×
محاضرة كتبها الشيخ الأمين الشنقيطي - رحمه الله - عام 1385هـ، وألقاها عنه تلميذه الشيخ محمد رشاد سالم - رحمه الله -، وهو حاضر.

    حول شبهة الرقيق

    __________ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: قال المحقق في المقدمة: كتبها الشيخ في عام 1385 وألقاها عنه تلميذه الشيخ محمد رشاد سالم وهو حاضر، ثم طبعت بعد ذلك في رسالة لطيفة مع مقدمة مطوّلة للشيخ محمد رشاد، وقد علق على بعض المواضع فيها فأثبتنا تعليقاته وختمناها بحرف [ع]. وهذه المحاضرة لم تكن في الطبعات السابقة، فألحقناها بهذه الطبعة، وقد أرسَلَتْها لي إحدى الأخوات الدارسات في مرحلة الدكتوراه جزاها الله خيرًا.

    (1/181)


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وبعد. فإن إزالة هذه الشبهة ونحوها واضحة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن دين الإسلام الذي هو تشريع خالق السموات والأرض على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - صالحٌ في كل الأزمنة والأمكنة إلى يوم القيامة، ولو بلغ التطوّرُ ما بلغ. وهو كفيل بحفظ جميع المصالح البشرية، وتنظيم علاقاتهم فيما بينهم وسائر أحوالهم. وفيه المحافظة التامة بأقوم الطرق وأعدلها على حفظ دين المجتمع وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأعراضهم وأموالهم. ولا شك أن من أوضح أحكامه حكمةً، وأظهرها دليلًا، الحكم بالملك بالرقّ، المعبَّر عنه في القرآن "بالملك باليمين"؛ لأن اليمين هي الجارحة التي بها أغلب التصرفات، فأضيف ملك الرقيق إلى اليمين تأكيدًا لحكم ذلك الملك واقتضائه تصرفُّ السيد في عبده التصرفَ الكامل حسب ما اقتضاه الشرع الكريم. وذلك كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، والمعارج: 29]، وقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]، وقولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وقولِه تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52]، وقولِه

    (1/183)


    تعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب: 55]، وقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وقولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وقوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71]، وقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} الآية [الروم: 28] إلى غير ذلك من الآيات. والمراد بمِلك اليمين في جميعها ملكُ الرقيق بالرقّ، وإنما قلنا إنه من أوضح الأحكام حكمةً، وأظهرها دليلًا؛ لأن سبب الرقّ هو الكفر ومحاربة اللّه ورسوله. وإيضاح ذلك: أن الله خلَقَ الخَلْق ليوحّدوه ويعبدوه ويمتثلوا أمرَه ويجتنبوا نهيه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57] وأسبغ عليهم نعمه ظاهرةً وباطنة، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروا له، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

    (1/184)


    فتمرَّد الكفارُ على ربهم وطغَوا وعتَوا وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمتُه هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم الله عليهم بها في محاربته وارتكاب ما يُسخطه ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره. وهذا من أعظم الجرائم التي يتصوّرها الإنسان. فعاقبهم الله الحَكَمُ العدل اللطيف الخبير جل وعلا عقوبةً شديدة تُناسب جريمتَهم، فوضعهم من مقام الإنسانية الكاملة إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، وهم في الحقيقة كالحيوانات. كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] فأجاز بيعَهم وشراءهم وغير ذلك من التصرفات المالية. وهذه العقوبة الثانوية التي شرعها خالق السموات والأرض المحيطُ علمه بكلّ شيء كأنه قِتلة أدبية لا قِتلةٌ قاطعةٌ للحياة بمفارقة الروح البدن. ولو فرضنا - ولله المثل الأعلى - أن حكومة من هذه الحكومات - التي تنكر المِلك بالرق وتُشنِّع على دين الإسلام بذلك - قام عليها رجال من رعاياها - كانت تُغدِق عليهم النعم وتسدي إليهم جميعَ أنواع الإحسان - ودبَّروا عليها ثورةً مسلحة لمحاولة قلب نظام حكمها، ثم قدَرت عليهم بعد مقاومة شديدة فإنها تقتلهم شرَّ قِتلة قاضيةً بمفارقة

    (1/185)


