×
إن أفضال الله على أمة الإسلام كثيرة جدًّا، ومن خير تلك الأفضال تيسير أمر نوال الخيرية لهم، فجعل خيريتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله. وهذا الكتيب يبين بعض نماذج من أخبار السلف الصالحين رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عبد الله بن سليمان العتيق


بسم الله الرحمن الرحيم

حمدًا لله - تعالى - الرب الرحيم، وصلاة وسلامًا على خير الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه وكل تابع له إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أفضال الله على أمة الإسلام كثيرة جدًّا، ومن خير تلك الأفضال  تيسير أمر نوال الخيرية لهم.

قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110]، فجعل خيريتهم بهذين الأمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.

ولما كان الثاني لا يتم إلا بالأول قدم «الأمر والنهي» عليه، وكونه لا يتم إلا به: أن الإيمان بالله إما أن يأتي عن طريق اللين والرفق بالدعوة والتوجيه، وإما أنه لا يكون إلا عن طريق الشدة والقوة وهو الصد عن رغبات النفس.

ومعنى آخر: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما اختصت به أمة الإسلام عن الأمم الأخرى،قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78 - 79].

وقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

وقال تعلى: ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 165].

ومن الأحاديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» [متفق عليه].

 أحوال السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد كان السباق في إدراك الخيرية هو حال السابقين من صدر هذه الأمة، ولنا في هذه الورقات لقاءات شيقة مع أخبار أولئك الأخيار، نجني الفوائد والعبر من مواقفهم وأحوالهم.

فإن كلامكم عليَّ حرام:

أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير، قال ابن إسحاق: لما أسلم وقف على قومه، فقال: «يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟قالوا: سيدنا فضلاً، وأيمننا نقيبةً، قال: فإن كلامكم عليَّ حرام، رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا »([1]).

أخذ كل واحد منهم قطعة فمزقوه:

عن ابن سرين «أن خالد بن الوليد دخل وعليه قميص حرير، فقال عمر:ما هذا؟ قال: وما بأسه، قد لبسه ابن عوف، قال: وأنت مثله ؟ عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منه قطعة فمزقوه»([2]).

وهل كان فيهم حثالة؟

عن الحسن قال: «قدم علينا عبيد الله، أمره معاوية، غلامًا سفيهًا، سفك الدماء سفكًا شديدًا، فدخل عليه عبد الله بن مغفل فقال:انته عما أراك تصنع، فإن شر الرعاء الحطمة، قال: ما أنت وذاك؟ إنما أنت من حُثالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: وهل كان فيهم حُثالةٌ لا أم لك»([3]).

ألم يأن لهذا الخاتم أن يطرح:

عن علقمة قال: «كنا عند عبد الله بن مسعود، فجاء خباب ابن الأرت حتى قام علينا في يده خاتم من ذهب، فقال: أكل هؤلاء يقرؤون كما تقرأ؟ فقال عبد الله: إن شئت أمرتُ بعضهم يقرأ، قال:أجل ، فقال:اقرأ يا علقمة، فقال فلان: أتأمره أن يقرأ وليس بأقرئنا ؟ قال عبد الله:إن شئت حدثتك بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قومه وقومك، قال علقمة: فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: ما قرأ إلا كما أقرأ، ثم قال عبد الله: ألم يأن لهذا الخاتم أن يُطرح ؟ فنزعه ورمى به وقال:والله لا تراه علي أبدًا»([4]).

إني أخشى أن أدرك زمانًا:

عن عبد العزيز بن أبي بكرة «أن أباه تزوج امرأة فماتت، فحال إخوتُها بينه وبين الصلاة عليها، فقال:أنا أحق بالصلاة عليها، قالوا: صدق صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إنه دخل القبر، فدفعوه بعنف، فغشي عليه، فحمل إلى أهله، فصرخ عليه عشرون من ابن وبنت،وأنا أصغرهم، فأفاق فقال: لا تصرخوا؛ فوالله ما من نفس تخرج أحب إليه من نفسي، ففزع القوم وقالوا: لمَ يا أبانا ؟ إني أخشى أن أدرك زمانًا لا أستطيع أن آمر بمعروف ولا أنهي عن منكر، وما خير يؤمئذ»([5]).

كأني بك في النار تحمله:

قال أبو حفص الحمصي: «أعطى معاوية المقداد حمارًا من المغنم، فقال له العرباض بن سارية: ما كان لك أن تأخذه، ولا له أن يعطيك، كأني بك في النار تحمله! فرده»([6]).

فيضربون حتى يغشى عليه:

عن ابن فضيل، عن أبيه - أو عن نفسه - قال: «كان كرز بن وبرة إذا خرج أمر بالمعروف، فيضربونه حتى يغشى عليه»([7]).

