القصد السديد على كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
التصنيفات
الوصف المفصل
- القصد
السديد على كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
- كتاب التوحيد
- 1- باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
- 2- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
- 3- باب الخوف من الشرك
- 4- باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله
- 5- باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
- 6- باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
- 7- باب ما جاء في الرقى والتمائم
- 8- باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
- 9- باب ما جاء في الذبح لغير الله
- 10- باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
- 11- باب من الشرك النذر لغير الله
- 12- باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
- 13- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
- 14- باب قول الله تعالى : ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ *وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ﴾ الآية . وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ الآية [ فاطر : 13]
- 15- باب قول الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ .
- 16- باب الشفاعـة
- 17- باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ الآية .
- 18- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
- 19- باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
- 20- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
- 21- باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
- 22- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
- 23- باب ما جاء في السحر
- 24- باب بيان شيء من أنواع السحر
- 25- باب ما جاء في الكهان ونحوهم
- 26- باب ما جاء في النشرة
- 27- باب ما جاء في التطير
- 28- باب ما جاء في التنجيم
- 29- باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
- 30- باب قول الله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ الآية . وقوله : ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ﴾ . إلى قوله : ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية [ التوبة :24].
- 31- باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
- 32- باب قول الله تعالى : ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
- 33- باب قول الله تعالى : ﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ . وقوله : ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾ [ الحجر : 56] .
- 34- باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
- 35- باب ما جاء في الرياء
- 36- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
- 37- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً
- 38- باب قول الله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ الآيات
- 39- باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
- 40- باب قول الله تعالى : ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ النحل : 83] .
- 41- باب قول الله تعالى : ﴿ فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ﴾ .
- 42- باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
- 43- باب قول : ما شاء الله وشئت
- 44- باب من سب الدهر فقد آذى الله
- 45- باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
- 46- باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
- 47- باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
- 48- باب ما جاء في قول الله تعالى : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ﴾ الآية .
- 49- باب قول الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ الآية .
- 50- باب قول الله تعالى : ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ الآية .
- 51- باب لا يقال : السلام على الله
- 52- باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت
- 53- باب لا يقول : عبدي وأمتي
- 54- باب لا يرد من سأل بالله
- 55- باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
- 56- باب ما جاء في اللّو
- 57- باب النهي عن سب الريح
- 58- باب قول الله تعالى : ﴿ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ .
- 59- باب ما جاء في منكري القدر
- 60- باب ما جاء في المصورين
- 61- باب ما جاء في كثرة الحلف
- 62- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
- 63- باب ما جاء في الإقسام على الله
- 64- باب لا يستشفع بالله على خلقه
- 65- باب ما جاء في حماية النبي
- 66- باب ما جاء في قول الله تعالى : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ .
- كتاب التوحيد
القصد السديد على كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
تَألِيْفُ الشَّيْخِ العَلاَّمَة
العَلاَّمَة فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك
المتَوفَى عَام 1376هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات :56]. وقوله : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : 36] . وقوله : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ [ الآيات الإسراء : 23] . وقوله : ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ [ النساء : 36] .
وقوله : ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ الآيات [ الأنعام : 151] .
قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى : ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... ﴾ الآية [ الأنعام : 153] .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي : « يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله » ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم . قال : « حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً » . فقلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : « لا تبشرهم فيتكلوا » . أخرجاه في الصحيحين .
ابتدأ المصنف - رحمه الله تعالى - كتابه بالبسملة ، اقتداء بالكتاب العزيز ، وعملاً بحديث : « كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع » . أي ناقص البركة .
والمصنف هو الإمام العالم التقي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر ، نشأ في بلاد نجد وهم في أسوأ حال في أمور دينهم ودنياهم ، وقد فشا فيهم الشرك الأكبر والأصغر ، وكانوا متفرقين يغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضًا ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، والاجتماع على دينه فعمد بعض أقرانه لرد دعوته بغيًا وحسدًا كفعل أعداء الرسل . قال تعالى
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾ [ الأنعام : 112 ] .
فصبر ومضى ودعا إلى الله على بصيرة فنصره الله وأيده بهذه الشجرة المباركة آل سعود فقاتلوا الناس ، وهدموا القبور التي تعبد من دون الله وألزموهم بسنة رسول الله ﷺ ، وهذا مصداق قوله ﷺ : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » .
قوله : ( كتاب التوحيد ) : التوحيد نوعان :
توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
وتوحيد في الطلب والقصد ، وهو توحيد الإلهية والعبادة .
وموضوع هذا الكتاب : في بيان ما بعث الله به رسله من توحيد العبادة ، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة ، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه ، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ) : العبادة هي طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ومعنى الآية : أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .
قوله : ( وقوله : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾) . قال ابن القيم – رحمه الله - : ( الطاغوت : كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع . فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
قوله : وقوله : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ ) .
قال مجاهد : قضى يعني وصى . وقال ابن عباس : أمر .
وقوله : ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ المعنى أمر أن تعبدوه وحده دون من سواه ، وهذا معنى لا إله إلا الله .
وقوله : ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ ) . أي وأمر أن تحسنوا بالوالدين إحسانًا كما أمر بعبادته وحده لا شريك له كما قال الله تعالى في الآية الأخرى ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [ لقمان : 14 ]
قوله : ( وقوله : ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ ) قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية : يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريد له ؛ فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات ، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ، ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ الآيات [ الأنعام : 151 : 153] .
قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ : ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ – إلى قوله - ﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... ﴾ الآية ) . أي من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ ﴾ إلى آخر الآيات .
قوله : (كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي : « يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله » ؟ ) الحديث .
أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس ، وأبلغ في فهم المتعلم .
( وحق الله على العباد ) : هو ما يستحقه عليهم .
( وحق العباد على الله ) معناه متحقق لا محالة ، لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ [ الروم 6 ]
وقوله : (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ) .
قال الحافظ : ( اقتصر على نفي الإشراك ؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم ، إذ من كذّب رسول الله فقد كذّب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك . وهو مثل قول القائل : من توضأ صحت صلاته ، أي مع سائر الشروط ) .
وفي الحديث من الفوائد :
جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق .
فضيلة معاذ رضي الله عنه .
وتواضعه ﷺ .
وحسن الأدب من المتعلم .
وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم .
وفيه استحباب بشارة المسلم بما يسره .
قوله : « لا تبشرهم فيتكلوا » أي يعتمدوا على ذلك ، فيتركوا التنافس في الأعمال .
وفي رواية : فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا أي تحرجًا من الإثم .
قال الوزير أبو المظفر : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة .
* وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم :
الحث على إخلاص العبادة لله ، وأنها لا تنفع مع الشرك ، بل لا تسمى عبادة .
التنبيه على عظم حق الوالدين وتحريم عقوقهما .
والحث على تدبر الآيات .
وجواز كتمان العلم للمصلحة . والله أعلم .
* * *
1- باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ الآية [ الأنعام : 82] .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » . أخرجاه .
ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال : « قال موسى : يا رب ، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به . قال : قل يا موسى : لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا . قال : يا موسى ، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفة ، ولا إله الله في كفة ، مالت بهن لا إله الله » . [ رواه ابن حبان ، والحاكم وصححه ] .
وللترمذي وحسنه عن أنس : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة » .
قوله : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ) أي : وتكفيره الذنوب .
قوله : وقول الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ أي ولم يخلطوا توحيدهم بشرك ﴿ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ﴾ يوم القيامة ، ﴿ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ في الدنيا والآخرة .
وعن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ فقلنا : يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ﴿ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ بشرك أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان 13 ] . رواه البخاري .
قوله : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله » أي من تكلم بلا إله إلا الله عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهرًا فلا بد من الشهادتين من العلم واليقين بمدلولها .
قوله « وحده » تأكيد الإثبات .
« لا شريك له » تأكيد للنفي .
فدلت لا إله إلا الله على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائن من كان ( وإثباتها لله وحده دون كل ما سواه ، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن .
قوله : « وأن محمدًا عبده ورسوله » جمع بين هاتين الصفتين دفعًا للإفراط والتفريط .
قوله : « وأن عيسى عبد الله ورسوله » أي خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله ، أو ابن الله أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران 59 ] وخلافًا لما يقوله أعداؤه اليهود أنه ولد بغي ، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فيتبرأ من قول الطائفتين .
قوله : « وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه » . أي خلقه بالكلمة وهي كن .
وقوله : « وروح منه » أي من الأرواح التي خلقها الله تعالى كما قال تعالى ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الجاثية 13 ] .
قوله : « والجنة حق ، والنار حق » أي وشهد أن الجنة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه أنه أعدها للمتقين .
« حق » أي ثابتة لا شك فيها ، وشهد أن النار التي أخبر الله تعالى بها في كتابه أنه أعدها للكافرين .
« حق » أي ثابتة لا شك فيها .
قوله : « أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » . أي من صلاح أو فساد لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة ، وإن دخلوا النار بذنوبهم .
قوله : ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » . هذا طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم ، ولفظ البخاري في باب المساجد في البيوت فذكر الحديث بطوله ، وفيه قال : فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا فقال قائل منهم : أين مالك بن الدُّخشن أو ابن الدُّخشُن ؟ فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله . فقال رسول الله : « لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله » . قال : الله ورسوله أعلم . قال : فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين . قال رسول الله ﷺ : « فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » .
قال الحافظ : وفيه اجتماع أهل المحلة على الإمام أو العالم إذا ورد منزل بعضهم يستفيد منه ويتبرك به .
والتنبيه على من يظن به الفساد في الدين عند الإمام على جهة النصح ولا يعد ذلك غيبة ، وأن الإمام أن يتثبت في ذلك ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل ,
وفيه : افتقاد من غاب عن الجماعة بلا عذر ، وأنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد ، وأنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد . انتهى .
قوله : « قال موسى : يا رب ، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به » . أي أثني عليك به وأسألك به .
قال : قل يا موسى لا إله إلا الله » . فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ولا يقتصر على لفظ الجلالة ولا ( هو ) كما يفعله غلاة المتصوفة .
قوله : « كل عبادك يقولون هذا » أي إنما أريد شيئًا تخصني .
« قال : يا موسى ، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري » ، أي : لو أن السماوات السبع ومن فيهن من العمار – غير الله تعالى - والأرضين السبع في كفة أي : وضعوا في كفة ميزان ، ولا إله إلا الله في كفته الأخرى ، مالت بهن لا إله إلا الله أي رجحت وثقلت ، وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال ، فمن قال لا إله إلا الله بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهو من الذين قال الله فيهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأحقاف 13- 14] .
قوله : وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة » ذكر المؤلف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث ، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال عن أنس قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك [ على ] ما كان منك ولا أبالي . يا ابن آدم إنك لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك . يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة » .
وفي هذا الحديث كثرة ثواب التوحيد ، وسعة كرم الله وجوده ورحمته .
والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب ، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين ، وهي الفسوق ، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار . والصواب قول أهل السنة : أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ولا يعطاه على الإطلاق ، بل يقال : هو مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة . وقد قال الله ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [ النساء 48 ] .
قال المصنف - رحمه الله - : إذا جمعت بين حديث عبادة وبين حديث عتبان وما بعده يتبين لك معنى قول لا إله إلا الله وتنبين خطأ المغرورين .
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .
وفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه .
وفيه إثبات الصفات خلافًا للمعطلة .
وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » أنه ترك الشرك ، وليس قولها باللسان . انتهى . بالله التوفيق .
* * *
2- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى : ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل :120]. وقال : ﴿ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ﴾ [ المؤمنون :59] .
عن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ، ولكني لُدِغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع . ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : « عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ . وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه ، فقال : « هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون » . فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . قال : « أنت منهم » . ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : « سبقك بها عكاشة » .
قوله : ( باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ) أي : ولا عذاب ، تحقيق التوحيد تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي .
قوله ( وقول الله تعالى : ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ) قوله : ﴿ أُمَّةً ﴾ أي : قدوةً وإمامًا ومعلمًا للخير .
﴿ قَانِتاً لِلّهِ ﴾ أي : مطيعًا له .
﴿ حَنِيفاً ﴾ أي : مائلاً عن الباطل مستقيمًا على دين الإسلام .
﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ كما زعمت قريش ، قال الله تعالى : ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : 67 - 68 ] .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ﴾ ) أي : لا يعبدون مع الله غيره بل يوحدونه . ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه من شرك جلي أو خفي ، نفى ذلك عنهم ، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي صحت به أعمالهم وكملت ونفعتهم .
قوله : ( أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ ) أي : سقط .
( فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت ، قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي . قال : وما حدثكم ، قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : « لا رقية إلا من عين أو حمة » . هكذا أورده موقوفًا وقد رواه أحمد وغيره مرفوعًا ) .
( والعين ) هي إصابة العائن غيره بعينه .
( والحمة ) : سم العقرب وشبهها ، قال الخطابي : ومعنى الحديث : لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والُحمة ، وقد رَقى النبي ﷺ ورُقي .
قوله : ( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ) أي : من أخذ بما بلغه من العلم ، وعمل به فقد أحسن . بخلاف من يعمل بجهل .
قوله : ( ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : « عرضت علي الأمم » . الحديث . قال المصنف : وفيه عمق علم السلف ؛ لقوله : ( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا و كذا ) . فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .
قوله : « عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط » . وهم الجماعة دون العشرة ، « والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد » .
فيه : الرد على من احتج على الصواب بالكثرة .
قوله : « إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي : هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم » . هكذا ثبت في صحيح مسلم .
قوله : « فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب » . أي : لتحقيقهم التوحيد .
قوله : ( ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ يعنون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا وذكروا أشياء ) .
وفيه : إباحته المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق .
وفيه : عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل .
وفيه : حرصهم على الخير .
قوله : فقال : « هم الذين لا يسترقون » أي : لا يسألون غيرهم أن يرقاهم .
« ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون » . الرقية مباحة ولا كراهة فيها إذا كانت بالقرآن والأدعية المعروفة ، وتركها توكلاً على الله تعالى وتلذذًا بالبلاء أفضل ، وقد قال ﷺ : « لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا » .
والكي جائز مع الكراهة وقد قال ﷺ : « الشفاء في ثلاث ، شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي » .
وقال البخاري : باب من اكتَوى أو كَوَى غيرَه وفضل من لم يكتو ، وذكر حديث جابر عن النبي ﷺ قال : « إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم أو لذعة نار ، وما أحب أن أكتوي » . ثم ذكر حديث ابن عباس : « عرضت علي الأمم » . الحديث .
قال الحافظ : قوله : ( باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو ) ، كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة ، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين ، وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره ، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه .
وفضل من تركه من قوله : « وما أحب أن أكتوي » . وقد خرج مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال : ( رُمِيَ سعد بن معاذ على أكحله فحسمه رسول الله ﷺ ) .
ومن طريق أبي سفيان عن جابر أن النبي ﷺ بعث إلى أُبيّ بن كعب طبيبًا ، فقطع منه عِرقًا ثم كواه .
وروى الطحاوي وصححه الحاكم عن أنس قال : ( كواني أبو طلحة في زمن النبي ﷺ ) وأصله في البخاري ، وأنه كُوِيَ من ذات الجنب .
وعند الترمذي عن أنس : ( أن النبي ﷺ كوى أسعد بن زُرارةَ من الشَّوكة ) .
ولمسلم عن عمران بن حصين : ( كان يُسلَّم عليَّ حتى اكتويت فترك ، ثم تركت الكيَّ فعاد ) وله عنه من وجه آخر : ( إن الذي كان انقطع عني رجع إليّ ) يعني : تسليم الملائكة ، وفي لفظ : أنه ( كان يُسلَّم عليَّ فلما اكتويت أمسك عني ، فلما تركته عاد إليّ ) .
وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن عمران : ( نهى رسول الله ﷺ عن الكي ، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا ) . وفي لفظ : ( فلم يفلحن ولم ينجحن ) وسنده قوي .
والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث ، وقيل : إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور وكان موضعه خطرًا فنهاه عن كيه فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح .
وقال ابن قتيبة : الكي نوعان : كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيلا فيه : « لم يتوكل من اكتوى » . لأنه يريد أن يدفع القدر ، والقدر لا يدافع .
والثاني : كي الجرح إذا نغل أي : فسد ، والعضو إذا قطع ، فهو الذي يشرع التداوي به فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعديل التعذيب بالنار لأمر غير محقق . وحاصل الجمع أن الفعل يدل على الجواز ، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله ، وكذا الثناء على تاركه ، وأما النهي [ عنه ] فإما على سبيل الاختيار والتنزيه وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء . والله أعلم . انتهى .
وقد أطلنا في هذه الموضع لحاجة الناس إلى ذلك .
قوله : « ولا يتطيرون » . أي : لا يتشاءمون بالطير ونحوها ، وسيأتي بيان ذلك في باب ما جاء في التطير إن شاء الله تعالى .
قوله : « وعلى ربهم يتوكلون » . هذا هو الجامع لترك ذلك ، وأما مباشرة الأسباب والتدواي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل ، لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه ، وجهله من جهله » .
قوله : ( فقام عُكَّاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : « أنت منهم » . وفي رواية للبخاري فقال : « اللهم اجعله منهم » . ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : « سبقك بها عكاشة » .
وفيه : استعمال المعاريض ، وحسن خلقه ﷺ لم يقل : أنت منهم ولا لستَ منهم .
* * *
3- باب الخوف من الشرك
وقول الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [ النساء : 48] . وقال الخليل عليه السلام : ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ [ إبراهيم : 35] .
وفي حديث : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » ، فسئل عنه فقال : « الرياء » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار » . [ رواه البخاري ] . ولمسلم عن جابر ، أن رسول الله ﷺ قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار » .
قوله : ( باب الخوف من الشرك ) أي : الأكبر والأصغر .
قوله : ( وقول الله تعالى ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ أي : لا يغفر لعبدٍ لقيه مشركًا ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء تفضلاً .
قوله : ( وقال الخليل عليه السلام : ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ ) أي : اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام ، وباعد بيننا وبينها ، وقد استجاب الله تعالى دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام .
وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله : ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ﴾ [ إبراهيم : 36 ] قال إبراهيم التيمي : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ .
قوله : ( وفي الحديث : « أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر » ) فسئل عنه فقال : « الرياء » رواه الإمام أحمد . ولفظه عن محمود بن لبيد أن رسول الله ﷺ قال : « إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر » قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : « الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تُرَاءُون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء » .
قوله : ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « من مات وهو يدعو للَّه ندًا دخل النار » . رواه البخاري . أي : يجعل لله ندًا في العبادة ، ويدعوه ويسأله ويستغيث به ، قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : 21 : 22 ] .
قوله : ( ولمسلم عن جابر أن رسول اللَّهِ ﷺ قال : « من لقي اللَّه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النَّار » . قال القرطبي : أي : لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية ، ولا في الخلق ، ولا في العبادة ، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة : أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة ، وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة [ و ] لا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد .
