×
كتاب قيّم عبارة عن مختصر لكتاب الإسلام: حقيقته، شرائعه، عقائده، نظمه، بيَّن فيه المؤلف أثابه الله حقيقةَ الدين الإسلامي، ومصادر تشريعه، وأركان الإسلام، كما تناولَ الأخلاق في الإسلام، واستعرَضَ نُظُم الإسلام، وبيَّن موقف الإسلام من بعض المسائل والمصطلحات، وأوضح الموقف الشرعي من بعض القضايا التي يكثُر حولها الجدل.

 مختصر كتاب: الإســـــــلام حقيقته   شرائعه   عقائدُه   نُظُمه

البحث الفائز بالمركز الأول للمسابقة العالمية (هذا هو الإسلام) التي تنظمها  الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام التابعة لرابطة العالم الإسلامي

تأليف

د. محمد بن إبراهيم الحمد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد فإن الإسلام خاتم الأديان, وأشملها, وأعمها, فلقد أكمله الله  عز وجل  وأتم به على عباده النعمة, ورضيه لهم ديناً.

وإن الحديث عن الإسلام لذو شجون؛ فهو يبدأ ولا ينتهي؛ إذ في الإسلام حُكْمُ كلِّ شيء, وتفصيل كلِّ شيء [مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ] الأنعام: 38 .

فلم يغادر الإسلام صغيرة ولا كبيرة من قضايا الاعتقاد, أو العمل, أو التشريع, أو الآداب إلا وأحاط به إجمالاً أو تفصيلاً سواء كان ذلك في شأن الأمة بعامة، أو في شأن الإنسان في خاصة نفسه.

ولم يفارق رسول الإسلام محمد " هذه الدنيا إلا وقد بيَّن للأمة جميع ما تحتاج إليه من أمر دينها؛ فبلغ رسالة ربه, وأقام الحجة على الناس من بعده.

ولقد يسر الله لي تأليف كتاب عنوانه (الإسلام   حقيقته   شرائعه   عقائده   نظمه).

وقد فاز بالمركز الأول للمسابقة العالمية التي نظمتها الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام التابعة لرابطة العالم الإسلامي.

وهي مسابقة أجرتها عام 1432هـ، وعممتها على الجامعات والمؤسسات والأفراد على مستوى العالم.

وقد فاز الكتاب المذكور بالمركز الأول بالانفراد ، وأقيم حفل بهذه المناسبة في مدينة جدة برعاية أمير منطقة مكة المكرمة.

وقد طبع  بحمد الله  عدة مرات، وترجم إلى اللغة الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والروسية، وسيترجم  بإذن الله  إلى باقي لغات العالم الحية.

ولما كان هذا الكتاب مطولاً يقع في (833 صفحة)، وكانت قراءته تشق على عامة القراء   رأيت اختصاره حتى تسهل طباعته، وقراءته، وتداوله؛ فجاء في هذا الكتاب.

ولقد تضمن مسائل كثيرة تمس الحاجة إلى معرفتها لعامة المسلمين، ولمن يراد لهم أن يعرفوا حقيقة الإسلام.

وقد روعي في هذا الكتاب أن تكون لغته ميسرة، واضحة هادئة تراعي العقلية المسلمة، وغير المسلمة، وأن تكون بعيدة عن لغة الانهزام أو الاستفزاز.

وقد احتوى هذا المختصر على المسائل التالية: قصة البشرية، وكون الإسلام دين الفطرة، والتعريف بالله  جل جلاله  وقدرة الله  عز وجل ، والأخلاق في الإسلام، ومصادر التشريع الإسلامي، وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، ونماذج من معجزات النبي محمد "، ومسائل في علم الغيب، ومسائل في الذنوب والتوبة والدعاء، والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الإسلام، والصداقة في الإسلام، وعلاقة المسلمين بغيرهم، ومكانة المرأة في الإسلام، والزواج في الإسلام، والطفل في الإسلام، وبر الوالدين، وموقف الإسلام من قضايا: العقل والعلم والعمل، والصحة العامة والنظافة.

كما تضمن بياناً لقضايا يكثر حولها الجدل، وهي: السلام، والتسامح، والإكراه، والعنف، والجهاد، والإرهاب.

كما أنه احتوى على نبذة عن مهتدي أهل الكتاب وشهاداتهم على صحة الإسلام، وعلى ذكر مكة والكعبة، ووصف أمة الإسلام في الكتب السابقة.  

فهذه المسائل، وما يندرج تحتها هي ما تضمنه هذا المختصر.

ورغبة في الاختصار حُذِفَ من الكتاب هوامشُه وعَزْوُه، فمن أراد التفصيل، والإحالة والعزو فليرجع إلى الكتاب الأصل، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


 قصة البشرية

تبدأ قصة البشرية منذ أن خلق الله أبا البشر آدم   عليه السلام   حيث خلقه الله بيده الكريمة من طين، ونفخ فيه من روحه، وعَلَّمَهُ أسماءَ الأشياءِ كلها من الطيور، والدواب، وغير ذلك، وأَمرَ الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ زيادة في التكريم والتشريف، فسجدوا كلُّهم إلا إبليس كان من الجن، فأبى واستكبر، فأهبطه الله من ملكوت السموات، وأخرجه ذليلاً مدحوراً، وقضى عليه باللعنة، والشقاء والنار.

وبعد ذلك سأل إبليسُ ربَّه أن يُنظِره إلى يوم القيامة، فقال الله  تعالى : [إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ] (الأعراف: 15)، فقال إبليس: [فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٨٢ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ] (ص: 82،83)، وقال: [فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ١٦ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ] (الأعراف: 16،17)، فقال الله   عز وجل  : [ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ] (الأعراف: 18) .

فأخرجه الله من الجنة، وأعطاه القدرة على الوسوسة والإغواء، وأمهله إلى يوم القيامة، ليزداد إثماً، فتعظم عقوبته، ويتضاعف عذابه، وليجعله الله مَحَكًّا يتميز به الخبيث من الطيب.

ثم بعد ذلك خلق الله من آدم زوجَه حواء؛ ليسكن إليها، ويأنس بها، وأمرهما أن يسكنا دار النعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأخبرهما   عز وجل   بعداوة إبليسَ لهما، ونهاهما عن الأكل من شجرة من أشجار الجنة؛ ابتلاءً وامتحاناً، فوسوس لهما الشيطان، وزيَّن لهما الأكل من تلك الشجرة، وأقسم لهما أنه لهما من الناصحين، وقال:  (  إن أكلتما من هذه الشجرة كنتما من الخالدين  ).

فلم يزل بهما حتى أغواهما، فأكلا من الشجرة، وعصيا ربَّهما؛ فندما على ما فعلا أشد الندم، وتابا إلى ربِّهما، فتاب عليهما، واجتباهما، لكنه أهبطهما من الجنة دار النعيم إلى الدنيا دار النصب والتعب، وسكن آدم الأرض، ورزقه الله الذرية التي تكاثرت، وتشعبت إلى يومنا الحاضر، ثم توفاه الله، وأدخله الجنة.

ومنذ أن أهبط اللهُ آدمَ وزوجَه إلى الأرضِ والعداوةُ قائمةٌ مستمرة بين بني آدم من جهة، وبين إبليس وذريته من جهة، ومنذ ذلك الحين وإبليس وذريته في صراع دائم مع بني آدم؛ لصدهم عن الهدى، وحرمانهم من الخير، وتزيين الشر لهم، وإبعادهم عما يرضي الله؛ حرصاً على شقائهم في الدنيا، ودخولهم النار في الآخرة.

ولكن الله  عز وجل  لم يخلق خلقه سدى، ولم يتركهم هملاً، بل أرسل إليهم الرسل الذين يبيِّنون لهم عبادة ربهم، وينيرون لهم دروب الحياة، ويوصلونهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، فأخبر  سبحانه  الجن والإنس أنه إذا أتاكم مني كتاب، أو رسول يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم من مرضاتي فاتَّبعوه؛ لأن من اتبع هدى الله، وآمن بكتبه ورسله، وما جاء في الكتب، وما أمرت به الرسل فإنه لا يخاف، ولا يضل، ولا يشقى، بل تحصل له السعادة في الدنيا والآخرة.

وهكذا بدأت قصة البشرية، فعاش آدم ومِنْ بعده ذريته عشرةَ قرونٍ وهم على طاعة الله، وتوحيده، ثم حصل الشرك، وعُبِد غير الله مع الله؛ فبعث الله أول رسله وهو نوح  عليه السلام  يدعو الناس إلى عبادة الله، ونبذ الشرك.

ثم تتابع الأنبياء والرسل من بعده على اختلافٍ بينهم في الأزمنة، والأمكنة، وبعض الشرائع، وتفاصيلها مع الاتفاق في الأصل وهو: الدعوة إلى الإسلام، وعبادة الله وحده، ونبذ ما يُعبد من دونه.

إلى أن جاء إبراهيم   عليه السلام   فدعا قومه إلى ترك عبادة الأصنام، وإفراد الله بالعبادة، ثم كانت النبوة في ذريته من بعده في إسماعيل وإسحاق، ثم كانت في ذرية إسحاق.

ومن أعظم الأنبياء من ذرية إسحاق: يعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى   عليهم السلام  .

ولم يكن بعد عيسى نبي من بني إسرائيل.

وبعد ذلك انتقلت النبوة إلى فرعِ إسماعيل؛ فكان أن اصطفى الله   عز وجل   محمداً " ليكون خاتماً للأنبياء والمرسلين، ولتكون رسالتُه هي الخاتمةَ، وكتابُه الذي أنزل إليه وهو القرآن هو رسالة الله الأخيرة للبشرية.

ولهذا جاءت رسالته شاملة، كاملة، عامة للإنس والجن، العرب وغير العرب، صالحة لكل زمان ومكان، وأمة وحال؛ فلا خير إلا دلَّت عليه، ولا شر إلا حذَّرت منه، ولا يقبل الله من أحد ديناً سوى ما جاء به محمد ".

و دين الإسلام الذي يعني: الاستسلام لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، والالتزام بما جاء به النبي محمد ".

وهذا هو الدين الخاتم الذي ختم الله به جميع الأديان، والذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، قال الله  عز وجل :[إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ] آل عمران:19.

وقال  سبحانه : [وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ]آل عمران: 85.

وقال النبي":  (   والذي نفس محمد بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار  ) رواه مسلم.


 ثانياً: الإسلام دين الفطرة

الفطرة هي الخلقة، وهي ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به.

والفطرة من أعظم البواعث على التدين، وأدلة الشرع نصَّت على أن الإنسان نفسه مفطور على الإقرار بالخالق، والعبودية له.

فكل مخلوق قد فُطر على الإيمان بخالقه، وأنه   عز وجل   رب كل شيء وخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم.

ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه.

قال النبي ":  (  ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه  ).

وفي رواية:  (  إلا على هذه الملة  ) وفي رواية  (  إلا على الملة  ) رواه البخاري ومسلم.

وفي حديث عياض بن حمار ÷ قال: قال رسول الله ": يقول الله  تعالى  في الحديث القدسي:  (  وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم  )رواه مسلم.

ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه  تبارك وتعالى  عند الشدائد، فإذا ما وقع الإنسان  أي إنسان  حتى الكافر الملحد في شدة، أو أحدق به خطر   فإن الخيالاتِ والأوهامَ تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فُطِر عليه؛ ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه، منادياً ربه؛ لِيُفَرِّجَ كربته وهمه، ويلجأ إليه وحده دون سواه.

وصدق الله  تعالى  إذ يقول: [فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ يُشۡرِكُونَ] (العنكبوت: 65).

وليس المراد بأنه يولد على الفطرة أنه يولد عالماً بأمور الإسلام؛ فالله  سبحانه وتعالى  يقول: [وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا] (النحل:78).

وليس المراد  أيضاً  أنه يولد ساذَجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً؛ لأن الرسول" قال:  (  إلا ويولد على الملة  ) وفي رواية:  (  على هذه الملة  ).

بل المراد أن كل مولود يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خُلِّي وعدمَ المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه.

ولذلك قال ":  (  فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه  ).

ولم يقل يسلمانه؛ لأنه باقٍ على الأصل، فاعتناق غير الإسلام يعد خروجاً عن الأصل والقاعدةِ بأسباب خارجة.

فكل مولود   إذاً   على وجه الأرض يولد على الفطرة، وهي دين الإسلام؛ فالمولود يولد مقرًّا بخالقه، محبًّا له، متوجهاً إليه.

فإذا بقي على هذه الفطرة فهو مسلم على الأصل، ولا يحتاج إلى تجديد الدخول في الإسلام إذا بلغ وعقل.

أما إذا نشأ بين أبوين غير مسلمين، واعتنق دينهما الباطل، أو كان معتنقاً أي دين غير الإسلام كان واجباً عليه أن يتخلى عن دينه السابق، ويدخل في دين الإسلام؛ فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يبدأ بتعلم ما يقيم به شعائر دينه من إقامة الصلاة ونحو ذلك.

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مبيناً معنى كون الناس مفطورين على الدين الحنيف:  (  ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف: أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لِخِلْقَتِهم غير مجافية لها، غير نائين عنه، ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله؛ لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل, والنظر الصحيح، حتى لو ترك الإنسانُ وتفكيرَه، ولم يُلَقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته  ).

إلى أن قال ×:  (  وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه.

أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله: [ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ] يوسف: 40 .

فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور, وصالح لجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بُنِيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية؛ ليكون صالحاً للناس كافة, وللعصور عامة, وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يسراً؛ لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة  ).

وقال× مبيناً معنى وصف الإسلام بأنه فطرة الله، قال:  (  فَوَصْفُ الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة العقلية.

وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية  أيضاً  أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.

وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة؛ لأن طلب المصالح من الفطرة  ).

وهكذا يتبين أن الإسلام هو الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وأن الإنسان مفطورٌ على الإقرار بالخالق، والعبودية له؛ فهذا هو التدين، وذلك باعثه؛ فهذا مقتضى ما دلَّت عليه النصوص صراحة.

كما دلَّت النصوص  أيضاً  على: أن هذه الفطرة والإقرارَ بالخالق إلهاً وربًّا قابلة للتأثر، والتغير، والانحراف بفعل مؤثرات خارجية، وأن هذه المؤثراتِ التي تؤدي إلى انحراف الفطرة عن وجهتها الصحيحة على ضوء هذه الأدلة ثلاثة:

1. الشياطين: وهي المؤثر الأصلي والأول على هذا الأمر، كما دل على ذلك حديث عياض بن حمار÷ المتقدم.

والشياطين شامل لشياطين الجن والإنس ممن يسعون لصرف الناس عن فطرتهم، وإقبالهم على ربهم.

2. الأبوان: كما في الحديث السابق، في قوله":  (  فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه  ).

وهذا المؤثر من أقوى المؤثرات؛ لشدة التصاق الأولاد بآبائهم، وقوة تأثير الآباء عليهم.

وقد يقوم المجتمع، والإعلام بدور الأبوين أو أشد من جهة صرف الناس عن مقتضى الفطرة.

3. الغفلة: وهي من أشد المؤثرات الصارفة عن الفطرة؛ فالغفلة بمباهج الدنيا، والاشتغال بنعيمها قد يُنسي الإنسان ربه، ويصرفه عن فطرته التي فَطَره الله عليها.

وقد ذكر الله ذلك في القرآن الكريم، كما في قوله  تعالى : [وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ ١٧٢ أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٗ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ] الأعراف: 172 173 .

فهذه الآية تبين أن الغفلة من أعظم أسباب الانصراف عن الفطرة.

ولسائل أن يسأل فيقول: ما فائدة الفطرة طالما أنها على تلك الحال من التأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي تؤدي إلى انحرافها، ولا يكاد الإنسان ينفك عن واحد من هذه المؤثرات والصوارف، أو كلها؟

والجواب عن ذلك أن يقال: إن حكمة الله اقتضت جعل الفطرة بهذه الحال ليتحقق الغرض من ابتلاء الإنسان بالخير والشر ومن ثم جزاؤه على عمله، إذ لو كانت الفطرة قوية لا تتأثر بشيء لما وقع الكفر والانحراف في بني آدم، بل صاروا غير قابلين للكفر فلا يتحقق الإبتلاء، ولله الحكمة البالغة.


  الله   جل جلاله  

1  الله: هو رب كل شيء ومليكه، الخالق وحده، المدبر للكون كله، العالم بكل شيء، المحيي، المميت، الرزاق، القادر، المتصف بكل كمال، المتنزه من كل نقص وعيب، المستحق للعبادة وحده.

2  لله  عز وجل  أسماء كثيرة سمى بها نفسه، كالسميع، والبصير، والعليم، والحكيم، والرحيم، والكريم، والقرآن الكريم والسنة المطهرة حافلان بذكر أسماء الله  عز وجل .

هذا وإن أشهر تلك الأسماء، وأعظمها، وأجلها هو اسم (الله).

3  لاسم (الله) من بين أسماء الله  عز وجل  خصائص كثيرة أشهرها ما يلي:

  أنه اسم الله الأعظم؛ حيث ذكر ذلك جماعة من أهل العلم أنه  هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.

4  وأنه الأصل لجميع أسماء الله الحسنى، وأن باقيها مضافة إليه، وأنه موصوف بها.

5  أن هذا الاسم مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، وأنه الاسم الذي اقترنت به عامة الأذكار المأثورة، وأنه أكثر الأسماء وروداً في القرآن الكريم.


 قدرة الله   عز وجل  

1  قدرة الله  عز وجل : صفة من صفات الله الثابتة له، وهي القدرة التامة الكاملة.

2  من أسماء الله  عز وجل  القدير، والقادر، والمقتدر، وجميع هذه الأسماء وردت في القرآن الكريم، وأكثرها وروداً: القدير، ثم القادر، ثم المقتدر.

3  هذه الأسماء تدل على ثبوت القدرة صفة لله، وأنه  سبحانه  كامل القدرة؛ فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دَبَّرها، وبقدرته سوَّاها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرِّفها على ما يشاء ويريد، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً، والبرَّ بَرّاً، والفاجر فاجراً.

4  لكمال قدرة الله لا يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إياه، ولكمال قدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحدٌ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، الذي سَلِمَتْ قدرتُه من اللُّغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، ولكمال قدرته كلُّ شيء طوع أمره وتحت تدبيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

5  من أصول الإيمان العظيمة الإيمان بالقدر، ومن لا يؤمن بالقدر لا يؤمن بالله، فإنكار القدر إنكار لقدرة الله.


  الأخلاق في الإسلام

للأخلاق منزلة سامية في الإسلام، ويمكن إجمال ذلك فيما يلي:

1  الأخلاق جمع خلق، والخلق: حال النفس التي يفعل بها الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار.

2  الخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعاً، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد.

3  حسن الخلق: هو التحلي بالفضائل والمكارم، كطلاقة الوجه، ولين الجانب، وطيب الكلام، وسلامة الصدر، مع البعد عما ينافي ذلك.

4  جماع الخلق الحسن أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.

5  الخلق العظيم: هو الذي وصف الله به نبيه محمداً" وهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً.

وحقيقته: المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله  تعالى  بطيب نفس، وانشراح صدر، وهو شامل للتدين، والحلم، والعدل، والصبر، والتواضع، والزهد، والجود، والحياء، والشجاعة، ونحوها.

6  جاءت الشريعة الإسلامية بما يبين أن لحسن الخلق فضائل عظيمة، تنظم خيري الدنيا والآخرة؛ فهو امتثال لأمر الله، واقتداء بالنبي"، وسبب لرفعة الدرجات، ودخول الجنة، والقرب من مجلس النبي" في الآخرة، وهو سبب في نيل محبة الله، وراحة البال، وطيب العيش، وتيسير الأمور.

7  نصوص الشرع دالة على أن تغير الطباع وارد ممكن، وذلك إذا أخذ الإنسان بالأسباب التي تنهض بهمة الإنسان، وخلقه.

8  لقد جاءت نصوص كثيرة تبين الأسباب التي ترتقي بخلق الإنسان إذا هو أخذ بها، وحرص على تمثلها.

هذا وستأتي إشارات إلى الأخلاق في الإسلام في مباحث قادمة.


  مصادر التشريع الإسلامي

الكتاب والسنة هما مصدرا التشريع الإسلامي؛ فمنهما تُستمد عقائد الإسلام، وشرائعه، وأحكامه، وآدابه، وما جرى مجرى ذلك.

 أولاً: القرآن الكريم: ماهيته ومصداقيته

1  القرآن في اللغة مصدر على وزن فعلان كالغفران، والشكران.

وقال بعضهم: معنى القرآن: الجمع؛ وسمي قرآناً لأنه يجمع السور، فيضمها.

2  عرف القرآن شرعاً بأنه كلام الله المعجز المنزل على النبي محمد " المنقول تواتراً، المتعبد به تلاوةً.

3  القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، وخاتمها، وأطولها، وأشملها.

4  القرآن الكريم هو المهيمن، والشاهد، والحاكم على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها، يعني بصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.

5ـ  القرآن الكريم فيه نبأ الأولين والآخرين، وفيه الحكم والحكمة.

6  القرآن الكريم رسالة الله الأخيرة للبشرية، بل عام للجن والإنس، فليس خاصاً بأقوام معينة، أو فترات معينة.

7  القرآن محفوظ من الزيادة، والنقص، والتحريف؛ فلقد تكفل الله  عز وجل  بحفظه، قال  تعالى : [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] أي عن كل ما لا يليق من تصحيف وتحريف، وزيادة، ونقص، ونحو ذلك.

فلا يستطيع أحد أن يزيد فيه باطلاً، أو ينقص من حقاً.

8  القرآن له أثر عظيم في القلوب؛ فما يسمعه أحدٌ وهو ملقٍ سَمْعَه إلا ويجد له تأثيراً عظيماً في نفسه، ولو لم يفهم معانيه ودلالاته.

9  للقرآن أبلغ الأثر في رقي الأمم وفلاحها؛ فهو الذي أخرج الله به من أمة العرب أعلام الحكمة والهدى، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.

10  من خصائص القرآن أن عجائبه لا تنتهي، وأن الله يسر تعلمه وتلاوته وحفظه، وأنه مشتمل على أعدل الأحكام، وأعظمها، وأشرفها.

 ثانيا: السنة النبوية

1  السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة.

2  أما في الشرع فهي: كل ما أثر كل ما أُثِرَ عن النبي " من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقيِّة أو خُلُقية، أو سيرة سواء كانت قبل البعثة، أو بعدها.

3  السنة النبوية هي المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن، وهي من الذكر والوحي الذي تكفل الله بحفظه.

ولا يمكن لمسلم أن يفهم الشريعة إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة معاً، ولا غنى لمجتهد أو عالم عن أحدهما.

4  هناك أدلة كثيرة تبين حجية السنة، وكونها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، ومنها: وجوب الإيمان بالرسول"، ودلالة على وجوب طاعة الرسول"، ودلالة السنة على ذلك، وإجماع الأمة الإسلامية على وجوب العمل بالسنة.

5  لقد أوزع الله المسلمين العناية بالسنة النبوية، حيث قيض لها رجالاً عُنوا بالسنة غاية العناية، فمحَّصوها، وميزوا صحيحها من ضعيفها؛ فنقلها الخلف عن السلف جيلاً بعد جيل، ورجعوا إليها في جميع أمور دينهم، وعملوا بما فيها، وتمسكوا بها، وحافظوا عليها؛ ليحسنوا التأسي برسول الله".

ويتجلى ذلك بأمور كثيرة منها ما جاء في احترام السنة، وفضل الحديث والمحدثين، وما جاء في اعتناء السلف بالحديث النبوي، وما جاء في جهود علماء السنة في حفظ الحديث.

6  جاءت السنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم؛ تفسر مبهمه, وتُفَصِّل مُجمله, وتقيِّد مُطْلَقَه, وتُخَصِّص عامه, وتشرح أحكامه ومقاصده, كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم, قائمة على أصوله وقواعده, تحقق أهدافه ومقاصده؛ فكانت السنة تطبيقاً عملياً لما جاء به القرآن العظيم .


  أركان الإسلام

أركان الإسلام أسسه التي يُبنى عليها، وهي خمسة أركان:

شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.

هذه هي أركان الإسلام على سبيل الإجمال، تلك الأركان التي تجعل من الأمة أمة إسلامية تقية تدين بدين الحق، وتعامل الخلق بالعدل والصدق؛ لأن ما سوى ذلك من شرائع الإسلام يصلح بصلاح هذه الأسس، والأمة تصلح بصلاح أمر دينها، ويفوتها من صلاح أحوالها بقدر ما فاتها من صلاح أمور دينها.

وفيما يلي بيان لتلك الأركان بإيجاز.

الركن الأول: الشهادتان

1-المقصود بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهاتان الشهادتان هما الركن الأول من الإسلام.

2-معنى ( لا إله إلا الله) : لا معبود حق إلا الله (فكلمة (إله) على وزن فِعال بمعنى مفعول: أي مألوه : أي معبود.

3-لشهادة (لا إله إلا الله) ركنان: أحدهما النفي في قوله (إلا الله) والثاني: الإثبات في قوله (إلا الله)

4: ( لا إله) نفت الإلوهية عن كل ما سوى الله.

5: (إلا الله) أثبتت الإلوهية لله وحده

6-لـ:(لا إله إلا الله) شروط سبعة؛ فأولها: العلم المنافي للجهل، والثاني: اليقين المنافي للشك، والثالث: الإخلاص المنافي للشرك، والرابع: الصدق المنافي للكذب، والخامس، المحبة المنافية لضدها، والسادس: الانقياد المنافي للامتناع، والسابع: القبول المنافي للرد.

7-لا يكفي مجرد النطق بـ: لا إله إلا الله، بل لابد من العلم بها، والعمل بمقتضاها.

8-معنى شهادة ( أن محمداً رسول الله): طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وأن يعظم أمره ونهيه؛ فلا يقدم عليه قول أحد من الخلق كائناً من كان.

9- الحكمة من قرن شهادة أن محمداً رسول الله بالشهادة لله بالتوحيد وجعلهما ركناً واحداً مع تعدد المشهود به؛ لأن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال؛ فلا يقبل إسلام ولا عمل إلا بالإخلاص لله، والمتابعة للرسول".

ومعنى ذلك ألا يعبد إلا الله وحده، ولا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله محمداً".

فبالإخلاص تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله، وبالمتابعة تتحقق شهادة أن محمداً رسول الله؛ فلا تكفي ولا تغني إحداهما عن الأخرى.

وبهذا تتحقق الشهادة لله بالتوحيد، وللرسول بالرسالة.

الركن الثاني: الصلاة

1  الصلاة في اللغة: تطلق على الدعاء، أو الدعاء بخير، وتطلق على الرحمة، والتسبيح، والركوع والسجود، والتعظيم.

2  الصلاة في الشرع: عبادة تتضمن أقوالاً وأفعالاً مخصوصة مفتتحة بتكبير الله، مختتمة بالتسليم.

3  وسميت بذلك؛ لاشتمالها على معاني الصلاة من الدعاء بالخير، والتسبيح، والتعظيم، والركوع، والسجود، ونحو ذلك.

4  ومعنى إقامة الصلاة: التعبد لله  تعالى  بفعلها على وجه الاستقامة، والتمام في أوقاتها، وهيئاتها.

وللصلاة فروض، وأركان، وشروط، ومكملات، ومنقصات، وأحكام يطول ذكرها، وهي مبثوثة في كثير من كتب أهل العلم.

5  ثبوت الصلاة: الصلاة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فهي مما عُلم من الدين بالضرورة.

وللصلوات الخمس منزله عَليَّة, وأهمية كبرى, ولها على سائر الشرائع الواجبة ميزات كثيرة ؛ فهي أعظم وأكبر أركان الإسلام, وأنها فرضت في السماء.

6  أنها اشتملت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها، وأجمعها؛ فهي تكبير الله، وتحميده، والثناء عليه، وتنزيهه، وتقديسه، وتلاوة كتابه، والصلاة والسلام على رسوله" وعلى آله، ودعاء لجميع عباده الصالحين.

كما أنها مشتملة على قيام، وركوع، وسجود، وجلوس، وخفض، ورفع؛ فكل عضو من البدن، وكل مَفْصِلٍ فيه له حظه من هذه العبادة، ورأس ذلك كله القلب الحاضر.

الركن الثالث: الزكاة

1  تعريف الزكاة لغة: الزكاة في اللغة تطلق على النماء، والريع، والزيادة، والطهر، والطيب، والتثمير، ونحو ذلك.

2  الزكاة في الشرع: هي حق واجب من مال خاص، لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.

3  معنى إيتائها: التعبد لله  تعالى  ببذل القَدْر الواجب في الأموال الزكوية المستحقة.

4  سبب تسميتها بذلك المعنى اللغوي؛ فهي تنمي المال، وتطهره، وتطيِّبه.

5  حكم الزكاة: حكمها أنها واجبة شرعاً، قال الله  تعالى : [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ].

وقد أجمع المسلمون على أنها ركن من أركان الإسلام، ومستند الإجماع نصوص الكتاب والسنة.

ومن جحد وجوبها كفر، ومن منعها فسق..

6  الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلائل الكتاب والسنة.

ومن عظم شأنها أن الله  عز وجل  قرنها في كتابه العزيز بالصلاة في اثنين وثمانين موضعاً.

7  والزكاة من محاسن الإسلام الذي جاء بالتكافل، والتراحم، والتعاطف، والتعاون.

8  الزكاة فريضة وعبادة, ولها أثار اقتصادية تعود على الفرد والجماعة منها:

  أن الزكاة وسيلة من وسائل إعادة توزيع الدخل, والثروة في المجتمع: فتؤدي إلى مواساة الفقراء؛ فهي وسيلة العدل الاقتصادي,الذي أصبح محل اتفاق بين الاقتصاديين مع الاختلاف حول تعريفه ووسائله.

  أنها أحد الدوافع نحو الاستثمار: أي إن من يملك أرصدة نقدية لابد له من استثمارها حرصاً عليها من التآكل.

-أنها وسيلة من وسائل الأمن المشجع على توفير البيئة المناسبة للانتعاش الاقتصادي؛ لأن الفقر أحد أسباب الجريمة

- أنها وسيلة من وسائل تحسين أوضاع الفئات الفقيرة في المجتمع: أي أنها تُسهم في تحسين مستواهم المعيشي والصحي والتعليمي

- أنها تُسهم في تخفيف العبء المالي الذي تتحمله ميزانية الدولة للإنفاق على أصناف من الإعانات التي تقدم للمحتاجين كالأيتام والعجزة.

-تجب الزكاة في أربعة أصناف وهي:

  الأثمان: وتشمل الذهب والفضة، وما يلحق بهما من العملات المعاصرة المصنوعة من الورق، أو غيره.

  السائمة من بهيمة الأنعام: وهي البقر، والإبل، والغنم التي ترعى في البراري معظم السنة.

  الخارج من الأرض من الحبوب: كالقمح، والثمار: كالتمر، والمعدن: كالحديد.

  عروض التجارة: وهي ما أُعِدَّ للبيع والشراء بهدف الربح.

فهذه هي الأشياء التي تجب فيها الزكاة، ولكل واحدة منها تفصيلات يطول ذكرها في مقادير الأنصبة، وما يُخْرَجُ منها، وهي مثبوتة مبسوطة في كتب أهل العلم التي تُعنى بهذا الشأن.

9  مصارف الزكاة: هي الأوجه التي تصرف فيها، وقد وردت في قول الله  تعالى : [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]

الركن الرابع: الصيام

1  تعريف الصيام لغة: الصيام في اللغة يطلق على الإمساك والترك، يقال: أمسك عن الطعام، والشراب، والنكاح، والكلام، ويقال: تركه.

2  الصيام في الشرع: هو إمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن معين، من شخص معين.

أو يقال: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.

3  معنى صوم رمضان: هو التعبد لله  تعالى  بالإمساك عن المفطرات نهار رمضان.

والمفطرات هي الأكل، والشرب، والجماع.

4  فرضية الصيام: فرض الصوم في شهر شعبان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول" تسع رمضانات إجماعاً.

وصيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، وفروضه العظام، وقد دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع.

5  الصيام رمضان فضائل؛ منها: أنه سبب لمغفرة ما تقدم من الذنوب، وأنه من أعظم أسباب التحلي بالتقوى وانه وقاية، وستر من النار، وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأن الله  عز وجل  اختص الصيام بأنه له وهو يجزي به.

6  للصيام أسرار وحكم منها:

أ  الصومُ درسٌ مفيدٌ في سياسة المرء لنفسه، وَتَحَكُّمِهِ في أهوائه، وضبطِه بالجد لنوازع الهزل، واللغو، والعبث.

ب  الصومَ ينمِّي في النفوس رعايةَ الأمانة، والإخلاصَ في العمل، وألا يُراعى فيه غيرُ وجهِ الله تعالى .

وهذه فضيلةٌ عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء والنفاق.

ج  الصوم يربي في النفوس مكارمَ الأخلاقِ، ومحاسنَ الأعمالِ، فيبعثها إلى بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأهل والجيران.

د  أنه سبب للحصول على الصحة العامة بجميع معانيها، ففيه صحةٌ بدنيةٌ حسيةٌ، وفيه صحةٌ روحيةٌ معنويةٌ، وفيه صحةٌ فكريةٌ ذهنية.

الركن الخامس: الحج

1  تعريف الحج لغة: الحج في اللغة هو القصد، يقال: حجه يحجه حجاً: أي قصده، ورجل محجوج: أي مقصود.

2  الحج في الشرع: هو قصد البيت الحرام لأعمال مخصوصة في زمن مخصوص.

أي قصد مكة المكرمة في وقت الحج، وهي أشهره المعلومة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بنية أداء المناسك، وهي الإحرام من الميقات، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وغيرها من المناسك.

3  مشروعية الحج: الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام.

وقد ثبت ذلك في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

4  لا يجب الحج في العمر إلا مرة لمن استطاع,  ومن زاد فهو تطوع

5  للحج أسرار بديعة، وحكم متنوعة، وبركات متعددة، ومنافع مشهودة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة.


  أركان الأيمان

الدين الإسلامي عقيدة وشريعة، وقد مرَّ فيما سبق الإشارة إلى شيء من شرائعه، ومرَّ الحديث عن أركانه التي هي أساس لشرائعه.

أما العقيدة الإسلامية فهي تشمل الإيمان بكل ما جاء عن الله، وعن رسول الله " من الأخبار، والأحكام القطعية، والغيبيات، ونحو ذلك.

وأسس العقيدة هي أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، و الإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.

 الركن الأول: الإيمان بالله

1  الإيمان بالله هو الاعتقاد الجازم بوجود الله، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وعبادته باطلة، وأنه  سبحانه  متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب .

2  الإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده, وبربوبيته, وألوهيتة, وأسمائه وصفاته.

3  الإيمان بالله يثمر ثمرات جليلة تعود على الأفراد والجماعة بخيري الدنيا والآخرة، فمن ثمراته: حصول الأمن التام، والاهتداء التام، والاستخلاف في الأرض، والتمكين و العزة؛ فخير الدنيا والآخرة كله فرع عن الإيمان، مترتب عليه, والهلاك والنقصان إنما يكون بفقد الإيمان، أو نقصه.

4  دل على وحدانية الله كثيرة جداً، ويكفي منها شهادته  عز وجل  لنفسه حيث قال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ] (آل عمران).

ولقد دلَّ على وحدانية الله، وعلى تفرده بالخلق والرزق، وأنه وحده المستحق للعبادة   الفطرة، والشرع، والعقل، والحس.

5  دل العقل على وحدانية الله؛ ذلك أن المخلوقات جميعاً لابد لها من مُوجِد وخالق؛ إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، ولا يمكن أن توجَدَ صدفة؛ فهذه المخلوقات لا يمكن أن تُوجِد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقاً .

6   الحس يدل بوضوح على وحدانية الله, ومن أدلة الحس على ذلك: إجابة الدعوات, وصدق الرسل, ودلاله الأنفس, وهداية المخلوقات ودلاله الأفاق, وعبودية الكائنات لرب العالمين، واختلاف الطعوم والألوان, والروائح في النبات, واختلاف الألسن.

 الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

1  الملائكة عالم غيبي مخلوقون من نور عابدون لله  تعالى  وليس لهم من خصائص الربوبية، ولا الألوهية شيء، أي أنهم لا يَخْلُقون، ولا يَرزُقون، ولا يجوز أن يعبدوا مع الله، أو من دون الله.

وقد منحهم الله  عز وجل  الانقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه.

والملائكة عددهم كثير، ولا يحصيهم إلا الله.

2  الإيمان بالملائكة: يتضمن الإيمان بوجودهم, وبما علمنا اسم منهم باسم, وبما علمنا من صفاتهم وأعمالهم.

3  الإيمان بالملائكة:  يثمر العلم بعظمة الله, وقوته وسلطانه, ويثمر شكره   عز وجل .

4  لقد صرحت النصوص بأن الملائكة أجسام.

5  علاقة الملائكة ببني آدم وثيقة, ومن مظاهر تلك العلاقة قيام الملائكة على الآدمي عند خلقه, وحفظهم لابن آدم, وتحريك بواعث الخير في نفوس العباد, وتسجيل أعمال بني آدم, وإقبالهم على المؤمنين, وبغضهم للكافرين.

 الركن الثالث: الإيمان بالكتب

1  الكتب في اللغة: جمع كتاب, ومادة (كتب) تدور حول معاني الجمع والضم

2  الكتب في الشرع: هي الكتب التي أنزلها الله  تعالى  على رسله؛ رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة.

3  الإيمان بالكتب يتضمن الأيمان بأنها أنزلت من عند الله حقاً, والإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه, وما لم نؤمن به أجمالاً, وتصديق ما صح من أخبار كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السماوية, والعمل بآخرها وناسخها وهو القرآن الكريم .

4  للإيمان بالكتب أهمية عظمى منها, وثمرات جُلى.

5  أنزلت الكتب السماوية لغاية  واحدة، وهدف واحد وهو أن يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له، ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من هداية إلى كل خير، ولتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم، وتكشف ظلماتها، وتنير لهم دروب الحياة كلها.

6  تتفق الكتب السماوية في أمور منها وحدة المصدر والغاية, ومسائل العقيدة, والقواعد العامة, والعدل، والقسط, ومحاربة الفساد, والدعوة إلى مكارم الأخلاق, وكثير من العبادات.

7  تختلف الكتب السماوية في الشرائع اختلافاً جزئياً مع الاتفاق في المسائل الأساسية, وذلك كعدد الصلوات, وأركانها وشروطها, ومقادير الزكاة, ومواضع النسك؛ حيث تختلف من شريعة إلى شريعة وهكذا .

وقد يحل الله أمراً في شريعة, ثم يُحِلٌه في شريعة أخرى؛ لحكمة يعلمها الله ولا يلزم أن نعلمها.

ثم جاءت الشريعة الإسلامية الخاتمة؛ لتكون القاعدة: إحلال الطيبات وتحريم الخبائث.

ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة .

8  أعظم الكتب السماوية القرآن, والتوراة والإنجيل, وقد سبق الحديث عن القرآن.

أما التوراة فهي   في الأصل  الكتاب العظيم الذي أنزله الله على موسى   عليه السلام  أما التوراة الموجودة اليوم فقد دخلها التحريف والتبديل, والزيادة, والنقصان.

وكذلك الإنجيل فهو في الأصل الكتاب العظيم الذي انزله الله على نبيه عيسى  عليه السلام  ثم الإنجيل الموجود اليوم دخله ما دخل التوراة.

وقد ورد في البحث شيء من البسط حول هذه الكتب.

 الركن الرابع: الإيمان بالرسل

1  النبوة والرسالة في الشرع: صفة تَحْدُثُ في الشخص بعد أن يصطفيه الله  عز وجل  فيخبره بخبر السماء، ويأمره بتبليغه.

2  النبوة من أعظم الدعاوى, ولا يدَّعيها إلا أكذب الناس، أو أصدقهم.

والنبوة تثبت بدلائل كثيرة أعظمها الآيات التي تسمى بالمعجزات، وتثبت بالأعمال العظيمة، والأخلاق الفاضلة، والسير الحميدة.

فمن ادعى النبوة، وأيده الله بالمعجزات، واشتهر بالصدق، والأمانة، والأخلاق الفاضلة، والسيرة الحميدة   فهو نبي موحى إليه، مؤيد من الله.

وإن كان بخلاف ذلك فهو كاذب دجال مدَّعٍ للنبوة، ولا بد أن يفضحه الله  عز وجل .

3  الأنبياء والرسل بشر مخلوقون يوحى إليهم، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء.

وتلحقهم خصائص البشرية من المرض، والنوم، والموت، والحاجة إلى الطعام والشراب، وغير ذلك.

وقد وصفهم الله  تعالى  بالعبودية له في أعلى مقاماتها، وفي سياق الثناء عليهم.

4  والرسالة اصطفاء من الله لا تأتي بالاكتساب، والمجاهدة.

والرسل خير البشر، وصفوتهم، وخلاصتهم.

5  اتفقت الأمة على أن الأنبياء والرسل معصومون في تحمُّل الرسالة، وفيما يبلغون به عن ربهم  جل وعلا .