    الروح البدن. والكافر يغدِقُ عليه خالقُه نِعَم الدنيا، وهو يُدبِّر ثورةً مسلحة لمحاولة قلب النظام السماوي الذي وصفه خالقُ السموات والأرض. فكيف يُنكرون حكمَ الله بقتله القِتلةَ الأدبية المذكورة وهو لو كان مثلُه قائمًا عليهم لقتلوه أعظم قتلة؟ وهذا يدلّ على سخافة عقولهم في إنكارهم المِلكَ بالرق وهم يُسوِّغون لأنفسهم ما هو أعظم منه، بل عُرف يقينًا من عادتهم أنهم يستعبدون كلَّ مَن قدَروا على استعباده من الأحرار بدون مبرّرٍ يقتضي ذلك، فتوزعهم عن الحكم بالرقّ صيانةً لحقوق الأنسانية في زعمهم الكاذب مع استعبادهم كلَّ مَن قدَروا على استعباده شرَّ استعباد شبيه بتورُّع القائل: أُريدُ هِجاءَه وأخاف ربي ... وأعلمُ أنه عبدٌ لئيم مع أن خالق السموات والأرض لما عاقب الكفار العقوبةَ المذكورةَ الشبيهة بالقِتْلة الأدبية لم يسلبهم حقوقَ الإنسانية سلبًا كليًّا، بل أوجب على مالكهم الرفقَ بهم، والإحسانَ إليهم، وأن يُطعموهم مما يَطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم كلما هو معلوم. وبالجملة فقد بذل الكافر كلَّ ما في وُسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعَه ليسير عليه خلقه، فينشر به في الأرض الأمنَ والطمأنينة والرخاءَ والعدالةَ والمساواة في الحقوق الشرعية، وتنتظم به الحياة من

    (1/186)


    جميع وجوهها ونواحيها على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. وبذلُه كل ما في وسعه ضدَّ ذلك يستوجب به القتلَ الأدبي، بل والقتل القاطع للحياة (1). ومعلوم أن يخطر (2) في ذهن الطالب السامع أن يقول: إذا كان الرقيق مسلمًا فما وجه ملكه بالرق، مع أن سبب الرقّ الذي هو الكفر والتمرُّد على النظام السماوي قد زال؟ والجواب عنه: أن القاعدة المعروفة عند العقلاء والعلماء أن الحق السابق لا يرفعه اللاحق، والأحقِّيَّةُ بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها. فالمسلمون حين يَسْبُون الكفار يثبت لهم عليهم حقُّ الملكية عقوبةً على تمردهم على خالقهم كما أوضحنا، وهذه الملكية بتشريع خالق الجميع وهو الحكيم الخبير. فإذا استقر هذا الحق وثبت ثم أسلم ذلك الرقيق، بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرقِّ بالإسلام مسبوقًا بحقِّ __________ (1) بل لو خرجت جماعة من نفس المسلمين لقَطْع الطريق وأخافت الناسَ وأخذت أموالهم، ولو لم تتعرض لدينهم، لوجب على الحاكم المسلم أن يردعهم ولو بقتلهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33]. [ع] (2) في ط: "يحضر" وستأتي في عدة مواضع كما أثبتنا.

    (1/187)


    المجاهدين الذين سبقت لهم ملكيته قبل إسلامه، وليس من العدل والإنصاف رفعُ الحقِّ السابق بالحقِّ المتأخِّر عنه، كما هو معروف عند العقلاء. ومعلوم أيضًا أن يخطر في ذهن طالب العلم أن يقول: سلَّمنا أن الحق اللاحق لا يَرفع الحقَّ السابق، ولكن يجَمُلُ بصاحب الحق السابق أن يتنازل عن حقِّه لأخيه عندما يكون مسلمًا فيعتقه ولا يسترقّه. والجواب أن يقال: نعم جاء بذلك دين الإسلام، فأمر المسلم بعتق أخيه المسلم، ورغَّبَه في ذلك غايةَ الترغيب، وفتح للعتق أبوابًا كثيرة كإيجابه في الكفارات، وكأمره بالكتابة والحكم بسراية العتق. ونحو ذلك: 1 - قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]. 2 - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وحديث الحكم بسراية العتق صحيح مشهور كما هو معلوم.