* * *
4- باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله
وقوله الله تعالى : ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ الآية [ يوسف : 108] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ ، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : « إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله - وفي رواية : إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك : فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » . أخرجاه .
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر : « لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه » . فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها . فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها . فقال : « أين علي بن أبي طالب » ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأتى به فبصق في عينيه ، ودعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية فقال : « انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من حمر النعم » . يدوكون : أي يخوضون .
قوله : ( باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) لما ذكر المصنف - رحمه الله - التوحيد وفضله ، والخوف من ضده نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه ، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم ، قال الله تعالى : ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ فصلت : 33 ] .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ الآية أي : قل يا محمد : ﴿ هَـذِهِ ﴾ أي : الدعوة إلى التوحيد ﴿ سَبِيلِي ﴾ أي : طريقتي .
﴿ أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ أي : معرفة وحجة .
﴿ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ : من آمن بي أيضًا يدعو إلى الله تعالى .
﴿ وَسُبْحَانَ اللّهِ ﴾ أي : قل أنزهه تنزيهًا عن الشرك .
﴿ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : أنا بريءٌ من أهل الشرك به ، لستُ منهم ، ولا هم مني .
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : فيه التنبيه على الإخلاص لأن ( كثيرًا من الناس ) لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ، وأن البصيرة من الفرائض .
وقال ابن القيم - رحمه الله - في معنى قوله تعالى : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ﴾ الآية [ النحل : 125 ] : ذكر سبحانه مراتب الدعوة ، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو :
- فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له ، مؤثرًا له على غيره إذا عرفه ، فهذا يُدعَى بالحق ولا يحتاج إلى موعظة وجدال .
- وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق ، لكن لو عرفه آثره واتبعه . فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب .
- وإما أن يكون مُعاندًا معارضًا ، فهذا يجادل بالتي هي أحسن ، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن . انتهى .
قوله : ( أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال : « إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب » . ) وكان بعث معاذ سنة عشر قبل حج النبي ﷺ وقيل : آخر سنة تسع بعثه ﷺ مبلغًا عنه ومعلمًا وحاكمًا ، وكان فيها طوائف من اليهود والنصارى فنبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم .
قال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية .
قوله : « فيلكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله » . وفي رواية : « إلى أن يوحدوا الله » أشار المصنف بهذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن معناها توحيدُ الله بالعبادة ، ونفيُ عبادة ما سواه .
وفي رواية للبخاري فقال : « ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله » . قال الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى - : ( لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها :
أحدها : العلم المنافي للجهل .
الثاني : اليقين المنافي للشك .
الثالث : القبول المنافي للرد .
الرابع : الانقياد المنافي للترك .
الخامس : الإخلاص المنافي للشرك .
السادس : الصدق المنافي للكذب .
السابع : المحبة المنافية لضدها .
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب ) . انتهى .
وقد جمع بعضهم هذه الشروط فقال :
اِعْلَمْ وايْقِنَنَّ وانقَدِ واقْبَل ( | أَحِبَّ وأخْلِصْ واصْدقنَّ حكمك ( |
قوله : « فإن هم أطاعوك لذلك » أي : شهدوا وانقادوا .
« فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة » . فيه : أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين .
قوله : « فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم » . إنما خص النبي ﷺ الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكدُ من حق بقية الأصناف الثمانية .
وفيه : دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد .
قوله : « فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائمَ أموالهم » . أي : خيار المال وأنفسه .
« واتق دعوة المظلوم » أي : اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم .
« فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » . هذه الجملة مفسِّرة لضمير الشأن أي : فإنها لا تُحجب عن الله .
وفي الحديث : البداءة بالأهم فالأهم ، والتعليم بالتدريج .
ولم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث وهما من أركان الإسلام ، لأن الصوم تبع وهو من الأعمال الباطنة ، والحج لا يجب إلا على المستطيع مرة واحدة في عمره ، وإنما ذكر الأعمال التي يقاتل عليها وهي : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، كما قال تعالى : ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ [ التوبة : 5 ] .
قوله : أن رسول الله قال يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ... » . الحديث .
فيه : فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه .
وفيه : علم من أعلام النبوة .
قوله : فأعطاه الراية وقال : « انفُذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم » . أي : امض على رفقك من غير عجلة حتى تنزل فناء أرضهم .
وفيه : الأدب عند القتال ، وترك العجلة والطيش والأصوات التي لا حاجة إليها .
قوله : « ثم ادعهم إلى الإسلام » أي : الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله .
قوله : « وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه » . وهو كما في الحديث الآخر : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها » . وفي الحديث الآخر : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى » . قال الإمام مالك في ( الموطأ ) : الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقًا عليهم جهاده .
قوله : « فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم » . أي : خير لك من الإبل الحمر وهي من أنفس أموال العرب .
وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام وإلا فموضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، قال الله تعالى : ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : 64 ] .
* * *
5- باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى : ﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ الآية [ الإسراء : 57] .وقوله : ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ الآية [ الزخرف : 26 ، 27] . وقوله : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ الآية [ التوبة :31]. وقوله : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ الآية [البقرة : 165] .
في ( الصحيح ) عن النبي ﷺ أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله عز وجل » .
وشرح هذا الترجمة : ما بعدها من الأبواب .
قوله : ( باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ) : هذا من عطف الدال على المدلول .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ الآية ) يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، وهي قوله تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : 56 ] يقول تعالى : ﴿ قُلِ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين : ﴿ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم ﴾ أنهم آلهة ﴿ مِّن دُونِهِ ﴾ كالملائكة والنبيين وغيرهم ، ﴿ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ﴾ بالكلية ﴿ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ إلى غيركم .
﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ من النبيين والملائكة وفي قراءة ﴿ تَدْعُونَ ﴾ .
﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ أي : القرابة ولهذا قال : ﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ أي : يتقربون إلى الله بالعمل الصالح ويتضرعون إليه في طلب الدرجة العليا ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يستحقون الألوهية .
﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾ يحذر منه كل شيء حتى الرسل من الملائكة والبشر .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي ... ﴾ الآية ) يقول تعالى مخبرًا عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء : إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان ، فقال : ﴿ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ أي : إلى دينه .
قال قتادة : كايَدهم ؛ كانوا يقولون : الله ربُّنا ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ لقمان : 25 ] فلم يبرأ من ربه .
﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً ﴾ وهي لا إله إلا الله ﴿ فِي عَقِبِهِ ﴾ لا يزال فيهم من يوحِّد الله تعالى .
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي : لعل المشركين يرجعون إلى دين إبراهيم .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ الآية ) الأحبار : العلماء . والرهبان : العباد . أي : حرموا عليهم الحلال ، وحلَّلوا لهم الحرام فأطاعوهم وتركوا كتاب الله تعالى واتخذوا المسيح ابن مريم إلهًا من دون الله .
﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة : 31 ] أي : هو الله الأحد المنزه عن شريك وولد .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ الآية ) أي : يجعلون مع الله أمثالاً يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه .
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ﴾ أي : أثبت وأدوم على حبه من المشركين لأنهم لا يختارون على الله ما سواه .
﴿ وَلَوْ يَرَى ﴾ : لو يعلم الذين ظلموا باتخاذ الأنداد .
﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ أي : عاينوا يوم القيامة .
﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ أي : لعرفوا مضرة الكفر وأن ما تخذوا من الأنداد لا ينفعهم .
قوله : ( وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون حرم ماله ودمه » . قال المصنف : وهذا من أعظم ما يُبيِّن معنى لا إله إلا الله ، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له . بل لا يحرمُ مالهُ ودمه حتى يُضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله . انتهى .
وقال الخطابي : على قوله ﷺ : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله » : معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان ، دون أهل الكتاب ؛ لأنهم يقولون : لا إله إلا الله . ثم يُقاتلون ولا يرفع عنهم السيف .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة يجب قتالهم حتى يلزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر والصحابةُ رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم ) . انتهى ملخصًا .
قوله : « وحسابه على الله » . أي : هو الذي يتولى حسابه فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم ، وإن كان منافقًا عذبه العذاب الأليم . وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر .
قوله : ( وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب ) أي : لأن ما بعدها فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى لا إله إلا الله .
وفيه أيضًا : بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر ، وما يوصل إلى ذلك من اللغو والبدعة .
وفيه أيضًا : من أدلة التوحيد إثبات صفات الكمال لله عز وجل ، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى .
* * *
6- باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ﴾ الآية [ الزمر : 38 ] .
وعن عمران بن حصين ، أن النبي ﷺ رأى رجلاً في يده حلقة من صفر ، فقال : « ما هذه » ؟ قال : من الواهنة . فقال النبي ﷺ : « انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً ، فإنك لو مت وهي عليك ، ما أفلحت أبداً » . رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به . وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » . وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » . ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه ، وتلا قوله : ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : 106] .
قوله : ( باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوها لرفع البلاء أو دفعه ) رفع البلاء : إزالته بعد نزوله . ودفعه : منعه قبل نزوله .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ﴾ ) هذا بيان أنها لا تنفع ولا تضر ، فلا خوف منها .
﴿ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ﴾ قل : حسبي الله هو كافٍ في إصابة النفع ودفع البلاء ﴿ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ .
قوله : ( عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال : « ما هذه » ؟ قال : من الواهنة ) . هي : عِرْقٌ يَأخُذُ في المنكب ، وفي اليد كلها .
قوله : ( قال : « انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا » . أي : ضعفًا ، وإنما نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم .
وفيه : اعتبار المقاصد .
قوله : « فإنك لو متَّ وهي عليك ما أفلحت أبدًا » . لأنه شرك .
قال المصنف : وفيه شاهد لكلام الصحابة : أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر .
وفيه : الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك .
قوله : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » . أي : علَّقها متعلقًا بها قلبه ، في طلب خير أو دفع شر .
قال أبو السعادات : ( التمائم جمع تميمة ، وهي خرزاتٌ كانت العربُ تعلّقها على أولادهم ، يتقون بها العين في زعمهم ، فأبطله الإسلام ) .
وقوله : « فلا أتم الله له » . دعاء عليه أي : لا أتم الله ما أراده .
وقوله : « فلا ودع الله له » . أي : لا تركه في دعة وسكون .
قوله : وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » . هذا حديث آخر رواه الإمام أحمد أيضًا عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ : أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد . فقالوا : يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا فقال : « إن عليه تميمة » . فأدخل يده فقطعها فبايعه .
وقال : « من تعلق تميمة فقد أشرك » . قال أبو السعادات : إنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم ، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه .
قوله : ( ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى ) أي : عن الحمى ، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى .
قوله : ( فقطعه وتلا قوله : ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ ) .
فيه : صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر لشمول الآية ، ودخوله في مسمى الشرك . والله أعلم .
* * *
7- باب ما جاء في الرقى والتمائم
في ( الصحيح ) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره ، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » . [ رواه أحمد وأبو داود ] . وعن عبد الله بن عُكَيْم مرفوعاً : « من تعلق شيئاً وكل إليه » . [ رواه أحمد والترمذي ] .
« التمائم » : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين ، لكن إذا كـان المعلـق من القرآن ، فرخص فيه بعض السلف ، وبعضهم لم يرخص فيه ، ويجعله من المنهي عنه ، منهم ابن مسعود رضي الله عنه .
و« الرقى » : هي التي تسمى العزائم ، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة .
و« التولة » : هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى امرأته .
وروى أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله ﷺ : « يا رويفع ! لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد وتراً ، أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمداً بريء منه » .
وعن سعيد بن جبير قال : « من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة » . [ رواه وكيع ] . وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها ، من القرآن وغير القرآن .
قوله : ( باب ما جاء في الرقي والتمائم ) أي : من النهي ، وما ورد عن السلف في ذلك .
قوله : ( عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي ﷺ في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت شك الرواي هل قال شيخه : قلادة وأطلق ، أو قيدها بقلادة الوتر ، وهو أحد أوتار القوس كان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره ، وقلدوا به الدواب اعتقادًا منهم أنه يدفع عن الدابة العين .
قوله : « إن الرقي والتمائم والتولة شرك » . هذا الحديث له قصة وهي ما رواه أبو داود عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : إن عبد الله رأى في عنقي خيطًا ، فقال : ما هذا ؟ قلت : خيط رُقي لي فيه ، قالت : فأخذه ثم قطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن الرقي والتمائم والتولة شرك » . فقلت : لقد كانت عيني تقذف ، وكنت اختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقى سكنت ، فقال عبد الله : إنما ذلك من عمل الشيطان كان ينخسها بيده ، فإذا رقى كفَّ عنها . إنما كان يكفيكِ أن تقولي كما كان رسول الله ﷺ يقول : « اذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا » . قال الخطابي : وكان عليه السلام قد رقَى ورُقي ، وأمر بها وأجازها . فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها . وإنما جاءت الكراهةُ والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنه ربما كان كفرًا أو قولاً يدخله شرك .
قوله : « من تعلق شيء وكل إليه » . أي : وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلَّقه ، فمن تعلق بالله وفوض أمره إليه كفاه ، ومن تعلق بغيره وكَلَه الله إليه وخذله ، قال الله تعالى : ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : 3 ] أي : كافيه .
قوله : ( عن رويفع قال : قال لي رسول الله ﷺ : « يا رويفع لعل الحياة ستطول بك » .
فيه : عَلمٌ من أعلام النبوة ، فإن رُويفعًا طالت حياتهُ إلى سنة ستٍ وخمسين .
قوله : « فأخبر الناس أن من عقد لحيته » . أي : تكبرًا وعجبًا ، ومثله فتل الشوارب . وفي الحديث الآخر : « قصوا الشوارب وأعفوا اللحى » .
« أو تقلد وترًا يريد : تميمة » . أي : حبله في عنقه ، أو عنق دابته .
« أو استنجى برجيع دابة ، أو عظم فإن محمدًا بريء منه » . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا : « لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن » .
قوله : ( من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة ) أي : كعتق رقبة لأنه أعتقه من رق الشيطان .
قوله : ( كانوا ) أي : أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن .
وقال عبد الله بن عمرو وغيره : يجوز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته . وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك . والله أعلم .
* * *
8- باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ﴾ الآيات [ النجم : 19 ] .
عن أبي واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ : « الله أكبر! إنها السنن ، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ﴿ اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [ الأعراف 138 ] ﴿ لتركبن سنن من كان قبلكم » . [ رواه الترمذي وصححه ] .
قوله : ( باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ) كبقعة وقبر ونحو ذلك ، أي : فهو شرك .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ الآيات) اللَّات : صنم لثقيف ، والعزى : لقريش وبني كنانة ، ومناة : لبني هلال.
قوله : ( ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى ﴾ ) معناه : أتختارون لأنفسكم الذكور من الأولاد وتجعلون لله البنات . فإنهم يقولون الملائكة وهذه الأصنام بنات الله - تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا - .
﴿ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ أي : جائرة .
﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ : برهان تتعلقون به .
﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ أي : الرسول والقرآن .
وقال الأعمش : سمَّوا اللات من الإله . والعزى من العزيز .
وقال ابن عباس : اللات رجل يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره . ذكره البخاري .
والعزى : شجرة . ومناة : أكمه .
فمن يشرك بقبور الصالحين ودعاهم مع الله ، وطلب منهم جلب المنافع ودفع المضار أو اعتقد في الأشجار والأحجار فقد شابه المشركين في عبادتهم هذه الأوثان ، وعبد مع الله ما لا يملك له ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا .
قوله : ( خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ) أي : قريب عهد بالكفر ، وهم من مسلمة الفتح .
وفيه : دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه لا يجهل هذا .
قوله : ( وللمشركين شجرة يعكفون عندها ) أي : تبركًا بها وتعظيمًا لها ، وكانت تعبد من دون الله .
( وينوطون بها أسلحتهم ) أي : يعلقونها عليها للبركة .
( فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ) أي : شجرة مثلها .
( كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ : « الله أكبر » . وفي رواية : « سبحان الله » والمراد تعظيم الله تعالى وتنزيهه .
( إنها السنن ) أي : الطرق .
« قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة » شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل لأن المعنى واحد .
ففيه : الخوف من الشرك ، وأن الإنسان قد يستحسن شيئًا يظن أنه يقربه إلى الله وهو مما يبعده .
قوله : « لتركبن سنن » أي طرق . « من كان قبلكم » ومناهجهم . وفيه عَلمٌ من أعلام النبوة .
* * *
9- باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ ﴾ الآية [ الأنعام : 162 ، 163] . وقوله : ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [ الكوثر : 2] .
عن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن ووالديه . لعن الله من آوى محدثاً ، لعن الله من غير منار الأرض » [ رواه مسلم ] .
وعن طارق بن شهاب ، أن رسول الله ﷺ قال : « دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب » . قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟! قال : « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما قرب قال : ليس عندي شيء أقرب قالوا له : قرب ولو ذباباً ، فقرب ذباباً ، فخلوا سبيله ، فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل ، فضربوا عنقه فدخل الجنة » . [ رواه أحمد ] .
قوله : ( باب ما جاء في الذبح لغير الله ) أي : من الوعيد ، وأنه شرك بالله عز وجل .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ) يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله ، ويذبحون له : ﴿ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي ﴾ ذبحي ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ﴾ ما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح ﴿ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ خالصًا لوجهه .
﴿ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ ﴾ الإخلاص ﴿ أُمِرْتُ ﴾ .
﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي : من هذه الأمة .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ أمره الله أن يداوم على الصلاة مخلصًا ، وينحر البدن على اسمه وحده ، بخلاف ما عليه المشركون من السجود لغير الله والذبح على غير اسمه .
قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » كمن يذبح للجن أو القبر أو الكواكب ، لأنه مما أهل به لغير الله .
وذكر إبراهيم المروزي أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه ، لأنه مما أهل به لغير الله .
قوله : « لعن الله من لعن والديه » . وفي الحديث الآخر : « من الكبائر شتم الرجل والديه » ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : « نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » .
قوله : « لعن الله من آوى محدثاً » أي : منعه من أن بؤخذ منه الحق الذي وجب عليه .
قوله : « لعن الله من غير منار الأرض » أي : معالمها وحدودها .
وفي الحديث الآخر : « من ظلم شبرًا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين » .
وفيه : جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين .
قوله : « دخل الجنة رجل في ذباب » أي : من أجله .
« ودخل النار رجل في ذباب » ، قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه - أي لا يمر به أحد ولا يتعداه - حتى يقرب له شيئًا - وإن قل - فقالوا لأحدهما : قرب ، قال : ليس عندي شيء أقرب ، قالوا له : قرب ولو ذبابًا . فقرب ذبابًا ، فخلو سبيله فدخل النار » .
فيه : بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل ، وأنه يوجب النار .
