المواعظ
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
المواعظ
المقدمة
الحمد لله الذي يحب القلوب الخاشعة الخاضعة , والصلاة والسلام على الذي كان من دعائه " اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع " .
أما بعد:
فلاشك أن العناية بحياة القلب ورقته وصلاحه من أهم المهمات , ولعل من ضمن الوسائل التي ترقق القلب " الكلمات المتعلقة بالجانب الوعظي لهذا القلب " وبين يديك بعض الخواطر والهمسات التي تخاطب القلب والروح .
جعلنا الله وإياكم ممن زكى نفسه بصالح الأقوال والأعمال .
من ثمرات الحسنات في الدنيا
من توفيق الله تعالى للعبد المؤمن أن يوفقه للأعمال الصالحة , ولكن يا ترى هل القائم بهذه الأعمال يستفيد منها في حياته الدنيا أم أنها مجرد أقوال وأعمال جامدة لاروح فيها ولا نعيم من ورائها ؟.
إن المتأمل في نصوص الكتاب والسنة يجد عدة فوائد للحسنات يحصل عليها المرء عند قيامه بها, ومن تلك الفوائد :
1- مضاعفة الحسنات إلى أضعاف كثيرة , وهذا من فضل الله وكرمه أن جعل الحسنات تتضاعف وأما السيئة فلا تتضاعف , قال تبارك وتعالى: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) [الأنعام : 160] .
بل بلغ من الكرم الرباني أن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة , فإن عملها كتبها الله وضاعفها له , كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري .
2- حصول طمأنينة القلب وانشراح الصدر , وهذا شيء يلاحظه الإنسان في نفسه , أنه كلما تقرب المرء إلى ربه كلما وجد الأنس والسرور, ومصداق ذلك في كتاب ربنا, قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل : 97].
وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [الرعد : 28] .
وعلى العكس من ذلك فكلما زاد المرء في السيئات كلما زادته همومه وأحزانه , كما قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [طه : 124].
3- البركة في الرزق ؛ وقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يُبسط له في رزقه و أن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) رواه البخاري .
وتأمل هنا أن من جاء بصلة الرحم الذي هو من الأعمال الصالحة ومن الحسنات العظيمة بارك الله له في رزقه وفي عمره كما قال العلماء في بيان معنى الحديث ، فكيف بمن جاء بأعمال أخرى وحسنات أكثر , لا شك أن الله سيبارك الله له ويزيده من فضله .
4- القوة في الجسد , وتأمل في نداء هود عليه السلام إلى قومه ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ) [هود: 52 ] فانظر كيف ذكر هود عليه الصلاة والسلام أن الاستغفار والتوبة من فوائدها القوة في الجسد.
ومما يؤكد هذا المعنى القصة التي جاءت بين علي وفاطمة رضي الله عنهما .
وملخص القصة :
أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فلم تجده ووجدت عائشة رضي الله عنها فأخبرتها .
قال علي رضي الله عنه : فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا فقال : ( ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم ؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فإنه خير لكما من خادم ) .
قال علي رضي الله عنه : فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قيل له: ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين . [ صحيح مسلم: 2727 ] .
فانظر هنا كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على الذكر عند النوم سبباً للاستغناء عن الخادم ؛ وذلك لأن الذكر يقوي الجسد ويمنحه القوة والنشاط .
5- حفظ الله لصاحب الحسنات , وهذا واضح في الحديث الصحيح : ( احفظ الله يحفظك ) . رواه أحمد والترمذي وهو في صحيح الجامع (7985 ).
والمقصود من الحديث : احفظ أوامر الله بالامتثال واحفظ محارم الله بالانتهاء , والنتيجة : يحفظك الله , أي يحفظ لك دينك ويحفظ لك دنياك بل وصحتك وما تملك , بل من معاني الحفظ الرباني أن يحفظ أسرتك من كل سوء.
ومن لطيف ما يُذكر هنا : أن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى كان يقول لابنه : إني لأزيد في صلاتي من أجلك .
ومما يؤكد هذا المعنى ما جاء في سورة الكهف في قصة الغلامين , قال تعالى : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) [الكهف : 82] فعندما تتأمل في هذه القصة تجد أن الله حفظ المال لهم بسبب صلاح والدهم .
6- الزيادة في الخير والهداية , قال جل وعلا : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) [محمد : 17].
وقال تعالى : ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ) [مريم : 76] وقال جل اسمه : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) [الكهف : 13] , وهذا أمر نلاحظه أن الحسنات ينادي بعضها بعضاً , وعلى العكس نجد أن السيئات ينادي بعضها بعضاً .
7- التأييد بالكرامات , والكرامة : شيء خارق للعادة يظهرها الله تعالى على أيدي الصالحين تأييداً لهم ودفاعاً عنهم.
وتأمل في قصة أصحاب الكهف لما غادروا بلدهم وتركوا أقوامهم لأجل الله ثم دخلوا في الكهف كيف ناموا أكثر من 300 سنة ولم يتغير فيهم شيء ولم يضرهم , بل إن الله أجرى عليهم كرامات أخرى ومنها ما جاء في قوله تعالى : ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ )[الكهف:18].
قال العلماء : فائدة تقليب الله لهم وهم نيام أن يحفظ لهم أجسادهم من التعفن ؛ لأن المرء لو نام على جهة واحدة فترة طويلة لماتت الخلايا التي في ذلك الجنب ولم يستطع التحرك , ولهذا نجد في المستشفيات أن المريض الذي لايستطيع التحرك لا بد أن يدخل عليه الممرض ليقلبه ذات اليمين وذات الشمال , فسبحان الله العظيم .
8- محبة الله تعالى , وقد جاءت النصوص بإثبات محبة الله تعالى لبعض الأعمال والأوصاف , ومنها : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران : 134].
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران : 146] ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [التوبة : 108] ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) [البقرة : 222] ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران : 159] ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [المائدة : 42] ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة : 4] والآيات أكثر من أن تُذكر وأشهر من أن تُحصر , فالعاقل يحرص على أن يبادر إلى هذه الأعمال والأوصاف لكي يفوز بحب الله تعالى له , نسأل الله الكريم أن يجعلنا ممن فاز بحب الرحمن .
9- تفريج الكربات والأزمات , ويا ترى كم هي الكربات والأزمات التي تنزل بنا في هذه الحياة ؟ . ألسنا بحاجة إلى وسيلة تخفف عنا هذه المصائب ؟ نعم .
إن الحسنات والصالحات التي حفظها الله لك ستنفعك عند ورود المصائب, قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا ) [الطلاق : 2] وقال جل وعلا: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) [الطلاق : 4] وفي الحديث الصحيح : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) . رواه أحمد وهو في صحيح الجامع (7985) .
ولهذا كلما زادت التقوى في حياتنا كلما فُزنا بالدفاع الرباني والعون الإلهي في أزمات هذه الحياة .
10- توسيع أبواب الرزق , قال تبارك وتعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )[الطلاق: 2- 3].
وكم نحن بحاجة إلى مزيد من أبواب الرزق وخاصة في زمننا هذا المليء بالمطالب المالية , وتأتي " التقوى " لتضيف علينا جانباً كبيراً من جوانب الرزق الكريم من الرزاق جل وعلا .
11- استجابة الدعاء , وهذه من الكرامات التي يمنحها الله تعالى لأصحاب الحسنات والقربات , وقد جاءت هذه الكرامة صريحة في الحديث القدسي المشهور : ( و ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمعُ به و بصره الذي يبصر به و يدهُ التي يبطشُ بها و رجلهُ التي يمشي بها و لإن سألني لأعطينه و لإن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري .
وهذه الاستجابة الربانية لأولئك الصالحين والعابدين إنما كانت بسبب مداومتهم على الحسنات وملازمتهم لها كما في ظاهر الحديث " وما يزال " التي تفيد الاستمرار والمداومة .
12- السلامة من وصف الخسران , قال تعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [العصر :1- 3].
فهنا نجد أن الله وصف الإنسان بالخسارة إلا على من جاء بالإيمان والعمل الصالح , فهو سالم من الوصف بالخسارة .
13- الثبات عند المصائب والنجاة منها , وفي قصة أصحاب الكهف نجد التثبيت الرباني فتأمل قوله تعالى : ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : أي وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة.
فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها.
وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: "دقيانوس"، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه , فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض , فجعل كل واحدمنهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم .
فكان أول من جلس منهم أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان , والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفًا منهم ، ولا يدري أنهم مثله.
حتى قال أحدهم: تعلمون - والله يا قوم - إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره . فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يُعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء: السموات والأرض وما بينهما.
وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ) ولن: لنفي التأبيد ، أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) أي: باطِلا وكذبًا وبهتانًا.ا. هـ
وفي قصة أم موسى نجد تثبيت الله لها في المصيبة التي نزلت بها عندما أراد فرعون قتل الأطفال ثم رمت بابنها موسى عليه السلام في البحر والتقطه آل فرعون.
قال جل وعلا مبيناً هذا التثبيت والتأييد الرباني ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [القصص : 10] قال البغوي رحمه الله تعالى : ( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) بالعصمة والصبر والتثبيت .اهـ
فمن أراد المزيد من التثبيت والمزيد من التأييد والرعاية من الله جل وعلا فليحافظ على حسناته وليداوم عليها وليسر على المنهج المستقيم الذي يرضي الله تبارك وتعالى .
14- الفوز بولاية الله ونصرته وتأييده , قال جل وعلى : ( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران : 68] والمراد أن الله ينصرهم , قاله القرطبي رحمه الله تعالى.
قال العلماء : على قدر إيمانك وحسناتك تكون ولاية الله لك وعلى قدر ما ينقص من إيمانك تنقص ولاية الله لك .
15- تكفير السيئات , وقد جاءت النصوص ببيان تكفير الحسنات للسيئات ومحوها له , قال جل وعلا : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ) [التغابن : 9] ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) [المائدة : 9] وقال سبحانه وبحمده: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) [هود : 114] وفي الحديث الصحيح : ( واتبع السيئة الحسنة تمحها ). [ صحيح الجامع: 98] .
فيا من أزعجته الذنوب وآلمته السيئات انطلق إلى أبواب الحسنات لكي تمحو سيئاتك.
16- الانتفاع بالذكرى , قال تبارك وتعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الذاريات : 55] وقال جل وعلا : ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ) [الأعلى : 10] .
والمراد أن صاحب الإيمان تنفعه الذكرى والموعظة أكثر من غيره لأن حسناته وإيمانه وهدايته تؤثر على قبول الموعظة وتجعله مستجيباً لها .
17- حسن الخاتمة , قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) [فصلت : 30].
وهذه الثلاث تكون عند الموت كما قال العلماء , وعندما نتأمل في أحوال بعض الصالحين عند موتهم نرى حقيقة الخاتمة الحسنة , فمنهم من يموت وهو ساجد , وآخر يموت وهو يطوف في الحرم , ومنهم من يموت وهو صائم , وكثيرون نرى الابتسامة عليهم عند موتهم , ولا شك أن هذه من نتائج الاستقامة ودليل على صدق العبد ومحبته وملازمته للحسنات.
من ثمرات الحسنات يوم القيامة
هناك وفي أرض المحشر حيث الأهوال وتغير الأحوال , يا ترى هل لأهل الحسنات منازل ؟ وهل لهم كرامات بسبب حسناتهم وصالح أقوالهم وأعمالهم ؟ .
الجواب: نعم. لأهل الحسنات مراتب وفضائل سيشاهدونها هناك في أرض المحشر, جعلنا الله وإياكم ممن يحصل عليها.
1- الأمن يوم الفزع الأكبر ؛ فهناك في يوم القيامة الخوف والأهوال والفزع الأكبر, ولكننا نجد أن الحسنات تنفع أصحابها هناك حيث تمنحهم الطمأنينة والنجاة والأمن , قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) [الأنبياء : 101- 103] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ، كما قال: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) [يونس: 26] وقال ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) [الرحمن:60].
فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآلهم وثوابهم ، فنجاهم من العذاب ، وحَصَل لهم جزيل الثواب، فقال: ( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) أي: حريقها في الأجساد.
قلت : فسبحان ربي العظيم كيف تكون الحسنات سبباً للأمن في أوقات الشدائد .
2- الثبات على الصراط ، ونحن نعلم أن مما يكون يوم القيامة " أن يُنصب الصراط " على متن جهنم ثم يمر الناس عليه فيا ترى ماذا تصنع الحسنات بأهلها عند مرورهم على الصراط ؟ .
قال تعالى : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [الحديد : 12].
فيا عجباً لهذه الحسنات كيف تكون نوراً يوم القيامة لأهلها ومن روائع الأحاديث في هذا الباب : قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصراط : ( تجري بهم أعمالهم ) . [ مسلم:195 ] .
فتأمل كيف تكون الأعمال هي وسيلة لتثبيت أهلها في يوم تتساقط فيه الأقدام فنسأل الله أن يثبتنا على الصراط .
3- ثقل الميزان يوم القيامة ؛ لأن يوم القيامة يضع الله فيه الميزان وهو كفتان كفة توضع فيها الحسنات وكفة توضع فيها السيئات ويؤتى بالحسنات لتوزن
قال تعالى : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف : 8].
فهنيئاً لصاحب الحسنات والصالحات حينما تكون حسناته على الميزان لتمنحه الفلاح والنجاة هناك , وأما من فقد حسناته بسبب غفلته وتفريطه فكيف يكون حاله ؟ قال عز وجل : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) [الأعراف : 9].
4- أخذ الكتاب باليمين , وذلك أن يوم القيامة تنشر صحف الأعمال لكل واحد منا , قال ربنا تبارك وتقدس: ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ )[التكوير:10].
وعندما يؤتى بها ينقسم الناس إلى قسمين : قوم يأخذون كتابهم باليمين , قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) [الحاقة : 19] وهذا إنما أخذ كتابه باليمين ؛ لأنه كان من أهل الحسنات والصالحات في الدنيا كما في نهاية الآية ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24] فتأمل تجد أن الله وهبهم هذا الفوز بسبب اجتهادهم في الأيام السابقة في الحياة الدنيا .
5- دخول الجنة ؛ وهي الدار التي أعدها الله لأصحاب الحسنات جزاء لأعمالهم , قال تعالى : ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الزخرف : 72] .
وقال جل وعلا: ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) [مريم : 60].
وقال تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) [البقرة : 25] .
والآيات في هذا الباب متواترة معلومة , وعندما يستشعر المؤمن أن الحسنات ثمرتها دخول الجنان فإنه سيبذل المزيد من الاجتهاد في الأعمال الصالحة لكي يفوز بتلك الجنان , والفوز بها هو الفوز الكبير, قال تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ) [النساء : 13].