لا بد لمن قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتعرض للابتلاء، وذاك طريق الأنبياء، وليس يسلم فيه أحد من أذى.

 ولكن المطلوب من الآمر  والناهي أمور:

أولها: استشعار التعبد لله - تعالى - بهذه العبادة.

ثانيها: معرفة عظم قدرها عند الله.

ثالثها: الصبر على ما يصيبه.

رابعها: الرفق بالخلق، فإن للشيطان عليهم سلطانًا.

عن عثمان بن أبي العاص: «أنه بعث غلمانًا له تجارًا، فلما جاؤوا قال:ما جئتم به؟ قالوا: جئنا بتجارة يربح الدرهم عشرة، قال: وما هي؟ قالوا: خمر. قال: خمر! وقد نهينا عن شربها وبيعها، فجعل يفتح أفواه الزقاق ويصبُّها»([8]).

ناشدتموني بالله والله عظيم:

عن رياح بن الحارث: «أن المغيرة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة، فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة، فسبَّ وسبَّ، فقال سعيد بن زيد: من يسبُّ هذا يا مغيرة؟ قال:يسبُّ علي بن أبي طالب، قال: يا مغير بن شعيب، يا مغير بن شعيب، ألا تسمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبون عندك، ولا تنكر ولا  تغير؟! فأنا أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سمعت أذاني، ووعاه قلبي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لم أكن أروي عنه كذبًا، إنه قال:أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، ولو شئت أن أسميه لسميتُه، فضج أهل المسجد يناشدونه، يا صاحب رسول الله، من التاسع ؟ قال: ناشدتموني بالله، والله العظيم، أنا هو، والعاشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لمشهد شهده رجل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمل أحدكم، ولو عُمر ما عُمر نوح»([9]).

جاء ليسرق فسرقناه:

قيل دخل على مالك بن دينار لصٌّ، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: «لم تجد شيئًا من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة ؟ قال: نعم. قال: توضأ، وصل ركعتين ففعل ثم جلس، وخرج إلى المسجد، فسئل من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه»([10]).

إن الناهي عن المنكر يجب عليه بذل النصح لصاحب المنكر - بالرفقة واللين- حتى يكون قبوله الحق وتركه الباطل سهلاً عليه.

والدعوة إلى المعروف والأمر به قبل الإنكار، لأن المرء مخلوق على الفطرة، والفطرة الحسنة والكمال في الدين والخلق، فتكون الدعوة إلى الخير من الأمر بالمعروف باعثًا لما مات، ومصلحًا لما مرض من الفطرة في النفس.

وأوقفاني بين يدي رب العزة:

عن الأوزاعي قال: «رأيتُ كأن ملكين عرجا بي، وأوقفاني بين يدي رب العزة، فقال لي: أنت عبدي عبد الرحمن الذي تأمر بالمعروف ؟ فقلت: بعزتك أنت أعلم! قال: فهبطا بي حتى رداني إلى مكاني »([11]).

لفتةٌ بديعة من الإمام الأوزاعي - رحمه الله- ألا يظن القائم بوظيفة الأمر والنهي أن أدى شيئًا كاملاً في التجرد لله به.

فقد يعتريه انتصارٌ للنفس فيقول: غضب لله، وغير ذلك واحتقار المرء عمله شيء محمود، وكلما احتقر المرء عمله- مع الإحسان فيه - زاده ذلك عملاً، وتعظيمًا من الله للعمل.

فما يكاد يفتر لسانه من الأمر والنهي:

قال شجاع بن الوليد: «كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهبًا وراجعًا»([12]).

فأبول دمًا:

قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: «إني لأرى المنكر فلا أتكلم، فأبول أكدم دمًا»([13]).

فلو أمر ولده لاستخف به:

قال أبو لمنذر إسماعيل بن عمر:سمعتُ أبا عبد الرحمن العمري الزاهد يقول: «إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله، بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه ولا تأمر ولا تنهى خوفًا من المخلوق، من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين، نزعت منه الهيبة ، فلو أمر ولده لاستخفَّ به»([14]).

يا عباس: غير كذا، اكسر كذا:

قال إسماعيل بن نجيد: «رأيت أبا العباس السراج يركب حماره،وعباس المستملي بين يديه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقول:يا عباس، غير كذا، اكسر كذا»([15]).

لازم بيته أربعين سنة:

قال أبو حامد الدلوي قال: «لما رجع ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، لم يُرَ في سوق ولا رئي مفطرًا إلا في عيد، وكان أمارًا بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره»([16]).

وهم في حِل:

قال الضياء: «وبلغني أن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي - أتى فساقًا- فكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه، فأراد الوالي ضربهم، فقال: إن تابوا ولازموا الصلاة فلا تؤذهم وهم في حل، فتابوا»([17]).

