كيف تحاسب نفسك؟
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بمحاسبة النفوس، وجعل عملها للصالحات خيرًا من الجلوس، وغناها بالطاعة زوالاً للبؤوس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي رفع بالمحاسبة الرءوس، وطهَّر بها الأموال من المُكُوس، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، طبيب النفوس، أَمَرَ بمحاسبة النفس قبل اليوم العبوس، صلى الله عليه وسلم كلما حوسبت النفس وأُزيل الرِّجس، وعلى آله وصحبه ومَن سارَ على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه يجب على المسلم الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ رسولاً، أن يتقي الله الذي عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبت أن تحملها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً؛ ليعذِّب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورًا رحيمًا.
* * * *
حين تضيعُ المحاسبة
إن من أعظم الأمانات أمانة النفس؛ فهي أعظم من أمانات الأولاد، وأعظم من أمانات الأموال، أقسم الله بها في كتابه، ولا يقسم الله إلا بعظيم. قال تعالى: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{ [الشمس: 7].
وقد جعل الله لهذه النفس طريقين: طريق تقوى، وبه تفوز وتفلح، وطريق فجور، وبه تخسر وتخيب، قال تعالى: }فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ [الشمس: 8-10].
والناظر في حال الناس اليوم يرى رخص النفوس عند أهلها، ويرى الخسارة في حياتها؛ لعدم محاسبتها، حتى أصبحت حياتهم تمر وما كأنها إلا ساعة؛ يقول تعالى: }وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ{ [الروم: 55]، ويقول تعالى: }فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ{ [الأحقاف: 35]، وتمر، وما كأنها إلا يوما أو بعضَ يوم. يقول تعالى: }قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ{ [المؤمنون]. والذين فقدوا محاسبة نفوسهم يتحسَّرون في وقت لا ينفع فيه التحسُّر؛ يقول تعالى: }أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ{ [الزمر: 56]، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا؛ ليعلموا عملاً صالحًا، فلا يُمَكَّنون. يقول تعالى: }وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ{ [السجدة: 12]، ويُقْدمون على ربهم كعبد أَبَق عن سيِّده ثم أُعيد إليه يستقبله بالقيود والسلاسل والسجن والضرب والنكال، ويكرهون لقاء الله، ومَن كَرِه لقاء الله كَره الله لقاءه، ويكرهون الموت؛ لأنهم عمَّروا الدنيا وأخربوا الآخرة؛ فهم يكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب.
ودعاتهم إلى الضياع والخسارة هم عباد الدنيا الذين جعلوا دنياهم لهوًا ولعباً وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا من الأموال والأولاد، وجعلوها إفلاسًا. يقول تعالى: }مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ{ [الشورى: 20]، وجعلوها متاعًا زائلاً لا يُسمن ولا يُغني من جوع. يقول تعالى: }إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{ [غافر: 39].
وبترك محاسبة النفس تسلَّطَ الشيطان الذي دعا إلى المعصية، وحذَّر من الطاعة، وزيَّن الباطل، وثبَّط عن العمل الصالح، وصدَّ عنه وأفسده، وأشغل بما لا نفع فيه.
وبترك محاسبة النفس تمكنت الغفلة من الناس؛ فأصبح لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون. يقول تعالى: }وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{ [الأعراف: 179].
وليعلم المسلم أنه لن يَسْلم من هذه الخسارة والضياع إلا من اتَّصف بأربع صفات:
* صفات الإيمان التي يحصل بها الأمن في الدنيا والآخرة.
* صفة العمل الصالح التي يحصل بها الصلاح في الدنيا والآخرة.
* صفة التواصي بالحق التي تحصل بها النصيحة الواجبة، ويحصل بها حب الخير للغير.
* صفة التواصي بالصبر: فإنه لا ثمرة لأي عمل إلا بالصبر، وهو من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. يقول تعالى: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر: 1-3]. قال الإمام الشافعي: لو لم يُنْزِل الله على خلقه حُجَّة إلا هذه السورة لكفتهم.
