×
من عرف هذه الدنيا على حقيقتها علم أنها دار المصائب والشرور، وليس فيها لذة على الحقيقة لكنها مشوبة بالكدر، وعمارتها وإن حسنت صورتها فهي خراب، لذلك فإن العبد في هذه الدار لا يستغنى عن الصبر في أي حال من أحواله، وهذا الكُتيب يُبين معنى الصبر، وأنواعه، وثمراته.

 الصبر ضياء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن من عرف هذه الدنيا على حقيقتها، علم أنها دار المصائب والشرور، وليس فيها لذة على الحقيقة لكنها مشوبة بالكدر، وعمارتها وإن حسنت صورتها فهي خراب، قال الشاعر:

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوًا من الأقذار والأكدار

لذلك فإن العبد في هذه الدار لا يستغنى عن الصبر في أي حال من أحواله، فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله، فلا بد له من الصبر عليه، وبين نهي يجب عليه اجتنابه، فلا بد له من الصبر عنه، وبين قضاء فيه بلية يجب الصبر عليه، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات، قال سبحانه وتعالى: }لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ{ [البلد: 4]، يكابد مضايق الدنيا،وشدائد الآخرة.

ومنزلة الصبر من من أعظم المنازل التي حض عليها الإسلام،وجعل الله جزاءها من أعظم الجزاء }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10]، وقال ﷺ‬: «والصلاة نور والصبر ضياء».

قال الشيخ ابن عثيمين: (فالصلاة نور للعبد في قلبه، وفي وجهه، وفي قبره، وفي حشره،ولهذا تجد أكثر الناس نورًا في الوجوه أكثرهم صلاة، وأخشعهم فيها لله عز وجل، فهي نور للإنسان في جميع أحواله، وهنا يقتضي أن يحافظ الإنسان عليها، وأن يحرص عليها، وأن يكثر منها حتى يكثر نوره، وعلمه، وإيمانه، وأما الصبر فقال إنه (ضياء) أي فيه نور، لكن نور من حرارة كما قال الله }هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا{ [يونس: 5]، فالضوء لا بد فيه من حرارة، وهكذا الصبر لا بد فيه من حرارة وتعب؛ لأن فيه مشقة كبيرة، ولهذا كان أجره بغير حساب، فالفرق بين النور في الصلاة والضياء في الصبر: أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة لما في ذلك من التعب القلبي، والبدني في بعض الأحيان ) ولأهمية الصبر سنتعرض لتعريفه وأقسامه، وما يهون المصائب وممرات الصبر.

 معنى الصبر:

1- قال الراغب: الصبر الإمساك في ضيق، يقال صبرت الدابة معنى حبستها بلا علف.

2- وقيل معناه: الحبس والكف، ومنه قتل فلان صبرًا: إذا أمسك وحبس وقال تعالى: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{ [الكهف: 28]، أي: أحبس نفسك معهم.

معنى الصبر شرعًا: قال الطبري: الصبر منع النفس محالها وكفها عن هواها. وعرفه آخرون بأنه:حبس النفس عن الجزع، والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن كل فعل محرم كلطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور.

 أنواع الصبر:

1- صبر على طاعة الله. 2- صبر عن معصية الله. 3- صبر على الأقدار.

والصبر على الطاعة أفضل الأنواع الثلاثة لأن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية، والصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الأقدار، فإن الصبر فيها اختيار وإيثار، ومحبة، أما الصبر على المصيبة فإنه أمر جرى بغير اختيار العبد ولا كسب له فيه فليس له فيها حيلة غير الصبر.

وبانعدام الصبر في النوعين الأولين تكون مصيبة الدين ونهايتها الخسران الذي لا ربح معه، والحرمان الذي لا عوض فيه، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (عدة الصابرين): أنه حفظ من خطب الحجاج (اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطامًا، وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه) وسنتناول هذه الأنواع بالتفصيل:

 أولاً: الصبر على الطاعة:

 وهو الثبات على أحكام الكتاب والسنة وينقسم إلى ثلاثة أحوال:

1- حال قبل العبادة: وهي تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء.

