ولا يصحّ الإيمان إلا بهذا الخوف. وهو ينشأ من ثلاثة أمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها. والثاني: تصديق الوعيد وأنَّ اللَّه رتَّب على المعصية عقوبَتها. والثالث: أنَّه لا يعلم لعلّه يُمنَع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكبَ الذنبَ. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه. فإنَّ الحامل على الذنب إمَّا أن يكون عدم علمه بقبحه، وإمَّا عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإمَّا أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتّكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان. فإذا علم قبحَ الذنب، وعلم سوءَ مغبّته، وخاف أن لا يُفتح له بابُ التوبة بل يُمنعها ويحال بينه وبينها = اشتدَّ خوفُه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشدّ. وبالجملة، فمن استقرَّ في قلبه ذكرُ الدار الآخرة وجزائها، وذكرُ المعصية والتوعّد عليها، وعدمُ الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح = هاج من (2) قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتَّى ينجو. وأمَّا إن كان مستقيمًا مع اللَّه، فخوفه يكون مع جرَيان الأنفاس، لِعلمه بانَّ اللَّه مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبَعين من __________ (1) "ك، ط": "أليق". (2) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "في".
(2/616)
أصابع الرحمن عزَّ وجلَّ، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاءَ أن يُزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). وكانت أكثر يمينه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ومقلِّب القلوب، لا ومقلِّب القلوب" (2). وقال بعض السلف: "القلبُ أشدّ تقلُّبًا من القِدْر إذا استجمعتْ غلَيانًا" (3). وقال بعضهم: "مثل القلب في سرعة تقلّبه كريشةٍ مُلقاةٍ بأرض فلاة تقلبها الرياحُ ظهرًا لبطن" (4). ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال/ 24]. فأيّ قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحقّ بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له في كلِّ حال، وإن توارى عنه بغلبة حالةٍ أخرى عليه. فالخوف حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة (5) غيره، فوجود الشيء غير العلم به. فالخوف الأوَّل ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة اللَّه وعزَّته وجلاله، وأنَّه الفعَّال لما يريد، وأنَّه المحرّك للقلب، المصرِّف له، المقلب له كيف يشاء، لا إله إلا هو. الوجه الثاني: قوله: "ليس في منازل الخواصّ خوف" قد تبيّن __________ (1) تقدّم تخريجه في ص (17). (2) تقدّم تخريجه في ص (137). (3) حديث مرفوع أخرجه أحمد (23816)، والطبراني في الكبير (599)، والحاكم (2/ 289) من طريقين عن المقداد بن الأسود أحدهما منقطع، والآخر لا بأس به. قال الحاكم: "هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرِّجاه"، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات". (4) تقدّم تخريجه في ص (138). (5) "ف": "لغلبة"، خلاف الأصل.
(2/617)
فساده، وأنَّ الخاصَّة أشدّ خوفًا للَّه (1) من العامَّة. الوجه الثالث: قوله: "الغافلُ (2) يعبد ربَّه على وحشةٍ من نظره ونفرةٍ من الأنس به عند ذكره {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} الآية [الشورى/ 22] ". فهذا إنَّما هو وحشة ونَفار، وهو غير الخوف، فإنَّ الوحشة إنَّما تنشأ من عدم الخوف. وأمَّا الخوف فإنَّه يوجب هروبًا إلى اللَّه، وجمعيّةً عليه، وسكونًا إليه؛ فهي مخافة مقرونة بحلاوة وطمأنينة وسكينة ومحبَّة، بخلاف خوف المسيء الهارب من اللَّه، فإنَّه خوف مقرون بوحشة ونفرة. فخوفُ الهارب إليه سبحانه محشوٌّ بالحلاوة والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنَّما يجد الوحشة من نفسه. فله نظران: نظرٌ إلى نفسه وجنايته، فيُوجب له وحشةً؛ ونظر إلى ربِّه وقدرته عليه وعزّه وجلاله، فيوجب له خوفًا مقرونًا بأنس وحلاوة وطمأنينة. الوجه الرابع (3): أنَّ استشهاده بقوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى/ 22] ليس استشهادًا صحيحًا، فإنَّ هذا وصفٌ لحالهم في الآخرة عند معاينة العذاب أو عند الموت. فهذا إشفاقٌ مقرونٌ بالاستيحاش؛ لأنَّه قد علم أنَّه سائر إليه، كمن قُدِّم إلى العقوبة، ورأى أسبابها، فهو مشفق منها إذا رآها، لعلمه بأنَّه صائر إليها. __________ (1) كلمة "للَّه" ساقطة من "ب، ك، ط". (2) "ط": "العاقل"، تصحيف. (3) وقع في الأصل: "الثالث" سهوًا، ثمَّ استمرَّ الخطأ فيه إلى آخر الوجوه، وهو "الثاني عشر" وصوابه: الثالث عشر. وقد صحح الترقيم هنا وفي الوجه التالي في "ف، ب، ك". ولكن لما وصل الكلام -بعد طول الفصل- إلى الوجه السادس تابعت كلُّها الأصلَ في سهوه، فأثبتت: "الخامس"، وهلُمّ جرًّا.
(2/618)
فليست الآية من الخوف المأمور به في شيءٍ. الوجه الخامس: أنَّ الخوف يتعلَّق بالأفعال، وأمَّا الحبّ فإنَّه يتعلَّق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف في الجنَّة، وأمَّا الحبّ فيزداد. ولمَّا كان الحبّ يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه: "الودود". قال البخاري في صحيحه: "الحبيب" (1). وأمَّا الخوف فإنَّ متعلّقه أفعال الربّ سبحانه، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايتُه من قدر اللَّه. ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: "لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه" (2). فمتعلَّق الخوف ذنبُ العبد وعاقبته، وهي مفعولات للربّ، فليس الخوف عائدًا إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحبّ أنَّ الحبَّ سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلّق الحبّ التام. وأمَّا الخوف فسببه توقّع المكروه، وهذا إنَّما يكون في الأفعال والمفعولات. وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنَّه سبحانه يُخاف لا لعلَّة ولا لسبب، بل كما يُخاف السيلُ الذي لا يدري العبد من أين يأتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفي محبّته سبحانه وحكمته، وأنَّه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التي تُرجح مِثْلًا على مِثْلٍ بلا مرجِّح، __________ (1) يعني تفسير "الودود": نقله البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. انظر: كتاب التفسير، سورة البروج (ص). ووصله الطبري في تفسيره (30/ 138)، وسنده حسن. (ز). (2) نقله المصنّف ضمن كلام طويل لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في مفتاح دار السعادة (1/ 509). وقد سُئل شيخ الإسلام عن معنى قوله هذا. وجوابه في مجموع الفتاوى (8/ 161 - 180).
(2/619)
ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهؤلاء عندهم الخوف يتعلَّق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنَّه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاء من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاء فالخوف (1) لازم للعبد في كلِّ حال، أحسنَ أم أساءَ، وليس لأفعالهم (2) تأثير في الخوف. وهذا من قلَّة نصيبهم من المعرفة باللَّه وكماله وحكمته. وأين هذا من قول أمير المؤمنين عليّ: "لا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبَه"؟ فجعل الرجاءَ متعلِّقًا بالربِّ سبحانه وتعالى، لأنَّ رحمته من لوازم ذاته، وهي سبقت غضبَه. وأمَّا الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتَّى لو قُدِّرَ عدمُ الذنب بالكليّة لم تكن مخافة. [مسألة] فإن قيل: فما وجه خوفِ الملائكة، وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة. وشدَّة خوف النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مع علمه بأنَّ اللَّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأنَّه أقرب الخلق إلى اللَّه وسيلة (3)؟ قبل: عن هذا أربعة أجوبة (4): الجواب الأوَّل: أنَّ هذا الخوف على حسب القرب من اللَّه والمنزلة عنده. وكلَّما كان العبد أقرب إلى اللَّه كان خوفه منه أشدّ؛ لأنَّه يطالَب __________ (1) "ب": "الخوف". (2) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "لأفعال"، فصححت في القطرية: "لأفعاله". (3) "وسيلة" ساقط من "ك، ط". (4) وسترى أنّه لم يجب إلّا ثلاثة أجوبة، وسقط الثاني لسهو في الترقيم كما سيأتي (625).
(2/620)
بما لا يطالَب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا في الشاهد (1) أنَّ الماثلَ بين يدي أحد الملوك المشاهِدَ له أشدُّ خوفًا منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنَّه يطالَب من حقوق الخدمة وآدابها (2) بما لا يطالَب به غيرُه، فهو أحقّ بالخوف من البعيد. ومَن تصوَّر هذا حقّ تصوُّره فَهِمَ قولَه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي أعلمكم باللَّه وأشدكم له خشية" (3)، وفهمَ قولَه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ اللَّه تعالى لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم كانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم" (4). وليس المراد أنَّه (5) لو عذبهم لتصرف في ملكه، والمتصرف في ملكه غير ظالم، كما يظنّه كثير من النَّاس؛ فإنَّ هذا لا يتضمَّن (6) مدحًا، والحديث إنَّما سيق للمدح وبيان عِظَم حقّ اللَّه على عباده، وأنَّه لو عذَّبهم لعذّبهم بحقّه عليهم، ولم يكن تعذيبه ظلمًا لهم (7) بغير استحقاق، فإنَّ حقَّه سبحانه عليهم أضعافُ أضعافِ ما أتوا. ولهذا قال __________ (1) "ط": "المشاهد"، تحريف. (2) نقطة الباء واضحة في الأصل، ولكن قرأها ناسخ "ف": "أدائها". وكذا في "ب، ك، ط". (3) تقدّم تخريجه قريبًا. (4) تقدم تخريجه في ص (164). (5) في "ف" مكان "أنّه": "به"، خلاف الأصل. وكذا في "ب، ك، ط". (6) "ط": "هذا يتضمن". وكذا في "ك"، واستدرك بعضهم في الحاشية. (7) "وبيان عظم حق اللَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ط".
(2/621)
بعده: "ولو رحمهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم" يعني أنَّ رحمته لهم ليست ثمنًا لأعمالهم، ولا تبلغ أعمالهم رحمته، فرحمته لهم ليست (1) على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقلّ باقتضاءِ الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقّها عليهم لم يقوموا بها. فلو عذَّبهم -والحالة هذه- لكان تعذيبًا لحقّه، وهو غيرُ ظالم لهم فيه، ولا سيّما فإنَّ أعمالهم لا توازي القليل من نِعَمه عليهم، فتبقى نِعمُه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذَّبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقّه الذي ينبغي له سبحانه، عذّبهم بحقّه (2) ولم يكن ظالمًا لهم. فإن قيل: فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له سبحانه مقدورًا لهم، فكيف يحسن العذاب عليه؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ المقدور للعبد لا يأتي به كلّه، بل لا بدَّ من فتور وإعراض وغفلة وتوانٍ، وأيضًا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفّيها حقَّها الواجبَ لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامَّة للَّه فيها، بحيث يبذل مقدوره كلّه في تحسينها وتكميلها ظاهرًا وباطنًا، فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل. ولهذا لمّا (3) سأل الصدّيقُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دعاءً يدعو به في صلاته، قال (4) __________ (1) "ثمنًا لأعمالهم. . ." إلى هنا ساقط من "ك، ط". (2) "بحقه" ساقط من "ك، ط". والجملة: "عذَّبهم بحقه" وقعت في "ف" بعد "ترك شكرهم"، وهو خطأ من الناسخ. (3) "لمّا" ساقط من "ط". (4) "ط": "فقال".
(2/622)
له: "قل اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم" (1). فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكِّدًا له بـ "إنَّ" المقتضيةِ ثبوتَ الخبر وتحقّقه، ثمَّ أكدَّه بالمصدر النافي للتجوُّز والاستعارة، ثمَّ وصفه بالكثرة المتقضية لتعدّده وتكثّره. ثم قال: "فاغفر لي مغفرةً من عندك" أي: لا ينالها عملي ولا سعيي، بل عملي يقصر عنها، وإنَّما هي من فضلك وإحسانك، لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي. ثمَّ قال: "وارحمني" أي: ليس معوّلي إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتَني وإلا فالهلاك لازم لي. فليتدبّر اللبيب هذا الدعاءَ وما فيه من المعارف والعبودية، وفي ضمنه: إنَّك (2) لو عذَّبتني لعدلتَ فيَّ ولم تظلمني، وإنِّي لا أنجو إلا بمغفرتك ورحمتك (3). ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن يُنجيَ أحدًا منكم عملُه" قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمّدني اللَّهُ برحمةِ منه وفضل" (4). فإذا كان عملُ العبد لا يستقلّ بالنجاة، فلو لم يُنجه اللَّه لم يكن (5) قد بخسه شيئًا من حقّه ولا ظَلَمه، فإنَّه ليس معه مَا يقتضي نجاتَه، وعملُه ليس وافيًا بشكر القليل من نِعَمه، فهل يكون ظالمًا له لو __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2705). (2) "ط": "أنّه". (3) "ط": "برحمتك ومغفرتك". ولشيخ الإسلام رسالة في شرح هذا الحديث ضمن "جامع المسائل" (4/ 23 - 69). (4) أخرجه البخاري في كتاب الرفاق (6463) وغيره، ومسلم في صفات المنافقين (2816) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (5) "ط": "فلم يكن"، خطأ.
(2/623)
عذَّبه؟ وهل تكون رحمتُه له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمنًا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياء والمراقبة، والمحبّة والخشوع وحضور القلب بين يدي اللَّه في العمل كله (1)؟ ومَن علِمَ هذا عَلِمَ السرَّ في كون أعمال الطاعات تُختَم بالاستغفار، ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سلَّم من صلاته استغفر ثلاثًا. وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (2). قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 17 - 18]. فأخبر عن استغفارهم عقيبَ صلاة الليل. قال الحسن: "مدّوا الصلاة إلى السحرِ، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون اللَّه" (3). وأمر تعالى عبادَه بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحجّ فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199]. وشرع (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- للمتوضئ أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: "أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلا اللَّهُ وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرسولُه. اللَّهم __________ (1) "ك، ط": "له". (2) تقدّم تخريجه في ص (443). (3) تفسير الطبري (26/ 200)، تفسير القرطبي (17/ 26). (4) "ط": "شرع رسول اللَّه".
(2/624)
اجْعَلْنِي من التَّوابِين واجْعَلْنِي من المُتَطَهِّرين" (1). فهذا ونحوه ممَّا يبيّن حقيقة الأمر، وأنَّ كل أحد محتاج إلى مغفرة اللَّه ورحمته، وأنَّه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلًا. الجواب الثاني: أنَّه لو فرض أنَّ العبد يأتي بمقدوره (2) كلّه من الطاعة ظاهرًا وباطنًا، فالذي ينبغي لربّه تعالى فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحقّ ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذي أتى به لا يقابل أقلَّ النعم، فإذا حرم جزاءَ العمل الذي ينبغي للربِّ من عبده كان ذلك تعذيبًا له، ولم يكن الربّ تعالى ظالمًا له في هذا الحرمان. ولو كان عاجزًا عن أسبابه فإنَّه لم يمنعه حقًّا يستحقّه عليه فيكون ظالمًا بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرّد صدقة منه وفضل تصدَّق بها عليه، لا ينالها عملُه، بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معاوضة عليه. واللَّه أعلم. الجواب الثالث (3) عن السؤال الأوَّل: أنَّ العبد إذا علم أنَّ اللَّه سبحانه هو مقلِّب القلوب، وأنَّه يحول بين المرءِ وقلبِه، وأنَّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنَّه يهدي من يشاء، ويضلّ من __________ (1) تقدّم تخريجه في ص (468). (2) "ف": "فرض العبد يأتي مقدوره"، خلاف الأصل. (3) كذا في الأصل وغيره، وهو سهو. وقد كتب المصنف رحمه اللَّه أولًا: "الوجه الخامس: قوله: وأما الخواص أهل الاختصاص"، ثم تذكر أن عليه ثلاثة أجوبة قد وعد بها من قبل (620)، فضرب على العبارة السابقة، وكتب: "الجواب الثالث". ثم وضع علامة اللحق وأضاف في الحاشية: "عن السؤال الأول". وذهب عليه أنه لم يسبق إلّا جواب واحد عنه، فهذا الجواب هو الثاني لا الثالث.
(2/625)
يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء؛ فما يؤمنه أن يقلب اللَّه قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران/ 8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يُزيغ قلوبَهم. وكان من دعاء النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم مصرّف القلوب، صرّفْ قلوبَنا على طاعتك" (1). و"مثبّتَ القلوب، ثبِّتْ قلوبَنا على دينك" (2). وفي الترمذي (3) عنه مسلم أنَّه كان يدعو: "أعوذ بعزَتك أن تُضِلَّني، أنت الحيّ الذي لا يموت (4) ". وكان من دعائه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ برضاكَ من سَخطِك، وأعوذُ بمعافاتِكَ من عقوبتك، وأعوذُ بِكَ مِنكَ" (5). فاستعاذ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكان استعاذته به (6) منه جمعًا لما فصَّله في الجملتين قبله، فإنَّ الاستعاذة به سبحانه منه ترجع إلى معنى لكلام قبلها، مع تضمّنها فائدةً شريفةً وهي كمال التوحيد وأنَّ الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنَّما هو فعل اللَّه ومشيئته وقدره، فهو وحده __________ (1) سبق تخريجه في ص (57). (2) سبق تخريجه في ص (17). (3) كذا في الأصل وغيره. والحديث في الصحيحين كما في مدارج السالكين (2/ 140). أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7383)، ومسلم في الذكر والدعاء (2717) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (4) "ك، ط": "لا تموت"، والأصل غير منقوط، وكلاهما ورد في الحديث. (5) تقدّم تخريجه في ص (57). (6) "به" ساقط من "ط".
(2/626)
المنفرد بالحكم، فإذا أراد بعبده سوءًا لم يُعِذْه منه إلا هو. فهو الذي يريد به ما يسوؤه، وهو الذي يريد دفعه عنه. فصارَ سبحانه مستعاذًا به منه باعتبار الإرادتين. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام/ 17] فهو الذي يمسن بالضرّ، وهو الذي يكشفه، لا إله إلا هو. فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأ منه إليه، كما أنَّ الاستعاذة منه به (1)، فإنَّه لا ربَّ غيره، ولا مدبِّر للعبد سواه، فهو الذي يحرِّكه ويقلْبه ويصرِّفه كيف يشاء. الجواب الرابع: أنَّ اللَّه سبحانه هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل فيه التوبة والإنابة والإقبال والمحبَّة والتفويض وأضدادها. والعبدُ في كلِّ لحظةٍ مفتقرٌ إلى هداية يجعلها اللَّه في قلبه، وحركاتٍ يحرِّكه بها (2) في طاعته. وهذا إلى اللَّه سبحانه، فهو خَلَقه (3) وقدَّره. وكان من دعاءِ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها" (4). وعلَّم حصين بن المنذر (5) أن __________ (1) "به" ساقط من "ط". (2) "ف": "يحرّكها به"، سهو. (3) "ب": "في خلقه". (4) تقدّم تخريجه في ص (170). (5) كذا قال المصنف هنا، وفي الوابل الصيب (410)، ومدارج السالكين (1/ 108، 294). وقال في نونيته: واذكر حديثَ حُصَينٍ بنِ المنذر الثّـ ... ـقةِ الرضا أعني أبا عمران الكافية الشافية (455). والظاهر أنَّه وهم، فإنَّ حصينًا ابن عُبيد بن خلف الغاضري الخزاعي. انظر: الإصابة (2/ 86) وغيره.
(2/627)
يقول: "اللّهمَّ أَلهِمْني رشدي، وقِني شرَّ نفسي" (1). وعامَّة أدعيته -صلى اللَّه عليه وسلم- متضمِّنة لطلب توفيق ربّه وتزكيته له واستعماله في محابِّه. فمَن هُداه وصلاحُه وأسبابُ نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرِّف فيه بما يشاء، ليس له (2) من أمره شيء، مَن أحقّ بالخوف منه؛ وهَبْ أنَّه قد خلق له في الحال الهداية، فهل هو على يقينٍ وعلمٍ (3) أنَّ اللَّه سبحانه يخلقها له في المستقبل ويُلهِمه رُشدَه أبدًا؟ فعلم أنَّ خوف المقرَّبين عند ربِّهم أعظمُ من خوف غيرهم، واللَّه المستعان. ومن ههنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان، كما قال بعض السلف: "أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر" (4). وكان عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول لحذيفة: "نشدُتك اللَّهَ هل سمَّاني لك رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ " يعني في المنافقين، فيقول: "لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا" (5) يعني: لا أفتح عليَّ هذا الباب في سؤال الناس لي، وليس مراده أنَّه لم يخلُصْ من النفاق غيرُك. الوجه السادس: "وأمَّا الخواصّ فإنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا، والعذابَ فيه عَذْبًا؛ لأنَّهم شاهدوا المبتليَ والمعذِّب، فاستعذبوا ما __________ (1) تقدّم تخريجه في ص (170). (2) "له" ساقط من "ط". (3) "ب": "علم من أن". (4) نقله المصنف في الداء والدواء (117). (5) زاد هنا في "ط" بين القوسين: "رواه البخاري" وهو غير صحيح (ص). وفي مسند البزار (2885) نحوه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 42) وقال: "رواهُ البزار ورجاله ثقات". وقال ابن حجر: "إسناده صحيح". انظر: مختصر زوائد البزار (590). (ز).
(2/628)
وجدوا في جنب ما شاهدوا. . ." إلى آخر كلامه. فيقال: هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس، ومن الشطحات التي يجب إنكارها. فمن الذي جعل وعبد اللَّه وعدًا، وعقابه ثوابًا، وعَذابه عَذْبًا؟ وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه في الحقيقة؟ وأيّ عذاب أشدّ من عذابه، نعوذ باللَّه منه؟ قال تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج/ 2]. وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر/ 25 - 26]. وهذا أظهر في كلِّ ملَّة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. وإنَّما ينسب هذا المذهب للملاحدة (1) من القائلين بوحدة الوجود، كما قال قائلهم: ولم يبق إلا صادقُ الوعد وحدَه ... فما لوعيد الحقّ عينٌ تُعاينُ وإن دخلوا دارَ الشقاءِ فإنَّهم ... على لذَّةٍ فيها نعيمٌ مُباينُ نعيمُ جِنان الخلد والأمر واحد ... وبينهما عند التجلِّي تبايُنُ (2) يسمَّى عذابًا من عُذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر، والقشر صائنُ (3) فهذا القائل خطّ على تلك النقطة التي نقطها أبو العبَّاس، ولعلَّ الكلامين من مشكاة واحدة. وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل، وما أخبرت به عن اللَّه، وأخبر به على لسان __________ (1) "ب، ك، ط": "إلى الملاحدة". (2) هذا البيت في "ط" آخر الأبيات. (3) أنشدها ابن عربي في فصوص الحكم. انظر: شرحه لصائن الدين (396 - 399). ومن الفصوص نقلها شيخ الإسلام في الصفدية (246) والمؤلِّف في حادي الأرواح (489).
(2/629)
رُسُله (1). فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنَّما مراده أنَّه سبحانه إذا ابتلى عبده في الدنيا فهو لكمال محبّته له يتلذَّذ بتلك البلوى ويعدّها نعمةً، وليس مراده عذاب الآخرة (2). قيل: قوله عن الخواصّ: "أنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا" ينفي ما ذكرتم من التأويل، فإنَّ ابتلاءَ الدنيا غيرُ الوعيد. وأيضا فإنَّه في مقام الخوف ونفيه عن الخاصَّة محتجًّا عليه بأنَّهم يرون العذاب عذبًا والوعيد وعدًا، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذي يسخر (3) منه العقلاء. بل نحن لا ننكر أنَّ العبد إذا تمكَّن حبّ اللَّه في قلبه حتَّى ملك جميعَ أجزائه فإنَّه يتلذَّذ بالبلوى أحيانًا. وليس ذلك دائمًا ولا أكثريًّا، ولكنَّه يعرض عند (4) هيجان الحبّ وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثمَّ يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا مِن جعلِ الوعيد وعدًا، والعذاب عَذبًا؟ وإن أُحسِن الظنُّ بصاحب هذا الكلام ظُنَّ به أنَّه ورد عليه وارد من الحبّ يُخيِّل في نفسه أنَّ محبوبه إذا تواعده (5) كان ذلك منه وعدًا، وإن عذَّبه كان عذابُه عنده عذبًا، لموافقته مراد محبوبه. وهذا خيالٌ فاسد __________ (1) "ط": "رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-". (2) "ب": "نعيم الآخرة". (3) "ف": "سخر"، خلاف الأصل. (4) "ف": "عن"، خلاف الأصل. (5) كذا في الأصل وغيره. ولم أجد "تواعده" بمعنى توعّده وتهدّده. وفي "ط": "توعده".
(2/630)
وتقدير في النفس، وإلا فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل. بل لو صُبَّ عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية. وحكمة اللَّه سبحانه تقتضي تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعِنة الحمِقة (1) بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتَّى يتبين لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل. وهذا سيّد المحبّين وسيّد ولد آدم، استعاذتُه باللَّه (2) من عذابه وبلائه، وسؤالُه عافيتَه ومعافاتَه معلومةٌ في أدعيته وتضرّعه إلى ربه وابتهاله إليه في ذلك، وهي أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا. أفما (3) في سيّد المحبّين أسوة وقدوة؛ ولكن قد ابتلي كثير من أهل الإرادة بالشطح، كما ابتلي كثيرٌ من أهل الكلام بالشكّ. والمعافى مَن عافاه اللَّه من هذا وهذا، فنسأل اللَّه عافيتَه ومعافاتَه. الوجه السابع: قوله: "إنَّ عذاب الكافرين إنَّما كان شديدًا لأنَّهم لا يشاهدون المعذِّب لهم، والمؤمنون يشاهدونه فلم يكن عذابهم شديدًا" ليس كذلك، فإنَّ عذاب الكافرين شديد في نفسه لِغلَظِ جُرمهم وهو الكفر، وهو دائم لا انقطاع له. وأمَّا المؤمنون الذين يعذَّبون بذنوبهم فعذابهم أضعف من عذاب الكافرين؛ لأنَّ عذابهم على الذنوب وهي دون الكفر، وهو منقطع. والآية لم يُرَدْ بها إثباتُ عذاب المؤمنين دون عذاب (4) الكافرين، وإنَّما سيقت لبيان عذاب الكافرين حسبُ، __________ (1) كذا في الأصل وغيره. ولم تذكر كتب اللغة وصفًا من الرعونة إلّا "الأرعن" ومؤنثه "الرعناء". وفي "ط": "الرعناء والحمقاء". (2) "ف": "استعاذ باللَّه"، سهو. (3) "ط": "وإنَّ". (4) "عذاب" ساقط من "ف".
(2/631)
فمفهومها نفي العذاب عن المؤمنين، لا إثبات عذاب غير شديد. واللَّه أعلم. الوجه الثامن: قوله: "وللخواصّ الهيبة، وهي أقصى درجة يشار إليها في غاية الخوف. والخوف يزول بالأمن وينتهي به خوف الشخص على نفسه من العقاب، فإذا أمن العقابَ زال الخوف. والهيبة لا تزول أبدًا لأنَّها مستَحقَّة للربّ بوصف التعظيم والإجلال، وذلك الوصف مستحق على الدوام، وهذه المعارضة والهيبة (1) تُعارض المكاشِفَ أوقات المناجاة، وتصونُ (2) المشاهِد أحيانَ المشاهدة وتعصم (3) المعاين (4) بصدمة العزَّة، ومنه (5) قال قائلهم: أشتاقه، فإذا بدا ... أطرقتُ مِن إجلالِه لا خِيفَةً، بل هيبةً ... وصيانةً لجماله وأصُدُّ عنه تجلُّدًا ... وأرومُ طيفَ خَيالِه" (6) فيقال: من العجائب أنَّ المعنى الذي أمر اللَّهُ به في كتابه، __________ (1) في المجالس: "وهذه الهيبة". (2) "ط": "تصدم"! (3) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: "تقصم". وفي منازل السائرين الذي اعتمد عليه ابن العريف في كلامهم هذا: "تفصم" بالفاء، وعليه فسّره ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 612). (4) "ك، ط": "العاين"، تحريف. (5) "المجالس": "فيه". (6) محاسن المجالس (84).
(2/632)
وأثنى به على خاصَّة عباده وأقربهم إليه -وهم أنبياؤه ورسلُه وملائكتُه- يُجعل ناقصًا من منازل العوامّ، ويُعمَد إلى معنًى لم يذكره اللَّه ولا رسوله، ولا عُلِّق به المدحُ (1) والثناءُ في موضع واحد، فيُجعَل هو الكمال، وهو للخواصّ من العباد! فأين في القرآن والسنَّة ذكرُ الهيبة والأمرُ بها ووصفُ خاصَّته بها؟ ونحن لا ننكر أنَّ الهيبة من لوازم الإيمان وموجباته، ولكنَّ المنكَر أن يكون الوصفُ الذي وصف به أنبياءَه وملائكته ناقصًا، والوصف الذي لم يذكره هو الكامل التامّ! وهذا المعنى المعبَّر عنه بالهيبة حقٌّ، ولكن لم تجئ العبارة عنه في القرآن والسنَّة بلفظ "الهيبة"، وإنَّما جاءت بلفظ "الإجلال" كقول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن من إجلال اللَّه إجلالَ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، والإمام العادل" (2). فالإجلال هو التعظيم، وكذلك الهيبة. يوضح هذا: الوجه التاسع: وهو أنَّ الهيبة والإجلال يجوز تعلُّقها (3) بالمخلوق، كما قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ من إجلال اللَّه إجلالَ ذي الشيبة المسلم" الحديث. وقال ابن عباس عن عمر: "هِبْتُه وكان مَهيبًا" (4). وأمَّا الخشية __________ (1) "ط": "على المدح"، خطأ. (2) أخرجه أبو داود (4843)، والبيهقي في سننه (8/ 162)، والمدخل (662) وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري. وجاءَ موقوفًا وهو الصواب. أخرجه ابن المبارك في الزهد (388 - زوائد المروزي) وابن أبي شيبة (21916)، والبخاري في الأدب المفرد (357) وغيرهم، وهو مع وقفه فيه أبو كنانة تابعي مجهول. (ز). (3) "ط": "تعلّقهما". (4) أخرجه البخاري (4629)، ومسلم (1479) بلفظ: "مكثت سنة أريد أن أسأل =
(2/633)
والمخافة فلا تصلح إلا للَّه وحده. قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة/ 44]. وقال: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) [آل عمران/ 175]. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة/ 18]. فالخوف عبودية القلب فلا يصلح إلا للَّه وحده (2)، كالذلّ والمحبّة والإنابة والتوكّل والرجاء وغيرها من عبودية القلب. فكيف تُجعل (3) المهابةُ المشتركةُ أفضلَ منه وأعلى؟ وتأمَّل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} (4) [النور/ 52] كيف جعل الطاعة له (5) ولرسوله، والخشية والتقوى له وحده. وقال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (6) [الفتح/ 9] كيف جعل التعزير والتوقير (7) للرسول وحده. و"التوقير" هو __________ = عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له. . .". (ز). (1) في الأصل وغيره: "خافوني" على قراءة أبي عمرو في الوصل. وقد تقدم مثله في ص (614). (2) "وحده" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "وكيف يجعل". (4) ضبط "ب": "ويتّقِهْ" بكسر القاف وسكون الهاء، على قراءة أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: الإقناع (501). (5) "ك، ط": "للَّه". (6) ضبطت الأفعال الثلاثة في "ف، ب" بالياء على قراءة ابن كثير وأبي عمرو. والأصل غير منقوط. انظر: الإقناع (769). (7) "ك، ط": "التوقير والتعزير".
(2/634)
التعظيم الصادر عن الهيبة والإجلال. هذا (1) حقيقته، فَعُلِمَ أنَّ الخوف من أجلّ مقامات الخواص، وأنَّهم إليه أحوج، وبه أقوم من غيرهم. الوجه العاشر: قوله: "الخوف يزول بالأمن، والهيبة لا تزول أبدًا" إلى آخره. فيقال: هذا حق، فإنَّ الخوف إنَّما يكون قبل دخول الجنَّة، فإذا دخلوها زال عنهم الخوف الذي كان يصحبهم في الدنيا وفي عرصات القيامة، وبُدِّلوا به أمنًا؛ لأنَّهم قد أمنوا العذاب، فزايلهم الخوفُ منه. ولكن لا يدلّ هذا على أنَّه كان مقامًا ناقصًا في الدنيا، كما أنَّ الجهاد من أشرف المقامات، وقد زالَ عنهم في الآخرة. وكذلك الإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق، وقد زال في الآخرة، وصار الأمر شهادة. وكذلك الصلاة والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النفس للَّه، وهي من أشرف الأعمال، وكلّها تزول في الجنَّة. وهذا لا يدل على نقصانها، فإنَّ الجنة ليست دار سعي وعمل، إنَّما هي دار نعيم وثواب. الوجه الحادي عشر: أنَّ الخوف إنَّما زال في الجنَّة لأنَّ تعلّقه إنَّما هو بالأفعال لا بالذَّات -كما تقدّم- وقد آمنهم ما كانوا يخافون منه. فقد أمنوا أن يفعلوا (2) ما يخافون منه، وأن يفعل بهم ربُّهم ما يُخيفهم. ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع شيء (3) لهم، فيه وصلوا إلى الأمن التامّ. فإنَّ اللَّه سبحانه لا يجمع على عبده مخافتَين ولا أمنَين (4)، فمن خافه في __________ (1) "ط": "هذه". (2) "ك، ط": "أن لا يفعلوا". (3) "شيء" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "مخافتين اثنتين"، تحريف.
(2/635)
الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن آمنه في الدنيا ولم يُخِفْه أخافه في الآخرة. وناهيك شرفًا وفضلًا بمقامٍ ثمرتُه الأمنُ الدائمُ المطلَق. الوجه الثاني عشر: أنَّ الإجلال والمهابة والتعظيم إنَّما لم تزُلْ لأنَّها متعلِّقة بنفس الذات، وهي موجودة في دار النعيم. وأمَّا الخوف فإنَّه إنَّما زال لأنَّه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر. والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكنَّ زوالَ الوسيلة عند حصول الغاية لا يدلّ على أنَّها ناقصة. وإذا كانت تلك الغايةُ لا كمال للعبد بدونها، فالوسيلة إليها كذلك. الوجه الثالث عشر: قوله: "وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المشاهد أحيان المشاهدة، وتعصم المعاين (1) بصدمة العزَّة". فيقال: لا ريب أنَّ الحبّ والأنس المجرَّد عن الإجلال والتعظيم (2) يبسط النفس، ويحملها على بعض الدعاوى والرعونات والأماني الباطلة، وإساءَة الأدب، والجناية على حقّ المحبَّة. فإذا قارن المحبَّةَ مهابةُ المحبوب، وإجلالُه وتعظيمُه، وشهودُ عزِّ جلاله وعظيمِ سلطانه = انكسرت نفسُه له، وذلَّت لعظمته، واستكانت لعزَّته، وتصاغرت لجلاله، وصَفَتْ من رعونات النفس وحماقاتها، ودعاويها الباطلة، وأمانيها الكاذبة. ولهذا في الحديث: "يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أين المتحابُّون بجلالي؟ __________ (1) "ط": "المعاني"، تحريف. (2) "ط": "التعظيم والإجلال".
(2/636)
اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يومَ لا ظلِّ إلا ظلِّي" (1). فقال: "أين المتحابُّون بجلالي"، فهو حبّ بجلاله سبحانه وتعظيمه ومهابته، ليس حبًّا لمجرَّد جماله، فإنَّه سبحانه الجليل الجميل. والحبّ الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحبّ النافع الموجِب لكونهم في ظلّ عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يُوجِبُ خوفًا وخشية وانكسارًا، وشهودُ الجمال وحده يُوجِب حبًّا بانبسَاط وإدلال ورعونة. وشهود الوصفين معًا يوجب حبًّا مقرونًا (2) بتعظيم وإجلال ومهابة، وهذا هو غاية كمال العبد. واللَّه أعلم. وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام في غاية القبح، فإنَّ هذا المحِبِّ نَفَى (3) خوفَه من محبوبه، وأخبر أنَّه يصدّ عن محبوبه (4) ويُعرض عنه إظهارًا للتجلّد إمَّا على محبوبه (5)، وذلك قبيح في حكم المحبّة، فإنَّ التذلّل للمحبوب وتملّقه واستعطافه والانكسار له أولى بالمحبّ من تجلّده وتعزّزه، كما قيل: اخْضَعْ وذِلَّ لمن تُحِبُّ فليس في ... شَرعِ الهوى أنفٌ يُشالُ ويُعقدُ (6) __________ (1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2566) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) في الأصل: "مقرون". وهو سهو. (3) "ط": "ينفي". (4) "وأخبر أنَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ط". (5) "ط": "للتجلّد أمام رقيبه"، وهو غلط، فإنّ الكلام الآتي في التجلّد على المحبوب. أما التجلّد على الرقيب فسيذكره بعد قليل. (6) أنشده المصنف في مدارج السالكين (1/ 281)، وروضة المحبين (290)، والبيت في بدائع البدائه (17).
(2/637)
ثمّ أخبر أنه يروم طيفَ خياله، فهو طالب لحظِّه من محبوبه، لا لمراد محبوبه منه. فهذا محِبّ لنفسه، وقد جعل طيفَ محبوبه وسيلةً إلى حصول مراده، فأحبّه حبَّ الوسائل، بخلاف من قد أحبّ محبوبَه لذات المحبوب، ففني عن مراده هو منه بمراد محبوبه، فصار مرادُه مرادَ محبوبه، فحصل الاتحاد في المراد، لا في الإرادة، ولا في المريد. هذا إن كان صدّ (1) عنه تجلّدًا عليه. وإن كان تجلُّدًا على الرقيب خوفًا منه فهو ضعيف المحبّة، لأنَّ فيه بقيَّةً ليست مع محبوبه بل مع رقيبه، فهلًا ملأ الحبُّ قلبَه، فلم يبق فيه بقيَّة يلاحظ بها الرقيب والعاذل (2)؟ كما قيل: لا كانَ مَن لِسواكَ فيه بقيّةٌ ... يجِدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ (3) وبالجملة فهذه أبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد (4) بها في هذا المقام (5). واللَّه أعلم. __________ (1) "ط": "صبره"، تحريف. (2) "ف": "الغافل". قراءة محتملة. (3) تقدّم في ص (503). (4) "ب": "الاحتجاج". (5) "في هذا المقام" ساقط من "ب، ك، ط".
(2/638)
فصل [في المحبّة] والمقصود الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطأ وصواب؛ ولمّا كان أبو العبّاس بن العريف رحمه اللَّه قد تعرَّض لذلك في كتابه "محاسن المجالس"، ذكرنا كلامه فيه، وما له وما عليه. ثمَّ ذكر بعد هذا فصلًا في المحبّة، وفصلًا في الشوق، فنذكر كلامه في ذلك وما يفتح اللَّه به، تتميمًا للفائدة، ورجاءً للمنفعة، وأن يمنَّ اللَّه العزيز الوهَّاب بفضله ورحمته، فيرقّي عبدَه (1) من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف. إنَّه قريب مجيب. قال أبو العباس: "وأمَّا المحبّة فقد كثرت إشارة (2) أهل التحقيق في العبارة عنها، وكلٌّ (3) نطقَ بحسب ذوقه، وانفسح بمقدار شوقه" (4). قلتُ: الشيء إذا كان من (5) الأمور الوجدانيّة الذوقيّة التي إنَّما تعلم بآثارها وعلاماتها، وكان ممَّا يقع فيه التفاوت بالشدَّة والضعف، وكان له لوازم وآثار وعلامات متعددة = اختلفت العباراتُ عنه بحسب اختلاف هذه الأشياء. وهذا شأن المحبّة، فإنَّها ليست بحقيقةٍ معايَنةٍ (6) تُرى __________ (1) كذا ضبط في "ف، ب". وفي "ك، ط": "ويرقى". (2) كذا في الأصل. وفي المجالس: "فقد اختلفت إشارات"، وفي "ك، ط": "فقد أشار"، خطأ. (3) "ف": "فكلّ". (4) محاسن المجالس (90 - 91). (5) "ط": "في"، تحريف. (6) "ط": "معانيها"، تحريف.
(2/639)
بالأبصار، فيشترك الواصفون لها في الصفة. وهي في نفسها متفاوتة أعظمَ تفاوت، ما (1) بين العلاقة التي هي تعلّق القلب بالمحبوب، والخُلّة التي هي أعلى مراتب الحبّ؛ وبينهما درجات متفاوتة تفاوتًا لا ينحصر. ولها آثار تُوجِبها، وعلاماتٌ تدل عليها، فكلٌّ أدرك بعض آثارها أو (2) بعض علاماتَها، فعبّر بحسب ما أدركه. وهي وراءَ ذلك كلّه: ليس اسمها كمسمَّاها، ولا لفظها مبينٌ لمعناها. وكذلك اسم المصيبة والبليّة والشدَّة والألم إنَّما تدلّ أسماؤها عليها نوعَ دلالةٍ لا تكشف حقيقتها، ولا تُعلم حقيقتُها إلا بذوقها ووجودها. وفرق بين الذوق والوجود، وبين التصوّر والعلم. فالحدود والرسوم التي قيلت في المحبّة صحيحة غيرُ وافية بحقيقتها، بل هي إشارات وعلامات وتنبيهات. فصل [حدّ للمحبَّة والكلام عليه] قال: "وهي -على الإجمال قبل أن ننتهي إلى التفصيل- وجودُ تعظيمٍ في القلب يمنع الانقيادَ لغير محبوبه" (3). فيقال: التعظيم (4) المانع من الانقياد لغير المحبوب هو أثر من آثار __________ (1) "ط": "كما"، تحريف. (2) "آثارها أو بعض" ساقط من "ط". وكذا من "ك"، ثم استدركه بعضهم في الحاشية. (3) محاسن المجالس (90 - 91). (4) "ب، ك، ط": "هذا التعظيم"، والمثبت من "ف". وكأنّ كلمة "هذا" في الأصل مضروب عليها.
(2/640)
المحبّة وموجَب من موجَباتها، لا أنَّه نفس المحبّة، فإنَّ المحبّة إذا كانت صادقة أوجبَتْ للمحِبّ تعظيمًا لمحبوبه يمنعه من انقياده إلى غيره. وليس مجرَّد التعظيم هو المانع له من الانقياد إلى غيره، بل التعظيم المقارن للحبّ هو الذي يمنع من الانقياد إلى غير المحبوب. فإنّ التعظيم إذا كان مجرَّدًا عن الحبّ لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظّم. وكذلك إذا كان الحبّ خاليًا عن التعظيم لم يمنع المحِبَّ أن ينقاد إلى غير محبوبه. فإذا اقترن الحبّ بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب. والمحبّة المشتركة ثلاثة أنواع: أحدها: محبّة طبيعية مشتركة، كمحبّة الجائع للطعام، والظمآن للماءِ، وغير ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم. والنوع الثاني: محبّةُ رحمةٍ وإشفاقٍ، كمحبّة الوالد لولده الطفل، ونحوها. وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم. والنوع الثالث: محبّة أنسٍ وإلفٍ، وهي محبّة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم (1) بعضًا، وكمحبّة الإخوة بعضهم بعضًا. فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبّة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبَّة اللَّه. ولهذا كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- __________ (1) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "بعضهم".
(2/641)
يحبّ الحلواءَ والعسل (1)، وكان أحبّ الشراب إليه الحلو البارد (2)، وكان أحبّ اللحم إليه الذراع (3). وكان يحبّ نساءَه، وكانت عائشة رضي اللَّه عنها أحبَّهنَّ إليه (4). وكان يحبّ أصحابه، وأحبُّهم إليه الصدِّيق (5) رضي اللَّه عنه. وأمَّا المحبَّة الخاصَّة التي لا تصلح إلا للَّه وحده، ومتى أحبّ العبدُ بها غيرَه كان شركًا لا يغفره اللَّه، فهي محبّة العبودية المستلزمة للذلّ والخضوع، والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبّة لا يجوز تعلقها بغير اللَّه أصلًا، وهي التي سوّى المشركون بين آلهتهم وبين اللَّه فيها، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. وأصحّ القولين أنَّ المعنى: يحبّونهم كما يحبّون اللَّه، فيسوّون (6) بين اللَّه وبين أندادهم __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة (5431) وغيره من حديث عائشة رضي اللَّه عنها. (2) أخرجه أحمد (24100، 24129)، والترمذي (1895)، والنسائي في الكبرى (6844) من حديث عائشة مرفوعًا. وأخرجه الترمذي (1896) من حديث الزهري مرسلًا وقال: "والصحيح ما روي عن الزهرى عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا". (ز). (3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4712) وغيره، ومسلم في كتاب الإيمان (194) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) نصه في صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (6362)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2384) من حديث عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه. (5) يشهد له حديث الصحيحين المشار إليه آنفًا. (6) قراءة "ف": "ويسؤون"، وهي محتملة. وفي "ب، ك، ط": "وسوّوا".
(2/642)
في الحبّ. ثمَّ نفى ذلك عن المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]، فإنَّ الذين آمنوا أخلصوا حبّهم للَّه لم يشركوا به معه غيره، وأمَّا المشركون فلم يخلصوه للَّه. والمقصود من الخلق والأمر إنَّما هو هذه المحبّة، وهي أوَّل دعوة الرسل. وآخرُ كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنَّة اعترافُه وإقرارُه بهذه المحبّة، وإفرادُ الربّ تعالى بها. فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا (1) إلى اللَّه. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسبابٌ لتحصيلها وتكميلها وتحصينها (2) من الشوائب والعلل. فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام. ولأجلها أنزل اللَّه الكتاب والحديد: فالكتاب هادٍ إليها، ودالّ عليها، ومفصِّل لها. والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع اللَّه غيره. ولأجلها خلقت الجنة والنار: فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها للَّه وحده، فأخلصهم لها؛ والنار دار من أشرك فيها مع اللَّه غيره، وسوَّى بينه وبين اللَّه فيها، كما أخبر تعالى عن أهلها أنَّهم يقولون في النار لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 97 - 98]. وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنَّها مساوية للَّه في أفعاله وصفاته، وإنَّما كانت تسويةً منهم بين اللَّه وبينها في المحبّة والعبودية فقط (3)، مع إقرارهم بالفرق بين اللَّه وبينها، فتصحيح __________ (1) " ف": "الذنب"، تحريف. (2) "ف": "تخليصها"، خلاف الأصل. (3) "فقط" ساقط من "ط". وفي "ك": "فقطع" تحريف.
(2/643)
هذه المسألة (1) هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا اللَّه. فحقيقٌ بمن (2) نصح نفسه وأحبّ سعادتها ونجاتها أن يتيقّظ لهذه المسألة علمًا وعملًا وحالًا، وتكون أهمّ الأشياء عنده، وأجلّ علومه وأعماله؛ فإنَّ الشأن كلّه فيها، والمدار عليها، والسؤال يوم القيامة عنها. قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر/ 92 - 93]. قال غير واحد من السلف: هو عن قول: "لا إله إلا اللَّه" (3). وهذا حقّ، فإنَّ السؤال كلّه عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها، فلا يسأل أحدٌ قطُّ إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها. قال أبو العالية: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ (4) فالسؤال عمَّاذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤالُ عمَّاذا أجابوا المرسلين سؤالٌ عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها: هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كلّه إليها. وأمرٌ هذا شأنه حقيقٌ بأن تُثنى (5) عليه الخناصر، ويُعَضَّ عليه بالنواجذ، ويُقبضَ فيه على الجمر. ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، __________ (1) "المسألة" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "لمن". (3) تفسير الطبري (14/ 139 - 141). (4) تفسير الطبري (14/ 141)، المحرر الوجيز (3/ 375)، زاد المسير (4/ 419). (5) "ط": "تنعقد".
(2/644)
ولا يُطلب على فضلة؛ بل يُجعل هو المطلب الأعظم، وما سواه إنَّما يطلب على الفضلة. واللَّه الموفق لا إله غيره، ولا ربّ سواه. فصل [حدّ آخر للمحبة] قال: "وقيل: المحبة إيثار المحبوب على غيره" (1). وهذا الحدُّ أيضًا من جنس ما قبله، فإنَّ إيثار المحبوب على غيره موجَب المحبة ومقتضاها (2)، فإذا استقرَّت المحبَّة في القلب استدعت من المحبّ إيثارَ محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها (3). فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محبَّا له، وإن زعم أنَّه محبّ، فإنَّما هو محبّ لنفسه ولحظّه ممن يحبه، فإذا رأى حظًّا آخرَ هو أحبُّ إليه من حظّه الذي يريده من محبوبه آثرَ ذلك الحظَّ المحبوبَ إليه. فهذا موضع يغلط فيه الناسُ كثيرًا، إذ أكثرهم إنَّما هو محبٌّ (4) لحظِّه ومراده، فإذا علم أنَّه عند غيره أحبَّ ذلك الغيرَ حبَّ الوسائل لا حبًّا له لذاته. ويظهر هذا عند حالتين: إحداهما: أن (5) يرى حظًا له آخرَ عند غيره، فيؤثر ذلك الحط، ويترك محبوبه. الثانية: أنَّه إذا نال ذلك __________ (1) محاسن المجالس (90). (2) "ب": "ومقتضٍ لها"، وأخشى أن يكون تغييرًا من ناسخ قرأ "موجب" بكسر الجيم، وهو خطأ. (3) "ب": "علامة صحّتها وقبولها"! (4) "ك، ط": "يحبّ". (5) "ك، ط": "أنّه".
(2/645)
الحظَّ من محبوبه فترت محبّتُه، وسكن قلبُه، وترحّل قاطنُ المحبّة من قلبه؛ كما قيل: "من ودَّك لأمرٍ ولَّى (1) عند انقضائه". فهذه محبّة مشوبة بالعلل. بل المحبّه الخالصة أن تحبّ المحبوبَ لكماله، وأنَّه أهل أن يُحَبَّ كمحبّته (2) لذاته وصفاته. وإنَّ الذي توجبه (3) هذه المحبة فناءُ العبد عن إرادته بمراد (4) محبوبه، فيكون عاملًا على مراد محبوبه منه، لا على مراده هو من محبوبه (5). فهذه هي المحبّة الخالصة من درن العلل وشوائب النفس، وهي التي تستلزم (6) إيثار المحبوب على غيره ولا بدّ. وكلَّما كان سلطان هذه (7) المحبّة أقوى كان هذا الإيثار أتمّ (8). وفي مثل هذا قيل: تعصي الإلهَ وأنت تزعم حبَّه ... هذا محال في القياس شنيعُ (9) لو كان حبّك صادقًا لأطعتَه ... إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيعُ (10) __________ (1) في مفتاح دار السعادة (1/ 437): "مَلَّكَ"، واللفظ المشهور كما هنا. انظر: زاد المعاد (4/ 271)، والبصائر والذخائر (1/ 127). وسيأتي مرة أخرى في ص (696). (2) "كمحبّته"ساقط من "ب، ك، ط". (3) "ط": "وأنّ الذي يوجب"، وهو خطأ. (4) "ط": "لمراد"، خطأ. (5) "وإن الذي توجبه. . ." إلى هنا ساقط من "ب، ك". واستدركه بعضهم في حاشية "ك". (6) "ط": "تتزايد"، تحريف. (7) "هذه" ساقط من "ب". (8) "إيثار المحبوب. . ." إلى هنا ساقط من "ط". (9) "ب": "لعمري في الفعال". "ط": "لعمرك". (10) البيتان لمحمود الورّاق في الكامل (513) والزهرة (59) والعقد (3/ 215). =
(2/646)
وههنا دقيقة ينبغي التفطّن لها، وهي أنَّ إيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حبّ وإرادة. فالأوَّل يؤثر محبوبَه على غيره طلبًا لحظّه منه. فهو (1) يبذل ما يؤثره به (2) ليعاوضه بخير منه. والثاني يؤثره إجابةً لداعي محبته. فإنَّ المحبة الصادقة تدعوه دائمًا إلى إيثار محبوبه، فإيثارُه هو أجلّ حظوظه. فحظّه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار. وهذا لا يفهمه إلا النفس اللطيفة الوادعة (3) المشرقة. وأمَّا النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعُشّها فَلْتَدْرُجْ (4)! فصل (5) والدين كلّه والمعاملة في الإيثار، فإنَّه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى قيل (6): إنَّ من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجًا إليه لكان بذله سخاءً وكرمًا. وهذا إنَّما يصح في إيثار المخلوق، واللَّه سبحانه يؤثر عبدَه على غيره، من غير احتياج منه سبحانه، فإنَّه الغني الحميد. وفي الدعاء المرفوع: "اللّهم زِدْنَا ولا تنقصْنا، وأعْطِنا ولا تحرِمْنا، __________ = وينسبان إلى الشافعي. انظر: ديوان الوراق (139). (1) في الأصل: "فهي"، سهو. وكذا في "ف". (2) "به" ساقط من "ب، ك، ط". (3) أي: الهائة المطمئنة. وفي "ط": "الورعة"، تحريف. (4) انظر المثل "ليس هذا بعُشِّكِ فادرُجي" في معجم الأمثال للميداني (3/ 93). (5) كلمة "فصل" ساقطة من "ط". (6) "قيل" ساقطة من "ك، ط".
(2/647)
وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وآثِرْنا ولا تُؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا" (1). وقيل: من آثر اللَّه على غيره آثره اللَّه على غيره. والفرق بين الإيثار والأثرة أنَّ "الإيثار" تخصيص الغير بما تريده لنفسك. و"الأثرة" اختصاصك به على الغير. وفي الحديث: "بايعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة في عُسْرنا ويُسْرنا، ومَنشَطنا ومَكْرَهِنا، وأثَرةٍ علينا" (2). إذا (3) عرف هذا، فالإيثار إمَّا أن يتعلَّق بالخلق، وإمَّا أن يتعلّق بالخالق. فإن (4) تعلّق بالخلق، فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضِم لك دينًا، ولا يسدّ عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا. فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثارُ نفسك عليهم أولى، فإن الرجلَ مَن لا يؤثر بنصيبه من اللَّه أحدًا كائنًا من كان. وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإنَّ الإيثار المحمود الذي أثنى اللَّه على فاعله الإيثار بالدنيا، لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ __________ (1) أخرجه الترمذي (3173) و (3173)، والنسائي في الكبرى (1348) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. قلت: فيه يونس بن سليم: مجهول، فالإسناد ضعيف. (ز). (2) أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7056) ومسلم في الإمارة (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه. (3) "ط": "فإذا". (4) "ط": "وإن".
(2/648)
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر/ 9]. فأخبر تعالى أنَّ إيثارهم إنَّما هو بالشيء الذي إذا وُقِي الرجلُ الشحَّ به كان من المفلحين. وهذا إنَّما هو فضول الدنيا (1)، لا الأوقات المصروفة في الطاعات؛ فإنَّ الفلاح كلّ الفلاح في الشحّ بها، فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عريانا (2) مفلسًا؛ فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله. وممَّا يدلُّ على هذا أنَّه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البرّ، والتنافس فيها، والمبادرة إليها؛ وهذا ضدّ الإيثار بها. قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران/ 133] وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة/ 148] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين/ 26]. وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفّ الأوَّل لكانت قُرْعةً" (3). والقرعة إنَّما تكون عند التزاحم والتنافس، لا عند الإيثار. فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًّا للإيثار، بل محلًّا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء: "لا يستحبّ الإيثار بالقربات". __________ (1) "ف": "من فضول الدنيا"، خلاف الأصل. وفي حاشية "ب": "لعله: في" يعني: "في فضول. . .". (2) "ك، ط": "عِيانًا". (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (439) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وليس فيه ذكر النداء ولفظه: "لو تعلمون -أو يعلمون- ما في الصفّ المقدم لكانت قرعة". والنداء في حديثه الآخر الذي أخرجه البخاري في الأذان (615) وغيره ومسلم في الصلاة (437) ولفظه: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا".
(2/649)
والسرّ فيه -واللَّه أعلم- أنَّ الإيثار إنَّما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثِر والمؤثَر، بل لا يسع إلا أحدَهما. وأمَّا أعمال البرّ والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلّفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووَسِعَتْهم كلَّهم. وإن قُدِّر التزاحمُ في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع، بحيث إذا فعله واحد فات على غيره؛ فإنَّ في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غير حديث. فإذا قُدِّرَ فوتُ مباشرته له، فلا يفوت عليه عزمُه ونيَّتُه لفعله. وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوضٌ (1) منه: إمَّا مساوٍ له، وإمَّا أزيد (2)، وإمَّا دونه. فمتى أتى بالعوض، وعلِم اللَّه من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت، أعطاه (3) ثوابَه وثوابَ ما تعوّض به عنه؛ فجمع له الأمرين. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. وأيضًا فإنَّ المقصود رغبة العبد في التقرّب إلى اللَّه، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابّه؛ والإيثار بهذا التقرّب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه. وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه، إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختصّ به أحدهما فات الآخر، فندب اللَّه سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوَّةً وصبرًا على __________ (1) في الأصل: "عوضًا"، سهو. وكذا في النسخ الأخرى. (2) "ب": "زائد عليه". (3) "ك، ط": "أعطاه اللَّه".
(2/650)
الإيثار به، ما لم يخرِمْ عليه دينًا، أو يجلبْ له مفسدةً، أو يقطعْ عليه طريقًا عزم على سلوكه إلى ربّه، أو (1) يشوّشْ (2) عليه قلبه بحيث يجعله متعلِّقًا بالخلق؛ فمفسدة الإيثار هنا (3) أرجح من مصلحته. فإذا ترجَّحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمَّن إنقاذَ نفسٍ (4) من هلكة أو عطب أو شدَّة ضرورة -وليس بالمؤثَر (5) نظيرها- تعيَّن عليه الإيثار. فإن كان به (6) نظيرها لم يتعيَّن عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان؛ فإنَّه من آثر حياةَ غيره على حياته وضرورتَه على ضرورته، فقد استولى على أمد الكرم والسخاء، وحاز قصباته (7)، وضرب فيه بأوفر الحظّ. وفي هذا الموضع مسائل فقهية (8) ليس هذا موضع ذكرها. فإن قيل: فما الذي يُسهّل على النفس هذا الإيثار، فإنَّ النفس مجبولة على الأثَرة، لا على الإيثار؟ قيل: يسهّله أمور: أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإنَّ من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها: الإيثار. وقد جبل اللَّه القلوبَ على تعظيم صاحبه ومحبّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل __________ (1) "ب": "إذا". (2) "ك، ط": "شوّش". (3) "ط": "إيثار هذا"، تحريف. (4) "ك، ط": "نفسه"، خطأ. (5) "ك، ب، ط": "للمؤثر". (6) "ب": "له". (7) "ط": "جاوز أقصاه"، تحريف. (8) "ف": "متفرقة"، تحريف.
(2/651)
لخلق اللَّه. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية (1)، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد، وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب. وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلّط عليه، ولكنها لاتنقاد إليه انقيادَها لمن يؤثرها. وصاحب الاستئثار، النفوسُ إلى أذاه والتسلّط عليه أسرعُ من السيل في حَدوره (2). وهل أزال الممالك وقلَعَها إلا الاستئثار؟ فإنَّ النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر، وإن استأثروا عليهم (3)؛ لما في طاعة المستأثر من المشقّة والكره (4). الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشحّ وكراهته له. الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها اللَّه للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حقّ رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنَّه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدّه، فإنَّ ذلك عسِر جدًّا، بل لا بدّ من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم. فهو لخوفه من تضييع الحقِّ والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضرّه، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره __________ (1) "والتسوية" ساقط من "ب". (2) الحَدور: الأرض المنحدرة، وقد سبق المثل في ص (229). (3) تقدّم تخريجه في ص (648). (4) "ك، ط": "أو لكره الاستئثار"!
(2/652)
أفضل مما بذله. ومن جرَّب هذا عرَفه، ومن لم يجرّبه فَلْيستقرِ أحوال العالم. والموفَّق من وفَّقه اللَّه. فصل والإيثار المتعلِّق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذلّ له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملّق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه (1) والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلّق ذلك بغيره. فالأوَّل آثر بعضَ العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر اللَّهَ على غيره. ونفسُه من أعظم الأغيار، فآثر اللَّه عليها، فترك محبوبَها لمحبوب اللَّه. وعلامة صحّة (2) هذا الإيثار شيئان: أحدهما: فعلُ ما يحبّه (3) اللَّه إذا كانت النفسُ تكرهه وتهرب منه. والثاني (4): ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبّه وتهواه. فبهذين الأمرين يصحّ مقام الإيثار. ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع. فالمحنة فيه عظيمة، والمؤنة فيه شديدة، والنفس عنه ضعيفة، ولا يتمّ __________ (1) "ف": "له"، خطأ. (2) "صحة" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "يحب". (4) "ب، ك، ط": "الثاني" دون الواو.