وفيه : أن عمل القلب هو المقصود الأعظم .
قوله : « وقالوا : للآخر قرِّب . قال : ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة » .
فيه : بيان فضيلة التوحيد والإخلاص .
وفيه : معرفة قبح الشرك في قلوب المؤمنين ، كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم ، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر . والله أعلم .
10- باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى : ﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ﴾ الآية [ التوبة : 108] .
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ، قال : نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة ، فسأل النبي ﷺ فقال :« هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد »؟ قالوا : لا . قال : « فهل كان فيها عيد من أعيادهم » ؟ قالوا : لا . فقال رسول الله ﷺ : « أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم » . [ رواه أبو داود ، وإسنادها على شرطهما ] .
قوله : ( باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ، وقول الله تعالى : ﴿ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾ ) مناسبة الآية للترجمة أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله ، كما أن مسجد الضرار لما أعد لمعصية الله صار محل غضب فلا تجوز فيه الصلاة .
قوله : « نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة » موضع في تهامة .
( فسأل النبي ﷺ فقال : هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ) . فيه : المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ولو بعد زواله .
( قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا ) المراد بالعيد هنا الاجتماع المعتاد عند أهل الجاهلية .
وفيه : استفصال المفتي ، وسد الذريعة ، وترك مشابهة الكفار .
قوله : ( فقال رسول الله ﷺ : « أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله » فيه : دليل على أنه نذر معصية لو كان في الموضع وثن أو عيد من أعياد الجاهلية .
قوله : « ولا فيما لا يملك ابن آدم » أي : إذا نذر عتق عبد فلان ، أو نحر هذه الناقة وهو لا يملكها فعليه كفارة يمين ولا نذر عليه ، وكذلك نذر المعصية . والله أعلم .
* * *
11- باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى : ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ [ الإنسان 7 ] . وقوله : ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [ البقرة : 270] .
وفي ﴿ الصحيح ﴾ عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله ﷺ قال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » .
قوله : ( باب من الشرك النذر لغير الله تعالى ) أي : لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله فيكون النذر لغير الله تعالى شركًا في العبادة .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ أي : بما نذروه طاعة لله وتقربًا إليه ﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ أي : منشرًا فيتركون معصيته .
فدلت الآية على وجوب الوفاء بالنذر ، ومدح من فعل ذلك طاعة لله ، ووفاء بما تقرب به إليه .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ ) أي : وما أنفقتم من نفقة قليلة أو كثيرة حق أو باطل أو نذرتم من نذر في طاعة أو معصية فإن الله يعلمه ، فيجازيكم عليه .
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ : الذين يضعون المال في غير موضعه .
﴿ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ : ينصرونهم ويمنعونهم من العقوبة .
قوله : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » أي : فليفعل ما نذره من طاعة الله .
«ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . زاد الطحاوي: «وليكفر عن يمينه».
12- باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى : ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ [ الجن : 6] .
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » . [ رواه مسلم ] .
قوله : ( باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى ) الاستعاذة : الالتجاء والاعتصام ، وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده ، فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ [ الجن : 6 ] ) كان أهل الجاهلية إذا نزلوا واديًا قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فزاد الجن الإنس رهقًا ، أي : إخافة وإرهابًا .
قال عكرمة : كان إذا نزل الإنس واديًا هرب الجن منهم ، فلما سمع الجن بقول الإنس : نعوذ بأهل هذا الوادي قالوا : نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم ، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالجنون والخبل .
قوله : « من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به وبأسمائه وصفاته بدلاً مما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن .
قال القرطبي : ( هذا خبر صحيح ، وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة ، فإني منذ سمعتُ هذا الخبر عملتُ عليه ، فلم يضرَّني شيء إلى أن تركته ، فلدغتني عقربٌ بالمهدية ليلاً ، فتفكرتُ في نفسي فإذا بي قد نسيتُ أن أتعوذَ بتلك الكلمات ) .
* * *
13- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى : ﴿ وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ يونس : 106 ، 107] . الآية . وقوله : ﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ﴾ [ العنكبوت : 17] . الآية . وقوله : ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ ﴾ الآيتان [ الأحقاف : 5] . وقوله : ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [ النمل : 62] .
وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق . فقال النبي ﷺ : « إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله » .
قوله : ( باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ) الاستغاثة : هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة ، وعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص فبينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ﴾ ) : فلا يقدر على النفع والضر إلا الله .
﴿ فَإِن فَعَلْتَ ﴾ أي : عبدت غيره .
﴿ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ : الواضعين العبادة في غير موضعها .
﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ ﴾ : يصبك ببلاء ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ ﴾ ) أي : اطلبوه من الله وحده فإنه الخالق الرازق .
﴿ وَاعْبُدُوهُ ﴾ : لا تعبدوا معه غيره .
﴿ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ : بامتثال أمره واجتناب نهيه والاعتراف بنعمته .
﴿ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فاستعدوا للقائه فسيجازي كل عامل بعمله .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ ﴾ ) أي : لا أضل ممن يعبد مع الله من لا يستجيب له لو سمع دعاءه أبدًا .
﴿ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ لأنهم إما جمادات ، وإما عباد مأمورون مشتغلون بأحوالهم ﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ .
قال الله تعالى : ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر : 13: 14] .
وقال تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [ سبأ : 40 : 41 ] .
وقال تعالى : ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : 80 ] .
وقال تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾ [ الإسراء : 56 : 57 ] .
وقال تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ [ الفرقان : 17 : 18 ] فمن دعا مع الله غيره ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرًا أو حجرًا أو شمسًا أو قمرًا فقد أشرك في عبادة الله غيره ، وطلب منه ما ليس له ، قال تعالى : ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [ الجن : 18 ] .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ ﴾ ) أي : سكانها يهلك قرنًا وينشأ آخر . ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ يفعل ذلك ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ .
قوله : ( كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين ) قيل إنه : عبد الله بن أبيّ ، ( فقال بعضهم ) : أي : بعض الصحابة قيل هو : أبو بكر رضي الله عنه : ( قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق ) ؛ لأنه ﷺ يقدر على كف أذاه فقال النبي ﷺ : « إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله » . كره ﷺ أن يستعمل هذا اللفظ في حقه ، وإن كان مما يقدر عليه في حياته [ حماية ] لجناب التوحيد وسدًا لذرائع الشرك وأدبًا وتواضعًا لربه عز وجل .
* * *
14- باب قول الله تعالى : ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ *وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ﴾ الآية . وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ الآية [ فاطر : 13]
وفي ( الصحيح ) عن أنس قال : شُجَّ النبي ﷺ يوم أحد وكسرت رباعيته ، فقال : « كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم » ؟ فنزلت : ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [ آل عمران : 128] .
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : « اللهم العن فلاناً وفلاناً » بعد ما يقول : « سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد » فأنزل الله : ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ . وفي رواية : يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، فنزلت ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ . وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله ﷺ حين أنزل عليه : ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [ الشعراء : 214] . قال : « يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله ﷺ لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً » .
قوله : ( باب قول الله تعالى ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ﴾ [ الأعراف : 191 ] ) من الأنداد والأصنام والأوثان .
﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ أي : هم مخلوقون مربوبون .
﴿ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ أي : لا يَسْتَطِيعُونَ لعابديهم نصرًا ولا يقدرون على دفع المكروه عن أنفسهم من سحر أو نحوه .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ ) : يخبر تعالى أن آلهتهم التي يعبدونها لا يملكون شيئًا حتى لفافة النواة ، وهذا عام في الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها ، كما قال تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [ سبأ : 22 23 ] .
قوله : ( شج النبي ﷺ يوم أحد وكسرت رباعيته فقال : « كيف يفلح قوم شجوا نبيهم » ؟ فنزلت : ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ ) قال ابن عطية : كان النبي ﷺ لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فقيل له بسبب ذلك : ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ أي : عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ، ودم على الدعاء لربك .
قوله : ( ﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ ) أي : استحقوا العذاب بظلمهم .
قال النووي : وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب ، ولتعرف الأمم ما أصابهم فيأتسوا بهم .
قوله : ( عن ابن عمر أنه سمع رسول اللَّه ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : « اللهم العن فلانًا وفلانًا » - وفي رواية - يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد هم وأبو سفيان بن حرب فأنزل الله : ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ ) فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم .
وفي هذا ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأنبياء والصالحين أنهم يعلمون الغيب ، وينفعون من دعاهم ويمنعون من لاذ بحماهم . بل الأمر كله لله سبحانه وتعالى .
قوله : ( قام رسول الله ﷺ حين أنزل عليه ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ ) قال : « يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم » أي : بتوحيد الله تعالى ، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له ، وطاعته في ما أمره به والانتهاء عما نهى عنه .
قوله : « لا أغني عنكم من الله شيئًا » أي : لا ينفعكم نسبي فلا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح ، فإذا كان لا ينفع بنته وعمته وعمه وقرابته إلا ذلك فغيرهم أولى وأحرى . وبالله التوفيق .
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني من الله شيئًا عن سيدة نساء العالمين وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق ، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم ، تبين له التوحيد وغربة الدين ) .
15- باب قول الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ .
وفي ( الصحيح ) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك . حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء » .
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمـر تكلـم بالوحي أخذت السمـاوات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفاً من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً . فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل . فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل » .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [ سبأ : 23 ] .
قوله : ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ أي : كشف الفزع عنها مما أصابهم عند سماع كلام الله .
﴿ قَالُوا ﴾ أي : الملائكة .
﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ ﴾ أي : قالوا : قال القول الحق .
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ فله العلو الكامل : علو القدر ، وعلو القهر ، وعلو الذات .
﴿ الْكَبِيرُ ﴾ : الذي لا أكبر منه سبحانه وتعالى .
قال الله تعالى : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الزمر : 67 ] ، وقال تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [ طه : 5 : 6 ] .
قيل لعبد الله بن المبارك : بم نعرف ربنا ؟ قال : بأنه على عرشه بائن من خلقه .
قوله : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك » أي : إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل « ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا » أي : خاضعين لقوله .
« كأنه سلسلة على صفوان » أي : كالصوت المسموع ، سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس .
« ينفذهم ذلك » أي : يمضي فيهم حتى يفزعوا فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فيسألونه فيقول جبريل : قال الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل .
« فيسمعها مسترق السمع » أي : يسمع الكلمة التي قضاها الله .
وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعًا : « إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان » .
قوله : « ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان » أي : ابن عيينة بكفه .
« فحرَّفها وبدَّد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته » ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن .
« فربما أدركه الشهاب » أي : النجم قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه « فيكذب معها مائة كذبة » أي : الكاهن أو الساحر .
« فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ، فيصدَّق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء » قال المصنف - رحمه الله - : [ وفيه ] قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ، ولا يعتبرون بمائة ؟
قوله : ( وعن النواس بن سمعان ) هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم .
قوله : « إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة » أي : ارتجفت السماوات منه .
أو قال : ( رعدة شديدة ) شك من الراوي هل قال : رجفة شديدة أو قال : رعدة شديدة .
« خوفًا من الله عز وجل ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا أو خروا لله سجدًا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل » .
وفيه : فضيلة جبريل عليه السلام .
وعن ابن مسعود قال : ( رأى رسول الله ﷺ جبريلَ في صورته ، وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سَدَّ الأفُقَ ، يسقط من جناحه من التهاويل والدُّرِّ والياقوت ما الله به عليم ) . رواه أحمد .
* * *
16- باب الشفاعـة
وقول الله تعالى : ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [ الأنعام : 51] . وقوله : ﴿ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ﴾ [ الزمر : 44] . وقوله : ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : 255] . وقوله : ﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [ النجم : 26] . وقوله : ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ الآيتين [ سبأ : 22 - 23] .
قال أبو العباس : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عوناً لله ، ولم يبق إلا الشفاعة ، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [ الأنبياء : 28] . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون ، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، وأخبر النبي ﷺ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً ، ثم يقال له : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تُعط ، واشفع تُشفع .
وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : « من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه » . فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله .
وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ، ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك وتلك منفية مطلقًا ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ، وقد بيَّن النبي ﷺ أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص . انتهى كلامه .
قوله : ( باب الشفاعة ) أي : بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه ، وحقيقته ما دل القرآن على إثباته .
قوله : ( وقول الله عز وجل ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ ﴾ ) أي : بالقرآن .
﴿ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي : يخافون هول يوم المحشر ، وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية .
﴿ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ ﴾ يتولى أمرهم .
﴿ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ يشفع لهم بغير أذنه .
﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ فيعملون عملاً في الدنيا ، ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة .
قوله : ( وقوله تعالى ﴿ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ﴾ ) يتبين معناها بما قبلها وهي قوله تعالى : ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ﴾ [ الزمر : 43 ] أي : هو مالكها لا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه .
﴿ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : 23 ] ﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ الزمر : 44 ] فيحكم بينكم بالعدل .
قال ابن جرير : نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، قال الله تعالى : ﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ .
قال البيضاوي : لعله ردٌّ لما عسى أن يجيبوا به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ) هذه بعض من آية الكرسي وأولها : ﴿ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ المتفرد بالألوهية .
﴿ الْحَيُّ ﴾ الذي لا يموت أبدًا ، ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ دائم القيام بتدبير الخلق .
﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾ فتور ﴿ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ .
﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ ملكًا وخلقًا .
﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ بيان لعظمته وجلاله .
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ من أمور الدنيا والآخرة .
﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ﴾ أن يعلموا .
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ أي : هو أعظم منها وأكبر ، والعرش أكبر منه ، والله أكبر من كل شيء .
﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أي : لا يثقله ولا يكرثه .
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد ،﴿ الْعَظِيمُ ﴾ الكبير الذي لا شيء أعظم منه .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( بين السماء الدنيا والتي تليها خمسائة عام ، وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ) .
وفي الحديث الآخر : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس » .
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه : « ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض » .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ أي : كثيرًا منهم مع علو رتبتهم لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة لمن يشاء ويرضى ، فكيف ترجون شفاعة الأنداد الجماد عند الله ؟
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم ﴾ أنهم آلهة من دون الله من الملائكة وغيرهم ليكشفوا عنكم ضركم ويعينوكم ويرزقوكم .
﴿ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ من خير وشر .
﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ﴾ أي : لا يملكون شيئًا استقلالاً ، ولا على سبيل الشركة .
﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴾ أي : عوين .
﴿ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ أن يشفع .
﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ أي : أزيل الفزع عنها .
﴿ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ له العلو والكبرياء سبحانه وتعالى . وهذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من القلب .
قوله : ( قال أبو العباس ) أي : شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونًا لله ، فلم يبقَ إلا الشفاعة ، فبيَّنَ أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ... إلى آخره ) . وهذا تفسير لقوله تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية . والله المستعان .
* * *
17- باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ الآية .
وفي ( الصحيح ) عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : « يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله » . فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي ﷺ ، فأعادا فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال النبي ﷺ : « لأستغفرن لك ما لم أنه عنك » . فأنزل الله عز وجل ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى ﴾ الآية [ التوبة : 113] . وأنزل الله في أبي طالب : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [ القصص 56 ] .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ ) أي : ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ ، ولكن الله يهدي من يشاء هدايته ، وهو أعلم بالمهتدين ، فهداية التوفيق بيد الله تعالى ، وأما الهداية المذكورة في قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى :52] فإنها هداية الدلالة والبيان .
قوله : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة ) أي : علاماتها ومقدماتها .
( جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له : « يا عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله » . أمره أن يقولها لعلم أبي طالبي وغيره من مشركي العرب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده .
ولهذا لما قال لهم : « قولوا : لا إله إلا الله » ، قالوا : ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : 5 ] .
قوله : ( فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي ﷺ فأعادا ) ذكَّراه الحجَّةَ الملعونة ، التي يحتج بها المشركون على المرسلين . كما قال تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : 23 ] .
( فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ) .
قال المصنف - رحمه الله - وفيه : الرد على من زعم لإسلام عبد المطلب وأسلافه ، ومضَّرةُ أصحاب السوء على الإنسان .
قوله : ( فقال النبي ﷺ : « لأستغفرن لك ما لم أنه عنك » فأنزل الله تعالى : ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [ التوبة : 113 ] ، وأنزل الله في أبي طالب : ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ ، وفي رواية ، فأنزل الله بعد ذلك : ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ الآية ، ونزل في أبي طالب : ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ .
18- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل : ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ الآية [ النساء : 171] .
وفي ( الصحيح ) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى : ﴿ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ [ نوح : 23 ] قال : « هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت » .
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم .
وعن عمر أن رسول الله ﷺ قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » . [ أخرجاه ] .
وقال : قال رسول الله ﷺ : « إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ».
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال : « هلك المتنطعون » . قالها ثلاثاً .
قوله : ( باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ) أراد المصنف - رحمه الله تعالى - بيان ما يؤول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله . قوله : ( وقول الله عز وجل : ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ ) الغلو : هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد ، أي : لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا الله .
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة تحذيرًا لهم أن يفعلوا بنبيهم ﷺ فعل النصارى في عيسى ، واليهود في العزير ، كما قال تعالى : ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [ الحديد : 16 ] ؛ ولهذا قال ﷺ : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » .
فكل من دعا نبيًا أو وليًا من دون الله فقد اتخذه إلهًا ، وضاهى النصارى في شركهم ، وعبد مع الله غيره ، وقد حرَّق علي بن أبي طالب رضي الله عنه غلاة الرافضة لما ادَّعوا فيه الألوهية .
قوله : ( عن ابن عباس في قول الله تعالى : ﴿ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ [ نوح : 23 ] قال : هذه أسماء رجال الصالحين من قوم نوح ) أي : فصارت صورهم بسبب الغلو فيهم أصنامًا تُعبد من دون الله أما وَدٌّ فكانت لكَلْب بدومة الجندل ، وأما سواعٌ فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، وأما يعوق فكان لهَمْدان ، وأما نسر فكانت لحمير .
قوله : « فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم ؛ عُبدت » ، رواية البخاري : « ونُسخ العلم عُبدت » أي : لما دَرَسَت آثار العلم بذهاب العلماء ، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك عبدوها مع الله ؛ ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله .
قوله : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » الإطراء : مجاوزة الحد في المدح ، وقد وقع في هذا الإطراء كثير من هذه الأمة ، وقالوا : إن رسول الله ﷺ يجيب من دعاه ، ويعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله كما اشتهر ذلك في نظم البوصيري في البردة حيث قال :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ( | سواك عند حُلول الحادث العَمِمِ !! ( |
وقال :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ( | ومن علومك علم اللوح والقلم ( |
فأي إطراء وأي غلو ، وأي شرك أعظم من هذا ، قال الله تعالى : ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : 188 ] .
قوله : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو » قال شيخ الإسلام : هذا عام في جميع أنواع الغلو ، في الاعتقادات ، والأعمال وسبب هذا اللفظ رمي الجمار .
قوله : « هلك المتنطعون » قال الخطابي : المتنطع المتعمق في الشيء ، المتكلف البحث عنه ، على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم .
ومن التنطع : الامتناع من المباح مطلقًا ، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز ، ومن لبس الكتان والقطن ، ولا يلبس إلا الصوف ، ويمتنع من نكاح النساء . ويظن أن هذا من الزهد المستحب . انتهى . وبالله التوفيق .
* * *
19- باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
في ( الصحيح ) عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور . فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله » . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين ، فتنة القبور ، وفتنة التماثيل .
ولهما عنها قالت : لما نُزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال - وهو كذلك - : « لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً . [ أخرجاه ] .
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول : « إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً ، لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك » .
فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله ، والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يُبْنَ مسجد ، وهو معنى قولها : خشي أن يتخذ مسجداً ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً ، كما قال ﷺ : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » . ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد » [ ورواه أبو حاتم في صحيحه ] .
قوله : ( باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ) أي : الرجل الصالح فإن عبادته شرك أكبر ، وعبادة الله عند قبره وسيلة إلى عبادته ، ووسائل الشرك محرمة لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب .
قوله : ( إن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة ، وما فيها من الصور وكانت أم سلمة قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ، فقال : « أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح - شك من الراوي - بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله » . ) قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ، فيجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثانًا لعنهم النبي ﷺ .
قوله : ( فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل ) هذا من كلام شيخ الإسلام ، ذكره المصنف تنبيهًا على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل ، فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد .
قولها : ( لما نزل برسول الله ﷺ ) أي : نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام .
( طفق ) أي : جعل .
( يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك - : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا ) .
قال القرطبي : وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها ، كما كان السبب في عبادة الأصنام .
قوله : ( ولولا ذلك لأبرز قبره ) أي : مع قبور الصحابة في البقيع ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا .
قال القرطبي : ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي ﷺ فأعلوا حيطان تربته ، وسدوا المداخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره ﷺ ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين - فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره . انتهى .
قوله : « إني أبر إلى الله أن يكون لي منكم خليل » الخليل : هو المحبوب غاية الحب ، قال القرطبي : وإنما كان ذلك ؛ لأن قلبه ﷺ قد امتلأ [ بما تخلله ] من محبة الله وتعظيه ، ومعرفته فلا يسع خلة غيره .
قوله : « فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً » ، قال الزجاج : معني الخليل الذي ليس في محبته خلل ، والخلة الصداقة ، فسمي خليلاً لأن الله أحبه واصطفاه .
قوله : « ولو كنت متخذًا من أُمَّتِي خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً » .
فيه : بيان أن الصدِّيق أفضل الصحابة .
قوله : « ألا وإن من كان قبلك كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » ، قال الخلخالي : وإنكار النبي ﷺ صنيعهم هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا .
الثاني : أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة ، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء .
والأول هو الشرك الجلي ، والثاني الخفي ، فلذلك استحقوا اللعن .
قوله : « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » ، أي : بالصلاة عندها وإليها وبناء المساجد عليها . قال شيخ الإسلام : ( وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره ، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين ) .
* * *
20- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
روى مالك في ( الموطأ ) : أن رسول الله ﷺ قال : « اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ﴾ [ النجم : 19] . قال : كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلت السويق للحاج .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج . [ رواه أهل السنن ] .
قوله : ( باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين ) أي : تعظيمها بالبناء عليها والصلاة عندها ونحو ذلك يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله كعبادة الأصنام .
قوله : « اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » فيه : تحريم البناء على القبور ، وأن ذلك وسيلة إلى عبادتها من دون الله .
قوله : ( عن مجاهد في قوله تعالى : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَتَ وَالْعُزَّى ﴾ . قال : كان - أي اللات - يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ) وفي رواية : « فيطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه ، وقالوا : هو اللات » .
ومناسبته للترجمة أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنًا من أوثان المشركين .
قوله : « لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ » اللعن صريح في التحريم ، وزيارة النساء القبور مظنة للجزع المفضي إلى الندب والنياحة لضعفهن وقلة صبرهن ، قال أبو محمد المقدسي : لو أبيح اتخاذ السرج على القبر لم يُلعن من فعله ، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة ، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام .
وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني : ( والمشاهد التي صارت أعظم الذريعة إلى الشرك والإلحاد ، غالب من يعمرها الملوك والسلاطين . إما على قريب لهم ، أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم .
ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه ، بل يدعون له ويستغفرون .
حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم ، فيأتي من بعدهم من يرى قبرًا قد شُيِّد عليه بالبناء ، وسُرجت عليه الشموع ، وفُرش بالفراش الفاخر . فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر ، وتأتيه السدنةُ يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل ، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع ، حتى يغرسوا في جبلِّته كل باطل . والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية ، من لعن من سرَّج القبور وكتب عليها وبنى عليها . وأحاديث ذلك واسعة معروفة ؛ فإن ذلك في نفسه منهيٌّ عنه ، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة ) انتهى . والله المستعان .
* * *
21- باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : 128] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلوا عليّ ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » . رواه أبو داود بإسناد حسن ، ورواته ثقات .
وعن علي بن الحسين : أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ ، فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه ، وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ قال : « لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم » . [ رواه في المختارة ] .
قوله : ( باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ) الجناب : هو الجانب ، والمراد حماية التوحيد عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ ) تعرفون حسبه ونسبه .
﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ﴾ شديد شاق عليه .
﴿ مَا عَنِتُّمْ ﴾ ما أعنتكم وضركم .
﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ﴾ أي : على إيمانكم وصلاحكم . ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي : وغلظته وشدته على الكافرين والمنافقين .
قوله : « لا تجعلوا بيوتكم قبورًا » أي : لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور .
قوله : « ولا تجعلوا قبري عيدًا » أي : تقصدونه وتنتابونه للتبرك به والدعاء عنده .
« وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » قال شيخ الإسلام : يشير لذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم ، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدًا .
قوله : ( وعن علي بن الحسين ) أي : ابن علي رضي الله عنهم . ( أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه ) وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها .
قال شيخ الإسلام : ( ما علمت أحدًا رخص فيه ، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا ، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي ﷺ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك ) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي ﷺ قال : « لا تُشَد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى » .
* * *
22- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
وقول الله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾ [ النساء : 51] . وقوله تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ [ المائدة : 60] . وقوله تعالى : ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ﴾ [ الكهف : 21]
عن أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن » ؟ أخرجاه . ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال : ﴿ إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا » . ورواه البرقاني في صحيحه ، وزاد : « وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي . ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ﴾ .
قوله : ( باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ) الوثن : يطلق على كل ما عبد من دون الله من الأصنام والقبور وغيرها .
قوله : ( ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً ﴾ ) حظًا قليلاً من الكتاب ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ ﴾ السحر .
﴿ وَالطَّاغُوتِ ﴾ الشيطان ، وعن ابن عباس : الجبت الشرك .
قوله : ( ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾ ) سأل قريش أحبار اليهود ديننا خير أم دين محمد ؟ فقالوا : دينكم خير وأنتم أهدى فنزلت .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ ) يتبين معني هذه الآية بذكر ما قبلها وهو قوله تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ﴾ أي : هل تكرهون منا .
﴿ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي : هل كرهتم منا إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إن كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة ، وحب الأموال .
قال ابن عباس : أتى النبي ﷺ نفر من اليهود : أبو ياسر ابن أخطب ورافع بن أبي رافع وغيرهما فسألوه عمن يؤمن به الرسل ، فقال : « أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون » ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظًا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرًا من دينكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد : ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُم ﴾ أخبركم ﴿ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ ﴾ الذي ذكرتم ﴿ مَثُوبَةً ﴾ ثوابًا وجزاء ﴿عِندَ اللّهِ ﴾ .
﴿ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ ﴾ أي : هو من لعنه الله .
﴿ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ يعني : اليهود .
﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ﴾ كأصحاب السبت ، وكفار مائدة عيسى عليه السلام ، ﴿ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ أي : جعل منهم من عبد الطاغوت أي : أطاع الشيطان فيما سول له .
﴿ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ طريق الحق . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشاركة كقوله تعالى ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : 24 ] .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدا ﴾ ) .
والمراد : أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله ، وقد قال ﷺ « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم .
قوله : « لتتبعن سنن من كان قبلكم » أي : طريق من كان قبلكم .
« حذوا القذة بالفذة » أي : لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه ، وتشبهونهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى ، وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة ، وقد وقع كما أخبر ﷺ وهو علم من أعلام النبوة .
قوله : « حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » وفي حديث آخر : « حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك » .
أراد ﷺ أن أمته لا تدع شيئًا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله ، لا تترك منه شيئًا ؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى .
قوله : قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن » ؟ استفهام تقرير أي : فمن هم غير أولئك .
قوله : ( ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإنَّ أُمَّتِي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها » ) . قال القرطبي : هذا الخبر وجد مخبره كما قال ﷺ وكان ذلك من دلائل نبوته ، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق ، مما وراء خراسان والنهر ، وكثير من بلاد السند والهند والصغد . ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال ، ولذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه .
قوله : « وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيضَ » والمراد بالأحمر كنز قيصر ملك الروم ، والأبيض كنز كسرى ملك الفرس ، وقد افتتح المسلمون بلادهما وأنفقوا كنوزهما في سبيل الله .
قوله : « وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ » أي : بالجدب الذي يكون به الهلاك العام .
قوله « وأن لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ » أي : حوزتهم وجماعتهم وإن قلوا .
قوله : « وإن ربي قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عامَّةٍ وأن َلا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يهلك بعضا ويَسْبِي بعضهم بَعْضًا » .
وفيه : علم من أعلام النبوة فقد تسلط بعضهم على بعض لكثرة اختلافهم وتفرقهم ولا راد لما قضى الله .
قوله : « وإنما أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ » أي : من الأمراء والعلماء والعباد ، فيحكمون فيهم بالظن والهوى .
قال الله تعالى : ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾ [ الأحزاب ] .
وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ . قلت : لا قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين . رواه الدارمي .
قوله : « وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة » وكذلك وقع كما أخبر ﷺ فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع وكذلك يكون إلى يوم القيامة ، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى ، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى .
قوله : « ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان » الحي : بطن من بطون العرب يجمع قبائل وفي رواية أبي داود : « حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين » والفئام : الجماعات الكثيرة .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عند ذِي الْخَلَصَةِ قال : وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ » . وقد وقع ما أخبر به ﷺ فقد بنيت القباب على القبور واتخذت أوثانًا تعبد من دون الله كما عبدت اللات والعزى ومناة .
قال الشوكاني في ( المنتقى ) على حديث أبي الهياج عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال : أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : « لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ » . ) .
قال : ( ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياء القبب ، والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد ، وقد لعن النبي ﷺ فاعل ذلك ، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام .
منها : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام وعظم ذلك ، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر ، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج ، وملجأ لنجاح المطالب ، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحال ، وتمسحوا بها ، واستغاثوا وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ، ولا وزيرًا ولا ملكًا ، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثير من هؤلاء القبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا ، فإذا قيل له بعد ذلك ، احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني ، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق ، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين ، أو ثالث ثلاثة ، فيا علماء الدين ، ويا ملوك المسلمين ، أي رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ . وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبًا ؟ .
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًا ( | ولكن لا حياةَ لمن تُنادي ( | |||
ولو نارًا نفختَ فيها أضائتْ ( | ولكن أنتَ تنفخ في رماد ( |
انتهى .
قلت : قد وجدنا ولله الحمد من قام بهذا الأمر وهدم بعض هذه الأوثان وأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مصنف هذا الكتاب وذريته وأعوانه – رحمهم الله تعالى - وقد أيدهم ونصرهم بآل سعود أعزهم الله تعالى ونصرهم كما نصروا التوحيد وأهله .
قوله : « وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » المراد بهؤلاء الكذابين من قامت له شوكة كمسيلمة ، والأسود العنسي ، وسجاح ، والمختار وأمثالهم ، وليس المراد من ادعى النبوة مطلقًا فإنهم كثيرون لكون غالبهم ينشأ ذلك منه عن جنون أو سوداء .
قوله : « ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » قال ابن المبارك وغيره : الطائفة المنصورة هم أهل الحديث .
وقال النووي : يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة ، من أنواع المؤمنين ما بين شُجاع وبصير بالحرب ، وفقيه ومحدث ومفسر ، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزاهد وعابد . ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد ، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض فيجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد ، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه ، وتجوز إخلاءُ الأرض من بعضهم أولاً فأولاً ، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله . انتهى . والله أعلم .
* * *
23- باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ [ البقرة : 102] . وقوله : ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾ [ النساء : 51] .
قال عمر : ﴿ الجبت ﴾ : السحر ، ﴿ والطاغوت ﴾ : الشيطان . وقال جابر : الطواغيت : كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « اجتنبوا السبع الموبقات » قالوا : يا رسول الله : وما هن ؟ قال : « الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
وعن جندب مرفوعاً : « حد الساحر ضربة بالسيف » . رواه الترمذي ، وقال : الصحيح أنه موقوف .
وفي ( صحيح البخاري ) عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر .
وصح عن حفصة رضي الله عنها : أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ، فقتلت ، وكذلك صح عن جندب . قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ .
قوله : ( باب ما جاء في السحر ) قال أبو محمد المقدسي : السحر : عزائم ورقي وعقد ، تؤثر في القلوب والأبدان ، فيُمرِض ويقتل ، ويفرق بين المر وزوجه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ ) أي : اختار السحر .
﴿ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ ﴾ أي : الجنة .
﴿ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ من نصيب .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾ ) قال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان .
وقال جابر : ( الطواغيت كُهَّانٌ كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد ) هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ، قال : إن في جُهينة واحدًا ، وفي أسلم واحدًا ، وفي هلال واحدًا ، وفي كل حي واحدًا وهم كهان كانت تنزَّل عليهم الشياطين .
قوله : « اجتنبوا السبع الموبقات » أي : المهلكات .
قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : « الشرك بالله » هو أن يجعل لله ندًا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله ، وبدأ به لأنه أعظم الذنوب ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ْ ﴾ [النساء: 48 ] ، وقال تعالى : ﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ [ المائدة : 72 ] .
قوله : « والسحر » هذا وجه مناسبة الحديث للترجمة .
قوله : « وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق » أي : حرم قتلها إلا بأن تفعل ما يوجب ذلك كالردة والنفس بالنفس ، والزنا بعد الإحصان ، كما في الحديث الصحيح : « لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي ، النَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، التَّارِكُ لدِّينِه وَالْمفارِقُ لِلْجَمَاعَةِ » . وقد قال الله تعالى : ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾ [ النساء : 93 ] .
قوله : « وأكل الربا » أي : تناوله بأي وجه كان ، قال الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [ البقرة : 275 ] الآيات . وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ آل عمران : 130 ] .
قوله : « وأكل مال اليتيم » يعني : التعدي فيه . وعبر بالأكل كما في الآية لأنه أعم وجوه الانتفاع ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [ النساء : 10 ] .
قوله : « والتولي يوم الزحف » أي : الإدبار عن الكفار وقت إلتحام القتال . قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [ الأنفال : 15 - 16 ] .
قوله : « وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » أي : رمي النساء العفائف الغافلات عما يرمين به من الزنا ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النور : 23 ] .
قوله : ( وعن جندب مرفوعًا : « حد الساحر ضربة بالسيف » . ) وفي رواية : عنه أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات ، وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول : « حد الساحر ضربة بالسيف » .
قوله : ( وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر بن الخطاب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ) ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر ، وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت .
وكذلك صح عن جندب ، قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ يعني عمر ، وحفصة ، وجندب . قال الموفق في ( المغني ) : وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته ومن سب الله تعالى ورسوله والساحر ؟ على روايتين :
أحدهما : لا تقبل توبته ويقتل بكل حال .
والأخرى : تقبل توبته كغيره . انتهى .
وكذلك اختلف العلماء في قبول توبة الساحر ، فقال مالك : لا تقبل توبته .
وقال الشافعي : تقبل .
وقال مالك : يُقتل بمجرد تعلمه واستعماله ، وإن لم يَقتل به .
وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يقتل إلا إن قتل به ، وقال الشافعي أيضًا : إنما يُقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ الكفر .
قال الشوكاني : والأرجح ما قاله الشافعي ؛ لأن الساحر إنما يُقتل لكفره . قال : والحق قبول التوبة ، فيقال للمرتد : إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة وللطاعن في الدين والزنديق قد كفرت بعد إسلامك ، فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك ، فهذه هي الاستتابة . انتهى .
* * *
24- باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله ﷺ قال : « إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت » .
قال عوف : العيافة : زجر الطير ، والطرق : الخط يخط بالأرض والجبت ، قال : الحسن : رنة الشيطان . إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه ، المسند منه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : « من اقتبس شعبة من النجوم ، فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد » . [ رواه أبو داود] وإسناده صحيح .
وللنسائي من حديث أبي هريرة : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه » .
وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال : « ألا هل أنبئكم ما العضة ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس » . [ رواه مسلم ] . ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : « إن من البيان لسحراً » .
قوله : « باب بيان شيء من أنواع السحر » أي : كالعيافة والطرق والطيرة وعلم النجوم والنفث في العقد والنميمة والبلاغة .
قوله : « إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت » . قال عوف : ( العيافة : زجر الطير ) أي : التفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها .
( والطرق : الخط يخط بالأرض ) ومنه : الضرب بالحصى .
وأما الطيرة : فهي التشاؤم بالطير ونحوها ، وسيأتي الكلام عليها قريبًا إن شاء الله تعالى .
قوله : « من الجبت » أي : من السحر .
قوله : ( والجبت قال الحسن : رنة الشيطان ) أي : صوته .
قوله : ( ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه ) وهو قوله : « إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت » .
قوله : « من اقتبس » أي : تعلم شعبة من النجوم .
« فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » أي : كلما زاد من تعلم علم النجوم زاد في الإثم .
قال شيخ الإسلام : فقد صرح رسول الله ﷺ بأن علم النجوم من السحر ، وقال تعالى : ﴿ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [ طه : 69 ] .
قوله : ( وللنسائي من حديث أبي هريرة ) أي : مرفوعًا .
« من عقد عُقدةً ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئًا وكل إليه » أي : من تعلق قلبه شيئًا بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكَلَه الله إلى ذلك الشيء .
قوله : « ألا أنبئكم ما العَضةُ ؟ هي النميمة القالة بين الناس » قال في ( القاموس ) : عَضَه : عَضها كَذَبَ ، وَسَحَرَ ، ونَمّ وجاء بالإفكِ والبُهتَان كأَعضَهَ وفلانًا : بَهَتهُ ، وقال فيه ما لم يكون . والعِضَهُ : الكَذِبُ والبُهتَانُ والسِّحرُ . والعاضِهُ الساحر . انتهى ملخصًا .
