تيسير الوصول إلى ثلاثة الأصول
التصنيفات
الوصف المفصل
- تيسير
الوصول إلى ثلاثة الأصول
- المقدمة
- ( اعلم ([7]) رحمك الله ـ أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
- الثانية :( العمل به )
- الثالثة : الدعوة إليه ،
- الرابعة : الصبر على الأذى فيه
- ( اعلم ([65]) رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن ) .
تيسير الوصول إلى ثلاثة الأصول
تأليف
عبد المحسن بن محمد القاسم
إمام وخطيب المسجد النبوي
الطبعة الأولى 1427هـ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإن " ثلاثة الأصول " للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, من أنفع المتون المؤلفة في أصول الدين, وقد تلقاها طلبة العلم والعامة بالحفظ والمدارسة, لكونها قاعدة في العقيدة ، ولقد وهب الله عز وجل الإمام العلامة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حسن التصنيف, ودقة الترتيب، وقوة الاستدلال مع جزالة اللفظ وجمال البيان ، وقد جاءت ثلاثة الأصول شاملة لذلك ,قال عنها حفيد المصنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " فما أعظم نفعها على اختصارها لطالب الهدى " ([1]). ففيها الأصول الواجب على الإنسان معرفتها, من معرفة العبد ربه, وأنواع العبادة التي أمر الله بها ، ومعرفة العبد دينه ، ومراتب الدين ، وأركان كل مرتبة ، ومعرفة النبي ﷺ في نبذة من حياته ، والحكمة من بعثته ، والإيمان بالبعث والنشور ، وركنا التوحيد وهما الكفر بالطاغوت,والإيمان بالله. ولكونها قاعدة في العقيدة فقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يلقنها الطلبة والعامة ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : يلقن الطلبة والعامة هذه الأصول, ليدرسوها ويحفظوها,ولتستقر في قلوبهم,لكونها قاعدة في العقيدة " ([2]). وكانت تقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ويشرحها كل يوم ([3]). وقد صُدِّرت ثلاثة الأصول بثلاث رسائل نافعة عظيمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هي قواعد في الدين :
الأولى:منها في وجوب العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
والثانية: في توحيد الربوبية,والألوهية,والولاء والبراء .
والثالثة: في بيان التوحيد وضده .
وبذلك جاءت ثلاثة الأصول مع ما صدّرت به من الرسائل مكتملة العقد في أصول الدين ، ودرة مضيئة للعابدين الموحدين ، قال عنها الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " هذه رسالة مهمة في العقيدة " ([4]) .
ولأهميتها وغزير نفعها وحاجة المسلم إليها كان العلماء يحثون الولاة لإلزام الناس بتعلمها وفهمها، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين وأئمة المساجد,بالحضور عند من يعلمهم دينهم,ويلزمهم القراءة فيما جمعه شيخنا رحمه الله في كتاب التوحيد,من أدلة الكتاب والسنة التي فيها الفرقان بين الحق والباطل,فقد جمع على اختصاره خيراً كثيرا, وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي مَنْ وفقه الله ، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله ، ويلزمهم سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها,وأربع القواعد " ([5]).
وكتب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لأئمة المساجد آمراً لهم تعليم جماعة المسجد ثلاثة الأصول,وأن يعقد لهم مجلساً يومياً يسألهم عنها قال رحمه الله : " وكذلك عليكم – أي الأئمة - تعليم الجماعة أمر الدين وسؤالهم عنه,كما في " مختصر ثلاثة الأصول " فيتعين على كل إمام مسجد إبلاغ جماعته بذلك,ويعقد لهم مجلساً يومياً يسألهم فيه عن أمور دينهم,ويعلمهم ما يخفى عليهم منها " ([6]) .
ولأهمية هذه الرسالة وعميم نفعها فقد وضعت عليها شرحاً سميته : " تيسير الوصول إلى ثلاثة الأصول " موضحاً لمعانيها,ومظهراً لمبانيها,مستشهداً بأقوال سلف هذه الأمة ومحققيها,كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله,أسأل الله عز وجل أن ينفع به,وأن يجعله ذخراً لنا في الآخرة, وصلى الله على نبينا محمد,وعلى آله وصحبه أجمعين .
عبد المحسن بن محمد بن عبد الرحمن القاسم .
( اعلم ([7]) رحمك الله ـ أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
الأولى : العلم ،
-----------------------------------
استفتح المؤلف رحمه الله كتابه مستعيناً بالله,متبركاً باسمه تعالى,قائلاً: أبدأ مصنفي بـ ( بسم الله ) مقتدياً في ذلك بكتاب الله,ومتأسياً بالنبي ﷺ في مكاتباته ومراسلاته ، ولفظ الجلالة ( الله ) علم على الباري جل وعلا,وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء ، و( الرحمن ) اسم من الأسماء المختصة بالله لا تطلق على غيره والرحمن معناه المتصف بالرحمة الواسعة ، و( الرحيم ) اسم من أسمائه تعالى,ويطلق عليه وعلى غيره ، ومعناه ذو الرحمة الواصلة ، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة ، والرحيم ذو الرحمة الواصلة قال ابن القيم رحمه الله : " الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه ، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ([8]). ( اعلم ) ولا تكن جاهلاً بأمور الدين,وسأذكر لك مسائل مهمة في أصول الدين حقيق أن تهتم بها غاية الاهتمام وأن تصغي إليها حقيقة الإصغاء,وأنا أدعو لك بالرحمة قائلاً ( رحمك الله ) أي أسأل الله أن ينزل عليك رحمته التي تحصل بها على مطلوبك, وتنجو بها من محذورك ، وهذا دأب الناصحين يدعوك إلى الهداية، ويدعو لك بالخير,فيجمع بين التعليم والدعاء ، وهذا من حسن عناية المصنف رحمه الله, ونصحه,وقصده الخير للمسلمين ( أنه يجب ) وجوباً عينياً ( علينا ) نحن المكلفين,ذكوراً وإناثاً,صغاراً وكباراً ( تعلم ) ومعرفة ( أربع مسائل ) مهمة في الدين شاملة له . ( الأولى ) من تلك المسائل ( العلم ) وهو معرفة الهدى بدليله ، ويشمل معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام , وخص المصنف رحمه الله هذه الأمور، لأنها هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا عليها ، وهي التي يسأل العبد عنها في قبره , والعبد إذا عرف ربه وعرف نبيه ﷺ وعرف دين الإسلام بالأدلة ، كمل له دينه .
وما كان واجباً على الإنسان العمل به -كأصول الإيمان وشرائع الإسلام ، وما يجب اجتنابه من المحرمات ، وما يحتاج إليه في المعاملات ونحو ذلك - مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , ليعبد العبد ربه على بصيرة,ويتقرب إليه على برهان ، ويجب عليه أن يسأل أهل العلم عمَّا جهله من ذلك , قال الإمام أحمد رحمه الله : " يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ، قيل له مثل أي شيء ؟ قال : الذي لا يسعه جهله , صلاته وصيامه ونحو ذلك " ([9]).
وأما القدر الزائد على ما يحتاجه إليه المعيّن من فروض الكفايات ، كتعلم المواريث وكيفية تغسيل الميت ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين . *
وهو معرفة الله ،
-----------------------------------
والعلم الواجب علينا تعلمه ( هو معرفة الله ) ومعنى معرفة الله : أن يتعرف العبد على ربه بما تعرف به إلينا في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ من أسمائه وصفاته وأفعاله .
ومعرفة الله أحد مهمات الدين ، والجهل به سبحانه من التفريط في أمور الدين ، قال ابن القيم رحمه الله : " وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ، ولا عرفه حق معرفته ، ولا وصفه حق صفته " ([10]).
والإنسان لا يكون على حقيقة من دينه إلا بالعلم بربه ، ولهذا كان أساس دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام,معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ، قال ابن القيم رحمه الله : " مفتاح الدعوة الإلهية,معرفة الرب تعالى" ([11]). ومن سلك الطريق الموصل إليه تعالى,سلك طريق معرفته ، وعلى قدر معرفة الله يكون تعظيم الرب في القلب ، ومن عرف الله أحبه ، قال ابن القيم رحمه الله : " من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ، أحبَّه لا محالة " ([12]).
ومعرفة الله وإفراده بالعبادة,هو سبب السعادة في الدارين ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " اللذة والفرحة,والسرور وطيب الوقت,والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه ، إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به " ([13])
ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة
---------------------------------
ومن العلم الواجب على المكلف تعلمه ( معرفة نبيه ) محمد ﷺ ، فإنه الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ رسالة الله ، ومعرفته تستلزم قبول وامتثال ما جاء به من عند الله,من الهدى ودين الحق .
كما يجب على المكلف ( معرفة دين الإسلام بالأدلة ) من الكتاب والسنة ، لأنه هو الدين الذي تعبَّد الله به الخلق ، ومعرفته والعمل به سبب لدخول الجنة ، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار ، قال ابن القيم رحمه الله : " كمال الإنسان مداره على أصلين : معرفة الحق من الباطل ، وإيثار الحق على الباطل ، وما تفاوتت منازل الخلـق عند الله في الدنيا والآخرة,إلا بقـدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين " ([14]) . ومعرفة الله ومعرفة نبيه ﷺ ومعرفة دين الإسلام ، أول ما يسأل عنها العبد في القبر,كما في حديث البراء بن عازب t مرفوعاً وفيه " فيأتيه ـ أي المؤمن- مَلَكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : وما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام,فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هو رسول الله ﷺ " رواه أحمد ([15]) .
ومن كان يعرف هذه الأصول بأدلتها,حري به أن يثبت عند سؤال الملكين في قبره ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن بعض الناس يقول :" هاه ، هاه لا أدري " رواه أحمد ([16]) .
وإذا كان العامي يعتقد وحدانية الله,ويعتقد بطلان ما يعبد من دون الله فهو مسلم ، وإن لم يعلم الدليل . قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله : " فرض على كل أحد,معرفة التوحيد وأركان الإسلام بالدليل ، ولا يجوز التقليد في ذلك ، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه ورسالة محمد ﷺ ويؤمن بالبعث بعد الموت ، والجنة والنار ، ويعتقد أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال ، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شك فيه فهو مسلم ، وإن لم يترجم بالدليل ، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل ، فإنهم لا يفهمون المعنى غالباً " ([17]).
والسعي في طلب العلم,لمعرفة الله ومعرفة نبيه و معرفة الدين,من أجلّ العبادات
وأفضل من نوافلها ، قال الزهري رحمـه الله : " ما عبد الله بشيء أفضـل من العلم " ([18]).
وقال أحمد رحمه الله : " طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته "([19]). وهو الميراث النبوي ونور القلوب ، وأهله هم أهل الله وحزبه,وأولى الناس به وأقربهم إليه,وأخشاهم له,وأرفعهم درجات .
وهو من أجل الأعمال . قال أحمد رحمه الله : " العلم لا يعدله شيء " ([20]).
قال ابن القيم رحمه الله : " وهو – أي العلم الشرعي - حياة القلوب,ونور البصائر,وشفاء الصدور,ورياض العقول,ولذة الأرواح ، وأنس المستوحشين ، ودليل المتحيرين ، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال ، به يعرف الله ويعبد,ويذكر ويوحد,ويحمد ويمجد ، وبه اهتدى إليه السالكون ، ومن طريقه وصل إليه الواصلون ، ومن بابه دخل عليه القاصدون ، به تعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام ، وبه توصل الأرحام ، وهو إمام والعمل مأموم وهو قائد والعمل تابع ، وهو الصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة ، والكاشف عن الشبهة ، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنـزه " ([21]).
وحاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى المأكل والمشرب ، قال الإمام أحمد رحمه الله : " الناس إلى العلم,أحوج منهم إلى الطعام والشراب ، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " ([22]).
وطلب العلم مفضل على الجهاد في سبيل الله ، قال ابن عباس t :" الغدو والرواح في تعلم العلم,أفضل عند الله من الجهاد في سبيل الله عز وجل " ([23]). وقال الإمام أحمد رحمه الله :" تعلم العلم,وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره " ([24]). وقال الإمام أبو حنيفة ومالك رحمهما الله :" أفضل ما تطوع به,العلم وتعليمه" ([25]). وقال ابن القيم رحمه الله : " لا يعدل مداد العلماء,إلا دم الشهداء "([26]) .
والعلم أفضل ما عمرت به الأوقات ، وخير ما أنفقت فيه الأنفاس,وبذلت فيه المهج ، قال النووي رحمه الله : " اتفق جماعات السلف على أن الاشتغال بالعلم,أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة,والصوم,والتسبيح,ونحو ذلك من أعمال البدن " ([27]) . قال علي بن أبي طالب t :
" فعش بعلم ولا تبغي له بدلا ** الناس موتى وأهل العلم أحياء " ونصيحة العلماء هي التزود من العلم ، قال ابن الجوزي رحمه الله :" وما أزال أحرص الناس على العلم لأنه النور الذي يهتدى به "([28]). والسعادة إنما هي في العلم ، قال ابن القيم رحمه الله : " السعادة كلها في العلم وما يقتضيه ، والله يوفق من يشاء لا مانع لما أعطى,ولا معطي لما منع ، وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها وُعُورَة ُطريقها,ومرارة مباديها,وتعب تحصيلها ، وأنها لا تنال إلا على جد من التعب,فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض " ([29]) . ولم يأمر الله نبيه الازدياد من شيء إلا من العلم,فقال عز وجل } وقل رب زدني علماً { , ومن أراد الله به خيراً فقهه في الدين قال ﷺ :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه ([30]).
ومن علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل,وأنه كلما علت مرتبته في العلم والعمل زادت المرتبة في دار الجزاء , انتهب الزمان ولم يضيع لحظة , ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها , ومن وفق لهذا , فليبتكر زمانه بالعلم , وليصابر كل محنة وفقر , إلى أن يحصل له ما يريد ، فالراحة لا تنال بالراحة ، قال الفضيل بن عياض :
"اعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ** فإنما الربح والخسران في العمل" ([31]). وليكن مخلصاً في طلب العلم عاملاً به , حافظاً له , ومن فاته الإخلاص , فذلك تضييع زمان وخسران جزاء , ومن فاته العمل به , فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له .
والمراد من العلم : العلم الشرعي الذي يفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه,الذي لا حياة له إلا به , إذ هو الجالب لخشية الله قال سبحانه : } إنما يخش الله من عباده العلماء { قال ابن القيم رحمه الله : " ولا عبد الله وحده وحمد, وأثني عليه ومجد إلا بالعلم ، ولا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم، ولا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم , ولا فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم " ([32]).
ولا دليل إلى الله والجنة,إلا الكتاب والسنة,ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم,إلا بالعلم بالله ، وفي الجهل والغفلة عن العلم,زوال النعم وحلول النقم . قال ابن القيم رحمه الله : " فما خراب العالم إلا بالجهل ، ولا عمارته إلا بالعلم,وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قل الشر في أهلها,وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد ([33]). فعلى العاقل أن لا يضيع أوقات عمره وساعات دهره,إلا في طلب العلم النافع .
الثانية :( العمل به )
المسألة ( الثانية ) الواجب علينا تعلمها ( العمل به ) أي بالعلم ، إذ هو ثمرة العلم ومن أسباب رسوخه ، قال بعض السلف :" كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" ( ). ومن عمل بما علم حفظ الله عليه علمه وأثابه علماً آخر ما لا يعرفه ، كما أن العمل به من أسباب زيادة الإيمان قال سبحانه : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ، قال الشـوكاني رحمه الله:" زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين ( ) "، والسعيد من حقق العلم والعمل قال النووي رحمه الله : " الحكمة : العلم المشتمل على المعرفة بالله,مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس,وتحقيق الحق للعمل به ، والكف عن ضده ، والحكيم من حاز ذلك" ( ) .
فإذا عمل الإنسان بعلمه بأن حافظ على فرائض الله ، ولازم النوافل كالسنن الرواتب والوتر ، وتلاوة القرآن والاستغفار بالأسحار ، وألزم نفسه ساعة يجلسها في المسجد للذكر - وأحسن ما يكون بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس - فقد تسبب للعمل بعلمه ،كذلك يجتنب مجالس اللغو والغفلة,ويعادي مجالس أهل الغيبة وساقط الكلام ، ويحفظ لسانه مما لا يعنيه ، ومن لم يعمل بما علم حرم لذة العلم والخشية ، وأوشك الله أن يسلبه ما علم وكان في عداد الجاهلين قال الفضيل بن عياض رحمه الله : " لا يزال العالم جاهلاً حتى يعمل بعلمه ، فإذا عمل به كان عالماً " ([34]). ومن لم يعمل بعلمه فعلمه حسرة عليه يوم الحساب ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه " رواه الترمذي ([35]) .
والذي معه علم ولا يعمل به شر من الجاهل ، وهو أحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة ([36])،وفي ذلك يقول ابن رسلان رحمه الله :
" وعالم بعلمه لم يعملن ** معذب من قبل عباد الوثن " ([37]). ومن علم مسألة من المسائل قامت عليه الحجة فيها ولو لم يكن من العلماء,قال عليه الصلاة والسلام : " والقرآن حجة لك أو عليك " رواه مسلم ([38]) . ومن عمل بلا علم فقد شابه النصارى ، ومن علم ولم يعمل فقد شابه اليهود ، والعالم من عمل بعلمه وإن كان قليل العلم ، ومقصود الشريعة في تحصيل العلم هو العمل به ، مما يجلب خشية الله ويقرب من الخالق . *
الثالثة : الدعوة إليه ،
-----------------------------------
المسألة (الثالثة ) الواجب علينا تعلمها ، والعمل بها ( الدعوة إليه ) جل وعلا وتعليم الناس ، وإرشادهم ، ونصيحتهم . والدعوة إليه سبحانه من أجل الأعمال ، وهي طريقة الرسل قال جل وعلا : } قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { . قال ابن كثير رحمه الله : " يقول تعالى لرسوله ﷺ إلى الثقلين الإنس والجن ، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي:طريقته ومسلكه وسنته,وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان ، هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي" ([39]).
وقول الداعية : أحسن الأقوال وأزكاها عند الله ، قال سبحانه : } وَمَنْ أَحْسَنُ قَولا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {. والمسلم إذا عرف معبوده ونبيه ﷺ ودينه ومنَّ الله عليه بالتوفيق لذلك ، فإن عليه السعي إلى إنقاذ غيره بدعوته إلى الله تعالى ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " مقصود الدعوة النبوية ، بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل,أن يكون الدين كله لله,وهو دعوة الخلائق إلى خالقهم " ([40]). وأعلى مراتب الدعوة : الدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك ، فإنه ما من نبي بعث إلى قومه إلا ودعاهم إلى طاعة الله وإفراده بالعبادة,ونهاهم عن الشرك ووسائله وذرائعه،ثم يبدأ الداعية بعد ذلك بالأهم فالأهم من شرائع الإسلام ، مصطحباً الحكمة معه في كل قول وعمل ممتثلاً قول الله : } ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ { .
ومن قام بالدعوة إلى الله مخلصاً لله متبعاً هدي النبي ﷺ كان من أتباع الرسل حقاً ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء ، هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوة إلى الله والرسول ، فهؤلاء أتباع الرسول حقاً ، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكـثير ، فزكت في نفسها وزكـى الناس بها " ([41]) .
وأجور الداعي إلى الله متواصلة عبر الدهور ، يقول النبي ﷺ : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " رواه مسلم ([42]) . والسعي إلى هداية الخلق خير من زخرف الحياة يقول النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب t :" لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " متفق عليه ([43]).
ومقصود الشرائع إرشاد الناس إلى معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالعلماء ورثة الأنبياء عليهم بيان ما جاء به الرسول ﷺ ورد ما يخالفه " ([44]) ، وحاجتهم إلى الدعوة والبصيرة في الدين أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به ﷺ واتباعه منها إلى الطعام والشراب,فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا,وذاك إذا فات حصل العذاب " ([45]). والدعوة ذات مجالات واسعة , فالتعليم وإرشاد العاصي وتنبيه الغافل وإسداء النصيحة والتوجيه للخير ، كل ذلك من الدعوة إلى الله , يقول النبي ﷺ : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله "رواه مسلم ([46]) ، ومن أعرض عن تعليم الآخرين وإرشادهم وتعليمهم أمر دينهم ، فقد عرض نفسه للوعيد قال سبحانه : } إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ { . قال ابن المبارك رحمه الله : " من بخل بالعلم ابتلي بثلاث : إما أن يموت فيذهب علمه ، أو ينساه,أو يتبع السلطان " ([47]) .
فواجب على كل مسلم الدعوة إلى الله ، ونصح المقصر ، والسعي إلى إصلاح المجتمع كلٌّ بحسبه . *
الرابعة : الصبر على الأذى فيه
المسألة : ( الرابعة ) من المسائل الواجب علينا معرفتها والعمل بها ( الصبر على الأذى فيه ) أي : في جنب الله عز وجل.
وميدان الداعية صدور الرجال وهي متباينة ومختلفة كاختلاف صورهم وأشكالهم ، ومن قام بدين الإسلام ، ودعا الناس إليه،فقد تحمَّل أمراً عظيماً وقام مقام الرسل في الدعوة إلى الله ، والداعي يحول بين الناس وبين شهواتهم وأهوائهم واعتقاداتهم الباطلة ، وقد يؤذونه فعليه أن يصبر ويحتسب . قال الإمام مالك رحمه الله : " لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء " ([48]) .
والصبر: ثبات القلب عند موارد الاضطراب ، والدين كله يحتاج إلى صبر ، وأصل هذه الكلمة هو : المنع والحبس فالصبر حبس النفس عن الجزع ، واللسان عن التشكي ، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوها ، وأما حقيقته فهو خلق فاضل يمنع من فعل ما لا يحسن ولا يجمل ، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا ينال الهدى إلا بالعلم ، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر " ([49]) . وبالصبر واليقين اللذين هما أصل التوكل تُنال الإمامة في الدين . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماماً في الدين " ([50]) . فكن سائراً في الدعوة إلى دين الله وإن أوذيت فأذية الداعي إلى الخير من طبيعة البشر ، قال الله لنبيه : ] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [ ، والرسل أوذوا بالقول والفعل ، قال الله :] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ( ، بل إن منهم من تعرض للقتل ، قال سبحانه : ) أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ( ، ومن قام بما قام به الرسل ناله ما نالهم ، قال سبحانه : ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [ ، وبالصبر مع التقوى لا يضر كيد العدو قال تعالى : } وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُـواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ { .
ولا مناص من ابتلاء الداعية إلى الله " سأل رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى ؟ فقال الشافعي : لا يمكَّن حتى يبتلى ، فإن الله ابتلى نوحاً ، وإبراهيم ، ومـوسى ، وعيسى ، ومحمداً ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فلما صـبروا مكَّنهم فلا يظن أحداً أن يخلص من الألم البتة " ([51]) .
ومن اعتاد الصبر هابه عدوه ، ومن عزَّ عليه الصبر طمع فيه عدوه . فليوطن المسلم نفسه على الصبر ، وليثق بالثواب من الله ، فإنه من وثق بالثواب لم يضره مس الأذى ، والمؤمن همَّته فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور ، والإنسان إذا لم يصبر وقع فيما حرم الله عليه أو ترك ما أوجب الله عليه .*
والصبر من أهم المهمات لمن علم فعمل فدعا ، فإن لم يصبر كان من الذين يستخفنهم الذين لا يوقنون ] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [ ،وقد أمر الله الرسل بالتحلي بالصبر قال جل وعلا : } فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ( ، ومن الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ، ومن أسباب الفلاح الصبر على تعليم الآخرين ، وبذل المجهود في الإخلاص لنفعهم ، وكلما قويت الأذية قرب النصر ، قال عليه الصلاة والسلام : " وإن النصر مع الصبر " رواه أحمد ([52]) . قال علي بن أبي طالب t : " الصبر مطية لا تكبو والقناعة سيف لا ينبو " ([53]) .
وليس النصر مختصاً بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق بل النصر يكون ولو بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولاً لما دعا إليه ، وأخذاً وتمسكاً به ، والصابر ظافر بعزِّ الدنيا والآخرة لأنه نال من الله معيته قال تعالى : } إن الله مع الصابرين { ، قال ابن القيم رحمه الله :" يثقل الميزان باتباع الحـق والصبر عليه ، وبذله إذا سئل ، وأخذه إذا بذل "([54]). والفلاح معلق بالصبر والتقوى ، قال سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { .
وقد بشر الله الصابرين بثلاث كلٌ منها خير مما عليه أهل الدنيا يتنافسون قال سبحانه : } وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعـونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَـوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ { ، والفوز بالجنة لا يحظى به إلا الصابرون قال عز وجل : } إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ {.
وتحقيق هذه المسائل الأربع العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر من أعظم مجاهدة النفس لإصلاحها وصلاح غيرها ، قال ابن القيم رحمه الله : " جهاد النفس أربع مراتب :
إحداها أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق,الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به,ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين .
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين " ([55]). *
والدليل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم } وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ { .
--------------------------------------
( والدليل ) على أنه يجب علينا تعلم الأربع مسائل وهي العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ( قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ) أتى بالبسملة مستفتحاً بها السورة } والعصر { أقسم تعالى بالعصر، وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين ، وزمن الشقاء للمعرضين ، فهو وعاء يودع فيه العباد أعمالهم ، ولما فيه من العبر والعجائب ، والله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه وهو سبحانه الصادق وإن لم يقسم ولكنه أقسم لتأكيد المقام } إن الإنسان { أي جنس الإنسان فـي هذه الحياة } لفي خسر { أي في خسران وهلاك ونقصان ، والخاسر ضد الرابح ، والخسران مراتب متعددة متفاوتة ، فقد يكون خساراً مطلقاً كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم ، وقد يكون خساراً من بعض الوجوه دون بعض ، ولهذا عمم الله الخسران لكل إنسان } إلا { من استثنى الله في هذه السورة ممن اتصف بأربع صفات ، وهي الإيمان بالله حيث قال سبحانه } الذين آمنوا { فوقر الإيمان في قلوبهم ، ولا يكون الإيمان بدون العلم فهو فرع منه لا يتم إلا به } وعملوا الصالحات { بجوارحهم مكثرين منها مصطحبين فيها الإخـلاص مقتفين هدي النبي ﷺ وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة } وتواصوا { أي : أمر ووصَّى وحضَّ بعضهم بعضاً } بالحق { الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضاً بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه } وتواصوا { أي : ذكَّر بعضهم بعضاً } بالصبر { على المصائب والأقدار وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر, فصبروا على ما نالهم من أذى وصبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصية الله ومن قام بهذه الخصال فقد جانب الخسران ، وكان من عباد الله المفلحين ، فبالأمرين الأولين وهما الإيمان والعمل الصالح يكمِّل العبد نفسه,وبالأمرين الأخيرين وهما التواصي بالحق والصبر يكمِّل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم . والدين كله إيمان وعمل ودعوة وصبر ، قال ابن القيم رحمه الله : " السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق, ويعمل به,ويعلمه,فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات " ([56]).
قال الشافعي رحمه الله :" لوما أنزل الله حجـة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم " .
---------------------------------------
فسورة العصر تنبيه على أن جنس الإنسان كله في خسارة إلا من استثنى الله وهو من كمَّل قوته العلمية بالإيمان بالله ، وقوته العملية بالطاعات ، فهذا كماله في نفسه,ثم كمَّل غيره بوصيته له بذلك وأمره به ، وملاك ذلك الصبر وهذا غاية الكمال ، قال ابن القيم رحمه الله : " قالت العقلاء قاطبة : النعيم لا يدرك بالنعيم والراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات "([57]).
والعاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها فلابد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع,فهي سورة عظيمة جمعت أربع قواعد يَسيرُ عليها المسلم في حياته ( قال) الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس ( الشافعي رحمه الله) ([58]). عن هذه السورة : ( لو ما أنزل الله ) من القرآن ( حجة ) وبرهاناً وإعذاراً وإنذاراً ( على خلقه ) المكلفين ( إلا هذه السورة ) العظيمة الجامعة ( لكفتهم ) ([59]) في إلزامهم بالتمسك بالدين ، والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله ، والصبر على ذلك ، فتضمنت جميع مراتب الكمال الإنساني ، قال ابن القيم رحمه الله :" الكمال: أن يكون الشخص كاملاً في نفسه, مكمِّلاً لغيره ، فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره "([60]).
فهذه السورة من المبشرات المنذرات للعبد ، فليقف العبد عندها وليزن بها نفسه ، قال ابن رجب رحمه الله :" هذه السورة ميزان للأعمال يزن المؤمن بها نفسه، فيبين له بها ربحه من خسرانه " ([61]). فهي سورة حقيقة بأن يقال فيها ما قاله الأئمة عنها لعظيم شأنها. *
( وقال البخاري رحمه الله تعالى : باب العلم قبل القول والعمل ، والدليل قوله تعالى :) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ {، فبدأ بالعلـم قبل القول والعمل ) . ------------------------------------------ ولأهمية طلب العلم قبل العمل لئلا يعبد الإنسان ربه على ضلالة ، ( قال ) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ( البخاري رحمه الله ) ([62]) في صحيحه ([63]):( باب ) أي : هذا باب فيه أن ( العلم ) الشرعي وطلبه ( قبل القول ) دعوةً إليه,وقبل ( العمل ) به ( والدليل ) على هذه المسألة قوله تعالى } فاعلم { يا محمد أنه ( لا إله ) معبود بحق ( إلا الله ) وحده لا شريك له ( واستغفر لذنبك ) بسؤال المغفرة وفعل أسبابها قال البخاري رحمه الله : ففي هذه الآية ( بدأ ) الله ( بالعلم ) قال المصنف رحمه الله : وذلك (قبل القول والعمل ) فإذا علم,عمل على بصيرة وهدى ، وكل عمل لا يقوده العلم فهو ضرر على صاحبه ، قال ابن القيم رحمه الله : " العلم إمام العمل وقائد له,والعمل تابع له ومؤتم به,فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا, به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه,كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم, كان ما يفسد أكثر مما يصلح " ([64]).
فمرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل ، والعلم شرط في صحة القول والعمل فلا يعتبران إلا به ، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح النية المصححة للعمل. *
( اعلم ([65]) رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن ) .
----------------------------------
ولما فرغ المصنف رحمه الله من ذكر أربع مسائل يجب علينا تعلمها, أعقبها بذكر ثلاث مسائل يجب علينا تعلمها والعمل بها, فقال : ( اعلم ) علم اليقين داعياً لك قائلاً : ( رحمك الله ) بأن ينزل عليك رحمته وفضله ( أنه يجب ) وجوباً عينياً ( على كل مسلم ) مكلف ذكر ، وعلى كل ( مسلمة ) مكلفة ( تعلم ) واعتقاد ( ثلاث هذه المسائل ) الأولى: في توحيد الربوبية ، والثانية: في توحيد الألوهية ، والثالثة: في الولاء والبراء قال عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " وهذا هو حقيقة دين الإسلام, ولكن قف عند هذه الألفاظ, واطلب ما تضمنت من العلم والعمل ، ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منها " ([66]). ( والعمل بهن ) وبما دلت عليه لأنها قاعدة الدين وأساس الاعتقاد .
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة
-------------------------------------
المسألة ( الأولى ) في توحيد الربوبية, وهي من المسائل الثلاث الواجب علينا تعلمها وهي ( أن الله ) عز و جل ( خلقنا ) من عدم كما قال تعالى: } هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا { ، ثم صورنا أحسن صورة كما قال جل وعلا : } لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ { ، ( ورزقنا ) النعم, فلم يتركنا سبحانه عراة أو جياعاً, بل جعل رزقه موصولاً بخلقه وتكفل به قال عز وجل } وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها { ، فسبحانه أوجدنا من العدم ورزقنا النعم لنعبده وحده ، قال عز وجل : } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إ نَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { ، ( ولم يتركنا هملاً ) سدى مهملين, لا نؤمر ولا ننهى قال تعالى : } أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ { ، وقال تعالى } أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى { ، ولم يتركنا سبحانه حيارى لا نعلم ما هو الحق ؟ وأين هو ؟ وكيف نصل إليه ؟ وكيف نتحصل عليه ؟ ( بل أرسل إلينا رسولاً ) معه الحق سهلاً ميسراً يهدي إليه, لنستقيم على ما فيه من الهدى, ونعمل بما فيه من الأوامر ( فمن أطاعه دخل الجنة ) لأن طاعته طاعة لله قال تعالى } وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { .
وأفضل الخلق وأعلاهم وأقربهم إلى الله, أتمهم لله عبودية ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالكمال في كمال طاعة الله ورسوله ﷺ باطناً وظاهراً " ([67]) , فالغاية من إرسال الرسل طاعتهم واتباعهم فيما جاؤوا به من عند الله تعالى . *
ومن عصاه دخل النار و الدليل قوله تعالى : } إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا{
----------------------------------
وشقاء المخلوق في عصيان الرسول ﷺ لأن ( من عصاه دخل النار ) قال تعالى } وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا{ . قال عليه الصلاة و السلام " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى فقيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى "رواه البخاري ([68]) . ( والدليل ) على التحذير من عصيانه ( قوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم ) يا أمة محمد ( رسولاً ) وهو خاتم المرسلين محمد ﷺ ( شاهداً عليكم ) بأعمالكم ( كما أرسلنا ) موسى عليه السلام كليم الرحمن ( إلى ) الطاغية (فرعون رسولاً ) وجيهاً عندنا من أفضل الرسل ( فعصى فرعون الرسول ) الذي أرسل إليه وإلى قومه وهو موسى عليه السلام ( فأخذناه ) أي فرعون ( أخذاً وبيلاً ) أي شديداً,وذلك بإغراقه وجنوده في البحر فلم يفلت منهم أحد, ثم بعد ذلك في عذاب القبر إلى يوم القيامة, ثم عذاب النار قال تعالى : } النار يعرضون عليها { أي في القبر, يعذبون بها } غدواً {, أي أول النهار,} وعشياً {,أي آخره } ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب {,فهذه عاقبة العاصين للرسل,وجزاء المخالفين لأمرهم .
فلتحذر أمة محمد ﷺ من تكذيب رسولها, فيصيبها ما أصاب فرعون, حيث أخذه الله أخذ عزيزٍ مقتدر.قال ابن كثير رحمه : "وأنتم أولى بالهلاك و الدمار إن كذبتم رسولكم لأن رسولكم, أشرف وأعظم من موسى بن عمران " ([69]).
فالخير في طاعة الرسل , والبؤس في عصيانهم قال سبحانه وتعالى : } مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الإيمان بالله ورسوله,هو جماع السعادة وأصلها " ([70]) . *
الثانية : أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .
----------------------------------
ولكون المسألة الأولى في توحيد الربوبية,ولأن توحيد الربوبية دال على توحيد الألوهية ومستلزم له,ذكر تحقيق ذلك في المسألة ( الثانية ) وهي في توحيد الألوهية,وهي من المسائل الثلاث الواجب علينا تعلمها ومعرفتها واعتقادها, فكما أنه الخالق الرازق الذي خلقك وأعطاك النعم ( فإن الله لا يرضى ) بل يمقت أشد المقت ( أن يشرك معه ) ويساوي أي ( أحد ) كان في عبادته وطاعته ( لا ملك ) من الملائكة ( مقرب ) عنده ، ( ولا نبي مرسل ) من البشر أرسله,فضلاً عن غيرهم من سائر المخلوقات,لأنهم لا يستحقون العبادة . قال ﷺ : " إن الله يرضى لكم ثلاثاً, ويكره لكم ثلاثا,ً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم, ويكره لكم قيل وقال, وإضاعة المال, وكثرة السؤال " رواه مسلم ([71]) . وأخبر تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر قال سبحانه وتعالى : } إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ { ، وأخبر أنه يرضى لعباده الإسلام, وهو عبادة الله مخلصاً له الدين قال تعالى : } وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا { فإذا لم يرض سبحانه بعبادة من كان قريباً منه, كالملائكة, أو الأنبياء والمرسلين, وهم أفضل الخلق, فغيرهم بطريق الأولى , لأن العبادة لا تصلح إلا لله وحده ، فكما أنه المتفرد بالخلق و الرزق والتدبير ، فهو المستحق للعبادة وحده دون من سواه, فالمسلم يجمع بين أمرين ، يؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر ، ويؤمن بأنه سبحانه هو وحده المستحق للعبادة ، من ذبح وصلاة و نذر وحلف وغيرها ، وأن عبادة من سواه باطلة . *
والدليل قوله تعالى: } وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{
------------------------------------
( و الدليل ) على أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته كائناً من كان ( قوله تعالى : ( وأن المساجد ) أي : أماكن الصلوات أو أعضاء السجود ( لله ) لا لأحد سواه, فلا تسجدوا بها ولا فيها لغيره ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) لا ملكاً من الملائكة, ولا نبياً, ولا ولياً, ولا غيرهم ، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة ، فدعاؤهم من دون الله هو الشرك الأكبر, والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة منه قال تعالى: } إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء { ، فهو سبحانه المتفرد بالوحدانية ، وهو القاهر فوق عباده القوي المتين ، لا يرضى أن تصرف العبادة لغيره ، أو أن يجعل المخلوق الضعيف شريكاً له في العبادة, لكون غيره لا يستحق شيئاً من ذلك. *
الثالثة : أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب .
----------------------------------
المسألة ( الثالثة ) في الولاء والبراء, وهي من المسائل التي يجب على المكلف معرفتها ، واعتقادها ، والعمل بها وذلك ( أن من أطاع الرسول ) فيما أمر به ، واجتنب ما نهى عنه ( ووحد الله ) في عبادته، وهذا فيه شحذ الهمم للعمل بهذه المسألة وفق النصوص الشرعية ، فكأنه يقول لك: أنت رجل موحد وتطيع الرسول ﷺ فاعمل بهذه المسألة العظيمة وهي أنه ( لا يجوز له ) أي للموحد المطيع للرسول ﷺ ( موالاة ) ومحبة ( من حاد ) وعادى ( الله ورسوله ) بل يجب عليه أن يقاطعهم و يعاديهم ( ولو كان ) من حاد الله ورسوله ( أقرب قريب ) سواء كان أباك ، أو ابنك أو أخاك ، فإن الله قطع التواصل والتواد, والقرب حقيقةً إنما هو قرب الدين لا قرب النسب ، فالمسلم ولو كان بعيد الدار فهو أخوك في الله , و الكافر ولو كان أخاك في النسب فهو عدوك في الدين .
والدليل قوله تعالى : } لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .
---------------------------------------
( والدليل ) على أنه لا تجوز موالاة من حاد الله ورسوله ( قوله تعالى } لا تجد{ يا محمد } قوماً { أي طائفة و الحكم أيضاً يسري على الأفراد } يؤمنون بالله { إيماناً حقيقياً } واليوم الآخر { وبما أعد الله فيه من الثواب والعقاب } يوادون { يوالون و يحبون } من حاد { أي عاد وخالف أمر } الله ورسوله{ بالكفر والعصيان ، أي : لا يجتمع هذا وهذا, فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا إذا كان عاملا ً بمقتضى إيمانه ولوازمه ، ومن ذلك محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به و معاداته } ولو كانوا أبائهم { الذين خرجوا من أصلابهم } أو أبنائهم { الذين ولدوا على فراشهم } أو إخوانهم { في النسب } أو عشيرتهم { الأقربين منهم . *
} أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {.
--------------------------------------
} أولئك{ أي الذين حققوا الولاء والبراء } كتب في قلوبهم الإيمان { أي ثبَّته وغرسه غرساً لا يتزلزل و لا تؤثر فيه الشبه و الشكوك, فهي موقنة مخلصة . } وأيدهم { الله وقوَّاهم } بروح منه { أي بوحيه ومدده الإلهي, وإحسانه الرباني, وكتب لهم السعادة, وزين الإيمان في بصائرهم ، وسمى الله نصره إياهم روحاً, لأنه به حيَا أمرهم } ويدخلهم جنات { في دار القرار , فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر } تجري مـن تحتها الأنهار { زيادة في نعيمهم } خالدين فيها { منعمين أبد الآباد, وزادهم بأن } رضي الله عنهم { فأحل عليهم رضوانه } ورضوا عنه { وأحبوه و شكروا إنعامه وأفضاله ، فإنهم لمّا أسخطوا القرائب و العشائر في الله, عوضهم الله بالرضا عنهم, وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم, و الفوز العظيم . } أولئك حزب الله { أي : عباد الله وأهل كرامته, وأولياؤه المقربون, وأنصاره في أرضه } ألا إن حزب الله هم المفلحون { الفائزون بالظفر والسعادة في الدنيا والآخرة . *
فمن حقق البراء فقد أخبر الله أنه يجازيه بأمور :
1- جمع الإيمان في قلبه وثباته فيه (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ) 2- تأييد الله له بالنور والهدى } وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ { وسماه روحاً, لأنه سبب الحياة الطيبة . وهذا الأمر مع الذي قبله من الثواب في الدنيا .
3 - دخول الجنة } وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا { .
4 - رضا الرب سبحانه عنه } رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { وهذا من الزيادة في النعيم كما قال تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) .
5 - رضا العبد في الآخرة بدخوله الجنة وما فيها من الكرامة } وَرَضُوا عَنْهُ {
6 - إكرام الله لهم, بأن جعلهم من خاصته وحزبه المفلحين } أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { .
قال في تيسير الكريم الرحمن : " وأما من يزعم أنه يؤمن بالله و اليوم الآخر وهو مع ذلك مواد لأعداء الله ، محب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره ، فإن هذا الإيمان زعمي لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان تصدقه ، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها"([72]).
والولاء والبراء أصل عظيم من أصول الدين قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين, والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء " ([73]). وهو معنى كلمة التوحيد ، وهو من الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد, و الانقياد له بالطاعة, والبراءة من الشرك وأهله , قال شيخ الإسلام رحمه الله : " والبراءة ضد الولاية, وأصـل البراءة البغض ، وأصل الولاية الحب ، وهذا لأن حقيقة الـتوحيد أن لا يحب إلا الله ويحب ما يحبه اللـه لله, فلا يحب إلا للـه, ولا يبغض إلا لله " ([74]) .
والمسلم يحب من يحب الله ويعادي من عاداه الله , والله يبغض الكافر قال تعالى : } إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ { ، والكافر عدو لله وللمؤمنين ، قال سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ { ، والولاء والبراء من تمام محبة الله قال شيخ الإسلام رحمه الله : " من تمام محبة الله ورسوله, بغض من حاد الله ورسوله, والجهاد في سبيله " ([75]) .
وإذا قوي الإيمان في القلب قوي جانب الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين قال شيخ الإسلام رحمه الله :" إذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله,أوجب بغض أعداء الله "([76]) ، وإذا أخل العبد بجانب الولاء و البراء استحق العقاب قال سبحانه : } لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء { ، أي : أصدقاء وأحباب من دون المؤمنين } ومن يفعل ذلك فليس من
الله في شيء { ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" والموادة من أعمال القلوب,
فإن الإيمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله, وذلك يناقض موادة من حاد الله ورسولـه ، وما ناقـض الإيمان فإنه يستلـزم العزم والعقاب, لأجل عدم الإيمان " ([77]) . *
والإعراض عن المشركين بالجسد لا يكفي في البراء, بل يجب مع ذلك البغض بالقلب, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركاً محضاً ، بل صادراً عن بغض وعداوة " ([78]).
ومع بغضهم وعداوتهم والبراءة منهم ومن معبوداتهم, فإن الإسلام حرم قتل الكافر المعصوم, وهو الذمي والمعاهد والمستأمن ([79]) وحرم سلب ماله, أو ظلمه, أو الاعتداء عليه, قال النبي ﷺ : " من قتل معاهداً, لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً " رواه البخاري ([80]). بل يجب مع بغضه دعوته إلى الله بالحكمة والبصيرة, كما فعل النبي ﷺ مع المشركين ، ودين الإسلام وسط في معتقد الولاء والبراء, لا إفراط فيه بقتل الكفار المعصومين, ولا تفريط فيه بالموالاة المحرمة أو التولي المخرج من الملة ، ويجب على المسلم أن يكون عدلاً في أداء تلك العبادة العظيمة بين الإفراط والتفريط ، وأن يكون عمله بها منوط بالعلم بها على ضوء ما جاءت به الشريعة .
واعلم أن الولاء والبراء مع المشركين ينقسم إلى قسمين :
1 - التولي ، ومعناه : محبة الشرك وأهله ، أو نصرة الكفار على المؤمنين ، أو الفرح بذلك ، أو مظاهرتهم ومعونتهم على المسلمين ، وهذا كفر أكبر قال تعالى : } وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { قال البغوي :" إيمان المؤمن يفسد بموادة الكفار "([81]). وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : أن هذا من نواقض الإسلام قال رحمه الله : الثامن – أي من نواقض الإسلام مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى : } ومن يتولهم منكم فإنه منهم { ([82]).
2 - الموالاة وهي : الموادة والصداقة ، ضد المعاداة والمحادة . قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فإن الولاية ضد العداوة , والولاية تتضمن المحبة والموافقة , والعداوة تتضمن البغض والمخالفة " ([83]) .
وضابطها : أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا ، ولا تكون معه نصرة ، وهذا كبيرة من الكبائر قال تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ { . قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة ، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه, ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة " ([84]) .
والكافر يعامل معاملة ظاهرة بدون ميل ومحبة في القلب ،وقد سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ([85]) عن الفرق بين الموالاة والتولي ؟ فأجاب : " التولي كفر يخرج من الملة, وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب, كبـل الدواة, أو بري القلـم, أو التبشش لهم, أو رفع السوط لهم " ([86]). فالإيمان الواجب يوجب محادة من حاد الله ورسوله ، كما أنه يستلزم محبة من يحب الله ورسوله وموالاتهم، فمن والى الكافرين فقد ترك واجباً من واجبات الإيمان . قال شيخ الإسلام رحمه الله : " لابد في الإيمان من محبة القلب لله ولرسوله ، ومن بغض من يحاد الله ورسوله "([87]). *
وللموالاة والتولي صور عديدة ذكرها الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بقوله :" قد نهى الله سبحانه عن موالاة الكفار وشدد في ذلك , وأخبر أن من تولاهم فهو منهم , وكذلك جاءت الأحاديث عن النبي ﷺ وأخبر النبي ﷺ أن " من أحب قوماً حشر معهم " رواه الحاكم والبيهقي([88])، ويفهم مما ذكرنا من الكتاب والسنة والآثار عن السلف ([89]) أمور من فعلها دخل في تلك الآيات , وتعرض للوعيد بمسيس النار , نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه : ( أحدها ) التولي العام ( الثاني ) المودة والمحبة الخاصة ، ( الثالث ) الركون القليل قال تعالى } وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا { ، فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره ؟! ( الرابع ) مداهنتهم ومداراتهم قال تعالى : } وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ { ، ( الخامس ) طاعتهم فيما يتولون وفيما يشيرون كما قال تعالى } وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا { ، وقال تعالى } وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ { ، ( السادس ) تقريبهم في الجلوس والدخول على أمراء الإسلام ، ( السابع ) مشاورتهم في الأمور ، ( الثامن ) استعمالهم في أمر من أمور المسلمين , أيُّ أمر كان, إمارة أو عمالة أو كتابة, أو غير ذلك . ( التاسع ) اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، ( العاشر ) مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم ( الحادي عشر ) البشاشة لهم والطلاقة ، ( الثاني عشر ) الإكرام العام ، ( الثالث عشر ) استئمانهم وقد خونهم الله ، ( الرابع عشر ) معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل, كبري القلم, وتقريب الدواة, ليكتبوا ظلمهم ( الخامس عشر ) مناصحتهم([90]) ، ( السادس عشر ) اتباع أهوائهم، ( السابع عشر ) مصاحبتهم ومعاشرتهم . ( الثامن عشر ) الرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم . ( التاسع عشر ) ذكر ما فيه تعظيم لهم كتسميتهم سادات وحكماء ، كما يقال للطواغيت : السيد فلان ، أو يقال لمن يدعي علم الطب " الحكيم " ونحو ذلك ، ( العشرون ) السكنى معهم في ديارهم كما قال ﷺ :" من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " رواه أبو داود ([91]) ، إذا تبين هذا, فلا فرق في هذه الأمور بين أن يفعلها مع أقربائه منهم, أو مع غيرهم , كما في آية المجادلة " ([92]).
وكما أن الكفار يجب بغضهم فكذلك الفاسق يبغض لفسقه, ولكن يُعطى من الموالاة بقدر إيمانه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" والواجب موالاة أولياء الله المتقين من جميع الأصناف, وبغض الكفار والمنافقين من جميع الأصناف ، والفاسق الملِِّي يُعطى من الموالاة بقدر إيمانه, ويعطى من المعاداة بقدر فسقه " ([93]).
فالواجب على المؤمن معاداة من حادَّ الله ورسوله وبُغْضُه ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته إلى الحق، فالمؤمن يحب أولياء الله ويتعاون معهم على الخير , ويكره أعداء الله ويبغضهم ويعاديهم في الله حتى وهو يدعوهم إلى الله ، ومن عادى في الله من يبغضه الله ، عوضه الله مودة عظيمة لغيره ، فإبراهيم عليه السلام لما اعتزل أباه وقومه لكفرهم, أقر الله عينه بإسماعيل ومن ثم إسحاق ، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا من سلالته ، قال تعالى : } فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا { . *
اعلم ([94]) أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ،
--------------------------------------
قال المصنف رحمه الله ( اعلم أرشدك الله ) وهداك ووفقك ( لطاعته ) والدعاء بالرشاد إلى الطاعة هو من خير الأدعية وأجمعها وقد قال النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا علي " قل: اللهم اهدني وسددني, واذكر بالهدى هدايتك الطريق, والسداد سداد السهم "رواه مسلم ([95]). وإذا نال العبد طاعة الله فقد نال الخير كله ، ولكي تظفر بالخير اعلم ( أن الحنيفية ) هي إفراد الله بالعبادة بأن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين ، فلا تصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله وحده ، فمن فعل ذلك فهو المسلم الحنيف المقتفي أثر المرسلين.
والحنيف: مشتق من الحنف وهو الميل, فالحنيف هو المائل عن الشرك قصداً إلى التوحيد, والحنيف المستقيم المستمسك بالإسلام ، المقبل على الله ، المعرض عن كل ما سواه ، وكل من كان على دين إبراهيم عليه السلام فهو حنيف . قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالدين الحنيف ، هو الإقبال على الله وحده, والإعراض عمَّا سواه " ([96]) .
ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصاً له الدين
-----------------------------------
والحنيفية هي ( ملة ) إمام الحنفاء ( إبراهيم ) عليه السلام كما قال تعالى : } إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين { ، وهي أيضاً ملة ودين جميع المرسلين قال سبحانه : } ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { ، ولم يأت نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا من نسله ، لذا قال: ( ملة أبيكم إبراهيم ) فهو أبو الأنبياء عليهم السلام ، ودين جميع الأنبياء هو الإسلام قال عز وجل : } إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ { ، وكل دين سوى الإسلام فهو باطل قال تعالى : } وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ { .
ودين الحنفاء ( أن تعبد الله ) وتوحده ( مخلصاً ) أي مفرداً ( له ) القصد في ( الدين ) أي العبادة ومتبرءاً من عبادة من سواه ومعتقداً بطلانها, وبذلك أمر الأنبياء ، قال الله لنبينا محمد ﷺ : ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ) وأمر به جميع الناس قال جل وعلا : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ).
ولا صلاح للنفس في دنياها وآخرتها إلا بالتوحيد والإخلاص قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله ، ولا أضر عليه من الإشراك " ([97]) . *
وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {، ومعنى يعبدون يوحدون .
-------------------------------
( وبذلك ) أي : بالعبادة الخالصة لله ( أمر الله جميع الناس ) من ذكر وأنثى ( وخلقهم لها ) أي للحنيفية ملة إبراهيم, وهي الأمر بإخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى : } وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون { أي : إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم ( ومعنى يعبدون ) أي ( يوحدون ) بأن يوحدوا ويفردوا قصد القلب في الأعمال لله .
والقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يطيب ولا يطمئن, إلا بالإخلاص في عبادة الله, ولو حصل له كل ما تلتذ به المخلوقات , وإذا قوي إخلاص دين العبد لله كملت عبوديته واستغناؤه عن الخلق ، وعبادته سبحانه تكون بطاعته وطاعة رسوله ﷺ ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" ومن تدبر أحوال العالم, وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله ﷺ , وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك ، فسببه مخالفة الرسول ﷺ والدعوة إلى غير الله ، ومن تدبر هذا حق التدبر, وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه ، وفي غيره عموماً وخصوصاً " ([98]) ، ولن يستغني القلب عن الخلق إلا بأن يكون الله هو مولاه, فلا يعبد إلا إياه, ولا يستعين إلا به, ولا يتوكل إلا عليه . *
وأعظم ما أمر الله به التوحيد
--------------------------------
( وأعظم ما أمر الله به ) في كتابه, وأعظم ما أمر به رسله أممهم هو (التوحيد) بإفراد الله وحده بالعبادة مخلصاً له الدين ، وهو أعظم فريضة فرضها الله على العباد, علماً وعملاً, ولأجله أرسلت الرسل, وأنزلت الكتب, وبه تكفر الذنوب, وتستوجب, الجنة وبه النجاة من النار ، ومن لم يمتثل لهذا الأمر العظيم فجميع أعماله لا تقبل عند الله قال سبحانه : } وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا { .
ولأهمية التوحيد جاء القرآن كله متضمناً له قال ابن القيم رحمه الله : " غالب سور القرآن, بل كل سورة في القرآن ، فهي متضمنة لنوعي التوحيد ، بل نقول: قولاً كلياً أن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه ، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فهو التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الإرادي الطلبي ، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته ، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب, فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله
في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم فـ ( الحمد لله ) توحيد ، ( رب العالمين ) توحيد ، ( الرحمن الرحيم ) توحيد ، ( مالك يوم الدين ) توحيد ، ( إياك نعبد وإياك نستعين ) توحيد " ([99]) .
والتوحيد هو الأصل الذي يبنى عليه الدين كله ، وهو أعظم سبب لانشراح الصدر ، وهو ملجأ الطالبين ، ومفزع الهاربين ، ونجاة المكروبين ، وغياث الملهوفين ، قال ابن القيم رحمه الله : " ما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد ، فلا يلقي في الكُرب العظام إلا الشرك ، ولا ينجي منها إلا التوحيد ، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها "([100]) . *
وهو إفراد الله بالعبادة .
--------------------------------
والتوحيد الذي وقع فيه النزاع بين الرسل وأقوامهم هو توحيد الألوهية وتعريفه ( هو إفراد الله بالعبادة ) كالذبح والنذر والدعاء فلا تصرف أي نوع من أنواعها لغير الله .
والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية, وهو إفراد الله بأفعاله .
2- توحيد الألوهية, وهو إفراد الله بأفعال العباد .
3 - توحيد الأسماء والصفات, وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله ﷺ, من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ، ولا تمثيل.
وأعظم ما نهى عنه الشرك .
---------------------------------------
ومن حقق التوحيد بأقسامه الثلاثة فهو الموحد حقاً ، وعلى العبد أن يعلم أن
(أعظم ما نهى ) الله ( عنه ) في كتابه ، وأعظم ما نهت عنه الرسل وهو (الشرك ) وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله .
والشرك بالله أعظم من قتل النفس ومن قطع الطريق والسرقة وهو أعظم الفساد في الأرض ، ولا نجاة للعباد إلا بتوحيد الله وإفراده بالعباد ة ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وبالجملة, فالشرك والدعوة إلى غير الله, وإقامة معبود غيره ، أو مطاع متبع غير الرسول ﷺ هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود, والدعوة له لا لغيره, والطاعة والاتباع لرسول الله ﷺ "([101]) .
وأعظم ذنب عصي الله به الشرك ، قال سبحانه : } إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ { . وسئل النبي ﷺ : أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " متفق عليه ([102]) . وقال النبي ﷺ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين" متفق عليه ([103]) .
والشرك هضم للربوبية ، وتنقص للألوهية ، وسوء ظن برب العالمين ، وهو أقبح المعاصي, لأنه تسوية للمخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه. ومن أشرك في توحيد الألوهية فهو مشرك وإن أقر بتوحيد الربوبية ، فلو فرض أن رجلاً يقر إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية, ولكنه يذهب إلى القبر فيدعو صاحبه من دون الله, أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه, فإن هذا قد وقع في الشرك الأكبر . *
وهو دعوة غيره معه والدليل قوله تعالى: } وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا{
-----------------------------
وتعريف الشرك ( هو دعوة غيره معه ) الشرك هو: دعوة غير الله معه سبحانه, بأن يطلب مع الله غيره, أو يسأل مع الله آخر, أو يجعل أحداً واسطة بينه وبين الله من قبر, أو ولي بالدعاء, أو الاستعانة والتوجه إليه ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، وإن شئت قلت : هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
ومن وقع في الشرك, استحق دخول النار وحرم دخول الجنة قال جل وعلا : } إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ { وقال عليه الصلاة السلام : " من مات وهو يدعو من دون الله نداً, دخل النار "رواه البخاري ([104]) ، ( والدليل ) على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد ، وأنَّ أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك ( قوله تعالى : واعبدوا الله) أي : أفردوه جل وعلا بالعبادة ( ولا تشركوا به شيئاً ) فلا تجعلوا معه أنداداً ولا نظراء ولا أشباه لا في قليل الشرك ولا في كثيره ، واحذروا الشرك وغوائله وأسبابه .
فعلى العبد أن يحقق الإيمان به سبحانه ، والكفر بضده من الأنداد والشركاء ، فأول أمر أُمر به العباد الأمر بعبادته وتوحيده ، وأول نهي هو النهي عن ضده ثم أعقب تعالى ببقية الواجبات فقال : ( وبالوالدين إحساناً وبذي القربى ....) وتصدير الآية بالتوحيد والنهي عن الشرك, يدل على عظمة التوحيد وقبح الشرك. *
( فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة ([105]) التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمداًe ) -----------------------------------------
يجب على كل مكلف من ذكر أو أنثى, أن يعرف ثلاثة أصول عظيمة, هي أول ما يسأل عنها العبد في قبره, فإن ثبت على السؤال كان من الناجين, وإن ضل عن جواب تلك الأصول كان من الهالكين ، ( فإذا ) سئلت عنها و ( قيل لك ) ( ما ) هي ( الأصول الثلاثة التي يجب على ) كل ( إنسان ) مكلف ( معرفتها ) والعمل بمقتضاها ؟ ( فقل ) له : الأصل الأول : ( معرفة العبد ربه ) ، وهذا أصل الأصول, لتعبده على بصيرة ويقين, فتعرفه سبحانه بما تعرَّفَ به إلينا في كتابه وعلى لسان رسوله e, من وحدانيته وأفعاله وأسمائه وصفاته . وقل له : الأصل الثاني : معرفة العبد ( دينه ) الذي تعبدنا به, وهو فعل ما أوجب علينا أن نفعله وترك ما أوجب علينا تركه . وقل له : الأصل الثالث الواجب علينا معرفته هو: معرفة العبد ( نبيه محمداً e ) فإنه الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ الرسالة, ولا طريق لنا إلى ما تعبدنا به سبحانه إلا بما جاء به النبي ﷺ . وذكر المصنف رحمه الله هذه الأصول الثلاثة مجملة, ثم ذكرها بعد مفصلة أصلاً , تتميماً للفائدة, وتنشيطاً للقارئ, فإنه إذا عرفها مجملة وعرف ألفاظها وأتقنها, بقي متشوفاً إلى معرفة معانيها . وهذه الأصول الثلاثة تجمع الدين كله ، من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن هو نبيك ؟ وهي التي يُسأل عنها العبد في قبره, ومعرفتها فقط دون اعتقادها والعمل بما دلت عليه لا تنجي العبد من العذاب ، والذي ينجيه معرفتها واعتقادها مع العمل بما دلت عليه ، ولا يثبت عند السؤال في قبره إلا بذلك . وهذه الأصول الثلاثة ورد ذكرها مجتمعة في حديث العباس بن عبد المطلب t أنه سمع الرسول ﷺ يقول : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد رسولاً " رواه مسلم ([106]) . ومن رضي هذه الأصول الثلاثة وقالها عن يقين بعد قول المؤذن أشهد أن محمداً رسول الله, غفر له ما تقدم من ذنبه ، يقول النبي ﷺ : " من قال: حين يسمع المؤذن, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك, له وأن محمداً عبده ورسوله, رضيت بالله رباً, وبمحمـد رسولاً, وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه " . رواه مسلم ([107]).
قال الشيخ عبد اللطيف ([108]) بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " الرضا بهذه الأصول الثلاثة, قطب رحى الدين, وعليه تدور حقائق العلم واليقين "([109]).
( فإذا قيل لك من ربك ؟ فقل ربي الله الذي رباني وربي جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لي معبود سواه ، والدليل قوله تعالى : )الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {، وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم ) ---------------------------------
ثم شرع المصنف رحمه الله في تفصيل هذه الأصول الثلاثة أصلاً أصلاً, وبدأ بالأصل الأول, وهو معرفة العبد ربه, فقال لك : ( إذا ) سئلت و ( قيل لك ) :( من ربك ؟ ) أي : من هو معبودك وخالقك ورازقك الذي ليس لك معبود سواه ؟ ( فقل ) له معتزاً ومفتخراً ( ربي ) ومعبودي هو ( الله ) وأنا لا أعبد إلا إياه, ولا أصرف شيئاً من أنواع العبادة لغيره, فلا أركع, ولا أنحر, ولا أنذر, ولا أطوف إلا لله, كيف لا أعبده وحده وهو ( الذي ) أوجدني من العدم؟ و ( رباني ) بالنعم الظاهرة والباطنة؟ وفرج كروبي؟ وأغدق عليَّ النعم؟ وأسبغ عليَّ الخيرات؟ قال سبحانه : } وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا { بل ( وربىَّ جميع العالمين بنعمه ) وأغدق عليهم جزيل آلائه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " والرب هو : المربي الخالق الرازق الناصر الهادي, و هذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة " ([110]) وقال تعالى : } هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا { أي مضى عليه زمن طويل من العصور والدهور لم يكن فيها شيئاً مذكورا,ً أي موجوداً, بل معدوماً وإنما أوجده الله من العدم ورزقه النعم ليعبده وحده ، ( وهو معبودي ) الذي أصرف إليه جميع أنواع العبادة ، ( وليس لي معبود سواه ) أتذلل له أو أصرف له شيئاً من العبادات, فكفى بربي معبوداً فهو المستحق للعبادة ، ( والدليل ) على أن الله أغدق عليَّ وعلى جميع الخلق بالنعم ( قوله تعالى) في أول آية في كتابه العظيم ( الحمد ) وهو الثناء على المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، والألف واللام في الحمد للاستغراق أي : جميع المحامد ( لله ) المألوه المعبود بحق , فجميع المحامد له لا لغيره ( ربِّ ) وخالق ورازق ومالك ومدبر جميع ( العالمين ) من إنس وجن وملائكة وغيرهم ( وكل ما سوى الله ) مما في الكون من الجن والإنس والجبال والأشجار فهو ( عالَم ) ، والله هو الخالق ، وسمي العالَم عالَماً لأنه علامة على خالقه وموجده ومالكه ( وأنا ) وأنت وجميع الخلق ( واحد من ) جملة ( ذلك العالم ) وتلك المخلوقات العظيمة ، وكلنا محتاجون إلى الله في قضاء حاجاتنا وتفريج كرباتنا ، فهو المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ، وهو المستحق بأن يعبد وحده دون من سواه وهذا مدلول كلمة الإخلاص . *
فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؟ فقل بآياته ومخلوقاته ، ومن آياته الليل والنهار .
--------------------------------
( وإذا ) سُئلت و ( قيل لك ) ما هي الأدلة التي ( عرفت ) بها (ربك ) وخالقك الذي تعبده ( فقل ) له عرفته ( بآياته ) أي علاماته ودلائله التي نصبها دلالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والألوهية , وعرفته ( بمخلوقاته ) الباهرة التي أوجدها بعد العدم وجعلها دالة عليه , فكل شيء في الكون وإن دق فهو دال على وحدانيته :
تأمل سطور الكائنات فإنها ** من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطاً ** ألا كل شيء ما خلا الله باطل ([111]).
والتفكر في الكون يزيد الإيمان ويعلق القلب بالله , قال ابن القيم رحمه الله : " وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس, التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به, دون شيء من مخلوقاته " ([112]) .
( ومن ) أعظم ( آياته ) المشاهدة بالأبصار الدالة على وحدانيته إقبال ( الليل ) وإدبار (النهار ) وعدم اجتماعهما في زمن واحد, بل كل منهما يطلب الآخر, هذا يقبل وذاك يدبر, طلباً سريعاً لا يفصل بينهما شيء, وهما يتعاقبان علينا تسخيراً لنا. *
والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته : السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما .
---------------------------------
ومن الآيات الباهرات الدالة على وحدانية الله وتدبيره ( الشمس ) المشرقة بسراجها الكون, ( والقمر ) المضيء في الدهماء , آيتان تجريان على مسار دقيق أبهر الخلق ، هذه تشرق و ذاك يغرب ، ووقفوا أمام سيرها مندهشين ، جري منظم ، وسير متقن ، لا يتقدم ولا يتأخر, ولا يدرك أحدهما الآخر قال الله سبحانه وتعالى : } لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار { ولا يتغير مسار أحدهما إلى غير ما قدّر الله } ذلك تقدير العزيز العليم { وهذه الشمس على كبر حجمها إذا غربت تسجد تحت العرش ، يقول أبو ذر t " كنت مع النبي ﷺ في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر, أين تغرب الشمس ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى : } والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم { " رواه البخاري ([113]). وتستأذن ربها في الإشراق مرة أخرى يقول أبو ذر t : " دخلت المسجد ورسول الله ﷺ جالس فلما غربت الشمس قال : " يا أبا ذر, هل تدري أين تذهب هذه ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها, وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها " رواه البخاري ([114]). وفي الآخرة تكور وتجمع قال ابن جرير الطبري رحمه الله : " ( إذا الشمس كورت ) أي : جمع بعضها إلى بعض, ثم لفت فرمي بها, وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها " ([115]).
( ومن مخلوقاته ) العظيمة ( السموات السبع ) وسعتها وارتفاعها ( والأرضون السبع ) وامتدادها, وسعة أرجائها, وتقدير أقواتها ( وما فيهن ) أي : ما في السموات السبع من الكواكب الزاهرات, والآيات الباهرات, وما في الأرضين السبع من الجبال والبحار, وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات, وسائر الموجودات ( وما بينهما ) أي ما بين السموات والأرض من الهواء, وما بدا لهم من سيرهم من موطن إلى موطن في جو السماء, وما ظهر لهم من منافع من نقل الحديث من بلد إلى بلد, فسبحان الله رب العرش العظيم , فحري بكل مسلم التفكر في آيات الله والتدبر في مخلوقاته . قال ابن جزي المالكي رحمه الله :" التفكر هو ينبوع كل حال ومقام ، فمن تفكر في عظمة الله اكتسب التعظيم ، ومن تفكر في قدرته استفاد التوكل ، ومن تفكر في عذابه استفاد الخوف ، ومن تفكر في رحمته استفاد الرجاء ، ومن تفكر في الموت وما بعده استفاد قصر الأمل ، ومن تفكر في ذنوبه اشتد خوفه, وصغرت عنده نفسه " ([116]).*
والدليل قوله تعالى : ومن آياته الليل و النهار و الشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . وقوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً .
------------------------------
( و الدليل ) على أن الليل والنهار والشمس والقمر من آيات الله ( قوله تعالى : ومن آياته ) الدالة على كمال قدرته, ووحدانيته, ونفوذ مشيئته, وسعة سلطانه, ورحمته بعباده ( الليل ) بمنفعة ظلمته,وسكون الخلق فيه ( والنهار ) بمنفعة ضيائه,وتصرف العباد فيه ( والشمس والقمر ) اللذان لا تستقيم معايش العباد إلا بهما ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) فإنهما مدبَّران مسخَّران مخلوقان, لا يستحقان أن يسجد لهما ( واسجدوا لله ) لا لغيره ووحدوه فهو ( الذي خلقهن ) فإنهما وإن كبر حجمهما فإن ذلك ليس منهما وإنما هو من خالقها ( إن كنتم ) تعبدون ( إياه ) وحده جل وعلا فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين , والدليل على أن السموات السبع, والأرضين السبع, من مخلوقات الله الدالة عليه جل وعلا قوله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض ) وما فيهما وأتقن خلقهما وأحكم بنيانهما ( في ستة أيام ) أولها يوم الأحد, وآخرها,يوم الجمعة ( ثم ) لما قضاها وأودع فيها من أمره ما أودع ( استوى ) جل وعلا ( على العرش ) العظيم الذي وسع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما, استواءً يليق بجلاله وعظمته,وهو سبحانه ( يغشي الليل ) المظلم بـ ( النهار ) المضيء,فيظلم ما على وجه الأرض, و يسكن الآدميون, وتأوي المخلوقات إلى مساكنها ( يطلبه حثيثاً ) كلما جاء الليل ذهب النهار, وكلما جاء النهار ذهب الليل,حتى يطوي الله هذا العالم وينتقل العباد إلى دار القرار . *
والشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين .
---------------------------------
( والشمس والقمر والنجوم ) الثابتة والسائرة ( مسخرات بأمره ) وتدبيره, وعلمه وحكمته ( ألا له الخلق )؟ بلى إن له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات, ويتضمن أحكامه الكونية القدرية , وله ( الأمر ) المتضمن للشرائع والنبوات, وهذا يتضمن جميع أحكامه الدينية الشرعية ( تبارك الله ) أي : بلغ في البركة النهاية, وهي صيغة لا تصلح إلا لله, فهو سبحانه عظم وتعالى وكثر خيره, فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها, وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير, وهو سبحانه (رب العالمين ) المنعم عليهم بخيراته وسابغ فضله . *
والرب هو المعبود والدليل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ .
-------------------------------------
( و الرب ) الخالق لتلك المخلوقات العظيمة, من السموات السبع,وما فيهن وما بينهما, هو المالك المتصرف المتصف بصفات الكمال و( هو المعبود) المستحق للعبادة وحده دون من سواه ، وما سواه مخلوق مربوب ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ( و الدليل ) على أن الرب هو المعبود (قوله تعالى: يا أيها الناس ) من عرب وعجم, ذكر و أنثى ( اعبدوا ) ووحدوا الله فهو ( ربكم ) المنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, وهو ( الذي خلقكم ) وأوجدكم من العدم ( والذين من قبلكم ) كذلك خلقهم الله بعد أن لم يكونوا شيئاً ، وذكركم الله بهذه النعمة العظيمة ( لعلكم تتقون ) خالقكم وتأتمرون بأوامره وتجتنبون نواهيه فهو ( الذي جعل لكم الأرض فراشاً ) بساطاً ممهداً لكم تستقرون عليها, وتقضون عليها معايشكم ( والسماء ) جعلها ( بناء ) لكم وقبة مضروبة عليكم, وسقفاً محفوظاً مزيناً بالمصابيح والعلامات التي تهتدون بها في ظلمات البر والبحر , أرضٌ تقلنا وسماء تظلنا, لا غنى لنا عن إحداهما .( وأنزل من ) السحاب الذي في ( السماء ماءً ) عذباً مباركاً ( فأخرج به من كل الثمرات ) المتنوعة من نخيل وفواكه وزروع وغيره ( رزقاً ) طيباً ( لكم ) لتستمتعوا بالطيبات, وتستعينوا بها على طاعة الله , ومن كانت هذه نعمه فهو المستحق أن يعبد وحده, فاشكروا نعمه, ومن شُكْرهَا ( فلا تجعلوا لله أنداداً ) وشركاء و نظائر معه في العبادة ( وأنتم تعلمون ) بطلان ذلك وأنها لا تستحق العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم ببطلان ذلك؟! وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الله وبطلان الشرك .
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وقد احتج عليهم تعالى في هذه الآية بما أقروا به وعلموه من توحيد الربوبية, على ما جحدوه وأنكروه من توحيد الألوهية, فإنه تعالى كثيراً ما يقرر في كتابه توحيد ألوهيته بتوحيد ربوبيته, فإن توحيد الربوبية هو الدليل الأوضح والبرهان الأعظم على توحيد الألوهية .
وفعل العبادة من غير توحيد ليست بعبادة ، وإذا عبد الله تارة وأشرك معه تارة فليس بعابد لله, كما سمى الله الذين يخلصون له العبادة في الشدائد ، وعند ركوب البحار وتلاطم الأمواج يفزعون ويلجئون إليه وحده ، ويعرفون في كربتهم أن تلك الآلهة ليست شيئاً وأنها لا تنفعهم عند الكروب ومع ذلك كله سمَّاهم الله مشركين بل نفى عنهم تلك العبادة بالكلية قال سبحانه : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) . فلم يرد في العبادة إلا إفراد الله تعالى بجميع أنواعها, فمن أطاعه في جميع ما أمره به منها ولم يصرف أي شيء منها لغيره, فقد وحده وإلا فلا . *
قال ابن كثير رحمه الله : الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة .
----------------------------------
( قال ) الإمام أبو الفداء إسماعيل بن عمر ( بن كثير ) صاحب التفسير ( رحمه الله ) وأسكنه جناته ( الخالق ) الذي أوجد ( هذه الأشياء ) من العدم,من خلق الإنسان والأرض والسماء ,وما فيهما من الخيرات والثمار ( هو المستحق للعبادة ) ([117]). وغيره مخلوق ضعيف لا يستحقها قال سبحانه: } والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير { . قال ابن القيم رحمه الله : " كل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقاً ، والمعبود لابد وأن يكون مالكاً للنفع والضر ، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضراً ولا نفعاً " ([118]).*
وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه : الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى ) ، والدليل قوله تعالى : } وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً { .
------------------------------------ ومن فضل الله على عباده أن شرع لهم أنواعاً عديدة من العبادات يتقربون بها إليه ، والمرء لا يعلم بأيها يدخل الجنة ، قال ابن القيم رحمه الله : " من تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار, تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار ، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا, وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ هناك ، على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها في هذه الدار ، وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة, أثراً وجزاءً ولذةً وألماً يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاءه ، ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار, وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات ، فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب, كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها، ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته, كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه " ([119]).
والعبد تعلو درجته عند ربه إذا ازدادت عبوديته له ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله ، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته " ([120]).
ولما بين المؤلف أن الواجب أن نعبد الله وحده ذكر شيئاً من أنواع العبادة فقال: ( وأنواع ) وأصناف ( العبادة التي أمر الله بها ) عباده وتعبدهم بها كثيرة جداً, ذكر المصنف رحمه الله منها سبعة عشر مثالاً لأنواعها, وهي ( مثل ) الإسلام والإيمان والإحسان ) . وهذه الثلاثة أعلى مراتب الدين, وأهم أنواع العبادة, لذلك بدأ المصنف بها, فالإسلام بأركانه من صلاة وصيام عبادة, وهكذا الإيمان بأعماله الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره, وكذلك الخوف والمحبة والرجاء, إلى غير ذلك, فكل ما يتعلق بالقلوب داخل في العبادة, بل هو أعلى أنواع العبادة وأعظمها ، ومرتبة الإسلام هي : أوسع دوائر الدين ، يليها مرتبة الإيمان وهي أضيق من دائرة الإسلام ، ثم دائرة الإحسان وهي أضيق تلك الدوائر ، والداخلون في دائرة الإحسان قلَّة من عباد الله,وهي مرتبة زاكية عالية لا ينالها إلا من اصطفاهم الله, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " أحوال القلوب وأعمالها,مثل محبة الله ورسوله ﷺ وخشية الله ، والتوكل عليه ، والصبر على حكمه ، والشكر له ، والإنابة إليه ، وإخلاص العمل له ، مما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً, لا يعرف قدره إلا الله عز وجل " ([121]). ( ومنه ) : أي : من أنواع العبادات أيضاً التي أمر الله بها ( الدعاء ) وإنزال الحوائج به سبحانه ، ( والخوف ) منه جل وعلا ( والرجاء ) والطمع بما عند الله ( والتوكل ) وتفويض الأمور إليه ( والرغبة ) فيما عند الله ( والرهبة ) منه جل وعلا ( والخشوع ) لله ( والخشية ) منه ( والإنابة ) إلى الله والرجوع إليه،( والاستعانة ) به سبحانه ، ( والاستعاذة ) باللجوء إليه ( والاستغاثة ) به جل وعلا ، (والذبح ) للقرابين له وحده ، وعدم ( النذر ) إلا له ( وغير ذلك من أنواع العبادة ) المتنوعة ( التي أمر الله بها ) كبرِّ الوالدين ، وصلة الأرحام ، وإكرام الضيف ، وحسن الخلق , وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة و الباطنة فهو عبادة قال شيخ الإسلام : " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه, من الأقوال والأعمال, الباطنة والظاهرة " ([122]) , فالعبادة تشمل جميع أنواع الطاعات ، وتتضمن كمال الحب ، وكمال التعظيم ، وكمال الرجاء والخشية والإجلال والإكرام ، قال ابن القيم رحمه الله : " العبودية تجمع كمال الحب, في كمال الذل, وكمال الانقياد لمراضي المحبوب وأوامره, فهي الغاية التي ليس فوقها غاية " ([123]).
وجميع أنواع العبادة ( كلُّها لله تعالى ) لا يصلح منها شيء لغير الله ( والدليل ) على ذلك قوله تعالى : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ) أي أماكن الصلوات أو أعضاء السجود كلها ملك ( لِلَّهِ فَلا تَدْعُو ) ولا تسجدوا بها لغيره, ولا تشركوا في الأرض ( مَعَ اللَّهِ أَحَدا ً) كائناً من كان, فإن الأرض جميعها ملك لله وحده, فأفردوه فيها بالعبادة . *
( فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ) والدليل قوله تعالى: } وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {
------------------------------
( فمن صرف) أي عبد ( منها ) أي : من أنواع العبادة التي ذكرها المصنف أو غيرها ( شيئاً ) ولو يسيراً ( لغير الله ) مثل لو دعا غير الله من الأموات أو الغائبين ، أو رجاهم ، أو خافهم ، أو سألهم قضاء الحاجات ، أو تفريج الكربات أو غير ذلك ( فهو مشرك كافر ) أي : الشرك الأكبر, والكفر المخرج عن الملة, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فإن المسلمين متفقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام ، أن العبد لا يجوز له أن يعبد ولا يدعو ولا يستغيث ولا يتوكل إلا على الله, وأن من عبد ملكاً مقربا,ً أو نبياً مرسلاً, أو دعاه, أو استغاث به فهو مشرك " ([124]).
والفرق بين الشرك والكفر : أن الكفر أعمُّ, فكل مشرك كافر ولا عكس, فمن طاف على قبر, أو دعاه من دون الله, فهو مشرك ويسمى كافراً ، ومن استهزأ بشيء من الدين فهو كافر ولا يسمَّى مشركاً ، لأنه لم يشرك مع الله أحداً في ذلك بل استهزاؤه كفر ، وأما في الآخرة فمآل الكافر والمشرك سواء, فكلاهما في النار والعياذ بالله,قال تعالى في حق الكافر :( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) ، وقال في حق المشرك : (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ).
والدليل على أن من صرف شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ، ( قوله تعالى: ومن يدع ) ويصرف أي نوع من أنواع العبادة ( مع الله إلهاً آخر ) من الأموات, أو الأوثان, أو الأحجار, أو غيرها ( لا برهان له ) أي لا حجة ولا دليل له ( به ) أي بتلك العبادة التي أشرك فيها مع الله, وهذا القيد لا مفهوم له وإنما أتى به ليبين لهم أنه لا حجة لأحد في دعوى الشرك, فليست عبادتهم عن دليل إنما عن ضلالة وأهواء لا عن هداية ووحي فمن فعل ذلك فقد توعده الله بقوله : ( فإنما حسابه ) وعقابه ( عند ربه ) يوم القيامة بخلوده النار ( إنه ) أي من أشرك معه غيره ( لا يفلح ) لا في الدنيا ولا في الآخرة, وأولئك هم ( الكافرون ) الخارجون عن ملة الإسلام ، وفي الآية أوضح برهان على كفر من دعا مع الله غيره, سواء كان المدعو ملكاً, أو نبياً, أو قبراً . *
وفي الحديث " الدعاء مخ العبادة " والدليل قوله تعالى :
----------------------------
ولما ذكر المصنف رحمه الله أنواعاً من العبادة مجملة, شرع في ذكر أدلتها, أما الإسلام والإيمان والإحسان فسيذكر أدلتها مفصلة في الأصل الثاني ، فبدأ بالدعاء الذي هو أصل العبادات وأساسها فقال ( وفي الحديث ) الذي يدل على أن الدعاء من أنواع العبادة ما رواه الترمذي ([125]) أن النبي ﷺ قال : ( الدعاء ) وسؤال الله الحوائج ( مخ ) أي لبُّ وخالص ( العبادة ) التي أمر الله بها الخلق كما يفسره الحـديث الآخـر أن النبي ﷺ قال : " الدعاء هو العبادة " رواه أبو داود ([126]) فجعل الدعاء هو عين العبادة ، ودعوة الرسل جاءت لتتوجه القلوب لسؤال الله وحده ، ودعاء وسؤال غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من أنواع الشرك الأكبر المحبط لجميع الأعمال جاء في الدرر السنية : " اتفق العلماء كلهم, على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم ، فقد كفر " ([127]). والدعاء من أكثر أنواع الشرك وقوعاً بين الخلق جاء في الدرر السنية :" من أعظم أنواعه - أي : الشرك - وأكثره وقوعاً في هذه الأزمان : طلب الحوائج من الموتى, والاستغاثة بهم, والتوجه إليهم, وهذا أصل شرك العالم..،وهذا متفق عليه أنه من الشرك الأكبر" ([128])
( والدليل ) على أن الدعاء عبادة وأن صرفه لغير الله شرك ( قوله تعالى ) :
} وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {
----------------------------------
( وقال ربكم ) وخالقكم ( ادعوني ) وأنزلوا بي حوائجكم ( أستجب لكم ) وأعطيكم سؤلكم ( إن الذين يستكبرون ) ويعرضون (عن عبادتي ) ودعائي ( سيدخلون ) نار (جهنم ) والعياذ بالله ( داخرين ) ذليلين حقيرين, يجتمع عليهم العذاب والإهانة, عقوبة لهم على ما تركوه من عبادة الله التي فرضها عليهم ، والعاقل يعلم أن الكروب لا يكشفها إلا الله، لأنه القدير على كشفها قال سبحانه : } إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول كن فيكون { والمخلوق لا يصلح أن يُدعى أو يستغاث به من دون الله ، لأنه عبد ضعيف يمرض ويموت, لا يملك لنفسه دفع ضر ولا جلب نفع, فكيف يجلبها لغيره؟! قال سبحانه : } والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير { ، فالْجأْ إلى الله وحده, وأنزل به حوائجك ، وسله يعطك ، واستغفره يغفر لك, وادعه بقلب خاشع خاضع يستجب لك ، ومن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه, وتعلق قلبه بربه, وكفر بما يعبد من دون الله, فهو الموحد . *
ودليل الخوف قوله تعالى : } فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين{.
---------------------------------------
منزلة الخوف من أجلِّ العبادات القلبية ، وهي فرض على كل أحد ، وهو ركن العبادة الأعظم, ولا يستقيم إخلاص الدين لله إلا به, قال ابن القيم : " وأما الوجل, والخوف, والخشية, والرهبة, ألفاظ متقاربة غير مترادفة " ([129]) أي معانيها مختلفة.
قال ابن القيم : " وأما الوجل : فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه, وعقوبته, أو لرؤيته " ([130]) .
والخوف: هو تألم القلب وحركته بسبب توقع مكروه في المستقبل " ([131]) ، والخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله .
( ودليل) أن ( الخوف ) عبادة من العبادات لا يصرف إلا لله ( قوله تعالى : فلا تخافوهم ) أي : المشركين فإن نواصيهم بيدي ( وخافون ) فأنا ربكم الذي ينصر أولياءه الخائفين منه ( إن كنتم مؤمنين ) بي .
والخوف منه سبحانه من أسباب صلاح القلب ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فما حفظت حدود الله ومحارمه, ووصل الواصلون إليه, بمثل خوفه ورجائه ومحبته ، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث, فسد فساداً لا يُرجى صلاحه أبداً, ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه " ([132]).
وقد كان الأنبياء أشد الخلق خوفاً من الله قال نوح عليه السلام لقومه : ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) وقال شعيب عليه السلام لقومه : ( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) وقال النبي ﷺ ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) له لنبينا محمد ﷺ : وقـد كان النبي ﷺ يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" رواه النسائي ([133]) ، أي:كصوت الإناء إذا غلا فيه الماء . وكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف, قال ابن مسعود t : " كفى بخشية الله علماً, وكفى بالاغترار بالله جهلاً " رواه ابن أبي شيبة ([134]) ، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد ربه ، فأعرف الناس أخشاهم لله, ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه وحبه له, وكلما ازداد معرفةً ازداد حياءً وخوفاً وحباً ، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية ، كما قال النبي ﷺ : " إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " رواه البخاري ([135]) ، وقال ﷺ : " لو تعلمون ما أعلم, لضحكتم قليلاً,ولبكيتم كثيراً, ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله " رواه أحمد والترمذي ([136]) . قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الخوف من الله, يستلزم العلم به, والعلم به يستلزم خشيته, وخشيته تستلزم طاعته " ([137]) ، وهو المانع من اتباع الشهوات . قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : " ما فارق الخوف قلباً إلا خرب " ([138]) . وقال إبراهيم بن سفيان رحمه الله: " إذا سكن الخوف القلوب,أحرق مواضع الشهوات منها, وطرد الدنيا عنها" ([139]) . وقال ذو النون : " الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق " ([140]) . والخائف من ربه يمنحه التبصر في آياته ونذره } إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة { و في الآخرة تُفَتَّح له الجنان } ولمن خاف مقام ربه جنتان { وقال سبحانه : } وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى { ، ومن عظم وقار الله في قلبه, وقره الله في قلوب الخلق أن يذلوه .
وأركان العبادة الخوف, والرجاء, والمحبة ، ويجب على العبد الإتيان بها جميعاً قال ابن القيم رحمه الله : قال بعض السلف : " من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديقٌ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريٌ ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن ، وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله : } أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه { فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه, ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف, فهذه طريقة عباده وأوليائه " ([141]).والمحبة تجلب الخوف والرجاء قال ابن القيم رحمه الله : " كل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء ، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه" ([142]) . *
والخوف من حيث هو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول السر وهو أن يخاف من غير الله,من وثن, أو طاغوت, أن يصيبه بما يكره, وهذا شرك أكبر, كأن يخاف من صاحب القبر أن يضره أو يحل عليه عقوبة إذا لم يلجأ إليه ، أو يخاف من صاحب القبر أن يصيبه شيئاً إذا تنقص ذلك الميت, كما قال جل وعلا إخباراً عن قوم هود : أنهم قالوا لنبيهم : } إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء { فهم خافوا الآلهة أن تصيبهم بسوء ومصيبة وكقوله تعالى : } ويخوفونك بالذين من دونه { وهذا الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان, يخافونها ويخوّفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله, وهذا ينافي التوحيد ، فكما أنه إذا دعا غير الله, أو سأل غير الله, انتفى عنه الإيمان, فكذلك إذا خاف غير الله قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فمن سوى بين الخالق والمخلوق, في الحب له, أو الخوف منه, والرجاء له, فهو مشرك " ([143]) .
القسم الثاني : أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس قال في فتح المجيد : " فهذا حرام, وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد, كما قال الله تعالى : } إنما ذلكم الشيطان يخـوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين { " ([144]). قال ابن القيم رحمه الله : " ومن كيد عدو الله: أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائهم, لئلا يجاهدوهم, ولا يأمروهم بمعروف, ولا ينهوهم عن منكر, وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه ونهانا أن نخافه " ([145]).
القسم الثالث : الخوف الطبيعي كخوف الإنسان من السبع, والنار, والغرق, فهذا لا يلام عليه العبد كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : } فخرج منها خائفاً يترقب { .
والاستسلام لله وتفويض الأمور إليه مما ينزع الخوف من البشر قال ابن القيم رحمه الله : " والذي يحسم مادة الخوف: هو التسليم لله, فإن من سلَّم لله, واستسلم له, وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له,لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع" ([146]).
ومن خاف ربه في الدنيا أمن يوم الفزع في الآخرة ، ومن أمن في الدنيا فزع في الآخرة ، والله لا يجمع لعباده بين خوفين إما خوف في الدنيا من الله ، وإما خوف في الآخرة لمن لم يخف منه في الدنيا ، ومن خاف ربه لم يفزعه أحد, بل هو مطمئن القلب ساكن الجوارح .
ومن صح خوفه من الله هرب إليه ، ومن صح فراره إلى الله صح فراره مع الله ، وأنْعِمْ بنفس لا تأنس إلا مع الله , ولا يعد خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً ، وكل عاصٍ لله فهو جاهل, وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله .
فراقب ربك في أحوالك وخف من عقابه, تكن أسعد الناس عند الله ، والمخلوق إذا خفته استوحشت منه ، وهربت منه ، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.
ودليل الرجاء .
--------------------------------- الرجاء عبادة قلبية ، وهو : الرغبة والطمع في الحصول على شيء مرجو ، وهو يتضمن التذلل والخضوع .
والفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل .
والتمني يكون مع الكسل .
والرجاء هو الحادي للأعمال قال ابن القيم رحمه الله : " لولا روح الرجاء, لعطلت عبودية القلب والجوارح, وهدِّمت صوامعٌ وبيعٌ وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً " ([147]).
وحقيقة الرجاء : الخوف والرجاء معاً قال ابن القيم رحمه الله :" وحقيقة الرجاء: الخوف والرجاء فيفعل ما أمر به على نور الإيمان راجياً للثواب, ويترك ما نهى عنه على نور الإيمان خائفاً من العقاب " ([148]).
والرجاء ثلاثة أنواع:
قال ابن القيم رحمه الله : " والرجاء ثلاثة أنواع نوعان محمودان, ونوع غرور مذموم .
فالأولان : رجاء رجل عمل بطاعة الله, على نور من الله, فهو راج لثوابه ، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه .
والثالث : رجل متماد في التفريط والخطايا, يرجو رحمة الله بلا عمل, فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب " ([149]).
ومن قوي رجاؤه ازداد عمله الصالح,قال ابن القيم رحمه الله : " كلما قوي الرجاء جدَّ في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل, غلق أرضه بالبذر, وإذا ضعف رجاؤه, قصر في البذر" ([150]).*
قوله تعالى : } فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا { .
------------------------------
والرجاء يحدو بالعبد في سيره إلى الله, ويطيب له المسير, ويحثه عليه, ويبعثه على ملازمته, قال ابن القيم رحمه الله : "ولولا الرجاء لما سار أحد ، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد ، وإنما يحركه الحب ، ويزعجه ([151]) الخوف, ويحدوه الرجاء " ([152]) .
والعبد يجمع بين المحبة والرجاء والخوف, ولا تحصل العبودية لله إلا بهذه الثلاثة, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة : المحبة والخوف والرجاء ، وأقواها المحبة, وهى مقصودة تراد لذاتها, لأنها تراد في الدنيا والآخرة, بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى : } ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون { والخوف المقصود منه : الزجر والمنع من الخروج عن الطريق ، فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه, وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه ، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب ، والرجاء يقوده.
فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له, فإنه لا تحصل له العبودية بدونه ، وكل أحد يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره .
فإن قيل : فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فأي شيء يحرك القلوب ؟ .
قلنا يحركها شيئان :
أحدهما كثرة الذكر للمحبوب ، لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به ، ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير فقال تعالى : } يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا { .
والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه, قال الله تعالى : } فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون { ، وقال تعالى : } وما بكم من نعمة فمن الله { وقال تعالى : } وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة { وقال تعالى : } وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها { فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان ، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره, فلابد أن يثير ذلك عنده باعثاً ، وكذلك الخوف تحركه مطالعـة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه ، وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو" ([153]) .
ويقوى الرجاء كلما قوي العلم بالله ، قال ابن القيم رحمه الله : " قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته " ([154]).
والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه , فرجاء العبد ثواب الله واستسلامه لربه بانطراحه بين يديه ورضاه بمواقع حكمه فيه ، ما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه ويقيله عثرته ويعفو عنه ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها ويتجاوز عن سيئاته, فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد والانطراح بالباب ، ولا يتصور هذا بدون الرجاء البتة, فالرجاء حياة الطلب ، وهو سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله ، لأنه الملك الحق الجواد أجود من سئل ، وأوسع من أعطى ، وأحب شيء إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل ، وكلما قوي رجاء العبد وطمعه في فضل الله ورحمته وتيسير أموره قويت عبوديته لله فهو عبادة عظيمة . *
( ودليل ) أن (الرجاء ) عبادة لا تصرف لغير الله ( قوله تعالى : فمن كان يرجو) ويأمل ( لقاء ربه ) وموعوده وثوابه ( فليعمل عملاً صالحاً ) وهو الموافق لشرع الله ( ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) لا رياءً ولا سمعةً ولا يصرف العبادة لغير خالقه ، بل يجعل أعماله كلها خالصة لوجه الله, فمن جمع بين الإخلاص والمتابعة نال ما يرجو ويطلب, ومن عدمَ ذلك فإنه خاسر, وفاته القرب من مولاه, ونيل رضاه .
وقد أمر الله بتعليق الرجاء به فقال : } مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا { . والمسلم يعلق آماله وأطماعه ورجاءه بالله قال سبحانه : } إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا { .والطامع في رجاء الله يحدو به إلى التأسي بنبيه ﷺ } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا { ومن لم يرجُ فضل الله عرَّض نفسه للوعيد } إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ {.
ومن رجا غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله, كمغفرة ذنوبه,أو شفاء مريضه, فقد صرف تلك العبادة لغير الله, ووقع في الشرك الأكبر ، لأن هذا طمع في شيء لا يملكه إلا الله ، وصرف عبادة الرجاء إلى غير الله ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الرجاء ينبغي أن يتعلق بالله ، ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله ، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك, وإن كان الله قد جعل لها أسباباً فالسبب لا يستقل بنفسه ، بل لابد له من معاون ، ولا بد أن يمنع العارض المعوق له ، وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى " ([155]) . ومن رجا مخلوقاً أو تعلق به, انصرف قلبه عن العبودية لله, وصار عبداً لغيره بقدر ما قام في قلبه من التعلق والرجاء فذلّ لغير الله وخضع ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله, إلا خاب من تلك الجهة ، ولا استنصر بغير الله إلا خذل, وقد قال الله تعالى : } وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا { ([156]) . ومن علق رجاءه بالبشر خذل قال ابن القيم رحمه الله : " وكل من خاف شيئاً غير الله سلط عليه, كما أن من أحب مع الله غيره عذب به ، ومن رجا مع الله غيره خذل من جهته, وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها " ([157]).
فيجب على العبد أن يعلق رجاءه بالله دون سواه ، فالخلق مجبولون على الضعف ، عاجزون عن جلب النفع لأنفسهم ودفع الضر عنهم ، وهم عن غيرهم أعجز, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وما رجا أحد مخلوقاً أو توكل عليه ، إلا خاب ظنه فيه " ([158]) . ولا يجني من ورائهم سوى الذلة والمهانة, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة, أو يدفعوا عنه مضرة, فإنه يخـذل من جهتهم, ولا يحصل مقصوده ، بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم فلا ينفعونه ، إما لعجزهم ، وإما لانصراف قلوبهم عنه ، وإذا توجـه إلى الله بصدق الافتقار إليه, واستغاث به مخلصاً له الدين ، أجاب دعاءه وأزال ضرره ، وفتح له أبواب الرحمة " ([159]) . فلا تعلق أطماعك وأملك بغير الله, فلن تجني سوى العدم, وذل المسألة والتفريط في عبادة جليلة ، وارج كرم الله وعطاءه وجزيل مناه, فتلك عبادة عظيمة ، واطلب منه كشف الحاجات والملمات, فذلك أرفع للدرجات, وأعز للنفس, وفيه تحقيق للمأمول. *
......................................................
--------------------------------------
التوكل هو صدق التفويض والاعتماد على الله في جميع الأمور, وإظهار العجز والاستسلام له, وهو عبادة من العبادات, بل هو من أجل أنواع العبادة, وأعلى مقامات التوحيد، قال سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب رحمه الله : " التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى ، لأنه من أفضل العبادات, وأعلى مقامات التوحيد, بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين, كما في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن, أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة ، بل جعله شرطاً في الإيمان والإسلام، ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسـلام عند انتفائه " ([160]) . وقال ابن القيم رحمه الله : " التوكل نصف الدين ، والنصف الثاني الإنابة ، فإن الدين استعانة وعبادة, فالتوكل هو الاستعانة ، والإنابة هي العبادة ، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها " ([161]).
ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة, قال ابن القيم : " منزلة التوكل قبل منزلة الإنابة ، لأنه يتوكل في حصولها ، فالتوكل وسيلة والإنابة غاية " ([162]) .وقد جعل الله التوكل سبباً لنيل محبته قال تعالى : } إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين َ{ وهو دليل على صحة إسلام المتوكل } وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِين َ{.
وحقيقته تعلق القلب بالله والأخذ بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها,قال: ابن القيم رحمه الله : " وسر التوكل وحقيقته : هو اعتماد القلب على الله وحده, فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها, كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به, فتوكل اللسان شيء, وتوكل القلب شيء آخر " ([163]). والتوكل محله السبب ، وكماله بالتوكل قال ابن القيم رحمه الله : " التوكل محله الأسباب, وكماله بالتوكل على الله, وهذا كتوكل الحرَّاث الذي شق الأرض وألقى فيها البذر ، فتوكل على الله في زرعه وإنباته ، فهذا قد أعطى التوكل حقه " ([164]).
ويجب فعل الأسباب مع التوكل ولكن مع عدم الركون إليها ، قال ابن القيم رحمه الله : " من أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها ، فيكـون حال قلبه قيامـه بالله لا بها ، وحال بدنـه قيامه بها " ([165]).*
والتوكل من حيث نوعه ينقسم إلى قسمين توكل اضطرار ، وهذا لا يتخلف عنه الفرج بإذن الله ، وتوكل اختيار ، قال ابن القيم رحمه الله : " التوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء ، بحيث لا يجد العبد ملجأً ولا وزراً ([166]) إلا التوكل ، كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة ، وتارة يكون توكل اختيار ، وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد ، فإن كان السبب مأموراً به ذم على تركه ، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن ، والواجب القيام بهما والجمع بينهما ، وإن كان السبب محرماً حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه, فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد, ودفع المكروه, بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق ، وإن كان السبب مباحاً نظرت, هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرَّق عليك قلبك, وشتَّت همك, فتركه أولى ، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى, لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبَّب به, فلا تعطل حكمته "([167]).
وينقسم التوكل إلى توكل في الأمور الدنيوية ، وتوكل في الأمور الدينية ، قال ابن القيم رحمه الله : " التوكل على الله نوعان :
أحدهما : توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية ، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني : التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه, من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه .
وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله ، فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله, كفاه النوع الأول تمام الكفاية ، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني ، كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه ، فأعظم التوكل عليه, التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول ﷺ وجهاد أهل الباطل, فهذا توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام وخاصة أتباعهم " ([168]).*
ودليل التوكل قوله تعالى: } وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين { .
------------------------------
وإذا قوي توحيد العبد قوي توكله ، قال ابن القيم رحمه الله : " لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده ، بل حقيقة التوكل توحيد القلب ، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول ، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل ، فإن العبد متى التفت إلى غير الله, أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه ، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ، ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق, لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح ، فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها ، فيكون منقطعاً منها متصلاً بها " ([169]).
فالتوكل عبادة قلبية ، فإن اعتمد على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فذلك هو الشرك الأكبر .
وإن اعتمد على الأحياء الحاضرين من السلاطين ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه من رزق, أو دفع أذى ونحوه, فهو نوع شرك أصغر.
(ودليل) أن (التوكل) عبادة لا يصرف إلا لله قوله تعالى: } وعلى الله { لا على غيره } فتوكلوا { وفوضوا أموركم إليه } إن كنتم مؤمنين { به ، قال ابن القيم رحمه الله : " المعلق على الشرط يعدم عند عدمه, وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل ، فمن لا توكل له لا إيمان له قال الله تعالى : } وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين { وقال تعالى : } وعلى الله فليتوكل المؤمنون { وقال تعالى : } إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلـون { وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة " ([170]).
وقوله تعالى : } ومن يتوكل على الله فهو حسبه {
---------------------------
ومن يعتمد على الله في أموره فهو كافيه كما قال تعالى :(ومن يتوكل على الله ) ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه ( فهو حسبه ) وكافيه ، قال ابن القيم رحمه الله : " ومن كان الله كافيه وواقيه, فلا مطمع فيه لعدو, ولا يضره إلا أذى لا بد منه, كالحر والبرد والجوع والعطش ، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبداً ، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء,وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه,وبين الضر الذي يتشفى به منه " ([171]).
ومن كان الله كافيه تيسرت أموره ولم يطمع فيه أحد ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه والدعاء له, هي التي تقوي العبد وتيسر عليه الأمور، ولهذا قال بعض السلف: مـن سره أن يكـون أقـوى الناس فليتوكل على الله "([172]).
ولم يذكر تعالى للتوكل جزاء غير تولي كفاية العبد, ولم يأت في أي عبادة من العبادات أن الله قال : } فهو حسبه { , إلا في مقام التوكل, فدل على عظم شأن التوكل وفضيلته وأنه أجل أنواع العبادة وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار ثم قال تعالى : } إن الله بالغ أمره { فلا يعجزه شيء أراده قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وأما أرجح المكاسب : فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به ، وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيـه إلى الله ويدعوه " (3) .
وراحة النفس في تفويض أمرها لخالقها ، ويزداد تعلقها ببارئها إذا تذكرت أن الرب عليم بحالها ، رحيم بأمرها ، قدير على كشف ضرها ، كريم يأجرها على مصيبتها ويخلف لها عوضاً خيراً مما فات عنها ، وإذا صدق التوكل على الله تحققت المنى بأمر الله ، قال ابن القيم رحمه الله : " ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله ، فإن كان محبوباً له مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة ، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه ، وإن كان مباحاً حصلت له مصلحـة التوكل دون مصلحـة ما توكـل فيه, إن لم يستعن به على طاعاته " ([173]) .
فعلق قلبك بالله في السلامة من الشرور, والعافية من الفتن, وحصول الرزق, ودخول الجنة, والنجاة من النار, مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، وإياك والتعلق بالمخلوق ، فإنه عاجز عن كشف الضر، قتور في العطاء ، والمخلوق وإن كان له نوع قدرة فلا يعتمد عليه ولو فيما أقدره الله عليه, بل يعتمد على الله وحده ، فإن من اعتمد على حسبه ذلَّ ، ومن اعتمد على عقله ضلَّ ، ومن اعتمد على ماله قلَّ ، ومن اعتمد على الناس ملَّ .
فاعتمد على الله وحده فإنه كافيك جميع أمورك ، وهو متوليها إن ألقيت إليه حاجاتك, وسلَّمت إليه مقاليد أمورك ، وأحسن الظن به تعالى وتوكل عليه في جميع أمورك, تحقق عبادة من أجلّ العبادات ، فلا ذلة ولا قلة ولا مضلة ولا ملل في ظلِّ الله . *
...........................................................