(2/653)
صلاح (1) العبد وسعادته إلا به، وإنَّه ليسيرٌ على من يسّره اللَّه عليه. فحقيق بالعبد أن يتسنّم (2) إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمّر إليه وإن عظمت فيه المحنة (3)، ويحتمل (4) فيه خطرًا يسيرًا لملك عظيم وفوز كبير؛ فإنَّ ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، واليسير (5) منه يُرقّي العبد ويسيِّره ما لا (6) يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء (7). ولا تتحقَّق المحبَّة إلا بهذا الإيثار. والذي يسهّله على العبد أمور: أحدها: أن تكون طبيعته ليّنة منقادة سلسة، ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويّا، فإنَّ هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته. فبهذه الأمور (8) الثلاثة ينهض إلى هذا المقام، ويسهل عليه دركه. والنقص والتخلّف في النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدةً غير سريعة الإدراك، بل بطيئة. فلا يكاد يرى (9) حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رآها (10) اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات __________ (1) "ك، ط": "فلاح". (2) "ط": "يسمو". (3) "ب": "المحنة فيه". (4) "ك، ط": "يحمل"، تحريف. (5) "ك، ط": "ويسير". (6) "ب": "إلى ما". (7) زاد في "ف": "واللَّه ذو الفضل العظيم". (8) "ك، ط": "الثلاثة الأمور". (9) "ب، ك، ط": "ولا تكاد ترى". (10) "ط": "رأتها".
(2/654)
والاحتمالات، فلا يتخلّص له رؤيتها وعيانها. الثاني: أن تكون القريحة وفَّادة درَّاكة، لكن النفس ضعيفة مهينة، إذا أبصرت الحقّ والرشد ضعفت عن إيثاره. فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلَّما ساقه خطوة وقف خطوة؛ أو كسَوق الطفل الصغير الذي قد (1) تعلَّقت نفسه بشهواته ومألوفاته، فهو يسوقه إلى رشده، وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهًا. فإذا رُزِق العبد قريحةً وفَّادةً، وطبيعةً منقادةً: إذا زجرها انزجرت، وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين؛ وأُيِّدَ (2) مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كلِّ جانب. ولمَّا كانت هذه القرائح والطبائع ثابتةً للصحابة رضي اللَّه عنهم، وكمَّلها اللَّه لهم بنور الإسلام وقوَّة اليقين ومباشرة الإيمان. لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين. وكان مَن بعدهم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا (3) ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه (4). ومن تصوَّر هذا الموضع حقّ تصوره علِمَ من أين يلزمه النقص والتأخّر، ومن أين يتقدم ويترقّى في درجات السعادة. وباللَّه التوفيق (5). __________ (1) "قد" ساقط من "ك، ط". (2) "ط": "وارتدى". (3) "ذهبًا" ساقط من "ك، ط". (4) يشهد له ما أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (5) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(2/655)
فصل [حدّ آخر للمحبة] قال (1): "وقيل: المحبّة موافقة المحبوب فيما ساءَ وسرّ، ونفع وضرّ، كما قيل: وأهنتِني فأهنتُ نفسي صاغرًا ... ما مَن يهون عليكِ ممَّن أُكرِمُ (2) " فيقال: وهذا الحدّ أيضًا من جنس ما قبله، فإنَّ موافقة المحبوب من موجَبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبّة؛ بل المحبَّة تستدعي الموافقة، وكلَّما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتمّ. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران/ 31]. قال الحسن: قال قوم على عهد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّا نحبّ ربنا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3). وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة اللَّه، فأنزل اللَّه آية المحبة وهي قوله (4): {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. يعني أنَّ متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم، فإنَّه المبلّغ عنه ما يحبه وما يكرهه، فمتابعته موافقة اللَّه في فعل ما يحبّ وترك ما يكره (5). __________ (1) محاسن المجالس (90). (2) في "ب" والمجالس: "يكرم". والبيت لأبي الشيص وقد سبق في ص (583)، وسيأتي مرّة أخرى ضمن أبيات في ص (659). (3) تفسير الطبري (6/ 322 - 323). (4) "وهي قوله" ساقط من "ك، ط". (5) "فمتابعته. . ." إلى هنا ساقط من "ط". وفي "ك": "يحبّه وترك ما يكرهه".
(2/656)
قال (1) مالك رحمه اللَّه في هذه الآية: "من أحبَّ طاعةَ اللَّه أحبَّه اللَّهُ وحبّبه إلى خلقه". وإنَّما كانت موافقة المحبوب دليلًا على محبّته لأنَّ من أحبَّ حبيبًا فلا بدَّ أن يحبّ ما يحبّه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محبًّا له محبة صادقة. بل إن تخلّف ذلك عنه لم يكن محبًّا له، بل يكون محبًّا لمراده منه، أحبَّه محبوبُه أم كرهه، ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد، فلو حصل له حظّه من غيره لترحّل عن حبّه (2). فهذه المحبة المدخولة الفاسدة. وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعي حبّ ما يحبّه المحبوب وبغض ما يبغضه، فلا بدّ أن يوافقه فيه. ولكن ههنا مسألة يغلط فيها كثير من المدّعين للحبّ (3). وهي أنَّ موافقة المحبوب في مراده ليس المعنيُّ بها مرادَه الخَلقي الكوني، فإنَّ كلَّ الكون مراده، وكلَّ ما يفعله الخلائق فهو موجَب مشيئته وإرادته الكونية. فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدوّ أصلًا، وكانت الشياطين والكفَّار والمشركون عبَّاد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى (4) عن ذلك علوًّا كبيرًا. وإنَّما يظنّ ذلك من يظنّه من أعدائه الجاحدين لإلهيته (5) ودينه، __________ (1) "ط": "وقال مالك". (2) هكذا قرأتُ، ويحتمل: "لرحل". وفي "ف، ب": "لرحل غرضه". وفي "ك": الرحل عوضه". وفي "ط": "ترحّل عوضه". (3) "ك، ط": "للمحبة". (4) "ب": "تعالى اللَّه". (5) "ك، ط": "لمحبته".
(2/657)
الذين يسوّون بين أوليائه وأعدائه. قال اللَّه تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (1) [ص/ 28]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية/ 21]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 - 36]. فأنكر سبحانه على من سوَّى بين المسلمين والمجرمين (2) وبين المطيعين والمفسدين مع أنَّ الكلَّ تحت المراد الكوني والمشيئة العامَّة. وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه (3) - يقول: قال لي بعض شيوخ هؤلاء: المحبَّة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كلّه مراده، فأيّ شيء أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ ما في الكون، فأبغضَ قومًا ولعنَهم ومقَتَهم (4) وعاداهم؛ فأحببتَهم أنتَ وواليتَهم، تكون مواليًا للمحبوب موافقًا له، أو مخالفًا له معاديًا له؛ قال: فكأنَّما أُلقِمَ حَجرًا (5). ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاء إلى حدّ بحيث إذا فعل محظورًا يزعم أنَّه مطيع للَّه فيه (6)، ويقول: أنا مطيع لإرادته، وينشد في ذلك: __________ (1) في الأصل: "أفنجعل الذين" وكذا في "ف". وهو سهو. (2) "فأنكر سبحانه. . ." إلى هنا ساقط من "ط". وكذا من "ك". ثمّ استدركه بعضهم في الحاشية. (3) "قدّس اللَّه روحه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "رحمه اللَّه". (4) "ب": "فلعنهم ومقتهم". "ك، ط": "ومقتهم ولعنهم". (5) سبقت الحكاية في ص (185). (6) "فيه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "به".
(2/658)
أصبحتُ منفعلًا لما تختاره ... منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ! (1) ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنَّه أطاع الإرادة! يعني أنَّ فعله طاعة للَّه من حيث موافقة إرادته. وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلّها؛ فإنَّ الطاعة إنَّما هي موافقة الأمر الديني الذي يحبّه اللَّه ويرضاه. وأمَّا دخوله تحت القدر الكوني الذي يبغضه ويسخطه ويكفّر فاعلَه ويعاقبه، فهي المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أنَّ المسرفين على أنفسهم، المنهمكين في الذنوب والمعاصي، المعترفين بأنَّهم عصاة مذنبون = أقربُ إلى اللَّه من هؤلاء العارفين المنسلخين عن دين الأنبياء كلّهم، الذين لا عقل لهم ولا دين! فنسأل اللَّه أن يثبِّت قلوبنا على دينه. أمَّا البيت الذي استشهد به فهو من أبياب لأبي الشِّيص (2) يقول (3) فيها: وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ وأهنتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا ... ما مَن يهون عليك ممن يُكرَمُ (4) أشبهتِ أعدائي فصِرتُ أحبُّهم ... إذ كان حظِّي منك حظِّي منهمُ أجدُ الملامَةَ في هواكِ لذيذةً ... حُبًّا لذكركِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ __________ (1) "تختاره" كذا في الأصل هنا، وفي غيره: "يختاره"، والبيت للنجم ابن إسرائيل، وقد سبق في ص (55). (2) الخزاعي، من طبقة أبي نواس ومسلم بن الوليد. والأبيات المذكورة من مشهور شعره. وقد أوردها المصنّف في روضة المحبّين (402) أيضًا. وانظر: ديوانه (101). (3) "ط": "من قصيدة يقول". (4) "ب": "أكرِم".
(2/659)
وقد ناقض فيها في دعواه مناقضةً بيِّنةً، فإنَّه أخبرَ أنَّ هواه قد صار وقفًا عليها، لا يزول عنها ولا يتحوَّل بتقدّم ولا تأخّر؛ ثمَّ أخبرَ أنَّه قد بلغ به حبُّها وهواها إلى أن صار مرادُها من نفسه عينَ (1) مراده هو. فلمَّا أرادت إهانته بالصدّ والهجران والبعد سعى هو في إهانة نفسه بجهده موافَقةً لها في إرادتها، فصارت إهانتُه لنفسه مرادةً محبوبةً له من حيث هي مرادةٌ محبوبةٌ لها. وزعم أنَّه لو أكرم نفسَه لكان مخالفًا لمحبوبته مكرِمًا (2) لمن أهانته. ثمَّ نقض هذا الغرض من حيث شبَّهها بأعدائه الذين هم أبغض شيءٍ إليه. ووجه هذا التشبيه أنَّه لم يحصل منها من حطه ومراده على شيء، بل الذي يحصل له منها مثلُ ما يحصل له من أعدائه من إهانتهم له وأذاه، فصار حطه منها ومن أعدائه واحدًا، فصارت شبيهةً بهم، فأين هذا من الموافقة التامَّة (3) لها في مرادها، بحيث يهين (4) نفسه لمحبتها في إهانته؟ ثمَّ أخبر أنَّ له منها حظًّا مرادًا، وأنَّ ذلك الحظّ الذي يريده لم يحصل له، وإنَّما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه. وهذه شكاية في الحقيقة وإخبار عن محبّة معلولة (5) بالحظّ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه. ثمَّ إنَّه أخبر عن جناية أخرى، وهي أنَّه شرَّكَ بينها وبين أعدائه في حبّه __________ (1) "ك، ط": "غير"، تحريف. (2) في الأصل: "مكرم"، سهو. (3) "ف": "الثانية"، تحريف. (4) "ف": "يهنى"، تحريف. (5) "ط": "محبه ببخله"، تحريف.
(2/660)
لها، فصار حبُّه منقسمًا: بعضُه لها (1)، وبعضُه لأعدائه لشبههم إياها. ثُمَّ إنَّ في الشعر جنايةً أخرى عليها، وهو أنَّه شبَّهها بمن جبلت القلوب على بغضه، وهو العدوّ. واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحبّ الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراء والناس في نظمهم ونثرهم، كما هو معروف بينهم، وهو جادة كلامهم. ثمَّ أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمَّن كلامُه معاداة من يحبه، ومحبة من يعاديه. فإنَّها إذا أشبهت أعداءَه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته، وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته، كما صرَّح به في جانبهم، وترك التصريح به (2) في جانبها، وهو مفهوم من كلامه. ثُمَّ أخبر أنه يلتذّ بملامة اللوَّام في هواها لما يتضمَّن من ذكراها. وهذا يدلُّ على قوة محبتها وسماع ذكرها. وهذا غرض صحيح، مع أنَّه مدخول أيضًا، فإنَّ محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمَّن من فضيحتها به وجعلِها مضغةً للماضغين، فيكون محبًا لنفس ما تكرهه. وهذه محبة فاسدة معلولة، ناقضة لدعواه موافقتَها في محابّها. __________ (1) "ط": "له"، خطأ. (2) "به" ساقط من "ك، ط".
(2/661)
فصل [حدّ آخر] قال (1): "وقيل: المحبة: القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقةُ المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المألوف والوطن وأنت مستوطن". فيقال: وهذا أيضًا أثر من آثار المحبة، وموجَب من موجباتها، وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإنَّ المحبة تُوجِبُ سفرَ القلب نحو المحبوب دائمًا. والمحِبُّ في وطنه قاطن (2)، وتوجب مثولَه وقيامَه بين يدي محبوبه وهو قاعد، وتجافيَه عن مضجعه ومَفارقتَه إيَّاه وهو فيه راقد، وفراغَه لمحبوبه بكلّه (3) وهو مشغول في الظاهر (4) بغيره. كما قال بعضهم: وأُدِيمُ نحوَ محدِّثي لِيرَى ... أن قد عقلتُ وعندكم عقلي (5) وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدي اللَّه؟ فقال: نعم، سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة! (6) فهذه سجدة متّصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه. وكذلك يكون جسده في __________ (1) محاسن المجالس (91). (2) "قاطن" ساقط من "ك". وفي "ط": "والمحبة وطنه"! (3) "ب, ك، ط": "كله". (4) "ف": "الطاعة"، تحريف. (5) لمجنون ليلى في ديوانه (182). وقد أنشده المصنف في روضة المحبين (390) أيضًا. (6) من كلام سهل التستري. وقد تقدّم في ص (451).
(2/662)
مضجعه، وقلبُه قد قطع المراحل مسافرًا إلى حبيبه. فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبُّه وشوقه، فيهزه المضجعُ إلى سَكَنِه. كما قال اللَّه تعالى في حقِّ المحبين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة/ 16]. فلمَّا تجافت قلوبهم (1) عن المضاجع جافت الجُنوبَ عنها واستخدمتها، وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل: نهاري نهارُ الناس، حتَّى إذا بدا ... ليَ الليلُ هزَّتْني إليكِ المضاجعُ (2) ويحكى أنَّ بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأى الشيطانَ واقفًا ببابه لا يستطيع دخوله. فنظر فهذا فيه رجل نائم، وآخر قائم يصلي. فقال له: أيمنعك هذا المصلي من دخوله؟ فقال: كلا، إنَّما يمنعني ذلك الأسد الرابض, ولولا مكانه لدخلتُ! وبالجملة فقلبُ المحبّ دائمًا في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، كلَّما قطع مرحلة (3) ومنزلة تبدَّتْ له أخرى، كما قيل: إذَا قطعنَ عَلَمًا يدا عَلَمْ (4) فهو مسافر بين أهله (5)، وظاعن وهو في داره، وغريب __________ (1) "ط": "جنوبهم"، خطأ. (2) البيت لابن الدمينة، وقد دخل مع بيتين آخرين في عينية قيس بن ذريح. قاله صاحب الأغاني (9/ 210)، وانظر: ديوان ابن الدمينة (17)، وقيس ولبنى (107). (3) "ك، ط": "مرحلة له". (4) "ب": "قطعنا"، "ط": "قطعت"، تحريف. والبيت من أرجوزة لجرير في ديوانه (512). "قطعنَ": يعني النوق. (5) "ب": "وهو بين أهله".
(2/663)
وهو (1) بين إخوانه وعشيرته؛ يرى كلَّ أحد عنده، ولا يرى نفسَه عند أحد. فقوةُ تعلّق المحبّ بمحبوبه تُوجِب له أن لا يستقرّ قلبه دون الوصول إليه، وكلّما هدأت حركاته وقلّت شواغله اجتمعت عليه شؤون قلبه، وقوي (2) سيره إلى محبوبه. ومحك هذه (3) الحال يظهر في مواطن أربعة: أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغّ حواسه (4) وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنَّه لا ينام إلا على ذكر من يحبّه وشغل قلبه به. الموطن الثاني: عند انتباهه من النوم. فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. فإنَّه إذا استيقظ ورُدَّتْ إليه روحُه رُدَّ معها إليه ذكرُ محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم، ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلمَّا ردّت إليه الروح أسرَعَ من الطرف رُدَّ إليه ذكرُ محبوبه متصلًا بها، مصاحبًا لها، فورد عليه قبل كلّ وارد، وهجم عليه قبل كلّ طارق. فإذا وردَتْ عليه الشواغل والقواطع وردَتْ على محلّ ممتلئ بمحبّة ما يحبه، فوردت على ساحته من ظاهرها. فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما في قلبه من الحبّ، فإنه قد لزمه كملازمة الغريم (5) لغريمه لذلك يسمَّى "غرامًا"، وهو الحبّ اللازم الذي لا يفارق فسمع بمحبوبه، وأبصر به، __________ (1) "وهو": ساقط من "ف". (2) "ب": "ويرى". "ك": "فله قوى". "ط": "بله قوى"، وكله تحريف. (3) "ك، ط": "هذا". (4) "ف": "حواشيه"، تحريف. (5) "ط": "ملازمة الغريم".
(2/664)
وبطَش به، ومشى به. فصار محبوبه في وجوده في محلّ سمعه الذي يسمَع به، وبصرِه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. هذا مثل محبوبه في وجوده، وهو غير متّحد به، بل هو قائم بذاته مباين له. وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبَه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتّحدتْ به أو (1) حلَّت فيه. فينشأ من قسوة الأوَّل وكثافته وغِلَظ حجابه (2)، ومن قلَّة علم الثاني ومعرفته وضعف تمييزه ضلالُ الحلول والاتحاد، وضلالُ الإنكار والتعطيل والحرمان. ويخرج (3) من بين فَرْثِ هذا ودمِ هذا لبنُ الفطرة الأولى خالصًا سائغًا للشاربين. الموطن الثالث: عند دخوله في الصلاة. فإنَّها محكّ الأحوال وميزان الإيمان, بها يوزن إيمان الرجل، ويتحفق حاله ومقامه ومقدار قربه من اللَّه ونصيبه منه، فإنَّها محلّ المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربِّه. فلا شيء أقرّ لعين المحبّ ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إن (4) كان محبًّا، فإنه لا شيء آثر عند المحبّ ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه، ومناجاته له، ومثوله بين يديه، وقد أقبل بقلبه على محبوبه، وقد أقبل (5) محبوبه عليه. وكان قبل ذلك معذَّبًا بمقاساة __________ (1) "ف": "إذ"، تحريف. (2) "ك": "وغلظ حجاب". "ط": "غلظ حجاب". (3) زاد في "ط" بين حاصرتين: "للبصير". (4) "ك، ط": "إذا". (5) "بقلبه. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(2/665)
الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم، فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى اللَّه إليه، وأوى عنده، واطمأنَّ بذكره، وقرَّت عينُه بالمثول بين يديه ومناجاته. فلا شيء أهم إليه (1) من الصلاة، كأنَّه في سجن وضيق وغمّ حتَّى تحضر الصلاة، فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبلال: "يا بلال، أرِحْنا بالصلاة" (2) ولم يقل: أَرِحْنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون. وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في همّ وغمّ حتى تحضر الصلاة، فيزول همّه وغمّه (3)، أو كما قال. فالصلاة قرَّة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذَّة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون همّ الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطَّال همّها حتَّى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن وللنقَّارين شأن! يشكون إلى اللَّه سوءَ صنيعهم بهم (4) إذا ائتمّوا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويلَ إمامه. فسبحانه من فاضَلَ بين النفوس، وفاوتَ بينها هذا التفاوت العظيم! وبالجملة فمن كانت (5) قرَّة عينه في الصلاة فلا شيء أحبّ إليه وأنعم (6) عنده منها، وبودّه (7) أن لو قطع عمرَه بها غيرَ مشتغل بغيرها، __________ (1) كذا قال: "أهمّ إليه" مثل "أحب إليه". (2) سبق تخريجه في ص (81). (3) كذا وردت العبارة في الأصل وغيره. وأراها تدلّ على ضدّ المقصود، فلينظر. (4) "ط": "بها". (5) "ط": "كان". (6) "ب, ك، ط": "ولا أنعم". (7) "ك، ط": "ويود".
(2/666)
وإنَّما يسلّي نفسه إذا فارقها بأنّه سيعود إليها عن قرب. فهو دائمًا يثوب إليها, ولا يقضي منها وطرًا. فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبّته للَّه بمثل ميزان الصلاة، فإنّها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل. الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال. فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلّا أحبّ الأشياءِ إليه، ولا يهرب إلّا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبّونهم (1) عند الحرب واللقاء، وهو كثير في أشعارهم، كما قال (2): ذكرتُكِ والخطّيُّ يخطِر بيننا ... وقد نهِلَتْ منَّا المثقَّفةُ السُّمْرُ (3) وقال غيره: ولقد ذكرتُكِ والرماحُ كأنَّها ... أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهَمِ (4) __________ (1) "ب": "يحبونه". (2) "ب": "قال القائل". (3) لابن عطاء السندي. انظر: الحماسة (1/ 66). وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 479)، وروضة المحبّين (386). وفي "ط": "متي". (4) كذا ورد البيت هنا، وفي روضة المحبين (386)، ومدارج السالكين (2/ 479)، ونسبه فيه إلى عنترة. وروايته في الديوان وشروح المعلّقات: يدعون عنترَ والرماح كأنّها ... أشطان بئر في لبان الأدهم وقد ذكر المصنف في الروضة بيتًا آخر بعده: فودِدتُ تقبيلَ السيوف لأنّها ... برقت كبارقِ ثغرِك المتبسّمِ والبيت الذي ذكر قبل هذا البيت في ديوان الصبابة (221) وغيره منسوبَين إلى عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيضُ الهند تقطر من دمي وهذا الصواب، وذكرُ بيض الهند في آخر هذا البيت هو الذي حسّن قوله =
(2/667)
وقد جاء في بعض الآثار (1): "يقول تبارك وتعالى: إنَّ عبدي كل عبدي الذي يذكرُني وهو ملاقٍ قِرنَه" (2). والسرّ في هذا -واللَّه أعلم- أنْ عند معاينة الشدائد (3) والأهوال يشتدّ خوف القلب من ذوات أحبّ الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنَّما يحبّ حياته لتنغمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكرُ المحبوب الذي يفوت بفوات حياته. ولهذا -واللَّه أعلم- كثيرًا ما يعرض للعبد عند موته لهَجُه بما يحبّه وكثرةُ ذكره له، وربما خرجت روحه، وهو يلهج به. __________ = "فوددت تقبيل السيوف" في البيت التالي. وأنشد المؤلف بيتًا آخر في المدارج يشبه هذا البيت: ولقد ذكرتك والرماح شواجر ... نحوي وبيض الهند تقطر من دمي هذا والبيتان المذكوران في ديوان الصبابة وغيره لم يروهما الثقات، ولم يردا في الديوان وشروح المعلقات. ولا يشبه البيت الثاني شعر الجاهليين. وفات محقق الديوان إثباتهما في ذيل الديوان. (1) أخرجه الترمذي (3580)، وأبو نعيم في المعرفة (5238). قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا هذا الحديث الواحد. ومعنى قوله: "وهو ملاق قرنه" إنَّما يعني عند القتال يعني أن يذكر اللَّه في تلك الساعة". وقال البخاري في تاريخه (6/ 454): "عمارة بن زعكرة له صحبة، لم يصح حديثه". وقال ابن حجر في الإصابة (4/ 276): "قلت: فيه عفير بن معدان، وهو ضعيف. . . ". (ز). (2) ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 478) وقال: "سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه اللَّه يستشهد به، وسمعته يقول: المحبّون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال". (3) "ك، ط": "مصائب الشدائد"، تحريف.
(2/668)
وقد (1) ذكر ابن أبي الدنيا في "كتاب المحتضرين" (2) عن زُفَر رحمه اللَّه (3) أنَّه جعل يقول عند موته: "لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا. . . " حتَّى (4) مات؛ لامتلاءِ قلبه رحمه اللَّه من محبّة (5) الفقه والعلم. وأيضًا فإنه عند الموت تنقطع شواغله، وتتعطَّل (6) حواسّه، فيظهر ما في القلب، ويقوى سلطانه، فيبدر ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيرًا ما سُمِعَ من بعض المحتضرين عند الموت: "شاه مات" (7). وسُمِعَ من آخر بيتُ شعر لم يزل يغنِّي به، حتَّى مات، وكان مغنِّيًا. وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت -وكان تاجرًا يبيع القماش- قال فجعل يقول: "هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص تساوي كذا وكذا. . . " حتى مات. والحكايات (8) في هذا كثيرة جدًا. فمن كان مشغولًا باللَّه وبذكره ومحبته في حال (9) حياته وجد ذلك __________ (1) "قد" ساقط من "ك، ط". (2) ص (178) مع اختلاف يسير في اللفظ. (3) زفر بن الهذيل العنبري (110 - 158 هـ) من تلامذة أبي حنيفة. قال الذهبي: "من بحور الفقه وأذكياء الوقت. . . وكان ممن جمع بين العلم والعمل، وكان يدري الحديث ويتقنه". سير أعلام النبلاء (8/ 39). (4) "حتى" ساقط من "ط". (5) "محبة" ساقط من "ف". (6) "ك، ط": "تبطل". (7) انظر: محاضرات الأدباء (2/ 502). و"شاه" من أحجار الشطرنج. (8) "ط": "الحكاية"، خطأ. (9) "ف": "كلّ"، تحريف.
(2/669)
أحوجَ ما هو إليه عند خروج روحه إلى اللَّه. ومن كان مشغولًا بغيره في حال حياته وصحّته فيعسر (1) عليه اشتغاله باللَّه وحضوره معه عند الموت، ما لم تدركه عناية من ربّه. ولأجل هذا كان جديرًا بالعاقل أن يُلزِم قلبَه ولسانه ذكرَ اللَّه حيثما كان، لأجل تلك اللحظة التي إن فاتته (2) شقي شقاوة الأبد. فنسأل اللَّه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. فصل [حدود أخرى للمحبَّة] وقد قيل في المحبة حدود كثيرة غير ما ذكره أبو العبّاس. فقيل: "المحبة ميل القلب إلى محبوبه". وهذا الحدّ لا يعطي تصوّر حقيقة المحبة، فإنَّ المحبة أعرف عند القلب من الميل. وأيضًا فإنَّ الميل لا يدلّ على حقيقة المحبة، فإنَّها أخصّ من مجرَّد ميل القلب، إذ قد يميل قلب العبد إلى الشيء ولا يكون محبًّا له لمعرفته بمضرته له؛ فإن سمّي هذا الميل (3) محبة فهو اختلاف عبارة. وقيل: "المحبة علم المحبّ بجمال المحبوب ومحاسنه". وهذا حدّ قاصر، فإن العلم بجماله ومحاسنه هو السبب الداعي إلى محبته، فعبر عن المحبة بسببها. وقيل: المحبة تعلّق القلب بالمحبوب. __________ (1) كذا بالفاء في الأصل وغيره. (2) "ط": "فاتت". (3) "ف": "الدليل"، تحريف.
(2/670)
وقيل: انصباب القلب إلى المحبوب. وقيل: سكون القلب إليه. وقيل: اشتغال القلب بالمحبوب بحيث لا يتفرغ قلبه لغيره. وقيل: المحبة بذل المجهود في معرفة محبوبك، وبذل المجهود في مرضاته. وقيل: هيجان القلب عند ذكر المحبوب. وقيل: شجرة تنبت في القلب تسقَى بماء المراقبة، وإيثار رضي المحبوب. وقيل: المحبة حفظ الحدود، فليس بصادق من ادَّعى محبة اللَّه ولم يحفظ حدوده (1). وقيل: المحبة إرادة لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبرّ (2). وقيل: فطام الجوارح عن استعمالها في غير مرضاة المحبوب. وقيل: المحبة هي السخاء بالنفس للمحبوب. وقيل: المحبة أن لا يزال على قلبك (3) رقيب من المحبوب لا يمكنك من الانصراف عنه أبدًا. وأنشد في ذلك: __________ (1) روضة المحبّين (99). وهو من كلام يحكى بن معاذ، انظر: القشيرية (322). (2) نسبه في مدارج السالكين (2/ 595) إلى يحيى بن معاذ، وعقّب عليه. وانظر: القشيرية (322). (3) "ب، ك، ط": "عليك".
(2/671)
أبتْ غلَباتُ الشوق إلا تقرُّبا ... إليك، ويأبى العذلُ إلا تجنُّبا وما كان صدِّي عنك صدَّ ملالةٍ (1) ... ولا ذلك الإعراض إلا تقرُّبا وما كان ذاك العذلُ إلا نصيحةً ... ولا ذلك الإغضاءُ إلا تهيُّبا عليَّ رقيبٌ منك حلَّ بمهجتي ... إذا رُمتُ تسهيلًا على تصعَّبا (2) وقيل: المحبة سقوط كلّ محبة من القلب سوى محبة حبيبك (3). وقيل: المحبة صدق المجاهدة في أوامر اللَّه، وتجريد المتابعة لسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقيل: المحبة أن لا تفتُر من ذكره، ولا تملّ من حقّه (4)، ولا تأنس بغيره. وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك (5). وقيل: المحبة أن يميتك حبيبُك، وتحيا به. وقال أبو عبد اللَّه القرشي: المحبة أن تهبَ كلَّك لمن أحببتَ، فلا يبقى لك منك شيءٌ (6). __________ (1) "ط": "ملامة"، تحريف. (2) أنشدها محمد بن داود في الزهرة (245) لبعض أهل عصره. (3) القشيرية (323) لمحمد بن الفضل الفراوي. (4) "ولا تملّ من حقه" ساقط من "ط". والأفعال الثلاثة في "ك، ط" بصيغة الغائب. (5) مدارج السالكين (2/ 591)، روضة المحبين (99)، القشيرية (321). (6) مدارج السالكين (2/ 592)، القشيرية (321)، روضة المحبين (99).
(2/672)
وقيل: أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب (1). وقيل: المحبة نسيان حظّك من محبوبك، وفقرك بكلّك إليه. وقال النصراباذي (2): المحبة مجانبة السلوّ على كلِّ حال (3). وقال الحارث بن أسد (4): المحبَّة ميلك إلى المحبوب بكلّيتك، ثُمَّ إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثمَّ موافقتك له سرَّا وجهرًا، ثُمَّ علمك بتقصيرك في حبّه. وقيل: المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب (5). وقيل: المحبة إقامتك بالباب على الدوام (6). وقيل: "الحبّ (7) حرفان: حاءٌ وباءٌ. فالحاءُ: الخروج عن الروح وبذلها للمحبوب. والباءُ: الخروج عن البدن وصرفه في طاعة المحبوب (8). __________ (1) في المدارج (2/ 592) نسبه إلى الشبلي وانظر: الروضة (99). (2) أبو القاسم إبراهيم بن محمد، شيخ خراسان في وقته، توفي سنة 367 هـ. طبقات الصوفية (484). (3) المدارج (2/ 592)، الروضة (99)، القشيرية (323). (4) المحاسبي. نقله عنه الجنيد كما في المدارج (2/ 594). وانظر: الروضة (100)، القشيرية (324). (5) المدارج (2/ 594)، القشيرية (325). (6) نقل في المدارج (2/ 592) قولًا لابن عطاء -وهو في القشيرية (326) - بلفظ: "إقامة العتاب على الدوام"، وفسّره. (7) "ك، ط": "المحبة"، خطأ. (8) وانظر: القشيرية (328).
(2/673)
وقال أبو عمرو الزُّجَاجي (1): سألت الجنيد عن المحبة فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال (2): تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فأيشٍ تريد؟ قلت: عينَ المحبة. فقال: "أن تحبّ ما يحب اللَّه في عباده، وتكره ما يكره (3) اللَّه في عباده". وقيل: المحبة معيَّة القلب والروح مع المحبوب معيَّةً لا تفارقه، فإنَّ المرءَ مع من أحبّ. وقد قيل فيها (4) حدود أكثر من هذا، وكلّ هذا تعنّ. ولا توصف المحبة ولا تحدّ بحدّ أوضح من المحبة، ولا أقرب إلى الفهم من لفظها. وأمَّا ذكر الحدود والتعريفات، فإنَّما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم، فإذا زال الإشكال وعُدِمَ الاستعجام فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات (5)، كما قال بعض العارفين (6): إنَّ كلَّ لفظ يعبر به عن الشيء فلا بدَّ أن يكون ألطفَ وأرقَّ منه. والمحبَّة ألطف وأرقّ من كلِّ ما يعبّر به عنها. __________ (1) "ك، ط": "أبو عمر"، خطأ، وهو محمد بن إبراهيم النيسابوري، توفي في مكة سنة 348 هـ. طبقات الصوفية (431). (2) "ف": "فقال"، خلاف الأصل. (3) "ط": "يكرهه"، وصحح في القطرية. (4) "ك، ط": "في المحبة". وانظر أقوالًا أخرى في المحبة في: مدارج السالكين (2/ 590 - 595)، وروضة المحبين (98 - 101). (5) قارن هذا الكلام بما ورد في القشيرية (319). (6) هو سمنون المحبّ صاحب السريّ السقطي. انظر: طبقات الصوفية (196).
(2/674)
فصل قال أبو العبّاس (1): "وقال قوم: ليس للمحبَّة صيغة يعبّر بها عن حقيقتها. فإنَّ الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأبى إلا التستّر والاختفاء (2). وكلُّ من بسط لسانه بالعبارة (3) عنها والكشف عن سرّها، فليس له منها ذوق، وإنَّما حرَّكه وجدانُ الرائحة، ولو ذاقَ منها (4) شيئًا لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة (5) لا تظهر على المحبّ بلفظه، وإنَّما تظهر عليه بشمائله ونحوله (6). ولا يفهم حقيقتها من المحبّ سوى المحبوب، لموضع امتزاج (7) الأسرار من القلوب، كما قيل: تُشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأُطرِقُ طرفي عند ذاك فتعلَمُ تكلَّمُ منَّا في الوجوه عيونُنا ... فنحن سكوتٌ والهوى يتكلَّمُ (8) " __________ (1) محاسن المجالس (91). (2) المجالس: "الستر والإخفاء". (3) رسم الأصل يشبه "فالعبارة". وكذا قرأها ناسخ "ف". وقال في الحاشية: العله في العبارة". والصواب ما أثبتنا من "ب" وغيرها. وستأتي الكلمة مرة أخرى في ص (681). (4) سقط "منها" من "ط"، واستدرك في القطرية. (5) "ك، ط": "فإن المحبة". (6) المجالس: "لحظه". (7) رسمها في الأصلِ يشبه "اقتراح". وأثبت ناسخ "ف": "إقراح". وفي المجالس: "امتزاج الأسرار والقلوب". وأشار محققه إلى أن في نسخة: "اقتراح"، وهي أقرب إلى أصلنا لولا نقطة الزاي. وفي "ب": "امتزاج" كما أثبتنا. وفي "ك، ط": "اقتداح". وستأتي الكلمة مرة أخرى. (8) هذا البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه (273)، وهو مضمّن هنا.
(2/675)
قلتُ: كلّ معنى فله صيغة يعبّر به (1) عنه، ولا سيما إذا كان (2) من المعاني المعروفة للخاصّ والعامّ. ولكن العبارة قد تكون كاشفةً للمعنى مطابقةً له، كلفظ الدراهم والخبر والماء واللبن ونحوها، وهي أكثر الألفاظ. وقد يكون المعنى فوق ما يشير إليه اللفظ ويعبّر عنه، وهو أجلّ من أن يدلّ لفظه على كمال ماهيته. وهذا كأسماءِ الربِّ تعالى وأسماءِ كتابه. وكذلك اسم الحبّ، فإنَّه لا يكشف اسمه مسماه، بل مسمَّاه فوق لفظه، وكذلك اسم الشوق والعشق والموت والبلاء ونحوها. وقد يكون المعنى دون اللفظ بكثير، واللفظ أجل منه وأعظم. وهذا كلفظ "الجوهر الفرد" الذي هو عبارة عن أقلّ شيءٍ وأصغره وأدقّه وأحقره، فليس معناه على قدر لفظه. وإذا عرف هذا فقولهم: "ليس للمحبة صيغة يعبّر بها عن حقيقتها" المراد به أنَّ لفظها لا يُفهِم حقيقةَ معناها، ومعناها فوق ما يفهم من لفظها. وقوله: "الغيرة من أوصاف المحبة، وهي تأبى إلَّا التستر والاختفاء". هذا كلام في حكم المحبة ومقتضاها, لا في حقيقتها ومعناها. والمحبّون متباينون في هذا الحكم، فمنهم من يجعل الغيرة من لوازمِ المحبّة وعلامة ثبوتها وتمكّنها، ويجعل نداءَ المرءِ عليها وبسط لسانه بالإخبار بها دليلًا على أنَّه دعي فيها، وأن ما معه منها رائحتها لا حقيقتها، وحقيقتها تأبى إلا التستّر والكتمان. وهذه طريقة الملامتية (3)، كما قيل: __________ (1) كذا في الأصل وغيره. ولعلّ المؤلف ذكّر الضمير لأنّ المقصود هو اللفظ. وفي "ك، ط": "تعتر به"، وهو خطأ. (2) "ك، ط": "كانت"، خطأ. (3) "ط": "الملاميين"!
(2/676)
لا تُنكري جحدي هواك، فإنَّما ... ذاك الجحودُ عليه سِتْرٌ مسبَلُ ولهذا قيل: "المحبة: كتمان (1) الإرادة، وإظهار الموافقة". وهذه الطائفة رأت أنَّ كمال المحبة بكتمانها لأسباب عديدة: أحدها: أنَّ الحبّ كلَّما كان مكتومًا كان أشدَّ وأعظم سريانًا وسكونًا في أجزاء القلب كلها، كما قيل: "الحبّ أقتَلُه أكتَمُه". فإذا أفشاه المحبّ، وأظهره، وباح به، ونادى عليه؛ ضعف أثره، وصار عرضةً للزوال. الثاني: أنَّ الحبَّ كنز من الكنوز، بل هو أعظم الكنوز المودعة في سرّ العبد وقلبه، فلا طريق للصوص إليه. فإذا باح به ونادى عليه فقد دلَّ قطَّاع الطريق واللصوص على موضع كنزه، وعرَّضهم (2) لسلبه منه. فإنَّ النفوس غيَّارة مغيرة، تغار على المحبوب أن يشاركها في حبه أحد، فإذا غارت عليه أغارت على القلوب التي فيها حبُّه، فانتزعته منه. وهذه الآفة قد ابتلي بها كثير من السالكين الذين هم في الحقيقة قطَاع الطريق على السالكين إلى اللَّه. وسولت لهم أنفسهم أنَّ هذه غيرةٌ منهم على محبوبهم أن يحبّه (3) مثل هذه النفوس المتلوثة بالدنيا، وغرَّتهم أنفسُهم ومنَّتْهم أنَّهم يغارون على اللَّه، ويحولون بين تلك النفوس وبين محبّته (4)، فغاروا، وأغاروا، ونهبوا، واستلبوا. __________ (1) "ف": "كمال"، تحريف. (2) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "عرضه". (3) "ك، ط": "أن يحب". (4) "ك، ط": "المحبة".
(2/677)
وهذه الطريقة عند المحبين المخلصين أولياءِ اللَّه الداعين إلى اللَّه عداوةٌ للَّه في الحقيقة، ومعاونةٌ للشيطان، وقعود على طريق اللَّه المستقيم الذي خلق عباده لأجله وأمرهم به. فالحذرُ من هؤلاء القطَّاع اللصوص (1) حمَلَ أهلَ المحبة على المبالغة في كتمانها، وإظهار التخلي منها بأسباب يُلامون عليها ظاهرًا، وقلوبهم معمورة بالمحبة مأهولة بها. وهذا الذي ظنّوه غيرةً هو من تلبيس الشيطان، وخدعه لهم، ومكره بهم. وإنَّما هو حسدٌ حمَلَهم على أن تعدوه (2) وصالوا به وسموه غيرة. وإنَّما غيرة المحبين للَّه أن يغار أحدهم لمحارم اللَّه إذا انتهكت، فيغار للَّه لا على اللَّه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه يغارُ، وإنَّ المؤمن يغارُ. وغيرةُ اللَّه أن يأتي العبدُ ما حرَّم عليه" (3). فغيرة المحبّ هي الموافقة لغيرة محبوبه، وهي أن يغار مما يغار منه المحبوب. وأمَّا (4) إذا كان المحبوب يحب من يحبّه (5)، وهذا يغار ممن يحبه (6)، فهو في الحقيقة ساعٍ في خلاف مراد محبوبه وفي إعدام ما يحبّه محبوبُه. فأين هذا من الغيرة المحبوبة للَّه؟ وإنَّما هذه غيرة من أخيه المسلم كيف خصَّه اللَّه بعطائه، وألبسَه ثوبَ نعمائه، فهي غيرة منه لا غيرة على اللَّه؛ فإنَّ اللَّه لا يُغار عليه __________ (1) "ب": "اللصوص القطاع". (2) كذا في الأصل و"ف". وضبط في "ك" بتشديد الدال. وفي "ب": "يفدوه". وفي "ط": "يردوه". (3) أخرجه البخاري في كتاب النكاح (5223)، ومسلم في التوبة (2761) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) "أما" ساقط من "ط". (5) "ط": "المحبوب ممن يحبه"، سقط وغلط. (6) "ك، ط": "يحبه اللَّه".
(2/678)
بل يُغار له. وسنفرد إن شاء اللَّه للغيرة فصلًا نذكر فيه أقسامها وحقيقتها (1). الثالث: أنَّ المحبة التامَّة تستدعي شغلَ القلب بالمحبوب وعدمَ تفرّغه للشرح والوصف، فلو صدقت محبته لاستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه. فهذه طريقة هؤلاء. ومنهم من يجعل تهتكه وبَوحه بها وإعلانه (2) لها من تمامها وقوتها، ومن علامات قهرها له وأنَّها غلبت على سرّه حتى لم يُطِق صبرُه كتمانها، كما قال النوري (3): "المحبّه هتكُ الأستار، وكشف الأسرار" (4). فهذا حال (5) النوري وأضرابه. وعند هؤلاء التكتُّم ضعفٌ في المحبة وخوَرٌ (6) فيها، وحقيقتها أن يُخلِّيها ومقتضاها من ظهور آثارها على الجوارح والبدن، فإن أثَّرت حركةً لم يسكِّنها، وإن أثَّرت دمعةً لم يمسكها (7)، وإن أثَّرت تنفّسًا لم __________ (1) لا يوجد فصل في الغيرة في هذا الكتاب. ولكنه تكلم عليها في مدارج السالكين (3/ 5 - 14) وروضة المحبين (399، 422). (2) "ك، ط": "إعلامه". (3) أبو الحسين أحمد بن محمد النوري، خراساني الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، من أصحاب السري السقطي وجلَّة مشايخ القوم، توفي سنة 295 هـ. طبقات الصوفية (164). (4) الرسالة القشيرية (324). (5) "ف": "كلام"، خلاف الأصل. (6) "ك، ط": "جور"، تصحيف. (7) في الأصل: "لم يرسلها"، وهو سبق قلم وكذا في "ف، ب". والمثبت من =
(2/679)
يكظمه، وإن أثَّرت بذلا وإيثارًا لم يمسكه. وكمال المحبة عندهم أن تنادي عليه أعضاؤه وألفاظه وألحاظه وحركاته وسكناته بالحبّ نداءً لا يملك إنكاره. وقال علي بن عبيد: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرتُ من كثرة ما شربتُ من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: "غيرك شرب بحورَ السماوات والأرض وما (1) رويَ بعدُ، ولسانه خارج وهو يقول: هل من مزيد" (2). فلم ير هذان العارفان التكتّم بها وإخفاءَها وجحدها وهما هما! وكان الأستاذ أبو علي الدقَّاق (3) ينشد كثيرًا: لي سَكْرتان ولِلنُّدمان واحدةٌ ... شيءٌ خُصِصتُ به من بينهم وحدي (4) وجاءَ رجلٌ (5) إلى عبد اللَّه بن منازل (6) فقال: رأيتُ في المنام كأنَّك تموت إلى سنة، فقال عبد اللَّه: لقد أجَّلتني إلى أجل بعيد، أعيش __________ = "ك، ط". (1) "ك، ط": "والأرض ما". (2) حلية الأولياء (10/ 41)، الرسالة القشيرية (325). (3) شيخ أبي القاسم القشيري. توفي سنة 405 هـ. طبقات الشافعية (4/ 329). (4) لأبي نواس في ديوانه (27)، وفيه: "لي نشوتان". وقد أنشده المؤلف مع بيت آخر في مدارج السالكين (3/ 290). وانظر: القشيرية (71). (5) هو أحمد بن حامد الأسود، كما في القشيرية (335). (6) "ب, ك": "المبارك"، تحريف. وهو عبد اللَّه بن محمد بن منازل الضبيّ، شيخ الملامتية، توفي سنة 329 هـ. طبقات الصوفية (366)، الإكمال (7/ 204). وقد ضبط "منازل" في أصلنا وفي الطبقات بضم الميم، والصواب بفتحها كما في الإكمال وغيره من كتب المشتبه.
(2/680)
إلى سنة! لقد كان لي أنس ببيت سمعتُه من أبي علي (1): يا من شكا شوقه من طول فرقته ... اصبِرْ لعلَّك تلقى من تحبُّ غدا (2) وقال الشبلي: "المحبّ إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك" (3). والتحقيق: أنَّ هذا هو حال المتمكِّن في حبُّه، الذي: تزول الجبالُ الراسياتُ، وقلبُه ... على الودّ لا يُلوي ولا يتغيَّرُ (4) والأوَّل حال المزيد المبتدئ الذي قد علِقت نارُ المحبة في قلبه، ولم يتمكّن اشتعالها، فهو يخاف عليها عواصفَ الرياح أن تطفئها، فهو يخبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهدَه، فإذا اشتعلت وتمكن وقودها في القلب لم تزدها كثرةُ الرياح إلا وقودًا واشتعالًا. فهذا يختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في قوَّة المحبة وضعفها. والمقصود أنَّ من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرّها وأحكامها لن يؤمَن أن يكون من أهل العلم بالمحبة لا من المتّصفين بها حالًا، فكم بين العلم بالشيء والاتّصاف به ذوقًا وحالًا! فعلم المحبة شيء، ووجودها في القلب شيء. وكثير من المحبين الذين __________ (1) زاد في "ط" بين حاصرتين: "الثقفي". وهو محمد بن عبد الوهاب الثقفي النيسابوري الشافعي، المحدث الفقيه العلّامة، شيخ خراسان. وهو من ولد الحجّاج، توفي سنة 328 هـ. سير أعلام النبلاء (15/ 280)، طبقات الصوفية (361). (2) الحكاية في القشيرية (330). والبيت أنشده المؤلف في مدارج السالكين (3/ 18)، ومع بيت آخر في روضة المحبين (581). (3) القشيرية (324). (4) في النسخ الخطية -ما عدا الأصل- والمطبوعة أثبت هذا البيت نثرًا. وقد أنشده المؤلف في بدائع الفوائد (527) أيضًا.
(2/681)
امتلأت (1) قلوبهم محبةً لو سئل عن حدّها وأحكامها وحقيقتها لم يُطِق أن يعبر عنها, ولا يتهيّأ له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر المتكلِّمين فيها إنَّما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال. وهذا -واللَّه أعلم- هو معنى قول بعض المشايخ (2): "أعظمُ الناس حجابًا عن اللَّه أكثرُهم إليه إشارة"، فإنه إنَّما حظّه منه الإشارة إليه لا عكوف (3) القلب عليه، كالفقير الذي دأبه وصف الأغنياء وأموالهم، ووصف الدنيا وممالكها، وهو خِلْو من ذلك. ولا ريب أنَّ وجودَ الحبّ في القلب وتركَ الكلام فيه (4) علمًا خير من كثرة الكلام في هذه المسألة وخلوّ القلب منها. وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالًا وذوقًا، وفاضت على لسانه إرشادًا وتعليمًا ونصيحةً للأمة. فهذا حال الكُمَّل (5) من الناس. واللَّه المسؤول من فضله وكرمه. قوله: "المحبة لا تظهر على المحبّ بلفظه، وإنَّما تظهر عليه بشمائله ونحوله". هذا حقّ، فإنَّ دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها، بل الدلالة عليها في الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال. ففرق بين من يقول لك بلسانه: إنِّي أحبك، ولا شاهد عليه من حاله، وبين من هو ساكت لا يتكلَّم، وأنت ترى شواهد أحواله __________ (1) "قد" ساقط من "ك، ط". (2) هو أبو يزيد البسطامي، ونصّ قوله في طبقات الصوفية (74): "أبعد الخلق من اللَّه أكثرهم إشارة إليه". ونحوه في صفة الصفوة (2/ 263). (3) "ط": "علوق"، تحريف. (4) "فيه" ساقط من "ك، ط". (5) "ط": "الكملة"، وقد مر مثل هذا التحريف من قبل.
(2/682)
كلها ناطقة بحبه لك. قال جعفر (1): قال الجنيد: دفع السريّ إليَّ رقعةً وقال: هذه خير لك من سبعمائة قصَّة وكذا وكذا. فهذا فيها: ولمَّا ادعيتُ الحبَّ قالت كذبتَني ... فما لي أرى الأعضاءَ منكَ كواسيا فما الحب حتَّى يلصَق القلبُ بالحشا ... وتذبُلَ حتَّى لا تجيبَ المناديا وتنحَلَ حتى لا يُبقّي لك الهوى ... سوى مقلةٍ تبكي بها وتُناجيا (2) وبالجملة، فشاهد المحبة (3) الذي لا يكذب هو شاهد الحال، وأمَّا شاهد المقال فصادق وكاذب. قوله: "ولا يفهم حقيقتها من المحبّ سوى المحبوب، لموضع امتزاج (4) الأسرار من القلوب" يعني أنَّ حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحبّ إلا محبوبه. وذلك لشدَّة الاتصال الذي بينه وبين محبوبه في الباطن، فروحه أقرب شيء إليه، وأمَّا (5) الغير وإن علم أنه محبّ بظهور أثر المحبة عليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك (6) تلك اللطيفة والحقيقة __________ (1) جعفر بن محمد بن نصير الخُلدي، صحب الجنيد وعرف بصحبته، توفي سنة 348 هـ. طبقات الصوفية (434). (2) في "ط": "وتبخل حتى ليس" خطأ. والحكاية في القشيرية (324)، ومصارع العشاق (1/ 109). وقد ضمن المؤلف الأبيات في قصيدة أوردها في مدارج السالكين (2/ 610). (3) "ط": "الحب". (4) رسم الكلمة في الأصل هنا أقرب إلى "اقتراح"، فإن الراء لم تنقط هنا، وكذا في "ب، ك". ولكن قول المؤلف في تفسيره: "لموضع اتصال سرّه به" يؤيد ما أثبتنا هنا وفي أول الفصل. وفي "ف": "إخراج"، خطأ. وفي "ط": "اقتداح". (5) "أما" ساقط من "ط". (6) "ف": "لا يدري"، تحريف.
(2/683)
التي يدركها المحبوبُ من محبّه، لموضع اتصال سرّه به (1)، وقرب ما بين الروحين، ولا سيَّما إذا كانت المحبة من الطرفين، فهناك العجب والمناجاة والملاطفة والإشارة والعتاب والشكوى، وهما ساكتان (2) لا يدري جليسهما بعجيب شأنهما (3). فصل قال: "وأمَّا محبَّة العوام فهي محبة تنبُت من مطالعة المنَّة، وتثبتُ باتباع السنَّة، وتنمو على الإجابة للغاية (4). وهي محبة تقطع الوسواس، وتُلذّذ الخدمة، وتسلِّي عن المصائب. وهي في طريق العوامّ عمدة الإيمان" (5). فيقال: لا ريب أنَّ المحبة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض، وكلّ درجة خاصَّة بالنسبة إلى ما تحتها، عامَّة بالنسبة إلى ما فوقها، فليس انقسامها إلى خاصّ وعامّ انقسامًا حقيقيًّا متميّزًا (6) بفصل يميّز أحدَ النوعين عن الآخر. وإنَّما تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها، وتنقسم بذلك إلى قسمين: __________ (1) "به" ساقط من "ط". (2) كذا في "ب، ك". وفي "ط": "ساكنان"، وأهمل النقط في الأصل و"ف". (3) "ك، ط": "جليسهما بشأنهما". (4) كذا في الأصل والنسخ الأخرى ومطبوعة المجالس. ولعل الصواب: "الفاقة"، فإنّ ابن التعريف اعتمد على الهروي، وفي منازله: "الفاقة". وكذا في مدارج السالكين (2/ 617)، وعليه فسره ابن القيم في المدارج، وهنا أيضًا كما سيأتي في ص (695). (5) محاسن المجالس (91). (6) "ف": "مستمرًّا"، ولعله خطأ، وزاد بعدها في "ك، ط": "بالنسبة".
(2/684)
أحد[هما] (1): محبة تنشأ من الإحسان, ومطالعة الآلاء والنعم، فإنَّ القلوب جُبلت على حبّ من أحسن إليها. وبغض من أساء إليها, ولا أحد أعظم إحسانًا من اللَّه سبحانه، فإنَّ إحسانه على عبده في كلِّ نفَس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلًا عن أنواعه أو عن أفراده. ويكفي أنَّ من بعض أنواعه نعمةَ النفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنَّه يتنفَّس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفَس، وكلّ نفَس نعمة منه سبحانه. فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون (2) ألف نعمة، فما الظنّ بما فوق ذلك وأعظم منه؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم/ 34، النحل/ 18]. هذا إلى ما يصرف عنه من المضرّات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلّها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلًا، واللَّه سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء/ 42]. وسواء كان المعنى: مَن يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوءًا، ويكون "يكلؤكم" مضمَّنًا معنى "يجيركم وينجيكم من بأسه"؛ أو كانت "من" للبدلية (3) أي: من يكلؤكم بدل الرحمن سبحانه، أي: هو الذي يكلؤكم وحده، لا كالئ لكم غيره. __________ (1) "هما" سقط من الأصل سهوًا. وانظر القسم الثاني في ص (690). (2) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "عشرين". (3) "ك، ط": "البدلية".
(2/685)
ونظير "مِن" هذه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف/ 60] على أحد القولين، أي: عوضكم وبدلكم. واستشُهِد (1) على ذلك يقول الشاعر: جاريةٌ لم تأكلِ المرفَّقا ... ولم تذُقْ من البقول الفُسْتُقا (2) أي: لم تأكل الفستق بدل البقول (3). وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعِم عليهم بكلاءَتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التامّ عنهم وفقرهم التامّ إليه، فإنه سبحانه غَنيّ عن خلقه من كلّ وجه، وهم فقراءُ محتاجون إليه من كلّ وجه. وفي بعض الآثار يقول تعالى: "أنا الجواد، ومَن أعظم منّي جودًا وكرمًا؟ أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزوني (4) بالعظائم" (5). وفي الترمذي (6) أنّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا رأى السحاب قال: "هذه روايا __________ (1) "ك، ط": "واستشهدوا". (2) هذا الرجز لأبي نُخيلة، من شعراء الدولتين. الشعر والشعراء (602). والمرفّق: الرغيف الواسع الرقيق. (3) وإليه ذهب ابن مالك. وقال غيره إن الراجز لم يعرف الفستق، فظنه من البقول. مغني اللبيب (422). وزعم الغندجاني أنَّ "البقول" بالباء تصحيف البقول. بالنون. فرحة الأديب (185). وانظر: الصحاح "بقل". (4) كذا في الأصل بحذف نون الرفع للتخفيف، وفي "ط": "يبارزونني". وفي "ف": "يبادروني"، تحريف. (5) انظر نحوه في الحلية (8/ 95 - 96) (11476 - 11477) عن الفضيل بن عياض. (6) رقم (3298). وأخرجه أحمد (8827) وابن أبي عاصم في السنة (578) =
(2/686)
الأرض يسوقها اللَّه إلى قوم لا يذكرونه، ولا يعبدونه" (1). وفي الصحيحين عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: "لا أحد أصبَر على أذى يسمعه من اللَّه، إنّهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم" (2). وفي بعض الآثار: "يقول تعالى: ابنَ آدم، خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد. كم أتحبب إليك بالنعم، وأنا غنيّ عنك! وكم تتبغّض إليّ بالمعاصي، وأنت فقير إليّ! ولا يزال الملَك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح" (3). ولو لم يكن من تحبّبه إلى عباده وإحسانه إليهم وبرّه بهم إلّا أنّه سبحانه خلق لهم ما في السماوات والأرض وما في الدنيا والآخرة، ثمّ أقلهم وكرّمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذِن لهم في مناجاته كلّ وقت أرادوا. وكتب لهم بكلّ حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيّئة واحدةً، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنةً. وإذا بلغت ذنوبُ أحدهم عَنان السماء ثمّ استغفره غَفَر له. ولو لقيه بقُراب الأرض خطايا، ثمّ لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئًا، لأتاه بقُرابها مغفرة (4). __________ = وغيرهم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه. ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة". وسماع الحسن من أبي هريرة فيه خلاف. وأخرج البخاري (287)، ومسلم (348) حديثًا عن الحسن عن أبي هريرة. (ز). (1) الروايا من الإبل: التي يستقى عليها، شبّه بها السحاب. (2) تقدّم تخريجه في ص (274). (3) سبق تخريجه في ص (205). (4) قول المصنف "وإذا بلغت ذنوب أحدهم. . . بقرابها مغفرةً" حديثٌ رواه =
(2/687)
وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب، فوفّقهم لفعلها، ثمّ قبِلها منهم. وشرع لهم الحجّ الذي يهدم ما قبله، فوفّقهم لفعله، وكفّر عنهم سيئاتهم به. وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمدّهم (1) بها، وخلقها لهم، وأعطاهم إيّاها، ورتّب عليها جزاءَها. فمنه السبب، ومنه الجزاءُ، ومنه التوفيق، ومنه العطاءُ أولًا وآخرًا. وهم محلّ إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنّما الفضل كلّه والنعمة كلّها والإحسان كلّه منه أولًا وآخرًا. أعطى عبده ماله، وقال: تقرَّبْ بهذا إليّ أقبلْه منك. فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولًا وآخرًا. فكيف لا يحَبّ من هذا شأنه؟ وكيف لا يستحيي العبد (2) أن يصرف شيئًا من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناءِ والمحبة منه سبحانه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. ويفرح سبحانه بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفّر عنه ذنوبه، ويُوجِب له محبّته بالتوبة. وهو الذي ألهمه إيّاها، ووفّقه لها، وأعانه عليها. وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض. واستعمل حمَلةَ العرش منهم في الدعاءِ لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذابَ الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جنّاته. فانظر إلى هذه العناية، __________ = أنس بن مالك. أخرجه الترمذي (3540) وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه" قلت: في سنده كثير بن فائد، فيه جهالة. (ز). (1) "ك، ط": "أمرهم". (2) "ب": "كيف يليق بالعبد".