2- حال في نفس العبادة: وهي أن لا يغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن.

3- حال بعد الفرغ من العبادة: وهو الصبر عن إفشائه والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة وعن كل ما يبطل عمله فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها) ا هـ. مختصر منهاج القاصدين.

والصبر على الطاعة إنما يكون بمجاهدة النفس على التقى لتفوز برضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول ابن القيم: (لا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر)، وقد قال تعالى: }إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 90]، صبر على أداء الفرائض في وقتها وخصوصًا صلاة الفجر فقد تتكاسل النفس عندما ترى لذة النوم، وراحة المنام، فهنا مقام الصبر على الطاعة، وقد تتقاعس عن صيام النوافل، فهنا مقام الصبر، عندما يتذكر ما يقال للصائمين غدًا: }كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{ [الحاقة: 24]، قال ابن تيمية رحمه الله: (ذكر الله الصبر في كتابه أكثر من (90) موضعًا وقرنه بالصلاة: }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ{ [البقرة: 45]، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين لقوله: }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ{ [السجدة: 24]، فإن الدين كله علم بالحق، وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر، بل وطلب عمله يحتاج إلى الصبر كما قال معاذ: (عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة،ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد، يرفع الله بالعلم أقوامًا ليجعلهم للناس قادة، وأئمة يهتدون بهم وينتمون إلى رأيهم، فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر).

والخلاصة أنه لا بد من مجاهدة النفس والصبر على الطاعة ليحصل له العاقبة الحسنة في الدارين كما قال ابن رجب: (فمن صبر على مجاهدة نفسه، وهواه، وشيطانه غلبه، وحصل له النصر، والظفر وملك نفسه فصار عزيزًا، ملكًا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك قُهر، وغلب، وأسر وصار عبدا ذليلاً، أسيرًا في يدي شيطانه وهواه كما قيل:

إذا المرء لم يغلب هواه أقامه

بمنزلة فيها العزيز ذليل

 ثانيًا: الصبر عن المعصية:

 وهو إمساك النفس عن الوقوع في المحرمات، ومن الملاحظ أن هناك كثير من الناس من يصبر على الطاعة،ولكن يقع في المعصية لعدم صبره عنها وخصوصًا معاصي اللسان من غيبة ونميمة، قال عمر بن عبد العزيز: (ليس التقوى بقيام الليل وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير على خير). وفي الحديث عنه ﷺ‬: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك»، لأن القلب إذا امتلأ من الخوف من الله أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي، وبقدر قلة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قل الخوف واستولت الغفلة، كان ذلك من علامة الشقاء، قال بعض السلف: (المعصية إلى الغافل أسرع انحدارًا من الصخرة إلى المكان السافل، وإذا سكن الخوف القلب أحرق الشهوات).

والصبر عن المعصية يكون بكف النفس عما حرمه الله عليها؛ لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو إلى السوء، فيصبر الإنسان على نفسه ولا ينساق وراء هواه، فقد عاب الله من فعل ذلك، وسماه إلهًا له فقال: }أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{ [الفرقان: 43]، قال قتادة: (هو الذي كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجبه عن ذلك ورع ولا تقوى).

وكان من دعاء النبي ﷺ‬: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء»، وقال الشعبي: (إنما سمي الهوى  لأنه يهوي بصاحبه ). قال ابن رجب: (من أحب شيئًا مما يكره الله أو كره شيئًا مما يحبه الله لم يكمل توحيده ولا صدقه في قول لا إله إلا الله).

 ثالثا: الصبر على الأقدار:

 وهو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والناس في العافية سواء فإذا جاءت البلايا استبان الصادق من الكاذب، فهم عند المصائب على أربعة أقسام:

1- التسخط:

(أ) أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه، يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ{ [الحج: 11].

(ب) أن يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور، وما أشبه ذلك، قال ابن الجوزي: رأيت رجلاً كبيرًا قد قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة فمات ولد ابنته فجزع وتلفظ بكلام فيه تسخط فعلمت أن صلاته وفعله للخير عادة لأنه لا ينشأ عن معرفة وإيمان وهؤلاء من الذين يعبدون الله على حرف.