وقال تبارك وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) [البروج : 11] .
6- رؤية الرحمن ؛ وهذا أعظم نعيم في الجنة لأهل الجنة , ولنتدبر هذا الحديث: قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو ؟ ألم يثقل الله موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، وينجنا من النار ؟ فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم ) [ صحيح الجامع: 521 ].
ووالله إن هذه اللحظة التي يتمتع فيها أهل الجنان برؤية الرحمن لهي أجمل اللحظات التي يتنافس فيها المتنافسون .
فيا صاحب الحسنات.. هذه بعض فوائد الحسنات التي تحصل عليها في أرض المحشر وما بعده , فابذل المزيد وجاهد نفسك لتفوز بتلك الكرامات من الرب الكريم ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )[المطففين:26] .
طمأنينة القلب
حصول طمأنينة القلب وانشراح الصدر هدفٌ يسعى له الكثير من الرجال والنساء , وفي سبيل تحقيقه تُصرف الأموال , ويرحل المسافرون إلى البلاد شرقاً وغرباً بحثاً عن أي وسيلة لسعادة القلب وطمأنينة الروح .
ونحن حينما نشارك الكون كله في البحث عن السعادة فيجب أن نرشدهم إلى الوسيلة العظيمة والمختصرة وهي : أنه كلما تقرب المرء إلى ربه كلما وجد الأنس والسرور والسعادة والطمأنينة.
ومصداق ذلك في كتاب ربنا, قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل : 97].
وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [الرعد : 28] .
فإذا كان مجرد ذكر الله تعالى سبب كبير للطمأنينة فما بالك بمن جمع مع الذكر عباداتٍ أخرى جليلة.
والذي ينظر في نفسه بكل تجرد يجد أنه كلما تقرب إلى الله بفعل الفرائض أو النوافل كلما وجد السعادة في قلبه على قدر عمله , وأنه حينما يرتكب أمراً محرماً أو يقصر في واجب يشعر بألم في قلبه وهماً ملازماً وقسوةً حاضرة .
فهذا رجل كتب الله له أن يقوم من الليل عدة ركعات , فشعر بحلاوة في قلبه لا تساويها حلاوة , حتى قال أحدهم : لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا , وبعد صلاة الليل إذا به يتجه إلى المسجد ليؤدي صلاة الفجر , فزادت سعادته , ثم بدأ بالأذكار الصباحية.
ثم رجع إلى بيته وهو في فرح كبير وسعادة غامرة. يا ترى لماذا ؟ هل حصل على زيادة في ماله ؟ هل مارس لذة من لذائذ الشهوات ؟ لا , إنه كان في مناجاة مع ربه الرحيم الودود , فوهبه الرحمن بعض الهدايا القلبية التي جعلته يتذوق طعماً للإيمان .
وعلى العكس من ذلك تجد ذلك الذي كانت ليلته مع الشهوات سهراً واستمتاعاً , ثم ينام عن الصلاة , يصبح وقد أحاطت به الهموم على قلبه والتنغيص على روحه , ويشعر بألم قد لا يدري ما سببه .
نعم.. إنها الذنوب والشهوات تجلب لك القسوة في قلبك والحزن والهمّ والغمّ , وصدق الله ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [طه : 124].
ولقد تحدث الكثير ممن عاشوا في جحيم الشهوات والإعراض عن الله عن حياة كانت مليئة بالحزن والألم والقلق.
وفي نظرة أخرى نجد في بلاد الغرب من حالات الانتحار الشيء الغريب رغم ما يوجد لديهم من عناصر اللذة والشهوة , نعم هي لذة الجسد ولكنها عذاب للروح .
فيا من يريد السعادة والطمأنينة وانشراح الصدر , بينك وبينها خطوات يسيرة , أقبل على ربك ليمنحك سعادة القرب منه ولذة الاتصال به.
كلمات في نعيم الجنة
1- النعيم الكبير الذي في الدنيا هو حلاوة الإيمان ولذة مناجاة الرحمن وكلما اقترب المرء من ربه كلما وجد من الأنس والسرور ما لا يعلمه إلا الله.
٢ – من نعيم الجنان قبل الموت: التبشير بالجنة حينما تنزل الملائكة وتقول لأهل الإيمان والاستقامة ((وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))[فصلت:30] وحينها يفرح المؤمن خروج الروح.
٣ - هناك نعيم ينتظر أصحاب الحسنات في قبورهم حيث يقال للمؤمن : " انظر عن يمينك فيرى مقعده من الجنة ". ويأتيه من روحها وريحانها .
٤ - تخفيف طول يوم الحشر حتى يكون كصلاة ظهر أو كصلاة عصر كما في الحديث الذي حسنه بعضهم ؛ وبعضهم يظلهم الله في ظل عرشه .
5 - أهل الجنان يأخذون كتابهم باليمين , ثم ينادي صاحب الكتاب أمام العالمين ((هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ))[الحاقة:19] والله إن هذا لهو الفوز الكبير.
6 - أهل الجنان حينما يحاسبهم الله يكون حسابهم يسيراً (( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ))[الانشقاق:8-9] . اللهم اجعلنا منهم .
7 - أهل الجنان في شدة العطش هناك في أرض المحشر يسيرون إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم ليشربوا منه شربة واحدة فلا يظمأون بعدها أبدا .
8 - وجوه أهل الجنان في أرض المحشر , قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ )[عبس:38-39] ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ )[الغاشية:8-9] يارب اجعلنا منهم .
9 - ويبدأ الاتجاه إلى الصراط وهو جسر دقيق على النار, فيسيرون بثبات وطمأنينة , لأنهم استقاموا في الدنيا , فربنا سيثبتهم هناك .
10 - أهل الجنة يتنافسون في سرعتهم على الصراط على حسب سرعتهم في الدنيا للأعمال الصالحة , والجزاء من جنس العمل .
11 - حينما يتجاوزون الصراط يبقون في مكان يقال له " القنطرة " ليكون هناك التسامح وتصفية القلوب حتى يدخلوا الجنة بكل حب وإخاء وسلام .
12 - الجنة لها ثمانية أبواب: الصلاة ، الصدقة ، الجهاد ، الوالد ، الريان . وباقي الأبواب لا أعلم فيها حديثاً صحيحاً.
13 - المسافة بين الأبواب كبيرة " ٤٠ " سنة يدخل أهل الجنان بكل سعادة وسرور , يا ترى ماشعورك وأنت هناك وقد وضعت قدمك الأولى ؟!.
14 - حينما يدخل أهل الجنة يلهم الله كل واحد بمكان قصره ، وهذا تفسير الآية ( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ )[محمد:6] فيتجه كل واحد لقصره .
15 - في الجنة أشجار ، وفي الحديث: ( ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من ذهب ) والحديث حسنه الألباني. وفي الأشجار ثمار كثيرة ومتنوعة .
16- في الآيات الكريمة بيان لأنواع الثمار في الجنة , قال تعالى: ( لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ )[المؤمنون:19] ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ )[الرحمن:52] وهذه الفواكه تدنو لك حتى تأخذ منها ما تشاء ثم تعود لمكانها كما قال تعالى: ( قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ )[الحاقة:23] وقال: ( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا )[الإنسان:14] .
17 - وفي الجنة أنهار تجري من تحت القصور، أنهار من لبن لم يتغير طعمه، ومن عسل مصفى، ومن ماء غير آسن ولا متغير، ومن خمر لذة للشاربين , وحافات النهر اللؤلؤ يحيط بها من جوانبها ، فتخيل أنك على شاطى تلك الأنهار.
18 - وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها ١٠٠ عام لا يقطعها ، ياالله ، تخيل أنك وزوجتك وأسرتك هناك تحت ذلك الظل تسيرون على خيل من ذهب .
19 - بناء الجنة من ذهب وفضة، والحصى المتناثر في جوانبها من لؤلؤ ، وهناك خيمة لكل مؤمن " من لؤلؤ " مجوفة طولها في السماء ٦٠ ميل .
20 - هناك وفي تلك الغرفة امرأة تنتظرك بشوق ، طالما انتظرت قدومك ، كانت أخبارك تصل لها ، وتفرح بها ، إنها الحورية التي تحبك .
21 - الحور العين جميلة اللباس ، حسنة الرائحة ، صادقة الحب ، كثيرة الشوق ، جميلة في الأخلاق ، لن تسمع منها ما يجرحك ، هي مخلوقة لك .
22 - الحورية تحبك لأجل حسناتك ، قد قذف الله فيها حبك ، فأنت لها وهي لك ، وأنت في قلبها أحسن من كل البقية ، فيالذة الأبصار إن هي أقبلت ويالذة الأسماع حينما تتكلم لك بعبارات الحب والشوق , وما أجمل الصوت الذي لم تسمع مثله على الإطلاق .
23 - في الحديث: ( لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحاً ) [ البخاري:6567 ] .
24 - ما شعورك وأنت مع الحورية تتجولان في قصر الخلد ، والأشجار تحيط بكم ، والأنهار تجري ، والخدم يطوفون حولك يريدون خدمتك ؟.
٢٥ سبحان من خلق جمالها حينما تجامعها وتعود بكراً ولا يوجد منغص يؤثر على علاقتك بها ، بل تعود بعد جماعها أجمل وألذ وأحسن .
٢٦ - فكر في جمالها قبل أن تفكر بجمال نساء القنوات والمجلات ومقاطع اليوتيوب ؛ إنها مخلوق جميل من الإبداع الرباني .
٢٧ - أعظم نعيم في الجنة هو التمتع برؤية الرب الكريم الجميل سبحانه وتعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[القيامة:22-23] .
٢٨ - المرأة الصالحة إذا دخلت الجنة تعلو منازل عالية ، وتصبح سيدة للحور العين بسبب صلاحها وحسناتها ، فلا تغاري أختنا ؛ إنها الجنة .
٢٩ - المرأة التي جعلت حياتها لربها لها في الجنان أعظم الثواب وأعلى النعيم ، فجددي العزم أختاه وسيري بالشوق إلى ربك الذي يحبك .
أجساد لا روح فيها
من المتقرر عقلاً وفطرةً أن كل واحد منا له جسد وروح ولكنك تستغرب حينما ترى حولك في منزلك أو شارعك أو بين أقاربك أو في محل وظيفتك من يملك جسداً لا روح فيه .
إن من أسماء ربنا " الرحمن – الرحيم – الرؤوف – الودود – الجواد – المحسن .. " وكلها توحي لك بظلال الرحمة والمحبة لهذا الرب جل في علاه .
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان هو الرحمة المهداة وهو صاحب القلب الكبير والرحيم واللين والمحسن وغير هاتيك الصفات الإنسانية التي تراها واضحة في شخصية نبينا عليه الصلاة والسلام .
وحتى يزول الضباب عما تمت قراءته أقول لك :
ألا تتعجب معي من ذلك الأب الذي قسا قلبه فتراه يهمل أسرته ويبخل بوقته وماله وعاطفته عن صبية صغار يؤيهم ذلك المنزل ؟.
ثم ألا تستغرب من ذلك المسؤل الذي يملك قلباً يشابه الحجر في صلابته فتراه مع موظفيه قاسياً متكبراً متغطرساً يبحث عن حظوظه وأهدافه , ويسعى لأن يستفيد من كرسيه لتحقيق مآربه فقط , وأما خدمته للمراجعين وتيسير أمور الناس وخدمتهم ومساعدتهم وتفريج همومهم فلا وألف لا .
وهناك في هذا المنزل ابن تنكر لمعروف والديه , ولما بدا له شاربه ونما جسمه إذ بك تراه رافعاً صوته على والديه بل وقد هم بضربهما في أحايين كثيرة .
وهذا صاحب مال كثير يجمع ويجمع ولكنه يمنع ويمنع , فلايؤد زكاته , ولايرحم به فقيراً ولامسكيناً , فهو البخيل الشحيح , يعبد ماله عبادة لا مثيل لها , أليس له قلب , أين روحه عن أولئك اليتامى؟ ألم يسمع بصيحات الثكالى والأرامل ؟ بلى يسمع , ولكن القلب لا يعي ولا يدرك ولا يشعر .
وهذه زوجة سكنت في منزل زوجها ولم تسكن في قلب زوجها ، جامدة المشاعر والعواطف, تطلب ماتريد بكل إلحاح وسلاطة لسان , ناكرة لزوجها جاحدة لحسناته , لا غرابة فلها جسد لا روح فيه , فكيف تعترف بفضل زوجها الذي أسكنها منزله وأسبغ عليها بماله , يذهب بها حيث شاءت ويطعمها من كل مكان , ولكنك تتعجب من شأن تلك الزوجة القاسية , لا كثر الله في النساء من مثلهن .
ولن ننس ذلك الزوج الذي رمى بروحه ومحبته وعاطفته إلى أصدقائه فهو حبيب لهم رحيم بهم كريم عليهم , لكنك لن تجده في البيت إلا وحشاً كاسراً , جسد لا روح فيه , أسرته يتمنون خروجه بل وخروج روحه من بذاءة ألفاظه , وجمود مشاعره , وعشقه لهمومه ونسيانه لهمومهم مشغولاً بأصحابه يحقق أمنياتهم على حساب أمنيات أسرته, وتراه خارج منزله بجسده وروحه ولك أن تعيش معه لحظات لتكتشف الجرائم التي انبعثت منه في خلال الأيام الماضيات .
ومن الذين يملكون أجساداً لا روح فيها ذلك الكفيل الذي ضم مجموعة من العمال لكفالته ولكنه نظر إليهم إلى أنهم أجساد , فطالب بحقوقه ونسي حقوقهم , يبادر لما يريد ويغفل عما يريدون , يمنعهم رواتبهم ويحاسبهم على فوات ونقصان الريالات من خزينة مؤسسته , يا الله كم من دعوة رفعها ذلك العامل في ظلام الليل إلى الرب الذي لا ينام , يشكو قسوة قلب كفيله الذي يملك جسداً لاروح فيه , فرويداً بنفسك يا ظالم , وابحث عن روحك لتسكن فيك حتى لا تسكن أنت ناراً تلظى أعدها الله للظالمين .
وهناك أم فقدت طبيعتها " الرحمة والأمومة " فتراها مع زوجة ابنها قاسية , حاسدة , تعاتبها على كل حركة تناديها في كل ساعة , تسألها في كل ليلة : أين كنت ؟ ومع من ذهبت ؟ عجباً لهذا التحقيق الدقيق.