(2/688)
وهذا الإحسان, وهذا التحنّن والعطف (1) والتحبّب إلى العباد، واللطف التامّ بهم! ومع هذا كلّه بعد أن أرسل (2) إليهم رسُله، وأنزل عليهم كتُبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه؛ ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم (3)، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئَهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم يسأله (4) قضاءها كلّ ليلة. ويدعوهم سبحانه إلى التوبة، وقد حاربوه، وعذَّبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج/ 10]. قال بعض السلف: انظروا إلى كرمه، كيف عذبوا أولياءَه، وحرَّقوهم بالنار؛ ثُمَّ هو يدعوهم إلى التوبة! فهذا الباب يدخل منه كلّ أحد إلى محبته سبحانه، فإنَّ نعمه (5) على عباده مشهودة لهم، يتقلَّبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات. وقد روي في بعض الأحاديث مرفوعًا: "أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحِبّوني بحبّ اللَّه" (6). فهذه محبة تنَشأ من مطالعة المنن والإحسان __________ (1) "ب": "التعطف". (2) "ف": "ومع هذا فقد أرسل"، خلاف الأصل. (3) سبق حديث النزول في ص (464). (4) "ب": "أن يسأله". (5) "ك، ط": "نعمته". (6) أخرجه الترمذي (3789)، والبخاري في تاريخه (1/ 83)، والطبراني في الكبير (2639)، والحاكم (4716). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنَّما نعرفه من هذا الوجه" وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم =
(2/689)
ورؤية النعم والآلاء، وكلَّما سافر القلب بفكره (1) فيها ازدادت محبته وتأكَّدت. ولا نهاية لها، فيقفَ سفر القلب عندها، بل كلَّما ازداد فيها نظرًا ازداد فيها اعتبارًا وعجزًا (2) عن ضبط القليل منها، فيستدلّ بما عرفه على ما لم يعرفه. واللَّه سبحانه دعا عباده إليه من هذا الباب، حتّى إذا دخلوا منه دُعُوا من الباب الآخر، وهو باب الأسماء والصفات (3) الذي إنَّما يدخل منه إليه خواصّ عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقًّا الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبَع من معرفته أحد منهم، بل كلَّما بدا له منه عَلَمٌ ازداد شوقًا ومحبَّةً وظمأ. فإذا انضمَّ داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلَّف عن محبّة مَن هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدّها نقصًا وأبعدها من كلِّ خيرٍ. فإنَّ اللَّه فطر القلوب على محبَّة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة اللَّه التي فطَر عليها قلوبَ عباده، فمن المعلوم أنَّه لا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل؛ فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صُنْعه سبحانه، وهو الذي لا يُحَد كمالُه، ولا يوصَف جلالُه وجمالُه، ولا يحيى أحد من خلقه ثناءً عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه. وإذ (4) كان الكمال محبوبًا لذاته ونفسه وجَبَ أن يكون __________ = يخرجاه". وسنده ضعيف لجهالة عبد اللَّه بن سليمان النوفلي. (ز). (1) "بفكره" ساقط من "ط". (2) "ف، ب": "وعجَز"، خلاف الأصل. (3) وهذا هو القسم الثاني من المحبة، الذي ينشأ من مطالعة الأسماء والصفات. (4) "ك، ط": "إذا".
(2/690)
اللَّه هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه. وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبَّةً خاصَّةً، فإنَّ أسماءَه كلّها حسنى، وهي مشتمة من صفاته، وأفعاله دالَّة عليها، فهو المحبوب المحمود لذاته ولصفاته وأفعاله وأسمائه، فهو المحبوب المحمود (1) على كلِّ ما فعل، وعلى كل ما أمر؛ إذ ليس في أفعاله عبث، ولا في أوامره سَفَه. بل أفعاله كلّها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكلّ واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه. وأوامره كلها مصلحة تستوجب الحمد والثناء والمحبة عليها (2). وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كلّه فضل وعدل؛ فإنَّه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقبَ فبعدله وحكمته. ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ ... كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ إن عُذبوا فبعدله، أو نُعِّموا ... فبفضله، وهو الكريم الواسعُ (3) (4) ولا يتصوَّر بشَرٌ (5) هذا المقامَ حق تصوّره فضلًا عن أن يوفّيه (6) حقَّه. فأعرَفُ خلقِه به وأحبُّهم له يقول: "لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما __________ (1) "لذاته. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) "وأوامره كلها. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (3) ذكرهما المؤلف في مدارج السالكين (2/ 389)، وبدائع الفوائد (645)، والتبيان (33)، والوابل الصيب (153). (4) في "ك، ط" هنا عنوان "فصل". (5) "ك، ط": "نشر"، تصحيف. (6) "ك، ط": "يوفَّاه"، خطأ.
(2/691)
أثنيتَ على نفسك" (1). ولو شهد العبد (2) بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبّةَ التامّةَ عليها. وهل مع المحبّين محبة إلا من آثار صفات كماله؟ فإنَّهم لم يروه في هذه الدار، وإنَّما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلّوا بما علموه على ما غاب عنهم، وإلا (3) فلو شاهدوه ورأوا جلاله وكماله وجماله (4) سبحانه لكان لهم في حبّه شأنٌ آخر. وإنَّما تفاوتت مراتبهم (5) في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به، فأعرفهم له (6) أشدّهم حبًّا له. ولهذا كانت رسله صلوات اللَّه وسلامه عليهم أعظمَ الناس حبًّا له، والخليلان من بينهم أعظمهم حبًّا، وأعرف الأمة به أشدّ له حبًّا من غيره (7). ولهذا كان المنكرون لحبّه سبحانه من أجهل الخلق به، فإنَّهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولملَّة (8) الخليلين صلَّى اللَّه عليهما وسلَّم، ولفطرة اللَّه التي فطر اللَّه عبادَه عليها. ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبّه فيها، ووجدوا معتقدهم وبحثهم (9) يكذّب فِطَرهم. وإنَّما بُعثت الرسل __________ (1) تقدّم تخريجه في ص (57). (2) "العبد" ساقط من "ب, ك، ط". (3) "وإلَّا" ساقط من "ك، ط". (4) "ب, ك، ط": "جماله وكماله". (5) "ط": "منازلهم ومراتبهم". وفي "ك" ضرب على "منازلهم" وليس بعدها واو العطف. (6) "ب": "به". "ط": "باللَّه". (7) "ك، ط": ". . الأمة أشدهم له حبًّا". (8) "ب, ك، ط": "لخلَّة". (9) "ط": "معتقدهم نفي محبتهم".
(2/692)
بتكميل هذه الفطر (1) وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى التي فطرت عليها، وإنَّما دعَوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلَّا تفسد وتنتقل عمَّا خُلقت له. وهل الأوامر والنواهي إلا خدَم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟ وهل خلق (2) سبحانه خلقَه إلا لعبادته التي هي غايةُ محبته والذلِّ له؟ وهل هُيِّئ الإنسان إلا لها؟ كما قيل: قد هيّؤوك لأمرٍ لو فطِنتَ له ... فاربَأ بنفسك أن ترعَى مع الهَمَلِ (3) وهل في الوجود محبَّةٌ حقٌّ غير باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإنَّ كلَّ محبَّةٍ متعلِّقةٍ بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأمَّا محبته سبحانه فهي الحقّ التي لا تزول ولا تبطل (4)، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى. فكلّ (5) ما سوى اللَّه باطل، ومحبّة الباطل كلها (6) باطل. فسبحان اللَّه كيف تُنكر المحبَّةُ الحقُّ التي لا محبَّة أحقّ منها، ويُعترَفُ بوجود المحبَّة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلَّقت المحبة بوجود محدَث إلا لكمالٍ في وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمالُ إلا من آثار صنع اللَّه الذي أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كلّه إلا له؟ فكل من أحبَّ شيئًا لكمالٍ ما __________ (1) "ك، ط": "الفطرة". (2) "ط": "خلق اللَّه". (3) للطغرائي. وهو آخر بيت من لامية العجم. انظر: الغيث المسجم (2/ 438) وفيه: "قد رشَّحوك". وقد ذكره المؤلف في زاد المعاد (3/ 73)، وروضة المحبين (619)، ومفتاح دار السعادة (1/ 431)، (2/ 113). (4) "ك، ط": "فهو الحق الذي لا يزول ولا يبطل". (5) "ب، ك، ط": "وكلّ". والمثبت من "ف". (6) في الأصل: "ومحبّة الباطلها" كذا، فقرأتها كما أثبت، ويؤيد ذلك تذكير الخبر، ولم يثبت "كلها" في النسخ الأخرى. وفي "ب": "ومحبّة الباطل باطلة".
(2/693)
يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة اللَّه، وأنَّه أولى بكمال الحبّ من كلِّ شيء. ولكن إذا كانت النفوس صغارًا كانت محبوباتها على قدرها، وأمَّا النفوس الكبار الشريفة فإنَّها إنَّما (1) تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها. والمقصود أنَّ العبد إذا اعتبر كلَّ كمال في الوجود وجده من آثار كماله سبحانه، فهو دالّ على كمال مبدعه؛ كما أنَّ كل علم في الوجود فمن آثار علمه، وكلّ قدرة فمن آثار قدرته. ونسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقُدَرهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته (2) وقوته وحياته. فإذن لا نسبة أصلًا بين كمالات العالم وكمال اللَّه جلَّ جلاله، فيجب أن لا يكون بين محبته تعالى ومحبة غيره من الموجودات نسبة (3)، بل يكون حبّ العبد له أعظم من حبّه لكل شيء بما لا نسبة بينهما. ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فالمؤمنون أشدّ حبًّا لربهم ومعبودهم تعالى من كلّ محِبّ لكلِّ محبوب. هذا مقتضى عقد الإيمان الذي لا يتمّ إلا به. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنًى أو منها بدّ، كدقائق العلم والمسائل التي يختصّ بها بعض الناس دون بعض. بل هذه أفرضُ مسألةٍ (4) على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها, ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب اللَّه إلا بها، __________ (1) "إنما" ساقط من "ك، ط". (2) سقطت "قدرته" من "ف" سهوًا. (3) مكانها في "ط": "له". (4) "ط": "هذه مسألة تفرض".
(2/694)
فلْيشتغل بها العبد أو ليُعرض عنها. ومن لم يتحقق بها علمًا وحالًا وعملًا لم يتحقَّق بشهادة أن لا إله إلا اللَّه، فإنَّها سرّها وحقيقتها ومعناها، وإن أبي ذلك الجاحدون، وقصَّر عن علمه الجاهلون. فإنَّ الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهُه (1) القلوب بحبها، وتخضع له، وتذِلّ له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمَّاتها، وتتوكَّل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبّه. وليس ذلك إلا اللَّه (2) وحده. ولهذا كانت (3) أصدقَ الكلام، وكان أهلُها أهلَ اللَّه وحزبَه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته. فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحَّت صحَّ بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه، وأعماله، وأحواله، وأقواله. ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه. فلنرجع إلى شرح كلامه. فقوله: "وأمَّا محبة العوام فهي محبة تنبُت من مطالعة المنَّة" يعني أنَّ لهذه المحبة منشأ وثبوتًا (4) ونموًّا. فمنشؤها الإحسان ورؤية فضل اللَّه ومنته على عبده. وثبوتها باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونموها وزيادتها يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربّه، فكلَّما (5) دعاه فقره وفاقته إلى ربّه أجاب هذا الداعي. وهو فقير بالذات، __________ (1) "ف": "تأله"، سهو، وفي "ط": "تؤلّهه". (2) "ب": "للَّه". (3) يعني كلمة لا إله إلَّا اللَّه. وقد وضعت في "ط" بين حاصرتين. (4) "ب": إثباتًا". (5) "ف": "وكلّما".
(2/695)
فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دام (1) استجابتُه له بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتتزايد، فكلما أخطر الربّ تعالى في قلبه خواطرَ الفقر والفاقة إليه (2) بادر قلبه بالإجابة والانكسار بين يديه ذلًّا وفاقةً وحبًّا وخضوعًا. وإنّما كانت هذه محبّة العوام عنده لأنّ منشأها من الأفعال، لا من الصفات والجمال. ولو قطع الإحسانُ عن هذه القلوب لتغيّرتْ وذهبت محبّتها، أو ضعفت، فإنّ باعثها إنّما هو الإحسان, و"من ودَّك لأمرٍ ولَّى عند إنقضائه" (3)، فهو برؤية الإحسان مشغول، وبتوالي النعَم عليه محمول. قوله: "وهي محبة تقطع الوسواس، وتلذّذ الخدمة، وتسلّي عن (4) المصائب. وهي في طريق العوام عمدة الإيمان (5) ". إنّما كانت هذه المحبة قاطعةً للوسواس لإحضار المحبّ قلبَه بين يدي محبوبه. والوسواس إنّما ينشأ من الغَيبة والبعد، وأمّا الحاضر المشاهد فما له وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضره (6) بين يدي معبوده، والمحبّ لم يغب قلبُه عن محبوبه فيجاهدَه على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان. __________ (1) "ب، ط": "دامت". (2) "إليه" ساقط من "ك، ط". (3) سبق المثل والتعليق عليه في ص (646). (4) في الأصل: "على"، وكذا في غيره. وهو سهو. انظر ما سبق في أول الفصل. وسيأتي مرة أخرى على الصواب. (5) "ب، ك، ط": "للإيمان". (6) "ط": "ليحضر".
(2/696)
ومن وجه آخر أنّ المحبّ قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع، لامتلاءِ قلبه من محبة حبيبه، فلا تتوارد على قلبه جوانب الأطماع والأماني لاشتغاله بما هو فيه. وأيضًا فإن الوسواس والأماني إنّما تنشأ من حاجته وفاقته إلى ما تعلّق طمعه به، وهذا عبد قد جنى من الإحسان, وأُعطي من النعم ما سدّ حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس. بل بقي حبُّه للمنعِم عليه، وشكرُه له، وذكرُه إيّاه في محل وساوسه وخواطره، لمطالعته (1) نعمَ اللَّه عليه، وشهوده (2) منها ما لم يشهد غيره. وقوله: "وتلذّذ الخدمة" هو صحيح، فإنّ المحبّ يتلذّذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلّما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل. فليزِنْ العبد إيمانه ومحبّته للَّه بهذا الميزان, ولينظرْ هل هو ملتذّ بخدمته كالتذاذ المحبّ (3) بخدمة محبوبه، أو متكرّه لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محكّ إيمان العبد ومحبته للَّه. قال بعض السلف: إنِّي أدخل في الصلاة، فأحمل همَّ خروجي منها، ويضيق صدري إذا عرفتُ (4) أني خارج منها. ولهذا قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جعلت قرَّة عيني في الصلاة" (5). ومن كانت قرَّة عينه في شيء فإنَّه يودّ أن لا يفارقه ولا يخرج منه، فإن قرة عين العبد __________ (1) "ف، ب": "لطاعة"، غلط. (2) في الأصل: "شهودها"، وهو سهو، وكذا في "ك". والمثبت من "ف، ب، ط". (3) "بخدمته كالتذاذ المحبّ" ساقط من "ك، ط". (4) "ك، ط": "فرغت"، تحريف. (5) تقدّم تخريجه في ص (81).
(2/697)
بالشيء (1) نعيمه وطيب حياته به. وقال بعض السلف: "إنِّي لأفرح بالليل حين يُقبل، لما يلَذّ (2) به عيشي وتقَرّ به عيني من مناجاة من أحب، وخلوّي (3) بخدمته، والتذلل بين يديه. وأغتمّ للفجر إذا طلع، لما أشتغل به بالنهار عن ذلك". فلا شيء ألذّ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته. وقال بعضهم: تعذَّبتُ بالصلاة عشرين سنة، ثُمَّ تنعّمتُ بها عشرين سنة (4). وهذه اللذّة والتنعّم بالخدمة إنَّما تحصل بالمصابرة على التكرّه والتعب أوَّلًا، فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذّة. قال أبو يزيد: سُقْتُ نفسي إلى اللَّه وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتَّى انساقت إليه وهي تضحك (5). ولا يزال السالك عرضةَ الآفات (6) والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحال (7). فحينئذٍ يصير نعيمُه في سيره، ولذّتُه في اجتهاده، __________ (1) "بالشيء" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "يلتذ". "ب": "تلذبه عيشتي". (3) "ك، ط": "خلوتي". (4) "ف": "تغذيت"، تصحيف. وهو من كلام عتبة الغلام ابن أبيان البصري. حلية الأولياء (10/ 9). وفيه: "كابدت الصلاة. . "، وانظر: عدة الصابرين (84). (5) ذكره المصنف في بدائع الفوائد (1181) ضمن ما انتقاه من المدهش لابن الجوزي (463). (6) "ط": "للآفات". (7) "ط": "الحالة".
(2/698)
وعذابُه في فتوره ووقوفه. فيرى (1) أشدّ الأشياء عليه ضياعَ شيء من وقته ووقوفَه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا إلا بالحبّ المزعِج. وقوله: "وتسلّي (2) عن المصائب" صحيح، فإنَّ المحبّ يتسلَّى بمحبوبه عن كلّ مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يُبالِ بما فاته، ولا يجزع (3) على ما ناله، فإنَّه يرى في محبوبه عوضًا عن كلّ شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضًا منه أصلًا، فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقَتْ عليه محبوبه. ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أحد تنظر ما فعل رسولُ اللَّه (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- مرت بأبيها وأخيها مقتولَين (5)، فلم تقِفْ عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقيل لها: ها هو ذا حيّ، فلما نظرت إليه قالت (6): ما أُبالي إذ (7) سلمتَ هلك مَن هلك (8). ولو لم يكن في المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدَها لكفى بها __________ (1) "ك، ط": "فترى". (2) "ك": "سلى". (ط): "سلا"، خطأ. (3) في الأصل: "ولا يجرح" بالجيم والحاء، ولعله سهو وكذا في "ف". وفي "ب": "ولم يجزع". وفي "ك، ط": "فلا يجزع". (4) "ك، ط": "برسول اللَّه". (5) في السيرة أنها أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأحد. انظر: سيرة ابن هشام (2/ 99). (6) في الأصل: "قال"، سهو. (7) "ك، ط": "إذا"، خطأ. (8) أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 99)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 302)، وسنده ضعيف للانقطاع. (ز).
(2/699)
شرفًا، فإنَّ المصائب لازمة للعبد لا محيدَ له عنها, ولا يمكن دفعها وحملها (1) بمثل المحبة. وهكذا مصائب الموت وما بعده (2) إنَّما تسهل وتهون بالمحبة. وكذلك مصائب يوم القيامة، وأعظم المصائب مصيبة النار، ولا يدفعها إلا محبَّة اللَّه وحده، ومتابعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالمحبَّة أصل كلّ خيرِ في الدنيا والآخرة، كما قال سَمنون (3): ذهب المحبّون للَّه بشرف الدنيا والآخرة، فإنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "المرءُ مع من أحبّ" (4)، فهم مع اللَّه تعالى. وقوله: "وهي في طريق العوامّ عمدة الإيمان" كلام قاصر، فإنَّها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذي لا يقوم إلا عليه، فلا إيمان بدونها البتة، وإنَّما مراده أنَّ (5) هذه المحبة الخاصة التي تنشأ من رؤية النعم هي عمدة إيمان العوامّ، وأمَّا الخواصّ فعمدة إيمانهم محبة تنشأ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماء والصفات (6). فصل قال أبو العباس (7): "وأمَّا محبَّة الخواصّ فهي محبة خاطفة: تقطع __________ (1) "وحملها" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "بعدها". (3) من أصحاب السري السقطي. ترجمته في طبقات الصوفية (193) وحلية الأولياء (10/ 329). ونقل المصنف قوله في روضة المحبين (553). (4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6168)، ومسلم في البر والصلة (2640) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (5) "أنَّ" ساقط من "ك، ط". (6) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (7) محاسن المجالس (91 - 92).
(2/700)
العبارة، وتدقِّق الإشارة، ولا تنتهي بالنعوت، ولا تُعرف إلا بالحيرة والسكوت، وقال بعضهم: تقول وقد أُلبِستُ وجدًا وحيرةً ... وقد ضمَّنا بعد التفرُّق محضرُ (1) ألستَ الذي كنّا نحدث أنه ... وَلوع بذكرانا، فأين التذكّرُ؟ (2) فرد عليها الوجدُ: أفنيتِ ذكرَه ... فلم يبقَ إلا زفرة وتحيّرُ (3) " فيقال: ههنا مرتبتان من المحبة مختلَف في أيّتهما أكمل من الأخرى: إحداهما هذه المرتبة التي أشار إليها المصنف، وهي الدرجة الثالثة التي ذكرها شيخ الإِسلام في منازله (4) فقال: "والدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة، وتدفق الإشارة، ولا تنتهي بالنعوت. وهذه المحبة قطب هذا الشأن، وما دونها محالّ (5) تنادي عليها الألسن، وادعتها الخليقة، وأوجبتها العقول". والمرتبة الثانية عند صاحب المنازل ومن تبعه دون هذه المرتبة، وهي المحبة التي تنشأ من مطالعة الصفات، فقال في منازله: "والدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحقّ على غيره، وتُلهِجُ اللسان بذكره، __________ (1) "ك، ط": "يقول"، تصحيف. (2) "ب، ك، ط": "بذكراها". (3) "ف": "فكرة وتحير"، خلاف الأصل. "ب": "حسرة وتحسر". (4) يعني شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في كتابه منازل السائرين (72)، وانظر: مدارج السالكين (2/ 618، 620). (5) كذا في الأصل وغيره. وفي المنازل: "محاب"، ولم يشر محققه إلى نسخة أخرى، وكذا في المدارج. فأخشى أن يكون ما هنا سهوًا.
(2/701)
وتعلق (1) القلبَ بشهوده، وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات، والنظر في الآيات، والارتياض بالمقامات" (2). وإنَّما جعل هؤلاء هذه المحبة أنقصَ من المحبة الثالثة بناءً على أصولهم في أنَّ (3) الفناءَ هو غاية المسالك التي لا غاية له وراءَها. فهذه المحبة لما أفنَت المحبّ، واستغرقت روحه، بحيث غيبته عن شهوده، وفني فيها المحبّ، وانمحت رسومه بالكلّية، ولم يبق هناك إلا محبوبه وحده، فكأنَّه هو المحبّ لنفسه بنفسه، إذ فني من لم يكن، وبقي من لم يزل. ولمَّا ضاق نطاق النطق بهم عن التعبير عنها عدلوا إلى التعبير عنها بكونها قاطعةً للعبارة، مدقّقةً للإشارة، يعني تدِقّ عنها الإشارة؛ لأنَّ (4) الإشارة تتناول محبًّا ومحبوبًا، وفي هذه المحبة قد فني المحبّ، فانقطع تعلُّق الإشارة به، إذ الإشارة لا تتعلّق بمعدوم. وسر هذا المقام عندهم هو الفناءُ في الحبّ، بحيث لا يشاهد له رسمًا ولا محبَّةً ولا سببًا. ولهذا كانت الدرجتان اللتان قبله عنده (5) معلولتين، لأنَّهما مصحوبتان (6) بالبقاء وشهود الأسباب، بخلاف الثالثة. ولهذا قال: "ولا تنتهي بالنعوت" يعني أنَّ النعت لا يصل إليها __________ (1) "ك، ط": "يلهج. . . يعلق"، تصحيف. (2) منازل السائرين (72). وانظر: المدارج (617). (3) "ط": "فإنَّ"، تحريف. (4) "ك، ط": "ولأنَّ"، خطأ. (5) "ط": "عنه"، تحريف. (6) في الأصل و"ف": "مصحوبان"، ولعله سهو. والمثبت مما عداهما.
(2/702)
ولا يدركها. وهذ ابناءً على قاعدته في كلِّ باب من أبواب كتابه بجعل (1) الدرجة الثالثة (2) التي تتضمن الفناءَ أكمل ممَّا قبلها. والصواب أنَّ الدرجة الثانية أكمل من هذه وأتمّ، وهي درجة الكمَّل (3) من المحبين. ولهذا كان إمامهم وسيدهم وأعظمهم حبًّا -صلى اللَّه عليه وسلم- في الذروة العليا من المحبة، وهو مراع لجزئيات الأمر ولجزئيات الأمة (4)، مثل سماعِه بكاءَ الصبيّ في الصلاة فيخفّفها لأجله (5)، ومثل التفاته في صلاته إلى الشعب الذي بعث منه العينَ يتعرَّف له أمر العدوّ (6)، هذا وهو في أعلى درجات (7) المحبة. ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء (8)، وهو ثابت الجأش، حاضر القلب، لم يفنَ عن تلقّي خطاب ربه وأوامره، ومراجعته في أمر الصلاة مرارا. ولا ريب أنَّ هذه (9) الحال أكمل من حال موسى الكليم صلوات اللَّه وسلامه عليهما وعلى جميع النبيين، فإنَّ موسى خرَّ صعقًا وهو في __________ (1) كذا في "ك". وفي "ط": "يجعل" ولم ينقط أوله في الأصل وغيره. (2) "ك، ط": "العالية"، تحريف. (3) "ط": "الكملة"، وقد مرّت أمثلة من هذا التغيير في "ط". (4) في "ب" تحرفت كلمة "الجزئيات" في الموضعين إلى "حرمات". وفي "ك": "لجريان الأمور". وفي "ط": "لجريان الأمور وجريان الأمة". (5) كما في حديث أبي قتادة الذي أخرجه البخاري في كتاب الأذان (707)، وحديث أنس الذي أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (470). (6) أخرجه أبو داود (2501)، وابن خز يمة (487)، وأبو عوانة (5/ 98)، والحاكم (865). والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم. (ز). (7) "ك، ط": "درجة". (8) "ك، ط": "في ليلة الإسراء". (9) "ك، ط": "هذا".
(2/703)
مقامه في الأرض لمَّا تجلَّى ربُّه للجبل، والنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قطع تلك المسافات، وخرق تلك الحجب، ورأى ما رأى، وما زاغ بصره ولا طغى (1)، ولا اضطرب فؤاده ولا صعق، فصلوات اللَّه وسلامه عليه. ولا ريب أنَّ الوراثة المحمّدية أكمل من الوراثة الموسويّة. وتأمَّل شأن النسوة اللاتي رأين يوسف، كيف أدهشهنَّ حسنُه وتعلّق (2) قلوبهنَّ به، وأفناهنَّ عن أنفسهنَّ حتَّى قطَّعن أيديهنَّ. وامرأةُ العزيز أكملُ حبًّا منهنَّ له وأشدّ، ولم يعرض لها ذلك، مع أنَّ حبها أقوى وأتمّ؛ لأنَّ حبّها كان مع البقاءِ، وحبّهن كان مع الفناءِ. فالنسوة غيَّبهنّ حسنُه وحبُّه (3) عن أنفسهنَّ، فبلغن من تقطيع أيديهنَّ ما بلغن؛ وامرأة العزيز لم يغيّبها حبُّها له (4) عن نفسها، بل كانت حاضرةَ القلب متمكّنةً في حبّها، فحالها حال الأقوياء من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ. ومما يدلّ على أنَّ حال البقاءِ في الحبّ أكمل من حال الفناء أنَّ الفناءَ إنَّما يعرض لضعف النفس عن حمل (5) وارد المحبة، فتمتلئ به، وتضعف عن حمله، فيفنيها ويغيّبها عن تمييزها وشهودها، فيورثها الحيرة والسكوت. وأمَّا حال البقاء فيدلّ على ثبات النفس وتمكّنها، وأنَّها حملت من الحبّ ما لم يطلق حملَه صاحبُ الفناءِ، فتصرَّفتْ في __________ (1) "ب, ك، ط": "ما طغى". (2) "ب, ط": "تعلَّقت". (3) "ف": "حسن وجهه"، خلاف الأصل. (4) "ط": "حبه لها"، غلط. (5) "حمل" ساقط من "ك، ط".
(2/704)
حبّها, ولم يتصرّف فيها. والكامل (1) من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه، ولا يدع حاله يتصرّف فيه. وأيضًا فإنَّ البقاء متضمن لشهود كمال المحبوب (2)، ولشهود ذلّ عبوديته في محبته (3)، ولشهود مراضيه وأوامره، والتمييز بين ما يحبه ويكرهه، والتمييز بين المحبوب إليه والأحبّ، والعزم على إيثار الأحبّ إليه. فكيف يكون الفاني عن شهود هذا بتغييب (4) الحبّ له أكملَ وأقوى؟ وأي عبودية للمحبوب في فناءِ المحبّ في محبته؟ وهل العبودية كلّ العبودية إلا في البقاءِ والصحوِ، وكمالِ التمييز، وشهود عزّة محبوبه، وذلّه هو (5) في حبّه واستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها في تنفيذ مراد محبوبه؟ فهذا وأمثاله مما يدلّ على أنَّ الدرجة الثانية التي أشار إليها أكملُ من الثالثة وأتم. وهكذا في جميع أبواب الكتاب. واللَّه أعلم. وكأنِّي بك تقول: لا يُقبَل (6) في هذا إلا كلامُ مَن قطَع هذه المفاوِزَ حالًا وذوقًا، وأمَّا الكلام فيها بلسان العلم المجرد فغير مقبول، والمحبون أصحاب الحال والذوق في المحبة، لهم شأن وراءَ الأدلة والحجَج! __________ (1) "ك، ط": "الكمال". (2) "ب": "متضمن لكمال المحبوب". (3) "ك، ط": "عبوديته ومحبته". (4) "ط": "التغييب". (5) "ك، ط": "وذله وهو". (6) "ب": "لا نقبل"، والأصل غير منقوط.
(2/705)
فاعلم أوَّلًا أنَّ كلَّ حال وذوق ووجد وشهود لا يُشرِق عليه نورُ العلم المؤيَّد بالدليل، فهو من عيش (1) النفس وحظوظها. فلو قُدِّرَ أنَّ المتكلّم إنَّما تكلَّم بلسان العلم المجرَّد، فلا ريبَ أنَّ ما كشفه العلم الصحيح المؤيَّد بالحجَّة أنفعُ من حالٍ يخالف العلمَ و [العلمُ] (2) يخالفه. وليس من الإنصاف ردّ العلم الصحيح بمجرَّد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنةٌ في الأرض وفساد كبير. وكم قد ضلَّ وأضلَّ محكِّم الحال على العلم! بل الواجب تحكيمُ العلم على الحال، وردُّ الحال إليه، فما زكَّاه شاهدُ العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود. وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق رضي اللَّه عنهم، كلّهم (3) يوصون بذلك، ويخبرون أنَّ كلّ ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل. ويقال ثانيًا: ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقًا له. أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممَّن قد مرض وتداوى بها (4)؟ أفيقول هذا عاقل؟ ويقال ثالثًا: أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى في __________ (1) "ط": "عبث"، تحريف. (2) ما بين الحاصرتين زيادة من "ط". (3) "كلهم" ساقط من "ب". وسقطت معه كلمة الترضي أيضًا من "ك، ط". (4) "وتداوى" مكتوب في حاشية الأصل، والإشارة تدلّ على أن مكانها قبل "بها" كما أثبتنا، وفي "ف": "مرض بها وتداوى"، وفي "ب، ك، ط": "مرض بها وتداوى بها".
(2/706)
هذه المرتبة، فلا تقبل إلا ممَّن هذا شأنه، أو تريد به (1) أنه لا بدَّ أن يكون له أذواق أهله من حيث الجملة (2)؟ فإن أردتَ الأوَّل لزمك أن لا تقبل (3) من أحد، إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه. وإن أردت الثاني، فمن أين لك نفيُه عن صاحب العلم؟ ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرتَ تظنّ أنّ أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف، وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف. والظنُّ يخطئ تارةً ويُصيبُ (4) واللَّه أعلم. فصل قال أبو العباس: "فعند القوم كلّ ما هو من العبد فهو علَّة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنَّما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائمًا بإقامته له، محبًّا بمحبَّته له، ناظرًا بنظره له (5)، من غير أن يبقى معه بقيَّةٌ تُناط باسم، أو تقف على رسم، أو تتعلَّق بأثر (6)، أو تُنعَت بنعت، أو تُوصف __________ (1) "به" ساقط من "ب، ك، ط". (2) "ك، ط": "يحمله"، تحريف. (3) "ك": "لا يقبل"، ولم ينقط حرف المضارع في غيرها. وزاد في "ط" بعده: "أحد". (4) صدر بيت لأبي العتاهية في ديوانه (29). وهو: الظن يخطئ تارةً ويصيبُ ... وجميعُ ما هو كائن فقريبُ وقال الطغرائي من قصيدة في ديوانه (63): غُرّتْ بترجيم الظنون فأخطأت ... والظنّ يخطئ مرَّةً ويصيبُ (5) "له" تحرفت في "ك، ط" إلى "لا". (6) "ط": "بنظر".
(2/707)
بوصف، أو تنسَب إلى وقت. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، لدينا محضَرون" (1). فيقال: هذا هو مقام الفناءِ الذي يشير إليه كثيرٌ من المتأخرين، ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات، وكلُّ ما دونه فمِرقاةٌ إليه وعَيلةٌ عليه. ولهذا كانت المحبة عندهم آخرَ منازل الطريق، وأوَّلَ أودية الفناءِ، والعقبةَ التي يُنحدَر منها على منازل المحو، وهي آخر منزل يلقَى فيه مقدّمة العامَة ساقةَ الخاصَّة، وما دونها أغراض لأعواض (2). فجعلوا المحبة منزلةً (3) من المنازل ليست غاية، وجعلوها أوَّل الأودية التي يسلك (4) فيها أصحاب الفناءِ، فهي أوَّل أوديتهم والعقبة التي ينحدرون منها إلى منازل الفناء والمحو. فليست هي الغاية عندهم، وأصحابها عندهم مقدّمة العامَّة، وساقةُ إصحاب الفناء عندهم متقدّمون (5) عليهم سابقون لهم، فإنَّهم ساقة الخاصّة، وهؤلاء مقدّمة العامّة. وهذا (6) كلّه بناءً على أنَّ الفناء هو الغاية التي لا غاية للعبد وراءَها, ولا كمال له يطلبه فوقها. وقد تبيّن ما في ذلك، وما هو الصواب، بحمد للَّه. __________ (1) محاسن المجالس (92). (2) "لأعواض" بالواو. كذا في الأصل، وفي منازل السائرين الذي أخذ منه المؤلف هذه العبارة ولم يشر محققه إلى قراءة أخرى. انظر: المنازل (71)، ومدارج السالكين (2/ 614)، وفسر المؤلف فيه معنى الأعواض هنا. وفي النسخ الأخرى وفي المجالس (95): "لأعراض" بالراء. هذا، وقد كتب في الأصل بعد هذه العبارة: "هذا كلام صاحب المنازل" ثم ضرب عليه. (3) "ط": "منزلا". (4) "ك، ط": "سلك". (5) "ب, ك، ط": "مقدّمون". (6) "ك، ط": "فهذا".
(2/708)
فقوله رحمه اللَّه: "كلّ ما هو من العبد فهو علَّة تليق بعجز العبد وفاقته". يقال (1): إذا كان إنَّما منه (2) العبودية التي يحبّها اللَّه كسبًا ومباشرةً، فهو قائم بها، شاهد لمقيمه فيها، مطالع لمنّه وفضله؛ فأيّ علَّة هنا سوى وقوفه مع شهود ما (3) منه، وغيبته عن شهود إقامة اللَّه له (4)، وتحريكه إيَّاه، وتوفيقه له؟ فالعلَّة هي هذا (5) الشهود وهذه الغيبة المنافية لكمال الافتقار والفاقة إلى اللَّه. وأمَّا شهود فقره وفاقته في مجموع (6) حالاته وحركاته وسكناته إلى وليّه وبارئه مستعينًا به أن يقيمه في عبوديته (7) خالصةً له، فلا علَّة هناك. قوله: "وإنَّما عين الحقيقة أن يكون قائمًا بإقامته له" إلى آخر كلامه. يقال: إن أردتَ أنَّه يشهد إقامة اللَّه له حتَّى قام، ومحبَّته له حتَّى أحبّه، ونظره إلى عبده حتَّى أقبل عبدُه عليه ناظرًا إليه بقلبه، فهذا حقّ. فإنَّ ما مِنَ اللَّه سبق ما من العبد، فهو الذي أحب عبدَه أوَّلًا فأحبه العبدُ، وأقام عبدَه (8) في طاعته فقام بإقامته، ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أوَّلًا فتاب إليه العبد. وإن أردتَ أنَّه لا يشهد فعلَه البتَّة، بل يفنى عنه جملةً، ويشهد أنَّ اللَّه __________ (1) زاد في (ط): "له". (2) "ط": "منته". (3) "ط": "شهودها" تحريف. (4) "له" ساقط من "ط". (5) "ك، ط": "بهذا". (6) "ك، ط": "فاقته ومجموع". (7) "ط": "عبودية". (8) "ك، ط": "العبد".
(2/709)
وحده هو الذاكر لنفسه، الموحّد لنفسه، المحبّ لنفسه؛ وأنَّ هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صِرفًا (1) في شهوده، وإن لم تفنَ وتُعدَمْ في الخارج -وهذا هو مراد القوم- فدعوى أنَّ هذا هو الكمال الذي لا كمال فوقه ولا غاية وراءَه دعوى مجرَّدةٌ لا يستدِل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد. وقد تقدَّم أنَّ هذا ليس بغاية، وإنَّما غايته أن يكون من عوارض الطريق، وأنَّ شهود الأشياءِ في مراتبها ومنازلها التي أنزلها اللَّه (2) سبحانه إياها أكمل وأتم. ويكفي في نقض (3) هذا الاحتجاجُ عليه بصفات الكفَّار، فإنَّ اللَّه تعالى ذمهم بأنَّهم صمّ بكم عمي، فهذه صفات نقص وذمّ، لا صفات كمال ومدحة. وهل الكمال إلا في حضور السمع والبصر والعقل (4)، وكمال التمييز، وتنزيل الخلق والأمر منازلهما، والتفريق بين ما فرَّق اللَّه بينه؟ فالأمر كله فرقان وتمييز وتبيين، وكلَّما (5) كان تمييز العبد وفرقانه (6) أتمّ، كان حاله أكملَ، وسيره أصحّ، وطريقه أقوم وأقرب. والحمد للَّه ربِّ العالمين. __________ (1) "صرفًا": ساقط من "ط". (2) سقط لفظ الجلالة من "ك، ط". (3) "ب, ك، ط": "بعض"، تصحيف. (4) "ف": "القول" وهو يشبه رسم الكلمة في الأصل. (5) "ك، ط": "فكلما". (6) "ف": "فرقان العبد وتمييزه"، خلاف الأصل.
(2/710)
فصل [في الشوق] قال أبو العبّاس: "وأمَّا الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السرّ إلى طلبه؛ وهو من مقامات العوامّ. فأمَّا (1) الخواصّ فهو عندهم علَّة (2) عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، والطريق عندهم أن يكون العبد غائبًا، والحقّ ظاهرًا. ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتابٌ ولا سنَّةٌ صحيحة، لأنَّ (3) الشوق مخبر عن بُعد، ومشير إلى غائب، وهو يطّلع إلى إدراك {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد/ 4]. وقيل: ولا معنى لشكوى الشوق يومًا ... إلى مَن لا يزولُ عن العيانِ" (4) اختلف النَّاس في الشوق والمحبَّة أيّهما أعلى؟ فقالت طائفة: المحبَّة أعلى من الشوق. هذا قول ابن عطاء (5) وغيره. واحتجُّوا بأنَّ __________ (1) "ك، ط": "وأما". (2) "ط": "مخلّة"، تحريف. (3) "ب، ك، ط": "إلّا أنّ". (4) محاسن المجالس (93 - 94)، وانظر: منازل السائرين (73). (5) "ط": "ابن عطاء اللَّه". وهو غلط، فإنّه أحمد بن محمد بن عبد الكريم تاج الدين الشاذلي، المعروف بابن عطاء اللَّه الإسكندري المتوفى 709 هـ صاحب الحكم العطائية. وكان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. الأعلام (1/ 221). والمذكور هنا أبو عبد اللَّه أحمد بن عطاء الرُّوذباري المتوفى في صور سنة 369 هـ. كان شيخ الشام في وقته، وهو ابن أخت أبي علي الرُّوذباري. انظر: طبقات الصوفية (497). وقوله الذي أشار إليه المؤلف هنا مذكور في الرسالة القشيرية (330).
(2/711)
الشوق غايته أن يكون أثرًا من آثار المحبة، ويتولَّد (1) عنها: فهي أصله، وهو فرعها. قالوا: والمحبة توجِب آثارًا كثيرةً، فمن آثارها الشوق. وقالت طائفة منهم سريّ السقَطي وغيره: الشوق أعلى. قال الجنيد: سمعت السريّ يقول: الشوق أجلّ مقامات العارف إذا تحقَّق فيه. وإذا تحقَّق (2) في الشوق لها عن كلِّ شيء يشغله عمَّن يشتاق إليه (3). وإنَّما يظهر سرّ المسالة بذكر فصلين: الفصل الأوَّل في حقيقة الشوق، والثاني في الفرق بينه وبين المحبة. ويتبع ذلك خمس مسائل: إحداها: هل يجوز إطلاقه على اللَّه كما يطلق عليه أنَّه يحبّ عباده أم لا؟ الثانية: هل يجوز إطلاقه على العبد، فيقال: يشتاق إلى اللَّه، كما يقال: يحبّه؟ الثالثة: أنَّه هل يقوى بالوصول والقرب، أم يضعف بهما؟ فأي الشوقين أعلى: شوق القريب الداني، أم شوق البعيد الطالب؟ الرابعة: ما الفرق بينه وبين الاشتياق، فهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ الخامسة: في بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه. __________ (1) "ب، ك، ط": "متولّدًا". (2) "فيه وإذا تحقّق" ساقط من "ب، ك، ط". (3) الرسالة القشيرية (332).
(2/712)
الفصل الأوَّل في حقيقته الشوقُ هو سفرُ القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقرّ قراره حتّى يظفر به ويحصل له (1). وقيل: هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا، سببه الفرقة. فإذا وقع اللقاءُ أطفأ ذلك اللهيب (2). وقيل: الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب عنه (3). وقال ابن خفيف: الشوق أرتياح القلوب بالوجد، ومحبَّة اللقاءِ والقرب (4). وقيل: الشوق نزوع (5) القلب نحو المحبوب من غير منازع. ويقال: الشوق انتظار اللقاءِ بعد البعاد. فهذه الحدود ونحوها مشتركة في أنَّ الشوق إنَّما يكون مع الغيبة من المحبوب، وأمَّا مع حضوره ولقائه فلا شوق. وهذه حجة من جعل __________ (1) وانظر: مدارج السالكين (3/ 15)، روضة المحبين (112). (2) القشيرية (330)، مدارج السالكين (3/ 16). (3) قد انتشر الحبر على "عنه" في الأصل، ولا يبعد أن تكون مضروبًا عليها، وقد أثبتناها تبعًا لناسخ "ف"، ولم يثبتها غيره. والقول لصاحب منازل السائرين (73)، وانظر المدارج (3/ 18). (4) "ط": "بالقرب". وانظر: القشيرية (331)، المدارج (3/ 16). وابن خفيف: أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف المتوفى سنة 371 هـ. كان مقيمًا بشيراز وكان شيخ المشايخ في وقته. طبقات الصوفية (462). (5) "ك": "نزوح". "ط": "تروح"، وكلاهما تحريف.
(2/713)
المحبة أعلى منه، فإنَّ المحبة لا تزول باللقاءِ. وبهذا يتبين الكلام في: الفصل الثاني، وهو الفرق بينه وبين المحبة والفرق (1) بينهما فرق ما بين الشيء وأثره. فإنَّ الحامل على الشوق هو المحبة، ولهذا يقال: لمحبتي له اشتقتُ إليه، وأحببتُه فاشتقتُ إلى لقائه. ولا يقال: لشوقي إليه أحببتُه، ولا: اشتقتُ إلى لقائه فأحببتُه. فالمحبَّة بَذْرٌ في القلب. والشوق بعض ثمرات ذلك البذر. وكذلك من ثمراتها: حمدُ المحبوب، والرضا عنه، وشكره، وخوفه، ورجاؤه، والتنعّم بذكره، والسكون إليه، والأنس به، والوحشة بغيره. وكلّ هذه من أحكام المحبة، وثمراتها، وموجباتها (2). فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاء والكراهة. فإنَّ القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جدّ في الهرب منه، وإذا أحبّه جدّ في الهرب إليه وطلبه؛ فهو حركة القلب في الظفر بمحبوبه. ولشدَّة ارتباط الشوق بالمحبّة يقع كلُّ واحد منهما موقعَ صاحبه، ويُفهَم منه، ويُعبَّر به عنه. فصل وأمَّا المسائل فإحداها: هل يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى؟ فهذا ممَّا لم يرد به القرآن ولا السنَّة بصريح لفظه. قال صاحب "منازل السائرين" وغيره: وسبب ذلك أنَّ الشوق إنَّما يكون لغائب. __________ (1) حذف الواو في "ط"، وزاد بين حاصرتين: "الفصل الثاني". (2) "ط": "وهو حياتها"، تحريف طريف!
(2/714)
ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجئ في حقِّ اللَّه ولا في حقِّ العبد (1). وجوّزت طائفةٌ إطلاقَه كما يطلَق عليه سبحانه المحبَّة (2)، ورووا في أثر أنَّه تعالى يقول: "طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشوَق" (3). وفي أثر آخر (4): أنَّ اللَّه تعالى أوحى إلى داود: قل لشبّان بني إسرائيل: لِمَ تشغلوا (5) أنفسكم بغيري، وأنا مشتاق إليكم؟ ما هذا الجفاء؟ (6). وفي أثر آخر: أوحى اللَّه إلى داود: لو يعلم المدبرون عنِّي كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقًا __________ (1) انظر: منازل السائرين (73). (2) "المحبة" ساقط من "ب، ك، ط". (3) ذكره المؤلف في روضة المحبين (113). وقال: "جاء في أثر إسرائيليّ". وفي إحياء العلوم (4/ 324) "قال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية -يعني في التوراة- فقال: يقول اللَّه تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإنّي إلى لقائهم لأشدّ شوقًا. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد أنِّي لسمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا. وأخرجه صاحب الفردوس (5/ 240) (8067) عن أبي الدرداء. (4) أضيف هذا الأثر وكذلك الأثر التالي في حاشية الأصل، ولم أجد علامة اللحق. وقد أثبتهما ناسخ "ف" بعد قول المؤلف فيما يأتي "لا يغيب العبد عنه"، والظاهر أن مكانهما هنا. وكلاهما ساقط من "ب، ك، ط". (5) كذا في الأصل و"ف" بحذف نون الرفع. (6) الرسالة القشيرية (332).
(2/715)
إليَّ، وانقطعت أوصالهم من محبَّتي. يا داود، هذه إرادتي في المدبرين عنِّي، فكيف إرادتي في المقبلين عليّ؟ (1) قالوا: وهذا الذي تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حقّ (2)، فإنَّ كلَّ محبّ فهو مشتاق إلى لقاءِ محبوبه. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، وهو سبحانه لا يغيب عن عبده، ولا يغيب العبد عنه؛ فهذا حضور العلم. وأمَّا اللقاء والقرب فأمرٌ آخر. فالشوق يقع بالاعتبار الثاني، وهو قرب الحبيب ولقاؤه، والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت/ 5]. قال أبو عثمان الحيري (3): هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنِّي أعلم أن اشتياقكم إليَّ غالب، وأنا أجّلتُ للقائكم أجلًا، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه (4). والصواب أن يقال: إطلاق اللفظ (5) متوقّف على السمع، ولم يَرِدْ به، فلا ينبغي إطلاقه. وهذا كلفظ "العشق" أيضًا، فإنَّه لمَّا لم يرِدْ به سمعٌ فإنَّه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه. واللفظ الذي أطلقه سبحانه على __________ (1) القشيرية (332)، إحياء علوم الدين (4/ 326). (2) "ب": "ظاهر". (3) أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري -نسبة إلى الحيرة، قرية من قرى نيسابور- وأصله من الري. صحب أبا حفص النيسابوري وأخذ عنه طريقته. ومنه انتشرت طريقة التصوف في نيسابور. مات سنة 298 هـ. طبقات الصوفية (170). (4) القشيرية (332). (5) "ك، ط": "إطلاقه".
(2/716)
نفسه وأخبر به عنها أتمُّ من هذا وأجلُّ شأنًا، وهو لفظ "المحبة". فإنَّه سبحانه يوصف من كلِّ صفةِ كمالٍ بأكملها وأجلّها وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كلّ ما يريد بإرادته كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16] وبإرادة اليسر لا العسر، كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185]، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده، كقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء/ 27]. فإرادة التوبة له (1)، وإرادة الميل لمتَّبعي (2) الشهوات. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6]. وكذلك الكلام، يصف نفسه منه بأعلى أنواعه، كالصدق والعدل والحقّ. وكذلك الفعل، يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة. وهكذا المحبة، وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها، فقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/ 54]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة/ 222] و {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة/ 195] و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (3) [آل عمران/ 146]. ولم يصِفْ نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإنَّ مسمَّى المحبَّة أشرف وأكمل من هذه المسمّيات، فجاءَ في حقّه إطلاقُه دونها، وهذه المسمّيات لا تنفكّ عن __________ (1) "ط": "اللَّه". (2) "ب، ك، ط": "لمبتغي"، تصحيف. (3) في "ف" تقدّمت هذه الآية على الآية السابقة.
(2/717)
لوازم ومعانٍ تنزّه تعالى عن الاتّصاف بها. وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنًى ولفظًا ممَّا لم يطلقه. فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخيّ. والخالق البارئ المصوّر أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى. والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق والمشفق (1). فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته؛ وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها (2) دون اللفظ، ولا سيَّما إذا كان مجملًا أو منقسمًا إلى ما يمدح به وغيره، فإنَّه لا يجوز إطلاقه إلا مقيّدًا. وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنَّه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيّدًا، كما (3) أطلقه على نفسه، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16]، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم/ 27]، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، فإنَّ اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذَمّ (4). ولهذا المعنى -واللَّه أعلم- لم يجئ في الأسماء الحسنى "المريد"، كما جاء فيها "السميع البصير"، ولا "المتكلم"، ولا "الآمر الناهي"، لانقسام مسمَّى هذه الأسماء؛ بل وصَفَ نفسَه بكمالاتها وأشرف __________ (1) "والمشفق" ساقط من "ك، ط". (2) "ك، ط": "له". (3) "كما" ساقط من "ط". (4) وانظر: شفاء العليل (218).
(2/718)
أنواعها. ومن هنا يُعلَم غلطُ بعض المتأخرين وزلَقُه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله (1) في أسمائه الحسنى! فاشتقَّ له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضلّ، والكاتب، ونحوها من قوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال/ 30]، ومن قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء/ 142] ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه/ 131] ومن قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد/ 27]، وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة/ 21]. وهذا خطأ من وجوه: أحدها: أنَّه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء، فإطلاقها عليه لا يجوز. الثاني: أنَّه سبحانه إنَّما (2) أخبر عن نفسه بأفعال مختصَّة مقيَّدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمَّى الاسم عند الإطلاق. الثالث: أنَّ مسمَّى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدَح عليه المسمَّى به، وإلى ما يذَمّ. فيحسن في موضع، ويقبح في موضع. فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل. الرَّابع: أنَّ هذه ليست من الأسماء الحسنى التي تَسمّى (3) بها سبحانه، فلا يجوز أن يسمَّى بها، فإنَّ أسماء الربّ تعالى كلَّها حسنى. كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 180]. وهي التي يُحَبُّ __________ (1) "ط": "فأدخله". (2) "إنما" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "يسمى"، تصحيف.
(2/719)
سبحانه ويُثنى (1) عليه ويحمَد (2) ويمجَّد بها دون غيرها. الخامس: أنَّ هذا القائل لو سُفي بهذه الأسماء، وقيل له: هذه مدحتك وثناءٌ عليك، فأنتَ الماكر الفاتن المخادع المضلّ اللاعن (3) الفاعل الصانع ونحوها، أكان (4) يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدّها مدحة؟ وللَّه المثل الأعلى سبحانه وتعالى عمَّا يقول الجاهلون (5) به علوًّا كبيرًا. السادس: أنَّ هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه: اللاعن، والجائي، والآتي، والذاهب، والتارك، والمقاتل، والصارف (6)، والمنزل، والنازل، والمدمدم، والمدمِّر، وأضعاف أضعاف ذلك؛ فيشتقّ له اسمًا من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضًا بيِّنًا، ولا يمكنه ولا أحدًا من العقلاء (7) طردُ ذلك. فعُلِمَ بطلان قوله، والحمد للَّه ربِّ العالمين. فصل وأمَّا المسألة الثانية وهي: هل يطلق على العبد أنَّه يشتاق إلى اللَّه __________ (1) كذا في الأصلِ وغيره وضبط في "ف" بفتح الحاء. وفي "ط": ". . سبحانه أن يُثنَى". (2) "ب": "يحمد بها". (3) تحرفت "اللاعن" في "ف" هنا وفيما بعد إلى "الاعز". (4) "ك، ط": "لما كان". (5) "ب": "الجاحدون". (6) "ب، ط": "الصادق". (7) "ك، ط": "بينًا ولا أحد من العقلاء".
(2/720)
وإلى لقائه؟ فهذا غير ممتنع، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه قال: صلَّى بنا عمَّار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقلتُ: خفَّفتَ يا أبا اليقظان، فقال: وما عليَّ من ذلك، ولقد دعوتُ اللَّه بدعواتٍ سمعتُها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فلمَّا قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: "اللّهم بعلمك الغيبَ وقدرتِك على الخلق أحْيِني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي. اللّهم إنِّي أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرضا، وأسألك القصدَ في الغنى والفقر (1)، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وقرَّة عين لا تنقطع. وأسألك الرضا. بعد القضاءِ، وبردَ العيشِ بعد الموت. وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فتنة مضلَّة. اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين" (2). فهذا فيه إثباتُ لذَّة النظر إلى وجهه الكريم، وشوق أحبابه إليه وإلى لقائه (3). فإنَّ حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه. قال أبو القاسم القشيري: سمعتُ الأستاذ أبا علي (4) يقول في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أسألك الشوق إلى لقائك" قال: كان الشوق مائة جزءٍ، فتسعة (5) __________ (1) "ب، ك، ط": "الفقر والغنى". (2) تقدّم تخريجه في ص (124). (3) "ب، ك، ط": "أحبابه إلى لقائه". (4) يعني الدقّاق شيخه. (5) "ف": "وتسعة"، خلاف الأصل.
(2/721)
وتسعون له، وجزءٌ متفرِّقٌ في الناس. فأراد أن يكون ذلك الجزءُ أيضًا له (1)، فغار أن تكون شظيّة من الشوق لغيره (2). قال: وسمعته يقول في قول موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه/ 84] قال: معناه شوقًا إليك، فستَره بلفظ الرضا (3). وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه. وقيل: إنَّ شعيبًا بكى حتّى عمي بصره، فأوحى اللَّه إليه: إن كان هذا لأجل الجنَّة فقد أبَحْتُها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتُك منها. فقال: لا بل شوقًا إليك (4). وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى اللَّه اشتاق إليه كلُّ شيء (5). وقال بعضهم: قلوب المشتاقين (6) منوَّرة بنور اللَّه عزَّ وجلَّ، فإذا تحرَّك اشتياقهم أضاءَ النورُ ما بين السماء والأرض، فيعرضهم اللَّه على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إليَّ (7)، أُشهِدكم أنِّي إليهم أشوَق (8). __________ (1) "ك، ط": "له أيضًا". (2) "ط": "في غيره". وانظر: القشيرية (332). (3) ردّ عليه المصنّف في مدارج السالكين (3/ 24) بقوله: "وظاهر الآية أنّ الحامل لموسى على العجلة طلبُ رضى ربّه، وأنّ رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها. . . ". (4) هذه الحكاية أيضًا مما نقله القشيري عن أبي علي. انظر: القشيرية (333). (5) القشيرية (333). (6) "ك، ط": "العاشقين". (7) "ب": "إليّ، إني" وإحدى الكلمتين مضروب عليها في الأصل. (8) القشيرية: (331)، ونقله عن فارس. ولعله فارس بن عيسى -وقيل: ابن =
(2/722)
وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه، فهو من أشرف مقامات العبد (1) وأجلّها وأعلاها. ومن أنكر شوقَ العبد إلى ربِّه فقد أنكر محبته له؛ لأنَّ المحبَّة تستلزم (2) الشوق. فالمحبّ دائمًا مشتاق إلى لقاء حبيبه (3)، لا يهدأ قلبه، ولا يقرّ قراره إلا بالوصول إليه. وأمَّا (4) قوله: "إنَّ الشوق عند الخواصّ علَّة عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة". فيقال: المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان، ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان. ولا ريب أنَّ مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس في المعرفة (5)، ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلَّما وصل منها إلى معلَم ومنزلة اشتدَّ شوقه إلى ما وراءه. فكلَّما (6) ازداد معرفةً ازداد شوقًا. فشوق العارف أعظم الشوق، فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علَّةً عظيمةً؟ هذا من المحال البيِّن. بل من عرف اللَّه اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها، فشوق العارف لا نهاية له. __________ = محمد- أبو الطيب الصوفي، جالس الجنيد وأقرانه. وروى عنه الحاكم وغيره. تاريخ بغداد (12/ 390). (1) "ط": "العبيد". (2) "ط": "تستلذ"، تحريف. (3) "ط": "محبوبه". (4) "ك، ط": "فأما". (5) "ط": "بالمعرفة". (6) "ط": "وكلما".
(2/723)
هذا مع الشوق الناشئ عن طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية، فإذا كان القلبُ (1) حاضرًا عند ربِّه، وهو غير غائب عنه، لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقًا إلى لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أتمّ لشوقه وأعظم. فظهر أنَّ قوله "إنَّ الشوق علَّة عظيمة في طريق الخواصّ" كلام باطل على كلِّ تقدير، وأنَّ الشوق بالحقيقة إنَّما هو شوق الخواصّ العارفين باللَّه. والعبد إذا كان له مع اللَّه حال أو مقام، وكُشِفَ له عمَّا هو أفضل منه وأجلّ؛ اشتاق إليه بالضرورة، ولم يكن شوقه علَّةً له ونقصًا في حاله، بل زيادةً وكمالًا؛ ويكون ترك الشوق هو العلَّة. وقد تقدَّم أنه (2) لا غاية للمعرفة تنتهي إليها، فيبطلَ الشوق بنهايتها؛ بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه. واللَّه المستعان. فصل وأمَّا المسألة الثالثة وهي: هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟ (3) فقالت طائفة: الشوق يزول باللقاء، لأنَّه طلب، فإذا حصل المطلوب زال الطلب؛ لأنَّ تحصيل الحاصل محال، ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل، وإنَّما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك. __________ (1) "ب": "العبد". (2) "ك، ط": "أن". (3) ذكر المؤلف في مدارج السالكين (2/ 74) أنه استوعب الكلام على هذه المسألة في كتابه الكبير في المحبة، وفي "سفر الهجرتين". يعني هذا الكتاب. وانظر: المدارج أيضًا (3/ 16).
(2/724)
وقالت طائفة أخرى: ليس كذلك، بل الشوق يزيد بالوصل واللقاء، ويتضاعف بالدنوّ. ولهذا قال القائل: وأعظمُ ما يكون الشوقُ يومًا ... إذا دنت الدِّيارُ من الدِّيارِ (1) ولهذا قال بعضهم: شوق أهل القرب أتمّ من شوق المحجوبين (2). واحتجَّت هذه الطائفة بأنَّ الشوق من آثار الحبّ ولوازمه، وكما (3) أنَّ الحبَّ لا يزول باللقاءِ، فهكذا الشوق الذي لا يفارقه. قالوا: ولهذا لا يزول الرضا والحمد والإجلال والمهابة التي هي من آثار المحبَّة باللقاء، فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزول. والقولان حق. وفصل الخطاب في المسألة أنَّ المحبَّ إذا اشتاق إلى لقاء محبوبه، فإذا حصل له اللقاءُ زال ذلك الشوق الذي كان متعلِّقًا بلقائه، وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إلى ما يزيد قربَه والحظوةَ عنده. وأمَّا إذا قدر أنه لقيه ثمَّ احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاءٍ آخر، ولا يزال يحصل له الشوق كلَّما حُجب (4) عنه، فهذا لا ينقطع شوقه أبدًا، فهو إذا رآه بلّ شوقَه برؤيته، وإذا زال عنه الطرفُ عاوده الشوق، كما قيل: __________ (1) من بيتين أنشدهما إسحاق الموصلي (235 هـ)، والرواية: "أبرح ما يكون". الأغاني (2/ 605). وقد ذكره المؤلف في روضة المحبين (234). وذكره أيضًا فيه وفي مدارج السالكين (2/ 74) و (3/ 16) باختلاف الشطر الثاني، وهو: "إذا دنت الخيام من الخيام". وكذا في القشيرية (332). (2) "ط": "المحبوبين"، تحريف. (3) "ك، ط": "فكما". (4) "ك، ط": "احتجب".
