الاستقامة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
الاستقامة
جمع وتحقيق الفقير إلى الله تعالى
عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تَبِعَهم بإحسان، وسار على نَهْجهم في العلْم والعمَل والدعوة إلى يوم الدين.
وبعدُ:
فمنَ المعلوم لدى كلِّ مسلم أنه مخلوقٌ لعبادة لله - تعالى - وأنَّ هذه العبادة تشْمل جميع نواحي الحياة: القولية منها، والعملية، والاعتقادية، والبدنية، والمالية، وأُمِرْنا أن نستقيمَ على هذه العبادة، كما أُمِرنا بلا زيادة ولا نقصان منها؛ لأنها توقيفية.
ووعد الله مَنِ استقام على دينه بالأمْن مِن جميع المخاوف، وعدم الحُزْن على ما فات مِن مُتَعِ الحياة، وأن الملائكة تبشِّره بذلك عند الموت وعند البَعْث، كما تبشره بالفَوْز بالجنَّة، والنجاة من النار.
وهذا ما يَتَمَنَّاهُ المسلم ويرْجوه؛ لذا يجب على المسلم أن يستقيمَ في عقيدته على عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدَر خيره وشره، وأن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه، والبعث بعد الموت، والجزاء والحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وأن يلزم الأدب مع الله - عز وجل - بمحبته وخوفه ورجائه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأن يتأدب مع رسول الله ﷺ بالمحبة والطاعة لأمره، والاقتداء بسنته، والابتعاد عما نهى عنه، فالسعادة كلها مجموعة في طاعة الله ورسوله؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71]، والشقاوة كلُّها مجموعة في معصية الله ورسوله؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
ويجب على المسلم أن يتأدَّبَ مع كلام الله القرآن الكريم، فيقرأَه قراءةً صحيحة، وأن يتدبره، ويعمل به؛ ليكونَ حجَّة له عند ربه، وشفيعًا له يوم القيامة، وقد تكفَّل الله لِمَنْ قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاَّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقَى في الآخرة؛ بقوله - تعالى -: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه: 123].
ويجب على المسلم أن يستقيمَ في أقواله على الشَّرْع المطهَّر؛ فيحاسب نفسه على كلِّ كلمة يتكلم بها، فإن كانتْ خيرًا نطق بها، وإن كانت شرًّا أمسك عنها؛ قال - تعالى -: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، وذلك القول الحسن المشروع مما يتعلق بذكر الله - تعالى - والأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، والنهي عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله؛ وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
فَوَعَد تعالى - ووَعْدُه الحق - مَنِ اتَّقى الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولَزِم القَوْل السديد المشروع في مخاطباته وكلماته - وَعَدَهُ بإصلاح الأعمال، ومغفرة الذنوب، ولن يخلفَ الله وعْدَه؛ لذا يُحَرَّمُ على المسلمِ السبّ واللَّعْن، والغيبة والنميمة والكذب، وتجب التوبة منها، والله يتوبُ على من تاب.
ويجب على المسلم أن يستقيمَ على محبة الله ورسوله وعباده المؤمنين، وعلى بُغْضِ الكفَرة والعصاة والمُلْحِدين، فالمرءُ مع مَنْ أحبَّ يوم القيامة، وعلى المسلم أن يستقيمَ على شُكْرِ نعم الله التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى؛ فيعترف بها بقلبه، ويُثْنِي على الله بها بلسانه، ويستعين بها على طاعته، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ لتستقر وتزداد: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
وعلى المسلم أن يستقيمَ على طاعة الله بأعماله الظاهرة والباطنة، فلا يترك واجبًا، ولا يعمل مُحَرَّمًا، ولا يخالف أمرًا، ولا يرتكب نهيًا.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على التوبة إلى الله في جميع الأوقات، من جميع الذنوب والسيئات، وأن يراقب الله - تعالى - ويعلم أن الله يراه ويسمعه، ويعلم ما يُكِنُّه ضميره، وأن يحاسبَ نفسه فيما يقول ويفعل، ويسمع ويبصر، ويأكل ويشرب، ويمشي ويتناول، وهل هي حلال أو حرام؟ ومشروعة أو ممنوعة؟ ما دام أنه مسؤول ومُحَاسَبٌ عن ذلك كله، فليحاسبْ نفسه قبل يوم الحساب، وأن يجاهد نفسه في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - وأن يتَخَلَّق بأخلاق الإسلام، ويتأدَّب بآدابه، وأن يكون قدوةً حسنةً لغيره في جميع مجالات الخير، مُتَمَسِّكًا بشرْع الله ودينه.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على الصبر على طاعة الله فلا يتركها، والصبر على المعاصي فلا يعملها، والصبر على الأقدار والمصائب فلا يتسخطها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «عجَبًا لأمر المؤمن؛ إنَّ أمرَه كله له خَيْر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إنْ أصابته سَرَّاء شَكَر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضراء صبَر، فكان خيرًا له»[1].
وعلى المسلم أنْ يستقيمَ على التَّوكُّل على الله، والاعتماد عليه في جميع الأمور: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: مَنْ يعتمد على الله في جميع أموره، كفاه الله ما أهمَّه من أمر الدنيا والآخرة، وعلى المسلم أن يستقيمَ على خُلُقِ العدل والاعتدال في جميع أموره، فيعامل الناس بما يُحِبُّ أن يعاملوه به، وأن يكون عادلاً في أقواله وأعماله وأحكامه، معتدلاً في تصرُّفاته، بدون غُلُوٍّ أو تفريط؛ فدين الله وَسَطٌ بين الغالي والجافي، وعلى المسلم أن يُوَقِّر الكبير، ويرحم الصغير، وأن يعاملَ النظير بما يحب أن يعامله به.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على الصِّدْق في أقوالِه وأفعاله ومُعاملاته مع الله ومع خلقه: «فالصدق يهدي إلى البرِّ، والبر يهْدي إلى الجنة»[2].
وعلى المسلم أن يستقيمَ على خُلُقِ التواضُع لله ولعباده، فلا يستكبر على عبادة الله، ولا يتكبَّر على عباد الله، والكبْر: عدم قَبول الحق واحتقار الناس، فمَنْ تواضَع لله رفعه، ومن تَكَبَّر وضعه، والجزاء من جنس العمل.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على عبادة الله - تعالى - فيتوضأ من الحدَث الأصغر، ويغتسل من الحدَث الأكبَر، وإذا عدم الماء أو تضرَّر باستعماله، تَيَمَّم.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بمحبة الله ورسوله، وامتثال ما أَمَرَ الله به ورسوله، والانتهاء عما نَهَى الله عنه ورسوله.
وعلى المسلم أن يستقيمَ على المحافظة على الصلوات الخمْس في أوقاتها مع الجماعة في حق الرجل، وأن يُرْدِفَها بالنوافل من السنن الراتبة والوتر، وأن يستقيمَ على أداء زكاة ماله، طيِّبة بها نفسُه، كاملة غير منقوصة، وأن يستقيم على صيام رمضان وقيامه، وأن يحفظَ جوارحه عن الآثام في رمضان وغيره، وأن يحجَّ بيت الله الحرام إذا استطاع إليه سبيلاً.
وعلى الشاب المسلم أن يبادرَ إلى الزواج المُبَكِّر - إذا كان مستطيعًا - محافظةً على غضِّ البَصَر، وحفْظ الفَرْج، وصيانة العرْض والنسَب، وإذا لَم يستطعِ الزواج فليصبر، وليَسْتَعْفِف ويصوم حتى يغنيَه الله مِنْ فَضْلِه.
ولما كانتِ الاستقامة بهذه المنْزلة العالية، جَمَعتُ فيها هذه الرسالة، وهي مستفادَة من كلام الله - تعالى - وكلامِ رسوله ﷺ وكلام المحقِّقين من أهل العلم، وقد تضمَّنت المقصود بالاستقامة وشمولها للدِّين كله، وأسباب الاستقامة التي هي التوبةُ إلى الله، ومراقبته، ومحاسبة النفس، ومجاهدتها في طاعة الله - تعالى - وحسن عاقبة الاستقامة.
أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها مَنْ كتَبَها، أو طبَعها، أو قرأَهَا، أو سمعها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومن أسباب الفوْز لديه بجنات النعيم، وهو حسبُنا ونِعْم الوكيل، وأن يوفِّقَنا وجميع المسلمين للاستقامة على دينه؛ حتى نلقاه وهو راضٍ عنَّا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
المؤلف 5/6/1409 هـ
* * *
المقصود بالاستقامة(*)
الحمد لله رب العالمين، أَمَرَ بالاستقامة ورتَّب عليها جزيل الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهَّاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وأصحابه، الذين تَمَسَّكُوا بسنته، واستقاموا على دينه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ:
أيها المسلمون، اتقوا الله، واعلموا أنَّ الله - سبحانه - أَمَرَ بالاستقامة عباده عمومًا، وأمر نبيه بها خصوصًا؛ قال - تعالى -: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: 6]، وقال لنبيه ﷺ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]، وَوَعَدَ المستقيمين بجزيل الثواب؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
والاستقامة: كلمةٌ جامعةٌ، وهي القيامُ بين يدي الله على حقيقة الصِّدْق والوفاء بالعهد، وهي تَتَعَلَّق: بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات، فهي مِن جوامع الكَلِم؛ ولهذا لَمَّا جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال له: «قلْ: آمنتُ بالله، ثم استَقِمْ»[3]، فالاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، من غير تَعَوُّج عنه يَمْنَة ولا يَسْرَة؛ بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص منه، فلا يَتَشَدَّد ولا يتساهل، فإن الشيطانَ يشم قلْب العبد ويختبره، فإنْ رأى فيه إعراضًا عنِ الدين، أو تكاسُلاً عن الطاعة؛ رغَّبَه في التساهل والتكاسل؛ حتى يتحلل من الدين، فيترك الواجبات، ويفعل المحرَّمات، ولا يزال يُغْرِيه حتى يقطع صلته بالدين، ويتركه في متاهات الهلاك، إن رأى من العبد حرصًا على الدين فلَم يتمكن من صَدِّه عنه، أَمَرَهُ بالاجتهاد، والجور على النفس، ومجاوزة حَدِّ الاعتدال، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يَحُثُّه ويُحَرِّضه؛ حتى يخرجه عن الاستقامة، وهذا كحال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وهم يَمْرُقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، وكلا الطَّرَفين ذميمٌ: طرف التساهل، وطرف الغلو، كلاهما خروجٌ عن السنة والاستقامة؛ فالأول: خروج إلى بدعة التفريط والإضاعة، والثاني: خروج إلى بدعة المجاوزة والإسراف، قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة - وهي الإفراط - ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة، أو نقصان"، فكلُّ الخير في الاجتهاد المقرون بالاعتدال، والسير على السنة، وكل الشر في الخروج عن السنة عن طريق التساهُل، أو عن طريق الغُلُو.
عباد الله، بعض الناس يقول: آمنا بالله، لكنه لا يكون مستقيمًا على دين الله، بل يكتفي بمجرد القول؛ وفي هؤلاء يقول الله - تعالى -: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10]، فهو ينحرف عند أدنى محنة، ويضل عند أدنى شبهة أو شهوة، أولئكم الذين يقولون ما لا يفعلون، دينهم ما تهواه أنفسهم وما يوافق رغباتهم، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، لا يلتزمون بما يعنيه قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، من طلب الاستقامة على مدلول هذه الكلمة؛ من فِعْل الطاعات، وترْك المحرمات، والإخلاص للمعبود، والإحسان إلى العبيد.
إن كلمة: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ تَمُر على ألسنتهم وكأنها لا معنى لها، فلا تُؤَثِّر على سلوكهم، ولا تُغَيِّر من تصرُّفاتهم، إنَّ النجاة من النار والفوز بالجنة لا يحصلان إلا بمجموع الأمرَيْن: قول هذه الكلمة، والاستقامة على معناها؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13، 14]، وقال ﷺ: «قل: آمنتُ بالله، ثم استَقم».
ولو كان القولُ المجرد يكفي وينفع صاحبه؛ لنفع المنافقين الذين يُردِّدون كلمة: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، والله يكذبهم ويقول: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 8، 9]، لماذا؟ لأنهم لا يستقيمون على قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾.
عباد الله:
وإن الاستقامة الكاملة بحيث لا يقع تقصير من العبد في طاعة الله أمرٌ غير مُستطاع، فالعبد محل التقصير، ومعرض للخطأ، لكن من فضل الله عليه أن شرَع له الاستغفار؛ ليجبر ذلك التقصير في الاستقامة؛ قال الله - تعالى -: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: 6]، ففي الآية الكريمة إشارة إلى أنه لا بُدَّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك الاستغفار، وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس لا يستطيعون الاستقامة الكاملة؛ فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»، وفي رواية للإمام أحمد: «سدِّدوا، وقَارِبُوا، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن»، وفي الصحيحَيْن، عنْ أبي هُريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «سَدِّدوا وقَارِبُوا»؛ فالسداد: هو حقيقة الاستقامة الكاملة، وهو الإصابةُ في جميع الأقوال، والأعمال، والمقاصد؛ كالذي يرمي إلى هدَف فيصيبه، والمقاربة: أن يصيبَ ما قرب من الهدف، إذا لم يصب الهدَف نفسه، لكنه مُصمم وقاصد إصابة الغرض، فالمطلوب منَ العبد الاستقامة، وهي السداد، فإن لَم يقدر عليها فالمُقاربة، فإن لَم يحصل منه سَداد ولا مقاربة فهو مُفَرِّط مُضَيِّع، فالحمدُ الله الذي لَم يكلفنا ما لا نُطيق، وشرع لنا ما يجبر تقصيرنا ويكمل نَقْصنا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]، ويضاعف الحسنات؛ فضلاً منه وتَكَرُّمًا.
عباد الله، ما أحسنَ طريقَ الاستقامة! وما أحسن الاعتدال بين طرفي الأمور! فلا انحلال ولا إخلال، ولا انْحطاط عن مرْتبة الدِّين الذي شرَّف اللهُ به الإنسانية، وكرَّم به البشرية، ولا غُلُوَّ، ولا تشديد، ولا تَنَطُّع في الدِّين، بحيث تجعل السننُ كالفرائض، والمكروهات كالمُحَرَّمات، وتحرم النفوس مما أباح الله لها مِن زينة الله التي أخرج لعبادِه والطيبات من الرِّزْق؛ عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها، وقالوا: أين نحن منَ النبي ﷺ قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فأُصَلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهْر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله ﷺ فقال: «أنتم الذين قلتُم كذا وكذا، أما والله إنِّي لأخْشاكم لله، وأتْقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصَلِّي وأرقد، وأتَزَوَّج النساء، فمَن رغب عن سنتي، فلَيْس مني»[4].
رَزَقَنا الله وإياكم الاستقامةَ على الدِّين، واتباع سنة سيد المرسلين.
* * *
باب في الاستقامة([5])
قال الله - تعالى -: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 - 32].
وقال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
1- وعن أبي عمرو[6] - وقيل: أبي عمرة - سفيان بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قلْ: آمنت بالله، ثم استقمْ»[7].
2 – وعن أبي هريرة[8] - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «قارِبُوا، وسدِّدُوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمَلِه»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتَغَمَّدَني الله برحمة منه وفَضْل»[9].
والمقاربة: القصد الذي لا غُلُوّ فيه ولا تقصير، والسداد: الاستقامَة والإصابة، ويتغمدني: يلبسني ويسترني.
قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله - تعالى - قالوا: وهي من جَوامع الكلم، وهي نظام الأمور، وبالله التوفيق.
* * *
عموم الاستقامة وشمولها للدِّين كله
قال سفيان بن عبدالله للنبي ﷺ: "قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدًا بعدك"، طلَب منه أن يُعَلِّمَه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام كافيًا؛ حتى لا يحتاجَ بعده إلى غيره، فقال له النبي ﷺ: «قل: آمنْتُ بالله، ثم اسْتَقِم»، وفي الرواية الأخرى: «قل: ربي الله، ثم استقمْ»[10].
هذا منتزع من قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
وخرَّج النسائي في "تفسيره"، من رواية سهيل بن أبي حزم: حدَّثنا ثابت عن أنس: أن النبي ﷺ قرأ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، فقال: «قد قالها الناس ثم كفروا، فمَن مات عليها فهو مِن أهل الاستقامة»، وخرَّجه الترمذي، ولفظه: فقال: «قد قالها الناس، ثم كفَر أكثرهم، فمَن مات عليها فهو مِمَّن استقام»، وقال: حسَن غريب، وسهيل تُكُلِّم فيه من قِبَل حِفْظه.
وقال أبو بكر الصديق في تفسير ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: لم يُشْركوا بالله شيئًا.
وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره.
وعنه قال: ثم استقاموا على أن الله ربهم.
وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: نص آية في كتاب الله: ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على شهادة أن لا إله إلا الله.
ورُوِيَ نحوه عن: أنس، ومجاهد، والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم، والسُّدِّي، وعكرمة، وغيرهم.
وروي عن عمر بن الخطاب: أنه قرأ هذه الآية على المنبر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، فقال: لم يروغوا روغان[11] الثعلب.
وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: استقاموا على أداء فرائضه.
وعن أبي العالية قال: ثم أخلصوا له الدِّين والعمَل.
وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله.
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا، فارْزقنا الاستقامة.
ولعل من قال: إنَّ المُراد الاستقامة على التوحيد، إنما أراد التوحيد الكامل الذي يُحَرِّمُ صاحبه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المعبود الذي يُطاع فلا يُعصى؛ خشيةً، وإجلالًا، ومهابة، ومحبة، ورجاء، وتَوَكُّلاً، ودعاء، والمعاصي قادحة كلها في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى، وهو الشيطان.
قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]، قال الحسَن وغيره: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه، فهذا يُنافي الاستقامة على التوحيد.
وأما على رواية من روى: «قلْ: آمنتُ بالله»، فالمعنى أظهر؛ لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلَف ومن تابعهم من أهل الحديث.
وقال الله - عز وجلَّ -: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112]، فأَمَرَهُ أن يستقيمَ ومَنْ تاب معه، وألا يُجاوزوا ما أمروا به وهو الطغيان، وأخبر أنه بصير بأعمالكم، مُطَّلِع عليها؛ قال - تعالى -: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [الشورى: 15].
وقال قتادة: أُمِر محمد ﷺ أن يستقيم على أمر الله، وقال الثوري: على القرآن.
وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية شمَّر رسول الله ﷺ فما رؤي ضاحكًا.
خرَّجه ابن أبي حاتم، وذكر القُشَيْري عن بعضهم: أنه رأى النبي ﷺ في المنام فقال له: يا رسول الله، قلتَ: ((شيبتني (هود) وأخواتها))، فما شيَّبك منها؟، قال: «قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾».
وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [فصلت: 6].
وقد أمر الله - تعالى - بإقامة الدِّين عمومًا؛ كما قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: 13].
وأَمَرَ بإقامة الصلاة في غير مَوْضع من كتابه، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في هاتين الآيتين، والاستقامة في سُلُوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها.
وفي قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: 6]، إشارة إلى أنه لا بُدَّ مِن تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبي ﷺ لِمُعاذ: «اتَّقِ الله حيثما كنْتَ، وأتْبِع السيئة الحسنة تمحها»[12].
وقد أَخْبَر النبي ﷺ أن الناس لن يستطيعوا الاستقامة حق الاستقامة؛ كما خرَّجه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبيِّ ﷺ قال: «استقيموا ولن تُحْصوا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»، وفي رواية الإمام أحمد - رحمه الله -: «سدِّدوا، وقاربوا، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن».
وفي الصَّحيحَيْن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «سَدِّدُوا وقاربوا»؛ فالسداد: هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد؛ كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه.
وقد أمر النبي ﷺ عليًّا أن يسأل الله - عزَّ وجلَّ - السَّدَاد والهُدَى، وقال له: «اذكر بالسداد تسديدك السهم، وبالهدى هدايتك الطريق»، والمقاربة: أن يصيب ما قَرُب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه، ولكن بشرط أن يكون مصمِّمًا على قصد السداد وإصابة الغرَض، فتكون مقاربته عن غير عمد؛ ويدل عليه قول النبي ﷺ في حديث الحَكَم بن حزم الكلبي: «أيها الناس، إنكم لن تعملوا ولن تطيقوا كل ما أمرتُكم، ولكن سَدِّدوا وأبشروا»؛ والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة؛ فإنهم لو سدَّدُوا في العمل كله لكانوا قد فعلوا ما أمروا به كله.
فأصلُ الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإراداته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّل عليه، والإعراض عما سواه - استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإنَّ القلب هو مَلِك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام المَلِك استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسر قوله - تعالى -: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: 30] بإخلاص القصْد لله وإرادته لا شريك له.
وأعظمُ ما يُرَاعَى استقامته بعد القلْب منَ الجوارح اللسان، فإنه ترْجمان القلب، والمعبر عنه.
ولهذا لمَّا أمره النبي ﷺ بالاستقامة، وصَّاه بعد ذلك بحِفْظ لسانه؛ ففي "مسند الإمام أحمد" عن أنس، عن النبي ﷺ قال: «لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلْبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانه».
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: «إذا أصبح ابن آدم، فإنَّ الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، فتقول: اتَّقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإنِ استَقَمْتَ استقَمْنا، وإن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[13].
فصل
قال ابن القَيِّم - رحِمه الله تعالى -: ومن منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]: منزلة (الاستقامة)؛ قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13، 14]، وقال لرسوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112]، فبَيَّنَ أن الاستقامة ضد الطُّغيان، وهو مُجاوَزة الحدود في كل شيء.
وقال - تعالى -: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: 6]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [الجن: 16، 17].
سُئِلَ صِدِّيقُ الأمة، وأعظمها استقامة، أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة؟ فقال: «ألا تشرك بالله شيئًا»، يريد الاستقامة على محض التوحيد[14].
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «الاستقامة: أن تستقيمَ على الأمر والنهي، ولا تروغ رَوَغَان الثعالب».
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: «استقاموا: أخلصوا العمَل لله».
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عباس - رضي الله عنهما -: «استقاموا: أدّوا الفرائض».
وقال الحسن: «استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته».
وقال مجاهد: «استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى لَحِقوا بالله».
وسمعْتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - قدَّس الله روحه - يقول: «استقاموا على محبته وعُبُوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمْنَة ولا يَسْرة».
وفي "صحيح مسلم" عن سفيان بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنْتُ بالله، ثم استقِمْ».
وفيه عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».
والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السَّدَاد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة؛ كما في "صحيح مسلم"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال: «سَدِّدُوا وقَارِبُوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأَمَرَ بالاستقامة وهي السداد، والإصابة في النيات والأقوال والأعمال.
وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم؛ كالذي يرمي إلى الغرض، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يركن أحدٌ إلى عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضلِه.
فالاستقامة كلمة جامعة، آخِذة بمجامع الدين؛ وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد.
والاستقامة تتعلَّق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يُطالبك بالاستقامة.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله تعالى روحه - يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة[15].
* * *
من أسباب الاستقامة(*):
يؤمن المسلم بأنَّ سعادته في كلتا حياتيه، الأولى والثانية، مَوْقُوفة على مدى تأديب نفسه، وتطييبها، وتزكيتها، وتطهيرها، كما أن شقاءها مَنُوطٌ بفسادها، وتدسيتها وخبثها؛ وذلك للأدلة الآتية:
قوله - تعالى -: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9، 10]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ[16] الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[17] وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ[18] وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ[19] وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[20] أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: 40 - 42]، وقوله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3].
وقول الرسول ﷺ: «كلكم يدخل الجنة إلا مَن أبَى»، قالوا: ومَن يأبَى يا رسول الله؟ قال: «مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى»[21]، وقوله ﷺ: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعتقها، أو موبقها»[22].
كما يؤمن المسلمُ بأن ما تُطَهَّر به النفس وتزكو هو حسنة الإيمان، والعمل الصالح، وأن ما تَتَدَسَّى به وتخبث وتفسد هو سيئة الكفر والمعاصي؛ قال - تعالى -: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، وقوله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]، وقال رسول الله ﷺ: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كان نكتةً سوداء في قلبه، فإنْ تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادتْ، حتى تعلو قلبه»[23]، فذلك الرَّان الذي قال الله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وقوله ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخَالِق الناس بخُلُق حسَن»[24].
من أجل هذا يعيش المسلم عاملاً دائمًا على تأديب نفْسه، وتزكيتها وتطهيرها؛ إذ هي أولى مَنْ يؤدَّب، فيأخذها بالآداب المزكِّيَة لها، والمُطهرة لأدرانها، كما يُجَنِّبها كل ما يدسيها، ويفسدها من سَيِّئ المعتقدات، وفاسد الأقوال والأفعال، يجاهدها ليلَ نهارَ، ويحاسبها في كل ساعة، يحملها على فِعْل الخيرات، ويدفعها إلى الطاعة دفعًا، كما يصرفها عن الشرِّ والفساد صَرْفًا، ويردها عنهما ردًّا، ويتبع في إصلاحها وتأديبها؛ لتطهر وتزكو الخطوات التالية:
أ- التوبة، والمراد منها: التخَلِّي عن سائر الذنوب والمعاصي، والندم على كل ذَنْب سَلَف، والعزم على عدم العودة إلى الذنب في مقبل العمر؛ وذلك لقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾[التحريم: 8]، وقوله - تعالى -: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، وقال رسول الله ﷺ: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإنِّي أتوب في اليوم مائة مرة»[25]، وقوله: «مَنْ تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تاب الله عليه»[26]، وقوله: «إن الله - تعالى - يبسط يده بالليل؛ ليتوبَ مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوبَ مُسيء الليل حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها»[27]، وقوله: «لَلَّه أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن مِن رجل في أرضٍ دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام، فاستيقظ، وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركها العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده؛ ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشَرَابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده»[28].
ب- المراقبة، وهي أن يأخذ المسلم نفسه بمراقبة الله - تبارك وتعالى - ويلزمها إياها في كل لحظةٍ من لحظات الحياة؛ حتى يتم لها اليقين بأن الله مُطَّلِعٌ عليها، عَالِمٌ بأسرارها، رقيب على أعمالها، قائمٌ عليها وعلى كلِّ نفس بما كسبت، وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله، شاعرة بالأنس في ذكره، واجدة الراحة في طاعته، راغبة في جواره، مقبلة عليه، معرضة عما سواه.