فلا يُنْقِصُوْنَ شيئاً مما أوحاه الله إليهم، ولا ينسون شيئاً من ذلك إلا ما كان قد نسخ.

6  الإيمان بالرسل يتضمن الإيمان بأن رسالتهم حق من الله  تعالى ، والإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، ومالم نعلمه نؤمن به إجمالاً، وتصديق ما صح عنهم من أخبار، والعمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد.

7  الإيمان بالأنبياء والرسل يثمر ثمرات من أعظمها العلم برحمة الله  تعالى  وعنايته بعباده؛ حيث أرسل إليهم الرسل؛ ليهدوهم إلى صراط الله  تعالى  ويبينوا لهم كيف يعبدون الله؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.

8  المقصود بختم النبوة: انتهاء إنباءِ اللهِ الناسَ، وانقطاع وحي السماء.

ومعنى ذلك اعتقاد أن النبواتِ قد ختمت بنبوة النبي محمد" وأن وحي السماء انقطع بموته  عليه الصلاة والسلام  وأن ذلك من صميم عقيدة المسلمين، وأن من ادعى خلاف ذلك فهو كافر بالله مكذب لنبيه".

وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

9  المعجزة الأمر الخارق للعادة: هو ما يكون على خلاف مألوف الآدميين، وما كان خارجاً عن طاقتهم.

10  اختص الله نبينا محمداً" بخصائص كثير ورد في هذا البحث ذكر لبعضها.

 الركن الخامس: الإيمان باليوم الأخر

1  اليوم الأخر هو يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب والجزاء.

2  الإيمان بذلك اليوم يعنى التصديق الجازم يإتيانه, وبجميع تفاصيله, والعمل بموجب ذلك

3  للإيمان باليوم الآخر أهمية عظمى؛ إذ هو احد أركان الإيمان, ولكثرة وروده في نصوص الشرع, ولكثرة ارتباطه بالإيمان بالله, ولكثرة الثناء على المؤمنين به, والذم للكافرين به, ولكثرة أسمائه, والمؤلفات فيه.

4  الإيمان باليوم الآخر يثمر ثمرات جليلة , وأخلاقاً جميلة, وعبودياتٍ متنوعةً, وآثاراً حميدة تعود على الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.

5  النفخ في الصور: : هو نفخ إسرافيل في القرن الذي التقمه وَوُكِلَ إليه النفخ فيه وقت قيام الساعة.

وعدد النفخات نفختان : نفخة الصعق وهي النفخة التي ينفخ فيه فيفزع الناس، ويصعقون؛ ذلك أن الله ـ عز وجل ـ إذا أذن بانقضاء هذه الدنيا أمر إسرافيل ـ عليه السلام ـ أن ينفخ في الصور فيصعق كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله، وتصبح الأرض صعيداً جرزاً، والجبال كثيباً مهيلاً، ويحدث كل ما أخبر الله في كتابه، لاسيما في سورة الانفطار والتكوير.

وتسمى هذه النفخة نفخة الصعق، ونفخة الفزع، وتسمى بالراجفة، وتسمى بالصيحة.

6  نفخة البعث: وهي النفخة التي يقوم الناس فيها من الأجداث أحياءً لرب العالمين.

وتسمى هذه النفخة بالأخرى، وتسمى بالرادفة.

7  البعث: هو المعاد الجسماني، وإحياء الأموات يوم القيامة؛ لحسابهم والقضاء بينهم

7  الإيمان بالبعث دل عليه الكتاب والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة السليمة، وهو مقتضى الحكمة؛ حيث تقتضي أن يجعل الله لهذه الخليقة معاداً يجازيهم فيه على ما كلفلَّهم به على ألسنة رسله.

8  القيامة اسم من أسماء اليوم الأخر, وسميت بذلك لقيام الخلق من قبورهم إليها, أو لقيام الناس لرب العالمين.

9  يوم القيامة يوم عظيم أمره, وشديد هوله, لا يلاقي العبد مثله؛ لما فيه من الرعب والفزع, وانقطاع العلائق, ولدنو الشمس من الخلائق.

10  الحساب: هو إطلاع الله عبادة على أعمالهم يوم القيامة, وإنباؤهم بما قدموه من خير وشر.

11  كيفية الحساب: يمكن إجمال ذلك بأن يقال: ان الله   عز وجل  يوقف عباده بين يديه، فيقررهم بذنوبهم التي ارتكبوها، وبأعمالهم التي عملوها، وبأقوالهم التي قالوها، ويعرفهم بما كانوا عليه في الدنيا من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، واستقامة وانحراف، وما يستحقونه على ما قدموه من مثوبة أو عقوبة.

12   الحساب من العسير ومن اليسير, ومنه حساب التقرير والتكريم، ومنه حساب التوبيخ والتقريع، ومنه الفضل والصفح، ومنه المؤاخذة والمجازاة، ومتولي ذلك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.

13  القواعد التي يحاسب عليها العباد: العدل التام, وألا يؤاخذ أحد بجريرة غيره, وأن يُطْلع العباد على أعمالهم, ومضاعفة الحسنات دون السيئات.

14  أول من يحاسب من الأمة أمه محمد", وأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة, وأول ما يقضى فيه بين الناس: الدماء.

15  الميزان في الشرع: هو ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد والحكمة من نصب الميزان إظهار عدل الله  عز وجل .

16  كتب الأعمال: هي الدواوين والصحائف التي أحصيت فيها الأعمال, ومعنى نشرها: إظهارها يوم القيامة؛ قآخذٌ بيمينه , وآخذ بشماله وراء ظهره؛ فالمؤمن يأخذ كتابه بيمنه من أمامه, فيفرح, ويستبشر, والكافر يأخذه بشماله من وراء ظهره, فيدعو بالويل والثبور.

17  الحوض في الشرع: هو حوض الماء النازل من الكوثر في عرصات يوم القيامة للنبي".

18  صفته: هو حوض عظيم، ومورد كريم يُمَدُّ من شراب الجنة من نهر الكوثر.

ماؤه أشد بياضاً من اللبن والورِق، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، آنيته كنجوم السماء، وهو غاية في الاتساع، عرضه شهر، وطوله شهر وزواياه سواء، وكلما شُرِب منه فهو في زيادة واتساع، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.

19  الواردون للحوض، والمردودون عنه: الواردون للحوض هم المؤمنون، الصادقون، المتبعون, والمردودون عنه هم المُحْدِثون، المبدِّلون الناكصون على أعقابهم.

قال رسول الله ":  (  أنا فرطكم على الحوض، وَلأُنَازِعنَّ أقواماً، ثم لأُغْلَبَنَّ عليهم؛ فأقول: يارب! أصحابي، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك  )متفق عليه

وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ÷:  (  فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول: سحقاً، سحقاً لمن بدَّل بعدي  )

وجاء في صحيح مسلم ـ أيضاً ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ:  (  فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم  ).

20  الصراط في الشرع: هو الجسر الممدود على جهنم؛ ليعبر الناس عليه إلى الجنة.

صفة الصراط: جاءت صفة الصراط في أحاديث عديدة منها ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الطويل، وفيه:  (  قيل يا رسول الله! وما الجسر؟ قال:  (   دحْضٌ مزلة، فيه خطاطيف، وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان  ).

قال أبو سعـيد:  (   بلغـني أن الجسـر أدقُّ من الشعـرة، وأحـدُّ من السيف  )

مرور الناس على الصراط على قدر أعمالهم؛  فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً، ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة.

21  الجنة: هي دار النعيم التي أعدها الله للكافرين الذين كفروا بالله ورسله.

الجنة درجات, والنار دركات.

22  معنى الإيمان بالجنة والنار: التصديق الجازم بوجودهما، وأنهما مخلوقتان الآن، وأنهما باقيتان بإبقاء الله لهما، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان.

ويدخل في ذلك الإيمان بكل ما احتوت عليه الجنة من النعيم، وما احتوت عليه النار من العذاب الأليم.

الركن السادس: الإيمان بالقدر

1  الإيمان بالقدر: هو الإيمان بعلم الله المحيط, وكتابته , ومشيئته, وخلقه لكل شيء

2  الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح يثمر ثمرات جليلة على الإفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة.

3  الإيمان بالقدر دلَّ عليه الكتاب, والسنة, والإجماع, والفطرة, والعقل، والحس.

4  الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى: مراتب القدر، وهي العلم، والكتابة, والمشيئة, والخلق.

5  الواجب على العبد في باب القدر أن يؤمن بقضاء الله وقدره, ويؤمن بشرع الله وأمره ونهيه, فعليه تصديق الخبر وطاعة الأمر, فإذا أحسن حمد الله  تعالى  وإذا أساء استغفر الله  تعالى  وعلم أن ذلك بقدر الله, فهذا هو الواجب على العبد, ولا يلزم كل أحدٍ أن يعرف مباحث القدر على وجه التفصيل.

6  الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية, وأن يكون له قدرة عليها, بل له مشيئة وقدرة, وهما تابعتان لمشيئة الله وقدرته, واقعتان بها.

7  فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر, بل إن ذلك من تمام الإيمان به.

8  الاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب لا المعائب.


 نماذج من معجزات النبي محمد "

لقد أجرى الله   عز وجل   على يد نبينا محمد" معجزاتٍ باهراتٍ, وآيات مبصرات إذا نظر فيها مريد الحق دلته على أنها شهادة صادقة من الله لرسوله".

وقد عدَّها بعض العلماء فزادت على ألف معجزة, وقد أُلَّفت فيها مؤلفات, وتناولها العلماء بالشرح والبيان.

ولا ريب أن أعظم الآيات التي أعطيها رسولنا محمد" بل أعظم آيات الرسل أجمعين  هو القرآن الكريم؛ فهو آية باقية إلى يوم الدين لا يطرأ عليها التغيير أو التبديل [وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ] فصلت .

وهناك معجزات أخرى كثيرة أجراها الله  عز وجل  على يد نبينا محمد "غير معجزة القرآن الكريم, والمقام لا يتسع إلا لذكر القليل من تلك المعجزات؛ فإلى بيان شيء من ذلك فيما يلي: 

1  معجزة انشقاق القمر: وهذا المعجزة من أعظم المعجزات الحسية الدالة على صدق نبوة النبي ".

وذلك أن المشركين من أهل مكة سألوا النبي" أن يريهم آية, فأراهم انشقاق القمر نصفين.

وقد أخبر الله   عز وجل  عن هذه المعجزة بقوله:[ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ ١ وَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّٞ] القمر.

قال ابن تيمية×: (   فذكر اقتراب الساعة وانشقاق القمر, وجعل الآية في القمر دون سائر الكواكب؛ لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم, وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك؛ إذ هو الجسم المستنير الذي يظهر فيه الانشقاق لكل من يراه ظهوراً لا يتُمارى فيه  ).

إلى أن قال ×: (  وكان النبي "يقرأ بهذه السورة   يعني سورة القمر التي ورد في أولها ذكر هذه المعجزة   في المجامع الكبار, مثل صلاة الجمعة, والعيدين؛ ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة, ودلائلها, والاعتبار بما فيها.

وكل الناس يقر بذلك, ولا ينكره؛ فَعُلِم أن انشقاق القمر كان معلوماً عند الناس عامة  ).

وقد جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب ÷ سأل أبا واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله " في الأضحى والفطر؟

قال: كان يقرأ فيهما بـ: [قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ], [ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ]  ) رواه مسلم.

قال ابن تيمية× معلقاً على ذلك:  (  ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلاً عن أعدائه الكفار والمنافقين.

 ومعلوم أنه كان من أحرص الناس على تصديق الخلق له, وإتباعه إياه؛ فلو لم يكن انشق لما كان يُخْبِرُ به, ويقرؤه على جميع الناس ويستدل به, ويجعله آية له  ).

وجاء في صحيح البخاري عن أنس÷ أن أهل مكة سألوا رسول الله" أن يريهم آية؛ فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما  ) رواه البخاري.

وعن جبير بن مطعم قال:  (  انشق القمر ونحن بمكة حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل, فقال الناس سَحَرنا محمدٌ.

قال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم  ) أخرجه الترمذي.

وعن ابن مسعود ÷ أن كفار قريش   أهل مكة  لما رأوا القمر منشقاً شقين قالوا: هذا سحر, انظروا السُّفار   جمع مسافر  ؛ فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فهو صدق, وإلا لم يكونوا قد رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر.

قال: فسُئل السُّفار, وقدموا من كل وجه؛ فقالوا: رأينا. رواه البيهقي.

قال ابن كثير× عن آية انشقاق القمر بعد أن أورد كثيراً من الأدلة على وقوعها قال :  (   وقد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض.

ويقال: إنه أُرِّخ ذلك ببعض بلاد الهند, وبني بناءٌ تلك الليلة, وأرِّخ بليلة انشقاق القمر  ).

ويعلل × خفاء تلك الآية على بعض أهل الأرض بقوله: (   ولعل ذلك في بعض ليالي الشتاء؛ حيث يكون أكثر الناس في البيوت, أو سترت غيم في كثير من الأرض  ).

فهذا شيء مما جاء في معجزة انشقاق القمر.

2 معجزة الإسراء والمعراج: وهو إسراء الله بنبيه محمد" من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث جمع الله له الأنبياء فصلّى بهم إماماً.

قال الله  عز وجل :[سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ] الإسراء: 1 .

ومن هناك عرج به إلى السموات العلا, وهناك رأى ما رأى من آيات ربه الكبرى؛ حيث رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها, وصعد به إلى سدرة المنتهي, وجاوز السبع الطباق وكلّمه الرحمن، وقَرَّبه.

قال الله  عز وجل مبيناً ذلك الشأن: [أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ١٢ وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ].

وقد استعظمت قريش دعوى رسول الله" في الإسراء, والمعراج؛ فقد كانت القوافل تمضي الأسابيع في الذهاب إلى بيت المقدس والعودة منها؛ فكيف يتسنى لرجل أن يمضي، ويعود في جزء من ليلة! ذلك أمر عجيب, وهو حقًّا عجيب, ولكن العجب يتلاشي إذا علمنا أن الذي أسرى به هو الله  تعالى  والله على كل شيء قدير.

3 تكثيره "الطعام: وقد وقع هذا أكثر من مرة, فمن ذلك ما رواه أنس÷, قال: قال أبو طلحة لأم سليم, لقد سمعت صوت رسول الله" ضعيفاً, أعرف فيه الجوع, فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم, فَأَخْرَجَتْ أقراصاً من شعير, ثم أخرجت خِمَاراً لها، فَلفَّت الخبز ببعضه, ثمَّ دَسَّته تحت ثوبي, وردتني ببعضه, ثم أرسلتني إلى رسول الله" فذهبت به, فوجدت رسول الله" في المسجد والناس معه, فقمت عليهم, فقال لي رسول الله": (  أرسلك أبو طلحة  )؟ قلت: نعم, قال: (  بطعام  ) قلت: نعم, فقال رسول الله" لمن معه: (  قوموا  )فانطلق, وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة, فأخبرته, فقال أبو طلحة: يا أمَّ سليم, قد جاء رسول الله" بالناس, وليس عندنا ما نطعمهم, فقالت: الله ورسوله أعلم.

قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله" فأقبل رسول الله" وأبو طلحة معه, فقال رسول الله": (   هلمي يا أمَّ سليم, ما عندك  ) فأتت بذلك الخبز, فأمر به رسول الله", فَفُتَّ, وعَصَرت أم سليم عُكَّةً([1]) لها, فَأَدَمتهُ, ثم قال رسول الله" فيه ما شاء الله أن يقول, ثمَّ قال: (   ائذن لعشرة  ), فَأَذِن لهم, فأكلوا, حتى شبعوا, ثم قال: (  ائذن لعشرة  ) فأذن لهم, فأكلوا, حتى شبعوا, ثم خرجوا, ثم قال: (  ائذن لعشرة  ), فأذن لهم, فأكلوا حتى شبعوا, ثم خرجوا, ثم قال: (  ائذن لعشرة  ) فأكل القوم كلهم, وشبعوا, والقوم سبعون أو ثمانون رجلاَ  ).

وفي رواية: ثم أكل رسول الله" وأبو طلحة، وأم سليم، وأنس، وفَضُل فضلةٌ، فأهديناها لجيراننا. متفق عليه.

4 تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة: وقد وقع من هذا شيء كثير من الرسول ", فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله÷ قال:  (  عطش الناس يوم الحديبية, ورسول الله" بين يديه ركوة   وهي الدلو الصغير   فتوضأ منها, ثم أقبل الناس نحوه, قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به, ونشرب إلا ما في ركوتك, فوضع النبي" يده في الركوة, فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون, قال: فشربنا, وتوضأنا.

قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا, كنا خمس عشرة مائة  ) رواه البخاري.

5 إبراؤه المرض   بإذن الله  : فمن ذلك إبراؤه من كسرت رجله فعن البراء بن عازب قال: بعث النبي" رهطاً إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفتُ أني قتلته، فرجعت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي، فوقعت في ليلة مقمرةٍ، فانكسرت ساقي, فعصبتها بعمامة فانطلقتُ إلى أصحابي فانتهيت إلى النبي" فحدثتهُ فقال:  (  ابسط رجلك  ).

فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنما لم أشتِكها قط. رواه البخاري.

ومن ذلك إبراؤه عين علي بن أبي طالب   بإذن الله  :  فعن سهل بن سعد أن رسول الله" قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه, يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله  ) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله" كلُّهم يرجو أن يعطاها فقال: (  أين علي بن طالب؟  ) فقالوا: هو يا رسول يشتكي عينيه, قال: (  فأرسلوا إليه  ) فأتي به فبصق رسول الله في عينه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع, فأعطاهُ الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال:  (  انفُذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعُهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله فيه فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدً خيرٌ لك من أن يكون لك حمرُ النعم  ). متفق عليه.

وحمر النعم: لون من ألوان الإبل المحمودة، وكانت مما تفاخر به العرب.

6  تسليم الحجر على النبي": في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة عن النبي" أنه قال:  (  إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن  ) رواه مسلم.

7  تسليم الشجر والجبال على النبي": فعن علي بن أبي طالب÷ قال:  (  كنت مع النبي" بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله  ). أخرجه الترمذي.

فهذه أمثلة يسيرة جدًّا من معجزات النبي" ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتب التي اعتنت بمعجزاته  عليه الصلاة والسلام  ككتاب دلائل النبوة لأبي زرعة الرازي، ودلائل النبوة لأبي الشيخ الأصبهاني، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، ودلائل النبوة لابن أبي الدنيا، وغيرها كثيرة من الكتب التي اعتنت بمعجزات النبي".

هذا غير الكتب التي تكلمت على المعجزات ضمن سيرة النبي" أو كتب الصحاح والمسانيد.


 مسائل في علم الغيب

الإيمان بالغيب من أخص صفات المؤمنين؛ فهم يؤمنون بكل ما جاء من أخبار التي جاءت بها الرسل، وبَلَّغت به عن الله   عز وجل  .

والأمور المدركة لا تحصر بالمادة وحدها؛ فالملاحدة لما آمنوا بالمادة وحدها حصروا الأمور المدركة في دائرة ضيقة؛ فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه نفوه وأنكروه.

ومن أجل ذلك أنكروا علوم الغيب، وما جاءت به الرسل، وما أنزلت به الكتب.

وهذا الزعم باطل، شرعاً، وعقلاً، وتجربة؛ ذلك أن الأمور المدركة لا تقتصر على ما أثبته الحس؛ فهناك مدارك أخرى؛ فهناك الأخبار الصادقة، وأعلاها وأحقها خبر الله ورسله؛ ففي ذلك تبيان لكل شيء.

وإذا نُسبت العلومُ المدركة بالحس إلى ما جاءت به الرسل من العلوم   كانت كقطرة في بحر لجي.

ثم إن هناك أشياء يؤمن بها الناس وإن لم يشاهدوها كالروح مثلاً؛ فهي لا ترى ومع ذلك لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؛ فهل ينكر الروح أحد بحجة أنها لا تدخل في المحسوس؟

وكذلك الكهرباء؛ فهل شاهدها أحد؛ إنما يشاهد الناس أثرها، أتكون الكهرباء أيسر أن نؤمن بها وأقرب إلى أن نصدق بها من أن نؤمن بالله الذي أبدعها ضمن ما أبدع من أسرار هذا الكون ؟

أولاً: عالم الجن والشياطين

1  الجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويخالفون الإنسان في أمور أهمها أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان .

2  سُمي الجن جناً لاجتنانهم، أي استتارهم، واختفائهم عن الأبصار.

3  أصل الجن: أخبرنا الله   جلّ وعلا   أن الجنّ قد خُلقوا من النار في قوله: [وَالْجَآنَّ خلقناه من قبل من نّار السَّموم] ( الحجر : 27 ) ، وقال في سورة الرحمن: [وخلق الجانَّ من مَّارجٍ من نَّارٍ ].

4  الشيطان الذي حدثنا الله عنه كثيراً في القرآن من عالم الجنّ، كان يعبد الله في بداية أمره، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثمّ عصى ربه عندما أمره أن يسجد لآدم، استكباراً وعلواً، فطرده الله من رحمته.

5  الشيطان مخلوق: والذي يطالع ما جاء في القرآن والحديث عن الشيطان يعلم أنه مخلوق يعقل ويدرك ويتحرك، وليس كما يقول بعض الذين لا يعلمون: إنه روح الشّر متمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه  إذا تمكنت من قلبه  عن المثل الروحية العليا.

6  لا شك أن الجن  ومنهم الشياطين  يموتون؛ إذ هم داخلون في عموم قول الله  تعالى : [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ].

أما مقدار أعمارهم فلا نعلمها إلا ما أخبرنا الله عن إبليس، أنه سيبقى حيّاً إلى أن تقوم الساعة كما في قوله  عز وجل  عنه: [قال أنظرني إلى يوم يبعثون ، قال إنَّك من المنظرين].

7  الجن يسكنون هذه الأرض التي نعيش فوقها، ويكثر تجمعهم في الخراب والفلوات، ومواضع النجاسات كالحمامات، والحشوش، والمزابل، والمقابر، ونحو هذه الأماكن، التي هي مأوى الشياطين.

وقد جاءت الأحاديث ناهية عن الصلاة في الحمام؛ لأجل ما فيها من نجاسة، ولأنها مأوى الشياطين، وفي المقبرة ؛ لأنها ذريعة إلى الشرك .

8  لقد أعطى الله الجنّ قدرة لم يعطهـا للبشر، وقد حدثنا الله عن بعض قدراتهم، فمن ذلك سرعة الحركة والانتقال؛ فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش مَلِكَةِ اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه.

9  خلق الله الجن للغاية نفسها التي خلق الإنس من أجلها: [وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون].

فالجن على ذلك مكلفون بأوامرَ ونواهٍ؛ فمن أطاع الله رضي الله عنه، وأدخله الجنة، ومن عصى وتمرد فله النار، يدلّ على ذلك نصوص كثيرة .

ثانياً: الشيطان وابن آدم

للشيطان تسلط على بني آدم، ولهم علاقة ببعض البشر الذين يسلمون قيادهم للشيطان، فيطيعونه في معصية الله   عز وجل  .

وله مع بعضهم معارك، وصراعات، وفيما يلي مسائل في علاقة الشيطان مع ابن آدم.

1   الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

2  الشياطين يتسلطون على بني آدم لاغوائهم، وقد مكنهم الله بحكمته، وقدره الكوني من ذلك.

ومع هذا فإن سلطان الشياطين يقوى ويضعف بحسب قوة إيمان الإنسان وضعفه، فإذا قوى إيمانه ضعف تسلط الشيطان عليه والعكس؛ فالشياطين فيهم جوانب قوة، وجوانب ضعف، قال  تعالى : [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً].

3   إذا تمكن العبد في الإسلام، ورسخ الإيمان في قلبه، وكان وقّافاً عند حدود الله فإنّ الشيطان يخاف منه، ويفرّ منه.

4  غاية ما يسعى إليه الشيطان هو أن يلقي الإنسان في الجحيم، ويتسبب في حرمانه من الجنة.

وإذا لم يستطع ذلك سعى إلى ما هو دون ذلك.

5  للشيطان أساليب كثيرة لإضلال بني آدم؛ كتزيين الباطل، وتسمية الأمور بأسماء محببة، وكالتدرج في الإضلال، والدخول إلى النفس من الباب الذي تحبه، والتسلل إلى الإنسان من خلال مكامن الضعف فيه.

6  طريقة وصول الشيطان إلى قلب الإنسان هي الوسوسة، فالشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها، ولا نعرف كيفيتها.

7  مع شدة عداوة الشيطان، وعظم كيده، وحرصه على إضلال بني آدم   فإنه يخسأ ويخنس، ويرجع ذليلاً صاغراً إذا أخذ المؤمن بالأسباب التي تقيه من الشيطان الرجيم، ومن تلك الأسباب على سبيل الإجمال: أخذ الحذر والحيطة، والالتزام بما جاء بالكتاب والسنة، والاستعاذة الصادقة بالله  عز وجل  من شر الشيطان، والمحافظة على ذكر الله، ومعرفة أساليب الشيطان، والتزود بالعلم النافع، والمبادرة إلى التوبة والاستغفار إلى غير ذلك من الأسباب المعينة على دحر الشيطان.

8  هناك حكم كثيرة من خلق الشيطان، وقد ذُكر في البحث عدد منها، ومن أهمها حصول الابتلاء، وظهور قدرة الرب على خلق المتضادات.

ثالثاً: الموت والبرزخ والقبر

1  الموت ضد الحياة، ونقيضها، وهو انقطاعُ تعلُق الروحِ بالبدن، ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتَبَدُّل حالٍ، وانتقال من دار إلى دار  ).

2  البرزخ: هو الدار التي تعقب الموت إلى البعث.

3  القبر: مدفن الإنسان، وفتنة القبر هي سؤال الملكين الميتَ بعد دفنه عن ربه، ودينه، ونبيه.

وصفة فتنة القبر: أنه إذا دفن الميت في قبره تُعادُ له الروح، فَيُسأل، ويقال له: مَنْ ربُّك، وما دينك، ومن نبيك؟

فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد.

ويضل الله الظالمين، فيقول الكافر: هاه، هاه لا أدري.

ويقول المنافق أو المرتاب: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.

4  نعيم القبر وعذابه: هو اسم لنعيم البرزخ وعذابه، وهو نتيجة لفتنة القبر؛ فنعيم القبر للمؤمنين الصادقين، وعذابه للظالمين من المنافقين والكافرين.

5  عذاب القبر ونعيمه يُؤمَنُ به دون خوض في كيفيته.

6  عذاب القبر ونعيمه شامل لكل من مات سواء دفن في قبر أو غيره، وإنما سمي عذاب القبر باعتبار الغالب والأصل.

7  عذاب القبر ونعيمه على الروح والبدن.

8  عذاب القبر على نوعين: أحدهما دائم، والآخر منقطع لبعض العصاة.

9  أسباب عذاب القبر يمكن إجمالها بالجهل بالله، وإضاعة أمره، وارتكاب معاصيه.

وأما أسباب النجاة منه فباالعكس من ذلك.

رابعاً: أشراط الساعة

1  الساعة قريبة آتية لا ريب فيها، ولا يعلم وقتها إلا الله.

2  الموقف الصحيح من أشراط الساعة أن نؤمن بما جاء من النصوص في شأنها، وألا نكلف أنفسنا في استدعائها وطلبها وتنزيلها على الواقع.

بل ندع تفسيرها للواقع؛ حتى لا نرجم بالغيب، ونقْفُوَ ما ليس لنا به علم؛ اقتداء بالسلف الصالح الذين آمنوا بتلك النصوص، وأدوها إلينا بكل صدق وأمانة، ولم يقحموا الظنون في تعيينها، وترتيب بعضها على بعض بمجرد الرأي.

وبذلك نسلم من صنيع بعض الناس الذين ربطوا بين النصوص الواردة في أحوال آخر الزمان وأشراط الساعة وبين حال العالم في زماننا هذا، فرتبوا بعضها على بعض، وبنوا على ذلك أموراً نتج عنها فتن عظيمة، وانتهاك للحرمات.

وخلاصة القول في هذه المسألة: أن نؤمن بتلك النصوص، وندع تفسيرها للواقع.

3  أشراط الساعة: هي علاماتها، وأعلامها التي تسبقها، وتدل على قربها، وقيامها، ومجيء الساعة بعدها، وانتهاء الدنيا وانقضائها.

4  تنقسم أشراط الساعة إلى قسمين: صغرى: وهي التي تتقدم الساعة بأزمان متطاولة، وتكون من نوع المعتاد.

وكبرى: وهي الأمور العظام التي تظهر قرب قيام الساعة، وتكون غير معتادة الوقوع، كظهور الدجال، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها.

وإذا ظهرت علامة من هذه العلامات تتابعت باقيها، ولا يكاد يفصل بينها فاصل.


 مسائل في الذنوب، والتوبة، والدعاء

راعت الشريعة الإسلامية حال العباد، وما يعتريهم من الغفلة، والتقصير، والضعف البشري، فتقع منهم الذنوب التي هي من أعظم أسباب البلاء، والعقوبة في الدنيا والآخرة.

ومن هنا جاء الشرع المطهَّر في بيان مفهوم الذنوب، و أنواعها، وأضرارها، وعواقبها؛ لكي يَحْذرها العباد، و يسلموا من غوائلها.

كما جاءت الشريعة  أيضاً  بعلاج الذنوب صغيرها وكبيرها، وأعظم تلك العلاجات   التوبة إلى الله  عز وجل .

ثم إن حاجة العباد إلى دعاء ربهم ماسَّة، بل إن ضرورتهم إليه مُلِحَّة؛ فالدعاء هو العبادة، وهو سبيل السعادة؛ فمن لزم دعاء ربه فتحت له أبواب الخيرات، وصرفت عنه الشرور والآفات.

وفيما يلي بيان موجز لمفهوم الذنوب وما يتعلق بها، ولمفهوم التوبة، والدعاء.

أولاً: مسائل في الذنوب

1  الذنوب: جمع ذنب، والذنب: هو الإثم، والمعصية.

2  هناك تقسيمات للذنوب، ومنها أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر.

3  للذنوب والمعاصي نتائج وخيمة، وأضرار عظيمة، وآثار مدمرة، وعقوبات متنوعة سواء في الدنيا أو في الآخرة، على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.

ثانياً: مسائل في التوبة

1  التوبة: هي ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة([2])، وقبل طلوع الشمس من مغربها.

2  باب التوبة مفتوح؛ فلقد فتح الله بابها؛ حيث أمر بها، وحض عليها، ووعد بقبولها، سواء كانت من الكفار أو المشركين، أو المنافقين أو المرتدين، أو الطغاة، أو الملاحدة، أو الظالمين، أو العصاة المقصرين.

3  للتوبة فضائل جمة، وأسرار بديعة، وفوائد جمة، ومنها مغفرة الذنوب، وإبدالها حسنات لمن حسُنت توبته، ومنها راحة النفْس، والخلاص من ذلّ المعصية.

ثالثاً: مسائل في الدعاء

1  الدعاء: هو الابتهال إلى الله   تعالى   بالسؤال، والرغبة فيما عنده من الخير، والتضرع إليه في تحقيق المطلوب، والنجاة من المرهوب.

2  للدعاء فضائل عظيمة، وثمرات جليلة، منها أن الدعاء عبادة، وأنه أكرم شيء على الله، وأنه سبب لانشراح الصدر، ودفع البلاء، ورفعه.

3  وهناك أسباب لإجابة الدعاء، ومنها: إخلاص الدعاء، وشدة الرغبة، والإلحاح، وحسن الظن بالله، وترك الاستعجال، والبعد عن الدعاء بالإثم.


  النظام السياسي في الإسلام

 أولاً: مفهوم النظام السياسي

1  النظام السياسي جزء من معرفة السياسة الشرعية، وهو معرفة نظام الحكم، وكيفية اختيار الحاكم، وحقوقه، وواجباته، وحقوق المحكوم، وواجباته، والعلاقة بين الحاكم، والمحكوم، والعلاقة بين الدول في حالتي السلم  والحرب وفق الشريعة.

2  للنظام السياسي في الإسلام خصائص منها: الربانية، والشمول، والعالمية، والوسطية، والواقعية، وملائمة الفطرة.

ثانياً: القضاء في الإسلام

1  القضاء في الشرع: هو تبيُّن الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات.

2  للقضاء مكانة عظيمة، وأهمية بالغة؛ فهو من ضروريات الحكم، ومن أعظم الأسس والقواعد التي تقوم عليها أي دولة؛ فمصلحة الأمة تقضي بوجوده، والعناية به.

ولو عُدِمَ القضاءُ لاختل الاجتماع، ولاضطربت الأمور، وضاعت الحقوق، وعمت الفوضى.

3  للقضاء مقاصد، وقد ذكر في البحث عشرة مقاصد.

4  للقضاء شروط عديدة، وأهمها القوة، والأمانة، وقد ورد في البحث إيضاح لتلك الشروط.

5  هناك آداب يحسن بالقضاة أن يتحلوا بها؛ ليكون قضاؤهم كاملاً مؤدياً للغرض من غير جلب ضرر أو مفسدة، وقد ذُكر في البحث أربعة عشر أدباً.

6  لقد أكدت الشريعة الإسلامية على استقلال القضاء والقاضي.

ويُعنى بذلك حصانة القضاء والقاضي، وحريته في اتخاذ الحكم، وتقرير الحق، ومنع التدخل في أحكامه، وابتعاده عن المؤثرات الخارجية والسياسية، والشخصية.

 ثالثاً: الشورى في الإسلام

1  الشورى: هي استخراج الرأي من أهل الرأي، ومراجعة بعضهم بعضاً؛ رغبة في الوصول إلى الصواب في أي شأن من الشؤون.

2  ورد ذكر الشورى بمعناها العام المتعلق بنظام الحكم في الإسلام في آيتين من القرآن الكريم، وذلك في سورتي الشورى، وآل عمران.

3  لم يأت نصٌّ في القرآن الكريم أو السنة النبوية يحدد لنا كيفية ممارسة الشورى وأسلوبها، وطريقة إجرائها.

كما لم يرد نَصٌّ يُلزم الأمة بعدد معين لأعضاء الشورى، أو كيف يُعْرفون؟ أو كيف يستشارون؟

وهذا كله دليل على المرونة التي اتَّسم بها الإسلام؛ فتكون الشورى حينئذ خاضعة للمصلحة الزمانية، والمكانية حسب أحوال المجتمعات.

وبهذا يعلم أن المهم أن تقوم حقيقة الشورى في المجتمع المسلم بأي وسيلة لا تعارض الشرع.

4  الشورى تتفق مع الديمقراطية في أمور، وتفترق في أمور، وقد ذكر في البحث بيان لذلك.

5  السيرة النبوية حافلة بالشورى، وتطبيقاتها، وقد ورد في البحث نماذج من ذلك.


  النظام الاقتصادي في الإسلام

أولاً: تعريف النظام الاقتصادي في الإسلام: هو مجموعة الأحكام، والسياسات الشرعية التي يقوم عليها المالُ، وتَصَرُّفُ الإنسان فيه.

ثانياً: مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وسدُّ الذرائع، والعرف.

ثالثاً: الإيمان يمثل المنطلق الرئيس، والركيزة الأولى لكل جوانب الاقتصاد الإسلامي ومجالاته؛ فهو في حقيقته وجوهره فرع من فروع عقيدة الإيمان، ومهمته أن يحمي هذه العقيدة ويعمق جذورها، وينشر نورها، ويضع الصور العملية التي تعبر عنها، وتحقق أهدافها في واقع الحياة.

رابعاً: يسعى النظام الاقتصادي الإسلامي إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها: تحقيق حدِّ الكفاية المعيشية، والتوظيف الأمثل لكل الموارد الاقتصادية، وتحقيق التفاوت الكبير في توزيع الثروة والدخل، وتحقيق القوة المادية والدفاعية للأمة الإسلامية.

خامساً: للاقتصاد الإسلامي خصائص تميزه عن غيره من النظم الاقتصادية الأخرى، منها اعترافه بالملكية الفردية، وقيامه على أساس الحرية الاقتصادية، وارتكازه على أساس التكافل، وكونه ذا طابع تعبدي، وهدف سامٍ يجمع بين الآخرة والأولى، وكونه محققاً للتوازن بين مصلحة الفرد والجماعة.

سادساً: الربا في الشرع: هو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء جاء الشرع بتحريمها.

سابعاً: ينقسم الربا إلى نوعين: 1  ربا الدَّين، وله صور منها الزيادة في الدَّين مقابل الزيادة في الأجل، وهو الزيادة المشروطة.

2  ربا البيع: وهو بيع ربوي بمثله متفاضلاً حالاًّ أ ومؤجلاً.

ثامناً: الأصناف التي يقع فيها الربا: نصَّ النبي" على الأعيان التي يقع فيها الربا بقوله:  (  الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإن اختلفت الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد  ).

تاسعاً: علة الربا: نص النبي" على الأصناف الستة المذكورة التي يقع فيها الربا، ويقاس عليها ما شاركها في العلة، و العلة فيها كما يلي:

الذهب والفضة: العلة فيهما الثمنية فهما أثمان للأشياء، فيقاس عليهما ما كان ثمناً كالأوراق النقدية المعروفة؛ حيث يجري فيها الربا؛ لكونها أثماناً قياساً على الذهب والفضة.

الأصناف الأربعة الأخرى: العلة فيها على الصحيحِ الطعمُ مع الكيل أو الوزن، فالأطعمة التي تكال أو توزن يجري فيها الربا قياساً على الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت t ( البر، الشعير، التمر، الملح ).

عاشراً: الربا محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد دلَّ على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.

حادي عشر: هناك حِكم كثيرة لتحريم الربا منها: الابتعاد عن الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وأن الربا وسيلة للكسل والبطالة، وأنه يربي على الجشع، ويهدم الأخلاق الفاضلة، كما أن له آثاراً نفسية، وصحية مدمرة.

ثاني عشر: الاحتكار في اصطلاح الفقهاء: هو حبس الطعام أو غيره مما يحتاج إليه الناس بقصد إغلائه عليهم.

وهو ما يعرف في الاقتصاد الوضعي بالسيطرة على عرضِ أو طلبِ السلعةِ؛ بقصد تحقيق أقصى ربحٍ ممكن، ومن باب التحكم بهذه السلعة لغرض غير إنساني.

ثالث عشر: للاحتكار مساوئ منها:

1   ارتفاع أثمان السلع والخدمات.

2   التحكم ولو بقدر يسير في أسعار المواد الخام والسلع المصنوعة.

3  إبقاء النواحي الفنية على حالها لعدم وجود المنافسة العادلة.

4  تحديد الإنتاج ونقص كمياته في كثير من الأحيان.

5  أنه لا يشبع حاجات الأفراد بالقدر الكافي.

6  العمل على إذلال الشعوب.

رابع عشر: تضافرت الأحاديث النبوية في بيان حرمة الاحتكار.

خامس عشر: يعدُّ من الاحتكار المباح ما يلي:

1  ما يدخره الإنسان لِقُوْتِهِ وقُوْتِ عياله، إلا في أوقات الأزمات؛ حيث يغالي الناس في خزن المواد الضرورية، مما يؤدي إلى اعتباره احتكاراً.

2  ما يخزن؛ ليستهلك في وقت لاحق؛ لأن إنتاجه ربما يكون موسمياً، في حين أن استهلاكه يستمر طيلة أيام السنة مثل الحبوب، أو التمر.

3  ما يدخل ضمن احتياطيات الدولة لمواجهة الطوارئ؛ وذلك لحماية المنتجين والمستهلكين، كالاحتياطي الاستراتيجي من الوقود والحبوب.


  النظام الاجتماعي في الإسلام

 أولاً: مفهوم الاجتماع، والحياة الاجتماعية في الإسلام

1  المجتمع البشري عبارة عن مجموعة من الناس مُكَوَّنة من أفراد.

2  المجتمع المسلم: خلائق مسلمون في أرضهم، مستقرون تجمعهم رابطة الإسلام، وتدار أمورهم في ضوء تشريعاته، وأحكامه، ويرعى شؤونهم ولاة أمر منهم.

3  الأمة الإسلامية: جماعات من الناس تجمعهم عقيدة الإسلام بغض النظر عن أي اعتبار.

 ثانياً: مكانة الجار في الإسلام

1  الجار في الاصطلاح: هو مَنْ جاورك جوارًا شرعيًا سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوَّا ً، محسناً أو مسيئاً، نافعًا أو ضارًا، قريبًا أو أجنبيًا، بلديَّاً أو غريبًا.

وله مراتب بعضها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه، وقرابته، ودينه، وتقواه، ونحو ذلك، فَيُعْطى بحسب حاله وما يستحق.

2  مفهوم الجار: يمتد إلى الجار في المتجر، والسوق، والمزرعة، ويشمل الرفيق في السفر، والجوار بين الدور.

3  لقد أوصى الإسلام بالجار، وأعلى من قدره؛ فللجار في الإسلام حرمة مصونة، وحقوق كثيرة لم تعرفها قوانين الأخلاق، ولا شرائع البشر.