(2/725)
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتَّى يعود إليه الطرفُ مشتاقا (1) وإنَّما الشأن في دوام الشوق حال الوصول واللقاء. فاعلم أنَّ الشوق نوعان: شوق إلى اللقاء، فهذا يزول باللقاء. وشوق في حال اللقاء، وهو تعلّق الروح بالفحبوب تعلُّقًا لا ينقطع أبدًا، فلا تزال الروح مشتاقةً إلى مزيد هذا التعلّق وقوَّتة اشتياقًا لا يهدأ. وقد أفصح بعض المحبِّين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله: أعانقُها والنفسُ بعدُ مَشوقةٌ ... إليها وهل بعد العناق تداني وألثمُ فاها كي تزول صَبابتي ... فيشتدُّ ما ألقَى من الهيَمانِ (2) فالشوق في حال الوصل والقرب إلى مزيد النعيم واللذة لا ينقطع، والشوق في حال السير إلى اللقاءِ ينقطع. ونستغفر اللَّه من الكلام فيما لسنا بأهل [له] (3). فالخوف أولى بالمسيءِ ... إذا تألَّهَ والحزَنْ والحبُّ يجمُل بالتقيّ ... وبالنقيّ من الدَّرَنْ لكن إذا ما لم يُحِبّـ ... ـــكم المسيء إذن فَمَنْ __________ (1) كذا ورد البيت في القشيرية (329)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (3/ 17)، وروضة المحبين (582)، وهو لإبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه (147). والرواية: "عنها حين يبصرها. . . إليها". ونسبه في ديوان المعاني (449) إلى أبي نواس. وانظر: ديوانه (257). (2) لابن الرومي فى ديوانه (2475)، وانظر: روضة المحبين (115، 178). (3) "له" لم يرد في الأصل و"ف". وهي زيادة عما عداهما.
(2/726)
وإذا تخوَّن فعلُنا ... فعلى المحبّة مؤتمَنْ (1) أيحبُّ شيئًا غيرَكم ... وحياتِكم كلّا ولَنْ أيحِبُّ من تأتي محبَّـ ... ــــتُه بأنواع المحَنْ والسعدُ فيها ذابحٌ ... والقلبُ فيها ممتحَنْ دونَ الذي في حبّه ... نيلُ السعادة والمِنَنْ ومحلُّ بدرِ كمالِها ... سعدُ السعود هو الوطنْ والقلبُ حين يحُلُّ في ... تلك المنازل والدِّمَنْ يمسي ويصبح من رضا ... ه ومن مُناه في وطَنْ أيحبّهم قلبٌ ويخـ ... ـــشى أن يُضامَ؟ فلا إذَنْ (2) فصل وأمّا المسألة الرابعة وهي: الفرق بين الشوق والاشتياق. فقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعتُ النصراباذيّ يقول: للخلق كلّهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار (3). وهدا يدلّ على أن الاشتياق عنده غير الشوق. __________ (1) "ب": "لعلمنا". (2) ورد البيتان الأول والثاني في القشيرية (327) لذي النون. وكذا في روضة المحبين (553)، ولم أجد سائرها. (3) القشيرية (329)، مدارج السالكين (3/ 17).
(2/727)
ولا ريب أنّ "الاشتياق" مصدر اشتاق يشتاق اشتياقًا، كما أنّ "التشوّق" مصدر تشوَّقَ تشوُّقًا. و"الشوق" في الأصل مصدر (1) شاقه يشوقه شَوقًا -مثل ساقه سوقًا- إذا دعاه إلى الاشتياق. فالاشتياق (2) مطاوع شاقه، يقال: شاقني فاشتقتُ إليه. ثمّ صار الشوق اسمَ مصدر الاشتياق، وغلب عليه، حتّى لا يفهم منه (3) عند الإطلاق إلّا الاشتياق القائم بالمشوق. والمشوق هو الصبّ المشتاق، والشائق هو الذي قام به داعي (4) الشوق. فههنا ألفاظ: الشوق، والاشتياق، والتشوّق، والشائق، والمشوق، والشيّق. فهذه ستة ألفاظ: أحدها: "الشوق"، وهو في الأصل مصدر الفعل المتعدّي شاقه يشوقه، ثمّ صار اسم مصدر الاشتياق. اللفظ الثاني: "الاشتياق"، وهو مصدر اشتاق اشتياقًا. والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدر. اللفظ الثالث: "التشوّق"، وهو مصدر تشوّقَ، إذا اشتاق مرّةً بعد مرّةٍ، كما يقال: تجرعّ، وتعلّم، وتفهّم. وهذا البناءُ يُشعِر (5) بالتكلّف وتناول الشيء على مهلة. __________ (1) "ك، ط": "اسم مصدر"، خطأ. (2) قراءة "ف": "والاشتياق". (3) "منه" ساقط من "ب، ك، ط". (4) "ك، ط": "وادعى" تحريف. وفي "ب": "من قام به. . . ". (5) "ط": "مشعر".
(2/728)
اللفظ الرابع: "الشائق"، وهو الداعي للمشوق إلى الاشتياق. اللفظ الخامس: "المشُوق"، وهو المشتاق الذي قد حصل له الشوق. اللفظ السادس: "الشيِّق"، وهو فيعل بمنزلة هيّن وليّن، وهو المشتاق. فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ. وأمّا كون الاشتياق أبلغ من الشوق، فهذا قد يقال فيه إنّه الأصل، وهو أكثر حروفًا من الشوق، وهو يدل على المصدر والفاعل. وأمّا "الشوق" (1) ففرع عليه، لأنه اسم مصدر، وأقلّ حروفًا، وهو إنّما يدلّ على المصدر المجرّد. فهذه ثلاثة (2) فروق بينهما. واللَّه أعلم. فصل وأما المسألة الخامسة وهي: في مراتب الشوق ومنازله فقال صاحب منازل السائرين: "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل. والدرجة الثانية: شوق إلى اللَّه عزّ وجلّ، زرعه الحبّ الذي نبَتَ (3) __________ (1) "ك، ط": "المشوق"، تحريف. (2) رسم الأصل يحتمل ما أثبتنا، وفي غيره: "ثلاث". (3) "ك، ط": "ينبت".
(2/729)
على حافات المنَن، فعلِقَ (1) قلبُه بصفاته المقدّسة، واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة (2) فضله. وهذا شوق تغشاه (3) المبارّ، وتخالجه المسارّ، ويقارنه (4) الاصطبار. والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفوُ المحبّة، فنغّصت العيشَ، وسلبت السلوةَ (5)، ولم يُنَهنهها مغزًى (6) دون اللقاءِ" (7). قلت: الدرجة الأولى هي شوق إلى فضل اللَّه وثوابه. والثانية شوق إلى لقائه ورؤيته. والثالثة شوق إليه لا لعلّة ولا لسبب، لا يلاحِظُ (8) فيه غيرَ ذاته. فالأول حظّ المشتاق من إفضاله وإنعامه، والثاني حظّه من لقائه ورؤيته، والثالث قد فنيت فيه الحظوظ، واضمخلّت فيه الأقسام. وقوله في الدرجة الأولى: "ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل". هذه ثلاث فوائد ذكرها في هذا الشوق: أمن الخائف، وفرح الحزين، والظفر بالأمل. فهذه المقاصد لمّا كانت حاصلة بدخول الجنة وكانت متصوّرة للنفس اشتد الشوقُ إليها لحصول هذه المطالب وهي __________ (1) "ط": "تعلّق". (2) في المنازل والمدارج: "أعلام"، وهو أولى. (3) في المنازل: "تفثَؤُه". (4) في المنازل: "يقاويه". وفي المدارج: "يقاومه". (5) "ط": "السلو". (6) أي: مطلب، كما فسّرها المؤلف فيما بعد. وفي المنازل "معزٍّ"، وفي المدارج "مَقرّ"، وعليه فسّره المؤلف هناك. وكذا في "ط"، وظنَّ النَّاشر ما هنا خطأ فغيّر. (7) منازل السائرين (73 - 74). وانظر: المدارج (3/ 21). (8) "ك، ط": "ولا ملاحظ".
(2/730)
معنى الفوز والفلاح (1). وجماع ذلك أمران: أحدهما: النجاة من كلّ مكروه، والثاني: الظفر بكلّ محبوب. فهذان هما المشوّقان إلى الجنّة. وقوله في الثانية: "شوق إلى اللَّه زرعه الحبّ". قد تقدّم أنّ الشوق ثمرة الحبّ. وقوله: "الذي نبت (2) على حافات المنن". أي: أنشأه الفكرُ في منن اللَّه تعالى وأياديه وأنعامه المتواترة. وفيه إشارة إلى أنّ هذا الحبّ الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعدَه حُبٌّ أكملُ منه، وهو الحبّ الناشئ من شهود كمال الأسماءِ والصفات. وذلك ليس من نبات الحافات، ولكن من الحبّ الأول يُدخَل إلى هذا (3)، كما تقدّم، ولهذا قال: "فعلِق (4) قلبُه بصفاته المقدّسة". وقوله: "واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة فضله". يشير به إلى ما يكرم اللَّه به عبدَه من أنواع كراماته التي يستدلّ بها على أنّه مقبول عند ربّه مُلاحَظٌ بعنايته، وأنّه قد استخدمه وكتَبه في ديوان أوليائه وخواصّه. ولا ريب أنّ العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات (5) قوي قلبُه وفرح بفضل ربّه، وعلم أنه قد أُهِّل، فطاب له السير، ودام اشتياقه، وزاحت (6) عنه العلل. وما لم يُنعَم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبًا حزينًا خائفًا أن يكون ممّن لا يصلح لذلك الجناب، ولم يؤهَّل (7) لتلك المنزلة. __________ (1) وقعت عدة تحريفات وسقط في هذه الجملة في "ك، ط". (2) "ط": "ينبت". (3) "ك، ط": "في هذا". (4) "ط": "تعلق". (5) "ب": "الآيات والعلامات". (6) "ك، ط": "زالت". (7) "ط": "ولم يصل"، وكذا كان في "ك" ثم غُيّر.
(2/731)
وقوله: "وهذا شوق تغشاه المبار". هي جمع مبرَّة، وهي البِرّ، أي: أنَّ هذ الشوق مشحونٌ بالبِرّ مغشيٌّ به. وهو إمَّا بِرّ القلب وهو كثرة خيره؛ فهذا القلب أكثر القلوب خيرًا، يغلي (1) بالبرّ تقرّبًا إلى من هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأنواع البرّ. وهذه من فوائد المحبة أنَّ قلب صاحبها تنبع (2) منه عيونُ الخير، وتتفجَّر منه ينابيع البِرّ. أو (3) يريد به أنَّ مبارّ اللَّه ونعَمه تغشاه على الدوام. وقوله: "وتخالجه المسارّ". أي: يخالطه السرور في غضون أشواقه، فإنَّها أشواق لا وحشة معها ولا ألم، بل هي محشوّة بالمسرَّات. وقوله: "ويقارنه الاصطبار". أي: صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشدَّة شوقه (4) إليه، وإنَّما يضعف الصبر لضعف المحبة. والمحبّ من أصبَر الخلق كما قيل: نفسُ المحبِّ على الآلام صابرةٌ ... لعلَّ مُسْقِمَها يومًا يُداويها (5) __________ (1) رسم الكلمة في الأصل يشبه: "يغل"، وأثبت ناسخ "ف": "يعل" وكتب في الحاشية: "كذا". وفي "ب، ك": "فعل". وفي "ط": "فيفعل البرّ". وهذا تغيير في النصّ فإنّ في النسخ كلها: "بالبرّ". والصواب -إن شاء اللَّه- ما أثبتّ. والتعبير مأخوذ من قول بعض السلف: "قلوب الأبرار تغلي بالبرّ، وقلوب الفجَّار تغلي بالفجور"، نقله المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 407). (2) "ك، ط": "ينبع"، والمثبت من "ب". (3) "أو" ساقطة من "ك، ط". (4) "ب، ك، ط": "لشوقه". (5) أنشده يحيى بن معاذ الرازي (258 هـ). انظر: طبقات الأولياء: (240) وهو من قصيدة في ديوان الحلّاج (309 هـ): (104)، وليست له.
(2/732)
وقوله في الدرجة الثالثة إنَّها "نار (1) أضرمها صفوُ المحبة". يعني أنَّ هذا الشوق يتوقَّد من خالص المحبة التي لا تشوبها علَّة، فهو أشدّ أنواع الشوق. ولهذا "نغَّصت العيش" أي: كدَّرته ونغَّصت المشتاق فيه لأنَّه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه، فهو يترقَّب (2) مفارقته. وقوله: "وسلبت السلوة (3) " يعني أنَّ صاحبه لم يبق له مطمع في سلوّه (4) أبدًا. وهذا أعظم ما يكون من الحبّ والشوق: أنَّ المحبّ ييأس من السلوّ، وينقطع طمعه منه، كما ييأس (5) من الأمور الممتنعة، كرجوع أيَّام الشباب عليه، وعَوده طفلًا، ونحو ذلك. وقوله: "ولم ينهنهها مغزًى (6) دون اللقاء". أي: أنَّ هذه النار لا يبرِّدها ولا يفتّر حرَّها مقصودٌ ولا مطلبٌ ولا مرادٌ دون لقاء محبوبه، فليس له سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاءِ محبوبه. __________ (1) في الأصل: "الثالثة انهار"، سبق قلم. (2) "ف": "يرقب". (3) "ط": "السلو". (4) "ب": "سلوة". (5) "ط": " أيس. . انقطع. . أيس". (6) "ط": "مقرّ"، ويخالفه تفسير المؤلف.
(2/733)
فصل [في نقد كلام أبي العبّاس في منازل الخواصّ] قال أبو العباس: "فهذه كلّها عِلَلٌ أنِفَ الخواصّ منها، وأسباب انفطموا عنها. فلم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، ولا في عطائه تشوُّف (1) إلى استزادة. فهو منتهى زادهم (2) وغايةُ رغبتهم، فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} (3) [الأنعام/ 19]. وإنَّما زهدُهم جمعُ الهمة عن تفريقات (4) الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال. {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص/ 46 - 47] " (5). قلت: يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناء الذي هو غاية الغايات عنده، وقد تقدّم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاء أفضل منه وأتمّ عبودية. وينبغي أنَّ يعرف أنَّ مراعاة مقام الفناء الذي جعلوه غايةً آل بكثير من __________ (1) "ك، ط": "تشوّق". وفي المجالس: "شوق". (2) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: "مرادهم"، وهو أصحّ. (3) كذا وردت الآية في الأصل و"ف، ب"، وفي "ك، ط" مع تكملة "شهيد". ثم لم ترد في مطبوعة المجالس هذه الآية. وسيأتي في شرح المصنف أن معناها أجنبي عن موضع الاستدلال. وذكر أن نظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91]. وهذه الآية هي التي وردت هنا في مطبوعة المجالس! (4) "ك": "تعريفات". "ط": "تعرفات"، تحريف. وفي المجالس: "تفرّقات". (5) محاسن المجالس (95).
(2/734)
طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملةً، ورأوا أنَّها علل قاطعة عنه! واشتدَّ نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتَّى قال شيخ الطائفة الجنيد (1) رحمه اللَّه: إنَّ الذي يزني ويسرق خيرٌ من هؤلاء (2). وهم نوعان: نوعٌ جرَّدوا (3) الفناء في شهود الحكم وهو الحكم القدري، ورأوا أنَّه نهاية التوحيد، فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطّراح الأسباب، حتى قال قائلهم: العارف لا يعرف معروفًا ولا ينكِر منكرًا لا ستبصاره بسرّ اللَّه في القدر (4). والنوع الثاني أصحاب تجريد الفناء في الإرادة (5). فجرَّدوا الفناءَ في الإرادة تجريدًا آل بهم إلى ترك الأسباب جملةً. والطائفتان منحرفتان ضالَّتان خارجتان عن العلم والدين. ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد: "عليكم بالفرق الثاني". (6) يعني أنَّ الفرق فرقان: فوق بالطبع والهوى، وهو الفرق الذي شهدوه وفرُّوا منه إلى معنى الجمع. ولكن بعد الجمع فرق ثانٍ، وهو الفرق بالأمر والمحبة، لا بالشهوة والطبع. وهو دين الرسل صلوات اللَّه عليهم وسلامه، فإنَّ __________ (1) "ب": "الجنيد شيخ الطائفة". (2) ذكره السلمي في طبقات الصوفية (159) وعنه أبو نعيم في الحلية (10/ 296). وانظر: مدارج السالكين (2/ 125). (3) "ف": "شهود الفناء". والظاهر أنّ كلمة "شهود" في الأصل مضروب عليها. (4) سبق في ص (184). (5) "ط": "والإرادة"، وكذا فيما بعد. وهو خطأ. (6) وانظر: مدارج السالكين (1/ 323) و (2/ 136)، وقد تكلَّم شيخ الإسلام على هذا الفرق في عدة مواضع من كتبه. انظر مثلًا: الرد على البكري (2/ 746، 754)، منهاج السنة (5/ 369)، الرد على المنطقيين (519).
(2/735)
دينهم مبناه على الفرق الأمري الشرعي (1) بين محبوب الربّ ومأموره وبين مسخوطه ومنهيّه، فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من أتباع الرسل. والكمال (2) شهود الجمع في هذا الفرق، فيشهد انفراد اللَّه وحده بالخلق والأمر، ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدّمه، وبين ما يبغضه فيتركه ويتجنّبه؛ فيصير له هذا الفرق في محل فرقه الطبعي الحسّي بين ما يلائمه وينافره. ومن المعلوم أنَّ صاحب الجمع لا بدّ أن يفرّق بطبعه وحسّه، وإن ادَّعى عدمَ التفريق طبعًا فإنَّه كاذب مفتَرٍ. وإذا كان لا بدَّ من الفرق فالفرق الشرعي الإيماني الذي بعث اللَّه به رسله أولى به من الفرق الطبعي الحيواني الذي يشاركه (3) فيه سائر البهائم. وأبطَلُ من هذا الجمعِ الجمعُ في الوجود. وهو أن يرى الوجود كلَّه واحدًا لا فرق فيه أصلًا, وإنَّما التفريق بالعادة والوهم فقط، كما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرّقون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر، بل ليس عندهم أحدهما والآخر (4)، إذ ما ثَمَّ غيرٌ. فهذا جمع في الوجود، وجمع أولئك جمع في الشهود. وهدى (5) اللَّه الذين آمنوا لِمَا اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فكانوا أصحاب الجمع في الفرق، ففرَّقوا بين ما فرَّق اللَّه بينه بإذنه، __________ (1) "ب": "الشرعي الأمري". (2) "ك، ط": "فإن الكمال". (3) "ك، ط": "شاركه". (4) "ب، ك": "فرق بين أحدهما والآخر"، وكذا في "ط". (5) كذا في الأصل وغيره. وأراد المصنّف الاقتباس من الآية. وغيّره الناشر في "ط": "فهدى"، وأثبت الآية هنا وفيما بعد.
(2/736)
وجمعوا الأشياءَ كلَّها في خلقه وأمره، وجمعوا إرادتهم (1) ومحبَّتهم وشهودهم فيه، فكانوا أصحاب جمعٍ في فرق، وفرقٍ في جمع. فهؤلاء خواصّ الخلق، فنسأل اللَّه العظيم من فضله وكرمه (2). فهؤلاء هم الذين لم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، بل صارت إراداتهم (3) تابعةً لإرادته، فحصل الاتحاد في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد. فأصحاب الوحدة ظنّوا الاتحاد في المريد، وأصحاب الحلول توهّموا الاتحاد في الإرادة. وهدى اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فعلموا أنَّ المراد واحد. فالاتّحاد وقع في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد. وقوله: "فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه". إنَّما يكون ما دونه قاطعًا عنه إذا وقف العبدُ معه، وتعلَّقت إرادتُه به، وانصرف طلبه إليه. وأمَّا إذا جعله وسيلةً إلى اللَّه وطريقًا يصل بها إليه لم يكن قاطعًا ولا حجابًا، بل يكون حاجبًا موصلًا إليه! وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19] المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإنَّ المشركين قالوا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل اللَّه تعالى آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب له (4)، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ __________ (1) "ك، ط": "إرادتهم". (2) زاد في "ط": "أن يجعلنا منهم". (3) "ك، ط": "إرادتهم". (4) "ط": "به".
(2/737)
الْكِتَابِ} [الرعد/ 43]. أي: ومن عنده علمُ الكتاب يشهد لي، وشهادته (1) مقبولة لأنَّها شهادة بعلم. وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء/ 166]. وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19]. فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله، وكفى بشهادته إثباتًا لصدقه وكفى به شهيدًا. فإن قيل: وما شهادته سبحانه لرسوله؟ قيل: هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظمُ من دلالة كلّ بينة وشاهد على حقّ. فشهادته سبحانه لرسوله أصدَقُ شهادة وأعظمُها (2) وأدَلُّها على ثبوت المشهود به. فهذا وجه. ووجه آخر أنَّه صدَّقه بقوله وأقام الأدلّة القاطعة على صدقه فيما يُخبِر به عنه. فإذا أخبر عنه أنَّه شهد له قولًا لزم ضرورةُ صدقه في ذلك الخبر، وصحَّت الشهادة له به قطعًا. فهذا معنى الآية، وكأنَّه (3) أجنبيّ عمَّا استشهد (4) به المصنّف. ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91] حتَّى رتَّب على ذلك بعضُهم أنَّ الذكر بالاسم المفرد وهو "اللَّه، اللَّه" أفضل من الذكر بالجملة المركّبة كقوله: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر! __________ (1) "ف": "فشهادته"، والراجح ما أثبتنا من "ب" وغيرها. (2) "ف": "أعظم شهادة وأصدقها"، خلاف الأصل. (3) "ك": "كان". "ط": "كان أجنبيًّا"، خطأ. (4) "ب، ك، ط": "استدلّ".
(2/738)
وهذا فاسد مبنيّ على فاسد. فإنَّ الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلًا، ولا مفيد شيئًا، ولا هو كلام أصلًا، ولا يدلُّ على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان، ولا ثواب، ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملةً. فلو قال الكافر "اللَّه، اللَّه" من أوَّل عمره إلى آخره لم يصِرْ بذلك مسلمًا، فضلًا عن أن يكون من جملة الذكر، أو يكون أفضل الأذكار. وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال: الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالاسم الظاهر! فالذكر بقوله: "هو هو" أفضل من الذكر بقولهم (1): "اللَّه، اللَّه". وكلُّ هذا من أنواع الهوَس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات. فهذا فساد هذا البناءِ الهائر. وأمَّا فساد المبنيّ عليه فإنَّهم ظنّوا أنَّ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل هذا الاسم، فقل: اللَّه اللَّه. وهذا من عدم فهم القوم لكتاب اللَّه، فإنَّ اسم اللَّه هنا جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام/ 91] إلى أن قال: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل: اللَّه أنزَلَه، فإنَّ السؤال يُعاد (2) في الجواب فيتضمّنه فيُحذَف اختصارًا، كما تقوِل: من خلق السماء (3) والأرض؟ فيقال: اللَّه. أي: اللَّهُ خلَقهما، فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه. فهذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيرَه (4). __________ (1) "ف": "بقوله"، خلاف الأصل مع مناسبته للسياق. (2) "ب، ك، ط": "معاد". (3) "ب، ك، ط": "السماوات". (4) وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 226 - 228).
(2/739)
[زهد الخاصّة] قوله: "وإنّما زهدُهم (1): جمعُ الهمة عن تفريقات (2) الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال". فيقال: الكشف الذي أوجب لهم هذا الجمع وقطعَ هذا التعلّق هو الكشف الإيماني القرآني. فهو في الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقام (3) القرب، ولا سيّما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلل الأعمال (4)، فناهيك به من كشف! والكرامة المرتّبة عليه هي لزوم الاستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشفٍ يُعطاه العبد، وهذه أفضل كرامة يُكرَم بها الوليّ. رزقنا (5) اللَّه من فضله وبرّه. وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص/ 46] فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عمَّا أخلص له أنبياءه ورُسُله من اختصاصهم بالآخرة. وفيها قولان: أحدهما أنَّ المعنى: نزعنا من قلوبهم حبَّ الدنيا وذكرَها وإيثارَها والعملَ بها. والقول الثاني: إنَّا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة، واختصصناهم به عن العالمين. __________ (1) ضبط في "ف، ب": "زهَّدهم"، وهو خطأ. (2) "ط": "تعريفات"، تحريف. (3) "ب، ك، ط": "مقامات". وكذا كتب في الأصل أولًا، ثم ضرب عليه وكتب "مقام". (4) "ط": "على الأعمال" تحريف. (5) "ف": "ورزقنا"، خلاف الأصل.
(2/740)
[توكّلهم] قوله: "وتوكّلهم: رضاهم بتدبير الحقّ، وتخلُّصُهم من تدبيرهم، وفراغُ هممهم من إجالتها (1) في إصلاح شؤونهم (2)، بوقوفهم على فراغ المدبِّر منها، ومرِّها على علمه بمصالحهم فيها. ونفوسُهم مطمئنَّةٌ بذلك {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} الآية [الفجر/ 27] " (3). قد تقدَّم الكلام على التوكّل وبيانُ أنَّه من مقامات العارفين، وأنَّه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلَّة فيه ما هي. وقوله: "وتوكلّهم رضاهم بتدبير الحقِّ". الرضا بالتدبير ثمرةُ التوكّل وموجَبُه، لا أنَّه نفسُ التوكّل. فالمقدور يكتنفه (4) أمران: التوكّل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه. ومن هنا قال بعضهم: "حقيقة التوكّل الرضا"، لأنَّه لما كان ثمرتَه وموجَبَه استدلّ به عليه استدلالًا بالأثر على المؤثِّر، وبالمعلول على العلّة. ولهذا قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال في دعائه: "اللّهم إنِّي أسألك بعلمك الغيبَ وقدرتك على الخلق، أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحقِّ في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك __________ (1) "ب، ك، ط": "احتيالها"، تحريف. وستأتي مرَّة أخرى على الصواب. (2) "ط": "شؤونها". (3) محاسن المجالس (95). (4) "ك، ط": "في المقدور يكشفه"، تحريف.
(2/741)
نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك بردَ العيشِ بعد الموت" الحديث، وقد تقدَّم (1). فقال: "أسألك الرضا بعد القضاء". وأمَّا التوكّل فإنَّما يكون قبله. وقوله: "وتخلّصهم (2) من تدبيرهم". هذا مقام كثيرًا ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير. وينبغي أن لا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بدَّ فيه من التفصيل. فيقال: العبد دائرٌ بين مأمورٍ يفعله، ومحظورٍ يتركه، وقدرٍ يجري (3) عليه بلا إرادةٍ منه ولا كسبٍ. فوظيفته في المأمور كمالُ التدبير والجدّ والتشمير، وأن يدبر (4) الحيلة في تنفيذه بكل ما يمكنه، فتركُ التدبير هنا تعطيلٌ للأمر. بل يدبِّر فعلَه ناظرًا إلى تدبير الحقِّ له، وأنَّ تدبيره إنَّما يتمّ بتدبير اللَّه له، فلا يكون هنا قدريًّا مجوسيًّا ناظرًا إلى فعله، جاحدًا لتدبير اللَّه وتقديره ومعونته، ولا قدريًّا مُجبِرًا واقفًا (5) مع القدر، جاحدًا لفعله وتدبيره ومحلّ (6) أمر اللَّه ونهيه منه (7)، فإنَّ فعله الاختياري هو محلّ الأمر والنهي، فمن جحد فعلَ نفسه فقد عطَّل الأمر والنَّهي، وجحد محلَّهما. ووظيفته في المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله، فإن عارضته أسبابُ الفعل فالواجب عليه الجدّ في الهرب والتشمير في الكفّ والبعد. وهذا __________ (1) في ص (124، 721). (2) في الأصل: "تخليصهم"، سهو، وكذا في غيره، وقد مرّ على الصواب آنفًا. (3) "ط": "وقد يجري"، تحريف اختلّ به الكلام. (4) "ف": "يدير". (5) "ط": "ولا واقفًا". (6) "ط": "مجلى"، تحريف. (7) "منه" ساقط من "ك، ط".
(2/742)
تدبيره (1) للنهي. وأمَّا القدر الذي يصيبه بغير إرادته، فهذا الذي يحسن فيه إسقاطُ التدبير جملةً، وصبره ورضاه بما قُسِمَ له من محبوب ومكروه. فعلى هذا التفصيل ينبغي أن يوضع إسقاطُ التدبير. وجماعُ ذلك أنَّك تُسقِط التدبيرَ في حظك، وتكون قائمًا بالتدبير في حقِّ ربّك. وهكذا ينبغي أن تفرغ الهمَّة من إجالتها في إصلاح شأنك، فإنَّ إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحسن (2) فيه فراغُ الهمة وترك التدبير. وأمَّا إصلاح شأنك بأداءِ حقِّ اللَّه فالواجب شَغلُ الهمة وإجالتها في القيام به. وقوله: "بوقوفهم على فراغ المدبّر منها، ومرّها على علمه بمصالحهم فيها". فلا ريبَ أنَّ اللَّه سبحانه قضى القضية، وفرغ من تقدير (3) أمور الخلائق، ولكن قدَّرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعًا له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقًا لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التي بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبِّر منها مانعًا له من تعاطيها. وكذلك يباشر الأسبابَ الموجِبةَ لبقاءِ النوع من النكاح والتسرّي، ولا يكون وقوفه مع فراغ اللَّه من خلقه مانعًا له من ذلك (4). وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغًا منها قضاءً وقدرًا، فهي منوطة __________ (1) "ك، ط": "تدبير". (2) "ف": "يحصل" سهو، وكذا في "ط". (3) "ك، ط": "تدبير". (4) "من ذلك" ساقط من "ب، ك، ط".
(2/743)
بأسبابها التي يتوقّف حصولُها عليها شرعًا وخَلْقًا (1). وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28} [الفجر/ 27، 28]، فالنفس المطمئنّة هي التي اطمأنَّت إلى ربِّها، وسكنت إلى حبّه، واطمأنّت بذكره، وأيقنت بوعده، ورضيَت بقضائه. وهي ضدّ النفس الأمَّارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتُها بمجرَّد إسقاط تدبيرها، بل بالقيام بحقِّه والطمأنينة بحبه وبذكره. فصل [صبرهم] قال: "وصبرُهم: صونُهم قلوبَهم عن خواطر (2) السوءِ بأنَّ اللَّه تعالى قضى قضاءً عاريًا عن الرأفة (3) خارجًا عن الخيرة (4). قال اللَّه تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17] " (5). قد تقدَّم الكلام في الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان (6). وما ذكره في تفسيره ههنا غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جدًّا، فإنَّ الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفّها عن التسخّط (7). وأمَّا صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق باللَّه سبحانه فلا يقال له "صبر"، __________ (1) "ب": "خلقًا وشرعًا". (2) "ك، ط": "خاطر". (3) "ك، ط": "المرافقة"، تحريف. (4) "ب": "الخير". وفي مطبوعة المجالس: "الرحمة". (5) محاسن المجالس (96). (6) في ص (575) وما بعدها. (7) "ط": "السخط".
(2/744)
بل (1) هذا من لوازم الإيمان. وهو كاعتقاد أنَّه سبحانه حكيم رحيم عليم سميع بصير، إلى غير ذلك من صفات كماله. فلا يقال: الصبر صونُ المْلب عن اعتقاد أضدادها. هذا بعيدٌ جدًّا، وتكلُّفٌ زائد لتفسير الصبر. وهل فهِم أحد قطّ هذا المعنى من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران/ 200] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127] وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه/ 130] وقوله (2): {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال/ 46] وسائر نصوص الصبر؟ ومن العجب جعلُ الصبر الذي هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيرُه بهذا التفسير! نعم، يجب على كلِّ مسلم أن ينزّه ربّه (3) سبحانه عن أن يقضي قضاءً يُنافي حكمتَه وعدلَه وفضلَه وبرَّه وإحسانه، بل كلُّ أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة؛ وإن كان كثير من المتكلمين ينازع في هذا الأصل ويقول: الذي ينزّه اللَّهُ عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأمَّا الممكن فلا يقبح منه شيء. وهؤلاء لا معنى لصون القلوب (4) عن خواطر السوءِ المتعلّقة بما يقضيه اللَّه -عندهم- إلا صونُها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط. وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكلّ مقام مقال. __________ (1) "ف": "إنما"، خلاف الأصل. وهو ساقط من "ب". (2) "وقوله" ساقط من "ك، ط". (3) "ب، ك، ط": "ينزه اللَّه". (4) "ط": "لا يمكن صون القلب"، تحريف.
(2/745)
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17]. فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداء، وليس من الابتلاء الذي هو الامتحان بالمكروه، بل مِن أبلاه بلاءً حسنًا (1)، إذا أنعمَ عليك (2). يقال: "أبلاك اللَّه، ولا ابتلاك". فـ "بلاه" في الخير (3)، و"ابتلاه" بالمكاره غالبًا، كما في الحديث: "إنِّي مبتليك ومبتلٍ بك" (4). فصل [حزنهم] قال: "وحزنُهم: يأسُهم عن أنفسهم الأمَّارة بالسوء. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] " (5). وقد تقدَّم أيضًا الكلامُ على ما ذكره في الحزن. وأمَّا تفسيره إيَّاه بأنَّه "يأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء"، فليس بالبيّن، فإنَّ الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه. وإن تعلَّق ذلك بالماضي كان حزنًا، وإن تعلَّق بالمستقبل كان خوفًا وهمًّا. وأمَّا اليأس عن النفس الأمارة بالسوء، فليس بحزن؛ __________ (1) "فالبلاء الحسن هنا. . . " إلى هنا سقط من "ف" لانتقال النظر ولم يستدرك في المقابلة! (2) كذا في الأصل و"ف، ك". وفي "ب، ط": "عليه" وهو أنسب للسياق. (3) "ك، ط": "بالخير". (4) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم (2865) في كتاب الجنة، ولفظه: "إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك". (5) محاسن المجالس (96).
(2/746)
إلا (1) أن يكون مراده أنَّ حزنهم ينشأ عن النفس الأمَّارة بالسوء لا عن المطمئنّة، فإنَّ النَّفس (2) المطمئنّة لا تحزن، وإنَّما تحزن الأمَّارة لفوات محبوبها. وهذا ليس (3) كما قال، فإنَّ المطمئنّة (4) تحزن على تقصيرها في أداء الحقِّ، وعلى تضييعها الوقتَ وإيثارها غير اللَّه عليه في الأحيان، وهذا الحزن لا بدَّ منه لها (5)، إذ التقصير والتضييع لازم. وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] على ذلك (6)، فوجهه أنَّ "الكنود" هو الكَفور، وهو الذي يذكر المصائب وينسى النعم. ولا ريب أنَّ الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريبَ أنَّ الحزن الناشئ عن الكنود حزن ناشئ عن النفس الأمَّارة بالسوء. وأمَّا الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا. وقد تقدَّم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلّقاته (7). فصل [خوفهم] قال: "وخوفُهم: هيبة الجلال، لا خوفُ العذاب. فإنَّ خوفه (8) __________ (1) مكانها في "ط": "ويمكن". (2) "النفس" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "ليس هذا". (4) "ك، ط": "النفس المطمئنة". (5) "لها" ساقط من "ك، ط". (6) "على ذلك" مقدّم في "ط" على "بقوله تعالى". (7) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". وقد تقدّم فصل الحزن في ص (605). (8) يعني "خوف العذاب" كما في محاسن المجالس، وعليه يستقيم المعنى. وفي الأصل: "خوفهم"، وهو سهو، وكذا في النسخ الأخرى و"ط".
(2/747)
مناضلةٌ عن النفسِ وضَنٌّ بها، وهيبة الجلال تعظيمُ الحقِّ ونسيانُ النَّفس، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50]. وقال في حقِّ العوامّ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] " (1). وقد تقدَّم الكلام أيضًا (2) على ما ذكره في الخوف (3) وعلَّته (4). وقوله: هو هيبة الجلال لا خوف العذاب، تقدَّم بيان بطلانه، وأنَّ اللَّه سبحانه أثنى على خاصَّة أوليائه من الملائكة والأنبياء وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأنَّهم {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. فكيف يقال: إنَّ خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترّهات، والرعونات (5)، ودعاوى الأنفس. وقوله: إنَّ الخوف مناضلة عن النفس (6). فسبحان اللَّه! هل يقال لمن خاف اللَّه وخاف عقوبته إنَّه يناضل ربّه عن نفسه؟ (7) ولو كان مناضلة فهو مناضلة للعدو وللهوى وللشهوة (8). وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإنَّ من خاف شيئًا ناضل عنه، فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه. وما ثمّ إلا مناضلة، أو إلقاء (9) باليد إلى التهلكة، ولولا هذه __________ (1) محاسن المجالس (96). (2) "ب، ك، ط": "أيضًا الكلام". (3) "ط": "الحديث"، تحريف غريب. وكذا كان في "ك" ثم غيّر. (4) انظر فصل الخوف في ص (612). (5) "ط": "الزعوم"، تحريف. (6) "هذا من الترهات. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك". (7) "ط": "مناضل ربّه". وسقط عنها وعن "ب، ك": "عن نفسه". (8) "ب": "والهوى والشهوة". "ك، ط": "العدو والهوى والشهوة". (9) "ط": "وإلقاء" تحريف يقلب المعنى.
(2/748)
المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة. والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره. وليس الضنُّ بالنفس عن عذاب اللَّه بنقصٍ (1)، بل الكمال والفوز والنعيم في ضنّ العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب اللَّه، ومن لم يضنّ بنفسه فليس فيه خير البتّة. والضنّ بالنفس إنَّما يُذَمّ إذا ضنّ بها عن بذلها في محبوب الربّ تعالى وأوامره، وأمَّا إذا ضنَّ بها عن عذابه فهل يكون هذا علّةً؟ وهل العلّة كلُّها إلا في عدم هذه المناضلة والضنّ؟ قوله: "وهيبة الجلال تعظيم الحقّ ونسيان النفس". قد تقدَّم الكلام في الهيبة والتعظيم، وأنَّهما غير الخوف والخشية (2). ولا تستلزم هذه الهيبة أيضًا نسيانَ النفس، ولا يكون شعور العبد بنفسه في هذا المقام نقصًا ولا علّةً، كما تقدَّم، بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذي هو أقوى وأكمل من الفناءِ. وأمَّا قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فهو حجّة عليه، كما تقدَّم. ولا يصحّ تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين: أحدهما: أنَّه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلي بلا موجب، الثاني: أنَّ هذا وصفٌ للملائكة، وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته. فالخوف في هذه الآية، والخشية في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء/ 28]. فوَصَفهم بالخشية والإشفاق. ووصَفَهم بخوف العذاب في قوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]، وهم __________ (1) "ب، ك": "نقص"، وهو خطأ، لأنّه خبر ليس، فنصبه الناشر في "ط". (2) انظر: ص (632).
(2/749)
خواصّ خلقه (1). فإيَّاك ورعونات النفوس (2) وحماقاتها وجهالاتها، ولا تكن ممَّن لا يقدر اللَّه حقَّ قدره. وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأرضه لعذَّبهم، وهو غيرُ ظالمٍ لهم" (3). فإذا علم المقرّب العارف أنَّ اللَّه لو عذَّبه لم يظلمه، فمن أحقّ بالخوف منه؟ قوله: "وقال في حقِّ العوامّ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] ". هذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإنَّ هذا صفة خواصّ عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهم: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور/ 38 - 37]. فهؤلاء خواصّ الخلق، وهم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسانٍ، أفلا يستحيي من جعل هذا الوصف للعوامّ؟ ولا ريبَ أنَّ هذا مصدره إمَّا جهل مفرط، وإمَّا تقليد لقائل لا يدري لازمَ قوله. هذا إن أُحسِن الظن بقائله. وإن كان مصدره غيرَ ذلك فأدهى وأمرّ. ولولا أنَّ هذه الكلمات ونحوها مهاوٍ ومعاطبُ في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهمُّ منها أولى. واللَّه المستعان. فصل [رجاؤهم] قال: "ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم فيه غَرْقَى، وبه __________ (1) "ب": "من خواص خلقه". (2) "ك، ط": "النفس". (3) تقدّم تخريجه في ص (164).
(2/750)
سَكْرى، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45] " (1). وهذا أيضًا من ذلك النمط، ورجاءُ الأنبياء والرسل فمن دونهم إنَّما هو طمعهم في رحمته ومغفرته. وانظر إلى دعوى هؤلاء، وإلى قول إمام الحنفاء (2) خليل الرحمن -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 82] كيف علَّق رجاءَه وطمعَه (3) بمغفرة اللَّه له؟ وقال تعالى عن خاصَّة خلقه وأعلمهم به إنّهم {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الاسراء/ 57]. ومن العجب استدلاله بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45]. فما لهذه الآية وما للرجاء، ولا سيَّما ما ذكره المصنف من (4) تفسيره رجاءَ القوم؟ والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز! ومعنى الآية التنبيهُ على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الربِّ تعالى وعجائب (5) مخلوقاته الدّالة عليه. والمعنى: انظر كيف بسط ربّك الظلّ، و"الظلّ" ما قبل الزوال، و"الفيء" بعده، فمدَّه سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس، فإنَّه يكون مديدًا أطولَ ما يكون، وجعل الشمس دليلًا عليه، فإنَّها هي التي تظهره وتبيّنه. ثمَّ كلَّما ارتفعت الشمس شيئًا انقبض من الظلّ جزءٌ، فلا يزال ينقبض (6) يسيرًا يسيرًا (7) حتى ينتهي إلى __________ (1) محاسن المجالس (96). (2) "ب": "أبي الحنفاء". (3) "ب": "طمعه ورجاءه". (4) "ب، ك، ط": "في". (5) "ب": "عجيب". (6) "ك، ط": "ينقص"، تحريف. (7) في "ط": "يسيرًا" مرة واحدة.
(2/751)
غايته. فإذا أخذت الشمس في الجانب الغربيّ انبسط بعد انقباضه شيئًا فشيئًا حتَّى يصير كهيئته عند طلوعها. ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاء الظلّ في قصره، فإذا أخذ في الزيادة بعد تناهي القِصَر (1) فقد تحقَّق الزوال. ولو شاءَ اللَّه سبحانه لجعله ساكنًا دائمًا على حالة واحدة فلا يتحرَّك بالزيادة والنقصان، فالظلّ أحد الأدلّة الدالّة على الخالق سبحانه وتعالى. وأمَّا دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى إشارة وتكلّف غير مقصود بها. وآيات الرجاءِ في القرآن أكثر وأظهر وأصرح في المقصود ظاهرةً (2) واستنباطًا. فالظاهرة كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف/ 110] وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} [الإسراء/ 57] وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت/ 5]. والمستنبطة كآيات البشارة كلّها كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة/ 223]. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة/ 155] {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر/ 17 - 18]، {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى/ 23]. فصل [شكرهم] قال: "وشكرُهم: سرورُهم بموجودهم، واستبشارهم بلقائه. {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] " (3). وهذا أيضًا من النمط المتقدِّم. وشكر القوم هو عملُهم بطاعة اللَّه، __________ (1) "ك": "قصره القصر"، "ط": "قصره". (2) "ب": "ظهورًا". وما ورد في الأصل وغيره صحيح. (3) محاسن المجالس (96).
(2/752)
واستعانتهم بنعمه على محابّه. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ/ 13]. وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ " (1). فسمَّى الأعمال شكرًا، وأخبر أنَّ شكرَه قيامُه بها ومحافظتُه عليها. فحقيقة الشكر هو الثناء على المنعم، ومحبّتُه، والعملُ بطاعته، كما قال: أفادتكم النعماءُ عندي ثلاثةً ... يدي ولساني والضميرَ المحجَّبا (2) فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير (3) للحبّ والتعظيم. وأمَّا السرور به وإن كان من أجلّ المقامات، فإنَّ العبد إنَّما يُسَرُّ بمن هو أحبّ الأشياء إليه؛ وعلى قدر حبّه له يكون سرورُه به (4). فهذا (5) السرور ثمرة الشكر، لا أنَّه نفس الشكر. وكذلك (6) الاستبشار والفرح بلقائه إنَّما هو ثمرة الشكر وموجَبه. وهو كالرضا من التوكّل، وكالشوق من المحبة، وكالأنس من الذكر، وكالخشية من العلم، وكالطمأنينة من اليقين؛ فإنَّها ثمرات لها وآثار وموجَبات. فعلى قدر شكره للَّه بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية، يكون سروره به (7) واستبشاره بلقائه. __________ (1) أخرجه البخاري (4836) في التفسير وغيره، ومسلم (2821) في كتاب صفات المنافقين، عن المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه. (2) "عندي" كذا في الأصل و"ف". والمشهور "منّي" كما في "ب، ك"، وعدة الصابرين (252)، وقد أنشده الزمخشري في الكشاف (1/ 8)، وربيع الأبرار (4/ 318). (3) "ف": "القلب"، خلاف الأصل. (4) "به": ساقط من "ك، ط". (5) "ب، ك، ط": "وهذا". (6) "ك، ط": "فكذلك". (7) "به" ساقط من "ك، ط".
(2/753)
وأمَّا قوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] فهذا إنَّما قاله للشاكرين الذين يقاتلون في سبيله فيَقتُلون ويُقتَلون. ثمَّ وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة/ 112] فهؤلاء هم (1) المستبشرون ببيعهم. جعلنا اللَّه منهم بمنِّه وكرمه. فصل [محبتهم] قال: "ومحبتهم فناؤهم في محبَّة الحقِّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}؟ " (2). وقد تقدَّم الكلام على هذا بما فيه كفاية (3). وبيّنَّا أنَّ البقاء في المحبة أفضل وأكمل من الفناء فيها من وجوه متعدّدة، وأنَّ الفناء إنَّما هو لضعف المحِبّ عمَّا حمل. وأمَّا الأقوياءُ فهم -مع شدَّة محبتهم- في مقام البقاءِ والتمييز. وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس/ 32]، فالآية إنَّما سيقت في الإنكار (4) على من يعبد غير اللَّه ويشرك به. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ __________ (1) "هم" ساقط من "ك، ط". وفي "ط": "المستبشرين"، خطأ. (2) محاسن المجالس (96). (3) انظر: ص (703 - 705). (4) "ط": "في الكلام"، تحريف.
(2/754)
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس/ 31 - 32] فمن (1) عبد غيرَ اللَّه فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. وأمَّا من عبد اللَّه بأمره، وكان في مقام التمييز بين محابه ومساخطه، مفرِّقًا بينهما، يحبّ هذا ويبغض هذا، ناظرًا بقلبه إلى ربِّه، عاكفًا بهمَّته عليه، منفِّذًا لأوامره = فهو مع الحقِّ المحض (2). فصل [شوقهم] قال: "وشوقُهم: هربهُم (3) من رسمهم وسماتهم استعجالًا للوصول الى غاية المنى. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه/ 84] " (4). وقد تقدَّم الكلام في الشوق مستوفًى (5)، وليس الهرب من الغير والضدّ هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه. فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتمّ إلا بالهرب من ضدّه، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسِّمات. __________ (1) "فمن" وضع في "ط" بين حاصرتين، ولعله كان ساقطًا من النسخة التي كانت بين يدي الناشر. (2) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (3) "ط": "هزمهم"، تحريف. (4) محاسن المجالس (96). (5) انظر: ص (710 - 733).
(2/755)
فصل قال: "فالإرادة (1) والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاء والشكر والمحبة والشوق من منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلَّت فيها أحوال المشاهدين (2) حتَّى يفنى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل" (3). قلت: الحقائق التي يشار (4) إليها على لسان أهل السلوك ثلاثة (5): حقيقة إيمانية نبوية: وهي حقيقة العبودية التي هي كمال الحبّ وكمال الذلّ. وسير أهل الاستقامة إنَّما هو إلى هذه الحقيقة، ومنازل السير التي ينزلون فيها هي منازل الإيمان الموصلة إليها. والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة، ولا يقفون معها، ويرونها منزلةً من منازل العامَّة! الحقيقة الثانية: حقيقة كونية قدرية. يشاهدون فيها انفرادَ (6) الربّ سبحانه بالتكوين والإيجاد وحده، وأنَّ العالم كالمَوَات (7) يقلِّبه ويصرِّفه كيف شاء (8). وهم يعظِّمون هذا المشهد ويرون الفناءَ فيه غايةً ما بعدها __________ (1) "ب، ط": "والإرادة". (2) محاسن المجالس (96). (3) قراءة "ف" وغيرها: "الشاهدين". وفي المجالس: "السائرين". (4) "ك، ط": "أشار". (5) كذا في الأصل والنسخ الأخرى. وفي "ط": "ثلاث". (6) "ف": "أنوار"، تحريف. (7) في "ك" أقحمت كلمة "كانوا" قبل "كالموات". وفي "ط": "كالميت". (8) "ط": "يشاء".
(2/756)
شيء. وهذا من أغلاطهم في المعرفة والسلوك، فإنَّ هذا المشهد لا يدخل صاحبه في الإيمان فضلًا عن أن يكون أفضلَ مشاهد أولياء اللَّه المقرَّبين، فإنَّ عُبّاد الأصنام شهدوا هذا المشهد، ولم ينفعهم وحده. قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} (1) [المؤمنون/ 84 - 89]. وقال تعالى (2): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف/ 87]. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (3) [الأنعام/ 148]. وهذا كثير من القرآن. فالفناءُ في هذا المشهد لا يُدخِل العبدَ في دائرة الإسلام، فكيف يُجعَل (4) هو الحقيقةَ التي ينتهي إليها سيرُ السالكين، وتُجعَل حقيقةُ الإيمان ودعوةُ الرسل منزلًا (5) من منازل العامَّة! وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد (6) عن الصراط المستقيم، وقلب للحقائق؟ وكم قد __________ (1) وقع في الأصل و"ف، ب": "اللَّه" في الموضعين الأخيرين من الآية، سهو. (2) "وقال تعالى" ساقط من "ط". (3) وقع في الأصل والنسخ الأخرى سهوًا: "وقال الذين أشركوا"! (4) "ط": "يجعله". (5) "ف": "منزل". وهي مشبوكة في الأصل بالكلمة التالية. وفي "ط": "منزلة". (6) "ب": "البعد والانحراف".
(2/757)
هلك في هذه الحقيقة من أمم لا يُحصيهم إلا اللَّه! وكم عطَّل (1) الواقفون معها من الشرائع، وخرَّبوا من المنازل! وما نجا من معاطبها إلا من شملته العنايةُ الربانيَّةُ، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية: حقيقةِ رسل اللَّه وأنبيائه وأتباعهم. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. والحقيقة الثالثة: حقيقة اتحادية، بل وَحْدية (2). لا يفرَّق فيها بين الربّ والعبد، ولا بين القديم والمحدَث، ولا بين صانع ومصنوع، بل الأمر كلّه واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق. وهذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفةُ الاتحادية، ويعدّون من لم يكن من أهلها محجوبًا! وهذه حقيقة كفرية إلحادية (3)، وهي مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عين منتنة. وكفرُ أهلها أعظمُ من كفر كل أمة، فإنَّهم جحدوا الصانعَ حقًّا، وإن أثبتوه جعلوا وجودَه وجودَ كل موجود، والذين أثبتوا الصانع سبحانه، وعدلوا به غيرَه، وسوّوا بينه وبين غيره في العبادة = مقالتُهم خيرٌ من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجودَ كلِّ موجود. وعين كل شيء (4). تعالى اللَّه عمَّا يقول الكاذبون المفترون علوًّا كبيرًا. __________ (1) "ب، ك، ط": "عطل لأجلها"، وقد انتشر الحبر في الأصل على الكلمتين وما بعدهما، فلا يدرى أكلمة "لأجلها" مضروب عليها أم لا. وقد اعتمدنا على "ف". (2) "ط": "واحدية"، تحريف. (3) "ب، ك، ط": "اتحادية". رسمها في الأصل يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا من "ف". (4) "ف": "كل موجود"، خلاف الأصل.
(2/758)
فعليك بالفرق بين السائرين إلى عين (1) هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية، والسائرين إلى عين الحقيقة المحمَّدية الإبراهيمية الحنيفيّة التي هي حقيقة جميع الأنبياء والمرسلين. وفيها تفاوتت مراتب السالكين ومنازلهم من القرب من ربّ العالمين. قال شيخ هذه الحقيقة (2) لما تحقَّق فناءَ تلك (3) الرسوم وأُفولَها (4) {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام/ 79]. وهذا التوجّه يتضمَّن محبته دون غيره، وعبادته وطاعته دون غيره. فهذه هي الحقيقة حقًّا، وما سواها باطل حقيقةً. قال (5) تعالى لأكرم خلقه عليه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل/ 123] فأمره تعالى أن يقتدي بأبيه إبراهيم في هذه الحقيقة. وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلِّم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبيّنا محمد، وملَّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين" (6). __________ (1) "عين" ساقط من "ك، ط". (2) في حاشية "ك": "هو إبراهيم عليه السلام". وأدخلت هذه الحاشية في "ط" بعد حذف "هو". (3) ف: "هذه"، قراءة محتملة. (4) "ب": "أقر لها"، تحريف. (5) "ك، ط": "قال" دون واو العطف. (6) أخرجه أحمد (15363)، والنسائي في الكبرى (9831, 10177) من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وهو حديث ثابت إلّا لفظة: "وإذا أمسوا"، تفرّد بها وكيع عن الثوري، ولم يروها أحد من أصحاب الثوري، ورواه شعبة فلم يذكرها. (ز).
(2/759)
فنسأل اللَّه العظيم أن يهبَ لنا هذه الحقيقة، ويثبِّتنا عليها، ويُعيذَنا ممَّا سواها، إنَّه قريب مجيب (1). __________ (1) زاد في "ك، ط": "بمنه وكرمه. واللَّه أعلم".
(2/760)
فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً (1) الطبقة الأولى وهي العليا على الإطلاق: مرتبة الرسالة. فأكرمُ الخلق على اللَّه وأخصُّهم بالزلفى لديه رسلُه، وهم المصطفون من عباده الذين سلَّم عليهم في العالمين، كما قال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات/ 181]. وقال: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات/ 79] (2)، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات/ 109 - 110]، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات/ 130]. وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل/ 59] وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلةً في حيّز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي "الحمد للَّه"، ويكون الأمر بالقول متناولًا للجملتين معًا، وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلّها النصب محكيَّةً بالقول. ويحتمل أن تكون جملةً مستأنفةً مستقِلَّةً معطوفةً على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون __________ (1) لابن حزم فصل موجز في هذا الموضوع، ذكر فيه عشر طبقات، وهي المذكورة هنا برقم (4 - 6) و (8 - 13) والعاشرة: من مات كافرًا. انظر: التلخيص لوجوه التخليص (107 - 118). ولعلّ المؤلف صدر عن هذا الفصل، ثم بنى بناءه مع إضافاته. (2) في "ك، ط" زيادة: "وقال".
(2/761)
السلام من اللَّه عليهم، وهو المطابق لما تقدَّم من سلامه سبحانه على رسله. وعلى التقدير الأوَّل يكون أمرًا بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يُعطَف الخبرُ على الطلب مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: "قُمْ وذهَبَ زيد"، ولا: "اخرُجْ وقعدَ عمرو"، ويجاب (1) عن هذا (2) بأنَّ جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومثل هذا (3) لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. ونظير هذا (4) قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس/ 101]. فقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ} ليس معطوفًا على المحكي بالقول وهو "انظروا" بل معطوف على الجملة الكبرى. على أنَّ عطف الخبر على الطلب كثير، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء/ 112]. وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون/ 118] (5). والمقصود أنَّه على هذا القول يكون اللَّه سبحانه قد سلَّم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. وقد أخبر سبحانه أنَّه أخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار، وأنَّهم عنده من المصطفَين الأخيار (6). ويكفي في __________ (1) "ط": "أو يجاب"، خطأ. (2) "ط": "على هذا"، تحريف. (3) "ط": "مع هذا". (4) "ط": "وهذا نظير". (5) وانظر: بدائع الفوائد (656 - 659). (6) يشير المؤلف إلى الآية (46) من سورة ص. وقد غيّر النصّ في "ط" وجعل =
(2/762)
فضلهم وشرفهم أنَّ اللَّه سبحانه اختصَّهم بوحيه، وجعلهم أُمَناءَ على رسالته، ووسائط (1) بينه وبين عباده، وخصَّهم بأنواع كرامته (2): فمنهم من اتخذه خليلًا، ومنهم من كلَّمه تكليمًا، ومنهم من رفعه (3) على سائرهم درجات. ولم يجعل لعباده وصولًا إليه إلا من طريقهم، ولا دخولًا إلى جنته إلا من خلفهم، ولم يكرم أحدًا منهم بكرامة إلا على أيديهم؛ فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه. وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنَّما ناله العباد على أيديهم. وبهم عُرِفَ اللَّهُ، وبهم عُبدَ وأُطيع، وبهم حصلت محابّه تعالى في الأرض، وأعلاهم منزلةً أولوَ العزم منهم المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى/ 13]. وفي قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب/ 7] (4). وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة حتى يردّوها إلى خاتمهم وأفضلهم -صلى اللَّه عليه وسلم-. الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيلهم بعضهم على بعض. __________ = بلفظ الآية. (1) "ط": "واسطة". (2) "ك، ط": "كراماته". (3) زاد بعده في "ط": "مكانًا عليًّا". (4) "وفي قوله تعالى. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(2/763)
الطبقة الثالثة: الأنبياء (1) الذين لم يُرسَلوا إلى أُممهم، وإنَّما كانت لهم النبوة دون الرسالة، فاختُصُّوا عن الأمة بإيحاءِ اللَّه إليهم، وإرساله ملائكته إليهم، واختصَّت الرسلُ عنهم بإرسالهم إلى الأمة يدعونهم (2) إلى اللَّه بشريعته وأمره، واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم. الطبقة الرَّابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بُعثوا به علمًا وعملًا ودعوةً للخلق إلى اللَّه على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصدِّيقية. ولهذا قرنهم اللَّه تعالى في كتابه بالأنبياء فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69]، فجعل درجةَ الصدّيقية تلي (3) درجةَ النبوة. وهؤلاء هم الربَّانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبُه وخاصَّتُه وحَمَلةُ دينه، وهم المضمون لهم أنَّهم لا يزالون على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم (4) حتَّى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد/ 19]. وقد (5) قيل: إنَّ الوقف على قوله: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (6) ثمَّ يبتدئ {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيكون الكلام __________ (1) "الأنبياء" ساقط من "ط". (2) "ط": "بدعوتهم"، تصحيف. (3) "ك، ط": "الصديقية معطوفة على درجة". (4) "ف": "لا يضرّهم من خالفهم" فأسقط جزءًا من الكلام. (5) "قد"ساقط من "ط". (6) من قوله تعالى في الآية السابقة: "والشهداء عند ربهم. . . " إلى هنا ساقط من =
(2/764)
جملتين: أخبر في إحداهما عن المؤمنين باللَّه ورسله أنَّهم هم الصدِّيقون، والإيمان التامّ يستلزم العلمَ والعملَ والدعوةَ إلى اللَّه سبحانه بالتعليم والصبرَ عليه، وأخبر في الثانية أنّ الشهداءَ عند ربّهم، لهم أجرهم ونورهم (1). ومرتبة الصدّيقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدّمهم عليهم في الآيتين: هنا وفي سورة النساءِ. وهكذا جاءَ ذكرُهم مقدّمًا على الشهداءِ في كلام النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "اثبُتْ أُحدُ، فإنّما عليك نبي وصدّيق وشهيدان" (2). ولهذا كان ندت الصدّيقية وصفًا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وهو أبو بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه (3). ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصدّيقية لكانت لقبًا (4) له رضي اللَّه عنه. وقيل (5): إنّ الكلام كلّه جملة واحدة، وأخبر عن المؤمنين بأنّهم هم الصدّيقون والشهداءُ عند ربّهم، وعلى هذا فالشهداءُ هم الذين يستشهدهم اللَّه على الناس يوم القيامة، وهو قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة/ 143] وهم المؤمنون. فوصَفَهم بأنَّهم صدِّيقون في الدنيا __________ = "ف" لانتقال النظر. (1) هذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللَّه. انظر تفسيره (27/ 230). (2) "ك، ط": "شهيد"، خطأ. والحديث أخرجه البخاري (3675) في فضائل الصحابة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (3) "ط": ". . المرسلين أبي بكر الصديق". (4) "ك، ط": "نعتًا". (5) وهو مروي عن ابن مسعود ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (27/ 231).
