×
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: نصيحةٌ يُوجِّهها الكاتب لعموم المُسلمين - لا سيما العلماء منهم والدعاة - بضرورة التمسُّك بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحة المُسلمين؛ لأن في ذلك تحقيق الخيرية لهذه الأمة، كما ورد في كتاب الله تعالى.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله العليّ في علاه، والقيوم في أرضه وسماه، جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سفينة النجاة، ورفع بهما القدر والجاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الآمر الناهي خضعت له الجباه، وذلَّت له الجبابرة والعتاة، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الإمامة والجاه، أيقظ برسالته كل غافل ساه، وعلَّم كل جاهل لاه، صلى الله وسلم عليه كلما أُمر بالطاعات وأُنكرت المنكرات، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أحبتي في الله: اتقوا الله الذي }يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [المجادلة: 7]. راقبوه في السرِّ والعلن، وفي الصحة والسقم، وفي الشباب والهرم، وفي الغنى والفقر، وفي الفراغ والشغل، واعلموا أنه يرى ما تفعلون ويسمع ما تقولون، ويعلم ما تضمرون، وأنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأنه يغار وغيرته أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله عليه. فاحذروا المحرَّمات واجتنبوا المنكرات، وحذِّروا الناس منها بالنصيحة، فإن ديننا هو دين النصيحة، وما سمي دين النصيحة إلا لأننا كنا به إخوة }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{ [الحجرات: 10]، وكنا به كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر، وكنا به كالبنيان الذي يشدُّ بعضه بعضًا.

    وبالنصيحة يتحقق الإيمان، يقول ﷺ‬: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

    وبالنصيحة تسلم القلوب من أمراضها، ولذا يقول ﷺ‬: «الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم». ويقول لضماد الأزدي عندما بايعه النصيحة عن نفسه، فقال له: «عن نفسك وعن قومك».

    ويقول جرير بن عبد الله البجلي: بايعت رسول الله ﷺ‬ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنُّصح لكل مسلم، وقد نصح رسول الله ﷺ‬ بقوله وبفعله وبتعامله وبأخلاقه، ونصح أصحابه من بعده، ولا تزال الأمة بخير ما دامت النصيحة.

    وأهل النصيحة هم أبر الناس بالأمة، وهم أشفقهم بها، وهم أصدقهم في محبتها، يشغلهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم يعلمون أن المعروف هو كل طاعة شرعها الله تعالى، وهو كل خلق حسن دعت إليه الفطرة السليمة، وهو القيام بحق الله، والقيام بحق الخلق، ويعلمون أن المنكر هو كل معصية حرَّمها الله تعالى، وكل خلق سيئ حاربته الفطرة السوية.

    وعلى هذا فديننا يأمرنا بالمعروف لما فيه من الخير، وينهانا عن المنكر لما فيه من الشر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبره الكثير من أهل العلم ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وارتبط الأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر لأن أحدهما كالتخلية والثاني كالتحلية، ولأنهما نفي وإثبات، ولأن الشيء لا يكمل إلا إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه.

    واعلموا عباد الله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر الله لكم، وليس لكم من أمر الله خيار، بل يجب أن تقولوا سمعنا وأطعنا. يقول تعالى: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ [آل عمران: 104]. ويقول ﷺ‬: «مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر».

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الرسل، ووظيفة أتباعهم، من أجله أُحرقوا بالنار، ونُشروا بالمناشير، وأوذوا وأخرجوا وحوربوا، وقد وصف الله به رسوله ﷺ‬ في كتابه وجعلها أبرز صفاته بل أولها، فقال: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ{ [الأعراف: 157]. وهو أعظم صفة من صفات أهل الإيمان، إذ به يتميَّزون على غيرهم ويفتخرون على من سواهم؛ لأنهم لا يعيشون لأنفسهم فقط، وإنما يعيشون لأنفسهم ولغيرهم، ولأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم وأهله، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. يقول الله تعالى: }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ [التوبة: 71].

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد صفات أهل الجنة الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله واشتروا الجنة فعاشوا سعداء وماتوا سعداء، ووجدوا لذة الدنيا قبل الآخرة. يقول تعالى: }التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ [التوبة: 112].