وهذا معنى إسلام الوجه في قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾[النساء: 125]، وقوله - سبحانه -: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [لقمان: 22]، وهو عين ما دعا إليه الله - تعالى - في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: 235]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، وقوله - سبحانه -: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «اعبُد الله كأنك تراه، فإن لَم تَكُن تراه فإنه يراك»[29].
وأنشد بعضهم:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ | خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ |
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً | وَلا أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ |
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ | وَأَنَّ غَدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ |
جـ- المحاسبة؛ وهي أنه لَمَّا كان المسلمُ عاملاً في هذه الحياة لَيْلَ نهارَ على ما يسعده في الدار الآخرة، ويؤهِّله لكرامتها، ورضوان الله فيها، وكانت الدُّنيا هي موْسم عمله - كان عليه أن ينظرَ إلى الفرائض الواجبة عليه كنَظَر التاجر إلى رأس ماله، وينظر إلى النوافل نظر التاجر إلى الأرباح الزائدة على رأس المال، وينظر إلى المعاصي والذنوب كالخسارة في التجارة، ثم يخلو بنفسه ساعةً من آخر كل يوم يُحاسب نفسه فيها على عمل يومه، فإن رأى نقْصًا في الفرائض لامها ووبَّخها، وقام إلى جبره في الحال، فإن كان مما يُقْضَى قضاه، وإنْ كان مما لا يُقْضَى جبره بالإكثار من النوافل، وإن رأى نقصًا في النوافل عوَّض الناقص وجبره، وإن رأى خسارة بارتكاب المنهي استَغْفَر وندم، وأناب وعمل من الخير ما يراه مصلحًا لِمَا أفسد.
هذا هو المراد منَ المحاسَبة للنفس، وهي إحْدى طُرُق إصلاحها وتأديبها، وتزكيتها وتطهيرها؛ وأدلتها ما يأتي:
قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]. فقوله - تعالى -: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ﴾: هو أمر بالمحاسَبة للنفس على ما قدَّمَتْ لغدها المنتظر، وقال - تعالى -: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
وقال ﷺ: «إنِّي لأَتُوب إلى الله، وأسْتَغْفره في اليوم مائة مرة»[30]، وقال عمر - رضي الله عنه -: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبُوا، وزنوها قبل أن توزنوا»[31]، وكان -رضي الله عنه - إذا جَنَّ الليل يضرب قدميه بالدرّة - عصا - ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم؟
هكذا كان الصالحونَ مِن هذه الأمة يُحاسِبون أنفسهم عن تفريطها، ويلومونها على تقصيرها، يلزمونها التقْوى، وينهونها عن الهوى؛ عَمَلاً بقوله - تعالى -: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40، 41].
د- المجاهدة؛ وهي: أن يعلم المسلم أن أعدى أعدائه إليه نفسه التي بين جَنْبَيْه، وأنها بطبعها ميَّالة إلى الشَّرِّ، فرَّارَة من الخير، أمَّارة بالسوء؛ ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53]، تحب الدَّعة والخلود إلى الراحة، وترغب في البطالة، وتنجرف مع الهوى تستهويها الشهوات العاجلة، وإن كان فيها حتفها وشقاؤُها.
فإذا عرف المسلمُ هذا عبَّأ نفسه لمجاهدة نفسه، فأعلن عليها الحرب، وشهر ضدها السلاح، وصمَّم على مكافحة رعوناتها، ومناجزة شهواتها، فإذا أحبَّت الراحة أتعبها، وإذا رغبت في الشهوة حرمها، وإذا قصَّرت في طاعة أو خير عاقبها ولامَها، ثم ألزمها بفعل ما قصرت فيه، وبقضاء ما فوَّتَتْه أو تركتْه، يأخذها بهذا التأديب حتى تطمئن وتطهر وتطيب، وتلك غاية المجاهَدة للنفس؛ قال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
والمسلمُ إذا يجاهد نفسه في ذات الله؛ لتطيب وتطهر، وتزكو وتطمئن، وتصبح أهلاً لكَرامة الله تعالى ورضاه - يعْلَمُ أن هذا هو درْب الصالحين، وسبيل المؤمنين الصادقين؛ فيسلكه مقتديًا بهم، ويسير معهم مُقتفيًا آثارهم، فرسول الله ﷺ قام الليل حتى تفطَّرت قدماه الشريفتان، وسُئِل - علَيْه السلام - في ذلك[32]، فقال: «أفلا أحب أن أكونَ عبْدًا شكورًا؟!»؛ أَيُّ مجاهدة أكبر من هذه المجاهدة، وايْم الله؟! وعلي - رضي الله عنه - يتَحَدَّث عن أصحاب رسول الله ﷺ فيقول: "والله لقد رأيتُ أصحاب محمد ﷺ وما أرى شيئًا يشبههم كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صفرًا، قد باتوا سُجَّدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله، يُرَاوِحُون بين أقدامهم وجباهم، وكانوا إذا ذُكِرَ الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهَمَلَت أعينهم حتى تبُلَّ ثيابهم".
* * *
الاستقامة وإصلاح النفس وتزكيتها
يتنازَع الإنسانُ في هذه الحياة عاملا الخير والشر، وكثيرًا ما ينْساق إلى أحدهما بدافعٍ داخلي، أو مؤثِّر خارجي.
والدِّين من أهم أهدافه وقايةُ الإنسان من نزعات الشر؛ ببيان ضرره، والتحذير منه، ودعوة الذين تَوَرَّطوا فيه إلى الاستقامة، تَبَعًا لِمَا رَسَمَهُ الله لعبادِه، فالاستقامةُ هي أقْوى سببٍ للرُّقِيِّ الأدبي، وما سيطرتْ هذه الرغبة في قوْمٍ إلَّا صلح حالهم، واستَقَرَّ السلام بينهم.
والإنسان إذا لَم تصاحبه الرَّغبة في الاستقامة، ضَعُف إقبالُه على الخير، وأصبح هدفًا سهلاً للتوَرُّط في الآثام، لهذا نرى الإسلام أَوْلَى الاستقامة اهتمامًا خاصًّا، ودعا إليها بأسلوب شائق يستهوي الأنفس، ويؤثر في أعمق أعماقها بما وعد المستقيمين من الأجْر العظيم، وحُسن المثوبة في الدنيا والآخرة؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 - 32].
ويطمئنهم الله بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13]؛ أي: فلا خوف عليهم من عذاب يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم.
وجاء رجلٌ إلى رسول الله ﷺ فقال: أوصني يا رسول الله، فأجابه الرسول بهذه الجملة الموجزة الرائعة: «قلْ: آمنتُ بالله، ثم استقمْ»[33].
إصلاح النفس: ومما يتوافَق مع معنى الاستقامة إصلاح النفس؛ لأنَّ التمادي في الشَّرِّ يجرُّ إلى أوخم العواقب على النفس الإنسانية وعلى المجتمع؛ ولهذا وعد الله الذين يصلحون أنفسهم بالغفران والرضا؛ قال - سبحانه -: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 39]، ويُخاطب الله الإنسانية جَمْعاء: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: 35].
تزكية النفس: ومما ينسجم مع الاستقامة ما عبَّر عنه القرآن أيضًا بتزكية النفس؛ ومعناها: الطُّهر من الأدناس، والسموّ عن النقائص، ووضع النفس حيث يطيب موضعها، ويرتفع قدرها؛ لتأخذَ عند الله حظَّها من الرضوان، وبين الناس نصيبها من الكرامة، ولقد حثَّ القرآن على تزكية النفس هذه، ووعد بالفلاح من أخذ بها؛ فقال - سبحانه -: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14]، وقال - سبحانه - في النفس الإنسانيَّة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9، 10].
وبيَّن - سبحانه - أن تزْكية النفس لا يعود نفْعها إلا على صاحبها، فلهذا يجب الحرْص عليها: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [فاطر: 18].
إنَّ الاستقامة وإصلاح النفس وتزكيتها صفات تفتح باب الأمل للذين تورَّطوا في الإثم؛ لتغيير حياتهم إلى حياة أفضل، وتنفي عنهم اليأس من إصلاح أنفسهم، وصفة اليأس هذه إذا تَمَكَّنت من نُفُوسهم؛ جعلتهم عنصر شرٍّ لا يُمكن إصلاحه.
إن هذه التعاليم تُلَخِّص كل مُكْتشفات علْم النفس الحديثة، التي تقول بأنه لن يتسنَّى لنا الحصول على الشخصية الناجحة أو الخُلُق القويم عن طريق التَّأمل الباطني الصِّرْف، بل عن طريق تدريب النفس؛ أي: تهذيبها وحكمها والسيطرة عليها[34].
* * *
التذكير بالاستقامة على الدِّين
الحمد لله الذي هدانا للإسْلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة مَن قال: ربي الله، ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صلِّ على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البَرَرَةِ الكرام، وسَلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ:
فقد قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 - 32].