    (1/188)


    * أما دعوى أن الإسلام جاء بالرقِّ في فترة معينة فقط، فهو افتراء على الله ورسوله وعلى دينه، وعلامات الإلحاد في مثل ذلك القول واضحة لا لبس فيها. بل المِلك بالرق حكمٌ من أحكام الإسلام يتحقق بوجود مقتضيه إلى يوم القيامة. وقد بيَّنَّا ظهورَ حكمته. ودعوى إجماع البشرية على منع الرقِّ، من جنس دعاوى الملحدين الكافرين، والبشرية التي يُدَّعى إجماعُها يُراد بها الكفار المتمرِّدون على مَن خلقهم وأذنابهُم الذي يتبعونهم في كل ما قالوا، وهم في الحقيقة مجمعون على إباحتهم لأنفسهم استرقاق جميع مَن قَدَروا على استرقاقه من جميع البشرية كما هو معلوم لا ينازع فيه إلا مكابر في المحسوس (1)، فالاستدلال لإجماع مثل هؤلاء من الكفرة على منع ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة أمره واضح كما ترى. * والاحتجاج بآية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على أن القرآن يمنع الرقّ ويوجب على المسلمين أن يمُنّوا على الأسير الكافر أو يفادوه باطل؛ لأن ذِكر المنّ والفِداء في موضعٍ لا يمنَعُ من ذِكْر القتل والاسترقاق في موضع آخر. قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}: __________ (1) والرق كان معروفًا في الأمم الماضية، وقد سجل القرآن في قصة يوسف أن السارق كان يسترق. بل قوانينهم الوضعية وكتبهم الدينية تنص على جواز الاسترقاق ولأتفه الأسباب كما ستراه فيما بعد - إن شاء الله - عند المقارنة بين الرق في الإسلام وفي القانون. [ع]

    (1/189)


    * وإنما ذَكر جل وعلا في هذه الآية المنَّ والفِداء في الأسارى، فخص ذكرَهما فيها لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر تنزيله مكررًا، فاعْلَمَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء - ما له فيهم مع القتل. اهـ. منه. وهو دليل على عدم الحصر في المن والفداء. وتؤيد ذلك أدلةٌ معروفة: منها أن "المنَّ" و"الفداء" مصدران حكمهما حكم أسماء الأجناس الجامدة، وإناطة الحكم بها لا مفهوم مخالفة لها على التحقيق عند جماهير العلماء، وهو الحق؛ لأنها من مفهوم اللقب وهو غير معتبر. فقولك: رأيت إنسانًا، لا يُفهم منه أنك لم (1) تر شيئا آخر غيرَه. وذِكر "المن "و"الفداء" في موضع لا يستلزم أنه لم يُذكر شيء آخر في موضع آخر. وادعاء أن لفظة (إما) تقتضي الحصرَ في القسم بها دعوى باطلة بإجماع العقلاء، كما حرره علماء الجدل في مبحث تقسيم الكلي إلى جزئياته وتقسيم الكل إلى أجزائه، وعلماء المنطق في مبحث الشرطي المنفصل، وعلماء الأصول في مبحث السَّبر والتقسيم. والمعروف أن الحصر لا يكون إلا بأحد طريقين لا ثالث لهما. وهما: 1 - العقل. 2 - الاستقراء. لا ثالث لهما البتة. فالحصر العقلي: كقولك: المعلوم إما موجود، وإما ليس بموجود. فهذا حصر عقلي؛ لأن العقل الصحيح يمنع وجود واسطةٍ بين الشيء __________ (1) ط: "لا" ولعله ما أثبت.

    (1/190)


    ونقيضه. وما يزعمه بعض المتكلمين من أن الأحوال المعنوية أمور ثبوتية ليست بموجودة ولا معدومة، وَهْمٌ باطل، وخيال لا حقيقةَ له على التحقيق الذي لا شك فيه؛ فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعًا، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعًا. والحصر الاستقرائي كقولك: العنصر إما تراب، وإما ماء، وإما نار، وإما هواء؛ لأن التتبع والاستقراء دل على انحصار جنس العنصر في الأربعة المذكورة. وكقولك: الكلمة إما اسم، وإما فعل، وإما حرف. أما حصر معاملة الأسير الكافر في "المن "و"الفداء" فقط فلم يدل عليه عقل ولا استقراء شرعي؛ لأن الاستقراء الشرعي دل على أقسام أخرى في مواضع أخر، كالقتل والاسترقاق. وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع الأقسام الأربعة المذكورة: 1 - فقد قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعيط صبرًا يوم بدر بعد أن وقَعَا في يده أسيرين. 2 - فادى أسارى بدر من قريش ومَنَّ على البعض منهم. 3 - ومَنَّ على ثمامة بن أثال، سيدِ بني حنيفة. 4 - واسترقاقه لسبي الكفار أشهر من أن يُذكر كما هو معلوم في سبي هوازن وسبي أوطاس. وإن كانت وقعة أوطاس على هوازن بعد هزيمتهم. وقد كانت زوجته جويرية بنتُ الحارث المصطلقية في سهم ثابت بن قيس لما قسم سبيَ بني المصطَلِق، فكاتَبَتْه على نفسها، فأدَّى