(ج) أن يكون بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك وكل ذلك حرام منافٍ للصبر الواجب، قال أبو مسعود البلخي:من أصيب مصيبة فمزق ثوبًا، أو ضرب صدرًا فكأنما أخذ رمحًا يريد أن يقاتل ربه عز وجل.

2- الصبر: يرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكن يتحمله، وهو يكره وقوعه، ولكن يحميه إيمانه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر }وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{ [الأنفال: 46] قال ابن الجوزي: (وليعلم العاقل أن البلايا ضيوف فليعد لها قرى الصبر) قال بعض الحكماء: العاقل في أول يوم من المصيبة يفعل ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.

3- الرضا: بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، وأما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.

4- الشكر: وهذه أعلى مراتب الصبر، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير ذنوبه وربما لزيادة حسناته فالمصائب نعمة لأنها تكفر الذنوب وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الحق إلى غير ذلك من المصالح.

تعريف المصيبة: كل ما أساءك مصيبة، ولما انقطعت نعل  عمر بن الخطاب رضي الله عنه استرجع وقال: (كل ما أساءك مصيبة) وقال أبو بكر: إن المسلم ليؤجر في كل شيء حتى في النكبة، وانقطاع شسعه والبضاعة تكون في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في غبه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم،ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». وقال لقمان لابنه: يا بني الذهب والفضة تختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلاء، قال ابن الجوزي في (منهاج القاصدين): (وإن كانت المصائب مما يمكن كتمانها فكتمانها، من نعم الله عز وجل، قال علي: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك،ولا تذكر مصيبتك).

فالمؤمن الموفق من يتلقى المصيبة بالقبول ويجتهد في كتمانها ما أمكن، وأما إذا كان الأخبار على سبيل الاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره وليس للشكوى فقط فلا يقدح ذلك في الصبر.

وتأمل كيف كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلقون المصائب بالصبر، وما ذاك إلا لقوة إيمانهم، ولما نعى ابن عباس أخوه (قثم) وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ{.

قال ابن جريج في قوله: }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ{ إنهما معونتان على رحمة الله.

وقال سبحانه: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{ [البقرة: 155 - 156]، إنا لله إقرار بالعبودية والملك واعتراف العبد لله بما أصابه منه، فالملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله: }وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{ إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا، فله الحكم في الأولى وله المرجع في الأخرى، وفيه كذلك طلب ورجاء ما عند الله من الثواب.

وكذلك يسن للمصاب أن يقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها) كما ورد ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالته بعد وفاة زوجها أبو سلمة، وذكر ابن كثير في تفسيره قصة أم سلمة رضي الله عنها تقول: (لما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله ﷺ‬ وأنا أدبغ إهابًا لي فغسلت يدي وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها، فخطبني إلى نفسه، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله:مالي أن لا يكون لي بك رغبة؟ ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئًا، يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن،وأنا ذات عيال فقال لها ﷺ‬: «أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي» قالت: فقد سلمت لرسول الله ﷺ‬ فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه رسول الله ﷺ‬.

ومما ينبه له هنا وهو من باب التسخط على المصيبة: قيام بعض النساء بترك الزينة والطيب ربما أيامًا طويلة أو شهورًا حزنًا على وفاة أخ، أو أب، أو غير ذلك أو التغيب عن الوظيفة نحو أسبوع أو ترك حضور الولائم مدة طويلة، كل ذلك لا يجوز أكثر من ثلاث ليالٍ ([1]) لما ورد عن أم حبيبة رضي الله عنها لما توفي أبوها (سفيان بن حرب) دعت بطيب، ثم مسحت بعارضيها بعد مرور ثلاث ليال، ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا».

طعام المصاب: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر بالتلبينة للمرضى ، وللمحزون على الهالك وتقول: إن رسول الله ﷺ‬ يقول: «التلبينة محمة لفؤاد المريض تذهب الحزن» التلبينة: حساء من دقيق أو بحالة، ومحمة: مريحة له: أي تريحه وتسكنه من الإجمام والراحة.

