×
رسالةٌ مفيدة تحتوي على خمسة عشر موعظة مُستقاة من كتابِ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم.

 مواعظ الآخرة في ضوء الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف

عبد الجليل بن أحمد

 الإهداء

أهدي هذا الكتاب المؤثر والجهد المتواضع وأقدم تلك المواقف المؤثرة:

* إلى إمام المسجد والداعية والخطيب؛ ليقطف من أزهارها، وينثرها على أسماع المصلين.

* وإلى رب الأسرة إذ جلس مع زوجته وأولاده في جلسة أسرية هانئة؛ ليحول تلك الجلسة إلى جلسة إيمانية تربوية تحفها الرحمة والسكينة.

* وإلى الداعية المسلم إذا حضر وليمة أو اجتماعًا عامًا؛ ليقتنص من لطائفها، ويستل من لآلئها، ويشنف بها أسماع الحاضرين، ويحفظ بسماعها أوقاتهم بدلاً من القيل والقال، ولغو الكلام.

* وإلى شباب الإسلام وفتيات الإسلام؛ ليعرفوا كيف كان رسولهم وصحابته الكرام وسلفهم الأبرار وخلفهم الأطهار، وليقرؤوا تاريخهم الإسلامي المجيد، وليستلهموا منهم الدروس والعبر التي تضيء لهم دربهم وطريقهم في غياهب الحياة المادية المتلاطمة.

* وإلى كلِّ من يشكو من ضعف الإيمان، أو قسوة القلب، أو يشعر بشيء من الوهن أو الفتور أو يستطيل الطريق.

إلى كل هؤلاء وغيرهم أقدم:

مواعظ الآخرة في ضوء الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف الذين هم خير خلف.

أبو ثابت

 المقدمة

الحمد لله الذي عمَّ برحمته جميع العباد، وخص أهل طاعته بالهداية إلى سبيل الرشاد، ووفقهم بلطفه لصالح الأعمال، ففازوا ببلوغ المراد.

أحمده حمد معترف بجزيل الإرفاد، وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم الميعاد.

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله موضح طريق الهدى والسداد، قامع الجاحدين والملحدين، وسائر الكافرين من أهل الزيغ والعناد، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الأكرمين الأجواد، صلاة تبلغه بها نهاية الأمل والمراد.

وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أيها الأخ الحبيب: قد أحببت أن أخرج هذا الكتاب من باب قوله تعالى: }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ{ [المائدة: 2] وقوله تعالى: }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ [التوبة: 71]، وكم كنت أتمنى من الله العلي القدير أن يكون هذا الكتاب وغيره من الكتب النافعة التي توقظ القلوب إلى علام الغيوب، وتحرك في القلب شيئًا ينبض قد امتلأ بالغبار بسبب الذنوب- أن تخرج من القلب إلى القلب بعيدًا عن المجاملة، وها أنا أكتب هذه الرسالة من أخ مشفق على نفسه وعلى أخيه؛ إذ يراه في ظلام دامس بين الغفلة واللهو واللعب والغرور والمتاع في الحياة الدنيا، وبما أنني أخشى عليه التسويف بالتوبة وعدم الأوبة؛ إذ إن هذا الطريق يسلكه فجًا عميقًا فكان مصيرهم إلى النار وبئس الحريق.

فيا أيها الأخ المبارك كن على أتم الثقة بأن من يسلك طريق الصالحين واهتدى بهدي سُّنة المرسلين فإنه من أسعد الناس في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.

أخوك المحب

عبد الجليل بن أحمد

أبو ثابت


 الموعظة الأولى

نحن في زمن وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:

«اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر؛ من ظلم الفجرة- أي ظلمهم لأنفسهم بالذنوب وظلمهم للناس- وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة – أي الذنوب والمعاصي – والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا – والله – منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤْذِن بليلٍ قد ادْلَهَمَّ ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح»([1]).

وفي زمن كهذا الزمن، يقسو القليب، ويضعف الإيمان، ويقلُّ النصير على الخير، ويفتقد الجليس الناصح، ويعزُّ ويندر الأخ الصالح، ويبدأ الفتور والوهن يتسرب إلى القلب، وتبدأ بوادر السقوط والتخاذل تظهر على السطح، وهنا تقع الكارثة التي إن لم تتدارك، فستنتهي بالمرء إلى الانتكاس، والانحراف عن درب الهداية والصلاح والالتزام والاستقامة.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: «بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة!! وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عنده كريمًا»([2]).

فالسعيد من اقتنع بالبلغة «أي الكفاف»؛ فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا، اللهم إلا أن يكون متورعًا في كسبه، معينًا لنفسه عن الطمع، قاصدًا إعانة أهل الخير، والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته!!

وقد لقي العبد الصالح عبد الواحد بن زيد رحمه الله أخاه عتبة الغلام رحمه الله ذات يوم في يوم شات شديد البرد فإذا هو يتصبب عرقًا!! فيسأله عبد الواحد: ما شأنك؟!! مالك تعرق في مثل هذا اليوم؟!

فاعتذر عتبة وقال: خيرٌ!! فألح عبد الواحد في المسألة وقال: لتخبرني!! واستحلفه، فقال عتبة: إني والله ذكرت ذنبًا أصبته في هذا المكان قبل سنين؛ فهذا الذي رأيت من أجل ذلك ([3])!!

أيها الحامل همًا

إنَّ هذا لا يدومُ

مثلما تفنى المسرات

كذا تفنى الهمومُ

إن قسا الدهر فإن

الله بالناس رحيمُ

أوترى الخطب عظيمًا

فكذا الأجر عظيمُ

فيا أيها الأخ الحبيب: متى تظهر عليك سيما المتقين؟! متى تترقى إلى مقام السابقين؟ متى ستسير على درب الصالحين؟ متى سترحل عن جحيم المذنبين؟ متى ستنيخ ركائبك مع بوادي التائبين؟ متى ستقوم في الليل مع المتهجدين؟ متى ستقرع بدموعك أبواب أرحم الراحمين؟ ([4]).

* * * *


 الموعظة الثانية

اعلم أيها الأخ الحبيب: أنَّ من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس ([5] يقول الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن انكسار القلب وخضوعه لله تعالى: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه سبحانه، والاستسلام له، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر، والرحمة والرزق منه!! وأحبُّ القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة!!

وهذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله تعالى وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها «أي بالنسبة لحق الله» بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم- نوع آخر، وفتح آخر، والسالك بهذه الطريق غريب عن الناس، وهم في واد وهو في واد، فالله المستعان وهو خير الغافرين»([6]).

يقول الأوزاعي: «خرج الناس يستسقون وفيهم العبد الصالح بلال بن سعد، فقال: يا معشر الناس!! ألستم تقرون بالإساءة وتعترفون بالذنب؟!!

فقال الناس جميعًا: نعم!!! فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك قلت: }مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ{ وكلنا نقرُّ لك بالإساءة!! فاغفر لنا واسقنا الغيث!!

فسقاهم الله وخرجوا يمشون في المطر»([7]).

قال العبد الصالح بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: «يا ابن آدم، من مثلك؟! إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن، وتكلمه بغير ترجمان دخلت؟!! قيل: وكيف ذلك؟! فقال: تسبغ الوضوء وتدخل محرابك! فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، وتكلمه بلا ترجمان»([8]).

إذا اشتملت على اليأس القلوب

وضاق لما به الصدر الرحيب

وأوطنت المكاره واطمأنت

وأرسلت في مكامنها الخطوب

ولم تر لانكشاف الضر وجهًا

ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك غوث

يمن به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات إذا تناهت

فموصول بها فرج قريب

فيا أيها الأخ الحبيب: الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة مرارتها لا تطاق في الآجلة! يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف رأي سخيف. يا طفل الهوى، متى يؤنس منك رشد؟! عينك مطلقة في الحرام، ولسانك مهمل في الآثام!! وجسدك يتعب في كسب الحُطام!! كم نظرة محتقرة زلت بها الأقدام!([9]).

* * * *


 الموعظة الثالثة

قال ابن القيم رحمه الله: للعبد بين يدي الله تعالى موقفان:

موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف.

قال تعالى: }وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً{ [الإنسان: 26، 27]([10] وقال رحمه الله وهو يصف قرة عيون الصالحين بالصلاة الخاشعة: «فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون همَّ الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطال همَّها؛ حتى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن وللنقارين شأن، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها إذا ائتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم!

وبالجملة فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويود أن لو قطع عمره غير منشغل بغيره، وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة؛ فإنها الميزان العادل الذي وزنه غير عائل»([11])، وانظر إلى هذا الحياء من الله؛ يقول مولى عمرو بن عتبة رحمه الله: «استيقظنا يومًا حارًا في ساعة حارة، فبحثنا عن عمرو بن عتبة رحمه الله، فوجدناه في جبل وهو ساجد وعليه غمامه تظله!! وكنا نخرج إلى الغزو معه فلا نتحارس بالليل لكثرة صلاته وبكائه!! ورأيته ذات يوم يصلي فسمعنا زئير الأسد، فهربنا وظل هو قائمًا يصلي لم ينصرف من صلاته أو يقطعها، فلما لقيناه قلنا له: أما خفت من الأسد؟!! فقال: إني لأستحي من الله أن أخاف شيئًا سواه»([12]).

وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «تعاهدوا الرجال في الصلاة، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا غير ذلك فعاتبوهم!!»([13]).

وكان العبد الصالح أويس القرني رحمه الله إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع. فيركع حتى يصبح!! وكان إذا أمسى قال: هذه ليلة السجود. فيسجد حتى يصبح!!

وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل والطعام والثياب؛ أي الزائدة عن حاجته، ثم يقول: «اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به!! ومن مات عريانًا فلا تؤاخذني به»([14]).

وقال حاتم الأصم رحمه الله: «فاتتني صلاة الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس؛ لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا»([15])!!

أخي: يا من قد وهى شبابه وامتلأ بالزلل كتابه!! أما بلغك أن الجلود إذا استهشدت نطقت؟! أما علمت أن النار للعصاة خلقت؟! إنها لتحرق كل ما يلقى فيها!! فيصعب على خزنتها كثرة تلاقيها!! التوبة تحجب عنها، والدمعة تطفيها!! قال عليه الصلاة والسلام: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرَّت على أهل الدنيا معيشتهم، فكيف بمن هو طعامه لا طعام غيره؟»([16]).


 الموعظة الرابعة

قال ابن الجوزي رحمه الله حاثًّا على المسابقة إلى الطاعات: «فالسعيد من وفق لاغتنام العافية، ثم يختار تحصيل الأفضل فالأفضل في زمن الاغتنام، وليعلم أن زيارة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ها هنا – أي في الدنيا - والعمر قصير والفضائل كثيرة؛ فليبالغ في البدار، فيا طول راحة التعب، ويا فرحة المغمون، ويا سرور المحزون، ومتى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغص ولا قاطع هان عليه كل بلاء وشدة ([17])!!

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «وجدنا خير عيشنا بالصبر».

وقال - رضي الله عنه -: «جالسوا التوابين؛ فإنهم أرق شيء أفئدة».

وقال - رضي الله عنه -: «لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: لولا أن أضع جبهتي لله كل يوم خمس مرات، أو أجلس في مجالس مع أخوةٍ لي في الله ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، وأن أغزو في سبيل الله عز وجل».

وقال - رضي الله عنه -: «الشتاء غنيمة العابدين»([18]).

وقال الحسن البصري رحمه الله: «أيها الناس، إن الله سبحانه لم يجعل لأعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة على الطاعات؛ فإنه جل ثناؤه يقول: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99]، وإنكم أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محصى محروس، والموت فوق رؤوسكم، والنار بين أيديكم»([19]). وقد قال رحمه الله: «المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا، ولا يسعه إلا ذلك! لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيبه فيه من المهالك»([20]).

وقال العبد الصالح شقيق البلخي رحمه الله: «علامة التوبة: البكاء على ما سلف والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار»([21]).

وكان الصحابي الجليل شداد بن أوس الأنصاري - رضي الله عنه - إذا أوى إلى فراشه يتقلب على الفراش، كما تتقلب الحبة في المُقلى!! لا يأتيه النوم، فكان يقول: اللهم إن خوف النار قد أذهب عني النوم!! ثم يقوم فيصلي إلى الفجر ([22])!!

