×
دليلك إلى السعادة: لا شك أن التماس السعادة في الحياة هو غاية ما يطمح إليه الإنسان، وما الأعمال اليومية التي يزاولها الإنسان في هذه الدنيا، إلا مظاهر جليَّة للبحث عن السعادة والطمأنينة والراحة. ولقد اختلفت نظرات الناس للسعادة، وغابت عن كثير منهم سبل تحقيقها ونيلها، وجهل عامتهم حقيقتها ووسائلها، وما سبيلها إلا الإيمان بالله والعمل الصالح وما يتفرَّع عنهما من وسائل. وفي هذا الكتاب يذكر المُصنِّف أهم الوسائل الموصلة إلى السعادة.

 دليلك إلى السعادة

أبو الحسن بن محمد الفقيه

 المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأما بعد:

لا شك أن التماس السعادة في الحياة هو غاية ما يطمح إليه الإنسان، وما الأعمال اليومية التي يزاولها الإنسان في هذه الدنيا، إلا مظاهر جلية للبحث عن السعادة والطمأنينة والراحة.

وما الحروب والقلاقل والفتن الحادثة بين البشر إلا وسائل ينتهجها الناس بحثًا عن الرقي والسعادة واللذاذة بالحياة.

كل من في الوجود يطلب صيدًا

غير أن الشباك مختلفات

ولقد اختلفت نظرات الناس للسعادة، وغابت عن كثير منهم سبل تحقيقها ونيلها، وجهل عامتهم حقيقتها ووسائلها!! وما سبيلها إلا الإيمان بالله والعمل الصالح وما يتفرع عنهما من وسائل، وفي هذا الكتاب نذكر أهم الوسائل الموصلة إلى السعادة، لعل الله أن ينفع بها الخلق ويهديهم إلى سبيل الحق إنه هو البر الرحيم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 حقيقة السعادة

إن تحقيق مفهوم السعادة في الحياة هو غاية طموح كل إنسان في الوجود، ولأن اختلف الناس في سلوك طريقها ووسائلها إلا أنهم جميعًا يتفقون على أنها الملاذ الآمن، والمستقر الأوحد للتخلص من نكد الحياة.

ولم يكن لذلك الاختلاف أن يوجد بين البشر لولا الجهل بحقيقة السعادة والتفاوت البين في تحديد مفهومها الشامل في الوجود.

فلقد تناولت الدراسات الإنسانية ظاهرة السعادة بنوع من التحليل والتعريف، ولم تلبث أن تنازعت في إدراك حقيقتها ووسائلها جل تلك الدراسات بل كلها.. فهي تتعامل مع الظواهر الإنسانية عامة ومن بينها السعادة بمناهج  علمية تستمد أصولها ومبادئها من الإنسان ذاته، انطلاقًا من حياته اليومية وفق عمليتي التتبع والاستقراء لتحولاته المادية والعضوية والنفسية والاجتماعية، أو ربما اعتمدت في تحليلها على قواعد مبنية على  أساس التصور المادي للحياة.

وكان من نتاج الجهل بحقيقة السعادة والزيغ عن مفهومها الصحيح في الحياة، أن خرجت تلك المدارس في الغرب (أوربا وأمريكا..) بدراستها الإنسانية تلك..؟ أجيالاً لم تتذوق قط طعم السعادة.. ولم تعرف لها سبيلا أو طريقًا.. وأصبح التيه والتخبط والشقاء والقلق مميزات الإنسان الغربي فقيره وغنيه كبيره وصغيره راعيه ومرعيه.

وبدت مظاهر التعاسة والشقاء واضحة مكشوفة على وجوه الغرب المادي.. وتتفاوت تلك المظاهر بين مدمن ومريض، ومصروع ومهموم ويائس وبائس وتائه ومنتحر }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{.

ولم يكن للإنسان أي إنسان أن يتيه عن طريق السعادة لولا تيه عقل الإنسان عن إدراك حقائق الوجود العامة، وتيه نفس الإنسان عن واقع الربط بينهما وبين تلك الحقائق كلها، ومن هنا ندرك أن التخبط العقدي هو سبب الحيدة والزيغ عن إدراك معنى السعادة وسبب الانحراف عن مفهومها الصحيح في الحياة.

ومن هنا ندرك أيضًا أن الدراسات الإنسانية والنفسية والاجتماعية التي ينشرها الغرب أو أبناؤه الذين تربوا في مدارسه، لا يمكنها أن تدلنا بأي حال على حقيقة السعادة وسبيلها، وكم هي كثيرة مقالاتهم عن السعادة في نوادينا ومكتباتنا!! ولو كانت تنفع في تحقيق السعادة وتجسيدها لحققتها في ديار الغرب أولاً.. ولرفعت عنه ما يعيشه من دمار نفسي وانهيار عصبي مكشوف.