وقال في ( النهاية ) : « ألا أنبئكم ما العضه » هكذا يُروى في كتب الحديث . والذي جاء في كتب الغريب : « ألا أنبئكم ما العِضَة» ؟ بكسر العين وفتح الضاد .
وفي حديث آخر : « إياكم والعِضَةَ » . قال الخطابي : قال الزمخشري : أصلها العِضهَة ، فِعلة من العَضه ، وهو البَهت ، يقال : بينهم عِضَةٌ قبيحةٌ من العَضِيهَة . انتهى .
وفي بعض الآثار : « يفسد الكذاب والنمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة » .
قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة .
وفيه : دليل على أنها من الكبائر .
قوله : « إن من البيان لسحرًا » البيان : البلاغة والفصاحة .
قال صعصعة بن صوحان : صدق نبي الله ﷺ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق .
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه جوابه قال : هذا والله السحر الحلال .
وقد قال الشاعر :
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ( | وإن تشأ قلت ذا قئ الزنابير ( | |||
مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما ( | والحق قد يعتريه سوءُ تعبير ( |
فإذا كان البيان في توضيح الحق وتقريره وتبيين الباطل وتزييفه فهو ممدوح ، وإذا كان في ضد ذلك فهو مذموم . والله أعلم .
* * *
25- باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه ، عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال : « من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً » .
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : « من أتى كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ » . رواه أبو داود .
وللأربعة ، والحاكم وقال : صحيح على شرطهما ، عنه : « من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ » . ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً .
وعن عمران بن حصين مرفوعاً : « ليس منا من تَطير أو تُطير له ، أو تَكهن أو تُكهن له ، أو سَحر أو سُحر له ، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ » . رواه البزار بإسناد جيد ، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله : « ومن أتى . . » إلى آخره .
قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضآلة ونحو ذلك وقيل : هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل : الذي يخبر عما في الضمير .
وقال أبو العباس ابن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
وقال ابن عباس في قوم يكتبون ( أبا جاد ) وينظرون في النجوم - : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق .
قوله : ( باب ما جاء في الكهان ونحوهم ) كالمنجم والرمال والعراف .
قوله : ( عن بعض أزواج النبي ﷺ ) هي حفصة رضي الله عنها .
قوله : « من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا » . قال النووي وغيره : معناه أنه لا ثواب له فيها ، وإن كانت مُجزئةً بسقوط الفرض عنه .
قوله : « من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ » رواه أبو داود . قال أبو داود : باب ما جاء في الكهان حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد ح وأخبرنا مسدد أخبرنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأخرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : « من أتى كاهنًا - قال موسى : في حديثه - فصدقه بما يقول أو أتى امرأة - قال مسدد : امرأته حائضًا - أو أتى امرأة - قال مسدد امرأته في دبرها – فقد برئ مما أنزل على محمد ﷺ » .
وفيه : وعيد شديد لمن فعل ذلك .
وفيه : النهي عن إتيان الكاهن ونحوه .
قال القرطبي : ( يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يُقيم من يتعاطى شيئًا من ذلك من الأسواق ، ويُنكر عليهم أشدَّ النكير ، وعلى من يجيء إليهم ، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم ؛ فإنهم غير راسخين في العلم ، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور ) . انتهى .
وغالب هذه الأفعال هي من استمتاع الإنس بالجن وقد قال الله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ [ الأنعام : 128 ] .
قوله : ( وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ) أي : من نصيب .
كتابة أبجد لمن يدَّعي بها علم الغيب هو الذي جاء فيه الوعيد . فأما تعلُّمها للتهجي والحساب فلا بأس به .
قوله : ( وينظرون في النجوم ) أي : ويعتقدون أن لها تأثيرًا ، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى .
* * *
26- باب ما جاء في النشرة
عن جابر أن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة فقال : « هي من عمل الشيطان " رواه أحمد بسند جيد . وأبو داود ، وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله .
وفي ( البخاري ) عن قتادة : قلت لابن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه أو ينشر؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه . انتهى .
ورُوي عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر .
قال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور ، وهي نوعان :
حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ، فيبطل عمله عن المسحور .
والثاني : النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة ، فهذا جائز .
قوله : ( باب ما جاء في النُّشرة ) أي : ما يباح منها وما يحرم .
قال ابن الجوزي : النشرة : حلُّ السحر عن المسحور . ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر .
قوله : ( إن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة ) أي : التي كان أهل الجاهلية يصنعونها ، فقال : « هي من عمل الشيطان » .
وقوله : ( قال ) أي : أبو داود .
( سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله ) أي : يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان ، كما يكره تعليق التمائم مطلقًا .
قوله : ( وفي البخاري عن قتادة : قلت لابن المسيب : رجل به طب ) أي : سحر .
( أو يُؤَخَّذ عن امرأته ) أي : يحبس عن جماعها .
( أيحَل عنه أو يُنشَّر قال : لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ) يعني : أن النُّشرة لا بأس بها ، لأنهم يريدون بها الإصلاح . أي : إزالة السحر ، ولم يُنه عما يراد به الإصلاح ، وهذا يحمل على ما لا يُعلم أنه سحر .
قوله : ( ورُويَ عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر ) أي : الحل الذي من عمل الشيطان .
وعن ليث بن أبي سُليم قال : بلغني أن هذه الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى ، يقرأ في إناء فيه ماء ، ثم يصب على رأس المسحور : الآية التي في سورة يونس : ﴿ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ يونس : 81 - 82 ] ، وقوله : ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [ الأعراف : 118 - 122 ] ، وقوله : ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [ طه : 69 ] .
وقال ابن بطال في : ( كتاب وهب بن منبه ) أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر ، فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقلاقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ، ثم يغتسل به ، يذهب عنه كل ما به ، وهو جيد للرجل إذا حُبس عن أهله .
قال الحافظ : وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي ، وأبو جعفر الطبري وغيرهم ، ثم وقفت على صفة النشرة في كتاب ( الطب النبوي ) لجعفر المستغفري قال : وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من تفسير قتيبة ابن أحمد البخاري . قال قتادة لسعيد بن المسيب : رجل به طب أُخذ عن امرأته أيحل له أو ينشر ؟ قال : لا بأس إنما يريد به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه . قال نصوح : فسألني حماد بن شاكر : ما الحل وما النشرة ؟ فلم أعرفهما ، فقال : هو الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها فإن المبتلي بذلك يأخذ حزمة قضبان ، وفأسًا ذا قطارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يؤجج نارًا في تلك الحزمة حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حره فإنه يبرأ بإذن الله تعالى ، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورود المغارة وورود البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيها ماء عذبًا ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليًا يسيرًا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى . انتهى . والله أعلم .
* * *
27- باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى : ﴿ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : 131] .
وقوله : ﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ مَّعَكُمْ ﴾ [ يس : 19] الآية .
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » . أخرجاه . زاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » .
ولهما عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : " لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل » . قالوا : وما الفأل ؟ قال : « الكلمة الطيبة » .
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال : « أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك » .
وله من حديث ابن مسعود مرفوعاً : « الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » . رواه أبو داود ، والترمذي وصححه ، وجعل آخره من قول ابن مسعود .
ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : « أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك » .
وله من حديث الفضل بن عباس: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك .
قوله : ( باب ما جاء في التطير ) أي : من النهي عنه والوعيد فيه .
قوله : وقول الله تعالى : ﴿ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ ﴾ يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، قال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ ﴾ [ الأعراف : 130- 131] أي : من قبل الله .
قال ابن عباس : ﴿ طَائِرُهُمْ ﴾ ما قضى عليهم وقدر لهم .
﴿ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أن الذي أصابهم من الله ، أي : إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ يتبين معناها بذكر ما قبلها ، ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ . تشاءمنا بكم .
﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ . يعني شؤمكم معكم بكفركم ، أي : أصابكم الشؤم من قبلكم .
﴿ أَئِن ذُكِّرْتُم ﴾ أي من أجل أنّا ذكرناكم بالله وأمرناكم بتوحيده .
﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾ مشركون مجاوزون الحد .
ومناسبة الآيتين للترجمة : أن التطير من عمل أهل الجاهلية المشركين ، وقد ذمهم الله تعالى ومقتهم .
قوله : « لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول » قال العلماء : وقوله : « لا عدوى » أي : على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى ، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها ، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببًا لحدوث ذلك ، ولهذا قال في آخر هذا الحديث : « وفر من المجذوم كما تفر من الأسد » .
وقال : « لا يورد ممرض على مصح » .
وقال في الطاعون : « من سمع به في أرض فلا يقدم عليه » .
كل ذلك بتقدير الله تعالى وقضائه .
والعبد مأمورٌ باتقاء أسباب الشر ، والله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات لا خالق غيره ولا مقدر سواه ، وقد روى أبو داود ، والترمذي أن النبي ﷺ : أخذ بيد مجزوم فأدخلها معه في القصعة ، ثم قال : « كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه » وهذا محمول على من قَويَ توكله ، فإن أصابه شيء لم يقل لو أني لم أفعل لم يصبني .
وفي الحديث الآخر : « احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل قَدَرُ الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان » .
قوله : « ولا طيرة » أي : لا تأثير لها فلا تصدكم .
قال الحافظ : وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير ، طار يمنة تيمن به واستمر ، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع ، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها ، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك . انتهى .
وكان بعض عقلاء الجاهلية ينكرون ذلك قال الشاعر :
الزجر والطير والكهان كلهم ( | مضللون ودون الغيب أقفال ( |
قوله : « لا هامة » الهامة : البومة .
قال ابن الأعرابي : كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول : نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري ، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله .
قوله : « ولا صفر » كان أهل الجاهلية يتشاءمون شهر صفر فأبطل النبي ﷺ ذلك .
قوله : « ولا نوء ولا غول » النوء واحد الأنواء ، أي : لا تأثير له وسيأتي الكلام على ذلك في بابه إن شاء الله تعالى .
والغول : واحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين ، أي : لا تستطيع أن تضل أحدًا مع ذكر الله والتوكل عليه . وفي الحديث الآخر : « لا غول ، ولكن الساعي سحرة الجن » . وفي الحديث الآخر : « إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان » أي : ادفعوا شرها بذكر الله .
قوله : « لا عدوى ولا طيرة ويعجني الفأل » ، قالوا : وما الفأل ؟ قال : « الكلمة الطيبة » قال أبو السعادات : الفأل فيما يَسرُّ ويسوء ، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء ، وربما استعملت فيما يسر .
قوله : ( ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال : « أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلمًا فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك » قال النووي : الفأل يستعمل فيما يسوء وما يسر ، وأكثره في السرور . والطيرة لا تكون إلا في الشؤم ، وقد تستعمل مجازًا في السرور .
قال الحافظ : وكأن ذلك بحسب الواقع ، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر ، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة .
قال ابن بطال : جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق ، والماء الصافي ، وإن كان لا يملكه ولا يشربه .
وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس أن النبي ﷺ : ( كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد ) .
وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة : ( أن النبي ﷺ كان لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث عاملاً يسأل عن اسمه ، فإذا أعجبه فرح به ، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه ) .
قال الحليمي : وإنما كان ﷺ يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق ، والتفاؤل حسن ظن به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال .
قوله : ( وعن ابن مسعود مرفوعًا : « الطيرة شرك الطيرة شرك » أي : لما فيها من تعلق القلب على غير الله .
قال في ( شرح السنن ) : وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أنها تجلب لهم نفعًا أو تدفع عنهم ضرًا إذا عملوا بموجبه .
قوله : « وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » . هذا من قول ابن مسعود أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك .
« ولكن الله يذهبه بالتوكل » أي : لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا ، وفي بعض الآثار : « ثلاث لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد . فإذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقِّق » .
قوله : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » . قالوا : فما كفارة ذلك قال : « أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك » .
وفيه : دليل على أنه إذا قال ذلك وتوكل على الله ومضى لم يضره ما وقع في قلبه .
قوله : « إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك » هذا حد الطيرة المنهي عنها .
وعن عكرمة قال : كنا جلوسًا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم : خير خير . فقال ابن عباس : لا خير ولا شر .
* * *
28- باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في ( صحيحه ) : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها . فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به . انتهى .
وكره قتادة تعلم منازل القمر ، ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما ، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله ﷺ : « ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر ». رواه أحمد وابن حبان في صحيحه .
قوله : ( باب ما جاء في التنجيم ) قال شيخ الإسلام : هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية .
قوله : ( قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجومًا للشياطين ) كما قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : 5 ]
قوله : ( وعلامات يهتدى بها ) كما قال تعالى : ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل :16] . وأخرجه الخطيب في ( كتاب النجوم ) عن قتادة ولفظه : قال : ( إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها علامات يهتدى بها ، وجعلها رجومًا للشياطين فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نفسه ، وتكلف ما لا علم له به وإن أناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر للنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير ، والحسن والدميم ، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة ، وهذا الطائر بشيء ، من هذا الغيب ، ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ) . انتهى .
وعن رجاء بن حيوة أن النبي ﷺ قال : « إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم ، والتكذيب بالقدر ، وحيف الأئمة » . رواه عبد بن حميد .
قوله : ( وكره قتادة تعلم منازل القمر ) هي : ( على الثمانية والعشرين المعروفة ) .
( ولم يرخص ابن عيينة فيه ذكره حرب عنهما ، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق ) . قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك كالمشاهدة ، والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه .
وقال غيره : والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم قليله وكثيره ، وأما علم التسيير فيتعلم منه ما يحتاج للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور .
قوله : « ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر » هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها ، وقالوا : أمِروها كما جاءت .
قال الخطابي : علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث ، التي ستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ، ومجيء المطر ، وتغير الأسعار وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها ، واجتماعها وافتراقها يدّعون أن لها تأثيرًا في السفليات ، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه . انتهى . والله أعلم .
* * *
29- باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى : ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الواقعة : 82] .
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة » . وقال : « النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب » . رواه مسلم .
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : « هل تدرون ماذا قال ربكم » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .قال :« قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » . ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآيات : ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ إلى قوله : ﴿ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الواقعة : 75 : 82] .
قوله : ( باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء ) أي : من الوعيد ، والمراد نسبة السُّقيا ومجيء المطر إلى الأنواء ، وهي منازل القمر .
قال أبو السعادات : وهي ثمان وعشرون منزلة ، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها . ومنه قوله تعالى : ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾ [ يس : 39 ] .
يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر ، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق ، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة . وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر ، وينسبونه إليها ، ويقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا . وإنما سمي نوء ، لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق ، أي : نهض وطلع .
قوله : ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ أي : شكركم .
﴿ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ تقولون : مطرنا بنجم كذا وكذا .
قوله : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن » أي : ستفعلها هذه الأمة ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة .
« الفخر بالأحساب » أي : التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم .
« والطعن في الأنساب » أي : الوقوع فيها بالعيب والتنقص . ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه ، أي : قال له : يا ابن السوداء ، قال له النبي ﷺ : « إنك امرؤ فيك جاهلية » ، وقد قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ الحجرات : 13 ] .
قوله : « والاستسقاء بالنجوم » أي : نسبة المطر إلى النوء ، بقولهم : مطرنا بنجم كذا وكذا ، فإن اعتقد أن له تأثيرًا في إنزال المطر فهو شرك وكفر .
قوله : « والنياحة » أي : رفع الصوت بالندب على الميت ؛ لأن ذلك تسخط بقضاء الله وقدره .
قوله : « والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب »
فيه : وعيد شديد على من فعل ذلك .
وفيه : تنبيه على أن التوبة تكفر الذنوب .
قوله : « صلى لنا رسول الله ﷺ . أي صلى بنا صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، أي : على أثر مطر ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال :« هل تدرون ماذا قال ربكم » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال :« قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » .
قال القرطبي : وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق ، وسقط آخر من المغرب ، فحدث عند ذلك مطر أو ريح ، فمنهم من ينسبه إلى الطالع ، ومنهم من ينسبه إلى الغارب ، نسبة إيجادٍ واختراع ، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث . فنهى الشارع عن إطلاق ذلك لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ، ولا يتشبه بهم في نطقهم .
قوله : « ولهما من حديث ابن عباس » معناه ولفظه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي ﷺ فقال النبي ﷺ : « أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر » . قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا . قال : فنزلت هذه الآية : ﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ [ الواقعة : 75 ] . انتهى .
قوله : « ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ لا مزيدة لتأكيد القسم ، قال ابن عباس : يعني نجوم القرآن ، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد .
وموقعها : نزولها شيئًا بعد شيء .
وقال جماعة من المفسرين : أراد مغايب النجوم ومساقطها .
وقال الحسن : أراد إنكدارها وانتثارها يوم القيامة . ﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ إنه : يعني هذا الكتاب ﴿ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ عزيز مكرم ، لأنه كلام الله .
﴿فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾ مصون عند الله في اللوح المحفوظ .
﴿ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ أي : الملائكة ، وفي الحديث : « لا يمس القرآن إلا طاهر » .
﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي : القرآن منزل من عند الله .
﴿ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ ﴾ أي : القرآن .
﴿ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴾ متهاونون مكذبون .
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ حظكم ونصيبكم من القرآن ﴿ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ قال الحسن : خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به . وقال جماعة من المفسرين معناه : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون .
وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ يقول شكركم ﴿ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا » .
* * *
30- باب قول الله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ الآية . وقوله : ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ﴾ . إلى قوله : ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية [ التوبة :24].
عن أنس أن رسول الله ﷺ قال : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » . أخرجاه .
ولهما عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار » .
وفي رواية : « لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى . . » إلى آخره .
وعن ابن عباس قال : من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك . وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا . رواه ابن جرير ، وقال ابن عباس في قوله : ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ [ البقرة : 166] . قال : المودة .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ [ البقرة : 165 ] ) أي : أمثالاً يعبدونهم معه يحبونهم كحب الله ، يعظمونهم كتعظيمه .
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ﴾ لأنه لا تنقطع محبتهم عن الله عز وجل بحال .
﴿ وَلَوْ يَرَى ﴾ ولو يعلم .
﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ باتخاذ الأنداد .
﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ عاينوه يوم القيامة ، لندموا أشد الندامة .
﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ أي : لو يعلمون أن القدرة لله جميعًا ، لا قدرة لأندادهم .
﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ ﴾ أي : القادة ﴿ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ أي : الأتباع .
﴿ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ أي : المودة .
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾ أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا .
﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ أي : من المتبوعين .
﴿ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ ندامات ﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ﴾ [ التوبة : 24 ] ) يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء ﴾ [ التوبة : 23 ] أصدقاء ﴿ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ، بوضع المولاة مكان المعاداة .
﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ﴾ أقرباؤكم .
﴿ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾ اكتسبتموها .
﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ﴾ تستطيبونها .
﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ أي : انتظروا حتى يأتي الله بأمره عقوبته العاجلة والآجلة ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ .
قوله : « لا يؤمن أحدكم » أي الإيمان الواجب .
« حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » ، وفي البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال : « والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك » . فقال له عمر : فإنك الآن أحب إليّ من نفسي ، فقال : « الآن يا عمر » .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - فمن ادعى محبة النبي ﷺ بدون متابعته ، وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب ، كما قال تعالى : ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النور : 47 ] .
قوله : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار » .
« حلاوة الإيمان » : طعمه ، وهي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ، ونعيمه وسروره وغذائه ، وهي : شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم .
قوله : « من أحب في الله » أي : أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك « وأبغض في الله » أي : أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه .
« ووالى في الله وعادى في الله » أي : والى أهل طاعته وعادى أهل معصيته . « فإنما تنال ولاية الله بذلك » ، وفي الحديث الآخر : « أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله » .
قوله : « ولن يجد أحد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك » أي : حتى يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله .
وفي حديث أبي أمامة مرفوعًا : « من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان » رواه أبو داود .
قوله : ( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا ) أي : لا ينفعهم قال الله تعالى : ﴿ الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزخرف : 67 ] .
قوله : وقال ابن عباس في قوله : ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ ، قال : المودة ) أي : التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها . والله المستعان .
* * *
31- باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
وقوله : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ ﴾ الآية [ التوبة : 18] . وقوله : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ الآية [ العنكبوت : 10] .
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا : « إن من ضعف اليقين : أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » .
وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ قال : « من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » . رواه ابن حبان في صحيحه
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ ) [ آل عمران : 175 ] يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها قال الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ قال ابن كثير أي : يخوفكم أولياءه ، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة ، قال الله تعالى : ﴿ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي : إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجئوا إليّ ، فإني كافيكم وناصركم عليهم .
قوله : ( قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ ﴾ ) يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها قال الله تعالى : ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ ﴾ أي : ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله خشية غيره .
﴿ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ وعسى من الله واجب أي : فأولئك هم المهتدون ، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة .
وفي الحديث عن النبي ﷺ قال : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » قال الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ ) قال ابن عباس : يعني : يرتد عن دينه إذا أوذي في الله .
قوله : « إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله » أي : تؤثر رضاهم على رضا الله وأن تحمدهم على رزق الله أي : على ما وصل إليك من أيديهم بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه ، فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده .
ولا ينافي هذا الحديث : « من لا يشكر الناس لا يشكر الله » ، وفي الحديث الآخر : « من صنع إليكم معروفًا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه ، فادعو الله حتى تروا أنكم قد كافأتموه » .
قوله : « وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله » ، لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم ، فهو المتفرد بالعطاء والمنع ، هو المقدر لذلك ، وما أحسن ما قال رجل وقد سأل رجلاً حاجة فقال : إن أعطيتها حمدت الله وشكرتك وإلا حمدت الله وعذرتك .
قوله : « إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » . كقوله تعالى : ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ فاطر : 2 ] .
قوله : « من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » هذا شاهد يعرفه كل أحد ، قال بعضهم :
إذا صح منك الود يا غاية المنى ( | فكل الذي فوق التراب تراب ( |
* * *
32- باب قول الله تعالى : ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
وقوله : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ ﴾ [ الأنفال : 2] . وقوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنفال : 64] . وقوله ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : 3] .
عن ابن عباس قال : ﴿ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [ آل عمران : 173]
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد ﷺ حين قالوا له : ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [ آل عمران : 173] . رواه البخاري والنسائي .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : 23 ] ) أي : وعلى الله فتوكلوا لا على غيره .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ) أي : الصادقون في إيمانهم .
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ خافت وفرقت .
﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ تصديقًا ويقينًا .
﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي : يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ، ولا يخافون سواه .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ) أي : كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ) أي : كافيه .
قوله : ( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ﴿ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ) أي : حين ألقاه قومه ، فقال الله : ﴿ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الأنبياء : 69 ] .
( وقالها محمد ﷺ حين قالوا له : ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ) أي : كافينا فلا نتوكل إلا عليه .
وجاء في الحديث : « إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل » .
وفي الحديث الآخر : « قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا » .
* * *
33- باب قول الله تعالى : ﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ . وقوله : ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾ [ الحجر : 56] .
عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ سئل عن الكبائر ، فقال : « الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » .
وعن ابن مسعود قال : « أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله » . رواه عبد الرزاق .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف : 99 ] ) .
وقوله : ( ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾ ) قصد المصنف - رحمه الله - التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب ، وأنه ينافي كمال التوحيد ، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك ، وأن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء .
قال بعض العلماء : من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عبده بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد .
قوله : ( أن رسول الله ﷺ سئل عن الكبائر ؟ فقال : « الشرك بالله » . ) أي : هو أكبر الكبائر ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [ النساء : 48 ] ) .
قوله : « واليأس من روح الله » أي : قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه ، وذلك إساءة الظن بالله ، وجهل به ويئس من رحمته .
قوله : « والأمن من مكر الله » أي : من استدراجه للعبد ، وسلبه ما أعطاه من الإيمان ، نعوذ بالله من ذلك .
وليس المراد حصر الكبائر في هذه الثلاث وضابطها كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة ، أو غضب أو عذاب ، فهو من الكبائر .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار .
قوله : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ) . القنوط : استباعد الفرج ، واليأس أشد منه . والله أعلم .
* * *
34- باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
وقول الله تعالى : ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ التغابن : 11] .
قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : « اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية » .
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة » وقال النبي ﷺ : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط » . حسنه الترمذي .
قوله : ( باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ) ، قال الإمام أحمد : ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعًا من كتابه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ ) وأول الآية ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي : بمشيئته وحكمته .
قوله : ( قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويُسلِّم ) وقال سعيد بن جبير : ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ يعني : يسترجع ، يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون .
قوله : « اثنتان في الناس هما بهم كفر » أي : لأنهما من أعمال الجاهلية . « الطعن في النسب » أي : عيبه .
« والنياحة على الميت » أي : رفع الصوت بالندب ، وتعداد فضائل الميت لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر ، كقول النائحة : واعضدُاده ، واناصِراه ، ونحو ذلك .
وفيه : دليل على أن الصبر واجب ، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة .
قوله : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ».
وعند ابن ماجة وصححه ابن حبان عن أبي أمامة : أن رسول الله ﷺ : « لعن الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور » .
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر ، وأما البكاء بغير ندب ولا رفع صوت فجائز ، وقد قال النبي ﷺ حين مات ابنه إبراهيم : « تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون » .
قوله : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا » أي : يكفر بها ذنوبه ، ويرفع بها درجاته .
« وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه » أي : أخر عنه العقوبة .
« حتى يُوافي به يوم القيامة » أي : حتى يجيء بذنبه حامله يوم القيامة لم ينقص منه شيء .
قوله : ( وقال النبي ﷺ : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء » . ) أي : إذا عظم بلاء العبد عظم ثوابه إذا صبر واحتسب .
« وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم » ، وفي الحديث الآخر : « أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » .
قوله : « فمن رضي فله الرضا » أي : من الله تعالى ، فإذا رضي عنه حصل له كل خير ، وسلم من كل شر .
« ومن سخط فله السخط » أي : من سخِط على قضاء الله وتدبيره فله السخط من الله وكفى بذلك عقوبة ، فالصبر على المصيبة واجب ، والتسخط حرام ، والرضا مستحب .
قال شيخ الإسلام : ( وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة ؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها ) . والله أعلم .
* * *
35- باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ [ الكهف : 110] .
عن أبي هريرة مرفوعاً : « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » . رواه مسلم .
وعن أبي سعيد مرفوعاً : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال » قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : « الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي ، فيزيّن صلاته ، لما يرى من نظر رجل » . رواه أحمد .
قوله : ( باب ما جاء في الرياء ) أي : من النهي والتحذير . والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها ليحمدوه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ ) أي : قل يا محمد : إنما أنا بشر مثلكم لا أدعي علم الغيب ، ولا أعلم إلا ما علمني الله ، ولهذا قال : ﴿ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ أي : خصصت بالوحي ، وتميزت به عنكم ، وما أرسلني إليكم إلا لتوحدوه .
﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ وهو ما كان موافقًا لشرع الله ، وهو الخالص من الرياء المقيد بالسنة ، كما قال تعالى : ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ﴿ الملك : 2 ﴾ قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على سنة رسول الله .
قوله : ( ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ ) وهذا يعم الأكبر والأصغر .
قوله : ( قال الله تعالى : « أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري » . ) أي : قصد به غيري من المخلوقين .
« تركته وشركه » ولابن ماجة : « فأنا منه بريء وهو للذي أشرك » .
وقد قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ﴾ [ الماعون ] .
قوله : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال » ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : « الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل » سُمي هذا شركًا خفيًا ، لأن صاحبه يُظهر أن عمله لله ، وقد قصد به غيره أو أشركه فيه بتزيين صلاته لأجله .
واعلم أن العمل لغير الله أقسام :
فتارة يكون رياءً محضًا كحال المنافقين .
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ، وأما إن كان أصل العمل لله ، ثم طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان قد طرأ ثم دفعه فلا يضره .
وفي حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أنه سُئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : « تلك عاجل بشرى المؤمن » . رواه مسلم .
* * *
36- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى : ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : 15 ، 16] .
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع » .
قوله : ( باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ) هذا أعظم من الرياء ، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله ، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه ، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا .
قوله : ( وقول الله تعالى ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ﴾ ) أي : بعمله .
﴿ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ فقط .
﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ﴾ أي : بسعة الرزق ، ودفع المكاره .
﴿ وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئًا .
﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ ﴾ فإنهم استوفوا جزاء أعمالهم وبقيت عليهم الأوزار .
﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ لأنهم لم يعملوا بوجه صحيح .
وفي الحديث : « أشد الناس عذابًا من يرى الناس فيه خيرًا ولا خير فيه » .
قوله : « تعس عبد الدينار » هذا دعاء عليه بالهلاك ، سماه عبدًا له لكونه هو المقصود بعمله .
« تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط » ، كما قال تعالى : ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [ التوبة : 58 ] فرضاؤهم لغير الله وسخطهم لغير الله .
« والخميصة » : ثوب خزٍّ أو صوف مُعلّّم .
« والخميلة » : ثوب له هدب من أي شيء كان .
قوله : « تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش » وهذا دعاء عليه بنقيض قصده ، وتعسير أمره .
قوله : « طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله » أي : في جهاد المشركين.
وفي حديث أبي سعيد قال رجل يا رسول الله : وما طوبى ؟ قال : « شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرُجُ من أكمامها » .
قوله : « أشعَثَ رأسه مغبرة قدماه » أي : أشغله الجهاد عن التنعم بالإدّهان وتسريح الشعر .
« إن كان في الحِراسة » أي : حماية الجيش .
« كان في الحراسة » أي : غير مقصر فيها ولا غافل .
« وإن كان في الساقة كان في الساقة » أي : في مؤخرة الجيش ، يُقلِّب نفسه في مصالح الجهاد رغبة في ثواب الله ، وطلبًا لمرضاته .
« إن استأذن » أي : على الأمراء ونحوهم .
« لم يؤذن له » لأنه خامل الذكر لا جاه له عندهم .
« وإن شفع لم يُشفَّع » أي : إن ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر لم تُقبل شفاعته عندهم .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا : « رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره » .
* * *
37- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً
وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ﷺ ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر؟!
وقال الإمام أحمد بن حنبل : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، يذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النور : 63] . أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك .
عن عدي بن حاتم : أنه سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ » [ التوبة :31] . الآية . فقلت له : إنا لسنا نعبدهم قال : « أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرم الله ، فتحلونه » ؟ فقلت : بلى . قال : « فتلك عبادتهم » رواه أحمد ، والترمذي وحسنه .
قوله : ( باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابًا ) من دون الله لقول الله تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ [ التوبة : 31 ] .
قوله : ( وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر ) هذا القول من ابن عباس جواب لمن قال له : إن أبا بكر وعمر لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج . والأحاديث في ذلك صريحة صحيحة ، فلهذا قال ابن عباس لمن عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ) .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله - ( أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد ) .
وقال الإمام مالك - رحمه الله - : ( ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر ﷺ ) .
قال الشارح في ( فتح المجيد ) : ( فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء ، كائنًا من كان . ونصوص الأئمة على هذا ، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد والتي لا دليل فيها يُرجع إليه من كتاب ولا سنة . فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله : لا إنكار في مسائل الاجتهاد . وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد ) . انتهى .
قوله : ( وقال الإمام أحمد عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النور : 63 ] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) وفي رواية : ( أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الكفر ، قال الله تعالى : ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ ) [ البقرة : 217 ] .
فيدعون الحديث عن رسول الله ﷺ وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ، قال ( في فتح المجيد ) : وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصًا ممن ينتسب إلى العلم نصبوا الحبائل في الصَّد عن الأخذ بالكتاب والسنة ، وصدوا الناس عن متابعة الرسول ﷺ ، وتعظيم أمره ونهيه .
فمن ذلك قولهم : لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد ، والاجتهاد قد انقطع ، ويقول هذا الذي قلدته أعلم بالحديث وبناسخه ومنسوخه ، ونحو ذلك من الأقوال التي نهايتها ترك متابعة الرسول ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( النبيه الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة عنده ما يعرف به رجحان القول وأكثر من يميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام وترجح عنده أحدهما ، لكنه قد لا يثق بنظره بل يَحْتَمِل أن عنده ما لا يعرف جوابه ، والواجب على مثل هذا موافقته القول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد ) .
وقال : ( ومن كان متبعًا لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن ) .
وقد قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - : إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل : إذا كان قول رسول الله ﷺ يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لخبر رسول الله ﷺ . وقيل : إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لقول الصحابة .
وأخرج أبو داود بسنده عن أُناس من أصحاب معاذ رضي الله عنه أن رسول اللَّه ﷺ لما أراد أن يبعث معاذ إلى اليمن قال : « كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء » ؟ قال : أقضي بكتاب اللَّه تعالى . قال : « فإن لم تجد في كتاب اللَّه » ؟ قال : بسنة رسول اللَّه ﷺ . قال : « فإن لم تجد فِي سنة رسول اللَّه ﷺ ، ولا في كتاب اللَّه » ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول اللَّه ﷺ صدره وقال : « الحمد للَّه الذي وفق رسول رسول اللَّه لما يرضي رسول اللَّه » .
قوله : ( عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ الآية فقلت : إنا لسنا نعبدهم ، قال : « أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه » ؟ ، فقلت : بلى ، قال : « فتلك عبادتهم » . ) .
فيه : دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى : ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة : 31 ] ، ونظير ذلك قوله تعالى : ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : 121 ] .
* * *
38- باب قول الله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ الآيات
وقوله : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [ البقرة : 11] . وقوله : ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ الآية [ الأعراف : 56] . وقوله : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ المائدة : 50] .
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » . قال النووي : حديث صحيح ، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح .
وقال الشعبي : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ؛ فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد - لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة - وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود - لعلمه أنهم يأخذون الرشوة فاتفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه ، فنزلت : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ﴾ الآية [ النساء : 60] .
وقيل : نزلت في رجلين اختصما ، فقال أحدهما : نترافع إلى النبي ﷺ ، وقال الآخر : إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما القصة . فقال للذي لم يرض برسول الله ﷺ : أكذلك ؟ قال : نعم ، فضربه بالسيف فقتله .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾ [ النساء : 60 ] ) الطاغوت ها هنا : ما سوى كتاب الله وسنة رسوله من الباطل .
﴿ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ ﴾ يعرضون ﴿ عَنكَ صُدُوداً ﴾ .
﴿ فَكَيف ﴾ يكون حالهم .
﴿ إذا أصبتهم مصيبة ﴾ احتاجوا إليك في دفعها .
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ بسبب شؤم ذنوبهم .
﴿ ثُمَّ جَآؤُوكَ ﴾ حين يصابون للعذر منك .
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا ﴾ ما أردنا من تحاكمنا إلى غيرك .
﴿ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ﴾ أي : إحسانًا إلى خصومنا ، وتوفيقًا بين الخصمين ، لا مخالفتك .
﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ من النفاق . ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ فلا تعنفهم .
﴿ وَعِظْهُمْ ﴾ انصحهم .
﴿ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ﴾ أي : انصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ مخوف لهم .
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ ﴾ فيما حكم ،لا ليطلب الحكم من غيره.
﴿ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ أي : بأمر الله .
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بمثل التحاكم إلى غيرك .
﴿ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ لا مزيدة لتأكيد القسم .
﴿ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ اختلف واختلط بينهم .
﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ﴾ ضيقًا .
﴿ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ أي : ينقادوا إلى الأمر انقيادًا .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ ) أي : المنافقين .
﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ بالكفر والمعصية وإظهار أسرار المؤمنين مع الكفار .
﴿ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي : نحن على الهدى نداري الفريقين المؤمنين والكافرين ونصطلح معهم ، ونريد الإصلاح بينهم وبين أهل الكتاب .
﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ بذلك .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ ) أي : لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي ، بعد إصلاحها ببعث الأنبياء وتبيين الشرائع .
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ من عقابه ، وطمعًا في ثوابه .
﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ المطيعين لله في أمره ونهيه .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ ) يريدون وعن حكم الله يعدلون ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن ، وعلم أن الله أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء العادل في كل شيء.
قوله : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به » قال ابن رجب : معنى الحديث : أن الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول ﷺ من الأوامر والنواهي وغيرها ، فيحبُّ ما أمر به ويكره ما نهى عنه .
قوله : ( وقال الشعبي : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة إلى آخره ) .
فيه : دليل على أن بعض المنافقين يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى ، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان .
وفيه : دليل على تحريم الرشوة في الحكم لأنها طريقة اليهود ، وقد قال الله تعالى فيهم : ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [ المائدة : 42 ] .
وقال تعالى : ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ﴾ [ المائدة : 49 ] .
وقال تعالى : ﴿ وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : 188] .
* * *
39- باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى : ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [ الرعد : 30] .
وفي صحيح البخاري قال عليّ : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ) ؟ .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : أنه رأى رجلاً انتفض - لما سمع حديثاً عن النبي ﷺ في الصفات ، استنكاراً لذلك - فقال : ( ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ) . انتهى .
ولما سمعت قريش رسول الله ﷺ يذكر : ﴿ الرحمن ﴾ أنكروا ذلك . فأنزل الله فيهم : ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ ﴾ [ الرعد : 30] .
قوله : ( باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات ، وقول الله تعالى : ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ ﴾ الآية ) سبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي ﷺ وهو في الحجر يدعو : « يا الله يا رحمن » . فرجع إلى المشركين ، فقال : إن محمدًا يدعو إلهين ، يدعو الله ويدعوا إلهًا آخر يسمى الرحمن ، ولا نعلم الرحمن إلا رحمن اليمامة ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : ﴿ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ [ الإسراء : 110 ] .
وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي ﷺ : « اسجدوا للرحمن » . قالوا : وما الرحمن ؟ قال الله تعالى : قل لهم يا محمد : إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته ﴿ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ اعتمدت ﴿ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ أي : توبتي ومرجعي .
قوله : ( وفي صحيح البخاري عن عَلِيٌّ رضي الله عنه قال : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أتريدون أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) سبب هذا القول والله أعلم ما حدث في خلافة علي رضي الله عنه من كثرة القصاص وأهل الوعظ ، فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف ، فربما استنكرها بعض الناس وردها ، وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما ينفعهم في أصل دينهم ، وأحكامهم من بيان الحلال والحرام ، دون ما يشغل عن ذلك ، مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله .
قوله : ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثًا عن النبي ﷺ في الصفات استنكارًا لذلك فقال : ما فرق هؤلاء ) أي : ما خوفهم . ( يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه ) .
قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبي حدثنا وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله ابن خليفة عن عمر قال : ( إذا جلس الرب على الكرسي ، فاقشعر رجل عند وكيع فغضب وكيع وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ، ولا ينكرونها ) أخرجه عبد الله في كتاب الرد على الجهمية .
ومن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل فمن شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس في كلام الله ولا في كلام رسوله تشبيه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [ الشورى : 11 ] .
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال : « كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زجر وأمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه وقولوا : ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ » [ آل عمران : 7 ] .
* * *
40- باب قول الله تعالى : ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ النحل : 83] .
قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل : هذا مالي ، ورثته عن آبائي .
وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا .
وقال ابن قتيبة : يقولون : هذا بشفاعة آلهتنا .
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : « إن الله تعالى قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ... » الحديث ، وقد تقدم - وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ، ويشرك به .
قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقاً ، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير . [ انتهى ] .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ﴾ ) وأنها منه .
﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ بعبادتهم غيره ، ويقولون : إنها بشفاعة آلهتنا .
﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ الجاحدون عنادًا .
وعن مجاهد أن رسول الله ﷺ قرأ على أعرابي أتاه : ﴿ واللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾ . قال الأعرابي : نعم ﴿ وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً ﴾ إلى آخر النعم ، فقال : نعم ، فلما بلغ ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ ولى الأعرابي ، فأنزل الله ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
قوله : ( قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن أبائي ، وقال عون بن عبد الله : يقولون لولا فلان لم يكن كذا ) واختار المحققون أن الآية تعم ما ذكره المفسرون فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
* * *
41- باب قول الله تعالى : ﴿ فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ﴾ .
قال ابن عباس في الآية : الأنداد : هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ؛ وهو أن تقول : والله ، وحياتك يا فلان وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك ﴾ . رواه ابن أبي حاتم .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ قال : ﴿ من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ﴾ . رواه الترمذي وحسنه ، وصححه الحاكم .
وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً .
وعن حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال : ﴿ لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان ﴾ . رواه أبو داود بسند صحيح .
وجاء عن إبراهيم النخعي ، أنه يكره : أعوذ بالله وبك ، ويجوز أن يقول : بالله ثم بك . قال : ويقول : لولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا : لولا الله وفلان .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً ﴾ [ البقرة : 22 ] ) الأنداد : جمع ند وهو المثل والنظير ، أي : لا تعبدوا معه غيره .
﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه لا مثل له ، وأنه الخالق الرازق فهو المستحق للعبادة دون ما سواه ، وسياق هذه الآية في الشرك الأكبر وهي عامة في الأصغر والأكبر كما ذكره ابن عباس وغيره .
قوله : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » .
فيه : تحريم الحلف بغير الله .
قوله : ( وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أحلف بغيره صادقًا ) لأن الحلف بغير الله شرك ، والحلف بالله كاذبًا كبيرة من الكبائر ، والشرك بالله أعظم من كبائر الذنوب .
قوله : « لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » أي : لأن المعطوف بالواو يكون مساويًا للمعطوف عليه .
وتسوية المخلوق بالخالق شرك ، إن كان في الأصغر - مثل هذا - فهو أصغر ، وإن كان في الأكبر فهو أكبر ؛ كما قال تعالى عن المشركين : ﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء ] .
قوله : ( وعن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل : أعوذ بالله وبك ويجوز أن يقول بالله ثم بك ، قال ويقول : لولا الله ثم فلان ، ولا يقول : لولا الله وفلان ) .
هذا إنما يجوز في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء ، وأما الأموات فلا يقال ذلك في حقهم لا بالواو ولا بثُمَّ ؛ لأنهم لا إحساس لهم بمن يدعوهم ويستعيذ بهم ، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر .
42- باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : « لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض . ومن لم يرض فليس من الله » . رواه ابن ماجه بسند حسن .
قوله : ( باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ) أي : من الوعيد .
قوله : « لا تحلفوا بآبائكم » أي : لأنه شرك .
قوله : « من حلف بالله فليصدق » هذا مما أوجبه الله على عباده ، وفي الحديث الآخر : « من اقتطع مال امرء مسلم بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان » - وفي رواية - : « فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة » .
قوله : « ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله » .
فيه : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى .
ووعيد من لم يرض .
* * *
43- باب قول : ما شاء الله وشئت
عن قتيلة ، أن يهودياً أتى النبي ﷺ فقال : إنكم تشركون ، تقولون ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : « ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء ثم شئت » . رواه النسائي وصححه .
وله أيضاً عن ابن عباس : أن رجلاً قال للنبي ﷺ : ما شاء الله وشئت ، فقال : « أجعلتني لله نداً ؟ ما شاء الله وحده » .
ولابن ماجه عن الطفيـل أخـي عائشة لأمهـا قال : رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله . قالوا : وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا : وأنتم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته . قال : « هل أخبرت بها أحداً »؟ قلت : نعم . فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد ؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا ، أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها . فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده » .
قوله : ( باب قول : ما شاء الله وشئت ) أي : تحريم ذلك لأنه شرك وجواز قول : ما شاء الله ثم شئت .
قوله : ( أن يهوديًا أتى إلى النبي ﷺ فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء اللَّه وشئت ، وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : « ورب الكعبة » وأن يقولوا : « ما شاء اللَّه ثم شئت » .
فيه : قبول الحق ممن جاء به كائنًا من كان .
وفيه : النهي عن الحلف بالكعبة ، مع أنها بيت الله لأنه من الشرك ، فأما من قال : يا كعبة الله ودعتك حجتي وأودعيني بخير ، فهذا هو الشرك الأكبر ، وهذا عبادة للبيت من دون الله ، والعبادة لا تصلح إلا لله وحده قال الله تعالى : ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ [ قريش ] .
قوله : ( أن رجلاً قال للنبي ﷺ : ما شاء الله وشئت قال : « أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده » . ) .
فيه : أن من سوَّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله ندًا لله .
وفي هذا الحديث والذي بعده أمرهم بأن يقولوا : « ما شاء الله وحده » وهذا أبعد عن الشرك وأكمل في الإخلاص من أن يقولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان ، مع أن ذلك جائز .
* * *
44- باب من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعـالى : ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ الآية [ الجاثية : 24] .
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : « قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، أقلب الليل والنهار » وفي رواية : « لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر » .
قوله : ( باب من سب الدهر فقد آذى الله ) أي : لأن الله هو المدبر له .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾ ) أي : وقال منكروا البعث ما الحياة ﴿ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ أي : يموت قرن ويحيا قرن .
﴿ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ أي : وما يفنينا إلا مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار .
﴿ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي : لم يقولوه عن علم علموه .
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ أي : يتوهمون ويتخيلون .
قوله : ( قال الله تعالى : « يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ » كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة .
قوله : ( وفي رواية : « لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر » . ) أي : هو المدبر له ، يعني : أن ما يجري فيه من خير أو شر فبإرادة الله وتدبيره بعلم منه وحكمة لا يشاركه في ذلك غيره ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن سبحانه وتعالى .
* * *
45- باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : ﴿ إن أخنع اسم عند الله : رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله ﴾ .
قال سفيان : مثل ﴿ شاهان شاه ﴾ .
وفي رواية : ﴿ أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه ﴾ . قوله ﴿ أخنع ﴾ يعني أوضع .
قوله : ( باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه ) ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمِّي بقاضي القضاة قياسًا على ملك الأملاك لكونه يُشبهُهُ في المعنى فيُنهى عنه .
قوله : ( « إن أخنع إثم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك » لا مالك إلا الله ، قال سفيان : مثل شاهان شاه ) أي : لأنه عند العجم عبارة عن ملك الأملاك .
وفيه : التحذير من التعاظم ، فمن تكبر وضعه الله ، ومن تواضع رفعه الله .
* * *
46- باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح : أنه كان يكنى أبا الحكم ؛ فقال له النبي ﷺ : « إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم » فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني ، فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين فقال : « ما أحسن هذا فما لك من الولد » ؟ قلت : شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : « فمن أكبرهم » ؟ قلت : شريح ، قال : « فأنت أبو شريح » ، رواه أبو داود وغيره .
قوله : ( باب احترام أسماء الله تعالى ) أي : عن التسمي بها ( وتغيير الاسم لأجل ذلك ) .
قوله : ( عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم ، فقال النبي ﷺ أي : منكرًا عليه : « إن الله هو الحكم وإليه الحكم » أي : يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه ، وفي الآخرة بعلمه .
( فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين ، فقال : « ما أحسن هذا » أي : الصلح بين الناس بالرضا والعدل .
« فما لك من الولد » ؟ قال : شريح ، ومسلم ، وعبد الله ، قال : « فمن أكبرهم » ؟ قلت : شُريح . قال : « فأنت أبو شريح » . ) .
فيه اختيار أكبر الأبناء للكنية .
* * *
47- باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالي : ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ التوبة : 65] .
عن ابن عمر ، ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض - : أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء - يعني رسول الله ﷺ وأصحابه القرّاء -فقال له عوف بن مالك : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله ﷺ . فذهب عوف إلى رسول الله ﷺ ليخبره فوجد القرآن قد سبقه . فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب ، نقطع به عناء الطريق . قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله ﷺ ، وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . فيقول له رسول الله ﷺ : «﴿ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ »؟ ما يتلفت إليه وما يزيده عليه .
قوله : ( باب من هزل ) أي : استهزأ .
( بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ) أي : فقد كفر .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ﴾ ) أي : المنافقين .
﴿ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ ﴾ لتوبتهم .
﴿ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ مصرين على النفاق والاستهزاء .
فيه : بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به .
ويفيد الخوف من النفاق الأكبر والأصغر فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه .
وقال ابن أبي مُليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه . نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .
* * *
48- باب ما جاء في قول الله تعالى : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ﴾ الآية .
قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به . وقال ابن عباس : يريد من عندي .
وقوله : ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ [ القصص : 78] . قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب . وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل . وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف .
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : « إن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى . فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به . قال : فمسحه ، فذهب عنه قذره ، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبـل أو البقر - شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها . قال : فأتى الأقرع ، فقال أي شيء أحب إليك قال : شعر حسن ، ويذهب عني الذي قذرني الناس به. فمسحه ، فذهب عنه ، وأعطي شعراً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك؟ قال : البقر ، أو الإبل ، فأعطي بقرة حاملاً ، قال : بارك الله لك فيها . فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إليَّ بصري ؛ فأبصر به الناس ، فمسحه ، فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا ، فكان لهذا وادٍ من الإبل ، ولهذا وادٍ من البقر ، ولهذا وادٍ من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته . فقال : رجل مسكين ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال ، بعيراً أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة . فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً ، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت . قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت . قال : وأتى الأعمى في صورته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله . فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك ، وسخط على صاحبيك ﴾ . أخرجاه .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ﴾ [ فصلت : 50 ] ) الآية ، يتبين معناها بذكر ما قبلها ، قال الله تعالى : ﴿ لَا يَسْأَمُ ﴾ لا يمل ، ﴿ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ ﴾ كالمال والصحة .
﴿ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ ﴾ كالفقر والمرض .
﴿ فَيَؤُوسٌ ﴾ من فضل الله ﴿ قَنُوطٌ ﴾ من رحمته .
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ ﴾ بتفريجها عنه .
﴿ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ﴾ حقي وصل إلي .
﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي ﴾ إن قامت القيامة كما يزعمون .
﴿ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ الحالة الحسنى من النعمة ، يتمنى على الله تعالى مع إساءة عمله .
﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا ﴾ نخبرهم بما عملوا أي : بحقيقة أعمالهم فيعلموا أنها تستوجب ندامة لا كرامة ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ ) يتبين معناها بذكر ما قبلها ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى ﴾ [ القصص : 76 ] أي : ممن آمن به ، ثم نافق . ﴿ فَبَغَى ﴾ تكبر ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ .
﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ الجماعة الكثيرة .
﴿ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ﴾ بدنياك .
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ الأشرين البطرين بالدنيا .
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ ﴾ من المال .
﴿ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾ بأن تصرفه في مرضاة الله .
﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ كما في الحديث : « ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » .
﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ واشكره كما أنعم عليك .
﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ﴾ بالظلم والكبر والمعاصي ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ أي : على علم وفضل عندي أستحقه لذلك ، ولولا معرفة الله بفضلي ورضاه ما أعطاني .
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ للمال ، فلا تدل كثرة الدنيا على أن صاحبها يستحق رضا الله ، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب .
ثم ذكر المصنف – رحمه الله تعالى - حديث الأقرع ، والأبرص والأعمى ، والشاهد منه قول الأبرص والأقرع : « إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر » .
قال ابن كثير - رحمه الله - في معنى قوله تعالى : ﴿ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [ الزمر : 49 ] : يخبر أن الإنسان في حال الضر يَضرع إلى الله تعالى ، وينيب إليه ، ويدعوه ، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى وقال : ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ ، أي : لما يعلم الله [ من ] استحقاقي له ، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا .
قال الله تعالى : ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾ أي : ليس الأمر كما زعم ، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمناه عليه ، أيطيع أم يعصي ؟ مع علمنا المتقدم بذلك . انتهى . والله أعلم .
* * *
49- باب قول الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ الآية .
قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله؛ كعبد عمر ، وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، حاشا عبد المطلب .
وعن ابن عباس في الآية قال : لما تغشـاها آدم حمـلت ، فأتاهما إبليس فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعانني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنك فيشقه ، ولأفعلن ولأفعلن - يخوفهما - سِّمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتاً ، ثم حملت ، فأتاهما ، فقال مثل قوله ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتاً ، ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى : ﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ [ الأعراف : 190] . رواه ابن أبي حاتم .
وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته . وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله : ﴿ لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً ﴾ [ الأعراف :189] . قال : أشفقا ألا يكون إنساناً ، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ [ الأعراف : 190 ] ) أي : بتسميتهما عبد الحارث .
قوله : ( قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم عبد لغير الله كعبد عمرو ، وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب ) أي : لأن تسميته بهذا الاسم من عبودية الرق لا من عبودية الشرك كعبد المسيح ، وعبد النبي ، وعبد الرسول ، وعبد الحسين ، ونحو ذلك فإن المطلب أخا هاشم قدم المدينة ، وكان ابن أخيه شيبة بن هاشم قد نشأ في أخواله بني النجار ، وبلغ سن التمييز عندهم فسافر به عمه المطلب إلى مكة فقدم به وهو رديفه فرآه أهل مكة قد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبدًا للمطلب ، فقالوا : هذا عبد المطلب فعلق به هذا الاسم .
قوله : ( وعن ابن عباس في الآية قال : لما تغشاها آدم حملت إلى آخره ) يتبين معنى ذلك بذكر الآيات كلها قال الله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ ) يعني : من آدم .
﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ حواء .
﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ ليأنس بها .
﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ﴾ واقعها .
﴿ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ استمرت به ،وقامت وقعدت ولم يثقلها.
﴿ فَلَمَّا أَثْقَلَت ﴾ أي : كبر الولد ودنت ولادتها .
﴿ دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً ﴾ أي : بشرًا سويًا مثلنا .
﴿ لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ أي : سميا ولدهما عبد الحارث . قال جمهور المفسرين : المراد بذلك : آدم وحواء .
وقال الحسن : كان هذا في أهل الملل ولم يكن بآدم .
قال ابن كثير : وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد صح الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال : « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم » - إلى أن قال - : وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري - رحمه الله - في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال الله : ﴿ فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ .
- ثم قال - فذكر آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس . والله أعلم .
* * *
50- باب قول الله تعالى : ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ الآية .
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ : يشركون . وعنه : سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز . وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ [ الأعراف : 180] ) هي أحسن الأسماء دالة على أحسن المعاني ، وليست منحصرة في التسعة والتسعين ، ( ﴿ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ) من الإلحاد .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر».
وأخرجه الجرجاني عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن شعيب بسنده ، مثله .
وبعد قوله : « يحب الوتر هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزُّ ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي (213) ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور » .
قوله : ( ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : ﴿ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ ) يشركون .
وعنه : سموا اللات من الإله .
والعُزَّى : من العزيز .
وعن الأعمش : ( يدخلون فيها ما ليس منها ) .
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : وحقيقةُ الإلحاد فيها الميلُ بالإشراكِ والتعطيلِ والنكُّرَان وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف تعرّف بها تعالى إلى عباده ودلت على كماله جل وعلا .
* * *
51- باب لا يقال : السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا إذا كنا مع النبي ﷺ في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان ، فقال النبي ﷺ : « لا تقولوا السلام على الله ، فإن الله هو السلام » .
قوله : ( باب لا يقال : السلام على الله ) أي : إن الله هو السلام ومنه السلام .
وكان النبي ﷺ إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر الله ثلاثًا ، ويقول : « اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام » .
قوله : « لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام » أي : الذي سلم من جميع العيوب والنقائص ، لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وتمام الحديث : « ولكن قولوا : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله » .
* * *
52- باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : « لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له » .
ولمسلم : « وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » .
قوله : ( باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت ) يعني : أن ذلك لا يجوز ، لورود النهي عنه .
قوله : « لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت فإن الله لا مكره له » أي : بخلاف المخلوق .
قوله : ( ولمسلم : « فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » . ) أي : ليعظم الرغبة في سؤاله ربه فإنه أهل المغفرة والكرم والجود والإحسان ، وفي الحديث الآخر عن النبي ﷺ قال : « يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع » .
وفي الحديث القدسي : « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان ما بلغت أمنيته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر » .
* * *
53- باب لا يقول : عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : « لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي ، وغلامي » .
هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغةً ، فالنبي ﷺ نهى عنها تحقيقًا للتوحيد ، وسدًا لذرائع الشرك ، لما فيها من التشريك في اللفظ ، لأن الله تعالى هو ربُّ العباد جميعهم .
وأرشدهم ﷺ إلى ما يقوم مقامها . والله أعلم .
* * *
54- باب لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : « من سأل بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه » . رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح .
ظاهر الحديث أنه لا يرد من سأل بالله ، فمن سأل ماله فيه حق وجب إعطاؤه ، ويستحب إذا لم يكن له حق .
قوله : « ومن دعاكم فأجيبوه » هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض .
« ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه » أي : بالمال أو الثناء ، إذا لم يجد مالاً يكافئه به ، ولهذا قال : « فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تُرَوْا » أي : تعلموا أنكم قد كافأتموه ، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس ، وبعض اللئام يكافئ على الإحسان إساءة نعوذ بالله من ذلك .
* * *
55- باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » . رواه أبو داود .
قوله : ( باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ) أي : لأنها غاية المطالب .
وكذلك الاستعاذة به مما يبعده منها ، كما في الحديث الآخر : « أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك » .
* * *
56- باب ما جاء في اللّو
وقول الله تعالى : ﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ [ آل عمران : 154] . وقوله : ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ [ آل عمران : 168] الآية .
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : « احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان » .
قوله : ( باب ما جاء في اللو ) أي : من النهي عن ذلك ، إذا كان في معارضة القدر فهو مذموم ، وأما تمني الخير فلا بأس به كقوله : لو أن لي مالاً مثل ما لفلان لعملت فيه مثل عمله .
قوله : ( وقول الله عز وجل : ﴿ يَقُولُونَ ﴾ - أي المنافقون يوم أحد - : ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ ) أي : هذا أمر قدره الله عز وجل لا محيد عنه .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ ) أي : لو سمعوا منا مشورتنا عليهم بالقعود ، وعدم الخروج إلى أحد ما قتلوا مع من قتل ، قال الله تعالى : ﴿ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
قوله : « احرص على ما ينفعك » الحديث . وأوله : « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك » أي : في معاشك ومعادك .
« واستعن بالله ولا تعجزن » أي : افعل الأسباب وتوكل على الله .
« وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل : قَدَرُ الله » أي : هذا قَدَرُ الله .
« وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان » لما فيها من التأسف على ما فات والتحسُّر ولوم القدر ، وقد قال الله تعالى : ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [ الحديد ] .
* * *
57- باب النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : « لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح ، وشر ما فيها ، وشر ما أمرت به » . صححه الترمذي .
قوله : ( باب النهي عن سب الريح ) أي : لأنها إنما تهب بأمر الله تعالى ، فإذا رأى ما يكره فليقل ما أرشد إليه النبي ﷺ .
* * *
58- باب قول الله تعالى : ﴿ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ .
وقوله : ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ الآية [ الفتح : 6].
قال ابن القيم في الآية الأولى : فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته ، ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ﷺ ، وأن يظهره الله على الدين كله . وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح ، وإنما كان هذا ظن السوء ؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه ، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق ، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة ، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده .
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا ، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك : هل أنت سالم ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ( | وإلا فإني لا إخالك ناجياً ( |
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ [ آل عمران : 154 ] ) الآية وأولها : ﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ ﴾ وهم المؤمنون حقًا ، ﴿ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ بطلب خلاصها وهم المنافقون . ﴿ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أي : يظنون أنه ما بقي من أمر محمد ﷺ شيء .
﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي : ما بقي لنا من النصر والغلبة شيء .
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد : ﴿ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ النصر ، والظفر ، والقضاء ، والقدر .
﴿ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم ﴾ من النفاق .
﴿ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ أي : يقول بعض المنافقين لبعض ، لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ، ولم يقتل رؤساؤنا .
﴿ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ ليمتحنكم ، ويظهر سرائركم من الإخلاص وعدمه .
﴿ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ يكشفه ويميزه .
﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ بما في القلوب من خير وشر .
قوله : ( وقوله تعالى : ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ ) الآية ، وأولها : ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ يظنون أن لن ينصر الموحدين .
﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ أي : عليهم خاصة ما يظنون بالمؤمنين .
﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ﴾ .
قوله : ( قال ابن القيم : في الآية الأولى ... ) كلام ابن القيم المذكور ملخص من كلامه على ما تضمنته وقعة أحد . والله أعلم .
* * *
59- باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده ، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم استدل بقول النبي ﷺ : « الإيمان : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » . رواه مسلم .
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : ﴿ يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » . يا بني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول : « من مات على غير هذا فليس مني » .
وفي رواية لأحمد : « إن أول ما خلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » .
وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله ﷺ : « فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار » .
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال : أتيت أُبيّ بن كعب ، فقلت : في نفسي شيء من القدر ، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي ، فقال : « لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار » . قال : فأتيت عبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ . حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه .
قوله : ( باب ما جاء في منكري القدر ) أي : من الوعيد الشديد .
وروى أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : « القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » .
قوله : ( وقال عبد الله بن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده ) الحديث . وأوله : عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحُميد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّين ، أو مُعتمرين فقلنا : لو لقينا أحدًا من أصحاب النبي ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فَوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، فظننت أن صاحبي سيكلُ الكلام إليَّ ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر أناس قِبلنا يقرؤون القرآن ، ويتقفَّرون العلم ، يزعمون أن لا قَدَر وأن الأمر أُنُفٌ . فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريءٌ ، وأنهم مني بُرآءُ ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن لأحدهم مثلَ أحُد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه ، حتى يؤمن بالقدر .
ثم قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ) . الحديث .
قوله : ( وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : يا بني ) الحديث رواه أبو داود ، ورواه الإمام أحمد ولفظه عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني . فقال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، قلت : يا أبتاه كيف أعلم ما خير القدر وشره ؟ .
قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » . يا بني إن مت ولستَ على ذلك دخلت النار .
قال الإمام أحمد : القدر قدرة الرحمن .
وقال بعض السلف : ناظروهم - أي القدرية - بالعلم فإن أقرُّوا به خُصِموا وإن جحدوا كفروا .
قوله : ( وفي المسند ، والسنن عن ابن الديلمي قال أتيت أُبي بن كعب فقلت : في نفسي شيءٌ من القدر فحدثني بشيءٍ لعل اللَّه يذهبه من قلبي فقال : « لو أنفقت مثل أُحُدٍ ذهبًا مَا قبِله اللَّه منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ومَا أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار » قال : فأتيت عبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ زاد أبو داود وفي أوله : « لو أن اللَّه عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أُحُدٍ ذهبًا ما قبلهُ اللَّه منك حتى تؤمن بالقدر » الحديث .
وعن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول اللَّه ﷺ إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء » رواه مسلم .
وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « ما منكم من أَحَدٍ إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة » قالوا يا رسول اللَّه : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : « اعملوا فكل مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له ، أما من كان من أهل السعادة فَيُيَسَّرُه لعملِ أهلِ السَّعَادَةِ وأما من كان من أهلِ الشَّقَاوة فَيُيَسَّرُه لعملِ أهلِ الشَّقَاوَةِ ثمَّ قرأ : ﴿ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ » [ الليل ] . الآية متفق عليه .
* * *
60- باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » . أخرجاه .
ولهما عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله ﷺ قال : « أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » .
ولهما عن ابن عباس : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم » .
ولهما عنه مرفوعاً : « من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ » .
ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي عليّ : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ ؟ ألا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) .
قوله : ( باب ما جاء في المصوِّرين ) أي : من عظيم عقوبة الله لهم ، وعذابه كما في هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة .
وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ﷺ : « لا تدخل الملائكة بيتًا فيهِ كلب ولا تصاوير » رواه البخاري .
قال القرطبي إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة ، لأن متَّخذها قد تشبه بالكفار لأنهم يتخذون الصور في بيوتهم ويعظمونها ، فكرهت الملائكة ذلك فلم تدخل بيته هجرًا له لذلك .
قال النووي : قال العلماء : تصوير صورة الحيوان حرام ، وهو من الكبائر ، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد ، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال ، سواء كان في ثوب ، أو بساط ، أو درهم ، أو دينار ، أو فلس ، أو إناء أو حائط أو غيرها ، فإما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام .
قال : وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل ، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا وهو مذهب باطل ، فإن الستر الذي أنكره النبي ﷺ كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك ، ومع ذلك أمر بنزعه . انتهى .
قال الحافظ : والمذهب المذكور مرجوح .
وقال ابن العربي : الصورة إذا كان لها ظل حرم اتخاذها بالإجماع ، سواء كانت مما يمتهن أم لا .
قال الحافظ : لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا ، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منحوتة ، أو منسوجة خلافًا لمن استثنى النسج ، وادعى أنه ليس بتصوير ، ونقل الرافعي عن الجمهور : أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع .
قوله : ( ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن : « لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته » . ) .
فيه : وجوب طمس الصور لمضاهاتها لخلق الله .
ووجوب تسوية القبور لما في تعليتها من الفتنة بأصحابها وتعظيمها ، وذلك من ذرائع الشرك ووسائله . والله المستعان .
* * *
61- باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى : ﴿ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ [ المائدة : 89] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب » . أخرجاه .
عن سلمان أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه » . رواه الطبراني بسند صحيح .
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ؟ - ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن » .
وفيه عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال : « خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته » .
قال إبراهيم : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار .
قوله : ( باب ما جاء في كثرة الحلف ) أي : من النهي عنه ، والوعيد عليه .
قوله : ( وقول الله تعالى : ﴿ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ ) قال ابن عباس : لا تحلفوا .
قوله : « الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب » أي : البركة .
قوله : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم » لعظم ذنبهم .
« أشيمط زان » صغره تحقيرًا له ، وفي رواية : « شيخ زان » . والزنا حرام من الشاب والأشمط ، لكنه من الكبير أقبح لأن داعي المعصية فيه ضعيف ، فدل على أن الحامل له على الزنا محبته ، وعدم الخوف من الله .
« وعائل مستكبر » العائل الفقير ، والكبر حرام من الغني والفقير ، لكنه من الفقير أقبح لعدم الداعي إليه ، فدل على أن الكبر كامن في قلبه .
« ورجل جعل الله بضاعته » يعني دائم الحلف بالله ، لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه .
قوله : « خير أمتي قرني ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم » أي : الصحابة ثم التابعون ثم تابعوا التابعين ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنِهِ مرتين أو ثلاثًا .
« ثمَّ إِنَّ بعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَينذرونَ وَلا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ » أي : لرغبتهم في الدنيا ، والتنعم بها ، وغفلتهم عن الدار الآخرة ، والعمل لها .
قوله : « ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » أي : لخفة ذلك عندهم فلا يتثبتون في شهاداتهم ولا يصدقون في أيمانهم .
قوله : ( قال إبراهيم - أي النخعي - : كانوا يضربوننا على الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ ونحن صغار ) .
فيه : تمرين الصغار على طاعة الله ، ونهيهم وتأديبهم . والله الموفق .
* * *
62- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقول الله تعالى : ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ الآية [ النحل : 91] .
عن بريدة قال : كان رسول الله ﷺ إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، فقال : « اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله تعالى ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه .
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك . فإنك لا تدري ، أتصيب فيهم حكم الله أم لا » . رواه مسلم .
قوله : ( باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى : ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ [النحل : 91 ] ) هذا عام في كل عهد وميثاق .
﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ تهديد لمن نقض ونكث .
قوله : ( كان رسول الله ﷺ إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرًا ) أي : وأوصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرًا من الرفق والإحسان إليهم ، وخفض الجناح لهم ، وترك التعاظم عليهم .
قوله : « اغزوا بسم الله » أي : مستعينين بالله .
« قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا » الغدر : نقض العهد ، والتمثيل : التشويه بالقتيل كقطع أنفه ونحو ذلك .
« وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال – شك من الراوي – فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم » أي : فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم .
قوله : « ثم ادعهم إلى الإسلام » في رواية أبي داود : « وادعهم إلى الإسلام » .
قوله : « ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين » يعني المدينة ، وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام .
قوله : « فإن هم أبوا فاسألهم الجزية » أي : إن أبى الكفار أن يسلموا .
قوله : « فإن أبوا » أي : عن الجزية .
« فاستعن بالله وقاتلهم » اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ، واختلفوا في غيرهم .
قوله : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك » الذمة : العهد ، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد فكأنه يقول : إن وقع نقض من معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى . والله أعلم .
قوله : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » هذا النهي وكذا الذي قبله على التنزيه والاحتياط .
وفيه : حجة لمن يقول : ليس كل مجتهد مصيبًا ، بل المصيب واحد ، وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر . والله أعلم .
* * *
63- باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ : « قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك » . رواه مسلم .
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد ، قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله : ( باب ما جاء في الإقسام على الله ) أي : الحلف ، والتألي عليه .
قوله : « من الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ، إني قد غفرت له وأحبطت عملك » .
« وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد » ، حديث أبي هريرة رواه أبو داود ولفظه : « كان رجلانِ في بني إسرائيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ فكان أحدهما يذنبُ والآخَرُ يجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهدُ يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر فوجده يومًا على ذنبٍ فقال له أقصر فقال خَلِّنِي وربي أبعثت عليَّ رقيبًا ، قال : واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لك ولا يُدْخِلُكَ الجنَّة فقبضت أَرْوَاحَهُمَا فاجتمعا عند رَبِّ الْعَالَمِينَ فقال لهذا الْمُجْتَهِد أكنت بِي عالِمًا أو كُنْتَ على ما في يدي قادرًا فقال للْمُذْنِبِ اذهَبْ فادْخُل الجنَّةَ وقال للآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار » .
قوله : ( قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ) هي قول المجتهد : والله لا يغفر الله لك ، ولا يدخلك الجنة أبدًا .
وفيه : بيان خطر اللسان ، وذلك يفيد التحرز من الكلام السيئ كما في الحديث الآخر : « وإن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوى بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب » .
وفي حديث معاذ : « هل يَكُبٌ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم » . والله أعلم .
* * *
64- باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم قال : جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله : نهكت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلكت الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي ﷺ : « سبحان الله ! سبحان الله ! » فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ؛ ثم قال النبي ﷺ : « ويحك ، أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه » . وذكر الحديث . رواه أبو داود .
قوله : ( باب لا يستشفع بالله على خلقه ) أي : لأنه الخالق المالك فالخلق كلهم عبيد له ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾ .
فأنكر ﷺ قول الأعرابي : إنا نستشفع بالله عليك .
وأما الاستشفاع بالخلق على الله فالمراد به طلب دعائهم ، والمراد بالأحياء منهم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قم يا عباس فادع الله ) .
قوله : ( عن جبير بن مطعم قال : جاء أعرابي إلى النبي ﷺ الحديث . رواه أبو داود بتمامه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : أتى النبي ﷺ أعرابي قال : جهدت الأنفس وضاع العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ، وبك على الله ، فقال النبي ﷺ : « ويحك أتدري ما تقول » ؟ ، وسبح رسول الله ﷺ فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : « ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سماواته هكذا » وقال بإصبعه مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب .
قال ابن يسار في حديثه : « إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته » .
قال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار .
وفي هذا الحديث : إثبات علو الله على خلقه .
وأن عرشه فوق سماواته .
وفيه : تفسير الاستواء بالعلو ، كما فسره الصحابة والتابعون ، وأئمة السلف ، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه ، وأثبته له رسوله ﷺ من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [ الشورى : 11 ] .
* * *
65- باب ما جاء في حماية النبي
حمى التوحيد ، وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي ﷺ فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : « السيد الله تبارك وتعالى » . قلنا : وأفضلنا فضلاً ، وأعظمنا طولاً . فقال : « قولوا بقولكم ، أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » . رواه أبو داود بسند جيد .
وعن أنس رضي الله عنه أن ناساً قالوا : يا رسول الله : يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : « يا أيها الناس ، قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد ، عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل » . رواه النسائي بسند جيد .
قوله : ( باب ما جاء في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد ) أي : عما يشوبه من الأقوال والأعمال .
( وسده طرق الشرك ) الموصلة إليه كالإطراء ونحوه .
قوله : « السيد الله تبارك وتعالى » أي : السؤدد حقيقة لله عز وجل ، لأن الخلق كلهم عبيد له .
والنبي ﷺ لما أكمل الله له مقام العبودية ، صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام . وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم ، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه ، من الشرك ووسائله ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [ الأعراف : 162 ] .
66- باب ما جاء في قول الله تعالى : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والماء على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك . فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه ، تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله ﷺ : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الآية [ الزمر : 67] . أخرجاه .
وفي رواية لمسلم : والجبال والشجر على إصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، أنا الله . وفي رواية للبخاري : يجعل السماوات على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ﴾ أخرجاه .
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً : « يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون » .
ورُوي عن ابن عباس ، قال : « ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم » .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : حدثني أبي ، قال : قال رسول الله ﷺ : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس » . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاةٍ من الأرض » .
وعن ابن مسعود قال : « بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم » . أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبد الله . ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله . قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى ، قال : وله طرق .
وعن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله ﷺ : « هل تدرون كم بين السماء والأرض » ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : « بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم » . أخرجه أبو داود وغيره .
قوله : ( باب قول الله تعالى : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ ) أي : ما عظموه حق عظمته ، حيث عبدوا معه غيره ، ﴿ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ .
قوله : « إن الله يجعل السماوات على إصبع » إلى آخره مذهب السلف إمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تكييف ، ولا تحريف .
قال في ( فتح المجيد ) : ( هذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله ، وعظيم قدرته ، وعظم مخلوقاته ، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته ، وعجائب مخلوقاته .
وكلها تدل على كماله وأنه هو المعبود وحده ، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته . وتدل على إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل . وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ، ومن تبعهم بإحسان ) .
قوله : « والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم » .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( كتاب الله من أوله إلى آخره ، وسنة رسوله ﷺ وكلام الصحابة ، والتابعين ، وكلام سائر الأئمة مملوء بما هو نص ، أو ظاهر : أن الله تعالى فوق كل شيء ، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستوٍ على عرشه ) . انتهى .
وعن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنها قالت في قوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ طه : 5 ] قالت : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر . رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو .
وقال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقال البخاري في صحيحه : قال مجاهد : ﴿ اسْتَوَى ﴾ : علا على العرش .
وقال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ أي : ارتفع .
وقال ابن جرير في قوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ أي : علا وارتفع .
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :
شهدت بأن وعد الله حق ( | وأن النار مثوى الكافرينا ( | |||
وأن العرش فوق الماء طاف ( | وفوق العرش رب العالمينا ( | |||
وتحمله ملائكة شداد ( | ملائكة الإله مسومينا ( |
وقال عبد الله بن المبارك : نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى ، بائن من خلقه ، ولا نقول كما قالت الجهمية .
وقال أبو عمر الطلمنكي : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته .
وقال أيضًا : أجمع أهل السنة ، على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز .
وقال الشافعي -رحمه الله-: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل . ونثبت هذه الصفات ، وننفي عنه الشبيه ، كما نفى عن نفسه ، فقال : ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [ الشورى : 11 ] . انتهى .
وبالله التوفيق ، والحمد لله رب العالمين .