ومن المصائب: استطالة الناس، وكثرة القيل، والقال، ولا بد هنا من الصبر، ولذلك بوب البخاري (باب الصبر على الأذى) وقول الله تعالى: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10]، ثم أورد حديث عن أبي موسى عن النبي ﷺ‬ قال: «ليس أحد - أو ليس شيء - أصبر على الأذى من الله إنهم ليدعون له ولدًا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» وذكر البخاري في صحيحه أن رسول الله ﷺ‬ قسم قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله ! فلما أخبر النبي ﷺ‬ بقوله قال: «قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر».

قال ابن حجر: ( باب الصبر في الأذى) (أي: حبس النفس على التألم بما يفعل بها، ويقال فيها، ولهذا شق على النبي ﷺ‬ نسبتهم له إلى الحور في القسمة، لكنه حلم عن القائل، فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين، وأن الله يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرًا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلى من يشاء الله أن يزيده ).اهـ.

ويقول سبحانه: }فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ{ [الشورى: 10]، قال الحسن البصري: إذا كان يوم القيامة ناد مناد من بطن العرش ألا ليقم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح،ويقول سبحانه: }ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{ [فصلت: 34-35]، أي وما يقبل بهذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس وما يلقاها إلا ذو نصيب افر من السعادة في الدنيا والآخرة.

وقد عمل السف بهذه الوصية العظيمة، فيذكر أن رجلاً شتم ابن عباس رضي الله عنهما فلما قضى قال ابن عباس يا عكرمة انظر للرجل حاجة فنقضيها ؟ فنكس الرجل رأسه واستحى، ولما استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل: مه قال أبو معاوية: دعه يستشفي ثم قال: اللهم اغفر الذنب الذي سلطت علي به، وقال سبحانه في سورة لقمان }وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ{ [لقمان: 17] علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر.

ومما ينبه إليه في هذا المقام أنه لا يجوز هجر المسلمين لأمور دنيوية أكثر من ثلاث ليالٍ، كما قال ﷺ‬: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» قال ابن حجر قال العلماء: تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب فسمح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض) وقوله ﷺ‬: «خيرهما الذي يبدأ بالسلام» قال ابن حجر: زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري (يسبق إلى الجنة) ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فإن مرت ثلاث فلقيه فليسلم عليه فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجر».

من المصائب المرض: قال ابن أبي الدنيا: كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة مامضى من الذنوب، وقال عروة بن الزبير لما قطعت رجله الآكلة: إنه مما يطيب نفسي عنك أني لم أنقلك إلى معصية الله قط. واشتكى ابن أخي الأحنف بن قيس من وضع ضرسه، فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد. وعن مسلم بن يسار: كان أحدهم إذا برئ قيل له: ليهنك الطهر، يعني الخلاص من الذنوب، ويذكر أن إحدى نساء السلف أنها لما جرحت يدها جرحًا شديدًا، فلم يظهر عليها التأثر، فقيل لها في ذلك قالت: حلاوة أجرها أنستني مرارة طعمها.

ومن المصائب: كل ما أهم المؤمن: ورد عن امرأة من العابدات في البصرة أنه كانت تصاب بالمصائب، فلا تجزع فذكروا لها ذلك فقالت: ما أصاب بمصيبة فأذكر معها النار، إلا صارت في عيني أصغر من الذباب، وفي الحديث عنه ﷺ‬: «اللهم أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما يهون علينا مصائب الدنيا» ومن اليقين: أي ارزقنا اليقين بك وأنه لا راد لقضائك وقدرك «ما يهون علينا مصائب الدنيا» بأن تعلم أن ما قدرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة واستجلاب ثواب وأنك لا تفعل بالعبد شيئًا إلا وفيه صلاحه قال ابن الجوزي: (لو أن ملكًا قال لرجل فقير:كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار لأحب كثرة الضرب لا لأنه لا  يؤلم، لكن لما يرجو من عاقبته وإن أنكاه الضرب). فكذلك السلف تلمحوا الثواب فهان عليهم البلاء.