أخي المسلم: يا من هداك الله إلى نوره ويقينه، وأيقظ روحك وفكرك لدينه، وألبسك بفضله حلل الإيمان، وزودك بمنه بزاد التقوى، اضرب بعينك في ديار الكفر.. فلن ترى إلا الظلام والشقاء، وألوان الوباء، والضنك والبلاء، والفسوق والعقوق، والعصيان والكفران، وتأمل فيما هداك الله إليه. وما دلك عليه من طيبوبة الحياة الدنيا، وحيوان الآخرة، واذكر ما علمك الله إياه.. من قصص الأولين والآخرين في الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين e لتدرك من طريق الحق سبيل السعادة وطعم اللذاذة في الحياة.

وتذكر أنك بإسلامك لا يمكن أن تستمد حقائق الوجود من أي مصدر كان غير الإسلام المتمثل في الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة رضوان الله عليهم.. ومن أهم تلك الحقائق- حقيقة السعادة!! فلا يحل لك – وأنت مسلم- أن تلتفت لأحد يدلك عليها سوى الله – جل وعلا- بما بينه لك في كتابه وسنة رسوله e فهو خالق الإنسان وخالق السعادة والعالم بما خلق }أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ{ ولقد بين الله جل وعلا طريق السعادة وحقيقتها في آية وجيزة في القرآن الكريم }طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى{ فدل المفهوم الواضح لهذه الآية أن الإسلام طريق السعادة وسبيل تحقيقها في الحياة. وأنه لا سبيل لنيل السعادة في الدنيا إلا بالإسلام فكل مسلم سعيد!! وعلى قدر التزامه بالإسلام تكون سعادته في الدنيا والآخرة مهما كان حاله في الدنيا.

وكل كافر شقي!! وعلى قدر كفره تكون شقاوته في الدنيا والآخرة مهما كان حاله في الدنيا.. ومن هنا نعلم أن حقيقة السعادة هي: اطمئنان يخلقه الله في قلوب المؤمنين ويحفظه عليهم بما يشاء فيتولد عن ذلك طيب الحياة الدنيا وحسن العاقبة.

فما هي وسائل هذا الاطمئنان؟

 وسائل تحقيق السعادة

فإذا علمت أن معنى السعادة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدين الحق الذي هو الإسلام، وأن أسعد الناس ألزمهم للإسلام وأكثرهم عملاً بدين الله جل وعلا، فاعلم أن وسائل تحقيق السعادة ودفع الهموم عن النفس تنقسم إلى قسمين:

وسائل علمية - ووسائل عملية.

أما الوسائل العلمية: فهي إدراك حقيقة العبودية لله سبحانه بمعرفة الله جل وعلا ومعرفة ربوبيته، وألوهيته وأسمائه وصفاته، والإيمان الجازم به، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وإدراك حقيقة الدين، ومدى تزكيته للنفس والروح والبشر جميعًا، فإن إدراك التوحيد ومعانيه، وتعظيم شعائر الله في القلب، يقوي النفس على تحمل أعباء الحياة ويشغل الفكر والروح عن الانصياع لمكدرات السعادة ومصارع الهم والغم والحزن.

وهذه الوسائل هي قوة علمية تقوي النفس وتبعث فيها العزم على السير نحو السعادة بثبات العقيدة وإيمان، لأنها دليل التصور الصحيح لمعاني الحياة والوجود ومعاني الموت والمصير، ومعاني السراء والضراء، والنعم والبلاء لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى «من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية»([1]).

وقال رحمه الله تعالى: فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غير الله وإن أحبه – وحصل به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم ([2]) .

وأما الوسائل العملية: فهي توطين النفس على مواجهة الحياة بالمجاهدة والمصابرة، والاستعانة بالله، جل وعلا- والتوكل عليه في سائر الأعمال والأحوال والأقوال، والقناعة والشكر، والرضى بالقضاء والقدر، واتخاذ وسائل انشراح الصدر وطمأنينة النفس كما ورد في الكتاب والسنة، كالذكر والصلاة والتنفل والتبتل والإحسان إلى الخلق، والعفو عن الناس، والرحمة بهم، وكظم الغيظ وبذل المعروف، والتوبة والإنابة والدعاء، والاستشارة في الأمور والاستخارة فيها، وغير ذلك مما سنبينه في هذا الكتيب بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

ومهما كثرت أساليب الناس في البحث عن السعادة فإنهم لن يبلغو هدفهم المنشود في هذه الحياة إلا بالعبودية لله جل وعلا والعمل بما تقتضيه من أفعال وأحوال وأقوال.

قال ابن حزم رحمه الله تعالى في هذا المعنى: «وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن من اكتن، وركب من ركب، ومشى من مشى و تودع من تودع، ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال، وسائر الهموم».

وفي كل ما ذكرنا – لمن تدبره- هموم حادثة لا بد لها من  عوارض تعرض من خلالها، وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة وأيضًا نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدو مع الذم والإثم وغير ذلك.

ووجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب، خاليًا من كل كدر، - موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم، بل يسر، إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد، ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم، إذ ليس مؤاخذًا بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب، ورأيته إن قصد بالأذى سُر، وإن نكبته نكبة سُر، وإن تعب فيما سلك فيه سُر، فهو في سرور أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا.

فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف ([3]) .

فالسعادة: مطلب يشترك في إرادة تحصيله كل البشر، ولكن لا طريق له إلا طريق العلم والعمل، فهما السبيل نحو السعادة في الدنيا والآخرة، وكل وسائل السعادة إنما هي فروع عن هاتين الوسيلتين وتفصيل لهما.

وإليك أخي الكريم أهم وسائل تحقيق السعادة.

 صحة الاعتقاد

وهذه الوسيلة هي أم الوسائل وأصلها، وشرط لازم لتحصيل السعادة في الحياة فلا يمكن لفاسد المعتقد أن يظفر بالسعادة مهما قدم من وسائل إليها لأن السعادة مدارها على الاطمئنان والاطمئنان محله القلب، ولا حياة للمحل إلا بالإيمان واليقين.

لذلك قال الله جل وعلا }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{.

الإيمان بالله: فالإيمان هو دليل السعادة في الحياة، لأنه يتضمن الفقه الصحيح لكل مفرداتها غيبها وحضورها ولأنه يستلزم السير وفق النهج الصحيح الذي بينه الله جل وعلا للمؤمن في التعامل مع تلك المفردات كلها.

فالإيمان يدل على الطريق الصحيح لمعرفة الله – جل وعلا- بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وأنه سبحانه هو الخالق الرازق العليم الحكيم اللطيف الخبير، القادر القاهر، فلا يحل لمخلوق أن يعصاه ولا سعادة لمخلوق إلا بإذنه ورضاه، له الحكم وإليه المآب.

وهذه المعاني المتولدة عن معرفة الله تدفع المؤمن إلى طاعة الله والعمل بأمره، وتحقيق مراده واجتناب نهيه، رغبة في رضاه الذي هو سبيل السعادة والفلاح وخوفًا من سخطه الذي هو سبيل الشقاء والخسران.

والإيمان يدل أيضًا على العلم الصحيح بحقيقة النفس الإنسانية وحقيقة الخلق من حولها من إنسان وحيوان ونبات وجماد.

وهذه المعاني تبين الطريق القويم في التعامل مع كافة أشكال الحياة وأنماطها كما بين الله جل وعلا في شرعه الذي فصله في كتابه وعلى لسان رسوله e؛ حيث بين حقوق الناس بعضهم على بعض وحقوق غيرهم من المخلوقات الأخرى كالجن والحيوان والملائكة، وما كان بيانه سبحانه وتعالى إلا دلالة على الحياة السعيدة التي تترامى أطرافها في هذا الكون الفسيح.

ومن ثم فإن المؤمن يتذوق حقًا لذاذة الحياة وطعمها ويتذوق حلاوة السعادة في أفعاله وأقواله وأحواله، وينشد الراحة والاطمئنان في صلاته وعبادته، وفي اجتنابه للمعاصي والسيئات، وفي طاعة والديه وخدمتهما وفي التعامل بالأخلاق الفاضلة مع الناس، وفي فقره وغناه وحضوره وسفره، وصحته وسقمه وهو وإن كان يجد عناء في مجاهدة نفسه على هذا الطريق، إلا أنه يعلم أن نتاجه يانع الثمار دائم اللذاذة والحلاوة.

الرضى بالقدر: ومن ثمار الإيمان بالله، الرضى بقضائه وقدره، لأن الرضى هو استسلام الذهن والنفس والجوارح لحكم الله في الخلق، فيستلزم استحسان الأقدار والصبر عليها، فيستوي بذلك في قلب المؤمن الفقر، والغنى والصحة والمرض، والموت، والحياة، وهو ما أخبر به النبي e حيث قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير: إن أصابته سراء، شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن» رواه مسلم.

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر  السعدي رحمه الله تعالى: فالمؤمن إذا ابتلي بمرض أو فقر أو نحوه من الأعراض التي كل أحد عرضة لها، فإنه بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضى بما قسم الله له، تجده قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمرًا لم يقدر له، ينظر إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، وربما زادت بهجته وسروره، وراحته على من هو متحصل على جميع المطالب. الدنيوية إذا لم يؤت القناعة، كما تجد هذا الذي ليس عند عمل بمقتضى الإيمان: «إذا ابتلي بشيء من الفقر، أو فقد بعض المطالب الدنيوية: تجده في غاية التعاسة والشقاء»([4]) .