فوعد الله - سبحانه، ووعده حق وصدق - كلَّ مَن قال: ربي الله؛ أي: قال: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم استقام على تصديق ما قال، فحافظ على واجباته، من أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداء زكاة ماله طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، وصام رمضان، وبَرَّ والدَيْه، وَوَصَلَ أرحامه، وأحسن إلى الفقراء والمساكين والأيتام، كما أحسن الله إليه، والتَزَمَ الصِّدق والوفاء بالعهد والوعد، وأداء الأمانة، واجتناب الربا وشرب المسكرات، وسائر أعمال المنكرات، فمَنِ استقام على هذه الأعمال، ثم سعى سعيه في كسْب المال الحلال - فإنه يحيا حياةً سعيدة طيبة، يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، حتى يكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، ويفوز بهذه الخصال الحميدة؛ فمنها:
الأولى: تَتَنَزَّل عليه الملائكة بالرحمة والبركة والسكينة في حاله، وماله، وعياله، وصالح أعماله، ولأن منَ الناس مَن تَتَنَزَّل عليهم الملائكة بالرحمة والبركة، ومنهم مَن تَتَنَزَّل عليهم الشياطين بالشؤم والشَّر: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ [الشعراء: 221 - 223].
والثانية: تبْشير الملائكة بألا تخافوا ولا تحْزنوا، ومَن ذَهَب عنه الخوف والحزن فقد ذَهَب عنه جميع الشُّؤم والشر؛ لأنَّ الإنسان متى كان يخاف وُقُوع شيء من الشَّرِّ، فإنه دائمًا خائف مهموم منه، ولا عَيْش لخائفٍ، وإذا وقع به فإنه لا يزال كئيبًا حزينًا منه، ومن المعلوم أن الهمَّ والحزن عقوبات تتوالى، ونار في القلب تَتَلَظَّى، ولا يزالان ينفخان في الجسم، حتى يجعلا السمين نحيفًا، والقويَّ ضعيفًا، كما قيل:
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نِحَافَةً | وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ |
وكان مِن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من غَلَبَة الدَّين وقهْر الرجال»[35].
وهؤلاء المستقيمون على طاعة ربِّ العالمين قد سَلِموا من المرْهوب، وفازوا بالأمْر المحبوب، إن أصابتْ أحدَهم سراءُ شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ فصبَر، كان خيرًا له.
والبشرى الثالثة: قول الملائكة لهم: ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وهذه البشرى هي أعلى وأجلُّ؛ لأنَّ فيها البُشْرى بالجنة التي يعمل لها العاملون، كما قال بلالٌ للنبي ﷺ: أما إنِّي لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، أما إنِّي أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، فقال رسول الله ﷺ: «حولهما ندندن»[36].
والبشرى الرابعة، والخامسة: قول الملائكة لهم: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، فمَنْ كانت الملائكة أولياءَه في الدنيا، فإنها تذبُّ عنه كل سوء، فتدفع عنه الأذى، وتحارب دونه الأعداء، ولما تصدَّى رجلٌ لسبِّ أبي بكر ورسولُ الله ﷺ جالس، وأبو بكر صامتْ لا يجاوبه، فلما طال سبُّه له، تصدَّى أبو بكر للرَّدِّ عليه، فقام رسول الله ﷺ منْصَرفًا، وعلى وجهه الكراهية، فجاء أبو بكر يعتذر إليه، فقال: يا رسول الله، لقد سمعت قوله فيَّ وأنا ساكت، فلما جاوبته قمتَ، وعلى وجهك أثرُ الكراهية؟ فقال: «نعم، إنه لا يزال الملك ينافِح عنك لمَّا كنت ساكتًا، فلما انتصرتَ، انصرَف الملك، وانصرفتُ لانصرافِه».
وأما ولاية الملائكة له في الآخرة عند الاحتضار فإن المسلم المستقيمَ على الدِّين عند حضور أجله، تنزل الملائكة عليه بالرحمة والرِّضوان، وتبشِّره بالذي يسرُّه، وتقول له بعطف ولُطْف وحنان: يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح ورضوان، ورب غير غضبان، أبشر بالذي يسرُّك، فهذا يومك الذي كنت توعد، ويقول الله: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 - 30]، ولهذا ختم هذه البشارات بقوله: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾؛ أي: لكم ما تَتَمَنون، وما لا يخطر ببال أحدكم من كل ما تشتهي الأنفس، وتَلَذ الأعين، "نزلاً"؛ أي: ضيافة وكرامة من غفور رحيم، أتدرون ما هي الاستقامة التي ندب الله عباده إليها؟ هي: الثبات والاستِقامة على الدِّين؛ من فِعل الواجبات، واجتِناب المحرَّمات، وهي المُراد بقوله - تعالى -: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].
فالثابت على الدين، وسلوك الصراط المستقيم، الذي سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه - هو عينُ الاستقامة المنْشُودة، فمَنْ ثَبَت على الدين، واستقام عليه، ولم يَزِغ عن أمر ربه، ثبَّته عند سؤال الملكَيْن له في القبْر، ويُلَقِّنه حجته، ثم يثبته على سلوك الصراط المعروض على مَتْنِ جهنم، وهو أَحَرُّ من الجمر، وأَحَدُّ من السَّيْف الأبتر، وهذا الصراط المعروض على متن جهنم بمثابة الخشَبة المعروضة على القُلَيْب، وعلى جوانبه كلاليب، وحَسَكٌ كالشوك، وهي المعاصي، وكبائر الذنوب، تخدش الناس، وتخطف من أُمِرت بخطفه، وتلقيه في جهنم، فيكلف الناس بالمُرُور على هذا الصِّراط، وهو المُراد بقوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 71، 72].
فالمراد بالورود المرور، فتجري بالناس أعمالهم، حتى إن أحدهم يمر كالبرق، وتقول له النار: جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورُك لَهَبي، ويمر أحدهم كالريح، وكأجاود الخيل، والرِّكاب، ومنهم من يمشي مشْيًا، ومنهم مَن يحبو حَبْوًا، فمخدوش ناج، ومُكَرْدَس على وجهه في نار جهنم، والنبي ﷺ على طَرَف الصراط ينظر إلى الناس، ويقول: «اللهم سلِّم سلِّم»، فمتى خلصوا من مرور الصراط، وردوا نهر الكوثر، فشربوا منه حتى لا يظمَؤُوا بعده أبدًا[37].
والمستقيم الثابت على الدين القويم، فإنه يثبت عند سلوك هذه المخاطر والمزالق، ويجري به عملُه في أحسن سلوك منه، والنبيُّ ﷺ يقول: «أنا ممسِك بِحُجَزِكم عن النار، أقول: هَلُمَّ عن النار، وأنتم تغلبونني، وتُقَاحِمون فيها، كتَقَاحُم الفَرَاش والجَنَادِب، وأنَّكم تَرِدُون علي معًا وأشتاتًا، فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريبة في إبله، وأنه يؤخذ بأناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب، أمتي، فيُقَال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بُعْدًا وسحقًا لِمَنْ غيَّر بعدي»[38].
ثم إن الاستقامة أيضًا الثبات على مصابرة الأعمال التي تُوَكَّل إلى الشخص، ويُعْهَد إليه فيها، من أعمال حكومية وغيرها.
فالمستقيم على عمله، بحيث يُنفِّذ ما عهد إليه فيه بدون بَخْس، ولا نَقْص، ولا خيانة، وبدون تعليل، ولا تمليل، فهذا ممدوحٌ عند الله، وعند خلقه، وينشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن على حسن وفائه، واستقامته في أداء عمله، وكل شخص فمسؤول عما تولاه؛ كما قيل:
حَيْثُمَا تَسْتَقِمْ يُقَدِّرْ لَكَ الل | هُ نَجَاحًا فِي غَابِرِ الأَزْمَانِ |
أما غير المستقيم، فهو الذي يتهرَّب من عمله، ويتغيَّب عن دوام جلوسه، ويخون، ويختلس، ولا يفي بوعد ولا عهد، ليس له حظ من الاستقامة، ولا الصدق، ولا الأمانة، فتنتشر عنه الصفات الذَّميمة الناشئة عن سوء سيرته، وفساد سريرته، ولهذا جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، فقال رسول الله ﷺ: «قل: آمنتُ بالله، ثم استقم»[39]، فدلَّه على أمرٍ جامع نافع؛ أي: استقم على العمل بإسلامك، وليس من شرط الاستقامة كونه لا يذنب أبدًا، بل يذنب ثم يتوب، والتائب من الذنب كَمَنْ لا ذنب له؛ يقول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]؛ أي: يبصرون طريق المخرج من هذا الذنب؛ فيتوبون ويستغفرون.
إنَّ الاستقامة شأنُها عظيم، فقد قرأ هذه الآية قومٌ، ثم لَم يسْتقيموا على العمَل بها، فتركوا فرائض الطاعات، وانتهكوا الحدود والمُحَرَّمات، واستباحُوا أكل الرِّبا، وشُرب المُسْكِرات، وصرفوا جُلَّ عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بُطونِهم وفُرُوجهم، وتركوا فرائض ربِّهم، ونسوا أمْر آخرتهم، فنَهَى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم، ومع هذه المُخالفات، يدَّعون بأنهم مسلمون، وهم لَم يستقيموا على صِحة ما يدَّعون، فإنَّ الإسلام ليس هو محض التَّسَمِّي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وَقَر في القلب، وصدقته الأعمال.