قال وهيب بن الورد: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول وتناجي مولاها: يا رب، ذهبت اللذات وبقيت التبعات!! يا رب: سبحانك! وعزتك إنك لأرحم الراحمين، يا رب أما لك عقوبة إلا النار؟! ثم بكت واستعبرت!! فقالت لها صاحبتها يا أخية: قد دخلت بيت ربك اليوم، فأملي خيرًا. فقالت: والله ما أرى هاتين القدمين – وأشارت إلى قدميها، أهلاً للطواف حول بيت ربي! فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي!! وقد علمت إلى أين مشتا؟!! ثم بكت ([23]).

أخي: قف وقوف المنكسرين، وتبتل تبتل المعتذرين، واستشعر الخضوع، واستجلب الدموع، واحتل واحذر سهم الغضب أن يصيب المقتل، وقل: كم أذنبت ذنبًا فسترت، وكم جنيت جناية فنظرت؛ فبالحلم والكرم إلا غفرت ([24])!!

فقد طالما أنقذتني يداك

وقد قلقلتني حبال الردى

فوالله لا شمت غيثًا سِواكَ

فإما نداك وإما الصَّدى

* * * *


 الموعظة الخامسة

تعلق شابٌّ كان يعمل قصابًا بجارية حسناء لبعض جيرانه، وابتغى إليها سبيلاً لم يستطع، فقدر الله تعالى أن أرسلها مولاها ذات يوم في حاجة إلى قرية مجاورة، فخرجت وحدها لتقضي تلك الحاجة، فتبعها ذلك الشاب، وراودها عن نفسها، فقالت له: لا تفعل!! فأنا والله أشد حبًا لك منك لي، ولكني أخاف الله!! فقال الشاب: فأنت تخافينه، فلماذا أنا لا أخافه؟!!

فرجع الشاب تائبًا نادمًا منكسرًا، فأصابه العطش في الطريق حتى كاد أن يهلك، فإذا هو برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل، فسأله الرسول: ما لك؟! ما بك؟ فقال الشاب: العطش!! فقال: تعالى حتى ندعو الله حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية ونشرب منها!!

فقال الشاب: ما لي من عمل صالح!! فقال الرسول: فأنا أدعو وأنت تؤمِّن!

فدعا الرسول وأمَّن الشاب، فأظلتهم سحابة حتى انتهوا إلى القرية، فمال الشاب القصاب عائدًا إلى بيته، ومالت السحابة معه!! فرأى رسول النبي ذلك، فتبع الشاب وقال له: زعمت أنه ليس لك عملٌ!! وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت، فأظلتنا سحابة ثم تبعتك وتركتني!! لتخبِرْني ما أمرك!! فقص عليه الشاب قصته مع تلك الجارية!! فقال له الرسول: التائب إلى الله بمكان ليس أحد من الناس بمكانه ([25])!!

تنبه قبل الموت إن كنت تعقل

فعما قليل للمقابر تُنقلُ

وتمسي رهينًا في القبور وتثني

لدى جدث تحت الثرى تتجندلُ

فريدًا وحيدًا في التراب وإنما

قرين الفتى في القبر ما كان يعمل

فيا أسفى على ما يعمل الدود والثرى

بوجه جميل كان لله يخجلُ

وما يفعل الوجه الوسيم إذا ثوى

وصار ضجيع القبر يعلوه جندلُ

وبطن بدا فيه الردى ثم لم تر

دقيق الثرى في مقلتيه يتهرولُ

أعينيَّ جودا بالدموع عليكما

فحزني على نفسي أحق وأجملُ

أيا مدعي حبي هلمَّ بنا إذا

بكى الناس نبكي للفراق ونعملُ

دعي اللهو- نفسي- واذكري حفرة البلى

وكيف بنا دود المقابر يفعلُ

إلى الله أشكو لا إلى الناس حالتي

إذا صرت في قبري وحيدًا أململُ

أخي: يا مبارزًا بالذنوب خذ حذرك، وتوق عقابه بالتقى فقد أنذرك، وخلِّ الهوى كما ترى ضيرك قبل أن يغضب الإله ويضيق حبسه }وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ{([26]).

قال أبو علي الدقاق رحمه الله: «دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدًا له في مرضه، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك!!

فقال لي: وتظنني أخاف من الموت؟!! إنما أخاف من بعد الموت!!

ثم بكى وأبكى من حوله رحمه الله تعالى»([27]).

وقال مالك بن دينار رحمه الله: «دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يغمى عليه مرة ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكًا في دنياه، متخلفًا عن طاعة ربه ومولاه، فقلت له: يا أخي: تب إلى الله، وارجع عن غيِّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك، فقال: هيهات!! هيهات!! قد دنا ما هو آتٍ، وأنا ميت لا محالة، فيا أسفى على عمر أفنيته في البطالة!! وكلما أردت أن أتوب مما جنيت سمعت هاتفًا يهتف من زاوية البيت: عاهدتنا مرارًا، فوجدناك غدارًا، فنعوذ بالله من سوء الخاتمة»([28]).

* * * *


 الموعظة السادسة

قال الله تعالى في صفة خوف الملائكة عليهم السلام منه سبحانه: }يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{ [النحل: 50] وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته، وروي أن من حملة العرش من تسيل عيناه مثل الأنهار، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما تُخشى حق خشيتك». وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما كان ليلة أسري بي رأيت جبريل - عليه السلام - كالشن (أي كالقربة) الخَلِقِ البالي من خشية الله تعالى».

وقال وهب: «بكى آدم - عليه السلام - على الجنة ثلاثمائة عام، وما رفع رأسه إلى السماء بعدما أصاب الخطيئة». وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: كان يسمع لصدر إبراهيم - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة أزيز من بعد؛ خوفًا من الله عز وجل. وكان عيسى - عليه السلام - إذا ذكر الموت يقطر جلده دمًا، وكان رسول الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم - يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وكان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسمع آية فيمرض فيعاد أيامًا، وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: وددت أني إذا مت لا أبعث ([29]).

وقال ابن الجوزي رحمه الله محذرًا من الذنوب وعواقبها: الحذر الحذر من المعاصي؛ فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب، خصوصًا ذنوب الخلوات؛ فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه، ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة؛ فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها؛ لأنه عند التلذذ يقف بإزائه علمُه بتحريمها، وحذره من عقوبتها، فأفٍّ للذنوب!! ما أقبح آثارها!! وأسوأ أخبارها!! ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة ([30]).