هذا هو الصدق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو: زوال المنكر ولزوم فعل المعروف.

وفي مثل هذه الأحداث يظهر صدق الرجل في إخلاص لله تعالى في الأمر والنهي، فإن بعضًا ممن يسعى في الأمر والنهي إن مُس بأذى ثارت حميته، واشتعلت حفيظته على من تعرض له، ولو كان الأمر انتصارًا لذاته لقُبِلَ، ولكن بعضهم يجعله: إهانة للدين، أو استخفافًا بشريعة الاحتساب.

ولا يحتمل الأمر إلا  أن يُقال للمعتدي: هدايتك أريد، وصلاحك أبتغي.

وجبَ أن يرميكم بتسعة:

أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أني رمي في الروم سهمًا، وفينا تسعة، قال:ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أني رميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وأدعيتم نور الإلهية! فشهره، ثم ضربه، ثم أمر يهوديًّا فسلخه»([18]).

جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمةُ حق عند سلطانٍ جائر» [أحمد].

قال العلامة المناوي رحمه الله: لأن مجاهد العدو متردد بين رجاء وخوف، وصاحب السلطان إذا أمر بالمعروف تعرض للتلف فهو أفضل من جهة غلبة خوفه، ولأن ظلم السلطان يسري إلى جم غفير فإذا كفه فقد أوصل النفع إلى خلقٍ كثير. اهـ ([19]).

تنبيه: أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر لا بد فيه من مراعاة أمرين:

الأول: الرفق واللين.

الثاني: رجحان المصالح على المفاسد.

فإذا توافرا فهو خير كبير، وبتخلفهما خلاف المراد والمطلوب.

يزعم هذا أنه كاذب:

دخل الطرطوشي على الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر، فبسط تحته مئزره،وكان إلى جانب الأفضل نصراني، فوعظ الأفضل حتى أبكاه ثم أنشده:

يا ذا الذي طاعتُه قربة

وحقه مفترض واجب

إن الذي شرفت من أجله

يزعم هذا أنه كاذب

وأشار إلى ذلك النصراني، فأقام الأفضل النصراني من موضعه([20]).

هذه القراءة بدعة:

وكان السلفي آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، حتى إنه قد أزال من جواره منكرات كثيرة، ورأيته يومًا وقد جاء جماعة من المقرئين بالألحان، فأرادوا أن يقرؤوا فمنعهم من ذلك وقال: هذه القراءة بدعة! بل اقرؤوا ترتيلاً، فقرؤوا كما أمرهم ([21]).

وأرقنا خمرهم وتضاربنا:

كان الحافظ عبد المقدسي لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه، وكنا مرة أنكرنا على قوم وأرقنا خمرهم وتضاربنا، فسمع خالي أبو عمر، فضاق صدره وخاصمنا، فلما جئنا إلى الحافظ طيب قلوبنا، وصوب فعلنا وتلا: ﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]([22]).

فلم يخف منه:

كان عبد الغني المقدسي لا يرى منكرًا إلا غيره بيده أو بلسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، قد رأيته مرة يهريق خمرًا فجبذ صاحبه السيف فلم يخف منه وأخذه من يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطنابير والشبابات ([23]).

وما خير يومئذٍ:

قال أبو بكر الثقفي: إني أخشى أن أدرك زمانًا لا أستطيع أن آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر وما خير يومئذٍ ([24]).

أما ما عشت أنا وهشام:

كان هشام بن حكيم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فكان عمر إذا رأى منكرًا قال: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون هذا([25]).

مُقدمًا على الإنكار:

قال الذهبي في وصف حجر بن عدي: وكان شريفًا أميرًا مطاعًا أمَّارًا بالمعروف مقدمًا على الإنكار، من شيعة علي رضي الله عنهما شهد صفين أميرًا، وكان ذا صلاح وتعبد.

عن شقيق بن سلمة: استعملني ابن زياد على بيت المال، فأتاني رجل بصك أن أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم، فأتيت ابن زياد فكلمته في الإسراف فقال: ضع المفاتيح واذهب ([26]).

هنا تعتبر بتصرف أبي وائل شقيق بن سلمة حيث لما رَضي بالمنكر أن يبقى ترك ما كان عليه من رقابة على العمل الذي كان المنكر فيه.

ولكن لا يعني أن تصرفه رحمه الله صائب، فإن مسألة الإنكار لا بد لها من أصولٍ ومعالم تسير عليها، منها:

- أن يكون المنكر مما أُجمع على كونه منكرًا، فأما ما فيه خلاف هل هو منكر أم لا فلا إنكار فيه.

قال ابن رجب رحمه الله: «والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعًا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا فيه، أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا» اهـ([27]).