إنَّ صِراط الإسلام - أي: طريق الإسلام - واحِدٌ، مَنِ استقام عليه نجا، ومَنْ تَخَلَّفَ عنه غرق، وهو ما كان علَيْه رسولُ الله ﷺ وأصحابه، وهو المراد بقوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، وهذه السبُل التي حذَّر منها هي بُنَيَّات الطريق التي تفضي بسالكها إلى الهلاك والتعْويق، وقد أخْبَر النبي ﷺ أنَّ أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كان على مثْل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»[40]، فهذه الفِرْقة الناجية هي التي وُفِّقَت للاستقامة، ففازتْ بالسلامة، بخلاف سائر الفرَق الضالَّة، فإنها زاغت عن دينِها، وتنكَّبت طريق نبيِّها، كما الكثيرين منَ المنتسبين للإسلام في خاصَّة الأمصار التي أفسد التَّفَرْنُج تربيتَها، وعقائد أهلها، فكانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يُحَرِّمُون ما حرَّم الله ورسوله، منَ الرِّبا والزنا، وشُرْب الخمر، ولا يَدِينُون دين الحقِّ - قد أضاعوا الصلاة، واتَّبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستَخَفُّوا بحُرُمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وصار هؤلاءِ هم أضرَّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى؛ من أجل أن الناس يغترُّون بهم، وينخدعون لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم مُرْتَدُّون، والمُرْتَدُّ شِرٌّ من الكافر الأصلي، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتْل المرْتَدِّ عن دينه إلا رحمةً بمجموع الأمة أن تَفْسد به أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرءُ على دِين خليلِه وجليسه؛ يقول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25].
ولهذا نزلت التعْزيةُ منَ السماء عنْ أمثالهم بقوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176].
إنَّ الاستقامة شأنُها عظيم، ولَمَّا قيل للنبي ﷺ: إنه قد أسرع إليك الشيب؛ قال: «شيَّبَتْني هودٌ وأخواتها»، قالوا: فما شيبك منها؟ قال: «شيَّبَني قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]»، وعن ثوبان: أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «استَقِيمُوا ولن تحصوا، واعْلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمِن»[41].
إنَّ بعض الناس يكونُ مُسلمًا مستقيمًا في بداية عُمُره، ثم يُصاب بالانحراف في آخر عُمُره؛ بسبب ولد مُلحدٍ، أو جليس فاسق، يقذف إليه بالشُّبَه المُضِلَّة، والتشكيكات التي تُزِيغه عن معتَقده الصحيح، ثم تقودُه إلى الإلحاد والتعطيل، والزيغ عن سواء السبيل، فقد روى الإمام أحمد، عن أبي سعيد مرفوعًا: «إنَّ من الناس مَنْ يُولَد مؤمنًا، ويعيش مؤمنًا، ويموت كافرًا»، كله من أجل عدم استقامته في حياته، والعمر بآخره، وملاك الأمْر خواتمه.
وقد أخْبَر النبي ﷺ: «بأنها تكون فِتَن كقِطَعِ الليل المُظْلِم، يُصبح منها الرجلُ مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا»[42]، وهذه الفتَن إنما يُراد بها الفتن في الدين، والفتنة أشدُّ من القتل - ونعوذ بالله من مُضلات الفتَن - والله يحب البصَر الناقد عند ورود الشبُهات، والعقل الكامل عند حُلُول الشهَوات.
وكان النبي ﷺ يستعيذ في أدبار الصلوات من فتنة المحيا والممات[43]، ويقول في دعائه على الجنازة: «اللهم مَنْ أحييتَه منَّا فأحيِهِ على الإسلام والسنة، ومَنْ توفَّيتَه منا فَتَوَفّه على الإيمان»[44].
نسأل الله - سبحانه - أن يعمَّنا وإياكم بعفْوِه، وأن يسبغَ علينا وعليكم واسع فضْله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين مِن عباده، وأن يُعيننا على ذِكْره وشكره وحُسْن عبادَته[45].
* * *
حُسْن عاقبة الاستقامة
قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت: 30 - 36].
يُخبر الله - تعالى - عن عباده المؤمنين، ويُثني عليهم؛ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾؛ أي: اعترفوا بربوبيَّة الله - تعالى - لهم، واستَسْلَمُوا لأمره، وعملوا بطاعته على ما شرع لهم، وأخلصوا له القول والعمل، ثم استقاموا على الصِّراط المستقيم، واستمرُّوا على طاعة الله حتى ماتوا؛ فلهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾ عند الموت، وقيل: عند خُرُوجهم من قُبُورهم، ولا مُنافاة، يبشرونهم قائلين: ﴿أَلاَّ تَخَاْفُوا﴾ على ما يُسْتَقْبَل مما تُقْدِمون عليه من أمر الآخرة، ﴿وَلا تَحْزَنُوا﴾ على ما مضى مما خلفتموه من أمْرِ الدُّنيا؛ من وَلَدٍ، وأهل، ومال، فإنا نخلفكم فيه، فنفوا عنهم المكروه في الماضي والمستقبل، ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، فإنها قد حصلتْ لكم، وكان وَعْدُ الله مفعولاً، فيبشرونهم بذهاب الشرِّ وحُصُول الخير والرحمة والرضوان؛ كما جاء في الحديث: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان»[46].
وقيل: إن الملائكة تُبَشِّر المؤمن عند مَوْته، وفي قبره، وحين يبعث، وهو يجمع الأقوالَ كلها، وهو الواقع - والله أعلم - ويقولون أيضًا مُثَبِّتِين لهم ومبشرين: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾؛ أي: تقول الملائكةُ للمؤمنين عند الموت: نحن كنَّا أولياءَكم؛ أي: قرناءَكم في الحياة الدُّنيا نُسَدِّدكم ونوفقكم، وندعو لكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نُؤْنِسُ منكم الوحشة في القبور وظلماتها، ونؤمنكم يوم البعث والنشور في القيامة وأهوالها، ونُجاوز بكم الصِّراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النَّعيم، ونُهنئكم بذلك: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24].
ويقولون لهم أيضًا: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾؛ أي: في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقرّ به العيون، ﴿وَلَكُمْ فِيْهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ ما تطلبون مهما طلبْتم وجدتم، وحضر لكم بين أيديكم منَ اللذَّات والمشتهيات، منَ المأكولات والمشروبات، والملابس والمراكب، والمناكح والبساتين، والأنهار الجارية، والغرف العالية، وغير ذلك، ﴿نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾؛ أي: هذا الثواب الجزيل والنَّعيم المُقيم ضيافةً وعطاءً وإنعامًا من غفور لذنوبكم، رحيم بكم، حيث وفَّقَكم لفِعْل الحسَنات، ثم قَبِلها منكم، وأثابكم عليها؛ فغفر وستر، ورحم ولطف، فبِمَغْفِرَتِه أزال عنكم المحذور، وبرحمته أعطاكم المطلوب، فله الحمد والشكر والثناء أوَّلاً وآخِرًا، وفي الحديث: أنَّ رجلاً قال للنبي ﷺ: حدثني بأمر أعتصم به، قال: «قل: ربِّي الله، ثم استقمْ»[47]، ثم قال - تعالى - مُرَغِّبًا في الدعوة إلى الله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: لا أحسن قولاً؛ أي: كلامًا وطريقة وحالة ممن دعا عباد الله إليه؛ بتعليم الجاهلين، ووعْظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها، والحثّ عليها وتحسينها مهما أمْكن، والزجر عما نَهَى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب ترْكه، خصوصًا الدعوةَ إلى أصْل دين الإسلام وتحسينه، ومجادَلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنَّهي عما يضاده منَ الكُفْر والشِّرْك، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ثم قال - تعالى -: ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾؛ أي: مع دعْوته الخلق إلى الله بادر هو بنفْسِه إلى امتثال أمر الله بالعمَل الصالح الذي يرضي ربه، ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي: المُسْتسلمين لأمر الله، المنقادين لطاعته، وهذه الآية عامَّة في كلِّ مَن دعا إلى خيْر، وهو في نفْسه مهتدٍ، وقيل: المراد بها المؤذِّنون الصُّلَحَاء الذين يدعون إلى الصلاة بالأذان، والصحيح: أنها عامة في المؤذِّنين وغيرهم من الدعاة إلى الله، ثم قال - تعالى -: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ﴾؛ أي: لا يستوي فعلُ الحسنات والسيئات، والطاعات والمعاصي، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم، لا في ذاتها ولا في وصْفها ولا في جزائها؛ ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي: مَن أساء إليك فادفعه بالإحسان إليه؛ وذلك بأن تَصِلَ مَنْ قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾؛ أي: قريب شفيق؛ والمعنى: إذا أحْسنتَ إلى مَن أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى محبتك ومصافاتك، والإحسان إليك والحُنُوّ عليك، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾؛ أي: لا يُوَفَّقُ لهذه الخصْلة الحميدة، ويقبل هذه الوصية، ويعمل بها، إلا مَنْ صبر نفسه على ما تكره، فإنه يشق على النفوس، فإنها مَجْبُولة على مقابَلة المسيء بإساءَته، وعدم العَفْو عنه، فكيف بالإحسان إليه؟! ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾؛ أي: ذو نصيب وافِر منَ السعادة في الدنيا والآخرة؛ لكونِها من خصال خواصِّ الخلق، التي هي مِن أكبر مكارم الأخلاق، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية قال: "أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك، عصَمَهُم الله منَ الشيطان، وخضع لهم عدوهم"[48]، ولما ذكر الله - تعالى - ما يُقَابَل به العدو من شياطين الإنس، وهو مقابلة إساءته بالإحسان إليه، ذكر ما يُدْفَعُ به العدو الجِنِّيُّ، وهو الاستعاذة بالله منه، فقال: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ النزغ: شبه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه؛ أي: يبعثه إلى ما لا ينبغي؛ ومعنى الآية: وإن صرفك الشيطان عما أُمِرْتَ به منَ الدفع بالتي هي أحسن أو وَسْوَسَ لك بتزيين الشرِّ، وتحسين القبيح، والتثبيط عن الخير والإحسان، ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾؛ اعتَصِم بالله خالقه الذي سَلَّطَه عليك، فإذا استعذْتَ بالله، والتَجَأْتَ إليه، كفَّهُ عنك، وأعاذَكَ مِنْ شَرِّه، وضرِّ كيده، ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: 97، 98].