فالإيمان بالله والرضى بقدره، يهون المصائب ويمسح آثارها، ويولد في النفس الطمأنينة والثبات، ويجمع فكر المؤمن على مواجهة المخاوف والمشاكل بصبر و حكمة وثبات ويمكنه من تجاوز العقبات والنوازل دون إرهاق نفس أو تسخط أو توتر أعصاب، وهذا كله من أهم ما يفقده ضعفاء الإيمان بالله فهم وإن كانوا يواجهون الصعاب والمصائب بشجاعتهم الفطرية إلا أن مواجهتهم تكون مصحوبة بالضيق والتوتر، والتشتت والانزعاج وكلها أعراض للشقاء والنكد.

وخلاصة القول: أن الإيمان بالله والرضى بقدره، يحيى في نفس المؤمن طمأنينة تنفعه في سرائه وضرائه، فلا تجد إلا سعيدًا على كل حال.

وهذا يصدقه الواقع ويشهد له فقد ثبت لأطباء النفس بالتتبع والاستقراء أن الأمراض النفسية وأمراض الضغط والأعصاب إنما تفشو في عديمي الإيمان.

 صلاح العمل

العمل الصالح: وهذه الوسيلة هي من لوازم الإيمان بالله، فإن حقيقة الإيمان تتجلى في العمل بما أمر الله سبحانه وتعالى من الفرائض والواجبات على الوجه الذي بينه في كتابه وعلى لسان نبيه e.

فإن القيام بالفرائض والواجبات، يقوي القلب ويكبح جموح النفس للشهوات والمحرمات، ويفوت على الشيطان الإغواء والإضلال، ويبعد المؤمن عن الاغترار بالدنيا ويجنبه الهوى والهلاك، فتتحقق بذلك سعادته وطمأنينته في الحياة، ولذلك قال الله جل وعلا }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ{ وقال تعالى:}إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{.

فالمؤمن يستعين على اجتناب مكدرات طيب الحياة بالعمل الصالح، فإذا حقق الاستعانة على أحسن وجه، أعانه الله جل وعلا وأبعد عنه المنكر والفواحش فكان بذلك في مأمن من عواقبها التي تأتي بالعذاب النفسي والبدني، ولأن ثمرة العمل الصالح هي الأخلاق الحميدة التي هي أساس صلاح الدنيا والآخرة وهي أصل القوة العقلية والحكمة في التعامل مع المشاكل الشخصية ومشاكل الغير، فيتولد عن ذلك السرور والابتهاج والقدرة على دفع أسباب الهموم والقلق والحزن، ولذلك فقد شهد الله جل وعلا للمصلين بالفلاح المطلق في الدنيا والآخرة فقال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ والفلاح هو عنوان السعادة والراحة والاطمئنان.

ولذلك قيل إن علامات السعادة إحدى عشرة خصلة:

أولها: أن يكون زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة.

والثانية: أن تكون همته في العبادة وتلاوة القرآن.

والثالثة: قلة القول فيما لا يحتاج إليه.

والرابعة: أن يكون محافظًا على الصلوات الخمس.

والخامسة: أن يكون ورعًا فيما قل أو كثر من الحرام والشبهات.

والسادسة: أن تكون صحبته مع الصالحين.

والسابعة: أن يكون متواضعًا غير متكبر.

والثامنة: أن يكون سخيًا كريمًا.

والتاسعة: أن يكون رحيمًا بخلق الله تعالى.

والعاشرة: أن يكون نافعًا للخلق.

والحادية عشرة: أن يكون ذاكرًا للموت ([5]) .

واعلم أخي الكريم أن العمل الصالح لا يتحقق إلا بشرطين اثنين هما:

1- الإخلاص لله جل وعلا: وهذا يقتضي أن يقصد بالعمل وجه الله تعالى، من غير التفات إلى غيره من الخلق، ويدل عليه قوله جل وعلا:  }فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{.

2- الاتباع: ومقتضاه أن يكون العمل موافقًا لما كان عليه رسول الله e، للحديث الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

ثم إن تحقيق العمل الصالح على الوجه المذكور يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة للنفس الأمارة بالسوء، فإنها ملازمة الميل إلى الشهوات التي هي سبيل الهم والشقاء، ولا يمكن للمؤمن أن يظفر بالراحة والسعادة ما لم يجاهد نفسه ويسعى في كبح جموحها.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

قال ابن القيم ا لجوزي رحمه الله تعالى، عن النفس: فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضًا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: }إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{ وقال تعالى: }إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا{ وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه  إليها، استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنًا وظاهرًا، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: }فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ{ وقال سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ ([6]) .

وقال بعض السلف: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى انساقت إليه وهي تضحك.

فالاستقامة على دين الله بالأعمال الصالحة، يدفع الوساوس والهواجس ويوجب تأييد الله ومعيته و حفظه في السراء والضراء، ويكسب العبد قدرة وحكمة لمواجهة مصاعب الحياة وحوادثها. ويكون سببًا للثبات عند نزول المخاوف والأهوال.