* * * *
كيف تحاسب نفسك؟!
وحتى نتصف بهذه الصفات ونحظى بهذه الكرامات فإنه لابدَّ من محاسبة النفس؛ لتعود إلى فطرتها التي فطرها الله عليها، }لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ [الروم: 30]، ولتقوم بحق ربها فتعبده ولا تُشرِك به شيئًا، وتحفظ دنياها وأُخراها.
ولأهمية محاسبة النفس أَمَرَ الله تعالى بها في كتابه فقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ{ [الحشر: 18-20]، وَوَعَدَ الله بالجنَّة لمَن حاسب نفسه، يقول تعالى: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ [النازعات: 40، 41]، ويقول ﷺ: «حفَّت الجنَّة بالمَكَارِه».
والنفوس ثلاثة أقسام:
1- نفس مليئة بالخير مستجيبة لله مراقبة له تشبه الملائكة، تسعى لغذاء الروح، همُّها الآخرة، كأنما تراها رأي العين، دائمة المحاسبة، لا تكل، ولا تمل، اشتغالها بإرضاء ربها وكثرة ذكره وشكره، وهذه النفس هي التي رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا، وهي النفس التي استعدَّت للقاء الله تعالى، حتى لو قيل بأن القيامة يوم غد- ما وجَدَتْ للعمل الصالح مزيدًا، وهي النفس التي أحبَّت لقاء الله فأحبَّ الله لقاءها، وتسمَّى هذه النفس }النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{، يقول تعالى: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي{ [الفجر: 27-30]، ويقول تعالى: }أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{ [الرعد: 28]، وقد وَرَدَ في سيرة ابن عباس أنهم لمَّا دفنوه سمعوا قارئًا يقرأ: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{...الآيات.
2- والنفس الثانية: نفس لا تثبت على حال واحدة فهي كثيرة التقلُّب والتلوُّن، فتَذْكُر وتَغْفَل، وتُقْبل وتَعْرِض، وتُحِبُّ وتُبْغِض، وتَفْرَح وتَحْزَن، وتَرْضى وتَغْضَب، تلوم صاحبها على ترك الطاعات وعلى فعل السيئات، وهذه النفس بين نوازع الخير ونوازع الشر، وبين جاذبيتي العقل والشهوة، وتسمى هذه النفس (النفس اللوامة)، وقد أقسم الله تعالى بها فقال: }لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ{ [القيامة: 1، 2].
3- والنفس الثالثة: نفس مليئة بالشر مطاوعة للشيطان، عاصية للرحمن، بعيدة عن التقوى، قريبة من الهوى، ركونها إلى الدنيا، تميل إلى الطبيعة الدنية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وتسمى هذه النفس (النفس الأمَّارة بالسوء)، يقول الله تعالى عن هذه النفس وهو يحكي قصة امرأة العزيز: }وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ{ [يوسف: 53]. وقد كان ﷺ يتعوَّذ من هذه النفس؛ إذ يقول في خطبة الحاجة: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»، ويقول: «أعوذ بك من شر نفسي».
ومحاسبة النفس أمر مطلوب؛ لأنه قيام بأمر الله تعالى، وازدياد من الحسنات، ومسابقة إلى الخيرات، ومَنع للنفس من الأهواء والشهوات، وترك للسيئات، واقتداء بالأنبياء عليهم السلام؛ فمما ورد في صحف إبراهيم: «أربع ساعات لا ينبغي لعاقل أن يغفل عنهن: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يتفكر في خلق السموات والأرض، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة لنفسه وأهله».
* وروي أن داود u «كان يُقَسِّم وقته إلى أربعة أقسام: ساعة يعبد فيها ربه، وساعة يحكم فيها ويقضي بين الناس، وساعة يدعو فيها إلى الخير، وساعة لمطعمه ومشربه وأهله». وصاحب هذا التقسيم وهذا الحرص على الخير والسبق إلى النجاة كان يصوم يومًا ويُفطِر يومًا، وكان يقوم ثلث الليل، وينام نصفه.
