×
لا يزال أهل الهوى والشهوات في نصب وعناءات وهم يلبون حاجات النفس، وتسارع إلى قضاء شهواتها، وما علموا أن النفس عدو قريب، ومتربص سهمه لا يخيب، وهذه المقالة تبين تعاسة عبد الشهوات وأنه في عناء مرير، وبلاء مستطير.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله تعالى أكرم عباده بالإيمان، وضاعف لهم سوابغ الإحسان، والصلاة والسلام على رسول الهُدى، وعلى آله وأصحابه أعلام التقى.

    وبعد:

    النفس! ما أشد غوائلها! وما أفدح مطالبها!

    يسُرُّها الهيِّن القريب... ويسوؤها طلب البعيد وإن كان أرفع حبيب!

    صاحبها في عناء مرير.. وبلاء مستطير!

    مطالبها في ازدياد... ورغائبها لا تعرف الرقاد!

    إذا اشتهت نزعت ثياب الصبر... وإذا طلبت مرغوبًا فكأنما على الجمر!

    جهادها شديد... وخلافها بعيد!

    من أطاعها ولجت به المهالك.. وأردته فإذا هو هالك!

    أسير من أطاعها.. وأمير من بعصا الصبر ساقها!

    أهل الذنوب لها عبيد... وهم في سلطانها في أسر وحديد!

    * فيا صاحب الذنب هلا صبرت على شهواتها؟!

    قال حذيفة بن قتادة: «قيل لرجل: كيف تصنع بنفسك في شهواتها؟ فقال: ما على وجه الأرض نفس أبغض إلي منها، فكيف أعطيها شهواتها»؟!

    أيها المذنب! أما طالبت النفس يومًا بالصبر عن شهواتها؟!

    أيها المسكين! إنها النفس.. لا تحسبنَّ أنها ستنقاد إليك طائعة!

    قال ابن أبي الدنيا: «وجدت في بعض الحكمة: الصبر على عشرة وجوه: الصبر عن المعاصي، والصبر على الفرائض، والصبر على الشبهات، والصبر على الفقر، والصبر على الأوجاع، والصبر على المصائب، والصبر على أذى الناس، والصبر عن الشهوات، والصبر عن فضول الكلام، والصبر على النوافل».

    * أيها المذنب! نفسك عدوك!

    لا يزال أهل الهوى والشهوات في نصب وعناء، وهم يلبون حاجات النفس.. ويتسارعون إلى قضاء شهواتها! وما علموا أن النفس عدو قريب.. ومتربص سهمه لا يخيب!

    }إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي{ [يوسف: 53].

    والنفس الأمارة: هي التي تأمر باللذات والشهوات، وهي التي تحض على الأخلاق الذميمة.

    قال يحيى بن معاذ: «أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات».

    فاحذر – أيها المذنب – سهام النفس.. فإن سهامها قاتلة المنافذ! وما أكثر الغافلين عن هذا العدو القريب.. ثقة منهم بودِّه وصداقته!

    * أيها المذنب! تعس عبد الشهوات!

    أقبح بالحر أن يكون عبدًا لهواه وشهواته.. فهو مأسور تحت سلطانها.. ومقهور في حبها!

    قال بعض الحكماء: «من استولت عليه النفس صار أسيرًا في حب شهواتها، محصورًا في سجن هواها، مقهورًا مغلولاً زمامه في يدها، تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد»!

    وقال مالك بن دينار: «بئس العبد عبد همه هواه وبطنه»!

    فيا من استبدلت عبودية الخالق بعبودية الشهوات.. أما خطر ببالك أي عوض استبدلت؟!

    قال الفضيل بن عياض: «من استحوذت عليه الشهوات؛ انقطعت عنه مواد التوفيق»!

    فيا مأسورًا لشهوته! لن تحصد منها في دنياك سوى البؤس والشقاء.. وأما في الآخرة؛ فإنها ستقودك إلى النار!

    قال الحسن بن محمد الجريري: «أسرع المطايا إلى الجنة؛ الزهد في الدنيا، وأسرع المطايا إلى النار؛ حب الشهوات، فمن استوى على متن شهوة من الشهوات؛ أسرع به القود إلى ما يكره».

    * أيها المذنب! طالب الشهوات متخلق بأخلاق البهائم!

    يكفي في التفسير عن طريق الشهوات؛ أن صاحبها متخلق بأخلاق البهائم! ويزيد ذلك قبحًا أن الله تعالى وصف الكافرين بذلك!

    قال الله تعالى: }وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ{ [محمد: 12].

    قال قتادة رحمه الله: «خلق الله سبحانه الملائكة عقولاً بلا شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان، وجعل له عقلاً وشهوة، فمن غلب عقله شهوته؛ فهو مع الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله؛ فهو كالبهائم»!.

    أيها المذنب! إن طلب الشهوات، واللهث خلفها؛ عنوان لعمى القلوب.. ودليل على الحرمان!