لا أحصي كم عدد الأخوات اللواتي يشتكين من أمهات الزوج وتسلطهن على أسرار العلاقة بين الزوجين , والكارثة هنا إذا كان الزوج لا يقدر على إدارة التوتر الذي ينشأ في منزله بسبب وجود الشيطان بين الوالدة والزوجة , فرسالتي للأم : كوني رحيمة بزوجة ابنك واعتبريها ابنتك , فقد ضمت ولدك ومنحته حنانها وهي أم أطفاله , ولا يكن الشيطان عوناً لك في إدخال الشكوك والقلق في داخل ذلك المنزل.
وأبعث برسالة لأختي الزوجة : عليك بالحكمة في التعامل مع هذه الأم , فهي كبيرة في السن, ولعلها فقدت زوجها وهي تشعر بفقدان العاطفة من أبنائها , ولعلها لاتقصد الحسد ولكن من طبيعتها في النقد أن تكون هكذا , وصبرك عليها يزيد من محبة الزوج لك, حماك الله من كل مكروه وألف بينكما .
وأما إن سألت عن قاطع رحمه , فهل له روح ؟ .
فالجواب: لا , بل لقد أصابته نفحة من عذاب الله على قلبه ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ))[محمد:23] .
كيف يعيش قاطع رحمه ؟! جسد يمشي وروح تتعذب بالهموم والأحزان وزوال البركات , فيا أيها القاطع : أين روحك ورحمتك بإخوتك وأخواتك , وهل من نظرة لعمتك وأعمامك , وهل من ابتسامة لخالتك وأجدادك ؟ عُد لهم بقلب محب, وابك على قطيعتك وهجرانك , ولعل الله أن يغفر لك ما مضى .
نسأل الله أن يمنحنا أرواحاً مطمئنة بالإيمان والسكينة والرحمة لكل الناس .
ولكن كن خفيف النوم
في طريق التعبد ترد لحظات الفتور , ولا بد أن تمر سحابة الضعف , وهذا لا غرابة فيه , فالقلوب تتقلب والفتن خطافة , والمعين قليل , ولكن ومع يقيننا بذلك إلا أنه لا بد من الانتباه من طول الغفلة , وشدة الفترة , فقد تأخذ بك نحو الهاوية , فكن خفيف النوم.
وفي الحديث الصحيح : لكل عامل شِرَّة ، ولكل شِرَّة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى " رواه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو ، وللترمذي نحو من هذا من حديث أبي هريرة وقال : حسن صحيح .
وأعتقد أن لحظات الفتور فيها من الأسرار والحكم ما تكون خيراً لصاحبها إن عرف كيف يستفيد منها , لينطلق إلى مولاة عبر بوابة " الذل" ليقف هناك على عتبات العبودية التي لا يَصلُح إلا بها ولها.
وفي صلة الرحم سعادة
تأملتُ في خطاب بعض الوعاظ فوجدتهم دائماً يربطون السعادة والطمأنينة بمجرد العبادات الذاتية كالصلاة والقرآن والذِّكر والصيام.. ونحو ذلك.
ولم أسمع عن أحد منهم أن تحدث عن السعادة في الأعمال المتعدية وخاصة " صلة الرحم وبر الوالدين " .
وفي الحقيقة أن هذا نقص كبير وجهل واضح بمراتب الأعمال وفضائلها وثمارها.
وقد وجدتُ في بر الوالدين والتفاني في خدمتهما وصلة الرحم وزيارة الأقارب والإحسان إليهم أضعاف أضعاف اللذة والحلاوة التي أجدها في العبادات الذاتية كالتلاوة والذكر وغيرها.
وأنا هنا لا أهمل عبادة أو أقلل من شأنها ، ولكنني أدعو إلى إحسان الخطاب الوعظي وجودة التوجيه لعموم الناس وفقه الأعمال وتفاضلها.
ومن زاوية أخرى أدعو كل من لديه همّ أو غمّ أو يعاني من بعض الأحزان أو ضيق في المال أن يتجه لباب البر بالوالدين والإبداع في اقتناص الحسنات من خدمتهما ، فمن طاعةٍ إلى تذللٍ إلى تقبيلٍ لليد والرأس وابتسامة دائمة ، وإهداء بين فترة وأخرى ، ووعد بدوام الطاعة مع تهذيب اللفظ واختيار أقدس العبارات لإرسالها إلى مسامعهما.
ثم بعد ذلك انطلق لكنز الصلة مع الأرحام من زيارةٍ لمريض أو سفرٍ لصلة واتصال شهري على الأقل ، ورسالة جوال تحمل معاني الوفاء ، وتَفقُد المحتاج ، ومؤانسة المهموم ، ودعاء بظهر الغيب.
وبعدها ستذوق طعم الإحسان وستنزل على قلبك نسائم الإيمان ، وجرِّب تجد أكثر وأكثر من الخيرات والبركات.
وتبتل إليه تبتيلاً
إنه حال من أحوال القلب ، ومنزلة لا بد أن ينزل فيها في طريق السير.
ومعنى التبتل: الانقطاع ؛ قاله ابن القيم.
وهذا التبتل يجمع أمرين:
- الاتصال والانفصال.
- فالانفصال هو: انقطاع القلب عن حظوظ النفس التي تزاحم مراد الرب، وعن التفات القلب إلى ما سوى الله.
والاتصال لا يصح إلا بعد هذا الانفصال ، وهو اتصال القلب بالله تعالى والإقبال عليه وإقامة القلب على مراد الله محبة وشوقاً وذلاً وخضوعاً.
ولو نظرت في حال بعض الناس لرأيتهم في جهل بهذا المعنى ، بل لرأيتهم قد انقطعوا عن الخالق من حيث لا يعلمون ، إذ أن القلوب تعلقت بالدنيا والمناصب والشهوات.
ومضة : انقل قلبك من وطن الدنيا وأسكنه في وطن الآخرة ، وحينها تكون من أصحاب اليقين.
بناء القلب
لفظ " البناء " يكثر تداوله بين الناس ، وينصرف في الغالب إلى أمور الدنيا كالبيوت والمصانع.
وقد يرد في أمور الجسد والجسم ، فيقال: " بناء الجسم والعناية به " .
ومراد هؤلاء : البناء الظاهر والارتقاء بالشيء نحو الأفضل حتى تتم الاستفادة منه حال انتهاء البناء.
وفي نظري أن " القلب " لا بد أن نضيف له " البناء " وبناء القلب يحتاج إلى أن ندرك أهميته ، وبعد ذلك نتوجه إلى البناء.
ولن يتم ذلك إلا بالإقبال على الله تعالى بالطاعات والتقرب إليه بالصالحات، مع التأمل في أسماء الله وصفاته والتعبد لله بمقتضاها وآثارها، ودوام النظر في أعمال القلوب وطرق تزكيتها وآفاتها.
مشغول أم محروم
" أنا مشغول" كلمة نسمعها كثيراً في واقعنا ، وتتردد هذه الجملة لدى فئام من الناس ، وخاصة عند سماع التحفيز لعمل صالح ؛ مثال : قراءة القرآن الكريم.
فلا تتعجب إذا سمعت بعض الناس عندما يقول: " أريد قراءة القرآن " ولكني مشغول " أريد صيام النوافل " و " قيام الليل " و " أداء العمرة " و " حضور مجالس الذكر " وغير ذلك من صالح الأعمال ، ولكن صاحبنا لا يحفظ إلا " أنا مشغول " لكي يقنع نفسه بسبب تركه لهذا العمل الصالح.
والسؤال هنا : هل هو مشغول فعلاً أم يا ترى أنه من المحرومين ؟
إن الحياة مليئة بالأعمال والهموم بلا ريب ، ولا يكاد الواحد منا ينتهي من عمل إلا ويجد عملاً آخر يناديه " هلمّ إلي " .
ولكن ألا نجيد ترتيب حياتنا وضبط الأولويات في أعمالنا لكي نجمع بين العمل للدنيا وبين العمل للآخرة.
إنه لا يصح أن نكدح لعمل الدنيا ونحتج بقوله تعالى: ( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )[القصص:77] وننسى أن نضع في جدول أعمالنا بعض الأعمال الصالحة لتكون زاداً لنا في قبورنا ويوم حشرنا ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )[البقرة:197] .
إنني أجزم أن المرء مهما كان مشغولاً فإنه يستطيع إدارة وقته وتعبئته بصالح الأعمال ، ولن يتحقق ذلك إلا إذا أيقنا بأن حاجتنا للعمل الصالح أعظم من العمل للدنيا ؛ لأن:
- العمل الصالح سبب للطمأنينة.
- ورفعة في الدرجات.
- وسبب للتوفيق الدائم ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا )[الطلاق:2] .
- والعمل الصالح سبب لحسن الخاتمة.
- وهو طريق إلى رضوان الله.
وموصل إلى الجنة ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[الزخرف:72] .
وفوائد العمل الصالح كثيرة جداً ، فكيف يليق بالمؤمن أن يكون العمل الصالح هو هدفه الأخير، ومبتغاه المتأخر ؟!.
وإن حديثنا عن العمل الصالح لا يعني أن نلغي مشاريعنا الدنيوية أو نفرط في عملنا الوظيفي.
ولكن هي دعوة إلى إيجاد توازن بين العمل الدنيوي وبين العمل الشرعي، ولكي ننجو من " الحرمان " من الأجور بدعوى " أنا مشغول .
عتاب لبعض محبي العبادة
من أجمل النعم الربانية أن تكون من محبي العبادة ، وهي عطيَّةٌ عظمى ، لا يعرف قدرها إِلا من ذاقها ، ولكن تبقى هنا مسألة مهمة ، وهي : تأسيس العبادة على العلم.
إِننا نرى من يحب العبادة ويألفها ، ويجتهد فيها اجتهاداً عظيماً ، ولكن - وبكل صدق - نرى من بعض هؤلاء من يجهل العلم - فتجده يقع في أخطاء في هذه العبادة ، بل قد يقع في بدع وهو لا يعرف أنها بدع ، وقد يحسِّن له الشيطان ذلك ويرى أن عمله حسناً ولعله يزداد من الله بعداً وهو لا يشعر.
ولذلك اتفقت كلمة السلف على وجوب الإتباع للسنن ، وعدم الاغترار بعمل، إِلا بعد عرضه على ميزان الشرع وقانون العلم.
والشرع ميزان الأمور كلها وشاهدٌ لفرعها وأصلها
• والمشكلة تكمن في أن الناس يحبون العابد لِما يظهر عليه من العلامات كالخشوع ، والبكاء ، والزهد ، مع عدم التفريق بين صواب فعله أو خطأه، ولهذا قال السلف: احذروا زلة العابد.
وكم رأينا من أشخاص اغتروا ببعض العباد ، وقلَّدوهم في عبادتهم سواءً في الألفاظ أو في الأعمال ، ولو أنكرت على هؤلاء لقالوا لك: ولكن فلان يفعله ، فيا عجباً لهم ، وهل فلان هو القدوة فيما يفعل وفيما يترك ، أو أن القدوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يُقبل قوله وفعله بدون اعتراض ؟ وأما غيره من الخلق مهما كانوا ، فلا بد من عرض ما جاءا به على الشرع.
• ومن تأمل حال أهل البدع ، يجد أن منهم طائفة تعلقوا بالعبادة ولكنهم على غير علم ومنهم ( الخوارج ) الذين قال فيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم... ) [ البخاري: 6933 ]
• ولقد رأيتُ بعض العباد وممن يُشار لهم بالبنان ، ولكن عليهم من الأخطاء ما لا يعرف قدرها إِلا من يعرف السنة وذاق حلاوة العلم.
• وبعض أصحاب العبادة يجهلون مراتب الأعمال، والفاضل والمفضول، والنفع المتعدي وأثرها الواضح والجلي في حياة العابد ، وفي تعامله مع العبادات الأخرى.
• ويلاحظ على بعضهم العناية بالتوجيه للعبادة فقط ، ولا تسمع منه الحديث في العقائد أو الفقهيات أو النواحي التربوية.
• وبعضهم يستدل في حديثه ووعظه بالأحاديث الموضوعة وفي هذا من الخطر ما فيه حيث وقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
• ومن العُبّاد من يجهل خفايا النفوس وأسرار القلوب ، فلا يفرق بين إظهار العمل وإِخفاءه ، فهو إِما أن يخفي عمله كله ، أو يظهره كله بحجة ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )[الضحى:11] ويجهل ضوابط الإِظهار أو الإِخفاء.
• ومنهم من ينشغل بالعبادة عن التحصيل العلمي ، فهو قد يختم القرآن في أسبوع أو أقل ، ولكنه لم يقرأ أبداً في نواقض الإِسلام ولو لدقائق، ولا يعرف أبسط قضايا الطهارة والصلاة.
• ومنهم من تراه حريصاً على العبادة ، ولكنه لا يُنكر منكراً ولا يأمر بمعروف ، وقد غلب عليه حب العبادة ، على حب الدعوة والإنكار، ولا شك أن هذا خطأ كبير، جرّهُ عليه ( الغفلة عن العلم ).
• ولعل الخواطر لهؤلاء العُبّاد تطول ، ولكن لعل ما جرى به القلم ، يُغني عن كل ما يدور في القلب ، والتوفيق بيد العلي الأعل
ومضة : لا تعني هذه الخواطر عدم محبتي لمحبي العبادة ، بل هم ممن أحبهم في الله ، ولكن هذه خواطر محب .
وهل القلب يسجد ؟
رأيتُ مناظر الناس وهم سجود فقلت في نفسي: " إنه سجود البدن " ولكن هل فزنا " بسجود القلب " كما فاز به السلف الأبرار؟.
وإذا كانت الصلاة فيها أركان ومن ضمنها " السجود " وهذا السجود له أركان " الأعضاء السبعة " فليعلم أن هناك " سجود القلب " ومن مزاياه:
1- أنه طويل المدى وليس له زمن معين.
2- تبدأ مدته من بداية " الافتقار ".
3- أن سجدة القلب تنسي العبد دنياه ، فقد لا يشعر ذلك الساجد بالوقت ؛ لأن القلب قد رحل إلى الله.
4- أن سجدة القلب تجلب للعبد " العلو " عند الرب ، وهذا الأمر لا يعرف بالكتابة بل بالذوق والصدق.
5- أنها تمنح القلب سرور القرب من الرب وفي التنزيل: ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )[العلق:19].
6- أنها تساهم في إحياء مادة الحياء في القلب إذ أن حياة القلب على قدر قوة حيائه وحياؤه على قدر حياته.
7- وسجدة القلب إذا اقترنت بالدموع فإنها تجعل القلب في مصاف الخاشعين والخائفين.
8- وهي طريقة عظمى لتفريج الكربات ، وإزالة المصائب ، فكم من سجدة فتحت للعبد آفاقاً في العلم والعمل والحياة، وكم من مهموم لم تذهب همومه إلا عبر " السجود ".
9- وسجدة القلب تمنحه لباس الذل والفقر اللذان هما أعظم ما يتصف العبد مع ربه عز وجل.