لا تملؤوا أعينكم:

عن ابن المسيب قال: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم كما قال الله تعالى: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]([28]).

قال أبو حاتم الرازي: يحيى بن أبي كثير إمام لا يروي إلا عن ثقة، وقد نالته محنة، وضُرب لكلامه في ولاة الجور ([29]).

مستخف بحق الزوار:

جاء رقبة إلى الأعمش فسأله عن شيء، فكلح في وجهه، فقال له رقبة: أما والله ما علمتك لدائم القطوب، سريع الملاك، مستخف بحق الزوار، لكأنما تستطع الخردل إذا سئلت الحكمة ([30]).

لا بد لهؤلاء الناس من وزعة:

عن شعبة قال: رأيت الحسن قام إلى الصلاة وقال: لا بد لهؤلاء الناس من وزعة: «أي أعوان يكفوهم عن التعدي والشر والفساد»([31]).

إرسال السلطان أو نائبه رجالاً يسعون في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر يعينون على تحقيق ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب على كل ولي أمرٍ أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان الأمثل بالأمثل ...»([32]).

وضع أصبعيه في أذنيه:

عثمان بن نويرة قال: دُعي شهر بن حوشب إلى وليمة وأنا معه فدخلنا فأصبنا من طعامهم فلما سمع شهر المزمار وضع أصبعيه في أذنيه وخرج ([33]).

مسألةُ مفارقةُ المنكر معروفة عند العلماء، والكلام عنها من جهتين:

الأولى: الحكم، فهي واجبة، لأنها من أنواع الإنكار.

الثانية: مكانها، جعل العلماء للمسألة قسمين فيما يتعلق بمكان المنكر المُفارق:

أولهما: إذا كان لا يحلق ضرر بمفارقة وترك المكان كـ(السوق) وغيره، فهذا يجب عليه مغادرة المكان حيث ضرر.

ثانيهما: إذا كان يلحق ضرر إذا ترك مكان المنكر كـ ( بيت ملك) فهذا يجوز له البقاء في مكانه، ولكن عليه متابعة النصح والإنكار ([34]).

كيف يضل قوم هذا فيهم:

عن خالد بن صفوان قال: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة - يعني الحسن البصري - قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم أنا جاره إلى جنبه وجليسه في مجلسه وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانيته وأشبه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنيًا عن الناس، والناس محتاجون إليه، قال: حسبك كيف يضل قوم هذا فيهم ([35]).

ذكر خالد بن صفوان أشياءَ في الحسن هي شروط في القائم بالأمر والنهي، لذا كان من الفائدة ذكر شروط القائم بذلك.

الأول: التكليف، وهذا من شروط وجوب الأمر والنهي ([36]).

الثاني: الإسلام؛ لأن الاحتساب ولايةٌ شرعية والولايات الشرعية لا بُد من مسلم يقوم عليها ([37]).

الثالث: الإخلاص لله تعالى؛ لأنه عبادة ([38]).

الرابع: العلم، وذلك لمعرفة أصول الأمر والنهي والمواطن التي يجب الإنكار فيها ممالا يجب ([39]).

كان كرز الحارثي إذا خرج أمر بالمعروف فيضربونه حتى يُغشى عليه.

قال الخلال: أخبرنا المروزي قال: مررت وأبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - متوكئ على يدي فاستقبلنا  امرأة بيدها طنبور، فأخذته فكسرته، وجعلت أدوسه وأبو عبد الله واقف منكس الرأس، فلم يقل شيئًا، وانتشر أمر الطنبور، فقال أبو عبد الله: ما علمت أنك كسرت طنبورًا إلى الساعة.

بايعت رسول الله في القوم:

وقال أبو سهل بن زياد: سمعت أحمد الأبار، يقول: بايعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النوم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ([40]).

الذي ولاك الإمامة:

كان أحمد بن محمد النوري إذا رأى منكرًا غيره، ولو كان فيه كلفة، نزل يومًا، فرأى زورقًا فيه ثلاثون دنًّا([41]).

فقال للملاح: ما هذا؟ قال: ما يلزمك ؟ فألح عليه، فقال: أنت والله صوفي كثير الفضول، هذا خمر للمعتضد، قال: أعطني ذلك المِدْري ([42] فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع، فأخذه، ونزل فكسرها كلها غير دن، فأخذ وأدخل إلى المعتضد، فقال: من أنت ويلك ؟ قال: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة ؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين ! فأطرق وقال: ما حملك على فعلك ؟ قال: شفقة مني عليك ! قال: كيف سلم هذا الدن ؟ فذكر أنه كان يكسر الدنان ونفسه مخلصة خاشعة، فلما وصل إلى هذا الدن أعجبته نفسه، فارتاب فيها، فتركه ([43]).