(2/765)
شهداءُ (1) على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداءُ وصفًا لجملة المؤمنين الصدِّيقين. وقيل: الشهداءُ هم الذين قُتِلوا في سبيل اللَّه، وعلى هذا القول يترجَّح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قولُه "والشهداء" مبتدأً خبره ما بعده؛ لأنَّه ليس كلُّ مؤمن صدِّيقٍ شهيدًا في سبيل اللَّه. ويرجِّحه أيضًا أنَّه لو كان "الشهداء" داخلًا في جملة الخبر عن المؤمنين (2) لكان قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد/ 19] داخلًا أيضًا في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنَّهم هم الصدِّيقون، والثاني: أنَّهم الشهداء، والثالث: أنَّهم (3) لهم أجرهم ونورهم. وذلك يتضمَّن عطف الخبر الثاني على الأوَّل، ثمَّ ذِكرَ الخبر الثالث مجرَّدًا عن العطف. وهذا كما تقول: "زيد كريم وعالم له مال". والأحسن في هذا تناسبُ الأخبار بأنَّ تُجرِّدها كلَّها من العطف، أو تعطفها جميعًا، فتقول: "زيد كريم عالم له مال". أو "كريم وعالم وله مال". فتأمَّله. ويرجِّحه أيضًا أنَّ الكلام يصير جملًا مستقلَّة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم: الصدِّيقون، والشهداءُ، والصالحون وهم المذكورون في أوَّل الآية (4)، وهم المتصدِّقون الذين أقرضوا اللَّه قرضًا حسنًا، فهؤلاء ثلاثة أصناف. ثمَّ ذكرَ الرسُلَ في قوله تعالى: {لقَدْ أَرْسَلْنَا __________ (1) "ط": "وشهداء". (2) "عن المؤمنين" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "أنهم هم الشهداء، والثالث أن". (4) "ك، ط": "في الآية".
(2/766)
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد/ 25] فتناول (1) ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء، فهؤلاء هم السعداء. ثمَّ ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار، ومنافقون؛ فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد/ 19]. وذَكَر المنافقين (2) في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} (3) [الحديد/ 13]. فهؤلاء أصناف العالم كلّهم. وترك سبحانه ذكرَ المخلِّط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلِّطين غالبًا لسرٍّ اقتضته حكمته سبحانه وتعالي. فليحذَرْ صاحب التخليط، فإنَّه لا ضمان له على اللَّه، ولا هو من أهل وعده المطلق. ولا ييأس من رَوح اللَّه، فإنَّه ليس من الكفار الذين قد (4) قطع لهم بالعذاب، ولكنَّه بين الجنَّة والنَّار، واقف بين الوعد والوعيد، كلٌّ منهما يدعوه الي موجبه لأنَّه أتي بسببه. وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في تخليده في النار. ولو نزّلوه منزلةً بين المنزلين، ووكلوه إلى المشيئة، وقالوا بأنَّه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه، لأصابوا. ولكن "منزلةٌ بين منزلتين وصاحبُها (5) مخلَّدٌ في النَّار" ممَّا لا يقتضيه عقل ولا سمع، بل النصوص الصريحة المعلومة الصحَّة تشهد ببطلان قولهم، واللَّه أعلم. __________ (1) "ط": "فيتناول". (2) "ط": "المنافقون". (3) كذا في الأصل و"ف" ونقلت الآية في "ب، ك، ط" إلى "نقتبس من نوركم". (4) "قد" ساقط من "ك، ط". (5) "ط": "صاحبهما"، خطأ.
(2/767)
وأيضًا فصاحب الشائبتين يُعلَم حكمُه من نصوص الوعد والوعيد، فإنَّ اللَّه سبحانه رتَّب على كلِّ عملٍ جزاءً في الخير والشرِّ، فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزائين، واللَّه لا يضيّع مثقال ذرَّة. فإن كان عمل الشرّ ممَّا يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير له (1)، وإن لم يُسقطه كالمعصية ترتَّب في حقه الأثران، ما لم يسقط أحدُهما بسبب من الأسباب التي سنذكرها (2) إن شاء اللَّه فيما بعد (3). والمقصود أنَّ درجة الصدِّيقية والرَّبانية، ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأُمة. ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلّا أنّ كلّ من علم. بتعليمهم وإرشادهم أو علّم غيرَه شيئًا من ذلك كان لهم (4) مثل أجره ما دام ذلك جاريًا في الأمة على آباد الدهور. وقد صحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال لعليّ بن أبي طالب: "واللَّهِ لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعم" (5). وصحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: "من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فعُمِل بها بعدَه كان له مثلُ أجر مَن عمل بها، لا ينقص ذلك (6) من أجورهم شيئًا" (7). __________ (1) "له" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "نذكرها". (3) "ب": "فيما بعد إن شاء اللَّه". (4) "ب، ك، ط": "له"، خطأ. (5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2942) وغيره، ومسلم في فضائل الصحابة (2406). (6) "ذلك" ساقط من "ك، ط". (7) أخرجه مسلم في الزكاة (1017) عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه.
(2/768)
وصحّ عنه أنّه قال: "إذا مات العبد انقطع عملُه إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" (1). وصحَّ عنه أنَّه قال: "مَن يُردِ اللَّهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّين" (2). وفي السنن عنه أنَّه قال: "إنَّ العالم يَسْتغفِر له مَن في السماوات ومَن في الأرضِ حتَّي النملة في جُحرِها" (3). وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ اللَّه وملائكته يصلّون على معلِّم الناسِ الخيرَ" (4). وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ العلماء وَرثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورِّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر" (5). __________ (1) أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) أخرجه البخاري في العلم (71) وغيره، ومسلم في الزكاة (1037) عن معاوية رضي اللَّه عنه. (3) أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني في الكبير (7912)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (183) عن أبي أمامة. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وفي نسخة: "هذا حديث غريب". قلت: فيه الوليد بن جميل يروي عن القاسم أحاديث منكرة ويخشي أن هذا منها. وأيضًا هذا أخطأ في رفعه، صوابه أنه مرسل عن مكحول كما عند الدارمي (297). وثبت عن ابن عباس قال: "معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر" أخرجه ابن أبي شيبة (26104)، والدارمي (355) وغيرهما، وسنده صحيح. (ز). (4) انظر: الحديث السابق. (5) "ك، ط": "عظيم وافر". والحديث أخرجه أحمد (21715)، وأبو داود (3641)، والترمذي (682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88) وغيرهم عن أبي الدرداء. وقد وقع فيه اختلاف في أسانيده. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وقال حمزة الكناني: حسن غريب، وضعفه الترمذي والبغوي =
(2/769)
وعنه: "العالم والمتعلِّم شريكان في الأجر، ولا خيرَ في سائر الناس بعدُ" (1). وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "نضَّر اللَّه امرأً سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها إلى من سمعها" (2). والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا (3)، وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد (4). فيا لها من مرتبةٍ ما أعلاها، ومنقبةٍ ما أجلّها وأسناها، أن يكون المرءُ في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزِّقة وأوصالًا متفرِّقة، وصحفُ حسناته متزايدةٌ تملى فيها الحسنات كلَّ وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب. تلك -واللَّه- المكارم والغنائم! وفي ذلك فليتنافس __________ = وابن عبد البر. انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 162، 164)، وفتح الباري (1/ 160)، وتحقيق المسند (36/ 46 - 47). (ز). (1) أخرجه ابن ماجه (228) من طريق على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة. وقال البوصيري: "هذا إسناد فيه على بن يزيد بن جدعان، والجمهور على تضعيفه". (ز). (2) "ب": "كما سمعها". "ك": "وأداها". "ط": "وأداها كما سمعها". (ص). والحديث أخرجه أحمد (4157)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2657، 2658)، وابن ماجه (232) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. وقد صححه الترمذي وابن حبان وأبو نعيم وابن حجر. (ز). (3) "جدًّا" ساقط من "ك، ط". (4) سمّاه ابن رجب في ترجمة المؤلف "فضل العلماء". انظر: ذيل طبقات الحنابلة (5/ 175). ولكن الداودي الذي اعتمد على ابن رجب ذكره في طبقات المفسرين (2/ 93) باسم "فضل العلم". وقد ذكر المؤلف في مفتاح دار السعادة أيضًا ثلاثة وخمسين وجهًا ومائة وجه في فضل العلم.
(2/770)
المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون! وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. وحقيق بمرتبةٍ هذا شأنُها أن تُنفَق نفائس الأنفاس عليها، ويستبق (1) السابقون إليها، وتوفَّر (2) عليها الأوقات، وتتوجَّه نحوها الطلِبات. فنسأل اللَّه الذي بيده مفاتيح كلّ خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنِّه وكرمه. وأصحاب هذه المرتبة يُدعَون عظماء في ملكوت السماءِ، كما قال بعض السلف: "مَن عَلِم وعمِل وعلَّم فذلك يُدعي عظيمًا في ملكوت السماء" (3). وهؤلاء هم العدول حقًّا بتعديل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم، إذ يقول فيما رُوي (4) عنه من وجوه يُسنِد (5) بعضها بعضًا: "يحمل هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدوله (6)، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (7). __________ (1) "ط": "يسبق". (2) "ت": "تتوفر"، خلاف الأصل. (3) حكاه ثور بن يزيد وبشر الحافي من كلام المسيح عليه السلام. انظر: حلية الأولياء (6/ 97) و (8/ 380). (4) "ب، ك، ط": "يروي". (5) "ك، ط": "شدّ". (6) "ك، ط": "عدول". (7) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 146 - 147)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38 - 39) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو حديث مرسل. وقد روي مرفوعًا ولا يثبت. وجاء الحديث عن جماعة من الصحابة ولا يثبت شيء منها. (ز).
(2/771)
وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه (1) "الردّ على الجهمية": "الحمد للَّه الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصّرون بنور اللَّه أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه (2)، ومن ضالٍّ جاهلٍ قد هدَوه. فما أحسن أثرهم على النَّاس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفُون عن كتاب اللَّه تأويل الجاهلين، وتحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلِين" (3). وذكر ابن وضَّاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه (4). الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته الذين تأمَنُ (5) بهم السبُل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذِلّ بهم الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتُقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقام بهم حكمُ الكتاب والسنَّة، وتُطفأ بهم نيران البدع والضلالة. وهؤلاء هم (6) الذين تُنصَب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عزَّ وجلَّ يوم القيامة فيكونون عليها. والولاةُ الظلَمة قد صهرهم حرُّ الشمس، وقد بلغ منهم العرَقُ مبلغه، وهم يحملون أثقال مظالمهم __________ (1) زاد بعده في "ك، ط": "في". (2) "ط": "أجبروه"، تحريف. (3) الردّ على الجهمية (85). (4) البدع والنهي عنها (3). (5) "ط": "تؤمن". (6) "هم" ساقط من "ط".
(2/772)
العظيمة على ظهورهم الضعيفة في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنةٍ، ثمَّ يُرى (1) سبيل أحدهم إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار. قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المقسطون عند اللَّه (2) على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وَلُوا" (3). وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أحبَّ الخلق إلى اللَّه وأقربَهم منزلةً منه (4) يوم القيامة إمامٌ عادل، وإنَّ أبغض الخلق إلى اللَّه وأبعدَهم منه منزلةً يوم القيامة إمامٌ جائر" (5) أو كما قال. وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلّهم اللَّه في ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه. وكما كان الناس في ظلّ عدلهم في الدنيا، كانوا هم (6) في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلًّا بظلٍّ جزاءً وِفاقًا. ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أنَّ أهل السماوات والأرض والطيرَ في الهواءِ يصلّون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة __________ (1) قراءة "ف": "ترى". (2) "عند اللَّه" ساقط من "ط". (3) أخرجه مسلم في الإمارة (1827) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (4) "ط": "منه منزلة". (5) أخرجه أحمد (11525)، والترمذي (1329) والبيهقي في السنن (10/ 88) وغيرهم. قال الترمذي: "حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه". قال السخاوي في تخريج أحاديث العادلين (127): "ومدار طرقه كلها على عطية العوفي، وهو ضعيف". وضعفه أيضًا العراقي، وحسّنه ابن القطان. انظر: نصب الراية (4/ 68). (ز). (6) "هم" ساقط من "ك، ط".
(2/773)
الظلم يلعنهم مَن بين السماء (1) والأرض حتَّى الدوابّ (2) والطير. كما أنَّ معلِّم الناسِ الخيرَ يصلّي عليه اللَّه وملائكته، وكاتمُ العلم والهدى الذي أنزله اللَّه وحاملُ أهله على كتمانه يلعنه اللَّه وملائكته ويلعنه اللاعنون. فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلّها وأشرفها: أن يكون الوالي والإمام على فراشه، وغيرُه (3) يعمل بالخير، وتكتَب الحسناتُ في صحائفه! فهي متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره! فأين هذا من صفة (4) الغاشّ لرعيته، الظالم لهم، الذي (5) قد حرَّم اللَّه عليه الجنَّة وأوجب له النار! ويكفي في فضله وشرفه أنَّه يكفّ عن اللَّه دعوة المظلوم، كما في الآثار: "أيها الملِك المسلَّط المغرور، إنِّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكفّ عنِّي دعوةَ المظلوم، فإنِّي لا أحجبُها ولو كانت من كافر" (6). فأين من هو نائم، وأعينُ العباد ساهرةٌ تدعو اللَّه له؛ وآخرُ أعينُهم ساهرةٌ تدعو عليه؟ __________ (1) "ك، ط": "السماوات". (2) "ف": "الذباب"، تحريف. (3) "غيره" ساقط من "ط". (4) "صفة" ساقط من "ط". (5) "الذي" ساقط من "ك، ط". (6) أخرجه ابن حبان (361)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 222) من حديث أبي ذر مطولًا. وفيه إبراهيم بن هشام الغساني. قال أبو حاتم: كذاب. الجرح والتعديل (2/ 143). وجاء من طرق أخرى عن أبي ذر مختصرًا، وكلها لا تثبت. راجع تحقيق المسند (35/ 432 - 433)، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/ 79 - 81). (ز).
(2/774)
الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل اللَّه، وهم جند اللَّه الذين يقيم بهم دينه (1)، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين. وهم الذين يقاتلون أعداءَ اللَّه ليكون الدين كله للَّه، وتكون كلمة اللَّه هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبَّةِ اللَّه ونصرِ دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه. وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم التي يعلَمونها، وإن تناءتْ ديارهم (2)، ولهم مثل أجور مَن عَبَد اللَّه (3) بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنَّهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزَّل المتسبّبَ منزلةَ الفاعل التامّ في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكلّ منهما بتسبّبه مثلُ أجر من اتَّبعه (4). وقد تظافرت (5) آيات الكتاب وتواترت نصوص السنَّة على الترغيب في الجهاد، والحضِّ عليه، ومدحِ أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربِّهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات. ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} [الصف/ 10] فتشوفت (6) النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدالُّ عليها ربُّ العالمين العليم الحكيم، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها، فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ __________ (1) "ف": "يقيم بهم اللَّه دينه"، خلاف الأصل. (2) "ط": "باتوا في ديارهم"، تحريف. (3) "ب": "أجورهم من عند اللَّه"، تحريف. (4) "ك، ط": "تبعه". (5) "ك، ط": "تظاهرت". (6) ضبطت في الأصل بالفاء، وكذا في "ب". وفي "ف، ك، ط": "فتشوّقت" بالقاف.
(2/775)
تَعْلَمُونَ (11)} يعني أنَّ الجهاد خير لكم من قعودكم طلبًا (1) للحياة والسلامة. فكأنَّها (2) قالت: فما لنا في هذا (3) الجهاد من الحظّ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} مع المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فكأنّها (4) قالت: هذا في الآخرة فماذا لنا (5) في الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها وتسييرًا إلى ربِّها، وما ألطف موقعها من قلب كلّ محبّ! وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشَه (6) حين تباشره معانيها! فنسأل اللَّه من فضله إنَّه جوادٌ كريم. ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة/ 19 - 22]. فأخبر سبحانه أنَّه لا يستوي عنده عُمَّار المسجد الحرام -وهم عُمَّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن- وأهلُ سقاية الحاج، لا يستوون __________ (1) "طلبًا" ساقط من "ط". (2) "ف": "وكأنها"، قراءة محتملة. (3) "هذا" ساقط من "ط". (4) "ف": "وكأنها"، قراءة محتملة. (5) "ب، ك، ط": "فما لنا". (6) "ف": "عيشته"، خلاف الأصل.
(2/776)
هم وأهل الجهاد في سبيله (1). وأخبر أنَّ المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنَّهم هم الفائزون، وأنَّهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنَّات. فنفي التسوية بين المجاهدين وعمَّار المسجد الحرام بأنواع العبادة (2)، مع ثنائه على عُمَّاره بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة/ 18]. فهؤلاء هم عمَّار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند اللَّه منهم. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء/ 95 - 96]. فنفى سبحانه التسويةَ بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثمَّ أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة، ثمَّ أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات. وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من النَّاس، من جهة أنَّ القاعدين الذين فُضِّل عليهم المجاهدون بدرجة إن كانوا هم أولي الضرر، والقاعدون الذين فُضِّل عليهم المجاهدون (3) بدرجات هم غير أُولي الضرر؛ فيكون (4) المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا، وعلى __________ (1) "ك، ط": "في سبيل اللَّه". (2) "ط": "مع أنواع العبادة". (3) "بدرجة إن كانوا. . ." إلى هنا ساقط من "ب". (4) سياق الكلام في "ط": "من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون =
(2/777)
هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين، وهم لا يستوون هم (1) والمجاهدون أصلًا؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحدًا. فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر ما قاله هؤلاء في الآية، ثمَّ نذكر (2) ما يزيل الإشكال بحمد اللَّه. فاختلف القرَّاء في إعراب "غير"، فقرئ رفعًا ونصبًا، وهما في السبعة (3). وقرئ بالجرّ في غير السبعة، وهي قراءة أبي حيوة (4). فأمَّا قراءة النصب فعلى الاستثناء؛ لأنّ "غيرًا" تعرب في الاستثناء إعرابَ الاسم الواقع بعد إلا، وهو النصب هنا (5)، هذا هو الصحيح. وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أي: لا يستوي القاعدون غيرَ مضرورين، أي: لا يستوون في حال صحَّتهم هم والمجاهدون (6). __________ = بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذين فضل عليهم أولو الضرر فيكون. . . ". (1) "هم" ساقط من "ك، ط". (2) "ما قاله هؤلاء. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (3) قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب. والباقون بالرفع. انظر: الاقناع (631). (4) إعراب القرآن للنحاس (1/ 483). وأبو حيوة: شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن المقرئ. توفي سنة 203 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 331). وقال الزجاج: "والجرّ وجه جيّد إلّا أنّ أهل الأمصار لم يقرأوا به وإن كان وجهًا، لأنّ القراءة سنة متبعة". معاني القرآن (93/ 2). وذكر ابن عطية أنها قراءة الأعمش أيضًا. المحرّر الوجيز (2/ 97). (5) "هنا" ساقط من "ط". والنصب على الاستثناء قول الأخفش. انظر: معاني القرآن له (1/ 245). (6) انظر: معاني الفرّاء (1/ 283)، ومعاني الزجّاج (2/ 93)، وقد ذكرا جواز الوجهين.
(2/778)
والاستثناء أصحّ، فإنَّ "غيرًا" (1) لا تكاد تقع حالًا في كلامهم إلا مضافةً إلى نكرة، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة/ 173]، الأنعام/ 145، النحل/ 115]، وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة/ 1]، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مرحبًا بالوفد غيرَ خزايا ولا ندامى" (2). فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعةً لما قبلها، كقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة/ 7]. ولو قلت: "مرحبًا بالوفد غيرِ الخزايا ولا الندامى". لجررتَ "غيرًا" (3). هذا هو المعروف من كلامهم. والكلام في عدم تعرّف "غير" بالإضافة وحسنِ وقوعها إذ ذاك حالًا، له مقام آخر. وأمَّا الرفع فعلى النعت للقاعدين، هذا هو الصحيح. وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدأ محذوف، تقديرُه: الذين هم غير أولي الضرر (4). والذي حمله على هذا ظنُّه أنَّ غيرًا لا تقبل التعريف بالإضافة، فلا تجري صفةً للمعرفة. وليس مع من ادَّعى ذلك حجَّةٌ يعتمد عليها سوى قولهم (5): إنَّ غيرًا توغَّلت في الإبهام فلا تتعرَّف بما تضاف إليه. وجواب هذا: أنَّها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام __________ (1) "ط": "غير". (2) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، أخرجه البخاري في كتاب الايمان (53) وغيره. ومسلم في الايمان (17). (3) "ط": "غير". (4) لا أدري من أين نقل المؤلف قول أبي إسحاق هذا، فإنه لم يذهب إليه في كتابه، بل أعرب على النعت، وفسّر معنى الآية هذا التفسير، وهذا أحد الوجهين عنده في الرفع والوجه الثاني هو الاستثناء. انظر: معاني القرآن له (2/ 92). (5) "قولهم" ساقط من "ط".
(2/779)
لتعيينها ما تضاف إليه (1). وأمَّا قراءَة الجرّ ففيها وجهان أيضًا، أحدهما -وهو الصحيح- أنَّه نعت للمؤمنين. والثاني -وهو قول المبرّد- أنَّه بدل منه، بناءً على أنَّه نكرة فلا تُنعت به المعرفة (2). وعلى الأقوال كلّها فهو مُفهِم (3) معني الاستثناءِ، وأنَّ نفيَ التسوية غيرُ مسلَّط على ما أضيف إليه "غير" (4). وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (5) هو مبيّن لمعني نفي المساواة. قالوا: والمعنى فضَّل اللَّه المجاهدين على القاعدين (6) من أولي الضرر درجةً واحدةً لامتيازه عنه (7) بالجهاد بنفسه وماله. ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: المجاهد والقاعد المضرور، لاشتراكهم (8) في الإيمان. __________ (1) انظر: بدائع الفوائد (432). (2) "البدليّةِ" أحد الوجوه التي ذكرها المبرّد في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة/ 7]. وذكر منها أيضًا أنها نعت "للذين، لأنّها مضافة إلى معرفة" المقتضب (4/ 423). هذا مع قوله في ص (288) بأن غيرًا لا تتعرّف بالإضافة. وانظر في الردّ على كون "غير" بدلًا: بدائع الفوائد (429). (3) "ط": "مفهوم"، تحريف. (4) "ط": "غيره"، خطأ. (5) "بأموالهم وأنفسهم" ساقط من الأصل وغيره. (6) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "المجاهد على القاعد". غيّره لأجل الضمائر الآتية المفردة. (7) أي: لامتياز الفريق الأول عن الفريق الثاني. (8) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "لاشتراكهما".
(2/780)
قالوا: وفي هذا دليل على تفضيل الغنيّ المنفِق على الفقير، لأنَّ اللَّه سبحانه أخبر أنَّ المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. وأمَّا الفقير فنفى عنه الحرَجَ بقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة/ 92] فأين مقام من حَكمَ له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرَج! قالوا: فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد. وأمَّا القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/ 95 - 96]. وقوله {دَرَجَاتٍ} قيل: هو نصب على البدل من قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} (1) وقيل: تأكيد له وإن كان بغير لفظه؛ لأنَّه هو في المعنى (2). قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة (3). وقال ابن زيد: الدرجات التي فُضِّل بها المجاهدُ على القاعد سبع، وهي التي ذكرها اللَّه تعالى في براءة إذ يقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه خمس. ثمَّ قال {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة/ 120 - 121]، __________ (1) من قوله تعالى: {وَكاَنَ اللَّهُ غَفُورا رًحِيمًا} إلى هنا سقط من "ف". (2) انظر: معاني الزجاج (2/ 92). (3) تفسير الطبري (9/ 97).
(2/781)
فهاتان اثنتان (1). وقيل: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرَس الجواد المضمَّر سبعين سنة (2). والصحيح أنَّ الدرجات هي المذكورة في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (3) في صحيحه عنه (4) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "من آمن باللَّه ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإنَّ حقًّا على اللَّه أن يُدخله الجنَّة، هاجر في سبيل اللَّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال: "إنَّ في الجنة مائة درجة أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله، كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة". قالوا: وجعل سبحانه التفضيل الأوَّل بدرجةٍ فقط، وجعله ههنا بدرجاتٍ ومغفرة ورحمة، وهذا يدلّ على أنَّه تفضيل (5) على غير أولي الضرر. فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه. ولكن يبقى (6) أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقًا، فلا يبقى في تقييد __________ (1) تفسير الطبري (9/ 98). وحُضْر الفرس: عَدْوه. (2) المصدر السابق (9/ 98). (3) في كتاب الجهاد (2790). (4) "عنه" ساقط من "ك، ط". (5) "ك، ط": "يفضل". (6) "ك، ط": "بقي".
(2/782)
القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة، فإنَّه لا يستوي المجاهدون والقاعدن من أولي الضرر أيضًا. وأيضًا فإنَّ القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر، لا القاعدون الذين هم أولو الضرر. فإنَّهم لم يذكر حكمهم في الآية، بل استثناهم، وبيَّن أنَّ التفضيل على غيرهم. فاللام في "القاعدين" للعهد، والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون. وأيضًا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت (1) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إذا مرض العبدُ أو سافر كُتِبَ له من العمل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (2)، وقال: "إنَّ بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حَبَسهم العذرُ" (3). وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلَّت على أنَّ القاعدين من غير أولي الضرر عن الجهاد (4) لا يستوون هم والمجاهدون، وسكتت عن القاعدين من أولي الضرر، فلم تدل على (5) حكمهم بطريق منطوقها. ولا يدلّ مفهومها على مساواتهم للمجاهدين، بل هذا النوع منقسم إلى __________ (1) زاد في "ب": "في الصحيح". (2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه. (3) أخرجه البخاري في الجهاد (4423)، ومسلم في الإمارة (1911) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (4) "عن الجهاد" مقدّم في "ط" على "من غير أولي الضرر". (5) "القاعدين من. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط".
(2/783)
معذور من أهل الجهاد غلَبَه عذرُه وأقعده عنه، ونيته جازمةٌ لم يتخلّف عنها مقدورُها، وإنَّما أقعده العجزُ، فهذا الذي تقتضيه أدلَّة الشرع أنَّ له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية، وهذا لأنَّ قاعدة الشريعة: أنَّ العزم التامّ إذا اقترن به ما يمكن من القول (1) أو مقدّمات الفعل نزِّل صاحبُه في الثواب والعقاب منزلةَ الفاعل التامّ، كما دلَّ عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه" (2). وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه اللَّه مالًا وعلمًا، فهو يتّقي في ماله ربّه، ويصِلُ به رحمه، ويعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأحسن المنازل عند اللَّه (3). وعبدٌ رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيّته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبدٌ رزقه اللَّه مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو لا يتّقي في ماله ربّه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأسوأ المنازل عند اللَّه. وعبدٌ لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيّته، وهما في الوزر سواء" (4). فأخبر - صلي اللَّه عليه وسلم - أنَّ وزر الفاعل والناوي __________ (1) "ط": "الفعل". (2) أخرجه البخاري في الإيمان (31) وغيره، ومسلم في الفتن (2888) عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه. (3) "عند اللَّه" ساقط من "ب، ك، ط". (4) أخرجه أحمد (18031)، والترمذي (2325) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وانظر: تحقيق المسند (29/ 562 - 563). (ز).
(2/784)
الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ؛ لأنَّه أتي بالنية ومقدوره التامّ. وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته (1). وكذلك المقتول الذي سلَّ السيفَ، وإرادتُه (2) قتلُ أخيه المسلم، فقُتِل، نُزِّل منزلةَ القاتل لنيّته التامَّة التي اقترن بها مقدورُها من السعي والحركة. ومثل هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من دلَّ على خير فله مثلُ أجر فاعله" (3) فإنَّه بدلالته ونيّته نزل منزلة الفاعل. ومثله من دعا إلى هدًى فله مثلُ أجور من اتَّبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثلُ آثام من اتَّبعه (4)؛ لأجل نيَّته واقتران مقدورها بها من الدعوة. ومثله إذا جاء المصلِّي إلى المسجد ليصلِّي جماعةً، فأدركهم وقد صلَّوا، فصلَّى وحده، كُتِبَ له مثلُ أجر صلاة الجماعة بنيّته وسعيه، كما قد جاءَ مصرَّحًا به في حديث مروي (5). ومثل هذا مَن كان له وردٌ يصليه من الليل فنام، ومن نيَّته أن يقوم إليه فغلبه عنه (6) نومٌ، كُتِبَ له أجرُ وردِه، وكان نومُه عليه صدقةً (7). __________ (1) بعدها في "ك، ط": "وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته" خلط وتكرار. (2) هذه قراءة "ف، ب". وفي "ك، ط": "أراد به"، والأصل غير منقوط. (3) أخرجه مسلم في الإمارة (1893) عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه. (4) كما في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه الذي سيأتي في ص (899). (5) أخرجه أحمد (8947)، وأبو داود (564)، والنسائي (2/ 111)، والحاكم (1/ 327) (754) من حديث أبي هريرة، والحديث صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. (ز). (6) "ك، ط": "فغلب عينه". (7) نص الحديث في صحيح مسلم (747) عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
(2/785)
ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر، كتب له مثلُ يمله وهو صحيح مقيم (1). ومثله: "من سأل اللَّه الشهادة بصدقٍ بلَّغه اللَّه منازلَ الشهداء، ولو مات على فراشه" (2). ونظائر ذلك كثيرة. والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازمٌ عليه عزمًا تامًّا. فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل اللَّه، بل قد فضّل اللَّه المجاهد (3) عليه وإن كان معذورًا، لأنَّه (4) لا نية له تُلحِقه بالفاعل التامّ، كنية أصحاب القسم الأوَّل. وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث عثمان بن مظعون (5): "إنَّ اللَّه قد أوقع أجرَه على قدر نيّته" (6). فلمَّا كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقًا، ولا ينفي عنه المساواة مطلقًا. ودلالةُ المفهوم لا عمومَ لها، فإنَّ العموم إنَّما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض __________ (1) نص الحديث في صحيح البخاري (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه. (2) أخرجه مسلم في الإمارة (1909) عن سهل بن حنيف رضي اللَّه عنه. (3) "ك، ط": "المجاهدين". (4) "لأنه" سقط من "ف". (5) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فإنها قصة عبد اللَّه بن ثابت الأنصاري رضي اللَّه عنه. انظر: المصادر المذكورة في الحاشية الآتية. (6) أخرجه مالك برواية الليثي (935 - 996)، وأبو داود (3111)، والنسائي (4/ 13 - 14) وأحمد (23753)، وابن حبان (3189)، والحاكم (1/ 503) (1300)، من حديث جابر بن عتيك. والحديث صححه ابن حبان والحاكم ولم يتعقبه الذهبي. (ز).
(2/786)
الألفاظ. والدليلُ الموجِب للقول بالمفهوم لا يدلّ على أنَّ له عمومًا يجب اعتباره، فإنَّ أدلَّة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل. فأمَّا التخصيص فهو أنَّ تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص. وهذا لا يقتضي العمومَ وسلبَ حكمِ المنطوق عن جميع صور المفهوم، لأنَّ فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكمَ عن بعضها، ويثبته لبعضها، وبثبوت تفصيل (1) فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إمَّا بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق، وإمَّا في وقت دون وقت. بخلاف حكم المنطوق فإنَّه ثابت أبدًا؛ ونحو ذلك من فوائد التخصيص. وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام، فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة، فإثباته مجرد التحكم. وأمَّا التعليل فإنَّهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه، وإلا لم يكن الوصف المذكور علَّة. وهذا أيضًا لا يستلزم عموم النفي عن كلِّ ما عداه، وإنَّما غايته اقتضاؤه نفيَ الحكم المترتّب (2) على ذلك الوصف عن الصور المنتفي (3) عنها الوصفُ. وأمَّا نفيُ الحكم جملةً فلا، لجواز (4) ثبوته بوصف آخر وعلَّة __________ (1) "ف": "وبثبوت يفصل". "ب": "وثبوت تفضيل". "ك، ط": "ثبوت تفصيل" بحذف الواو. (2) "ك، ط": "المرتب". (3) "ك، ط": "المنفي". (4) "ب، ك، ط": "فلا يجوز"، تحريف جعل الكلام لا معني له.
(2/787)
أخرى، فإنَّ الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة. وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه. ومثال هذا ما نحن فيه فإنَّ (1) قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء/ 95] لا يدلّ على مساواة المضرورين للمجاهدين (2) مطلقًا من حيث الضرورة، بل إن ثبتت المساواة فإنَّها معلَّلة بوصف آخر، وهي النية الجازمة والعزم التامّ؛ والضرر المانع من الجهاد في تلك (3) الحال لا يكون مانعًا من المساواة في الأجر، واللَّه أعلم. والمقصود الكلام على طبقات الناس في الآخرة. وأمَّا النصوص والأدلّة الدّالّة على فضل الجهاد وأهله، فأكثر من أن تُذكرَ هنا. ولعلَّها (4) أن تفرد في كتاب على هذا النمط إن شاء اللَّه. فهذه الدرجات الثلاث هي درجات السبق، أعني درجة العلم والعدل والجهاد. وبها سبق الصحابة رضي اللَّه عنهم، وأدركوا مَن قبلهم، وفاتوا مَن بعدهم، واستولوا على الأمد البعيد، وحازوا قصَبات العلى. وهم (5) كانوا السبب في بلوغ (6) الإسلام إلينا وفي تعليم كلّ خير وهدى وسبب تُنال به السعادة والنجاة. وهم أعدل الأمّة فيما وَلُوه، وأعظمُها جهادًا في سبيل اللَّه. والأمة في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، __________ (1) "ط": "لأن". (2) "ك، ط": "المجاهدين". (3) "ط": "ذلك". (4) كتب في الأصل أولًا بعد "ولعلها": "تزيد على المأتين"، ثم ضرب عليها. (5) أسقطها ناسخ "ف" لظنّه أنّها مضروب عليها، وذلك محتمل. (6) "ك، ط": "وصول".
(2/788)
فلا ينال أحد منهم مسألةَ علمٍ نافعٍ إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعةً من الأرضِ آمنًا إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدًى إلا كانوا هم السبب في وصوله (1) إليه. فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف، والقلوب بالإيمان، وعمروا البلاد بالعدل، والقلوب بالعلم والهدي؛ فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة مضافًا إلى أجر أعمالهم التي اختصُّوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاء. وإنَّما نالوا هذا بالعلم، والجهاد، والحكم بالعدل؛ وهذه مراتب السبق التي يهبها اللَّه لمن يشاء من عباده. الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى النَّاس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم، من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم في مهمَّاتهم. وهم أحد الصنفين اللذين قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم: "لا حسد إلا في اثنتين (2): رجلٌ آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس، ورجلٌ آتاهُ اللَّه مالًا وسلَّطه على هَلَكتِه في الحقِّ" (3). يعني أنَّه لا ينبغي لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنَّى مثلها إلا أحد هذين. وذلك لما فيهما من النفع العام (4) والإحسان المتعدِّي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه (5)، وهذا ينفعهم بماله. "والخلق كلّهم __________ (1) "ك، ط": "وصولهم". (2) "ك، ط": "اثنين". (3) أخرجه البخاري في العلم (73) وغيره، ومسلم في صلاة المسافرين (816) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (4) "ك، ط": "منافع النفع العام". (5) "ف": "بفعله"، تحريف.
(2/789)
عيال اللَّه، وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله" (1). ولا ريبَ أنَّ هذين الصنفين من أنفع النَّاس لعيال اللَّه، ولا يقوم أمر النَّاسِ إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما. قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة/ 274]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد/ 18]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة/ 245]. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} [الحديد/ 11]. فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمّن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في اللطف (2) من صيغة الأمر. والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازي عليه أضعافًا مضاعفَة؟ __________ (1) لفظ حديث جاء عن ابن مسعود وأنس، وأسانيدهما ضعيفة. انظر: المقاصد الحسنة (200 - 201). (2) "ك، ط": "الطلب"، تحريف.
(2/790)
وسمَّى ذلك الإنفاقَ قرضًا (1) حثًّا للنفوس وبعثًا لها على البذل، لأنَّ الباذل متى علم أنَّ عين ماله يعود إليه ولا بدَّ، طوَّعت له نفسُه بذلَه، وسهُل عليه إخراجُه. فإن علم أنَّ المستقرض مليٌّ وفيٌّ محسنٌ كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه. فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه (2)، وينمّيه له، ويثمِّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمحَ وأسمحَ. فإن علم أنَّه مع ذلك كلّه يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخرَ من غير جنس القرض، وأنَّ ذلك الأجر حظٌّ عظيم وعطاءٌ كريم، فإنَّه لا يتخلَّف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشحّ أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه؛ ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها. وهذه الأمور كلّها تحت هذه الألفاظ التي تضمّنتها الآية، فإنَّه سبحانه سمَّاه قرضًا، وأخبر أنَّه هو المقترض لا قرضَ حاجةٍ ولكن قرضَ إحسانٍ إلى المقرض، واستدعاءً لمعاملته ليعرف (3) مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله، واستدعى منه معاملته به. ثمَّ أخبر عمَّا يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة. ثمَّ أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم. وحيث جاءَ هذا الإقراض (4) في القرآن قيَّده بكونه حسنًا، وذلك يجمع أمورًا ثلاثة: أحدها: أن يكون من طيِّب ماله، لا من رديئه __________ (1) "ب، ك، ط": "قرضًا حسنًا". (2) "ك، ط": "اقترضه". (3) "ك، ط": "وليعرف". (4) "ط": "القرض".
(2/791)
وخبيثه. الثاني: أن يخرجه طيبةً به نفسُه، ثابتةً عند بذله، ابتغاءَ مرضاة اللَّه. الثالث: أن لا يمنّ به ولا يؤذي. فالأوَّل يتعلَّق بالمال، والثاني يتعلَّق بالمنفِق بينه وبين اللَّه، والثالث بينه وبين الآخذ. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة/ 261]. وهذه الآية كأنَّها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرِض، ومثَّله (1) سبحانه بهذا المثل إحضارًا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبّة التي غُيِّبت في الأرض، فأنبتت سبع سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبة، حتَّى كأنَّ القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته، كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي هي (2) من الحبّة الواحدة. فينضاف الشاهد العِياني إلى الشاهد الإيماني القرآني، فيقوي إيمانُ المنفِق، وتسخو نفسه بالإنفاق. وتأمَّلْ كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل، وهي من جموع الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف؛ وجمعها على سنبلات في قوله: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف/ 43] فجاءَ بها على جمع القلَّة، لأنَّ السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}. قيل: المعنى واللَّه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، بل يختص برحمته من يشاء. __________ (1) "ط": "مثّل". (2) "هي" ساقط من "ب، ك، ط".
(2/792)
وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه، وفي صفات المنفِق وأحواله، وفي (1) شدَّة الحاجة وعظم النفع (2) وحسن الموقع. وقيل: واللَّه يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة (3). واختلف في تقدير (4) الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل اللَّه كمثل حبَّة. وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل [اللَّه] (5) كمثل باذر حبَّه، ليطابق الممثَّلُ الممثَّلَ به (6). فهنا أربعة أمور: منفِق، ونفقة، وباذر، وبَذْر، فذكر سبحانه من كلِّ شقٍّ أهمَّ قسميه، فذكر من شقّ الممثّل المنفِق، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه؛ وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شقّ الممثَّل به البَذْرَ إذ هو المحلّ الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأنَّ الغرض (7) لا يتعلَّق بذكره. فتأمَّل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمّن لغاية البيان. وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط. ثمَّ ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقَين لسياقها، وهما "الواسع العليم". فلا يستبعدْ العبد هذه المضاعفة، ولا يضِق (8) عنها __________ (1) "ط": "ولصفات المنفق وأحواله في. . . "، خطأ. (2) "ف، ك، ط": "عظيم النفع". (3) انظر: تفسير الطبري (5/ 515)، والكشاف (1/ 311). (4) "ط": "تفسير"، خطأ. (5) سقط لفظ الجلالة من الأصل سهوًا. (6) هذه قراءة "ف"، وفي "ب، ك، ط": "للممثّل به". (7) "ك، ط": "القرض"، تصحيف. (8) "ف، ك، ط": "يضيق"، قراءة محتملة.
(2/793)
عَطَنُه, فإنَّ المضاعِف سبحانه واسع العطاء، واسع الغني، واسع الفضل. ومع ذلك فلا يظنَّ أنَّ سعة عطائه تقتضي حصولها لكلِّ منفِق، فإنَّه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقّها ولا هو أهل لها؛ فإنَّ كرمه -سبحانه- وفضله لا يناقض حكمتَه، بل يضع فضله مواضعه بسعته (1) ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه. ثمَّ قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262]. هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله، أي: في مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أهمّها (2) سبيل الجهاد. فـ "سبيل اللَّه" (3) خاصّ وعامّ، والخاصّ جزءٌ من السبيل (4) العامّ. وأن لا يتبع صدقتَه بمن ولا أذى، فالمنّ نوعان: أحدهما: مَنٌّ بقلبه من غير أن يصرّح به بلسانه. وهذا وإن لم يُبطل الصدقة فهو يمنعه شهودَ (5) منَّة اللَّه عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه؛ فللّه المنَّة عليه من كلِّ وجه، فكيف يشهد قلبُه منَّةً لغيره؟ __________ (1) "ك، ط": "لسعته". (2) "ط": "أنفعها"، تحريف. (3) "ط": "وسبيل اللَّه". (4) "السبيل" سقط من "ف" سهوًا. (5) "ك": "فهو من نقصان شهود". وكذا في "ط". وفيها: "وهذا إن لم يبطل. . . "!
(2/794)
والنوع الثاني: أن يمنّ عليه بلسانه، فيعتدَّ (1) على من أحسن إليه بإحسانه، ويُريَه أنَّه اصطنعه وأنَّه أوجب عليه حقًّا، وطوَّقه (2) منَّةً في عنقه، ويقول (3): أما أعطيتُك كذا وكذا؟ ويعدّ (4) أياديه عنده. قال سفيان: يقول: أعطيتك وأعطيتك (5)، فما شكرتَ! وقال عبد الرحمن بن زيد (6): كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلًا شيئًا، ورأيتَ أنَّ سلامك يثقل عليه، فكُفَّ سلامَك عنه. وكانوا يقولون: إذا صنعتم (7) صنيعةً فانْسَوها، وإذا أُسدِي (8) إليكم صنيعةٌ فلا تنسَوها. وفي ذلك قيل: وإنَّ امرأ أسدَى إليَّ صنيعةً ... وذَكَرنيها مرَّةً لَبخيلُ (9) وقيل: "صنوانِ: مَن منَحَ سائلَه ومَنّ، ومن منع نائلَه وضَنَّ" (10). وحظر اللَّه سبحانه على عباده المنّ بالصنيعة واختصَّ به صفة لنفسه؛ __________ (1) "ك": "فيعيد". "ط": "فيعتدي". تحريف. وقارن بكلام صاحب الكشاف (1/ 311). (2) "ف": "فطوّقه". والراجح ما أثبتنا من غيرها. (3) "ط": "فيقول". (4) "ك": "يعيد"، "ط": "يعدّد". (5) "وأعطيتك" ساقطة من "ك"، ولعل ناسخها ظنّها مكررة. وكذا في "ط". وفي "ب" وردت ثلاث مرات، وفي الثالثة كتب ناسخها علامة "صح". وانظر قول سفيان في تفسير البغوي (1/ 326). (6) "ك، ط": "زياد"، تحريف. وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وانظر قول أبيه هذا في: تفسير الطبري (5/ 518)، والمحرر الوجيز (1/ 356). (7) "ط": "اصطنعتم". وانظر جزءًا من هذا القول في: الكشاف (1/ 310). (8) "ط": "أسديت". (9) "ب، ك، ط": "أهدى إليّ". وقد أنشده الزمخشري دون عزو في: الكشاف (1/ 310)، وربيع الأبرار (4/ 359)، والقافية فيهما: "للئيم". (10) الكشاف (1/ 311).
(2/795)
لأنَّ منَّ العباد تكدير وتعيير، ومنَّ اللَّه سبحانه إفضال وتذكير. وأيضًا: فإنَّه هو المنعِم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعِم على عبده في الحقيقة. وأيضًا: فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن تَمُنّ عليه، ولا تصلح العبودية والذلّ إلا للَّه. وأيضًا: فالمنَّة أن يشهد المعطي أنَّه هو ربّ الفضل والإنعام وأنَّه وليّ النعمة ومُسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا اللَّه. وأيضًا: فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفِّعًا على الآخذ، مستعليًا عليه، غنيًّا عنه، عزيزًا؛ ويشهد ذلَّة الآخذ (1) وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد. وأيضًا: فإنَّ المعطي قد تولَّى اللَّهُ ثوابَه، وردَّ عليه أضعافَ ما أعطى، فبقي عوضُ ما أعطى عند اللَّه، فأيّ حقٍّ بقيَ له قِبَلَ الآخذ؟ فإذا امتنَّ عليه فقد ظلمه ظلمًا بيِّنًا، وادَّعى أنَّ حقَّه في قِبَله (2). ومن هنا -واللَّه أعلم- بطلت صدقته بالمنّ، فإنَّه لما كانت معاوضته ومعاملته مع اللَّه، وعوضُ تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوضَ من الآخذ والمعاملة عنده، فمنَّ عليه بما أعطاه = أبطل معاوضته مع اللَّه ومعاملته له. فتأمَّلْ هذه النصائح من اللَّه لعباده، ودلالتها (3) على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنَّه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته، لا إله غيره ولا ربَّ سواه. ونبَّه بقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة/ 262] على __________ (1) "ك، ط": "ذلّ الآخذ". (2) "ط": "قلبه" تحريف. (3) "ط": "دلالته".
(2/796)
أنَّ المنَّ والأذى -ولو تراخى عن الصدقة، وطال زمنه- ضرَّ بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق. ولو أتى بالواو وقال: ولا يُتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال. وإذا كان المنّ والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق مانعًا (1) من الثواب، فالمقارن أولى وأحرى. وتأمَّل كيف جرَّد الخبرَ هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 262]، وقرنه بالفاءِ في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 274]. فإنَّ الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفهِم معنى الشرط والجزاءِ وأنَّ الخبر (2) مستحَقّ بما تضمّنه المبتدأ من الصلة أو الصفة. فلمَّا كان المقام (3) هنا يقتضي بيان حصر المستحِقّ للجزاءِ دون غيره جرّد الخبرَ عن الفاءِ، فإنَّ المعنى أنَّ الذي ينفق ماله للَّه، ولا يمنّ ولا يؤذي، هو الذي يستحقّ الأجر المذكور، لا الذي ينفق لغير اللَّه، ولا من يمنّ (4) ويؤذي بنفقته. فليس المقام مقامَ شرط وجزاءٍ، بل مقام بيان للمستحِقّ من غيره (5). وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرًّا وعلانيةً، فذكر عمومَ الأوقات وعموم الأحوال (6)، فأتى بالفاءِ في الخبر ليدلّ على أنَّ __________ (1) في الأصل: "مانع" بالرفع. (2) "ط": "وأنّه". (3) "المقام" ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "ويمن" بإسقاط "لا من". (5) "ب": "المستحق دون غيره". "ك، ط": "دون غيره". (6) "ف": "الأقوال"، سهو.
(2/797)
الإنفاق في أيّ وقت وُجِدَ من ليل أو نهار، وعلى أيّ حالةٍ وُجِد من سرّ أو علانية (1)، فإنَّه سبب للجزاءِ على كل حالِّ. فلْيبادر إليه العبدُ، ولا ينتظر به غيرَ وقته وحاله، فلا يؤخّر (2) نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقتَ السرّ، ولا بنفقة السرّ وقت العلانية؛ فإنَّ نفقته في أيّ وقت وعلى أيّ حال وُجِدتْ سببٌ لأجره وثوابه. فتدبَّر هذه الأسرار في القرآن، فلعلَّك لا تظفر بها فيما يمر بك من التفاسير (3). والمنَّة والفضل للَّه وحده لا شريك له. ثمَّ قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة/ 263]. فأخبر سبحانه أنَّ القولَ المعروفَ -وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره- والمغفرة -وهي (4) العفو عمَّن أساءَ إليك- خيرٌ من الصدقة المقرونة (5) بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة؛ فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقترنة (6) بما يبطلها، ولا ريب أنّ حسنتين خير من حسنة باطلة. __________ (1) "ب، ك، ط": "وعلانية". (2) "ك، ط": "ولا يؤخر". (3) "ك": "بها تمرّ. . . ". "ط": "بها تمرّ بك في التفاسير". (4) "ف": "هو"، سهو. (5) "المقرونة" ساقط من "ك، ط". (6) "ب، ك، ط": "مقرونة".
(2/798)
ويدخل في هذا القول المعروف الردُّ الجميلُ على السائل، والعِدة الحسنة، والدعاءُ الصالح له (1). ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعضَ الجفوة والأذى (2) بسبب ردّه، فيكون عفوه عنه خيرًا (3) من أن يتصدّق عليه ويؤذيه. هذا على المشهور من القولين في الآية. والقول الثاني: أنَّ المغفرة من اللَّه، أي: مغفرةٌ لكم من اللَّه بسبب القول المعروف والردّ الجميل خيرٌ من صدقة يتبعها أذى. وفيها قول ثالث. أي: مغفرةٌ وعفوٌ من السائل إذا رُدَّ وتعذَّر المسؤول خيرٌ من أن ينال منه (4) صدقةً يتبعها أذى (5). وأصح (6) الأقوال هو الأوَّل، ويليه الثاني. والثالث ضعيف جدًّا، لأنَّ الخطاب إنَّما هو للمنفِق المسؤول، لا للسائل الآخذ. والمعنى أنَّ قول المعروف له والتجاوز والعفو خيرٌ لك من أن تَصدَّقَ (7) عليه وتؤذيَه. ثمَّ ختمَ الآية بصفتين مناسبتين لما تضمّنته، فقال: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة/ 263]. __________ (1) "ويدخل في هذا. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) زاد في "ط": "له". (3) وقع في الأصل: "خير" بالرفع، وهو سهو، وكذا في "ف، ك". (4) "ك، ط": "بنفسه"، تحريف. (5) انظر الأقوال الثلاثة في الكشاف (1/ 312). (6) "ب، ك، ط": "أوضح"، تحريف. (7) "ط": "تتصدق".
(2/799)
فيه معنيان: أحدهما: أنَّ اللَّه غنيٌّ عنكم، لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنَّما الحظّ الأوفر لكم في الصدقة، فنفعُها عائدٌ إليكم (1)، لا إليه سبحانه. فكيف بمنفقٍ (2) يمنُّ بنفقته ويؤذي بها (3) مع غنى اللَّه التام عنها وعن كلِّ ما سواه؟ ومع هذا فهو حليمٌ، إذ لم يعاجل المانَّ المؤذيَ (4) بالعقوبة. وفي ضمن هذا الوعيدُ له (5) والتحذيرُ. والمعنى الثاني: أنَّه سبحانه مع غناه التامّ من كلِّ وجه، فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة؛ فكيف يؤذي أحدكم بمنّه وأذاه، مع قلَّة ما يعطي ونزارتِه وفقرِه؟ ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة/ 264]. فتضمَّنت هذه الآية الإخبار بأنَّ المنّ والأذى يحبط (6) الصدقة، وهذا دليل على أنَّ الحسنة قد تُحبَط بالسيّئة، مع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ __________ (1) "ب، ك، ط": "عليكم". (2) محرّف في "ك" وساقط من "ط". (3) "بها" ساقط من "ك، ط". (4) "المؤذي" ساقط من "ب، ك، ط". (5) "له" ساقط من "ك، ط". (6) "ف": "محبط". وفي الأصل كما أثبتنا، وكذا في "ب، ك، ط".
(2/800)
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات/ 2]. وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في أوَّل هذه الرسالة، فلا حاجة إلى إعادته (1). وقد يقال: إنَّ المنَّ والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنَّه ليس في اللفظ ما يدلّ على هذا التقييد، والسياقُ يدلّ على إبطالها (2) به مطلقًا. وقد يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر يدل على أنَّ المنَّ والأذى المبطِل هو المقارِن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإنَّ الرياءَ لو تأخَّر عن العمل لم يُبطله. ويجابُ عن هذا بجوابين: أحدهما: أنَّ التشبيه وقع في الحال التي يُحبَط بها العمل، وهي حال المرائي والمانّ المؤذي في أنَّ كل واحدٍ منهما يُحبط العمل. الثاني: أنَّ الرِّياء لا يكون إلا مقارنًا للعمل؛ لأنَّه "فِعال" منَ الرؤية. أي: صاحبُه (3) يعمل ليرى النَّاسُ عملَه فلا يكون متراخيًا. وهذا بخلاف المنّ والأذى فإنَّه يكون مقارنًا ومتراخيًا، وتراخيه أكثر من مقارنته. وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ} إمَّا أن يكون المعني: كإبطال الذي ينفق، فيكون شبَّه الإبطال بالإبطال؛ أو المعنى: لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاءَ النَّاس، فيكون تشبيهًا للمنفِق بالمنفِق. وقوله: {فَمَثَلُهُ} أي: مثل (4) هذا المنفق الذي قد بطل ثوابُ نفقته __________ (1) انظر ما سبق في ص (537). (2) "ف": "إبطاله"، سهو. (3) "ك": "التي صاحبه". "ط": "التي صاحبها"، تحريف. (4) "ف": "فمثل"، سهو.
(2/801)
{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس. وفيه قولان: أحدهما: أنَّه واحد، والثاني: جمع صفوانة (1). {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره. وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنَّه تضمّن (2) تشبيه قلب هذا المنفِق للرياء (3) الذي لم يصدر إنفاقُه عن إيمانٍ باللَّه واليوم الآخر بالحجر لشدَّته وصلابته وعدم الانتفاع به. وتضمَّن تشبيه ما علِق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علِق بذلك الحجر. والوابل الذي أزال ذلك الترابَ عن الحجر وأذهبه (4) بالمانع الذي أبطل صدقَة هذا (5) وأزالها، كما يُذهب الوابلُ الترابَ الذي على الحجر فيتركه صلدًا؛ فلا يقدر المنفق على شيءٍ من ثوابه لبطلانه وزواله. وفيه معني آخر، وهو أنَّ المنفِق لغير اللَّه هو في الظاهر عامل عملًا يترتَّب عليه الأجر، ويزكو له كما تزكو الحبَّة التي إذا بُذرت في التراب الطيِّب أنبتت سبعَ سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبَّة. ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموّه وزكائه، كما أنَّ تحت التراب حجرًا (6) يمنع من نبات ما يبذَر من الحبّ فيه، فلا يُنبت ولا يُخرج شيئًا. __________ (1) "ك، ط": "صفوة"، تحريف. وانظر: تفسير الطبري (5/ 523). (2) "ك، ط": "يتضمن". (3) "ك، ط": "المنفق المرائي". (4) هذه قراءة "ف". وفي غيرها: "فأذهبه". (5) "ك، ط": "صدقته". (6) في الأصل: "حجر" بالرفع، وهو سهو. وكذا في النسخ الأخري. وفي "ط" كما أثبتنا.
(2/802)
ثمَّ قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة/ 265]. وهذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق، فإنَّ ابتغاء مرضاته هو غاية الإخلاص (1)، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل. فإنَّ المنفِق تعترضه (2) عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مَثلُه ما ذكر (3) في هذه الآية: إحداهما: طلبُه بنفقته محمدةً أو ثناءً أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر من المنفقين. والآفة الثانية: ضعفُ نفسه بالبذل (4) وتقاعسها وتردّدها: هل تفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة اللَّه، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإنَّ تثبيتَ النفس تشجيعُها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها. وطلب مرضاة اللَّه إرادة وجهه وحده، وهذا (5) إخلاصها. فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنَّة، وهي: البستان الكثير الأشجار، فهو مجتنّ بها أي: مستتر، ليس قاعًا فارغًا. والجنَّة __________ (1) "غاية" ساقط من "ب، ك، ط". (2) هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "يعترضه". (3) "ك، ط": "ذكره". (4) "بالبذل" ساقط من "ك، ط". (5) "ف": "وفي هذا"، سهو الناسخ.
(2/803)
بربوة -وهو المكان المرتفع- لأنَّها (1) أكمل من الجنَّة المستفلة (2) التي بالوِهاد (3) والحضيض، لأنَّها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحيةً للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضجَ ثمرًا وأطيبه وأحسنه وأكثره. فإنَّ الثمار تزداد طيبًا وزكاءً بالرياح (4) والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال. وإذا كانت الجنَّة بمكان مرتفع لم يُخشَ عليها إلا من قلَّة الشُّرب (5)، فقال تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة/ 265]، وهو المطر الشديد العظيم القطر (6)، فأدَّت ثمرتها، وأعطت بركتها، فأخرجت ضعفَي ما يثمر غيرُها، أو ضعفَي ما كانت تثمر، بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقرَّبين. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة/ 265] وهو (7) دون الوابل، فإنَّه (8) يكفيها، لكرم منبتها وطيب مغرسها، تكتفي (9) في إخراج بركتها بالطلّ. وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة، وهم درجات عند اللَّه. فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل __________ (1) "ط": "فإنها". (2) "ب، ك": "المستقلة"، تصحيف. وهو ساقط من "ط". (3) "ف": "كالوهاد" ورسمها في الأصل يشبه ذلك، ولكن الصواب ما أثبتنا من غيرها. وفي "ب": "هي بالوهاد". (4) "بالرياح" سقطت من "ف" سهوًا. (5) "ك، ط": "قلة الماء والشراب"! (6) "ك، ط": "القدر"، تحريف. (7) "ط": "فهو"، خطأ. (8) "ك، ط": "فهو". (9) كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "فتكتفي".
(2/804)
والنهار سرًّا وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وأصحاب الطلّ مقتصدوهم. فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنَّة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة (1) بالوابل والطلّ. وكما أنَّ كلّ واحد من المطرين يوجب زكاءَ أُكُل الجنَّة ونموّه (2) بالأضعاف، فكذلك نفقتهم -كثيرة كانت أو قليلة- بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة اللَّه والتثبيت (3) من نفوسهم، فهي زاكية عند اللَّه نامية مضاعفة. واختلف في الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائدًا عليه، وضعفه مثله. وقيل: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، كلَّما زاد ضعفًا زاد مثلًا. والذي حمل هذا القائلَ على ذلك فرارُه من استواء دلالة المفرد والتثنية. فإنَّه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا ضُمَّ (4) إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف. فلو قيل لهما "ضعفان" لم يكن فرق بين المفرد والمثنى؛ فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل. ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه ثلاثة أمثال مضافة إلى الأصل، وهكذا أبدًا. والصواب أنَّ الضعفين هما المثلان فقط: الأصل ومثله. وعليه يدلّ قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة/ 265] أي: مثلين، وقوله: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (5) [الأحزاب/ 30] أي: مثلين. __________ (1) "والقليلة" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "ونحوه"، تحريف. وفي "ط": "زكاء ثمر الجنة. . . ". (3) كلمة "والتثبيت" كأنها مضروب عليها، ولذلك أسقطها ناسخ "ف". ولكن يبدو أنّ المؤلف كتب كلمة ثم أصلحها، وقد انتشر الحبر أيضًا. (4) "ط": "زاد"! (5) رسم الآية في "ف": "يُضعَّف"، وهي قراءة أبي عمرو. انظر: الإقناع (737) =
(2/805)
ولهذا قال في المحسنات (1) {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب/ 31]. وأمَّا ما توهّموه من استواء دلالة المفرد والتثنية، فوهم منشؤه ظنُّ أنَّ الضعف هو المثل مع الأصل، وليس كذلك. بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان (2). واللَّه أعلم. واختلف في رفع (3) قوله: {فَطَلٌّ}. فقيل: مبتدأ (4) خبره محذوف، أي: فطلٌّ (5) يكفيها، وقيل: خبر مبتدؤه محذوف، فالذي يُرويها ويُصيبها طلّ (6). والضمير في {أَصَابَهَا} إمَّا أن يرجع إلى الجنَّة أو إلى الربوة، وهما متلازمان. ثمَّ قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} [البقرة/ 266]. قال الحسن: "هذا مثلٌ قلَّ -واللَّه- من يعقله من الناس. شيخ كبير ضعُفَ جسمُه، وكثُر (7) صبيانُه، أفقرُ ما كان إلى جنَّته، وإنَّ أحدكم __________ = ولم ينقط حرف المضارع في الأصل. وهذه الآية ساقطة من "ب". (1) "ك، ط": "الحسنات"، تحريف. (2) وانظر: اللسان (ضعف 9/ 204 - 206). (3) "ط": "رافع". (4) "ك، ط": "هو مبتدأ". (5) ط: "وطلّه"، تحريف. (6) الأول قول المبرد، والثاني قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (1/ 348) والمحرر الوجيز (1/ 360). (7) "ب": "كثير".