نبكي على الدنيا وما من معشر

جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

أين الأكاسرة الجبابرة الألى

كنزوا الكنوز فما بقيت ولا بقوا

خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا

أن الكلام لهم حلال مطلقُ ([31])

فيا أخي: أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب؟! أين من أعطى وأسدى ووهب؟! أين من كنز الفضة والذهب؟ أين من رتع في الشهوات؟ أين من أوغل في المعاصي والموبقات؟ أين من بارز ربه بالذنوب والخطيئات؟! أين من بنى القصور الشاهقات؟!

أما فارق دنياه وذهب؟ أما نزل به التلف وأسرهُ العطب؟ أنفعه بكاء من بكى أو ندب من ندب؟ أما ندم على ما جنى وارتكب؟([32]).

فيا عجبًا كيف يعصى الإلهُ

أم كيف يجحده جاحدُ

ولله في كل تحريكة

وتسكينة في الورى شاهدُ

وفي كل شيء لهُ آيةٌ

تدلُ على أنه واحدُ

 الموعظة السابعة

قال ابن القيم رحمه الله مبينًا لذة حلاوة تلاوة كتاب الله عز وجل:

«فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرَّ بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة! ولو ليلةً!! فقراءة آية بتفكر وتفهم خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم!! وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح!! عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة حتى أصبح بآية!! وهي قوله تعالى: }إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [المائدة: 118]، قال الحسن البصري: «أنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً؛ فقراءة القرآن بالتفكر هي أصلح صلاح القلب»([33]).

ولننظر إلى العبد الصالح محمد بن المنذر رحمه الله؛ إذ جزأ الليل عليه وعلى أمه وعلى أخته أثلاثًا!! فكان كل واحد منهم يقوم ثلث الليل، فلا تكاد ساعة بالليل إلا ومصل قائم في بيتهم!! ثم ماتت أخته، فقسم الليل كله نصفين بينه وين أمه!! ثم ماتت أمه فكان يقوم الليل كله وحده، رحمة الله عليه ورضوانه ([34]).

وعن شعيب بن حرب رحمه الله قال: دخلت على العبد الصالح مالك بن مغول رحمه الله وهو في داره بالكوفة جالسًا وحده، فقلت له: أما تستوحش لوحدك في هذه الدار؟!! فقال: ما كنت أظن أن أحدًا يستوحش مع الله عز وجل.

قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعقيبًا على تلك القصة:

«ما أشرف هذه المنزلة!! وأعلى هذه الدرجة!! وأعظم هذه الموهبة!! وإنما لا يستوحش مع الله تعالى من عمر قلبه بحبه سبحانه، وأنس بذكره، وألف مناجاته بسره، وشغل به عن غيره، فهو مستأنس بالوحدة مغتبط بالخلوة»([35]).

وكان العبد الصالح حبيب بن محمد رحمه الله يخلو في بيته، ثم يقول مناجيًا ربه: «من لم تقر عينه بك فلا قرت!! ومن لم يأنس بك فلا أنس!!».

وقال بعض العباد: «سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربِّه وسيده عز وجل!!».

وقال إبراهيم بن أدهم: «اتخذ الله صاحبًا، ودع الناس جانبًا».

وقال مسلم بن يسار: «ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله تعالى».

وقال مسلم العابد: «ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة الله»([36]).

فيا أخي الحبيب: «سبحان من وفق أقوامًا لخدمته، وأفاض عليهم من كرامته فهجروا لذيذ المنام، وأداموا لربهم الصيام، وصلوا بالليل والناس نيام، فلو رأيتهم وقد سارت قوافلهم في حندس الظلام، فواحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يسأله التوفيق لطاعته، وآخر يستعيذ من عقوبته، وآخر يرجو منه جميل مثوبته، وآخر يشكو إليه ما يجده من لوعته، وآخر شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من أيقظهم والناس نيام([37])!

* * * *


 الموعظة الثامنة

قال ابن القيم الجوزي رحمه الله مخاطبًا كل عاق لوالديه: «الويل كل الويل لعاقٍ والديه، والخزي كل الخزي لمن ماتا غضابًا عليه، أفٍّ له هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟! أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا، كما آثراك بالشهوات على النفس!! ولو غبت عنهما ساعةً صارا في حبس!! حياتهما عندك بقايا شمس، ولقد راعياك طويلاً فارعهما قصيرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا، كم ليلة سهرا معك إلى الفجر، يداريانك مداراة العاشق في الهجر، فإن مرضت أجريا دمعًا لم يجر!! تالله لم يرضيا لتربيتك غير الكف والحجر سريرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا. يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك، كم جرعاك حلواً وجرعتهما مريرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا، أتحسنُ الإساءة في مقابلة الإحسان؟! أو ما تأنف الإنسانية للإنسان؟ كيف تعارض حسن فضلهما بقبح العصيان؟ ثم ترفع عليهما صوتًا جهيرًا، وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرًا. تحبُّ أولادك طبعًا، فأحبب والديك شرعًا، وارع أصلاً أثمر لك فرعًا، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى، أولاً وأخيرًا، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. تصدق عنهما إن كانا ميتين، وصل لهما، واقض عنهما الدين، واستغفر لهما، واستدم هاتين الكلمتين، وما تكلف إلا أمرًا يسيرًا، وقل رب أرحمهما صغيرًا»([38]).

قال بعض الصالحين: بينما أنا أطوف حول الكعبة في ليلة ظلماء، وقد رقدت العيون وهدأت الأصوات، إذ بصوت حزين شجي يردد:

يا من يُجيب دعاء المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع الألمِ

قد نام وفدك حول البيت وانتهبوا

أدعو وعينك يا قيوم لم تنمِ

هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي

يا من إليه أشار الخلق في الحرم

إن كان عفوك لا يدركه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالكرم؟

فتتبعت الصوت، فإذا هو شاب في مقتبل عمره، فطلبته أن يقص علي خبره، فقال: وما خبر من أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه؟ فهو مرتطم في بحر الخطايا، ثم قال: أنا شاب من إحدى قبائل العرب، اسمي «منازل بن لاحق» وإني كنت على اللهو والطرب لا أفيق عنه!! وكان لي والد فاضل يعظني كثيرًا، ويقول لي: يا بني: احذر هفوات الشباب وسكراته فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد!! وكنت أقابل نصحه ووعظه بالسخرية والاستهزاء ويسيئ القول، فلما كان ذات يوم من الأيام ألح علي بالموعظة فمددت يدي عليه، فحلف مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو علي، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:

يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا

عرض المهامة من قرب ومن بُعدِ

إني أتيتك يا من لا يخيب من

يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمدِ

هذا منازل لا يرتد عن عققي

فخذ بحقي يا رحمن من ولدي

وشلَّ منه بحولٍ منكَ جانبه

يا من تقدس لم يولد ولم يلدِ

قال منازل: فوالله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى، فإذا هو يابس (مشلول)([39]).