    فلا تحجبك لذة الشهوات العاجلة عن معايبها.. فإن من كرمه الله تعالى بالعقل؛ قادر على التمييز بين ما ينفعه وما يضره..

    * المجاهد حقًا!!

    أيها المذنب! أتدري من هو المجاهد حقًا؟! إنه من جاهد نفسه على شهواتها.. وقادها إلى ما تكره..

    قال رسول الله ﷺ‬: «ألا أخبركم بالمؤمن؟! من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» [رواه أحمد وغيره/ السلسلة الصحيحة: 549].

    وقيل ليحيى بن معاذ: من أصح الناس عزمًا؟ قال: «الغالب لهواه».

    وقال مالك بن دينار: «من غلب شهوات الدنيا؛ فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله»!

    بل إن الزاهد الحقيقي هو الذي هجر الشهوات.. وأعرض عن مطالب النفس..

    قال ابن شهاب الزهري: «ليس الزهد بتقشف الشعر، وتفل الريح، وخشونة الملبس والمطعم، ولكن الزهد: ظلف النفس عن محبوب الشهوات».

    * أيها المذنب! ثمار الشهوات مرارات وآلام!

    ذلك هو حصاد أهل الهوى من شهوات النفس ولذاذاتها.. وهي ثمار يجنيها المذنبون نقيض قصدهم.. فهم يطلبون من الشهوات المتعة واللذة.. وقد يجدون ذلك.. ولكن مرارة الشهوات ستغلب اللذة العاجلة!

    وتجنب الشهوات واحذرْ

    أن تكون لها قتيلا

    فلرب شهوة ساعة

    قد أورثت حزنًا طويلاَ

    قال أبو يحيى الوراق: «من أرضى الجوارح بالشهوات؛ فقد غرس في قلبه شجر الندامات»!

    وقال مالك بن دينار: «دخلت مكة، فإذا أنا بجويرية متعبدة الليل أجمع، حول البيت، وكلما طافت سبعة أشواط؛ وقفت حذاء الملتزم، ثم تقول بصوت حزين: يا رب! كم من شهوة قد ذهبت لذتها، وبقيت تبعتها، ما كان لك عقوبة إلا النار؟!».

    وقال الحسن البصري: «ستعلم يا مسكين! تنفق دينك في شهوتك سرفًا، وتمنع في حق الله درهمًا! ستعلم يا لُكَع!».

    * أيها المذنب! لا تفسد قلبك بالشهوات!

    كم في ركوب الشهوات من فساد قلوب.. وسموم للنفوس!

    فإن القلب كالوعاء؛ يصلحه ما تجعله فيه.. فإن وضعت فيه طيَّبًا؛ طاب ريحًا ومنظرًا.. وإن وضعت فيه خبيثًا؛ خبث ريحًا ومنظرًا..

    قال رسول الله ﷺ‬: «ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [رواه البخاري ومسلم].

    قال يوسف بن أسباط: «عجبًا كيف تنام عين مع المخافة، أو يغفل قلب بعد اليقين بالمحاسبة، ومن عرف وجوب حق الله على خلقه؛ لم تستحل عيناه أحدًا إلا بإعطاء المجهود من نفسه، خلق الله تبارك وتعالى القلوب؛ فجعلها مساكن للذكر، فصارت مساكن للشهوات!

    إن الشهوات مفسدة للقلوب، وتلف للأموال، وإذلاق للوجوه، ولا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق».

    * أيها المذنب! أتدري ما هي اللذة الحقيقية؟!

    محرومون أولئك الذين يظنون أن اللذة في شهوة عاجلة.. أو لذة منقطعة! لقد غاب عن هؤلاء اللذة الحقيقية.. والتي يجدها أهل الطاعات..

    قال أبو سليمان الداراني: «ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها»!

    وقال عبد الله الداراني لمالك بن دينار: «يا مالك إن سرك أن تذوق حلاوة العبادة، وتبلغ ذروة سنامها؛ فاجعل بينك وبين شهوات الدنيا حائطًا من حديد»!

    وقال ابن الجوزي: «لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها، وما اللذة فيها إلا شرف العلم، وزهرة العفة، وأنفة الحمية، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق، فأما الالتذاذ بالمطعم والمنكح؛ فشغل جاهل باللذة، لأن ذاك لا يراد لنفسه، بل لإقامة العوض في البدن والولد.. فمن مال إلى النساء؛ لم يصف له عيش، ومن أحب الشراب؛ لم يمتع بعقله، ومن أحب الدينار والدرهم؛ كان عبدًا لهما ما عاش»!.

    * أيها المذنب! شهوات النفس بالترك..

    إن من طاوع النفس في رغباتها؛ طالبته بالزيادة.. فإذا طاوعها؛ طالبته أيضًا.. فما تزال به؛ حتى توقعه في الحرام! فإن النفس لجوج.. فإنك إن عودتها: لا.. سَلَت.. وانقادت..