ومضة : قال أحد السلف: إذا مت من يصلي عنك ؟ .
وأقول: إذا مت من يسجد عنك ؟ ومن يتذوق أسرار السجود عنك ؟
على الصراط تجري بهم أعمالهم
هناك وعلى الصراط الذي يُنصب على متن جهنم يبدأ مرور الخلائق ، قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا )[مريم:71] قال النووي: أي المرور على الصراط.
هناك وحين يأتي دورك لتعبر، يا ترى ما هو حالك ؟ وما موقفك ؟ وأخبرني عن مشاعرك ؟ وفي أي شيء ستفكر ؟.
ووضعت قدمك الأولى ، وشعرت بدقة الصراط ، والمكان مظلم إلا على أهل الإيمان ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ )[التحريم:8].
هناك تأتي حسناتك لتقف معك وتدفعك نحو الجنان ، نعم.. تأتي صلواتك وكلماتك ، هناك ينفعك طلب العلم وصبرك عليه ، ويدفعك حسن خلقك وطيب نفسك إلى دار السلام.
إنها الأعمال الصالحة التي قمت بها في حياتك.. حفظها الله لك ، ومن أسماء الله " الحفيظ " فجاءت تلك الحسنات لكي تكون خير معين لك في شدة الصراط.
وفي الحديث ( ..فيمر أولكم كالبرق ، قال: قلت بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر، ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد ، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا.. ) رواه مسلم [288].
فتأمل قوله " تجري بهم أعمالهم " لتعلم وتوقن أن الأعمال الصالحة باختلافها وأنواعها هي المدد لك عند المرور على الصراط بعد توفيق الله لك.
وفي الخفاء سرور
في نظرة دقيقة والجمهور حولك قد تتسلل لك خواطر السعادة ، وتخبر فؤادك بأنك في طريق كله فرح وسرور.
ولكن تأبى نفوس الأتقياء من التعلق بذلك ، بل إنهم يجدون في الخفاء سرور.
بل ويستمتعون بالخفاء ؛ لعظيم ما يتلذذون به من منح الرب وهداياه.
فلا تسل عن مبدأ الخفاء عند الأتقياء إذ هو باب السرور لهم ؛ لأنهم وجدوا أن لحظة رؤية الرب وحده لهم هي أمتع اللحظات وأسعد الساعات.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ) رواه مسلم .
فهذا الحب الإلهي أثار في القلوب البحث عن الخفاء ليفوزوا بالموعود "الحب".
فيا من أزعجته نفسه للتطلع للصدارة وطمحت همته للشهرة والتفاف الناس حوله أقول لك : إن الخفاء له سرور.
مشاهد للمصلين
ما أجمل تلك اللحظة التي تتيح لك الفرصة لكي تمنح القلب فرصة لكي يتذوق معالم الأنس بالله ، وليتجول في رياض النعيم في القرب من الرحمن الرحيم، وذلك عبر " الصلاة ".
إن الصلاة ليست مجرد قيام وركوع وسجود وجلوس وتسليم ، بل إن وراءها أسرار، وفي داخلها أخبار، وبين التكبير والتسليم أذواق ونعيم.
وحينما تتجه ببدنك إلى موضع رؤيته لك وسمعه لك وأنت تقول: الله أكبر، نعم.. هو أكبر من كل شيء ، ومناجاته هي أجمل شيء ، ثم تبدأ الاستفتاح ثم الفاتحة وإذا بالاتصال يبدأ.
وذلك كما جاء في الحديث القدسي: ( إذا قال العبد: " الحمد لله رب العالمين " قال الله تعالى: حمدني عبدي ، وإذا قال: " الرحمن الرحيم " قال الله تعالى: أثنى علي عبدي ، وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) رواه مسلم.
وجاء دور الركوع لينحني الظهر خضوعاً للواحد الأحد ، ومع هذا الانحناء الرائع ينحني القلب ذليلاَ خاشعاً ، فما أجمله من ركوع.
وأما السجود فلا تسأل عن كنوزه ، ولا تسأل عن عجائبه، نعم.. حين تسجد على الأرض وتضع جبهتك ملتصقة بهذه الأرض ، حينها تكون قريباً من مالك السماوات والأرض ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )[العلق:19].
وفي الصحيح: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ) صحيح مسلم [ 744 ].
فما أحلى السجود ؛ لأنه دليل العبودية وطريق الافتقار، وعنوان الانكسار للعزيز الغفار.
ولقد كان السلف يعظمون شأن السجود ويعشقونه ، قال أحدهم: والله ما آسى على شيء إلا على السجود.
وهذا أحدهم كان يسجد حتى يظنّ الناس أنه ميت من طول السجود ، فعجباً لهم ماذا وجدوا ؟
إن السجود هو رحلة القلوب إلى علام الغيوب ، حينما يستشعر ذلك العبد وهو على الأرض أن إلهه ومعبوده هو الله الذي هو العلي الأعلى.
وفي السجود دمعات وكلمات وعبارات وعبرات لا يعرف كنهها إلا من ذاقها , وفي السجود ترفع الحاجات وتنطلق الاعترافات لعلها تحظى بلطف الرب ورحماته.
ومن مشاهد الصلاة: الدعاء بالمغفرة ، وهو مشروع في الركوع والسجود وبين السجدتين كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول وهو راكع وساجد: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وكان بين السجدتين يقول: " رب اغفر لي.. رب اغفر لي".
وهذا الدعاء في أثناء الصلاة يوحي لك بأنك بحاجة إلى المغفرة حتى وأنت في أشرف حالات الصلاة ، وأنك لا زلت مقصراً ومذنباً ، وتحتاج إلى أن يدخلك الله في واسع مغفرته ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ )[النجم:32]
ومن المشاهد: مشهد المراقبة ، والمعنى أنك وأنت تصلي موقن باطلاع الله عليك ، وعليم بأسرار قلبك وخفاياه ، فيا فوز من رأى الله في قلبه " الخشوع والخضوع " , إنه الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
ومن وصل لهذه الحال فهو في عالم آخر، وفي حال من السرور واللذة لا تخطر على بال .
اللهم اجعل صلاتنا راحة لنا وطمأنينة لقلوبنا وزدنا قرباً منك يا رب العالمين.
ومضة: سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ( أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: الصلاة على وقتها ) رواه البخاري.
وجبة يومية " منتنة "
جميلٌ أن يختار المرء وجبة غذائية صحية مناسبة تساعد على نمو جسده ليكون في " عافية " وهذه نعمة خفية.
ولكن الغريب أن من الناس من يختار وجبةً محرمة ومضرة يتناولها كل يوم ، بل في أغلب الأوقات ، والأعجبُ من ذلك أنه لا يشعر بقبح طعمها ، ولا بسوء مذاقها ؛ وما ذاك إلا لأن " الإحساس " عنده قد غاب ، فلا عجب.
ولعلك تريد معرفة هذه الوجبة اليومية المنتنة ، نعم.. إنها سيئة المذاق ، قبيحة المنظر، إنها " أكل ميتة الإنسان " نعم وربي ، لقد رأيتُ كثيرين قد اقتربوا منها ومارسوها ، ونصحتهم ولكن " لا يحبون الناصحين ".
إنها " الغيبة " التي مثلها الله بقوله: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ )[الحجرات:12].
إنها الغيبة ، الكلمة التي تجري عبر ألسنة الكثيرين شعروا أم لم يشعروا ، فيا لسوء تلك الكلمة ، وما أقبح حروفها.
الغيبة : هي ذكرك أخاك بما يكره ، كذا فسرها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
يا ترى : من منّا لم يغتب ؟ لعلهم قليل ، بل والله أقل من القليل.
إن الغيبة جرحٌ من جروح هذا اللسان الخطير الذي يودي بصاحبه للمهالك ( وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) السلسلة الصحيحة ( 3/114 ).
عجباً لحال الكثيرين ! تجد الواحد يتحفظ من النظر المحرم والسماع المحرم، ولكنه لا يستطيع أن يمسك لسانه عن الغيبة ، ونحوها من آفات اللسان.
والأمر يحتاج إلى وقفة محاسبة ، وعناية لدى الدعاة والمربين أن يُفهموا الناس خطر الغيبة وقبح نتائجها على الفرد والمجتمع ، لعل الواقع فيها أن يقف ، ولعل المستمع لها أن ينتبه ، والتوفيق بيد الله جل في علاه.
ومضة . قال البخاري رحمه الله تعالى : إني أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
السعادة في صلاة الفجر
في هدوء الليل وسكون الناس وأنت بين أطباق النوم ، وإذا بصوت الأذان يخرق الآذان ليعلن عن " صلاة الفجر" فإذا بك تستيقظ وتتوضأ وتلبس أجمل ملابسك ، وتمشي بأقدامك إلى بيت الله تجيب داعي الله.
وما إن تنتهي " صلاة الفجر" إلا والسعادة تملأ قلبك ، والسرور يعلو على صفحات وجهك ؛ لأنك وقفت بين يدي الله " مصلياً وراكعاً وساجداً ".
وهكذا تجد أن السعادة في " المحافظة على الصلاة " وصدق الله: ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [الرعد:28].
وأما ذلك النائم عن الصلاة فإنه يصبح " خيبث النفس، كسلان، مهموم، مغموم " لأنه لم يتمتع بلذة الصلاة ، ولم يذق حلاوة المناجاة.. وهكذا تصنع الذنوب في قلوب أهلها ، وصدق الله: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا )[طه:124].
فيا من أزعجته الهموم: إن علاجك في " صلاة الفجر ".
قوة العبادة نعمة خفية
يتفاوت الناس في الحصول على النعم الظاهرة ؛ كالأموال ، والأولاد ، والجاه ، والثناء.. وقد يغيب عن بعض الناس النعم الخفية ؛ كسلامة القلب ، والزهد في الدنيا ، وقوة العبادة.
وإذا كان الله قد امتن على عباده بكثرة النعم، كما قال: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) [ إبراهيم: 34] فلنعلم أن من أعظم النعم وأكثرها أثراً في توفيق الله لعبده هي " قوة العبادة ".
نعم والله ، إننا في زمن قد نرى فيه كثير العلم وواسع المعرفة ، ومدمن القراءة ، وقد نسمع عن فلان أنه يحفظ القرآن ولا يخطئ في حرف واحد، وقد نشاهد بعض الدعاة الذين لهم قدم عليا في التضحيات ، ولكننا قد لا نرى من يوصف بـ " قوة العبادة " وعلو الهمة في الصلاة والصوم والذكر والخشوع والدموع.
يا ترى ، لم قلَّت هذه المعاني في نفوس فئة كثيرة من المنتسبين للعلم والدعوة ؟ وهل يشعر هؤلاء بفقد هذه النعمة ؟ أم أن النعم الظاهرة ألهتهم عن النعم الخفية ؟.
وإن الناظر لحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم ليجد أروع الأمثلة ، وأصدق النماذج في قوة العبادة وعظم التأله.
قال الله عن أنبياءه " وكانوا لنا عابدين " وقال " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات " .
وعلى هذا درج السلف ، وحوت كتب السير والتراجم أمثلة يعجز القلم عن إحصائها.
وتستمر القافلة وتجري عقارب الزمن لتخبرنا عن رجال ونساء في عصرنا لهم أوفر الحظ والنصيب من " زاد العبادة " وقوة اليقين ، وشدة الرغبة في دار القرار.
وختاماً: كما أن الأمة تفتقر إلى علماء ومصلحين وحفاظ وإداريين ومهندسين فلا ريب أن حاجة الأمة إلى عباد وزهاد وأنقياء ساروا على سلم العلم ليكونوا " بقية سلف " في " زمن الغربة ".
ومضة : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
الجنازة التي تشتاق للقبر
نعم.. إنه شوقٌ غريب ، وفرحُ لا يوصف.
تعودنا أن يكون الشوق بين المخلوقات ؛ بين الابن وأبيه ، والزوج وزوجته ، وحتى بين الحيوانات تجد شوق الصغار لأمهم ، وانظر إِلى الطيور ترى شوقاً عامراً بينهم.. ولكن العجب يملأ الفؤاد حينما يكون الشوق من جنازة إِلى قبر.
نعم.. إنه القبر؛ الحفرة العجيبة ، ذات التراب ، وذات الديدان.. إن القبر ينتظر رجال ونساء وهو في قمة الحب لهم ، والشوق ليسكنوا فيه.
وتأمل معي هذا الحديث: ( إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني ، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها، أين يذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين - أو قال: إلا الإنسان - ولو سمعه لصعق ) صحيح البخاري [ 1230].
إِنه لحديث جديرٌ بالتأمل والتفكير والتدبر.. " قدِّموني " إِنها جنازة ، تتكلم.. تعبِّر.. تنطق.. تنادي ، يا رجال " قدِّموني " " ضعوني " " أنزلوني " " اتركوني " ابتعدوا عني ، لا أريدكم ، يكفيني ذلك القبر.
إِنها جنازة صالحة لرجل أو امرأة كان مع الل ه، في عبادة وطاعة وخشوع وخضوع.. والنهاية : شوق القبر لأولئك الصالحين والصالحات.. إِنه جزاء الإحسان، وصدق الله: ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ )[الرحمن:60].
إِن الجنازة الصالحة تُحِبُّ القبر؛ لِما تعلم من أنَّ القبر سيتقبَّلها بالأنوار، وتفتيح أبواب الجنان ، والروح والريحان.
ومضة : كن مع الله فوق الأرض يكن معك تحت الأرض.
إنه نور الإيمان
جميلٌ أن تكون ممن سخَّر جوارحه في طاعة الله وانطلق بهمته إلى ما يحبه الله ويرضاه , حينها يكون قد أشرق في القلب نور الإيمان ، وامتلأت الروح بمحبة الرحمن.
إن هذه الحسنات لها ثمرة بل ثمار، ومن أغلى هذه الثمار هو " نور الإيمان " قال تعالى: ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )[النور:35] فالله هو الهادي وهو المرسل لهذا النور في قلوب أوليائه.
وهذا النور مقتبسٌ من الوحي ؛ فالقرآن نور، والسنة نور، قال تعالى ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا )[التغابن:8] وإذا كان الله قد سمَّى الدين والوحي نور فاعلم أن نصيبك من هذا النور على قدر التزامك بهذا الوحي.
ونور الإيمان الذي سكن في قلوب المؤمنين متفاوت على قدر تفاوتهم في قربهم من الرحمن ، فهذا قد مُلئ نور وإيمان وبجانبه من هو أضعف منه نور، وما ربك بظلام للعبيد.
وهذا النور يقوى حتى يظهر على صفحات الوجه حتى إنك ترى بعض الناس وعلى وجوههم إضاءة من نور فما هو؟ إنه نور الإيمان ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن للحسنة ضياء في الوجه ، ونور في القلب ".