 الموعظة التاسعة

قال عبد الله بن عبد الخالق رحمه الله: سبى الروم نساءً مسلمات، فوصل الخبر إلى أهل الرقة (مدينة في العراق) وكان الخليفة هارون الرشيد مقيمًا بها آنذاك فجيء إلى واعظ الرقة وزاهدها العبد الصالح منصور بن عمار رحمه الله فقيل له: لو اتخذت مجلسًا بالقرب من قصر الخليفة، فوعظت الناس فيه ورغبتهم في الغزو والجهاد.

ففعل المنصور كما أشاروا عليه، فبينما هو ذات يوم في مجلسه يحث الناس على النفير والجهاد في سبيل الله، إذ بخرقة مصرورة مختومة، ومعها كتاب مضموم إليها تصل إلى يد منصور بن عمار الواعظ، ففك الكتاب فقرأه فإذا مكتوب فيه: إنني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك لهم في النفير، ولم أكن مستطيعة للنفير وللغزو، فعمدت إلى أكرم شيء في بدني، وهما ذؤابتاي (أي ضفيرتاي) فقطعتهما وجعلتهما في الصُّرة المختومة التي مع هذا الكتاب، وأنشدك الله العظيم أن تجعل هاتين الذؤابتين قيدًا لفرس غاز في سبيل الله تعالى؛ فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال نظرة فيرحمني ويغفر لي!!

فما كاد منصور يفرغ من قراءة الكتاب حتى أجهش بالبكاء، وأجهش الناس معه، وعلا الضجيج وارتفع البكاء والنحيب، وأمر هارون الرشيد بالنفير العام لغزو الروم، وغزا بنفسه على رأس الجيش الإسلامي فهزم الروم بإذن الله وحرر السبايا المسلمات، وفتح الله على المسلمين يومها فتحًا عظيمًا ([40]).

أبا سليمان قلبي لا يطاوعني

على تجاهل أحبابي وإخواني

إذا اشتكى مسلمٌ في الهند أرقني

وإن بكى مسلم في الصين أبكاني

ومصر ريحانتي والشام نرجستي

وفي الجزيرة تاريخي وعنواني

وفي العراق أكف المجد ترفعني

عن كل باغ ومأفون وخوان

ويسمع اليمن المحبوب أنشودتي

فيستريح إلى شدوي وألحاني

ويسكن المسجد الأقصى قبته

في حبة القلب أرعاه ويرعاني

أرى بخارى بلادي وهي نائيةٌ

وأستريح إلى ذكرى خراسان

شريعة الله لمتْ شملنا

وبنت لنا معالم إحسان وإيمان ([41])

قدمت بعض جيوش الروم المنهزمة أمام المسلمين في معركة من المعارك على ملكهم وعظيمهم هرقل وهو في مدينة أنطاكية، فدعا رجالاً من عظمائهم، وقال لهم: ويحكم أخبروني!! ما هؤلاء الذين تقاتلونهم – يعني المسلمين - أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى!!

قال: فأنتم أكثر عددًا أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن! فقال: ويلكم! فما بالكم تنهزمون كلما لقيتوهم؟ فسكتوا ولم ينطقوا، فقال شيخ كبير منهم: أنا أخبرك أيها الملك من أين يأتون! ولماذا ينهزمون!!

إنا إذا حملنا على المسلمين صبروا، وإذا حملوا علينا صدقوا، ونحمل عليهم فنكذب، ويحملون علينا فلا نصبر!! فقال هرقل: ولماذا هم كذلك، وأنتم بخلاف ذلك؟

فقال الرجل الكبير: لأن القوم يصومون بالنهار، ويصلون بالليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحدًا، ويتناصفون فيما بينهم، ونحن نشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغضب، ونظلم، ونأمر بما يسخط الله تعالى، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض!!

فقال هرقل حينها: والله لقد صدقتني القول!! والله لأخرجن من هذه القرية فما لي في صحبتكم خير وأنتم هكذا ([42])!!.

كتب عبد الله بن المبارك إلى الفضيل بن عياض رحمهما الله حاثًا على الجهاد في سبيل الله:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ

من كان يخضب خده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضبُ

أو كان يتعب خيله في باطل

فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

وهج السنابك والغبار الأطيبُ

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذبُ

لا يستوي غبار خيل الله في

أنف امرئ ودخان نار تلهبُ

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذبُ ([43])

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

فمحب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يغار لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى! وإنْ زعم أنه من المحبين، والدين كله تحت هذه الغيرة؛ فأقوى الناس دينًا أعظمهم غيرًة!! وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، ولذلك جعل الله تعالى علامة محبته ومحبوبته: الجهاد ([44]).

فيا رب، نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس!!

أخي: ألم تشتق نفسك إلى أرض الجهاد وإلى موطن العزة والكرامة، إلى المنبع الأصيل وإلى الريح النبيل؟ فلم يقم الإسلام إلا بالجهاد، ولم يقم الجهاد إلا بالإسلام.

فلقد نسينا- أو تناسينا- أمر الجهاد حتى أصبحنا عالةً على أنفسنا في أرض الله!! وجعلنا أذلاء ومحتقرين بسبب تفريطنا وجهلنا لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم الذي لم يأت عبثًا ولا لعبا في حقوق الإنسان؛ بل أتى في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -([45]).


 الموعظة العاشرة

قال ابن القيم رحمه الله مبينًا بعض ثمار الصلاة الخاشعة:

«هي (أي الصلاة) منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنورة القلب، ومبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة ودافعة للنقمة، ومنزلة للرحمة، وكاشفة للغمة، وحافظة للصحة، ومفرحة للنفس، ومذهبة للكسل، وممدة للقوى، وشارحة للصدر، ومغذية للروح، وجالبة للبركة، ومبعدة عن الشيطان ومقربة من الرحمن»([46]).

وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله». وفي حديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه».

وكان ابن الزبير - رضي الله عنه - إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط!!

وقال ميمون بن مهران - رضي الله عنه -: «ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت».

وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه! فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟

يقول ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن فوائد الصلاة الخاشعة:

وبالجملة: فلها (أي للصلاة) تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داءٍ أو محنة أو بليةٍ إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم.

وسر ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل.

والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه ومسارعة إليه ([47]).

كان العبد الصالح خلف بن أيوب رحمه الله تعالى لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة!! فقيل له: كيف تصبر على ذلك؟

فقال: بلغني أن الفساق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور، وأنا في صلاتي أقف بين يدي ربي، أفلا أصبر على ذباب يقع علي ([48])!

أخي: الأيام لك مطايا، فأين العدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الرزايا؟! أين العزائم أترضى بالدنايا؟! إن بلية الهوى لنا تشبه البلايا!! وإن خطيئة الإصرار لنا كالخطايا!! وسرية الموت لا تشبه السرايا!! وقضية الزمان لا كالقضايا، راعي السلامة يقتل الرعايا، ورامي التلف يصمي الرمايا، ملك الموت لا يقبل الهدايا، يا مستور ستظهر الخبايا، وتكشف الخفايا ([49])!

* * * *


 الموعظة الحادية عشرة

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

سبحان الله رب العالمين! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وجواز القبول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي أو ظُلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن عنه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت!! بل يفرح به لقدومه على ربه، ولقائه له، ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العشر ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به، ودعائهم له في كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه، وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله له، وإقباله عليه، وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه!!

فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات (أي العبد الصالح) تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا إلى روضة من رياض الجنة، ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش، وإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع المتقين وحزبه المفلحين!! }ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{ [الجمعة: 4]([50]).

قال أبو نواس، رحمه الله تعالى:

أفنيت عمرك والذنوب تزيدُ

والكتاب المحصي عليك شهيد

كم قلت: لست بعائد في سوءةٍ

ونذرت فيها ثم صرت تعود

حتى متى لا ترعوي عن لذةٍ

وحسابها يوم الحساب شديد ([51])

أخي: يا قليل النظر في أمره! يا غافلاً عن ذكر قبره!! أما نقل الموت واحدًا واحدًا، وها هو قد أضحى نحوك قاصدًا، كم سلب ولدًا وأخذ والدًا!! إلى متى تصبح جاهلاً وتمسي ماردا؟! وعن طريق الهدى حائدًا؟!! وتحث على النهوض وما تبرح قاعدا!! متى يذوب دمع ما يزال جامدًا؟! يا من إذا قاربه النصح أضحى متباعدًا!! لقد نظرت لنفسك نظرًا فاسدًا!! يا نائمًا عن خلاصه راقدًا!! متى نراك لربك ساجدًا؟! متى تكون لمولاك عابدًا؟! متى تكون في درب الخير قائدًا ([52])؟!

* * * *


 الموعظة الثانية عشرة

عن زائدة رحمه الله قال: «صليتُ ذات ليلة مع أبي حنيفة رحمه الله في مسجده العشاء وخرج الناس، ولم يعلم أن في المسجد أحدًا، فأردت أن أسأله عن مسألة، فقام يصلي من الليل، فافتتح الصلاة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: }فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{ [الطور: 27] فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن لصلاة الصبح!! وأنا ما زلت أنتظره»([53])!!

يا عين فلتبك ولتذرفي الدمعا

ذنبًا أحاط القلب أصغى له سمعا

أين الدموع على الخدين قد سالت

فالنفس للعصيان يا رب قد مالت

هل يا ترى أصحو من سكرة الشهوة

أم يا ترى أبقى في هوة الشقوة

كيف القدوم على الجبار بالزلل

أم كيف ألقاه من دونما عمل

قلبي لما يلقاه قد أن بالشكوى

دمعي جفا عيني من قلة التقوى

لكن من أرجوه لا يغلق البابا

العفو يا رباه فالقلب قد تابا

اشترى العبد الصالح أبو عبد الله النباحي رحمه الله جارية سوداء للخدمة، فلما صارت عنده في منزله قالت له: أتقرأ شيئًا من القرآن؟!! فقال لها: نعم.

فقالت: اقرأ عليَّ، فقرأ عليها، فقالت: يا مولاي، هذه لذة الخبر، فكيف لذة النظر؟! فلما جنَّ عليها الليل وطأ أبو عبد الله لنفسه فراشًا للنوم، فقالت: أما تستحي من مولاك؟! إنه لا ينام وأنت تنام؟!! (أي أنه ينبغي لك أن تكون في عبادة وفي عمل، يقربك منه حتى يغلبك النوم، لا أن تتكلف النوم وتتطلبه طلبًا) ثم أنشدت:

عجبًا للمحب كيف ينام

جوف ليل وقلبه مستهام

إن قلبي وقلب من كان مثلي

طائران إلى مليك الأنام

فأرض مولاك إن أردت

نجاةً وتجاف عن اتباع الحرام

قال: ثم قامت ليلتها تصلي لله حتى طلع الفجر ([54]).

قال إبراهيم بن الأشعث رحمه الله تعالى:

«سمعت العبد الصالح الفضيل بن عياض رحمه الله ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد ويبكي ويردد قوله تعالى: }وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ{ ويقول: وتبلو أخبارنا يا رب؟!! إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا!! إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا!! ثم يبكي بكاءً شديدًا ([55]).

عباد الله: تدبروا العواقب، واحذروا قوة وبطش المعاقب؛ فإنه مطلع ومراقب، وهو والله طالب غالب.

فيا مشغولاً بالقصور يعمرها، ولا يفكر في القبور ولا يذكرها، يبيت الليالي في فكر الدنيا بسهرها، ويجمع الأموال إلى الأموال يثمرها!! وقع في أشراك المنايا وهو لا يبصرها، أفٍّ لدنيا هذا آخرها!! وآهٍ لأخرى هذا أولها }وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا{([56]) [المنافقون: 11].

 الموعظة الثالثة عشرة

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

«خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، وما ضر عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، وإذا قسا القلب قحطت العين (أي قل بكاؤها)، وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.

وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.