ما يهون المصيبة:

1- لا بد أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بالمصيبة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل البلاء ليهلكه ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه به ليمتحن صبره، ورضاه عنه، وإيمانه، ويسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحًا على بابه لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه، إن كان غافلاً فحري به أن يرجع إلى الحق، وإن كان تقيًا كان ذلك سببًا لرفع درجاته، قال الفضيل : إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{ [البقرة: 155].

2- أن المصيبة قد قدر وقوعها العليم الحكيم كما قال ﷺ‬: «كتب الله مقادير الخلائق قل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»، وقوله ﷺ‬ في الحديث الصحيح: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها» وقال سبحانه: }مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ{ [الحديد: 22]. ويقول ﷺ‬: «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك» قال ابن حجر: (أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير أو شر، فما أصابك فأصابته لك محتومة، ولا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه، محتومة، فلا يمكن أن يصيبك، لأنها سهام صائبة وجهت من الأزل، فلا بد أن تقع مواقعها) وقال الحسن: نعم والله أن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلاً أنه كائن في يوم كذا وكذا، في ساعة كذا، وكذا في الخاصة والعامة، حتى أن الرجل ليأخذ العصا، ما يأخذها إلا بقضاء وقدر، وقال ابن مسعود: (إن أول شيء خلقه الله عز وجل القلم فقال له: اكتب فكتب كل شيء يكون في الدنيا إلى يوم القيامة فيجمع بين الكتاب الأول، وبين أعمال العباد، فلا يخالف ألفًا ولا واوًا أو ميمًا ).

وقال ابن عباس في قوله سبحانه: }فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ{، يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، وهذا التقدير السنوي في ليلة القدر كالتفصيل من القدر السابق.

يقول ابن القيم في شفاء العليل: (وفي ذلك دليل على كمال  علم الرب وقدرته، وحكمته، وزيادة تعريف لملائكته،وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه، وقد قال سبحانه: }إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الجاثية: 29]، وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فتنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه فيثبت الله تعالى منه ما فيه ثواب، أو عقاب، ويطرح منه اللغو).

3- أن الصبر على المصيبة كنز عظيم من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم، فقد ابتلي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصبروا، بل أنهم من أشد الناس ابتلاءًا كما قال ﷺ‬: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلوهم ثم الذين يلوهم».

فالصبر سمة الأنبياء والصالحين قال سبحانه: }وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ{ [الأنبياء: 85]، وقد أثنى الله على أيوب عليه السلام لما ابتلي بالمرض فصبر: }إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ{ [ص: 44]، قال ابن القيم في عدة الصابرين: (فأطلق عليه نعم العبد لكونه وجده صابرًا وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد).

4- التسلية في بيان رحمة الله، وأن رحمته سبحانه وسعت كل شيء، وأنه كتب على نفسه الرحمة «وغلبت رحمتي غضبي».

5- العلم بأن المصاب ليس أول من أصيب بهذه المصيبة وهذا مما يهون وقع المصيبة عليه ولذلك أهل النار أغلق الله عز وجل عليهم الباب قال سبحانه: }وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ{ [الزخرف: 39]، وذلك زيادة في عذابهم، فمن فقد ولده فليحمد الله أن أبقى له أولاده الآخرون،  ومن أصيب بمرض فليتذكر من هو أشد منه مرضًا.

ذكر ابن الجوزي في عدة الصابرين قصة عروة بن الزبير لما قطعت قدمه جعل يقبلها ثم قال: أما الذي حملني عليك أنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية، ولا إلى ما لا يرضى الله، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت في قطيفة، ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما رآه ابن طلحة قال له:قد أبقى الله أكثرك عقلك، ولسانك، وبصرك، ويداك، وإحدى رجليك، فقال له: 0ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به).

قال شريح رحمه الله: (إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، إذ لم يجعلها في ديني).