وهذا أحدهم يسأل الحسن البصري : لماذا أهل صلاة الليل أحسن الناس وجوهاً ؟ قال: خلَوا بالله فألبسهم نوراً من نوره.
ولا يزال العبد يُنافس في الحسنات ويسابق إلى الصالحات حتى يقوى نور الإيمان في قلبه ، فيظهر عليه عند موته ، فكم سمعنا من أمواتٍ لما ماتوا وعند تغسيلهم وتكفينهم رأى المغسلون أنواراً وضياء في الوجه ، بل وفي سائر الجسد.
ولا يزال هذا النور يتحف صاحبه بالهدايا فيأتيه في قبره، فيضيء له كالقمر ليلة البدر، كما صح في الحديث.. وفي يوم القيامة حيث الأهوال والمصائب إذا بك تلتفت فترى هناك فئة وعلى وجوههم نوراً عجيباً وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ) صحيح البخاري [ 3006 ].
وعند المرور على الصراط وفي شدة الظلام يُشرق نور الإيمان لأهله ، قال تعالى: ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ )[الحديد:12].
فيعبرون على الصراط بهذا النور وينطلقون بكل سرعة نحو الجنان.. وحينما يدخلون الجنان إذا بهم في قصورها وبين أنهارها وتحيط بهم أشجارها وثمارها ، وهم مع زوجاتهم من الحور العين ، والخدم يطوفون بهم ولا يزالون في نعيم مقيم أبد الآباد.
وهذا جزاء كل من تمسَّك بنور الإيمان.. فاللهم هب لنا من لدنك نوراً.
رسائل من الليل
تختفي الشمس عند الغروب ويأتي لباس الليل لكي تلتحف به الأرض.
وفي هذا الليل تتفاوت الأعمال ، فقوم سرت بهم شهواتهم نحو الأفلام والقنوات ومعاكسة الفتيات ، بل وممارسة الفواحش والمنكرات فيا حسرتاه على هذا الليل.
و لكن هناك قوم طارت بهم الأشواق لكي يكون ليلهم محطة للتزود إلى الجنان ، فكان ليلهم خشوع وخضوع ، وبكاء ودموع ، قوم صفوا أقدامهم لربهم، يناجونه ويستغفرونه ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )[آل عمران:17].
إنه الارتقاء عن عالم النوم والفراش والراحة إلى جنة المناجاة ولذة العبادة وسعادة الاتصال مع الكبير المتعال.
إن في الليل أسراراً وإشارات ، لا يذوقها إلا من " دخل في سوق الليل " ونزل في وادي الأسحار ، وأرسل الرسائل إلى الملك القهار، ينتظر الإجابة وهو واضع جبهته على الأرض.
إن في الليل دموع تُراق على الخدود ، وأدعية تتجاوز كل الحدود لتصل إلى الرب المعبود.
فهنيئاً لمن سار في قافلة العُبّاد ، ونافس كل العباد ليصل إلى موعد رب العباد ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) .
ابن تيمية وطهارة القلب
كان في زمن ابن تيمية بعض العلماء الذين يُعادونه ويحسدونه.. وفي أحد الأيام مات واحد منهم ، فلما علم ابن القيم بذلك ذهب فرحاً إلى ابن تيمية لكي يبشره بهذا الخبر، فلما أخبره الخبر غضب ابن تيمية على ابن القيم وعاتبه.
ثم ذهب ابن تيمية إلى منزل ذلك الميت وقال لأهل الميت : أنا لكم مكانه ، وإذا احتجتم إلى شيء فأخبروني.
فلما علم بعض أعداء ابن تيمية بهذا الموقف قال: يا ليتني لأصحابي مثل ابن تيمية لأعدائه.
قلـت: في هذه القصة فوائد:
1- أن الحسد مرض قديم ولا يسلم منه إلا القليل.
2- أن الحسد قد يوجد بين العلماء والدعاة المصلحين ، وكما قيل: ما خلا جسد من حسد .
3- طهارة قلب ابن تيمية وعلو قدره وسلامة قلبه حتى على أعدائه ، فانظر في موقفه في هذه القصة.
4- لا بد لطالب العلم أن يراجع " قلبه " وأن يطهره من كل الذنوب التي لا يراها إلا الله تعالى.
كلمات في الترغيب والترهيب
في نظرة سريعة في كتاب الله تعالى تجد آيات ترغب في الجنة وتتحدث عن نعيمها وأنواع لذاتها.. وبعد هذه الآيات تقع عيناك على الكلام عن النار وأهوالها وشدة عذابها.
إنه التوازن في قيادة النفس وسياستها في السير إلى الله تعالى " ترغيب وترهيب " نعم.. ترغيب في الجنان والثواب الذي أعده الله لعباده الصادقين، وترهيب مما أعده الله لمن عصاه وأعرض عنه.
ونظرة أخرى إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد مثل ذلك " ترغيب وترهيب " وحينها سنرسم منهجاً في الخطاب الدعوي " ترغيب وترهيب " وسوف نجد التوفيق من الله تعالى ؛ لأننا سرنا على منهج الكتاب والسنة.
وعندي إشارات حول ذلك:
1- بعض الدعاة لا يتحدث إلا عن الجنة ونعيمها ولم يسبق له أن تحدث عن النار وأهوالها ، وكأنه يعتقد أن في ذلك تنفيراً للناس عن طريق الخير، أو أن ذلك مانع لهم من سلوك طريق الهداية ، ولا شك أن هذا خلل ونقص في مفهوم الدعوة إذ كيف يكون تطبيق الكتاب والسنة تنفيراً للناس ؟
2- لا بد من الحكمة في اختيار عنوان الكلمة مع الناس ومراعاة الحال الذي يعيشه الناس ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا )[البقرة:269].
فلا يناسب أن نتحدث عن النار في الوقت الذي نجد فيه الناس عندهم إقبال على التوبة والعمل الصالح ، بل هؤلاء بحاجة إلى إيقاد شمعة الحماس عندهم بذكر الجنة ونعيمها ، وأما إن رأيت غافلاً بعيداً عن الله متكبراً على الدين فهنا يناسب تخويفه بالنار وعذابها لتنكسر نفسه وليعرف قيمة نفسه ، فلماذا يتكبر؟
3- يتساهل بعض الدعاة بالاستدلال بأحاديث موضوعة أو ضعيفة في باب الترغيب والترهيب بحجة أن بعض العلماء يتساهل في مسألة الاستدلال بالضعيف في فضائل الأعمال.
وهذا وإن كان رأياً مشهوراً عند بعض العلماء إلا أن هؤلاء العلماء وغيرهم وضعوا شروطاً قوية لأجل الاستدلال بذلك ، وعند التحقيق والتدقيق تكاد تجزم بأن هذه الشروط لم تنطبق على كثير من هذه الأحاديث.
وعلى كل حال.. فما أجمل أن نستغني بالصحيح عن الضعيف ، وكما قال ابن المبارك رحمه الله تعالى : في صحيح الحديث شغل عن سقيمه .
4- بعض الوعاظ يبالغ في الاستشهاد بمواقف عن السلف حتى يصل به الحال إلى ذكر قصص أشبه بالخيال ، ولو سمعها العامة لردوها ولن يقبلوا موعظته ، ونحن مطالبون بأن لا نحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم وإلا كان لبعضهم فتنة كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .
5- بعض الدعاة قد يغفل عن أسلوب الوعظ ويهتم بالقضايا التربوية والتوجيهات العامة ، ولا شك أن هذا خلل في المنهج الدعوي ، فقدوتنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالوعظ وجاء بالعلم وجاء بالتوجيهات العامة.
6- نحتاج إلى ذلك العالم الشمولي الذي يعظ ويعلم ويربي ويرشد ويشرح المتون ويفتي ، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم.
7- قد نجد بعضاً من الشباب ينتقد " المواعظ " ويزعم أننا بحاجة إلى التأصيل العلمي وسرد الدروس العلمية ، وأن المواعظ طريقة قديمة وفائدتها قليلة.
ولا ريب أن هذا المفهوم يدل على جهل صاحبه ، وهذا كتاب الله بين أيدينا فيه المواعظ والقصص والأحكام والآداب ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بكل وسائل التعليم والوعظ والتوجيه ، وهذا لا يعني أن نهمل الجوانب العلمية وإقامة الدروس والدورات.
8- وهناك من يعيب على بعض الوعاظ ويحتقر عمله ؛ بحجة أن هذا الواعظ ليس له دروس في شرح المتون أو القضايا العلمية.
والجواب عن هذا: أن الإسلام يحتاج إلى جميع الجهود ؛ فهذا بموعظته ، وهذا بحلقات التحفيظ ، وهذا بخطابة الجمعة ، وهذا بشرح المتون.. فالكل يخدم هذا الدين ، فلا يجوز احتقار جهود الآخرين بل يجب الإشادة بها وذكرهم بالجميل والدعاء لهم بظهر الغيب.
أنا وأنت أصحاب ذنوب
أنا وأنت نذنب ونخطئ ونقصر في طاعة الله ، أنا وأنت من البشر ومن بني آدم ، وفي الحديث الصحيح ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) صحيح الترغيب والترهيب [ 3139 ] .
أنا وأنت لن نعيش معصومين من الذنوب ؛ دلَّ على ذلك هذا الحديث الصحيح ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم ) صحيح مسلم [ 4936 ].
أنا وأنت من بني آدم وأبونا آدم عليه السلام أذنب وأخطأ ولكنه تاب ؛ ومن شابه أباه فما ظلم.
أنا وأنت من العباد الضعفاء ورب العالمين يخبرنا عن ضعفنا فيقول في الحديث القدسي ( يا عبادي إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) صحيح مسلم [ 4674 ].
أنا وأنت لن نسلم من نزغات الشيطان ووسوسته وإغراءاته ، فهذا نبي الله آدم تسلط عليه الشيطان ووسوس له.
أنا وأنت أصحاب ذنوب وسيئات فيا ترى ما هو الحل وما هو المخرج ؟
يا ترى ما هو الدواء لضعفنا وتقصيرنا ؟.
إن الحل والدواء في أمور:
1- لا تقنط من رحمة الله ، وأبشر بمغفرة الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا )[الزمر:53].
2- ارفع يدك إلى الغفور الغفار واعلم أنه يغفر الذنوب ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ )[النجم:32].
3- ابتعد عن كل سبب يوقعك في الذنوب حتى لا يتكرر منك الذنب مرة أخرى.
4- احزن على ذنبك وابك على خطيئتك لعل الله أن يرى دموعك الصادقة فيرحمك رحمة واسعة.
5- اجعل ذنبك أمام عينيك واجعل حسناتك خلف ظهرك لتبقى دائماُ مسابقاً للخيرات ومبادراً إلى الحسنات.
6- لا تحتقر معصية ولو كانت صغيرة ، فلعلها تكون كبيرة عند الله ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )[النور:15].
7- اجلس مع نفسك وحاسبها وعاتبها لعلها تتعظ وترتدع ورضي الله عن عمر رضي الله عنه لما قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا .
8- كن متوازناً بين الخوف والرجاء ، وليكن خوفك وأنت في الحياة أكثر من رجائك كما قال السلف ، لكي تجتهد في الطاعات وتترك الذنوب والسيئات.
9- احذر من الإصرار على الذنوب فالإصرار على الذنب يجعله من الكبائر حتى لو كان ذلك الذنب من الصغائر، وربنا يقول في عباده المتقين: ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا )[آل عمران:135].
10- اجعل ذنبك كالجبل فوق رأسك تخشى أن يسقط عليك ، ولا تجعله كذباب مرَّ على أنفك وذهب.
11- اقرأ في حياة السلف وكيف كانوا يحذرون الذنوب.
12- أبشر برحمة الله ومغفرته وعليك بدوام الاستغفار وستجد من الله التوبة والغفران ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ )[الشورى:25] ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى )[طه:82].
فسبحانه يغفر الكثير من الزلل ويقبل اليسير من العمل ، وسبحانه ما أرحمه بعباده وما أحلمه على من عصاه وما أقربه ممن دعاه.
13- ليكن ذلك الذنب طريقاً ليعرفك بنفسك المقصرة وليكن درساً لك بأنك فقير إلى ربك ولا تستغني عن حفظه ورعايته وتوفيقه لك ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ )[فاطر:15] فأنت ضعيف ومسكين وليس لك حول ولا قوة إلا به سبحانه وبحمده.
اللهم ارحم ضعفنا وتب علينا فإنا تائبون ومعترفون بذنوبنا ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الأعراف:23].
فقراء ولكنهم أغنياء
كثير من الناس يظن أن الفقير هو الذي لا يملك مالاً أو سيارة أو هو الذي راتبه قليل أو هو الذي تكالبت عليه الديون.
ويظن هؤلاء أن الغني هو صاحب الأموال الكثيرة والذي عنده عمارات ومزارع وسيارات , هكذا يظن الكثيرون ولكن هذا الظن أبطله هذا الدين ، ويتبين لك هذا من خلال هذه الوقفات:
1- قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغني غني النفس ) أخرجه البخاري [ 5965 ].
فانظر في هذا الحديث لكي يتبين لك أن الغنى الحقيقي ليس في امتلاك الأموال والأراضي ولكنه الغنى الروحي والقلبي الذي هو " امتلاء القلب بمحبة الله تعالى ".
2- هل تأملت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو لم يكن بصاحب المال والذهب والمجوهرات ، بل إنه كانت تمر عليه الأيام والشهور ولا يوجد في بيته إلا التمر والماء ، ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم أغنى الناس بالله ، وهو الذي قد استغنى بحب الله وذكره وعبادته عن كل شيء.
إذن لماذا لا يكون هدفنا هو الاستغناء بالله وبطاعته وعبادته ؟
إن الواحد منا قد يقضي ساعات يومه في العمل الوظيفي أو التجارة لأجل الحصول على الرزق ، وهذا مطلوب.. ولكن لماذا لا نجعل بعض أوقاتنا لكي نغذي قلوبنا بزاد الإيمان وحلاوة القرآن.
إننا كما نحتاج إلى المال والمتاع الدنيوي فنحن بحاجة أيضاً إلى الإيمان والتقوى لكي نغذي قلوبنا وأرواحنا حتى يحصل لها الغنى الحقيقي.
3- لا بد أن نعلم أن الناس يحتاجون إلى الأغنياء وذلك من ناحيتين:
أ- يحتاجون إلى الأغنياء الذين يملكون الأموال ؛ وذلك من خلال مساعدتهم والوقوف معهم وتفريج كرباتهم.