ولقد بلغ من عِظَم حق الجار في الإسلام أن قرنَ الله حق الجار بعبادته وتوحيده تبارك وتعالى وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام.

4  حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة، وأما أصولها فتكاد ترجع إلى أربعة حقوق، وهي كف الأذى عن الجار، وحمايته، والإحسان إليه، واحتمال أذاه.

 ثالثاً: صلة الرحم

1  صلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقـربين من ذوي النسب والأصهار, والعطف عليهم, والرفق بهم, والرعـاية لأحوالهـم, وكـذلك إن بعـدوا وأسـاءوا, وقَطْعُ الرحمِ ضد ذلك كله.

2  صلة الرحم تتحقق بأمور كثيرة، وقد ورد في البحث ذكرٌ لشيء منها.

3  جاءت الشريعة الإسلامية ببيان فضل صلة الرحم؛ ونصوص الكتاب والسنة في ذلك متظاهرة.

 رابعاً: كرامة الإنسان، ومعيار العدل والتكريم في الإسلام

1  لقد قرر الإسلام كرامة الإنسان بما لا يُقرره أي نظام في الدنيا؛ وأدلة الكتاب والسنة شاهدة بذلك، ناطقة به.

ويكفي في ذلك قول الله  تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء: 70 .

وهذا من كرم الله  عز وجل  وإحسانه الذي لا يقدر قدره؛ حيث كَرَّم بني آدم بجميع وجوه الإكرام؛ فكرمهم بالعلم، والتمييز، والعقل، والصورة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتسخير ما في الأرض لهم.

2  العدل: إعطاء الحق إلى صاحبه، بحيث يمكَّن من أخذه بيده، أو يد نائبه، وتعيينه له قولاً أو فعلاً.

والعدل هو الأصل الجامع للحقوق، وهو مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتَمَدَّح بادعاء القيام به عظماء الأمم.

3  للعدل في دين الإسلام مكانة سامية؛ فهو أصل من أصول النظام الاجتماعي فيه.

ولقد تظاهرت نصوص الشرع من الكتاب والسنة في بيان فضل العدل، وتفصيل جزئياته، والتحذير من ضده، وهو الظلم، واتباع الهوى.

ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة؛ إذ العدل كلمة مجملة جامعة.

4  من مظاهر العدل في الشريعة الإسلامية ما يلي:

  أن الله  عز وجل  أمر بالعدل أمراً عزماً.

  أن الله قرن بالأمر بالعدل التحذير من مخالفته.

  تنوع الأمر بالعدل، وعمومه.

  التحذير من التهاون بإقامة العدل.

  أن الشريعة بينت وجوه الأحكام في الأعمال.

  إقامةُ التشريعِ الإسلاميِّ القضاةَ.

  أن الأمر بالعدل شامل لجميع أفراد الأمة.

5  التكريم في الإسلام يقوم على العدل، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه دون وكس ولا شطط؛ فلا طبقية في الإسلام، ولا عنصرية، ولا تفضيل لعرق، أو جنس، أو لون، أو بلد على آخر؛ فهذه الأمور ليست معياراً للتفاضل والتكريم في الإسلام.

إنما المعيار بالتقوى، وبما يمتاز به الإنسان من الكمالات.

 خامساً: أصول الأخلاق ودورها في بناء المجتمع

1  لا يكاد أمر الاجتماع ينتظم كمال انتظامه ما لم تكن مكارم الأخلاق غالبة على جمهورها، وسائدة على معظم تصاريفها وأمورها؛ لأن مِلاك مكارم الأخلاق هو تزكيةُ النفس الإنسانية، وتعويدُ العقل على إدراك الفضائل، وتمييزه عن الرذائل، وتدريبُه على التحلي بتلك الفضائل، والتخلي عن الرذائل.

2  أعظم ما بنى عليه الإسلام دعوته إلى مكارم الأخلاق وتهذيبها هو العناية بتربية النفس، وكمالها، وتدريبها على متابعة الهدى والإرشاد الذي يشهد العقل السليم بحقيقته وصلاحه ونفعه.

3  النظر في أوامر الإسلام ونواهيه يبين مدى ما عليه دين الإسلام من المكارم والسمو، وأنه دين السعادة والفلاح، وأنه لم يَدَع الإنسان في خاصة نفسه أو مع أهله، أو مع جيرانه، أو أهل ملَّته، أو الناس أجمعين   إلا علَّمه من دقائق الآداب، ومحاسن المعاملات ما يصفو به عيشه، ويتم سروره.

ولا يَريبَنَّك ما عليه كثير من المسلمين من سوء الحال؛ فإن ذلك بمقتضى أهوائهم لا من طبيعة دينهم.

4  محاسن الدين تتجلى بوضوح من خلال النظر في أوامر الإسلام ونواهيه، وقد ورد في البحث ذكرٌ لكثير من تلك الأوامر والنواهي.

5  تناول البحث دراسة مجملة لأمهات الفضائل وأصول الأخلاق كالصبر، والعفة، وعزة النفس، والسخاء، والشجاعة، والوفاء.


  الصداقة في الإسلام، وعلاقة المسلمين بغيرهم

1  الإسلام بشموله، وسعته، وتشريعاته الحكيمة لم يغفل جانب الصداقة والصحبة.

بل لقد عُني بالصداقة الحقة، ورغّب فيها، ووضع لها الأسس العامة التي تكفل استمرارَها، وإيتاءَها ثمارَها الطيبةَ.

2  من مظاهر عناية الإسلام بالصداقة أنه أمر المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، واستحب له أن يؤثر أخاه المسلم وإن كانت به حاجة شديدة.

كما أن الإسلام رغَّب في مصاحبة الجليس الصالح، وقرر أن الصداقة الحقة الصالحة تستمر إلى ما بعد الممات، وأنه يترتب عليها الثواب الجزيل.

3  علاقة المسلم بغير المسلم تقوم في أصلها على الإحسان، والبر، والصلة، والعدل، وحب الخير والهداية لهم.

4  في ظل هذا التوجيه القرآني عاش أهل الكتاب في جوار المسلمين ينعمون بالأمن والطمأنينة على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.

بل لقد وجدوا معاملةً وعدلاً لم يكونوا يجدونها بين أهليهم وبني جنسهم وملَّتهم.

وحين وجدوا تلك المعاملة الحسنة والعدل والخلق من المسلمين أحبوا دين الإسلام، وسارعوا إلى الدخول فيه عن قناعة ويقين.


  المرأة في الإسلام

 أولاً: مكانة المرأة في الإسلام

لقد رفع الإسلام مكانة المرأة، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه؛ فالنساء في الإسلام شقائق الرجال، وخير الناس خيرهم لأهله؛ فالمسلمة في طفولتها لها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية، وهي في ذلك الوقت قرة العين، وثمرة الفؤاد لوالديها وإخوانها.

وإذا كبرت فهي المعززة المكرمة، التي يغار عليها وليها، ويحوطها برعايته، فلا يرضى أن تمتد إليها أيدٍ بسوء، ولا ألسنةٌ بأذى، ولا أعينٌ بخيانة.

وإذا تزوجت كان ذلك بكلمة الله، وميثاقه الغليظ؛ فتكون في بيت الزوج بأعز جوار، وأمنع ذمار، وواجب على زوجها إكرامها، والإحسان إليها، وكف الأذى عنها.

وإذا كانت أماً كان برُّها مقروناً بحق الله  تعالى  وعقوقها والإساءة إليها مقروناً بالشرك بالله، والفساد في الأرض.

وإذا كانت أختاً فهي التي أُمر المسلم بصلتها، وإكرامها، والغيرة عليها.

وإذا كانت خالة كانت بمنزلة الأم في البر والصلة.

وإذا كانت جدة، أو كبيرة في السن زادت قيمتها لدى أولادها، وأحفادها، وجميع أقاربها؛ فلا يكاد يرد لها طلب، ولا يُسَفَّه لها رأي.

وإذا كانت بعيدة عن الإنسان لا يدنيها قرابة أو جوار كان لها حق الإسلام العام من كف الأذى، وغض البصر، ونحو ذلك.

وما زالت مجتمعات المسلمين ترعى هذه الحقوق حق الرعاية، مما جعل للمرأة قيمة واعتباراً لا يوجد لها عند المجتمعات غير المسلمة.

ثم إن للمرأة في الإسلام حق التملك، والإجارة، والبيع، والشراء، وسائر العقود، ولها حق التعلم، والتعليم، بما لا يخالف دينها، بل إن من العلم ما هو فرض عين يأثم تاركه ذكراً أم أنثى.

بل إن لها ما للرجال إلا بما تختص به من دون الرجال، أو بما يختصون به دونها من الحقوق والأحكام التي تلائم كُلاًّ منهما على نحو ما هو مفصل في مواضعه.

ومن إكرام الإسلام للمرأة أن أمرها بما يصونها، ويحفظ كرامتها، ويحميها من الألسنة البذيئة، والأعين الغادرة، والأيدي الباطشة؛ فأمرها بالحجاب والستر، والبعد عن التبرج، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، وعن كل ما يؤدي إلى فتنتها.

ومن إكرام الإسلام لها: أن أمر الزوج بالإنفاق عليها، وإحسان معاشرتها، والحذر من ظلمها، والإساءة إليها.

بل ومن المحاسن   أيضاً   أن أباح للزوجين أن يفترقا إذا لم يكن بينهما وفاق، ولم يستطيعا أن يعيشا عيشة سعيدة؛ فأباح للزوج طلاقها بعد أن تخفق جميع محاولات الإصلاح، وحين تصبح حياتهما جحيماً لا يطاق.

وأباح للزوجة أن تفارق الزوج إذا كان ظالماً لها، سيئاً في معاشرتها، فلها أن تفارقه على عوض تتفق مع الزوج فيه، فتدفع له شيئاً من المال، أو تصطلح معه على شيء معين ثم تفارقه.

 ثانياً: نظرة في منزلة المرأة عند النظم الأخرى

مر في الفقرة الماضية شيء من مكانة المرأة في دين الإسلام؛ فأين النظم الأرضية من نظم الإسلام العادلة السماوية، فالنظم الأرضية لا ترعى للمرأة كرامتها، حيث يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة أو أقل؛ لتخرج هائمة على وجهها تبحث عن مأوى يسترها، ولقمة تسد جوعتها، وربما كان ذلك على حساب الشرف، ونبيل الأخلاق.

وأين إكرامُ الإسلام للمرأة، وجَعْلُها إنساناً مكرماً من الأنظمة التي تعدها مصدر الخطيئة، وتسلبها حقها في الملكية والمسؤولية، وتجعلها تعيش في إذلال واحتقار، وتعدها مخلوقاً نجساً؟

وأين إكرام الإسلام للمرأة ممن يجعلون المرأة سلعة يتاجرون بجسدها في الدعايات والإعلانات؟

وأين إكرام الإسلام لها من الأنظمة التي تعد الزواج صفقة مبايعة تنتقل فيه الزوجة؛ لتكون إحدى ممتلكات الزوج؟ حتى إن بعض مجامعهم انعقدت؛ لتنظر في حقيقة المرأة وروحها أهي من البشر أو لا؟!

وهكذا نرى أن المرأة المسلمة تسعد في دنياها مع أسرتها وفي كنف والديها، ورعاية زوجها، وبر أبنائها سواء في حال طفولتها، أو شبابها، أو هرمها، وفي حال فقرها أو غناها، أو صحتها أو مرضها.

وإن كان هناك من تقصير في حق المرأة في بعض بلاد المسلمين أو من بعض المنتسبين إلى الإسلام   فإنما هو بسبب القصور والجهل، والبُعد عن تطبيق شرائع الدين، والوزر في ذلك على من أخطأ، والدين براء من تبعة تلك النقائص.

وعلاج ذلك الخطأ إنما يكون بالرجوع إلى هداية الإسلام وتعاليمه؛ لعلاج الخطأ.

هذه هي منزلة المرأة في الإسلام على سبيل الإجمال: عفة، وصيانة، ومودة، ورحمة، ورعاية، وتذمم إلى غير ذلك من المعاني الجميلة السامية.

أما الحضارة المعاصرة فلا تكاد تعرف شيئاً من تلك المعاني، وإنما تنظر للمرأة نظرة مادية بحتة، فترى أن حجابها وعفتها تخلف ورجعية، وأنها لابد أن تكون دمية يعبث بها كل ساقط؛ فذلك سر السعادة عندهم.

وما علموا أن تبرج المرأة وتهتكها هو سبب شقائها وعذابها.

وإلا فما علاقة التطور والتعليم بالتبرج، والاختلاط، وإظهار المفاتن، وإبداء الزينة، وكشف الصدور، والأفخاذ، وما هو أشد؟!

وهل من وسائل التعليم والثقافة ارتداء الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة؟!

ثم أي كرامة حين توضع صور الحسناوات في الإعلانات والدعايات؟!

ولماذا لا تروج عندهم إلا الحسناء الجميلة، فإذا استنفدت السنوات جمالها وزينتها أهملت ورميت كأي آلة انتهت مدة صلاحيتها؟!

وما نصيب قليلة الجمال من هذه الحضارة؟ وما نصيب الأم المسنة، والجدة، والعجوز؟

إن نصيبها في أحسن الأحوال يكون في الملاجىء، ودور العجزة والمسنين؛ حيث لا تُزار ولا يُسأل عنها.

وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد، أو نحوه، فتأكل منه حتى تموت؛ فلا رحم هناك، ولا صلة، ولا ولي حميم.

أما المرأة في الإسلام فكلما تقدم السن بها زاد احترامها، وعظم حقها، وتنافس أولادها وأقاربها على برها   كما سبق   لأنها أدَّت ما عليها، وبقي الذي لها عند أبنائها، وأحفادها، وأهلها، ومجتمعها.

أما الزعم بأن العفاف والستر تخلف ورجعية   فزعم باطل، بل إن التبرج والسفور هو الشقاء والعذاب، والتخلف بعينه، وإذا أردت الدليل على أن التبرج هو التخلف فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج العراة الذين يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.

ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم، كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة درجة حتى تنتهي إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.

وهكذا تبين لنا عظم منزلة المرأة في الإسلام، ومدى ضياعها وتشردها إذا هي ابتعدت عن الإسلام.

هذه نبذة يسيرة، وصور موجزة من تكريم الإسلام للمرأة.


  الزواج في الإسلام

الزواج في الإسلام رباط مقدس، وميثاق غليظ، تسوق إليه الفطر القويمة، وتدعو إليه الشرائع الحكيمة.

وما زالت نفوس البشر تنساق فيه مع الفطرة، وتجيب به داعي الحكمة؛ فبالزواج يحصل السكن، وتكون المودة والرحمة، ويُلَمُّ الشَّعث، ويجتمع القلب، وتُبتغى الذرية.

ثم إن طيب الحياة ومتعتها يتحققان في زوجيَّةٍ سعيدةٍ، وسعادةُ الزوجيةِ أن يكون الزوجان على دين صحيح، وخلق سجيح، وأن يجمعا إلى ذلك صفاء الود، والقيام بالحقوق، ونصح كلِّ واحدٍ منهما لصاحبه.

وإذا قام كل من الزوجين بواجبه تماماً على أحسن   حلَّت الأفراح والمسرات، وزالت أو قلَّت المشكلات، وكان لذلك أبلغ الأثر في صلاح الأسرة، وقوة الأمة؛ فصلاح البيوت صلاح للأمة، وصلاح الأمة هو السبب الأعظم لعزتها، وسعادتها، وكرامتها.

ومن أجل ذلك جاء الإسلام بمراعاة رابطة الزوجية، وتقويمها، وتمكينها، وإحاطتها بما يحفظ وجودها، ويعلي منارها.

والحديث ههنا سيتناول شيئاً من مشروعية الزواج في الإسلام، وحِكَمِه، وأحكامه.

أولاً: مشروعية الزواج في الإسلام

الزواج مشروع في دين الإسلام، وأقل درجات المشروعية الإباحة.

 بل إن المتأمل في أدلة الشرع يجدها لا تدل على الإباحة فحسب، بل تدل على الاستحباب أو الوجوب.

وقد استدل القائلون بالفرضية، أو الوجوب العيني أو الكفائي بالنصوص الآمرة بالنكاح كقوله  تعالى : [فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ] (النساء:3).

وقوله: [وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ] (النور:32).

وقوله" (  يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء  ). متفق عليه.

فالأمر عندهم للوجوب، ولم يأتِ صارف يصرفه عن الوجوب، وقد تأكد الوجوب من إخبار الرسول"أن النكاح من سنته، ومن إنكاره  عليه الصلاة والسلام  على من ترك النكاح وعزم على التبتل.

 وذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب النكاح للتائق إليه الذي لا يخشى على نفسه الوقوع في الزنا؛ فإن كان توقانه شديداً بحيث يخشى على نفسه الوقوع في الزنا وجب عليه الزواج متى قدر على تكاليفه.

ثانياً: حِكَم الزواج في الإسلام

حِكَم الزواج في الإسلام كثيرة جدًّا، ومن تلك الحكم ما يلي:

1  أنه إجابة لأمر الله ورسوله" قال  تعالى : [وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ](النور:32).

وقال: [فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ](النساء:3).

وقال النبي" (  يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج  ). متفق عليه.

2  حصول الأجر والثواب: قال النبي  عليه الصلاة والسلام :  (  وفي بضع أحدكم صدقة  ). رواه مسلم.

ولقد قرر كثير من أهل العلم أن الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات؛ لما يشتمل عليه النكاح من المصالح الكثيرة.

3  حصول العفاف: فإذا نظرت إلى هناك فضيلة يقال لها العفاف  فالزواج من أعظم ما يعين على التحلي بها؛ فالزواج وسيلة من وسائل الفضائل، وكثيراً ما تأخذ الوسائل أحكام المقاصد في نظر الشارع، وعرف الناس.

4  بقاء النسل، والمحافظة على النوع الإنساني: فإذا نظرت إلى أن حكمة الله قد اقتضت بقاء النسل لإقامة الشرائع، وعمران الكون، وإصلاح الأرض، وأن النسل الصالح لا يبقى إلا بالزواج   رأيت كيف كان الزواج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحب الله أن تكون، وحبب الناس للقيام عليها.

5  حصول السكن والمودة والرحمة: أوليس الزواج يكسب الرجل رفيقة تخلص له ودها، وتشمل منزله برعايتها؟

ومثل هذه الرفيقة التي تحمل حبه الطاهر، وتعمل لتدبير منزله من غير مِنَّةٍ ولا تباطؤ  لا تتمثل إلا فيمن تربطه بها صلة الزواج.

قال تعالى : [وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21).

6  حصول القرابة والمودة بين الناس: فليس الزواج يكسب صلة مقصورة على الزوجين فحسب، بل تمتد هذه الصلة من الزوجين لأسرتيهما، فتكون حلقة واسعة في سلسلة اتحاد الأمة.

وللصلات الخاصة كالقرابة والصهر أثر في التناصر كبير.

7  حصول نعمة الولد: فالزواج يكسب الزوج ولداً إن يُحْسِنْ تربيته كان له قرة عين في حياته، وذِكْراً طيباً بعد وفاته.

8  سلامة المجتمع من الانحلال الخلقي، والأمراض الفتاكة التي تنشأ عن الفوضى الخلقية.

9  حصول الغنى وانتفاء الفقر: فالزواج سبب للغنى ونفي الفقر.

وهذا من لطائف النكاح وأسراره التى تخفي على كثير من الناس، وخصوصاً من يحجمون عن الزواج بحجة الفقر.

ومصداق ذلك قوله تعالى : [وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيم] (النور:32).

ومصداقه قول النبي":  (  ثلاثة على الله عونُهم: الناكح يريد العفاف، والمُكاتَب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله  ) أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

وبالجملة فللزواج مصالح تكثر بكثرته، وتقل بقلته، وتفقد بفقده، وقد عَرَفْت قيمة هذه المصالح ومكانتها في إعلاء الدين، وبسط أجنحة العمران؟، وتخفيف متاعب الحياة.

ثالثاً: في أحكام الزواج  الواجبات والحقوق

الزواج في الإسلام يقوم على واجبات وحقوق من قِبَل الزوج والزوجة؛ فلكل منهما حقوق، وعليه واجبات.

كما أن هناك أحكاماً لا بد من مراعاتها، والأخذ بها في شأن الزواج سواء قبل الزواج أو بعده، فمن ذلك ما يلي:

1  أنه لا يجوز إرغام المرأة على الزواج بمن لا تريد: فقد قرر أهل العلم أنه لايجوز إرغام المرأة على الزواج بمن تقدم لخطبتها، بل لا بد من موافقتها على ذلك بكراً كانت أم ثيباً؛ فليس لوليها أن يكرهها على الزواج بمن لا تريد.

وقد استدل أهل العلم على عدم صحة إكراه الولي للثيب البالغ من الزواج بما رواه البخاري ومسلم عن خنساء بنت خذام الأنصارية:  (  أن أباها زوَّجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله "فرد نكاحها  ).

وبما رواه البخاري عن أبي هريرة  رضي الله عنه  أن النبي "قال:  (  لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت  ).

2  أنه لا يجوز أن يخطب الرجل على خطبة أخيه: قال النبي":  (  لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض  ). رواه مسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ÷أن النبي "قال :  (  لا يخطب الرجل على خطبة أخيه  ).

زاد البخاري : (  حتى ينكح أو يترك  ).

وفي رواية عن مسلم :  (  حتى يذر  ).

والحكمة من وراء النهي عن الخطبة على الخطبة أن هذا الفعل يورث العداوة والبغضاء، كما يؤدي إلى تزكية المرء نفسه، وذم غيره، كما أن في ذلك عدواناً وظلماً؛ فالخطبة على الخطبة كالبيع على البيع، والشراء على الشراء، وذلك مما يولد الكراهية، ويوهي حبال المودة.

والإقدام على الخطبة سواء علم الخاطب أن المخطوبة أجابت أم لم تجب بعد   يحدث مفسدة بين المسلمين.

فإذا أذن الخاطب الأول، أو صرف النظر عن الخطبة، أو رَدَّته المخطوبة   فلا إشكال.

أما إذا أجابت الخاطب الأول، أو كانت في مرحلة تردد وتأمل   فإن ذلك لا يجوز؛ فإن خطبة الثاني قد تجعلها تعدل عن الأول، وتصرف النظر عنه.

3  أركان عقد النكاح: أركان عقد النكاح هما الإيجاب والقبول).

والمراد بالإيجاب والقبول: الألفاظ التي يُصْدِرُها كلٌّ من العاقدينِ للدلالة على رضاه بالمعقود عليه، وبهما ينعقد النكاح إذا صدرا ممن يَصِحُّ منه عقد النكاح، وهما الخاطب والمخطوبة إذا كان كل منهما أهل لعقد النكاح.

كما يصح صدورهما من وكيل الخاطب، أو المخطوبة.

4  المهر: المهر اسم للمال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح.

وقد سماه الله في كتابه: صداقاً، وأجراً، وفريضة.

وهو واجب بدلالة الأمر في قوله  تعالى : [وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ] النساء: 4 .

والنحلة ما يوهب بطيب نفس من الواهب، وأقوى من النص السابق في الدلالة على الوجوب قوله  تعالى : [فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَ‍َٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ] النساء: 24 .

فقد أمر النص بإيتاء الزوجات أجورهن، والأجور المهور.

5  النفقة على الزوجة: من حق الزوجة على زوجها أن ينفق عليها بالمعروف، والمراد بالنفقة ههنا ما يفرض للزوجة على زوجها من مال للسكنى، والطعام، والحضانة، واللباس، وما إلى ذلك مما تصان به حرمة الزوجة من الابتذال، وما تحفظ به صحتها وكرامتها، كل ذلك في حدود الطاقة والوسع.

فإن أعسر الزوج إعساراً تتعذر معه النفقة، واختارت الزوجة فراقه؛ لعدم صبرها عليه فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه يفرق بينهما، وخالف آخرون.

والذي يظهر من أصول الشريعة أن لها الحق في مفارقته؛ دفعاً للضرورة.

6  حسن العشرة للزوجة: من حق الزوجة على زوجها أن يحسن عشرتها فيهش عند لقائها، ويمازحها ويداعبها؛ تطييباً لقلبها، وإيناساً لها في وحدتها، وإشعاراً لها بمكانتها من نفسه، وقربها من قلبه.

ومن حسن المعاشرة أن يعتني الزوج بمحادثة زوجته، فيصغي لها إذا تحدثت، ويظهر العناية بحديثها، فلا يتشاغل عنها، ولا يقوم قبل أن تكمل حديثها إلا بعد إذنها؛ فذلك من كمال الأدب مع كل أحد فكيف بالزوجة وهي من أحق الناس بالبر؟.

ومن حسن العشرة للزوجة أن يتجمل الرجل لها، فذلك من حقوقها، قال الله  تعالى :[وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ] البقرة: 228 .

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية:  (  إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله  تعالى  يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ  ).

ومن حسن العشرة وحق الزوجة على زوجها حفظ سر الفراش، جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ÷ يقول:  (  إن من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة ـ الرجلَ يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها  ).

ومما يترخص فيه في إفشاء سر الفراش إذا احتاج الإنسان للفتيا أو العلاج، ونحو ذلك من المقاصد الصحيحة المعقولة؛ فله أن يتحدث عن أمر الفراش بما تدعو إليه الحاجة.

7  حسن عشرة الزوجة لزوجها: من حق الزوج على زوجته أن تعترف له بنعمته، وأن تشكر له ما يأتي به من طعام، ولباس، وهدية ونحو ذلك مما هو في حدود قدرته، وأن تدعو له بالعوض والإخلاف، وأن تظهر الفرح بما يأتي به؛ فإن ذلك يفرحه، ويبعثه إلى المزيد من الإحسان.

كما يحسن بالزوجة أن تستحضر أن الزوج سبب الولد، والولدُ من أجل النعم.

ومن حق الزوج على زوجته أن تقوم على خدمته، من نحو صناعة الطعام، وغسيل الثياب، وتنظيف المنزل ونحو ذلك حق على الزوجة.

وهذا من الحق الواجب على القول الصحيح.

والحجة في ذلك ما جاء في حديث عمة حصين بن محصن حين سألها النبي":  (  أذات بعل أنت؟  ) قالت: نعم، قال:  (  فأين أنت منه؟  ) قالت: ما آلوا إلا ما عجزت عنه، قال:  (  فانظري أين أنت منه؛ إنما هو جنتك ونارك  ). أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، والحميدي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني، والحاكم.

ومع ما تقرر من وجوب قيام المرأة بخدمة زوجها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً   فإنه ليس للزوج أن يكلفها ما لا تطيق، بل عليه أن يرفق بها، ويعينها على شؤون بيتها، كما كان رسول الله"يفعل.

تقول أم المؤمنين عائشة   رضي الله عنها   حين سُئلت: ما كان النبي"يصنع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله   تعني خدمتهم   فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة  ). رواه البخاري.

وفي رواية أخرى أنها سُئلت: ما كان رسول الله"يعمل في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته  ). أخرجه أحمد، والبخاري، وابن حبان.

وإذا لم يقم الزوج بذلك فلا أقل من أن يسمع زوجته كلمة ثناء وأن يريها ابتسامة رضا.


  الطفل في الإسلام

للطفل في دين الإسلام مكانة عالية، حيث أَوْلَتْهُ الشريعة عناية تامة، وحاطته بحقوق تكفل له السعادة، والعيشة الكريمة، وتنأى به عن الشقاء والضياع.

وفيما يلي بيان لشيء من ذلك بما يسمح المقام:

1  جاء التحذير الشديد من بعض العادات الجاهلية التي كان بعض العرب يمارسها قبل الإسلام من قتل الأطفال؛ خشية الفقر.

قال الله  عز وجل : [وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡ‍ٔٗا كَبِيرٗا] الإسراء: 31 .

قال ابن كثير× في تفسير هذه الآية:  (  هذه الآية الكريمة دالة على أن الله  تعالى  أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته؛ لئلا تكثر عيلته، فنهى الله  تعالى  عن ذلك، وقال: [وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ] أي خوف أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم، فقال: [نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ].

وفي الأنعام: [وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ] الأنعام: 151، أي: من فقر [نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ] الأنعام: 151 .

وقوله: [إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡ‍ٔٗا كَبِيرٗا] أي: ذنباً عظيماً  ).

وجاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود  رضي الله عنهما  قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟

قال:  (  أن تجعل لله نداً وهو خلقك  ). قلت: ثم أي؟ قال:  (  أن تقتل ولدك؛ خشية أن يطعم معك  ) قلت: ثم أي؟ قال:  (  أن تزني بحليلة جارك  ).

2  ما جاء في الشريعة من استحباب طلب الولد: قال الله  تعالى : [فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ] البقرة: 187 .

عن ابن عباس  رضي الله عنهما  في تفسير قوله  تعالى : [وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ] قال:  (  هو الولد  ).

وقال النبي":  (  تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة  ). أخرجه أبو داود.

3  أن الشرع جاء بالنهي عن التسخط بالبنات: حيث بيَّن الله  عز وجل  في كتابه أن التسخط بالبنات من أخلاق أهل الجاهلية الذين ذمهم الله بقوله: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيم] النحل: 58 .

4  أن الشرع أوجب على الأم إرضاع طفلها، كما أوجب على الأب أن ينفق على هذه الأم؛ لتتمكن من إرضاع هذا الطفل حتى لو طلقها زوجها في أثناء فترة الرضاع، قال الله  عز وجل : [وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ] البقرة: 233 .

5  ترتب الثواب الجزيل على حسن تربية الأطفال حتى يكبروا؛ قال النبي":  (  من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا  ) وضم أصابعه. رواه مسلم.

ومعنى قوله:  (  من عال جاريتين  ): أي قام عليهما بالمؤونة، والتربية، والإصلاح.

وقال  عليه الصلاة والسلام :  (  من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَتِهِ كن له حجاباً من النار يوم القيامة  ). أخرجه ابن ماجة.

ومعنى  (  من جدته  ): أي من غناه.

بل بيَّن  عليه الصلاة والسلام  أن النفقة على الأهل أعظم أجراً من أي نفقة، قال":  (  أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله  )رواه  مسلم.

قال أبو قلابة  أحد رواة الحديث :  (  وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يُعِفُّهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم  ).

وقال  عليه الصلاة والسلام :  (  دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً للذي أنفقته على أهلك  ). رواه مسلم.

6  أن القيام على الأولاد أمانة يسأل عنها الإنسان يوم القيامة؛ فإن أحسن القيام بتلك المسؤولية فله الثواب الجزيل، وإن فرَّط خشي عليه من العقاب، قال النبي":  (  كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته... والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها  ). متفق عليه.

7  أن الإسلام أولى اليتيم عناية بالغة: حيث عظم من شأن الاهتمام به، ورغب في الإحسان إليه، وحذّر من الإساءة إليه، وتعنيفه، والنصوص من الكتاب والسنة في هذا السياق لا تكاد تحصى كثرة.

ومن ذلك أن الله  عز وجل  قال في معرض الحديث عن صفات أهل الجنة: [وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا] الإنسان: 8 .

وقال  عز وجل  منبهاً إلى مزيد العناية باليتيم: [فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ] الضحى:9 .

وقال محذراً من أكل مال اليتيم: [إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا] النساء: 10 .

وقال ذاماً من لا يكرم اليتيم: [كَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡيَتِيمَ] الفجر: 17 .

وقال في حق من يهين اليتيم: [أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ] الماعون.

وقال النبي" مبيناً عظم منزلة كافل اليتيم:  (  أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا  ) وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً. رواه البخاري.

8  أن الإسلام حرَّم قتل الأطفال في الحرب: فلقد كان النبي  عليه الصلاة والسلام  يوصي قواد جيشه، ومن تلك الوصايا قوله:  (  اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تَغلُّو، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً  ). رواه مسلم.

إلى غير ذلك من الوصايا في هذا الصدد، والتي سيمر ذكر بعضها عند الحديث عن الجهاد.

9  أن الإسلام حرم ظلم الأطفال داخل كيان الأسرة؛ بحيث يكون التعامل مع الأبناء صغاراً وكباراً جارياً على العدل بلا تفضيل أحد على أحد، يقول الصحابي الجليل النعمان بن بشير÷: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله" فانطلق أبي إلى النبي" لِيُشْهِدَه على صدقتي، فقال له رسول الله":  (  أفعلتَ بولدك هذا كلهم  ) قال: لا، قال:  (  اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم  ).

فَرَدَّ أبي تلك الصدقة.

وفي رواية: (  فلا تشهدني؛ فإني لا أشهد على جور  ). متفق عليه.

والعدل ههنا لا يقتصر على العدل في المال فحسب، بل يشمل العدل في الأمور المعنوية كالعطف، والحنان، والتقريب، وما إلى ذلك.

وبالجملة فإن أحكام الأطفال في الشريعة الإسلامية كثيرة جدًّا؛ فهي شاملة للطفل قبل ولادته إلى أن يشب عن الطوق، ويصبح مكلفاً بالأحكام الشرعية التي تخص البالغين والمكلفين.

وللأطفال حقوق كثيرة كتسميتهم بالأسماء المناسبة، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، وتجنيبهم ما يضرهم إلى غير ذلك من الأحكام والحقوق التي لا يتسع المقام لذكرها.


  بر الوالدين

 أولاً: حق الوالدين ومنزلتهما

حق الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فبرّهما قرين التوحيد، وشكرهما مقرون بشكر الله  عز وجل  والإحسان إليهما من أجل الأعمال، وأحبها إلى الكبير المتعال.

قال الله عز وجل :[وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا] (النساء:36).

وقال  تبارك وتعالى :[وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا] (الإسراء: 23 24).

ثم إن الأحاديث في هذا السياق كثيرة جدًّا، منها ما رواه ابن مسعود  رضي الله عنه  قال:سألت رسول الله ":  (  أي العمل أحبُّ إلى الله ؟ قال:  (  الصلاة في وقتها  ) قلت:ثم أيُّ ؟ قال:  (  بر الوالدين  ) قلت:ثم أيّ ؟ قال:  (  الجهاد في سبيل الله  ). متفق عليه.

ثم إن بر الوالدين مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية، وهو خلق الأنبياء، ودأب الصالحين.

كما أنه دليل على صدق الإيمان، وكرم النفس، وحسن الوفاء.

وبرّ الوالدين من محاسن الشريعة الإسلامية؛ ذلك أنه اعتراف بالجميل، وحفظ للفضل، وعنوان على كمال الشريعة، وإحاطتها بكافة الحقوق.

بخلاف الشرائع الأرضية التي لا تعرف للوالدين فضلاً، ولا ترعى لهما حقًّا، بل إنها تتنكر لهما، وتزري بهما.

وها هو العالم الغربي بتقدمه التكنولوجي شاهد على ذلك؛ فكأن الأم في تلك الأنظمة آلةً إذا انتهت مدة صلاحيتها ضُرب بها وجهُ الثرى.

وقصارى ما تَفَتَّقَتْ عنه أذهانهم من صور البر أن ابتدعوا عيداً سنوياً سموه: (عيد الأم).

حيث يُقدِّم الأبناء والبنات في ذلك اليوم إلى أمهاتهم باقات الورد معبرين لهن عن الحب والبرِّ.

هذا منتهى ما توصولوا إليه من البر، يوم في السنة لا غير!

أين الرعاية ؟ أو أين الترحم ؟ أو أين الوفاء ؟ !

لا علم لهم بتلك المعاني الشريفة الفاضلة، ولا حظّ لها عندهم.

أما حق الوالدين في الإسلام فقد مرّ بك شيء منه، وليس ذلك فحسب، بل إن الإسلام نهى عن العقوق، وحذر منه أشد التحذير، فهو كبيرة من الكبائر، وهو قرين للشرك.

ويكفي في ذلك قوله  تعالى :[فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا] (الإسراء:23).

فما بالك بما فوق كلمة  (  أف  ) .

والأحاديث في هذا السياق كثيرة جدًّا، ومنها ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي " قال:  (  الكبائر:الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس  ) . رواه البخاري.

ثانياً: الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الوالدين

لقد جاءت الشريعة الإسلامية بآداب كثيرة حال التعامل مع الوالدين، ولقد قرر أهل العلم شيئاً من تلك الآداب التي استنبطوها من الكتاب والسنة، ويكفي في ذلك أن يُسْتَحضرَ في ذلك قول الله  تعالى : [وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ] لقمان: 15 .

فقوله  عز وجل : [وَصَاحِبۡهُمَا] من ألطف ما يكون في الحث على بر الوالدين؛ ذلك أن الصحبة في هذه الآية تقتضي الملازمة, ومن شأن الملازمة الدوام على تقلب الأحوال؛ فالصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور؛ فإذا استحضر الولد هذا الإرشاد الإلهي علم أن لوالديه حقًّا عظيماً, فيلزم صحبتهما   وهما أحق الناس بحسن صحابته   بالمعروف.

وذلك يشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة.

ويشمل كذلك مراعاة أدب المحادثة مع الوالدين؛ لأن طول الصحبة يفضي إلى الملل من جرَّاء تكرار الأحاديث, والوقائع؛ فيسمعها الولد بروايات كثيرة متنوعة, مما يضجره, ويجلب له السآمة؛ فإذا لزم حسن الصحبة لم يظهر الملالة سواء خصه الوالد بالحديث, أو كان حاضراً مع أناس يتحدث إليهم الوالد, حتى لو كان الحديث معلوماً للولد,مكروراً على سمعه.

ويشمل كذلك الإكرام بالمال خصوصاً إذا كان الوالد محتاجاً,فكم من الأولاد مَنْ يُقصِّر في هذا الحق إما تكاسلاً، أو غفلةً, أو بخلاً.

وكم من الأولاد من يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء؛ فَيَحْرِمُ نفسه من بركة الإنفاق على الوالدين.

وكم من الأولاد من يقول: إن إخواني أو أخواتي يرفدون والديَّ بما يحتاجان إليه؛ فليسا   إذاً   في حاجة إلي.

وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر, فخلت يد الوالدين من أي معونة من الأولاد.

فحري بالولد ألا ينسى نصيبه من رفد والديه, ولو كانا غير محتاجين فضلاً عن كونهما كذلك.

وجدير به أن يبادر إلى ذلك ولو كان إخوانه يقومون به [وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ] المطففين: 26 .

ومن حسن الصحبة أن يعين والده على البر والصدقات والإحسان؛ فيحدث أحياناً أن يكون الوالد ثرياً محسناً، ولكنه لا يوفق بأولاد يعينونه على البر والإحسان، بل ربما قطعوا عليه الطريق، وخذلوه عن الخير؛ فإذا هَمَّ بالمعروف قالوا له: مهلاً؛ إما خوفاً من ضياع مال والدهم   كما يزعمون   وإما رغبة في زيادة الميراث، أو شحاً بالخير، أو غير ذلك؛ فحقيق على الأولاد ألا يقفوا حجر عثرة في طريق والدهم، بل عليهم أن يعينوه على الخير.

ومن صور الصحبة السفر مع الوالدين، والرحلة معهما.

ومن صور المصاحبة في المعروفِ القيامُ بإكرام ضيف الوالد, والحرص على راحته حال قدوم الضيف.

ومن ذلك صحبة الوالد إذا طلب منك الصحبة لأي مكان، أو أناس ما لم يكن في ذلك مأثم.

ومن ذلك أن تُعرِّف أصحابك على والدك؛ حتى يطمئن على سيرك، ويأنس بأصحابك إذا زاروك.

ومن ذلك قضاء حوائج الوالد   أباً أو أماً   بكل ارتياح ونشاط وتَدَفُّع.

ومن ذلك ملاحظتُه في علاجه، ومراجعاته، ومرافقته في المستشفى إن احتاج إلى ذلك.

ومن ذلك ألا يتأفف الولدُ إذا أمره والده دون إخوانه، بل عليه أن يفرح بذلك، بل يجمل به أن يبادر إلى التنفيذ ولو لم يؤمر.

ويحسن به أن يتحمل جفوة الوالد، وقسوته، وتغير مزاجه.

وجماع حسن الصحبة للوالدين أن يحرص الولد على إدخال السرور عليهما, وأن يبتعد عن كل ما يكدِّر خاطرهما.

فهذه إشارات مما حملته الآية الكريمة من معان, أما تفاصيل الحديث عن البر فليس هذا مجالها.


 موقف الإسلام من العقل

1  العقل: نورٌ روحانيٌّ به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية.

2  يطلق العقل على العلم، أو بصفاء الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصانها.

3  منزلة العقل في الإسلام: لقد أعلى الإسلام منزلة العقل، ورفع مناره؛ فالعقل في الإسلام أساس التكليف، ومناط الأهلية.

والقرآن الكريم مليء بالأمر بالتعقل، والنظر، والتدبر، والثناء على من كانو كذلك.

كما أنه مليء بذم الذين عطلوا عقولهم، وركنوا إلى التقليد الأعمى، واتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم من غير ما بينة، أو أثارة من علم.

4  وظيفة العقل: العقل نور أودعه الله في الإنسان؛ ليكشف له الأشياء، والحقائق الواقعة، وليفهم به عن الله ورسوله"، ولينظر من خلاله في ملكوت السماوات والأرض، وليدرك به أسرار الكون، ويتدبر في نفسه وآيات الله من حوله، ويصل من خلاله إلى كثير من أمور الاعتقاد في حدود طاقته، ويبحث من طريقه إلى ما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه.