6- ومما يهون المصيبة أن الله سبحانه قد أراد بعبده المبتلى خيرًا كما قال ﷺ‬: «إذا أراد الله بعبده خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده شرًا أمسك عنه بذنبه حتى يوفى به يوم القيامة» يقول الشيخ ابن عثيمين تعليقًات على هذا الحديث: (الإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، إما بماله، أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل بهم، المهم أن تعجل له العقوبة، لأن العقوبات تكفر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة، وكفر الله بها عن العبد، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب،وقد طهرته المصائب، والبلايا حتى أنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين، عليه حتى يخرج من الدنيا نقيًا من الذنوب، وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لكن إذا أراد الله بعبده شرًّا مهل له، واستدرجه، وأدر عليه النعم، ودفع عنه النقم حتى يبطر، ويفرح فرحًا مذومًا بما أنعم الله به عليه، وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته، فيعاقب بها في الآخرة، نسأل الله العافية ).اهـ.

 ثمرات الصبر:

1- جعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ{ [السجدة: 24].

2- تسليم الملائكة على الصابرين في الجنة: }سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ{ [الرعد: 24]، قال الفضيل: صبروا على ما أمروا به،وصبروا عما نهو عنه، وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة بالصبر }الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ{ [آل عمران: 17].

3- إن الله جمع أمورًا للصابرين لم يجمعها لغيرهم }أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ [البقرة: 157]، فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين.

4- معية الله للصابرين }وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{ [البقرة: 249].

5- نيل  الأجر بغير حساب، كما قال الله: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10]. قال سليمان بن القاسم:كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ قال: كالماء المنهمر، وقال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال لهم، وإنما يغرف لهم غرفًا، ويقول الشيخ ابن عثيمين تعليقًا على هذه الآية: (يعطون أجرهم بغير حساب لأن الأعمال الصالحة مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها على سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أما الصبر فإن مضاعفته تأتي بغير حساب من الله، وهذا يدل على أن أجره عظيم).

قال بعض السلف: إذا أعجبتك نفسك في قيام الليل فتذكر من هم أرفع منزلة منك، نائمون على فرشهم، هم أهل البلاء الصابرون.

6- الأجر العظيم للمصاب وإن تقادم عهد المصيبة، كما قال ﷺ‬: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» صحيح الجامع.

7- إن الصبر سبب لهداية القلوب، وزوال قسوتها، وحدوث رقتها، وانكسارها، فكم من غافل رجع إلى ربه عندما أصيب بمرض ؟ كم من لاه أقبل على مولاه عندما أصيب بفقد عزيز ويقول سبحانه: }وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ{ [التغابن: 11] قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى المسلم ومعنى الآية: أن من أصابته مصيبة فعلم أنها من قدر الله فصبر، واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه خيرًا منه كما قال سبحانه: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ{ [البقرة: 155- 156].

8- أن الصبر سبب في دخول الجنة، قال سبحانه: }إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ{ [المؤمنون: 111]، }أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ{ [آل عمران: 142]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت: بلى قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي ﷺ‬ وقالت: إني أصرع وإني أنكشف فادع الله لي قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك» ، قالت: أصبر، قالت: إني أنكشف فادع الله أن لا أنكشف، فدعا لها.

وفي الحديث القدسي: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة» حبيبتيه: عينيه.

9- أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام، ومقامات الإيمان كلها مقرونة بالصبر }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ{ قرنه بالأعمال الصالحة عمومًا: }إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{ [العصر: 3]، وجعله قرين التقوى: }إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ{، وجعله قرين الشكر }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{ [إبراهيم: 5]، وجعله قرين الصدق، }وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ{.اهـ. ابن القيم في عدة الصابرين.

10 - فتح أبواب من العبادات للمؤمن الصابر كالدعاء، والإخلاص، والإنابة: }وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ{ [الزمر: 8]،ومما يروى في هذا المجال أن أحد السلف لما برئ من مرضه فجاءوا يهنئونه، فلما فرغ الناس من كلامهم قال الفضل بن سهل: إن في العلل لنعمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للصبر، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، واذكار بالنعمة في الحال الصحة، واستدعاء للمثوبة وحض على الصدقة) وقد ذم الله أقوامًا لم يتضرعوا لله في حال البلاء }وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ{ [المؤمنون: 76].