وأما المفرط في دين الله فلا تجده إلا خائفًا بائسًا.

بذا قضى الله بين الخلق مذ خلقوا

أن المخاوف والإجرام في قرن

 اجتناب أسباب الهموم

واجتناب أسباب الهموم يتطلب اجتناب ما يلي.

 الفراغ:

فإن الفراغ مدعاة لتذكر الهموم والأحزان، ومطية للعجز والاستسلام وللقلق والحيرة، ومتى اجتمعت في قلب الإنسان مصائب الدنيا وأكدارها وناسب ذلك فراغًا في حياته صار تعيسًا بئيسًا، مهموم النفس منهار الأعصاب، ينتابه الفزع ويصرعه الغم والحزن، ولربما أودى به الحال إلى الجنون المطلق أو المقطع وربما فكر في الانتحار!! ولذلك فإن إشغال النفس بما ينفعها من الأعمال، دواء مهم لصرف الهموم والأحزان وتجديد النشاط والحيوية في القلب والبدن.

وكم هي كثيرة مظاهر الفراغ في حياة الشباب في زماننا هذا، فإن المتأمل في أحوال كثير من الناس، يرى أن سبب قلقهم وفزعهم في الحياة، هو الفراغ القاتل الذي يعيشونه في ليلهم ونهارهم فلذلك تجتمع عليهم هموم الدنيا وأحوالها وتجد في القلب فسحة وفي الفكر مجالاً، ولم تزل بهم حتى تسقطهم في شباك الوساوس والأوهام وحبائل الحيرة والتردد والانزعاج، فلذلك فشت في مجتمعاتنا الأمراض التي لم تكن في الأمم الماضية، كالأمراض النفسية والعصبية وما ينتج عنها من علل مستعصية مزمنة كمرض السكر والضغط وغيرها من الأمراض الفتاكة.

ولو علم الناس ما في إشغال النفس بما يستثمر فراغها من الخير و الفضل لسارعوا إلى ذلك حرصًا على أعمارهم، ورغبة في إسعاد نفوسهم وزوال همومهم، لا سيما وأن الفراغ نعمة من النعم العظيمة، كما أخبر بذلك رسول الله e حيث قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»([7]) .

مرور الوقت نقص في الحياة

وجد الأمر خال من مزاج

فمن يغنم زمان العمر يضحى

مقيما في سرور وانشراح

والنفس البشرية إذا صرفت لشيء لم  تستطع أن تشتغل بغيره من الأمور مهما كان أمرها لأن الله جل وعلا- لم يجعل في جوف الإنسان قلبين وإنما هو قلب واحد كما قال تعالى: }وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه{ فدل ذلك على أن الاهتمام بالأعمال وصرف الوقت ومجاهدة النفس في العلم أو العمل يزيل كدر الحياة وهمومها، ويدفع الوساوس والخواطر الهالكة، ويشغل المرء عن التفكير في دواعي الهم ودوافع القلق.

 2- الانزعاج بالأوهام والوساوس:

ومن مكدرات السعادة وأسباب الهموم، استسلام القلب للخواطر السيئة والأوهام المحزنة والوساوس المهلكة، لا سيما في زماننا هذا حيث كثرت دواعي القلق والخوف، وتوقع المصائب اليومية، وأصبح الإنسان صريع ما يسمعه يوميًا من وسائل الدعاية والإعلان من الأخبار الكاذبة.

والمؤمن هو من يستكين قلبه بحب الله وذكره، وتطمئن نفسه بحمد الله وشكره ويرضى بحاله وفعاله عن قضائه وقدره فلا تراه إلا ثابتًا هادئًا يعيش أيامه يومًا بيوم، ويرضى بما قسمه الله له من رزق قل أو كثر، ولا ينزعج بتوقعات وأخبار أهل الدعاية، ولا بوساوس نفسه الأمارة بالسوء.

فإن الله الذي رزقه وهو في رحم أمه من باب سرته، ثم فتح له بعد ولادته بابين لرضاعته، هو الذي يطعمه ويسقيه ويأويه ويكسيه في جميع حياته.

}وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا{ فكلما أصابتك أخي الكريم نوبة تفكير في شيء يحزنك أو يقلقك مما تخاف وقوعه أو فاتك نيله، فأشعل فكرك بما ينفعك أو اذكر الله وأكثر من شكره واستغفاره وتسبيحه وتهليله يقذف في قلبك الطمأنينة والسكينة }أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{.

 3- الحزن على الماضي والاهتمام بالمستقبل:

فإن الماضي بالنسبة للإنسان في حكم العدم، لا يمكن له رده أو إرجاعه لذا فإن التفكر فيه والتحسر على فواته أو الحزن على أحداثه ووقائعه مدعاة للقلق والحزن ولا سبيل لدفعهما إلا بتجاوز الماضي بما فيه من أكدار وهموم، وإحياء الحاضر بصالح الأعمال.