* وكان سليمان u يتفقَّد الخيل ويعدها للجهاد في سبيل الله تعالى، فأشغلته عن ذِكْر الله فقام بذبحها وتقطيع سيقانها، وقسَّم لحمها بين الفقراء والمساكين قربة إلى الله تعالى وتأديبًا لنفسه، فعوَّضه الله بهذه المحاسبة مكان الخيل الريح تقطع في غُدْوَة أو رَوْحَة ما كانت تقطعه الخيل في شهر. قال تعالى: }وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ{ [سبأ: 12].
ومن أكثر الخلق محاسبة لنفسه رسول الله ﷺ؛ فقلبه سليم، ولسانه ذاكر، وبصره محفوظ، وسمعه مليء بالخير، ويده منفقة، ورجله إلى الخيرات تمضي، ونفعه عمَّ البر والبحر، وصلاته في الجماعة دائمة، وقيامه لِلَّيل دائم؛ حتى أنه إذا نام أو كسل في الليل صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة.
وكان يواظب في اليوم والليلة على أربعين ركعة، سبع عشرة فرائض، وإحدى عشرة قيامه الليل، وثنتي عشرة الرواتب.
ومحاسبة النفس هو هدي الصالحين؛ فها هو أبو بكر t يأخذ بلسان نفسه ويقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد.
وها هو عمرو بن العاص يقول عند وفاته: لقد كنت في الجاهلية أحرص على قتل رسول الله؛ فلو حدث لدخلتُ النار، ثم أسلمت وبسطت يدي أبايعه فاشترطت، فقال: إن الإسلام يجب ما قبله...
وها هو حنظلة الأسيدي يقول لأبي بكر: نافقت. قال أبو بكر: وأنا كذلك، ويذهبان إلى النبي ﷺ... الحديث.
وها هو إبراهيم يقول: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأُعانق حورها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زَقُومها وأشرب من حميمها وغَسَّاقها وأعالج سلاسلها ثم قلت: يا نفس ماذا تريدين؟ قالت: أريد العودة إلى الدنيا لأعمل صالحًا. فقلت لها: أنت لا تزالين في الدنيا فاعملي عملاً صالحًا.
وليعلم المسلم أن محاسبة النفس نوعان:
* نوع قبل العمل: وهو أن ينظر العبد في هذا العمل هل هو مقدور عليه فيعمله، مثل الصيام والقيام، أو غير مقدور عليه فيتركه ثم ينظر هل في فعله خير في الدنيا والآخرة فيعمله، أو في عمله شر في الدنيا والآخرة فيتركه، ثم ينظر هل هذا العمل لله تعالى أم للبشر والدنيا؛ فإن كان لله فَعَله وإن كان لغيره تركه.
* والنوع الثاني محاسبة النفس بعد العمل: وهو ثلاثة أنواع:
-النوع الأول: محاسبة النفس على طاعات قصَّرت فيها، كتركها للإخلاص أو للمتابعة، أو ترك العمل المطلوب كترك الذكر اليومي أو بعضه، أو ترك قراءة القرآن، أو ترك الدعوة أو ترك الصلاة جماعة، أو عدم أداء الصلاة على الوجه المطلوب، أو ترك الرواتب.
ومحاسبة النفس في هذا النوع أن يُكمل النقص ويُصْلِح الخطأ، ويسارع في الخيرات، ويترك النواهي ويتوب منها ويستغفر الله، ويدوام على الذكر، ويراقب الله تعالى، ويحاسب قلبه فيما أضمره، ويعمل على سلامته، ويحاسب اللسان فيما قاله، ويشغله بالخير أو الصمت، ويتذكر أن السلف كانوا يعدون كلامهم في الأسبوع، ويحاسب العين فيما نظرت، فيطلقها في الحلال ويَغُضَّها عن الحرام، ويحاسب الأُذُن ما الذي سمعته، فيُكْثِر من سماعها للخير ويمنعها من الشر، وهكذا جميع الجوارح؛ فإنها إما أن تحافظ على رأس المال وهو الفرائض، وتزيد الأرباح وهي النوافل، وإما أن تعمل على خسارة الأرباح ورأس المال.