11- محبة الله للصابرين }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{ [البقرة: 153] (دليل على أنه معان من قبل الله،وأن الله يعين الصابر ويؤيده ويكلؤه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله) ابن عثيمين.

12- محاسبة النفس والرجوع بها إلى فيء الطاعة قال بعض السلف: إنما جعلت العلل ليؤدب الله عباده (فالمؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه، وتضرعه، ولم يظهر عليه أثر الإجابة، يرجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرًا لأجبت، وهذا اللوم أحب إلي من كثير من الطاعات فإنه يوجب  انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء وأنه ليس بأهل لإجابة الدعاء فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله).اهـ. ابن رجب.

13- إن الصابر لا يغفل عن تعدد النعم: }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا{ [إبراهيم: 34]، قال بعض السلف: ذكر النعم يورث الحب لله، لما رأى رجل قرحة في يد محمد بن واسع ففزع منها قال له: (الحمد لله أنها ليست في لساني، ولا على طرف عيني) ورأى رجلٌ فقيرًا، مريضًا، كفيفًا مقعدًا وهو يردد: الحمد لله الذي فضلني على كثير من عباده فقال: يرحمك الله وبماذا فضلك ؟ قال: رزقني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وجسدًا على البلاء صابرًا، وأذكر في هذا المقام قصة إحدى الأخوات أصيبت بمرض نفسي فذهبت إلى طبيب نفسي فقال لها: اكتبي النعم التي تتمتعين بها، واكتبي المصائب، التي تعانين منها، تقول بعد عودتي، أخذت القلم لأكتب النعم والمصائب، فاستحييت كم يا ترى ستأخذ النعم من وقتي لأكتبها، وكم ستأخذ مني المصائب إنها لا تتجاوز الصفحة!! قال سبحانه: }إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ{ [العاديات: 6]، قيل في تفسيرها: الكنود الذي يعد المصائب وينسى النعم.

14- تكفير السيئات وزيادة الحسنات، قال بعض السلف: لولا المصائب لوردنا الآخرة مفاليس، وقال ﷺ‬: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب،ولا هم،ولا حزن، ولا أذى،ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» قال الحراني: (يكفر عنه بالشوكة يشاكها، حتى بالقلم الذي يسقط من الكاتب فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه، وآخرته، حتى يموت على طهارة من دنسه، وفراغ من جناياته، كالذي يتاعهد ثوبه وبدنه بالتنظيف ) يقول ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: (فإذا أصبت بمصيبة فلا  تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك،ولو كان شوكة لا تظن أنه يذهب سدى، بل ستعوض عنه خيرًا منه، ستحط عنك الذنوب،كما تحط الشجرة ورقها، وهذا من نعمة الله.

وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر ( الاحتساب): أي احتساب الأجر كان له هذا الأجر، فالمصائب تكون على وجهين:

أ- تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله، فيكون فيها فائدتان: تكفير الذنوب وزيادة الحسنات.

ب- وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويغفل عن نية الاحتساب والأجر على الله، فيكون في ذلك تكفيرًا لسيئاته، وإذا هو رابح، على كل حال، في هذه المصائب التي تأتيه فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب، بدون أن يحصل له أجر، لأنه لم ينوي شيئًا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر، وإما أن يربح شيئين مما تقدم، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة فليتذكر الاحتساب من الله على هذه المصيبة وهذا من نعمة الله سبحانه وجوده، وكرمه حيث يبتلى المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى، أو يكفر عنه سيئاته فالحمد لله رب العالمين ) اهـ.

15- إن النصر مع الصبر،وأن الفرج مع الكرب، كما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، ويشمل النصر في الجهادين جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيها نصر، وظفر بعدوه، ومن لم يصبر فيها وجزع وقهر صار أسيرًا لعدوه، أو قتيلاً له.

ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى حصل للعبد الإياس من كشفه، من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده،وهذا هو حقيقة التوكل على الله ومن أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال: }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ{ [الطلاق: 3].

نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون مع الصابرين والشاكرين العابدين، المتقين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. انتهى.



([1]) لما في ذلك من التسخط على المصيبة.