    قال بعض الحكماء: «إني لأقضي عامة حوائجي بالترك، فيكون ذلك أروح لقلبي»!

    وقال بعضهم: «إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة؛ استقرضت من نفسي فتركت الشهوة، فهي خير غريم لي»!

    وكان إبراهيم بن أدهم يسأل أصحابه عن سعر المأكولات، فيقول: إنها غالية. فيقول «أرخصوها بالترك»!

    أيها المذنب! ادفع الشهوة بالترك.. وكن مع نفسك؛ لجوجًا.. عنيدًا.. يصلح حالك إن شاء الله تعالى..

    * أيها المذنب! أما سمعت بخبر من جاهد نفسه في المباح؟!

    يا من ركبت مطية الشهوة الحرام.. إليك طرفًا من خبر رجال جاهدوا الأنفس في المباح.. فلم يمكنوها من لذاتها الحلال.. بل دفعوها بسوط العزم والصبر.. حتى انقادت كأطوع ذلول!

    وهؤلاء إنما تركوا المباح؛ خوفًا من أن يجرهم إلى الازدياد منه.. ثم الوقوع فيما فيه بأس..

    * مر أبو حازم يومًا في السوق، فرأى الفاكهة، فاشتهاها، فقال لابنه: اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة، لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة! فلما اشتراها، وأتي بها إليه، قال: لنفسه: قد خدعتني حتى نظرت واشتهيت، وغلبتني حتى اشتريت، والله لا ذقته! فبعث بها إلى يتامى من الفقراء!

    * وقال لمالك بن دينار جار له في مرضه: ما تشتهي؟ قال: إن نفسي لتنازعني إلى شيء منذ أربعين سنة؛ رغيف أبيض ولبن في زجاج!

    فأتاه به، فجعل ينظر إليه، ثم قال: دافعت شهوتي عمري كله، حتى إذا لم يبق من عمري إلا مثل ظمئ الحمار أجدها، انظروا يتيم آل فلان فادفعوه إليه. ومات بشهوته!!

    * وقيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك، وقد انهد؟! فقال: لأنه سريع المرح، فاحش الأشر، فأخاف أن يجمح بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد؛ أحب إلي من أن يحملني على الفواحش!

    فيا من آثرت الشهوات على الطاعات! تأمل في حال هؤلاء القوم.. وفي علو همتهم.. وحاسب نفسك.. لتعلم ما أنت فيه من الغبن والخسران! والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

    * أيها المذنب! هجران الشهوات ربحه أعظم سلعة (الجنة)!

    الجنة! حقًا! إنها سلعة الله الغالية.. ونعيمه الباقي! لا أسعد ممن فاز بالحلول في نعيمها.. ولا أشقى ممن باعده الله عن حبورها!

    مهرها غال.. وثمنها عال!

    والكلُّ يسره دخولها.. ولكن قليل من عمل لنزولها!

    وهجر الشهوات مهر صدقٍ للفوز بها.. وجواز بعيد عن التعويق!

    }فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ [النازعات: 37-41].

    قال علي بن أبي طالب t: «من اشتاق إلى الجنة؛ سلا عن الشهوات في الدنيا».

    أيها المذنب! تأمل في عظم الثواب.. إنها (الجنة)!

    أفترضى أن تعتاض بها شهوة عاجلة.. لا تدوم لذتها إلا لحظات؟! أي غبن أعظم من هذا؟!!

    وأي خير يجنيه صاحب الشهوة منها؛ حتى يحرص عليها؟! فكن – أيها العاقل – حربًا على نفسك.. عدوًا لشهواتها.. فإن أبيت فوطِّن نفسك للذل!

    قال وهيب بن الورد: «من أحب شهوات الدنيا؛ فليتهيأ للذل»!

    أيها المذنب! وتذكر أن لذة قهر الشهوات، أعظم من لذة الشهوات!

    قال ابن الجوزي: «وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً، لأنه قهر، بخلاف غالب الهوى، فإنه يكون قوي القلب، عزيزًا؛ لأنه قهر؟!

    فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز، ولا يرى بعين فكره القطع، وليفتح الإنسان عين البصيرة لتأمل العواقب، واستحالة اللذة نغصة، وانقلابها عن كونها لذة، إما لملل، أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب؛ فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع فما ردت كلب الجوع، بل شهت الطعام، وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى، مع تأمل فوائد الصبر عنه، فمن وفق لذلك، كانت سلامته قريبة منه...».

    أيها المذنب! فلتعظ نفسك.. ولتخوِّفها عقاب الله تعالى.. وشديد يطشه.. وجاهد عن شهواتها.. وإياك ومطاوعتها.. وسل الله تعالى هدايته إلى صراطه القويم.. والعون والتأييد على هوى النفس والشيطان..

    والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب..