نصيحة إلى كافة المسلمين والمسلمات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
أما بعد..
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الدين، وسهم من سهام الإسلام، ونوع من الجهاد في سبيل الله تعالى، وفرض من فروض الكفاية التي القيام بها أفضل من القيام في فرض العين على قول بعض أهل العلم([1]). فالقائم بها يُسقط الوجوب والحرج عن إخوانه المسلمين، وبعدمه تجب الهجرة إلى بلد يؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر، وبه يدفع عن البلد وأهلها، قال الله تعالى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{ فما أحسن أثر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر على الناس، وأسوأ أثر الناس عليهم، وقد أهمله كثير من الناس، فليحذروا أن يكونوا من المجرمين وهم لا يشعرون، قال تعالى: }فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ{ بل وإن بعض الناس يثبط عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحض على الإغضاء والسكوت والمداهنة وإصلاح الدنيا ولو بفساد الدين، وأن هذا هو العقل الراجح المحمود؛ بل إن البعض من الناس يعادي أهله بالقول بالهمز واللمز والسب والاستهزاء والكذب والافتراء عليهم أو بالفعل، وهؤلاء على خطر عظيم من دخولهم في قوله تعالى: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» ولفظ الترمذي: «لا يرى بها بأسًا، يهوي بها في النار سبعين خريفًا».
وقد أخبر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين والمؤمنات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{.
وأخبر عز وجل أن المنافقين والمنافقات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فقال تعالى: }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{.
عباد الله: إنه يجب علينا أن نقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل بحسبه، فعلى ولاة الأمر من ذلك ما ليس على غيرهم، كما جاء في الأثر «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وعلى العلماء خاصة وعامة؛ فالخاص الدعوة إلى الحق والتحذير من ضده، والقيام على المشبهين المشككين المسلمين في دينهم، والناكبين عن الحق الصادين عن الصراط المستقيم، بكشف شبههم، ورد أباطيلهم، ودحض حججهم لعلهم أن يكونوا ممن جاء الأثر بوصفهم، وهو «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». قال ابن القيم رحمه الله: روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة.
ويجب علينا جميعًا من أمير ومأمور وعالم ومتعلم وموظف وتاجر أن نقوم على من تحت أيدينا بتعليمهم معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وتعظيم الرب في قلوبهم، ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله وتعزير الرسول ﷺ وتوقيره، وتقديم محبته على النفس والمال
والولد ﷺ، وبأمرهم بأداء الصلاة مع الجماعة – ومن لا تجب عليهم الجماعة كالنساء والمرضى ونحوهم – بأمرهم بها حيث تجب عليهم، وبأمرهم بأداء الزكاة من بلغ عنده من المال نصاب، سواء في ذلك النساء والرجال الكبار والصغار، وبأمرهم بالصيام والحج وغير ذلك من واجبات الدين.
كما أنه يجب علينا نهيهم عن الجهل والتخلف والتكاسل عن هذه الأركان، وعن ارتكاب أي شيء من المنكرات التي في أنفسهم وفي بيوتهم، وكذلك يجب علينا أن نأمر وننهى على قدر طاقتنا جيراننا والأقربين وعامة المسلمين، فإن ذلك من النصيحة لهم لما صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
ثم إن على معشر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن يحذروا من الهوى، وأن يجاهدوا أنفسهم من الوقوع فيه، قال الله تعالى: }وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ{، فأخبر سبحانه أن من اتبع هواه، أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بُعث به رسوله، وهو السبيل إليه، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغضب لغضبه ويرضى لرضاه. وسنذكر إن شاء الله تعالى أقسام الناس في ذلك.
أيها المسلمون ... إن العبادة عبادة الله عز وجل لها أركان ثلاثة: وهي محبة الله تعالى ورجاؤه وخوفه، يزيد الإيمان بزيادتها في القلب والجوارح، وينقص بنقصانها، ومن علامة وجودها: الغيرة لله عند انتهاك حرماته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام لله، والأخذ على أيدي أهل البطر والسفه، وحملهم على طاعة الله تعالى وكفهم عن معاصي الله، وردعهم عن ذلك سواء كانوا أقربين أو بعيدين، أقوياء كانوا أو ضعفاء، كل بحسب حاله في ذلك على ما رتبه رسول الله ﷺ فيما رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» قوله: «من رأى» يعني علم «منكم» معشر المسلمين المكلفين القادرين، فالخطاب لجميع الأمة حاضرها بالمشافهة، وغائبها بطريق التبع، «منكرًا» أي: شيئًا نهى عنه الشرع فعلاً أو قولاً، «فليغيره» أي: فليزله وجوبًا، ثم إن علم أكثر من واحد، ففرض كفاية، إن قام بتغييره من يكفي وإلا أثم الكل، والواجب أن يزيله «بيده» حيث كان مما يزل بها، «فإن لم يستطع» الإنكار بيده بأن ظن لحوق ضرر به، فالواجب تغييره «بلسانه» أي: بالقول بوعظه وتذكيره وتخويفه بالله، وبرفعه إلى من يستطيع ذلك، «فإن لم يستطع» ذلك بلسانه لوجود مانع شرعي، «فبقلبه» ينكره وجوبًا بأن يكرهه به، ويعزم أنه لو قدر بقول أو فعل، فعل، وهذا واجب عينًا على كل أحد بخلاف الذي قبله، فأفاد الخبر وجوب تغيير المنكر بكل طريق ممكن فلا يكفي الوعظ لمن يمكنه إزالته بيده ولا القلب لمن يمكنه باللسان، «وذلك» أي: الإنكار بالقلب، «أضعف الإيمان» قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام له: وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال ... إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي ﷺ: «وذلك أدنى – أو – أضعف الإيمان -»، وقال: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»، وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم استطاعه، سواء كان رجلاً أو امرأة، عبدًا أو أمة، عابدًا وزاهدًا، أو عاصيًا وفاسقًا؛ لقوله تعالى: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ{ على أنه فرض على الكفاية إذ لو كان فرض عين لقال ولتكونوا أو معنى ذلك.
واعلم أن مقتضي فرض الكفاية أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى وأسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالفرض وبتغيير المنكر الذي علمه فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر والله أعلم أنه لا يسقط عنه الحرج لأنه أقدم على ترك واجب عمدًا، وقد يكون الأمر والنهي فرض عين كما قال النووي في شرح مسلم: وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - يعني يصير فرض عين - وذلك إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف. انتهى
وليس من شرط القيام به العدالة، قال القرطبي في تفسيره: «ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلاً عند أهل السنة، خلافًا للمعتزلة».
وقال النووي: «يجب عليه، وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر». انتهى
وقال ابن عطية: «قال حذاق أهل العلم: ليس من شرط الناهي أن يكون سليمًا عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا».
قال بعض الأصوليين في قوله تعالى: }كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ{: يقتضي اشتراكهم في الفعل، ومع ذلك ذمهم على ترك التناهي.
كما أنه لا يكفي قيام الليل وصيام النهار والزهد في الدنيا بدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة شيطانية أنه من المشاكل التي تشوش على المتعبد، وتقطع سير السالك عن سيره، - كلا والله - إنه من أفضل العبادات وأشرفها وأجلها؛ بل والله إنه هو الذي يصل سير السالك إلى ربه، قال الله تعالى في المجاهدين في سبيله: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ{، ولما سأل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن أناس يجلسون في المساجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأناس يعكفون عندهم يقولون: هؤلاء لحى غوانم. قال: وأنا أقول إنهم لحى فواتن. فقال السامع: أنا ما أقدر أقول: إنهم لحى فواتن. قال الشيخ: إنهم من الصم البكم. وابن القيم رحمه الله يرى أن أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من مثل هؤلاء.
وقال شيخ الإسلام بعد كلامه الذي سبق: «وهنا يغلط فريقان من الناس فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق t في خطبته: إنكم تقرؤون هذه الآية: }عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{، وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال.
والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده، مطلقًا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر، كما جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني ... فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه؛ ولهذا أمر النبي ﷺ بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: «أدوا إليهم حقوقهم، وسلوا الله حقوقكم» ومن هذا الباب إقرار النبي ﷺ لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحَميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه». انتهى
عباد الله ... إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم وبصيرة، والمسارعة إليه، وإيثار رضي الله على الدنيا، والتواصي بالحق والتعاون عليه كل بحسب حاله في ذلك مما يكون مسببًا لرضاه، وجلب كل خير ودفع كل شر، وبالاغترار بالدنيا وزينتها والغفلة عن الله، والإعراض عن الأوامر والنواهي؛ يحصل الهوان والذل والعار في الدنيا والآخرة، ويحصل الهم والغم، وتُنزع البركات، وتحل النقمات والمثلات، لما روى ابن ماجه في سننه قال: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي، ثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب عن ابن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله ابن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله ﷺ فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يلعنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» قال في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه.
عباد الله ... إن الله تبارك وتعالى ينزل العباد منه حيث أنزلوه من أنفسهم، فمن عظَّم أمر الله وأطاعه واجتنب مناهيه، وخافه في سره وعلانيته رضي الله عنه وأرضاه، ومن خالف أمره وارتكب نهيه، وقدم هواه على طاعة مولاه، انتقم منه وأقصاه، وكما تدين تدان، جزاءً وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد.
