حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعـد:
قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{ [المنافقون: 9 - 11].
أخي في الله:
إنَّ من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة أيقن أنَّ نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشتها كبَد ونكد، وصوفها كدر، وأهلها منها على وجل، إمَّا نعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية .. مسكين ابن آدم، رَضِيَ بدار حلالها حساب، وحرامها غرم وعقاب، إن أخذه من حلِّه حُوسب عليه، وإن أخذه من حرامٍ عُذِّب به، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها سخط وحزن، من أحبها أذلَّته، ومن نظر إليها أعمته، والناس فيها طائفتان:
طائفة فطناء علموا أنها ظلٌّ زائلٌ ونعيمٌ حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نِعَمٌ في طيِّها نقم، وعرفوا أنَّ هذه الحياة الفانية طريق إلى الحياة الباقية، فرضوا منها باليسير، وقنعوا فيها بالقليل، فاستراحت قلوبهم وأبدانهم، وسلم لهم منها دينهم، وكانوا عند الله تعالى من المحمودين .. لم تشغلهم دنياهم عن طاعة مولاهم، جعلوا النفس الأخير وما وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدنيا وإيمانهم سالم لهم، وما الذي يبقى معهم منها في قبورهم، وما الذي يتركوه للورثة من بعدهم في الدنيا، ومن لا يغنيهم من الله شيئًا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، أدركوا كلَّ هذا فتأهَّبوا للسفر وأعدُّوا الجواب للحساب وقدَّموا الزاد للمعاد }خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى{..
طُوبى لهم، خافوا فأمنوا، وأحسنوا ففازوا.
وطائفةٌ أخرى جُهلاء عمي البصائر لم ينظروا في أمرها، ولم يتكشَّفوا سوء حالها ومآلها، برزت لهم بزينتها ففتنتهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنُّوا حتى ألهتهم عن الله تعالى وشغلتهم عن ذِكره وطاعته: }نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ [الحشر: 19].
نعم .. إنهم نسوا الله، أهملوا حقوقه وما قدروه حق قدره، ولم يراعوا لانهماكهم في الدنيا موجبات أوامره ونواهيه لذا }فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{ جعلهم بسبب ذلك ناسين لها حتى لا يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يُخلِّصها، وسيرون يوم القيامة من الأهوال ما يُنسيهم أرواحهم ويجعلهم حيارى ذاهلين }يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{ [الحج: 2].
* قال بعض السلف: "اجتهادك فيما ضُمِن لك مع تقصيرك فيما طُلب منك دليلٌ على انطماس البصيرة منك"
أقاموها فهدمتهم، واعتزُّوا بها من دون الله فأذلَّتهم، أكثروا فيها الآمال وأحبُّوا طويل الآجال ونسوا الموت وما وراءه من أهوال ومخاوف فخاب أملهم وضلَّ سعيهم وخسروا الدنيا ولم يدركوا الآخرة.
ركنوا إلى الدنيا الدنيَّهْ | ||||
وتبوَّءوا الرتب العليَّهْ | ||||
حتى إذا غروا بها | ||||
صرعتهم أيد المنيَّه | ||||
أخي في الله:
إنَّ من غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، ثم اشتدَّت عليه حسراته، وأيَّة حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجَّة وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقوة؟!
إنَّ الزمان وتقلباته أنصح المؤدِّبين، وإنَّ الدهر بقوارعه أفسح المتكلِّمين، فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه .. ورد في الأثر "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا".
أخي في الله:
هل تذكَّرت الموت وسكراته وشدَّة هوله وكرباته وشدَّة نزع الروح منك؟ فإنَّ الموت كما قيل "أشدُّ من ضربٍ بالسيوف ونشرٍ بالمناشير وقرضٍ بالمقاريض"، فتفكَّر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعدٍ ما أصدقه، ومن حاكمٍ ما أعدله .. كفى بالموت مُقرِحًا للقلوب ومُبكِيًا للعيون ومُفَرِّقًا للجماعات وهادِمًا للذَّات وقاطِعًا للأمنيات، فهل تفكَّرت يا ابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك؟ وإذا نُقِلت من سِعَةٍ إلى ضيقٍ وخانك الصاحب والرفيق وهجرك الأخ والصديق وأُخِذتَ من فراشك وغطائك إلى الحفر، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر!
فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالٍ إلاَّ الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ فهل أنقذك من الأهوال؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك إلى من لا يعذرك.
فجديرٌ بمن الموت مصرعه والتراب مضجعه والدود أنيسه ومُنكَر ونَكير جليسه والقبر مقرُّه وبطن الأرض مستقرُّه والقيامة موعده والجنة أو النار مورده؛ ألاَّ يكون له فكرٌ إلاَّ في ذلك ولا استعداد إلاَّ له.