ما مضى فات والمؤمل غيب

ولك الساعة التي أ نت فيها

إنما هذه الحياة متاع

فالجهول المغرور من يصطفيها

ولذلك قال رسول الله e: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإذا أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل! فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»([8]) .

فاللبيب هو من يكون ابن يومه، ويعيش لحظاته لحظة بلحظة، ويدع الأسى والحزن على ما مضى، ولا يشغل باله بالحسرات الخاليات.

قال الشاعر:

وليس براجع ما فات مني

بـ (لهف) ولا بـ (ليت) ولا (لو أني)

وقال آخر:

ليت شعري وأين مني (ليت)

إن (ليتًا) وإن (لوًا) عناء

 تقوية النفس ومجاهدتها

وهذه الوسيلة تجعل الإنسان فقيها بحالة صراع نفسه مع أحداث الحياة ومجرياتها وتؤهله لمدافعة شرور النفس وشهواتها فيتجاوز بذلك أسباب الشقاء ويعمل على تحقيق سعادة ذاته ونفسه بحكمة وثبات، ولن يحقق له ذلك الفقه إلا إذا عرف حقيقة نفسه في صراع الحياة.

 1- حقيقة النفس:

فالله – جل وعلا – خلق- بحكمته- النفس ميالة إلى الشر والفساد، وهذا من لوازم نقصها وظلمها فإن الإنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى: }وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا{.

ولذلك قال ابن القيم: سبحان الله ! في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد وطغيان ثمود، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، ووقاحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل، وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند ([9]) .

وهذه الصفات التي ذكرها ابن القيم وغيرها، كلها أمراض تفتك بالإنسان، وتسبب له شتات الفكر وضيق الصدر، وتعجزه عن تجاوز أدنى المصائب اليومية لذلك كان فقه المجاهدة والمصابرة مطلبًا حثيثًا لنيل السعادة في الحياة.

 2- فقه المجاهدة:

فمجاهدة النفس، وإتقان قيادتها للهدى والرشاد، هو سبيل التخلص من  إرادتها الفاسدة، وميولاتها السيئة وأمراضها الجالبة للتعاسة والشقاء قال تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ فالهداية نتاج المجاهدة والمصابرة على الطاعة، وإنما تنال السعادة وتنكشف الهموم بتحقق الهداية واقتفاء آثارها كما قال تعالى: }فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{.

فدلت هذه الآية على أن السعادة مع الهداية كما دلت الآية قبلها أن الهداية مع المجاهدة!!

فهل أدركت أخي الكريم أن مجاهدة النفس على الطاعات هي أوسع أبواب السعادة في الحياة؟

فإذا رمت السعادة فعلاً فتحمل مشاق الطاعة وأد الفرائض والواجبات، واجتنب ما نهاك الله عنه من المحرمات، واجتهد في الإكثار من القربات والخيرات.

 3- الاستعانة بذكر الله تعالى:

وهذه الطاعة من أهم أبواب السعادة، وأسهلها وأيسرها على النفس والبدن، قال تعالى: }أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{.

وهل  اطمئنان القلب إلا راحة البال وسلامة البدن وصفاء الروح، ولذا فإن حياة العبد في الدنيا تكون بحسب قوة ذكره لله، فكلما كان أشد ذكرًا لله، كان أطيب حياة من غيره من الغافلين، قال e: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت»([10]) .

وللذكر فوائد كثيرة تعود بالخير على الروح والبدن وتكون سببًا لانشراح الصدر وطيب النفس ورغد العيش، وقد بسطها ابن قيم الجوزية في كتاب الوابل الصيب من الكلم  الطيب، فليراجع فإنه من أنفس الكتب وأنفعها في نيل السعادة وتحقيقها.

 4- التوكل  على الله والعزم في الأمور:

فالتوكل على الله والاستعانة به في كافة الأمور والحزم والعزم على ذلك يقوي القلب ويدفع النفس إلى الإقدام على مواجهة الحياة بصبر وعزيمة وثبات، لأن التوكل على الله هو أن تتخذ أسباب السعادة والنجاة ثم تكل النتائج إلى الله تعالى، وتوطن النفس على تقبل الأقدار بالرضى والانشراح والصبر فمن كان هذا حاله لم يعرف الشقاء إليه سبيلا لأن الله وعده بالكفاية، فقال: «ومن يتوكل على الله فهو حسبه».

قال سبحانه: }أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{ فعلى قدر التوكل تكون الكفاية، فمن كان توكله تامًا كفاه الله كفاية تامة، ومن كان ناقصًا كانت كفايته ناقصة، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وبالله التوفيق.