هذه   بإجمال   وظيفة العقل.

5  حدود العقل: فمع أن الإسلام ينظر تلك النظرة العظيمة للعقل، ومع أن العقل وظيفته العظمى   كما مر   إلا أن الإسلام يحدد مجال العقل، وذلك صوناً للطاقة العقلية أن تتشتت أو تتبدد وراء الأمور الغيبية التي لا يستطيع العقل إدراكها أو الوقوف على حقيقتها، كالذات الإلهية، والروح، والجنة والنار، وكيفية صفات الله   عز وجل   وغيرها؛ ذلك أن العقل البشري له مجاله الذي يعمل فيه؛ فإذا ما حاول أن يتخطى هذا المجال فإنه سَيَضِل ويتخبط في متاهات لا قِبَل له بها؛ فمجال العقل كل ما هو محسوس.

أما الغيبيات التي لا تقع تحت مداركه فلا مجال للعقل أن يخوض فيها، ولا يخرج عما دلت عليه النصوص الشرعية في شأنها.

6  الإسلام يحفظ العقول ويرتقي بها: ولهذا حرم الإسلام الخمر، والمخدرات تحريماً لا هوادة فيه، وحرم كل ما يؤدي إلى فساد العقل.

وكما أن الإسلام ارتقى بالعقول، وأبعدها عن التناقض، وحمى معتنقيه من الفوضى الفكرية، والضياع، والتخبط، فهو دينٌ واضحٌ، سهلٌ، ميسورٌ، مفتوحٌ لكل أحد.


  الإسلام والعلم

الإسلام دين العلم والحقيقة، بل إن الإسلام عدو الجهل والخرافة، والقرآن الكريم والسنة النبوية قائمان على العلم الصحيح، وفيما يلي بيان لبعض مظاهر التوافق بين الإسلام والعلم.

1  أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة: قال النبي":  (  طلب العلم فريضة على كل مسلم  ). أخرجه ابن ماجة.

ولا ريب أن الناس يتفاوتون في مداركهم؛ ويجب على بعضهم من العلم ما لا يجب على بعضهم الآخر؛ غير أن الواجب الذي لا يعذر به أحدٌ هو ما يقيم به الإنسان دينه، وما افترضه الله عليه.

2  أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم كانت أمراً بالعلم: فمن المعلوم أن أول سورة أنزلت من القرآن الكريم كان سورة العلق، وأن أول كلمة منها هي قوله  تعالى : [ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ] العلق: 1 .

وفي هذا إيماء إلى أن أمة محمد" ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.

3  أن الله  عز وجل  نوَّه بالعلم وأهله: قال  عز وجل : [أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ] الرعد: 19 .

فانظر كيف قرن الجهل بالعمى؟

وقال  عز وجل : [يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ] المجادلة: 11 .

قال ابن عباس  رضي الله عنهما :  (  العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام  ).

ولا ريب أن أول ما يدخل في مفهوم العلم في نصوص الشرع هو العلم الشرعي، ولكن يدخل في ذلك كل علم نافع؛ والعلم النافع الذي دل عليه الكتاب والسنة هو كل علم أثمر الثمار النافعة، وأوصل إلى المطالب العالية، فكل ما زكى الأعمال، ورقى الأرواح وهدى إلى السبيل   فهو من العلم النافع، لا فرق في ذلك بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فشرف الدين لازم لشرف الدنيا، وسعادة المعاش مقترنة بسعادة المعاد.

والشريعة بكمالها وشمولها أمرت بتعلم جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، والطبية، إلى غير ذلك من العلوم التي يكون بها قوام الأمة، وصلاح الأفراد و المجتمعات.

4  أن الإسلام يتفق مع الحقائق العلمية: فالحقائق العلمية تشهد للقرآن والسنة بالصحة؛ فمع اتساع علوم الطبيعة وما استجد من العلوم العصرية لم يأت علم صحيح ينقض شيئاً مما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، مع أن الذي جاء بتلك الحقائق نبينا محمد الأمي ". 

فالعلم الصحيح لا يناقض النقل الصحيح، بل يتفق معه تمام الاتفاق، كما لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة   فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً.

وهذا ما قرره العلماء في القديم والحديث، ولقد بنى شيخ الإسلام ابن تيمية × كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) على هذه القاعدة.

بل لقد صرح كثير من الكتاب الغربيين بهذه الحقيقة، ومنهم الكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم).

حيث قرر في ذلك الكتاب أن التوراة والإنجيل المحرفين الموجودين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآن العلم الحديث.

وأثبت من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل يتفق معها تمام الاتفاق.

5  تضافر البراهين الحسيَّة، والعلميَّة، والتجريبيَّة على صدْق ما جاء به الإسلام حتى في أشد المسائل بُعداً عن المحسوس، وأعظمها إنكاراً في العصور السابقة.

خذ على سبيل المثال قول النبي ":  (  إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أُولاهنَّ بالتراب  ). رواه مسلم.

ولقد جاء الطب باكتشافاته ومكبراته فأثبت أن في لعاب الكلب ميكروباتٍ وأمراضاً فتَّاكة لا يزيلها الماء وحده، وأظهرت البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من إنقاء التراب لهذه النجاسة ما لا يحصل بغيره.

وجاء   أيضاً   أن شرب الكلب في الإناء يسبب أمراضاً خطيرة، فالكلب كثيراً ما تكون فيه ديدان مختلفة الأنواع، ومنها: دودة شريطية صغيرة جدًّا، فإذا شرب في إناء، أو لمس إنسان جسد الكلب بيده أو بلباسه انتقلت بويضات هذه الديدان إليه، ووصلت إلى معدته في أكله، أو شربه، فتثقب جدرانها، وتصل إلى أوعية الدم، وتصل إلى الأعضاء الرئيسة، فتصيب الكبد، وتصيب المخ، فينشأ عنه صداع شديد، وقيءٌ متوالٍ، وفقد للشعور، وتشنجات، وشلل في بعض الأعضاء، وتصيب القلب، فربما مزَّقته، فيموت الشخص في الحال.

بل إنه قد ثبت أن جميع أجناس الكلاب لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية؛ فيجب إبعادها عن كل ما له صلة في مأكل الإنسان أو مشربه.

وسيأتي مزيد بيان وأمثلة على ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب.

6  أن العلوم الطبيعية تؤيد الإسلام، وتؤكد صحته على غير علم من ذويها؛ مثال ذلك: تلقيح الأشجار الذي لم يُكتَشف إلا منذ عهد قريب، وقد نصَّ عليه القرآن الذي أُنزل على النبي الأمي منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً في قوله  تعالى : [وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ] (الحجر: 22)، وكذلك قوله   تعالى  : [وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ] (ق: 7)، وقوله: [وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ] (الذاريات: 49)، وقوله: [سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا] (يس: 36).

فهذا كلام رب العالمين في القرآن قبل أن تبيِّن لنا العلوم الطبيعية أن في كل نبات ذكراً وأنثى.

ولقد اعتنق بعض الأوربيين الإسلام لما وجد وصف القرآن للبحر وصفاً شافياً مع كون النبي " لم يركب البحر طول عمره، وذلك مثل قوله   تعالى  : [أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ] (النور: 40).

فهذا شيء مما يبين أن الإسلام دين العلم، وسيأتي مزيد بيان لذلك في المباحث التالية.


  الإسلام والعمل

الإسلام دين العزة, والكرامة, ودين السمو, والارتفاع, ودين الجد, والاجتهاد؛ فليس دين ذلة ومسكنة, ولا دين كسل وخمول ودعة.

ولقد تبوأ العملُ قيمةً حضاريةً عاليةً, ونظرة متميزة في الدين الإسلامي؛ فقد رسم له الإسلام منهجاً رائعاً متكاملاً, يقوم على مراعاة التوازن بين حقوق العمال, وحقوق أصحاب العمل على حد سواء.

ويؤكد سبق الإسلام في الدعوة إلى مراعاة حقوق الإنسان وتكريمه, والرفع من شأنه؛ ليكون عضواً فاعلاً في هذه الحياة.

ولقد كان نظام العمل من الأمور التي أَوْلَتْها الحضارةُ الإسلامية رعاية واهتماماً, وذلك بمتابعة المستجدات حول هذا النظام, ومواكبتها بالأحكام والضوابط، والحرص على مراعاة احتياجات العامل وصاحب العمل.

وكان من بوادر تنظيم العمل في الإسلام نظرةُ التكريم للعاملين, والدعوة الصريحة إلى العمل المهني, واعتباره وسيلةً شريفةً ساميةً لكل قادر عليه, وسمةً من سمات المسلمين المنتسبين للعيش في حياة كريمة.

ولقد كانت دعوة الإسلام إلى العمل صريحة قوية, وذلك من خلال ورود تلك الدعوة في كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية.

وسيتضح من خلال ما يلي ما يؤكد ذلك.

أولاً: دعوة القرآن الكريم إلى العمل: لقد تظاهرت الآيات القرآنية المؤكدة على مشروعية العمل, وأهميته, ومدى الحاجة إليه.

ولقد تنوعت دلالة تلك الآيات تنوعاً كثيراً يؤكد مكانه العمل في الإسلام, وإليك طرفاً مما ورد في القرآن الكريم بشأن العمل.

1  أن تلك الدعوة جاءت بصيغة الحث على المشي في الأرض؛ والضرب فيها, والسعي والانتشار؛ ابتغاء الرزق الحلال: قال الله  تعالى : [هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ] الملك: 15 .

وقال الله  تعالى : [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ] الجمعة.

وقال   عز وجل : [وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ] الأعراف: 10 .

وقال   جل وعلا : [وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا] النبأ: 11 .

2  أن القرآن ارتفع بالعمل, والسعي في طلب الرزق إلى مصاف العبادات الكبرى؛ حيث قرنه بالجهاد في سبيل الله, قال   عز وجل  في معرض الثناء على المؤمنين: [وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ] المزمل: 20 .

3  أن القرآن أشاد بعمل اليد, وعدَّه نعمةً يُستوجب شكرها, قال  عز وجل : [لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ] يس: 35 .

4  أن القرآن نوَّه بشأن كثير من الصناعات الضرورية للحياة, كما في قول الله  عز وجل : [وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ] الحديد: 25 .

وقال ممتناً على نبيه دواد  عليه السلام : [وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ ١٠ أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ] سبأ .

والسابغات: هي الدروع, كما في قوله  تعالى  عن داود   عليه السلام : [وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ] الأنبياء: 80.

وقال   عز وجل  في صناعة الجلود: [وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ] النحل: 80 .

وقال في صناعة الأكسية: [وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ] النحل: 80  .

أي: من أصواف جلود الأنعام, وأوبارها, وأشعارها.

وأشار القرآن إلى اتخاذ البيوت مساكن كما في قوله  تعالى : [وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا] النحل: 80.

وفي بناء القصور يقول  عز وجل : [وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ] الأعراف: 74 .

وقال آمراً نوحاً  عليه السلام  بصناعة الفلك: [وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا] هود: 37 .

وقال مثنياً على خاصة المؤمنين: [رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ] النور: 37 .

فلم يقل إنهم لا يتاجرون, وإنما ذكر أن التجارة لم تكن تلهيهم عن ذكر الله وإقامة الصلاة.

فهذه الآيات وغيرها كثير تُعَدُّ دعوة إلى العمل, والحث عليه, وتؤكد مشروعية اتخاذ الأسباب, والاكتساب المباح عن طريق العمل على اختلاف أنواعه.

ثانياً: الدعوة إلى العمل في السنة النبوية: لقد جاءت السنة القولية والعملية بالدعوة إلى العمل, وإلى تغيير النظرة الخاطئة لدى العرب قبل الإسلام, سواء بالتوجيه المباشر من النبي" أو بتطبيق أمور يُخالِف بها مفهوماً شائعاً عند الناس؛ حتى يرى أصحابه ذلك منه, ومن ثم يقتدون به, وينقلون ذلك عنه إلى الناس.

ولقد خَصَّصت معظمُ كتبِ السنة أبواباً عن الكسب والعمل باليد؛ فقد أفرد الإمام البخاري في كتابه الصحيح باباً سماه (باب في كسب الرجل, وعمله بيده).

كما وضع ابن ماجة في سننه باباً (في الحث على المكاسب) وباباً (في الصناعات) ووضع الدارمي في سننه باباً سماه (باب في الكسب, وعمل الرجل بيده).

وغيرهم كثير من أصحاب الكتب التي دونت السنة النبوية.

وقد أوردوا تحت هذه الأبواب العديد من الأحاديث التي تحث المسلمين على العمل, واكتساب المال عن طريق بعض الأعمال والحرف.

ومن الأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن ما روته أم المؤمنين عائشة  رضي الله عنها  أن صحابة رسول الله" كانوا عمالَ أنفسهم, وأنه كان يكون لهم أرواح([3] فقيل لهم: لو اغتسلتم  ). متفق عليه.

وقال ":  (  ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده, وما أنفق الرجل على نفسه, وأهله, وولده, وخادمه فهو صدقة  ). أخرجه ابن ماجة.

وفي مواضع كثيرة بين النبي" أن العمل من أشرف وسائل الارتزاق, وفي هذا الصدد يقول:  (  إن خير الكسب كسب يدي عامل إذا نصح  ). أخرجه أحمد.

وكان النبي" يتحدث كثيراً إلى أصحابه حديثاً يحبب إليهم العمل, ويحثهم عليه؛ فكان يذكِّر أصحابه بأنه كان يعمل بالرعي, وأن الأنبياء  عليهم السلام  كانوا يحترفون لأنفسهم؛ للكسب والتعفف عن أموال الناس؛ حيث كان لكل واحد منهم حرفة يعيش بها؛ فكان آدم حراثاً وحائكاً, وكان إدريس خياطاً, وكان نوح وزكريا نجارين, وكان أيوب زراعاً, وكان  يونس وشعيب ومحمد   عليهم السلام  رعاةً للغنم.

بل يؤكد النبي" أنه ما من نبي إلا رعى الغنم, وقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله قال:  (  وأنا كنت أرعاها لأهل مكة على قراريط  )([4]). رواه البخاري.

وكان من سيرته " أنه كان يقوم في بيته بِمَهْنةِ أهله يفلي ثوبه, ويحلب شاته, ويرقع ثوبه, ويَخْصِفُ النعل, ويخدم نفسه, ويَقُمُّ بيته, ويعلف بعيره, ويطحن مع أهله, ويحمل بضاعته من السوق, ويَنْحَرُ ذبائحه إلى غير ذلك من الأعمال التي كان  عليه الصلاة والسلام  يقوم بها؛ تواضعاً منه, وحثاً لأصحابه, وأمته على العمل, وبياناً لفضله.

وبالجملة فإن الأحاديث التي تحث على العمل, وتمجِّده, وترفع من شأن العاملين كثيرة جدًّا, وكلها توجيه للأمة نحو العمل والكسب الحلال؛ فكان لهذه التوجيهات أبلغ الأثر في صحابة رسول الله" فتوجه كثير منهم إلى عمل يعمله, ويتكسب من خلاله.

ولم يكتف الإسلام بالدعوة إلى العمل , والتحفيز إليه, والتذكر بفضله, بل  مع ذلك  حذَّر أشد التحذير من البطاله, والكسل, والقعود, والتواكل, والاستسلام للفقر, واستجداء الناس؛ فكل قادر على العمل مطالب في شريعة الإسلام بأنه يسعى, ويبذل جهده في سبيل طلب الرزق.

ولا ريب أن ذلك مما يرفع من شأن المسلم, ويزرع في نفسه العزة والكرامة, ويجتث منها منابت السقوط والمهانة.

قال النبي ":  (  لأن يأخذ أحدكم أحبلا فيأخذ حزمة من حطب فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أو منع  ) متفق عليه.

وقال:  (  ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه, وما لا فلا تتبعه نفسك  ) متفق عليه.

وقال:  (  من يستغن يغنه الله, ومن يستعفف يعفه الله, ومن يتصبر يصبره الله, وما أعطي أحد خيرا وأوسع من الصبر  )متفق عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام :  (  من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل, أو يستكثر  ) رواه مسلم.

وعن قبيصة بن مخارق الهلالي ÷ قال:  (  تحمَّلت حَمَالة فأتيت رسول الله " أسأله فيها فقال:  (  أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها  ).

قال: ثم قال:  (  يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش  (  أو قال سِداداً من عيش  )، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش  (  أوقال: سداداً من عيش.

فما سواهن من المسألة ياقبيصة سحتا يأكلها صاحبها سُحتاً  ) رواه مسلم.

ثم إن الإسلام أرسى القواعد المنظمة للعمل, ونظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل, وضبط تلك العلاقة بما يسمى في الفقه الإسلامي بالعقد, وجعلها تقوم على أساس قوي من الوضوح, وضمان الحقوق كاملة.

وفي المقابل أكد أهمية التزامه بمجموعة من الواجبات التي تضمن لصاحب العمل حقوقه.

كما ترك الإسلام الحرية التامة للإنسان في اختيار ما يناسبه من أعمال في حدود ما تبيحه الشريعة الإسلامية, وبما يعود على العامل ومجتمعه بالخير العميم.

وفيما يلي ذكر لبعض القواعد المنظمة للعمل في الإسلام على سبيل الإجمال؛ لأن المقام لا يحتمل التفصيل:

أولاً: عقد العمل: وهذا العقد يشتمل على أركان أربعة وهي: العامل, وصاحب العمل, والعمل المتفق عليه، وأجر ذلك العامل.

ويمكن أن يشار هنا إلى أبرز الأمور التي يجب أن يشتمل عليها عقد العمل فيما يأتي:

1  بيان نوع العمل: وهو أمر جوهري في تمام العقد, فالإجارة على المجهول فاسدة.

2  بيان المدة أو الزمن المشروط لإنفاذ العمل: وهو أمر مهم في تمامِ العقدِ, وعَدَمُه يؤدي إلى التنازع في الغالب.

3  بيان الأجر: وهو من أهم الأمور التي ينشدها العامل في إقدامه على العمل, وهو حقٌ شرعيٌ ثابتٌ له فلابدّ من اشتمال العقد على الأجر المتفق عليه.

ثانياً: حقوق العمال وواجباتهم: 1  حقوق العمال: ويمكن إجمال أبرز تلك الحقوق بما يلي:

أ  استيفاء الأجر: وهو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه بعد أدائه ما كلف به.

ب  مراعاة كرامة العامل, وعدم تكليفه ما لا يطيق.

ج  تأمينه من إصابات العمل, وتعويضه عن الضرر, ويمكن أن يلحق بذلك الاهتمام بصحة العامل, وغذائه, ومسكنه.

ولا ريب أن هذه الحقوق التي قررها الإسلام للعمال هي موضع أمان, واطمئنان لهم, وحفز لمزيد من العطاء والجد.

2  واجبات العمال: في مقابل الحقوق التي ضمنها الإسلام للعاملين أكد أهمية التزام هؤلاء بمجموعة من الواجبات التي من أهمها ما يلي:

أ.  الإخلاص في العمل، والأمانة، ومراقبة الله  عز وجل .

فإذا كان صاحب العمل مسؤولاً فإن العامل مؤتمن ومسؤول أمام الله القائل: [إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا] النساء: 58 .

والقائل: [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ] الأنفال: 27 .

ب.  الإتقان، والقيام بالعمل وفْق ما هو متفق عليه.

ويتأتى ذلك بإحكام العمل، وإجادته دون إهمال أو تقصير.

وقد قال النبي":  (  إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه  ) أخرجه البيهقي، والطبراني، وأبو يعلى.

ومن إتقان العمل حسن رعايته، والشعور بالمسؤولية تجاه ما يوكل إليه من عمل.

ج. حفظ أسرار المهنة، والحرص على مصلحة من ائتمنه من أسرار، والحذر من إفشاء سر من أسراره.

د. أن يقنع بالأجر الذي تم الاتفاق عليه مع صاحب العمل دون مساس بمال صاحب العمل.

قال الرسول":  (  من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فغلول  ) أخرجه أبو داود.

ثالثاً: تحريم العمل غير المشروع: فهذا هو أحد القواعد في العمل في الإسلام؛ فإذا كان الإسلام يحفز على العمل، ويدفع الناس إليه حتى يعيشوا أعزة كرماء   فإنه ينأى بهم عن الأعمال المحرمة، قال الله  عز وجل : [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ] البقرة:172 .

ومعنى ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يعمل أي عمل يعده الشرع معصية.

كما أن الإسلام حرم على الإنسان أي عمل يجلب الضرر على الإنسان نفسه، أو على مجتمعه.

فهذا شيء من موقف الإسلام من العمل.


  الإسلام والصحة العامة

الإشارة إلى نظرة الإسلام إلى الصحة, واهتمامه بها, ودلالتها على ما يحفظ الصحة قد مرت عند الحديث عن آثار الإيمان بأركان الإيمان الستة, وعن الحديث عن أركان الإسلام, وما يستتبع ذلك من حفظ الصحة البدنية, والنفسية.

كما مر الحديث عن ذلك عند الحديث على أضرار المعاصي, وعن آثارها المدمرة على صحة الإنسان, ونفسيته, وأن تركها يحفظ على الإنسان صحته, وطُمأنينة نفسه؛ إلى غير ذلك مما مرت الإشارة إليه في أبواب سابقة.

والحديث ههنا إكمال لما مضى, وإلقاء للضوء على شيء من ذلك القبيل, فلقد وردت في حفظ الصحه إشارات, وإرشادات في الكتاب العزيز, والسنة النبوية فمن ذلك ما يلي:

أولاً: أن الإسلام أرشد إلى الاقتصاد في المطعم والمشرب: ولا يخفى ما في ذلك من حفظ الصحة والوقاية من الأمراض, فالتخلي عن الطعام والشراب جملة, أو ترك ما يحتاجه الجسم من ذلك سبب في الهلاك أو المرض .

كما أن الإسراف في المطاعم والمشارب من أعظم أسباب الأدواء المتنوعة.

والإقتصاد في ذلك هو الصحة, والوقاية  بإذن الله  وإلى هذا المعنى أرشد قول الله  عز وجل : [وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ] الأعراف: 31 .

قال بعض العلماء :  (  جمع الله بهذه الكلمات الطب كلَّه  ).

وقريب مما جاء في الآية ما جاء في قول النبي"محذراً من البطنة:  (  ما ملأ آدميٌ وعاءً شرًّا من بطن؛ بحسب ابن آدم لقيماتٌ يُقمن صلبه؛ فإن كان لامحالة فثلثٌ لطعامه,وثلثٌ لشرابه, وثلثٌ لنفسه  ) أخرجه أحمد، والحاكم.

ثانياً: ورود كثيراً من الإشارات في حفظ الصحة: فمن ذلك أن الإسلام حرَّم الخمر، ولا يخفى ما في الخمر من أضرار صحية كثيرة، فهي تضعف القلب، وتفري الكلى، وتمزق الكبد إلى غير ذلك من أضرارها المتنوعة.

ومن ذلك: أن الإسلام حرَّم الفواحش من زناً ولواط، ولا يخفى ما فيهما من الأضرار الكثيرة، ومنها الأضرار الصحية التي عُرِفَتْ أكثر ما عُرِفَتْ في هذا العصر من: زهري، وسيلان، وهربس، وإيدز ونحوها.

ومن حِفظ الإسلام للصحة أنه حرَّم لحم الخنزير، الذي عُرِفَ الآن أنه يولِّد في الجسم أدواءً كثيرة، ومن أخصِّها الدودة الوحيدة، والشعرة الحلزونية، وعَمَلُهما في الإنسان شديد، وكثيراً ما يكونان السبب في موته.

ومن الإشارات في هذا الصدد ما عُرف من أسرار الوضوء، وأنه يمنع من أمراض الأسنان، والأنف، بل هو من أهم الموانع للسل الرئوي؛ إذ قال بعض الأطباء: إن أهم طريق لهذا المرض الفتاك هو الأنف، وإن أنوفاً تُغسَلُ في اليوم خمس عشرة مرة لجديرة بألا تبقى فيها جراثيم هذا الداء الوبيل، ولذا كان هذا المرض في المسلمين قليلاً وفي الإفرنج كثيراً.

والسبب أن المسلمين يتوضؤون للصلاة خمس مرات في اليوم، وفي كل وضوء يغسل المسلم أنفه مرة أو مرتين أو ثلاثاً.

وسيأتي مزيد بيان لأسرار الوضوء، وفوائده.

ثالثاً: ورود كثير من النصوص في مشروعية التداوي والدلالة عليها: وقد مضى شيء من ذلك, ومنه  أيضاً  قول الله  تعالى : [مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ] المائدة: 32 .

ووجه الدلالة أن الله  تبارك وتعالى  امتدح من سعى في إحياء النفس وإنقاذها من الهلاك.

ومعلوم أن الطب ينتظم في كثيرٍ من صوره إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك المحقق؛ فكثير من الأمراض التي تستلزم علاجاً, أو حمية, أو جراحة قد يكون المريض فيها مهدداً بالموت إذا لم يُقَمْ بمداواته؛ فإذا قام الطب بوصف شيء من ذلك أو فِعْله, وشفي المريض عُدَّ  بإذن الله  منقذاً لتلك النفس المحرمة, ودخل في قبيل من امتدحهم الله  عز وجل  في الآية السالفة.

وفي ذلك إشارة إلى علم الطب وفضله.

رابعاً: ورود الدلالة على الجراحة الطبية: حيث دلت السنة المطهرة على جواز الجراحة الطبية, ومشروعيتها, ويظهر ذلك من خلال عدد من الأحاديث الشريفة, ومنها ما ورد  في شأن الحجامة, ومن ذلك ما جاء  في حديث ابن عباس  رضي الله عنهما  أن النبي" احتجم في رأسه. رواه البخاري.

وما جاء في حديث جابر بن عبد الله÷ أنه عاد مريضاً، ثم قال:  (  ألا تحتجم  )؛ فإني سمعت رسول الله" يقول:  (  إن فيها شفاءً  ) رواه البخاري.

ووجه الدلالة من الحديثين أنها نصَّت على مشروعية التداوي بالحجامةِ, والحجامةُ تقوم على شق موضع معين من الجسم وشَرْطِه، ومصِّ الدم الفاسد، واستخراجه؛ فتعد أصلاً في جواز شق البدن, واستخراج الشيء الفاسد من داخله سواء كان عضواً, أو كيساً مائياً, أو ورماً أو غير ذلك.

والحجامة في العصر الحديث تعد نوعاً من الجراحة الطبية الصغرى؛ حيث يجري استعمالها في علاج عدد من الأمراض, والالتهابات.

ويدل على ذلك ما جاء في حديث جابر بن عبدالله  رضي الله عنهما  قال:  بعث رسول الله" إلى أبيِّ بن كعب طبيباً، فقطع منه عرْقاً, ثم كواه عليه. رواه مسلم.

ووجه الدلالة أن النبي" أقر الطبيب على قطع العرق, وكَيِّه.

وقطع العرق ضرب من العلاج الجراحي, وهو مستخدم في الجراحة الطبية الحديثة, حيث يتم قطع مواضع من العرق في حال انسدادها, أو وجود آفة تستدعي قطع جزء منها.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا السياق.

خامساً: أن النبي" فتح العقول لمعرفة الطب, ومزيد التطور فيه؛ ومن أجلى الأدلة على ذلك قوله ":  (  ما أنزل داءً إلا أنزل له شفاءً  ) أخرجه البخاري.

ومعنى أنزل: أي قدَّر.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي × في شرح هذا الحديث:  (  وعموم هذا الحديث يقتضي أن جميع الأمراض الباطنة لها أدوية تقاومها: تدفع مالم ينزل, وترفع ما نزل بالكلية أو تُخَفِّفه.

وفي هذا الترغيب في تعليم طب الأبدان, كما يتعلم طب القلوب, وأن ذلك من جملة الأسباب النافعة.

وجميع أصول الطب وتفاصيله شرح لهذا الحديث؛ لأن الشارع أخبرنا أن جميع الأدواء لها أدوية, فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلمها, وبعد  ذلك إلى العمل بها وتنفيذها  ).

ثم إن في الحديث دلالةً واضحةً إلى أنه لا يأس من وجود علاج لأي مرض؛ طالما أن مسبب الأسباب وهو الله  تعالى  لم ينزل داءاً إلا أنزل له شفاءً.

ولقد كان كثير من الناس يظن أن بعض الأمراض ليس لها دواء, وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس إلى ما وصلوا إليه من علم   عرفوا مصداق هذا الحديث.

سادساً: ما كان عليه العلماء المسلمون من الإسهام في تطوير الطب: فلقد عاشت أوربا في العصور الوسطى سنوات طويلة في ظلام دامس من الجهل، وتعد هذه الفترة فترة ركود حضاري بالنسبة لها.

وفي الوقت نفسه كانت البلاد الإسلامية تعيش حياة علمية مزدهرة, حتى أصبحت في ذلك الحين محط الرحل لطلاب العلم والمعرفة الذين يقصدونها, خاصة من البلاد الأوربية؛ طمعاً في الحصول على المعارف والفنون التي نبغ المسلمون فيها نبوغاً عظيماً.

ولقد تفجرت ينابيع المعرفة على أيدي جهابذة العلماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف, حتى شمل ذلك علوم الطب, والحساب, والفلك, وغيرها من العلوم الأخرى.

وأمسكت تلك الأيدي الأمينة بزمام الحضارة العلمية, وقادتها بعقولها الفذة التي صقلتها رُوحانية الكتاب والسنة, فَسَمَتْ بها إلى ذروة المجد والعلياء.

يقول الشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي  حفظه الله :  (  وكان من ضمن ما نبغ به المسلمون في تلك العصور المزهرة علم الطب على اختلاف تخصصاته, والتي من ضمنها الجراحة الطبية.

فقد كانت الجراحة الطبية في العصور الإسلامية الأولى تعتبر صنعة ممتهنة, وكان علماء الطب المسلمين من الأوائل يترفعون عن القيام بها وأدائها, وكانوا يسمونها  (  عمل اليد  ) وكانت آنذاك من مهمة الحجامين الذين يقومون بالكي, والفصد والحجامة, وبتر الأعضاء تحت إشراف الأطباء وإرشاداتهم.

ثم لم تمض مدة حتى نبغ علماء الطب المسلمون في تطوير الجراحة الطبية والإسهام في تقدمها حتى وصلت إلى درجة عالية من الدقة والمهارة, وذلك بفضل الله  تعالى  ثم بفضل جهودهم المخلصة التي تمثلت في جوانب عديدة ساعدت على الوصول إلى هذه الغاية  ).

إلى أن قال  حفظه الله :   (  فقد كانوا أول من أفرد علم الجراحة الطبية بالكتابة عنه في مواضع مخصوصة من كتبهم الطبية, ثم بالتأليف المستقل الذي يجمع شتاته, ويعتني بصياغتة في أسلوب علمي بديع.

وقد اعتنوا في تلك المؤلفات ببيان عدد من أنواع الجراحة الطبية التي لم يُسْبقوا إلى معرفتها, وقاموا بوصف مراحلها في كتبهم لأول مرة في التاريخ, ومن تلك الأنواع التي بينوها ما يلي:

1  عملية تفتيت الحصى الموجود في المثانة.

2  عملية تجبير الكسور الموجودة في الأنف.

3  عملية فتح القصبة الهوائية

4  عملية استئصال اللوزتين.

5  عملية فتح الخراج الموجود في اللهاة.

6  عملية قطع اللحم النابت في الأذن.

7  عملية ثقب الأذن المسدودة.

ومع اكتشافهم لهذه الأنواع، ووصفهم لها لأول مرة في التاريخ نجدهم  أيضاً  قد تكلموا على بعض المعلومات المهمة جدًّا في علم الجراحة, وكانوا أول من نبه عليها, ومن تلك المعلومات تفريقهم بين الأورام الخبيثة  السرطانية  والزوائد اللحمية, حيث وضعوا بعض الأمارات والعلامات التي يمكن للطبيب أن يستهدي بها لمعرفة نوعية الورم هل هو خبيث فيتجنبه, أم هو من الزوائد اللحمية التي يمكن استئصالها ومداوتها بالجراحة  ).

ثم ذكر الشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي  حفظه الله  نماذج عديدة من الأطباء المسلمين الذين كانت لهم الريادة والسبق في كثير من مجالات الطب كعبدالملك بن زهر, والرازي.

ثم أطال الحديث عن الزهراوي, وجهوده في علم الطب, والجراحة, والتأليف في ذلك, واستفادة علماء الطب الجراحين الأوروبيين وغيرهم من الزهرواي على مدى القرون.

ثم تحدث عن مقالة للزهراوي أفرد فيها الحديث عن علم الجراحة, وجاء فيها بالعجيب من الجراحات المبتكرة التي لم يَسْبِقْ أحدٌ إلى فعلها, والكتابة عنها.

ثم تحدث عن جهود الزهراوي في جراحة العيون,والأنف, والأذن, والحنجرة, والفم, الأسنان, وعظام الفكوك, وأنه أول من وصف ما يسمى بعملية تفتيت الحصى.

ثم تحدث عن جهود الزهراوي في علاج الفتوق, وما يعرف بتضخم الغدة الدرقية.

ثم ختم الشيخ الشنقيطي حديثه عن الزهراوي وجهوده في الطب بذكر بعض ما قيل عنه, ومن ذلك أنه أورد ما قاله عن الدكتور سيمون حايك, حيث قال:  (  غي دي شولياك 1267 1300م تأثر بالزهراوي, وبهذا الجراح الفرنسي تبتدئ سلسلة طويلة من الجراحين الفرنسيين وغيرهم.

وقد أثر تأثيراً كبيراً في الجراحين الذين جاؤوا من بعده؛ فقد أقلع عن استعمال المبيدات, وعاد إلى استعمال المراهم, والزيت, والفتيل, مقتفياً بذلك أثر الزهراوي  ).

فانظر إلى هذا النموذج وهو الزهراوي, وانظر إلى آثاره مع أنه مات قبل ما يزيد عن ألف سنة, حيث مات في الأندلس بعد الأربعمائة الهجرية.

سابعاً: أن الفقهاء عَدُّوا حفظ الصحة أحد مقاصد الشريعة: ذلك أن تشريعات الإسلام كلها تُولي هذا المقصد  حفظ البدن وصحته  مكانة خاصة, بل تعده ركناً أساساً.

ولهذا كان من أعظم الأدعية النبوية سؤال الله العافية, بل إن النبي" جعل العافية تلي نعمة الإيمان في الأهمية, قال رسول الله":  (  سلوا الله اليقين والمعافاة, فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية  ) أخرجه الترمذي.

ومن دعائه"  (  اللهم عافني في بدني ,اللهم عافني في سمعي, اللهم عافني في بصري, لا إله إلا أنت  ) أخرجه أبو داود.

يقول الطبيب الدكتور محمد نزار الدقر:  (  وتتطابق نظرة الإسلام للصحة مع المفهوم الحديث؛ فالصحة في مفهوم الطب الحديث ليست مجرد الخلوِّ من العاهات أو الأمراض, بل أن يتمتع الفرد برصيد من القوة في وظائف أعضائه تجعله يتحمل ما قد يتعرض له من مسببات كثيرة من الأمراض.

وهذا تطابقٌ مُعْجِزٌ حقًّا مع ما قال به نبي الرحمة محمد":  (  المؤمن القوي خير وأحب إلي من المؤمن الضعيف  ) أخرجه مسلم.

ثامناً: أن الإسلام عني بصحة الإنسان قبل أن يتخلق: إذ أرشد إلى حسن انتقاء شريك الحياة زوجاً أو زوجة؛ حتى تخرج منهما ذرية سليمة.

ومصداقه قول النبي": (  تخيروا لنطفكم  ) أخرجه ابن ماجة.

كما أن الإسلام حث على الرضاعة: حيث أرشد إليها, وحث على إطالة مدتها قدر الإمكان؛ ليحصل الطفل على عناصر المناعة الطبيعية اللازمة التي لا تعطيها الرضاعة الصناعية.

قال الله  عز وجل [وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ] البقرة:233 .

تاسعاً: تقرير بعض الأمور العلاجية: حيث وجه الإسلام الأمة لأمور تنفعها بوحي السماء كما قال النبي":  (  عليكم بهذه الحبة السوداء؛ فإن فيها شفاءً من كل داء  ).

ثم إن في إرشادات القرآن الكريم توجيه إلى الطب الوقائي الذي يعمل على حماية صحة الفرد, ويحافظ على صحة المجتمع كله, قال الله  تعالى : [وَلَاتُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ] البقرة: 195 .

وفي الإسلام نظام صحي عالمي, يكاد يكون أول نظام في ذلك, ألا وهو إقرار الحجر الصحي عند حدوث الأوبئة كالطاعون, والكوليرا؛ حيث وضع له قواعد راسخة أقرها الطب الحديث, فقد روى الشيخان عن النبي" قوله:  (  إن هذا الطاعون رجز، وبقية من عذاب عُذِّبه من كان قبلكم؛ فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ؛ فراراً منه, وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلو عليه  ).

يقول الدكتور محمد الدقر معلقاً على هذا الحديث:  (   والذي يعرف أهمية الحجر الصحي في حياة الأمم يعرف عظمة ما جاء النظام الصحي الإسلامي منذ قرون  ).

عاشراً: أن في آداب الطعام في الإسلام إشاراتٍ كثيرةً لحفظ الصحة: يقول الدكتور محمد الدقر:  (  وآداب الطعام مفخرة من مفاخر الهدي النبوي العظيم, حرص من خلالها على أن يتناول المسلم طعاماً نظيفاً خالياً من أي تلوث, فأمر بالأكل باليد اليمنى, وأمر بتغسيل اليد قبل الطعام وبعده, وأمر بتجنب الإسراف في الأكل, وتجنب إدخال الطعام على الطعام  ).

إلى أن قال:  (   وجعل  سبحانه  من أهم أهداف البعثة المحمدية أن يحل لأمته الطيب النافع, ويحرم عليها الخبيث الضار, وقال  تعالى  معدداً أهداف بعثة محمد": [وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ] الأعراف : 157.

ويواصل الدكتور الدقر حديثه فيقول:  (  هذا وإن تحريم الخمر والتدخين والمخدرات يمكن اعتباره أهم منجزات شريعتنا الغراء في مجال الطب الوقائي؛ إذ إن التزام المجتمع باجتناب هذه الخبائث يقيه من الوقوع في براثن العديد من الأمراض المهلكة, ويحمي الأجنة من التشوهات، ويقي الأفراد من الحوادث  ).

حادي عشر: أن الشريعة الإسلامية وضعت القواعد للوقاية من الحوادث التي تؤدي إلى  إزهاق الأرواح, أو الحاق الأضرار بالناس, وذلك ضمن أوامرَ ونواهٍ محددة واضحة تقود من يأخذ بها إلى السلامة, وتنأى به عن العطب, فمن ذلك أن النبي" نهى أن يبيت المسافر في طريق الناس, فعن ابي هريرة÷ عن النبي" قال: (   وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق؛ فإنها مأوى الهوام بالليل  ).

وفي رواية  (   وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق؛ فإنها طريق الدواب, ومأوى الهوام  ). رواه مسلم.

ومن النواهي الواردة في ذلك الشأن أن النبي " نهى عن النوم على سطح غير محجور عليه. أخرجه أبو داود.

ونهى أن يترك أحدٌ النار مشتعلة وينام عنها فقال":  (  لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون  ) متفق عليه.

فهذا نزرٌ يسيرٌ في شأن ما جاء من عناية الإسلام بشأن الصحة, وسيأتي مزيد بيان لذلك عند الحديث عن عناية الإسلام بالنظافة في المسألة التالية.


  الإسلام والنظافة

مر في كثير من أبواب هذا الكتاب إشارات إلى عناية الإسلام بالنظافة .

والحديث ههنا سيتناول هذا الجانب بشيء من البسط, وذلك من خلال المسائل التالية التي ستدور حولها وقفات لما جاء في حديث خصال الفطرة، وما جاء في شأن الوضوء والغسل، وحث الإسلام على النظافة العامة.

ولا ريب أن ما سيذكر إنما هو نزرٌ يسيرٌ جدًّا من عناية الإسلام بالنظافة.

أولاً: ما جاء في حديث خصال الفطرة

عن عائشة  رضي الله عنها  قالت: قال رسول الله":  (  عشر من الفطرة: قص الشارب, وإعفاء اللحية, والسواك, واستنشاق الماء, وقص الأظفار, وغسل البراجم, ونتف الإبط, وحلق العانة, وانتقاص الماء  يعني الاستنجاء  قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة  ) رواه مسلم.

فهذا الحديث احتوى على جملة من الإرشادات الراقية في شأن النظافة؛ حيث عدها من الفطرة التي هي الخلقة التي خلق الله عبادَه عليها, وجعلهم مفطورين عليها: على محبة الخير وإيثاره, وكراهة الشر ودفعه.

كما أن هذا الحديث جعل شرائع الفطرة على نوعين:

أحدهما: ما يطهر القلب والروح, وهو الإيمان وتوابعه التي تُزكي النفس, وتُطهر القلب, وتُذهب عنه الآفات الرذيلة, وتُحلِّيه بالأخلاق الجميلة.