ب- والناس كذلك يحتاجــون إلــى أغنيـاء الإيمان الذين يملكــون الإيمان والتقوى والعلم والخير؛ وذلك بمجالستهم وتقوية إيمانهم وإرشاد الجاهل وتعليم الفاضل.
ووالله إن أغنياء الإيمان الذين عمروا قلوبهم بمحبة الله وذكره وعبادته إنهم هم سرّ حياة القلوب ورؤيتهم جلاء الهموم ، وكلامهم نور القلوب ، فكم من غافل أحيوه بعد فضل الله.
زاد الإيمان
كان الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى جالساً بعد صلاة الفجر في المسجد يذكر الله، وبقي على تلك الحال حتى الضحى ، فجاءه تلميذه البار ابن القيم فسأله عن هذا الجلوس ؟
فقال له ابن تيمية : هذه غدوتي لو لم أتغدها سقطت قواي.
من هذه القصة يتبين لنا فقه هذا الإمام الكبير؛ لأن قوة المؤمن في قلبه ، وقوة هذا القلب على قدر محافظته على ذكر الله وطاعته.
إن القلب له غذاء يجب أن يتغذى به حتى يبقى قوياً ؛ وغذاء القلب هو الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح ، وعلى قدر ما يحقق العبد من هذا الإيمان على قدر ما يكون في قلبه من القوة والثبات على الحق.
لقد ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت . صحيح البخاري [ 5928 ].
إن الحياة الحقيقية هي في حياة القلب ، وحياة القلب لا تتم إلا بالعمل بما يرضي الله تعالى.
إن القلب متى ما اتصل بالله وأناب إلى الله حصل له من الغذاء والنعيم ما لا يخطر بالبال ، ومتى غفل العبد عن ربه وأعرض عن طاعته فإنه سيموت قلبه ولهذا قال في الحديث : ( مثل الحي والميت ) فبين أن الغافل كالميت.
إن الناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً في قوة أبدانهم وصحة أجسامهم ، وتفاوتهم في قوة القلب وضعفه أعظم وأعظم.
إن القلب لا يطمئن ولا يلتذ ولا يأنس إلا بأن يمتلئ بحب فاطره وخالقه وأن يصبح ويمسي وكل همه رضى الله.
إن القلب ليأنس عندما يحقق العبودية لربه تعالى ويفرح ؛ لأنه صرف في ما يحبه خالقه عز وجل ، والقلب يتألم عندما يقع صاحبه في معصية الله ويذوق من الهم والغم والحسرة ما لا يخطر بالبال ، فالذنوب سبب لعذاب القلوب وموتها.
وما أجمل ما قاله ابن المبارك رحمه الله تعالى:
رأيتُ الذنوب تميت القلوب وقد يورثُ الذل إدمانها
وتركُ الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فمن أراد السعادة في الدنيا والنعيم في القبر والرضوان الأكبر في الآخرة فليغذي قلبه بالإيمان والعمل الصالح ، ومتى ما صلح القلب صلحت الجوارح.
السعادة الحقيقية
ليس السعيدُ الذي دنياهُ تسعدهُ إن السعيدَ الذي ينجو من النار
نعم.. السعادة مطلب كل عاقل ولكن كثيرين أخطأوا طريقها ؛ فمنهم من طلبها بالمال فلم يجدها ، ومنهم من طلبها بالفواحش فما زاده ذلك إلا همّاً ، وآخرون بحثوا عنها في السفر إلى بلاد الغرب فما وجدوا إلا العذاب في قلوبهم والحسرة والألم.
فيا ترى من الذي وجدها ؟
لقد وجدها المصلي في سجوده حتى قال إمام المرسلين: ( يا بلال أقم الصلاة. أرحنا بها ) صحيح الجامع [ 7892 ].
لقد وجد السعادة قارئ القرآن.. لقد وجدها الصائم في صيامه.. لقد وجدها المؤمن في طاعته لربه.
هذا هو طريق السعادة ، هذا هو طريق الحياة الطيبة ؛ قال عز وجل: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )[النحل:97].
لتعلم يا عبد الله أنك كلما اقتربت من الله بفعل الطاعات كلما شعرت بحلاوة في قلبك وسعادة لا تعادلها شهوات الدنيا ولذائذها.
وأنك كلما أعرضت عن الله كلما أصابك من الهمّ والغمّ والألم في قلبك كما قال تعالى: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا )[طه:124] وقال تعالى: ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )[الزخرف:36].
والمؤمن في هذه الحياة في نعيم فهو مطمئن البال منشرح الصدر يشعر بحلاوة في قلبه ألا وهي حلاوة الإيمان ولذته ، والمؤمن له نعيم آخر في قبره فيأتيه من نعيم الجنة وهو في القبر و أما النعيم الأكبر فهو دخول الجنة والنجاة من النار، فتلك هي السعادة الأبدية التي لا تزول ولا تتغير.
جلسة استغفار
أنت بحاجة إليها مهما كنت.. مهما كان علمك.. مهما كان عملك.. مهما بلغت في المنزلة الدينية.. مهما ارتقيت في المراتب الدنيوية أنت بحاجة إلى جلسة استغفار وذكر ومحاسبة وبكاء ( ورجلٌ ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ) صحيح البخاري [ 620 ].
إنها جلسة تعالج الروح وتزكي النفس وترتقي بك إلى عالم الآخرة فكأنك تشاهدها.
إنها وقفة إيمانية وزاد قلبي وخلوة مع الرب وأنس للروح فهنيئاً للذاكرين.
لن تعرف الطمأنينة والسعادة والسرور إذا لم تجلس في وادي " الذاكرين " و " بستان المسبحين " و " نهر المستغفرين ".
( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [الرعد:28] إنها آية غفل عنها أهل الشهوات.. إنها آية ما عرفها أصحاب القنوات المحرمة.. إنها آية لم يستمتع بها أهل الفن والغناء.. إنها لذة ما شعر بها أهل المعاكسات.. إنها تجارة ربما خسرها بعض من التجار.
فهنيئاً للذاكرين وبشرى للمستغفرين ويا سعادة المتقين .
أصناف الناس مع الأيام
مع مرور الأيام هناك صنفان من الناس:
الصنف الأول:
من يزيد إيمانه وتزيد حسناته في كل لحظة ، وهذا هو الموفق الذي اختاره الله تعالى لمحبته وجنته ، وهذا النوع من الناس لا تراهم إلا وهم يتقلبون بين أنواع من الحسنات والطاعات.
فمرة تراهم في علم ، ومرة تراهم في عبادة ، وفي وقت آخر تراهم وهم يناجون ربهم في ظلمات الليل تسيل دموعهم على خدودهم ، وفي آن آخر تراهم في الإحسان للمساكين والفقراء والمحتاجين.
وهذا الحال هو حال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، وعلى هذا المنهج سار الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم ولحق بهم سلف الأمة وخيارهم وصفوتهم نسأل الله أن يجعلنا منهم.
الصنف الثاني:
فهم على الضد من ذلك يتقلبون في المعاصي والسيئات كل يوم ، بل كل لحظة يزدادون سيئات وآثاماً.
فمرة يسهرون على القنوات ومرة بل مرات ينامون عن الصلوات ، ومنهم من هو في الأسواق يعاكس الفتيات الغافلات.
وهذا هو حال الغافلين الساهين وهو دليل ضعف الإيمان والله المستعان.
فيا أيها الأحبة ، لنقف مع أنفسنا وقفة صادقة ونسألها: يا ترى هل نحن من الذين تزداد حسناتهم مع مرور أيامهم أم نحن من الذين تزداد سيئاتهم مع مرور ساعاتهم ولحظاتهم ؟
إن المصارحة مع النفس في هذه الحياة خير من الندم في ذلك اليوم ( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ )[النبأ:40].
عليك أربعة شهود
الحمد لله الذي يرى ويسمع كل ما في الكون من سر ومن إعلان ، فهو العليم وهو الخبير وهو الشهيد وهو البصير، فسبحانه ما أعظمه وهو المحيط وهو السميع فلا إله إلا الله أحاط بكل شيء علماً فأين نذهب عن علمه وإحاطته ؟!.
وأصلي وأسلم على البشير النذير الذي أضاء لنا الطريق وبين لنا السبيل.
أخي الكريم: أين تذهب ؟! انتبه ، عليك شهود يراقبونك في أي مكان وفي أي زمان فأين تذهب ؟
وأنت يا أختاه انتبهي واعلمي أن هناك شهود يشهدون على أفعالك ويراقبون جميع تحركاتك فاحذري.
فأما الشاهد الأول : فهو هذه الأرض التي نمشي عليها ونأكل عليها وننام عليها ونطيع الله عليها ، ومنّا من يعصي الله عليها.
هذه الأرض لها يوم ستتحدث فيه وتتكلم فيه بما عملتَ عليها ، وسوف يأتي اليوم الذي تفضحك فيه وتكشف أسرارك.
ولعلك تقول : ما هو الدليل على أن الأرض ستشهد يوم القيامة ؟!.
فأقول: يقول الله تعالى: ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا )[الزلزلة:1-4].
نعم يا أخي الكريم إي والله يا أختاه.. فيا ترى هل تذكر ذلك الشاب الذي يتجول بسيارته للذهاب إلى أمكان النساء لكي ينظر إليهن ويغمزهن هل تذكَّرَ شهادة الأرض عليه ؟.
وهل تذكر ذلك الذي يسافر لتلك البلاد لكي يعصي الله عليها ويقارف الفواحش والآثام.. هل تذكر أن الأرضَ سوف تفضحه وتخبر عن سيئاته وآثامه ؟.
أخي.. أتذكرُ لما كنتَ في ذلك المكان الذي تيسرت لك فيه المعصية وبدأت في فعلها ، نعم.. إن الناس لم ينتبهوا لجريمتك ولم يشهدوا عليك ولكن الأرض التي فعلت تلك المعصية عليها سوف تشهد عليك، نعم.. إنك غافل ولكن الأرض لا تغفل.
ويا ترى تلك الفتاة التي تتجول في الأسواق وتبرز جمالها ولباسها وتريد من الناس إن ينظروا لها ، يا ترى هل شعرتْ أن تلك الأرض سوف تخبر عنها وتكشف عن جرائمها وسيئاتها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟.
هل علمتْ تلك المرأة التي تركب مع السائق بلا محرم أن الأرض سوف ستتحدث عنها يوم العرض على الله ؟ وهل تذكرت تلك المرأة التي تسافر بلا محرم أن الأرض سوف تكشف أسرارها يوم الوقوف بين يدي الله تعالى؟.
وأما الشاهد الثاني: فهم الملائكة الذين يكتبون علينا أعمالنا ويسجلون علينا سيئاتنا وحسناتنا. قال تعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًاكَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )[الانفطار:10-12] .
أيها الأخ الحبيب: أتذكر في تلك الليلة لما كنت أمام جهاز التلفاز وكنت تنظر إلى ما تبثه القنوات من تلك الصور المحرمة ؟ لعلك تذكرت ذلك الموقف..هل كنت وحدك؟.
إنك لو علمت أن الملائكة قد كتبوا عليك تلك المعصية لما فعلت تلك المعصية.
وهناك شاب آخر قد أخذ سماعة الهاتف ليعاكس الفتيات يا ترى هل علم بأن الملائكة الكاتبين قد سجلوا عليه سوء عمله ؟.
وتلك الفتاة التي سمعت الأذان ولكنها تساهلت في أداء الصلاة حتى خرج وقتها ولم تصل تلك الصلاة ؛ لأنها انشغلت بالمكالمة الهاتفية أو لعلها كانت تشاهد الأفلام والقنوات.. إنني أجزم أن تلك الفتاة غافلة عن شهادة الملائكة وأنهم يكتبون عليها أعمالها.
وأقول لأولئك المفسدين من العلمانيين والكتاب المنافقين: إن ما تقولونه وتكتبونه سترونه في كتابكم يوم القيـامة ؛ لأن الملائـكة الكاتبين قدكتبوا أقوالكم وأعمالكم ، قال تعالى: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )[الزخرف:80].
وبعد تلك الكتابة من الملائكة يا ترى ماذا سيجري بعد ذلك ؟
عندما تموت سيُطوى كتابك ولكنك سوف تلتقي معه عندما تخرج من قبرك، وسوف تُعطى هذا الكتاب الذي كتبته عليك الملائكة في الدنيا.
وسوف يأمرك الله جـل وعلا بأن تقرأه عندما تقف بين يديه قال تعالى: ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )[الإسراء:13-14].
إنها لحظة عجيبة.. إنها ساعة حرجة عندما يقف العبد حافياً عارياً أمام الجبار جل جلاله ومع العبد كتاب.. وهذا الكتاب هو ديوان الحسنات والسيئات.
فما هو شعورك يا من كان ليلة في السهر على القنوات ونهاره في النوم عن الصلوات ؟ ما حالك يا عبد الله عندما ترى سيئاتك في ذلك الكتاب؟!.
ويا ليت الأمر ينتهي عند مجرد رؤيتك له بل تؤمر بقراءته.. فماذا ستقرأ وماذا ستجد ؟ ماذا ستقرأ يا من عقّ والديه ؟ ماذا ستقرأ يا من أهمل تربية أبنائه ؟ ماذا ستقرأ يا آكل الربا ؟ ماذا ستقرأ يا شارب الدخان ؟ .
قال تعالى: ( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ )[النبأ:40] .
وأقول لتلك الفتاة التي غفلت عن ربها وأعرضت عن طاعة مولاها: ماذا ستجدين في ذلك الكتاب الذي ( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّاأَحْصَاهَا )[الكهف:49].
يا أختاه ستقرأين أعمالك هناك فماذا ستقرأين ؟ أما لباسك فحرام وأما وقتك فضياع في الآثام . يا أختاه ، الأمر خطير، فمتى ستحذرين ؟.
أوصيك أن تحفظي هذه الآية: ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )[الكهف:49].
وأما الشاهد الثالث: فهي الجوارح التي هي من نعم الله علينا: اليدان والقدمان واللسان والعينان والأذنان بل وسائر الجلود ، ستأتي يوم القيامة لتشهد عليك يا عبد الله وستشهد عليك يا أختاه.
إنه مشهد لا مثيل له ، يقف العبد أمام ربه ويبدأ الحساب ثم تبدأ الجوارح لتكشف الأسرار ولتخبر بالفضائح والجرائم التي فعلتها في أيامك السابقة ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ )[يس:65] .
وبعد ذلك ماذا يجري ( وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ )[يس:65] وهل يقف الحد عند ذلك ؟ لا. بل ((وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[يس:65].
فيا حسرتاه عندما تنطق اليدان وتخبر عنك أيها الإنسان وتقول: يا رب بيده اشترى فتح المقاطع المحرمة ، بيده حرك " ريموت " القنوات الفضائية.. يا رب بيده لمس المرأة الأجنبية ورفع السماعة لمعاكسات الفتيات.. يارب بيده شرب الدخان والشيشة والمخدرات وبيده تعاطى الخمر والمسكرات.