    (1/191)


    عنها رسولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - نُجومَ الكتابة وتزوجها، كما هو مشهور عند أهل الأخبار، فأعتق المسلمون سبايا بني المصطلِق لما صاروا أصهارَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكانت زوجته صفية بنت حيي مملوكةً من سبي خيبر أخذها أولًا دحية، ثم استعادها منه - صلى الله عليه وسلم - وأعتقها وتزوجها كما هو ثابت في الصحيح. مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن هذه الآية - أعني آية: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} - منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وممن قال بذلك قتادة والضحاك والسُّدّي وابن جُريج والعوفي عن ابن عباس وكثير من الكوفيين، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. ونقله ابن جرير عن قتادة والسّدُّي والضحّاك وغيرهم. ويدل للنسخ المذكور أن آية {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} من سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، نزلت عام تسع من الهجرة، فهي نازلة بعد سورة القتال التي فيها آية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. والتأخُّر في النزول من موجبات معرفة الناسخ إن لم يمكن الجمع. مع أنا لو سلَّمنا ما ذكره الملحد النافي للرق المستدلُّ على ذلك بآية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} تسليمًا جدليًّا، فإنها لا تدل على نفي الرقّ بالكلية؛

    (1/192)


    لأنها نازلة في خصوص المقاتلين من الذكور البالغين، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي: أوجعتم فيهم قتلًا {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] يعني الأسر. فلم تتعرضِ الآية الكريمة لغير الرجال من النساء والصبيان إذ لا شك أنهم غيرُ داخلين فيها، لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن قتل النساء والصبيان كما هو معلوم، فلا يقول الله فيهم: فضَرْبَ الرقاب. للنهي الصحيح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم. أما استرقاقهم بالسبي فلا خلاف فيه بين أهل العلم، وفِعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك معلوم في غزواته، وكذلك فِعلُ أصحابه بعده، وإجماع أمته على ذلك. فقد ردّ لهوازن ما سُبِيَ من نسائهم وأولادهم بعد أن كان مِلكًا للمسلمين. وملكُ الصحابة لسبايا أوطاس ووطئهم للنساء المسبيات من سبي أوطاس بمِلك اليمين. كلّ ذلك معروف ولا مخالفَ فيه. وقد يخطر في ذهن الطالب أن يقول: ما ذنب الصغير يُستَرَقُّ؟ والجواب: إن الصغار تَبَعٌ لآبائهم فهم منهم، فالجرعة من تلك الأضية (1). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في نساء المشركين وأبنائهم: "إنهم منهم". وقد يخطر في ذهن طالب العلم أيضًا أن يقول: إذا كانت الأَمَة __________ (1) الأضية هي المستنقع. قاموس.

    (1/193)


    مُسلِمة وولدت (1) فبأي طريقٍ يخرج ولدُها منَ الرحم رقيقًا، وأيُّ ذنب ارتكبه في بطن أمه حتى مسه الرق في البطن. والجواب: هو أن الشرع والعقل دلًّا على أن كل جنين متخلِّقٍ في رحمٍ فهو بمنزلة الأم التي تَخَلَّقَ في رحمِها. والذين ينتقدون مسَّ الرقِّ له في بطن أمه وخروجه من بطنها رقيقًا لو كان لواحدٍ منهم شاةٌ أو ناقةٌ فوَلَدت، وقال له آخر: هذا الجنين الذي ولدته شاتُك أو ناقتُك ليس لك، ولستَّ أحقّ به مني، فإنه يقول: لا فرق بين هذا الجنين وبين أمه التي ولدته فما لي عليها من الملك ينسحب عليه. وهذا واضح كما ترى. أَملاه فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. __________ (1) وهذا بعنيه نص القانون الروماني إذا ولدت الأم وهي مملوكة ولو لم يمسها الرق إلا قبل الولادة بلحظة فإن الجنين يولد رقيقًا. [ع]

    (1/194)