وكان النبي ﷺ إذا قام إلى الصلاة يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزِه، ونَفْخِهِ، ونَفْثِه»[49]، قيل في تفسيرها: همزه المَوْتَة، وهي: الخنق، ونفخه الكِبْر، ونفثه الشِّعر؛ ولهذا قال - تعالى -: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: اسأله مفتقرًا إليه أن يعيذك ويعصمك منه؛ ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾؛ أي: السميع لاستعاذتك وتَضَرُّعك، العليم بحالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته.
ما يُستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- الحثُّ على الاستقامة بلُزُوم طاعة الله، قولاً، واعتقادًا، وعملاً.
2- فضْل الاستقامة، وحُسْن عاقبتها بِزَوال الخَوْف والحزْن في الدنيا والآخرة.
3- بشرى لأهل الاستقامة بدُخُول جنات النعيم والخُلُود فيها.
4- تكرُّر نزول الملائكة؛ لتبشير المؤمن وتطمينه وتهنئته، عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، يهنِّئُونه بالسلامة، وحصول المحبوب، وزوال المكْروه.
5- تولِّي الملائكة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
6- اشتمال الجنة على ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وتطلبه الألسن، ضيافةً من الله لهم.
7- وصْف الله بالمغفرة لذنوب عباده والرحمة بهم.
8- أنه لا أحسن قولاً مِمَّن دعا إلى الله، وعمِل صالحًا لنفسه، واستسلم لرَبِّه.
9- أنَّ الدين قولٌ، واعتقادٌ، وعملٌ.
10- عدم استواء الحسنة والسيئة، في العمَل والجزاء، والثواب والعقاب.
11- الحثُّ على مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن المظالم، والحلْم على الجاهل، ووصل القاطع، وحسن عاقبة ذلك.
12- أنه لا يُوَفَّقُ لمقابلة الإساءة بالإحسان إلا الصابرون، أهل الحظ الوافر.
13- الحثُّ على الاستعاذة بالله من الشيطان، ووساوسه، ونزغاته؛ امتثالاً لأمر الله، وامتناعًا به، والتجاءً إليه، واقتداءً برسوله - صلى الله عليه وسلم.
14- وَصْفُ الله بالسمع لأقوال عباده ودعائهم، والعلم بأحوالهم(*).
* * *
فائدة:
عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خِيرَة خلق الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنَّني من المسلمين، هذا خليفة الله[50].
* * *
[1] رواه مسلم.
[2] حديث حسن متَّفق عليه.
* من خطب الشيخ صالح الفوزان، 1/ ص 224.
[3] رواه مسلم.
[4] متفق عليه.
[5] في "مفردات الراغب": استِقامة الإنسان: لزومه للمنهج المستقيم؛ نحو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [الأحقاف: 13]. اهـ.
وقال بعضُ العارِفين: مرْجَع الاستقامة إلى أمرَيْن: صحَّة الإيمان بالله، واتِّباع ما جاء به رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا، وقال عُمر - رضي الله عنه -: الاستقامةُ أن تقومَ على الأمر والنهي، ولا تروغ عنه روغان الثعلب؛ قال الله - تعالى -: ]فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ[، الخطابُ فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - يعني: فاستقمْ يا محمد على دِين ربِّك، والعمل به، والدعاء إليه، كما أَمَرَكَ ربُّك، والأمرُ فيه للتأكيد؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الاستقامة لَم يزل عنها، فهو كقولك للقائم: قمْ حتى آتيك؛ أي: دُمْ على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وفي "تفسير القرطبي": أنَّ الذي شيبه - صلى الله عليه وسلم - من سورة هود قوله: ]فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ[، وقال: رُوِيَ عن عبدالرحمن السلَمي قال: سمعْتُ أبا علي الشنوي يقول: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلْتُ: يا رسول الله، روي عنك أنك قلت: «شَيَّبَتْني هودٌ»، فقال: نعم، فقلتُ له: ما الذي شيبك منها، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: «لا»، ولكن قوله: ]فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ[. اهـ. وقال - تعالى -: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا[ على التوحيد وغيره مما وجب عليهم ]تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ[ عند الموت ﴿أَنْ﴾؛ أي: بأن ﴿لا تَخَاْفُوْا﴾ من الموت وما بعده ﴿وَلا تَحْزَنُوا﴾ على ما خلَّفتم من أهل وولد، فنحن نخلفكم فيهم، ]وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[؛ أي: حفظتكم ]وَفِي الْآخِرَةِ[؛ أي: نكون معكم فيها حتى تدخلوا الجنة، ]وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ[، قيل: في إضافتها إليهم إشارة تنعم أنفسهم التي ذاقت المرارة في الدنيا، وانظر إلى «تشتهي» وإلى قوله: «تدعون» في قوله ]وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ[؛ أي: ما تطلبون، فإن فيه إشارة إلى تفاوُت المراتب، ولا يخفى أنَّ ذلك مما تذهب فيه النفس كل مذهب، ﴿نُزُلاً﴾؛ رزقًا مُهَيَّئًا، منصوب بـ(جَعَلَ) مُقَدرًا ﴿مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾، وهو الله - تعالى - وإذا كان هذا النزل وهو الكرامة المعجلة، فكيف بالمؤجَّلة؟! رزقنا الله - تعالى - اتِّباع الكتاب والسنة، وخَتَمَ لنا بالحسنة بِمَنِّه، آمين.
وقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ[؛ أي: آمنوا به ووحَّدُوه ﴿ثُمَّ اسْتَقَاْمُوا﴾ اعتدلوا على ذلك، وداموا عليه إلى أن يتوفَّاهم الله عليه، والمراد الاستقامة على التوحيد الكامل، واتباع الكتاب والسنة: ]لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ[ بفضل الله - تعالى - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»... الحديث، ﴿خَالِدِينَ فِيْهَا﴾ حال مُقَدَّرة ﴿جَزَاءً﴾ منصوب على المصدرية بفعله المقدر؛ أي: يجزون جزاء ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
[6] (وعن أبي عمرو) بفتح العين المهملة، (وقيل: أبي عمرة) بزيادة تاء في آخره، (سُفْيَان) بضم السين على الأصح، وهو بتثليث السين (ابن عبدالله الثقفي - رضي الله عنه)، معدود من أهل الطائف، كان عاملاً عليها لعمر حين عزل عنها عثمان بن أبي العاص، ونقله إلى البحرين، روى له مسلم هذا الحديث، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، (قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام)؛ أي: في دينه وشريعته (قولاً جامعًا) لمعاني الدين، واضحًا في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك، أعمل عليه، واكتفي به، بحيث (لا أسأل)؛ أي: لا يحوجني لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول، ونهاية الإيضاح والظهور، إلى أن أسأل (عنه أحدًا غيرك،ك (1))، قال: ((قلْ: آمنتُ بالله))؛ أي: جدِّد إيمانك، متذكرًا بقلبك، ذاكرًا بلسانك، مستحضرًا تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل، ((ثم استقمْ)) على عمل الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالَفات؛ إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الاعوجاج، فإنها ضده، والحديث على وفاق الآية قبله (رواه مسلم)، وأخرجه أحمد، والدارمي، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الكبير"، والضياء في "المختارة"(2)، والحاكم في "مستدركه"، والبيهقي في "شعَب الإيمان"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، وغيرهم، قال المصنّف: هذا أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الأوصاف للقول يومئ إليها تنوين قولا فإنه للتعظيم، (2) اسم كتاب للحافظ المقدسي.