ومن أراد صفاء قلبه، فليؤثر الله على شهوته، والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها»([57]).

وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بالمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أراضٍ الله عنه أم ساخط عليه، وأبكاني فراق الأحبة محمد عليه الصلاة والسلام وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السرائر، ثم لا أدري إلى أين أصير: إلى الجنة أم إلى النار([58]).

قيل لابن المبارك رحمه الله: إذا أنت صليت لماذا لا تجلس معنا؟!!

فقال: «إني أذهب فأجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر وأقرأ في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم وأنتم تغتابون الناس؟!»([59]).

قال ابن الجوزي: «وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات!».

فنقل عن عامر بن عبد قيس رحمه الله أن رجلاً قال له: كلمني. فقال له: أمسك الشمس!! وقال ابن ثابت البناني رحمه الله: ذهبت ألقن أبي (أي وهو في الاحتضار)، فقال لي: يا بني دعني، فإني في وردي السادس.

ودخلوا على أحد السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له: أفي هذا الوقت؟! فقال: الآن تطوى صحيفتي ([60])!!

قال حاتم الأصم رحمه الله تعالى:

«من خلا قلبه من ذكر أخطار أربعة، فهو مغتر، فلا يأمن من الشقاء:

الأول: خطر يوم الميثاق: حين قال الله تعالى: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي!!، ولا يعلم في أي الفريقين كان!!.

والثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث: فنودي الملك بالشقاء والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟!

والثالث: ذكر هول المطلع: ولا يدري أيبشر برضا الله تعالى أو بسخطه؟!!

والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا: ولا يدري أي الفريقين يسلك به؟!!

فمحقوق لصاحب هذه الأخطار الأربعة ألا يفارق الحزنُ قلبه»([61]).

* * * *


 الموعظة الرابعة عشرة

قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:

فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لبٍّ فيها فرحًا!! رحم الله رجلاً لم يغره ما يرى من كثرة الناس (أي حوله)، يا بن آدم تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، وما أكثر عبد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله، ولا أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل!!.

حقيق على من عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده أن تطول في الدنيا حسرته، وفي العمل الصالح رغبته ([62]).

وقال الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: «من تعلق قلبه بالدنيا، لم يجد لذة الخلوة بالله تعالى».

ومن تعلق قلبه باللهو، لم يجد لذة الأنس بكلام الله تعالى.

ومن تعلق قلبه بالجاه، لم يجد لذة التواضع بين يدي الله تعالى».

ومن كثرت منه الآمال، لم يجد في نفسه شوقًا إلى الجنة ([63]).

أخي: أين المعترف بما جناه؟!! أين المعتذر إلى ربه ومولاه؟ أين التائب من خطاياه؟ أين الآيب من سفر هواه؟ فإن نيران الاعتراق تأكل خطايا الاقتراف!! ومجانيق الزفرات تهدم حصون السيئات، ومياه الحسرات تغسل أنجاس المعاصي الخطيئات!!

يا حاملاً من الدنيا أثقالاً ثقالاً، يا مطمئنًا لابد أن تنتقل انتقالاً، يا مرسلاً عنان لهواه في ميدان زهوه إرسالاً!! كأنك بجفنيك حين عرض الكتاب عليك وقد سالا، وعاينت من الأهوال كروبًا عظامًا، وأطلقت الزفرات حسرةً وندامى، فحتى متى لا ترعوي وإلام ([64])؟!

حتى متى؟ ,إلى متى نتوانى؟

وأظن هذا كله نسيانا

والموت يطلبنا حثيثًا مسرعًا

إن لم يزرنا بكرةً عشانا

إنا لنوعظ بكرةً وعشيةً

وكأنما يعنى بذاك سوانا

غلب اليقين على التشكك في الردى

حتى كأني قد أراه عيانا

يا من يصير غدًا إلى دار البلى

ويفارق الإخوان والخلانا

إن الأماكن في المعاد عزيزة

فاختر لنفسك إن عقلت مكانا ([65])

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:

«لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس إنكم لداخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو!!

ولو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس إنكم داخلون النار كلكم أجمعون إلا رجلاً واحدًا لرجوت أن أكون أنا هو ([66])!!» فرضي الله عنه وأرضاه؛ فهو بين الخوف والرجاء.

فيا أخي:

اجعل شعارك حيثما كنت التقى

قد فاز من جعل التقى إشعاره

واسلك طريق الحق مصطحبًا به

إخلاص قلبك حارسًا أسراره

وإذا أردت القُرب مِنْ خير الورى

يوم القيامة فاتبع آثاره ([67])

* * * *


 الموعظة الخامسة عشرة

قال إبراهيم بن أدهم: «ليس من علامة الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها!!، وأبغضها فأحببناها!! وزهَّدنا فيها فآثرناها!!

أيها الناس: وعدكم الله خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة (أي الدنيا) دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها، تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتنتغمون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتنبشون مخالف الحرص عن خزائنها، وتحقرون بمعاول الطمع في معادنها»([68]).

بينما كان العبد الصالح محمد بن المنكدر رحمه الله ذات ليلة قائمًا يصلي من الليل إذ استبكى وكثر بكاؤه، حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاك؟!!

فاستعجم عليهم، واستمر يبكي ولا يقوى على الكلام، فأرسلوا إلى صاحبه العبد الصالح أبي حازم رحمه الله فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي فقال له: يا أخي ما الذي أبكاك؟ قد أفزعت أهلك!

فقال: إنني مررت بآية في كتاب الله عز وجل فبكيت، قال: ما هي؟

فقال: قول الله تعالى: }وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{ [الزمر: 47]، فبكى أبو حازم أيضًا معه واشتد بكاؤهما!! فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتخفف عنه فزدته!!

وما زال ابن المنكدر جزعًا من هذه الآية، ولا سيما إذا تذكر الموت، فقيل له: ولم تجزع؟! فقال: أخشى آية من كتاب الله عز وجل: }وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{ فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب ([69]).