وتلك الفتاة تنطق يداها فما عساها تقول ؟
يا رب بيدها لبست العباءة الضيقة وبيدها وضعت المكياج والعطور لكي تمر بها أمام الرجال.
وتتكلم القدمان: أنا للحرام ذهبت وعن الصلاة قعدت وإلى بلاد الحـرام مشيت ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ )[الحاقة:18].
وإن الأمر يزداد حرجاً وشدة عندما تنطق سائر الجلود ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[فصلت:20].
وكأني بذلك الشاب يقف متعجباً وهو يرى العين تشهد عليه بكل نظرة سيئة.. إنه متعجب وهو يسمع شهادة الأذنان بكل أغنية وفاحشة استمع إليها.
وبعد ذلك يحصل الأمر الغريب يخاطب المرء جوارحه ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا )[فصلت:21] لم يا عين تشهدين ؟ لم يا أذن تشهدين ؟ لم يا قدم تتكلمين ؟! ولكن الجواب أعظم ( قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ )[فصلت:21].
وينتهي ذلك المشهد العجيب.. ولكن يا ترى ما حالك هناك ؟ وهل ستكون ممن شهدت له الجوارح بالطاعات أم ستكون ممن تفضحه جوارحه أمام الله خالق الكائنات؟.
وأخيراً يا ترى هل بقي أحد يشهد علينا ؟.
نعم.. إنه الواحد الأحد رب الشهود ، إنه الواحد المعبود ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[فصلت:53] الذي يراك أينما كنت ويعلم بحالك.
( إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ )[آل عمران:5] فسبحان العليم بعباده ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ )[الحديد:4]
فسبحان الذي لا تخفى عليه خافيه ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ))[الأحزاب:51] فسبحان من يعلم ما في الصدور.
والله إن من أكبر أسباب ضعفنا وتقصيرنا هو " الغفلة عن مراقبة الله تعالى" وإلا فلو أن العبد الذي يخلو بذنوبه ويبتعد عن الناس لكي لا يروه ، لو يعلم ذلك العبد بعلم الله به ورؤيته له لما فعل تلك الفعلة السيئة ولكنه غفل عن الله، فتمادى في الشهوات ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )[العلق:14].
وذلك الشاب الذي يعاكس الفتيات لو تذكر وهو في حديثه مع تلك الفتاة لو تذكر هذه الآية ( وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا )[المجادلة:1] لترك المعاكسات والشهوات.
إن الواحد منا لو يعلم أن أحداً من الناس علم بذنب من ذنوبه لأصابه الخجل والحياء ولكن أين الحياء من الله تعالى ؟!.
وأقول لتلك الأخت المؤمنة قبل أن تلبس ذلك اللباس المحرم لتفتن الشباب: تذكري أن الجبار الذي على العرش استوى يراك ويعلم ما تفعلين ، وهو عليم بذات الصدور.
فإلى كل مؤمن ومؤمنة تذكروا أن من أسماء الله : العليم، البصير، الشهيد، الخبير، المحيط، السميع ، وكلها توجب مراقبة الله في كل حين.
فيا من يسافر للعصيان تذكر نظر الواحد المنان ، ويا من يتمتع بالنظر الحرام أنسيت رؤية الملك العلام ؟ ويا من يسهر على الآثام إن الله يراك ويعلم بحالك.. فأين ستذهب ؟!!.
وأخيراً: متى نحذر من شهادة الشهود ؟
إن الأمر خطير ويوم العرض عسير، وهناك تبدو الأسرار وتنكشف الفضائح.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق لكل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من لهؤلاء
هؤلاء من لهم ؟ المريض من له ؟ المبتلى من له ؟ الحزين من له ؟ المكروب من له ؟ الأسير من له ؟
تلك المرأة المطلقة من لها ؟ تلك الأرملة من لها ؟ ذلك اليتيم من له ؟.
ذلك العجوز الذي فقد أبناءه في حادث من له ؟ ذلك الزوج العقيم من له ؟ تلك المرأة المصابة بالسحر من لها ؟ شاب أصيب بالسرطان من له ؟.
الكل ليس لهم إلا الله..
الله وحده يعلم بحالهم ، الله وحده يرأف بهم ، الله وحده سيلطف بهم ، الله وحده يسمع دعاءهم ، الله وحده يسمع شكواهم ، الله وحده يرى دموعهم.
الله وحده سيكرمهم وسيفرج كربتهم وسيشفي مريضهم وسيفك أسيرهم ، الله وحده سيستجيب دعاءهم وسينزل السكينة عليهم.
الله وحده عليم بهم ويعلم بحزنهم والناس لا يعلمون ، والناس لا يدكرون حجم المصيبة ، والناس لا يملكون لك شيئاً ، والناس ضعفاء فقراء ، همومهم تكفيهم فكيف تشغلهم بهمومك ؟!.
فوصيتي إليك يا مكروب يا مهموم يا حزين.. يا من طال عليه البلاء ، يا من ذاق ألواناً من الأحزان والآلام والمصائب أقول لك ولمن هم مثلك " ففروا إلى الله ".
نعم.. اتجه إلى كنز الدعاء واقرع باب السماء وأيقن بالله وتبتل إليه تبتيلاً ولا تحزن فإن الله مع الصابرين ويحب الصابرين.
أخي.. أختي ، غمسة في الجنة تنسيك كل الهموم والأحزان ، فصبر قليل والموعد الجنة إن شاء الله.
عبادات في أوقات الشدة
ما شعورك لو أصابك هم شديد ، أو دين كبير، أو مرض خطير، أو جاءك خبر وفاة زوجتك ، أو حادث سيارة أدى إلى وفاة ابنك ؟.
أيها الأحبة.. إن هناك عبادات لا تظهر إلا في أوقات الشدة ؛ ومنها: الصبر, والرضا ، واليقين ، والتوكل ، والتضرع ، والابتهال ، والانكسار، والافتقار، والتسليم ، والطمأنينة.
إن من السهل أن نقرأ عن هذه العبادات أو نتكلم عنها ، أو نستمع إلى شريط يتحدث عنها ، أو ندعو الله بأن يشرح صدورنا لها.
ولكنه من الصعب جداً أن نعيشها في أغلب الأحيان ونجعلها هي عمدتنا عند الفتن والمصائب والكوارث .
لعلك تعرف " فلان " كنتَ تظن أنه صاحب إيمان وتقوى ولكنه لما وقعت له المصيبة تبين لك جزعه وتسخطه على أقدار الله.
ولعلك تعرف " فلانة " متعلمة ومدرسة لما أصيب ابنها بذلك المرض وإذا بها تطلق العبارات المناقضة للصبر والرضا والقادحة في كمال التوحيد.
ولعلك أنت كنت تظن أنك ممن تربى على التوكل وعدم الخوف من غير الله ولكنك لما جاءك تهديد من بعض المشعوذين والسحرة وإذا بك تخاف منهم وتسكت عنهم وتمدحهم .
إن الابتلاء يظهر لك حقيقة نفسك التي بين جنبيك ويخبرك بأنك بحاجة إلى توفيق الله وتثبيته في كل لحظة.
إننا بحاجة إلى أن نتربى على عبادات الشدائد.
ما أجملها من لحظة عندما تقوم في آخر الليل تناجي ربك وتدعوه أن يكشف عنك همك ويزيل عنك غمك ، وترسل مع عباراتك قطرات من عبراتك لكي يتنعم ذلك الخد بمرور تلك الدموع التي ماخرجت إلا لما جاءت تلك الشدائد.
إن عبادة التضرع والالتجاء ما ظهرت بقوة إلا في أوقات الشدائد " يريد أن يسمع صوتك ".
ولعل البلاء قد طال بك والشفاء قد تأخر عنك فهنا تأتي عبادة أخرى وهي " الرضا عن الله " فكأنك تقول: " يارب أنا راض عنك " حتى لو لم تستجب لي.
يارب أنا من لي سواك.. يارب مهما حصل لي فلن أسخط عليك لأني أحبك يارب.
ويزداد البلاء وتأتي عبادة " التوكل وتفويض الأمور إلى الله " لكي تكسبك قوة في الاعتماد على الله وتمنحك الشعور بقرب الفرج.
وهناك عبادة تدخل عليك وأنت في هذه الأثناء وهي " الثقة بالله " فينشرح صدرك ويطمئن فؤادك وتشعر بالسكينة قد نزلت عليك.
وبعد أيام وإذا بالفرج قد نزل والشفاء قد حصل والهم قد انكشف والغم قد زال، وهنا تأتي عبادة الشكر في أروع صورة.
ولا يعرف هذه المعاني إلا من جرَّب أنواع المحن ومرت عليه صنوف الفتن، والتثبيت يأتي من العلي الأعلى.
فأحسن ظنك بربك وتوكل عليه وابك بين يديه.
وعلَّق قلبك بمن يحركه ، وارفع همّك إلى الذي لن تجد أرحم منه ولا أرأف منه.
ألم تعلم أن من أسمائه.. الرحمن.. الرحيم.. الودود.. الرؤوف.. الواسع.. الجواد.. المنان.. القريب.. المجيب.. السميع.. البصير ؟
يارب
كلمة تختلف عن سائر الكلمات ، وعبارة ارتفعت فوق سحائب اللغات.
إذا خرجت من القلب غيرت الكثير من عالم الموجودات وأودعته في سلة الغائبات.
يعرف مدلولها ذلك المريض الذي أضناه المرض وأحاط به البلاء وعجز عن نفعه الأطباء وطال عليه زمان البلاء حتى قارب اليأس.
فإذا بتلك الكلمة تخرج من شفتيه بعد أن تقطعت بين صدره.
خرجت وهو ساجد في ظلام الليل البهيم لا أحد يراه ولا أحد يسمع شكواه إلا الذي ابتلاه.
خرجت هذه الكلمة فارتفعت وصعدت حتى تجاوزت سبع سماوات.
وفي لحظة ينزل الفرج ويذهب الهم وتنكشف المصيبة وتأتي السعادة من ذلك الرب الذي ما قدرناه حق قدره.
أكثر من 40 وصية للتائبين
مما يسعد القلب رؤيتك لذلك التائب ورجوعه إلى الله ، وسلوكه الصراط المستقيم ، ونحمد الله أن أعداد التائبين والتائبات في ازدياد .
ومع فرحتنا لهذه الفئة الصالحة إلا أن المتأمل لبعض حالات الشباب والفتيات بعد التوبة يجد فيها خللاً ونقصاً وجهلاً ، وهذا لا غرابة فيه ؛ لأن عالم التوبة جديد عليهم.
لذا اخترتُ لهم بعض الوصايا التي تفيدهم في طريق التوبة ؛ لعلها أن تنير الدرب وتصحح السير وتأخذ بأيديهم نحو المنهج المعتدل في الاستقامة .
ـ الوصايا:
1- احمد الله على أن وفقك الله للتوبة ولم يقبض روحك وأنت تمارس الذنوب.
2- اعلم أنك كنت ميتاً فأحياك الله بنور الهداية ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )[الأنعام:122].
3- اعلم أن الله يفرح بتوبة التائب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمنِ من رجلٍ في أرضِ دوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ معه راحلتُه عليها طعامُه وشرابُه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطشُ ثم قال : أرجعُ إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموتَ فوضع رأسَه على ساعدِه ليموتَ، فاستيقظ وعنده راحلتُه وعليها زادُه طعامُه وشرابُه فاللهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ العبدِ المؤمنِ من هذا براحلتِه وزادِه " . رواه مسلم
4- هل تعلم أن الله وعد بتبديل السيئات إلى حسنات للتائبين الصادقين ، قال تعالى ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )[الفرقان:70].
5- هل تعلم أنك الآن ممن أحبهم الله تعالى ، لقد قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )[البقرة:222].
6- عليك بالصدق في التوبة ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي : " إن تصدق الله يصدقك " .
7- ابتعد عن رفقاء السوء ولا تجلس معهم وامسح أرقامهم من جوالك ، وأزل كل ما يذكّرك بهم؛ لأنهم السم القاتل، ولو تساهلت في التعامل معهم فربما أخذوك إلى طريقهم .
8- عليك بالدعاء أن يثبتك الله تعالى ، وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". رواه البخاري .
9- لا تُغلِّب جانب الخوف من الله ، واعلم بأن الله واسع المغفرة ، قال تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ )[النجم:32] وقال جل وعز: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ )[طه:82] .
10- تخلص من جميع بقايا الماضي : صور ـ مجلات ـ أرقام الفتيات ـ وامسح مقاطع الفيديو المحرمة التي في جوالك . وهذا كله دليل صدقك في التوبة .
11- قد تجد صعوبة في بداية ترك الذنوب ، ولكن جاهد نفسك واصبر وتذكر قوله تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا )[الطلاق:2] .
12- حينما تخالط الصالحين فاعلم أن مجتمع الشباب الصالحين ليس معصوماً بل فيهم " الحسن والأحسن والضعيف وسيء الخلق " فلا تقلق ولا تستغرب فالعبرة بالمنهج والدين لا بالأشخاص.
13- ابدأ بتغيير سلوكك مع أهلك ومجتمعك منذ أول لحظة من الهداية ؛ لأن ثمرة الاستقامة هو التغيير للأفضل .
14- كن صاحب بداية جادة، وذا همة عالية .
15- حافظ على السنن الرواتب ؛ لأنها تزيدك إيماناً وثباتاً وهي سبب لمحبة الله لك وطريق لكي تذوق حلاوة الإيمان .
16- اقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وقصص الصالحين ؛ لأنها تثبّتك على الدين ، قال تعالى: ( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )[هود:120].
17- قد يسخر بعض الناس منك بعد توبتك " من أقارب أو زملاء المدرسة أو أصدقاءك في الحي " فلا تلتفت لهم وكن معتزاً باستقامتك على المنهج الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
18- مما يرقق قلبك زيارة هذه المواطن " المستشفيات - مغسلة الأموات ـ المقبرة ".
19- مما يفيدك في توبتك زيارة المواقع المفيدة على الانترنت التي فيها " المواعظ ـ المقالات ـ الفتاوى " واحرص على المواقع الموثوقة لأهل العلم والدعاة المعروفين بسلامة المنهج .
20- احرص على العبادة الفردية " مثل صيام النافلة وقيام الليل والعمرة بين وقت وآخر " وهذه العبادات لها أثر كبير في ثباتك على الدين .
21- املأ فراغك بالأمور الجادة " حلقة تحفيظ ـ برامج تربوية ـ طلب العلم ...." ولا بأس من ممارسة بعض المباحات " لعب ـ تمارين ـ سباحة ـ التسجيل في نادٍ ترفيهي محافظ " .