-------------------------------
الرغبة هي : محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
قال ابن القيم رحمه الله :" والفرق بين الرغبة والرجاء : أن الرجاء طمع ، والرغبة طلب ، فهي ثمرة الرجاء ، فإنه إذا رجا الشيء طلبه, والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف " ([174]) .
وقد أمر الله نبيه محمداً ﷺ أن يرغب إليه وحده جل وعلا فقال: } وإلى ربك فارغب { .
والرهبة : هي الخوف والفزع المثمر للهرب من المخوف ، فهي خوف مقرون بعمل , قال ابن القيم رحمه الله : " وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه ، وهي ضد الرغـبة التي هي سفر القـلب في طلب المرغوب فيه "([175]) .
والرغبة والرهبة لا تقوم إلا على ساق الصبر ، فرهبته تحمله على الصبر ، ورغبته تقوده إلى الشكر ، وعبادتا الرغبة والرهبة تنحسران عن العبد بقدر ذنوبه, وتزيدان بزيادة إيمانه ، والعبد يناله التوفيق بإذن الله بقدر تلك العبادة ، قال ابن القيم رحمه الله : " إذا أراد بعبده خيراً, وفقه لاستفراغ وسعه , وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه ، فإنهما مادتا التوفيق ، فبقدر قيام
الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق " ([176]) .
والخشوع هو :الذل لعظمة الله, ويكون في القلب والجوارح, وهو قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :" والخشوع:الخضوع لله تعالى,والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح "([177]) .
وقال ابن القيم رحمه الله : " الخشوع محلـه القلب,وثمرته على الجوارح وهي تظهره " ([178]) . وكلما خشع القلب لله,كان أكمل له عبودية ، قال ابن القيم رحمه الله :" وأكمل الخلق عبودية,أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة "([179]).
ومن فضل الله على عباده,أنَّ من رغب وطمع فيما عند الله أُجر، ومن رهب من عذاب الله أمَّنه الله ، ومن خشع قلبه وجوارحه لله عاش حميداً عزيزاً في الحياة,ولم يخضع لأحد من الخلق . *
ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى : } إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {
-----------------------------
( ودليل ) أن ( الرغبة ) فيما عند الله ( والرهبة ) من عذابه ( والخشوع ) والخضوع له وحده وأنها من أنواع العبادة ، ما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والصالحين في معرض الثناء عليهم في ( قوله تعالى: إنهم كانوا يسارعون ) ويسابقون ( في الخيرات ) والطاعات وعمل القربات ( ويدعوننا ) وحدنا, ويسألوننا الأمور المرغوب فيها, فيدعون ربهم ( رغباً ) فيما عندنا من الثواب ( ورهباً ) مما عندنا من العقاب ( وكانوا لنا خاشعين ) خاضعين متذللين متضرعين ، وذلك لكمال معرفتهم بربهم .
فدلت الآية على أن هذه الثلاثة الأنواع ، الرغبة فيما عند الله، والرهبة من الله ، والخشوع لله ، عبادة من أجل أنواع العبادات ، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك . *
ودليل الخشية قوله تعالى: } فلا تخشوهم واخشوني {
-------------------------------------
الخشية : بمعنى الخوف إلا أن الخشية أخص من الخوف ، لأن الخشية : مقرونة بمعرفة الله قال تعالى : } إنما يخشى الله من عباده العلماء { قال ابن القيم رحمه الله :" خشيته تعالى مقرونة بمعرفته ، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية " ([180]).
والخشية متضمنة للرجاء قال شيخ الإسلام رحمه الله : " والخشية أبداً متضمنة للرجاء,ولولا ذلك لكانت قنوطاً ، كما أن الرجاء يستلزم الخوف, ولولا ذلك لكان أمناً ، فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله " ([181]).
والخشية عبادة عظيمة لا تصرف إلا لله ( ودليل ) أن ( الخشية ) عبادة من العبادات قوله تعالى :( فلا تخشوهم ) فليسوا أهلاً للخشية ( واخشوني ) لأن خشيته تعالى رأس كل خير, فمن لم يخش الله لم ينكف عن معصيته, ولم يمتثل أمره ، قال ابن القيم رحمه الله : " ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته ، ومتى ترحلت الخشية من القلب, انقطعت هذه الوصل " ([182]) .
ومن خشي ربه رزقه الله حياة القلب من المواعظ والعبر قال سبحانه : } سيذكر من يخشى { ، وقال سبحانه : } إن في ذلك لعبرة لمن يخشى { وآثار الخضوع لله بادية لمن يخشاه } تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله { والهداية إنما هي وسيلة إلى الخشية قال جل وعلا : } وأهديك إلى ربك فتخشى { وهي موجبة لمغفرة الله وفضله العميم قال سبحانه : } إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير { وموجبة لجنات النعيم قال عز وجل : } جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ { وأخشى الناس لله هم أعرفهم به ، والعالم حقاً هو من خشي الله قال سبحانه :} إنما يخشى الله من عباده العلماء { قال شيخ الإسلام رحمه الله :" كل من خشي الله, فهو عالم "([183])
قال ابن مسعود t : " كفى بخشـية الله علماً, وكفى بالاغترار بالله جهـلاً ", وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما, قال تعالى : } أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ { .
ومن خشي ربه عاش بين الخلق عزيزاً, وفي حياته سعيداً . فاجعل ربك بين ناظريك, واخش الأمن من مكرِه وحلول عقوبته ، وأكثر من الطاعات لتنال خشيته تعالى , وهو سبحانه أهل أن يخشى وقد أمر بخشيته وحده, ونهى عن خشية من سواه قال سبحانه : } فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {.
وخشية المخلوق من المخلوق ذلٌّ وخضوع لمن لا يستحق الخضوع ، فلا تخشَ إلا ربك, فالخشية عبادة عظيمة من أجلِّ العبادات, وصرفها لغير الله شرك. *
ودليل الإنابة قوله تعالى: } وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له {
----------------------------
وتوجه القلب إلى الله بالإنابة والرجوع إليه عبادة جليلة يثاب عليها العبد . والإنابة : هي الرجوع إلى الله, وأصلها محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد ، فمن لا يُحبُّ لا يمكن الإنابة إليه .قال ابن القيم رحمه الله : " الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل, كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه ، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم ، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له, والمتابعـة لرسوله ﷺ " ([184]) . والإنابة بمعنى التوبة ولكنها أعلى من التوبة ، لأن التوبة إقلاع وعزم على أن لا يعود وندم على ما مضى ، فإن استمر على ما هو عليه من عباداته فهو تائب ، فإذا أقبل على الطاعات بعد توبته كقراءة القرآن والصدقة فهذه إنابة إلى الله ، فمن تاب من السرقة مثلاً كان تائباً, فإذا أقبل على الطاعات بعد التوبة كالاستغفار والذكر ونحوهما كان منيباً ، فالإنابة تدل على التوبة, وتدل على الإقبال على الله بالعبادات.
والمصنف اقتصر على ذكر الإنابة ولم يذكر التوبة من أنواع العبادة ، لأن صورة العبادة بالنسبة للإنابة,أوضح من صورتها بالنسبة إلى التوبة ، بسبب زيادة الإقبال على العبادة ، ولأن الإنابة أعم من التوبة ، والفطرة دالة على الإنابة, قال شيخ الإسلام رحمه الله:" الفطرة تتضمن الإقرار بالله والإنابة إليه"([185]).
والمنيب إلى الله هو المسرع إلى مرضاته،العائد إلى الله في كل وقت ، السبَّاق إلى محابِّه، قال ابن القيم رحمه الله : " إنابة أوليائه إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة,وهي تتضمن أربعة أمور : محبته ، والخضوع له ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، فالمنيب إلى الله المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت ، المتقدم إلى محابه ، لأن لفظ الإنابة فيه معنى الإسراع والرجوع والتقدم "([186]).
والإنابة إلى الله دأب الأنبياء والمرسلين, عليهم الصلاة والسلام قال سبحانه عن داود عليه السلام : } وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب { . وقال عن سليمان عليه السلام : } ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب { وقال شعيب عليه السلام : } وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب { وقال نبينا محمد ﷺ : } ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب { وأثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام لاتصافه بالإنابة إليه والرجوع إليه في كل أمر, قال سبحانه: } إن إبراهيم لحليم أواه منيب { والبشارة لأهل الإنابة قال جل وعلا : } والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدها وأنابوا إلى الله لهم البشرى { ولا يعتبر بالآيات,ولا يتعظ بالعبر إلا المنيب إلى ربه,قال عز وجل : } تبصرة وذكرى لكل عبد منيب { .قال ابن القيم رحمه الله : " العبد إذا أناب إلى الله,أبصر مواقع الآيات والعبر، فاستدل بها على ما هي آيات له " ([187]) .والإنابة إلى الله مانعة من عذاب الله قال عز وجل : } وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون { والجنة أعدت نزلاً للقلب الخاشع المنيب قال جل وعلا : } وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب { , وأمر الله جميع الخلق بالإنابة إليه والرجوع إليه, قال سبحانه : } منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين { ، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة ، لأنه يتوكل في حصولها ، فالتوكل وسيلة والإنابة غاية .
والإنابة من أسباب سعادة العبد في الدارين , قال شيخ الإسلام رحمه الله : " العبد إنما خلق لعبادة ربه, فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره في أن يعبد ربه وينيب إليه " ([188]) . ولكون الإنابة منزلة عالية عند الله فإن الشيطان يسعى لصد العبد عنها ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه,والتقرب إليه والاتصال به"([189]) .
والإنابة عبادة يتفاوت العباد فيها ، قال ابن القيم رحمه الله :" والناس في إنابتهم على درجات متفاوتة ، فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي ، ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات ، ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه " ([190]) .
(ودليل ) أن ( الإنابة) عبادة عظيمة أمر الله تعالى عباده بها في ( قوله تعالى: وأنيبوا إلى ربكم ) بقلوبكم ( وأسلموا له ) بجوارحكم ، فهو ظاهر في أنها عبادة وأنه يحبها شرعاً وديناً ، فصرفها لغير الله شرك. *
ودليل الاستعانة قوله تعالى : } إياك نعبد وإياك نستعين { وفي الحديث " إذا استعنت فاستعن بالله " .
---------------------------------
الاستعانة : طلب العون ، وهي تجمع : الثقة بالله والاعتماد عليه, مع كمال الذل له وهي تتضمن ثلاثة أمور قال ابن القيم رحمه الله :" والاستعانة بالله تتضمن ثلاثة أمور: كمال الذل له ، مع الثقة به ، والاعتماد عليه , ومن استعان بغير الله محققاً هذه المعاني الثلاثة فقد أشرك مع الله غيره " ([191]) . ومدار الدين على العبادة والاستعانة .
(ودليل ) أن ( الاستعانة ) من أنواع العبادة قوله تعالى: ( إياك نعبد ) أي نخصك وحدك بالعبادة ( وإياك نستعين ) نفردك بالاستعانة بك دون خلقك ، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها, لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى, فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي ، فالأول : تبرؤ من الشرك والثاني : تبرؤ من الحول والقوة .
والقيام بعبادة الله والاستعانة به, هما الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بها , قال شيخ الإسلام رحمه الله :" الدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به " ([192]) . والعبادة من مقتضيات ألوهيته, والاستعانة من مقتضيات ربوبيته, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " إياك نعبد إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته, من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي ، وإياك نستعين إشارة إلى ما اقتضته الربوبية, من التـوكل والتفويض والتسليم "([193]) . والاستعانة تكون على أمور المستقبل قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فإن الاستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل ، فأما ما وقع فإنما فيه الصبر والتسليم والرضا" ([194]). والاستعانة عبادة عظيمة ومما يعين عليها قول : " لا حول ولا قوة إلا بالله ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وقول لا حول ولا قوة إلا بالله يوجب الإعانة, ولهذا سنَّها النبي ﷺ إذا قال المؤذن حي على الصلاة فيقول المجيب : لا حول ولا قوة إلا بالله " ([195]) متفق عليه ([196]).وقال أيضاً: " إن هذه الكلمة : - أي لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة استعانة, لا كلمة استرجاع ، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع, ويقولها جزعاً لا صبراً " ([197]) . وأجمع الأدعية طلب العون على الطاعة, قال ابن القيم
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " تأملت أنفع الدعاء, فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته,ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين " ([198]).
وبالاستعانة بالله تستغني عن الاستعانة بالخلق ، وكمال غنى العبد في تعلقه بربه ، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره, وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولاً ، وقد أمر الأنبياء أقوامهم بالاستعانة بالله وحده قال سبحانه : } قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا { وأمر النبي ﷺ بالاستعانة بالله فقال : ( في الحديث ) الذي رواه الترمذي" إذا استعنت فاستعن بالله "([199]) ، قال ابن دقيق العيد رحمه الله :" بقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى,بطلبه,أو بقلبه,أو بأمله, فقد أعرض عن ربه إلى من لا يضره ولا ينفعه ، وكذلك الخوف من غير الله " ([200]) .
ولا بأس بالاستعانة بالمخلوق الحي على أمر قادر عليه فإن كانت على بر وخير فهي إحسان,قال سبحانه : } وتعاونوا على البر والتقوى { ، وإن كانت على إثم فهي حرام,قال جل وعلا : } ولا تعاونوا على الإثم والعدوان { .
وأما الاستعانة بالأموات,أو بالأحياء الغائبين, أو بالأحياء الحاضرين, على أمر لا يقدرون عليه فهذا شرك .
والعبد ضعيف بنفسه لا غنى له عن عون الرب , ومن سعى في تحقيق مطلوبه ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يتم له مقصوده ، ومن فضل الله على عباده أن من تعلق به منهم أعانه الله , فالاستعانة عبادة عظيمة عليها مدار الدين ، على العبد تحقيقها وعدم التفريط فيها . *
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[، و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ { .
---------------------------------------
الاستعاذة : هي الالتجاء والاعتصام والتحرز ، وحقيقتها : الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه .
والاستعاذة بالله هي الالتجاء إلى الله, والاعتصام به, واعتقاد كفايته, وتمام حمايته من كل شر .
وهي عبادة من العبادات التي أمر الله عباده بها كما قال تعالى : } وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ{ وقال تعالى : } فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ { قال في فتح المجيد: " وقد أجمـع العلماء,على أنه لا تجوز الاستعـاذة بغير الله " ([201]). قال شيخ الإسلام : " وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق " ([202]). ولا عاصم في تفريج الكروب ورفع الخطوب سوى رب العالمين , والحياة مليئة بالآفات والمكاره ، ولكل مخلوق أعداء من الجن والإنس وعلى مقدمتهم
إبليس لعنه الله قال سبحانه :} إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ( وأخبر الله أن لكل نبي أعداءً من الجن والإنس قال سبحانه : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُـمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ( وكذلك أتباع الرسل يتعرضون للابتلاء .
ولا غنى لأي مخلوق من الاحتماء بجناب الله والاعتصام بحماه من شرور الإنس و الجن ومن مكاره الحياة وآفاتها ، ومن طلب العوذ من الله فقد رام عبادة جليلة أمر الله بها في أكثر من موضع في كتابه.
( فدليل ) أن ( الاستعاذة ) من أنواع العبادة ( قوله تعالى : قُلْ ) يا محمد متعوذاً ، والخطاب أيضاً لجميع أمته ( أَعُوذُ ) أي : أعتصم وألتجأ ( بِرَبِّ ) وخالق (الْفَلَقِ ) وهو الصبح ، وقوله : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ) وخالق ( النَّاسِ ) ، وقد قال النبي ﷺ عن المعوذتين لعقبة بن عامر t " ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ، قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس " رواه مسلم ([203]).
ويجب على المسلم أن يداوم على الاستعاذة بهما في صباحه ومسائه, فهي سبب في تحصينه من الشرور والآفات يومه وليلته,وقد أوصى النبي ﷺ عقبة بن عامر بهما وقال له : " تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما" رواه أبو داود ([204]) , قال ابن القيم رحمه الله : " حاجـة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين, أعظم من حاجـته إلى النفس والطعام والشراب واللباس" ([205]) .
والرب سبحانه متصف بالقوة والعزة,من اعتصم به لم يصله أذى أحد ، وتخلف عنه الضرر ولو مع وجود أسبابه ، قال عليه الصلاة والسلام :" من نزل منزلاً فقال : أعـوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ،لم يضره شيء, حتى يرتحل من منزله ذلك "رواه مسلم ([206]) . قال القرطبي : هذا خبر صحيح وقول صادق,علمنا صدقه دليلاً وتجربة,فإني منذ سمعت هذا الخبر,عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغني عقرب بالمهدية ([207]) ليلاً, فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات " ([208]).
والمخلوق ضعيف يتعرض للأذى,لا تهنأ له حياته إلا بالاعتصام واللوذ بالله ، ويجب على العبد أن يعلم أن الضرر والنفع بيد الله ، وأن من سعى للإضرار بك لا يتحقق له مناه ما لم يشأ الله ذلك. قال عليه الصلاة والسلام : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء,لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء,لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ،
رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي ([209]) ، وقد ذكر الله ما ضرره ظاهر متحقق في رأي العبد وهو السحر,ومع ذلك قد يتخلف فيه الضرر قال سبحانه :)وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه {فالاستعاذة بالله عبادة من أجل العبادات أمر الله نبيه محمداً ﷺ أن يستعيذ بخالق الإصباح من شر جميع المخلوقات ، ومن شر الغاسق والساحر والحاسد ، والقادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم,هو القادر أن يرفع عن المستعيذ ما يخافه ويخشاه.
ولا بأس بالاستعاذة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه لحديث جابر t أن امرأة
من بني مخزوم سرقت فأتى بها النبي ﷺ فعاذت بأم سلمة زوج النبي ﷺ رضي الله عنها فقال النبي ﷺ : " والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها فقطعت " رواه مسلم ([210]). قال في تيسير العزيز الحميد : " المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه بخلاف ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستعاذ فيه إلا بالله " ([211]) ، أما الاستعاذة بالأموات,أو بالغائبين الأحياء,أو بالأحياء القادرين غير الحاضرين,فهذا شرك أكبر كما قال تعالى : ]وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً[. فاجعل مسألتك واستعاذتك بالله وحده ، فلا عاصم من المهالك سواه ، ولا جالب للنفع غيره . *
ودليل الاستغاثة قوله تعالى : } إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {
---------------------------------
الاستغاثة : هي طلب الإغاثة والغوث ، وهو طلب الإنقاذ من الضيق والشدة.
قال ابن القيم رحمه الله : " الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذعر" ([212]) .
والفرق بين الدعاء والاستغاثة:
أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب.
وأما الدعاء, فهو أعم يكون من المكروب ومن غيره فهي أخص أنواع الدعاء فإن دعاء المكروب يقال له استغاثة . والفرق بين الاستغاثة والاستعاذة :
أن الاستعاذة تطلب منه أن يعصمك وأن يمنعك وأن يحصنك , والاستغاثة تطلب منه أن يزيل ما حل بك من شدة.
والاستغاثة تتضمن: كمال الافتقار إلى الله, واعتقاد كفايته ، وهي من أفضل الأعمال وأكملها , والمرء في هذه الحياة عرضة للكروب والكوارث ، فمن استغاث بربه في كشف ملماته فقد أدى عبادة عظيمة فزع إليها الأنبياء والصالحون عند الشدائد ففرج الله كروبهم.
(ودليل ) أن ( الاستغاثة ) عبادة ( قوله تعالى: إذ) أي اذكروا نعمة الله عليكم لما قارب التقاؤكم بعدوكم فقمتم ( تستغيثون ربكم ) وتطلبون منه المدد والعون والنصر ( فاستجاب لكم ) يوم بدر حين نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى كثرة المشركين وجعل يهتف بربه ويناشده , ويطلب منه الغوث } أمن يجيب المضطر إذا دعاه { فأمده الله بالنصر على عدوه ، فقتلوا وأسروا وظهر الإسلام وسمي يوم الفرقان.
فدلت الآية على أن الاستغاثة عبادة من أجل العبادات,وأن صرفها لغير الله كأن يستغاث بالأصنام,أو الأموات,أو الغائبين,أو نحوهم - شرك به تعالى ، قال ابن القيم رحمه الله : " ومن أنواعه- أي الشرك - طلب الحوائج من الموتى,والاستغاثة بهم,والتوجه إليهم,وهذا أصل شرك العالم,فإن الميت قد انقطع عمله,وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً, فضلاً عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته,أو سأله أن يشفع له إلى الله " ([213]). وهذه الاستغاثة لا نفع منها سوى الحسرة والندامة,وصاحبها يجري خلف سراب لن يتحقق له مُبتغاه ، ففي الدنيا خاسر وفي الآخرة هالك , قال شيخ الإسلام رحمه الله :يقول أبو يزيد رحمه الله :" استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق " ([214]).
فمن دعا غير الله والتجأ إليه من الأموات, أو الأحياء الغائبين,لا يتحقق له مطلوبه ولو عكف على استغاثته سنين,قال سبحانه : } إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم { .
والاستغاثة بالأحياء الحاضرين القادرين على الإغاثة,جائزة فيما يقدرون عليه, قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : } فاستغاثه الذي من شيعته {
أما إنزال وطلب الحوائج منهم, وهم غير قادرين, أو من الأموات, أو الغائبين,فهي شرك بالله.
فإذا حلَّت بك الخطوب,واشتدت بك الكروب,فاستغث بعلام الغيوب, فبيده مقاليد السموات والأرض } إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون { .
ودليل الذبح قوله تعالى : } قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ { .
--------------------------------------
الذبح لله من أجلِّ الطاعات ، ومن أفضل العبادات المالية ، وأمارة على صدق الإيمان وسمو النفس لله ، لأن الحيوان المذبوح محبوب لأربابه ، فإذا بذله لله متقرباً به إلى الله,وسمحت نفسه بإذاقة الحيوان الموت ، صار أفضل من مطلق العبادات المالية ، قال شيخ الإسلام : " وما يجتمع في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن,به أمر عجيب " ([215]). من ظهور حلاوة الإيمان على القلب.
( ودليل ) أن ( الذبح ) عبادة عظيمة لله ( قوله تعالى : قل إن ) تعبدي بـ ( صلاتي ) أي : صلواتي ( ونسكي ) بالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال, لما هو أحب إليها وهو الله،وخص هاتين العبادتين, لشرفهما وفضلهما,ودلالتهما على محبة الله وإخلاص الدين له فالصلاة من أجل العبادات البدنية,والنحر من أجل العبادات المالية ، ومن أخلص في صلاته ونسكه,استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله ( ومحياي ) أي ما آتيه في حياتي ( ومماتي ) أي ما أدخره عند الله بعد مماتي , كل ذلك ( لله ) لا لغيره ( رب العالمين ) ومعبودهم ( لاشريك له) في العبادة,كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير ( وبذلك ) أي بإخلاص تلك الأعمال لله ( أمرت ) أمراً حتماً يجب عليَّ امتثاله ( وأنا أول المسلمين ) من هذه الأمة ، فإن من سخر جسده بالتعبد لله وماله بذبح القرابين لربه فهو المسلم حقاً , وقد أمر الله رسوله ﷺ بإخلاص تلك العبادتين له لفضلهما فقال : } فصل لربك وانحر { أي صلِّ واذبح لله لا لغيره ، فكما أن الصلاة لا يجوز أن تؤدى لغير الله ، فكذلك الذبح لا يجوز إلا لله وحده .
ومن السنة " لعن الله من ذبح لغير الله "
-----------------------------------
ومن هانت عليه نفسه,فصرف عبادته لغير الله,بأن ذبح للأصنام,أو للقبور, تعظيماً لها، أو خوفاً منها,أو التماساً لشفاعة أربابها ، أو في طريق قدوم سلطان ، أو لنحو ذلك ، فقد وقع في الشرك,سواء كان المذبوح بعيراً,أو بقرة,أو شاة, أو دجاجة,أو أصغر من ذلك , وقد جاء الوعيد الشديد فيمن فعل ذلك ( من السنة ) في قوله ﷺ " ( لعن الله ) واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله ( من ذبح ) وأراق الدماء ( لغير الله ) " رواه مسلم ([216]).
فمن استحوذ عليه الشيطان وقدَّم القرابين لغير خالقه,فقد كفر النعمة ، وهضم جناب ربوبية الله ، وتنقص ألوهيته ، وعظَّم غير خالقه,وتعرَّض لوعيد الله عليه باللعن,لجرم ما ارتكبه من إراقة الدماء بالذبح لمخلوق لا يستحق أن يصرف له أي شيء من أنواع العبادة . *
ودليل النذر قوله تعالى: ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(
---------------------------------------
النذر إيجاب المكلف على نفسه ما ليس واجباً عليه بأصل الشرع ، وهو عبادة يجب إخلاصها لله , ( ودليل ) أن ( النذر ) عبادة لا يصرف إلا لله ( قوله تعالى ) في معرض الثناء على من وفَّى بالنذر ( يوفون بالنذر ) بما ألزموا به أنفسهم من النذور,وإذا كانوا يوفون بما هو غير واجب في الأصل عليهم إلا بإيجابهم على أنفسهم,ففعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية من باب أولى وأحرى ، وهو سبحانه لا يثني إلا على فاعل عبادة ( ويخافون يوماً ) عسيراً ( كان شره ) أي ما فيه من الأهوال ( مستطيراً ) ومنتشراً وقاسياً على الناس إلا من رحم الله ، والمسلم قلبه معلق بالله,لا يصرف أي نوع من العبادة لغير الله ، بل يؤدي جميع العبادات على وجهه, وإن أوجب على نفسه شيئاً بالنذر فيما لم يوجب الشارع الحكيم عليه لم ينذر إلا لله ، لقول النبي ﷺ :" من نذر أن يطيع الله فليطعه,ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه "رواه البخاري ([217]) .
ومن صرف النذر لغير الله,فقد صرف عبادة من العبادات لغير الله,ووقع في الشرك وهو أعظم من الحلف بغير الله,قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فمن نذر لغير الله فهو مشرك,أعظم من شرك الحلف بغير الله " ([218]) .
ومن نذر لمخلوق لم ينعقد نذره ويحرم عليه الوفاء به قال شيخ الإسلام رحمه الله : " النذر للقبور ، أو لأحد من أهل القبور ـ كالنذر لإبراهيم الخليل ، أو للشيخ فلان أو فلان أو لبعض أهل البيت أو غيرهم ـ نذر معصية لا يجب الوفاء به باتفاق أئمة الدين بل ولا يجوز الوفاء به ، فإنه قد ثبت في الصحيح ([219]) عن النبي ﷺ أنه قال :" من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " رواه البخاري ا. هـ ([220]). وكيف تصرف العبادة لمخلوق لا يملك نفعاً ولا يدفع ضراً ؟ هذا من أعظم البهتان !! والنذر لا يصرف إلا لله,وإن نذر لله في طاعة وجب الوفاء به ، وعقد النذر لله ابتداءً مكروه ، وأخبر النبي ﷺ أنه " لا يقدم شيئاً ، ولا يؤخره ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه ([221]), ولكن إن نذر لا يحل له أن ينذر إلا لله فحسب ، لأن النذر عبادة . *
الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة
---------------------------------
يجب على الإنسان معرفة ثلاثة أصول ، الأصل الأول : معرفة العبد ربه,وقد بين المؤلف رحمه الله فيه,أن ربنا هو الله وهو معبودنا وحده,وعرفناه بآياته ومخلوقاته، وذكر بعض أنواع العبادة وأنها لا تصرف إلا لله ، وأن صرف أي شيء منها لغيره شرك به تعالى ، ويذكر المصنف رحمه الله هنا ( الأصل الثاني ) من أصول الدين الذي لا ينبني إلا عليها وهو ( معرفة دين الإسلام ) العظيم الذي خلقنا الله لندين به,وتعبدنا بالقيام,به ويجب معرفة هذا الدين من أصوله التي يبنى عليها ( بالأدلة ) من الكتاب و السنة, ليكون على نور وبرهان وبصيرة من دينه ، فإن لم يكن على حقيقة من دينه, فإنه يخشى عليه في حياته وبعد مماته عند سؤال الملكين إذا سألاه في القبر أن يحصل له الشك ، فيجيب بالجواب السيئ فيقول : " هاه ، هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " ([222]) بخلاف من يعرف أدلة دينه من الكتاب و السنة,وكان على القول الثابت في الدنيا عاملاً بالدين, فإنه حري به أن يقول عند سؤال الملكين:ربي الله,وديني الإسلام ، ونبي محمد ﷺ ([223]) ، فإن من أسباب الثبات عند السؤال معرفة الدين بالحجج من الكتاب والسنة ، والعمل به. *
وهو الاستسلام لله بالتوحيد
--------------------------------------
( و ) تعريف دين الإسلام الذي تدين الله به ( هو الاستسلام لله ) بالذل والخضوع له تعالى,بإفراده بالربوبية والخلق و التدبير,وإفراده تعالى ( بالتوحيد ) بجميع أنواع العبادة .
وحقيقة دين الإسلام : هو أن يسلم العبد أفعاله لله لا لغيره ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" حقيقة الإسلام أن يستسلم لله لا لغيره ، وهو معنى لا إله إلا الله " ([224]).
والمسلم سمِّي مسلماً,لخضوع جوارحه لطاعة ربه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الإسلام هو : الاستسلام ، وهو يتضمن الخضوع لله وحده ، والانقياد له ، والعبودية لله وحده " ([225]) .
فالمستسلم لله ولغيره مشرك ، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر ، ومن استكبر عن الحق ابتلاه الله باتباع الباطل ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل ، فيكون المستكبر مشركاً كما ذكر الله ([226]) ".
والإسلام له رأس وهو الشهادتان ، وله ضدان: الكبر والشرك . قال شيخ الإسلام رحمه الله :" الإسلام الذي هو دين الله,الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله عليهم الصلاة والسلام,وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين,فيستسلم لله وحده لا شريك له ، ويكون سالماً له بحيث يكون متألهاً له غير متأله لما سواه ، كما بينه أفضل الكلام ورأس الإسلام ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، وله ضدان الكبر والشرك ، ولهذا روي أن نوحاً عليه السلام أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع,فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده,فلا يكون مستسلماً له ، والذي يعبده ويعبد غيره,يكون مشركاً به ، فلا يكون سالماً له ، بل يكون له فيه شرك ، ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص " ([227]) . *
و الانقياد له بالطاعة
-------------------------------------
ومع ذل العبد وخضوعه لله يجب عليه ( الانقياد ) والإذعان ( له ) جل وعلا ( بالطاعة ) بفعل المأمورات وترك المنهيات امتثالاً لأمر الله } قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول { وقوله ﷺ : " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه,وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم,فإنما أهلك من كان قبلكم ,كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " متفق عليه ([228]).
وأعلى المراتب كمال الانقياد ، ومن لم ينقد لهذا الدين أذله الله ، قال ابن القيم رحمه الله :" من تواضع لله رفعه ، فكذلك من تكبر على الانقياد للحق أذله الله ووضعه,وصغره وحقره " ([229]) .
والكبر من أعظم أسباب منع الانقياد لهذا الدين ، قال ابن القيم رحمه الله وهو يعدد موانع الانقياد : " السبب الثالث : قيام مانع,وهو إما حسد أو كبر ، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر ، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله ، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله ﷺ وعرفوا صحة نبوته,ومن جرى مجراهم " ([230]) . *
والبراءة من الشرك وأهله
-----------------------------------
ومن أركان التوحيد التي يجب على المسلم اعتقادها والعمل بها, أن الإسلام هو إفراد الله بالتوحيد,والانقياد له بالطاعة ( والبراءة ) أي أن يتبرأ المسلم ( من ) أعمال وأقوال ( الشرك ) ويعتقد بطلانها ( و) يتبرأ من ( أهله ) في الاعتقاد والعمل والمسكن,بل من كل خصلة من خصالهم ، ومن كل نسبة من النسب إليهم ، معادياً لهم غير متشبه بهم في قول أو فعل.
فدين الإسلام يقوم على ثلاث أسس لا بد من اجتماعها :
1. الاستسلام لله بالتوحيد .
2. الانقياد له بالطاعة .
3. البراءة من الشرك و أهله .
والبراءة من الشرك وأهله أحد ركني التوحيد الذي ينبني عليه,إذ التوحيد قائم على ركنين لا بد من اجتماعهما معاً,ليكون العبد موحداً,وهما النفي والإثبات, ومن فقد أحدهما فقد التوحيد ، فتنفي العبودية عن غير الله ، وتثبت العبودية لله وحده,قال سبحانه مخبراً عن إبراهيم عليه السلام آمراً بالتأسي به: } وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون { فهذا هو الركن الأول وهو البراءة من الشرك وأهله , وقوله تعالى بعدها : } إلا الذي فطرني { هذا هو الإثبات وهو الركن الثاني،وكقوله تعالى : } لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت { هذا هو البراء أي النفي } ويؤمن بالله { وهذا هو الإثبات.
فكلمة التوحيد معناها: لا معبود بحق إلا الله ، فمن كان يصلي ويصوم ويحج ويتصدق,ولكن يقر الشرك ويصحح معتقد المشركين فليس بمسلم ، لأنه لم يتبرأ من الشرك وأهله ، فيجب الجمع بين البراءة من المشركين ، وبين الإيمان بالله بإفراد العبودية له وحده ، فالذي يصلي وهو واقع في الشرك لا تنفعه صلاته,لأنه لم يتطهر من الشرك.
ويجب على العبد مع معرفته لهذا الدين,محبته للدين, قال شيخ الإسلام رحمه الله :" القلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقاً به ، وديناً له ، لكن يعرض لها ما يفسدها ، ومعرفة الحق تقتضي محبته ، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه, لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل, لكن قد يعرض لها ما يفسدها, إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق, وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه "([231]).