الإنكار باليد أعلى مراتب الإنكار، ولكن ليس لكل أحد أن ينكر بيده إلا من كانت له القدرة على ذلك، والقدرة إما معنوية كـ ( الشجاعة) و ( العلم) وإما حسية كـ( منصب) و(ولاية) من سلطان.

قال الإمام ابن النحاس: «ويتوفي إراقة الخمر كسر أوانيها، فإن لم يقدر على إراقتها إلا بالكسر كسرها؛ لأن الأواني صارت حائلة بينه وبين الوصول إلى الخمر الواجب إراقتها»([44]).

وهنا فائدة مهمة للمحتسب، وهي: أن يصحب الإخلاص لله تعالى في عمله أمرًا أو نهيًا حتى نهايته.

وأن يلاحظ نفسه فمتى انصرف قلبه إلى غير الله ترك الإنكار، لأن تحقيق الإخلاص لله - وهو توحيد - أهم من زوال المنكر.

وقال الخطيب: ولي الحسن بن أحمد الأسطخر بقضاء قُمر، وولي حسبة بغداد فأحرق مكان الملاهي ([45]).

فليس منا في حِل:

عن يحيى بن مندة، قال: سمعت عمي، سمعت ابن عبيد الطبراني، يقول: قمت يومًا في مجلس والدك رحمه الله، فقلت: أيها الشيخ، فينا جماعة ممن يدخل على هذا المشؤوم - أعني أبا نعيم الأشعري - فقال: أخرجوهم.

فأخرجنا من المجلس فلانًا وفلانًا، ثم قال: على الداخل عليهم حرجٌ أن يدخل مجلسنا، أو يسمع منا، أو يروي عنا فإن فعل فليس هم منا في حل.

قال الذهبي: ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم، وقد كان أبو عبد الله وافر الجاه والحرمة إلى الغاية ببلده، وشغب على أحمد بن عبد الله الحافظ، بحيث إن الحافظ اختفى ([46]).

هذه الإشارة من الإمام تضمنت أدبًا مهمًّا ينبغي للمحتسب من الاهتمام والعناية به، وهو أن يكون الإنكار على قدر المنكر، ولا يزيد عليه.

إن كثيرًا من الناس اليوم يرى من المنكرين إذا أنكر منكرًا بيده أو بلسانه زاد في الإنكار حتى يتجاوز القدر المشروع فيقع في الحرام.

قال ابن النحاس: «وليحذر ما يفعله كثير من الناس إذا وصل في الإنكار إلى هذه الرتبة، أي: الإنكار باليد في الضرب- من الاسترسال في الضرب بعد زوال المنكر فإن ذلك لا يجوز لآحاد الرعية» اهـ ([47]).

تحت كعبه الدم:

وبلغني أن علي بن محمد الزيدي نُفذ رسولاً إلى ملك الروم، فلما جلس، غنت النصارى، وحركوا الأرغل، فثبت الزيدي عند سماعه، وتعجبوا من ثباته كثيرًا، فلما قام، وجدوا تحت كعبه الدم مما ثبت نفسه، ولم يتحرك ([48]).

أنا ما كسرت لكم شيئًا:

كان بعض أولاد صلاح الدين قد عملت لهم طنابير، وكانوا في بستان يشربون، فلقي الحافظ ([49]) الطنابير فكسرها، قال: فحدثني الحافظ، قال: فلما كنت أنا وعبد الهادي عند حمام كافور إذا قوم كثيرون معهم عصي فخفت المشي، وجعلت أقول: «حسبي الله ونعم الوكيل» فلما صرت على الجسر لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كسرت لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر، قال: فإذا فارس يركض فترجل وقبل يدي، وقال: الصبيان ما عرفوك، وكان قد وضع الله له هيبة في النفوس ([50]).

هذا الشيخ شريكي في مُلكي:

وكان أبو عمر محمد بن أحمد المقدسي إذا سمع منكرًا اجتهد في إزالته، ويكتب فيه إلى الملك، حتى سمعنا عن بعض الملوك أنه قال: هذا الشيخ شريكي في ملكي ([51]).

لتصعدن على ظهري:

 ورد أن عمر عمد إلى ميزاب للعباس على ممر الناس، فقلعه فقال له: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعه في مكانه، فأقسم عمر: لتصعدن على ظهري، ولتضعنه موضعه ([52]).

لا أرى ذمة الله تخفر:

قال مالك بن دينار: حدثني فلان «أن عامر بن عبد قيس مر في الرحبة وإذا رجل يظلم، فألقى رداءه وقال: لا أرى ذمة الله تخفر وأنا حي، فاستنقذه، ويروى أن سبب إبعاده إلى الشام، كونه أنكر وخلص هذا الذمي»([53]).

