×
التوكل على الله من أعظم أسباب قوة الأمة وثباتها وبقائها، ونهضتها وتفوقها على أعدائها، فالتوكل يقوي العزائم، ويطرد المخاوف، ويورث القلب قوة وثباتًا وقدرة على مواجهة الشدائد، وهذه المقالة تتحدث عن التوكل في الكتاب والسنة، وعظم منزلته، وأقوال بعض الأئمة فيه، ودرجته، وبعض ثماره.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيين، وأعظم المتوكلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...

    فلا يخفى على أحد أننا نعيش في عصر طغت فيه الماديات، وقلت فيه الروحانيات، وكثرت فيه الملهيات، ووثق فيه الناس بالدرهم والدينار، فتعلقت أنفسهم بالدنيا تعلقًا شديدًا، وتكالبوا على طلبها من كل وجه، واعتمدوا في ذلك على الأسباب اعتمادًا كليًا، وغفلوا عن اللجوء إلى مسبب الأسباب سبحانه، فضعف عندهم جانب التوكل على الله، فازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وهوانًا على هوانهم، فمنهم من اطمأن إلى ما عنده من الأموال والضياع، ونسي حق الله فيما عنده من متاع، ولسان حاله يقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78] فلماذا أبدد مالي على حثالة الناس وفقرائهم ودهمائهم؟

    ومنهم من آثر الراحة والبطالة، والكسل والخمول، اعتمادًا على ما يأتيه من صدقات وزكوات، فقعد عن العمل، وترك السعي والتكسب وقال: إنني من المتوكلين!!

    ومنهم من قصر في جانب النصح، ونكص عن القيام بواجب الإصلاح؛ خوفًا من الإيذاء وحفاظًا على المكانة الاجتماعية التي يتمتع بها.

    ومنهم من جبن عن ملاقاة الأعداء، وفر من بريق السيوف قبل اللقاء، وآثر التنازل عن المبادئ والتسليم للباطل؛ طلبًا للسلامة، وحرصًا على الحياة.. ولا يعلم هؤلاء جميعا أنهم على خطر عظيم، وأن ما يفعلونه هو الهلاك المحتم والضياع المبين.

    إن التوكل على الله من أعظم العبادات القلبية التي تضمن للفرد استقرارًا نفسيًا، ورقيًا ماديًا، وفوزًا أخرويًا.

    إن التوكل على الله من أعظم أسباب قوة الأمة وثباتها وبقائها، ونهضتها وتفوقها على أعدائها.

    إن التوكل على الله يقوي العزائم، ويطرد المخاوف، ويورث القلب قوة وثباتًا، وقدرة على مواجهة الشدائد.

    التوكل في الكتاب والسنة

    أمر الله تعالى بالتوكل عليه، وبين أن التوكل عليه من أخص صفات عباده المؤمنين، وبين أنه يحب المتوكلين، وأشار إلى عظيم ثوابهم وأجرهم فقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]. وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159] وقال عن أنبيائه ورسله: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ [إبراهيم: 12] وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].

    وأما الأحاديث في فضل التوكل، فمنها حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وفيه قال النبي ﷺ‬: «هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» [متفق عليه].

    وعن عمر t قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي وحسنه].

    معناه: تذهب أول النهار خماصًا أي ضامرة البطون من الجوع، وترجع آخر النهار ممتلئة البطون.

    والتوكل على الله يثبت القلوب والأقدام على طاعة الله، ويؤمن النفوس من المخاوف وقت المحن والشدائد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم ﷺ‬ حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ‬ حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» [رواه البخاري].

    ومن ذلك أيضًا ما رواه جابر t أنه غزا مع النبي ﷺ‬ قبل نجد، فلما قفل رسول الله ﷺ‬ قفل معهم، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ([1])، فنزل رسول الله ﷺ‬ وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ‬ تحت سمرة ([2])، فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رسول الله ﷺ‬ يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: «إن هذا اخترط ([3]) علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا ([4]). قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله – ثلاثًا «ولم يعاقبه وجلس» [متفق عليه].

    وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في صحيحه: قال: من يمنعك مني؟ قال: الله، قال: فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله ﷺ‬ السيف فقال: «من يمنعك مني؟» فقال: كن خير آخذ، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فقال: جئتكم من عند خير الناس.

    عظم منزلة التوكل

    قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة.

    ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين،... فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه وتنفيذ أوامره.

    ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية، أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك.

    فأفضل التوكل: التوكل في الواجب، أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس.

    وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في جلب مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمنهم متوكل على الله في حصول الملك، ومنهم متوكل في حصول رغيف!!

    ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه، وإن كان مباحًا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته، والله أعلم»([5]).

    أقوال الأئمة في التوكل

    1- قال ابن عباس رضي الله عنهما: التوكل هو الثقة بالله.

    2- وقال الإمام أحمد: هو قطع الاستشراف بالإياس من الخلق.

    3- وقال الحسن: هو الرضا عن الله تعالى.

    4- وقال حمدون القصار: هو الاعتصام بالله تعالى.

    5- وقال شقيق البلخي: التوكل هو طمأنينة القلب بموعود الله عز وجل.

    6- وقال بعضهم: التوكل: التعلق بالله في كل حال.

    7- وقيل: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه.

    8- وقال ابن رجب الحنبلي: «هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ([6]).

    درجات التوكل

    قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها، وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر، ثم ذكر رحمه الله درجات التوكل وهي:

    الدرجة الأولى: معرفة الرب وصفاته:

    من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

    الدرجة الثانية: إثبات الأسباب:

    فإن من نفاها فتوكله مدخول. فلا يستقيم توكل العبد إلا بإثبات الأسباب؛ لأن التوكل ذاته من أقوى الأسباب في حصول المطلوب واندفاع المكروه، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.

    الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد:

    فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك، فتوكله معلول مدخول.

    الدرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله، واستناده وسكونه إليه، والثقة بتدبيره، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها، كما قال بعضهم: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي أمه. كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه.

    الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل:

    فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له، يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق أن حسن الظن به يدعو إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.

    الدرجة السادسة: استسلام القلب له:

    وبهذا فسره من قال أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد، فالاستسلام: تسليم العبد الذليل لسيده، وانقياده له، وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده.

    الدرجة السابعة: التفويض:

    وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به طلبًا واختيارًا لا كرهًا واضطرارًا ([7]).

    وقال البيهقي: وحين أمر بالإجمال في الطلب علمنا أنه لم يمنع من الكسب أصلاً، ولكن كره له شدة الحرص، وكثرة الهم، فِعْلَ من يرى أن رزق الله إنما يحصل بجده وجهده، دون تقدير خالقه ورازقه.

    وعن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون إلى مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].

    قال الحليمي: وهو ألا يتوكل على أزواد الناس، فيؤذيهم، ويضيق عليهم، ومن دخل البادية بلا زاد متوكلاً، فإنما يرجو أن يقيض الله تعالى من يواسيه من زاده، وهذا عين ما أشارت الآية إلى المنع منه، فبان أنه لا معنى لاستحبابه، وإنما المستحب هو التزود أو الجلوس إذا لم يكن زاد حتى يكون ([8]).

    ثمرات التوكل

    للتوكل ثمرات جليلة وفوائد كثيرة نطقت بها الآيات البينات، وأفصحت عنها الأحاديث النبويات، وتضمنتها أقوال أئمتنا الثقات، ومن ذلك:

    1- حصول الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].

    2- حصول التوفيق؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

    3- النجاة من فتنة الشيطان؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة: 10].

    4- محبة الله عز وجل: لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

    5- الكفاية من كل وجه؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 3]. والوكيل هو الذي يقوم بأمر موكله، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]. أي: كافيه.

    6- حصول الثبات؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51].

    7- حصول النصر والتمكين؛ لقوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].

    8- يورث السلامة من كل سوء؛ لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عمران: 173-174].

    9- يجلب الرزق من حيث لا يحتسب المرء؛ لحديث الطير: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا» [رواه الترمذي وحسنه].

    10- يورث الثقة بالله، ولذلك ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التوكل هو الثقة بالله تعالى.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ([1]) العضاه: شجر له شوك.

    ([2]) السمرة: الشجرة من الطلح.

    ([3]) اخترط: أي سله وهو في يده.

    ([4]) صلتا: أي مسلولاً.

    ([5]) مدارج السالكين: (2/114).

    ([6]) انظر: التوكل على الله وعلاقته بالأسباب ص(18-20).

    ([7]) انظر: مدارج السالكين (2/118-122) بتصرف واختصار.

    ([8]) شعب الإيمان للبيهقي: (2/81) وما قبلها.