ويجب على كل مسلم أن يعتز بدينه ، فدينه هو الحق وما سواه من الأديان فهو باطل ، قال تعالى : } إن الدين عند الله الإسلام { وقد أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يعلن ذلك للناس في قوله : } قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين { . فمن هداه لهذا الدين فليفرح بنعمة الله عليه بالهداية,وليستمسك به,فقوة العبد وعزته بالدين, وليدعو الناس إليه فهو طريق الخلق إلى النعيم قال سبحانه : } فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { . *
( وهو ثلاث مراتب الإسلام والإيمان والإحسان وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام ) . -------------------------------------
( وهو ) أي : الدين له ( ثلاث مراتب ) أي منازل ( الإسلام ) مرتبة ، ( والإيمان ) مرتبة ، ( والإحسان ) مرتبة ، وأهل دين الإسلام لا يخلو حالهم من إحدى هذه المراتب ، وقد ينتقل المسلم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها, أو أدنى منها على قدر طاعته لله أو بُعدهِ عنه. وأول تلك المراتب الإسلام ، وأوسطها الإيمان ، وأعلاها الإحسان ، ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى ما قبلها ، فالمحسن مؤمن ، والمؤمن مسلم ، وأما المسلم فلا يلزم أن يكون مؤمناً , قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : " فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة " ([232]). فالمرتبة الأولى : هي مرتبة الإسلام وهي أوسعها وأرحبها, وهي أقل مراتب الدين ، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام ويذعن له وينقاد قال سبحانه : ) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (، ولا يُخرج العبد عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله والشرك المخرج من الملة . والمرتبة الثانية : هي مرتبة الإيمان, وهي التي تلي مرتبة الإسلام في العلو, وهي أضيق من مرتبة الإسلام . وكل خصلة من خصال الإيمان داخلة في الإسلام, قال ابن أبي شيبة رحمه الله : " لا يكون إسلام إلا بإيمان, ولا إيمان إلا بإسلام " ([233]) . فما كان من الأعمال الباطنة, فوصف الإيمان عليه أغلب من وصف الإسلام ، وما كان من الأعمال الدينية الظاهرة, كالشهادتين والصلاة وأنواع العبادات التي تظهر ويطلع عليها الناس فوصف الإسلام عليها أغلب من وصف الإيمان. فدائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان كما أن دائرة الإيمان أوسع من دائرة الإحسان . والمرتبة الثالثة : هي مرتبة الإحسان وهي أعلى من مرتبة الإيمان,وهي أضيق المراتب,وأهلها قليلون, وهي مرتبة عالية عزيزة لا يرتقي إليها إلا عباد الله المحسنون.
وهذا التفصيل الذي أخبر به النبي ﷺ في حديث جبريل ([234]) جاء به القرآن, فجعل الأمة على هذه الأوصاف الثلاث فقال تعالى: } ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ { ، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو ظالم لنفسه ، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم ، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. والناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلاً عظيماً, ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض ، فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ومنهم من يدخل النار وهم العصاة, ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم ثم يخرجون منها, لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان. ( وكل مرتبة ) من مراتب الدين الثلاث ( لها أركان ) لا تقوم إلا عليها,ومراتب الدين لا تتم إلا بأركانها , ( فأركان الإسلام خمسة ) أركان لا يستقيم إلا بها,ولا يثبت بدونها, وهي ما ذكره النبي e في قوله : " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان "متفق عليه ([235]) .قال ابن رجب رحمه الله : " والمراد من هذا الحديث ، أن الإسلام مبنى على هذه الخمس,فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، والمقصود تمثيل الإسلام ببنيان, ودعائم البنيان هذه الخمس, فلا يثبت البنيان بدونها ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء نقص البنيان ، وهو قائم لا ينقص بنقص ذلك ، بخلاف نقص هذه الدعائم, فإن الإسلام يزول بفقدها جميعاً بغير إشكال ، وكذلك يزول بفقد الشهادتين " ([236]). * وقدم الأهم فالأهم من أركان الإسلام, فبدأ بقطبها وهي ( شهادة ) ومعنى الشهادة الاعتقاد الجازم ، وأطلق على الاعتقاد لفظ الشهادة ، لبيان أنه لابد من الاعتقاد الجازم ، حتى كأن هذا الذي تعتقده كأنك تشاهده والذي تشاهده تشهد به ( أن لا إله ) معبود بحق ( إلا الله ) وشهادة ( أن محمداً رسول الله ) ﷺ أرسله الله للناس كافة بشيراً ونذيراً . وهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه ، فإن أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر,هو الإيمان بالوحدانية والرسالة,وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ﷺ ، قال ابن القيم رحمه الله : " أصل عقد التوحيد وإثباته, هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ﷺ " ([237]) ، وهي مفتاح الجنة قال النبي ﷺ : " مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله " ([238]) . قال ابن القيم رحمه الله : " فإن الشهادة أصل المفتاح ، والصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها, إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه " ([239]) قيل لوهب بن منبه : " أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك " ([240]) . وجعلت الشهادتان ركناً واحداً ولم تجعل شهادة أن لا إله إلا الله ركناً ، وشهادة أن محمداً رسول الله ﷺ ركناً ثانياً ، لأن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال وقبولها, إذ لا يقبل العمل ولا يكون صحيحاً إلا بأمرين : 1 – الإخلاص لله . 2 – المتابعة للرسول ﷺ . فإذا وجد الإخلاص تحققت شهادة أن لا إله إلا الله ، وإذا وجدت المتابعة تحققت شهادة أن محمداً رسول الله ﷺ ، ولأن الرسول مبلغ عن الله ، فالشهادة له بالرسالة والعبودية من تمام شهادة أن لا إله إلا الله ، فكأن الثانية تكملة للأولى ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" ودين الإسلام مبني على أصلين ، وهما : تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ﷺ " ([241]) . والركن الثاني من أركان لإسلام ( إقام الصلاة ) أي أداؤها في وقتها تامة بشروطها وأركانها وواجباتها.
والركن الثالث ( إيتاء الزكاة ) أي أداء ما افترض الله على العبد من الزكاة . والركن الرابع ( صوم ) شهر ( رمضان ) بالإمساك عن الأكل والشرب, والجماع من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس, ممن يجب عليه الصيام من المستطيع وغير المعذور . والركن الخامس ( حج بيت الله الحرام ) أي قصد بيت الله الحرام لأداء شعيرة الحج . *
فدليل الشهادة قوله تعالى : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ُ( . ---------------------------------------
وكل ركن من أركان الإسلام له دليل ( فدليل الشهادة ) أي شهادة أن لا إله إلا الله ( قوله تعالى } شهد الله { وشهادته سبحانه,هي أعظم شهادة في الوجود قال سبحانه } قل أي شيء أكبر شهادة قل الله { وشهد سبحانه على أجلِّ مشهود عليه, وهو ما شهد به تعالى } أنه لا إله { يستحق العبادة } إلا هو { جل وعلا } والملائكة { شهدوا بأنه لا إله إلا هو,كما شهد الله لنفسه المقدسة بذلك } وأولوا { أي أصحاب } العلم { شهدوا بذلك أيضا,ً فجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده, وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة ، وهذا فيه أعظم حاثٍّ على طلب العلم ، فإن الله شهد واستشهد الملائكة واستشهد أهل العلم ، ففي هذه الشهادة رفعة لأهل العلم,حيث استُشْهِدوا على ما شهد به رب العالمين ، وأيُّ ثناء أشرف من هذا الثناء عليهم وتعديلهم ، وشهادته لهم أنهم أولوا العلم,وجعلهم حجة على من أنكرها, دال على فضل العلم, والمراد به العلم الشرعي, الذي هو نور القلوب وقوتها, وغيره علم نسبي إضافي, إما إلى أمور دنيوية, أو علوم حسابية وصناعية, أو غير ذلك,وأهله ليسوا من أهل العلم الذين استشهدهم, فلا يطلق هذا العلم إلا على العلم الشرعي الديني } قائماً { منصوب على الحال } بالقسط { أي : بالعدل ، أي : قائماً بالعدل في جميع الأحوال } لا إله إلا هو { تأكيد لما سبق } العزيز { الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً } الحكيم { في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره . *
( ومعناها لا معبود بحق إلا الله ( لا إله ) نافياً جميع ما يعبد من دون الله ( إلا الله ) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه ) ---------------------------------
( ومعناها ) أي : ومعنى كلمة التوحيد,لا إله إلا الله ( لا معبود ) يستحق العبادة ( بحق ) ويجب أن يؤتى في بيان معناها بهذا القيد وهو كلمة " بحق " لأن المعبودات من دون الله كثيرة ولكنها معبودات باطلة,كعبادة أهل القبور والأشجار والأصنام, قال سبحانه : } ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل { فلا أحد منهم يستحق العبادة, بل عبادتهم باطلة ولا يستحقها ( إلا الله ) وحده . فالله هو المعبود بحق, وكل مألوه سوى الله فإلهيته أبطل الباطل, وهذا هو معنى لا إله إلا الله ، نفي الإلهية عن غير الله, وإثباتها لله وحده, وسيقت لتوحيد الإلهية مطابقة. وليس معناها لا موجود إلا الله,أو لا يخلق ولا يرزق إلا الله, فإنها وإن دلت عليه بطريق التضمن, فهي موضوعة لتوحيد الإلهية,الذي هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب في تقريره وإيضاحه . وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون, كأبي جهل وأضرابه, كما قال تعالى : } قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ { أي أنه الذي يفعل ذلك, ولم ينازعوا فيه, ولا امتنعوا من الإقرار به, بل احتج تعالى عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية فقال : } فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ { أي الشرك به في عبادته, فإنهم يعرفون معناها وأنها دلت على إفراد الله بالعبادة, ولهذا أنكروا أن يكون الله هو المعبود وحده, لأنهم عرفوا مدلولها, قال ابن رجب رحمه الله : " والإله هو الذي يطاع فلا يعصى,هيبةً له,وإجلالاً ومحبةً وخوفاً, ورجاءً وتوكلاً عليه,وسؤالاً منه ودعاءً له،ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل, فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية, كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ، ونقصاً في توحيده ، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك, وهذا كله من فروع الشرك "([242]). والإله هو الذي تألهه القلوب,وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء ، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل,هو إفراد الرب بالتأله,الذي هو كمال الذل والخضوع والانقياد له ، مع كمال المحبة والإنابة,وبذل الجهد في طاعته ومرضاته,وإيثار محابه ومراده الديني على محبة العبد ومراده ، فهذا أصل دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام,وإليه دعوا الأمم،وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه،لا من الأولين ولا من الآخرين,وهو الذي أمر به رسله عليهم الصلاة والسلام,وأنزل به كتبه, ودعا إليه عباده ، ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله ، وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله.
والقرآن كله يدل على إثبات العبادة لله ، فكلمة التوحيد لا إله إلا الله, اشتملت على أمرين هما ركناها : النفي والإثبات ( فلا إله ) معناها ( نافياً ) المكلف ( جميع ما يعبد من دون الله ) من القبور والأشجار والأحجار وغيرها, فالموحد يعتقد ويقول : أنا لا أعبد أي معبودٍ كان إلا الله فهو الذي أعبده وحده . ومعنى ( إلا الله ) أي : ( مثبتاً العبادة لله وحده ) فلا أعبد أحداً غيره ، وهو سبحانه ( لا شريك له في عبادته ) وألوهيته ( كما أنه ) جل وعلا ( لا شريك له في ملكه ) وربوبيته,أي فكما أنه سبحانه المتفرد في ملك هذا الكون لا شريك له فيه,فواجب أن يفرد في العبادة,فإن من أظلم الظلم أن يجعل المخلوق الذي ليس شريكاً لله في الملك,شريكاً لله في العبادة,تعالى الله وتقدس,ولهذا يحتج تعالى على من أنكر ألوهيته بما أقر به من ربوبيته. فإذا أثبتنا الربوبية له جل وعلا لزم من هذا أن نثبت له الألوهية ، فكيف نثبت بأنه هو المتفرد في الملك,ولا نثبت له أنه المتفرد في الوحدانية ونصرف العبادة إلى غيره ! فتوحيد الربوبية,هو الدال على توحيد الألوهية ومستلزم له,ولهذا قال : كما أنه لا شريك له في ملكه. فلا إله إلا الله اشتملت على أمرين : هما ركناها: النفي " لا إله " والإثبات " إلا الله ". والنفي المحض ليس بتوحيد ، وكذلك الإثبات المحض ليس بتوحيد ، فلا بد من الجمع بينهما . *
ولكلمة التوحيد ثمانية شروط, يجب الإتيان بها مجتمعة مع النطق بها, ومن أخل بشيء منها فقد أخل بدينه, وهذه الشروط هي : 1 - العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً ، المنافي للجهل بمعانيها ومقتضياتها قال تعالى : } فاعلم أنه لا إله إلا الله { وقال تعالى : } إلا من شهد بالحق { أي بلا إله إلا الله } وهم يعلمون { بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم وقال عليه الصلاة والسلام " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة "رواه مسلم ([243]). 2 - اليقين بما دلت عليه ، المنافي للشك بما تدل عليه, بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً,فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن,فكيف إذا دخله الشك؟! قال سبحانه : } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا { فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله,كونهم لم يرتابوا وقال النبي ﷺ " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيها إلا دخل الجنة " رواه مسلم ([244]). ويقول عليه الصلاة والسلام : " من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة "رواه مسلم ([245]).
3 - القبول لمدلولات ومقتضيات هذه الكلمة بقلبه ولسانه,المنافي للرد,وقد قص الله علينا انتقامه ممن ردها وأباها,كما قال تعالى : } وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ { ، وقال سبحانه : } إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ { فكان سبب عذابهم,هو استكبارهم عن قبول تلك الكلمة. 4 - الانقياد لمعانيها ومقتضياتها من الأوامر والنواهي،المنافي للترك لما دلت عليه,كما قال سبحانه : } وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ { ، وقال تعالى : } وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ { أي ينقاد } وهو محسن { موحد } فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى { ، وقال النبي ﷺ : " لا يؤمن أحدكم, حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " رواه ابن أبي عاصم في السنة ([246]). وهذا هو تمام الإنقياد وغايته . 4- الإخلاص في الإيمان بها وما تدل عليه،المنافي للشرك,كأحوال المرائين وغيرهم, كما قال سبحانه : } أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ { ، وقال : } وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ { ، وقال تعالى : } قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي {، وقال سبحانه عن المنافقين : } إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ { ، ويقول النبي ﷺ : " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه " ([247]) رواه البخاري. وقال عليه الصلاة السلام : " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله,يبتغي بذلك وجه الله " ([248]) متفق عليه. 6 - الصدق في اعتقادها في الباطن ، المنافي للكذب بما اعتقده فيها,كالمنافقين كما قال تعالى : } وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { ، وقال سبحانه فيمن أخل بهذا الشرط : } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين َ{ ، وقال عليه الصلاة والسلام : " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله,وأن محمداً عبده ورسوله,صدقاً من قلبه,إلا حرم الله على النار " متفق عليه([249]). فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار,أن يقولها صدقاً من قلبه,فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب
7 - المحبة لهذه الكلمة,ولما اقتضته ودلت عليه,ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها,وبغض ما ناقض ذلك ، المنافية لضدها قال تعالى : } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ { وعلامة حب العبد ربه,تقديم محابه وإن خالفت هواه,وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه,قال النبي ﷺ : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به "رواه ابن أبي عاصم في السنة ([250]). 8 - الكفر بما سوى الله من المعبودات ، والبراءة من الشرك وأهله قال تعالى : } فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا { ، وقد جمعت هذه الشروط في قولهم : علم يقين إخلاص وصدقك مع ** محبة وانقياد والقبول لها . وزيد الشرط الثامن في قولهم : وزيد ثامنها الكفران منك بما ** سوى الإله من الأشياء قد ألها ([251]) . ولا يشترط حفظها وعدها, وإنما معرفتها والإتيان بمقتضاها, قال حافظ الحكمي رحمه الله : " معنى استكمالها: اجتماعها في العبد والتزامها إياها,بدون مناقضة منه لشيء منها,وليس المراد من ذلك عد ألفاظها وحفظها, فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها ولو قيل له : اعددها لم يحسن ذلك؟ وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها؟والتوفيق بيد الله " ([252]). ومن قال لا إله إلا الله وعرف معناها,ولكنه ارتكب شيئاً من نواقض الإسلام كالشرك أو تولي المشركين أو السحر أو غير ذلك من النواقض فإنه يخرج من الدين ولو كان يقول لا إله إلا الله ، إذ لا بد من العمل بمقتضاها وبما دلت عليه, قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا دخل في الصلاة " ([253]).*
( وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُون َ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ، وقوله: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( ).
-----------------------------------
( وتفسير ) شهادة أن لا إله إلا الله و( الذي يوضحها ) ويبينها بياناً تاما,ً ما ذكره الله في كتابه في ( قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ ) إمام الحنفاء ( إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ) آزر ( وَقَوْمِهِ ) الذين اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم ، قال لهم : ( إِنَّنِي بَرَاءٌ ) أي : بريء ومبغض ومجتنب ومعادي لكم يا أهل الشرك ، وكذلك بريء ( مِمَّا تَعْبُدُونَ ) من دون الله من الآلهة ، وهذا فيه معنى " لا إله " وقوله : ( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) أي : ابتدأ خلقي فإني أعبده ، وفيه معنى " إلا الله " فاستثنى من المعبودين ربه (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) يرشدني لدينه القويم,وصراطه المستقيم,بالهداية للعلم والعمل بالحق, كما فطرني ودبرني بما يصلح لديني ودنياي. وقد أمرنا الله أن نتأسى به في قوله تعالى : } قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ { ( وجعلها ) أي : وجعل الخليل إبراهيم عليه السلام,كلمة التوحيد لا إله إلا الله, وما تضمنته من إخلاص جميع أنواع العبادة لله وحده ،
والتبرؤ من عبادة كل ما سوى الله ( كلمة ) عظيمة ( باقية في عقبه ) ونسله وذريته ( لعلهم ) إليها ( يرجعون ) فيقتدون بمن هداه الله من ذريته إليها . قال ابن القيم رحمه الله : " أمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحـيد في نفيه وإثباته " ([254]). فتبين أن معنى كلمة لا إله إلا الله, هي البراء ة من عبادة كل ما سوى الله ، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده, قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فإن الله أمر العباد كلهم, أن يعبدوه مخلصين له الدين ، وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل, فلا يقبل من أحد ديناً غيره قال تعالى: } ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين { "([255]). ومعنى لا إله إلا الله : النفي والإثبات, والولاء والبراء ، ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة ولا يدخل النار فقد أخطأ, فإن لكلمة التوحيد نواقض تخرج المرء عن الدين ولو كان يقول لا إله إلا الله ويعلم معناها. وقد بين تعالى معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة كقوله تعالى : ]وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه[ُ وكقوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) ,
وكقوله تعالى : ( قل ) يا محمد للمشركين ( يا أهل الكتاب ) من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم ( تعالوا ) أقبلوا وهلموا ( إلى كلمة ) واحدة لا غير (سواء بيننا وبينكم ) أي : عدل وإنصاف لا يختلف فيها رسول ولا كتاب, نستوي نحن وأنتم في فرضيتها ووجوبها علينا وعليكم, وهي التي يدعو الرسل أقوامهم إليها وهي : ( أن لا نعبد ) ولا نوحد ولا نفرد العبادة لأحد ( إلا الله ) وحده جل وعلا ، ( ولا نشرك به شيئاً ) لا وثناً ولا صنماً ولا صليباً ولا غيرها ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذه دعوة جميع الرسل قال سبحانه : } وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون { ، وقوله : } ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله { أي لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله كما فعلت اليهود والنصارى ( فإن تولوا ) وأدبروا وأعرضوا عن الإجابة إلى إفراد الله بالعبادة ( فقولوا ) يا أمة محمد ﷺ لهم ولغيرهم ( اشهدوا بأنا مسلمون ) مخلصون لله بالتوحيد, ثابتون على الإسلام الذي شرعه الله لنا ولو خالفتمونا, وصرحوا لهم أنكم مسلمون وأنهم كفار, وأنكم براء منهم وهم براء منكم,وهذا دال على أنه لا بد أن يبين ذلك للكفار,حتى يتفهموا ويتحققوا أنهم ليسوا على دين, وأن دينك خلاف دينهم الذي هم عليه. وأن دينهم خلاف دينك ، وهذه الآية الكريمة كان النبي ﷺ يكاتب بها إلى ملوك أهل الكتاب, وكان يقرأ بها في الركعة الثانية من سنة الفجر ، لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد ، فقد اتفق عليها الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، واحتوت على توحيد الإلهية المبني على عبادة الله وحده ، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق لا يستحق أحد منهم شيئاً من خصائص الربوبية ، ولا من نعوت الإلهية ، فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا, وإلا فهم في ضلالهم يعمهون . *
ودليل شهادة أن محمداً رسول الله ﷺ ، قوله تعالى : } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { . ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر .
----------------------------------
( و دليل شهادة أن محمداً رسول الله ) من القرآن ( قوله تعالى } لقد جاءكم رسول من أنفسكم { أي من جنسكم, تعرفون نسبه وصدقه, ليس من الملائكة ولا من الجن, بل بشر تتمكنون من مجالسته ومؤاكلته والحديث معه, وقد نال أجل الصفات فيكم,من الأمانة والصدق والكرم وحسن الخلق,ومن كان كذلك فإن النعمة به على العباد تكون أكبر وأعظم } عزيز عليه ما عنتم { أي يشق عليه كل أمر يعنِّت أمته,أو يشق عليها و يدخلها في الآصار والأغلال } حريص عليكم { بهدايتكم وإنقاذكم من النار } بالمؤمنين رؤوف رحيم { وعطوف عليهم ومحب لهم كل خير.
ومن الأدلة على أن محمداً رسول الله, شهادة الله له بأنه رسول من عنده قال جل وعلا : } وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ{.
وأيده سبحانه بالآيات الباهرة الدالة على صدقه,ومن أعظمها القرآن الكريم, وقد أعجز أهل الأرض بفصاحته وبلاغته.
ومن البراهين على صدقه نصرة من اتبعه ولو كانوا أضعف الناس,وخذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم.
وشهادة أن محمداً رسول الله ﷺ ليس المقصود منها هو التلفظ بها فقط, بل العمل بما اقتضاه معناها ، قال ابن القيم رحمه الله :" الشهادة لرسول الله بأنه نبي, لا تدخل الإنسان في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته ، فشهادة عمه أبي طالب له بأنه صادق وأن دينه من خير أديان البرية ديناً لم تدخله هذه الشهادة في الإسلام ، ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة, من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق, ولم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام , علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس هو المعرفة فقط ، ولا المعرفة والإقرار فقط ، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً "([256]) . فـ ( معنى شهادة أن محمداً رسول الله ) هي ( طاعته فيما أمر ) من الواجبات والمستحبات,وقد قرن الله طاعته بطاعة الرسول ﷺ كقوله تعالى : } مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ { ( وتصديقه فيما أخبر ) به من أخبار الأمم الماضية,أو الأمور المستقبلة ، فأخباره حق وصدق لا كذب فيها ولا خلف ، قال ابن القيم رحمه الله : " الإيمان يرجع إلى أصلين : طاعة الرسول ﷺ فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر "([257]). *
واجتناب ما عنه نهى و زجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع
------------------------------------
( واجتناب ما عنه نهى وزجر ) أي : اجتناب كل ما نهى عنه وحذر منه قال سبحانه : } وما أتاكم الرسول فخذوه { وقال ﷺ :" إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " متفق عليه ([258]). ويجب أن يعظم أمره ونهيه,ولا يقدم عليه قول أحد ، وكلما ابتعد المرء عن السيئات كان محققاً للشهادتين, قال شيخ الإسلام رحمه الله : "وكلما كان الرجل أتبع لمحمد ﷺ كان أعظم توحيداً لله و إخلاصاً له في الدين ، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك ، فإذا أكثر بعده عنه,ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول ﷺ " ([259]). ( وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ) سبحانه في كتابه وما جاء به رسوله ﷺ لا نعبده بالأهواء و البدع , قال الزهري رحمه الله : "من الله الرسالة,وعلى رسوله البلاغ, وعلينا التسليم " ([260]).
فأول ما يجب على العبد,معرفة معنى الشهادتين مع النطق بها بلسانه,وأن يعمل بما دلت عليه ، ومن علم معناها وعمل بمقتضاها فهو السعيد حقاً، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" أسعد الخلق وأعظمهم نعيماً وأعلاهم درجةً, أعظمهم اتباعاً وموافقة له علماً وعملاً "([261]) .
فجماع دين الإسلام, أن يعبد الله وحده لا شريك له ، ويعبده بما شرعه سبحانه وتعالى ، من الواجبات والمستحبات والمندوبات ، ومن سلك غير طريق المصطفى ﷺ لم يفتح له الباب ، قال الجنيد رحمه الله :" الطرق كلها مسدودة على الخلق, إلا على من اقتفى أثر الرسول ﷺ واتبع سنته ولزم طريقته, فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه " ([262]). *
ودليل الصلاة و الزكاة و تفسير التوحيد قوله تعالى: } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين { .
--------------------------------------
( ودليل ) أن ( الصلاة والزكاة ) من أركان الإسلام ودليل ( تفسير التوحيد ) الذي هو الأساس الذي لا يستقيم إسلام عبد إلا به ( قوله تعالى : وما أمروا ) أي : الكفار في جميع الأزمان ( إلا ليعبدوا الله ) وحده ( مخلصين له الدين ) قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله, وطلب الزلفى لديه ( حنفاء ) أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ( ويقيموا الصلاة ) بأركانها وواجباتها في أوقاتها, وهي أشرف عبادات البدن ( ويؤتوا الزكاة ) المفروضة, وفيها إحسان إلى الفقراء والمحاويج ، وخصَّ الصلاة والزكاة بالذكر مع أنهما داخلان في قوله : ( ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) ، لفضلهما وشرفهما ( وذلك ) أن التوحيد والإخلاص في الدين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو ( دين القيمة ) أي : الملة القائمة,والشريعة العادلة المستقيمة,المعتدلة على الدين المستقيم,الموصل إلى جنات النعيم ، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم . *
ودليل الصيام قوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( . --------------------------------- ( ودليل ) أن ( الصيام ) في شهر رمضان المبارك أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم الإسلام إلا بها ( قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب ) أي فرض في السنة الثانية من الهجرة ( عليكم ) يا أمة محمد ﷺ ( الصيام ) في شهر رمضان ( كما كتب ) وفرض ( على ) الأمم ( الذين ) سلفوا ( من قبلكم ) ومن حكمة فرض الصيام على جميع الأمم لتنال النفوس التقوى لذلك قال : ( لعلكم تتقون ) لما فيه من زكاة النفس وتطهيرها وتنقيتها من الأخلاق الرديئة ، وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لها أن تنافس غيرها في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصت بها . *
ودليل الحج قوله تعالى ) وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين َ ( . ---------------------------------- ( ودليل ) أن ( الحج ) هو الركن الخامس من أركان الإسلام ( قوله تعالى : ( ولله على الناس ) أي يجب على الناس التعبد لله بـ ( حج ) وقصد ( البيت ) الحرام في مكة المكرمة على ( من استطاع ) الوصول ( إليه ) من المكلفين ( سبيلاً ) بالقدرة بنفسه على الذهاب,من الزاد والراحلة ووجود المحرم للمرأة ( ومن كفر ) بعبادة ربه وأعرض عنها( فإن الله غني عن ) عبادة جميع ( العالمين ) بل إنهم هم المحتاجون إليه,وهو سبحانه غني عنهم كما قال سبحانه : } إن تكـفروا فإن الله غني عنكـم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم {. *
المرتبة الثانية : الإيمان وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
-------------------------------------- ( المرتبة الثانية ) : من مراتب الدين مرتبة ( الإيمان ) ، والإيمان : هو قول واعتقاد وعمل ، قول اللسان ، واعتقاد القلب ، وعمل الجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، فدخل فيه جميع المأمورات سواء كان من الواجبات أو المستحبات ، ودخل فيه ترك جميع المنهيات , فما من خصلة من خصال الطاعات إلا وهي من الإيمان ولا ترك محرم من المحرمات إلا وهو من الإيمان. والإيمان ( بضع وسبعون شعبة ) هذا هو لفظ الحديث الذي رواه مسلم ([263]) ، ورواه البخاري بلفظ " بضع وستون " ([264]) . وورد عند مسلم ([265]) برواية أخرى بالشك " بضع وستون أو بضع وسبعون " قال ابن حجر رحمه الله :" إن المعول على المتيقن وهو الأقل وهو بضع وستون " ([266]) . والبضع من الثلاثة إلى التسعة .
والشعبة الطائفة من الشيء والقطعة منه. والشعبة من شعب الإيمان يدخل تحتها أفراد من الخصال ، وكل خصلة من خصال الخير فهي من شعب الإيمان ، وأجل شعب الإيمان وأعلاها وأساسها كلمة التوحيد ( قول :لا إله إلا الله ) فهي كلمة الإخلاص وكلمة الإسلام ، وهي العروة الوثقى,وكلمة التقوى,وأساس الملة,ومفتاح الجنة ( وأدناها ) أي أدنى شعب الإيمان ( إماطة ) أي إزالة ( الأذى عن الطريق ) من شوك وحجر ونحو ذلك مما يتأذى المار به , ( والحياء شعبة من ) شعب ( الإيمان ) أي بعض منه. والحياء: غريزة يحمل المرء على فعل ما يجمل ويزين ، ويمنعه من فعل ما يدنس ويشين ، وأخبر النبي ﷺ أن الحياء لا يأتي إلا بخير متفق عليه ([267]) . وإنما جعله بضعة,لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي ، ولأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار وانتهاء, فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان ، والحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرا,ً بل هو خاصة الإنسانية وفي الحديث " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " رواه البخاري ([268]). ومرتبة الإيمان أعم من مرتبة الإسلام من جهة نفسها وأخص من جهة أصحابها.
وأهل الإيمان هم خواص أهل الإسلام ، وأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان بخلاف العكس قال تعالى : ] قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [ . فإن من حكمت له النصوص أنه مؤمن فإنه مسلم على كل حال ، فإن الإيمان وصف أعلى من وصف الإسلام, لأنه مشتق من الأمن فهو من الأمور الباطنة الذي يؤتمن عليه ويكون خفية ، والإسلام من الأمور المدركة المحسوسة في الظاهر,مشتق من التسليم,أو من المسالمة . فإذا أطلق الإيمان في النصوص دخل فيه الإسلام ، وإذا أطلق الإسلام لم يدخل فيه الإيمان ، ومن أُثبت له الإيمان في النصوص فإنه ثابت له الإسلام . والمسلم لابد أن يكون معه إيمان يصحح إسلامه, وإلا كان منافقاً, ولكن لا يستحق أن يمدح به ويثنى عليه بل إيمانه ناقص ، جاء في الدرر السنية : " ومن تأمل النصوص تبين أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلاً عظيماً ، وذلك بحسب ما في قلوبـهم من الإيمان بالله والمعرفة الصادقـة والإخلاص واليقين " ([269]) . *
( وأركانه ستة أن تؤمن بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى : ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ( ، ودليل القدر قوله تعالى: ) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ( ) .
------------------------------
( وأركانه ) أي أركان الإيمان وأصوله التي يُبنى عليها ، والتي يزول بزوالها ( ستة ) أركان ، ويكون بزوال الواحد من تلك الستة كافراً كفراً يخرج عن الملة ، وما عداها من الشعب لا يزول بزواله ، لكن منها ما يزول بزواله كمال الإيمان الواجب ، ومنها ما يزول بزواله كمال الإيمان المندوب. والركن الأول : من أركان الإيمان ( أن تؤمن بالله ) والإيمان بالله أعظم أركان الإيمان وأساسه,وما بعده من الأركان مندرج في هذا الركن وهو أصل الأصول ، ويتضمن الإيمان بربوبية الله وبألوهيته وبأسمائه وصفاته. والإيمان بربوبية الله : هو إفراد الله بالعبادة بأفعاله,من الخلق والرزق والتدبر والإحياء والإماتة وغير ذلك من أفعاله جل وعلا. فنؤمن أنه لا يحيي ولا يميت,ولا يخلق ولا يرزق سواه,وهذا هو توحيد الربوبية. والإيمان بتوحيد الألوهية : هو إفراد الله بأفعال العباد فلا يصرف العبد أي عبادة لغير الله جل وعلا,من الطواف والدعاء وغير ذلك من أنواع العبادة ، ونؤمن بأن عبادة من سواه عبادة باطلة . والإيمان بتوحيد الأسماء والصفات : هو إثبات ما أثبته الله لنفسه,من الأسماء والصفات,وما أثبته له رسوله ﷺ منها,من غير تحريف ولا تعطيل,ومن غير تكييف ولا تمثيل,بل نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. والركن الثاني : من أركان الإيمان الستة أن تؤمن بـ ( ملائكته). والإيمان بالملائكة : أن تؤمن بجميع الملائكة,وأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون،نؤمن بهم إجمالاً في الإجمالي،وتفصيلاً في التفصيلي، وتعييناً في التعيين,كما ورد في الكتاب والسنة,كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك وملك الموت , وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، وهم عالم غيـبي خلقوا من نور ، وعددهم كثير لا يحصيهم إلا الله. والركن الثالث : أن تؤمن بـ ( كتبه ) والإيمان بالكتب يقتضي:الإيمان بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء من السماء ، إجمالاً في الإجمالي ، وتفصيلاً في التفصيلي ، ويفصل الإيمان بالقرآن والزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى ، ونؤمن بأن الكتب السابقة كلها منسوخة بالقرآن العظيم وأنه لا يجوز التحاكم إلى غيره ولا العمل إلا به قال سبحانه : } فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر { . والركن الرابع من أركان الإيمان : أن تؤمن بـ ( رسله ). والإيمان بالرسل يقتضي: الإيمان بجميع الرسل إجمالاً في الإجمالي ، وتفصيلاً في التفصيلي ، فنؤمن بمن جاء تفصيلهم في الكتاب والسنة على التعيين ، وأعظم ذلك الإيمان بنبينا محمد ﷺ ، وممن يؤمن بهم تفصيلاً,أولوا العزم من الرسل, وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ ، ونؤمن بغيرهم ممن سمى الله في كتابه,أو على لسان رسوله ﷺ ، ونؤمن بمن لم يسم في النصوص ، ولا نفرق بين أحد منهم في الإيمان كما قال تعالى : ]لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [ ، والإيمان بهم فرض ، وهو التصديق بأنهم رسل الله إلى عباده,صادقون فيما أخبروا به عن الله,وأنهم بلغوا عن الله رسالاته,وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وهم بشر مخلوقون,ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء. والركن الخامس : أن تؤمن بـ ( اليوم الآخر ). والإيمان باليوم الآخر هو : التصديق بيوم القيامة وما يكون بعد الموت في القبر, من العذاب والنعيم,وما في الآخرة من الحساب والميزان ، والجنة والنار ، وأنهما دار ثوابِه وجزائِه للمحسنين والمسيئين ، وأكبر ذلك وأعظمه الإيمان ببعث هذه الأجساد وإعادتها كما كانت أجساداً بعظامها وأعصابها ، حتى يقع الثواب على هذا الجسد والروح جميعاً ، على ما فعلا من طاعة الله ، أو يعاقبا على المعاصي التي صدرت منهما جميعاً,فتؤمن بأن الذي أوجد هذا الجسد وانفرد بخلقه يبعثه حياً ويعيده كما كان. والركن السادس من أركان الإيمان أن ( تؤمن بالقدر ) أي بما قدره الله وكتبه من (خيره ) أي القدر ( وشره ). فالإيمان بالقدر: أن تؤمن بما قدره الله أي : كتبه من خير وشر. والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأربع مراتب يجب اعتقادها : المرتبة الأولى : الإيمان بعلم الله بالأشياء قبل حدوثها. فإن الرب علم بعلمه السابق ما هو كائن وما سيكون كما قال سبحانه : ] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ . المرتبة الثانية : الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ , قال سبحانه : } أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ { وقال النبي ﷺ : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة,وكان عرشه على الماء " رواه مسلم ([270]) . المرتبة الثالثة : الإيمان بأن ما شاء الله كان,وما لم يشأ لم يكـن,فلا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله سبحانه قال تعالى : ]وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ { وقول جل شأنه: } وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء { . المرتبة الرابعة : الإيمان بأن الله أوجد جميع الخلق,وأن ما في الكون بتقدير الله وإيجاده قال الله تعالى : ] اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[ ، وقال عز وجل : } وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا{. ولا يصير المرء مؤمناً بالقدر إلا بالإيمان بهذه الأربعة الأشياء،وقد جمعها الناظم في قوله : علم كتابة مولانا مشيئتُه ** وخلقه وهو إيجادٌ وتكوينُ .