النوع الثاني: ما يعود إلى تطهير الظاهر, ونظافته, ودفع الأقذار والأوساخ عنه, وهي هذه العشرة المذكورة في الحديث.

وإليك هذه الوقفة حول هذه الخصال:

1  قوله:  (  قص الشارب  ): المقصود قصه, أو حفُّه حتى تبدو الشفة؛ لما في ذلك من النظافة, والتحرز مما يخرج من الأنف؛ فإن الشارب إذا تدلى على الشفة بَاشَرَ بِهِ الإنسانُ ما يتناوله من مأكول, أو مشروب , مع تشويه الخلقة بوفرته.

يقول الدكتور الطبيب محمد الدقر:  (   ومن الناحية الطبية فإن الشوارب إذا طالت تلوثت بالطعام والشراب, وقد تكون سبباً في نقل الجراثيم  ).

إلى أن قال:  (  وسنة الإسلام في قص الشوارب تتفق مع ما دعا إليه الطب بقص ما زاد عن حدود الشفة العليا  ).

2  قوله:  (  إعفاء اللحية  ) المقصود:إكرامها, وتوفيرها, وترك حلقها.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي×:  (  فإن الله جعلها وقاراً للرجل, وجمالاً له, ولهذا يبقى جماله في حال كبره لوجود شعر اللحية  ).

 (  ومن الناحية الصحية فإن الدكتور عبد الرازق كيلاني يرى أن عمل الرجل يؤدي إلى كثرة تعرضه لأشعة الشمس والرياح الباردة والحارة, والذي يؤثر سلباً على الألياف المرنة, والكلاجين الموجودين في جلد الوجه, ويؤدي إلى تخربها شيئاً فشيئاً إلى ظهور التجاعيد, والشيخوخة المبكرة  ).

3  قوله: (  السواك  ): السواك دلك الأسنان بعود أراك أو نحوه؛ لتذهب عنها الصفرة ونحوها.

فالسواك يشرع في كل وقت, ويتأكد عند الوضوء, والصلاة, والانتباه من النوم, وتغير الفم, وصفرة الأسنان، ونحوها.

وفي ذلك تطهير، ونظافة للفم الذي هو عضو التواصل، كما هو مدخل معظم الجراثيم إلى البدن, ولهذا ربط النبي"بين نظافة الفم ورضا الله   عز وجل  بقوله:  (  السواك مطهرة للفم مرضاة للرب  ) أخرجه الشافعي، وأحمد.

4  قوله: (  واستنشاق الماء  ) المقصود به استنشاق الماء عند الوضوء, ويراد به غسل الأنف باستنشاق الماء إلى داخل الأنف وإخراجه منه, وذلك مشروع في الوضوء والغسل, وهو فرض فيهما من تطهير الأنف, وتنظيفه؛ لأن الأنف يتوارد عليه كثير من الأوساخ, والأبخرة, ونحوها, والإنسان محتاج إلى إزالة ذلك.

ولا ريب أن ذلك نظافة, وصحة زيادة على كونه أجراً ومثوبة.

جاء في كتاب أسباب الشفاء من الأسقام والأهواء؛ ما نصه: (  أظهر بحث علمي حديث أجراه فريق من أطباء جامعة الإسكندرية أن غالبية الذين يتوضؤون باستمرار قد بدا أنفهم نظيفاً خالياً من الأتربة والجراثيم والميكروبات.

ومن المعروف أن تجويف الأنف من الأماكن التي يتكاثر فيها العديد من هذه الميكروبات والجراثيم.

ولكن مع استمرار غسل الأنف والاستنشاق والاستنثار بقوة  أي طرد الماء من الأنف بقوة  يحدث أن يصبح هذا التجويف نظيفاً خالياً من الالتهابات والجراثيم مما ينعكس على الحالة الصحية للجسم كله؛ حيث تحمي هذه العملية من خطر انتقال الميكروب من الأنف إلى الأعضاء الأخرى للجسم  ).

5  قوله: (  قص الأظفار  ): المراد تقليمها كما جاء في بعض الروايات, ومعنى التقليم: القطع.

ولا ريب أن قص الأظفار سلامة من الجراثيم التي تتكون في الأظفار إذا طالت.

6  قوله: (  وغسل البراجم  ): البراجم جمع بُرجُمة.

قال النووي×: (  البراجم هي عقد الأصابع ومفاصلها كلها.

قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وهو الصماخ, فيزيله بالمسح؛ لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع.

وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف, وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق, والغبار ونحوها والله أعلم  ).

7   قوله:  (  ونتف الإبط  ) وهو إزالة الشعر النابت بالإبط, قال النووي×:  (  أما نتف الإبط فَسُنةٌ بالاتفاق، والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه, ويحصل  أيضاً  بالحلق  ).

8  قوله: (   وحلق العانة  ) المراد بالعانة: الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه, وكذلك الشعر الذي حوالي فرج المرأة, ويلحق به الشعر النابت حول حلقة الدبر.

قال النووي×: (  فيحصل من مجموع هذا استحباب حلق ما على القبل والدبر وحولهما.

وأما وقت حلقه فالمختار أنه يُضْبَط بالحاجة, وكذلك الضبط في قص الشارب, ونتف الإبط, وتقليم الأظفار.

وأما حديث أنس المذكور في الكتاب:  (  وُقِّت لنا في قص الشارب, وتقليم الأظفار, ونتف الإبط, وحلق العانة  )رواه مسلم   فمعناه لا يترك تركاً يتجاوز أربعين إلا أنهم وقت لهم الترك أربعين والله أعلم  ).

ولا ريب أن في ذلك رقيٌّ، ونظافة, وتطهر، وصحة، وراحة.

يقول الدكتور الكيلاني متحدثاً عن نتف الإبط, وفوائد ذلك:  (  إن النتف يضعف إفراز الغدد العَرَقية, والدهنية, وإن الاعتياد عليه  أي بالنتف  منذ بدء نموه, ودون أن يحلقه أبداً يضعف الشعر  أيضاً  ولا يشعر المرء بأي ألم عند نتفه.

والمقصود أن يكون باليد, ويمكن إزالته بالرهيمات المزيلة للشعر.

وفي الحقيقة فإن نمو الأشعار تحت الإبطين بعد البلوغ يرافقه نضوج غُددٍ عرقية خاصة تفرز موادَّ ذات رائحة خاصة إذا تراكمت مع الأوساخ والغبار أزنخت, وأصبح لها رائحة كريهة.

وإن نتف هذه الأشعار يخفف إلى حد كبير من هذه الرائحة, ويخفف من الإصابة بالعديد من الأمراض التي تصيب المنطقة كالمذح, والسعفات الفطرية, والتهابات الغدد العرقية, والتهابات الأجربة الشعرية وغيرها.

كما يقي من الإصابة بالحشرات المتطفلة على الأشعار كقمل العانة  ).

ويقول الدكتور محمد نزار الدقر متحدثاً عن الفوائد الصحية الناتجة عن إزالة شعر العانة, وعن حكمة الإسلام في سن هذه الإزالة التي ينتج عنها نظافة وصحة قال:  (  إن ناحية العانة, وما يحيط بالقبل والدبر منطقه كثيرة التعرق, والإحتكاك ببعضها البعض.

وإنه إن لم يحلق شعرها تراكمت عليه مفرزات العرق والدهن.

وإذا ما تلوثت بمفرغات البدن من بول وبراز صعب تنظيفها حينئذ وقد يمتد التلوث إلى ما يجاورها فتزداد, وتتوسع مساحة النجاسة, ومن ثم يودي تراكمها إلى تخمُّرها, فتنتن, وتصدر عنها روائح كريهة جدًّا, وقد تمنع صحة الصلاة إن لم تنظف, وتقلع عنها النجاسات  ).

ويواصل الدكتور الدقر حديثه عن حكمة حلق شعر العانة, فيقول:  (  وفي حلق شعر العانة  أيضاً  وقاية من الإصابة بعدد من الأمراض الطفيلية المؤذية كقمل العانة الذي يتعلق بجذور الأشعار, ويصعب حينئذ القضاء عليها.

كما يخفف الحلق من إمكانية الإصابة بالفطور المضنية؛ لذا سن الإسلام حلق العانة, والأشعار حول الدبر كلما طالت تأميناً لنظافتها المستمرة, ولأنها من أكثر مناطق الجسم تعرضا للتلوث والمرض  ).

9  قوله:  (   وانتقاص الماء  ): يعني الاستنجاء, وهو إزلة الخارج من السبيلين بماء أو حجر, فهو لازم, وشرط من شروط الطهارة.

قال الله  عز وجل  في معرض الثناء على أهل قباء: [فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ] التوبة: 108 .

قال ابن الجوزي×:  (  سبب نزولها أن رجالاً من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء, فنزلت هذه الآية, قاله الشعبي.

قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية آتاهم رسول الله" فقال:  (  ما الذي أثنى الله به عليكم  ).

فقالوا:  (  إنا نستنجي بالماء  ).

لقد فطر الله  عز وعلا  الإنسان, وجبله على أن يتخلص مما في أمعائه ومثانته من غائط وبول وغيرهما من نفايات الجسم, حتى يظل الجسم الإنساني في حالة من النقاء، والصحة، والقدرة على أداء الوظائف الطبيعية والحيوية التي يقوم بها, وبعد عملية التخلص تلك فإنه يجب على المسلم أن ينظف هذه الأماكن بالماء, وفي هذا يقول رسول": (  تنزهوا من البول فإنه عامة عذاب القبر منه  ) أخرجه الدار قطني.

ومعنى التنزه: هو التطهر والاستنجاء, ولهذا العملية فائدة طبية وقائية عظيمة, فقد أثبت الطب الحديث أن النظافة الذاتية لتلك الأنحاء تقي الجهاز البولي من الالتهابات الناتجة عن تراكم الميكروبات والجراثيم, كما أنها تقي الشرج من الاحتقان، ومن حدوث الالتهابات والدمامل, وفي حالة المرضى خصوصاً مرضى السكر أو البول السكري؛ لأن بول المريض يحتوي على كمية كبيرة من السكر, فإذا بقيت آثار البول فإن هذا يجعل العضو عرضة للتقيح والالتهابات, وقد تنتقل الأمراض في وقت لاحق إلى الزوجة عند الجماع, وقد يؤدي إلى عقم تام.

كذلك سنَّ الإسلام استعمال اليد اليسرى لإزالة النجاسة؛ حتى تظل اليد اليمنى المخصصة للطعام طاهرة نظيفة, وكذلك اشترط غسلها بعد التطهير.

وقد يعجب بعض الناس من اهتمام الإسلام حتى بهذه الأمور, ولكن لا عجب لمن يعرف لهذا الدين قدره, ومن يؤمن أنه الدين الذي أتمه الله وأكمله منهاجاً أبديًّا للبشر إلى قيام الساعة, منهاجاً لا يحمل إلا الخير لعبادة المسلمين قال الله  تعالى : [ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ] المائدة: 3 .

فإزالة النجاسة وقاية  بإذن الله  من كثير من الأمراض، وأمان من انتقال كثير من الأمراض المعدية.

جاء في كتاب أسباب الشفاء ما نصه:  (  في عام 1963 في دولة انجلترا وبالتحديد في مدينة  (  دانداي  ) حدث أن انتشر مرض التيفود بشكل عاصف، مما أصاب السكان بالذعر الشديد, وبذل الجميع طاقاتهم في محاولات شتى لوقف انتشار المرض.

وفي النهاية اتفق العلماء على إذاعة تحذير في مختلف وسائل الإعلام يأمرون الناس بعدم استعمال الأوراق في دورات المياة, واستبدالها باستخدام المياه مباشرة في النظافة؛ وذلك لوقف انتشار العدوى.

وبالفعل استجاب الناس, وللعجب الشديد توقف فعلاً انتشار الوباء وتمت محاصرته, وتعلم الناس هناك عادة جديدة عليهم بعد معرفة فائدتها, وأصبحوا يستخدمون المياه في النظافة بدلاً من المناديل الورقية.

ولكننا لسنا متأكدين ماذا يقول هؤلاء لو علموا أن المسلمين يفعلون هذا أكثر من ألف وأربعمائة سنة, ليس لأن التيفود تَفَشَّى بينهم، ولكن لأن خالق التيفود وغيره من الأمراض أمرهم بكل ما يجلب لهم الصحة والعافية، فقالوا سمعنا وأطعنا قال الله  تعالى : [أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ] الملك:14.

10  قوله: (   المضمضة  ): هي تحريك الماء في الفم للوضوء, لأجل تطهير الفم, وتنظيفه.

وقد أثبت العلم الحديث أن المضمضة تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات, وتحفظ اللثة من التقيح, ولذا تقي الأسنان وتنظفها بإزالة الفضلات الغذائية التي تبقى بعد الطعام في ثناياها.

وفائدة أخرى مهمة جدًّا للمضمضة فهي تقوي بعض عضلات الوجه, وتحفظ للوجه نضارته, واستداراته, وهي تمرين مهم يعرفه المتخصصون في التربية الرياضية, وهذا التمرين يفيد أيضاً  في إضفاء الهدوء النفسي على المرء لو أتقن تحريك عضلات فمه أثناء المضمضة.

ثانياً: ما جاء في مشروعية الوضوء

الوضوء طهارة مائية تتعلق بالوجه, واليدين والرجلين؛ فغسل هذه الأعضاء يعد فروضَ الوضوء.

وللوضوء سنن، كالتسمية في أوله, والسواك قبله, وغسل الكفين ثلاثاً في أول الوضوء, والمضمضة ثلاثاً, والاستنثار ثلاثاً, ومعنى الاستنثار إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه.

ومن سنن الوضوء التيامن  أي البدء بغسل اليمين  وتخليل الأصابع, ومسح الأذنين, والاقتصاد بالماء.

قال الله  تعالى : [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ] المائدة: 6 .

وقال النبي": (  لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ  ) متفق عليه.

ولقد جاء تفصيل الوضوء في السنة النبوية  في أحاديث كثيرة, وقد أطنب العلماء والفقهاء في بيان ذلك مفصلاً، وليس هذا موضع بسطه, وإنما الذي يعني ههنا بيان علاقة الوضوء بالنظافة؛ ذلك أن للوضوء أسراراً, وحكماً, وتعلقاً بالنظافة, بل والصحة.

ولقد مَرَّ في الفقرة الماضية بيان لشيء من ذلك.

ومما يحسن الإشارة إليه في شأن الوضوء ههنا ما يلي:

1  أن الوضوء ليس مجرد تنظيف للأعضاء الظاهرة فحسب؛ وليس مجرد تطهير للجسد يتوالى عدة مرات في اليوم.

بل إن الأثر النفسي، والسمو الروحي الذي يشعر به المسلم بعد الوضوء لشيءٌ أعمق من أن تعبر عنه كلماتٌ، خاصةً مع إسباغ الوضوء وإتقانه، واستحضار فضله؛ فللوضوء أثر عظيم في حياة المسلم؛ حيث يجعله في يقظة, وحيوية, وتألق.

2  أن عملية غسل الأعضاء التي نُص عليها في الوضوء تعد من منتهى الأهمية للنظافة والصحة العامة؛ ذلك أن تلك الأعضاء تتعرض  كما يقول الأطباء  لعدد هائل من الميكروبات التي تقدر بالملايين في كل سنتمتر مكعب من الهواء، وهي دائماً في حالة هجوم على الجسم الإنساني من خلال الجلد في المناطق المكشوفة منه.

وعند الوضوء تُفاجأ هذه الميكروبات بحالة كسح شاملة لها من فوق سطح الجلد خاصة مع الإسباغ الجيد الذي هو هدي رسول الله" وبذلك لا يبقى بعد الوضوء أيُّ أثرٍ من أدرانٍ أو جراثيمَ على الجسم إلا ما شاء الله.

3  أن لغسلِ الوجه واليدين إلى المرفقين حالَ الوضوء فائدةً كبيرةً جدًّا في إزالة الأتربة, والميكروبات فضلاً عن إزالة العرق من سطح الجلد, كما أنه ينظف الجلد من المواد الدهنية التي تفرزها الغدد الجلدية.

وهذه غالباً ما تكون موطناً ملائماً جدًّا لمعيشة الجراثيم وتكاثرها.

4  أن لغسل الرجلين أثناء الوضوء مع الإسباغ الجيد أثراً في النظافة, وإطفاء السكينة, لما في الأَقْدام من منعكسات لأجهزة الجسم كله.

وهذا من أسرار ذلك الشعور بالهدوء الذي يجده المسلم بعد الوضوء.

5  أنه قد ثبت بالبحث العلمي أن الدورة الدموية في الأطراف العلوية من اليدين والساعدين, والأطراف السفلية من القدمين والساقين أضعف منها في الأعضاء الأخرى ؛ لبعدها عن المركز المنظم للدور ة الدموية وهو القلب؛ لذا فإن غسل هذه الأطراف جميعاً مع كل وضوء يقوي الدورة الدموية؛ فيزيد في نظافة الجسم, ونشاطه, وحيويته.

وقد ثبت  أيضاً  تأثيرُ أشعة الشمس ولا سيما الأشعة فوق البنفسجية في إحداث سرطان الجلد, وهذا التأثير ينحسر جدًّا مع توالي الوضوء؛ لما يحدثه من ترطيب دائم لسطح الجلد بالماء, خاصة تلك الأماكن المعرضة للأشعة مما يتيح لخلايا الطبقات السطحية والداخلية للجلد أن تحتمي من الآثار الضارة للأشعة.

ثالثاً: ما جاء في مشروعية الغسل

الغسل هو تعميم البدن بالماء، قال الله  تعالى : [وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ] المائدة: 6 .

وقال  عز وجل : [وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ] البقرة: 222 .

والغسل معروف عند جميع الأمم؛ فلقد اكتشف الإنسان على مدار التاريخِ الأهميةَ العظمى لتنظيف البدن عن طريق الاغتسال, وعالج به كثيراً من الأمراض.

ولكن لم يَعْرِفِ التاريخُ أمةً شُرِعَ لها تنظيمُ هذا الأمر أعظم مما جاء به الإسلام الذي جعله الله خاتم أديانه.

ولو أراد باحث أن يستقصي ما ورد في الغسل من النصوص الشرعية, ومن شروح العلماء عليها لطال به المقام في تفصيلات كثيرة جدًّا تُبِيْنُ عن عِظمِ هذا الدين، ودقة تشريعاته في هذا الباب كما هي في غيره.

فهناك الغسل الواجب كما في حال خروج المني دفقاً بلذة, وعند التقاء الختانين, وعند انقطاع دم الحيض, أو النفاس, وإذا أسلم الكافر.

وهناك الأغسال المستحبة التي يمدح المكلف على فعلها ويثاب, وإذا تركها فلا لوم عليه, كغسل الجمعة, وغسل العيدين, وغسل الإحرام, وغسل دخول مكة, وغسل يوم عرفة.

وبالجملة فما يقال في الوضوء يقال في الغسل, ويزيد الغسل في التنظيف, والصحة.

رابعاً: ما جاء من حث الإسلام على النظافة العامة

من نظافة البيوت, ونظافة الطرقات, ونظافة الملابس, ونحوها؛ فقد وردت نصوص كثيرة جدًّا في هذا السياق؛ فمن ذلك ما يلي:

1  أن إزالة الأذى عن الطرقات شعبة من شعب الإيمان: فعن أبي هريرة÷ قال: (  قال رسول الله":  (  الإيمان يضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول:لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان  ) متفق عليه.

2  أنه جاء النهى عن البول في الماء الراكد: فعن جابر÷ عن رسول الله" أنه نهى أن يُبال في الماء الراكد. رواه مسلم.

وعن أبي هريرة÷ قال: قال رسول ":  (  لا تبل في الماء الدائم الذي يجري ثم تغتسل منه  ). متفق عليه.

ففي هذين الحديثين نهي عن البول في الماء المستقر؛ لأن البول فيه يسبب تقذيره وتوسيخه عن الناس, ويلحق بذلك تحريم التغوط, والاستنجاء بالماء الراكد.

3  أنه جاء النهي عن الاغتسال في الماء الراكد: فقد جاء عن أبي هريرة÷ أنه قال: قال رسول": (  لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب  ) فقيل كيف يفعل يا أبا هريرة؛ قال: يتناوله تناولاً. رواه مسلم.

فهذا شيء مما جاء به الإسلام في شأن النظافة.


  الإسلام والسلام

الحديث ههنا سيتناول قضايا حية, يكثر حولها الجدل, ويشيع الجهل بموقف الإسلام منها عند كثير من الناس الذين لم يدرسوا حقائق الإسلام, ولم يرجعوا إلى مصادره الأصلية التي تجلي تلك القضايا, ولا إلى تاريخه المجيد الذى كان يعطي صورة صادقة لما كان عليه المسلمون من العدل, والرحمة, والتسامح, مع ملاحظة أن تلك القضايا متقاربة, داخل بعضها في بعض.

وسيبدأ الحديث في قضية الإسلام والسلام؛ فالإسلام   كما هو معلوم وكما مر فيما سبق   دين السلام, والخير, والعدل, والإحسان، بل إن ذلك حاصل حتى في حال الحرب التي قد تقوم فيه لمسوغات معقولة.

وأما غير حال الحرب فالأمر أجلى وأوضح, ومن مظاهر حرص الإسلام على السلام, وأن يعيش الناس براحة, وأمان, وحرية مايلي:

أولاً: أن كلمة السلام من أكثر الكلمات وروداً في شريعة الإسلام: فذلك مما يدل على أنه دين السلام، والخير.

ويتجلى ذلك المعنى غاية الجلاء من خلال شواهد كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها ما يلي:

1  أن السلام اسم من أسماء الله  عز وجل : قال الله  تعالى : [هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ... الآية] الحشر: 23 .

2  أن اسم السلام مشتق من السِّلْم: والسلم، والسلام من أسماء الإسلام.

قال الله  تعالى : [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ] البقرة: 208.

والسِّلْم ههنا بمعنى الإسلام.

وقال  عز وجل : [وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا] النساء: 94 .

قال الشوكاني× في تفسير هذه الآية:  (  فالسلم، والسلام بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام  ).

3  أن الرسول" حث على إفشاء السلام، وبين أنه من أعظم أسباب الألفة، ودخول الجنة: فعن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":  (  لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم  ). رواه مسلم.

4  أن أفضل تحية بين المسلمين هي السلام: وهي أن يقول المُحَيِّي: السلام عليكم، أو يقول: السلام عليكم ورحمة الله، أو يزيد: وبركاته.

ويرد عليه المسلَّم عليه بقوله: وعليكم، أو: وعليكم السلام، أو يزيد: ورحمة الله، أو يزيد على ذلك كله: وبركاته.

قال النووي×:  (  يستحب أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجميع وإن كان المسلم عليه واحداً.

ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم  ).

عن عمران بن حصين   رضي الله عنهما   قال: جاء رجل إلى النبي" فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال النبي":  (  عشر  ) ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس، فقال:  (  عشرون  ) ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس، فقال:  (  ثلاثون  ). أخرجه أبو داود، والترمذي.

وهذا الحديث يعني زيادة الحسنات بزيادة التحية.

وقد ذكر أهل العلم تفصيلات في كيفية السلام ورده،  وعن السلام وآدابه، وتسليم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، وعن استحباب إعادة السلام على من تكرر لقاؤه، واستحبابه لمن دخل بيته، وعن السلام على الصبيان، ولمن قام من المجلس، أو فارق جلساءه إلى غير ذلك من أحكام السلام التي تعطي دلالة على مكانة السلام في دين الإسلام.

5  أن تحية المسلمين في الجنة سلام: قال الله  عز وجل : [وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ] يونس: 10 .

وقال  أيضاً  عن تحية الملائكة لأهل الجنة: [سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ] الرعد: 24 .

وقال  سبحانه : [ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٖۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُلُودِ] ق: 34 .

6  أن الله  عز وجل  أثنى على المؤمنين الذين يقابلون السفه والجهل بقولهم سلام: قال الله  عز وجل  في معرض ذكر صفات عباد الرحمن: [وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا] الفرقان: 63 .

وقال في موضع آخر: [وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ] القصص: 55 .

7  أن الرسول" بين أن المسلم حقًّا هو من يَسْلَمُ الناسُ من شره: قال":  (  المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده  ). متفق عليه.

فهذا نزر يسير من مكانة السلام في شريعة الإسلام.

ثانياً: أن الإسلام يحفظ الأموال: وفي ذلك إشاعة للسلام، والأمان؛ ولهذا حثَّ على الأمانة، وأثنى على أهلها، ووعدهم بطيب العيش، ودخول الجنة، وحرَّم السرقة، وتوعد فاعلها بالعقوبة، وشرع حد السرقة وهو قطع يد السارق؛ حتى لا يتجرأ أحد على سرقة الأموال؛ فإذا لم يرتدع خوفاً من عقاب الآخرة ارتدع خوفاً من قطع اليد؛ ولهذا يعيش أهل البلاد التي تُطَبَّق حدود الشرع آمنين على أموالهم، بل إن قطع اليد في تلك البلاد قليل جدًّا ؛ لقلة من يسرق.

ثم إن قطع يد السارق فيه حكمة الزجر للسارق من معاودة السرقة، وردع أمثاله عن الإقدام عليها، وهكذا تحفظ الأموال في الإسلام، ويعيش أهله في أمن وسلام.

ولا يعني قطع يد السارق أن كل من سرق أي شيء قطع، بل لا بد له من توافر شروط، وانتفاء موانع، ولا بد من النظر في قضية السرقة من قبل القاضي، في تفصيلات يطول شرحها، وانطباق حد السرقة فيها.

ثالثاً: أن الإسلام يحفظ الأنفس: ولهذا حرَّم قتل النفس بغير الحق، وعاقب قاتل النفس بغير الحق بأن يقتل؛ ولأجل ذلك يقل القتل في بلاد المسلمين، التي تطبق شرع الله؛ فإذا علم الإنسان أنه إذا قَتَل شخصاً بغير حق سيُقتل به كفَّ عن القتل، وارتاح الناس من شر المقاتلات.

ثم إن أهل القتيل لهم حق؛ فإذا كان القاتل سَيَقْتُل، ثم يخرج بعد ذلك يتمتع بالحياة كيفما شاء   كان ذلك   مُغِيظاً لأهل المقتول، وربما حملهم على الثأر، فيزيد الأمر ضراوة وفتنة.

فإذا اقْتُصَّ من القاتل ارتاحت نفوس أهل القتيل، واشتفت صدورهم بأخذ حقهم.

ثم إن القصاص ليس الطريقَ الوحيدَ، بل إن لورثة القتيل الحقَّ في العفو، أو أخذ الدية، وهذا من التخفيف والرحمة.

بل إن الإسلام حث على العفو، ورتب عليه الجزاء العظيم، والثواب الجزيل من الله   عز وجل  .

قال الله   تبارك وتعالى  : [وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ] البقرة: 179 .

وقال: [فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ] الشورى: 40 .

والقصاص من القاتل ليس كلأً مباحاً لكل أحد، بل هو مسؤولية الوالي المسلم، أو من ينصِّبه من القضاة، ولا بد في قضية القتل من اجتماع شروط، وانتفاء موانع في تفصيلات يطول شرحها.

ثم إن النفس التى حرم الإسلام قتلها بغير الحق شامل عام؛ فيشمل قتل النفس المؤمنة قال الله  عز وجل : [وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا] النساء: 93 .

ويشمل تحريم الاعتداء على حياة الآخرين ممن لم يدخلوا دين الإسلام, وحفظ الإسلام ذممهم, قال النبي":  (  من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً  ). رواه البخاري.

وقال النبي":  (  أيما رجل آمن رجلاً على دينه, ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً  ).

وفي لفتة أخرى يحسن ذِكْرُ هذه الحادثة التى حصلت لما فتح نبي الإسلام" مدينة خيبر، وكانت من معاقل اليهود شمال المدينة المنورة   دخلها الصحابي عبدالله بن سهيل ÷ ثم وجد مقتولاً ومرمياً في أحد آبارها, فجاء أهله إلى النبي" يتهمون اليهود في قتله, فكتب رسول الله " إلى اليهود في ذلك, فكتبوا: إنا والله ما قتلناه, فقال رسول الله " لأهل القتيل:  (  أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟  ) قالوا: لا , قال: (  أفتحلف لكم يهود؟  ) قالوا: ليسوا بمسلمين, فدفع رسول الله" ديته لأهله, وكانت مائة ناقة. متفق عليه.

وما من شك أن الشبهاتِ القويةَ, والقرائنَ الدالةَ كانت تحوم حول يهود؛ حيث وجد الصحابي المقتول بينهم, وألقي في بئر لهم, وكانت خيبر مدينة يهودية، وقد اعتاد المسلمون الغدر من اليهود.

ولكن نبي الإسلام لم يأخذهم بهذه الشُّبَهِ القوية , ودفع بنفسه الدين عن هذا القتيل؛ حفاظاً منه على حرمة النفس, وإشاعة السلام والعدل مع الأعداء.

رابعاً: الإسلام حرم اعتداء الإنسان على نفسه: فلم يقتصر على تحريم الاعتداء على الآخرين، بل حرَّم حتى اعتداء الإنسان على نفسه التي هي أخص ما يملك؛ فلم يجز له الإسلام أن يفسد عقله, أو يدمر صحته, فضلاً عن أن يعتدي عليها بالقتل.

ولذلك جاء الوعيد الشديد في حق من قتل نفسه, قال الله تعالى :[وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا] النساء .

خامساً: أن الإسلام يكفل الحريات ويضبطها: وذلك من أجلى صور السلام؛ فحرية التفكير في الإسلام مكفولة، وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع، والبصر، والفؤاد؛ ليفكر، ويعقل، ويصل إلى الحق، وهو مأمور بالتفكير الجاد السليم، ومسؤول عن إهمال حواسه وتعطيلها، كما أنه مسؤول عن استخدامها فيما يضر.

والإنسان في الإسلام حُرٌّ في بيعه، وشرائه، وتجارته، وتنقلاته، ونحو ذلك ما لم يتعد حدود الله في غش، أو خداع، أو إفساد.

والإنسان في الإسلام حُرٌّ في الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا من: مأكول، أو مشروب، أو مشموم، أو ملبوس، ما لم يرتكب محرماً يعود عليه أو على غيره بالضرر.

ثم إن الإسلام يضبط الحريات؛ فلا يجعلها مطلقة سائمة في مراتع البغي والتعدي على حريات الآخرين؛ فالشهوة على سبيل المثال لو أُطلِقت لاندفع الإنسان وراء شهوته، التي تكون سبباً في هلاكه؛ لأن طاقته محدودة، فإذا استُنفِذت في اللهو والعبث والمجون   لم يبق فيها ما يدفعها إلى الطريق الجاد، ويدلها على مسالك الخير؛ فليس من الحرية  إذاً  أن يسترسل في شهواته وملذاته غير مبالٍ بحلال أو حرام، وغير ناظر في العواقب.

إن نهايته ستكون وخيمة في العاجل قبل الآجل؛ إن ثرواته ستتبدد، وإن قواه ستنهار، وصحته ستزول، وبالتالي سيكون تعيساً محسوراً.

ثم هب أن الإنسان أطلق لشهواته العنان، هل سيجد الراحة والطمأنينة؟

الجواب: لا؛ وإذا أردت الدليل على ذلك فانظر إلى عالمنا المعاصر بحضارته المادية؛ لما أطلق حرية العبث والمجون، ولم يُحسن استخدامها   حدثت القلاقل، والمصائب، والأمراض الجسدية والنفسية، وشاع القتل، والنهب، والسلب، والانتحار، والقلق، وأمراض الشذوذ.

وليست الحرية   أيضاً   بالسير وراء الأطماع التي لا تقف عند حد دونما مبالاة في آثارها على الآخرين؛ فهل يعد من الحرية ما يقوم به الأقوياء من سطو على الضعفاء، واستخفاف بحقوقهم، ومصادرة لآرائهم كما هي حال الدول الكبرى في عالمنا المعاصر؟

الجواب: لا؛ فالحرية الحقة هي ما جاء به الإسلام، وهي الحرية المنضبطة التي تحكم تصرفات الإنسان، والتي يكون فيها الإنسان عبداً لربه وخالقه؛ فذلك سر الحرية الأعظم؛ فالإنسان إذا تعلق بربه خوفاً، وطمعاً، وحباً، ورجاء، وذلاً، وخضوعاً   تحرر من جميع المخلوقين؛ ولم يعد يخاف أحداً غير ربه، ولا يرجو سواه، وذلك عين فلاحه وعزته.

وهذا وسيأتي مزيد بيان لترسيخ الإسلام لمبدأ السلام في الصفحات التالية.


  الإسلام والتسامح

الإسلام  كما هو معلوم  هو الدين الخاتم, وهو رسالة الله الأخيرة للبشرية, فلا غرو أن تكون تلك الرسالة شاملة عامة صالحة لكل زمان, ومكان وأمة  كما مر .

وأحكام الإسلام لم تختص بتعامل المسلمين فيما بينهم , بل هي عامة تُظِل جميع الناس على اختلاف أديانهم؛ ففي شمول الإسلام وعمومه ما يبيِّن كيفيه التعامل مع كافة الطبقات من أهل الإسلام وغيرهم.

وهذا يعنى أن الإسلام دين عملي, واقعي, وليس نظرياتٍ مُغْرِقةً في المثالية التي لا تتلاءم مع واقع الحياة والناس.

والله  عز وجل  خلق الناس, وقرر أن منهم كافراً, ومنهم مؤمناً.

وأمر عز وجل  بدعوة الناس إلى الهدى, ولكن لم يُكَلِّف الداعين بإدخال الناس في الدين الحق [إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ] الشورى: 48 .

ومن هنا فإن سنة الاختلاف بين الناس قائمة, مقررة في القرآن: [وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ] هود.

ولا يعنى ذلك إقرار الباطل , ولا قبول كل المذاهب أو تسويغها, أو الرضا بها, أو ترك الإنكار عليها, وبيان زيغها، ودعوتها إلى الحق.

وإنما المطلوب في ذلك حسن التعامل مع تلك الاختلافات, واتباع هدي الإسلام بالحوار مع المخالف، والأخذ  في الأصل  بمبدأ الرفق واللين؛ فجماع آداب المعاملة في الدين يرجع إلى الدعوة للدين بالحكمة, والموعظة الحسنة, والجدال بالتي هي أحسن في قالب التسامح بقدر الإمكان تسامحاً لا ينتقض شيئاً من عرى الإسلام, ولا يُجرِّؤُ أحداً على حرمته وسلطانه.

فهذا هو مفهوم التعايش الإنساني بين البشر, فكلمة التعايش شائعة في هذا العصر, وهي قريبة من كلمة التسامح التي كانت أشهر وأسْير.

هذا وإن الناظر في نصوص الشرع, وتاريخ المسلمين ليجد أن روح التسامح والإحسان واضحة جلية.

وإليك فيما يلي نبذة عن التسامح الذي هو قريب من التعايش, وعن بعض مظاهره في الشريعة الإسلامية الغراء, وعن بعض تطبيقاته في تاريخ أمة الإسلام:

أولاً: مفهوم التسامح: يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ÷:  (  التسامح في اللغة مصدر سامحه إذا أبدى له السماحة القوية  )

إلى أن قال:  (  وأصل السماحة: السهولة في المخالطة والمعاشرة, وهما لين في الطبع في مظانَّ تكثر في أمثالها الشدة.

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله" قال:  (  رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى  ). أخرجه البخاري.

إلى أن قال ×:  (  وأنا أريد بالتسامح في هذا البحث إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين, وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون في الأديان من المتأخرين في أواخر القرن الماضي أخذاً من الحديث:  (  بعثت بالحنفية السمحة  ) أخرجه أحمد، والطبراني.

فقد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى.

وربما عبروا عنه سالفاً بلفظ:(تَسَاهُل)

وهو مرادف له في اللغة, ولكن الاصطلاح الذى خَصَّ لَفْظَ التسامح بمعنى السماحة الحاصلة تلقاء المخالفين في الدين كان حقيقاً أن يترك مرادفه في أصل معناه؛ فلذلك هجروا لفظ: (التساهل) إذ كان يُؤْذِنُ بقلة تمسك المسلم بدينه؛ فتعيَّن لفظُ التسامح للتعبير عن هذا المعنى.

وهذا لفظ رشيق الدلالة على المعنى المقصود لا ينبغي استبداله بغيره  ).

ثانياً: أهمية البحث في تسامح الإسلام: البحث عن تسامح الاسلام  كما يقول ابن عاشور  من أهم المباحث للناظر في حقائق دين الاسلام؛ فإن كثيراً من العلماء والمفكرين خصوصاً من غير المسلمين لا يتصور معنى سماحة الإسلام حَقَّ تصورها.

وربما اعتقدوا أنها غير موجودة في الإسلام, وربما اعتقد مثبتوها أحوالاً لها تزيد في حقيقتها، أو تنقصها عما كانت عليه.

ولبعض هؤلاء العذر في هذا الخطأ؛ لأنهم قد يشاهدون من أحوال عامة المسلمين في كثير من عصور التاريخ ما يجعلهم يظنون أن ذلك حقيقة دين الإسلام, فيخالفون بذلك صورة الإسلام الحقيقية التي قامت عليها البراهين والشواهد.

على أن بعضاً من المسلمين قد حملهم على تناسي التسامح الإسلامي ما يلاقيهم به بعضُ أهل الملل الأخرى من صلابة المعاملة، وسوء الطوية، وتبييت الشر، وتربص الدوائر، واستغلال ما للمسلمين من تسامح؛ لتحصيل فوائدهم، وإدخال الرزايا على المسلمين مما يبعث المسلمين إلى أخذ الحذر، والمعاملة بالمثل طيلة القرون، حتى أنساهم تسامحهم.

ولكن هذا لهُ مجال آخر؛ فلا يكون ذلك باعثاً على تحريف معنى التسامح.

على أن هذه المعاملة التى لقيها المسلمون في كل العصور في وقت ظهور الدين لم يكن حائلاً بين المسلمين وبين تخلُّقهم بخلق التسامح، واكتساب فضائله مع العلم بما ينالهم من جَرَّائه من متاعب الحذر؛ فإن محاسن الخلال لا يشينها ما قد يضيع بسببها من المنافع، وعلى المتخلق بالفضائل أن لا ينبذها لذلك، ولكن أن يأخذ الحيطة لدفع مكارهها.

ومن جهة أخرى فإنة لا ينبغي للناظر إلى دين الإسلام أن ينطر من زاوية ما يلقاه من أحوال بعض المسلمين في بعض فترات التاريخ, خصوصاً مثل هذه العصور المتأخرة؛ إذ إن من الظلم, وقصور النظر أن تُجْعل حالُ بعضِ المسلمين هي الصور التي تمثل الإسلام؛ فَيُظنَّ أن الإسلام لم يُهذِّب طباع أهله, ولم يرفع عنهم الذلة, والقسوة؛ لذا كان لزاماً على من يريد الحقيقة بعدل وإنصاف أن ينظر إلى دين الإسلام من خلال مصادره الصحيحة من كتاب الله، وسنة رسوله " وما كان عليه سلف الأمة الصالح، وأن ينظر إلى الإسلام من خلال الكتب التي تتحدث عنه بعدل وعلم، فسيتبين له أن الإسلام يدعو إلى إسعاد البشر، وإضفاء السلام والأمن، وإشاعة العدل والإحسان.

أما انحرافات بعض المنتسبين إلى الإسلام  قَلَّتْ أو كثرت  فلا يجوز بحال من الأحوال أن تحسب على الدين، أو أن يعاب بها، بل هو براء منها، وتبعة الانحراف تعود على المنحرفين أنفسهم؛ لأن الإسلام لم يأمرهم بذلك؛ بل نهاهم وزجرهم عن الانحراف عما جاء به.

ثم إن العدل يقتضي بأن يُنظر في حال القائمين بالدين حق القيام، والمنفذين لأوامره وأحكامه في أنفسهم وفي غيرهم؛ فإن ذلك يملأ القلوب إجلالاً ووقاراً لهذا الدين وأهله؛ فالإسلام لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الإرشاد والتهذيب إلا حثَّ عليها، ولا رذيلة أو مفسدة إلا صدَّ عن سبيلها.

وبذلك كان المعظمون لشأنه، المقيمون لشعائره في أعلى طبقة من أدب النفس، وتربيتها على محاسن الشيم، ومكارم الأخلاق، يشهد لهم بذلك القريب والبعيد، والموافق والمخالف.

أما مجرد النظر إلى حال المسلمين المفرِّطين في دينهم، الناكبين عن صراطه المستقيم   فليس من العدل في شيء، بل هو الظلم بعينه.

ثالثاً: أن التسامح في الإسلام وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق: اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.

وهذا التسامح ناشىء من صحة الاعتقاد الذي يأمر صاحبه بكل خير, وينأى به عن كل شر, ويضبط عواطفه, ويجتث من نفسه كافة الرعونات.

ولا ريب أن العقل السالم من الشهوات والشبهات يسوق صاحبه إلى العقائد الحقة, ويكسبه الثقةَ بعقيدته, والأمنَ من أن يزلزلها مخالف.