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سفينة النجاة، وصمام الأمان من العذاب. يقول تعالى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{ [هود: 117]، وأمان من اللعنة. يقول تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{ [البقرة: 159، 160]. وأمان من المعاصي والذنوب، يقول ﷺ‬: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنَا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا»، وأمان من الهلاك. يقول تعالى: }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ{ [الأعراف: 165].

    وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون التثبيت في الأرض والتمكين فيها والتأييد؛ لأن أهله يقاتلون في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص. يقول تعالى: }الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ{ [الحج: 41].

    وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت الخيرية لهذه الأمَّة على غيرها من الأمم، فهي خير الأمم وهي أولى الأمم دخولاً الجنَّة، وهي ثلثا أهل الجنة، وهي الأمة التي ضاعف الله لها الأجر، وهذه الخيرية بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وليست بكثرة مالها، وليست بكثرة مناصبها، ولا بكثرة دنياها. يقول تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ{ [آل عمران: 110].

    وهو من حقوق الطريق. يقول ﷺ‬: «إياكم والجلوس في الطرقات. قالوا: يا رسول الله، مجالسنا ما لنا بُدَّ من الجلوس فيها. قال: فأعطوا الطريق حقَّه. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

    وقد تخلى الكثير من المسلمين اليوم عن هذا الحق، فهاهم يرون المنكرات تعجُّ بها الطرقات، فلا يأمرون بمعروفٍ ولا ينهون عن منكر، ولا ينبِّهون غافلاً، ولا يوقظون نائمًا، ولا يخوِّفون مجاهرًا، ولا يحذِّرون لاهيًا لاعبًا. ويوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده.

    وهو من حقوق الأولاد على أوليائهم، قال الله تعالى عن لقمان: }يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{ [لقمان: 17].

    وهو من حقوق المجالس. قال تعالى: }لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء: 114].

    وهما نوعان من أنواع الصدقة التي يكتب الله بها الحسنات. يقول عليه الصلاة والسلام: «وأمر بالمعروف صدقة، ونَهْي عن المنكر صدقة» «والصدقة بعشر يضاعفها الله أضعافًا كثيرة».

    ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة من صفات المنافقين الكاذبين الذين قال الله فيهم: }وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ{ [المنافقون: 1].

    وقد حذَّرنا الله منهم فقال: }هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{ [المنافقون: 4]، ولعنهم أينما ثقفوا }وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا{ [الأحزاب: 61]، يقول تعالى: }لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا{ [الأحزاب: 60].

    وقد جعلهم الله فراش أهل النار. قال تعالى: }إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ{ [النساء: 145]. وترك المنافقون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم يسعون إلى فساد القلوب لتموت ولتنكس وتظلم وتغش فلا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، ويسعون إلى إفساد الأخلاق ليعيش الناس كالبهائم }لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ{ [الأعراف: 179]، ويسعون في إفساد الأمم والشعوب لتشتغل بدنياها وتترك أخراها ولتتبع سنن اليهود والنصارى. يقول تعالى: }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ [التوبة: 67].

    وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هلاك وعذاب. قال رسول الله ﷺ‬: «أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم». قال تعالى: }لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ{ [المائدة: 78، 79]. وفي الحديث: قالت إحدى زوجاته: أنهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث».

    وقال في الحديث الآخر: «لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب من عنده».

    وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُحرم الإنسان من إجابة الدعاء فيبقى محرومًا بعيدًا عن الله شقيًّا لا تُجاب له دعوة ولا يُعطى سؤالاً. يقول ﷺ‬: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب من عنده، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم».

    أولى الخلق بهذا الواجب

    واعلموا عباد الله: أن أولى الخلق بهذا الواجب هو النفس؛ لتكون مطمئنة ولوَّامة لصاحبها على ترك الطاعة وعلى فعل المعصية، وليكون الإنسان قدوة للآخرين، فإن الله تعالى يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{ [الصف: 2، 3]. وفي الحديث: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بهما كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».

    ويلي النفس الأهل؛ لأن الله تعالى يقول: }وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{ [الشعراء: 214]، ويقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا{ [التحريم: 6]. ويقول ﷺ‬: «الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيَّته» والعمل على إصلاح الأهل أولى من تغذيتهم بالطعام والشراب.