فيجب على العبد أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه, كما قال عليه الصلاة والسلام :" واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك " رواه أبو داود ([271]) . *
والمؤمن بالقدر يفوض أموره كلها لله,ولا يعتمد على السبب نفسه ، لأن كل شيء بقدر الله ، وإيمانه بذلك يثمر له الطمأنينة والراحة بما يجري عليه من أقـدار الله ، لأن ذلك بقـدر الله الذي له ملك السموات والأرض ، قال عليه الصلاة والسلام :" عجباً لأمر المؤمن ، كلُّه خير "رواه مسلم ([272]). ( والدليل على هذه الأركان ) أي أركان الإيمان ( الستة ) وأنه لا يستقيم إيمان العبد إلا بها جميعاً,وأنه متى انتفى واحد منها لم يكن المرء مؤمناً ( قوله تعالى: ] لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ والنبيين [، وذلك حين أمر الله المؤمنين بالتوجه أولاً إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين,فأنزل الله بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل,وامتثال أوامره,والتوجه حيثما وجه،واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى أي جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة,إن لم يكن عن أمر الله وشرعه وذلك لما حولوا إلى الكعبة، ولهذا قال : ( ليس البر ) أي ليس هذا هو البر المقصود من العباد ( أن تولوا وجوهكم
قبل المشرق و المغرب ولكن البر ) امتثال أوامر الله,واتباع ما شرع,وأعظمه ما ذكر في هذه الآية أو هذه أنواع البر كلها وبدأ بالإيمان بقوله :( من آمن بالله ) أي ولكن البر الإيمان بالله,أو ولكن البر من آمن بالله,أو ذا البر بر من آمن بالله أي بتفرده جل وعلا بالربوبية والألوهية والأسماء الحسنى والصفات العليا, إذ هو أصل الأصول. ( واليوم الآخر ( وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ﷺ مما يكون بعد الموت,من بعث الخلائق وإعادة الأجساد كما كانت,ورد الأرواح إليها,وجمع الأولين والآخرين ليوفى كل عامل ما عمل } والملائكة { الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله ) والكتاب ( وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء,حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، ونسخ جميع ما سواه من الكتب قبله ، ( والنبيين ) عموماً ، وخصوصاً خاتمهم محمد ﷺ . ( والدليل ) على أن ( القدر ) ركن من أركان الإيمان لا يستقيم إيمان عبد إلا به ( قوله تعالى : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ ) وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية ( خَلَقْنَاهُ ) نحن لا خالق لها سوانا (بِقَدَرٍ) أي أن ما خلقناه مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ,بما سبق به علمنا ، وجرى به قلمنا ، بوقتها ومقدارها وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف. وبعض الناس لا يرضى بما قسمه الله له من خير, ويقدح بما كتب عليه من شر تسخطاً على ربه قال ابن القيم رحمه الله : " أكثر الخلق,بل كلهم إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق ظن السوء ، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك, وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به،ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كُمُون النَّار في الزِّناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتباً على القدر,وملامة له,واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا،فمستقل ومستكثر،وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ؟ !! " ([273]) . *
( المرتبة الثالثة : الإحسان ، ----------------------------- ( المرتبة الثالثة ) من مراتب الدين مرتبة ( الإحسان ) وهو نهاية الإخلاص ، والإخلاص إيقاع العمل على أكمل وجوهه في الظاهر والباطن ، وهذا هو الإحسان, ولذا يفسر الإحسان بالإخلاص
واشتقاقه من الحسن نهاية الإخلاص الناشئ عن حقيقة الاستحضار, ومن حيث الظاهر كمال المتابعة ،
وتفسيره بالإخلاص تفسير له بنتيجته وثمرته ، فإن من اتصف بذلك فإنه يكمل العمل في الظاهر والباطن قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الإحسان ههنا هو فعل المأمور به ، سواء كان إحساناً إلى الناس أو إلى نفسه , فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل , وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالاً ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً ، فهذا هو مقام الإحسان "([274]).
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله :" حاصله : - أي الإحسان - راجع إلى إتقان العبادات, ومراعاة حقوق الله تعالى ومراقبته ,واستحضار عظمته وجلالته حال العبادات "([275]) .
والإحسان أعلى المراتب وأعمها من جهة نفسها ، وأخصها من جهة أصحابها ,كما أن الإيمان أعم من جهة نفسه, وأخص من جهة أصحابه, ولهذا يقال كل محسن مؤمن مسلم, وليس كل مسلم مؤمناً محسناً ، وإذا أطلق الإحسان فإنه يدخل فيه الإيمان والإسلام ، فإن الإسلام والإيمان والإحسان دوائر, أوسعها دائرة الإسلام ,ثم يليها في السعة الإيمان ,ثم أضيقها الإحسان ,كدوائر كل واحدة منها محيطة بالأخرى ، ومعلوم أن من كان في دائرة الإحسان فهو داخل في الإسلام والإيمان ، وإذا خرج عن الأول فهو داخل في الثانية وهي دائرة الإيمان ، وإذا خرج عنها فهو داخل في والثالثة وهي دائرة الإسلام ، ومن خرج عن هذه الدوائر الثلاث فهو خارج إلى غضب الله وعقابه, وداخل في دوائر الشيطان والعياذ بالله, فظهر بالتمثيل بهذه الدوائر صحة قول من يقول : كل محسن مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمن محسناً , فلا يلزم من دخوله في الإسلام أن يكون داخلاً في الإحسان والإيمان, وليس المراد أن من لم يكن في الإحسان والإيمان أن يكون كافراً, بل يكون مسلماً ومعه من الإيمان ما يصحح إسلامه ، لكن لا يكون مؤمناً الإيمان الكامل الذي يستحق أن يثنى عليه به فإنه لو كان مؤمناً الإيمان الكامل لمنعه من المعاصي والمحرمات وقيل للنبي ﷺ " أعطيتهم وتركت فلاناً وهو مؤمن فقال : أو مسلماً " رواه أحمد ([276]). وقال النبي e : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمـن ، ولا يسـرق السارق حين يسرق وهو مؤمـن " متفق عليه ([277]) . وقال e : " والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن ,قيل من يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " متفق عليه ([278]) . فالنصوص ما نفت عنهم الإسلام, بل أثبتت لهم أحكام الإسلام من عصمة الدم وغيرها.
فأهل الإحسان هم خواص أهل الإيمان, كما أن أهل الإيمان هم خواص أهل الإسلام, فإن أهل الإحسان كملوا عبادة الله إلى أن وصلوا إلى حد المراقبة ,وأهل الإحسان هم الصفوة وهم الخلص من عباد الله المؤمنين ،
ومما يعين على الوصول إلى مرتبة الإحسان كثرة ذكر الله , قال ابن القيم رحمه الله :" إنه ـ أي الذكر ـ يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان ، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت "([279]) .
ومراقبة الله هي أصل الأعمال القلبية, قال ابن القيم رحمه الله:" المراقبة أساس الأعمال القلبية كلها, وعمودها الذي قيامها به "([280]). *
( ركن واحد وهو : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والدليل قوله تعالى : ]إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[ ، وقوله : ]وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ، وقوله : ] وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ...( الآية
---------------------------------
والإحسان ( ركن واحد) وهو : ( أن تعبد الله) أي تتعبد الله بأي عبادة كانت ( كأنك تراه ) أي : كأنك ترى ربك الذي قمت بين يديه ( فإن لم تكن تراه ) أي : إن لم تعبده على استحضار الدرجة الأولى وهي درجة المراقبة ، ( فإنه ) أي : فاعلم أنه ( يراك ) أي مطلع على جميع خفاياك فهذه درجتان: إحداهما أكمل من الأخرى, فإن لم تحصل عبادة الله كأنك تشاهده, فاعبده على مرأى من الله وأنه بصير عليم بجميع ما تفعله , ( والدليل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) ربهم بفعل الطاعات وترك المحرمات ( وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) في عبادتهم ربهم وإحسانهم للخلق ، فالله مع عباده المتقين, والذين هم محسنون في العمل يحفظهم ويكلؤهم ويؤيدهم, وهذه معية خاصة ( وقوله : وتوكل ) في جميع أمورك ( على العزيز الرحيم ) فإنه مؤيدك وحافظك ، ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله والنزول في منزل الإحسان فقال : ( الذي يراك ) في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة ( حين تقوم ) إليها ( وتقلبك في الساجدين ) أي ويراك في صلاتك في حال ركوعك وسجودك وقعودك فيها ، وخص الصلاة بالذكر لفضلها وشرفها ، ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذل وأكملها ، وبتكميلها يكمل سائر عمله ويستعين بها على جميع أموره ( إنه هو السميع العليم ) يسمع ويعلم جميع حركاتك مع رؤيته لك ( وقوله :وَمَا تَكُونُ) يا محمد (فِي شَأْنٍ ) في أي عمل من الأعمال ( وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) أي وما تتلو أيَّ آية من القرآن ( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ) صغير أو كبير, أنت ولا أمتك ( إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ) أي : نحن مشاهدون ومطلعون على كل ذلك ,وعلى جميع أحوال العباد في حركاتهم وسكناتهم ( إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) وقت شروعكم فيه, واستمراركم على العمل به إلى حين انقضائكم منه, كل ذلك مطلعون عليه . *
والدليل من السنة حديث جبرائيل المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه .
-------------------------------------
( والدليل ) على مراتب الدين الثلاث الإسلام والإيمان والإحسان ( من السنة ) النبوية ( حديث جبريل المشهور ) الذي قال عنه القرطبي: " هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة, لما تضمنه من جمل علم السنة " ([281]). وقال عنه النـووي : " واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف, بل هو أصل الإسلام " ([282]) ، وقد أخرج هذا الحديث العظيم الإمام مسلم في صحيحه ( عن عمر بن الخطاب ) ثاني الخلفاء الراشدين ( قال ): حاكياً تلك المحاورة بين خير المرسلين محمد ﷺ وسفير الملائكة جبريل عليه السلام : " ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ) وفي رواية في الصحيحين ([283])" كان النبي ﷺ بارزاً يوماً للناس " ( إذ طلع علينا رجل ) هو ملك في صورة رجل ( شديد بياض الثياب ) لا وعثاء عليها ، وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك ، ( شديد سواد الشعر) لا غبار على شعره ، والمسافر من شأنه أن تكون عليه أمارات السفر ، ومع ذلك ( لا يرى عليه أثر السفر ) من الإعياء والتعب وأثر المشقة وتغير الحال من السفر ( ولا يعرفه منا أحد ) فلا أثر للسفر عليه ,وليس هو من المقيمين في المدينة ممن يعرفونه فعجب الصحابة منه ( حتى جلس إلى النبي ﷺ ) قريباً منه ،( فأسند ) جبريل ( ركبتيه إلى ركبتيه ) أي : إلى ركبتي النبي ﷺ . *
ووضع كفيه على فخذيه ، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"
-----------------------------------
( ووضع ) جبريل ( كفيه على فخذيه ) أي على فخذي النبي ﷺ وجلس على هيئة المتعلم ، وفي رواية ثم وضع يده على ركبتي النبي ﷺ "رواه الدارقطني ([284]) ، ولسليمان التيمي رحمه الله " فتخطى حتى برك بين يدي النبي ﷺ كما يجلس أحدنا في الصلاة, ثم وضع يده على ركبتي النبي ﷺ " ([285]).وصنيعه منبه للإصغاء إليه ، وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع والصفح عما يبدو ، ( وقال ) جبريل ( يا محمد ) ( أخبرني ) وأعلمني ( عن ) أركان ( الإسلام ) ( قال ) النبي ﷺ : ( أن تشهد ) وتقر ( أن لا إله ) معبود بحق ( إلا الله) وحده ( و) أن تشهد ( أن محمداً ) هو ( رسول الله ) ﷺ وأن ( تقيم ) أي : تؤدي ( الصلاة ) المفروضة بشروطها وأركانها وواجباتها ، وهي آخر ما يُفقد من الدين ، وأول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة ، وأن ( تؤتي ) وتؤدي ( الزكاة ) المفروضة لمستحقيها ، وهي قرينة الصلاة وهي عبادة مالية نفعها متعدٍّ ، وأن ( تصوم ) شهر ( رمضان ) المبارك وهو عبادة بدنية ، وأن ( تحج ) أي : تقصد ( البيت ) الحرام ( إن استطعت ) السير ( إليه ) أي : إلى الوصول إلى البيت ( سبيلاً ) أي طريقاً متيسراً من زادٍ وراحلةٍ ووجود المحرم للمرأة لقول النبي ﷺ : " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم, فقال رجل : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا, قال : انطلق فحج مع امرأتك " متفق عليه ([286]). وقد أوجبه الله في العمر مرة واحدة وقد بين النبي ﷺ فضله بقوله : " من حج هذا البيت, فلم يرفث ولم يفسق, رجع كيوم ولدته أمه " متفق عليه ([287]) . وهذه الأركان الخمسة هي الإسلام وفي رواية لأحمد ([288]) فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم ، قال :" إذا فعلت ذلك فقد أسلمت".
وهذا هو دليل المرتبة الأولى, وفسره بأعمال الجوارح الظاهرة, والإسلام هو الدين قال سبحانه : } إن الدين عنـد الله الإسلام { وهو الصـراط المستقـيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه . *
قال صدقت : فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : صدقت .
------------------------------------
( قال) جبريل عليه السلام ( صدقت ) يا محمد ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) وسبب عجب الصحابة من هذا السائل ، لأن من شأن السائل أن يجهل ما يسأل عنه ، ولكن السائل هنا يسأل النبي ﷺ ويصدقه فكأنه خبير بالجواب ، ولأن ما جاء به النبي ﷺ لا يُعرف إلا من جهته, وليس هذا السائل ممن عُرف بلقائه بالنبي ﷺ واجتماعه به ولا بالسماع منه ، بل هو غريب عنهم ، ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك ، ثم ( قال ) جبريل ( فأخبرني ) يا محمد ( عن الإيمان ) ما هو ؟ ( قال ) محمد ﷺ : الإيمان هو ( أن تؤمن بالله ) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، والإيمان بالله هو أصل للإيمان ببقية أركان الإيمان ، وكل ما عداه من أركانٍ داخلة فيه , وأن تؤمن بـ ( ملائكته ) إجمالاً في الإجمال ،وتفصيلاً على التفصيل ، بأسمائهم وأعمالهم ، وما أوكل إليهم ، وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون ، وأن تؤمن بـ ( كتبه ) بأن تؤمن بكل كتاب أنزله الله على رسله ,كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى, وأن جميعها منسوخ بالقرآن العظيم ,وقد دخل في الكتب السابقة التصحيف والتحريف ، وأن تؤمن بـ ( رسله ) بأن الله اصطفى من البشر رسلاً يهدون الناس إلى الحق، نؤمن بهم إجمالاً في الإجمال وتفصيلاً على التفصيل ، فنؤمن بمن عرفنا أسمائهم ومن لم نعرف أسماؤهم ، كما قال تعالى : } ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك { وأن تؤمن بـ ( اليوم الآخر ) وتصدق بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يكون بعد الموت وأن ( تؤمن بالقدر ) وما كتبه الله على العبد , من ( خيره ) ( و) من ( شره) من غير تجزع عليه ولا تسخط, فكل ما هو كائن من خير أو شر, فهو بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته وإعادة كلمة ( وتؤمن ) عند القدر للاهتمام بشأنه وفي رواية لأحمد " وتؤمن بالجنة والنار, والحساب والميزان, وتؤمن بالقدر كله خيره وشره ، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: إذا فعلت ذلك فقد آمنت " ([289]) ( قال ) جبريل ( صدقت )
وهذا دليل المرتبة الثانية, وهي الإيمان وفسره بالأعمال الباطنة ، ودل الحديث على أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة, والإيمان بالأعمال الباطنة . *
قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك , قال فأخبرني عن الساعة : قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .
------------------------------ -----
( قال ) جبريل ( فأخبرني ) يا محمد ( عن الإحسان ) ما هو ؟ ( قال ) النبي ﷺ: ( أن تعبد الله كأنك تراه ) أي يغلب عليك مشاهدة الحق بقلبك, حتى كأنك تراه بعينك, ومن كان كذلك فإنه يأتي بالعبادة على التمام والكمال ( فإن لم تكن تراه ) أي لم تستحضر أنك ترى الله, فانتقل إلى المرتبة الثانية من مراتب الإحسان وهي أن تستشعر ( أنه ) تعالى ( يراك ) ومطلع عليك في كل ما تعمل, لا يخفى عليه منك خافية ، وهذا القدر من الحديث أصل من أصول الدين ، وقاعدة مهمة من قواعد العلم ، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها النبي ﷺ ، فإن إحسان العبادة, هو الإخلاص فيها والخشوع ، وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبته وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه ،
والثانية: أن يستحضر الحق تعالى مطلعاً عليه ويرى كل ما يعمل ،
وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله وخشيته ، وفي رواية " أن تخشى الله كأنك تراه " رواه مسلم ([290]) فجعل النبي ﷺ هذا هو الإحسان, وهو دليل المرتبة الثالثة
ففي هذا الحديث دليل على هذه المراتب الثلاث, وأن أركانها هي ما عدها المصنف رحمه الله ، ( قال ) جبريل ( فأخبرني ) يا محمد ( عن الساعة ) متى تقوم ؟ ( قال ) النبي ﷺ ( ما المسئول عنها ) يقصد النبي ﷺ نفسه ( بأعلم من السائل ) وهو جبريل أي : أنا وأنت سواء في العلم بها ، كلانا لا يعرف متى تقوم ؟ فعلمها عند الله وحده كما قال تعالى : } إن الله عنده علم الساعة { فالخلق كلهم حتى الملائكة والرسل لا يعلمون متى تقوم ، فوقتها مما استأثره الله تعالى بعلمه . *
قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
------------------------------------
( قال ) جبريل عليه السلام : فإن لم تعلم متى تقوم الساعة ( فأخبرني ) يا محمد ( عن أماراتها ) وعلاماتها التي تسبق قيامها ( قال ) محمد ﷺ : من علامات الساعة : ( أن تلد الأمة ) الرقيقة من الجواري ( ربتها ) أي : مالكتها وسيدتها والمعنى : أن السراري تكثر في العرب حتى يوجد أن الأمة تلد سيدتها ، وفسر بغير ذلك ، وحاصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي وضيعاً والسافل عالياً ,
ومن أماراتها ( أن ترى ) وتشاهد ( الحفاة ) الذين لا نعال عليهم ( العراة ) الذين لا ثياب عليهم ( العالة ) الفقراء ( رعاء ) أي : رعاة ( الشاء ) أي الغنم ( يتطاولون ) أي يتنافسون ( في البنيان ) ويتفاخرون به بعد أن كانوا فقراء رعاة أغنام ، ومعناه : أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهوا في البنيان ، قال ابن دقيق العيد رحمه الله : " إنما خص رعاء الشاة بالذكر، لأنهم أضعف أهل البادية "([291]). والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساء, وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته, وفي الحديث " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاري ([292]). لأنه يفسد نظام الدين والدنيا ، وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور . *
قال : فمضى فلبثنا ملياً فقال :" يا عمر أتدري من السائل" ؟ قلت الله ورسوله أعلم ، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"
--------------------------------------
( قال ) عمر بن الخطاب t ( فمضى ) جبريل أي : خرج ( فلبثنا ) نحن الصحابة ومعنا النبي ﷺ ( ملياً) وقتاً طويلاً ( فقال ) النبي ﷺ بعد انصراف جبريل : ( يا عمر) بن الخطاب ( أتدري من ) هو ( السائل ) الذي كان يسأل وأنتم حاضرون ؟ ( قلت : الله ورسوله أعلم ) ، لأن الرجل غريب لا نعرفه ولم نره من قبل ، وهذا فيه أدب أن من سئل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه, ولا يتكلف ما ليس له به علم, فما علمه يجيب عنه, وما لا يعلمه يقول فيه الله أعلم ، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقول الله ورسوله اعلم بنزول على النبي صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاته فيقتصر على قول الله أعلم ( قال ) النبي ﷺ : ( هذا ) السائل الذي أتاكم هو ( جبريل ) أفضل الملائكة والسفير بين الله وبين رسله ( أتاكم ) متمثلاً في صورة رجل لـ ( يعلمكم ) أي : لتتعلموا ( أمر ) وأسس ( دينكم ) بتلك الأسئلة العظيمة التي كان يسألها, فأخبر أن ما ذكر في هذا الحديث هو أمر الدين وأساسه, فإنه قد اشتمل على أصول الدين والعقائد, بل انحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث, ورجعت كلها إليه ، وعقيدة أهل السنة والجماعة عليه ، وشرف هذا الحديث وجلالته أمر مجمع عليه ، قال ابن دقيق العيد رحمه الله : " مذهب السلف وأئمة الخلف أنَّ من صدق بهذه الأمور - يعني المذكورة في الحديث - تصديقاً جازماً لا ريب فيه ولا تردد ,كان مؤمناً حقاً سواء كان ذلك عن براهين قاطعة, أو عن اعتقادات جازمة " ([293]) ، وقال عنه القاضي عياض رحمه الله :" اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة, من عقود الإيمان ابتداءً وحالاً ومآلاً, ومن أعمال الجوارح, ومن إخلاص السرائر, والتحفـظ من آفات الأعمال, حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه, ومتشعبة منه "([294]) . *
الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد e . --------------------------------- ( الأصل الثالث ) من أصول الدين الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها ( معرفة نبيكم محمد e ) وهو أصل عظيم يجب معرفته قال ابن القيم رحمه الله :" اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول ﷺ وما جاء به, وتصديقه فيما أخبر, وطاعته فيما أمر" ([295]) ، فإنه عليه الصلاة والسلام هو الواسطة بيننا وبين الله ، ولا طريق لنا لمعرفة ما ينجينا من غضب الله وعقابه, ويقربنا من رضى الله وثوابه, إلا بما جاء به نبينا محمد e , قال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به ﷺ واتباعه منها ,إلى الطعام والشراب, فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا, وذاك إذا فات حصل العذاب " ([296]). قال الجنيد رحمه الله : " الطرق كلها مسدودة على الخلق, إلا على من اقتفى أثر الرسول e " ([297]) ، قال شيخ الإسلام رحمه الله :" والرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها ، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء ,والرسالة روح العالم ونور حياته "([298]) ، والله أرسل الرسل رحمة للعباد كما قال سبحانه : } وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين { قال ابن القيم رحمه الله :" اقتضت رحمة العزيز الرحيم ,أن بعث الرسل به معرفين ، وإليه داعين ، ولمن أجابهم مبشرين ، ومن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم, معرفة المعبود سبحانه, بأسمائه وصفاته وأفعاله ، إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها " ([299]) ، وإذا كان كذلك عرفنا وجه كون معرفته أحد الأصول الثلاثة التي يجب معرفتها ، فإنا لا نعرف الأصل الأول الذي هو معرفة الرب, ولا الأصل الثاني الذي هو دين الإسلام, إلا بالواسطة بيننا وبين الله ، فتمت معرفته وصارت أصلاً ثالثاً ، قال ابن القيم رحمه الله :" وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي ﷺ فيجب على كل من نصح نفسه ، وأحب نجاتها وسعادتها, أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ,والله ذو الفضل العظيم " ([300]) . ومعرفته ﷺ تنتظم أشياء عديدة : منها معرفة اسمه ونسبه وعمره وبقائه في الدنيا ووفاته ومعرفة ما نبئ به وما أرسل به وبلده ومهاجره ، ومنها وهو أعظمها معرفة ما بعث به وغير ذلك مما ذكر المصنف وغيره . *
( وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش وقريش من العرب والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ) . ----------------------------------- ( و) نبينا ﷺ اسمه ( محمد ) ومعناه : الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ، وله عدة أسماء : هذا أشهرها وأفضلها وأعظمها ، ولهذا جاء في القرآن بهذا الاسم كما في قولـه تعالى : ]مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رجالكم [ ، ] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [ ، ]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [، ولقبه أبو القاسم ، ووالده عبد الله وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل, ولم يدرك النبوة وقد مات وهو كافر ، وجده ( عبد المطلب ) واسمه شيبة ، ويقال له : شيبة الحمد ، لجوده وجماع أمر قريش إليه , وإنما سمي بعبد المطلب ، لأن عمه المطلب قدم به مكة وهو رديفه وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبداً له فقالوا هذا عبد المطلب أي : عبدٌ للمطلب ,فعلق به هذا الاسم ، ووالد عبد المطلب هو ( هاشم ) واسمه عمرو وإنما سمي هاشماً ، لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في أعوام الجوع ( وهاشم ) قبيلة ( من قريش ) أي : من قبيلة قريش وهي أشهر وأشرف قبائل العرب ، ( وقريش ) أصلها ( من العرب ) فهي قبيلة عربية ، ( والعرب من ذرية ) أي من سلالة ( إسماعيل بن إبراهيم الخليل ) أبو الأنبياء ( عليه وعلى نبينا ) محمد ( أفضل الصلاة والسلام ) فإبراهيم عليه السلام بعد كبر سنه وهبه الله بولد سماه إسماعيل ، وإسماعيل هو الملقب بالذبيح وعاش مع العرب ، ثم من بعده وهب إسحاق ، وإسماعيل عليه السلام خرج من نسله نبينا محمد ﷺ ، وإسحاق خرج بقية الأنبياء من نسله فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته فقط قال تعالى : } وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب { لذا سمي إبراهيم أبو الأنبياء ، لأن الأنبياء من بعده من نسله, إما من طريق إسماعيل وهو محمد ﷺ أو من طريق إسحاق, وهم جميع الأنبياء عدا نبينا محمد ﷺ ، قال النبي e : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً مـن كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم ([301]) . فنبينا أشرف الناس نسباً, فهو هاشمي قرشي ، وهكذا الرسل تبعث في أكرم قومها أحساباً . *
( وله من العمر ثلاث وستون سنة منها أربعون قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً ) . ----------------------------------- ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل يوم الاثنين, وفي يوم الاثنين بعث ، وفيه عرج به إلى السماء ، وفيه هاجر إلى المدينة ، وفيه توفي ، قال e : " ذلك يوم ولدت فيه, وأنزل علي فيه "رواه مسلم ([302]) ، ولا يجوز أن يقام احتفال بمولده ﷺ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقم لمولده في حياته احتفالاً ، والصحابة رضي الله عنهم وهو أحب الناس إليهم لم يفعلوا ذلك ,ولأنه يجهل تاريخ ولادته من الشهر ، وتوفي أبوه وهو حمل, وكان عند جده عبد المطلب , ثم عند عمه أبي طالب ، وتزوج خديجة وله خمس وعشرون سنة ، وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم فمن مارية القبطية وكان النبي e قبل البعثة يلقب بالأمين (وله من العمر ) الذي عاشه في هذه الدنيا ( ثلاث وستون سنة ) هي مجموع عمره من ولادته إلى مماته ( منها ) أي : من هذه السنين ( أربعون ) سنة ( قبل النبوة ) فلم يوح إليه إلا وعمره أربعون عاماً ، وهذا سن اكتمال الأشد قال سبحانه : } حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة { , ومن عمره ( ثلاث وعشرون ) سنة ( نبياً ) يوحى إليه ( ورسولاً ) مأموراً بالرسالة والتبليغ , وزمن نبوة نبينا محمد ﷺ ورسالته ثلاث وعشرون سنة ، مكث منها في مكة ثلاثة عشر عاماً , وفي المدينة النبوية عشرة أعوام ، وكان عمره مباركاً أظهر الله به الدين, وتمت به الشريعة, ودخل الناس في الدين أفواجاً, لاقى خلال تلك السنين خوفاً وجوعاً وابتلاءً ,وتسلط الأعداء عليه ، وقدموا إليه في بلد مهاجره لقتاله, فصبر وجاهد حتى بلَّغ رسالة ربه ، عليه من الله أفضل الصلاة وأتم السلام . *
( نبئ بـ ( اقرأ ) وأرسل بـ ( المدثر ) ، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة ،
------------------------------- (نبئ ) أي : أنزل عليه الوحي مأموراً بالنبوة يوم الاثنين في رمضان بغار حراء ، أمره الله بالنبوة بصدر سورة ] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق ، خلق الإنسن من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسن ما لم يعلم َ[ ، ورجع بها يرجف فؤاده فقالت له خديجة : " كلا, والله لا يخزيك الله أبداً " متفق عليه ([303]). ( وأرسله ) الله بعد فترة الوحي بصدر سورة ( المدثر ) فإنه لما جاءه الملك فرق منه أي خاف فقال : دثروني فأنزل الله ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[ فكانت أول ما أنزل عليه بعد فترة الوحي ، ثم حمي الوحي وتتابع, فشمر حينئذ عن ساق العزم ودعا إلى الله , ( وبلده مكة ) أشرف البقاع عند الله، بها ولد ونشأ, إلا ما كان منه وهو مع مرضعته السعدية في البرية ، ثم رجع إليها في حضانة جده, ثم عمه, وأوحي إليه بها, وبقي بها بعد أن أوحي إليه ثلاث عشرة سنة ، ( ثم هاجر إلى المدينة ) بعد أن همُّوا بقتله فتغيب في الغار، ثم سار هو وأبو بكر مهاجراً إلى المدينة ، وذلك بعد أن بايعه أهلها على النصرة والمؤازرة ، وأرخت الأمة تاريخها من مهاجره e . *
( بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلي التوحيد والدليل قوله تعالى : )يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُـرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (. ------------------------------- وقد ذكر المصنف رحمه الله جملة مما يُعرف به النبي e ، وأعظمها وأعلاها معرفة ما بعث به النبي e فإنه ( بعثه الله بالنذارة عن الشرك ) يحذر منه وينذر من وباله في الدنيا والآخرة ، لأنه يحبط العمل ، وصاحبه مخلد في النار ، وبعثه الله ( يدعو إلى التوحيد ) وإفراده وحده جل وعلا بالعبادة ، وقدم المصنف النذارة عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، لأن هذا مدلول كلمة التوحيد لا إله إلا الله ، ولأن الآية ( قم فأنذر وربك فكبر ) تقتضي ذلك ، فبدأ بجانب الشرك لكون العبادة لا تصح مع وجود المنافي, فلو وجدت والمنافي لها موجود لم تصح قال سبحانه } فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها { ، ولقوله ﷺ : " من قال لا إله إلا الله, وكفر بما يعبد من دون الله, حرم دمه وماله وحسابه على الله عز وجل " رواه مسلم ([304]).ثم ثنى بالتوحيد, لأنه أوجب الواجبات, ولا يرفع عمل إلا به, وإذا خالط الشرك العمل أفسده وأحبط العمل قال سبحانه : } ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين { .
( والدليل ) على أن الله بعث نبيه محمداً ﷺ لينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ( قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{ أي : المتدثر بثيابه المتغشي بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك عند نزول الوحي ( قم ) أي : من دثارك ( فأنذر ) هم عن الشرك وادعهم إلى التوحيد ، وهذه أول آية أرسل بها, وأول أمر طرق سمعه في حال إرساله, وذلك أنه لما رأى الملك الذي جاءه بحراء حين أنزل عليه ( اقرأ ) رعب منه فأنزل إلى أهله فقال : دثروني فأنزل الله ( يا أيها المدثر ) " متفق عليه ([305]) وبهذا حصل الإرسال كما حصل باقرأ النبوة . ( وربك فكبر ) أي عظم ربك عما يقول عبدة الأوثان ( وثيابك فطهر ) أي نفسك طهرها عن الذنوب, كنى عن النفس بالثوب لأنها تشتمل عليه ( والرجز فاهجر ) أي اترك الأوثان ولا تقربها, والرجز القذر مثل الرجس قال تعالى : } واجتنبوا الرجس من الأوثان { ( ولا تمنن تستكثر ) أي لا تعط مالك مصانعة لتعط أكثر منه, أو لا تمنن على الله بعملك فتستكثره, أو لا يكثر من عملك في عينك, أو لا تضعف إن تستكثر من الخير ( ولربك فاصبر ) أي على طاعته وأوامره, أو على ما أوذيت في الله . *
( ومعنى: )قُمْ فَأَنْذِرْ( ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد )وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( أي : عظمه بالتوحيد ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ( أي : طهر أعمالك عن الشرك )وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( الرجز : الأصنام وهجرها تركها والبراءة منها وأهلها ) . ----------------------------------
( ومعنى قم ) أي : بجد ونشاط ، ( فأنذر ) أي دعوة محمد ﷺ ( ينذر ) ويحذر الناس ( عن الشرك ) بالأقوال والأفعال التي يحصل بها المقصود ، لأن الشرك أعظم ذنب عصي الله به ، سئل النبي ﷺ أيُّ الذنب أعظم ؟ قال :" أن تجعل لله نداً وهو خلقك " متفق عليه ([306])، ولا يرفع معه عمل قال سبحانه : } ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين { وصاحبه مخلد في النار ، قال تعالى : } إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار { ومع إنذاره عن الشرك ( يدعو إلى التوحيد ) لأن التوحيد أوجب الواجبات ، وأول دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم قال الله تعالى : } ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت { فشمَّر ﷺ عن ساق العزم ، وأنذر الناس وأوذي على ذلك هو ومن اتبعه ( وربك فكبر أي ) معناها ( عظمه بالتوحيد ) فهو : الإله الحق المستحق أن يعبد وحده, لا يشرك معه أحد في عبادته, فعظم ربك بالتوحيد ، واجعل قصدك في إنذارك أن يعظم العباد ربهم ويقوموا بعبادته ، فإنه ما عظم الرب بشيء أجل من ذلك، ونزهه عما يقوله عبدة الأوثان ، فهو سبحانه أكبر من أن يكون له شريك كما يقوله المشركون ، ( وثيابك فطهر أي : طهر أعمالك عن الشرك ) واجعلها كلها خالصة لوجه الله ، فالعمل يسمى لباساً قال تعالى : ] وَلِبَاسُ التَّقْوَى [ وتطهير الملابس غير مرادة في هذه الآية لأن الصلاة لم تفرض في ذلك الوقت, فالمراد هنا الأعمال أي : طهر نفسك من الذنوب وأعظمُها الشرك ، قال ابن القيم رحمه الله : " وهو قول المحققين من أهل التفسير, وهو أصح الأقوال " ([307]) ، وقيل: أصلح عملك لا يخالطه شيء من الشرك ( والرجز فاهجر ، الرجز ) هي ( الأصنام ) والأوثان التي عبدت من دون الله ، ( و) معنى (هجرها ) أي ( تركها ) والإعراض عنها ( والبراءة منها ) (و) من ( أهلها) ، فالنبي ﷺ أمر بترك الأوثان والبعد عنها, والتبرؤ منها ومن أهلها ، وهذا نهج الأنبياء والمرسلين قال تعالى عن الخليل عليه السلام : ]وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ ، وقال : ] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [،
فلا يتم توحيد العبد حتى يتبرأ من الكفر وأهل الكفر ويباعدهم وينابذهم, قال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام : } وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون { وقال عز وجل : } قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ { فهذه الأمة أمرت بالتأسي بإبراهيم وأتباعه الذين كانوا معه في تبرئهم من المشركين . *
( أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد وبعد العشر عرج به إلي السماء ، وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها : أمر بالهجرة إلى المدينة ) . -----------------------------------
وقد ( أخذ ) النبي e ( على هذا ) النهج في بيان الشرك ، والإنذار عنه ، والتحذير منه ، وبيان التوحيد ، والدعوة إليه ، ( عشر سنين ) وهو ( يدعو إلى التوحيد ) وينذر عن الشرك, قبل فرض الصلاة التي هي عماد الدين ، وقبل بقية الشرائع وبهذا يتبين لك أن حقيقة ما بعث به النبي e ودعت إليه الرسل كلهم, هو الإنذار عن الشرك والتحذير منه, والدعوة إلى التوحيد وبيانه وتوضيحه, كما قال تعالى : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسـُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ ، وقال تعالى : ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُـدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ ، وأخبر الله عن نوحٍ وهودٍ وصالحٍ وشعيبٍ أن أول شيء بدؤوا به أقوامهم أن قالوا : ]يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[ ، وخاتمهم محمد e أول شيء دعاهم إليه قال : " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا "رواه أحمد ([308]) , فالنبي e إنما بعث بالدعوة إلى التوحيد ، وذلك لأنه هو أساس الملة الذي تبنى عليه, وبدونه لا ينبني شيء من الأعمال, فالتوحيد هو الأصل ,وبقية شرائع الدين فرع عنه, فإذا زال الأصل زال الفرع, فكونه أخذ عشر سنين يدعو إلى التوحيد وينذر عن الشرك قبل أن تفرض عليه الفرائض, يدل على أن التوحيد أوجب الواجبات, ومعرفتـه أفرض الفرائض ، ( وبعد العشر ) السنوات من بدء النبوة والرسالة وهو في مكة ( عرج به إلى السماء ) السابعة, فأسري بجسده وروحه جميعاً من المسجد الحرام على البراق ([309]) ، إلى بيت المقدس يقظةً لا مناماً, كما أخبر الله عنه في قوله تعالى : } سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله { ثم صعد به جبريل إلى السماء على المعراج ,كلما مر بسماء تلقاه مقربوها, حتى جاوزهم إلى سدرة المنتهى, حتى سمع صريف الأقلام ، فبلغ من الارتفاع والعلو إلى ما الله به عليم ، ودنا من الجبار وكلمه بلا واسطة, فأوحى إليه ما أوحى ( وفرضت عليه الصلوات الخمس ) وهو في السماء, وكان أول ما فرضت خمسين صلاة،ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه حتى وضعها إلى خمس وقال :"هي خمس أي : في العدد ، وهي خمسون أي : في الأجر,الحسنة بعشر أمثالها " متفق عليه ([310]) ، ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط الأنبياء معه,وأمَّهم في بيت المقدس,ثم ركب البراق ورجع إلى مكة من ليلته,وحدثهم عما رآه في مسيره،(وصلى في مكة) الصلوات الخمس المفروضة ( ثلاث سنين ) بعد أن عرج به وفرضت عليه قبل الهجرة ( وبعدها ) أي : بعد الثلاث عشرة سنة من بعثته ( أمر بالهجرة ) من مكة ( إلى المدينة ) بمفارقة المشركين وأوطانهم,بحيث يتمكن من إظهار دينه,والدعوة إلى الله في غير بلادهم,فإن ذلك واجب وفرض ، لأن أهل مكة منعوه أن يقيم دعوته,فاستقبله الأنصار في المدينة النبوية,وآووه ونصروه وآزروه,حتى بلَّغ دين ربه فانتشر في الآفاق . *
( والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة والدليل قوله تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ( . --------------------------------- وتعريف ( الهجرة ) هي ( الانتقال ) والتحول ( من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ) وكل من فارق بلده فهو مهاجر,والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومقاطعته ومباعدته,وسمي المهاجرون مهاجرين,لأنهم هجروا ديارهم ومساكنهم التي نشئوا بها لله,ولحقوا بدار ليس لهم فيها أهل ولا مال حين هاجروا إلى المدينة. وشرعت الهجرة:حفظاً للدين من الزوال,أو النقصان,وفراراً به من الفتن ، ولخشية عدم إظهار شعائر الإسلام قال شيخ الإسلام رحمه الله : " لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله " ([311]).
والمرء يتأثر بمجتمعه في صلاحه وتقواه وفي بعده عن ربه ومولاه ،ولهذا كانت(الهجرة)حكمها(فريضة على هذه الأمة) المحمدية(من بلد الشرك) والكفر( إلى بلد الإسلام ) ، وقد حكي الإجماع على وجوبها ، وقد فرضها الله على رسوله ﷺ وعلى الصحابة قبل فرض الصوم والحج,وقد جاء الوعيد على من تركها وهو قادر على ذلك,فقال عليه الصلاة والسلام:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا يا رسول الله لم ؟ قال: لا تراءى ناراهما"رواه أبو داود والترمذي ([312])،قال شيخ الإسلام رحمه الله :" أحوال البلاد كأحوال العباد,فيكون الرجل تارة مسلماً,وتارة كافراً,وتارة مؤمناً,وتارة منافقاً,وتارة براً تقيا, وتارة فاسقا,وتارة فاجراً شقياً,وهكذا المساكن,بحسب سكانها فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة,كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة،وهذا أمر باقٍ إلى يوم القيامة " ([313]).
ومخالطة المشركين ضرر على الدين ، وإذا كان المسلم في بلد لا يقدر على إظهار دينه والتصريح به وتبيينه,وجب عليه مفارقة ذلك الوطن لإظهار دينه, وليصون معتقده,فالقرب منهم في المسكن ونحوه,ثروا من معاشرة اليهـود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام " ([314]) ، والهجرة فيها منافع دينية ودنيوية للمهاجر,قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد المصنف رحمهما الله: " الهجرة الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين,كما جرى ذلك لرسول الله ﷺ وأتباعه سلفاً وخلفاً .. ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر كما قال تعالى : } وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً { " ([315]).
وفي ترك الهجرة أضرار على تاركها في دينه ودنياه ، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:"المفاسد التي في ترك الجهاد,موجودة في ترك الهجرة وأكثر منها,كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم,وكان الجهاد من ثمرتها ومصالحها ...وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة من سوء الحال في الدين والدنيا" ([316]).*
ومن له قدرة على الهجرة من ديار الشرك ولم يهاجر فقد ظلم نفسه ووقع في الإثم . ( وهي ) أي : الهجرة ( باقية ) وواجبة ( إلى أن تقوم الساعة ) فلا تسقط في أيِّ زمن عن هذه الأمة بل وجوبها باق إلى قيام الساعة,فمن كان مسكنه بديار المشركين وهو قادر على التحول عنهم,وجب عليه الهجرة من تلك الديار,(والدليل)على وجوب الهجرة ( قوله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ { ، وقد نزلت الآية في أناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا فقال الله عنهم :( إن الذين توفاهم الملائكة ) أراد ملك الموت وأعوانه الموكلين بنزع الروح ، وحال من تنزع أرواحهم أنهم من (ظالمي أنفسهم ) بترك الهجرة من ديار الشرك ( قالوا:فيم كنتم) أي:لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع,يعود معناه إلى:لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟وفي أي فريق كنتم؟والملائكة تعلم في أي فريق كان فيه التاركون للهجرة بعد ما وجبت عليهم,وإنما تقول الملائكة لهم ذلك توبيخاً لهم ، ( قالوا) أي الذين تركوا الهجرة (كنا مستضعفين في الأرض ) أي : عاجزين عن الهجرة لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض ، وهم غير صادقين في ذلك ( قَالُوا ) أي : قالت لهم الملائكة معاتبة لهم ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) وهذا استفهام تقرير أي:قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة,فلم لا تهاجروا إلى المدينة فتخرجوا من بين أهل الشرك؟فلم يعذروا بترك الهجرة،فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه,فإن له متسعاًً وفسحة في الأرض يتمكن فيها من عبادة الله ، قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم : ] فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّـمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً[ أي:بئس المصير إلى جهنم,وهذا فيه أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه وهو قادر عليها,أنه مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب } إلا المستضعفين { أي: الضعفاء العاجزون عن الهجرة } من الرجال والنساء والولدان { جمع وليد ووليده,والوليد: الغلام قبل أن يحتلم ، } لا يستطيعون حيلة { أي :لا يستطيعون مفارقة المشركين,فلا يقدرون على حيلة,ولا على نفقة,ولا على قوة للخروج ، ) ولا يهتدون سبيلاً [ أي: لا يعرفون الطريق إلى الخروج من مكة إلى المدينة,حيث كانت آنذاك بلد الإسلام,ولا يوجد بلد إسلام سواها } فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ { يتجاوز عن المستضعفين وأهل الأعذار بترك الهجرة } وكان الله عفواً { متصفاً بالعفو والتجاوز عن السيئات } غفوراً { للخطايا والأوزار قال ابن كثير رحمه الله:"نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني,المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكناً من إقامة الدين,فهو ظالم لنفسه,مرتكب حراماً بالإجماع,وبنص هذه الآية"([317]).
وإذا كانت الهجرة مأموراً بها من بلاد الكفر ، دل هذا على تحريم السفر إلى بلادهم,إلا لحاجة تدعو إلى ذلك كعلاج,ونحوه ولا يجوز السفر إليهم عند الحاجة إلا بثلاثة شروط :
1 - أن يكون عنده علم ، يمنعه مما يرد عليه من الشبهات .
2 - أن يكون عنده دين ، يمنعه مما يرد عليه من الشهوات .
3- أن يتمكن من إظهار دينه والقيام بعبادة ربه كما أمر الله ، وأن يحذر كل الحذر من موالاة المشركين . وإذا لم يتمكن المسلم من الهجرة,فعليه أن يظهر شعائر دينه,من الصلاة ونحوها,بقدر استطاعته,ويجب عليه أن يدعو غير المسلمين إلى هذا الدين قال سبحانه : } ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين { . *
وقوله تعالى : ) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (، قال البغوي رحمه الله : سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان . --------------------------------- ودليل آخر على أن الهجرة واجبة على القادر عليها ( قوله تعالى: يا عبادي الذين ) وحدوني و( آمنوا ) بي وبرسولي ( إن أرضي واسعة ) لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه,ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله ولم تقدروا على تغييره,فاهربوا منه إلى أرضي الواسعة التي تسع جميع الخلائق. فإذا كان الإنسان في أرض لم يتمكن من إظهار دينه,فيها فإن الله قد وسع له الأرض ليعبده فيها كما أمر,وأن يوحده في أرضه الواسعة,وكذلك يجب على كل من كان ببلد تعمل فيها المعاصي ولا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها ( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) أي أظهروا لي العبادة في أرضي الواسعة التي خلقتها وما عليها لكم,وخلقتكم عليها لعبادتي ( قال ) أبو محمد الحسين بن مسعود ( البغوي رحمه الله ) ([318]) في تفسيره ([319]) الذي قال عنه ابن القيم رحمه الله : " اجتمعت الأمة على تلقي تفسيره بالقبول,وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير " ([320]).
( سبب نزول هذه الآية ) كما قال مقاتل والكلبي نزلت ( في) ضعفاء ( المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان ) ([321]) ، فأفاد أن تارك الهجرة بعدما وجبت عليه ليس بكافر,لكنه عاصٍ بتركها,فهو مؤمنٌ ناقص الإيمان عاص من عصاة الموحدين المؤمنين . *
( والدليل على الهجرة من السنة قوله e : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والحج والأذان والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام أخذ على هذا عشر سنين ) . ---------------------------- ( والدليل على) أن ( الهجرة ) مفروضة على هذه الأمة,وأنها باقية إلى قيام الساعة,دليل ذلك ( من السنة قوله ﷺ ) في الحديث الذي رواه أبو داود عن معاوية t أن النبي ﷺ قال : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة,ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " ([322]) ، ( لا تنقطع ) أي لا يسقط وجوب ( الهجرة ) من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ( حتى تنقطع التوبة ) أي : حتى لا تقبل التوبة ممن تاب. فدل الحديث على أن التوبة مادامت مقبولة فالهجرة واجبة بحالها ،
وأما قول النبي ﷺ : " لا هجرة بعد الفتح,ولكن جهاد ونية,وإذا استنفرتم فانفروا " متفق عليه ([323])، فالمراد لا هجرة بعد فتح مكة منها,إلى المدينة,حيث كانت مكة بعد فتحها بلد إسلام,وقد كانت الهجرة من مكة مأموراً بها لما كانت بلد كفر,أما وقد كانت بلد إسلام فلا. ( ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تقبل التوبة قال تعالى } يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا { فدل على أنها تقبل قبل طلوع الشمس من مغربها ، وما دامت تقبل التوبة ، فلا تنقطع الهجرة وفي الحديث " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا يا رسول الله لم ؟ قال : لا تراءى ناراهما " رواه أبو داود والترمذي ([324]) . فواجب على المسلم أن يسعى لإصلاح نفسه بالصحبة الصالحة,وبالمجتمع الطيب,وأن يقرأ ما ينفعه في أمور دينه,وعليه أن يبتعد عن كل ما يدنس صلاحه من مجتمع لا يحثه على فعل الطاعات ، أو وسائل تغرقه بالشبهات والشهوات ، أو تؤزه إلى فعل المعاصي والسيئات. وقد مكث النبي ﷺ في مكة ثلاثة عشر عاماً وهو يدعو إلى التوحيد وينذر عن الشرك ، ومكث تلك الفترة لبيان التوحيد,والنهي عن ضده لأهميته, ثم بعد تلك المدة هاجر من مكة إلى المدينة ( فلما استقر بالمدينة ) بعد أن هاجر إليها وانتشر التوحيد,ودان به أولئك,وكثر أتباعه,وأقاموا الصلاة التي فرضت عليه وعليهم قبل هجرته بثلاث سنوات ( أُمر ببقية شرائع الإسلام ) التي تعبد الله بها خلقه,إذ عامة شرائع الإسلام لم تشرع إلا في المدينة ( مثل الزكاة والصوم,والحج والأذان والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,وغير ذلك من شرائع الإسلام ) كصلاة العيدين,والكسوف والاستسقاء،وقد (أخذ على هذا) البيان والتعليم, والدعوة لبقية الشرائع ( عشر سنين ) كلها توحى إليه فيه الشرائع ، فتمت شريعة الله صدقاً وعدلاً كما قال تعالى: } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا { . *
وبعدها توفي صلاة الله وسلامه عليه ودينه باق وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه . ------------------------------------
( وبعدها ) أي : بعد ما أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين ( توفي صلاة الله وسلامه عليه ) في السنة الحادية عشرة,ولا شيء من الأمور فيه سعادة العبد في الدنيا والآخرة,إلا بينه وأوضحه أجل بيان,قال أبو ذر t :" ما ترك النبي ﷺ طائراً يقلب جناحيه في السماء,إلا ذكر لنا منه علماً"رواه أحمد ([325]) وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي : " لقد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ([326]) فقال : أجل,لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول,أو أن نستنجي باليمين,أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار,أو أن نستنجي برجيع أو بعظم " رواه مسلم ([327]). وحفظ الله دينه ( ودينه باق ) موجود,وهو ما تضمنه الكتاب والسنة مؤيد محفوظ إلى يوم القيامة ، كاف لمن تمسك به ، قال عليه الصلاة والسلام : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما,كتاب الله وسنتي "رواه الحاكم في المستدرك ([328]). وعمره عليه الصلاة والسلام مبارك,عاش في هذه الحياة ثلاثة وستين عاماً,كلها في الدعوة إلى الله,فعمَّ التوحيد أرجاء الأرض،(وهذا دينه)الذي ترك أمته عليه, وتكفل الله بحفظه,توارثه أهل العلم والدين خلفاً عن سلف ، قال بعض السلف: "هذا عهد نبينا ﷺ إلينا وقد عهدنا إليكم،وهذه وصية ربنا وفرضه علينا،وهي وصيته وفرضه عليكم"([329])،فجرى الخلف على منهاج السلف, واقتفوا آثارهم,ولا يزالون إلى يوم القيامة،ودينه عظيم مهيمن على جميع الأديان فيه أعمال يسيرة,وأجورها عند الله عظيمة،و( لا خير إلا دل) النبي ﷺ ( الأمة عليه ) وأرشدها إليه ، قال الله في الثناء عليه : ] عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ( فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق,ليست إلا من هديه. ( ولا شر ) من الأقوال والأفعال ( إلا حذرها منه ) خوفاً على أمته من الوقوع في المهالك،وقد بلَّغ الدين كله,وبيَّنه جميعه كما أمره الله } يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ { ،وفي الحديث " لم يكن نبي قبلي,إلا كان حقاً عليه,أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم,وينذرهم شر ما يعلمه لهم " رواه مسلم ([330]) . *
والخير الذي دل عليه : التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه ، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه . ---------------------------------
(والخير الذي دل) النبي ﷺ (عليه) أمته هو (التوحيد) وهو أصل كل خير وأعظمه,وهو توحيد الله الذي هو أوجب الواجبات،وأساس قبول الأعمال, ولأجله أرسلت الرسل,وأنزلت الكتب، وقد دلنا النبي ﷺ على ( جميع ما يحبه الله ويرضاه ) من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة،وقد أوذي النبي ﷺ وصبر, ليبلِّغ لنا هذا الخير العظيم,نصحاً لنا وشفقةً علينا,(والشر) الذي هو أصل كل شر وأعظمه و( الذي حذر منه ) أمته وأنذرها منه هو: ( الشرك ) الذي هو أعظم الذنوب عند الله,ويحبط جميع الأعمال،وصاحبه مخلد في النار، وكذا كل رسول يحذر أمته عن الشرك,ويدعوهم إلى التوحيد قال سبحانه : } وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ { كما حذرنا عليه الصلاة والسلام من ( جميع ما يكرهه الله ) ويبغضه ( ويأباه ) أي ينهى عنه من الأقوال والأعمال. *
بعثه الله إلى الناس كافـة ، وافترض الله طاعتـه على جميع الثقلين : الجن والإنس، والدليل قولـه تعـالى : ) قُـلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُـولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ( . ---------------------------------
وقد ( بعث الله ) نبينا محمداً ﷺ ( إلى الناس كافة ) عربهم وعجمهم ، ذكرهم وأنثاهم ، حرهم وعبدهم ، ( وافترض الله طاعته ) أي : جعل طاعته فرضاً ( على جميع الثقلين الجن والإنس ) قال سبحانه : } وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً { ، وقالت الجن : ]يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [ ، فرسالته شاملة إلى الجن والإنس قال النبي e : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة,وبعثت إلى الناس كافة " متفق عليه ([331]) . وهذا من شرفه أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة ، ( والدليل ) على أنه مبعوث إلى الناس كافة قوله تعالى : } قل يَا أَيُّهَا النَّاسُ { العرب والعجم ، أهل الكتاب وغيرهم ، } إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ( واجب عليكم اتباعي قال عليه الصلاة والسلام : " وكان النبي يبعث إلى قومه,خاصة وبعثت إلى الناس كافة " متفق عليه ([332]) .
فواجب على جميع أهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم,اتباع دين نبينا محمدﷺ،وهذا معلوم من دين الإسلام بالضرورة,وهذا مقتضى رسالته،ومن لم يتبع دينه,كتب له الشقاء وكان من أصحاب النار قال سبحانه : } وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ { ويقول عليه الصلاة والسلام : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني,ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به,إلا كان من أصحاب النار " رواه مسلم ([333]) ، ومن أطاعه وامتثل أمره كتبت له الرحمة,وكان من أصحاب النعيم قال سبحانه : } وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون { ، ومن اتبع ما سواه من الأديان فدينه باطل ، قال سبحانه: } ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين { . *
وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ( .
------------------------------------ ( وأكمل الله به ) أي : بنبينا محمد ﷺ أحكام وشرائع ( الدين ) فكان بفضل الله ديناً كاملاً,لا نقص فيه بوجه من الوجوه،فأيما يممت طرفك إلى أيِّ ناحية منه وجدت الكمال والخير فيه ، وما توفي عليه الصلاة والسلام إلا وقد بلَّغ جميع ما أمره الله به. (والدليل)على أن هذا الدين كامل في شرعه وأحكامه(قوله تعالى : اليوم)أي يوم عرفة والنبي ﷺ واقف يخطب في حجة الوداع قبل وفاته بثمانين يوماً(أكملت لكم دينكم)وهذه أكبر نعم الله على هذه الأمة,حيث أكمل لها دينها ، فلا يحتاجون إلى دين سواه ، ولا إلى نبي غير نبيهم ﷺ كما قال سبحانه: } وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً { أي:صدقاً في الأخبار,وعدلاً في الأوامر والنواهي } لا مبدل لكلماته { فمن ادعى أنه يحتاج إلى زيادة فقد كذب وافترى,ورد مدلول هذه الآية،ورد مدلول قوله ﷺ : إياكم ومحدثات الأمور,فإن كل محدثة بدعة,وكل بدعة ضلالة " رواه أبو داود ([334]). والكامل لا يزاد فيه,ولا ينقص منه,ولا يبدل,قال ابن القيم رحمه الله:"قد تمم الله سبحانه الدين بنبيه ﷺ وأكمله به ، ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه،ولا رؤى,ولا منام,ولا كشوف" ([335]) ، ولما أخبر الله أنه أكمل لنا الدين وهو أكبر نعمة علينا قال : } وأتممت { أي أكملت } عليكم نعمتي { الظاهرة والباطنة,ومن تمت عليه النعمة فقد أفلح كل الفلاح ، قال ابن القيم رحمه الله: وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال,والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام ، إيذاناً في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ، ولا خلل ولا شيء خارجاً عن الحكمة بوجه ، بل هو الكامل في حسنه وجلالته,ووصف النعمة بالتمام إيذاناً بدوامها واتصالها,وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها,بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار,وفي دار القرار" ([336]) ، }ورضيت لكم الإسلام ديناً { أي : فارضوه أنتم لأنفسكم،فإنه الدين الذي أحبه ورضيه,وبعث به أفضل رسله ﷺ وأنزل به أشرف كتبه , قال كعب:" لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة,لاتخذوا اليوم الذي نزلت فيه عيداً،قال عمر t:نزلت يوم الجمعة يوم عرفة"رواه البخاري([337]).
ولكمال هذا الدين وتمامه أخبر النبي ﷺ أن كل من فعل ما لم يأمر به,وزاد في دين الله ما لم يأت به الشرع,فإنه عمل باطل ومردود عليه ، لكمال هذا الدين ، ولا حاجة إلى من يجتهد ويشرع فيه ما لم يرد في شرع الله,قال علـيه الصلاة والسلام : " مـن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه ([338]). فليفرح المسلم بهذا الدين ، وليتمسك به, فهو دين كامل شامل, يتمنى أهل الأديان كلهم أن يكونوا من أتباعه ، قال سبحانه : } ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين { ولكن لم يُرد الله لهم الهداية,لحكمة منه بالغة قال سبحانه : } فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم { . *
والدليل على موته e قوله تعالى: ) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ( ، والناس إذا ماتوا يبعثون ، والدليل قوله تعالى: )مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى( ، وقوله تعالى : ) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ( . ----------------------------------- والله سبحانه هو المتصف بالحياة ، قال جل وعلا : ) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( ، ونبينا محمد ﷺ بشر من البشر ، وواحد من المخلوقين ، يعتريه ما يعتريهم من الجوع والحزن والمرض والموت ، والنبي ﷺ لا نرفعه فوق منزلته ، ولا نهضمه حقه ، فهو بشر فضله الله بالرسالة ، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ، لا في حياته ولا بعد مماته ، وبعد عمر مبارك في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ، والكفاح والدعوة والصبر,توفاه الله عز وجل بعد ثلاث وستين سنة, ولم يتوف الله نبيه ﷺ حتى أكمل الله به الدين,وبلَّغ البلاغ المبين,حتى قال ﷺ " لقد تركتكـم على مثل البيضاء,ليلها ونهارها سواء،قال أبو الدرداء : صدق والله رسول الله ﷺ تركنا والله على مثل البيضاء,ليلها ونهارها سواء"رواه ابن ماجة ([339]).
( والدليل على موته ﷺ ) من القرآن ( قوله تعالى : إنك ) يا محمد(ميت) وقد مات وغُسِّل وكُفِّن و صُلِّي,عليه ودُفن e بالمدينة سنة 11هـ( وإنهم ) أي : جميع الخلق ( ميتون) مثلك,فالجميع سيموت حتماً ( ثم إنكم يوم القيامة ) في أرض المحشر } عند ربكم تختصمون ( فيما تنازعتم فيه,فيفصل بينكم بحكمه العادل ، ويجازي كلّ بعمله،والموت يجري على الأنبياء وغيرهم,كما قال تعالى : ]كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[ ، وقال سبحانه : } كل شيء هالك إلا وجهه { ، ( والناس إذا ماتوا يبعثون ) ، ليجازى كلاًّ بعمله ، ويقتص بعضهم من بعض حتى البهائم.
والإيمان بالبعث والنشور من القبور,من جملة الإيمان باليوم الآخر،فإن الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث ، بل الإيمان بالبعث هو معظم الإيمان باليوم الآخر,وهو الذي كان ينكره أهل الجاهلية.
(والدليل) على أن الناس يبعثون بعد الموت ( قوله تعالى : مِنْهَا ) أي : من الأرض ( خَلَقْنَاكُمْ ) أي : مبدؤكم,فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض ، (وفيها ) أي : في الأرض ( نعيدكم ) إذا متم تصيرون إليها فتدفنون بها ( ومنها ) أي : من الأرض ( نخرجكم ) يوم البعث والحساب ( تارة ) أي : مرة ( أخرى ) كقوله : ]قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ[.
ودليل آخر على أن الناس يبعثون بعد موتهم ( قوله تعالى : ]وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً[ ) ، أراد تعالى مبدأ خلق آدم وذريته من الأرض ، ( ثم يعيدكم فيها ) أي : في الأرض إذا متم ] وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً[ من الأرض بعد البعث أحياءً,ويعيدكم يوم القيامة كما بدأكم أول مرة . *
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم ، والدليل قوله تعالى : ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (
------------------------------------- ( وبعد بعث ) الخلق وقيامهم من قبورهم,فإنهم ( محاسبون ) على دقيق الأعمال وجليلها ، صغيرها وكبيرها كما قال سبحانه : } يُنبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر { ، وكل شيء مكتوب في كتاب ينشر في الحشر } ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجـدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً { ، والميزان في الحشر,ميزان حق وعدل,قال جل وعلا: } ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً {. وبعد هذا الحساب فإن جميع الخلق ( مجزيون بأعمالهم ) إن كان خيراً فخير ، وإن شراً فشر قال سبحانه : } فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره { وقال تعالى: } لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى {. ( والدليل ) على أن الخلق يبعثون بعد موتهم,ويحاسبون على أعمالهم ( قوله تعالى : ليجزي ) أي:سيجازي الله(الذين أساءوا ) العمل من الشرك فما دونه ، يجازيهم ( بما عملوا ) من إساءة ، ( ويجزي الذين أحسنوا ) في عبادة ربهم ووحدوه ، وأحسنوا إلى خلقه ، وأخلصوا له الأعمال ، سوف يثيبهم على أعمالهم ( بالحسنى ) وهي: الجنة ، بل ولهم الزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم كما قال سبحانه : } للذين أحسنوا الحسنى وزيادة { وقد فسر النبي ﷺ تلك الزيادة " بالنظر إلى وجه الله الكريم "رواه مسلم ([340]). وهذا من حكمة الله العظيمة في بعث الناس ومحاسبتهم ، فلو لم يكن هناك جزاء ولا حساب لَظَلَم الناسُ بعضهم بعضاً ، وسَلَبَ بعضهم مال بعض ، وعمَّت الفوضى في الحياة ، والذي يحجز الناس عن البغي والمعاصي هو تذكر الحساب والعقاب ، ولما غفل الكفار عن الحساب تمادوا في الكفر والطغيان قال سبحانه : } إنهم كانوا لا يرجون حساباً {. *
ومن كذب بالبعث كفر ، والدليل قوله تعالى : ) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( . -----------------------------------
وشأن البعث عند الله عظيم ، فهو من أركان الإيمان ( ومن كذب بالبعث كفر ) لتكذيبه الله ورسوله وإجماع المسلمين ، ( والدليل ) على كفر من أنكر البعث ( قوله تعالى: زعم ) أي ظن ( الذين كفروا ) تخميناً منهم ( أن لن يبعثوا) للحساب والجزاء ، وقد حكم الله بكفرهم ، لإنكارهم البعث ، فدل على أن إنكار البعث كفر ، بل هو من أعظم كفر أهل الجاهلية ، لهذا قال لنبيه ﷺ يا محمد ( قل ) لمنكري البعث ( بلى ) ستبعثون,واحلف لهم يا محمد يميناً بالله, قائلاً فيها (وربي) وخالقي (لتبعثن) يوم القيامة للحساب ( ثم لتنبؤن بما عملتم ) وتجازون عليها ( وذلك ) أي : البعث بعد الموت ( على الله يسير ) سهل لا يعجزه ذلك,فهو سبحانه على كل شيء قدير } إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون { والذي قَدِرَ على النشأة الأولى,قادر على إنشاء الإنسان مرة أخرى,قال سبحانه : } وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه {.
فإذا كان هذا النوع الإنساني في العدم لم يوجد قبل,ثم أوجده الله تعالى من طين ، وذراريه من ماء مهين،ثم جعل هذا التناسل منه,فإنه لا يعجزه أن يعيدهم وهو الذي أبدعهم قال النبي ﷺ : قال الله تعالى : " كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد " رواه البخاري ([341]).*
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى: ) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( ، وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد e ، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى ) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه( . -------------------------------- ( وأرسل الله جميع الرسل ) من أولهم إلى آخرهم,كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده,وترك عبادة ما سواه،( مبشرين ) مَنْ وحد الله بالجنة ، ( ومنذرين ) ومحذرين مَنْ أشرك بالله بالخلود في النار.
( والدليل قوله تعالى : رسلاً ) أرسلناهم إلى الناس ( مبشرين ) من أطاعهم بالجنة، وأعلى الطاعات هي التوحيد ( ومنذرين ) من عصاهم من المشركين و العصاة,من النار,وأعظم الذنوب والعصيان هو الشرك،فلم يَدَع الرب خلقه يهيمون في حيرة يبحثون عن الحق ، بل أرسل إليهم من يدلهم عليه,ولم يطالبهم بسوى الاتباع ، وقد لقي الأنبياء والرسل في سبيل دعوة الناس الابتلاء والإيذاء,فصبروا حتى بلغوا رسالة ربهم،( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) أي : قطعاً لدابر حجج الناس يوم القيامة ، لئلا يقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً,وما أنزلت إلينا كتاباً ، فانقطعت حجة الخلق على الله بإرسال الرسل، وإنزال الكتب,وإقامة الحجج عليهم,وتبين الحق لهم ، وركز الفطر في قلوبهم ، وانقطعت المعذرة ولم يبق للناس على الله حجة , ولم يبق للمعتذر عذر لإرساله الرسل تترى,رسول يخلف رسولاً،يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه,وطرق الجنة وطرق النار,فمن كفر منهم بعد ذلك فقد سلك طريق الشقاء.
(وأولهم) أي : أول الرسل ( نوح عليه السلام ) والدليل من السنة على أن أولهم نوح,ما ورد في حديث الشفاعة, أن الناس يأتون إلى آدم فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح, فيأتون نوحاً فيقولـون:يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض " متفق عليه ([342]).
وكان بين نوح وبين آدم عشرة قرون,كلهم على الإسلام،فلما حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين أرسل الله إليهم نوحاً,وهو أول رسول إلى أهل الأرض( وآخرهم محمد ﷺ) بالكتاب والسنة والإجماع،والدليل على أن آخرهم محمد ﷺ قوله تعالى : } ما كان محمد أبا أحد من رجالكـم ولكن رسول الله وخاتم النبيين { ، وقوله ﷺ : " وإنه لا نبي بعدي " متفق عليه ([343]).
(والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام) من القرآن (قوله تعالى:إنا أوحينا إليك ) يا محمد ( كما أوحينا ) إلى أول الرسل ( نوح ) عليه السلام , ) وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه ( أي : من بعد نوح,فهو أول رسول,وأول نذير عن الشرك ، وأما عدد الأنبياء فقال أبو ذر t قلت : يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً" قلت : كم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر،جـم غفير "رواه ابن حبان ([344]) ، منهم من قص الله علينا أمره ، ومنهم من لم يقصص علينا أمره ، كما قال تعالى : } ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك { ، فأقام الله تعالى الحجة وقطع المعاذير,بإرسال الرسل وإنزال الكتب . *
وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده ، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى ) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (
------------------------------------ ( وكل أمة ) أي: كل جماعة (بعث الله إليها رسولاً) يدعوهم إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك بدءاً ( من نوح ) عليه السلام،وهو أول رسول إلى أهل الأرض،( إلى محمد )ﷺ وهوآخر الرسل وخاتمهم وأفضلهم وأكثرهم تابعاً.