غير أنه ربما أحس من ضلال مخالفه بإحساس يضيق به صدره, وتمتلئ منه نفسه تعجباً من قلة اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة, وكيف يغيب عنهم ما يبدو له هو واضحاً بيناً؛ فههنا يجيء عملُ مكارم الأخلاق, فيكون من النشأة على مكارم الأخلاق, ومن التأدب بآداب الشرع الحكيم مَعْدلٌ لذلك الحرج, وشارحٌ لذلك الصدر من الضيق؛ فيتدرب بذلك على تلقي مخالفات المخالفين بنفس مطمئنة, وصدر رحب, ولسان طلْق؛ لإقامة الحجة, والهدى إلى المحجة دون ضجر ولا سآمة.

وقد جاءت وصايا الإسلام مثيرةً لهذين الأصلين، وهما أصل الثقة بصحة العقيدة, وأصل مكارم الأخلاق في نفوس أبنائه, فأما إثارة أصل الثقة بصحة العقيدة دون التفات لعقيدة الآخرين فبمثل قول الله  تعالى :[إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ ٧٩ إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ] النمل: 79 80.

وقوله: [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ] المائدة: 105 .

وأما إثارة أصل مكارم الأخلاق فبمثل قوله  تعالى : [فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا] الكهف: 6 .

ومعنى باخع: مهلك.

ولا ريب أن إثارة هذا الأصل تُوَسِّع الصدر, وتوطِّن النفس على احتمال ما يكون من المخالف.

فلذلك يحق لنا أن نقول: إن التسامح من خصائص دين الإسلام، ومن أشهر مميزاته, وإنه من النعم التي أنعم بها على أضداده وأعدائه, وأدلّ حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المُقَرَّرة بقول الله  تعالى :[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء: 107.

رابعاً: أن الإسلام أرْسى القواعد العامة للتسامح: حيث أسَّس الأسس الراسخة, وعَقَد المواثيقَ المتينة, وفصَّل تفصيلاً بَيِّناً بَيْن واجب المسلمين بعضهم بعضاً، وبَيْن حسن المعاملة لأهل الملل الأخرى؛ فالقرآن والسنة يُعلِّمان المسلمين أن الاختلاف  ضروري في جبلَّة البشر؛ فإذا استحضر المرء ذلك، وتخلَّق به صار ينظر إلى الاختلاف نَظَرَه على أنه تفكير جِبِلِّي تتقارب فيه المدارك إصابةً وخطأً، لا نَظَرَهُ إلى الأمر العدواني المثير للغضب.

قال الله  تعالى :[وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ] هود: 118 119 .

وقال: [وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ] الكهف:29 .

وقال: [لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ] الحج:67 .

إلى غير ذلك من الآيات في هذا السياق.

ولا ريب أن ذلك أساسٌ خُلُقيٌّ عظيم, وهو أن يكون المسلم يضع الأشياء مواضعها, ويحكم لها بأوصافها، لا أن يكون مُنْدَفعاً إلى جميع العوارض التي تعرض له.

خامساً: شهادة التاريخ على تسامح المسلمين: فلقد عاش الذميون وغيرهم في كنف الدولة الإسلامية دون أن يتعرض أحد لعقائدهم وديانتهم.

وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لأتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم.

ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقفَ ضعْفٍ من دولة الإسلام, بل كان هذا هو مبدؤها حتى حين كانت في أوج قوتها.

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور× بعد أن قرر تسامح المسلمين مع غيرهم؛ قال:  (  وإن شئت فَلُذْ بشواهد التاريخ في عصور الإسلام الجارية على تعاليمه الحقة، والمنزهة عن الأفن والتحريف تَجِدْ مصداقَ ما ذكرناه.

لقد مازج المسلمون أمماً مختلفة الأديان دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب، ومجوس الفرس، ويعاقبة القبط، وصابئة العراق، ويهود أريحاء, فكانوا مع الجميع على أحسن ما يعامل به العشيرُ عَشيرَه  ).

إلى أن قال:  (  ولم يحفظ التاريخ أمة سَوَّت رعاياها المخالفين لها في دينها برعاياها الأصليين في شأن قوانين العدالة، ونوال حظوظ الحياة بقاعدة: لهم مالنا وعليهم ما علينا مع تخويلهم البقاء على رسومهم وعاداتهم   مثل أمة المسلمين؛ فحقيق هذا الذي نسميه التسامح بأن نسميه العظمةَ الإسلاميةَ؛ لأنا نجد الإسلام حين جعل هذا التسامح من أصول نظامه قد أنبأ على أنه مليء بثقة النفس، وصدق الموقف، وسلامة الطوية، وكل إناء بالذي فيه يرشح, وقد أعرب عن ذلك كله قوله  تعالى : [قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ] يوسف: 108.

فهذا شيء من تسامح المسلمين, وتعايشهم مع غيرهم, وقد مضى بيان لشيء من ذلك في مباحث سابقة.

وسيأتي مزيد بيان لذلك في المبحث التالي, حيث سيتضح أن من سماحة المسلمين أنه لا يكره أحداً على الإسلام , كما سَيُورَد شهادات لغير المسلمين على سماحة الإسلام.


  الإسلام والإكراه

هذا المبحث مكمل لما مضى من المباحث, حيث سيؤكد من خلاله على مدى روح التسامح في دين الإسلام, وعلى نَبْذِهِ للإكراه، وذلك من خلال ما يلي:

أولاً: مفهوم الإكراه: الإكراه في الأصل إلزام شخص بأمر وهو كاره له.

وفي الاصطلاح: هو كل ما أدى بشخص لو لم يفعل المأمورَ به إلى ضرب, أو حبس, أو قطعِ رزقٍ يستحقه، أو نحو ذلك.

ثانياً: موقف الإسلام من المخالفين: لا يوجد هناك ديانة من الديانات فَصَّلت في أحكام المخالفين لها  حقوقاً وواجبات  كما هو الحال بالنسبه للشريعة الإسلامية، وقد مر شيء من ذلك فيما سبق, بل لقد ألف بعض علماء الإسلام في ذلك, كما في صنيع ابن القيم× في كتابه العظيم (أحكام أهل الذمة).

ولذا يرى بعض الباحثين الغربيين في مجال حقوق الإنسان أن عهد الذمة التي كان يعقدها نبي الإسلام" كانت أول ميثاق في حرية الاعتقاد.

ثالثاً: انتفاء الإكراه على دخول الإسلام:  الأصل في دين الإسلام أن لا يُكْرِه أحداً على الدخول فيه.

وهذا الأمر ظاهر البيان في نصوص القرآن الكريم, والسنة النبوية, وعليه سار المسلمون في تعاملهم مع الشعوب.

فالإكراه على الدين والعقيدة منتفٍ من عدة جهات:

الأولى: أن من آمن مُكرهاً لا ينفعه إيمانه؛ إذ لابد أن يكون الإيمان عن قناعة ويقين، واعتقادٍ صادق, واطمئنانِ قلب.

قال ابن تيمية×:  (  ولهذا لم يكن عندنا نزاع في أن الأقوال لا يثبت حكمها في حق المكره بغير حق؛ فلا يصح كُفْرُ المكره بغير حق, ولا إيمان المكره بغير حق  ).

الثانية: أن وظيفة الرسل وأتباعهم من بعدهم إنما هي البلاغ, وإيصال الحق الى الناس.

قال الله  تعالى  لرسوله":[إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ] الشورى: 48 .

وقال : [قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِر] ص: 65 .

فالمهمة الـمُناطة بهم  إذاً  إنما هي الدعوة والبلاغ, والمناصحة, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وهي ما يعرف بهداية الدلالة والإرشاد.

أما هداية التوفيق والإلهام, وإدخال الإيمان في القلوب فهي لله وحده.

وهذا ما يؤكد جانباً من جوانب الحرية, ألا وهو تَحَرُّرُ الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه؛ فالعلاقة  في الإسلام  مباشرة بين الإنسان  وربه من غير واسطة من أحد مهما كانت منزلته.

الثالثة: واقع غير المسلمين في بلاد المسلمين, وقد مر الإشارة إلى ذلك في المبحث الماضي

الرابعة: شهادات غير المسلمين في ذلك, وستأتي الإشارة إليها.

الخامسة: أن المسلم إذا تزوج كتابية فإنه لا يلزمها بالتخلي عن دينها والدخولِ في الإسلام، بل لها الحق الكامل بالبقاء على ديانتها مع حفظ كامل حقوقها.

رابعاً: أشهر النصوص في انتفاء الإكراه عن الإسلام: لعل أشهر النصوص من الكتاب والسنة في أن الإسلام لا يجبر أحداً على الدخول فيه كما قال الله  تعالى : [لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ] البقرة: 256 .

قال ابن كثير× في تفسير هذه الآية:  (  أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه واضح جَليةٌ دلائلُه وبراهينه, لا يحتاج إلى أن يُكْرَهَ أحَدٌ على الدخول فيه.

بل من هداه الله للإسلام , وشرح صدره, ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة.

ومن أعمى الله قلبه, وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول مكرهاً مقسوراً  ).

كما يُظْهر القرآن صورة أخرى في المعاملة الحسنة مع المخالفين في قوله  تعالى : [لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ] الممتحنة.

فالآية تشهد بطريق واضح أن هؤلاء بقوا مع المسلمين مع احتفاظهم بدينهم المخالف للإسلام, ولم يمنع الإسلام من الإحسان في معاملتهم.

ونجد مبدأ الحرية في الديانة مقرراً في قوله تعالى : [وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ] الكهف: 29 .

والمراد ههنا دعوة الناس، ولا يلزم من ذلك أن كلَّ من دُعي إلى الإسلام والهدى أنه سيجيب, وإن كان الواجب عليهم أن يكونوا مسلمين جميعاً.

خامساً: شهادة غير المسلمين على تسامح المسلمين: هناك الكثير من الشهادات التى تجلي تسامح المسلمين, وعدلهم، بل الإحسان للمخالفين لهم في الدين.

وأكثر هذه الشهادات من المنصفين, وبعضها ممن يسمون برجال الدين المسيحيين, بل إن بعضها ممن يتسمون بالحقد والجهل على الإسلام.

وفيما يلي شيء من تلك الشهادات:

1  تقول دائرة المعارف الكتابية  والتي كتبها جماعة من المختصين في شأن اللاهوت والكتاب المقدس  عن الحالة الدينية، وما ناله المسيحيون في مصر إبَّان الفتح الإسلامي؛ من معاملة عادلة:   (  وحظي اليهود والأقباط من العرب أفضل من معاملة الرومان، أو رجال الكنيسة اليونانية.

وبعد الفتح العربي استراحت الكنيسة من الاضطهاد، فازدهرت، وربحت كثيراً من النفوس حتى بين غير المسيحيين  ).

2  وهذا المطران ميشيل يتيم يتحدث عن الفتح الإسلامي لمنطقة الشام والعراق, والتي كان معظم سكانها من المسيحيين؛ فيقول:  (  ولما استتب الأمر للعرب بعد السنوات الأولى من الفتوحات اضطر الخلفاء والحكام إلى إصدار أحكام واضحة تحدد موقف المسلمين من النصارى, وتنظم أوضاعهم الدينية والسياسية والاجتماعية.

لقد اتصفت هذه العهود بالسماحة ورحابة الصدر, فسمحت لمن يشاء من السكان والرهبان والموظفين بالهجرة إلى الأراضي البيزنطية, فغادر الدولة الإسلامية عدد وافر، وحافظ الباقون على كنائسهم, وأموالهم، وحريتهم الدينية, وشرائعهم الخاصة بقيادة أساقفتهم  ).

ثم ذكر بعض الواجبات المترتبة عليهم إزاء ذلك.

3  وهذا جولدزيهر وهو المستشرق المعروف بطعنه في عدد من الشرائع الإسلامية نجده لا يخفي إعجابه, حيث يقول:  (  وروح التسامح في الإسلام قديماً, تلك الروح التى اعترف بها المسيحيون المعاصرون أيضاً, كان لها أصلها في القرآن: [لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ] البقرة: 256 .

وقد جاءت الأخبار عن السنين العشر الأولى للإسلام بمُثُل للتسامح الديني للخلفاء إزاء الأديان القديمة, وكثيراً ما كانوا يوصون في وصاياهم للفاتحين بالتعاليم الحكيمة  ).

4  وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه:  (  فما يدَّعيه بعضهم من اتهامهم  أي المسلمين  بالتعصب والوحشية إن هو إلا مجرد أسطورة من نسج الخيال تكذبها آلاف من الأدلة القاطعة في تسامحهم، وإنسانيتهم في معاملاتهم مع الشعوب المغلوبة.

التاريخ لا يقدم لنا في صفحاته الطوال إلا عدداً ضئيلاً من الشعوب التي عاملت خصومها والمخالفين لها في العقيدة بمثل ما فعل العرب, وكان لمسلكهم هذا أطيب الأثر, مما أتاح للحضارة العربية أن تتغلغل بين تلك الشعوب بنجاح لم تحظ به الحضارة الإغريقية ببريقها الزائف, ولا الحضارة الرومانية بعنفها وفرض إرادتها بالقوة  ).

5  ويقول المستشرق الإنجليزي توماس آر نولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام:  (  لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح  ).

6  ويقول  أيضاً :  (  لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي  ).

فهذا فيض من غيض من الشهادات التي تبين ما كان عليه المسلمون من التسامح.


  موقف الإسلام من العنف

لقد جاء الإسلام بنبذ العنف, والتحذير منه, وبيان سوء عاقبته.

كما جاء بالحث على لزوم الرفق, والأخذ به, والترغيب فيه.

والنصوص من الكتاب والسنة حافلة بذلك إما تصريحاً, أو إشارة, أو أمراً بلزوم الرفق, أو نهياً عن العنف, أو بياناً في فضل الرفق وذم العنف، وذلك في شتى الشؤون سواء بالدعوة إلى الله، أو الدعوة إلى التغيير والإصلاح، أو في الأمور الخاصة، أو العامة.

قال الله  تعالى  في خطاب هارون وموسى  عليهما السلام  :[ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٤٣ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ] طه .

ولقِّن موسى  عليه السلام  من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال  تعالى :[فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ] النازعات.

قال ابن القيم ×:  (  وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: [هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ]النازعات.

فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال: [إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ]ولم يقل:  (  إلى أن أزكيك  ).

فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.

ثم قال:[ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ] أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.

وقال: [إِلَىٰ رَبِّكَ] استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً  ).

ولهذا فإن المحاورة التي تُلقى في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.

ولقد امتن ربنا  جل وعلا  على نبينا محمد " بأن جبله على الرفق، ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال  عز وجل : [فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ] آل عمران: 159.

ولقد كانت سيرته  عليه الصلاة والسلام  في الحوار وغيره حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.

وكما كان  عليه الصلاة والسلام  متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به ويبين فضله.

قال":  (  إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره  ). رواه مسلم.

وقال  عليه الصلاة والسلام :  (  إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه  ). رواه مسلم.

ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن قال لهما:  (  يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا  ). متفق عليه.

هذا وإن الأمثلة على ذلك الخلق من سيرة النبي" كثيرة جدًّا، ومنها ما جاء في الصحيحين أن رجلاً أتى النبي" يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فهمَّ به أصحابه، فقال:  (  دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً  ). متفق عليه.

وجاء في الصحيحين أن رهطاً من اليهود دخلوا عليه وقالوا:  (  السام عليكم  ) محرفين كلمة (السلام) إلى (السام) والسام الموت، فلم يزد رسول الله على أن قال:  (  وعليكم  ).

ولما ردَّت عليهم أم المؤمنين عائشة  رضي الله عنها  بقولها:  (  وعليكم السام واللعنة  ) قال لها:  (  مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق بالأمر كله  ). متفق عليه.

وجاء في صحيح البخاري أن عائشة  رضي الله عنها  تصفُ رسول الله فتقول:  (  والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط؛ حتى تنتهك حرمات الله؛ فينتقم لله  ). رواه البخاري.

وإذا تقصَّيتَ سيرته بحثاً وتنقيباً، وجدت مُصَدَّقه لما وصفته به أم المؤمنين من الرفق والحلم، فما عاقب  عليه الصلاة والسلام  أحداً مسه بأذى، ولا اضطغن على أحد أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالحسنى، والغلظة بالرفق إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في سبيل الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً.

فالرفق واللين  إذاً  هو المتعين، وهو الأليق، وهو الأصل في أحوال النبي".

ومع ذلك فقد يُحْتَاج إلى الحزم، وذلك في حالات خاصة، ومن أناس مخصوصين، وفي حق من يستحق ذلك؛ فإذا كان الإنسان ذا مكانة، وكان المقام يقتضي الحزم، ولم يترتب على ذلك مفسدة أكبر  أُخِذ بهذا الأسلوب.

ولهذا كان موسى  عليه السلام  متلطفاً مع فرعون غاية التلطف في بداية الأمر  كما مر قريباً  وعندما رأى من فرعون العناد والاستكبار ومحاولة الصد عن الهدى من بعد ما تبين له   أغلظ له في الخطاب كما في قوله  تعالى : [وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا] الإسراء: 102.

فأين هذا الخطاب من الخطاب الأول؟

وكما في قوله   تعالى : [وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ] العنكبوت:46.

وكما قال إبراهيم  عليه السلام  لقومه: [أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ]  الأنبياء:67.

وكان النبي " يأخذ بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه.

ومن ذلك ما جاء في الصحيحين في قصة المرأة المخزومية التي سرقت، فعن عائشة  رضي الله عنها  أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت؛ فقالوا: ومن يكلم رسول الله "، ومن يتجرأ عليه إلا أسامة حب رسول الله ".

فكلم رسول الله " فقال:  (  أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟  ).

ثم قام فخطب، قال:  (  يا أيها الناس! إنما أضل من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها  ). متفق عليه.

ولقد بوب البخاري في كتاب الأدب من صحيحه باباً سماه:  (  باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله  ).

ثم ساق تحته خمسة أحاديث.

وخلاصة القول أنَّ الرفق هو الأصل، وهو الأليق ما لم تدع الحاجة إلى الحزم، وأنَّ الحزم قد لا يلائم كل أحد، خصوصاً ممن ليس له قَدْرُ سنٍّ، أو علم، أو منزلة، أو قبول عند الناس.

ولعل السبب في تنويع النبي" أنه كان يراعي أحوال الناس من حيث الشدة والرفق؛ فهو يستعمل الرفق في الأصل، ومع الجاهلين، أو الصغار، أو حديثي العهد بالإسلام، أو في غير ذلك من الأحوال والمصالح التي يحسن فيها الرفق.

ويستخدم الشدة أحياناً مع من صدر منهم ما لا يليق بهم ذلك؛ لطول صحبتهم، أو لعلمهم، وورعهم، وتقواهم.

كما كان يستعمل الشدة مع المعاندين والمتكبرين، والمستهزئين، والمستخفين بالدعوة؛ فاستعمال الرفق في موضعه حكمة، كما أن استعمال الشدة في مكانها  حكمة.

هذا وإن السيرة النبوية حافلة بنماذج كثيرة من رفق النبي" بالمخالفين من سائر الطبقات، وإليك هذين المثالين في هذا الشأن:

المثال الأول: جاء في الصحيحين عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول:  (  بعث رسول الله خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله" فقال:  (  ماذا عندك يا ثمامة؟  ).

فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تُعطَ منه ما شئت.

فتركه رسول الله" حتى كان بعد الغد، فقال:  (  ما عندك يا ثمامة؟  ).

قال: ما قلت، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ما شئت.

فتركه رسول الله" حتى كان من الغد، ثم قال:  (  ماذا عندك يا ثمامة؟  ).

فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت.

فقال رسول الله":  (  أطلقوا ثمامة  ) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلِّها إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟

فبشره رسول الله" وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله"، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله "  ). متفق عليه.

فانظر إلى هذا الحلم، والصبر، وطول النفس؛ حيث أمهله النبي" ثلاثة أيام وهو يقول له:  (  ماذا عندك يا ثمامة  ).

ولما أحس منه العِزَّة، وأدرك  بذوقه المرهف  أنه سيد لا يقبل الضيم صفح عنه، وأطلق سراحه بعد حوار دام ثلاثة أيام.

فما كان من ذلك السيد إلا أن دخل في الإسلام عن طواعية، وصار في قبيل أهله بفضل ذلك الحوار الراقي، وذلك الرفق، والحلم، والصبر، وطول النفس.

يقول النووي×:  (  قوله: وما عندك يا ثمامة؟  ) وكرر ذلك ثلاثة أيام   هذا من تأليف القلوب، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير  ).

المثال الثاني: جاء في صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله" قال:  (  كنت قائماً عند رسول الله" فجاء حبر من اليهود، فقال: السلام عليكم يا محمد؛ فدفعته دفعةً كاد يصرع منها، فقال: لِمَ تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله":  (  إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي  ).

فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله":  (  أينفعك شيء إن حدثتك؟  ).

قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله"بعود معه، فقال:  (  سل  ) فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

فقال رسول الله ":  (  هم في الظلمة دون الجسر  ) قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال:  (  فقراء المهاجرين  ).

قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟

قال:  (  زيادة كبد النون  ).

قال: فما غذاؤهم على إثرها؟

قال:  (  ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها  ).

قال: فما شرابهم عليه؟ قال:  (  من عين فيها تسمى سلسبيلاً  ) قال: صدقت.

قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل، أو رجلان، قال:  (  أينفعك إن حدثتك؟  ) قال: أسمع بأذني.

قال: جئت أسألك عن الولد، قال:  (  ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأةِ أَذْكَرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأةِ منيَّ الرجل آنثا بإذن الله  ).

قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف، فذهب.

فقال رسول الله ":  (  لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به  ). رواه مسلم.

فالنبي  عليه الصلاة والسلام  كان يُلْزِم أهل الكتاب بما في كتبهم من العلم، وينعى عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم، وكانوا؛ لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة تشتمل على شيء من الدقة والمعرفة وإن كانوا ضالين.

والحبر اليهودي في هذا الحديث حاور النبي" ودار في خلده أن النبي" لن يستطيع الإجابة عن أسئلته، غير أن ظنه لم يكن في محله؛ حيث أجابه النبي" عن تلك الأسئلة.

كما أن في ذلك الحوار أدباً نبوياً عالياً، ألا وهو التواضع الجم، والرفق بالمخالف؛ فالنبي" تواضع لهذا اليهودي، وتنزل في محاورته؛ حيث وافقه، ورضي منه بأن يناديه باسمه المجرد دون أن يعترف له بالرسالة؛ طمعاً في هدايته.

كما أن فيه أدباً آخر من آداب الحوار ألا وهو ترك التحاور فيما لا ينفع؛ حيث سأل النبيُّ" الحبرَ عن مدى نفع جوابه له، فقال:  (  أينفعك إن حدثتك؟  ).

ولهذا آتى الحوار ثمرته، وانقطع اليهودي، وأقر بالنبوة للنبي".


  الجهاد في الإسلام

الحديث عن الجهاد في الإسلام يطول، والمقام لا يسمح بالتفصيل، وإنما سيدور حول بعض المسائل التي تعطي صورة عامة عن مفهوم الجهاد، وإيضاح شيء من مقاصده، وعن بعض ما جاء في السيرة النبوية في شأنه، وعن أدب الحرب في الإسلام، وعن أمثلة من أخلاق المسلمين في الجهاد؛ فإلى بيان ذلك من خلال المطالب التالية:

 أولاً: مفهوم الجهاد

1  حقيقة الجهاد: يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي×:  (  حقيقة الجهاد هو الجد والاجتهاد في كل أمر يقوي المسلمين، ويصلحهم، ويلم شعثهم، ويضم متفرقهم، ويدفع عنهم عدوان الأعداء أو يخففه بكل طريقة ووسيلة  ).

2  أقسام الجهاد في الإسلام: يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي×:  (  الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم، وجميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية والعملية.

وهذا النوع هو أصل الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين من الكفار والملحدين وجميع أعداء الدين، ومقاومتهم.

وهذان نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان.

هذا مجمل أنواعه على وجه التأصيل  ).

ثم شرع في بيان أنواع الجهاد على وجه التفصيل، فذكر أنواعاً كثيرة متعددة من الجهاد، فذكر منها: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة، واتفاق الكلمة، ووجوب الاستعداد للأعداء بكل قوة، وأخذ الحذر منهم، وأن الوجوب يتعلق بالقدرة والاستطاعة.

وذكر أَنَّ معرفة أحوال الأمم وَدَرْسَها، ومعرفة سياساتها داخل في الجهاد، وأن القيام بالقسط والوفاء بالعهود والمعاقدات، وربط الصداقات، وعقد المعاهدات بين الحكومات الإسلامية من الجهاد في سبيل الله.

وذكر أن الاعتناء بالتربية والتعليم من أصول الجهاد، وأنَّ من الجهاد رعايةَ الأمانة، وتخيُّرَ الأكفاء من الرجال في الولايات والأعمال، وأَنَّ شرح محاسن الدين الإسلامي من أعظم الجهاد إلى غير ذلك مما ذكره، وفصَّل القول فيه.

وبهذا يتضح لنا شيء من سعة مفهوم الجهاد في الإسلام، وأنه ليس مقتصراً على القتال والحرب، وإنما هو أعم وأشمل من ذلك.

3  الإسلام دين القوة: والقوة أمر محمود في كل شيء، وهي صفة تتعلق بها النفس البشرية وتحبها، والإنسان حينما يأخذ أموره بحزم، وينجز أعماله ويدير شؤونه بقوة فإنه منجز ما يريد سواء في ذلك القوة الفكرية أو القوة العلمية أو القوة المادية.

فالبدن القوي، والرأي القوي والشخصية القوية كلها صفات مستحبة.

ومعلوم أن وجه الاستحباب والاستحسان لا يكون محموداً إلا إذا كان في طرق الخير، ووجوه المنفعة للنفس والناس أجمعين.

والدولة لا تحفظ مهابتها وتقرُّ بها أعين حلفائها إلا إذا كانت القوة سمة ملازمة لها.

وهذه سنة إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة؛ فلا خير في حق لا نفاذ له، ولا يقوم حق ما لم تسانده قوة تحفظه، وتحيط به.

وما فتئت أمم الدنيا ودولها تعد لنفسها القوة بمختلف الأساليب والأنواع حسب ظروف الزمان والمكان، وعصرنا الحاضر تَفَتَّقت أذهان أبنائه عن أنواع من القوى وأساليب من الاستعداد فاقت كل تصور، فهذه مقدمة في القوة وأهميتها.

ومقدمة أخرى تتعلق بطبيعة الإسلام وأهله، أما الإسلام فيخطئ كثير من غير المسلمين حين يظنون أن الإسلام ملة مقصورة على مجموعة من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية مما يجعل الإسلام في مفهومهم لا يعدو أن يكون مسألة شخصية يختار الإنسان لنفسه ما شاء من عقيدة وديانة يعبد ربه بأي طريقة رضيها لنفسه، لا يعدو الأمر عندهم غير ذلك.

ولكن الإسلام في معناه ومرماه غير ذلك، فهو اعتقاد صحيح في القلب إيماناً بالله إلهاً و احداً لا يستحق العبادة سواه، موصوفاً بصفات الكمال، منزهاً عن كل عيب ونقص.

وهو إلى جانب ذلك شريعة حاكمة شاملة لكل ما يحتاجه الإنسان في نفسه ومجتمعه، في سلمه وحربه، في تعامله مع أهله، والقريب والبعيد، والعدو والصديق في شرائع وأحكام وآداب تشمل النظم السياسية، والاجتماعية، والخلقية، والاقتصادية، وسائر شؤون الدنيا.

وأما أهل الإسلام فليسوا أمة على المعنى المصطلح عندهم، والذي يعني طائفة من الناس توافقت فيما بينها، وتألفت في خصائص معينة.

ولكن أمة الإسلام تضم كل من اعتنق الدين من أي جنس أو لون أو قطر في الشرق وفي الغرب.

وانطلاقاً من هذا الإيضاح يتبين أن الإسلام ليس بتلك النحلة الضيقة، وأهل الإسلام ليسوا بتلك الأمة المنزوية على نفسها.

وبناءً عليه فإن الجهاد في الإسلام مشروع لنشر الحق، وليدخل الناس في الإسلام كافة.

وفي هذا الصدد يحسن التنبيه إلى أن المصطلح الإسلامي هو  (  الجهاد  ) وليس الحرب أو القتال، وإنما مفهومه أشمل وأعم  كما مر .

إن لفظ الحرب  غالباً  ما يراد به القتال الذي يشب لهيبه، وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية، وأغراض ذاتية، وأهداف مادية.

والقتال المشروع في الإسلام ليس من هذا القبيل، وليس لهذه الأغراض، ولا لتلك الأهداف.

4  معنى كون الجهاد في سبيل الله: بعد ما سبق إيضاحه من معنى الجهاد وحقيقته، و سر اختيار هذه الكلمة، لا بد من التنبيه على كلمة لصيقة بها في المصطلح الإسلامي ألا وهي عبارة  (  في سبيل الله  ).

إنها تحدد بجلاء المقصود من هذه القوة الإسلامية، إنه شرط لا ينفك عنه أبداً بل لو انفك عنه لبطل المصطلح، ولفسد الأمر، واضمحل الهدف.

إن معنى  (  في سبيل الله  ) أن كل عمل يقوم به المسلم يقصد به وجه الله، ثم المصالح العامة، وسعادة الأمة؛ فهو في سبيل الله  كما مر  فإنفاق المال في وجوه الخير والبر إذا قصد به المنفق منافع دنيوية، أو ثناء الناس فهو ليس في سبيل الله، حتى ولو دفعه إلى مسكين معوز.

 (  في سبيل الله  ) مصطلح يطلق على الأعمال التي تؤدى خالصة لوجه الله من غير أن يشوبها شيء من شوائب الأهواء والشهوات.

والجهاد ما قُيِّد بهذا القيد إلا للدلالة على هذا المعنى؛ فالجهاد الإسلامي الحق لا بد أن يكون مجرداً من كل غرض، مبرأً من كل هوى، أو نزعات شخصية، لا يُقْصَد به إلا تأسيس نظام عادل يقوم عليه الناس بالقسط؛ فينشر الحق، وينصر العدل.

يقول الله  عز وجل : [ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ] النساء: 76 .

وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري÷ قال: جاء رجل إلى النبي" فقال: يارسول الله؛ ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه.

قال وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائماً، فقال:  (  من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله  ). متفق عليه.

والقرآن والسنة مملوءان ببيان هذا المعنى، وتأكيده، وضرورة التزامه.

 ثانياً: نظرة في الجهاد من خلال السيرة النبوية

من ذا يجهل أن محمداً" قد أفاض على العالم حكمة وهداية وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد حرصاً على صحته وسلامته.

ومن تقصى السيرة النبوية وجد فيها ما يصدق قول عائشة  رضي الله عنها :  (  ما انتقم رسول الله " لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله  ). متفق عليه.

فمحمد  عليه الصلاة والسلام  لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وبسط أنوار التوحيد، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.

فما الذي كان يريده المفترون على نبينا محمد " أن يفعل بعد ما ألح عليه العدوان هكذا, حتى كاد يأتي عليه؟!.

إن الدنيا لَتَعرف كيف تَكتَّلَ الكفار ضده في شعب أبي طالب ذلك الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المشهور الذي أنزل بمحمد وصحبه وبعض قرابته من الضُّر ما آذاهم حتى أكل بعضهم يوماً من الجوع أوراق الشجر.

ولولا أن الله عَطَّف عليه قلوبَ بعض الكرام لبلغ الكفار مرادهم، مما أكره الرسول"على الإذن لصحبه بالهجرة الكبرى إلى المدينة.

ثم أدركهم بعدها صبيحة الليلة التي جمع الكفارُ فيها من كل قبيلة فتىً، وقرروا أن ينُهْوا حياته بالسيف؛ حتى يضيع في القبائل دمه، وما تقوى على حربهم قريش.

فأي صبر كانوا ينتظرون من الرسول " فوق هذا الصبر؟ وكيف تكون الموادعةُ بعد هذا سبيلَ التفاهمِ من أناس رفعوا عليه السيف, ولم يَحْمِهِ منه أحدٌ غيرُ رعايةِ الله له؟!

إن صبر محمد " على قومه حتى هذا المدى لَهُوَ آيةٌ من الآيات على عظمة التسامح والمسالمة عند محمد، وإرخائه العِنان لقوم لم يكونوا يستحقون سوى الكبريت والحطب.

لقد سَالَمَ محمدٌ المشركين , وجاوز حدود الصبر, فما أجدت المسالمة, ولا أفاد الصَّبرُ, وأصبح الاستمرار عليهما مما لا يتفق ومنطقَ الحياة, ومما لا يتفق  كذلك  ومنطقَ النبي الذي جاء قوياً كفرسان العرب, عظيماً في حسبه ونسبه وفضائله, والذي جاء قبل هذا ليكون رسولَ حياةٍ يخاطب أهلها بما يفهمون.

إنْ لقيه الناس بالإحسان فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وإن كانت الأخرى فَدِيْنُ محمدٍ فيه ترياقُ السموم، وقرعُ الحديد بالفولاذ.

ومن عَجَبٍ أن ما اتخذه محمد  صلوات الله عليه  سلوكاً لنفسه، وطريقاً لحماية دعوته منذ القرون الطوال هو نفسه الطريق الذي آثرته البشرية دون غيره لضمان البقاء.

ولو خضع الناس للبغي، وأداروا خدودهم اليسرى لمن يصفعهم على اليمنى لما قام على وجه الدنيا أحدٌ في وجه ظالم, ولعاش الطغاة أعمارهم محفوفين بالإجلال والإعظام.

ولو قال أصحاب محمد"مقالة أصحاب موسى: [فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ] (المائدة: 24) لما قُدِّرَ للحياة أن تفيد من أسرار هذا الدين العظيم الذي لا يوجد لمشكلات عالم اليوم من حلول أفضل مما فرضها لها دين محمد "!

وإذا جنح  عليه الصلاة والسلام  إلى خيار الحرب؛ فهل يعني ذلك أن يتجرد من الرحمة، ويكون هدفُه الأولُ والأخير سفكَ الدماءِ دون مراعاة لعهد أو حرمة؟

هذا ما سيتبين خلال المسألة التالية.

 ثالثاً: آداب الحرب في الإسلام

إن الحرب في الإسلام لها آداب، وأحكام محفوفة بالرفق، والرحمة.

فمن الرفق الذي أقام عليه الإسلام سياسته الحربية أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والزَّمِن.

ومن الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى، والزَّمِن ولو كانا ذوي رأي في الحرب وتدبير.

ولا يجوز قتلُ النساءِ وإن استعملن لحراسة الحصون أو رمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله  تعالى : [وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ] (البقرة:190) فجعل القتال في مقابلة القتال.

ونبه النبي"على أن من لا يقاتل لا يقتل، حين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة؛ فأنكر ذلك، وقال:  (  ما كانت هذه لتقاتل  )!. أخرجه أبو داود، وابن حبان.

وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكف عن قتالهم، إلا أن يَتَّخِذوا ذلك ذريعة للنصر علينا، ونخشى أن تكون دائرة السوء على جندنا.

ولا يجيز الإسلامُ التمثيلَ بالمحارب، قال":  (  ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً  ). رواه مسلم.

ويمنع من حمل الرؤوس من بلد إلى بلد، أو حملها إلى الولاة، وقد أنكر أبوبكر الصديق÷هذا؛ فقد روى البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني أن عمرو ابن العاص، وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريداً إلى أبي بكر الصدِّيق÷برأس يناق بطريق الشام؛ فلما قدم على أبي بكر أنكر ذلك، فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله فإنهم يصنعون ذلك بنا.

قال أبو بكر: تأسِّياً أو استناناً بفارس والروم؟

لا يحمل إليّ برأس، وإنما يكفي الكتاب والخبر.

وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي"كان ينهى عن المُثْلة.

والمثلة: تعذيب المقتول بقطع أعضائه، وتشويه خلقه قبل أن يُقتل أو بعده، وذلك كأن يجدع أنفُه، أو تصلم أذنُه، أو تفقأ عينُه، وما أشبه ذلك من أعضائه.

ولم يشرعِ الإسلامُ للأسير حكماً واحداً، بل جعل أمره موكولاً إلى الأمير الذي يقدر مصلحة الحرب، وله أن يخلي سبيله بفداء، أو بغير فداء.

ومن أدب الحرب في الإسلام الوفاءُ بتأمين المحارب؛ فإذا أعطى أحدُ الجند الأمان لأحد المحاربين   وجب احترام هذا التأمين، ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى.

وإلى هذا يشير قوله  صلوات الله عليه :  (  ويسعى بذمتهم أدناهم  ). أخرجه الحاكم، وأبو داود.

وقد أمضى النبي"تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين، وقال لها:  (  قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ  ). متفق عليه.

وحدث في عهد عمر بن الخطاب أن عبداً أَمَّن أهل بلد بالعراق، فكتب قائد الجيش وهو أبو عبيدة إلى عمر يأخذ رأيه في هذا التأمين، فكتب إليه عمر:  (  إن الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا؛ فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم  ).

ومن آداب الحرب في الإسلام، ومما يُجَلِّي معنى الرفق والرحمة مجاملةُ رسل العدو، وترك التعرض لهم بأذى؛ فقد يأتي رسول العدو في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فمن حسن الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.

ومكارم الأخلاق تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذىً ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.

وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.

قدم أبو رافع بكتاب من قريش إلى رسول الله" فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني  والله  لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله":  (  أما أني لا أخيس  بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع  ).

قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله"، وأسلمت. أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم.

هذه نبذة من آداب الحرب في الإسلام، تلك الآداب التي غَيَّرت نظرةَ الناس للحرب؛ إذ كانت نظرتهم تعني أن مبدأ الشفقة مناقض للحرب التي تعني الكُلوحَ، والعبوس، والقسوة بكل حال.

وبخاصة ما نراه اليوم من حروب هذا العصر التي تأكل الأخضر واليابس، وتتسم بالوحشية، ولا تعرف الرحمة لا في أثنائها، ولا بعد نهايتها.

غير أن الناظر في تاريخنا المجيد، وسيرة نبينا الأعظم يجد هذا المعنى لائحاً واضحاً  كما مر  ويراه  كذلك  بعد نصره"، وتمكنه من الأعداء الذين ناصبوه العداوة، ولم يَدَعوا طريقاً في سبيل إيذائه إلا وسلكوه.

وإذا أردت مثالاً يثبت فؤادك فانظر إلى ما كان منه  عليه الصلاة والسلام  يوم فتح مكة الذي حصل بعد صراع مرير، وبعد أن فعلت قريشٌ بالنبي" وأصحابه ما فعلوا.

فعندما انتصر عليهم، وأحاط بهم إحاطة السِّوار بالمِعْصم، وظنت قريش الظنـون؛ لعلمهـم بسـوء صنيعهم السابق، وحسبوا أنه سيدخل مكة دخول الجبابرة والطغاة مزهوًّا منتقماً   فاجأهم بأن جاء متواضعاً متخشعاً لربه، غير مَزْهوٍّ بنصره، ولا شامت بأعدائه.

وعندما رأى قريشاً وهم يتوقعون الإجهاز عليهم، ورأى جموع الصحابة وهم ينتظرون أدنى إشارة منه أشار النبي"حتى يبيدوا خضراء قريش   قال النبي  عليه الصلاة والسلام  مخاطباً قريشاً:  (  ما تظنون أني فاعل بكم  )؟

قالوا: أخ كريم وابن أخٍ كريم.

قال:  (  فاذهبوا فأنتم الطلقاء  ).

ولقد كان لتحلِّي المسلمين بأدب الحرب من الرحمة والسماحة أثر بالغ في نفوس كثير من أعدائهم؛ حيث أعجبوا بدين الإسلام، ونبيِّه، ورحمةِ أهله، وحسنِ معاملتهم.

بل لقد وجدوا عدلاً ورحمة لم يجدوها عند بني ملتهم، مما حدا بكثير منهم إلى الدخول في الإسلامِ، والحوادثُ في هذا السياق لا تكاد تحصى.

 رابعاً: أمثلة على أخلاق المسلمين في الجهاد

من الأمثلة على أخلاق المسلمين في الجهاد أن كثيراً من زعماء الصليبيين، وكثيراً من عامتهم الذين قطعوا الأرض لقطع رقاب المسلمين   ارتَموا في أحضان الدعوة الإسلامية التي غامروا كل مغامراتهم للقضاء عليها منذ أول تعارف؛ ذلك هو أعجبُ آثارِ التسامح!

 (   فقد أسلم في الحرب الصليبية الأولى ممن أسلم (رينود) أمير طوائف الجرمان واللمبارديين، وأسلم معه خلق كثير منهم.

وأسلم في الحرب الصليبية الثانية خلقٌ كثيرٌ، كما يروي السير توماس عن راهب من رهبان سنت دنيس كان قسيساً في المعبد الخصوصي للملك لويس السابع، ورافقه في هذه الغزوة طائفة كبيرة، وإليكم ما يقوله الراهب في عبارة شائقة:

 (  وفي طريق الصليبيين إلى المقدس، عبر جبال الأناضول التقوا بجيش المسلمين، فهُزِم الصليبيون شرَّ هزيمة.