قال الحسن البصري رحمه الله: "فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لبٍّ فرحا، وما ألزم عبدٌ قلبه ذِكر الموت إلاَّ صغرت في عينه الدنيا، وهان عليه كلُّ ما فيها".
ونظر ابن مطيع يومًا إلى داره فأعجبه حُسنها ثم بكى وقال: "والله لولا الموت لكنتُ بك مسرورا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرَّت بالدنيا أعيننا".
وقال عمر بن عبد العزيز: "ألا ترون أنكم تُجهِّزون كلَّ يومٍ غاديًا أو رائحًا إلى الله عزَّ وجلَّ، تضعونه في صدع الأرض، قد توسَّد التراب وخلَّف الأحباب وقطع الأسباب".
أخي في الله:
لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كربٌ ولا هولٌ ولا عذابٌ سوى سكرات الموت بمجرَّدها لكان جديرًا بأن يُنغِّص عليه عيشه ويتكدَّر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، ولكان حقيقٌ بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده ويقف مع نفسه وقفةً للمحاسبة الجادة التي تُهوِّن عليه شيئًا من هذا، لاسيَّما وهو في كلِّ نفس بصدده، فالموت كما قيل: "كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك".
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده المباركة فيها ويمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله، إنَّ للموت لسكرات»، ثم نصب صلى الله عليه وسلم يده وجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قُبِضَ ﷺ ومالت يده.
رواه البخاري
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علوِّ مكانته وعظيم قدره وجليل شرفه وسموِّ منزلته عند الملك سبحانه وتقدَّس، فهو أحبُّ خلق الله إلى الله. ومع ذلك فقد وقع به من شدَّة الموت وسكراته وكرباته ما الله به عليم، فكيف بك أنت أيها المسكين؟!
فحريٌّ بنا أن نبكي طيلة عمرنا على ما سينزل بنا عند الموت، نسأل الله العافية.
والموت ليس له سنٌّ معلومٌ ولا زمنٌ معلومٌ ولا مرضٌ محتوم، وذلك ليكون المرء على أُهبَة من ذلك ومستعدًّا له. وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: "الرحيل الرحيل" فلمَّا مات فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل: إنه قد مات. فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره | ||||
حتى أناخ برحله الجمالُ | ||||
فأصابه متيقظًا مُتشمِّرًا | ||||
ذا أهبة لم تُلهِه الآمالُ | ||||
* وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد، من ذا يصلِّي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟"، ثم ينادي في الناس:
"أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه والقبر بيته والتراب فراشه والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟"، ثم يبكي حتى يسقط مَغشِيًّا عليه.
أخي المسـلم:
هل تذكَّرت القبر وظُلمته وضيقه ووحشته؟ هل تذكَّرت ذلك المكان الضيق الذي يضمُّ بين جوانبه جُثث الموتى من عظيمٍ وحقيرٍ وحكيمٍ وسفيهٍ وصالحٍ وطالح؟ والقبر إمَّا روضة من رياض الجنة أو حُفرةٌ من حُفر النار، وإما دار كرامة وسعادة أو دار إهانة وشقاوة. فوا عجبا لأهل المعاصي والذنوب؛ كيف هم مُصِرُّون على المعاصي ولا يقلعون وهم يعلمون أنهم إلى القبور صائرون؟! ثم وا عجبًا لأهل الغفلة والإعراض؛ كيف لا ينتبهون من غفلتهم ويستيقظون من سباتهم وهم يعلمون أنهم غدًا في اللحود مقيمون؟!
أخي:
هل تذكَّرتَ أول ليلةٍ في القبر؟! حيث لا أنيس ولا جليس ولا صديق، ولا رفيق، ولا زوجة ولا أطفال، ولا أقارب ولا أعوان ولا أحوال: }ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ{ [الأنعام: 62].
فارقتُ موضع مرقدي | ||||
يومًا ففارقني السكون | ||||
القبر أول ليلة | ||||
بالله قل لي ما يكون؟ | ||||
* لَمَّا رجع عليُّ t من صفين وأشرف على القبور قال: "يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرطٌ سابق، ونحن لكم تبعٌ لاحق، أمَّا الدُّور فقد سُكِنت، وأما الأزواج فقد نُكِحت، وأمَّا الأموال فقد قُسِّمَت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟!"
ثم التف إلى أصحابه فقال: "أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنَّ خير الزاد التقوى".
* قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لبعض جلسائه: " ... يا فلان، لقد أرقت الليلة أتفكَّر في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قُربه بعد طول الأنس منك به، ولرأيتَ بيتًا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان، مع تغيُّر الريح وبِلَى الأكفان بعد حُسن الهيئة، وطيب الريح ونقاء الثوب".
* عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: رأيت رجلاً يبكي قلت: وما يبكيك؟ قال: أبكاني كلامه. قلت: ما هو؟ قال: كنا وقوفًا في المقابر، فأنشدوا:
أتيت القبور فساءلتها | ||||
أين المعظَّم والمحتقَر | ||||
وأين المذِلُّ بسُلطانه | ||||
وأين القويُّ على ما قدر | ||||
تفانوا جميعا فما مخبر | ||||
وماتوا جميعا ومات الخبر | ||||
فيا سائلي عن أناس مضوا | ||||
أما لك فيما مضى معتبر | ||||
تروح وتغدو بذاك الثرى | ||||
فتمحى محاسن تلك الصور | ||||
أخي في الله:
هل تذكَّرت النفخ في الصور والبعث يوم النشور، وتطاير الصحف، والعرض على الجبار والسؤال عن القليل والكثير، ونصب الميزان لمعرفة المقادير، ثم جواز الصراط، ثم انتظار النداء عند فصل القضاء، إما بالسعادة وإما بالشقاوة.
فمثِّل نفسك وقد بُعِثت من قبرك مبهوتًا من شدَّة الصاعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورةً واحدةً من القبور مفزوعين من شدَّة النفخ، ووقفوا في ذلٍّ وانكسار، منتظرين لِمَا يُقضَى عليهم، فكيف حالك وحال قلبك، فالقلوب منفطرة، والأبصار شاخصة والأعناق منكسرة، فتأمَّل يا مسكين في طول هذا اليوم وشدَّة الانتظار فيه، والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار جلَّ جلاله، ثم انظر كيف يُساقون بعد البعث والنشور حفاةً عراةً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، قاع صفصف لا ترى فيها عِوَجًا ولا أمتًا .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها مَعلَم لأحد» متفق عليه.
وقال الله تعالى: }يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا{ [مريم: 85 ، 86].
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ "ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نُوق رحالها الذهب، ونجائب سُرجها يواقيت، إن هموا بها سارت وإن همُّوا بها طارت" أ.هـ.
أما المجرمين فإنهم يُساقون عِطَاشًا، قد تقطَّعت أعناقهم من العطش، ولكنهم لا يُردُّون إلى ماء، بل إلى جهنم وجحيمها وحميمها، قال تعالى: }وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا{ [الإسراء: 97].
فيا أخي المسلم:
ألم يأنِ لك أن تُدرك حقيقة هذه الدار؟ أما علمت أنَّ حياتها عناء ونعيمها ابتلاء، جديدها يُبلَى، ملكها يفنى، ودّها منقطع، وخيرها مُنتزَع، المتعلِّقون بها على وجلٍ، إمَّا في نِعَمٍ زائلة أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية }يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{ [غافر: 39]..
العمر قصير والسفر طويل والزاد قليل، والخطر محدق وكبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بَقِيَ لا يدري ما الله قاضٍ فيه.
وإذا كان الأمر كذلك أخي الحبيب، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزوَّد من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لِهِرَمِه، ومن صحَّته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن غناه لفقره، فما بعد الموت من مُستعتَب، ولا بعد الدنيا سِوَى الجنة أو النار، ومن أصلح ما بينه وبين ربِّه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، فلا بدَّ من وقفةٍ للمحاسبة، والمحاسبة الصادقة هي ما أورقت عملاً، فعليك يا عبد الله أن تستدرك ما فات بما بَقِيَ، فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسُّر من غير عمل، واعلم أنَّ من أصلح ما بَقِيَ غُفِر له ما مَضَى، ومن أساء فيما بَقِيَ أُخِذَ بما مضى وبما بَقِيَ، والموت يأتيك بغتة، فأعطٍ كلَّ لحظة وكلَّ نفس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن والخسارة نارٌ تلظَّى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك.
فيا أخي المسلم الحبيب:
هل خلوتَ بنفسك يومًا فحاسبتها عمَّا بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يومًا أن تعدَّ سيئاتك وزلاَّتك ومعاصيك كما تَعدُّ حسناتك؟ بل هل تأمَّلت يومًا طاعتك التي تفتخر بذكرها فوجدت أنَّ كثيرًا منها مشوبًا بالرياء والسمعة وحظوظ النفس؟ فكيف تصبر على هذه الحال وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت مُحمَّلٌ بالأثقال والأوزار؟
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{ [الحشر: 18].
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عُمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم» رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا".
وفي رواية: "... وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم في الحساب غدًّا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر }يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ{ [الحاقة: 18].
ذكره الترمذي في صفة القيامة وقال: حديث حسن.