(2/806)
-واللَّه- أفقرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا (1). وفي صحيح البخاري (2) عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فيم ترون (3) هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (4) [البقرة/ 266]؟ قالوا: اللَّه أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: قل يا ابن أخي ولا تحقِرْ بنفسِك (5). قال ابن عباس: ضُرِبت مثلًا لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل عمل بطاعة اللَّه، ثمَّ بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتَّى أغرق أعماله. فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي، وألطف موقعًا؛ كما ترى غيرك يفعل فعلًا قبيحًا فتقول: أيفعل هذا عاقل؟ أيفعل (6) هذا من يخاف اللَّه والدار الآخرة؟ وقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمّنه معنى الإنكار العامّ، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقال: __________ (1) الكشاف (1/ 314). (2) كتاب التفسير (4538). (3) "ك": "هم يرون" وصحح في الحاشية. وكذا كان في نسخة الناشر فغيّر ما قبله: "سأل عمر يومًا أصحاب. . . ". (4) "ك، ط": ". . . من نخيل". (5) كذا في الأصل مضبوطًا بكسر السين، وكذا في "ف، ك". وفي "ب": "نفسَك"، وكذا في الصحيح. (6) "ك، ط": "لا يفعل" في هذه الجملة والجملة السابقة، وهو خطأ.
(2/807)
أتودّون (1). وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ} أبلغ في هذا (2) الإنكار من لو قيل: أيريد، لأنَّ محبَّة هذه الحال (3) المذكورة وتمنِّيها أقبح وأنكر من مجرَّد إرادتها. وقوله: {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خصَّ هذين النوعين من الثمار بالذكر، لأنِّهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها منافع (4). فإنَّ منهما القوت والغذاء والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطبًا ويابسًا، ومنافعهما كثيرة جدًّا. وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجَّحت طائفة النخيلَ، ورجَّحت طائفة العنبَ. وذكرت كلُّ طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها (5) في غير هذا الموضع (6). وفصل الخطاب أنَّ هذا يختلف باختلاف البلاد، فإنَّ اللَّه سبحانه أجرى العادة بأنَّ سلطان أحدهما لا يحُلُّ حيث (7) سلطانُ الآخر. فالأرضُ التي يكون فيها سلطان النخل (8) لا يكون العنب بها طائلًا ولا كثيرًا (9)، لأنَّه إنَّما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير __________ (1) "ك، ط": "يقول: أيودون". (2) "هذا" ساقط من "ط". (3) "ك، ط": "هذا الحال". (4) "ك، ط": "نفعًا". (5) "ك، ط": "فذكرناها". (6) انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 117). (7) "ف": "حيث يحلّ". ولا توجد "يحل" هنا في الأصل ولا في حاشيته، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ. وكذا في "ك، ط". وفي "ب": "حيث حلّ". (8) "ك، ط": "النخيل". (9) "ب": "كثيرًا ولا طائلًا".
(2/808)
السبخة، فينمو فيها ويكثر (1). وأمَّا النخيل فنموّه وكثرته في الأرض الحارَّة السبخة، وهي لا تناسب شجر (2) العنب. فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. واللَّه أعلم. والمقصود أنَّ هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها وأنفعها (3)، فالجنَّة المشتملة عليهما من أفضل الجنان. ومع هذا فالأنهار تجري من (4) تحت هذه الجنَّة، وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها. ومع ذلك فلم تَعدَمْ شيئًا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كلِّ الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} إلى قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف/ 32 - 34]. وقد قيل: إنَّ الثمار هنا وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال (5)، والسياق يدلّ على أنَّها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (6)، ثمَّ قال: {فَأَصَابَهَا} أي: الجنَّة (7) {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}، وفي الكهف: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ __________ (1) "ط": "فيكثر". (2) "شجر" ساقط. (3) "أنفعها" ساقط من "ك، ط". (4) "من" ساقط من "ك، ط". (5) انظر: الكشاف (1/ 314). (6) وقع في الأصل: "وله فيها. . . " بالواو سهوًا، وكذا في النسخ الأخرى. (7) "أي الجنة" ساقط من "ب".
(2/809)
كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. وما ذلك إلا ثمار الجنَّة. ثمَّ قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ}. هذا إشارة إلى شدَّة حاجته إلى جنَّته، وتعلُّق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنَّه قد كبرت (1) سنّه عن الكسب والتجارة ونحوها. الثاني: أنَّ ابن آدم عند كبره (2) يشتدّ حرصه. الثالث: أنّ له ذرية، فهو حريص على بقاء جنّته لحاجته وحاجة ذرِّيته. الرابع: أنَّهم ضعفاء، فهم كَلٌّ عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرّفهم (3). الخامس: أنَّ نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلّق القلب بهذه الجنَّة: لخطرها في نفسها، وشدَّة حاجته وحاجة ذريته إليها (4). فإذا تصوّرت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنَّتَه إعصار، وهو (5) الريح التي تستدير في الأرض، ثمَّ ترتفع في طبقات الجوّ كالعمود، وفيها (6) نارٌ مرَّت بتلك الجنَّة، فأحرقتها، وصيرتها رمادًا؟ فصدق واللَّه الحسن: "هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس" (7). ولهذا نبَّه سبحانه على عظم هذا المثل، وحدا (8) القلوب إلى التفكر فيه لشدَّة حاجتها إليه فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ __________ (1) "ط": "كبر". (2) "ك، ط": "كبر سنه". (3) قراءة "ف": "يقوتهم ويصرفهم". (4) "إليها" سقط سهوًا من "ف". وفي "ط": "شدة حاجته وذريته". (5) "ط": "هي". (6) "ط": "وفيه". (7) كما سبق في ص (806). (8) في الأصل: "حدى"، فقرأ ناسخ "ف": "جذب".
(2/810)
تَتَفَكَّرُونَ (266)}. فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه. فهكذا العبد إذا عمل طاعةً للَّه (1)، ثمَّ أتبعها بما يبطلها ويفرّقها من معاصي اللَّه، كانت كالإعصار ذي النَّار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح. ولولا أنَّ هذه (2) المواضع أهمّ ممَّا كلامنا بصدده -من ذكر مجرَّد الطبقات- لم نذكرها، ولكنَّها من أهمّ المهمّ. واللَّه المستعان الموفق لمرضاته. فلو تصوَّر العامل بمعصية اللَّه بعد طاعته هذا المعنى حقَّ تصوره، وتأمَّله كما ينبغي، لما سوَّلت له نفسُه -واللَّهِ- إحراقَ أعماله الصالحة وإضاعتها. ولكن لا بدَّ أن يغيب عنه علمُه بذلك (3) عند المعصية، ولهذا يستحق (4) اسمَ الجهل، فكلّ من عصى اللَّه فهو جاهل. فإن قيل: الواو في قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} واو الحال، أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفَتْ ما بعدها؟ قلتُ: فيه وجهان (5): أحدهما: أنَّه واو الحال، اختاره الزمخشري. والمعنى: أيودّ (6) أن تكون له جنَّة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته؟ __________ (1) "ط": "بطاعة اللَّه". (2) في الأصل: "هذا"، سهو. (3) "بذلك" ساقط من "ك، طـ". (4) "ط": "استحق". (5) ذكرهما صاحب الكشاف (1/ 314). (6) زاد في "ب، ك، ط": "أحدكم".
(2/811)
والثاني: أن تكون للعطف على المعنى، فإنَّ فعل التمني وهو قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لطلب الماضي كثيرًا، فكأنَّ المعنى: أيودّ لو كانت له جنَّة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، فجرى عليها ما ذكر؟. وتأمَّل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي -الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذي عليه التراب، فإنَّه لم يُنبت شيئًا أصلًا، بل ذهب بذره ضائعًا، لعدم إيمانه وإخلاصه. ثمَّ ضرب المثل لمن عمل بطاعة اللَّه مخلصًا نيَّتَه (1) للَّه، ثمَّ عرض له ما أبطل ثوابه، بالجنَّة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهاها (2)، ثمَّ سلّط عليها الإعصار النَّاريّ فأحرقها. فإنَّ هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثمَّ احترق، والأوَّل (3) لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياةً للقلوب وشفاءً للصدور وهدًى ورحمةً. ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة/ 267]. أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنَّه فعلهم القائم بهم. وأسند الإخراج إليه لأنَّه ليس فعلًا لهم، ولا هو مقدور (4) لهم. فأضاف مقدورهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه، ففي ضمنه الردّ على من سوَّى بين النوعين، وسلب قدرَةَ العبد وفعلَه وتأثيرَه عنهما (5) بالكلّية. __________ (1) "ك، ط": "بنيته". (2) "ك": "أزكاها". "ط": "أزهرها". تحريف. (3) "ف": "للأول"، خطأ. (4) "ب، ك": "مقدورًا". (5) "ط": "عنها"، خطأ.
(2/812)
وخصَّ سبحانه هذين النوعين -وهما الخارج من الأرض، والحاصل بكسب التجارة، دون غيرهما من المواشي- إمَّا بحسب الواقع، فإنَّهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإنَّ المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع؛ فخصَّ هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما. وإمَّا لأنَّهما أصول الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ؛ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلّها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلَّق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبَّها وثمارها وركازها ومعدنها. وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهمّ. ثمَّ قاله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس: تمسك الجيّد لها، وتخرج الرديء للفقير. ونهيُه سبحانه عن قصد ذلك وتيمّمِه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمّم بل إمَّا عن اتفاق، أو (1) كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان مالُه من جنسه، فإنَّ هذا لم يتيمَّم الخبيث، بل تيمَّم إخراج بعض ما منَّ اللَّه به (2) عليه. وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} موقع الحال، أي: لا تقصدوه منفقين منه. ثمَّ قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: لو كنتم أنتم المستحقّين له وبُذِلَ لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في __________ (1) "ك، ط": "بل عن اتفاق إذا". سقط وتحريف. (2) "به" ساقط من "ك، ط".
(2/813)
أخذه وتترخَّصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقّه. ويقال للبائع: أغمِضْ، أي: لا تستقص كأنَّك لا تبصر (1). وحقيقته من إغماض الجفن، فكأنَّ الرَّائي لكراهته له لا يملأ عينه منه، بل يغُضّ (2) من بصره، ويغمض عنه بعض نظره بغضًا له (3). ومنه قول الشاعر: لم يفُتْنا بالوِتْرِ قومٌ ولِلضَّيْـ ... ـمِ رجالٌ يرضَون بالإغماض (4) وفيه معنيان: أحدهما: كيف تبذلون للَّه وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم، ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يُهديه له، واللَّه أحقّ مَن تُخُيِّرَ (5) له خيارُ الأشياء وأنفسُها؟ والثاني: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيِّب لا يقبل إلا طيبًا؟ ثمَّ ختم الآية (6) بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}. فغناه وحمده يأبى قبوله (7) الرديء، فإنَّ قابل الرديء الخبيث إمَّا أن يقبله لحاجته إليه، وإمَّا أنَّ نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها. وأمَّا الغنيّ عنه، الشريف القدر، الكامل الأوصاف، فإنَّه لا يقبله. ثمَّ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ __________ (1) انظر: الكشاف (1/ 315). (2) "ط": "يغمض"، تحريف. (3) "له" ساقط من "ك، ط". (4) من ضاديّة الطرمّاح المشهورة في ديوانه (176). (5) "ك، ط": "يخير". (6) "ط": "الآيتين". (7) "ط": "قبول".
(2/814)
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة/ 268]. هذه الآية تتضمَّن الحضّ على الإنفاق والحثّ عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنَّها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق؛ وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين. فأخبر تعالى أنَّ الذي يدعوهم إلى البخل والشحّ هو الشيطان، وأخبر أنَّ دعوته هي بما يعدهم به ويخوِّفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخَلق، فإنّه يهمّ بالصدقة والبذل، فيجد في قلبه داعيًا يقول له: متى أخرجتَ هذا دعتك الحاجةُ إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكُه خير لك حتَّى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صوَّر له هذه الصورة أمره بالفحشاء، وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين أنَّ الفحشاء هنا: البخل (1). فهذا وعده، وهذا أمره، وهو الكاذب في وعده، الغارّ الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون (2)، فإنَّه يدلِّي من يدعوه بغروره، ثمَّ يورده شرَّ الموارد. كما قال: دلَّاهمُ بغُرورٍ ثمَّ أوردَهم ... إنَّ الخبيثَ لمن والاه غرَّارُ (3) __________ (1) في دعوى الإجماع نظر. فالطبري لم يشر في تفسيره (5/ 571) إلى هذا القول البتة، وإنما فسر الفحشاء هنا بالمعاصي. وانظر القولين في زاد المسير (1/ 242). (2) "ف": "مفتون"، خلاف الأصل. (3) البيت لحسان بن ثابت رضي اللَّه عنه كما في إغاثة اللهفان (208)، والرواية: "ثم أسلمهم" كما في الإغاثة والديوان (476)، وسيرة ابن هشام (1/ 664).
(2/815)
هذا وإنَّ وعده له بالفقر (1) ليس شفقةً عليه ولا نصيحةً له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًّا، بل لا شيء أحبَّ إليه من فقره وحاجته؛ وإنَّما وعدُه له بالفقر وأمرُه إيَّاه بالبخل ليُسيءَ ظنّه بربّه، ويتركَ ما يحبّه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان. وأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى فإنَّه يعِد عبده على إنفاقه (2) مغفرةً منه لذنوبه، وفضلًا بأن يخلف عليه أخيرَ (3) ممَّا أنفق وأضعافه إمَّا في الآخرة (4) أو في الدنيا والآخرة. فهذا وعدُ اللَّه، وذاك وعدُ الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق بأيّ الوعدين (5) هو أوثق، وإلى أيّهما يطمئنّ قلبه وتسكن نفسه؟ واللَّه يوفِّق من يشاء، ويخذل من يشاء، وهو الواسع العليم. وتأمَّل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين، فإنَّه واسع الفضل (6)، واسع العطاء، عليمٌ بمن يستحقُّ فضله، ومن يستحقّ عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله، وهو بكلِّ شيءٍ عليم. فتأمَّل هذه الآيات ولا تستطِلْ بسطَ الكلام فيها، فإنَّ لها شأنًا لا يعقله إلا من عقل عن اللَّه خطابَه، وفهم مرادَه {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت/ 43]. وتأمَّل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام __________ (1) "ك، ط": "الفقر". (2) "على إنفاقه" ساقط من "ك، ط". (3) هذه قراءة "ف". ورسم الكلمة في الأصل يشبه "أكبر". وفي "ب، ك، ط": "أكثر". (4) "ك، ط": "في الدنيا". (5) "ك، ط": "أي الوعدين". (6) "واسع الفضل" ساقط من "ك، ط".
(2/816)
الأغنياء وأحوالهم، وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام: محسنٌ: وهم المتصدّقون، فذكر جزاءَهم ومضاعفته، وما لهم في قرض أموالهم للمليّ الوفيّ. ثمَّ حذَّرهم مما يُبطل ثواب صدقاتهم ويُحرقها بعد استوائها وكمالها من المنّ والأذى، وحذَّرهم مما يمنع ترتّبَ أثرها عليها ابتداءً من الرياءِ. ثمَّ أمرهم بأن يتقرَّبوا (1) إليه بأطيبها، ولا يتيمّموا رديئها (2) وخبيثها. ثمَّ حذَّرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أنَّ استجابتهم (3) لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم. ثمَّ أخبر (4) أنَّ هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيَها فقد أوتي (5) ما هو خير وأفضل من الدنيا كلّها؛ لأنَّه سبحانه وصف الدنيا بالقلَّة فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء/ 77]، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة/ 269]، فدلَّ على أنَّ ما يؤتيه عبده من حكمته خيرٌ من الدنيا وما عليها. ولا يعقل هذا كلّ أحد، بل لا يعقله إلا من له لبّ وعقل زكي، فقال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة/ 269]. ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ كل ما أنفقوه من نفقة أو تقرَّبوا به إليه من نذر فإنَّه يعلمه، فلا يضيع (6) لديه، بل يعلم ما كان لوجهه منه، مما كان لغيره؛ __________ (1) "ك، ط": "أن يتقربوا". (2) "ك": "أردها". "ط": "أردأها". (3) في الأصل: "استجابته"، سهو. (4) "ك، ط": "وأخبر". (5) زاد في "ب، ك، ط": "خيرًا كثيرًا: أوتي"، سهوًا أو لعدم التفطن لسياق الكلام. (6) قراءة "ف": "ولا يضيع".
(2/817)
فيجازي بالمضاعفة ما كان لوجهه (1)، ويكِل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنَّه ظالمٌ لنفسه، وما له من نصير. ثمَّ أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنَّه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصةً لوجهه فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة/ 271] أي: فنعم شيئًا (2) هي، وهذا مدحٌ لها (3) موصوفةً بكونها ظاهرةً باديةً. فلا يتوهَّم مبديها بطلان أجره (4) وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها زمن (5) الإخفاء فيفوت (6)، وتعترضه الموانع، ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخّرْ صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السرّ، وهذه كانت حال الصحابة رضي اللَّه عنهم. ثمَّ قال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة/ 271]. فأخبر أنَّ إعطاءَها الفقير (7) في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمَّل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصَّة. ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإنَّ من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤها (8)، كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك. وأمَّا إيتاؤها الفقراء، __________ (1) "منه مما كان. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط". (2) "ب، ك، ط": "شيء". (3) زاد في "ب": "لأنها". (4) "ك، ط": "أثره"، تحريف. (5) "زمن" ساقط من "ط". وفي "ب": "زمنًا يفوت". (6) هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "تفوت". وبعدها فيهما: "أو". (7) "ك، ط": "للفقير". (8) "ط": "إخفاؤه".
(2/818)
ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أنَّ يده هي اليد السفلى، وأنَّه فقير (1) لا شيء له، فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدرٌ زائد من الإحسان إليه بمجرَّد الصدقة، مع تضمّنه الإخلاصَ وعدمَ المراياة (2) وطلب (3) المحمدة من الناس. فكان (4) إخفاؤها للفقير خيرًا (5) من إظهارها بين الناس. ومن هذا (6) مدح النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقة السرّ، وأثنى على فاعلها، وأخبر أنَّه أحد السبعة الذين هم في ظلِّ عرش الرحمن يوم القيامة (7). ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنَّه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنَّه بما تعملون خبير. ثمَّ أخبر أنَّ هذا الإنفاق إنَّما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوجَ ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختصٌّ بها عائد إليها (8)؟ وأنَّ نفقة المؤمنين إنَّما تكون ابتغاءَ وجهه خالصًا لأنَّها صادرة __________ (1) "فقير" ساقط من "ك، ط". (2) انظر ما سلف في ص (67). (3) "ك، ط": "وطلبهم". (4) "ك، ط": "وكان". (5) في الأصل: "خير" بالرفع، وهو سهو، وكذا في "ف". والمثبت من غيرهما. (6) "ب": "ولهذا". (7) "ب": "الذين يظلّهم اللَّه في ظلّه يوم القيامة". والإشارة إلى حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب الأذان (660) وغيره، ومسلم في الزكاة (1031). (8) "ف": "عليها"، خلاف الأصل.
(2/819)
عن إيمانهم، وأنَّ نفقتهم ترجع إليهم وافيةً كاملةً، ولا يظلم منها مثقال ذرَّة. وصدَّر هذا الكلام بأنَّ اللَّه سبحانه هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته، وأنَّه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبلاغهم، وهو سبحانه (1) الذي يوفّق من يشاء لمرضاته. ثمَّ ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة/ 273]، فوصفهم بستّ صفات: أحدها (2): الفقر. الثانية: حبسُهم أنفسَهم في سبيله تعالى، وجهادِ أعدائه، ونصرِ دينه. وأصل "الحصر": المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرّفها في أشغال الدنيا، وقصَروها على بذلها للَّه وفي سبيله. الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسُّب. والضرب في الأرض هو: السفر، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل/ 20] وقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء/ 101]. الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل لحالهم أغنياء (3) من تعففهم، وعدم تعرّضهم، __________ (1) "هو الهادي الموفق. . . " إلى هنا سقط من "ف" سهوًا. (2) كذا في الأصل و"ف، ك". وانظر ما سبق في (79). وفي "ب": "إحداها". (3) "ك، ط": "الغنى يحسبهم الجاهل أغنياء"، فسقطت منهما كلمتان.
(2/820)
وكتمانهم حاجتَهم (1). الخامسة: أنَّهم يُعرفون بسيماهم، وهي العلامة الدالّة على حالتهم التي وصفهم اللَّه بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنَّهم أغنياء، لأنَّ الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف هو المتوسّم المتفرِّس الذي يعرف الناسَ بسيماهم. ولهذا وصف الجاهلَ بكونه (2) يظنهم أغنياء، وقال: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، ولم يقل: "يعرفون بسيماهم" (3). فالمتوسّمون خواصّ المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر/ 75]. السادسة: تركُهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئًا (4). والإلحاف هو الإلحاح. والنفي متسقط عليهما معًا، أي: لا يسألون، ولا يُلحِفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله: على لا حبٍ لا يُهتدى بمناره (5) أي: ليس فيه منار فيهتدى به. وفيه كالتنبيه على أنّ المذموم من __________ (1) "وعدم تعرضهم" مكتوبة في الأصل فوق "وكتمانهم حاجتهم"، فأخرها ناسخ "ف". (2) في الأصل: "بكونهم"، سهو. والمثبت من "ف". (3) "ولهذا وصف. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط". (4) "شيئًا" ساقط من "ك، ط". (5) صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه: إذا سافَه العَودُ النَّباطيُّ جَرجَرا ديوانه (66). وفي الأصل: "لمناره"، وكذا في "ف" وغيرها. وهو سهو بلا ريب.
(2/821)
السؤال هو سؤال الإلحاف، فأمّا السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف، فالأفضل تركُه، ولا يحرم. فهذه ستّ صفات للمستحقّين للصدقة، فألغاها أكثرُ الناس، ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيّه من غير حقيقته. وأمّا سائر الصفات المذكورة، فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعزّ. واللَّه يختص بتوفيقه من يشاء. فهؤلاءِ هم المحسنون في أموالهم. القسم الثاني: الظالمون. وهم ضدّ هؤلاءِ، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطرّ. فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلّا بزيادة على ما يبذلونه له، وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا (1) فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة/ 278]. فصدَّر الآية بالأمر بتقواه المضادّة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردّوا ما قبضوه به قبل التحريم. وعلّق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم، والمعلّق على الشرط (2) منتفٍ عند انتفائه. ثم أكّد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشدّه، وهي محاربة المرابي للَّه ورسوله، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة/ 279]. ففي ضمن هذا الوعيد أنّ المرابي محارب للَّه ورسوله، قد آذنه اللَّه بحربه. ولم يجئ هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد؛ لأنّ كلّ واحد منهما مفسد في الأرض، __________ (1) "بعد هذا" سقط من "ف" سهوًا. (2) "ك، ط": "شرط".
(2/822)
قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلّطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كُرباتهم إلّا بتحميلها (1) كُرباتٍ أشدّ منها. فأخبر عن قطّاع الطريق بأنّهم يحاربون اللَّه ورسوله، وآذَنَ هؤلاءِ إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله. ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة/ 280]. يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى اللَّه منه وقد عاقدتم عليه، فإنَّما لكم رؤوس أموالكم، لا تزدادون عليها، فتظلِمون (2) الآخذ؛ ولا تُنقَصون منها، فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرًا فالواجب إنظاره إلى مَيسرة، وإن تصدّقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحَّت بالعدل الواجب أو الفضل (3) المندوب، فذكّروها يومًا ترجعون فيه إلى اللَّه وتلقَون ربَّكم فيوفّيكم جزاء أعمالكم أحوجَ ما أنتم إليه. فذكر سبحانه المحسِن وهو المتصدّق، ثمَّ عقَّبه بالظالم وهو المرابي. ثمَّ ذكر "العادل" في آية التداين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية [البقرة/ 282]. ولولا أنَّ هذه الآية تستدعي سِفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض إنَّما هو التنبيه والإشارة. وقد __________ (1) كذا في الأصل و"ف". وفي "ب": "بتحملها"، وفي "ك": "بتحميله". وفي ط: "بتحميلهم". (2) في الأصل: "ولا فتظلمون"، والظاهر أن "ولا" سهو. وكتب ناسخ "ف": "ولا تظلمون". والصواب ما أثبتنا من "ب" وغيرها. (3) "ف": "الفعل"، تحريف.
(2/823)
ذكر أيضًا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان. ثمَّ ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز من (1) تحت عرشه (2)، والشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه (3). وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابًا مفردًا. والمقصود الكلام على طبقات (4) الخلائق في الدار الآخرة. ولنعُدْ (5) إلى المقصود، فإنَّ هذا من سعي القلم (6)، ولعلَّه أهمّ ممَّا نحن بصدده. فهذه الطبقات الأربعة (7) من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدِّي وهم: العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة اللَّه. فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض، ما دامت آثارهم في الدنيا. فيا لها من نعمة ما أجلَّها، وكرامة ما أعظمها! يختصُّ اللَّه بها __________ (1) "من" هذه ساقطة من "ك، ط". (2) كما ورد في حديث أبي ذر في مسند أحمد (5/ 151). وقد ثبت في صحيح مسلم (173) من حديث مرّة بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطي خواتيم البقرة ليلة أسري به عند سدرة المنتهى. (3) ثبت في صحيح مسلم (780) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان. (4) "ط": "والمقصود ذكر الخلائق"! (5) "ف": "ولنعدل" سبق قلم من الناسخ. (6) "ف": "العلم"، رسم الكلمة يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا. وكذا في "ب" وغيرها. (7) كذا في الأصل وغيره، وهو صحيح في العربية. وفي "ط": "الأربع".
(2/824)
من يشاء من عباده. الطبقة الثامنة: طبقة (1) من فتح اللَّه له (2) بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحجّ، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافًا إلى أداء فرائض اللَّه عليه. فهو جاهدٌ في تكثير حسناته، وملء (3) صحيفته بها (4)، وإذا عمل خطيئة تاب إلى اللَّه منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من عُمَّال الآخرة (5). ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته بموته (6). فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضًا عند اللَّه. الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة. وهي طبقة من يؤدِّي فرائض اللَّه، ويترك محارمه (7)، مقتصرًا على ذلك، لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدَّى إلى ما حرَّم اللَّه عليه، ولا يزيد على ما فرَضَ عليه (8). وهذا من المفلحين بضمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن أخبره بشرائع الإسلام، فقال: واللَّه لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه. فقال: "أفلح إن صدق" (9). __________ (1) "طبقة" ساقط من "ك، ط". (2) "له" ساقط من "ف". (3) "ط": "إملاءً"، خطأ. (4) "بها" ساقط من "ب، ط". (5) "ك، ط": "أعمال الآخرة"، تحريف. (6) "بموته" ساقط من "ك، ط". (7) "ف": "وترك محارمه"، خلاف الأصل. "ك": "بترك محارم اللَّه". "ط": "ويترك محارم اللَّه". (8) "ب": "فرض اللَّه عليه". (9) أخرجه البخاري في الإيمان (46) وغيره، ومسلم في الإيمان (11) من حديث =
(2/825)
وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على اللَّه تكفيرُ سيئاتهم، إذا أدّوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء/ 31]. وصحَّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: " [الصلواتُ الخمسُ] (1) ورمضان إلى رمضانَ والجمعةُ إلى الجمعةِ مكفِّراتٌ لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ كبيرةٌ" (2). فإن غشي أهلُ هذه الطبقة كبيرةً، وتابوا منها توبةً نصوحًا، لم يخرجوا من طبقتهم، وكانوا (3) بمنزلة من لا ذنب له. فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثاني (4): اجتناب الكبائر. وقد نصَّ عليهما سبحانه في كتابه، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/ 114]. وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/ 31]. الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشُوا كبائرَ ما نهى اللَّه عنه، لكن رُزِقُوا (5) التوبة النصوحَ قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاء ناجون من عذاب اللَّه إمَّا قطعًا عند قوم، وإمَّا ظنًّا ورجاءً (6) __________ = طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه. (1) مكان ما بين الحاصرتين بياض في الأصل و"ف". وهو مثبت في "ب، ك" دون إشارة إلى بياض في أصليهما. (2) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة (233). وفي "ب": "والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان"، وهو الوارد في مسلم. (3) "ك، ط": "فكانوا". (4) "الثاني" سقط من "ف" سهوًا. (5) "ك، ط": "ولكن رزقهم اللَّه". (6) "ك، ط": "رجاءً وظنًّا".
(2/826)
عند آخرين. وهم موكولون (1) إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنَّة تدلُّ على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم اللَّه إيَّاه، واللَّه لا يخلف الميعاد. فإن قيل: فما الفرقُ بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها؟ فإنَّ اللَّه إذا كفَّر عنهم سيّئاتهم، وأثبت لهم بكلِّ سيئة حسنةً، كانوا كمن قبلهم أو أرجح. قيل: قد تقدَّم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية (2)، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوي عند اللَّه من أنفق عمره في طاعته ولم يغشَ كبيرةً، ومن لم يدَع كبيرةً إلا ارتكبها، وفرَّط في أوامره، ثمَّ تاب؟ فهذا غايته أن تُمْحَى سيئاتُه، ويكون لا له ولا عليه. وأمَّا أن يكون هو ومَن قبله سواءً أو أرجح منه فكلّا! الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا اللَّه مُصرِّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيّئاتهم، فإذا وُزِنتْ بها رجَحتْ كِفَّةُ الحسنات، فهؤلاء أيضًا ناجون فائزون. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف/ 8 - 9]. قال حذيفة وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يُحشَر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن __________ (1) "ف": "موكلون"، سهوًا. (2) انظر: ص (505) وما بعدها.
(2/827)
استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف (1). وهذه الموازنة تكون بعد القصاص، واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته. فإذا بقي له (2) شيء منها وزن هو وسيئاته. لكن (3) هنا مسألة، وهي: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يُلغَى المرجوحُ جملةً، ويصير الأثر للراجح، فيثاب على حسناته كلّها؛ أو يسقَط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة، ويبقى التأثير للرجحان، فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان. هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأمَّا من ينفي ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنَّما هو موكول إلى محض المشيئة. وعلى القول الأوَّل فيذهب أثر السيئات جملةً بالحسنات الرَّاجحة. وعلى القول الثاني يكون تأثيرها في نقصان ثوابه، لا في حصول العقاب له. ويترجَّح هذا القول الثاني بأنَّ السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأثير للحسنات كلّها، لم يكن فرقٌ بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذي تمحّضَ (4) عملُه حسناتٍ، وبين من خلط عملًا صالحًا وآخر سيِّئًا. وقد يُجاب عن هذا بأنَّها أثَّرت في نقصان ثوابه ولا بدّ، فإنَّه لو اشتغل في زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه. __________ (1) تفسير الطبري (12/ 453). (2) "له" ساقط من "ب، ك، ط". (3) "ك، ط": "ولكن". (4) لم ينقط أول الكلمة في الأصل، ولكن هكذا ضبطها وضبط ما بعدها في "ب". وفي "ف": "محض"، وهو خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط".
(2/828)
وإذا كان كذلك فقد ترجَّح القول الأوَّل بأنَّ الحسنات لمَّا غلبت السيئات ضعف تأثير المغلوب المرجوح، وصار الحكم للغالب دونه، لاستهلاكه في جنبه؛ كما يُستهلك يسيرُ النجاسة في الماءِ الكثير، والماءُ إذا بلغ قُلَّتين لم يحمِل الخَبَث (1). واللَّه أعلم. الطبقة الثانية عشرة (2): قومٌ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما فتقاوما، فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النَّار، وسيئاتهم المساوية من دخول الجنَّة. فهؤلاء من أهل الأعراف، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحقّ بها الرحمة من ربّه، ولم يفضل عليه سيئة يستحقّ بها العذاب. وقد وصف اللَّه سبحانه أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف -بعد أن ذكر دخولَ أهل النارِ النارَ (3)، وتلاعنَهم فيها، ومخاطبةَ أتباعهم لرؤسائهم، وردَّهم عليهم؛ ثمَّ مناداة أهل الجنَّة أهلَ النار- فقال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 46 - 47]. فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين أهل الجنَّة والنار حجاب. قيل: هو السور الذي ضُرِب (4) بينهم، له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب. باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي __________ (1) يشير إلى حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67). (2) في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط". (3) "النار" ساقط من "ط". (4) "ب، ك، ط": "يضرب".
(2/829)
يلي الكفار من جهته (1) العذاب. و"الأعراف" جمع عُرْف، وهو المكان المرتفع، وهي (2) سور عال بين الجنَّة والنار. قيل: هو هذا السور الذي يضرب بينهم. وقيل: جبال بين الجنَّة والنَّار (3) عليها (4) أهل الأعراف. قال حذيفة وعبد اللَّه بن عباس: هم قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم عن النار. فوقفوا هناك حتى يقضي اللَّه فيهم ما يشاء، ثمَّ يدخلهم الجنَّة بفضل رحمته (5). قال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الهذلي قال: كان سعيد بن جبير (6) يحدِّث عن ابن مسعود، قال: يحاسَب الناسُ (7) يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته (8) بواحدة دخل النَّار. ثمَّ قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا __________ (1) "ط": "جهتهم". (2) "ك، ط": "وهو". (3) "قيل: هو هذا. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (4) "ط": "عليه". (5) أما أثر حذيفة فأخرجه المروزي في زوائد الزهد (483)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8499)، والطبري (8/ 190)، وهو صحيح عن حذيفة. وأما أثر ابن عباس فأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8501) وسنده ضعيف جدًّا. وأخرجه الطبري (8/ 191، 192) بسندٍ فيه انقطاع. (ز). (6) "ف": "كثير"، ورسم الجيم والحاء في الأصل يشبه أحيانًا رسم الكاف. انظر ما سلف في ص (815). (7) "ك، ط": "يحاسب اللَّه الناس". (8) "من حسناته" ساقط من "ط".
(2/830)
أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف/ 8، 9] ثمَّ قال: إنَّ الميزان يخِفّ بمثقال حبَّة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. فوقفوا على الصراط ثمَّ عرفوا أهل الجنَّة وأهل النَّار، فإذا نظروا إلى الجنة (1) نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 47]. فأمَّا أصحاب الحسنات فإنَّهم يُعطَون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كلّ عبد يومئذ نورًا. فإذا أتوا على الصراط (2) سلب اللَّه نور كل منافق ومنافقة. فلمَّا رأى أهل الجنَّة ما لقي المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم/ 8]. وأمَّا أصحاب الأعراف فإنَّ النور لم ينزع الطمع إذ لم ينزع من أيديهم، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا، وبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من أيديهم (3). يقول (4) اللَّه: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} [الأعراف/ 46] فكان الطمع للنور الذي في أيديهم. ثمَّ أدخلوا الجنَّة، وكانوا آخر أهل الجنَّة دخولًا (5). يريد: آخر أهل الجنَّة دخولًا ممَّن لم يدخل النَّار. وقيل: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، فقُتِلوا، فأعتقوا من النار لقتلهم في سبيل اللَّه، وحبسوا عن الجنَّة لمعصية آبائهم (6). وهذا __________ (1) "ط": "أهل الجنة". (2) "ف": "السراط"، خلاف الأصل. (3) "ومنعتهم سيئاتهم. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (4) "ك، ط": "فيقول". (5) أخرجه ابن المبارك في الزهد (411). وانظر: تفسير الطبري (12/ 453). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبو بكر الهذلي، متروك. (ز). (6) تفسير الطبري (12/ 457).
(2/831)
من جنس القول الأوَّل. وقيل: هم قوم رضي عنهم أحدُ الأبوين دون الآخر؛ يُحبَسُون على الأعراف حتى يقضي اللَّه بين الناس، ثمَّ يدخلهم الجنة (1). وهو (2) من جنس ما قبله، فلا تناقض بينهما. وقيل: هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين (3). وقيل: هم أولو الفضل من المؤمنين علَوا على الأعراف، فيطَّلعون على أهل النار وأهل الجنَّة جميعًا (4). وقيل: هم ملائكة (5) لا من بني آدم (6). والثابت عن الصحابة هو القول الأوَّل. وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها. وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة. وقد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع أو الموقوف، على قولين. الأوَّل اختيار أبي عبد اللَّه الحاكم (7)، والثاني هو الصواب ولا نقوِّل (8) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم نعلم أنَّه قاله. __________ (1) تفسير البغوي (3/ 232) عن مجاهد. (2) "ط": "هي". (3) تفسير البغوي (3/ 233). وانظر ما يأتي في ص (858). (4) وهو قول الحسن. انظر: تفسير البغوي (3/ 233). (5) "ك، ط": "الملائكة". (6) تفسير الطبري (12/ 459). (7) انظر: المستدرك (1/ 726)، (2/ 283) وقد عزاه إلى الشيخين. وقيّده في معرفة علوم الحديث (20) بكونه في أسباب النزول. (8) "ك، ط": "ولا نقول على رسول اللَّه اللَّه". "ب": "ولا يقول. . . ما لم يعلم".
(2/832)
وقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} صريح في أنَّهم من بني آدم، ليسوا من الملائكة. وقوله: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} يعني: يعرفون الفريقين بسيماهم. {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: نادى أهلُ الأعراف أهلَ الجنَّة بالسلام. وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف. لم يدخلوا الجنَّة بعد، وهم يطمعون في دخولها. قال أبو العالية: ما جعل اللَّه ذلك الطمع فيهم إلا كرامةً يريدها بهم (1). وقال الحسن: الذي جعل (2) الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون (3). وفي هذا ردّ على قول من قال: إنَّهم أفاضل المؤمنين عَلَوا على الأعراف يطالعون أحوالَ الفريقين. فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة، وهم أعلم الأمة بكتاب اللَّه ومراده منه. ثمَّ قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} هذا دليل على أنَّهم (4) بمكان مرتفع بين الجنَّة والنار، فإذا أشرفوا على أهل الجنَّة نادوهم بالسلام وطمعوا في الدخول إليها. وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا اللَّه أن لا يجعلهم معهم. __________ (1) انظر: تفسير البغوي (3/ 233). وهذا اللفظ أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (907)، وابن أبي حاتم (8517)، والطبري (8/ 196) عن الحسن، وسنده صحيح. (ز). (2) "ط": "جمع". (3) تفسير البغوي (3/ 233). (4) "ك، ط": "أنه"، تحريف.
(2/833)
ثمَّ قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يعني من الكفار الذين في النار. فقالوا لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتحزّبكم (1) على أهل (2) الحقِّ ولا استكباركم. وهذا إمَّا نفي، وإمَّا استفهام توبيخ (3)، وهو أبلغ وأفخم. ثمَّ نظروا إلى الجنَّة فرأوا من فيها (4) من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ويزعمون أنَّ اللَّه لا يختصّهم دونهم بفضله، كما لم يختصّهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} أيها المشركون أنَّ اللَّه تعالى لا ينالهم برحمة، فها هم في الجنَّة يتمتَّعون ويتنعّمون، وفي رياضها يُحبَرون، ثمَّ يقال لأهل الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} [الأعراف/ 49]. وقيل: إنَّ أصحاب الأعراف إذا عيّروا الكفار، وأخبروهم أنَّهم لم تُغنِ عنهم جموعهم (5) واستكبارهم، عيّرهم الكفار بتخلّفهم عن الجنة، وأقسموا أنَّ اللَّه لا ينالهم برحمة، لما رأوا من تخلّفهم عن الجنة، وأنَّهم يصيرون إلى النار، فتقول لهم الملائكة حينئذ: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} (6). __________ (1) قرأ ناسخ "ف": "تجرّيكم". وكذا في غيرها. ولكن نقطة الزاي واضحة في الأصل. وتحت الحاء نقطة أيضًا ولكنها للفاء في كلمة "فيها" الواردة في السطر التالي. (2) "أهل" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "وتوبيخ". (4) "من فيها" ساقط من "ك، ط". (5) "ط": "لم يغن عنهم جمعهم". (6) ذكر القولين الطبري في تفسيره (12/ 471 - 472). وانظر: تفسير البغوي =
(2/834)
والقولان قويان محتملان، واللَّه أعلم. فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنَّة الذين لم تمسّهم النار. الطبقة الثالثة عشرة (1): طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ باللَّه، وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير. وهم قوم مسلمون خفَّت موازينهم، ورجححت سيئاتهم على حسناتهم، فغلبتها السيئات. فهذه الطبقة هي (2) التي اختلفت فيها أقاويل الناس، وكثُر فيها خوضهم، وتشعَّبت مذاهبهم، وتشتّتت آراؤهم. فطائفة كفَّرتهم، وأوجبت لهم الخلود في النار. وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفّرون من هو أحسن حالًا منهم، وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها، ولو استغرقتها حسناتُه. وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار، ولم تُطْلِقْ عليهم اسمَ الكفر، بل سمّوهم منافقين. وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد (3). وطائفة نزَّلتهم منزلةً بين منزلتي (4) الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام __________ = (3/ 233 - 234). (1) في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط". (2) "هي": ساقط من "ك، ط". (3) انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 317). ونحوه في تأويل مختلف الحديث (96). وذكر ابن حزم أن المذنب من أهل ملتنا عند بكر ابن أخت عبد الواحد كافر مشرك كعابد الوثن، صغيرًا كان ذنبه أو كبيرًا، ولو فعله على سبيل المزاح؛ إلّا أن يكون بدريًّا فهو كافر من أهل الجنة! انظر: الفصل (2/ 217، 291). (4) "ك، ط": "منزلة".
(2/835)
الخلق ثلاثةً: مؤمنين، وكفَّارًا، وقسمًا لا مؤمنين ولا كفَّارًا بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود في النَّار. وهذا هو الرَّأي الذي أصفَقَ (1) عليه أهلُ الاعتزال، وهو أحد أصولهم الخمس (2) التي هي قواعد مذهبهم، وهي: "التوحيد" الذي مضمونه جحدُ صفاتِ الخالق ونعوتِ كماله، والتعطيل المحض. و"العدل" الذي مضمونه نفي عموم قدرة اللَّه، وأنَّه لا قدرة له على أفعال الحيوانات، بل هي خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنَّه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، وأنَّه (3) لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلّ (4) مهتديًا، ولا يجعل المصلِّي مصلِّيًا والذاكر ذاكرًا والطائف (5) طائفًا. تعالى اللَّه عن إفكهم وشركهم علوًّا كبيرًا. و"المنزلة بين المنزلتين" التي مضمونها إيجاب الخلود في النار (6) للمسلم المبالِغ في طاعة ربه الذي أفنى عمره في عبادته وطاعته، ومات مُصِرًّا على كبيرة واحدة. تعالى اللَّه عمَّا نسبوه إليه من ذلك وجلَّ عن هذا الافتراء. و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين. والأصل الخامس: "النبوة" (7)، مع أنَّهم لم يوفّوها حقَّها، بل هضموها __________ (1) أصفق القوم على الأمر: أطبقوا عليه. وفي "ب": "اتفق". والكلمة ساقطة من "ك، ط". (2) كذا في الأصل وغيره، وهو جائز في العربية. وفي "ط": "الخمسة". (3) "ك، ط": "فإنّه"، خطأ. (4) "ط": "ولا أن يضل". (5) "ط": "ولا الذاكر ذاكرًا ولا الطائف" بزيادة "لا" في الموضعين. (6) "ط": "إيجاب القول بالنار"، تصرّف غريب! (7) كذا ذكر المؤلف هنا "النبوّة" من الأصول الخمسة للمعتزلة، والمشهور مكانها: إنفاذ الوعيد، أو الوعد والوعيد. انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 311)، =
(2/836)
غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها. والمقصود أنَّ مذهبهم تخليد هذه الطبقة في النار، وإن لم يسمّوهم كفَّارًا، فوافقوا الخوارج في الحكم، وخالفوهم في الاسم. ولهذا تسمّى هذه المسألة من مسائل الأسماءِ والأحكام. فهذه ثلاث فرق توجب لهذه الطبقة (1) الخلود في النار. وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا ندري (2) ما يفعل اللَّه بهم. فيجوز أن يعذِّبهم كلّهم، وأن يعفو عنهم كلّهم، وأن يعذّب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنَّهم لا يخلد أحد منهم في النار. فجوَّزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجَّحت حسناته على سيئاته، بل جوَّزوا أن يرفع عليه في الدرجة، فهم موكولون عندهم إلى محض المشيئة لا يُدرَى ما يفعل اللَّه بهم، بل يُرجأ أمرهم إلى اللَّه وحكمه. وهذا قول كثير من المتكلِّمين والفقهاء والصوفية وغيرهم. فهذه الأقوال هي (3) التي يعرفها أكثر الناس، ولا يحكي أهل الكلام غيرها. وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو الذي ذكرناه عن ابن عبَّاس وحذيفة وابن مسعود رضي اللَّه عنهم أنَّ من ترجَّحت سيئاته بواحدة دخل النَّار. __________ = ومجموع الفتاوى (12/ 480)، وبيان تلبيس الجهمية (465)، ومنهاج السنة (1/ 120). (1) "ك, ط": "أوجبت لهذه الطائفة". (2) "ك، ط": "لا يدرى". والمثبت من "ف، ب". (3) "هي" ساقط من "ك، ط".
(2/837)
وهؤلاء هم القسم الذين جاءت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّهم (1) يدخلون النَّار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه (2) إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه (3) إلى ركبتيه. ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثمَّ يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنَّة، فيُفيض عليهم أهل الجنَّة من الماءِ حتَّى تنبت أجسادهم، ثمَّ يدخلون الجنة (4). وهم الطبقة الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر اللَّه تعالى سيِّد الشفعاء مرارًا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان (5). وإخبار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهم يكونون فيها على قدر أعمالهم، مع قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} (6) [الأحقاف/ 14] و {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} (7) [النحل/ 111] وأضعاف ذلك من نصوص القرآن __________ (1) "ب، ك، ط": "فإنّهم"، تحريف. (2) "ب، ك، ط": "تأخذه النار". (3) "ك، ط": "تأخذه النار". (4) يشهد له ما أخرجه مسلم في كتاب الجنة ونعيمها (2845) من حديث سمرة رضي اللَّه عنه. (5) يشهد له ما أخرجه البخاري في التوحيد (7440) ومسلم في الإيمان (193) من حديث أنس رضي اللَّه عنه. (6) ورد في الأصل: "جزاء بما كنتم تعملون"، وكذا في النسخ الأخرى، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم، فحذف في "ط" "جزاءً". ولعل المقصود ما أثبتنا. (7) أثبت في "ط" جزءًا من آية أخرى وردت في البقرة (281)، وآل عمران (171).
(2/838)
والسنَّة يدلّ على ما قاله أفضلُ الأمة وأعلمُها باللَّه وكتابه وأحكامِ الدارين أصحابُ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذي بهرت حِكَمه (1) العقول. فليس الأمر مسيَّبًا (2) خارجًا عن الضبط والحكمة، بل مربوط بالأسباب، والحكمُ مرتَّب عليها أكملَ ترتيب، جارٍ على نظام اقتضاه السبب واستدعته الحكمة. وأيّ طريقٍ (3) سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدِّمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بدّ، فإنَّها تتناقض في حقِّه، لما أصَّله من الأصل الذي لا يلتئم عليه جميع النصوص (4). فلا بدَّ أن يردّ بعضَها ببعض، أو يستشكلها، أو يتطلَّب لها مستنكرَ التأويلات ووجوه التحريفات؛ كما ردَّ الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالَّة على خروج أهل الكبائر من النَّار بالشفاعة، فكذَّبوا (5) بها، وقالوا: لا سبيل لمن دخل النَّار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها. ولما بهرتهم نصوصُ الشفاعة، وصاح بهم أهلُ السنَّة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب، ورموهم بسهام الردّ عليهم، أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط، لا على الخروج من النار. فردّوا السنَّة المتواترة قطعًا، وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارًا في فِرَقها. فإنَّ أمر الشفاعة أظهر عند الأمة من أن يقبل شكًّا أو نزاعًا، وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يُعلَم إخبار الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- به قطعًا. ولكن إنَّما أُتِيَ القومُ لأنَّهم في غاية __________ (1) "ب، ك، ط": "حكمته". (2) "ك، ط": "سببًا"، تحريف. (3) "ك، ط": "الطريق"، خطأ. (4) "ط": "جمع النصوص"، تحريف. (5) "ط": "وكذّبوا".
(2/839)
البعد عمَّا جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أجانبُ منه (1)، ليسوا من الورثة. وأمَّا الخوارج فكذَّبوا الصحابةَ صريحًا. وأمَّا المرجئة فإنَّهم يجوّزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد. وهذا خلاف (2) المعلوم المتواتر من نصوص السنَّة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة. ومع هذا التواتر الذي لا يمكن دفعه، لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار، بل لا بدَّ من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذي خفَّت موازينه ورجحت سيئاته، كما قاله (3) الصحابة رضي اللَّه عنهم. وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعًا من أهل السنة (4). ولولا أنَّ المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبيّنَّا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه الحقّ وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم. فإنَّ كل طائفة منها معها حقّ وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحقّ، وردّ ما قالوه من الباطل. ومن فتح اللَّه له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والذين كل باب، ويسَّر عليه فيهما الأسباب. وباللَّه (5) المستعان. الطبقة الرَّابعة عشرة (6): قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع __________ (1) "ط": "عنه". (2) "ط": "بخلاف". (3) "ك، ط": "قال". (4) في كتابه: الدرّة فيما يجب اعتقاده (340). (5) "ط": "واللَّه". (6) في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط".
(2/840)
لها بخبر. ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميّز. ومنهم الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا أبدًا. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا، فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا. والمسألة التي وسَّعوا فيها الكلام هي مسألة أطفال المشركين. وأمَّا أطفال المسلمين، فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد. يعني أنَّهم في الجنَّة (1). [وحكى ابن عبد البرّ عن جماعة أنَّهم توقَّفوا فيهم، وأنَّ جميع الولدان تحت المشيئة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حمَّاد بن زيد] (2) وحمَّاد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم. قال (3): وهو يشبه (4) ما رسم مالك في موطّئه في أبواب القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أنَّ المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنَّة، وأطفال المشركين خاصَّة في المشيئة (5). __________ (1) نحوه في أحكام أهل الذمة (610). وانظر قول الإمام أحمد في المغني (13/ 254). (2) مكان ما بين الحاصرتين بياض في "ف". وقال ناسخها: "وفي حاشية الأصل بخطّ المؤلف رحمه اللَّه أسطار مصحح على آخرها، ذهب الأول منها تأكّلًا على طرف الورقة. أخلى الكاتب له تحت هذا السطر موضعًا وكتب ما وجد بعده". وهو كما قال. والمثبت من "ب، ك، ط". (3) "ب، ك، ط": "قالوا". وسقط "وغيرهم" من "ك، ط". (4) "ك، ط": "شبه"، تحريف. (5) التمهيد (18/ 112). ونبّه المصنِّف في أحكام أهل الذمة (618) على أنّ ابن عبد البر اضطرب في النقل في هذه المسألة، فإنه قال في موضعٍ آخر في التمهيد نفسه (6/ 348 - 349): "قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في =
(2/841)
وأمَّا أطفال المشركين فللنَّاس فيهم ثمانية مذاهب (1): أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنَّهم في الجنَّة أو في النار، بل يوكل علمهم إلى اللَّه تعالى، ويقال: اللَّه أعلم بما (2) كانوا عاملين. واحتجّ هؤلاء بحجج: منها ما خرَّجا (3) في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه (4)، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل تحسّ (5) فيها من جدعاء؟ ". قالوا: يا رسول اللَّه، أفرأيتَ من يموت وهو صغير؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (6). ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن ابن عباس أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عن __________ = الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافًا إلّا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في التيه، وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع أهل الحجة الَّذين لا يجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا، إلى ما روي عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من أخبار الآحاد الثقات". عقب ابن القيم على ذلك، ومما قال: "وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان، وربّ العالمين هو الذي لا يضلّ ولا ينسى". (1) عقد المؤلف فصلًا طويلًا في هذا الموضوع في كتابه أحكام أهل الذمة (1086 - 1130) أيضًا. وانظر: حاشيته على السنن (ذيل عون المعبود 12/ 320) ودرء التعارض لشيخه (8/ 435 - 438). (2) "ك، ط": "ما". (3) "ب": "خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما". "ط": "أخرجاه". (4) "ط": "أو ينصّرانه". (5) "ط": "يحس". (6) البخاري في القدر (6599) وغيره، ومسلم في القدر (2658).
(2/842)
أولاد المشركين، فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (1). وفي صحيح أبي حاتم ابن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العُطاردي، قال: سمعت ابن عبَّاس (2) يقول وهو على المنبر: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزال أمر هذه الأمة مُؤامًّا (3) -أو مقاربًا- ما لم يتكلَّموا في الولدان والقدر". قال أبو حاتم: "الولدان" أراد به أطفال المشركين (4). وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر. فإنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُجِبْ فيهم بالوقف، وإنَّما وكل علمَ ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى اللَّه. والمعنى: اللَّه أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه يعلم القابلَ منهم للهدى العاملَ به لو عاش، والقابلَ منهم للكفر المؤثرَ له لو عاش. لكن لا يدلّ هذا على أنَّه سبحانه يجزيهم بمجرَّد علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنَّما يدلّ على أنَّه يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم. وهذا الجواب خرج من النبيّ (5) -صلى اللَّه عليه وسلم- على وجهين: __________ (1) البخاري (6597)، ومسلم (2659) في القدر. (2) "العطاردي. . . " إلى هنا ساقط من "ط". وكذا من "ك" إلّا "العطاردي". (3) أي: مقاربًا. وفي "ك، ط": "قوامًا"، ولعله تحريف. (4) أخرجه ابن حبان (6724)، والحاكم (1/ 33) من حديث ابن عباس مرفوعًا. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علّة". وسيأتي قول المصنف إن الناس رووه موقوفًا على ابن عباس، وهو الأشبه. انظر: القدر للفريابي (258، 259) والسنة لعبد اللَّه (870) واللالكائي (1127) وغيره. (ز). (5) "ك، ط": "عن النبي".
(2/843)
أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". وهو في هذا الوجه يتضمَّن أنَّ اللَّه سبحانه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر، بتقدير الحياة. وأمَّا المجازاة على العلم، فلم يتضمّنها جوابُه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي صحيح أبي عوانة الإسفراييني عن هلال بن خبَّاب (1) عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض مغازيه، فسأله رجل: ما تقول في اللاهين؟ فسكت عنه. فلمَّا فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبيّ يبحث في الأرض، فأمر مناديه فنادى: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل. فنهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل الأطفال، وقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (2). والوجه الثاني: جواب لهم حين أخبرهم أنَّهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". كما روى أبو داود (3) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه، ذراريّ المؤمنين؟ فقال (4): "من آبائهم". فقلت (5): يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". قلت: يا رسول اللَّه، فذراريّ المشركين؟ قال: __________ (1) "ب": "حيان". "ك": "حبان"، وكلاهما تحريف. (2) أخرجه الفريابي في القدر (175)، والطبراني في الأوسط (2018)، والكبير (11906). قال الهيثمي: "وفيه هلال بن خباب وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح". (ز). (3) في السنن (4712)، وأحمد (24545)، والفريابي في القدر (168)، والطبراني في مسند الشاميين (843)، واللالكائي (1091) وغيرهم. وسنده حسن. (ز). (4) "ك، ط": "قال". (5) "ك، ط": "قلت".
(2/844)
"هم من آبائهم". فقلت: يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (1). ففي هذا الحديث ما يدلّ على أنَّ الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم اللَّه أنَّهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم. ولا يقتضي أنَّ كلّ واحدٍ من الذرية مع أبيه في النَّار، فإنَّ الكلام في هذا الجنس سؤالًا وجوابًا، والجواب يدل على التفصيل. فإنَّ قوله: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" يدلّ على أنَّهم متباينون في التبعية، بحسب تباينهم (2) في معلومِ اللَّه فيهم. يبقى (3) أن يقال: فالحديث يدل على أنَّهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرَّها عليه، وقال (4): "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". ويجاب عن هذا بأنَّ الحديث إنَّما دل على أنَّهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه (5) في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة. ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم بأسباب أُخر يمتحنهم بها في عرصات القيامة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه. فحينئذٍ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا. وعائشة رضي اللَّه عنها إنَّما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّ اللَّه سبحانه يعلم منهم ما هم عاملوه. ولم يقل لها: إنَّه يعذِّبهم بمجرَّد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد __________ (1) "قلت: يا رسول اللَّه، فذراري المشركين. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) "ب، ك": "نياتهم". "ط": "نياتهم ومعلوم اللَّه"، تحريف. (3) "ب، ط": "بقي". (4) "ط": "فقال". (5) "عملوه" سقط من "ف" سهوًا.
(2/845)
اللَّه لا إشكال فيه. وأمَّا حديث أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس، ففي القلب من رفعه شيء، وإن أخرجه ابن حبَّان في صحيحه (1). وهو يدلّ على ذمِّ من تكلَّم فيهم بغير علم، أو ضرَبَ النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذمَّ من تكلَّم في القدر بمثل ذلك. وأمَّا من تكلَّم فيهم بعلم وحقٍّ فلا. المذهب الثاني: أنَّهم في النَّار. وهذا قول جماعة من المتكلّمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد (2). واحتجَّ هؤلاء بحديث عائشة المتقدّم، واحتجُّوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكِّل، عن بُهَيَّة، عن عائشة: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولاد __________ (1) زاد المصنف في أحكام أهل الذمة: "والناس إنما رووه موقوفًا عليه وهو الأشبه، وابن حبان كثيرًا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنَّه موقوف، كما رفع قول أبي بن كعب: "كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة". وهذا لا يشبه كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغايته أن يكون كلام أبي. . . ". (2) قال المصنف في حاشيته على السنن (12/ 32): "حكاه القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد. قال شيخنا: هو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم، فقال: هم على الحديث. قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولادها الَّذين ماتوا قبل الإسلام فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار". قال شيخنا: وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يحتج بمثله. وإنما أراد حديث عائشة: "واللَّه أعلم بما كانوا يعملون". ولفظ شيخ الإسلام في درء التعارض (8/ 398): "هذا حديث موضوع كذب، لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد، فضلًا عن الإمام أحمد". وانظر: المغني (13/ 254)، ومجموع الفتاوى (24/ 372)، ومنهاج السنة (2/ 306)، والردّ على الشاذلي (80 - 81)، وأحكام أهل الذمة (626).
(2/846)
المسلمين أين هم؟ قال: "في الجنة". وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: "في النار". فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تَجْرِ عليهم الأقلام؟ قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين" (1). قلت: يحيى بن المتوكل لا يُحتجُّ بحديثه، فإنَّه في غاية من الضعف. وأمَّا حديث عائشة المتقدّم فهو من حديث عمر بن ذرّ، وتفرَّد به عن يزيد بن أبي أميّة (2) أنَّ البراءَ بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث. هكذا قال سلم (3) بن قتيبة عنه (4). وقال غيره: عن عمر بن ذرّ عن يزيد عن رجل عن البراءِ (5). ورواه الإمام أحمد في مسنده (6) من حديث عتبة بن ضمرة بن __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (25743) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (1681)، وابن عدي في الكامل (207) وغيرهم. والحديث باطل منكر، وهو من منكرات يحيى بن المتوكل أبي عقيل قال أحمد فيه: "أحاديثه عن بهية عن عائشة منكرة، لم يرد ما روى عنها إلّا وهو واهي الحديث". والحديث تكلم فيه ابن عدي وابن الجوزي والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم. انظر: العلل المتناهية (1541) والبدور السافرة للسيوطي (1263) والفتح (3/ 426) والتمهيد (18/ 122). (ز). (2) كذا في الأصل وغيره. وكذا في حاشيته على السنن (12/ 316)، وأحكام أهل الذمة (624). والصواب: يزيد بن أمية. انظر لسان الميزان (7/ 439). وفي "ط": "يزيد عن أبي أمية"، غلط. (3) "ف، ب": "مسلم"، وكذا في "ط" وأحكام أهل الذمة (624). والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في "ك". وهو سلم بن قتيبة الشعيري أبو قتيبة الخراساني الفريابي، نزيل البصرة. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 133). (4) "عنه" ساقط من "ك، ط". (5) أخرجه البخاري في تاريخه (8/ 319 - 320). (6) (41/ 95) (24545).