يفرح الناس وأبكي:

ومن مفاخر المنصور: أنه قدم من غزو، فتعرضت له امرأة عند القصر، فقالت: يا منصور، يفرح الناس وأبكي؟ إن ابني أسيرٌ في بلاد الروم ! فثنى عنانه وأمر الناس بغزو الجهة التي فيها ابنها ([54]).

لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك:

عن يزيد بن الأصم: «أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها فوجدت منه ريح شراب، فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك، لا تدخل علي أبدًا»([55]).

هذا الفعل من ميمونة رضي الله عنها «لا يخالف الأصل وهو: الستر على أهل المعاصي، لأن هذه الأصل ينتفي بشيئين:

الأول: إذا بلغ أمر المنكر السلطان فلا إعفاء ولا ستر.

الثاني: إذا كان صاحب المنكر غير مهتم لكونه على منكر، أو كان مجاهرًا به، فهذا لا يستر عليه تأديبا له»([56]).

لقد هممت  ألا أخرج إلا ورأسه معي:

قيل: «إن عبد الصمد عم المنصور دخل على سفيان يعوده، فحول وجهه إلى الحائط ولم يرد السلام، فقال عبد الصمد: يا سيف، أظن أبا عبد الله نائما، قال: أحسب ذاك، أصلحك الله، فقال سفيان: لا تكذب، لستُ بنائم، فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله، لك حاجة ؟ قال نعم، ثلاث حوائج: لا تعود إلي ثانية، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي، فخجل عبد الصمد وقام فلما خرج قال: والله لقد هممتُ أن لا أخرج إلا ورأسه معي»([57]).

حشى في فم الخطيب التراب:

عن عبادة بن الوليد قال: «كان عبادة بن الصامت مع معاوية، فأذن يومًا، فقام خطيب يمدح معاوية ويثني عليه، فقام عبادة بتراب في يده، فحشاه في فم الخطيب، فغضب معاويةُ فقال له عبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ومكسلنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثُ كنا، لا نخاف في الله لومة لائمة لائم ([58])، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في أفواههم التراب » [رواه مسلم ].

كيف أدعو لك:

قيل: إن العادل أتى والشيخ عبد الله بن عثمان اليونيني يتوضأ، فجعل تحت سجادته دنانير، فردها وقال: يا أبا بكر، كيف أدعو لك والخمور دائرة في دمشق، وتبيع المرأة وقية، يؤخذ منها قراطيس؟ فأبطل ذلك ([59]).

لا تكن نحسًا مثل أبيك:

وقيل: جلس بين يديه المعظم وطلب الدعاء منه، فقال: يا عيسى لا تكن  نحسا مثل أبيك أظهر الزغل - العملة المغشوشة - وأفسد على الناس المعاملة.

وقد كان رحمه الله قوالاً بالحق، داعيًا إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم.

لم ير مثل نفسه:

جاء في مناقب العزّ: القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه ... لم ير مثل نفسه ، ولا رأى من رآه مثله، علمًا وورعًا وقيامًا في الحق، وشجاعة قوة جنانٍ، وسلاطة لسان ([60]).

وقال عنه ابن حجر: «كان عالي الهمة، بعيد الغور في فهم العلوم ... وكان قائمًا بالأمر بالمعروف لا يخاف في ذلك كبيرًا ولا صغيرًا»([61]).

وذكر اليافعي أن الإمام العز كان جبل إيمان، لا يخشى سلطانًا، ولا يهاب سطوة الملك، بل يعمل بما أمر الله ورسوله به، وما يقتضيه الشرع المطهر ([62]).

عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قوله وفعله:

المقصود من هذا الإفراد لمن خالف فعله قوله أن يكون الآمر والناهي أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وذلك لأنه عرف المعروف فتركه، وأنكر المنكر وعمله، وهذا كافٍ له في العقوبة.

قال الناظم:

وعالمٌ بعلمه لم يعلمه

معذبٌ من قبل عُباد الوثن

سأل رجل حذيفة فقال: ما النفاق؟ قال: أن تتكلم بالإسلام ولا تعمل به ([63]).

العالم الفاسق:

عن هرم بن حيان قال: إياكم والعالم الفاسق، فبلغ عمر، فكتب إليه وأشفق منها: ما العالم الفاسق ؟ فكتب: ما أردت إلا الخير، يكون إمام يتكلم بالعلم، ويعمل بالفسق، ويشبه على الناس فيضلوا ([64]).

يحذر الناس السيل:

قال قتادة: كان مطرف بن عبد الله العامري إذا كانت الفتنة نهى عنها وهرب، وكان الحسن ينهى عنها ولا يبرح، قال مطرف: ما أشبه الحسن إلا برجل يحذر الناس السيل ويقوم بسننه ([65]).