    ويلي الأهل المجتمع كله، وهو في هذا الزمان واجب؛ لانتشار الغفلة والاغترار بالدنيا، وتسلُّط الشيطان، وكثرة الانحراف والضلال والتشبُّه بالأعداء، وكثرة النفاق، ولذا يقول تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ{ [آل عمران: 110]، ولم يقل: أخرجت للنفس، وإنما للناس. ويقول ﷺ‬: «من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه»، والساكت عن الحق شيطان أخرس، والناطق بالباطل شيطان ناطق. وفي الحديث من أنواع النصيحة و(عامة المسلمين)

    وإنكار المنكر على ثلاث مراتب:

    * المرتبة الأولى: باليد، وهذه للأمراء والأولياء والأسياد؛ لأن في ذلك إزالة المنكر وزجر أهله، وهي واجبة عليهم يؤجرون على فعلها ويعاقبون على تركها، وقد شرع الله الحدود لبيان إزالة المنكر باليد، فشرع القصاص لتحفظ به النفوس، وشرع حد القذف والزنا لتحفظ به الأعراض، وشرع حد السرقة لتحفظ الأموال، وحد الخمر لتحفظ العقول.

    * المرتبة الثانية: تغيير المنكر باللسان، وهذه للعلماء ولا يُعْذَر بتركها أحد الآن؛ لأن الإنكار باللسان في مقدور كل أحد، وتكون بالموعظة وبالدرس وبالكلمة الطيبة، وبإهداء الأشرطة والكتب ونحوها.

    * المرتبة الثالثة: بالقلب، وهذا أضعف الإيمان لا يعذر بها أحد، ومن لم يستطع أن ينكر بقلبه فليس في قلبه شيء من الإيمان، والإنكار بالقلب يقتضي بغض أهل المعصية عند الإصرار، والدعاء عليهم، والتحذير من شرهم. يقول ﷺ‬: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

    وليعلم المسلم أن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القيام بأمر الله والاقتداء برسوله ﷺ‬، وحماية المجتمع من الشر والفساد، ونشر الفضيلة، والطمع في الثواب الجزيل، إذ مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، والخوف من عقاب الله، والسلامة من غضبه.

    وطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق مستقيم، وسبيل للنجاة، وهو طريق }الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ{ [النساء: 69]. وهو طريق الآمنين الذين }لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [يونس: 62]. وهو طريق أهل الجنة، ويحتاج الإنسان في هذا الطريق إلى العلم؛ ليعرف المعروف فيأمر به، ويعرف المنكر فينهى عنه، فإنه العمل لا يكون صالحًا إلا بعلم. قال عمر بن عبد العزيز فيمن عبد الله بغير علم: (كان إفساده أكثر من إصلاحه).

    ويحتاج إلى الإخلاص فلا يجعل عمله لأجل الدنيا، ولا لأجل المنصب ولا للرياء، ولا للسمعة، وإنما يريد الثواب من الله تعالى. وممَّا ورد أن رجلاً انتصر على الشيطان لما أخلص، ثم انتصر عليه الشيطان لما أراد الدنيا.

    ويحتاج إلى الرفق واللين، فإنهما ما وجدا في شيء إلا زاناه، ولا فقدا من شيء إلا شاناه. وقد قال تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ{ [آل عمران: 159]. وقال ﷺ‬: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».

    وقال سفيان: لا يأمر ولا ينهى إلا من كان عالمًا بما يأمر وبما ينهى، وعدلا فيما يأمر وفيما ينهى، ورفيق بمن يأمر وينهى.

    ويحتاج إلى الصبر فإن الله أَمَرَ بالصبر، وهو من الدين كالرأس من الجسد، ويعطى على الصبر ما لا يعطى على غيره، وهو نصف الدين وهو أوسع العطاء.

    فاتقوا الله عباد الله، وأدُّوا هذا الواجب العظيم تُرضُون ربكم، وتقتدون برسولكم ﷺ‬، وتركبون سفينة النجاة، وتنتصرون على عدوكم، وتكونون خير أمة أخرجت للناس، وتحبون لغيركم ما تحبونه لأنفسكم، وتكرهون منهم ما تكرهون من أنفسكم. وفَّقنا الله جميعًا للقيام بهذا الأمر العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله.

    * * * *