(2/847)
حبيب، حدَّثني عبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف أنَّه سأل عائشة، فذكر الحديث. وعبد اللَّه هذا يُنظر في حاله، وليس بالمشهور (1). واحتجُّوا بما (2) رواه عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه (3)، حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن عليّ قال: سألت خديجةُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال: "هما في النَّار". فلمَّا رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيتِ مكانهما لأبغضتِهما". قالت: يا رسول اللَّه، فولدي منك؟ قال: "إنَّ المؤمنين وأولادهم في الجنَّة، وإنَّ المشركين وأولادهم في النَّار". ثمَّ قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} (4). وهذا معلول من وجهين: أحدهما: أنَّ محمد بن عثمان مجهول، الثاني: أنَّ زاذان لم يدرك عليًّا (5). وقال جماعة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن [سلمة بن يزيد] الأشجعي (6) قال: أتيت أنا وأخي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلنا: إنَّ __________ (1) ذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. تهذيب التهذيب (5/ 366). (2) من هنا إلى قوله "وبحديث خديجة" ألحقه المصنف في حاشية النسخة. وهي ثلاثة أسطر في طول الصفحة. وقد ذهب أكثر السطر الأخير منها عندما نقلت نسخة "ف" منها، كما يظهر من البياض الآتي فيها. أما الآن فلا يظهر في المصورة إلا كلمات من أول هذا السطر. (3) (2/ 348) (1131). (4) كذا رسمت الآية هنا في الأصل و"ف" على قراءة الجمهور. وستأتي مرة أخرى على قراءة أبي عمرو، وعليها ضبطت هنا في "ب". (5) والحديث تكلم فيه ابن الجوزي والذهبي والهيثمي. انظر: تحقيق المسند. (ز). (6) ما بين الحاصرتين مكانه بياض في "ف". ولعله كان في الأصل: "سلمة بن =
(2/848)
أمّنا ماتت في الجاهلية [وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال: "لا". قلنا له: فإنّ أمّنا وأدَتْ أختًا لنا] (1) في الجاهلية لم تبلغ الحِنْث؟ فقال: "الوائدة والموؤودة في النَّار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم" (2). وهذا إسنادٌ لا بأس به. واحتجُّوا (3) بحديث خديجة أنَّها سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولادها الذين ماتوا في الشرك فقال: "إن شئتِ أسمعتُكِ تضاغيَهم في النار" (4). قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع (5). __________ = يزيد الأشجعي" كما في مخطوطة أحكام أهل الذمة. والصواب: "سلمة بن يزيد الجعفي"، كما في المسند (25/ 268). وفي "ب، ك، ط": "سلمة بن قيس"، ولعله من تصرف بعض النسّاخ إذ رأى "الأشجعي" فكتب قبله في مكان البياض: "سلمة بن قيس"، لأنَّه هو الأشجعي، لا سلمة بن يزيد. (1) ما بين الحاصرتين من أحكام أهل الذمة (627). ومكانه بياض في "ف". وفي "ك": بياض بعد "الضيف" وقبل "لنا". ولفظ الحديث في "ب": ". . . الرحم وتفعل وتفعل، فهل ينفعها. . . قلنا: إن أمنا وأدت. . . الحنث، فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ". ولم نأخذ بهذا اللفظ لعدم ملاءمته لسياق الأصل. وذكر ناشر (ط) الحديث بلفظ مختلف ولم يشر إلى بياض في أصله. (2) أخرجه أحمد (15923)، والنسائي في الكبرى (11649)، والبخاري في تاريخه (4/ 72) وغيرهم. والحديث فيه اختلاف طويل. انظر: التاريخ الكبير وعلل الدارقطني (5/ 160 - 163) (ز). (3) "احتجوا" ساقط من "ك، ط". (4) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (625) بمعناه، وفيه: "قلت يا رسول اللَّه، فأولادي من غيرك؟ قال: في النار، قلت: بلا عمل؟ قال: اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". قال البيهقي: هذا إسناده منقطع. (ز). (5) انظر ما سبق من تعليقنا في ص (846).
(2/849)
واحتجوا أيضًا بما روى البخاري في صحيحه (1) في حديث احتجاج الجنَّة والنار عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "وأمَّا النَّار فينشئ اللَّه لها خلقًا يُسكنهم إيَّاها" قالوا: فهؤلاء ينشَؤون للنَّار بغير عمل، فلأنْ يدخلها مَن وُلِد في الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجّة باطلة (2)، فإنَّ هذه اللفظة وقعت غلطًا من بعض الرواة، وبيَّنها البخاري رحمه اللَّه في الحديث الآخر -وهو الصواب- فقال في صحيحه (3): حدَّثني عبد اللَّه بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدئنا معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة، قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تحاجَّت الجنَّة والنَّار، فقالت النَّار: أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين. وقالت الجنَّة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم؟ قال اللَّه عزَّ وجلَّ للجنَّة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاءُ من عبادي. وقال للنَّار: أنتِ عذابي أُعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها. فأمَّا النَّار فلا تمتلئ حتَّى يضع (4) رِجلَه، فتقول: قطْ، قطْ. فهنالك تمتلئ، ويُزوَى بعضُها إلى بعض، ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه ينشئ لها خلقًا". فهذا هو الذي قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلا ريب، وهو الذي ذكره في التفسير. وقال (5) في باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف/ 56]: حدثنا عبيد اللَّه (6) بن سعد، حدَّثنا __________ (1) في كتاب التوحيد (7449)، وسيأتي نصّ الحديث بتمامه. (2) وهذا الردّ أيضًا نقله المؤلف في أحكام أهل الذمة (629) عن شيخه. (3) في كتاب التفسير (4850). (4) "ك، ط": "يضع الجبار عزّ وجلّ". (5) "قال" ساقط من "ط". (6) في الأصل وغيره: "عبد اللَّه"، وكذا في أحكام أهل الذمة (630). والصواب ما =
(2/850)
يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج, عن أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اختصمت الجنَّة والنَّار إلى ربهما، فقالت الجنَّة: يا ربّ ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار (1)، فقال للجنَّة: أنتِ رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي أصيب بكِ من أشاءُ، ولكلِّ واحدة منكما ملؤها. قال: فأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه تعالى لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنَّه ينشئ للنار مَن يشاء فيُلْقَون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها، وتقول: هل من مزيد (2) -ثلاثًا- حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ، ويُرَدّ بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط" (3). فهذا غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعًا (4). كما انقلب على بعضهم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتَّى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم" (5). فقال: "إنَّ ابن أمّ مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتَّى يؤذن بلال" (6)، __________ = أثبتنا من الصحيح. وفي "ب": "عبيد اللَّه بن سعيد"، وهو أيضًا خطأ. (1) كذا في الأصلِ، وكتب بعده: "صح"، حتى لا يظن أنه أسقط شيئًا، وكذا في "ف". وفي حاشية "ك": "كذا وجد". قال ابن بطال: سقط قول النار هنا من جميع النسخ -يعني نسخ الصحيح- وهو محفوظ في الحديث. رواه ابن وهب عن مالك بلفظ: "أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين". قال ابن حجر: هو في غرائب مالك للدارقطني، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد. انظر: الفتح (13/ 436). وفي "ب": "يعني أوثرت. . . ". (2) "ويلقون فيها. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط". (3) كتاب التوحيد (7449). (4) وانظر: حاشيته على السنن (12/ 322)، وحادي الأرواح (536). ونقل ذلك في الزاد (1/ 439) عن شيخه. وانظر قوله في منهاج السنة (5/ 101). (5) من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أخرجه البخاري في الأذان (617) وغيره؛ ومسلم في الصيام (1092). (6) أخرجه ابن خزيمة (406) ومن طريقه ابن حبان (3473) من حديث عائشة =
(2/851)
وله نظائر. وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا (1) لم يُحفَظ كما ينبغي، وسياقه يدل على أنَّ راويه لم يُقِمْ متنه، بخلاف حديث همام عن أبي هريرة. واحتجُّوا بما رواه أبو داود (2) عن عامر الشعبي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوائدةُ (3) والموؤودة في النار". قال يحيى بن زكريا: [قال أبي] (4): فحدَّثني أبو إسحاق السبيعي أنَّ عامرًا حدَّثه بذلك عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسيأتي (5) الجواب عن هذا الحديث إن شاء اللَّه (6). المذهب الثالث: أنَّهم في الجنَّة، وهذا قول طائفة من المفسِّرين والمتكلمين وغيرهم (7). واحتجَّ هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه (8) عن سمرة بن جندب قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعنى (9) ممَّا يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منك رؤيا؟ " قال: فيَقُصُّ عليه من شاءَ (10) اللَّه __________ = (ز). وانظر: تعليق المحققين على المسند (9/ 312) (5424). (1) "ط": ". . . هذا عن أبي هريرة". (2) في كتاب السنة (4717). (3) من قوله "واحتجوا بما رواه" إلى هنا جزء من لحق في الأصل ذهب به التصوير أو تأكل الورقة، فأثبته من "ف" وغيرها. (4) ما بين الحاصرتين زدناه من السنن. وقد سقط من الأصل وغيره. (5) "ك، ط": "يأتي". (6) زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". (7) ذكر المصنف في أحكام أهل الذمة (632) أنه من اختيار أبي محمد ابن حزم وغيره، ونقل من دلائله المذكورة في كتابه الفصل (2/ 324)، وردّ عليها. (8) في كتاب التعبير (7047). (9) حذف "يعنى" في "ط". (10) "ط": "ما شاء".
(2/852)
أن يَقُصّ. وإنَّه قال لنا ذات غداة: "إنَّه (1) أتاني الليلة آتيان" فذكر الحديث وفيه: "فأتينا على روضة معتمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهرَي الروضة رجلٌ طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء. وإذا حول الرجل من أكثر ولدانٍ رأيتهم قطّ" وفيه: "وأمَّا الولدان الذين حوله فكلّ مولود مات على الفطرة" فقال بعض المسلمين: يا رسول اللَّه وأولاد المشركين؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأولاد المشركين". فهذا الحديث الصحيح صريح في أنهَّم في الجنَّة، ورؤيا الأنبياء وحي. وفي مستخرج البَرْقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة" فناداه (2) الناس: يا رسول اللَّه، وأولاد المشركين؟ قال: "وأولاد المشركين" (3). وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن خنساء (4) بنت معاوية، قالت: حدّثتني عمَّتي (5) قلتُ (6): يا رسول اللَّه، من في الجنَّة؟ قال: "النبيّ في الجنّة، __________ (1) "ك، ط": "إني". (2) "ك، ط": "فقال". (3) وأخرجه البيهقي في "القضاء والقدر" رقم (6052). (4) كذا في الأصل وغيره. وفي المسند والسنن وغيرهما: "حسناء"، وذكر الوجهان في ترجمتها في تهذيب التهذيب (12/ 409). (5) كذا في الأصل وغيره وأحكام أهل الذمة (633). وفيه نظر، فإن الوارد في كتب الحديث والرجال أنها تروي عن عمّها. وذكر بعضهم أن اسمه أسلم بن سليم. انظر: تهذيب التهذيب والمصادر المذكورة في تخريج الحديث. (6) "ك، ط": "قالت".
(2/853)
والشهيد في الجنَّة، والمولود في الجنَّة (1)، والموؤودة في الجنَّة" (2). وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف. واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172]، وبقوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} [الليل/ 15]، وبقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة/ 24] (3). واحتجّوا (4) بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وهؤلاء لم تقم عليهم حجَّة اللَّه بالرسل فلا يعذِّبهم. واحتجّوا بقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] (5). واحتجّوا بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص/ 59]. فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى في الدنيا ويعذِّب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذِّب في الآخرة العذاب الدائم من لم __________ (1) "والمولود في الجنة" ساقط من "ب، ك، ط". (2) أخرجه أبو داود (2521) وأحمد (20583) والبيهقي (9/ 163) وغيرهم. وفيه: حسناء بنت معاوية، فيها جهالة. (ز). (3) قوله: "واحتجّوا بقوله تعالى" إلى هنا مثبت من "ب، ك، ط". ومكانه بياض في "ف". وهو الجزء الأخير من لحق بدأ في الأصل من قوله: "وفي مستخرج البرقاني" من وسط حاشية الصفحة اليسرى في طولها، وتمّ في ثلاثة أسطر في أعلاها. والسطر الأخير قد ذهب به تأكل الورقة، ولا يظهر منه الآن في المصورة إلّا: "وكذلك رواه بندار". (4) "واحتجوا" ساقط من "ك، ط". (5) هذه الآية مع ما قبلها "واحتجوا" ساقطة من "ك، ط".
(2/854)
يصدر منه ظلم؟ ولا يقال: كما أهلكه في الدنيا تبعًا لأبويه وغيرهم، فكذلك يدخله النار تبعًا لهم. لأنَّ مصائب الدنيا إذا وردت لا تخصّ الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره، ويبعثون على نيَّاتهم وأعمالهم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال/ 25] وكالجيش الذين يخسف بهم جميعهم، وفيهم المكره والمستبصر وغيره. فأمَّا عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصَّة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلًا. قال تعالى في حقِّ النار (1): {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 - 9] وقال تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85]. وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه، فأين يستقرّ فيها من لم يتبعه؟ قالوا: وأيضًا فالقرآن مملوءٌ (2) من الأخبار بأنَّ دخول النَّار إنَّما يكون بالأعمال، كقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف/ 49] وقوله (3): {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة/ 281] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ __________ (1) كذا في "ف". وفي "ب، ك، ط": "في النار". ولا يبعد أن تكون كلمة "الحق" مضروبًا عليها، ولكن ليس ذلك بيّنًا لانتشار الحبر. (2) "ف": "ضمن"، خلاف الأصل. (3) "وقوله" ساقط من "ط".
(2/855)
الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76] إلى غير ذلك من النصوص. قالوا: وقد أخبر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ كلَّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما يهوّده وينصّره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحقّ النار؟ وفي صحيح مسلم (1) من حديث عياض بن حمار (2) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يقول اللَّه تعالى: إنِّي خلقتُ عبادي حُنفاء، فأتتهم (3) الشياطينُ، فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم". وقال محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عياض، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّه خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامًا"، فزاد "مسلمين" (4). قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار عدله تعالى، والجنَّة دار فضله، ولهذا (5) ينشئ للجنَّة من لم يعمل عملًا قطّ. وأمَّا النار فإنَّه لا يعذّب بها إلا من __________ (1) في كتاب الجنة (2865). (2) "ف": "حديث أبي هريرة"، وهو غير صحيح، ولكن لا ندري أكان هذا السهو في الأصل، أم ناسخ "ف" هو الذي سها، لأن قوله: "وفي صحيح مسلم. . . دينهم" جزء من لحق، ووقع في طرف الورقة، فضاع أو لم يظهر في الصورة. والمثبت من "ب، ك، ط". (3) "ب، ك، ط": "فجاءتهم". (4) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 997)، وسنده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن عائذ، تابعي لا يدرى أسمع من عياض أم لا. وأيضًا فيه ابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث. (ز). (5) "ب، ك، ط": "فلهذا"، قراءة محتملة.
(2/856)
عمل بعمل أهلها. قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار جزاءٍ، فمن لم يعص اللَّه طرفةَ عين كيف يُجازى بالنَّار خالدًا مخلَّدًا أبد الآباد؟ قالوا: وأيضًا فلو عذّب هؤلاء لكان تعذيبهم إمَّا مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف، والقسمان ممتنعان: أمَّا الأوَّل فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلًا. وأمَّا الثاني فممتنع (1) أيضًا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالها من أنَّ اللَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام (2) الحجَّة عليه. قالوا: وأيضًا فلو كان تعذيب هؤلاء لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك، لاشتراكهم في عدم الإيمان الفعلي علمًا وعملًا. فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب، بخلاف أطفال المشركين. قلنا: اللَّه تعالى لا يعذِّب أحدًا بذنب غيره. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164] وقال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس/ 54]. وهذه حجج كما ترى قوَّةً وكثرةً، ولا سبيل إلى دفعها. وسيأتي إن شاء اللَّه فصلُ النزاع في المسألة، والقولُ بموجَب (3) الحجج الصحيحة __________ (1) "ك، ط": "فيمتنع". (2) "ف": "إقامة"، خلاف الأصل. (3) "ك، ط": "في هذه المسألة والقول بموجب هذه. . . ".
(2/857)
كلّها، على عادتنا (1) في مسائل الدين كلّها دِقّها وجِلّها أن نقول بموجَبها، ولا نضربَ بعضها ببعض؛ ولا نتعصَّب لطائفة على طائفة، بل نوافق كلّ طائفة على ما معها من الحقّ، ونخالفها فيما معها من خلاف الحقّ. لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً، ونرجو من اللَّه أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقَى اللَّه به، ولا قوَّة إلا باللَّه. المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنَّة والنَّار، فإنَّهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنَّة، ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلًا لثوابهم وزيادةً في نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار. وهذا قول طائفة من المفسّرين. قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: "هم الذين ماتوا في الفترة [وأطفال المشركين] " (2). والقائلون بهذا إن أرادوا أنَّ هذا المنزل مستقرّهم أبدًا فباطل، فإنَّه لا دار للقرار إلا الجنَّة أو النَّار. وإن أرادوا أنَّهم يكونون فيه مدَّةً، ثمَّ يصيرون إلى دار القرار، فهذا ليس بممتنع. المذهب الخامس: أنَّهم تحت مشيئة اللَّه تعالى، يجوز أن يعمّهم بعذابه، وأن يعمّهم برحمته، وأن يرحم بعضًا ويعذِّب بعضًا، بمحض __________ (1) "ط": "على أن عادتنا". (2) ما بين الحاصرتين زدناه من أحكام أهل الذمة (641). وهي زيادة لا بدّ منها ليتصل كلامه بالسياق. وعبد العزيز بن يحيى الكناني من أصحاب الشافعي، ينسب إليه كتاب الحيدة. وقد جرت بينه وبين بشر المريسيّ مناظرة في القرآن. طبقات السبكي (2/ 144).
(2/858)
الإرادة والمشيئة. ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة. وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتي القدر غيرهم (1). المذهب السادس: أنَّهم خدم أهل الجنَّة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقَّائهم ومماليكهم في الدنيا. واحتجّ هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرقاشي، عن أنس؛ قال الدارقطني: ورواه عبد العزيز الماجشون، عن ابن المنكدر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سألتُ ربِّي اللاهين من ذرّية البشر أن لا يعذّبهم، فأعطانيهم، فهم خُدّام أهل الجنَّة" (2) يعني الصبيان. فهذه (3) طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان (4)، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن أنس (5). قال ابن قتيبة: "اللاهون" من لهِيتُ عن الشيء إذا غفلت عنه. وليس هو من لهوت. __________ (1) كذا في الأصل و"ف". ولعله يعني غير نفاة الحكمة. وفي "ك، ط": "وغيرهم" بواو العطف. وهو ساقط من "ب". (2) أخرجه ابن الجعد (2906) وأبو يعلى (205، 4101). والحديث ضعفه الهيثمي والمؤلف. (ز). (3) كذا في الأصل و"ف، ب". وكذا في مخطوطة أحكام أهل الذمة (643). وفي "ط": "فهذان". وفي "ك": "فهذه طريقة". (4) في "ف، ب": "سلمان" هنا وفيما يأتي. والصواب ما أثبتنا من "ك، ط". (5) أخرجه أبو يعلى (3570) والطبراني في الأوسط (957). (ز).
(2/859)
وهذه الطرق ضعيفة. فإنَّ يزيد الرقاشي واهٍ، وفضيل بن سليمان متكلَّم فيه (1)، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف. المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفرَدون عنهم بحكم في الدارين. فكما هم منهم في الدنيا، فهم منهم في الآخرة. والفرق بين هذا المذهب وبين (2) مذهب من يقول: هم في النَّار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعًا لهم، حتَّى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنَّار. وصاحب القول الآخر يقول: هم في النَّار لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوها تبعًا. وهؤلاء يحتجّون بحديث عائشة الذي تقدَّم ذكره، واحتجّوا بما في الصحيحين (3) عن الصعب بن جثَّامة قال: سئل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون (4) فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم" (5). ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدَّم حديث أبي وائل عن ابن مسعود يرفعه: "الوائدة والموؤودة في النار". وهذا يدلّ على أنَّها إنَّما (6) كانت في النار تبعًا لها. __________ (1) في أحكام أهل الذمة: "وفضيل بن سليمان فينظر فيه". ولا يبعد أن يكون "فينظر" تحريفًا لما هنا. (2) "بين" ساقط من "ط". (3) البخاري (13012) ومسلم (1745) في الجهاد والسير. (4) "ف": "يثبتون"، تصحيف. (5) أسقط ناسخ "ف" "هم"، ولعله ظن الكلمة مضروبًا عليها. (6) "إنّما" ساقطة من "ط".
(2/860)
قالوا: ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} (1) [الطور/ 21]. فهذا يدلّ على أنَّ إتباع الذرية لآبائهم ونجاتَهم إنَّما كان إكرامًا لآبائهم وزيادةً في ثوابهم، وأنَّ الإتباع إنَّما استُحِق (2) بإيمان الآباء. وإذا (3) انتفى إيمان الآباء انتفى إتباعُ النجاة، وبقي إتباعُ العذاب. ويفسّره قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هم منهم". وأجيب عن حجج هؤلاء: أمَّا حديث عائشة الذي فيه أنَّهم في النار، فقد تقدّم ضعفه. وأمَّا حديثها الآخر: "هم من آبائهم" فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرُّضٌ للعذاب بنفي ولا إثبات. وإنَّما فيه أنهم تَبَعٌ لآبائهم في الحكم، وأنَّهم إذا أصيبوا في الجهاد والبَيات لم يُضمَنوا بدية ولا كفَّارة. وهذا مصرَّح به في حديث الصعب والأسود أنَّه في الجهاد. وأمَّا حديث عائشة الآخر فضعَّفه غيرُ واحد. قالوا: وعبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف راويه عنها ليس بالمعروف فيُقْبلَ حديثُه. وعلى تقدير ثبوته، فليس فيه تصريح بأنَّ السؤال وقع عن الثواب والعقاب. والنبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "هم من آبائهم". ولم يقل: "هم معهم"، وفرقٌ بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرة، بخلاف __________ (1) وردت الآية في الأصل و"ف، ب" على قراءة أبي عمرو: "وأتبعناهم ذريّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم". وفي "ك": "واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم" على قراءة نافع. انظر: الإقناع (773). (2) "ط": "يستحق". (3) "ك، ط": "فإذا".
(2/861)
كونهم منهم (1)، فإنَّه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد. واللَّه تعالى يُخرج الطيبَ من الخبيث، والمؤمن من الكافر. وأمَّا حديث ابن مسعود فليس فيه أنَّ هذا حكم كلّ واحد من أطفال المشركين. وإنَّما يدلّ على أنَّ بعض أطفالهم في النَّار، وأنَّ من هذا الجنس -وهن الموؤودات- مَن يدخل النَّار، وكونُها موؤودة لا يمنع من دخولها النَّار بسبب آخر، وليس المراد أنَّ كونها موؤودة هو السبب الموجب لدخول النَّار، حتى يكون اللفظ عامًّا في كلِّ موؤودة. وهذا ظاهر، ولكن كونها موؤودة لا يودّ عنها النار إذا استحقَّتها بسبب، كما سيأتي بيانه بعد هذا إن شاء اللَّه. وأحسن من هذا أن يقال: هي في النار ما لم يوجَد سببٌ يمنع من دخولها النَّار، كما سنذكره إن شاء اللَّه. ففرق بين أن تكون جهةُ كونها موؤودةُ هي التي استحقَّت بها دخول النَّار، وبين كونها غيرَ مانعة من دخول النار بسبب آخر. وإذا كان تعالى يسأل الوائدة عن وأد ولدها بغير استحقاق، ويعذِّبها على وأدها، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} [التكوير/ 8]، فكيف يعذّب الموؤودة بغير ذنب، وهو سبحانه (2) لا يعذَب من وأَدها بغير ذنب؟ وأمَّا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (3) [الطور/ 21] فهذه الآية تدلّ على أنَّ اللَّه سبحانه يُلحِق ذرّيةَ المؤمنين بهم __________ (1) كذا في الأصل وغيره، وأحكام أهل الذمة (647). (2) "ك، ط": "واللَّه سبحانه". (3) هنا أيضًا وردت الآية في الأصل و"ف، ب" على قراءة أبي عمرو. وفي "ك" على قراءة نافع.
(2/862)
في الجنَّة، وأنَّهم يكونون معهم في درجتهم. ومع هذا فلا يتوهّم نزول الآباء إلى درجة الذرية، فإنَّ اللَّه لم يَلِتْهُمْ -أي: لم ينقصهم- من أعمالهم شيئًا، بل رفع ذرّيتهم (1) إلى درجاتهم مع توفير أجور الآباء عليهم. لما كان إلحاق الذرّية بالآباء في الدرجة إنَّما هو بحكم التبعية لا بالأعمال، ربما توهَّم متوهّم أنَّ ذرّية الكفار يلحقون بهم في العذاب تبعًا وإن لم يكن لهم أعمال الآباء، فقطع تعالى هذا التوفم بقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}. وتأمَّل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} (2) [الطور/ 21]، كيف أتى بالواو العاطفة في إتباع الذرية، وجَعَلَ الخبر (3) عن المؤمنين الذين هذا شأنهم، فجعل الخبر مستحَقًّا بأمرين: أحدهما: إيمان الآباء، والثاني: إتباع اللَّه ذريتَهم إيَّاهم. وذلك لا يقتضي أنَّ كل مؤمن يَتبعه كلُّ ذرية له، ولو أريد هذا المعنى لقيل: والذين آمنوا تتبعهم ذرّياتُهم. فعطفُ الإتباع بالواو يقتضي أن يكون المعطوف بها قيدًا وشرطًا في ثبوت الخبر، لا حصوله لكلِّ أفراد المبتدأ. وعلى هذا يخرَّج ما رواه مسلم في صحيحه (4) عن عائشة قالت: أُتي النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصبي من الأنصار يصلّي عليه: فقلت: يا رسول اللَّه، طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا، ولم يدرِ به (5). قال: "أوَ غير ذلك يا عائشة، إنَّ اللَّه __________ (1) "ك، ط": "ذرياتهم". (2) انظر: التعليق السابق على الآية. (3) "ف": "وبعد الخبر"، تحريف. (4) "ط": "ولم يدره". (5) كتاب القدر (2662) وقد سبق في ص (150). ولفظ الحديث هنا من سنن =
(2/863)
خلق الجنَّة، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم". فهذا الحديث يدلّ على أنَّه لا يشهد لكلِّ طفل من أطفال المؤمنين بالجنَّة، وإن أُطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنَّهم في الجنَّة، لكنَّ الشهادة للمعيَّن ممتنعة؛ كما يشهد للمؤمنين مطلقًا أنَّهم في الجنَّة، ولا يشهد لمعيَّن بذلك إلا من شهد له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهذا وجه الحديث الذي أشكل (1) على كثيرٍ من النَّاس، وردَّه الإمام أحمد وقال: لا يصحّ، ومن يشكّ أنَّ أولاد المسلمين في الجنَّة؛ (2) وتأوّله قومٌ تأويلات بعيدة. المذهب الثامن: أنَّهم يمتحنون في عرصة (3) القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كلِّ من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنَّة، ومن عصاه أدخله النَّار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنَّة وبعضهم في النَّار. وبهذا يتألَّف شمل الأدلّة كلَّها، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلومُ اللَّه -عزَّ وجلَّ- الذي أحال عليه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث يقول: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" يظهر حينئذٍ، ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلومًا خارجيًّا (4) لا علمًا مجرَّدًا، ويكون النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ردَّ جوابهم إلى علم اللَّه فيهم، واللَّه تعالى يردّ ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم. فالخبرُ عنهم مردودٌ إلى علمه، ومصيرُهم مردودٌ إلى معلومه. __________ = أبي داود (4713). (1) "ك، ط": "يشكل". (2) انظر: حاشية المؤلف على السنن (12/ 318). (3) "ب، ك، ط": "عرصات". (4) "ط": "معلومًا علمًا خارجيًا"!
(2/864)
وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضًا. فمنها: ما رواه أحمد في مسنده والبزار أيضًا بإسنادٍ صحيح، فقال أحمد (1): حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أربعة يحتجّون يوم القيامة: رجلٌ أصمّ لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرِم (2)، ورجل مات في الفترة. أمَّا الأصمّ فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام، وأنا ما أسمع شيئًا. وأمَّا الأحمق فيقول: ربّ لقد جاءَ الإسلام، والصبيان يحذفوني (3) بالبعر. وأمَّا الهرم فيقول: لقد (4) جاءَ الإسلام، وما أعِقل. وأمّا الذي مات (5) في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني رسول. فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه، فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النَّار. فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا" (6). قال معاذ: وحدثني أبي، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث، وقال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها رُدَّ إليها" (7). __________ (1) "ب، ك، ط": "الإمام أحمد"، هنا وكذا في الموضع السابق في "ك، ط". (2) متقدم في "ك، ط" على سابقه. (3) بحذف نون الرفع. وفي "ط": "يحذفونني". (4) "ب، ك، ط": "رب لقد". (5) "مات" ساقط من "ك، ط". (6) أخرجه أحمد (16301)، وإسحاق في مسنده (41)، وابن حبان (7356)، والطبراني في الكبير (841)، وغيرهم من حديث الأسود بن سريع. وفي سنده انقطاع، قتادة لم يسمع من الأحنف بن قبس، لأنه ولد سنة 60 هـ، وتوفي الأحنف سنة 67 هـ، فسماعه بعيد جدًّا. (ز). (7) لفظ المسند: "من لم يدخلها يُسْحَبْ عليها".
(2/865)
وهو في مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضًا (1). ورواه البزَّار، ولفظه: عن الأسود بن سريع عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يعرض على اللَّه تبارك وتعالى الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا، والأحمق، والهرم، ورجل مات في الفترة. فيقول الأصمّ: ربّ جاء الإسلام وما أسمع شيئًا. ويقول الأحمق (2): ربّ جاء الإسلام وما أعقل شيئًا. ويقول الذي مات في الفترة: ربّ ما أتاني لك رسول". وذكر الهرم وما يقول. قال: "فيأخذ مواثيقهم لَيطيعُنّه. فيرسِل إليهم: ادخلوا النار. فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا" (3) قال الحافظ عبد الحقّ في حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم. والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكنَّ اللَّه يخصّ من شاء بما شاء (4)، ويكلِّف من شاء ما شاءَ، وحيثما شاءَ. لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون (5). قلتُ: وسيأتي الكلام على وقوع التكليف في الدار الآخرة وامتناعه، عن قُربٍ (6) إن شاء اللَّه. __________ (1) أخرجه أحمد (16302)، وإسحاق (41)، والبزار كما في كشف الأستار (2175) وغيرهم من حديث الأسود. قلت: وقد وقع اختلاف في رفعه ووقفه. وقال البيهقي في الحديث: هذا إسناد صحيح. القضاء والقدر (645). (ز). (2) "ك، ط": "والأحمق يقول". (3) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (2174) من حديث الحسن البصري عن الأسود. وفي سماع الحسن من الأسود خلاف، وانظر: جامع التحصيل (165). (ز). (4) "ك، ط": "من يشاء بما يشاء". (5) العاقبة (317). (6) "ط": "عن قريب".
(2/866)
ورواه على بن المديني عن معاذ بنحوه. قال البيهقي: حدثنا على بن محمد بن بشران، أنبأنا أَبو جعفر الرزَّاز (1)، حدثنا حنبل بن إسحاق (2)، حدثنا على بن عبد اللَّه. وقال: هذا إسناد صحيح. وأمَّا حديث [. . .] (3) علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه (4). ورواه معمر عن عبد اللَّه بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قوله (5). وروى محمد بن المبارك الصوري -ثقة- حدثنا عمرو بن واقد -ضعيف- حدثنا يونس بن ميسرة -ثقة- عن إبي إدريس الخولاني عن معاذ يرفعه: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرًا. فيقول الممسوخ عقلًا: يا ربّ لو آتيتني عقلًا ما كان مَن آتيته عقلًا بأسعد منِّي. ويقول الهالك في الفترة: يا ربِّ لو أتاني منك __________ (1) "ط": "الرازي" تحريف. (2) في "ف" وغيرها: "حنبل بن الحسين"، ولكن الصواب ما قرأت. وكذا في الاعتقاد (169). (3) في "ف" بياض هنا بقدر تسع كلمات أو نحوها. وهو جزء من لحق طويل. ولم يظهر في المصورة بعد كلمة "حديث" إلى "عن أبي هريرة". ولا يوجد بياض في النسخ الأخرى، كان الكلام متصل. (4) أخرجه إسحاق في مسنده (514) وابن أبي عاصم في السنة (413)، وأسد بن موسى في الزهد (97) وغيرهم. وفيه على بن زيد بن جدعان، فيه ضعف. وقد تابعه الحسن إن كان محفوظًا. والحديث أشار إليه البيهقي في القضاء والقدر (645) وقال: فيه ضعف. (ز). (5) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 318) (1545)، ورواه معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة موقوفًا. ورواه معمر عن قتادة عن أبي هريرة موقوفًا. أخرجهما الطبري في تفسيره (15/ 54). (ز).
(2/867)
عهدٌ ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده منِّي. ويقول الهالك صغيرًا: يا ربِّ لو آتيتَني عمرًا ما كان من آتيتَه عمرًا بأسعد منِّي. فيقول الربّ سبحانه: لئن (1) آمرْكم بأمرٍ أفتطيعوني (2)؟ فيقولون: نعم وعزَّتك، فيقول: اذهبوا فادخلوا النَّار. فلو دخلوها ما ضرَّهم (3). قال: فيخرج عليهم قوابسُ (4) [يظنّون أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا -وعزَّتك- نريد دخولها، فخرجت علينا قوابسُ، (5) ظننَّا أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء. فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك، ويقولون مثل قولهم. فيقول اللَّه سبحانه: قبل أن تُخلَقوا علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتُكم، وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار" (6). فهذا وإن كان فيه (7) عمرو بن واقد ولا يحتجّ به، فله أصل وشواهد، والأصول تشهد له. __________ (1) "ف": "إنّي"، أخطأ في القراءة. "ج، ك، ط": "لئن أمرتكم". (2) "ب": "أتطيعوني". "ك، ط": "فتطيعوني". (3) "ط": "ضرّتهم". (4) كذا في الأصل وغيره بالسين. وفي حاشية "ف" بإزائها: "من شعل النار". ويروى: "قوابص" و"قوانص". انظر: النهاية (4/ 5، 112). (5) ما بين الحاصرتين قد سقط من الأصل لانتقال النظر، وكذا في النسخ الأخرى. وقد استدركناه من أحكام أهل الذمة (652) ومصادر التخريج الآتية. وهو مستدرك أيضًا في "ط" دون إشارة إلى سقط في أصلها. (6) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 158)، والأوسط (7955)، وابن عدي في الكامل (5/ 117)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1545) وغيرهم من حديث معاذ. قال الطبراني: "لا يروى عن معاذ إلَّا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في المجمع (7/ 216): "وفيه عمرو بن واقد وهو متروك". والحديث باطل، تكلّم فيه ابن عدي وأَبو نعيم وابن الجوزي والهيثمي وغيرهم. (ز). (7) "فيه" ساقط من "ك، ط".
(2/868)
وفي الباب أحاديث غير هذا. (1) وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع -وصحَّحه عبد الحق والبيهقي (2) - و (3) من حديث أبي هريرة وأنس ومعاذ وأبي سعيد. فأَمَّا حديث الأسود فرواه معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (4). قال معاذ: وحدَّثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. رواه (5) أحمد وإسحاق عن معاذ. ورواه حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. ورواه معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا عليه. وهذا لا يضرّ الحديث، فإنَّه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقُّق الوقف، ومثل هذا لا يُقدَم عليه بالرَّأي. إذ لا مجال له فيه، بل يجزم (6) بأنَّ هذا توقيف لا عن رأي. __________ (1) كتب المؤلف أولًا: "وفي الباب أحاديث غير هذا لا تحضرني الآن. وعلى هذا فتوافق النصوص والأدلة. وشواهد العقل والفطرة تسبق الأدلة السمعية والعقلية، ويزول الاختلاف والاضطراب فيها، والحمد للَّه". ثم ضرب على قوله: "لا تحضرني. . . " إلى آخره، وكتب استدراكًا طويلًا في عرض النصف الأسفل من ق (116/ أ) مع إضافات جانبية، ثم رجع الكلام إلى (115/ ب). (2) الاعتقاد (169). (3) سقطت الواو من "ك، ط"، ففسد المعنى. (4) كذا في الأصل وغيره. وقد تقدم الحديث قريبًا. (5) "ط": "ورواه". (6) "ك، ط": "له فيقبل بجزم"، تحريف طريف!
(2/869)
وأمَّا حديث أَنس فرواه جرير بن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أَنس، قال: قال رسول اللَّه (1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني: كلّهم يتكلَّم بحجّته. فيقول الربّ تعالى لعنُقٍ من جهنَّم: ابرُزي. ويقول لهم: إنِّي كنت أبعث إلى عبادي رسولًا من أنفسهم وإنِّي رسول نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أنَّى ندخلها، ومنها كنَّا نفرّ؟ فيقول اللَّه: فأنتم لرسلي أشدّ تكذيبًا. قال: وأمَّا من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها. فيدخل هؤلاء إلى الجنَّة، وهؤلاء إلى النَّار" (2). وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرَّده لمكان ليث بن أبي سليم، وتضعيف الدارقطني لعبد الوارث (3)، فهو مما يعتضَد به. وقال البيهقي (4): أنبأنا أَبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أَبو العباس [هو __________ (1) "ك، ط": "عن أَنس عن النبي". (2) أخرجه أَبو يعلى في مسنده (4224)، والبزار كما في كشف الأستار (2177)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 128)، والبيهقي في الاعتقاد (169) من حديث أَنس. وهو ضعيف جدًّا. فيه ليث بن أبي سليم، لا يحتج به. وفيه عبد الوارث، قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: مجهول. وقال أَبو حاتم: شيخ. (ز). قوله: "عنق من جهنم" أي: طائفة منها. (3) لسان الميزان (4/ 85). (4) في الاعتقاد (170). والعبارة: "وقال البيهقي. . . شيبان" جزء من لحق وقع في طرف الورقة فلم يظهر في مصورة الأصل.
(2/870)
الأصم قال: نا العباس] (1) بن الوليد، أنبأنا أَبو شعيب (2)، حدثني شيبان (3) عن ليث بن أبي سليم (4)، عن عبد الوارث (5)، عن أَنس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأمَّا حديث معاذ، فقد تقدَّم (6) الكلام عليه. وأمَّا حديث أبي سعيد، فرواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا سعيد ابن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود. يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب. ويقول المعتوه: ربّ لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ لم أدرك العقل. فتُرفع لهم نارُ (7) فيقول: رِدوها. قال: فيرِدها مَن كان في علم اللَّه سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم اللَّه شقيًّا لو أدرك العمل. فيقول: إيَّاي __________ (1) ما بين الحاصرتين زدناه من كتاب الاعتقاد. وأَبو العباس الأصم هو الحافظ محمد بن يعقوب النيسابوري المتوفى سنه 346 هـ. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (3/ 865). والعباس بن الوليد بن مزيد أَبو الفضل البيروتي المتوفى سنة 270 هـ. ترجمته في تهذيب التهذيب (5/ 131). (2) في "ف" وغيرها: "ابن شعيب"، خطأ. وهو أَبو شعيب عبد اللَّه بن الحسن الحزاني المتوفى سنة 292 هـ. ترجمته في لسان الميزان (3/ 271). (3) في "ف": "الشيباني"، وفي "ب": "سفيان". والصواب ما أثبتنا. وهو شيبان ابن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أَبو معاوية البصري. توفي سنة 164 هـ ترجمته في تهذيب التهذيب (4/ 374). (4) "وتضعيف الدارقطني. . . " إلى هنا سقط من "ط"، واستدرك في حاشية "ك"، ولكن لم يظهر منه في الصورة إلا إلى قوله: "الوليد". (5) "ب، ك، ط": "عبد الرزاق"، تحريف. (6) "ك، ط": "فتقدم". (7) "ط": "فيرفع لهم نارًا".
(2/871)
عصيتم، فكيف لو رُسُلي أتتكم" (1). تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أَبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه (2). فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأمَّا الوقف فقد تقدم نظيره في (3) حديث أبي هريرة. فهذه الأحاديث يشدّ بعضها بعضًا، ويشهد لها أصول الشرع وقواعده. والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنّة، نقله عنهم الأشعري رحمه اللَّه في "المقالات" وغيرها (4). فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البرّ هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأنّ الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء. وكيف يكلَّفون دخولَ النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللَّه لا يكلّف نفسًا إلَّا وسعها (5)؟ فالجواب من وجوه (6): أحدها: أنّ أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل ولا أكثرهم. وإن __________ (1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 127)، وابن الجعد في مسنده (2038)، والبزار كما في كشف الأستار (2176) من حديث أبي سعيد. قال الهيثمي في المجمع: "رواه البزار، وفيه عطية، وهو ضعيف". (2) ذكره ابن عبد البر في التمهيد (18/ 128). (3) "ك، ط": "من". (4) انظر: مقالات الإسلاميين (296)، والإبانة (33). (5) الاستذكار (3/ 114). وقد صرّح بالنقل عنه في أحكام أهل الذمة (654). وانظر: التمهيد (18/ 130). (6) اقتصر المؤلف هنا على تسعة وجوه، وذكر في أحكام أهل الذمة (654 - 656/ 5) تسعة عشر وجهًا.
(2/872)
أنكرها بعضهم فقد صحّح غيرُه بعضَها، كما تقدّم. الثاني: أنّ أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدلّ على أنّهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث. الثالث: أنّ إِسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتجّ بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمّة: أحمد وإسحاق وعليّ بن المديني. الرابع: أنّه قد نصّ جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلَّا بدخول دار القرار. ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف. الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إليها: أنّ اللَّه تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غيرَ الذي يعطيه، وأنّه يخالفه ويسأله غيره، فيقول اللَّه له (1): "ما أغدرك! " (2). وهذا الغدر منه هو لمخالفته العهد (3) الذي عاهد اللَّه عليه. السادس: قوله: "وليس ذلك في وسع المخلوقين" جوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ ذلك ليس تكليفًا بما ليس في الوسع، وإنَّما هو تكليف بما فيه مشقَّة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتلَ أولادِهم وأزواجِهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا __________ (1) "له" ساقط من "ك، ط". (2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7437، 7439) وغيره. ومسلم في كتاب الإيمان (182). (3) "ك، ط": "للعهد".
(2/873)
الدجّال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارًا (1). الثاني: أنَّهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرّهم، وكانت بردًا وسلامًا، فلم يكلَّفوا بممتنع ولا بما يشقّ (2). السابع: أنَّه قد ثبت أنَّه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه (3)، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعًا، فكيف ينكر التكليف بدخول النَّار في رأي العين إذا كان سببًا (4) للنجاة؟ كما (5) جعل قطع الصراط الذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف سببًا للنجاة (6)، كما قال أَبو سعيد الخدري: "بلغني أنَّه أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف" رواه مسلم (7). فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنّار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة. واللَّه أعلم (8). __________ (1) كما في حديث حذيفة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3450) ومسلم في الفتن (2934). (2) "ط": "بما لم يستطع". (3) يشهد له ما أخرجه مسلم (185) من حديث أبي هريرة. (ز). (4) في "ف": "إذا سببًا"، وفوقها: "ينظر". ومعنى ذلك أنه كذا في الأصل. والمثبت من "ب". وفي "ك، ط": "كانت". (5) من قوله "فكيف ينكر" إلى هنا لم يظهر في مصورة الأصل. (6) "سببًا للنجاة" مكتوب في الأصل فوق السطر، وقد انتشر الحبر أيضًا، فسقط من "ف". وقوله: "سببًا. . . " إلى "من السيف" ساقط من "ب". و"للنجاة" ساقط من "ط". (7) في كتاب الإيمان (183). (8) كتب هنا في الأصل: "تمت". ولعل المؤلف أراد أن يختم هنا وجوه الردّ على كلام ابن عبد البر، وأن يكون ذلك آخر اللحق الطويل الذي بدأ من قوله "فإن قيل، قد أنكر ابن عبد البر"، ثمَّ بدا له أن يضيف الثامن والتاسع.
(2/874)
الثامن: أنَّ هذا استبعاد مجرَّد لا تُرَدّ بمثله الأحاديث. والنَّاس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجرَّدة (1) لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجَّة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقًا للحكمة (2)؛ بل الأدلَّة الصحيحة تدلّ على أنَّه مقتضى الحكمة كما ذكرناه. التاسع: أنَّ في أصحّ هذه الأحاديث -وهو حديث الأسود- أنَّهم يعطُون ربّهم المواثيقَ ليُطيعُنَّه فيما يأمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان، فيتركون (3) الدخول معصيةً لأمره، لا لعجزهم عنه. فكيف يقال إنَّه ليس في الوسع؟ (4). فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أنَّ التكليف إنَّما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأمَّا في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع. وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ، وهي تكليف. وأمَّا في عرصة __________ (1) بين كلمة "المجرّدة" و"لم يمكنه" بياض في "ف" بقدر ستّ كلمات، ولعل ناسخها ظنّ أن هذه الكلمات ذهب بها تأكّل الورقة من أسفلها، فترك بياضًا في نسخته. و"لم يمكنه. . . " إلى آخره مكتوب في طرف الحاشية اليسرى من الأصل، والظاهر أن الكلام متصل ولم يسقط منه شيء. ولا يوجد بياض في "ب، ك". (2) "ك، ط": "للحكم". (3) في الأصل: "فيتركوا"، وكذا في "ف، ك"، وهو سهو، والمثبت من "ب، ط". (4) هنا انتهى الاستدراك الطويل الذي بدأ في ص (859) من قوله: "وقد رويت له أحاديث"، مع إضافات أخرى.
(2/875)
القيامة فقد قال (1) تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم/ 42]. فهذا صريح في أنَّ اللَّه تعالى يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأنَّ الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذٍ حسنًا (2) عقوبةً لهم؛ لأنَّهم كُلِّفوا به في الدنيا وهم يطيقونه، فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم، كُلِّفوا به وهم لا يقدرون عليه (3) حسرةً عليهم وعقوبةً لهم. ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم/ 43] يعني أصحاء، لا آفةَ تمنعهم منه. فلمَّا تركوه وهم سالمون (4) دُعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه، كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد: "إنَّ ناسًا قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربّنا". فذكر الحديث بطوله. إلى أن قال: "فيقول: تتبع كلّ أمَّةٍ ما كانت تعبد، فيقول المؤمنون: فارقنا الناس في الدنيا أفقرَ ما كنَّا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئًا -مرَّتين أو ثلاثًا- حتَّى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاءِ نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل اللَّه ظهره طبقةً واحدةً كلَّما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثمَّ يرفعون رؤوسهم". وذكر الحديث (5). __________ (1) "ط": "فقال". (2) "ج، ك، ط": "حسًّا"، تصحيف. (3) "ف": "وهم لا يطيقونه"، خلاف الأصل. (4) "يعني أصحاء. . . " إلى هنا ساقط من "ج، ط". (5) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183)، وقد سبق في ص (873).
(2/876)
وهذا التكليف نظير التكليف في البرزخ (1) بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعًا واختيارًا أجاب في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا مُنِع منها في البرزخ. ولم يكن تكليفه في تلك الحال (2) -وهو غير قادر- قبيحًا؛ بل هو مقتضى الحكمة الإلهية؛ لأنَّه كُلِّف وقتَ القدرة فأبى (3)، فإذا كُلِّف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل، كان عقوبة له وحسرة. والمقصود أنَّ التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنَّة أو النَّار. وقد تقدَّم أنَّ حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أنَّ الذي تدلّ عليه الأدلّة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، وهو (4) مقتضى الحكمة = هو هذا القول، واللَّه أعلم. وقد حكى بعض أهل المقالات عن ثمامة (5) بن أشرس أنَّه ذهب إلى أنَّ الأطفال يصيرون يوم القيامة (6) ترابًا. وقد نقل عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنَّهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملةً (7). __________ (1) "ك، ط": "تكليف البرزخ". (2) "ك، ط": "في الحال". (3) "ك، ط": "مكلف. . . وأبى". (4) "هو" هنا وفيما بعد ساقط من "ب، ك، ط". (5) "ب، ك، ط": "عامر"، تحريف. وثمامة متكلّم بصري من رؤوس المعتزلة. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (10/ 203)، وقد نقل قوله البغدادي في الفرق بين الفرق (157). (6) "ك، ط": "في يوم القيامة". (7) انظر: التمهيد (18/ 124 - 126، 132). وقد ذكر المؤلف في أحكام أهل =
(2/877)
الطبقة الخامسة عشرة (1): طبقة الزنادقة. وهم قومٌ أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة اللَّه ورسله. وهؤلاء هم (2) المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النَّار. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء/ 145]. فالكفَّار المجاهرون بكفرهم أخفّ (3)، وهم فوقهم في دركات النَّار؛ لأنَّ الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة اللَّه ورسله، وزادت (4) المنافقون عليهم بالكذب والنفاق. وبليّة المسلمين بهم أعظم منن بليَّتهم بالكفَّار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقّهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون/ 4]. ومثل (5) هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم. ولكن لم يرد ههنا حصر العداوة فيهم (6) وأنَّهم لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب (7) إثبات الأولوية والأحقّية لهم في هذا الوصف، وأنَّه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إيَّاهم أنَّهم __________ = الذمة (647 - 648) قول ثمامة وما نقل عن ابن عباس على أنهما مذهبان مستقلَّان، فصارت في المسألة عشرة مذاهب. (1) في الأصل: "عشر" بالتذكير، ولعله سهو. وكذا في غيره إلَّا "ط". (2) "هم" ساقط من "ط". (3) أي: أخف عذابًا. وفي "ف": "أخفّ فوقهم"، فاسقط ناسخها "وهم"، وكتب فوق "أخف" علامة "ظ" أي: انظر. وكذا في "ك" لأنها لانتشار الحبر تبدو كأنها مضروب عليها. وفي "ب": "أخفت عذابًا منهم لكونهم فوقهم" وكأنها إصلاح لما في الأصل. (4) "ط": "زاد". (5) قراءة "ف": "وقيل". ولعل الصواب ما أثبتنا من غيرها. (6) "ف": "منهم"، خطأ. (7) "باب" ساقط من "ك، ط".
(2/878)
ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإنَّ ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين (1) لهم -وهم في الباطن على خلاف دينهم- أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأنَّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثمَّ ينقضي، ويعقبه النصر والظفر؛ وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدوَّ على عوراتهم، ويتربَّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم. فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ} لا على معنى أنَّه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنَّهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفَّار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- "ليس المسكين بهذا (2) الطوَّاف الذي ترذه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل النَّاس، ولا يُفطَنُ له فيُتصدّق عليه" (3). فليس هذا نفيًا لاسم المسكين عن الطوَّاف، بل إخبارٌ بأنَّ هذا القانع الذي لا يسمّونه مسكينًا أحقّ بهذا الاسم من الطوَّاف الذي يسمّونه مسكينًا. ونظيره قوله: "ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب" (4). ليس نفيًا للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأنَّ من يملك __________ (1) "ف": "المباشرين"، سهو، فإنّ الأصل واضح. (2) "بهذا" ساقط من "ب، ك، ط". (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري (1479)، ومسلم في الزكاة (1039). (4) أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البرّ والصلة (2609) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2/879)
نفسه عند الغضب أحقّ منه بهذا الاسم. ونظيره قوله: "ما تعدّون المفلسَ فيكم؟ " قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: "المفلس من يأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال، ويأتي قد لطَمَ هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا؛ فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخِذَ من سيئاتهم ثمَّ طُرِحَ عليه فأُلقيَ في النار" (1). ونظيره قوله: "ما تعدّون الرَّقوب فيكم؟ " قالوا: من لا يولد له. قال: "الرقوب من لم يقدّم من ولده شيئًا" (2). ومنه عندي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرِّبَا في النسيئة"، وفي لفظ: "إنَّما الرِّبَا في النسيئة" (3). هو إثبات لأن هذا النوع هو أحقّ باسم الرِّبَا من ربا الفضل، وليس فيه نفي اسم الرِّبَا عن ربا الفضل. فتأمله. والمقصود أنَّ هذه الطبقة أشقى الأشقياء، ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، ويُعطَون (4) نورَا يتوسَّطون به على الصراط، ثمَّ يطفئ اللَّه نورهم، ويقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد/ 13]. ويضرب بينهم وبين المؤمنين {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد/ 13 - 14]. وهذا أشدّ __________ (1) أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2581) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2608) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (3) من حديث أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما. واللفظان عند مسلم (1596)، وفي صحيح البخاري (2179): "لا ربا إلَّا في النسيئة". (4) "ك": "يعطى". "ط": "تعطى".
(2/880)
ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يُفتَح للعبد طريق (1) النجاة والفلاح، حتَّى إذا ظنَّ أنَّه ناجٍ ورأى منازل السعداء اقتطِع عنهم وضُربت عليه الشقوة. ونعوذ باللَّه من غضبه وعقابه. وإنَّما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنَّهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة؛ فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرًا، وأخبث قلوبًا، وأشدّ عداوة للَّه ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، وإن كان البعداء متصدّين لحرب المسلمين. ولهذا قال تعالى في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون/ 3]، وقال فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة/ 18]. وقال في الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة/ 171]. فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثمَّ عمي، وعرف ثمَّ تجاهل، وأقرَّ ثمَّ أنكر، وآمن ثمَّ كفر. ومن كان هكذا فهو أشدّ (2) كفرًا، وأخبث قلبًا، وأعتى على اللَّه ورسله؛ فاستحق الدرك الأسفل. وفيه معنى آخر أيضًا. وهو أنَّ الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين. فيُرضون (3) المؤمنين ليُعِزوهم (4)، ويُرضون __________ (1) "ف": "لطريق"، تحريف. وفي "ب": "باب النجاة". (2) "ط": "هكذا كان أشد". (3) في الأصل وغيره بحذف نون الرفع، في هذه الجملة والجملة التالية، ولعله سهو. (4) ك: "ليغرّوهم" من الغرور، تصحيف.
(2/881)
الكفار ليُعِزّوهم أيضًا. ومن ههنا دخل عليهم البلاءُ، فإنَّهم أرادوا العزّ بين (1) الطائفتين، ولم يكن لهمِ غرض في إيمان ولا إسلام (2) ولا طاعةٍ للَّه ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم ووجهتهم (3) إلى الكفَّار. فقوبلوا على ذلك بأعظم الذلّ، وهو أن جُعِلَ مستقرّهم في أسفل سافلين (4) تحت الكفار. فما اتصف به المنافقون من مخادعةِ اللَّه ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاء باهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنَّهم من المؤمنين، وانطواءِ (5) قلوبهم علَى الكفر والشرك وعداوة اللَّه ورسوله = أمرٌ اختصّوا به عن الكفار، فتغلَّظ (6) كفرُهم به، فاستحقّوا الدرك الأسفل من النار. ولهذا لمَّا ذكر تعالى أقسام الخلق في أوَّل (7) سورة البقرة، فقسمهم إلى مؤمنٍ ظاهرًا وباطنًا، وكافرٍ ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن في الظاهر كافرٍ في الباطن وهم المنافقون = ذكر في حقِّ المؤمنين ثلاث آيات، وفي حقِّ الكفار آيتين. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية. ذمَّهم فيها غاية الذمّ، وكشَفَ عوراتهم (8)، وفضحهم، وأخبر بأنَّهم (9) __________ (1) "ب": "من بين". "ك، ط": "العزتين من"، وكلاهما تحريف. (2) "ف": "إسلام ولا إيمان"، خلاف الأصل. وفي "ك": "الإيمان ولا إسلام. . . ". وفي "ط": "الإيمان والإسلام ولا طاعة اللَّه". (3) "ك، ط": "صغوهم وجهتهم". (4) "ب، ك، ط": "السافلين". (5) "ك، ط": "وأبطنوا"، تحريف! (6) "ف": "فيغلظ"، تصحيف. (7) "أول" سقط من "ف" سهوآ. (8) زاد بعدها في "ط": "وقبّحهم". (9) "ط": "أنهم".
(2/882)
هم السفهاء، المفسدون في الأرض المخادعون، المستهزئون، المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى؛ وأنَّهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون، وأنَّهم مرضى القلوب وأنّ اللَّه يزيدهم مرضًا إلى مرضهم؛ فلم يدع ذمًّا ولا عيبًا إلَّا ذمّهم به. وهذا يدلّ على شدّة مقته سبحانه لهم، وبغضه إيَّاهم، وعداوته لهم، وأنّهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ باللَّه من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمّل ما وصف اللَّه به المنافقين في القرآن من صفات الذمّ، علم أنّهم أحقّ بالدرك الأسفل. فإنّه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده. ووصف قلوبهم بالمرض، وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وعباده، والطغيان (1)، واشتراءِ الضلالة بالهدى، والصمم والبكم والعمى، والحيرة، والكسل عند عبادته، والرياء (2)، وقفة ذكره، والتردُّد -وهو التذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذبًا وباطلًا، وبالكذب، وبغاية الجبن، وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، وبالريب (3)، وبأنهم مضرّة على المؤمنين، لا يحصل لهم بصحبتهم (4) إلَّا الشرّ من الخبال، والإسراع بينهم بالشرّ وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر اللَّه __________ (1) "ك": "بالطغيان". "ط": "بعباده وبالطغيان". (2) "ك، ط": "والزنا"، تصحيف. (3) "ك، ط": "وبالرب"، تحريف. (4) "ك، ط": "ولا يحصل لهم بنصيحتهم"، تحريف.
(2/883)
ومجيء الحقّ (1)، وأنّهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنَّهم يتربّصون الدوائر بالمسلمين، وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة اللَّه وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم، فيلمزون المتصدّقين، ويعيبون مُزْهِدَهم (2)، ويرمون مُكْثِرَهم (3) بالرياءِ وإرادة الثناءِ (4) في الناس، وأنّهم عبيد الدنيا، إن أُعطوا منها رضوا، وإن مُنعوها (5) سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول اللَّه وينسبونه إلى ما برّأه اللَّه منه أو يعيبونه (6) بما هو من كماله وفضله، وبأنّهم (7) يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ ربّ العالمين، وأنّهم يسخرون من المؤمنين، وأنّهم يفرحون إذا تخلّفوا عن رسول اللَّه، ويكرهون الجهاد في سبيل اللَّه، وأنهم يتحيّلون على تعطيل فرائض اللَّه عليهم بأنواع الحيل، وأنّهم يرضون بالتخلّف عن طاعة اللَّه ورسوله، وأنّهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب اللَّه عليهم مع قدرتهم عليه، وأنّهم أحلفُ الناس باللَّه قد اتخذوا أيمانهم جُنَّةً تقيهم من إنكار المسلمين عليهم. وهذا شأن المنافق أحلف الناس باللَّه كاذبًا، قد اتخذ يمينه جُنَّةً ووقايةً يتّقي بها إنكارَ المسلمين عليه. __________ (1) "ط": "ومحو الحق"، تحريف. (2) مِنْ أزهد الرجلُ: قلّ ماله. (3) وضع "مكثرهم" في "ط" في آخر الجملة بعد "في الناس". (4) "ك، ط": "إراءة الثناء"، تحريف. (5) الضمير ساقط من "ك، ط". (6) "ط": "ويعيبونه". (7) "ك، ط": "وأنَّهم".
(2/884)
ووصفهم بأنّهم رجس -والرجس من كلّ جنس: أخبثُه وأقذرُه، فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم- وبأنهم فاسقون، وبأنَّهم مضرّة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب اللَّه ورسوله، وأنّهم يتشبّهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصّلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبدًا. وبأنّهم فتَنوا أنفسهم بكفرهم باللَّه ورسوله، وتربّصوا بالمسلمين دوائر السوءِ، وهذا (1) عادتهم في كل زمان. وارتابوا في الدين فلم يصدّقوا به، وغرّتهم الأماني الباطلة وغرّهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجسامًا تُعجِب الرائيَ أجسامُهم، والسامعَ منطقُهم، فإذا جاوزتَ أجسامهم وقولَهم رأيتَ خُشبًا مسنّدة، لا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشُب قد كُسِيتْ كسوةً تروق الناظر، وليس وراءَ ذلك شيء (2). وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبَوها وزعموا أنَّهم لا حاجة لهم إليها، إمّا لأنّ ما عندهم من الزندقة والجهل المركّب مغنٍ عنها وعن الطاعات جملةً -كحال كثير من الزنادقة- وإمَّا احتقارًا وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك. ووصفهم تعالى بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنّهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، وبنسيانهم (3) ذكرَه، وبأنّهم يتولّون الكفار ويدَعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم __________ (1) "ط": "وهذه". (2) "ط": "ولبسوا وراء ذلك شيئًا". (3) "ك، ط": "ونسيان".