[7] رواه مسلم.
[8] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا وسدِّدُوا، واعلموا أنه))؛ أي: الشأن ((لن ينجوَ أحدٌ منكم منَ الله بعمَلِه))، "قالوا: ولا أنت؟"؛ أي: ولا تنجو بعملك، فحذف الفعل فانفصل الضمير، ويحتمل أن يكونَ: ولا أنت ناج بعملك، فيكون مبتدأ محذوف الخبر، قال: ((ولا أنا))؛ أي: ولا أنجو، أو ولا أنا ناج بالعمل ((إلا أن يتغمدني))؛ أي: يغمرني ((الله برحمة منه وفضل))، ويلبسنيها ويغمرني بها، ومنه: غمدت السيف وأغمدته؛ أي: جعلتُه في غمده، وسترته به.
قال النووي في "شرح مسلم": مذهبُ أهلِ السنَّة أنه لا يثبت بالعقل ثواب، ولا عقاب، ولا حكم شرعي، ولا يثبت ذلك كله إلا بالشَّرْع، ومذهبهم أنَّ الله - تعالى - لا يجب عليه شيء، بل الدنيا والآخرة ملْكه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد؛ فلو عذب المطيعين جميعهم وأدخلهم النار لكان عدلاً منه، ولو نعَّم الكافرين وأدْخلهم الجنَّة كان له ذلك، ولكنه أخبر - وخبره صِدْق -: أنه لا يفعل هذا، بل يغفرُ للمؤمنين، ويُدخلهم الجنة برحمته، ويُعَذِّب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه، وفي هذا الحديث دليل ظاهر لما قلناه من أنه لا يستحق أحدٌ الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، ونحوها من الآيات الدالة على أنَّ الأعمال يدخل بها الجنة، فهي لا تُعارض هذه الأحاديث؛ بل معنى الآيات: أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله وفضله، فصحَّ أنه لم يدخل الجنة أحد بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أن يقال: إنَّه دخل بالأعمال المسببة عنِ الفضل؛ أي: بسببها وهي من الرحمة. اهـ مُلخصًا.
وأشار العارف بالله - تعالى - ابن أبي جمرة إلى جواب آخر، حاصله أنَّ الأعمال أسباب عادية كسائر الأسباب التي هي مِن مقتضيات الحكمة، ولا تأثير لها في دُخُول الجنة، فالنفْيُ باعتبار التأثير؛ بمعنى: أنَّ الذي يؤَثِّر في دُخُول الجنة في الحقيقة إنَّما هو الله - تعالى - لا الأعمال، فإنما هي مجرَّد أسباب صورية، اقْتَضَتْها الحكمةُ الإلهية، والإسناد إليها تارة باعتبار أنها سبب صُوري، قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دلالة على أنه ليس أحد من الخلْق يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها، يؤخذ ذلك من قوله: «ولا أنا، إلاَّ أن يتَغَمَّدني الله برحمته»، فإذا كان هو - وهو خير البشر، وصاحب المقامات العلا - لا يقْدر على ذلك، فالغيرُ أحرى وأَوْلَى، وإذا تأملتَ ذلك من جهة النظر تجده مدركًا حقيقة؛ لأنه إذا طالبنا بشُكر النِّعَم التي علينا عجزنا عنه بالطبع، ومنها ما لا نعرفه؛ كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18]، فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات؟! فما بقى إلا ما أخبر به الصادق، وهو التغَمُّد بالفضل والرحمة؛ رواه مسلم.
والمقاربة: القصْد الذي لا غلوَّ فيه؛ أي: مجاوزة المأمور به، والزيادة فيه، (ولا تقصير)؛ أي: إخلال بشيء منه (والسَّداد) بفتح الأُولَى: (الاستقامة والإصابة)، قال بعضُهم: السَّداد هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها: هي الاستقامة، (ويتغمدني: يلبسني ويسترني)، هو مثل يتغمدني في التعدِّي بالباء، وإن كان لا يلزم من ترادف معنى الفعلَيْن توافقهما في الاستعمال والصلة(1)؛ كـ(صلَّى) فإنه بمعنى (دعا)، ومع هذا فالأول يُعَدَّى بـ(على) في الخير، والثاني لا يُعَدَّى بها إلا في الشرِّ.
قال العلماء: (معنى الاستقامة) - المطلوبة الممدوحة بالكتاب والسنة - (لُزُوم طاعة الله تعالى)، ويلزم من ذلك ترك منهياته، (قالوا)؛ أي: العلماء، (وهي من جوامع الكلم) هو أن يكون اللفظ قليلاً، والمعنى جزيلاً، وهو ما أعطيه - صلى الله عليه وسلم - (وهي)؛ أي: الاستقامة (نظام الأمور)، قال بعض العلماء: الاستقامة هي الدرَجة القصْوى التي بها كمال المعارف والأحوال، وصفاء القلوب في الأعمال، وتنْزيه العقائد عن سفاسف البدَع والضلال، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: مَنْ لَم يكن مستقيمًا في حاله، ضاع عمله، وخاب جده، ونقل أنه لا يستطيعها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المألوفات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله - تعالى - على حقيقة الصدق، ولعِزَّتها أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الناس لن يطيقوها؛ فقد أخرج أحمد: «استقيموا ولن تطيقوا»(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي: الحرف الذي يتَعَدَّى به، ويتوصل به إلى المعمول، (2) "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين"؛ للشيخ محمد بن علان الشافعي المكي المتوفَّى عام 1057هـ، 1/ 282 - 286.
[9] رواه مسلم.
[10] رواه مسلم.
[11] راغ الرجل والثعلب رَوغًا ورَوَغَانًا - مُحَرَّكة -: مالَ وحاد عن الشيء، "قاموس".
[12] رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
[13] "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"؛ للشيخ: عبدالرحمن بن رجب 2/127 - 133، ط: السعيدية؛ ومعنى تكفِّر اللسان: تذل وتخضع له.
[14] ومَن استقام على مَحْضِ التوحيد الصادق الذي يدين به الصديق، واستقام له توحيده على العلم الصادق بأسماء الله وصفاته وآثارها في الأنفس والآفاق - استقام في كلِّ شأنِه على الصراط المستقيم، فاستقام له كل عمل وكل حال.
[15] "مدارج السالكين"؛ لابن القيم، بتحقيق: محمد حامد الفقي، 2/ 103.
* من "منهاج المسلم"؛ لأبي بكر الجزائري، ص 92 - 97.
[16] يدخل.
[17] ثقب الإبرة.
[18] فراش.
[19] أغطية كاللحف.
[20] طاقتها.
[21] رواه البخاري
[22] رواه مسلم.
[23] رواه النسائي، والترمذي، وقال فيه: حسن صحيح.
[24] رواه أحمد، والترمذي، والحاكم.
[25] رواه مسلم.
[26] رواه مسلم.
[27] رواه مسلم.
[28] متفق عليه، والدوية: فلاة خالية من الناس.
[29] متَّفق عليه بلفظ: ((أن تعبد الله)).
[30] رواه مسلم.
[31] وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي بسَنَدٍ حسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكَيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني».
[32] ثابت في الصحيح.
[33] رواه مسلم.
[34] كتاب "روح الدين الإسلامي"، ص 200 - 201.
[35] رواه أبو داود، عن أبي سعيد الخدري.
[36] رواه أبو داود، وابن ماجه، ورَمَزَ السيوطي لصحته.
[37] الحوض قبل الصراط؛ لأنه يُمْنَع منه أقوامٌ قد ارتدُّوا، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط؛ انظر: "شرح الطحاوية"؛ بتحقيق الدكتور: عبدالرحمن عميرة، 1/ 269.
[38] هذا مجموع من حديثَيْن رواهما مسلم وغيره.
[39] رواه مسلم عن سفيان بن عبدالله.
[40] رواه أبو داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، بإسناد صحيح.
[41] رواه مالك، وأحمد، ابن ماجه، والدارمي، وصحَّحَه الحاكم، والمنذري.
[42] رواه مسلم.
[43] كما في الحديث المتَّفق عليه.
[44] رواه مسلم وأهْل السُّنَن الأربعة.
[45] من "الحكمة الجامعة لشتى العلوم النافعة"؛ للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود ص 275 - 282.
[46] رواه أحمد في "المسند"، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، وصححه ابن مَرْدَوَيْه، والحاكم.
[47] رواه مسلم بلفظ: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك.
[48] ذكره عنه ابنُ كثير، 4/101.
[49] رواه أحمد، وأهل السنن الأربعة، "تفسير ابن كثير"، 1/13.
* "الكواكب النيرات في المنجيات والمهلكات"؛ للمؤلف ص 63 - 66.
[50] رواه عنه عبدالرزَّاق، ونقله عنه ابن كثير في "تفسيره"، 4/101.