 5- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:

والدعاء من أهم وسائل دفع الهموم وجلب السعادة فهو سلاح المؤمن وركنه الذي يأوي إليه لدفع الضر عن نفسه، فمن عجز عنه فهو أعجز الناس حقًا، كما أخبر بذلك رسول الله e حيث قال: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء»([11]) .

ومن الأدعية الدافعة للهموم، ما أخبر به النبي e: حيث قال: «ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحًا»([12]) .

وقال e: «دعاء المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت»([13]) .

 الخلق الحسن

 1- الحلم والعفو:

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: وفي قول النبي e: «لا يفرك مؤمن مؤمنة: إن كره منها خلقًا، رضي منها خلقًا آخر»([14]) . فائدتان عظيمتان:

إحداهما: الإرشاد إلى معاملة الزوجة والقريب والصاحب، والمعامل وكل من بينك وبينه علاقة واتصال وأنه ينبغي أن توطن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيب أو نقص أو أمر تكرهه، فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة، بتذكر ما فيه من المحاسن والمقاصد الخاصة، والعامة وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن تدوم الصحبة والاتصال، وتتم الراحة وتحصل لك.

الفائدة الثانية: وهي زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي e بل عكس القضية فلاحظ المساوئ وعمى عن المحاسن؛ فلا بد أن يقلق ولا بد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، وينقطع كثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها.

وكثير من الناس ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ويكدر الصفاء، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم ([15]) .

 2- الرحمة بالخلق:

فإن الجزاء من جنس العمل، وأحق الناس برحمة الله أرحمهم بعباده، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور يدخله المسلم على المسلم، ولذلك فإن الإحسان إلى الخق من أبواب كشف الكربات وزوال الهموم قال تعالى:       }هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ{ ولذلك فقد أخبر الرسول e أن رحمة الله تحجب  عمن لا يرحم الخلق فقال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»([16]) .

ومن صور الرحمة بالخلق قضاء حوائج المسلمين وكشف كربهم والستر عنهم فإن ذلك وسيلة لتحقيق السعادة وكشف الغموم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»([17]) .

وفي الجملة فإن الرحمة بالخلق لا سيما الضعفاء منهم سبيل لانشراح النفس وطمأنينة القلب، فتلك فطرة وجبلة خلقها الله في قلوب الناس، فلا ترى المنفق المواسي للخلق بماله وما يملك إلا مبشور الوجه قرير العين، وهذا مشاهد ملاحظ في واقع الحياة لمن عاينه.

 3- اجتناب الظلم:

فإن الظلم سبب لحلول النقم وزوال النعم لذلك فإنه قد ورد عليه وعيد شديد قال تعالى:}وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ{ فتجد الظالم فازعًا خائفًا ولو لم ينل منه المظلوم وما ذلك إلا لأن نفسه أمارة لوامة، فهي التي أمرته بالظلم وحرضته عليه، فلما ظلم تحول ما جناه وبالاً عليه، فعاش بين مطارق اللوم في نفسه يتعذب في أعماقه وجوفه وإن كان ظاهر حاله السعادة والانبساط.

بذا قضى الله بين الخلق مذ خلقوا

إن المخاوف والإجرام في قرن

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: «إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) »([18]) .

فالظالم لا يتذوق طعم السعادة إلا أن يتوب، فإذا كان ظلمه مقرونًا بحق آدمي وجب عليه رده وطلب عفوه فحينئذ يطرق باب السعادة والصفاء.

4- العفو والسماحة:

قال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى – ومعنى حسن الخلق: «سلامة النفس نحو الأحمد من الأفعال، وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكون فيما بين الناس وهو في المعاملات بين الناس أن يكون سمحًا بحقوقه لا يطالب غيره بها، ويوفي بما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض فلم يُعد، أو سلم فلم يُرد عليه، أو خطب فلم يُزوج.. لم يَغضب ولم يُعاقب، ولم يتنكر من حاله، ويُقابل كلا منه بما هو أحسن وأفضل، وأقرب إلى البر والتقوى، وأشبه بما يحمد ويرضى»([19]) .

وهذه الخصال وإن كانت تعز على النفس من حيث فعلها والتحلي بها إلا أنها من أعظم ما تنال به راحة البال واستقرار النفس وانشراح الصدر؛ لأن صاحبها لا يعرف البغض ولا يوجد له عدو يشغله بالانتقام والحقد، ففؤاده كفؤاد الطير لينا ورقة، لذلك لا تراه إلا سعيدًا.

 سلامة القلب والبدن

فصلاح الروح والبدن، متوقف على صلاح قلب الإنسان، ومن ثم كان اجتناب مفسدات القلب أمرًا مطلوبًا لتحقيق السعادة في الحياة، فما هي مفسدات القلب؟

 مفسدات القلب:

فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله e يقول: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب»([20]) .