قال ابن رجب رحمه الله: «واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تارة يحمل عليه رجاء ثوابه، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة، وتارة يَحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر، وأنه يفتدي من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال كما قال بعض السلف: وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض.
وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز يقول لأبيه: وددت أني غلت بي وبك القدور في الله تعالى. ومن لاحظ هذا المقام والذي قبله هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله تعالى، وربما دعا لمن آذاه كما قال ذلك النبي ﷺ لما ضربه قومه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». انتهى
عباد الله ... كفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرفًا وفضلاً أنه وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ووظيفة من تبعهم ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي{، كما أنه سبب قوي من أسباب الفلاح، بل إن الفلاح محصور في أهله لقول الله تعالى: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{، وهو عبادة لله تعالى عظيمة، وطاعة لرسوله، وأصل من آكد أصول الشريعة، وواجب من ألزم واجباتها، ولولا الله ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لانهدم بنيان الشريعة وتداعى، وعمت الفوضى، وساءت الأحوال والبلاد.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تعد مزاياه، ولا تحصى فوائده، قال تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ{، وقال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ{ أقسم الله تعالى أن كل إنسان في خسارة وهلاك، }إِلا الَّذِينَ آمَنُوا{ بما أمر تعالى بالإيمان به، }وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{ وهذا يشمل جميع أنواع الطاعات كلها الظاهرة والباطنة والواجبة والمستحبة، كما يشمل الكف عن جميع السيئات }وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ{، وهو الدعوة إلى الخير، والعمل به والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، }وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر{ على طاعة الله عز وجل، وما يصيبهم في سبيلها من تعب وأذى، وعن معاصي الله وعلى أقداره المؤلمة.
وإني أُذكِّر وأنبه نفسي والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالصدق والإخلاص لله عز وجل، والغضب والرضا، والبغض والمحبة لله تعالى لكي لا يفوته ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الناس ينقسمون في ذلك إلى ثلاثة أقسام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه، وصار الأمر الذي كان عنده منكرًا ينهى عنه ويعاقب عليه، ويُذم صاحبه ويغضب عليه، مرضيًّا عنده، وصار فاعلاً له وشريكًا فيه، ومعاونًا عليه، ومعاديًا لمن نهى عنه وينكر عليه، وهذا غالب في بني آدم؛ يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول؛ فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالمًا في الحالين، يرى قومًا ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتدائه عليهم، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء، فينقلبون أعوانًا له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي، حتى يدخل أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عونًا لهم، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره.
وقوم يقومون ديانة صحيحة، يكونون في ذلك مخلصين لله، مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم من خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
ويؤمنون بالله.
وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين، فمن فيه دين له وله شهوة، تجتمع في قلبه إرادة الطاعة وإرادة المعصية، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة.
وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة، ومطمئنة، ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة بالسوء، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة، التي قيل فيها }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي{، والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون تارة كذا وتارة كذا، وتخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا. انتهى
فاتقوا الله عباد الله ... ولا تكونوا مما اعتاد قلبه المداهنة وعدم النفرة من أهل الشر والفساد، ومخالطة أهل مواقف التهم المعروفين بها، وجعل الإغضاء والسكوت عنهم هو العقل الراجح، وأن الناس لا يستقيم معهم إلا من داهنهم وسعى في إصلاح دنياه وإفساد دينه.
نسأل الله العافية، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي يوجبه الله عليه، فإن من لم يكن مبغضًا لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً». انتهى
والحاصل أن الإنسان يأتي من ذلك بما يستطيع، ولا يقصر في نصرة دين الله، ولا يعتذر في إسقاط ذلك بالأعذار التي لا تصح، ولا يُسقط بها ما أوجب الله عليه من أمر الله.
هذا ... وأسأل الله الحي القيوم ذا الجلال والإكرام أن يجعلنا ممن يدعو إلى الله – لا إلى حظ نفسه – على بصيرة، وأن يجعلنا ممن يأمر بالمعروف وبه يأتمر، وينهى عن المنكر وعنه ينتهي إلى أن يأتيه اليقين، وأسأله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لذلك، ويجعلهم من أنصار دينه وشرعه وحملة شرعه العاملين المحققين، وأن يجعلنا من أعوانهم وأنصارهم على ذلك.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه ومولاه
عبد الله بن إبراهيم القرعاوي
حرر في 25/2/1409هـ
([1]) ذكره النووي وإمام الحرمين وجمع من أهل العلم، ولبعضهم تفصيل في ذلك.