والنوع الثاني من المحاسبة بعد العمل: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تَرْكُه خيرًا له من فعله؛ لأنه أطاع فيه الهوى والنفس، وهو نافذة على المعاصي؛ ولأنه من المتشابه. يقول ﷺ: «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات؛ فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»، ويقول: «دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك».
والنوع الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم يفعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة، قال عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن، وتأهَّبوا ليوم العرض يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية.
واعلموا أن أركان المحاسبة ثلاثة:
* الركن الأول: أن تقايض بين نعمة الله عليك وبين جنايتك؛ فنعمه لا تُعَد ولا تُحْصى؛ خَلَقَك فَسَوَّاك، وعَدَلَك، ورَزَقَك في بطن أمك وبعد خروجك، وأسْبَغ عليك النِعَم، وأمَدَّك بالصحة والعافية، وسَخَّر لك ما في السموات وما في الأرض، وأغناك عمَّا سواه، فاعترف بنعمته، واعترف بذنبك، ولذا كان سيد الاستغفار من أَجَلِّ الاستغفار؛ لأنه جَمَعَ بينهما في قوله: «أَبُوء لك بنعمتك عليَّ، وأبُوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، ولا يوجد هذا الركن إلا عند مَن رَزَقَه الله نورًا في قلبه؛ يعرف الحق فيتبعه، ويعرف الباطل فيجتنبه، ولا يكون إلا عند مَن أساء الظن بنفسه ليسلم من التزكية ومن العجب والخيلاء، ولا يكون إلا ممَّن ميَّز بين النعمة والنقمة؛ فمن عَبَدَ الله بنعمته فهي نعمة، ومَن عصى الله بنعمته فهي استدراج.
* والركن الثاني: هو أن تُمَيِّز بين حق الله عليك وبين ما أباحه لك؛ فإنَّ حقَّه عليك التزامُ العبودية وترك المعصية، وحقك ما أباح لك من الشرع. وفي حديث معاذ: «أتدري ما حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًَا».
* والركن الثالث: أن يكون حريصًا على قبول العمل؛ فيُكْثِر من الدعاء والاستغفار والتوبة، ويكون وَجِِلاً خائفًا حتى يعلم قبولها؛ فالله تعالى يقول: }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{ [المؤمنون: 60]. وقد شَرَعَ الله لأهل المحاسبة استغفارًا بعد أعمالهم بعد الصلاة، وبعد صلاة الليل، وبعد الإفاضة من عرفات، وبعد الوضوء، وبعد أداء الرسالة، وغير ذلك.
واعلموا أن من فوائد المحاسبة أن العبد يطَّلع على عيوب نفسه؛ سأل رجل عائشة عن قوله تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ [فاطر:32]، فقالت: السابق من مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له بالجنة، والمقتصد أصحابه الذين اتبعوا أثره بعده، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك.
ويقول محمد بن واسع رحمه الله: لو كان للذنوب روائح ما استطاع أحد أن يجلس بجانب أحد.
وروي أن عبدًا من بني إسرائيل عَبَدَ الله ستين سنة ودعا فلم يُجب، فقال لنفسه: لو كان فيك خير لأُجِبتِ؛ فما رُد الدعاء إلا بسببك. فأتي في المنام فقيل له: إن عقابَك لنفسك خيرٌ من عبادتك تلك السنين.
ومنها صلاح القلب، وصلاح الجوارح، والبُعد عن مزالق الشيطان. وهي دليل على الخوف من الله، ومَن خاف نجى؛ فإن الله لا يجمع على عبد خوفين ولا أمنين، مَن خافه في الدنيا أَمِنَه يوم القيامة، ومن أَمِن في الدنيا أخافه يوم القيامة.
فحاسبوا أنفسكم يخف عليكم حساب الآخرة، ويتضح لكم الطريق المستقيم، وتنالوا رضوان الله، وتسعدوا في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه..
* * * *