فمتى ما سلم القلب من مفسداته عاش حياة طيبة في الدنيا وظهر ذلك على أحوال صاحبه وجوارحه وفعاله وأقواله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة» وقال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: «إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب»!!.

وأما مفسدات القلب فهي: الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، وقد ذكرها ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين([21]) . ونوردها هنا بتصرف:

أولا: اجتناب كثرة الخلطة:

فأما ما تؤثره كثرة الخُلَطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود يوجب له تشتتًا وتفرقًا وهمًا وغمًا، وضعفًا، وحملاً لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا يبقى منه والدار الآخرة؟

هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت من بلية وهل آفة الناس إلا الناس؟! والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة، ويعزلهم في الشر والمباحات. فإن اضطر إلى ذلك، فالحذر الحذر أن يوافقهم وليصبر على أذاهم.

ثانيًا: التمني:

وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل إن المنى رأس أموال المفاليس، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله ويدنيه من جواره.

فأماني هذا إيمان ونور وحكمة وأماني أولئك خدع وغرور.

ثالثًا: التعلق بغير الله تعالى:

وهذا أعظم المفسدات على الإطلاق.

فليس على القلب أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل، بتعلقه بغيره والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل.

رابعًا: الطعام:

والمفسد للقلب من الطعام نوعان:

أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات سواء كان محرمًا لحق الله كالميتة والخمر والخنزير، أو محرمًا لحق العباد: كالمسروق والمغصوب والمنهوب.

والثاني: ما يفسده بقدره، وتعدي حده، كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط فإنه يثقله عن الطاعات ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، والتأذي بثقلها وقوي عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها وفي الحديث المشهور: «ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»([22]) .

خامسًا: كثرة النوم:

فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدًا ومنه الضار غير النافع للبدن، وأنفع النوم ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران.

2- المحافظة على الصحة:

ولأن البدن هو وسيلة العمل الصالح وأداته، فإن تقويته والحفاظ عليه، سبيل لتحقيق وسائل السعادة ولذلك أخبر الرسول e أن الصحة من أجل النعم وأنفعها وأن من ضيعها ولم يستثمرها في تحقيق سعادته في الدارين مغبون، فقال e: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ»([23]) .

ومن أهم القواعد في الحفاظ على الصحة:

- استعمال الرياضة قبل الأكل بمقدار وأقل ذلك المشي والسباحة.

- نم مبكرًا واستيقظ مبكرًا.

- لا تأكل حتى تجوع، فإدخال الطعام على الطعام داء قاتل.

- ابتعد عن تناول المصنعات والمعلبات والمحفوظات قدر المستطاع.

- لا تتهاون في نظافة الطعام، فالطعام الملوث سم لا غذاء.

- إذا شكوت من مرض فعالجه قبل استفحاله وإذا أمكن المعالجة والتداوي بالأشياء الطبيعية فلا تلجأ للكيماويات.

- النظافة في كل شيء من أسباب السعادة في الحياة.

- احرص على التقلب في الهواء النقي سواء في المسكن أو غيره.

3- إجمام النفس والترويح عنها:

والترويح عن النفس يجدد فيها الحيوية والنشاط، ويبذر فيها قابلية الاستعداد لمواجهة صعاب الحياة، ويكسبها الراحة التامة لمزاولة الأعمال.

فإن الملل طبيعة جبلت النفس عليها، فلا بد من تجاوزه، بأخذ قسط من الراحة، بإجمام النفس بالتفكر والانبساط فيما أحل الله من متع الدنيا من غير تفريط ولا إفراط.

فتحميل النفس ما لا تطيق تدمير لطاقتها وتعويق لاكتساب انشراحها وسعادتها وهذا من حقها الذي ينبغي مراعاته بين الحين والآخر، وهو من وسائل دفع الهم والحزن، وصرف النظر عن المخاوف، والاستعداد والتفرغ للمستقبل.

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (كتبه أبو الحسن ابن الفقيه)



([1]) مدارك السالكين (1/429).

([2]) مجموع الفتاوى (1/247).

([3]) الأخلاق والسير (14-16) بتصرف.

([4]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (8، 9).

([5]) تنبيه الغافلين (192).

([6]) طريق الهجرتين وباب السعادتين (72، 73).

([7]) رواه البخاري.

([8]) رواه مسلم.

([9]) الفوائد: 114.

([10]) رواه البخاري ومسلم.

([11]) رواه الطبراني والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (1055).

([12]) رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الكلم الطيب (74).

([13]) حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/959).

([14]) رواه مسلم.

([15]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (22، 23).

([16]) رواه مسلم من حديث طويل.

([17]) رواه مسلم من حديث طويل.

([18]) رواه البخاري ومسلم.

([19]) شعب الإيمان للبيهقي (14/13).

([20]) رواه البخاري ومسلم.

([21]) مدارج السالكين (1/451-457)

([22]) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (5674).

([23]) رواه البخاري.