22- عليك بتنظيم الوقت ووضع الأهداف التي تعينك على السعادة في حياتك القادمة ، وحاول الوصول لها مثل " زواج بعد سنة ـ البدء بحفظ القرآن - حضور دروس ومحاضرات كل أسبوع ".
23- اعرض استشارتك على بعض المشايخ وطلاب العلم ولا تتفرد في حل أمورك .
24- احرص على مجالس الذكر " التي تناسبك " في مستوى الطرح والأسلوب .
25- احذر من مداخل الشيطان ونزغاته وأبوابه ، قال تعالى: ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )[البقرة:168] .
26- لا تستعجل في إنكار المنكرات التي قد تواجهك بعد توبتك " منكرات في بيتك أو في مقر وظيفتك أو في بلدك " وكن حكيماً في كل ممارساتك ، قال جل وعز: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا )[البقرة:269].
27- انقُل خبراتك في الماضي إلى درس لك في حياتك الجديدة .
مثال : التساهل في صديق السوء هو سبب ضياعك ، إذن لا تتساهل في المستقبل في مصاحبة الفساق .
28- اعلم أن ذنوبك العظيمة ليست مانعاً من أن تكون رجلاً عظيماً بعد الهداية .
وتأمل ماذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الهداية وماذا أصبح بعدها ، وماذا كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قبل الهداية وماذا أصبح بعدها ؟ . فالعبرة بحالك بعد التوبة لا بحالك قبل التوبة .
29- لابد من الفهم الصحيح للهداية ، واعلم أنه يجوز لك أن تلعب ، تسافر ، تتجمل ، تتاجر ، وكل ذلك بالضوابط الشرعية .
30- ابتعد عن مواطن الفتن ، والفتن نوعان : ١- شهوات . ٢- شبهات .
ولا تتساهل في مقدماتها؛ لأن المقدمات ستؤدي بك للنهايات .
31- احرص على رحلة إيمانية ( عمرة ـ حج ) مع صحبة صالحة .
32- اقرأ في قصص التائبين و التائبات لترى نماذج وقدوات في التوبة .
33- لا تبدأ بالدعوة إلى الله ومناصحة الناس إلا بعد معرفة أصول الدعوة وشروطها وصفات الداعية وتتدرب على شيء من ذلك .
34- اطلب العلم بالطريقة الصحيحة ، ويفيدك في هذا أن تجلس مع طالب علم حكيم ليخبرك بالوسيلة المناسبة لك في التعلم .
35- تعرف على الأحكام المتعلقة بالتوبة ، فقد تكون أخذتَ مالاً حراماً من قبل فهنا ترجعه لأصحابه فإن لم تجدهم فتصدق عنهم ، وهكذا قد تكون لديك مسائل أخرى تحتاج إلى إجابة ، وطلب العلم يفيدك في مسائلك هذه .
36- احذر الغلو والحماس الزائد ، وداوم على القليل ، قال صلى الله عليه وسلم: " أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل " واعلم أن الغلو طريق الانتكاسة.
37- أكثر من قراءة القرآن ليمتلئ قلبك بحب الله تعالى .
38- بادر بالزواج - إن أمكن - لتحصن نفسك ؛ لأن أكثر الذنوب المؤثرة على الاستقامة هي الشهوات .
39- لابد من مراعاة التوازن في تعاملك مع القضايا التي تنزل بك، واحرص على إعطاء كل ذي حق حقه .
40- خذ الفتوى من أهل العلم فقط ، واحذر من فتاوى بعض الشباب الذين ليس لهم في التوبة سوى أشهر وربما كان الجهل ملازماً لهم ، وكم من تائب سأل بعض التائبين الذين لم ترسخ قدمهم في العلم فكانوا سبباً لضلاله ووقوعه في المتاهات .
41- أوصيك بإخبار رجال الأمن بالأماكن التي ربما كانت سبباً لضلالك من قَبل، مثل : مكان ذلك الساحر ، شخص يبيع المخدرات ، وهكذا .
42- اعلم أن ذنوب الخلوات سبب للانتكاسات ـ وطاعة الخلوات سبب للثبات .
نسأل الله أن يثبتك على الدين، وأن تكون قدوةً صالحة في مجتمعك .
الفرح بالله
لعل العنوان فيه شيء من الغرابة ، لأن مفاهيم الفرح في حياتنا تقتصر على الفرح بالمحسوس فقط ، الفرح بالمال والمنصب والزوجة والولد والهدية والمنزل ونحو ذلك .
ولعل سائل يهمس ويقول : وما معنى الفرح بالله وما هي أسراره ؟.
الفرح بالله هو الفرح به رباً وإلهاً " فتفرح بعبوديتك له وخضوعك بين يديه وافتقارك له وانكسارك على عتبات بابه ".
تفرح حينما تتوضأ لأنك سوف تناجي ربك بعد وضوئك حينما تقول : " الله أكبر ".
تفرح حينما تقف على قدميك وتركع وتسجد لربك القريب المجيد .
تفرح بربك حينما تصوم وتترك كل شهوات النفس من الطعام والجماع لأجل الله وحده وتتذكر الحديث القدسي: ( إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ).
حتى قال بعض العلماء : لو لم يكن من فضل الصيام إلا هذا الحديث لكفى .
تفرح من داخلك وتشعر بسرور قلبك حينما تخلو بكتاب الله وتتصفح صفحاته وتنتقل بين آياته، ويتذوق قلبك حلاوة الذكر ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )[الرعد:28].
نعم يفرح العابد حينما يقوم في الليل يناجي ربه في سكون وخشوع وخضوع ، يترنم بالآيات والدعوات حتى إنه يسابق الزمن قبل الفجر ، حتى قال ذلك العابد : " والله منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر " . عجيب شأن هذا العابد .
والآخر يقول : " لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ".
أي فرح ولذة شعروا بها حتى خرجت هذه الكلمات من نفوسهم ؟
حدثني أحد العابدين وممن لهم نصيب من الليل وقال : كنت مرهق في أحد أيام البلاء الذي نزل بي ، ودخلت غرفتي بعد العشاء وقلت لنفسي : سأوتر بركعة قبل أن أنام .
يقسم لي بالله أنه ختم في تلك الليلة البقرة وآل عمران والنساء .
قلت : وكيف مرت عليك تلك الليلة ؟.
قال : يا سلطان.. رغم همومي في تلك الفترة إلا أن الله ملأ قلبي فرحاً بعبادته وخاصة في صلاة الليل .
قلت : هنيئاً لك ذلك الفرح .
الفرح بالله شعور يجعل القلب يرفرف نحو العلا ، ويطير نحو معاني لا يقوى القلم على التعبير عنها .
يفرح العابد بصبره على البلاء الذي نزل به من ربه الحكيم ، ويرى أن وراء ذلك البلاء منازل من الثواب تجعله يستمتع بكل لحظة ألم، ولا يقوى على ذلك إلا من ترقى في مدارج العبوية وذاق من لذات الأنس بالله ما تجعله يطمئن في ساعات الشدة ويبتسم في لحظات الألم .
يفرح الداعية الذي يتحرك هنا وهناك في سبيل الله ، دعوةً وتعليماً .. يفرح برؤية الله له وهو يتعب من أجل الله ، ولسان حاله ( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى )[طه:84].
يفرح ذلك التاجر الذي يبذل ماله في سبيل الله في رعاية مشروع دعوي أو إغاثي ، ويعلم بأن المال الذي لديه هو رزقٌ ساقه الله إليه .
تفرح تلك الأخت بحجابها الذي هو مصدر عزتها؛ لأنه اختيار الله لها، وتشعر أنها ملكة تمشي على الأرض لأنها أطاعت رب السماوات والأرض .
ومضة :
يامن لم يذق لذة الفرح بالله ، تعال.. فالباب مفتوح والخيرات تغدو وتروح ، وقرر من هذه الساعة أن تتوجه بقلبك إلى القريب المجيب ليمنحك حلاوة الفرح به .
ذنوب الخلوات
في زمن الانفتاح التقني الكبير وسرعة الوصول للصفحات عبر المواقع وانتشار الأفلام والصور عبر وسائل التواصل " الفيس . تويتر . الواتس . انستقرام " وغيرها ، نحتاج أن نذكر أنفسنا بالحذر من ذنوب الخلوات والتمتع بتلك الصور والمشاهدات .
أخي ، أختي ، إن الإيمان يزيد وينقص ، والساعات تتواردها فتن الشهوات ، وفي الليالي يزين الشيطان بعض الذنوب ، وفي الخلوات تشتاق بعض النفوس لبعض المشاهدات .
لذا كان لزماً علينا جميعاً ان نحذر من ذنوب الخلوات ، ولنتذكر دوماً وأبداً علم الله بنا واطلاعه علينا .
قال تعالى " وهو معكم أينما كنتم " أي بعلمه وإحاطته .
وقال سبحانه " ألم يعلم بأن الله يرى ".
وقال " يعلم خائنة الأعين ".
إن النفس الأمارة بالسوء من طبعها أن تميل لقضاء بعض الوقت في مشاهدة تلك الأفلام والمسلسلات التي تملأ الفراغ وتجعلك في متعة المشاهدة .
ولكن أما تخشى يامن يفعل مثل ذلك من ربك عز وجل ؟
أوما سمعت بقول الله تعالى " ويحذركم الله نفسه " ؟
حدثني صاحبي وقال : بدأتُ أشاهد بعض الأفلام التي تمتلأ بصور النساء والموسيقى ، مع أنني ممن يحافظ على الصلوات .. ولكن الشيطان زين ذلك لي ..
يقول : نمتُ في إحدى الليالي ، ورأيتُ في المنام صديقاً لي يقرأ أمامي " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ".
يقول صاحبي : فعرفتُ أن هذه الرؤيا رسالة لي من الله جل وعلا .
أحبتي ، إن الفراغ أكبر دافعٍ لتلك المشاهدات المحرمة ، لذا يجبُ علينا أن نملأ الفراغ بالمباحات ، بالمشاهدات النافعة ، بالخروج للنزهة ، بالزيارات ، بالقراءة ، باللعب مع الأصحاب ..
المهم أن نبتعد عن الفراغ الذي ربما يدفعنا لتلك المشاهدات .
وإن مما يقوي جانب الحذر من الشهوات وخاصةً في الخلوات أن توقن بأن تلك الأفلام والمقاطع مهما كانت شيقة في جمالها وحماسها وإثارتها وتنوعها ، فإن لها ضريبة أليمة ، وهي حسرات في القلب ، وضيقاً في الصدر ، وحزناً غالب .
لأن الذنوب تميت القلوب وتجلب لها الهموم والأحزان ، وربنا يقول " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ".
أخي ، أختي ..
جميلٌ بنا أن ندعو الله أن يرزقنا التقوى في السر والعلانية .
لأننا ضعفاء وبحاجةٍ إلى قوةٍ من الله وتثبيتاً ، وربنا يقول في الحديث القدسي " ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ". رواه مسلم .
وجميلٌ بنا أن نتذكر همم الصالحين في عمارة الخلوات بصالح الأعمال من قراءة للقرآن وصلاة في جوف الليل وتضرع في الأسحار .
تذكر وأنت في خلوتك ماذا لو فاجأك الموت وأنت تتابع تلك المسلسلات ، ماذا سيكون حالك عند الله تبارك وتعالى ؟
يامن يشاهد تلك المشاهدات أما تذكرت ظلمة القبر وكيف تكون تلك الشهوات سبباً لعذابك هناك إن لم يتداركك الله برحمته .
ختاماً ، يامن يحب الخلوات للتمتع بالمشاهدات والتنقل في عالم النساء والشهوات ، كن على يقين بأن تلك الساعات التي قضيتها في تلك المحرمات سوف تندم عليها حينما تقف بين يدي الله تعالى ..
" واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ".
الملتقى في بيت الحمد
بلغني خبر وفاة ابنة صاحبي ، وهي في الثالثة من عمرها ، بعدما زان جمالها وحسن كلامها وظهرت طفولتها.
ولكن الله يقدر مايشاء ويقضي مايريد .
ترتفع الحرارة ويبدأ الخوف على قلب والديها ثم يسارعان بها للمستشفى ولكن الله يريد أمراً آخر .
وتغادر الفتاة من عالم الحياة ، ولكنها لم ولن تغادر من قلب والديها .
كان صاحبي يملك قلباً كبيراً وصبراً عظيماً ، فقال حينما تأكدت وفاة ابنته " الحمد لله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ".
حينها ذهب خيالي لذلك الحديث العظيم الذي فيه :
" إذا مات ولدُ العبدِ قال الله لملائكته : قبضتُم ولدَ عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرةَ فؤاده فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع، فيقول اللهُ : ابنوا لعبدي بيتًا في الجنةِ وسموه : بيتَ الحمدِ ". رواه الترمذي وحسنه .
أيها الأب أيتها الأم ، يامن فقدتم ذلك الابن الجميل وتلك الطفلة اللطيفة ، يامن فقدتم صوت ذلك الطفل وضحكاته وبسماته .
لقد كنتم تلاعبونه وتلاعبونها ، ولعل الطفل كان مميزاً بكلماته وحواراته البريئة .
وفجأة يغيب ذلك الطفل وتلك الطفلة من منزلكم .
أين صوته ، أين ملاعباته ؟ أين بسمته بل أين دموعه ؟ لن يرافقكم لتلك الحديقة ولا لذلك السوق .
ويأتي الحزن ليخيم على منزلكم بعدما غادر طفلكم وطفلتكم .
ولكن أيها الوالدان ، هل تذكرتم بيت الحمد الذي بني لكم في جنان الخلد ؟
نعم إنه بيت في الجنة تبنيه الملائكة لكما حينما تصبران على فقد الولد والبنت .
فصبراً واحتساباً على موت حبيبكم ، لعل بيت الحمد أن يبنى لكم .
صبراً أيها الأب لعلك تجتمع أنت وولدك وابنتك وزوجتك في بيت الحمد الذي كان نتيجةً لصبركم .
الصبر سوف تسمعه هناك عند أبواب الجنان ، والملائكة ترحب وتقول " سلام عليكم بماصبرتم فنعم عقبى الدار ".
هيا كفكف دموعك ، واملأ قلبك رضاً وحباً لذلك الرب الذي يقدر مايشاء .
هيا ارفع يديك وقل يارب " أفرغ علينا صبراً ".
يارب ، ها أنا أدفن ولدي وثمرة فؤادي وكلي طمع أن التقي به هناك في بيت الحمد حيث لافراق بعدها .
اللهم ارزقنا الصبر عند الأزمات واجمع بيننا وبين أولادنا وبناتنا في رياض الجنات .