فحريٌّ بك أن تقف مع نفسك هذه الوقفة، وتحاسب نفسك هذه المحاسبة؛ فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، ومثل طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما زاد شربًا منه كلما زاد عطشًا حتى يقتله، ولو فكَّر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع، ولو تذكر الجامع فضول مآلها لشبع، فأنت من الشباب إلى الهرم ومن الصحة إلى السقم، ومن الوجود إلى العدم. وكان ميمون بن مهران يقول:
"يا معشر الشيوخ ما يُنتظر بالزرع إذا ابيضَّ؟ قالوا: الحصاد، فنظر إلى الشباب فقال: إنَّ الزرع قد تُدركه الآفة قبل أن يُستحصَد، وقبيح بالشباب تأخير التوبة، وأقبح منه تأخير الشيوخ".
فخُذ من صحتك لمرضك ومن فراغك لشغلك ومن حياتك لموتك، وكن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وقل لنفسك:
ألا يا نفس ويحك ساعديني | ||||
بسعي منك في ظلم الليالي | ||||
لعلك في القيامة أن تفوزي | ||||
بطيب العيش في تلك العلالي | ||||
* كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى بعض عماله يقول له: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
* وقال الحسن - رحمه الله: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت أن تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه".
* وقال أيضًا: "إنَّ العبد لا يزالُ بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه وكانت المحاسبة همَّته".
* وقال أيضًا: "المؤمن قوَّامٌ على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.. إنَّ المؤمنين قومٌ أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. إنَّ المؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذٌ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذٌ عليه في ذلك كله".
* وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك".
* وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عزَّ وجلَّ فكان لها قائدًا".
* وكان الأحنف بن قيس رضي الله عنه يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول: "حسَّ يا حُنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟".
فانظر ـ يا رعاك الله ـ كيف حال القوم من العمل والاجتهاد وشدَّة المحاسبة لأنفسهم! وانظر إلى حالنا! ومعرفة الحال تغنيك عن الكلام! فهل اقتدينا بهم؟!
وتكون محاسبة النفس كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله:
أولاً- البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.
ثانيًا- المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والإنابة والحسنات الماحية.
ثالثًا- محاسبة النفس على الغفلة والإعراض، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.
رابعًا- محاسبة النفس على حركات الجوارح: كلام اللسان ومشي الرجلين ونظر العينين وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أيِّ وجهٍ فعلته.
أخي الكريم:
اعلم رحمني الله وإياك أنَّ محاسبة النفس أمرٌ عسيرٌ عليها، وتوجد معوقات كثيرة لذلك، لكن هناك أمور تُعين على هذه المحاسبة وتقوِّي بواعثها في النفس، ومن أبرزها:
1- استشعار رقابة الله على العبد واطلاعه على خفاياه، فإذا علم العبد ذلك استيقظ من غفلته وقام من رقاده، وقويت إرادته على محاسبة نفسه ومجاهدتها.
-2 معرفة العبد أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غدًا، وكلَّما أهملها اليوم اشتدَّ عليه الحساب غدًا.
3- تذكُّر الحساب الأكبر والسؤال بين يدي الجبار جلَّ جلاله يوم القيامة، فإذا علم العبد أنه مسؤولٌ بين يدي الله فيجب عليه أن يعدَّ لكلِّ سؤالٍ جواب، ومن هنا كان أشدَّ محاسبةً لنفسه.
-4معرفة العبد أنَّ ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكن الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
-5 النظر فيما يؤول إليه من ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار ودخول النار والحجاب عن الربِّ سبحانه وتعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
6- صحبة الأخيار الذي يحاسبون أنفسهم ويُطلعونه على عيوب نفسه وترك صحبة من عداهم.
7- النظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته ومعرفة أخبار وسير أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
-8 زيارة القبور والتأمُّل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم.
9- حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير؛ فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
10- قيام الليل وقراءة القرآن والتقرُّب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
11- البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تُنسِي الإنسان محاسبة نفسه.
12- ذِكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعلك من أهل المحاسبة
إخواني في الله:
من التزم بما سبق فإنه وبفضل الله لا يعدم بأن يجني بعض ثمار تلك المحاسبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة .. وفوائد محاسبة النفس كثيرةٌ جدًّا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- الاطلاع على عيوب النفس، ومن لم يطَّلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته.
2- التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان.
3- معرفة حقِّ الله تعالى، فإنَّ أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حقِّ الله تعالى.
4- انكسار العبد وزلَّته بين يدي ربِّه تبارك وتعالى.
5- مقت النفس والإزراء عليها والتخلُّص من العجب والرياء.
6- رد الحقوق إلى أهلها وسل السخائم وحسن الخلق.
هذا وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
* * *