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل

خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما تخفي عليه يغيب

لهونا عن الأيام حتى تتابعت

ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى

ويأذن في توباتنا فنتوب

أقولُ إذ ضاقت علي مذاهبي

وحلت بقلبي للهموم ندوب

لطول جنايتي وعظم خطيئتي

هلكت وما لي في المتاب نصيب

وأغرق في بحر المخافة آيسًا

وترجع نفسي تارة فتتوب

تُذكرني عفو الكريم عن الورى

فأحيا وأرجو عفوه فأُنيب

وأخضع في قولي وأرغب سائلاً

عسى كاشف البلوى عليَّ يتوب ([70])

فيا أخي:

يا من لا يرى من توبته إلا الوعود، فإذا تاب فهو عن قريب يعود، أرضيت بفوت الخير والسُّعود؟!! أأعددت عدة لنزول الأخدود؟!! أما علمت أن الجوارح من جملة الشهود؟! تالله، إنَّ حوض الموت قريب مورود، والله ما الزاد في الطريق بموجود!! والله إن القيامة تشيب المولود، والله إنَّ العمر محسوب معدود، والوجوه غدًا بين بيضٍ وسودٍ ([71]).

* * *


 الخاتمة

وبعد أخي: علك استفدت من هذه المواعظ الإيمانية التي تزيد الإيمان، وتبعدك عن الذنوب والعصيان، وتقرِّبك من الواحد الديان، وتجعلك كمولود جديد خرج على هذه الدنيا الدنيئة فجدّ وشمّر للإقلاع عن السيئات، وعزم على زيادة الطاعات، وحلاوة المناجاة في ظلام الخلوات.

فقد أحببت أن تكون هذه الرسالة وصالاً من القلب إلى القلب، وحادي الأرواح فيما بيننا هو الإيمان والسير على نهج الصالحين وأهل الإحسان.

وأسأل الله العلي القدير أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما هو به أعلم منا، فهو المقدم وهو المؤخر وهو على كل شيء قدير.

إخواني: التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم موت النوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة، الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة، ما أحسن قلق التُّواب! ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب! كان بعض الصالحين يقول:

إن الملوك إذا شابت عبيدهم

في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ

وأنت يا خالقي أولى بذا كرما

قد شبتُ في الرق فأعتقني من النارِ

رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين، ثم تعود بردِّ الجواب بلا كتاب.

ولو قام المذنبون في هذه الأسحار، على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها: }يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا{ [يوسف: 88] لبرز لهم التوقيع عليها: }لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{ [يوسف: 92].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



([1]) كتاب الفوائد لابن القيم.

([2]) كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.

([3]) كتاب حلية الأولياء – لأبي نعيم الأصفهاني..

([4]) كتاب التبصرة لابن الجوزي.

([5]) من كلام علي بن أبي طالب t.

([6]) كتاب مدارج السالكين – لابن القيم -.

([7]) كتاب حلية الأولياء للأصفهاني.

([8]) كتاب إحياء علوم الدين للغزالي.

([9]) كتاب التبصرة لابن الجوزي.

([10]) كتاب الفوائد – لابن القيم -.

([11]) كتاب طريق الهجرتين – لابن القيم -.

([12]) كتاب الرقة والبكاء – لابن قدامة المقدسي.

([13]) كتاب سيرة عمر – لابن الجوزي -.

([14]) كتاب إقامة الحجة – للكنوي -.

([15]) كتاب المستطرف – لللأبهيشي.

([16]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([17]) كتاب صيد الخاطر – لابن الجوزي -.

([18]) كتاب حلية الأولياء – لأبي نعيم -.

([19]) كتاب الزهد – للحسن البصري -.

([20]) كتاب الزهد – للحسن البصري -.

([21]) كتاب سير أعلام النبلاء – للذهبي -.

([22]) كتاب إقامة الحجة – للكنوي -.

([23]) كتاب محاسبة النفس – لابن أبي الدنيا.

([24]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([25]) كتاب التوابين – لابن قدامة المقدسي -.

([26]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([27]) كتاب وفيات الأعيان – لابن خلكان -.

([28]) كتاب بحر الدموع – لابن الجوزي -.

([29]) كتاب منهاج القاصدين – للإمام أحمد المقدسي -.

([30]) كتاب صيد الخاطر – لابن الجوزي -.

([31]) ديوان المتنبي.

([32]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([33]) كتاب مفتاح دار السعادة – لابن القيم -.

([34]) كتاب المستطرف – للأبهيشي -.

([35]) كتاب العزلة – لأبي سليمان الخطابي -.

([36]) كتاب استنشاق نسيم الأنس – لابن رجب -.

([37]) عقود اللؤلؤ والمرجان – إبراهيم بن عبيد -.

([38]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([39]) كتاب الرقة والبكاء – لابن قدامة المقدسي -.

([40]) كتاب صفة الصفوة – لابن الجوزي -.

([41]) للأستاذ: عبد الرحمن بن صالح العشماوي «شاعر الأمة الإسلامية».

([42]) كتاب: عيون الأخبار – لابن قتيبة -.

([43]) كتاب سير أعلام النبلاء – للذهبي وكتاب طبقات الشافعية – للسبكي.

([44]) كتاب روضة المحبين – لابن القيم -.

([45]) من كلام مؤلف الكتاب: عبد الجليل الأحمد.

([46]) كتاب زاد المعاد – لابن القيم -.

([47]) كتاب زاد المعاد – لابن القيم.

([48]) كتاب المستطرف – للأبهيشي -.

([49]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي – (بتصرف).

([50]) كتاب الفوائد – لابن القيم -.

([51]) ديوان أبي نواس.

([52]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([53]) كتاب إقامة الحجة – للكنوي -.

([54]) كتاب الصلاة والتهجد – لابن خراط -.

([55]) كتاب حلية لأولياء – لأبي نعيم -.

([56]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([57]) كتاب الفوائد – لابن القيم -.

([58]) كتاب عيون الأخبار – لابن قتيبة -.

([59]) كتاب سير أعلام النبلاء – للذهبي.

([60]) كتاب صيد الخاطر – لابن الجوزي -.

([61]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([62]) كتاب الزهد – للحسن البصري -.

([63]) كتاب هكذا علمتني الحياة – للسباعي -.

([64]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.

([65]) ديوان أبي العتاهية.

([66]) كتاب حلية الأولياء – لأبي نعيم -.

([67]) كتاب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع – للسخاوي -.

([68]) كتاب البداية والنهاية – لابن كثير -.

([69]) كتاب حلية الأولياء – لأبي نعيم -.

([70]) للشاعر: حسن الأندلسي.

([71]) كتاب التبصرة – لابن الجوزي -.