أي لكع:

عن ابن طاووس قال: كنت لا أزال أقول لأبي: إنه ينبغي أن يخرج على هذا السلطان، وأن يفعل به، قال: فخرجنا حجابًا فنزلنا في بعض القرى، وفيها عامل - يعني لأمير اليمن - يقال له ابن نجيح، وكان  من أخبث عمالهم، فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فجاء ابن نجيح فقعد بين يدي طاووس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه، فمددت بيده وجعلت أسأله وقلت: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال العامل: بلى، معرفته بي فعلت ما رأيت قال: فمضى وهو ساكت لا يقول لي شيئًا، فلمَّا دخلت المنزل قال: أي لكع ! بينما زعمت تريد أن تخرج عليهم بسيفك، لم تستطع أن تحبس عنه لسانك ([66]).

خفتُ أن أكون مكذبًا:

عن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خفت أن أكون مكذبًا ([67]).

وهنا تكمنُ حقيقة الإحسان في العمل بالعلم، فإنه ما كان من عرضه عمله على قوله إلا رغبةً في تطبيق ما عرفه.

وهذا الخوف الذي قطع قلوبهم عدم التوافق بين أقوالهم وأعمالهم، والله المستعان.

لا يرضي الناس:

عن الزهري قال: لا يرضي الناس قول عالم لا يعمل، وعمل عامل لا يعلم ([68]).

روي أن قاصًّا كان يقرب محمد بن واسع فقال: ما لي لا أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر ؟ فقال محمد: يا فلان، ما أرى القوم إلا أتوا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب ([69]).

من عجائب الإخلاص أن يجد من القلوب قبولاً لما يأتيها من أقوال ومواعظ، والقول الذي خرج بلا إخلاص لا يكاد يصل إلا إلى الآذان وبعد ذلك يطير في مهب الريح.

أقرب قولاً من فعل:

قال يونس بن عبيد: أما أنا لم أر أحدًا أقرب قولاً من فعل من الحسن البصري ([70]).

كأن القيء:

عن أيوب السختياني قال: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدرر، فتكلم قوم من بعده، بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء([71]).

ويل للمتفقهين:

كان الأوزاعي يقول: ويل للمتفقهين لغير العبادة والمستحلين الحرمات بالشبهات ([72]).

قاعدة الدين:

أن طلب العلم إنما هو لله تعالى، وطلبه لغير الله خلل في النية.

ومن طلبه لله: العملُ به، والعملُ بالعلم أنواعٌ منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكلمة الإمام الأوزاعي أشارت إلى هذا حيث: إن من عمل من غير علمٍ فإنه سيكون في عبادته خلل كبير ؛ لأنها قامت على جهل، والجهل لا يأتي بخير.

وتمام كلمته: «والمستحلين الحرمات بالشبهات» يشير إلى أن من أخذ حرامًا مستحلا له بالشبهات أن هذا منكرٌ منه، لا يجوز له فعله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».

أقبح الرعية:

قال سفيان الثوري: إن أقبح الرعية من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ([73]).

يصدق بكاءه بفعله:

قال منصور عن مجاهد: كان يزيد بن شجرة مما يذكرنا نبكي، وكان يصدق بكاءه بفعله رضي الله عنه([74]).

لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يُضربون ويحبسون، فنالهم المأمون، وقال: قد اجتمع الناس على إمام، فمر أبو نعيم، فرأى جنديًّا وقد أدخل يده بين فخذي امرأة، فنهاه بعنف، فحمله إلى الوالي، فيحمله الوالي إلى المأمون، قال: فأدخلت عليه بكرةً وهو يسبح، فقال: توضأ فتوضأت ثلاثًا على ما رواه عبد خير، عن علي، فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين ؟ فقلت: للأم الثلث، وما بقي للأب، قال: فإن خلف أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبويه وأخوين؟ قلت: للأم السدس وما بقي للأب، قال: في قول الناس كلهم؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباسٍ يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة، فقال: يا هذا، من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف ؟ إنما نهينا أقوامًا يجعلون المعروف منكرًا، ثم خرجت ([75]).

هنا موطنُ زلل يقع فيه البعض، فقد يكون ناهيًا عن أمور ليست من المنكر، وإنما هي من المباحات أو المكروهات.

وقد يتعلل البعض فيقول هذا من الغيرة على دين الله تعالى أو إنها ذريعة لمنكر وهي ليست كذلك.

قال ابن النحاس: «يشترط في الفعل الذي يجب إنكاره أن يكون منكرًا سواءً كان صغيرة أو كبيرة»ا هـ ([76]).