وكان في الممرِّ الجبلي (فريجيا) وذلك سنة 1148م، ولم يصلوا إلى مرسى (أضاليا) إلا بشقِّ الأنفس، ومنها استطاع القادرون بعد تلبية طلبات التجار اليونانيين الباهظة أن يرحلوا إلى أنطاكية بحراً، وقد دفعوا مبالغ طائلة، وتركوا خلفهم الجرحى، والمرضى، والحجاج، فدفع كذلك لويس خمسمائة مارك لليونانيين على أن يُعْنَوْا بهؤلاء الضعفاء حتى يُشْفَوا، وعلى أن يرافقهم حرسُ اليونان حتى يلحقوا بمن سبقهم، فما كان من اليونان الغادرين إلا أن تربصوا حتى تباعد جيش الصليبيين، واتصلوا بالمسلمين الأتراك، وأخبروهم بما عليه الحجاج والجرحى، ممن تخلفوا من الوهن والعجز، ثم قعدوا ينظرون إلى إخوانهم في الدين ينال منهم البؤس، والمرض، وسهام المسلمين.

ولما ضاق الصليبيون المتخلفون ذَرْعاً بما أصابهم خرج ثلاثةُ آلاف أو أربعة من قلعتهم محاولين النجاة بأنفسهم، فحصرهم المسلمون، وشدُّوا عليهم، ثم حملوا على المعسكرات الصليبية، وكان حال من خرج ومن بقي في المعسكر ليس فيه أقلَّ رجاءٍ، ولم يُنْقَذُوا إلا بما نزل في قلوب المسلمين من الرحمة، حين اطَّلعوا على ما فيه عدُّوهم من بأساء، وما أصابهم من ضراء رقَّت قلوبهم، وذابت نفوسهم؛ رحمة لأعدائهم الصليبيين المساكين، فواسَوا المريضَ، وأحسنُوا للفقيرِ، وأطعموا المسكينَ بسخاءٍ وكرم، وبلغ من إحسانهم أن بعضهم استردَّ بالشِّراء أو الحيلة أو القهر النقودَ الفرنساوية التي أخذها اليونان من الحجاج، وردَّها عليهم، ووزعها على المحتاجين من الصليبيين.

  (  وقد كان الفرق واضحاً بين معاملة هؤلاء الكفار  يقصد المسلمين  للحجاجِ المسيحيينَ، ومعاملة اليونان الذين سخَّروا إخوانهم في الدين، ونهبُوا أموالَهم وضربوهم.

كان الفرق عظيماً لدرجةٍ حملت الصليبيين على اعتناق دين الأعداء المنقذين، ومن غير أن يُكرَهوا أو يُقْهرُوا.

لقد فرُّوا من إخوانهم في الدين الذين أساؤوا إليهم، فلَحِق ثلاثةُ آلافٍ بالجيشِ الإسلاميِّ بعد أن رجع عنهم ودخلوا في دينه.

لقد كانت الرحمةُ أشدَّ قسوةً من الخيانةِ !

لقد أعطاهم المسلمون الخبزَ وسلبوهم الإيمانَ، واحسرتاهُ !

لقد ارتدُّوا عن المسيحية من غيرِ أن يُجْبَرَ واحدٌ منهم على ترك دينه  ).

ذلك ما يقوله الراهب!

ولقد بلغ تأثير الإعجاب بشجاعة صلاح الدين وفضائله في الصليبيين، أن كثيراً من أمرائهم وعامَّتهم المُعجَبين به ذهب بهم هذا الإعجابُ إلى ترك دينهم، وأهلهم والدخول في الإسلام.

مثلُ ذلك ما فعل الزعيم الإنجليزيُّ (روبرت سنت أليان) وكان ذلك قبل انتصار صلاح الدين في معركة حِطّين الفاصلة التي وقع فيها ملكُ القدسِ (جاي) أسيراً.

ويقول بعضُ مؤرخي النصارى: إن ستةً من أمراء هذا الملك استولى عليهم الشيطانُ ليلةَ المعركة، فأسلموا، وانضموا إلى صفوف الأعداء دون أن يُقهروا من أحدٍ على ذلك.

وقد وصل الأمرُ (بريمون الثالث) أمير طرابلس الشام أن اتفق مع صلاح الدين على أن يدعو قومه إلى الإسلام.

وحتى بعد صلاح الدين، لما قام الصليبيون بحربهم الثالثة انتقاماً لسقوط بيت المقدس، وحاصروا عكا، وأصابتهم البأساءُ، وعضَّهم الجوع   فرّ كثير إلى صفوف المسلمين؛ فمنهم من آمن، ومنهم من رجع إلى قومه، ومنهم من استمر على نصرانيته، واختار البقاءَ وأن يقاتل في صفوف المسلمين.

وفي هذا المعنى يقول السير (جون ما ندفيل) أحدُ المعاصرين للصليبيين:  (  كان بعضُ المسيحيين يرتدُّون عن دينهم، ويصيرون عرباً؛ لفقرهم، أو غباوتهم، أو شقاوتهم  ).

ولا يُنتظر   بالطبع   من صليبيٍّ كالسير جون أن يفسِّرَ ما يسميه المسلمون بالهداية إلا بالغباوة والشقاوة.

والذي يعنينا من الأمر أن الفقراء والأغبياء والضالين الذين ذكرهم السير ما ندفيل دخلوا في الإسلام الذي جاؤوا لمحوه مختارين، واجْتُذِبُوا إليه بالدعوة والإرشاد لا القهر والاضطهاد، بل إنَّ بعض المؤرخين المسيحيين المعاصرين للفتح الإسلامي واسترداد بيت المقدس، وبعد ذلك بكثير بعد انهيار دُوَل الفرنجة في الشام كلِّها يُشيرون إلى فرحِ النصارى بالتحرّر من حكم الصليبيين.

ويقول السير توماس في هذا المعنى:  (  لقد سكنوا إلى الحكم الإسلامي وادعين مستبشرين، كما استمر الحكامُ المسلمون على عادتهم القديمة من التسامح، وسعة الصدر لأهل الملل الأخرى  ).

يقول الأستاذ عبدالرحمن عزام×:  (  وإذا كان ما ذكرنا هو بعض الشواهد على انتشار الدعوة المحمدية بالحجة بين أشدِّ خصومها المحاربين، وفي أحلكِ أيام الدولة الإسلامية أيام غاراتِ الصليبيين والتتر   فإن لنا شاهداً آخرَ من بطريقِ خراسانَ في أعزِّ أيام الدولة الأموية العربية، نختتمُ به هذا الفصل، يقول البطرقُ (يوساب الثالث) اليعقوبيُّ في خطاب طويل بعث به لحَبْرٍ زميلٍ:  (  أين أبناؤك أيها الأب ! أين هذا الشعب العظيمُ شعبُ مَرْو ! لم تصبهم جائحة، ولا سقطوا للسيف، ولا عُذِّبوا بنار، وإنما أصابهم متاع الدنيا، فارتدّوا عن دينهم، وقذفوا بأنفسهم كما يَقْذِفُ المجانينُ في مهاوي الهلاك والكفر، فلم ينجُ من هذا السعير إلا قسِّيسان اثنان فرَّا بنفسيْهما من جحيم الكفر  أي الإسلام  واحسرتاه على الآلاف المؤلَّفة الذين حملوا اسمَ المسيحية وصفتَها، ولم يقعْ منهم شهيدٌ واحد، ولا ضحى واحد منهم لدينه !!

أين كذلك بِيَعُ كِرْمانَ، وكنائسُ فارس !

لم يكن قدومُ شيطانٍ، ولا ملَك، ولا أميرٍ، ولا أمرُ خليفة أو سلطان هو الذي قضى عليها.

لم يكن ساحراً موهوباً أُوتِيَ المنطقَ، وسلطةَ الشيطان على النفوس، ولكنه ساحرٌ هز رأسَه فقط، فخرّت كنائسُ فارسَ كله على الأرض !

أما العرب الذين آتاهم الله ملك الدنيا كما تعلم   فإنهم عندك كذلك  فلم يطعنوا في ديننا، ولا اعتدوا على بِيَعنا، بل بالعكس ضالعوا مع ديننا، وفضّلوه على غيره، وأكرموا رهباننا وقساوستنا، واحترموا أولياءنا، وأحسنوا الهباتِ إلى معابدنا، فلماذا  إذاً  هجر أهلُ مَرْو نصرانيتَهم زُلْفى لهؤلاء العرب، وهم يعلمون ويقولون: إن العربَ ما طلبوا منهم تغييرَ دينهم، بل أقرُّوهم عليه كاملاً، ولم يسألوهم إلا ضريبةً بسيطةً يؤدُّونها عن أنفسهم، ولكنهم اشترَوا خلودَ أرواحهم في دين المسيح بمتاعٍ قليلٍ.


  موقف الإسلام من الإرهاب

 تمهيد

تبين من خلالِ إشاراتٍ كثيرة من الفصول والمباحث الماضية موقفُ الإسلام من الإرهاب, وتبين  كذلك  سماحة الإسلام, وتسامح المسلمين, وأن ذلك هو الأصل عندهم.

والحديث ههنا إتمام لما مضى, وتأكيد عليه, وذلك من خلال إيضاح مفهوم الإرهاب, وموقف الإسلام منه، ورد التلبيس الوارد في اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب.

ولن يطول الحديث ههنا؛ لأن كثيراً مما يتعلق بالإرهاب، ويدور في فلكه قد مر في غضون كثيرٍ من مباحث وفصول هذا البحث.

وسيدور الحديث في هذا المبحث من خلال المطالب التالية:

 أولاً: مفهوم الإرهاب

1  الإرهاب في اللغة: أصل هذا المادة (رَهِبَ) يرهب رَهبةً ورُهْباً, ورَهَبا: أي خاف.

وأرهبه, ورهَّبه, واسترهبه: أخافه, وفزَّعه.

واسترهبه استدعى رهبته حتى رَهِبه الناس.

وبذلك فسر قوله  عز وجل : [وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَآءُو بِسِحۡرٍ عَظِيمٖ] الأعراف: 116 .

أي أرهبوهم.

2  الإرهاب في الاصطلاح العام العالمي: الإرهاب لفظ يكتنفه الغموض؛ حيث إن كُلاًّ يفسره على ما يشاء.

كما أنه من الألفاظ التي صار لها دوي وشهرة وسيرورة في العصر الحاضر؛ فلا يكاد مصطلح من المصطلحات  السياسية ينافسه, أو يقترب منه في الحضور الإعلامي العالمي.

وإذا أراد باحث أن يضع تعريفاً جامعاً للإرهاب   فإنه سيجد صعوبة بالغة؛ لما يكتنف هذا المصطلح من غموض   كما مر  .

ولقد حاول مُؤَلفٌ قانوني أن يضع تعريفاً للإرهاب فوضع مائة وتسعة تعريفات للإرهاب من وضع علماء متنوعين في عدد من فروع العلوم.

ومهما يك من شيء فهذه تعريفات تُقَرِّب مفهوم مصطلح الإرهاب.

ومن خلال ذلك سيتبين الخلل الذي يعتري بعض هذه التعريفات, ثم يعقب بتعريف المجمع الفقهي الإسلامي الذي جلى مفهوم الإرهاب بتعريف شامل واضح.

أ  عرفت النشرة الأمريكية الإرهاب بقولها: الإرهاب يعني عنفاً بدافع سياسي يُرتكب ضد غير المنازعين, أو غير المخاصمين, موجَّهٌ بواسطة مجموعات قومية, أو وكلاء خائنين.

ب  وعرفت الموسوعة الأكاديمية الأمريكية, الإرهاب بقولها: هو الاستعمال المحسوب لأعمال العنف, أو التهديد بها, بما فيها من قتل, وخطف, وتفجيرات لتخويف الناس, وإخضاعهم.

وعادة ما يكون بفرض تحقيق أهداف سياسية معينة.

ج  وعرفت الموسوعة العربية العالمية الإرهاب بقولها: هو استخدام العنف, أو التهديد به؛ لإثارة الخوف والذعر, ويعمل الإرهابيون على قتل الناس, أو اختطافهم, كما يقومون بتفجير القنابل, واختطاف الطائرات, وإشعال النيران, وارتكاب غير ذلك من الجرائم الخطيرة , كما أن معظم الإرهابيين يرتكبون جرائمهم لدعم أهداف سياسية معينة.

ولا يخفى ما في هذه التعريفات من الملحوظات والمآخذ.

د  وأخيراً فإن إضافة تعريف للإرهاب من وجهة النظر الإسلامية يُعَدُّ من الأهمية بمكان؛ حيث إن الإرهاب بمفهوماته الحديثة تم ربطه ظلماً بالإسلام والمسلمين.

وقد صدر عن المجمع الفقهي الإسلامي تعريف للإرهاب يكاد يكون أحسن ما عرف به الإرهاب, حيث عَرَّف المجمع الإرهاب بقوله: (   هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات, أو دول بغياً على الإنسان  دمه, وماله, وعقله, وعرضه .

ويشمل صنوف التخويف, والأذى, والتهديد, والقتل بغير حق, وما يتصل بصور الحرابة, وإخافة السبيل, وقطع الطريق, وكل فعل من أفعال العنف, أو التهديد يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي, أو جماعي, ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس, أو ترويعهم بإيذائهم, أو تعريض حياتهم, أو حريتهم أو أموالهم للخطر؛ فكل هذا من صور الفساد في الأرض كما قال الله تعالى : [وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ] القصص: 77 .

والإرهاب هو بغي بغير حق, قال  تعالى : [قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ] الأعراف: 33 .

ثانياً: موقف الإسلام من الإرهاب

من خلال ما مضى من تعريف الإرهاب يمكن بيان شيء من موقف الإسلام من الإرهاب, وذلك من خلال ما يلي:

1  أن حماية الحوزة الإسلامية, والدفاع عنها لا يعد إرهاباً: فحوزة الإسلام هي حدود بلاده و نواحيها؛ لأنها في حوزة ملكه.

والدفاع عنها حفظ للأمة الإسلامية من اعتداء عدوها عليها.

ومن أعظم مقاصد الإسلام أن تكون الأمة  مرهوبة الجانب, محترمة، منظوراً إليها في أعين الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار؛ فذلك مما يردع عن مناوشتها, وتكدير صفو الأمن فيها.

قال الله   تعالى :[لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةٗ فِي صُدُورِهِم] الحشر: 13.

وقال  عز وجل :[وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ] الأنفال: 60 .

فإعداد القوة  إذاً  وحماية الأمة ليس من الإرهاب في شيء؛ فلا خير في أمة لا تستطيع حماية نفسها، ولا خير في حق لا تحوطه القوة.

2  أن الإسلام ينهى أشد النهي عن الإرهاب الذي يعني الإفساد: فالإسلام ينهى عن كل فساد, أو إفساد قَلَّ أو كثر في أي شيء من الشؤون العامة أو الخاصة.

والأدلة من الكتاب والسنة على ذلك متكاثرة متظاهرة, قال الله  عز وجل : [وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ] البقرة .

قال العلامة ابن عاشور مبيناً معنى الفساد وعمومه:  (  والحرث هنا: مرادٌ منه الزرع, والنسل: أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولاً إذا سقط وانفصل.

وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس.

وكانوا أهل حرث وماشية؛ فليس المرادُ خصوصَ هذين الأمرين, بل المراد ضياع مابه قوام الناس, وهذا جارٍ مجرى المثل  ).

إلى أن قال×:  (  ومن أجل ذلك نُهي عن إحراق الديار في الحرب, وعن قطع الأشجار, إلا إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيءٍ من ذلك يزيد قوة العدو, ويطيل مدة القتال  ).

وقال في موضع آخر:  (  فالإفساد في الأرض تصيير الأشياء الصالحة مُضِرَّة, كالغش في الأطعمة, ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق, والقتل للبرآء, ومن إفساد الأنظمة كالفتن والجور, ومن إفساد المساعي كتكثير الجهل, وتعليم الدعارة, وتحسين الكفر, ومناوأة الصالحين  ).

فالإسلام  إذاً  بريء من الإرهاب, محارب له, مناوئ لجميع صوره  على نحو ما مضى .

وإذا وجد من ينتسب إلى الإسلام من يقوم بالإرهاب, أو شيء من صوره فتبعة ذلك على من فعله لا على الإسلام   كما مر بيان ذلك  في مواطن متعددة من هذا الكتاب.

 ثالثاً: تلبيس مردود في اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب

إن تعجب بعد ما مضى بيانه في المباحث الماضية فاعجب من صنيع كثير من الظالمين البعيدين كل البعد عن العدل، وحقائق التاريخ، ممن يصفون دين الإسلام ونبيه وأهله بالقسوة والهمجية، والتطرف والإرهاب إلى غير ذلك مما هو محض افتراء، ومحاولة للصد عن دين الإسلام.

والحقيقة الماثلة للعيان تقول بأن الإسلام دين الرحمة، والرفق، والتسامح؛ فماذا فعل المسلمون حين انتصروا على خصومهم؟ هل تكبَّروا، وتسلطوا، واستبدوا؟ وهل انتهكوا الأعراض، وقتلوا الشيوخ، والنساء، والأطفال؟

ماذا فعل النبي " عندما انتصر على خصومه الذين كانوا يؤذونه أشد الأذى؟ ألم يكن يصفح عنهم؟ ويمنَّ عليهم بالسبي والأموال؟

وماذا فعل المسلمون عندما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا وغدروا؟ هل تعرَّضوا للنساء؟ وهل أساؤوا للرهبان في الأديرة؟ وهل عاثوا في الأرض فساداً؟ وهل هدموا المنازل، وقطعوا الأشجار؟

وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبيين الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، ونكَّلوا بهم أيَّما تنكيل؟ فماذا فعل بهم صلاح الدين لما انتصر عليهم؟ ألم يصفح عن قائدهم؟ ويعالجه؟ ويطلق سراحه؟

وماذا كانت أحوال أهل الذمة في بلاد المسلمين عبر العصور المتطاولة إلى يومنا هذا؟ ألم يكونوا ينعمون بالأمان، والعدل، والإحسان؟

ألم يجدوا من عدل المسلمين وإحسانهم ما لم يجدوه من بني جلدتهم؟

فهذه المواقف النبيلة وأمثالها كثير في تاريخ المسلمين، مما كان له أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.

أفغير المسلمين يقوم بهذا؟ آلغرب يقدم مثل هذه النماذج؟

الجواب ما تراه، وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء وأمثالهم من الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، ولاقت منهم البشرية الويلات إثر الويلات؟

ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فَمَنِ الهمج القساة العتاة إذاً؟

ومَنِ المتطرفون الإرهابيون حقيقة؟

ثم مَنِ الذين صنعوا القنابل النووية، والعنقودية، والذرية، والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟

ومن الذين لوَّثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟

ومن الذين يسلكون الطرق القذرة التي لا تمت إلى العدل، ولا إلى شرف الخصومة بشيء؟

من الذين يُعَقِّمون النساء؟ ويسرقون أموال الشعوب وحرياتهم؟ ومن الذين ينشرون الإيدز؟

أليس الغرب، ومن يسير في ركابهم؟

ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة التسلط والإرهاب؟

وماذا حصل في محاكم التفتيش، وما أدراك ما محاكم التفتيش؟

وماذا حصل في بعض السجون كأبي غريب وغيره مما يندى له الجبين؟

هذه هي الحقيقة الواضحة، وهذا هو الإرهاب والتسلط.

ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن يكون غير المسلمين على سُنَّة واحدة من الظلم والتسلط والجبروت، لا بل إن فيهم من هو قائم بالعدل، بعيد عن الظلم.

أما جهاد المسلمين لإحقاق الحق، وقمع الباطل، ودفاعهم عن دينهم، وأنفسهم وبلادهم فليس إرهاباً، وإنما هو العدل بعينه.

وما يحصل من بعض المسلمين من الخطأ في سلوك سبيل الحكمة فقليل لا يكاد يذكر بجانب وحشية الغرب، وتبعته تعود على من أخطأ السبيل، ولا تعود على الدين، ولا على المسلمين، ولا يُقَرُّ عليها من قام بها، بل إن أهل الإسلام ينكرون مثل ذلك أشد الإنكار.

وهكذا ينبغي للعاقل المنصف؛ أن ينظر إلى الأمور كما هي بعيداً عن الظلم والتزوير والنظرة القاصرة.

وبعد هذا فإن كان للإنسان من عجبٍ فإنه من الأوربيين، والأمريكان؛ حيث لم يكتشفوا حقيقة الدين الإسلامي وعظمة نبيِّه فيما اكتشفوه، وهو أجلُّ من كل ما اكتشفوه، وأضمن للسعادة الحقيقية من كل ما وصلوا إليه؛ فهل هم جاهلون بحقيقة الإسلام حقًّا؟ أو أنهم يتعامون ويصدون عنه؟!

إن كانت الأولى، فهي مصيبة، وإن كانت الثانية فمصيبتان!.


  مهتدو أهل الكتاب, وشهادتهم على صحة الإسلام

لعل من أعظم الدلائل على حقيقة الإسلام, وصحة ما جاء به هدايةَ كثيرٍ من علماء أهل الكتاب إلى الإسلام , وتسجيلهم شهاداتهم بأنه الدين الخاتم الحق, وتنزيلهم ما ورد في كتبهم السابقة من البشارات بظهور دين جديد, ونبي جديد, وأمة مصطفاة على دين الإسلام, ونبيه, وأمته.

ومن خلال ما يلي من مطالب سيتبين شيء من ذلك.

 أولاً: هداية علماء أهل الكتاب إلى الإسلام

لقد أرسل الله نبيه محمداً" بالهدى ودين الحق, ليظهره على الدين كله, ولو كره المشركون, وجعل  سبحانه وتعالى  في هذا الدين بيناتِ الهدى, ودلائل الرشاد ظاهرة واضحة لمن نظر إليها بعين البصيرة.

وقد اهتدى بتلك الدلائل أمم من ورائها أمم؛ حيث فتح الله بصائرها على النور والهدى, فتركوا الغواية والضلالة, وسلكوا سبيل الفلاح والسعادة.

والمهتدون للحق طوائف وأصناف شتى من الناس, ففيهم الرئيس والمرؤوس, والعالم وغير العالم, والذكر والأنثى, حتى عم هذا النورُ والهدى أرجاء الأرض, ودخل الناس في دين الله أفواجاً تلو أفواج.

وكان من أولئك المهتدين مَنْ هو رأسٌ في أهل ملته, وخاصة من اليهود والنصارى, ممن سلموا من الحسد والكبر, وممن كتب الله لهم الهداية, فإذا اهتدوا إلى الإسلام شعروا بعظيم الضلالة التي كانوا عليها,وبعظم المنة والنعمة التي اهتدوا إليها, فيجتهدون في نصرة دين الإسلام، ودعوة بني جنسهم إليه, فيصدق فيهم قول رسول الله":  (  تجدون الناس معادن؛ فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا  ). متفق عليه.

فيصبح هؤلاء المهتدون خيار الذين أسلموا من اليهود والنصارى, ويبذلون في نصرة الإسلام مثل أو أكثر ما كانوا يبذلونه في نصرة أديانهم.

ولاشك أن من أوسع المجالات أمام أهل العلم منهم هو بيان الحق بدليله, والتحذير من الباطل، وسلوكِ سبيله؛ فيكون أولئك المهتدون من خير من يدعو إلى الإسلام, ويحذر من الأديان الباطلة بتلك الوسيلة؛ لأن أهل الدار أعرف بما فيها, فقد كانوا يهوداً أو نصارى فيعرفون ما لا يعرفه غيرهم بحكم علمهم العميق في الديانة, واتصالهم المباشر بأهل ملتهم, وخاصة في ديانة يدَّعي أصحابها بأنها ذات أسرار مثل النصرانية, فيكون لدعوتهم وَقْعٌ مؤثر يستجيب له العديد من أصحاب الملل الباطلة.

كما أن تحول بعض أهل العلم من الأديان الباطلة إلى الإسلام  ودخولهم فيه, ونصرتهم له من الأدلة الظاهرة على أن الإسلام حق لا ريب فيه, وأن التحول لم يتم إلا بعد القناعة التامة بصحة الإسلام, فيكون هذا المهتدي شاهداً على قومه وحجة عليهم.

 ثانياً: نماذج ممن أسلم من علماء أهل الكتاب

من المعلوم أن الاهتداء للإسلام من قبل بعض علماء اليهود والنصارى قد واكب وقت ظهور الإسلام, واستمر وسيستمر إلى يوم القيامة ما دام في الأرض عقلاء يريدون الحق، ويبحثون عنه.

وفيما يلي ذكرٌ لبعض من اهتدى لدين الإسلام من علماء اليهود والنصارى.

1  عبد الله بن سلام÷ فقد كان من أوائل المهتدين لدين الإسلام، وقد كان سيد اليهود وكبيرهم وابن كبيرهم في المدينة, وإسلامه حجة على جميع اليهود إلى يوم القيامة.

2  النجاشي ملك الحبشة, فهو ممن أسلم من كبار النصارى وملوكهم، وذلك في العهد الملكي وبعد أن اتصل بالإسلام عن طريق مهاجرة الحبشة من الصحابة  رضي الله عنهم .

3  علي بن ربن الطبري, الذي اهتدى للإسلام في عهد أبي جعفر المنصور, وكان قبل إسلامه نصرانيًّا ذا علم بالفلسفة والطب, وكتب في الدعوة إلى الإسلام كتابه  (  الدين والدولة  ) و  (  الرد على أصناف النصارى  ).

4  السموأل بن يحيي المغربي المهتدي, كان من أحبار اليهود, عالماً بالطب, توفي سنة 570هـ وله كتاب  (  إفحام اليهود  ).

5  اللورد هدلي الفاروق, الذي كان عضواً في مجلس اللوردات البريطاني, وقد أعلن إسلامه عام 1913هـ, وتسمى بالفاروق, وكتب كتاباً في الإسلام عنوانه   (  رجل من الغرب يعتنق الإسلام  ).

6 ناصر الدين دينيه الفرنسي الذي كان نصرانيًّا رساماً مبرزاً, أسلم عام 1927م, وكتب كتاباً سماه  (  أشعة خاصة بنور الإسلام  ) وقد توفي× سنة 1929م.

7 عبد الأحد داود, الذي كان كاهناً كلدانياً قد حصل على درجة أستاذ في علم اللاهوت, وكان زعيمَ طائفة الروم الكاثوليك لطائفة الكلدانين وكتب كتابه  (  الإنجيل والصليب  ) و   (  محمد" في الكتاب المقدس  ).

8 القس إبراهيم خليل الذي كان قساً في كنيسة  (  بافور  ) الإنجيلية بأسيوط مصر, وكان له نشاط تنصيري كبير, وأعلن إسلامه سنه 1959م, وله كتب عديدة في الدعوة إلى الإسلام, منها:  (  محمد" في التوراة والإنجيل والقرآن  ) و  (  المستشرقون والمبشرون في العالم الإسلامي  )و  (  محاضرات في مقارنة  الأديان  ) و (  المسيح في التوراة والإنجيل والقرآن  ) وغيرها من الكتب.

 ولقد أسلم غير هؤلاء كثير ممن لا يحصي عددهم إلا اللهُ  عز وجل .

ومن الملاحظ أن من ذُكروا وغيرهم كثير لم يكونوا من عوام الناس, وإنما هم رؤوس أهل ملتهم السابقة, فلم تكن تَنْقُصهم دنيا، ولا مكانة اجتماعية, كما لا ينقصهم الذكاء والفهم, وربما فقدوا بإسلامهم كثيراً من الأمور الدنيوية, التي كانت مُحَقِّقَةً لهم أوضاعاً اجتماعية عالية, بل قد يَُعرِّضون أنفسهم للقتل.

ومع كل هذا لم يطيقوا الاستمرار على تلك الحال؛ فَيَغُشُّوا أنفسهم ببقائهم على الباطل, ويعيشوا عيشة الشقاء والزيف بعد أن تبين لهم الهدى ودين الحق؛ فأعلنوا إسلامهم متحملين في سبيل ذلك الضرر الجسدي والمادي الذي قد يتعرضون له, بل إنهم قاموا بالدفاع عن الإسلام والدعوة إليه حتى يؤدوا بعض الواجب الملقى على عواتقهم بدخولهم في الإسلام.

وهذا كله دليل واضح على أن الإسلام هو الدين الحق, وأن براهين صحته وشرفه وكماله متوافرة.

ثالثاً: نبذة عن أحد علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، وجهوده في نشر الإسلام

لقد كان من هذه الطائفة المباركة, التي اهتدت إلى الإسلام عن قناعة ويقين بعد تمحيص وتدقيق   الشيخ زيادة بن يحي النصب الراسِي الذي كان من رجال الدين النصارى, ومن ذوي العلم فيهم؛ فبعد أن تبين له الهدى ودين الحق أعلن إسلامه, وبدأ× يدعو إلى هذا الدين بالقَدْر والطاقة التي مكنه الله منها, ووصل إلى علمنا من جهده في ذلك كتابان وهما:  (  البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح  ) وكتاب  (  الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية  ).

والشيخ زيادة عاش خلال القرن الحادي عشر, وينسب إلى مدينة رأس العين في الشام من مدن الجزيرة تقع بين حران ونصيبين, وهي ضمن سوريا الآن.

أما كتابه:  (  الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية  ) فلم يطبع, وإنما عُلِمَ من تلخيص له للشيخ محمد بن عبد الرحمن الطيبي الدمشقي.

وأما كتابه (البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح) فقد طُبع مؤخراً بتحقيق ودراسة الدكتور سعود بن عبد العزيز الخلف.

ويتضح من كتاب  (  البحث الصريح  ) أن الشيخ زيادة بن يحيى كان نصرانياً, ثم هداه الله   تعالى   للإسلام, حيث يقول في مقدمة كتابه:  (  أما بعد, فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني الشيخ زيادة بن يحيى النصب الراسي, المتشرف في الدين المحمدي: إنني لما كنت متفرغاً للبحث والمطالعة عن أيما هو الدين الصحيح بكل جهد, وبغاية التنقيح, وغِبَّ الفحص والتفتيش في ذلك   قَصَدْتُ أن أحرر ما قد حَصَّلْتُه  من المقابلة في تلك المسالك, وأبينه لذوي البصائر القادحة  ).

ويتضح  أيضاً  أن سبب دخوله في الإسلام هو مما تولد في نفسه من الشكوك في ديانته الأولى النصرانية, مما جعله ينظر في الإسلام، ويبحث ويقابل، ويطالع, حتى تبين له أن الإسلام هو الحق؛ فهداه الله له، فدخل فيه, ثم بدأ يحرر ما تبين له به بطلان ديانة النصارى, وصحة الإسلام, وجعل ما حرره وسيلة لدعوة النصارى.

ويتضح من النظر في كتاب الشيخ زيادة  (  البحث الصريح  ) أن معلومات مؤلفه عن النصرانية معلومات جيدة مركزة؛ فاستدلالاته من العهد القديم والجديد متنوعة عميقة؛ حيث يطالع ويقابل بين النسخ المتعددة والترجمات المتعددة من عربية ويونانية وعبرية وسريانية.

ويظهر من هذا أنه يجيد اللغة اليونانية, والعبرية, والسريانية، ويترجم منها إلى العربية, بل يطالع قواعد اللغتين اليونانية والعبرية، ويصحح، ويرجح بعض الترجمات على بعض.

وهذا ما يؤكَّد أنه كان قبل إسلامه من علماء النصارى ورجال دينهم؛ لأن العلم بهذه الأمور من اختصاص رجال الدين, ولأن هذه اللغات: اليونانية والعبرية والسريانية هي لغات دينية؛ فقد يكون في الأصل نصرانياً سريانياً, فهو يجيد السريانية, وهي لغة نصارى سورية باعتباره من أهلها.

أما اللغة اليونانية فإنها لغة العهد الجديد  واللغة الدينية للنصارى الكاثوليك.

وأما اللغة العبرية فهي لغة العهد القديم بالنسبة للنصارى البروتستانت, ولا يستغني عنها رجال الدين النصارى.

فهذا مما يوحي بأن الرجل كان من علمائهم, خاصة إذا علمنا أن عوام النصارى من أبعد الناس عن العلم الديني النصراني.

بل هم في كثير من الأحيان  خاصة في زمن المؤلف  لا يستطيعون أن يقفوا على شيء من كتب النصارى الدينية سوى ما تأذن به الكنيسة من مقاطع مخصوصة يمكن تداولها بين العوام.

أما مباحث الكتاب المذكور  البحث الصريح  فقد اهتم المؤلف × فيه بإبراز المسائل الأساسية التي تدل على صحة نبوة نبيناً محمد" من كتبهم, مما تقوم به الحجة عليهم من كلامهم, فكانت مباحث الكتاب كما أفاد × في مقدمة كتابه تشمل الحديث عما يلي:

1  بطلان دعوى النصارى ألوهية المسيح  عليه السلام  وإثبات أنه نبي كسائر الأنبياء قبله من بني إسرائيل.

2  بطلان استدلال النصارى على ألوهية المسيح  عليه السلام  بالآيات التي كانت تظهر على يدي المسيح   عليه السلام  وإثبات أن آياته ومعجزاته من جنس الآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي الأنبياء قبله, بل أجرى الله على أيديهم آياتٍ تَفُوقُ آياتِ المسيح, ولم تدلَّ عند تلك الأمم على ألوهية أولئك الأنبياء الذين ظهرت على أيديهم المعجزات؛ فكذلك عيسى بن مريم  عليه السلام .

3  في رد مطاعن النصارى في نبينا محمد" وبيان بطلان كلامهم, وبيان أن الأنبياء قبل محمد" وقعت منهم أمور من جنس ما نسب للنبي" وأشد منها, ولم يطعن في أولئك الأنبياء بسببها؛ فكذلك نبينا محمد".

4  في الأدلة على نبوة نبيناً محمد" من التوراة والإنجيل, وأنه المقصود بكثير من الوعود والبشارات المذكورة في كتابي اليهود والنصارى.

5  في الأدلة الدالة على تحريف التوراة والإنجيل من نصوص الكتابين مما يكون أصرح دليل على تحريفها.

بعد ذلك ذكر المصنف× خاتمة اشتملت على أهم النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه.

أما منهج المؤلف × فقد سلك منهجاً اسقرائياً, استعرض فيه الأدلة الدالة على  بطلان دعاوى النصارى, سواء في دعوى إلوهية المسيح   عليه السلام  أو دعوى صحة التوراة والإنجيل, وأبان عن بطلانها بما يقابلها وينقضها من المعلومات الواردة في التوراة والإنجيل.

كما استعرض شُبَهَ القوم ودعاويهم في نبينا محمد " وأبان عن بطلانها بنصوص من كتبهم, كما استعرض العديد من الأدلة الدالة على نبوة نبينا محمد" من التوراة والإنجيل.

وكان من أهم مصادر المؤلف الإسلامية: القرآن الكريم, واعتمد في الأمور التاريخية على كتاب  (  السيرة الحلبية  ) وفي إثبات أسماء النبي " على كتاب  (  دلائل الخيرات  ).

أما مصادره النصرانية, فكان من أهمها: كتاب العهد القديم والجديد, كما رجع في كتاب الكنيسة إلى كتاب  (   سعد بن البطريق  ), ورجع أيضاً إلى تاريخ  (  يوسيوس  ) وهو مؤرخ يهودي, ومؤرخ آخر أسماه  (   لافجانيوس  ) كما أشار إلى أنه طالع بعض المختصرات في رد بعض أصحاب الملل بعضهم على بعض, وأفاد منها غير أنه لم يُسَمِّ شيئاً منها.

كما رجع إلى قواميسَ وكتبٍ يونانيةٍ وعبريةٍ, مما يشعر بمعرفته بكل من اللغتين اليونانية والعبرية  كما سبق بيانه .

هذا وسيرد في المسألة التالية شيء من تعليقاته على البشارات الواردة في الكتب السابقة التي نزَّلها على نبينا محمد " وأمته.


 تصريح الكتب السابقة بنبي الإسلام، وتبشيرها به

لقد بشرت الكتب السابقة بدين الإسلام, وظهور نبيه في مواضع كثيرة, والشواهد على ذلك لا تكاد تحصى.

وهذه الشهادات الموجودة في الكتب المتقدمة تُعُّد من الآيات البينات على نبوة محمد" ونبوة من قبله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية×:  (  دلائل نبوة المسيح ومحمد قطعية يقينية لا يمكن القدح فيها بظن؛ فإن الظن لا يدفع اليقين لا سِيَّما مع الآثار الكثيرة المُخْبرة بأن محمداً كان مكتوباً باسمه الصريح فيما هو منقول عن الأنبياء  ).

وقد جاء في صحيح البخاري عن عطاء بن يسار أنه قال:  (  لقيت عبد الله ابن عمرو بن العاص  رضي الله عنهما  فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله" في التوراة, قال: أجل, والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن:[يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا] (الأحزاب: 45) وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, ليس بفظٍّ ولا غليظ, ولاسَخَّاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر, ولن يَقْبِضَهُ الله حتى يقيم به الملَّة العوجاء, بأن يقُولوا: لا إله إلا الله, ويفتح بها أعينُاً عُمياً, وقُلُوباً غُلْفاً  ).

قال ابن  تيمية × معلقاً على هذا الأثر:  (  ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المُعَينَّةُ, ويراد به الجنس, فَيـُعَبَّر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره كما في الحديث الصحيح عن النبي" خُفِّفَ على داود القرآن, فكان ما بين أن تُسْرَج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن  ). رواه البخاري .

والمراد به قرآنه، وهو الزبور، ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد".

كذلك ما جاء في صفة أمة محمد أناجيلهم في صدورهم, فَسَمَّى الكتب التي يقرؤونها  وهي القرآن  أناجيل.

 وكذلك في التوراة   (  إني سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى  ) فسمى الكتاب الثاني توراة .

فقوله:  (  أخبرني بصفة رسول الله في التوراة  ) قد يراد بها نفس الكتب المتقدمة كلِّها, وكلُّها تسمى توراة, ويكون هذا في بعضها.

وقد يراد به التوراة المعينة.

وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ؛ فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا  ).

وقال الشيخ زيادة بن يحيى الراسي كما في مقدمة الباب الرابع في كتابه (البحث الصريح في إيِّما هو الدين الصحيح) قال:  (  الباب الرابع: البشارات بالنبي" في التوراة والإنجيل  ).

نورد فيه بينات من كتب العهدين؛ أعني من التوراة والإنجيل على أن نبينا الأعظم محمداً" هو النبي الموعود به  أيضاً  والمشار إليه، والمنبأ عنه من الأنبياء كعيسى  عليه السلام  بالأدلة الواضحة، والبراهين المتينة كما قد تراها صحيحة  ).

ثم شرع× بإيراد تلك الشهادات؛ حيث أورد إحدى عشرة شهادة، وأتبع كل شهادة بالشرح، والتحليل، والربط، مثبتاً أنها منطبقة تماماً على نبينا محمد".

وفيما يلي ذكر لبعض ما جاء في الكتب السابقة عن نبي الإسلام محمد" مع شيء من التعليق عليها .

1  جاء في نبوة أشعياء قوله:  (  عبدي الذي سُرَّت به نفسي, أنزل عليه وحيي, فَيُظْهر في الأمم عدلي, ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق يفتح العيون العور والآذان الصم, ويحيي القلوب الغُلْف, وما أعطيه لا أعطي أحداً, يحمد الله حمداً جديداً, يأتي من أقصى الأرض, وتفرح البرية, وسكانها يهللون الله على كل شَرَف ويكبرونه على كل رابية, لا يضعف, ولا يغلب, ولا يميل إلى الهوى, مشقح([5]), ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة بل يُقَوِّي الصديقين, وهو ركن المتواضعين, وهو نور الله الذي لا يُطْفَأ, أثر سلطانه على كتفيه  ).

وهذه البشارة من أشعياء قريبة مما جاء في أثر عبد الله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنهما  قال ابن تيمية× معلقاً على نبوءة أشعياء   عليه السلام :  (  وهذه صفات منطبقة على محمد وأمته, وهي من أجل بشارات الأنبياء المتقدمين به, ولفظ التوراة قد عرف أنه يراد به جنس الكتب التي يقر بها أهل الكتاب, فيدخل في ذلك الزبور، ونبوة أشعياء، وسائر النبوات غير الإنجيل  ).

2 وجاء في سفر التثنية ما نصه:  (  وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته, فقال: جاء الرب من سيناء([6]) وأشرق لهم من سعير([7]) وتلألأ من جبال فاران([8])  ).

وقد أورده ابن تيمية بلفظ قريب فقال :  (  وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية:  (  جاء الله من طور سينا, وبعضهم يقول تجلى الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران  ).

قال ابن تيمية معلقاً على هذه البشارة:  (  قال كثير من العلماء واللفظ لأبي محمد ابن قتيبة: ليس بهذا خفاء على من تدبره، ولا غموض؛ لأن مجيءَ الله من طور سينا إنزالُه التوراةَ على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا.

 وكذلك يجب أن يكون إشراقُه من ساعير إنزالَه الإنجيلَ على المسيح, وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة, وباسمها يسمى من اتبعه نصارى.

  وكما وجب أن يكون إشراقُه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانُه من جبال فاران إنزالَه القرآنَ على محمد, وجبالُ فارانَ هي جبال مكة.

 قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة؛ فإن ادعوا أنها غير مكة   فليس يُنْكَر ذلك من تحريفهم وإفكهم   قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟  ).

إلى أن قال ابن تيمية×:  (  وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أو ليس (استعلن)  و(علن).

وهما بمعنى واحد وهو ما ظهر وانكشف؛ فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فُشَوَّه؟ .

 وقال ابن ظفر: ساعير جبل بالشام منه ظهرت نبوة المسيح.

قلت: وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير, ولها جبل تسمى ساعير، وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير, وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم.

  وعلى هذا فيكون ذكرُ الجبال الثلاثة حقًّا جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه, ومنه كان نزول أول الوحي على النبي" وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قد قيل: إن بمكة اثني عشر ألف جبل, وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن.

 والبَرِّيَّةُ التي بين مكة وطور سينا تسمى بَرِّية فاران, ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بُعِث نبيٌّ؛ فَعِلمَ أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد.

وهو   سبحانه  ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني؛ فذكر إنزال التوراة, ثم الإنجيل, ثم القرآن.

 وهذه الكتب نُوْرُ الله وهداه, وقال في الأول: جاء أو ظهر, وفي الثاني أشرق, وفي الثالث استعلن.

 وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر, أو ما هو أظهر من ذلك, ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى.

وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء؛ ولهذا قال  (  واستعلن من جبال فاران  ) فإن النبي" ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها؛ أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله سراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً, والخَلْقُ يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وكما قيل: قد ينضرون به بعض الأوقات.

وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت, وفي كل مكان ليلاً ونهاراً سراً وعلانية  وقد قال النبي":  (  زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها؛ وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها  ). رواه مسلم.

وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن في قوله   تعالى  : [وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ ٣ لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ٥ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ ٧ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ] التين .

فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل.

وأقسم بطور سينين, وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة.

وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة، وهو البلد الذي أسكن فيه إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً؛ فإن إبراهيم حَرَّمه, ودعا لأهله, فقال: [رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡ‍ِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ]  )إبراهيم: 37 .

وقال ابن تيمية× فقوله  تعالى :[وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ] إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه وأنزل فيها الثلاثة التوراة, والإنجيل, والقرآن.

 كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله:  (  جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران  ).

وقال ابن القيم × عن هذه البشارة :   (  وشَبَّه  سبحانه   نبوة موسى بمجيء الصباح, ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه,و نبوة خاتم الأنبياء بعدهما باستعلاء الشمس وظهورها في الآفاق.

 ووقع الأمر كما أخبر به سواء ؛ فإن الله   سبحانه  صدع بنبوة موسى  لَيْلَ الكفر؛ فأضاء فجره بنبوته, وزاد الضياء والإشراق  بنبوة المسيح , وكمل الضياء, واستعلن, وطبَّق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم  ).

3  وقال شمعون النبي  عليه السلام :  (  الله جاء من تيمان([9])، والقدوس من جبل فاران، سلاه جلاله غطى السموات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعانٌ كالنور من يده شعاع، وهناك استثار قدرته  ).

وقد أورد الإمام ابن تيمية هذه البشارة بما هو موجود من كتب أهل الكتاب في وقته، فقال في سياق حديثه عن بشارات الأنبياء السابقين بنبوة محمد":  (  ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد" من كلام شمعون بما رضوه([10]) من ترجمتهم وهو:  (  جاء الله بالبينات من جبال فاران، وامتلأت السماء والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته  ).

ثم علق ابن تيمية على هذه البشارة بقوله:  (  فهذا تصريح بنبوة محمد" الذي جاء بالنبوة من جبال فاران، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته.

ولم يخرج أحد قط وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته مما يسمى فاران سوى محمدٍ".

والمسيح لم يكن في أرض فاران ألبتة، وموسى إنما كُلِّم من الطور، والطورُ ليس من أرض فاران، وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران، فلم يُنْزلِ اللهُ فيها التوراة.

وبشارات النبوة قد تقدمت بجبل الطور وبشارة الإنجيل بجبل ساعير  ).

4  ونُقِلَ في نبوة حبقوق أنه قال:  (  جاء الله من التيمن، وظهر القُدُس على جبال فاران، وامتلأت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر  ).

5  وقال داود في مزاميره  وهي الزبور :  (  من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد، فتقلَّدْ([11]) أيها الجبار بالسيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسِمَةَ التألُّه([12])؛ فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، و الأمم يخرون تحتك  ).

وقد أورد ابن تيمية هذه البشارة في كتابه الجواب الصحيح عن كتب أهل الكتاب، ثم علق عليها بقوله:  (  فليس متقلِّد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد" وهو الذي خرَّت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة، كما قال":  (  نصرت بالرعب مسيرة شهر  ). رواه البخاري.

6  وقال داود   عليه السلام   في مزمور له   مبشراً بمحمد ":  (  ويملك من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض, ويخر أهل الجزائر بين يديه, ويلحس أعداؤه التراب, ويسجد له ملوك الفرس, وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد, ويخلّص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه, وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له, ويرأف بالمساكين والضعفاء, ويُصَلَّى عليه, ويُبارك في كل حين  ).

وهذا النص موجود في الترجمة الحالية للعهد القديم.

قال ابن تيمية معلقاً على هذه البشارة:   (  وهذه الصفات منطبقة على محمد" وأمته لا على المسيح؛ فإنه([13]) حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي, ومن لدن الأنهار بجيحون وسيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب .

كما قال: (   زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها  ). رواه مسلم.

وهو يُصَلَّى عليه, ويبارك في كل حين في كل صلاة في الصلوات الخمس وغيرها يقول كل من أمته: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد, فيصلي عليه ويبارك   ).

وقال ابن القيم× معلقاً على هذه البشارة:   (  ولا يشك عاقل تدبر أمور الممالك والنبوات, وعرف سيرة محمد" وسيرة أمته من بعده أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا عليه  وعلى أمته, لا على المسيح ولا على نبي غيره  ).

7  وقال دانيال  عليه السلام  وذكر محمداً"باسمه فقال:  (  ستنزِعُ من قِسِيَّك إغراقاً ونزعاً, وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواءًا  ).

قال ابن تيمية × معلقاً على هذه البشارة:  (  فهذا تصريح بغير تعريض، وتصحيح بغير تمريض؛ فإن نَازَع في ذلك منازِعٌ فَلْيُوجِدْنا آخر اسمه محمد" له سهام تنزع, وأمر مطاع لا يدفع  ).

8  وقال أشعياء النبي  ونص على خاتم النبوة :   (  ولد لنا غلام يكون عجباً, وبشراً, والشامة على كتفيه, أركون السلام إله جبار,وسلطانه سلطان السلام, وهو ابن عالمه يجلس على كرسي داود  ).

قال ابن تيمية معلقا على هذه البشارة: (   والأركون: هو العظيم بلغة الإنجيل, والأراكنة: المُعَظَّمون  ).

وقال:  (  فقد شهد أشعياء بصحة نبوة محمد" ووصفه بأخص علاماته وأوضحها, وهي شامته, فلعمري لم تكن الشامة لسليمان, ولا للمسيح.

وقد وصفه بالجلوس على كرسي داود يعني أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم, وملكهم، ويبتزهم([14]) رياستهم  ).

9  وجاء في سفر الاشتراع في الإصحاح الثامن عشر، والعدد الخامس من قول سيدنا موسى  عليه السلام  أنه قال لقومه بني إسرائيل:  (  إن نبياً من بينك ومن إخوتك مثلي يقيمه الرب  ).

ووردت هذه البشارة بلفظ:  (  يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون  ).

قال الشيخ زيادة الراسي معلقاً على هذه البشارة:  (  إن هذه الشهادة هي بلا ريب منطبقة على نبينا محمد" من حيث إن إسماعيل وخَلَفه الذين منهم نبينا كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم  أعني إسحاق وخَلَفه عليهما السلام ؛ لأن الله  تعالى  قال لهاجر  رضي الله عنها  امرأةِ سيدنا إبراهيم عن إسماعيل ابنها: بأن قبالة إخوته ينصب المضارب.

ومن حيث إن إسحاق أبا يعقوب وذريته بني إسرائيل دُعوا إخوةَ إسماعيل؛ فإسماعيل هو أخوهم بلا شك؛ فمن هنا ألغز النبي موسى  عليه السلام  بكلامه، وأشار إشارة خفيةً غير صريحة في النسق حسب عادة الأنبياء؛ لإخفاء بعض مقاصدهم، وتكلمهم بالرموز عن أن الله  تعالى  سيقيم لهم نبياً من بني إخوتهم، أي من بني إسماعيل المباينين لهم، وهو محمد" لكونه نبياً، ومن ولد إسماعيل؛ لأن من عادة الكتب المنزلة أن تسمي أولاد الأعمام من بعْدٍ بَعيدٍ إخوةً.

ومثل ذلك ورد في القرآن الشريف؛ إذ إنه دعى النبيينِ اللذينِ هما هود وصالح إخوة لعاد وثمود، وهما على بعدٍ بعيدٍ من أولاد الأعمام  أيضاً   ).

وبعد أن ساق الشيخ زيادة × عدداً من البراهين الدالة على قوله، قال:  (  فينتج  إذاً  أن نبينا " هو المشار إليه من موسى دون شك  ).

10  وفي إنجيل يوحنا:  (  وإذا جاء البارقليط الذي أَرسله إليكم الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لي, وأنتم أيضاً شاهدون  ).

قال الشيخ زيادة بن يحيى الراسي× تعليقاً على هذه البشارة:أقول:  (  إن هذه الشهادة والمقصود بها نبيناً محمد":

أولاً: من اسم  (  بارقليط  )

ثانياً: من قوله:  (  هو يشهد لي  )

ثالثاً: من تسميته له :  (  روح الحق  )

رابعاً: من قوله عنه إنه:  (  من الأب ينبثق  )

أما عن قوله: (  إنه ينبثق من الأب  )؛ فهو بمعنى يخرُج, ويرسل, كما هو مصرح به في قواميس اللغة اليونانية, والكنائس الغربية هكذا تفسرها أيضاً.

 وهذا الإرسال جاء مصرحاً به عن النبي محمد " بقوله  تعالى :[قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا] الأعراف: 158، و قوله:[هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ] الصف: 9 .

وأما تسميته له " بأنه  (  روح الحق  ) فنرى هذا الاسم من جملة أسمائه الشريفة  ).

إلى أن قال الشيخ زيادة×:  (  أما اسم  (  بارقليط  ) فهي لفظة يونانية, من معانيها في القواميس: المعزي, والناصر, والمنذر, والداعي, والاسم المطابق هو الداعي.

فالنصارى الذين آمنوا وأسلموا في العصور القديمة قد فهموا أن معنى هذه اللفظة منصرف إلى القرآن الشريف, وإلى سيد المرسلين الأعظم".

فأما انصرافها إلى النبي الأعظم " فمن كونه قد وُصفَ بمثل هذه الأوصاف في الكتاب المنزل, كقوله  تعالى :[وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا] النساء: 75 .

وقوله  تعالى :[يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ] الأحزاب: 45 46 .

أما النصارى الذين في الدهور المتأخرة, المتناسلين من أولئك, فلم يفهموها إلا عن الروح الذي حل على الحواريين, مع أن الروح الذي يدعون أنه حَلَّّ عليهم لم يسم  (  بارقليطاً  ) من الذين حل عليهم, ولا سُمِّي روح الحق, ولا دعي المنبثق من الأب مثلما سماه عيسى لما وعد به, بل إنه سمي من الحواريين: روح, وقوة, وألسنة كالنار.

وأما قوله: (  إن البارقليط يشهد لي  ):

فأقول: إنه يظهر من معناه بأن سيدنا عيسى يقصد شخصاً آخر غير شخصه, يشهد له بالحق,وغير الحواريين,وإثباتاً لهذا الدليل هو تعمد إشارته في نسق هذه الجملة الواحدة, القائلة عن البارقليط: هو يشهد لي وأنتم  أيضاً  شاهدون.

فبقوله هذا يظهر أن المُزمْع والعتيد أن يأتي ويشهد له, هو غير الشاهدين الحاليين, ولو كان واحداً لما قال: هو يشهد لي, بصيغة الزمان المستقبل البعيد كما في اليوناني, وأنتم أيضاً شاهدون بصيغة الزمان الحال  ).

ويواصل الشيخ زيادة بن يحيى تعليقه على البشارة السابقة قائلاً:  (  وأما اسم بارقليط: فـيُحمل معناه  أيضاً  على القرآن الشريف؛ لأنه أي القرآن قد  ورد من الله  تعالى  منبثقاً وخارجاً من لدن عنايته, مُعزِّياً بلفظه المحكم لرسوله المصطفى" ولخواصه  أيضاً .

فأما ما أورده  تعالى  من التعزية لرسوله, فمثل قوله [وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ] آل عمران: 176, وقوله  تعالى : [وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ] المزمل: 10، وقوله: [وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ] المدثر: 7 .

وأما ما قاله   تعالى  من التعزية لأصحابه قوله [وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ] آل عمران: 186، وقوله  تعالى :[لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ] آل عمران: 153 .

وبالإجمال أقول: إذا أمعنت النظر في القرآن الشريف ترى أكثر معانيه منصرفه على التعزية وأجناسها.

وإن قيل: إن البارقيط كان الوعد  فيه للحواريين لأن سيدنا عيسى قال لهم إنه  (  يرسله إليهم  ), والقرآن جاء بعد الحواريين بستمائة سنة   فأجيب: إن قوله: أرسله إليكم قوله لهم:  (  وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر  ).

فالحواريون لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل خَلَفَهُمُ الذين بقوا إلى انقضاء عالم عيسى  عليه السلام .

والحال أن قوله:  (  سيقيم لكم  ) مثل قول عيسى   عليه السلام  ههنا:  (  إنه يرسله إليكم  ) فالضمير في اللفظين متساوٍ للمخاطبين  ).

11  وقال إشعياء النبي  عليه السلام  رامزاً إلى نبيناً محمد ":  (  ويرفع علامة للأمم من بعيد ويُصْفر به من أقصى الأرض, وهو ذا يأتي سريعاً بخفة ليس فيهم تاعب ولا عائي, لا ينعس ولا ينام, ولا تَنْحَلُّ منطقة حِقْويه, ولا ينقطع سير حذائه, سهامه حادة, وجميع قِسِيِّه موتورة, حوافر خيله مثل الصوان, وبكراته   أي نوقه   مثل العاصف, زئيرة كالأسد, وِبنَهم يدرك الفريسة ويحوزها, وليس من ينجي, ويهر عليه في ذلك اليوم كهدير البحر, وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة, والنور أعتم لضبابها  ).

قال الشيخ زيادة بن يحي الراسي× معلقاً على هذه الشهادة:  (  وبالحق إن هذه الشهادة منطبقة على نبيناً محمد" كما قلنا, ومن كل جهاتها؛ لأن قوله: (  ويرفع علامة للأمم  )؛ يعني أنه هو العلامة المرفوعة للأمم, والدليل الهادي ليقودها إلى نور دين الله الحق, وهو الذي رفع للأمم أولاً كما عيسى رفع لليهود أولاً, وبعده عمموا نبوته.

وقوله:  (   من بعيد  ) مشيراً على أن هذه العلامة ليست هي من أرض إسرائيل التي تكلم فيها إشعيا هذه الإشارة, أي قوله : (   ويرفع علامة للأمم  ) بل من أرض بعيدة.

وإيضاح ذلك  قد يظهر من العدد الذي يتلوه, حيث يكشف هذا الرمز بقوله:  (  ويصفر به من أقصى الأرض  ), فقوله: (  من أقصى الأرض  ), يكشف أنه ليس من أرض إسرائيل ترفع العلامة, بل إنها ترفع من بعيد من أقصى الأرض, حيث رمز عنها بهذا الكلام,فكأنه يقول: إن نهاية وأقصى أرض إسرائيل  هي الأرض التي خرج منها نبينا" أعني: مكة المشرفة, التي هي عند أقصى أرض إسرائيل؛ لأن إقليم العرب لا فاصل بينه وبين أرض الموعد.

ثم إن هذه الجملة قد تضمنت دليلاً رمزياً آخر؛ لئلا تجهل العلامة, وأنه عربي بقوله:  (  ويُصْفر به  ) يعنى ينادى به, لأن في اللغة العبرانية يقول: ويصفر به, أي أن الله  تعالى  نادى به الناس كالصفير, كعادة العرب لكونه" عربياً؛ لأن العرب ينادون بالصفير عند كمائنهم وأغراضهم الخفية  ).

ثم يواصل الشيخ زيادة× شرحه لشهادة أشعياء وقوله:  (  يأتي سريعاً بخفة, ليس فيهم تاعب ولا عائي, لا ينعس ولا ينام, ولا تَنْحَل حِقويه, ولا ينقطع سير حذائه, سهامه حادة, وجميع قسيِّه موتورة  ).

قال الشيخ زيادة:  (  فالحق أنه" أتى بجيوشة بخفة, وما كان في أعوانه تاعب, ولا كان ينعس, بل إنه سهران  في عبادة الله   سبحانه وتعالى  ونشر دينه الشريف كما ورد عنه " أنه كان يقوم الليل كله حتى ترم قدماه الشريفتان, فأمره الله   تعالى   في القرآن العظيم شفقة عليه وحباً وتعظيماً له بقوله له:[يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا] المزمل .

و (  لا انحلت منطقة حقويه  ) يعنى أن عزيمته نشيطة,  (  غير منقطع سير حذائه  ) يعنى أن قدميه الكريمتين غير فاترة عن السعي بالخير والعبادة و  (  سهامه حادة  ) يعني بما أنه لا يوجد من يساويه ممكن كان يضرب بالسهام من قبل الله لأعدائه المعاندين بتلك القسي الموتورة.

ويؤكد هذه المعاني غلاقة القول بأن  (  حوافر خيله مثل الصوان  ) كما وصفت تلك الخيول في القرآن الكريم في قوله  تعالى :[وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا ١ فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحٗا] العاديات .

ثم إن ههنا إشعيا قد أظهر بنبوءته أن نبينا " هو المقول عنه هذه الأقوال وليس سواه؛ لأن عيسى لم تكن عنده خيل , وإنما نبينا محمد المصطفى" هو الذي كانت تقدح حوافر خيله, مثل الصوان المطابق لقوله  تعالى :[فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحٗا]العاديات.

إلى أن قال الشيخ زيادة ×:  (  ثم قال إشعيا  (  وبكراته  ) أي نوقه, مثل العاصفة, فلفظة:  (  نوقه  ) هي أعظم دليل على المصطفى" من حيث إن عيسى ما كان عنده نوق ولا جمال.

  (  وزئيره كالأسد, وكان يدرك الفريسة ويحوزها, وما كان أحد تخلص منه  ) ههنا سمى إشعيا  (  زئيره كالأسد  ) وفي الإصحاح الحادي والعشرين قال:  (  فصرخ الأسد  ) ونعم هذا التشبيه؛ لأنه" كان سلطان البشر, كما أن الأسد سلطان الحيوانات بالفروسية والشجاعة.

وآخر الأدلة من إشعيا على نبينا":  (  يدوي عليه في ذلك اليوم دَويَّ البحر، وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة, والنور اعتم بضبابها  ).

وقد صدق الدليل الأخير أن نبينا الأعظم" هو الذي كان ينادي؛ كان يزعق على الكفر كدوي البحر, وانتهره وزجره ورَوَّعه: أي الكفر، وهو الذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة بالكفر ضيقة, وبالحقيقة كانت الأرض مظلمة بالكفر عابدة للمخلوقات.

وقوله: (  والنور أظلم بضبابها  ) يعني أن نور الاعتقاد بالله الذي كان موجوداً على الأرض عند النصارى واليهود القدماء قد غطّاه ضباب الإلحاد والجحود حينما ضلّوا عما تسلموه من موسى وعيسى   عليهما السلام , وهذا بالحقيقة هو النور الذي أظلم بضبابها أعني بالأمكنة المشرفة مثل مكة والقدس وغيرهما وهؤلاء أركان القُدُس  ).

فهذا نزرٌ يسير من البشارات بمحمد " في الكتب السابقة.


 في ذكر مكة والكعبة في الكتب السابقة

لقد صرحت الكتب السابقة الموجودة بأيدي أهل الكتاب باسم مكة المكرمة, والكعبة المشرفة,وَوَصْفِها بما لا يدع للشك مجالاً بصدق  نبوة محمد" وبكونه بعث من مكة, ودعا إلى تعظيمِ الكعبة, وحَجِّ البيت الحرام, وما إلى ذلك من الأوصاف.

 وإذا جادل أهل الكتاب في الآيات الباهرات الواضحات التي جاءت في القرآن الكريم فلن يستطيعوا أن يكابروا فيما هو مسطور في كتابهم المقدس عن مكة, والكعبة.

وفيما يلي ذكر لبعض صفات بيت الله الكعبة,وبلده الحرام.

وأكثر هذه الصفات بالنص الحرفي, وبعضها بالمعنى, وبعد ذلك تُذكر بعض النبوآت , والبشارات.

 أولاً: صفات مكة والكعبة في الكتاب المقدس

لقد جاء في الكتاب المقدس ذكر كثير لصفات مكة المكرمة والكعبة المشرفة، ومن ذلك  على سبيل الإجمال  ما يلي:

1  أورشليم الجديدة   أورشليم المشيحية   بالشين: أي الخلاصية التي في عهد المشيح, أي المخلّص الموعود.

2  في برِّية أوجبال فاران التي عاش فيها إسماعيل وأمه، وأنبع الله لهم الماء فيها.

3   المدينة التي كان إبراهيم يتطلع إليها بشوق.

4   سكانها بنو قيدار   ذرية إسماعيل  .

5   هي بلد الأمين الصادق رئيس الخليقة.

6   ليس فيها هيكل.

7  هيكل سليمان في كل عظمته لا يعتبر شيئاً بالنسبة للبيت الجديد.

8   البيت الجديد شكله مكعب.

9  المكعَّبة فيها حجر كريم.

10  تتزين بالإكليل والحلي كالعروس.

11  يهابها كل من يناوِؤها، ولا يدنو منها الرعب.

12   عند الكعبة نبع ماء الحياة مجاناً فيه شفاء (زمزم).

13  تفتح أبوابها ليلاً ونهاراً لا تغلق.

14  تجثو عندها كل ركبة في الكون.

15   تكون هناك سكة وطريق يقال لها: الطريق المقدسة, لا يعبر فيها نجس.

16   لا يدخلها شيء نجس.

17   أبناؤها أكثر من أبناء القدس.

18  تضيق بسكانها والداعين فيها.

19   يسجد الملوك أمامها، ويلحسون غبارها.

20   تزول الجبال والآكام, ولا يزول إحسان الله وسلامه عنها.

21   تتحول إليها ثروة البحر, ويأتي إليها غنى الأمم.

22   يجتمع إليها الناس، ويأتون من بعيد.

23   تضيق أرضها عن الإبل والغنم القادمة من الغرب والشرق  سبأ ومدين وفاران وقيدار  ويخدمها رجال مأرب.

24  لها جبل مبارك تسير إليه الأمم؛ ليعبدوا الله فيه  عرفات .

25   الكل عند البيت سواء في حرية التقرب إلى الله.

26   مكتوب اسم الله على جباه أهلها  سيماهم في وجوههم من أثر السجود .

27   يمتنع العباد حول البيت عن ما يصدر عن الطبيعة  البول والغائط  .

28  يكون رأس الرجل عارياً, والمرأة تغطي رأسها ويلبسون من الحقوين إلى الفخذين ويجزون شعر رأسهم جزًا (الإحرام والتحلل).

هذه بعض صفات مكة التي حيرت مُفَسِّري التوراة بشأن هذه المدينة؛ لأنهم لا يريدون الإقرار بالحقيقة، صفاتٌ جليةٌ كالشمس، ولكن مفسري التوراة تعاموا عنها، وتخبطوا في تفسيرات متناقضة؛ فتارة يزعمون أن هذه الأوصاف لمدينة سماوية،وتارة يزعمون أنها أورشليم رمزية وتارة يزعمون أنها أورشليم الكاملة المشيحية؛ أي التي ستكون في العهد الألفي السعيد.

ولم يعلموا أنهم بهذه التفسيرات قد شهدوا على أنفسهم أنها ليست هي أورشليم القدس المعروفة، وأن أهلها ليسوا بني إسرائيل هؤلاء.

 وهكذا أشرق الصبح لذي عينين, ولله الحمد وأظهر الله الحقيقة .

ومن شك في هذا من مثقفي الغرب فما عليه إلا أن يشاهد النقل الحي لشعائر التراويح، أو الحج على الفضائيات, ويقارن بين ما يقرأ من الصفات وما يرى بأم عينه؛ ليعلم لماذا خاطب الله علماء ملته؟ بقوله:[يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ] آل عمران: 71 .

ويتذكر قول المسيح للمرأة السامرية حين سألته أي قبْلَتَيْ بني إسرائيل أفضل؟:   (  صدقيني أيتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الرب لا في هذا الجبل في السامرة ولا في أورشليم  ) يوحنا21:4

وإذا ثبت هذا فالأمانة العلمية وحرية البحث توجب للعاقل أن يعيد النظر في كل النبوءات، ويشك في كل التفسيرات، ولن يجد حينئذٍ أي صعوبة في تمييز بيت الأمة المصطفاة الموعودة بنصر الله؛  فهذه مفاتيح لحل رموز النبوءات كلها من خلال هذه الهدية التي نرجو   نحن المسلمين  أن يطلع عليها أولئك القوم؛ ليهدي الله من يشاء هدايته.

 ثانياً: بشارات الكتب السابقة بشأن مكة والكعبة

مر في الفقرة الماضية ذكر لبعض ما جاء من أوصاف مكة والكعبة في الكتب المقدسة, والحديث ههنا سيكون حول إيراد بعض تلك البشارات بنصها؛ تلك البشارات التي تؤكد تلك الأوصاف , وتقيم الحجة على من له أدنى بصيرة

1  قال أشعياء النبي  عليه السلام  مثنياً على مكة :  (  ارفعي إلى ما حولك بصرك، فستبتهجين, وتفرحين من أجل أن يصير إليك ذخائر البحر, وتحج إليك عساكر الأمم حتى يعم بك قطر الإبل الموبَّلة([15]) ,وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ([16])، ويسير إليك أغنام فاران, ويخدمك رجال مأرب  )([17]).

قال ابن تيمية× معلقا على هذه البشارة:  (  فهذه الصفات كلها حصلت بمكة, فحملت إليها ذخائر البحرين, وحج إليها عساكر الأمم, وسيقت إليها أغنام فاران   الهدايا والأضاحي  وفاران هي البرية الواسعة التي فيها مكة, وضاقت الأرض عن قطرات الإبل الموبَّلة الحاملة للناس وأزوادهم إليها, وأتاها أهل سبأ, وهم أهل اليمن  ).

2  وقال أشعياء النبي  عليه السلام  في مكة:  (  سيري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد, وانطقي بالتسبيح, وافرحي إذ لم تحبلي؛ فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي  ).

قال ابن تيمية × معلقاً على هذه البشارة:  (  ويعني بأهله: بيت المقدس, ويعني بالعاقر: مكة   شرفها الله  لأنها لم تلد قبل نبينا".

ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس؛ لأنه بيت للأنبياء, ومعدن الوحي؛ فلم تزل تلك البقعة ولادة  ).

3  وقال أشعياء  والمراد مكة :  (  أنا رسمتك على كفي, وسيأتيك أولادك سراعاً, ويخرج عنك من أراد أن يخيفك ويخونك؛ فارفعي بصرك إلى ما حولك؛ فإنهم سيأتونك, ويجتمعون إليك؛ فتسمي باسمي, إني أنا الحي؛ لتلبسي الحُلل وتزيني بالإكليل([18]) مثل العروس, ولتضيقن خراباتك([19]) من كثرة سكانك والداعين فيك, وليهابن كل من يناوؤك, وليكثرن أولادك حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة؛ يرون رقوب([20]) فمن رّبَّى لي هؤلاء ومن تكفل لي بهم؟  ).

قال ابن تيمية×:  (  وذلك إيضاح من أشعياء بشأن الكعبة؛ فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة, ووكل بخدمتها الخلفاء, والملوك, ومكة  هي التي رَبَّى الله لها الأولاد من حجاجها, والقاطنين بها.

 وذلك أن مكة هي التي أخرج عنها كل من أن أراد أن يخيفها ,ويخربها، فلم تزل عزيزة مكرمة محرمة, لم يهنها أحد من البشر قط, بل أصحاب الفيل لما قصدوها عذبهم الله العذاب المشهور, ولم تزل عامرة محجوجة من لدن إبراهيم الخليل.

 بخلاف بيت المقدس؛ فإنه قد أُخْربَ مرة بعد مرة, وخلا من السكان, واستولى العدو عليه وعلى أهله.

وكذلك إخباره بإهانة كل من يناويها: هو للكعبة دون بيت المقدس، قال  تعالى : [وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۢ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ] الحج: 25 .

إلى أن قال:  (  وأما كثرة أولادها, وهم الذين يحجون إليها, ويستقبلونها في صلاتهم, فهم أضعاف أضعاف أولاد بيت المقدس  ).

4  وقال أشعياء  عليه السلام  في كتابه عن الحرم:  (  إن الذئب والجمل يرتعان فيه معاً  ).

قال ابن القيم × معلقاً على هذه البشارة:  (  إشارة إلى أمنه([21]) الذي خصه الله به دون بقاع الأرض؛ ولذلك سماه البلد الأمين, وقال:[أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ] العنكبوت: 67 .

 وقال يعدد نعمه على أهله:[إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ ٢ فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ] قريش.

فهذا شيء يسير مما ورد بشأن مكة، والحرم, والكعبة في الكتب السابقة.


 وصف أمة الإسلام في الكتب السابقة

لقد جاء وصف أمة الإسلام أمة محمد" في الكتب السابقة بما لا يدع مجالاً للشك في أنها الأمة المصطفاة التي وردت أوصافها في بشارات الأنبياء السابقين  عليهم السلام .

ولقد ورد شيء من تلك الأوصاف في مباحث, وفقرات ماضية, وفيما يلي مزيد بيان لذلك, وتأكيد عليه من خلال إيراد بعض ما جاء من تلك الأوصاف في ما هو موجود في الكتب التي هي بين أيدي أهل الكتاب.

1  قال داود  عليه السلام  في بشارة له في مزموره:  (  لترتاح البوادي وقراها، ولْتصِرْ أرض (قيدار) مروجاً، وليُسَبِّحْ سكانُ الكهوف, ويهتفوا من قُلَلِ([22]) الجبال بحمد الرب ويذيعوا تسابيحه في الجزائر  ).

قال ابن تيمية × معلقاً على هذه البشارة:  (  فَلِمْن البوادي من الأمم سوى أمة محمد؟ ومن(قيدار) سوى ابن إسماعيل جد رسول الله" ومن سكان الكهوف, وتلك الجبال سوى العرب ؟  ).

2  وقال داود   عليه السلام  في الزبور في وصف أمة الإسلام :  (  سبحوا الله تسبيحاً جديداً, وليفرح بالخالق مَن اصطفى الله له أمته, وأعطاه النصر, وسدد الصالحين منهم بالكرامة, يسبحونه على مضاجعهم, ويكبرون الله بأصوات مرتفعة  ).

ولا ريب أن هذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد" وأمته؛ فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس, وعلى الأماكن العالية, وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم: عيد الفطر, وعيد النحر في الصلاة, والخطبة، وفي ذهابهم إلى الصلاة, وفي أيام منى الحجاج,وسائر أهل الأمصار يكبرون عَقيب الصلوات, ويكبرون إذا رموا الجمار, ويكبرون على الصفا والمروة, ويكبرون في الطواف عند محاذاة الركن.

وكل هذا يجهرون فيه بالتكبير؛ فتكبير الله بأصوات مرتفعة إنما هو من شعائر المسلمين.

فهذا التكبير بالأصوات المرتفعة غير ما يُسِرُّه المسلمون من ذكر الله تكبيراً, وحمداً, وتسبيحاً, وتهليلاً, ونحو ذلك من الأذكار الواردة في الشرع؛ فهم لا يَدَعون ذكر الله في حال, بل يذكرونه في جميع الأحوال.

ثم إن الصلاة أعظم تسبيح؛ فهذا معنى قول داود  عليه السلام :  (  سبحوا الله تسبيحاً جديداً  ).

والتسابيح التي شرعها الله جديداً كالصلوات الخمس التي شرعها الله للمسلمين جديداً.

ولا يمكن أن تنطبق هذه الأوصاف على غير أمة محمد".

3  وقال حبقوق  عليه السلام :  (  لقد أضاء السماء من بهاء محمد, وامتلأت الأرض من حمده  ).

قال ابن تيمية× معلقا على هذه الجملة من بشارة حبقوق  عليه السلام :  (  وأما امتلاء السماء من بهاء أحمد بأنوار الإيمان, والقرآن التي ظهرت منه, ومن أمته, وامتلاء الأرض من حمده, وحمد أمته في صلواتهم   فأمر ظاهر؛ فإن أمته هم الحمادون؛ لا بُدَّ لهم من حمد الله في كل صلاة وخطبة، ولا بد لكل مصلٍّ في كل ركعة من أن يقول:  [ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ].

فإذا قال: [ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ] قال الله:  (  حمدني عبدي  ) فإذا قال:  [ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ]  قال:  (  أثنى عليَّ عبدي  ) فإذا قال: [مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ] قال:  (  مجدني عبدي  ). رواه مسلم.

فهم  أي أمة محمد  يفتحون القيام في الصلاة بالتحميد, ويختمونها بالتحميد, وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع يقول إمامهم: سمع الله لمن حمده, ويقولون جميعاً: ربنا ولك الحمد, ويختمون صلاتهم بتحميدٍ يجعل التحيات له, والصلوات والطيبات.

وأنواع تحميدهم لله مما يطول وصفه  ).

4  وقال أشعياء  عليه السلام  شاهداً لأمة محمد" بالصلاح والديانة:  (  سأرفع علماً لأهل الأرض بعيداً, فيصفر لهم من أقاصي الأرض؛ فيأتون سراعاً  ).

قال ابن تيميه× معلقاً على هذه البشارة:  (  والنداء هو ما جاء به النبي" من التلبية في الحج, وهم الذين جعلوا لله الكرامة, فوحَّدوه, وعبدوه, وأفردوه بالربوبية, وكسروا الأصنام, وعطلوا الأوثان.

والعلم المرفوع: هو النبوة.

وصَفيرُه: دعاؤهم إلى بيته ومشاعره، فيأتونه سامعين مطيعين  ).

5  وقال أشعياء  عليه السلام  في وصف أمة محمد":  (  ستمتلىء البادية, والمدن من أولاد قيدار, يسبحون، ومن رؤوس الجبال ينادون, هم الذين يجعلون لله الكرامة, ويسبحونه في البر والبحر  ).

وقال ابن تيمية× معلقاً على هذه البشارة:  (  وقيدار هو ابن إسماعيل باتفاق الناسِ, وربيعةُ ومُضَرُ من ولده, ومحمدٌ" من مُضَر.

وهذا الامتلاء والتسبيح لم يحصل لهم إلا بمبعث محمد"  ).

6 وقال حزقيال  عليه السلام  وهو يهدد اليهود, ويصف لهم أمة محمد":  (  وإن الله مظهرهم عليكم وباعث فيكم نبياً, ومنزل عليهم كتاباً, ومملكهم رقابكم, فيقهرونكم, ويذلونكم بالحق, ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب, معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين, محيطون بكم, وتكون عاقبتكم إلى النار, نعوذ بالله من النار  ).

فهذه بعض البشارات، والشهادات الموجودة في كتب أهل الكتاب، وهي  كما ترى  شاهدة على خيرية أمة محمد".


 الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:

ففي خاتمة البحث هذا ملخص لأهم ما ورد فيه.

1  قصة البشرية بدأت بخلق آدم  عليه السلام  وأمرِ اللهِ الملائكةَ أن يسجدوا له، واستكبار إبليس عن ذلك، وطرد إبليس، وإهباطه إلى الأرض، وإسكان آدم وزوجه الجنة، وإغواء إبليس لآدم بالأكل من الشجرة، وأكل آدم منها، وإهباطه إلى الأرض، وقيام العداوة بين إبليس وذريته من جهة، وآدم وذريته من جهة.

2  الإسلام: هو الاستسلام، والانقياد لله، والالتزام بما جاء به النبي محمد".

3  الفطرة: هي دين الإسلام، ومعنى فطر الناس عليه: أن الله خلقهم قابلين لأحكام دين الإسلام، وجعل تعاليمه مناسبة لخِلقتهم.

4  للأخلاق منزلة سامية في الإسلام، وقد ورد في البحث بيان لمعنى الأخلاق، ومعنى الخلق الحسن، والخلق العظيم، وأسباب اكتساب ذلك.

5  الله  جل جلاله : هو رب كل شيء ومليكه، الخالق وحده، المدبر للكون كله، العالم بكل شيء، المحيي، المميت، الرزاق، القادر، المتصف بكل كمال، المتنزه من كل نقص وعيب، المستحق للعبادة وحده.

6  قدرة الله  عز وجل  صفة من صفات الله الثابتة له، وهي القدرة التامة الكاملة.

7  الكتاب والسنة هما مصدرا التشريع الإسلامي؛ فمنهما تُستمد عقائد الإسلام، وشرائعه، وأحكامه، وآدابه، وما جرى مجرى ذلك.

8  القرآن الكريم هو كلام الله المعجز المنزل على النبي محمد " المنقول تواتراً، المتعبد به تلاوةً.

9  القرآن محفوظ من الزيادة، والنقص، والتحريف؛ فلقد تكفل الله  عز وجل  بحفظه.

10  السنة النبوية هي: كل ما أُثِرَ عن النبي " من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقيَّة أو خُلُقية، أو سيرة سواء كانت قبل البعثة، أو بعدها.

11  أركان الإسلام أسسه التي يُبنى عليها، وهي خمسة أركان:

شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وقد ورد في البحث تفصيل لتلك الأركان.

12  أسس العقيدة هي أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، و الإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.

وقد ورد في البحث بيان وتفصيل لتلك الأركان.

13  ورد في البحث بيان لمهيئات نبوة محمد" وسيرته، وبشارة موسى وعيسى بمحمد  عليهم السلام .

14  ورد في البحث ذكر لعلم الغيب، وما يندرج تحته من المباحث كعالم الجن والشياطين، والموت،  والبرزخ، وأشراط الساعة.

15  ورد في البحث تعرض لمسائل في الذنوب، والتوبة، والدعاء.

16  ورد في البحث بيان لنظام الإسلام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وما يندرج تحت ذلك.

17  تضمن البحث بياناً لموقف الإسلام من بعض القضايا المعاصرة كموقف الإسلام من العقل، والعلم، والعمل، والصحة، والنظافة.

18  ذُكر في البحث قضايا يكثر حولها الجدل، مع ذكر موقف الإسلام منها، كقضايا السلام، والتعايش، والتسامح، والإكراه، والعنف، والإرهاب، والجهاد.

19  ورد في البحث حديث عن الإسلام في الكتب السماوية السابقة التي أوردت الكثير من البشارات، والتنويه بدين الإسلام، ونبيه، وأمته.

فهذا هو ملخص لأهم ما ورد ذكره في هذا البحث؛ فأسأل الله  جلَّت قدرته  أن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين



[1] _العُكَّة: إناء من جلد مستدير يُجْعَلُ فيه السمنُ غالباً والعسل. انظر فتح الباري 6/590 .

 ([2]) الغرغرة: هي حشرجة الروح في الصدر حال الاحتضار، وبداية سياق الموت .

[3]_ أرواح: جمع ريح بسبب تَعَرُّقهم.

 [4]_ قراريط: جمع قيراط, وهو الجزء من الدينار.

[5] _ مِشْقَح: يميل إلى لون الحمرة.

[6] _ سيناء, أو طور سينا: اسم جبل بقرب آيلة.

[7] _ سعير, أو ساعير: اسم لجبال فلسطين, وهي قرية من الناصرة بين طبرية وعكا.

[8] _ جبال فاران: هي جبال مكة.

[9] _ تيمان أو التيمن: اسم عبرى معناه: اليمين، أو الجنوبي، أو الصحراء الجنوبية.

[10] _ يعني أهل الكتاب .

[11] _ تَقَلَّد السيف: وضع سيفه في علبته، ووضعها على أحد منكبيه.

[12] _ سمة التأله: أي طريق التعبد والتنسك.

[13]_  يعني محمداً "

[14] _  يبتزهم: يسلبهم

[15] _ الموبَّلة: المثقلة

[16] _ سبأ: أرض باليمن

[17]  _ رجال مأرب: هم سدنة الكعبة, وهم أولاد مأرب بن إسماعيل

[18]_  الأكاليل: شبه عصابة للرأس تزين بالجواهر, ويسمى التاج إكليلاً.

[19] _ الخرابات: المواضع.

[20] _ الرقوب: الذي لا ولد له.

[21] _ يعني أمن الحرم المكي.

[22] _ القُلل: أعالي الجبال, مفردها قُلَّة.