(2/885)
ذكر اللَّه فلا يذكرونه إلَّا قليلًا، وأنّهم حزب الشيطان، وأنّهم يوادّون من حادّ اللَّه ورسوله، وبأنّهم يتمنّون ما يُحنِت المؤمنين ويشقّ عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وأَنّهم (1) يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد (2)؛ وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونَقْرُها عجلةً وإسراعًا، وترك حضورها جماعةً، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ (3). ومن صفاتهم التي وصفهم اللَّه بها: الشحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فهم أحدّ الناس ألسنةً عليهم، كما قيل: جهلًا علينا وجبنًا عن عدوّكمُ ... لبئست الخَلّتان الجهلُ والجبنُ (4) وأنّهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومُخبّآتها. وأمّا عند __________ (1) "ك، ط": "وبأنهم". (2) يشير إلى ما أخرجه البخاري (33، 34) ومسلم (58، 59) في كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة وعبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهم. (3) يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب الأذان (657) ومسلم في كتاب المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) من قصيدة لقعنب بن أمّ صاحب -من شعراء الدولة الأموية- أوردها ابن الشجري في مختاراته (50)، والرواية: "عن عدوّهم". وفي الزهرة (628) وأمثال العسكري (1/ 104): "عدوّكم" كما هنا.
(2/886)
الأمن فيجب ستره، فإذ الحق المسلمين خوفٌ دبّت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبّآت، وبدت الأسرار. ومن صفاتهم: أنّهم أعذبُ الناس ألسنةً، وأمرُّهم قلوبًا، وأعظم الناس مخالفةً (1) بين أعمالهم وأقوالهم. ومن صفاتهم أنّه (2) لا يجتمع فيهم حُسن سمت (3) وفقه في دين أبدًا. ومن صفاتهم أنّ أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذّب ظاهرهم، وسرائرهم تناقض علانيتهم. ومن صفاتهم: أنّ المؤمن لا يثق بهم (4) في شيء، فإتهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجًا منه، بحقّ أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سُمِّي "منافقًا" أخذًا من نافقاءِ اليربوع. وهو بيت يحفره، ويجعل له أسرابًا مختلفة، وكلَّما (5) طُلِبَ من سَرَبٍ خرج من سَرَبٍ آخر، فلا يتمكَّن طالبُه مِن حصره في سرب واحد. قال الشاعر: ويُستخرجَ اليربوعُ من نافقائه ... ومن بيته ذو الشِّيحة اليتقَصَّعُ (6) فأنت منه كقبضٍ (7) على الماءِ، ليس معك منه شيء. __________ (1) "ط": "خلفًا". (2) "ك، ط": "أنهم". (3) "ك، ط": "صمت" تحريف. (4) "ف": "منهم"، سهو. (5) "ك، ط": "فكلما". (6) "ط": "ومن جحره بالشيحة". والبيت لذي الخِرَق الطُّهَوي -جاهلي- من أبيات أوردها أَبو زيد في نوادره. والرواية: "ومن جحره". انظر: النوادر (276 - 278) وخزانة الأدب (1/ 35). (7) "ط": "كقابض"، ولعله إصلاح من الناشر!
(2/887)
ومن صفاتهم: كثرة التلوّن، وسرعة التقلُّب، وعدم الثبات على حال واحد. بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدي صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضدِّ ذلك كأنَّه لم يعرف غيره. فهو أشدّ الناس تلوّنًا وتقلُّبًا وتنفُّلًا، جيفةً بالليل قُطْرُبًا (1) بالنَّهار. ومن صفاتهم: أنَّك إذا دعوتهم عند المنازعة إلى التحاكم (2) إلى القرآن والسنَّة أَبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء/ 60 - 63]. ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بعقول الرجال __________ (1) "ب": "بطالًا"!. وفي "ط": "قطرب" بالرفع. جاء عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: "لا أعرفنّ أحدكم جيفةَ ليل قطربَ نهار". قال أَبو عبيد: "يقال إن القطرب لا تستريح نهارها سعيًا. فشبّه عبد اللَّه الرجل يسعى نهاره في حوائج دنياه، فإذا أمسى أمسى كالًّا تعِبًا، فينام ليلته حتى يصبح كالجيفة لا يتحرّك. فهذا جيفة ليل، قطرب نهار". انظر: اللسان (قطرب 1/ 683). وقد وردت في طرة "ف" حاشية بالخط الفارسي تقول: "وله أربعة عشر معنى منها أنه دويبة" ثم نقلت الحديث وتفسيره من الراموز، وهو معجم مخطوط لمحمد بن حسن الأدرنوي المتوفى 866 هـ. (2) سقط " إلى" من "ك". وفي "ط": "للتحاكم".
(2/888)
وآرائهم، ثمَّ تقديمها على ما جاءَ به. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أنَّ الهدى في آراء الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به. فلو أعرضوا عنه وتعوّضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا إلى ذلك (1) معارضتَه وزعمَهم (2) أنَّه لا يستفاد منه هدى! ومن صفاتهم: كتمان الحقِّ، والتلبيس على أهله، ورميهم لهم (3) بادوائهم هم (4). فيرمونهم -إذا أمروا بالمعروف، ونهَوا عن المنكر، ودعَوا إلى اللَّه ورسوله- بأنَّهم أهل فتن مفسدون في الأرض. وقد علم اللَّه ورسوله والمؤمنون أهلَ الفتن المفسدين (5) في الأرض. وإذا دعا (6) ورثة الرسول إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله خالصة غيرَ مشوبة، رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسّكين بطاعة اللَّه ورسوله، رموهم بالزوكرة (7) والتلبيس والمِحال. وإذا رأوا معهم حقًّا ألبسوه لباسَ الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول في __________ (1) "ك، ط": "مع ذلك". (2) "ط": "وزعموا". (3) "ب، ك، ط": "له"، خطأ. (4) "هم" ساقط من "ب، ك، ط". (5) في الأصل: "المفسدون"، سبق قلم والمثبت من "ف، ب". وفي "ك": "بأنهم أهل الفتن المفسدون"، فأبق ما في الأصل وزاد "بأنهم". وكذا في "ط". (6) "ك": "دعاه". "ط": "دعاهم". (7) وردت كلمة "الزواكرة" في كلام للسان الدين ابن الخطيب، ففسّره المقّري بقوله: "الزواكرة: لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبّس الذي يظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد" نفح الطيب (6/ 12). والزوكرة: مصدر منه بمعنى التلبيس والرياء. قال الشيخ أحمد رضا: العامة تقول: زوكره إذا لبّس عليه. معجم متن اللغة (3/ 45).
(2/889)
قالبه (1) لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحقِّ وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم. وجملة أمرهم أنَّهم في المسلمين كالزغَل في النقود، يروج على أكثر النَّاس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من النَّاس، وقليل ما هم! وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من النَّاس، وإنَّما تفسد الأديان من قِبَلهم. ولهذا جلا اللَّه أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيَّن أحوالهم، وكرَّر ذكرهم؛ لشدَّة المؤنة على الأمَّة بهم، وعِظَم البليَّة عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرُّز من مشابهتهم أو الإصغاءِ (2) إليهم. فكم قطعوا على السالكين إلى اللَّه طريقَ الهدى، وسلكوا بهم سُبل الردى (3)! ووعدوهم (4) ومنَّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنَّوهم الويل والثبور! فكم لهم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان، وسليبٍ ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسيرٍ لا يُرجى له الخلاص، وفارٍّ من اللَّه لا إليه، وهيهات، لات (5) حين مناص! صحبتُهم توجِب العار والشنار، ومودّتهم تُحِلُّ غضب الجبَّار، __________ (1) يعني في قالب الباطل. وفي "ط": "قالب شنيع"!. (2) "ك، ط": "والإصغاء". (3) "ك، ط": "طرق الهدى. . سبيل الردى"! (4) "ك، ط": "وعدوهم" دون واو العطف. (5) "ك، ط": "ولات".
(2/890)
وتوجب دخول النَّار. من علِقت به كلاليبُ كلَبِهم ومخاليبُ دائهم (1) مزّقت منه ثياب الدِّين والإيمان، وقُطعت له مقطَّعاتُ البلاءِ (2) والخذلان. فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالًا، ويمشي على عقبيه القهقرى إدبارًا منه، وهو يحسب ذلك إقبالًا! فهم واللَّه قُطَّاع الطريق حقًّا (3)! فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداءِ، حِذارًا منهم (4) حِذارًا. وهم (5) الجزَّارون، ألسنتُهم شِفَارُ البلايا، ففرارًا منهم أيَّها الغنم فرارًا! ومن البليَّة أنَّهم الأعداءُ حقًّا، وليس لنا بدّ من مصاحبتهم. وخلطتُهم (6) أعظم الداءِ، وليس بدّ من مخالطتهم. قد جعلوا على أَبواب جهنَّم دعاةً إليها، فبعدًا للمستجيبين! ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترِّين! نصبوا الشباك، ومدُّوا الأشراك، وأذَّن مؤذّنهم بأشباه الأنعام (7): حيَّ على الهلاك، حيَّ على التباب! فاستبقوا يُهرَعون إليه (8)، فأوردهم __________ (1) "ط": "رأيهم"، تحريف. (2) "ب، ك، ط": "من البلاء". (3) "حقًّا" ساقط من "ط". (4) "ف": "منه"، سهو. وفي "ط": "حذار منهم حذار"! خطأ. (5) "ط": "إنهم"، خطأ. (6) قراءة "ف": "خلطهم". (7) "ب": "تأذّن مؤذنهم يا أشباه. . . ". وفي "ط": "يا شياه. . . ". والصواب ما أثبتنا من الأصل و"ف، ك". وباء الجرّ مضبوطة في الأصل. (8) الضمير المفرد راجع إلى مؤذنهم. وفي "ط": "إليهم"، ولعله تغيير من الناشر، وقد اضطر بعد ذلك إلى تغيير الضمائر التالية: "فأوردوهم"، =
(2/891)
حياضَ العذابَ، لا المواردَ العَذاب. وأسامهم (1) من الخسفِ والبلاءِ أعظم خِطَّةٍ (2)، وقال: ادخلوا باب الهوان صاغرين، ولا تقولوا حِطَّة، فليس بيوم حطَّة. فواعجبا لمن نجا من شِراكهم، لا لمن (3) علِق! وأنِّى ينجو منها (4) من غلبت عليه شقاوتُه ولها خُلِقَ! فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلّوا بالمحلِّ الذي أحلّهم اللَّه من دار الهوان، وأن ينزلوا في أردأ منازل أهل العناد والكفران. وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة. ولهذا اشتدَّ خوف سادة الأمة وسابقيها (5) على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة نشدتك (6) اللَّهَ، هل سمَّاني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكّي بعدك أحدًا (7). يعني لا أفتح عليَّ هذا الباب في تزكية الناس. ليس (8) معناه أنَّه لم يبرأ __________ = "وساموهم"، "قالوا". (1) كذا في الأصل وغيره، وهو الصواب. وفي "ط": "ساموهم" من سامه الذلّ: أولاه إيّاه. وانظر التعليق الآتي. (2) ضبطت في "ب" بضم الخاء، وهو خطأ في هذا السياق، لأن أسام الماشية: خلَّاها ترعى. والخطة بالضم: الأمر والحال. وبالكسر: المكان المختطّ، وهذا هو المراد، فإنّه شبَّههم بالأنعام، وأوردهم "المؤذن" الحياض فسقاهم منها، ثم خرج بهم إلى مرعى السوء. وقرينة السجع الآتية "حِطة" أيضًا بالكسر لا بالضمِّ. (3) "ط": "من". (4) "منها" ساقط من "ك، ط". (5) في الأصل: "سابقوها"، سهو، وكذا في "ب، ك، ط". والمثبت من "ف". (6) "ك، ط": "ناشدتك". (7) تقدّم تخريجه في ص (628). (8) "ط": "وليس".
(2/892)
من النفاق غيرك. وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلّهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل (1). الطبقة السادسة عشرة (2): طبقة (3) رؤساءِ الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدّوا عباد اللَّه عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبةً ورهبةً. فهؤلاء عذابهم مضاعَف، ولهم عذابان: عذاب الكفر، وعذاب بصدِّ النَّاس عن الدخول في الإيمان. قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل/ 88]. فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدّهم عن سبيل اللَّه. وقد استقرَّت حكمة اللَّه وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له. ولا ريبَ أنَّ عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتَّبعه وضلَّ به. وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداء، فأولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتَّبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم. ولهذا كان فرعون وقومه في أشدِّ العذاب، قال تعالى في حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ __________ (1) "وقال ابن أبي مليكة. . . " إلى هنا سقط من "ف". وقول ابن أبي مليكة هذا ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الايمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. (2) في الأصل: "عشر"، وكذا في غيره. والمثبت من "ط". (3) "طبقة" ساقط من "ك، ط".
(2/893)
الْعَذَابِ} [غافر/ 46]. وهذا تنبيه على أنَّ فرعون نفسه في الأشدّ من ذلك؛ لأنَّهم إنَّما دخلوا أشدَّ العذاب تبعًا له، فإنَّه هو الذي استخفّهم فأطاعوه، وغرَّهم فاتَّبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرَطهم في هذا الوِرد. قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود/ 98]. والمقصود: أنَّهم إنَّما (1) استحقُّوا أشدَّ العذاب لتغلُّظ كفرهم (2)، وصدّهم عن سبيل اللَّه وعقوبتهم من آمن باللَّه. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم. ولهذا كان في كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهرقل: "فإن تولّيتَ فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسِيِّين" (3). والصحيح في اللفظة (4) أنَّهم الأتباع. ولهذا كان عدو اللَّه إبليس أشدَّ أهل النار عذابًا، وهو أوَّل من يُكسى حُلَّة من النَّار؛ لأنَّه إمام كلّ كفر وشرك وشرّ. فما عصي اللَّه إلا على يديه وبسببه، ثمَّ الأمثل فالأمثل من نوَّابه في الأرض ودعاته. ولا ريب أنَّ الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر. كما أنَّ الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أنَّ المؤمنين ليسوا في درجة واحدة بل هم درجات عند اللَّه، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد، بل النار دركات كما أنَّ الجنَّة درجات. ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وهو الغني الحميد. __________ (1) "إنما" ساقط من "ك، ط". (2) "ب، ط": "لغلظ كفرهم". (3) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما. أخرجه البخاري في بدء الوحي (7) وغيره. ومسلم في الجهاد والسير (1773). (4) يعني في تفسيرها. وفي "ط": "اللفظ".
(2/894)
فصل وتغلّظُ (1) الكفر الموجبُ لتغلّظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: من خبث (2) العقيدة الكافرة في نفسها، كمن جحد ربَّ العالمين بالكلّية، وعطَّل العالم عن الربِّ الخالق المدبّر له، فلم يؤمن باللَّه وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يُقَرّ أربابُ هذا الكفر بالجزية عند كثيرٍ من العلماء، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم اتّفاقًا، لِتغلّظ كفرهم. وهؤلاء هم المعطّلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنَّه لا وجود للربّ تعالى غير وجود هذا العالم. الجهة الثانية: تغلّظه بالعناد والضلال عمدًا على بصيرة، ككفر من شهد قلبُه أنَّ الرسول حقٌّ لما رآه من آيات صدقه، وكفَرَ عنادًا وبغيًا، كقوم ثمود، وقوم فرعون، واليهود الذين (3) عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءهم، وكفر أبي جهل وأمية بن أبي الصلت وأمثال هؤلاء. الجهة الثالثة: السعي في إطفاءِ نور اللَّه وصدّ عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم. فهؤلاءِ أشدُّ الكفّار عذابًا بحسب تغلّظ كفرهم. ومنهم من يجتمع في حقِّه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه ثنتان (4) منها أو واحدة. فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو (5) دونهم في __________ (1) في "ط": "غلظ" هنا وفي الموضع التالي. (2) "ب، ك، ط": "حيث"، تصحيف. والكلمة منقوطة في الأصل. (3) "ف": "والذين"، سهو. (4) "ك، ط": "جهتان". (5) "هو" سقط من "ف" سهوًا.
(2/895)
الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلّظ كفره كتغلّظ كفر (1) هؤلاء، بل هو مقرّ باللَّه ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر، وإن شارك أُولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعًا من الكفر. وهل يستوي فى النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعُقبة بن أبي مُعَيط وأبيّ بن خلَف وأضرابهم؟ والمقصود أنّ هذه الطبقة -وهي طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادّين عن دين اللَّه- ليست كطبقة مَن دونهم. وقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: "أهونُ أهلِ النار عذابًا أَبو طالب" (2)، ومعلوم أنّ كفر أبي طالب لى يكن مثل كفر أبي جهل وأمثاله. الطبقة السابعة عشرة (3): طبقة المقلّدين. وهم (4) جهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع (5)، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمّة، ولنا أُسوة (6) بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غيرُ محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدَمهم وتُبّاعهم (7) الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور اللَّه وهدم __________ (1) "كفر" ساقط من "ك، ط". (2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (212) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (3) في الأصل وغيره: "عشر"، ولعله سهو. والمثبت من "ط". (4) "هم" ساقط من "ب، ك، ط". (5) "ك": "تبع لهم". "ط": "تبعًا لهم". (6) "ك، ط": "وإنّا على أسوة"، تحريف. (7) جمع تابع. وفي "ط": "أتباعهم".
(2/896)
دينه وإخماد كلماته، بل هم معهم (1) بمنزلة الدوابّ. وقد اتفقت الأُمّة على أنّ هذه الطبقة كفّار وإن كانوا جهّالًا مقلّدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلَّا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنّه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا مَن بعدهم، وإنّما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدَث في الإسلام. وقد صحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ما من مولود إلَّا وهو يولد على الفطرة فأَبواه يهوّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه" (2). فأخبر أن أَبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمنشأ على ما عليه الأَبوان. وصحَّ عنه أنه قال: "إنّ الجنّة لا يدخلها إلَّا نفس مسلمة" (3). وهذا المقلّد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلّف، والعاقل المكلّف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأمّا من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلّف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين، وقد تقدَّم الكلام عليهم (4). والإسلام هو توحيد اللَّه وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان باللَّه وبرسوله (5) واتّباعه فيما جاءَ به. فما لم يأت العبد بهذا فليس __________ (1) "معهم" ساقط من "ك، ط". (2) سبق تخريجه في ص (842). (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3062) وغيره، ومسلم في الإيمان (111). (4) انظر: ص (841). (5) "باللَّه و" سقط من "ف" سهوًا.
(2/897)
بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّارًا. فإنّ الكافر من جحد توحيدَ اللَّه وكذّب رسولَه إمّا عنادًا وإمّا جهلًا (1) وتقليدًا لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنّه غير معاند، فهو متّبع لأهل العناد. وقد أخبر اللَّه تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلّدين لأسلافهم من الكفار، وأنّ الأتباع مع متبوعهم، وأنّهم يتحاجّون في النار، وأنّ الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف/ 38]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) [غافر/ 47 - 48]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ/ 31 - 33]. فهذا إخبار من اللَّه وتحذير بأنّ المتبوعين والتابعين اشتركوا في __________ (1) "ط": "أو جهلًا".
(2/898)
العذاب ولم يُغنِ عنهم تقليدُهم شيئًا. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 166 - 167]. وصحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ أوزار مَن اتّبعه. لا ينقص من أوزارهم شيئًا" (1). وهذا يدل على أنَّ كفر من اتبعهم إنّما هو بمجرّد اتباعهم وتقليدهم. نعيم، لا بدَّ في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلّد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلّد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود. فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند اللَّه. وأمّا العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان (2) أيضًا: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محبٌّ له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: معرِض لا إرادة له، ولا يحدِّث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا ربّ لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف غير (3) ما أنا عليه ولا أقدر على __________ (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب العلم (2674). (2) "ف": "نوعان"، سهو. (3) "ك، ط": "سوى".
(2/899)
غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه؛ ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز. وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغه الوسعَ (1) في طلبه عجزًا وجهلًا. والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لَعَجز عنه. ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض. فتأمّل هذا الموضع. واللَّه يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذّب إلَّا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأمّا كون زيد بعينه وعمرو بعينه (2) قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين اللَّه وبين عباده فيه. بل الواجب على العبد أن يعتقد أنّ كلّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن اللَّه سبحانه لا يعذّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم اللَّه عزّ وجلّ وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر. فأطفال الكفّار ومجانينهم كفّار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبنيّ على أربعة أصول: __________ (1) "ط": "استفراغ الوسع". (2) "بعينه" ساقط من "ك، ط".
(2/900)
أحدها: أن اللَّه سبحانه لا يعذب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]. وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 - 9]. وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11]. وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام/ 130]. وهذا كثير في القرآن، يخبر أنَّه إنَّما يعذب من جاءَه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه. وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76]. والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكن من معرفته، ثمَّ خالفه وأعرض عنه. وأمَّا من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلًا، ولا تمكن من معرفته (1) بوجه، وعجز عن ذلك، فكيف يقال إنَّه ظالم؟ الأصل الثاني: أنَّ العذاب يُستَحَق بشيئين (2): أحدهما: الإعراضُ عن الحجة، وعدمُ إرادة العلم بها (3) وبموجَبها. الثاني: العنادُ لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأَوَّل كفر إعراض، والثاني كفر عناد. __________ (1) "ثم خالفه. . . " إلى هنا سقط من "ط" أو أصلها لانتقال النظر، فزاد بعد "بوجه": "وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول"! (2) هذه قراءة "ف، ب". وفي "ك، ط": "بسببين". (3) "العلم" ساقط من "ك". وفي "ط": "إرادتها والعمل بها".
(2/901)
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى اللَّه التعذيب عليه (1) حتَّى تقوم حجَّته بالرسل (2). الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة اللَّه على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى. كما أنَّها تقوم على شخص دون آخر، إمَّا لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإمَّا لعدم فهمه كمن (3) لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يُترجِم له، فهذا بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا ولا يتمكّن من الفهم. وهو أحد الأربعة الذين يُدْلُون على اللَّه بالحجَّة يوم القيامة، كما تقدَّم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما (4). الأصل الرَّابع: أنَّ أفعال اللَّه عزَّ وجلَّ تابعة لحكمته التي لا يخلّ بها سبحانه، وأنَّها مقصودة لغاياتها المحبوبة (5) وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه ينبني (6)، مع تلقّي أحكامها من نصوص الكتاب والسنَّة، لا من آراء الرجال وعقولهم. ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقات (7) إلا من عرف ما في كتب __________ (1) "ط": "عنه". (2) "ك، ط": "حجة الرسل". (3) "ط": "كالذي". (4) انظر: ص (865 - 869). (5) "ك، ط": "لغايتها المحمودة". (6) رسم الكلمة في الأصل و"ف، ب" يقتضي هذه القراءة، وإن كان يعجبني أن تقرأ "نبني". (7) "الذي عليه ينبني. . . " إلى هنا ساقط من "ك" لانتقال النظر، وكذا في "ط".
(2/902)
الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم (1) ونهاية إقدامهم. واللَّه سبحانه الموفّق للسَّداد، الهادي إلى الرشاد. وأمَّا من لم يُثبِت حكمةً ولا تعليلًا، وردّ الأمر إلى محض المشيئة التي ترجحَ أحد المثلين على الآخر بلا مرجّح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلَّها تحت قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء/ 23] وهو الفعَّال لما يريد. وصدق اللَّه وهو أصدق القائلين: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسال المخلوق. وهو الفعَّال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة. فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم. فصل الطبقة الثامنة عشرة (2): طبقة الجنّ. وقد اتفق المسلمون على أنَّ منهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] قال مجاهد: يعنُون: مسلمين وكافرين (3). وقال الحسن والسدّي: أمثالكم، فمنهم __________ (1) "ك، ط": "مراتبهم" تحريف. (2) في الأصل وغيره: "عشر". والمثبت من "ط". (3) تفسير الطبري (29/ 112)، معالم التنزيل (8/ 240).
(2/903)
قدرية ومرجئة ورافضة (1). وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتَّى (2). وقال ابن كيسان: شِيَعًا وفِرَقًا (3). ومعنى الكلام: أصنافًا مختلفةً ومذاهب متفرِّقة. ثمَّ قيل في إعراب الآية: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: ومنَّا (4) قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه. كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات/ 164] أي: إلا من له مقام (5). وكقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة/ 41] أي: فريق سمَّاعون. وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء/ 46] أي: فريق يحرِّفون. وكقوله على أظهر القولين: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة/ 96] أي: فريق يودّ أحدهم. وقال الشاعر: فظلُّوا ومنهم دمعُه سابقٌ له ... وآخَرُ يُذري دمعةَ العين بالهَمْلِ (6) __________ (1) معالم التنزيل (8/ 240) زاد المسير (8/ 380). (2) معالم التنزيل (8/ 240). (3) المصدر السابق. (4) "أي ومنّا" ساقط من "ك، ط". (5) "ك، ط": "مقام معلوم". (6) في الأصل: "سايق لهم" وكذا في "ف". وفي "ب، ك، ط": "سابق لهم" وفي "ك، ط": "بالمهل". والبيت لذي الرمّة في ديوانه (1/ 141). وروايته فيه مع سياقه: بكيتُ على مىٍّ بها إذ عرفتُها ... وهِجتُ البكا حتى بكى القوم من أجلي فظلّوا ومنهم دمعه غالب له ... وآخرُ يَثني عبرةَ العينِ بالمَهْل وهل هَمَلانُ العين راجعُ ما مضى ... من الدهر أو مُدنيكِ ياميُّ من أهلي وذكر الشارح أنه يروى "سابق له" و"دمعة العين". وفي تفسير الطبري (8/ 431): "يثني. . . بالهمل". وفي القرطبي (5/ 157): "يُذري. . . بالهمل". =
(2/904)
أي ومنهم من دمعه. وقوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] بيان لقولهم: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: كنَّا ذوي طرائق. وهي المذاهب، واحدها طريقة، وهي المذهب. والقِدَد جمع قِذَة، كقطعة وقِطَع وزنًا ومعنًى. وهي من القَدّ، وهو القطع. وقيل: المعنى (1) كُنَّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة في اختلافها، وعلى هذا فالمعنى: كُنَّا كطرائق (2) قددًا. وليس بشيء. وأضعفُ منه قول من قال: إنَّ "طرائق" منصوب على الظرف، أي: كُنَّا في طرائق (3) مختلفة كقوله: كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ (4) وهذا ممَّا لا يحمل عليه أفصح الكلام. وقيل: المعنى كانت طرائقنا طرائق قددًا فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه (5). __________ = ونصّ البيت فيه أقرب شيء إلى ما هنا. أما "سائق لهم" كما في الأصل، فلعله سهو. (1) "المعنى" ساقط من "ط". (2) "ك، ط": "طرائق". (3) "ك": "طريق". "ط": "طرق". (4) "كما" ساقط من "ط". والشاهد من قول ساعدة بن جُؤيّة الهذلي: لَدْنٌ بِهَزّ الكفِّ يعسِلُ متنُه ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ شرح أشعار الهذليين (1120). (5) انظر الأقوال الأربعة مع الشاهد في: الكشاف (4/ 627).
(2/905)
وقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن/ 14]. فالمسلمون: الذين آمنوا باللَّه ورسوله منهم. والقاسطون: الجائرون العادلون عن الحقِّ. قال ابن عباس: هم الذين جعلوا للَّه أندادًا (1). يقال: "أقسط الرجل" إذا عدل، فهو مقسط. ومنه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات/ 9]. "قَسَط" إذا جار فهو قاسط {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن/ 15]. وقد (2) تضمَّنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفَّار. وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنَّها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار. فالصالحون بإزاء الأبرار، ومن دونهم بإزاء المقتصدين، والقاسطون بإزاء الكفار. وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف/ 168]. فهؤلاء الناجون منهم. ثمَّ ذكر الظالمين، وهم خَلْف السوء الذين خلفوا بعدهم. ولمَّا كان الإنس أكمل من الجنّ وأتمّ عقولًا ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجنّ، وهم: الرسل، والأنبياء، والمقرَّبون. فليس في الجنّ صنف من هؤلاء، بل غايتهم (3) الصلاح. وذهب شُذوذ (4) من النَّاس إلى أنَّ فيهم الرسل والأنبياء __________ (1) تفسير البغدي (8/ 241). (2) "ك، ط": "قد" دون واو العطف. (3) "ط": "حليتهم"، تحريف. (4) "ط": "شذّاذ".
(2/906)
محتجًّا (1) على ذلك بقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، وبقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} (2) [الأحقاف/ 29]. وقد قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء/ 165]. وهذا قولٌ شاذٌ لا يُلتفت إليه ولا يُعرَف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام. وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، لا يدلّ على أنَّ الرسل من كلِّ واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أمرت الجنُّ باتباعهم صحَّ أن يقال للإنس والجنّ: ألم يأتكم رسل منكم؟ ونظير هذا أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا لا يقتضي أن يكون من هؤلاء رسل (3)، ومن هؤلاء. وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح/ 16]، وليس في كلِّ سماءٍ سماءٍ (4). وأمَّا (5) قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف/ 29] فالإنذار أعمّ من الرِّسالة، والأعمّ لا يستلزم الأخصّ. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة/ 122] فهؤلاء نُذُر، وليسوا __________ (1) "ط": "محتجِّين". (2) في "ك، ط" لم تثبت الآية كاملة، بل قال بعد "من الجنّ": إلى قوله "منذرين". (3) "ف": "الرسل"، سهو. (4) "ط": "قمرٌ". (5) "أما" ساقطة من "ك، ط".
(2/907)
برُسُل. قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأمَّا (1) الجنّ ففيهم النذر (2). قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (3) [يوسف/ 109] فهذا يدلّ على أَنَّه لم يرسل جنيًّا ولا امرأةً ولا بدويًّا. وأمَّا تسميته تعالى الجنّ رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن/ 6] فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيَّدة بقوله: {مِنَ الْجِنِّ}، فهم رجال من الجنّ، ولا يستلزم (4) ذلك دخولهم في الرجال عند الإطلاق، كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب، ونحوه. فصل وقد اتفق المسلمون على أنَّ كفَّار الجنّ في النَّار. وقد دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة/ 13]، وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85] فملؤها به منه وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38]. وقال تعالى في حكاية عن مؤمنيهم (5): __________ (1) "ف": "فأما"، خلاف الأصل. (2) وهو قول مجاهد. انظر: زاد المسير (3/ 125) وقال شيخ الإسلام إن جمهور العلماء على هذا. مجموع الفتاوى (11/ 307). (3) "نُوحي" قراءة حفص. وهي مضبوطة في "ف، ب" على قراءة غيره: "يُوحَى". (4) "ف": "ولم يستلزم"، سهو. (5) "ك، ط": "مؤمنهم".
(2/908)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} (1) [الجن/ 14 - 15]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف/ 179]. وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)} الشعراء/ 94 - 95]. وجنوده إن لم تختصّ (2) بالشياطين فهم داخلون في عمومه. وبالجملة فهذا أمرٌ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجنّ بشرائع الأنبياء ووجوب اتباعهم لهم. فأمَّا شريعتنا فأجمع المسلمون على أنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث إلى الجنّ والإنس، وأنَّه يجب على الجنّ طاعته، كما تجب (3) على الإنس. وأمَّا قبل نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38] يدلّ على أنَّ الأمم الخالية من كفَّار الجنّ في النَّار، وذلك إنَّما يكون بعد إقامة الحجَّة عليهم بالرسالة. وقد دلَّت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلّف الإنس، ولهذا يقول سبحانه في إثر كلِّ آية: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}، فدلَّ ذلك على أنَّ السورة خطاب للثقلين معًا. ولهذا قرأها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الجنّ قراءةَ تبليغ، وأخبر أصحابه أنَّهم كانوا أحسن ردًّا منهم، فإنَّهم جعلوا يقولون كلَّما قرأ عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}: لا نكذِّب بشيءٍ من آلائك ربَّنا فلك الحمد (4). __________ (1) أثبت الآية في "ك، ط" باختصار. (2) "ك، ط": "يختص". (3) "ك، ط": "يجب". (4) أخرجه الترمذي (3291)، والحاكم (2/ 473)، وأبو الشيخ في العظمة =
(2/909)
ولمَّا كان أَبوهم هو أَوَّل من دعا إلى معصية اللَّه، وعلى يده حصل كلّ كفر وفسوق وعصيان فهو الداعي إلى النَّار؛ كان (1) أول من يُكسى حُلَّةً من النَّار يوم القيامة، يسحبها وينادي: "واثبوراه! ". وأتباعه (2) من أولاده وغيرهم خلفه ينادون: "واثبورهم" (3)، حتَّى قيل: إنَّ كلَّ عذاب يُقسَم على أهل النَّار يُبدأ به فيه، ثمَّ يصير إليهم. فصل وأمَّا حكم مؤمنيهم في الدَّار الآخرة، فجمهور السلف والخلف على أنَّهم في الجنَّة. وترجم على ذلك البخاري رحمه اللَّه في صحيحه (4) فقال: "باب ثواب الجنّ وعقابهم لقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام/ 130] بَخْسًا: نقصانًا (5). قال مجاهد: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات/ 158]. قال __________ = (1106)، والبيهقي في الدلائل (2/ 232) من حديث جابر. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروي عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني: لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (ز). (1) "ك، ط": "وكان"، خطأ، فإنه جواب لمّا. (2) "ط": "فأتباعه". (3) "ط": "واثبوراهم". (4) في كتاب بدء الخلق، الباب (12). (5) يعني تفسير قوله تعالى حكاية عن الجن: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن/ 13]. وفي "ط": "نقصًا". ولعله تغيير من الناشر. والوارد =
(2/910)
كفار قريش: الملائكة بنات اللَّه، وأمهاتهم بنات سَرَوات الجنّ. قال اللَّه: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} [الصافات/ 158] ستُحضَر (1) للحساب". ثمَّ ذكر حديث أبي سعيد (2): "إذا كنتَ في غنمك وباديتك (3)، فأذَّنتَ بالصلاة، فارفع صوتَك بالنِّداءِ (4)؛ فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. هذا ما ذكره في الباب. وقد ذهب جمهور النَّاس إلى أنَّ مؤمنيهم في الجنَّة. وحكي عن أبي حنيفة وغيره أنَّ ثوابهم نجاتهم من النَّار. واحتُجَّ لهذا القول (5) بقوله تعالى حكايةً عنهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} (6) [الأحقاف/ 31] فجعل غاية ثوابهم إجارتَهم من العذاب الأليم. وأمَّا الجمهور فقالوا: مؤمنهم في الجنَّة، كما أنَّ كافرهم في النَّار (7). ثمَّ اختلفوا فأطلق أكثر النَّاس دخولَ الجنَّة ولم يقيِّدوه. وقال سهل بن عبد اللَّه: يكونون في رَبَض الجنَّة، __________ = هنا موافق لمتن الصحيح في الفتح (6/ 346). (1) "ب": "سيحضرون". (2) برقم (3296). (3) "ط": "أو باديتك". (4) "بالنداء" سقط من "ف" سهوًا. (5) "القول" ساقط من "ط". (6) لم يثبت الآية كاملة في "ك". وكذا في "ط". (7) ذكر المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 189 - 194) عشرة دلائل على قول الجمهور.
(2/911)
يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم (1). فهذه مذاهب النَّاس في أحكامهم في الآخرة. وأمَّا أحكامهم في الدنيا فاختلف النَّاس: هل هم مكلَّفون بالأمر والنَّهي، أم مضطرُّون إلى أفعالهم؟ (2) على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في كتاب "المقالات" له فقال: واختلف النَّاس في الجنّ، هل هم مكلَّفون، أم مضطرّون؟ فقال (3) قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأمورون منهِيُّون، وقد أمروا ونُهوا، وهم مختارون. وزعم زاعمون أنَّهم مضطرُّون (4). قلت: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنَّهم مأمورون منهيُّون مكلَّفون بالشريعة الإسلامية. وأدلَّة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تحصر. فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان ونحو ذلك ممَّا هو من أقوال سائر أهل الإسلام. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ __________ (1) في مجموع الفتاوى (4/ 233) أنه حديث رواه الطبراني، وقال في (19/ 39): "وقد روي" من غير عزو. ولم أجده في معاجم الطبراني وغيرها. وذكر الحافظ في الفتح (6/ 346) أن هذا القول منقول عن مالك وطائفة. وأن بعضهم قال إنهم من أصحاب الأعراف. وبعضهم رأى التوقف. فهي أربعة أقوال. (2) "ك": "هم مضطرون". "ط": "هم مضطرون على. . . ". (3) "ف": "قال"، سهو. (4) مقالات الإسلاميين. (440).
(2/912)
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)} (1) [الأحقاف/ 18] فأخبر أنَّ منهم من حقَّ عليه القول، أي: وجب عليه العذاب، وأنَّه خاسر، ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين للعقاب (2) بأعمالهم. ثمَّ قال بعد ذلك {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف/ 19] أي: في الخير والشرّ يُوفَّونها ولا يُظلمون شيئًا من أعمالهم. وهذا ظاهر جدًّا في ثوابهم وعقابهم، وأنَّ مسيئهم كما يستحقّ العذاب بإساءته، فمحسنهم يستحقّ الدرجات بإحسانه، فلكلٍّ (3) درجاتٌ ممَّا عملوا. فدلّ ذلك لا محالة أنَّهم كانوا مأمورين بالشرائع، متعبِّدين بها في الدنيا، ولذلك استحقُّوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشرّ. وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (4) [فصلت/25]. ومعنى الآية: أنَّ اللَّه قيَّض للمشركين -أي: سبَّب لهم- قرناءَ من الشياطين يزيّنون لهم ما بين أيديهم من اللذات في الدنيا (5)، وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب. وقيل عكس هذا، وأنَّ ما بين أيديهم هو التكذيب بالآخرة، وما __________ (1) لم يثبت في "ك": "كانوا خاسرين"، وكتب مكانها "الآية"، وكذا في "ط". (2) "ك، ط": "العقاب". (3) "ك، ط": "ولكل". (4) هنا أيضًا نقل الآية في "ك" إلى "والإنس" ثم كتب: "الآية". وكذا في "ط". (5) "من اللذات في الدنيا" ساقطة من "ك، ط".
(2/913)
خلفهم (1) هو رغبتهم (2) في الدنيا وحرصهم عليها (3). وقال الحسن: ما بين أيديهم هو حبّ ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده. وفي الآية قولٌ رابع، وهو أنَّ التزيين كلّه راجع إلى أعمالهم، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم: أعمالَهم التي عملوها، وما خلفهم: الأعمال التي هم عازمون عليها ولمَّا يعملوها بعد، وكأنَّ لفظ التزيين بهذا القول أليق. ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أي: زيّنوا لهم التكذيب بالآخرة. ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر، فإنَّهم زيّنوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها. ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتَّى لم يذكر البغوي غيره (4). وحكاه عن الزجّاج فقال: وقال الزجاج: سبَّبنا لهم قرناءَ نظراء من الشياطين حتَّى أضلّوهم، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتَّى آثروه على الآخرة وما خلفهم من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث (5). __________ (1) "هو التكذيب. . . " إلى هنا ساقط من "ط". (2) "ط": "ترغيبهم". (3) زاد هنا في "ط": "وما خلفهم هو التكذيب بالآخرة"، وهو تكرار، وفي القطرية سقط هنا بعض الكلام. (4) معالم التنزيل (7/ 171). (5) ليس في هذا النقل من قول الزجّاج إلّا "سبّبنا" تفسير "قيّضنا". ونص قوله: "يقول: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها، و"ما خلفهم": وما يعزمون أن يعملوه" وهذا هو القول الرابع الذي ذكره المؤلف من قبل، وكذا نقله القرطبي (15/ 231) عن الزجّاج. أما تفسير البغوي فهو قول مجاهد =
(2/914)
والمقصود أنَّ قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} [فصلت/ 25] أي: وجب عليهم العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من الجنّ والإنس. ففي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلّق الأمر والنهي بهم، ولذلك (1) تعلّق بهم الثواب والعقاب. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (2) [الأنعام/ 128]. وهذا صريح في تكليفهم، فإنَّ هذا القول يقال للجنّ في القيامة، فيذكر الإنس استمتاعَ بعضهم ببعض في الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجنّ والإنس من طاعتهم إيَّاهم في معصية اللَّه، وعبادتهم لهم دون اللَّه، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم. فإنَّهم كانوا يستوحونهم، ويعوذون بهم (3)، ويذبحون لهم وبأسمائهم، ويوالونهم من دون اللَّه، كما هو شأن أكثر المشركين من أولياءِ الشيطان (4). فهذا استمتاع بعضهم ببعض. ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة -وقد جمع العابدين والمعبودين (5) -: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا __________ = كما في تفسير القرطبي. (1) وكذا "ك، ط": "كذلك". "ط": "تعلّق الثواب والعقاب بهم". (2) اختصرت الآية في "ك، ط". (3) "ف": "ويغرّونهم"، تحريف. (4) "ف": "الشياطين"، خلاف الأصل. (5) "ف": "العابدون والمعبودون"، سهو.
(2/915)
مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ/ 40 - 41] فهؤلاء عُبَّاد الجنّ وأولياء الشيطان (1). وأكثرهم يعلم ذلك ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو ابن نفيل في شعره إلى هذا الشرك بالجنّ فقال: حنانَيك إنَّ الجنّ كانت رجاءَهم ... وأنتَ إلهي ربَّنا ورجائيا (2) ولهذا يقولون في القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام/ 128] قال اللَّه تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح في اشتراكهم في التكليف، كما هو صريح في اشتراكهم في العذاب. وهذا كثير (3) في القرآن. وممَّا يدلّ على تكليفهم أيضًا قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (4) [الأنعام/ 130]. فلمَّا اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، دلَّ ذلك على تكليفهم وتوجّه الخطاب إليهم. __________ (1) "ف": "الشياطين"، خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط". (2) "ك، ط": "رجاؤنا"، وهو تحريف. والبيت لزيد في السيرة (1/ 227) ولورقة ابن نوفل في الأغاني (3/ 119). وفي السيرة: "الحن" بالمهملة. (3) "ط": "وهو كثير". (4) اختصرت الآية في "ك، ط".
(2/916)
وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} (1) [الأحقاف/ 29 - 32]. فهذا يدلّ على تكليفهم من وجوه متعددة: أحدها: أنَّ اللَّه سبحانه صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن، ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه. الثاني: أنَّهم ولَّوا إلى قومهم منذرين. والإنذار هو الإعلام بالمخوف (2) بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنَّهم منذرون لهم بالنَّار إن عصوا الرسول. الثالث: أنَّهم أخبروا أنَّهم سمعوا القرآن، وعقلوه وفهموه، وأنَّه يهدي إلى الحقِّ. وهذا القول منهم يدل على أنَّهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزّل (3) عليه، وأنَّ القرآن مصدّق له، وأنَّه هادٍ إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكّنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه. والتكليف إنَّما يستلزم العلم والقدرة. الرابع: أنَّهم قالوا لقومهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}. __________ (1) اختصر في نقل الآيات في "ك، ط". (2) "ك، ط": "بالخوف". (3) "ف": "الذي أنزل"، خلاف الأصل.
(2/917)
وهذا صريح في أنَّهم مكلَّفون مأمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. الخامس: أنَّهم قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب، وهو مخالفة الأمر. السادس: أنَّهم قالوا: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. والذنب: مخالفة الأمر. السابع: أنَّهم قالوا: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}. وهذا يدلّ على أنَّ من لم يستجب منهم لداعي اللَّه لم يُجِرْه من العذاب الأليم. وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم. الثامن: أنَّهم قالوا: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ}. وهذا تهديد شديد لمن تخلَّف عن إجابة داعي اللَّه منهم. وقد استدلّ بهذا (1) أنَّهم كانوا متعبدين بشريعة موسى، كما هم متعبَّدون بشريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذا ممكن، والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ} الآية [الأنعام/ 130] يدلّ على أنَّ الجنّ كانوا متعبّدين بشرائع الرسل قبل محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والآيات المتقدِّمة تدلّ على ذلك أيضًا. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة. وأيضًا فقد قال تعالى عن نبيّه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ/ 12]. وهذا __________ (1) "ط": "بها على".
(2/918)
محض التكليف. وقد تقدَّم قوله تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} (1) [الجن/ 14 - 15]. وقد صحَّ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ عليهم القرآن، وأنَّهم سألوه الزاد لهم ولدوابّهم، فجعل لهم كلَّ عظم ذُكِرَ اسمُ اللَّه عليه، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابّهم. ونهانا عن الاستنجاء بهما (2). ولو لم يكن في هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15] -وقد أخبر أنَّه يعذّب كفرةَ الجنّ- لكفى به حجةً على أنَّهم مكلَّفون باتباع الرسل. وممَّا يدلّ على أنَّهم مأمورون منهيُّون بشريعة الإسلام ما تضمّنته سورة الرحمن. فإنَّه سبحانه ذكر خلق النوعين في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}. ثمَّ خاطب النوعين بالخطاب المتضمّن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنَّه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف __________ (1) اختصر في نقل الآية في "ك، ط". (2) كما في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3860) وغيره؛ وحديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (450).
(2/919)
المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم (1). ثمَّ ذكر عقاب الصنفين وثوابهم. وهذا كلّه صريح في أنَّهم هم المكلّفون المأمورون المنهيّون المثابون المعاقبون. وفي الترمذي من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: "لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا (2) أحسن مردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله (3) {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)} قالوا: لا شيء من نعمك ربَّنا نكذّب، فلك الحمد" (4). وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمواقع (5) الخطاب، وعلمهم أنَّهم مقصودون به. وقوله في هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} وعيد للصنفين المكلّفين بالشرائع. قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها، ومجيء الآخرة والجزاء فيها، واللَّه تعالى لا يشغله شيءٌ عن شيء (6). والفراغ في اللغة يكون (7) على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد (8). وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وهو __________ (1) "ك، ط": "والأقدام". (2) "ك، ط": "وكانوا". (3) "ك، ط": "آية". (4) تقدّم تخريجه في ص (909). (5) "ط": "بمؤنة"، تحريف. (6) لفظ قتادة في تفسير الطبري (27/ 136): "دنا من اللَّه فراغ لخلقه". (7) "يكون" ساقط من "ط". (8) معاني القرآن للزجاج (5/ 99).
(2/920)
قصده (1) لمجازاتهم بأعمالهم (2) يوم الجزاء. وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)}. فيها قولان: أحدهما: إن استطعتم أن تنفذوا ما في السماوات والأرض علمًا -أي: أن تعلموا ما فيهما- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، أي (3): ببينة من اللَّه. وعلى هذا فالنفوذ ههنا نفوذ علم الثقلين في السماوات والأرض. والثاني (4): إن استطعتم أن تخرجوا (5) عن قهر اللَّه ومحلّ سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السماوات والأرض وخروجكم عن محل ملك اللَّه (6) وسلطانه، فافعلوا. ومعلوم أنَّ هذا من الممتنع عليكم، فإنَّكم تحت سلطاني وفي محلّ ملكي وقدرتي أين كنتم. وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا، فإنَّه مدرككم (7). وهذه الأقوال على تقدير (8) أن يكون الخطاب لهم بهذا القول في الدنيا. __________ (1) "ك": "قصد". "ط": "وقد قصد". (2) لم تنقل الآية كاملة في "ك، ط". (3) "ك، ط": "أي إلّا". (4) "ك، ط": "الثاني" دون واو العطف. (5) في الأصل: "تخرجون"، سهو. وكذا نقل ناسخ "ف"، ثم ضرب على النون. (6) "ك، ط": "حكم اللَّه". (7) تفسير الطبري (27/ 137). (8) "تقدير" ساقط من "ك، ط".
(2/921)
وفي الآية تقدير (1) آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاطَ سُرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربًا ولا منفذًا، كما قال تعالى: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر/ 32 - 33]. قال مجاهد: فارّين غير معجزين (2). وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدّوا هُرَّابًا (3)، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. فذلك (4) قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة/ 17]، وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} (5) [الرحمن/ 33]. وهذا القول أظهر، واللَّه أعلم. فإذا نَدّ (6) الخلائق وولَّوا مدبرين يقال لهم: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض، فتعجزوا ربّكم حتّى لا يقدرَ على عذابكم، فافعلوا. وكأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ (7) على هذا القول، فإنّ قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} (8) وهذا في الآخرة. وما __________ (1) "ط": "تقرير"، تحريف. (2) تفسير الطبري (24/ 62). (3) "ب، ك، ط": "هربًا". (4) "ف": "وذلك"، قراءة محتملة. (5) معالم التنزيل (7/ 148)، وانظر: تفسير الطبري (27/ 137). (6) "ط": "بده"، تحريف. وقد سقطت واو العطف منها قبل "ولّوا". (7) سقط "يدل" من "ط"، واستدرك في القطرية. (8) لم تنقل الآية كاملة في "ك، ط".
(2/922)
بعدها (1) {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}، وهذا في الآخرة. وأيضًا فإنَّ هذا خطاب لجميع الإنس والجنّ، فإنَّه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. فلا بدَّ أن يشترك الكلّ في سماع هذا الخطاب ومضمونه. وهذا إنَّما يكون إذا جمعهم اللَّه في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: "إن استطعتما"، لإرادة الجماعة، كما قال (2) في آية أخرى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام/ 130]. وقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ولم يقل: "عليكم" على إرادة (3) الصنفين. أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معًا. وهذا وإن كان مرادًا بقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ}، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحَسَّن الخطابَ بالتثنية في قوله: {عَلَيْكُمَا} أمرٌ آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما. واللَّه أعلم. قال ابن عباس: "الشواظ": اللهب الذي لا دخان فيه. و"النحاس": الدخان الذي __________ (1) "ب، ك، ط": "وبعدها". (2) "قال" ساقط من "ك، ط". (3) "ك، ط": "يرسل عليكم لإرادة".
(2/923)
لا لهب فيه (1). وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)}، فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنَّهما سواء (2) في التكليف. واختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يُسألون حينئذٍ. ويُسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى اللَّه أن يحاسبهم ويُريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي: قد علم اللَّه ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤالَ من يريد علمها، وإنَّما يحاسبهم عليها. فصل فإذا عُلِمَ تكليفُهم بشرائع الأنبياء ومطالبتهم بها، وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، عُلِمَ أنَّ محسنهم في الجنَّة كما أنَّ مسيئهم في النَّار. وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنيهم (3): {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (4) [الجن/ 13]، وبهذه الحجَّة احتجَّ البخاري (5). ووجه الاحتجاج بها أنَّ البخس المنفيّ هو: نقصان الثواب، والرهق: الزيادة في العقوبة على ما __________ (1) انظر: مسائل نافع بن الأزرق في الإتقان (2/ 60)، وتفسير الطبري (17/ 111). (2) "ط": "سويًّا". (3) "ك، ط": "مؤمنهم". (4) نقلت الآية مختصرة في "ك، ط". (5) في ترجمة الباب (12) من كتاب بدء الخلق، كما سبق.
(2/924)
عمل، فلا يُنقص من ثواب حسناته ولا يُزاد (1) في سيئاته. ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه/ 112] أي: لا يخاف زيادة في سيئاته ولا نقصًا في حسناته (2). وأيضًا فقد قال تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} وذكر ما في الجنَّتين إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)}. وهذا يدلّ على أنَّ ثواب محسنهم الجنَّة من وجوه: أحدها: أنَّ "مَنْ" من صيغ العموم، فتتناول كلّ خائف. الثاني: أنَّه رتَّب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدلّ على استحقاقه به. وقد اختلف في إضافة المقام إلى الربّ: هل هي من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين (3): أحدهما: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه. فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول. والثاني: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه. فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} [النازعات/ 40]. ونظيره قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم/ 14] فهذه ثلاثة مواضع. __________ (1) "ك، ط": "يزداد". (2) "ك": "زيادة سيئاته ولا نقصان من حسناته"! وكذا في "ط" بحذف "من". (3) انظر: تفسير البغوي (7/ 451)، والكشاف (4/ 451).
(2/925)
وقد يقال: الراجح هو الأوَّل، وأنَّ المعنى: خاف مقامه بين يدي ربّه، لوجوه: أحدها: أنَّ طريقة القرآن في التخويف أن يخوّفهم باللَّه وباليوم الآخر، فإذا خوّفهم به علَّق الخوفَ به، لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران/ 175] وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة/ 8] وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك/ 12]. ففي هذا كلّه لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنَّما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلِّقًا بعذابه، كقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. وأمَّا خوف مقامه عليهم، فهو وإن كان كذلك، فليس طريقة القرآن. الثاني: أنَّ هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام/ 51]. فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسّر بعضه بعضًا. الثالث: أنَّ خوف مقام العبد بين يدي ربّه تعالى في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر والبعث (1) بعد الموت. وهذا هو الذي يستحقّ الجنَّتين المذكورتين، فإنَّه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءَت به الرسل. وأمَّا مقام اللَّه على عبده في الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه، فهذا يُقرّ به المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. وأكثر الكفار يخافون جزاءَ اللَّه __________ (1) "ب، ك، ط": "بالبعث".
(2/926)
لهم في الدنيا، لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه. وأمَّا مقام العبد بين يدي ربّه في الآخرة، فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل. فإن قيل: إذا كان المعنى أنَّه خاف مقام ربّه عليه في الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجَّحتم أحدهما؟ قيل: التخويف بمقام العبد بين يدي ربّه أبلغ من التخويف بمقام اللَّه (1) على العبد. ولهذا خوَّفنا سبحانه به (2) في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين/ 6]، ولأنَّه مقام مخصوص مضاف إلى اللَّه تعالى، وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام اللَّه على العبد فإنَّه كل وقت. وأيضًا فإنَّه لا يقال لقدرة اللَّه على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام اللَّه، ولا هذا من المألوف إطلاقُه على الربِّ تعالى. وأيضًا فإنَّ المقام في القرآن والسنَّة إنَّما يطلق على المكان، كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء/ 79]، وقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} (3) [الدخان/ 25 - 26]، {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم/ 73]. والمقصود أنَّ قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46] يتناول الصنفين، من وجوه تقدَّم منها وجهان. الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن/ 47]. __________ (1) "ك، ط": "بمقام الرب". (2) "به" ساقط من "ك، ط". (3) زاد في "ط" هنا: "وقوله تعالى".
(2/927)
الرَّابع: أنَّه ذكر في وصف نسائهم أنَّهنَّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن/ 56]. وهذا -واللَّه أعلم- معناه أنَّه لم يطمث نساءَ الإنس إنسٌ قبلهم، ولا نساءَ الجنّ جنٌّ قبلهم. وممَّا يدلّ على أنَّ ثوابهم الجنَّة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الكهف/ 30 - 31] وأمثال هذه من العمومات. وقد ثبت أنَّ منهم المؤمنين (1)، فيدخلون (2) في العموم، كما أنَّ كافرهم يدخل في الكافرين المستحقّين للوعيد، ولا فرق. بل (3) دخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإنَّ الوعد فضله، والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي تغلب غضبَه. وأيضًا فإنَّ دخول عاصيهم النَّار إنَّما كان لمخالفته أمر اللَّه، فإذا أطاع اللَّه أدخله (4) الجنَّة. وأيضًا فإنَّه لا دار للمكلّفين سوى الجنَّة والنَّار، فكلّ (5) من لم يدخل __________ (1) "ط": "المؤمنون"، وهو خطأ صحح في القطرية. (2) في الأصل: "فيدخلوا"، ولعله سهو. وكذا في "ف، ك". وفي "ب": "فيدخل". والمثبت من "ط". (3) كأنّ الكلمة في الأصل: "بين"، وكذا في "ف، ب". ولعله سبق قلم. والصواب ما أثبتّ. وكتب ناسخ "ف" في الحاشية "أنّ" وأشار إلى أن مكانها بعد "بين"، وهو خطأ. وفي "ك": "بل بين". ولعل "بل" كان تصحيحًا في حاشية النسخة، فجمع بينهما ناسخ "ك". وفي "ط": "للوعيد ودخول"، فتصرّف في النص كما شاء! (4) "ك، ط": "أدخل". (5) "ب، ك، ط": "وكل"، قراءة محتملة.
(2/928)
النَّار من المكلَّفين فالجنَّة مثواه. وأيضًا فقد ثبت (1) أنَّهم إذا أجابوا داعي اللَّه غفَر لهم وأجارهم من عذابه، وكلّ من غفر اللَّه (2) له دخل الجنة ولا بدّ، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار. وأيضًا فإنَّه إذا ثبت (3) أنَّ الرسول مبعوث إليهم وأنَّهم مكلَّفون باتباعه كان (4) مطيعهم للَّه ورسوله مع الذين أنعم اللَّه عليهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية (5) [النساء/ 69]. وأيضًا فقد أخبر (6) سبحانه عن ملائكته حملةِ العرشِ ومَن حولهم أنَّهم يستغفرون للذين آمنوا وأنَّهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر/ 7 - 8]، فدلَّ على أنَّ كلّ مؤمن غفر اللَّه له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنَّة. وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النَّار -كما تقدَّم- فتعيَّن دخولُهم الجنَّة، واللَّه أعلم. وإذا ثبت تكليفُهم وانقسامهم (7) إلى المسلمين والكفار والصالحين __________ (1) "ف": "فإنه قد ثبت"، خلاف الأصل، وكذا في "ب"! (2) "ك، ط": "غفر له". (3) "ب": "وأيضًا فإذا ثبت". "ط": "وأيضًا فقد ثبت". (4) "ط": "باتباعه وأنّ". (5) هنا أثبت الآية كاملة في "ط". (6) سقط "وأيضًا" من "ك"، فأثبت ناشر "ط": "وقد أخبر". (7) "ط": "بانقسامهم"، تحريف.
(2/929)
ودون ذلك، فهم في الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدِّمة، إلا أنَّهم ليس فيهم رسول. وأفضل درجاتهم درجة الصالحين، ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها. فقد دلَّ القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام: صالحين، ودونهم، وكفار. وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة ودرجة المقرَّبين. واللَّه تعالى أعلم. فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلّفين في الدار الآخرة، وهي ثمان عشرة طبقة، وكلّ طبقة منها لها أعلى وأدنى ووسط، وهم درجات عند اللَّه. واللَّه تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره، ويقرن (1) بينهما في الدرجة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات/ 22 - 23]. قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب: "أزواجهم": أشباههم ونظراؤهم (2). وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} [التكوير/ 7]. روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنَّه سئل عن هذه الآية فقال: يُقرَن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنَّة، ويُقرَن بين الرجل السَّوء مع الرجل السَّوء في النَّار (3). وقال الحسن وقتادة: يلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي باليهودي، والنصراني بالنصراني (4). وقال الربيع بن خُثيَم: __________ (1) "ف، ب": "يفرق"، تحريف. (2) تفسير الطبري (23/ 46)، زاد المسير (7/ 52). وانظر الكافية الشافية (21). (3) تفسير الطبري (30/ 69). وكذا النصّ "بين الرجل. . مع. . . " في الموضعين في الأصل وغيره، وفي التفسير. وحذفت كلمة "بين" في "ط". (4) المصدر السابق (30/ 70).
(2/930)
يحشر الرجل مع صاحب عمله (1). وفي الآية ثلاثة أقوال أخر أحدها: أنَّ تزويجَ النفوس اقترانها بأجسادها وردّها إليها. الثاني: أنَّ (2) تزويجها اقترانها بأعمالها. الثالث: أنَّ (3) تزويج المؤمنين بالحور (4) العين، وتزويج الكفار بالشياطين. والقول الأوَّل أظهر الأقوال. واللَّه أعلم. والحمد للَّه ربِّ العالمين. وصلَّى اللَّه على محمد وآله (5). __________ (1) المصدر السابق. (2) "أنَّ" ساقطة من "ك، ط". (3) "ك، ط": "أنه". (4) "ك، ط": "الحور". (5) خاتمة "ف" المنقولة من الأصل: "كمل الكتاب بحمد اللَّه تعالى ومنّه وحسن توفيقه. فرغ من كتابته من نسخة المصنف المسودّة العبدُ محمد بن عيسى بن عبد اللَّه بن سليمان البعلي الحنبلي غفر اللَّه له ولوالديه وللمصنّف ولجميع المسلمين. ووافق الفراغ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشري شهر رمضان المعظم من عام اثنين وسبعين وسبع مائة ببعلبك. والحمدُ للَّه وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه. قابله كاتبُه بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه، فصحّ بحمد اللَّه. غفر اللَّه له، ولمن قابل معه، وللمصنف، والمالك، ولمن نظر فيه ودعا لهم. آمين. وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيّضها، كما تراها في القريب من آخره. واللَّه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل".
(2/931)