الناس ثلاث طبقات:

قال أبو زرعة: أملى علي أحمدُ بن عاصم الحكيم: الناس ثلاث طبقات، مطبوع غالب وهم المؤمنون، فإذا غفلوا ذكروا، ومطبوع مغلوب فإذا بُصروا أبصروا ورجعوا بقوة العقل، ومطبوع مغلوب غير ذي طباع، ولا سبيل إلى رد هذا إلا بالمواعظ.

قال الذهبي: فما الظن إذا كان واعظ الناس من هذا الضرب عبدُ بطنه وشهوته، وله قلب عري من الحزن والخوف، فإن انضاف إلى ذلك فسق مكين، أو انحلال من الدين، فقد خاب وخسر ولا بد أن يفضحه الله تعالى ([77]).

عدو الله في السر:

قال بلال بن سعد: لا تكن وليًّا لله في العلانية، وعدوه في السر([78]).

وكلام بلال واضح جدًّا، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو في السر والعلانية.

وأعظم درجات الأمر والنهي ما كان موجهًا إلى النفس قبل الغير.

قال الجنيد: كنت بين يدي السري ألعب وأنا ابن سبع سنين، فتكلموا في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ قلت: أن لا يعصى الله بنعمه، فقال: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك، قال الجنيد: فلا أزال أبكي على قوله.

وعن الجنيد: من خالفت إشارتُه معاملته، فهو مدعٍ كذاب ([79]).

وقيل: إن قطب الدين النيسابوري وعظ بدمشق، وطلب من الملك نور الدين أن يحضر مجلسه، فحضره فأخذ يعظه ويناديه: يا محمود، كما كان يفعل البرهان البلخي شيخ الحنفية، فأمر الحاجب، فطلع، وأمره ألا يناديه باسمه، فقيل فيما بعد للملك، فقال: إن البرهان كان إذا قال: يا محمود قفَّ شعري هيبةً له، ويرق قلبي، وهذا إذا قال: قسا قلبي، وضاق صدري، حكى هذه سبط بن الجوزي قال: كان القطب غريقا في بحار الدنيا ([80]).

هذه بعض نماذج من أخبار السلف الصالحين رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.



([1]) السير (1/280).

([2]) السير ( 1/ 280-281).

([3]) السير (3/545).

([4]) السير (1/471).

([5]) السير (3/7).

([6]) السير (3/422).

([7]) السيرة (6/85).

([8]) السير (2/375).

([9]) السير (1/103).

([10]) السير (5/363).

([11]) السير ( 7/ 118).

([12]) السير (7/259).

([13]) السير (7/278).

([14]) السير (8/375).

([15]) السير (14/394).

([16]) السير (16/530).

([17]) السير (22/50).

([18]) السير (16/148).

([19]) فيض القدير (2/30).

([20]) السير (19/492).

([21]) السير (21/225).

([22]) السير (21/454).

([23]) السابق.

([24]) السير (3/7).

([25]) السير (3/52).

([26]) السير( 4/166).

([27]) جامع العلوم والحكم (2/270).

([28]) السير (4/ 232).

([29]) السير(6/28).

([30]) السير (6/232).

([31]) السير (7/207).

([32]) الحسبة (43).

([33]) السير (4/374).

([34]) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص (342).

([35]) السير (4/576).

([36]) انظر: تنبيه الغافلين ص (18-19).

([37]) انظر:إحياء علوم الدين (2/308).

([38]) انظر: النووي على مسلم (2/24).

([39]) انظر: الأحكام السلطانية ص (300).

([40]) السير (13/444).

([41]) الدن: وعاء ضخم للخمر وغيرها.

([42]) المدري: قطعة من الحديد أو الخشب على شكل قرن.

([43]) السير (14/76).

([44]) تنبيه الغافلين ص(55).

([45]) السير (15/251).

([46]) السير (17/41).

([47]) تنبيه الغافلين ص (57-58).

([48]) السير (17/506).

([49]) أي عبد الغني المقدسي.

([50]) السير (21/ 454).

([51]) السير (22/49).

([52]) السير (4/18).

([53]) السير (4/18).

([54]) السير (17/125).

([55]) السير (2/244).

([56]) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص (296).

([57]) السير (7/244).

([58]) السير (2/7).

([59]) السير (22/101).

([60]) طبقات الشافعية (8/209).

([61]) رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (2/351).

([62]) مرآة الجنان لليافعي (4/155).

([63]) السير (2/363).

([64]) السير (4/49).

([65]) السير (4/192).

([66]) السير (5/41).

([67]) السير (5/61).

([68]) السير (5/341).

([69]) السير (6/122).

([70]) السير (4/574).

([71]) السير (4/577).

([72]) السير (7/126).

([73]) السير (7/243).

([74]) السير (9/107).

([75]) السير (10/150).

([76]) تنبيه الغافلين ص (37).

([77]) السير (11/410).

([78]) السير (11/518).

([79]) السير (14/68).

([80]) السير (21/108).