وما من أمة من الأمم إلا وقد بعث الله فيهم رسولاً إقامة منه تعالى للحجة على عباده ، وإيضاحاً للمحجة قال سبحانه : ] وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِير[ ( يأمرهم بعبادة الله وحده ) فكل نبي يدعو قومه إلى هذا,وهو الذي بعثت به جميع الرسل,ودعوتهم كلهم واحدة وهي إفراد الله بالعبادة ( وينهاهم عن عبادة الطاغوت ) وترك عبادة ما سواه,والتبري منها ومن أهلها,فخلاصة جميع رسالات الرسل,هو التوحيد والتحذير من الشرك.
(والدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ) وقوم (رَسُولاً) يأمرهم بتوحيد الله قائلاً لهم ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وأخلصوا له العبادة (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) بالكفر به، فأول شيء بدأت به الرسل أقوامهم هو التوحيد،وقد أخبر الله أن أول أمر بدأ به نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم من الرسل,أن قالوا لأقوامهم:]اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[ وكما قال الله عز وجل:}وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {.
ومعرفتك لعظمة التوحيد,تصرف همتك إليه,وإلى معرفته والعمل به غاية جهدك, وإلى معرفة ما يضاده،فيجب على العبد أن يهتم غاية الاهتمام بمعرفة أصل الدين, قبل الواجب من الفروع,كالزكاة والصلاة وغيرذلك,فلا تصح الصلاة,ولا الزكاة قبل الأصل,فلابد من معرفة أصل الدين ، ثم معرفة فروعه وفي حديث معاذ t لما بعثه e إلى اليمن قال له:"إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه,شهادة أن لا إله إلا الله،فإن هم أطاعوك لذلك,فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة " متفق عليه ([345]) ، وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به,فلا يدعوهم للصلاة إن لم يطيعوه في الدخول في الإسلام, فإن الصلاة وغيرها لا تنفع بدون التوحيد،فإنه لا يستقيم بناء على غير أساس،ولا فرع على غير أصل ، والأصل والأساس هو التوحيد، والصلاة وإن كانت هي عمود الإسلام فمع ذلك لم تفرض إلا بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين.
ومما يبين أن التوحيد هو الأصل,أنه يوجد من يدخل الجنة ولو لم يصل ركعة واحدة ، وذلك إذا اعتقد التوحيد,وعمل به ومات متمسكاً به,كمن يسلم ثم يقتل شهيداً بعد إسلامه وقبل أن يحين عليه وقت صلاة,يقول البراء بن عازب t : " أتى النبي ﷺ رجل مقنع بالحديد,فقال:يا رسول الله أقاتل وأسلم؟قال: أسلم ثم قاتل،فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله ﷺ : " عمل قليلاً وأجر كثيراً " متفق عليه ([346]).
والصلاة لا تنفع وحدها مع عدم التوحيد,حتى ولو صلى وزكى وصام,فأعماله هباء إذا لم يعرف التوحيد,ويعمل به,ويعتقده في قلبه,كما قال تعالى:} وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً { وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد،وما هلك من هلك إلا بترك العلم بالتوحيد,والعمل به,وما دخل الشيطان على من دخل,ولا مزق عقول من مزق,ولا وقع ما وقع,إلا من آفة قولهم يكفي النطق بالشهادة،ومجرد المعرفة دون العلم بمعناها والعمل بمقتضاها والإحتراز من نواقضها لاتنفع صاحبها.
ومعرفة التوحيد والشرك,من أهون ما يكون وأسهله إجمالاً,كما في زمن الصحابة, فإنهم كانوا يعرفون التوحيد والشرك,فمن قال لا إله إلا الله,يترك الشرك ويعلم أنه باطل مناف لكلمة الإخلاص ، ولهذا لما دعاهم النبي e إلى التوحيد وقال : " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " رواه أحمد ([347]) ، قالوا : } أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب { وأما حين كثرت الشبهات,صعب معرفة التوحيد والتخلص من ضده ، وكثر النفاق ، وصار الكثير يقول الشهادة ويعبد مع الله غيره ، لأنه لا يعرف معناها ويظن أن معناها هو عبادة الله فقط,دون الكفر بالطاغوت,أوالتلفظ بها دون تحقيق معناها والعمل بمقتضاها . *
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله . ------------------------------------- ( وافترض الله ) أي : أوجب ( على جميع العباد ) من إنس وجن، وذكر وأنثى عربي أو عجمي ، حر أو عبد ، ( الكفر بالطاغوت ) والتبرؤ من الآلهة وأهلها واعتقاد بطلانها وأنها لا تنفع ولا تضر ( والإيمان بالله ) أي : إفراده بالعبادة وحده دون سواه. ومن آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت,لا يسمى موحداً,ومن كفر بالطاغوت ولم يعبد الله,لا يسمى موحداً ، إنما الموحد من جمع بين ركني التوحيد,وهما الكفر بالطاغوت والإيمان بالله,كما قال سبحانه : ) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ( ، فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله,فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . *
( قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " الطاغوت :ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع " ([348]) . ------------------------------------ ( قال ) أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور ( بابن القيم ) ([349]) ( رحمه الله تعالى) رحمة واسعة,وأسكنه أعلى جناته,قال في تعريف ( الطاغوت ) هو : ( ما تجاوز به العبد حده ) أي : قدْره الذي ينبغي له في الشرع,وصار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتاً،سواء كان هذا الطغيان,أو التعدي والتجاوز من ( معبود ) مع الله,بأي نوع من أنواع العبادة ( أو ) من ( متبوع ) في معاصي الله ويدخل في ذلك علماء السوء الداعين إلى الكفر والضلال ، والكهان والسحرة الذين يُتَّبَعون فيما يقولون ( أو)من(مطاع) من دون الله في التحليل والتحريم, بأن كان يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرم الله،ثم قال ابن القيم رحمه الله : " فإذا تأملت طواغيت العالم,فإذا هي لا تخرج عن هذه الثلاثة " ([350]) .
والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، ومن عبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه . ------------------------------------- فإذا عرفت ما حده ابن القيم في تعريف الطاغوت,تبين لك أن ( الطواغيت ) من الخلق (كثيرون ) جداً ، وذلك أن كل من تجاوز حده في الشرع,صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتاً ، ( ورؤوسهم ) أي زعماؤهم بالاستقراء والتأمل (خمسة ): أولهم: ( إبليس ) الشيطان الرجيم,وهو رأسهم الأكبر فقد تجاوز ما أمر الله به وعصاه,وارتكب ما نهاه عنه,وهو الداعي إلى عبادة غير الله,فهو أول الطواغيت قال تعالى: } ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين { وقد ( لعنه الله ) فهو مطرود مبعد عن رحمة الله كما قال سبحانه : } وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين {. ( و ) الثاني : ( من عُبِد وهو راض ) بتلك العبادة الصادرة من العابد بأي نوع من أنواعها ، فهو طاغوت من رؤساء الطواغيت وكبرائهم,سواء عبد في حياته, أو بعد مماته إذا مات وهو راض بذلك,قال سبحانه : } وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {. ( و ) الثالث من الطواغيت: ( من دعا الناس) وحثهم ( إلى عبادة نفسه ) ممن يقر الغلو والتعظيم بغير حق, كفرعون وأهل الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد,واتخاذهم أربابا, والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم, كما قال تعالى إخباراً عن فرعون : أنه قال : } ما علمت لكم من إله غيري {، فمن دعا الناس إلى عبادة نفسه وإن لم يعبدوه فإنه من رؤوس الطواغيت,سواء أجيب لما دعا إليه أم لم يجب,لأن العبادة لا تصرف إلا لله,فطغى هذا الطاغوت ودعا إلى صرف العبادة عن الله إلى نفسه,وهذا من أعظم البهتان. *
ومن ادعى شيئاً من علم الغيب ، ومن حكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى ) لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ( وهذا معنى: لا إله إلا الله . ------------------------------------- ( ومن ادعى شيئاً من علم الغيب ) فهو الرأس الرابع من الطواغيت ،كالمنجمين والرمالين من الكهان ونحوهم ، فهم من الطواغيت,وما يزعمونه كذب وخديعة على عامة الناس، قال سبحانه : } وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو { ، فإن علم الغيب لا يعلمه إلا الله,لا تعلمه الملائكة,ولا من دونهم من الجن أو السحرة أو الكهان,وهذا من تمام إحكام الخلق,وكمال الهيمنة,وعظمة الربوبية قال سبحانه: ) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ( ، وقال سبحانه: ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (.
( و ) الخامس من الطواغيت: ( من حكم بغير ما أنزل الله ) كمن يحكم القوانين الجاهلية,أو بشيء من وضع البشر,وهو ليس من الشرع قال سبحانه:} ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به { وقال الله عز وجل : } ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون { فالله عز وجل هو الذي خلق الخلق,وهو أعلم بأحوالهم وأفعالهم,وأنزل الأحكام العادلة التي تفصل في حكوماتهم ففرض على جميع الخلق أن يتحاكموا إلى شرعه.
( والدليل ) على أن الله افترض على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ( قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين ِ) أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام ، لكماله وقبول الفطرة له ، ولأنه بيِّن واضح جليٌّ في دلائله وبراهينه ، لا يحتاج أن يكره أحداً على الدخول فيه فمن هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته,دخل على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً .
ولا منافاة بين هذه الآية والآيات الدالة على وجوب الجهاد ، لأن الجهاد مشروع لقتال كل من وقف في وجه الإسلام ، أما أنه يلزم ويكره على الدخول في الإسلام فلا ، لأنه ( قد تبين الرشد من الغي ) أي : ظهر وتميز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضلال ، بالآيات والبراهين الدالة على ذلك ، فإذا تبين الرشد من الغي فإن كل نفس سليمة لابد أن تختار الرشد على الغي.
( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ) بخلع الأنداد والأوثان ويتبرأ منها ومن أهلها,فقد حقق الركن الأول من ركني التوحيد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " صفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله،وتتركها وتبغضها، وتكفِّر أهلها وتعاديهم " ([351]) . قال ابن القيم رحمه الله : " لا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه, وينيب إليه ويخافه ويرجوه ، حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاءه ، ويبغض ذلك " ([352])
} وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ { ويفرده بالعبادة ويخلص له جميع الأعمال, فقد حقق الركن الثاني من ركني التوحيد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : "ومعنى الإيمان بالله: أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه ، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله ، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم ، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم " ([353]).
فمن حقق ركني التوحيد وهما الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ ) أي : تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) وهي : التوحيد ، والعروة هي : موضع شد اليد ، والوثقى هي :القوية ( لا انفصام لها ) أي لا تنفك ولا تنفصم ، أي : قد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم ، فمن تمسك بالتوحيد وكفر بالطاغوت وصل الجنة بكل حال , ( وهذا معنى لا إله إلا الله ) ، فإن معنى ( لا إله ) كفر بالطاغوت و( إلا الله ) إيمان بالله واستسلام لأمره وشرعه ، وبدأ بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله,لأن من كمال الشيء إزالة الموانع قبل وجود الثوابت . *
وفي الحديث : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة ). --------------------------------------
( وفي الحديث ) الطويل الذي رواه الترمذي ([354]) عن معاذ بن جبل t قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال : " لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا؟ وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت ، ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة, والصدقة تطفي الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلا : } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { " ثم قال : " ألا أخبرك برأس الأمر كله, وعموده, وذروة سنامه؟ قلت : بلى يا رسول الله, قال: رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروة سنامه الجهاد ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت : بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا, فقلت يا نبي الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال:ثكلتك أمك يا معاذ!وهل يكب الناس في النار على وجوههم,أو قال:على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! ".
( رأس الأمر ) يعني رأس الدين الذي جاء به النبيe هو ( الإسلام ) يعني شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله,فمن التزم بها دخل الإسلام.
وأراد المصنف رحمه الله الاستدلال بهذا الحديث على أن لكل شيء رأسا,ً فرأس الأمر الذي جاء به محمد ﷺ الإسلام ، فمن انتسب إلى ما جاء به النبي e وادعى أنه من أمة الإجابة وقد فقد منه رأس الأمر وحقيقته وهو الإسلام, فليس من أمة الإجابة ، والإسلام هو الملة والدين, فمن فقد منه فقد كذب وافترى في دعواه الاستجابة لله ورسوله.
( وعموده ) أي الدين ( الصلاة ) هذا فيه عظم شأن الصلاة, وأنها من الدين بهذا المكان العظيم, وهو أن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط ([355]) ، فكما أن عمود الفسطاط إذا سقطت سقط الفسطاط ، فكذلك إذا فقدت الصلاة, سقط دين تاركها ولم يبق له دين ، قال ابن رجب رحمه الله : " وأما قوام الدين الذي يقوم به الدين كما يقـوم الفسطاط على عموده فهي الصلاة " ([356]) ، لأن مجرد ترك الصلاة كفر مخرج من الملة .
وهذا الحديث من الأدلة على أنه إذا تركها كسلاً فهو كافر ، ومن الأدلة على أن من تركها كفر قوله عليه الصلاة والسلام :" بين الرجل وبين الشرك والكفر, ترك الصلاة " رواه مسلم ([357]) ، وقال عمر بن الخطاب t : " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " رواه مالك والدارقطني ([358]) ، وهي من أحب الأعمال إلى الله ، وأول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة, وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج فلم يجعل فيها بينه وبين محمد ﷺ واسطة, وهي أهم أمر الدين, وقد كان عمر بن الخطاب t يكتب إلى عماله : " إن أهم أمركم عندي الصلاة, فمن حفظها وحافظ عليها حفـظ دينه, ومـن ضيعها فهـو لما سواها أضيع " رواه مالك ([359])، وهي تنهى عـن الفحشاء والمنكر, وتورث الخشوع ، والخشيـة من الله . *
( وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) . --------------------------------- ( وذروة ) الشيء أعلاه وأرفعه و (سنام ) هذا الدين ورفعته وعزته هـو في ( الجهاد في سبيل الله ) لأن به صيانة الدين وحمايته ، وبه دعوة الناس إلى دين الله وإلزامهم بالحق, فهو ذروة سنامه من جهة ما تضمنه من حماية الدين والدعوة إلى الحق .
فالجهاد هو أعلى وأرفع خصال الدين ، قال ابن رجب رحمه الله : " وهذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض " ([360]) . وقال ابن دقيق العيد رحمه الله : " الجهاد لا يقاومه شيء من الأعمال " ([361]) . وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال : " لا أجده, قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ قال ومن يستطيع ذلك " رواه البخاري ([362]) . وذلك لأن فيه بذل المهج التي ليس شيء أنفس منها, ولا يعادلها شيء البتة, فيبذل مهجته, ويبذل ماله لظهور الدين وتأييده,ولما فيه من جهاد الكفار والمنافقين, فبذلك استحق أن يكون من الدين بهذه المكانة قال تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { وقال جل وعلا : } انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { وقد جاءت نصوص عديدة في فضائله وما أعد الله للمجاهدين من عظيم الثواب كقوله ﷺ :" مثل المجاهد في سبيل الله,والله أعلم بمن يجاهد في سبيله,كمثل الصائم القائم, وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة " متفق عليه ([363]) . وقوله ﷺ :" غدوة في سبيل الله أو روحة, خير من الدنيا وما فيها " متفق عليه ([364]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة, وهو مع النيـة الحسـنة مشكور ظاهراً وباطنا,ً ووجه شكره نصره للسنة والدين" ([365]) . وقد أعد الله للمجاهدين درجات عالية في جنات النعيم ,قال ﷺ :" إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" ([366]) رواه البخاري.
والجهاد ركن من أركان الدين ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله " ([367]) ، وهو برهان إيمان العبد إذا صدق فيه مع الله ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله " ([368]) . *
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله صحبه وسلم .
------------------------------
ثم ختم المصنف رحمه الله هذا المصنَّف العظيم بردِّ العلم إلى مَنْ هو بكل شيء محيط علماً فقال : ( والله أعلم ) ، ثم صلى على خير خلقه بقوله : ( وصلى الله ) أي : اللهم اثن ( على ) نبينا ( محمد ) في الملأ الأعلى ( و) اثن أيضاً ( على آله ) وهم أتباعه على ملته ( وصحبه ) أي : صحابته الكرام ( وسلم ) عليهم واجعلهم سالمين من الآفات والآثام والمكاره .
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الموحدين, وأن يحشرنا مع النبيين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً،والله أعلم,وصلى الله على نبينا محمد,وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
([1]) الدرر السنية 4 / 338 .
([2]) شرح ثلاثة الأصول للشيخ ابن باز ص 21 .
([3]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1 / 12 .
([4]) شرح ثلاثة الأصول للشيخ ابن باز ص 21 .
([5]) الدرر السنية 4 / 338 .
([6]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 2 / 277 .
([7]) هذه هي الرسالة الأولى من الرسائل التي سبقت ثلاثة الأصول .
([8]) بدائع الفوائد 1 / 24 .
([9]) الفروع لابن مفلح 1 / 525 .
([10]) مدارج السالكين 2 / 495 .
([11]) الصواعق المرسلة 1 / 151 .
([12]) مدارج السالكين 3 / 17 .
([13]) فتاوى شيخ الإسلام 28 / 31 .
([14]) الجواب الكافي ص 99.
([15]) المسند رقم ( 18557 ) 4 / 287 من حديث البراء بن عازب t .
([16]) المسند رقم ( 18557 ) 4 / 287 من حديث البراء بن عازب t .
([17]) الدرر السنية 4 / 339 .
([18]) حلية الأولياء لأبي نعيم 3 / 365 .
([19]) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 1 / 236 .
([20]) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 45 .
([21]) مدارج السالكين 2 / 469.
([22]) مدارج السالكين 2 / 470.
([23]) الفردوس بمأثور الخطاب رقم ( 4303 ) 3 / 109.
([24]) الإنصاف للمرداوي 2 / 162 – 163 .
([25]) منهاج السنة 6 / 75 .
([26]) الفروسية لابن القيم ص 157 .
([27]) المجموع 4 / 6 .
([28]) أحكام النساء لابن الجوزي ص8 .
([29]) مفتاح دار السعادة 1 / 111 .
([30]) البخاري رقم ( 71 ) 1 / 24 ، ومسلم رقم ( 1037 ) 2 / 717 من حديث معاوية t.
([31]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 48 / 451 .
([32]) مفتاح دار السعادة 1 / 314 .
([33]) إعلام الموقعين 2 / 257 .
([34]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 48 / 427 .
([35]) سنن الترمذي رقم (2417 ) 4 / 612 من حديث أبي برزة الأسلمي t وقال : هذا حديث حسن صحيح .
([36]) وهم المقاتل ومتعلم العلم والمنفق ماله الذين لم يكن قصدهم وجه الله إنما قصدهم ثناء الناس عليهم كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه رقم ( 1905 ) 3 / 1513 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
([37]) الزبد لابن رسلان ص 1 .
([38]) صحيح مسلم رقم ( 223 ) 1 / 203 من حديث أبي مالك الأشعري t قال : قال رسول الله ﷺ : " الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " .
([39]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 / 766 .
([40]) الفتاوى2 / 464 .
([41]) الفتاوى4 / 92 .
([42]) رقم ( 2674 ) 4 / 2060 من حديث أبي هريرة t .
([43]) البخاري رقم ( 2783 ) 3 / 1077، ومسلم رقم ( 2406 ) 4 / 1872 من حديث سهل بن سعد t.
([44]) الفتاوى 27 / 316 .
([45]) الفتاوى1 / 5 .
([46]) رقم ( 1893 ) 3 / 1506 من حديث أبي مسعود الأنصاري t .
([47]) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي رقم ( 586 ) ص350 .
([48]) الفتاوى4 / 50 .
([49]) الفتاوى10 / 40 .
([50]) الفتاوى6 / 215 .
([51]) الفوائد ص 407 .
([52]) المسند رقم ( 2804 ) 1 / 307 من حديث ابن عباس t .
([53]) محاضرات الأدباء لأبي القاسم الأصبهاني 2 / 524 .
([54]) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 78 .
([55]) زاد المعاد في هدي خير العباد 3 / 10 .
([56]) زاد المعاد في هدي خير العباد 3 / 10 .
([57]) شفاء العليل ص250 .
([58]) المتوفى سنة 204 هـ
([59]) ذكر ابن كثير في تفسيره : 1/63 عن الشافعي نحوه بلفظ " لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم ". وذكره ابن القيم في التبيان ص53 وفي مفتاح دار السعادة 1 / 58 ، وفي الاستقامة 2 / 259 ، وفي عدة الصابرين ص 60 عن الشافعي أيضاً بلفظ " لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم ".
([60]) مفتاح دار السعادة 1 / 58 .
([61]) لطائف المعارف ص313 .
([62]) المتوفى سنة 256 هـ .
([63]) صحيح البخاري كتاب العلم ، باب العلم قبل القول والعمل رقم ( 5 ) 1 / 37 .
([64]) مفتاح دار السعادة 1 / 85 .
([65]) هذه هي الرسالة الثانية من الرسائل الثلاث التي سبقت ثلاثة الأصول .
([66]) الدرر السنية 1 / 117 .
([67]) الفتاوى10 / 546 .
([68]) رقم ( 6851 ) 6 / 2655 من حديث أبي هريرة t .
([69]) تفسير القرآن لابن كثير 4 / 395 .
([70]) الفتاوى20 / 193 .
([71]) رقم ( 1715 ) 3 / 1340 من حديث أبي هريرة t .
([72]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص787 .
([73]) الدرر السنية 8 / 331 .
([74]) الفتاوى10 / 465 .
([75]) الفتاوى8 / 361 .
([76]) الفتاوى7 / 522.
([77]) الفتاوى10 / 753 .
([78]) الفتاوى14 / 224.
([79]) الذمي: هو الكافر الذي أقر في دار الإسلام على كفره بالتزام الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيه ، والمعاهد: هو الرجل من أهل الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان ، والمستأمن: هو الكافر يدخل ديار المسلمين بأمان .
مجمع الأنهر 1 / 655 ، ورد المحتار 1 / 166 ، ونيل الأوطار 7 / 18 ، وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 1 / 238 .
([80]) رقـم ( 3166 ) 2 / 409 من حديث عبد الله بن عمرو t .
([81]) تفسير البغوي 4 / 312 .
([82]) رسالة نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
([83]) الفتاوى5 / 510.
([84]) الفتاوى7 / 523.
([85]) هو عم الشيخ محمد بن إبراهيم ومفتي الديار في زمانه .
([86]) الدرر السنية 8 / 422 .
([87]) الفتاوى7 / 147.
([88]) المستدرك رقم ( 4294 ) 3 / 18 ، والسنن الكبرى رقم ( 18642 ) 9 / 234 من حديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
([89]) ذكر ذلك مفصلاً في أول رسالته هذه .
([90]) أي : طلب نصيحتهم .
([91]) سنن أبي داود رقم ( 2787 ) 3 / 93 من حديث سمرة عن سمرة بن جندب t قال : أما بعد قال رسول الله ﷺ : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " وروى أبو داود أيضاً من حديث جرير بن عبد الله t قال : بعث رسول الله ﷺ سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل قال : فبلغ ذلك النبي ﷺ فأمر لهم بنصف العقل وقال : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : لا تتراءى ناراهما " . سنن أبي داود رقم ( 2645 ) 3 / 45.
([92]) الدرر السنية 8 / 154 .
([93]) الفتاوى28 / 578.
([94]) هذه هي الرسالة الثالثة من الرسائل الثلاث التي سبقت ثلاثة الأصول .
([95]) صحيح مسلم رقم ( 2725 ) 4 / 2090 .
([96]) الفتاوى 9 / 319 .
([97]) الفتاوى10 / 652.
([98]) الفتاوى15 / 25 .
([99]) مدارج السالكين 3 / 449.
([100]) الفوائد ص95 .
([101]) الفتاوى15 / 24 .
([102]) البخاري رقم ( 4207 ) 4 / 1626 ، و مسلم رقم ( 86 ) 1 / 90 من حديث عبد الله بن مسعود t .
([103]) البخاري رقم ( 5631 ) 5 / 2229 ، ومسلم رقم ( 87 ) 1 / 91 من حديث أبي بكرة t .
([104]) رقم ( 4227 ) 4 / 1636 من حديث عبد الله بن مسعود t .
([105]) هذه بداية رسالة ثلاثة الأصول وما سبقها هي : رسائل متفرقة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وضعها بعض تلامذته قبل ثلاثة الأصول كالتقدمة لها كما حدثني بذلك الوالد والشيخ صالح بن غصون رحمهما الله .
([106]) رقم ( 34 ) 1 / 62 من حديث العباس بن عبد المطلب t .
([107]) رقم ( 386 ) 1 / 290 من حديث سعد بن أبي وقاص t .
([108]) هو جد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله .
([109]) الدرر السنية 8 / 355 .
([110]) الفتاوى14 / 13.
([111]) مدارج السالكين 3 / 356 .
([112]) مفتاح دار السعادة 1 / 221 .
([113]) البخاري رقم ( 3027 ) 3 / 1170.
([114]) البخاري رقم ( 6988 ) 6 / 2700 .
([115]) تفسير الطبري 30 / 65 .
([116]) القوانين الفقهية ص284 .
([117]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/88 ونصه " ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم, فبهذا يستحق أن يعبد وحده, ولا يشرك به غيره " .
([118]) بدائع الفوائد 3 / 1.
([119]) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 77 .
([120]) الفتاوى10 / 176 .
([121]) الفتاوى 7 / 409 .
([122]) الفتاوى 10 / 149 .
([123]) مدارج السالكين 3 / 441 .
([124]) الفتاوى3 / 272 .
([125]) رقم ( 3371 ) 5 / 456 من حديث أنس بن مالك t .
([126]) رقم ( 1479 ) 2 / 76 مـن حـديث النعمان بن بشير t.
([127]) الدرر السنية 1/ 196.
([128]) الدرر السنية 1/ 199.
([129]) مدارج السالكين 1 / 512 ، وسيأتي الفرق بين الخشية والرهبة عند ذكرهما مع أدلتهما .
([130]) مدارج السالكين 1 / 513 .
([131]) مدارج السالكين 1 / 513 ، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي 4 / 438.
([132]) الفتاوى15 / 21 .
([133]) سنن النسائي رقم ( 1214 ) 3 / 13 من حديث أبي مطرف t .
([134]) مصنف ابن أبي شيبة رقم ( 34532 ) 7 / 104 .
([135]) صحيح البخاري رقم ( 20 / 16 من حديث عائشة رضي الله عنها .
([136]) المسند رقـم ( 21555 ) 5 / 173، وسنن الترمذي رقم ( 2312 ) 4 / 556 من حديث أبي ذر t .
([137]) الفتاوى7 / 24 .
([138]) مدارج السالكين 1 / 513 .
([139]) مدارج السالكين 1 / 513 .
([140]) مدارج السالكين 1 / 513 .
([141]) بدائع الفوائد 3 / 11.
([142]) مدارج السالكين 2 / 43 .
([143]) الفتاوى27 / 339 .
([144]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 396 .
([145]) إغاثة اللهفان 1 / 130 .
([146]) مدارج السالكين 2 / 31 .
([147]) مدارج السالكين 2 / 42.
([148]) مدارج السالكين 1 / 502.
([149]) مدارج السالكين 2 / 36 .
([150]) الفوائد ص 129.
([151]) أي يزجره .
([152]) مدارج السالكين 2 / 50 .
([153]) الفتاوى1/ 95 .
([154]) مدارج السالكين 2 / 42 .
([155]) الفتاوى10/ 256 .
([156]) الفتاوى1/ 29 .
([157]) مفتاح دار السعادة 2 / 256 .
([158]) الفتاوى10/ 257 .
([159]) الفتاوى10/ 650 .
([160]) تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص417.
([161]) مدارج السالكين 2 / 113 .
([162]) مدارج السالكين 1 / 134 .
([163]) الفوائد ص 164 .
([164]) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 364 .
([165]) مدارج السالكين 2 / 120 .
([166]) الوزر : الملجأ ، وأصل الوزر الجبل المنيع وكل معقل وزر ، وفي التنزيل العزيز : ( كلا لا وزر ) وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو : وزر ، والوزر : الحمل الثقيل ، والوزر : الذنب لثقله . لسان العرب 5 / 282 .
([167]) الفوائد ص 163 .
([168]) الفوائد ص 163 .
([169]) مدارج السالكين 2 / 120.
([170]) مدارج السالكين 2 / 129.
([171]) بدائع الفوائد 2 / 465 .
([172]) الفتاوى10 / 32 .
([173]) مدارج السالكين 2 / 114.
([174]) مدارج السالكين 2 / 55 .
([175]) مدارج السالكين 1 / 512 .
([176]) شفاء العليل ص 226 .
([177]) الفتاوى28 / 31 .
([178]) مدارج السالكين 1 / 521 .
([179]) مفتاح دار السعادة 2/300
([180]) التبيان ص 88 .
([181]) الفتاوى7/ 21.
([182]) عدة الصابرين ص 48.
([183]) الفتاوى7/ 17.
([184]) الفوائد ص 341 .
([185]) الفتاوى2/ 6.
([186]) مدارج السالكين 1 / 434.
([187]) مدارج السالكين 1 / 442.
([188]) الفتاوى14 / 32 .
([189]) الفتاوى7 / 281 .
([190]) طريق الهجرتين ص292 .
([191]) مدارج السالكين 1 / 74.
([192]) الفتاوى11 / 524 .
([193]) الفتاوى1 / 89 .
([194]) الفتاوى13 / 321 .
([195]) الفتاوى13 / 322 .
([196]) صحيح البخاري رقم ( 588 ) 1 / 222 من حديث معاوية t ، وصحيح مسلم رقم ( 385 ) 1 / 289 من حديث عمر بن الخطاب t .
([197]) الفتاوى10 / 686 .
([198]) مدارج السالكين 1 / 78 .
([199]) سنن الترمذي رقم ( 2516 ) 2 / 385 من حديث عبد الله بن عباس t .
([200]) شرح الأربعين النووية ص 122.
([201]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 188 .
([202]) الفتاوى 1 / 336 .
([203]) صحيح مسلم رقم ( 814 ) 1 / 558 .
([204]) سنن أبي داود رقم ( 1463 ) 2 / 73 .
([205]) بدائع الفوائد 2 / 199.
([206]) رقم ( 2708 ) 4 / 2080 من حديث سعد بن أبي وقاص t .
([207]) المهدية مدينة عامرة ببلاد الأندلس .
([208]) فتح المجيد ص 190 .
([209]) رقم ( 2516 ) 2 / 385 من حديث عبد الله بن عباس t .
([210]) رقم ( 1689 ) 3 / 1316 .
([211]) تيسير العزيز الحميد ص 211 .
([212]) بدائع الفوائد 1/60 .
([213]) مدارج السالكين 1 / 346 .
([214]) الفتاوى14/29 .
([215]) الفتاوى 16 / 532 .
([216]) رقم ( 1978) 3 / 1567 من حديث علي بن أبي طالب t بلفظ : " لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من غير المنار.
([217]) رقم ( 6318 ) 6 / 2463 من حديث عائشة رضي الله عنها.
([218]) الفتاوى33 / 123 .
([219]) رقم ( 6318 ) 6 / 2463 من حديث عائشة رضي الله عنها كما سبق .
([220]) الفتاوى27 / 147 .
([221]) صحيح البخاري رقم ( 6234 ) 6 / 2437 ، وصحيح مسلم رقم ( 1639 ) 3 / 1261 من حديث ابن عمر t .
([222]) كما في حديث البراء بن عازب t وفيه : " فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري فينادي منادٍ من السماء أن كذب فافرشوا له من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول : رب لا تقم الساعة ". رواه أحمد رقم ( 18557 ) 4 / 287 .
([223]) كما في حديث البراء بن عازب t وفيه : " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء ، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون يعنى بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال : فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقولان له ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ﷺ فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد في السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره قال : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه يجئ بالخير فيقول : أنا عملك الصالح فيقول : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي " . رواه أحمد رقم ( 18557 ) 4 / 287 .
([224]) الفتاوى4 / 245 .
([225]) الفتاوى7 / 247 .
([226]) الفتاوى7 / 629 .
([227]) الفتاوى7 / 623 .
([228]) صحيح البخاري رقم (6858)6 / 2658، وصحيح مسلم رقم ( 1337 ) 2 / 975 من حديث أبي هريرة t.
([229]) مدارج السالكين 2 / 333 .
([230]) مفتاح دار السعادة 1 / 99.
([231]) الفتاوى7 / 528 .
([232]) شرح النووي على مسلم 1 / 144 .
([233]) تعظيم قدر الصلاة للمروزي رقم ( 583 ) 2 / 528 ، وفتاوى شيخ الإسلام 7 / 329 .
([234]) الآتي في ص 189 .
([235]) صحيح البخاري رقم ( 8 ) 1 / 11 – 12 ، ورقم ( 4243 ) 4 / 1641 ، وصحيح مسلم رقم ( 16 ) 1 / 45 من حديث ابن عمر t.
([236]) جامع العلوم والحكم 1 / 43 .
([237]) شفاء العليل ص 288 .
([238]) رواه البزار من حديث معاذ بن جبل t رقم ( 2660 ) 7 / 103 .
([239]) الصلاة وحكم تاركها ص66.
([240]) رواه البخاري تعليقاً 1 / 417 .
([241]) الفتاوى1 / 310 .
([242]) كلمة الإخلاص ص 23 .
([243]) رقم ( 26 ) 1 / 55 من حديث عثمان بن عفان t .
([244]) رقم ( 26 ) 1 / 55 من حديث أبي هريرة t .
([245]) رقم ( 31 ) 1 / 59 – 60 من حديث أبي هريرة t .
([246]) رقم ( 15 ) 1 / 12 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
([247]) البخاري رقم ( 99 ) 1 / 49 .
([248]) البخاري رقم ( 415 ) 1 / 164 ، ومسلم رقم ( 658 ) 1 / 455 .
([249]) البخاري رقم ( 128 ) 1 / 59 ، ومسلم رقم ( 32 ) 1 / 61.
([250]) رقم ( 15 ) 1 / 12 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
([251]) الدروس المهمة لابن باز رحمه الله ص 1 .
([252]) معارج القبول 1 / 377 .
([253]) القواعد الأربع ص 1 .
([254]) مدارج السالكين 3 / 484 .
([255]) الفتاوى1 / 188 .
([256]) زاد المعاد 3 / 638 .
([257]) أحكام أهل الذمة 2 / 451.
([258]) صحيح البخاري رقم (6858)6 / 2658، وصحيح مسلم رقم ( 1337 ) 2 / 975 من حديث أبي هريرة t.
([259]) الفتاوى17 / 498 .
([260]) صحيح البخاري تعليقاً رقم ( 46 ) 6 / 2738 .
([261]) الفتاوى4 / 26 .
([262]) مدارج السالكين 3 / 121 .
([263]) رقم ( 35 ) 1 / 63من حديث أبي هريرة t .
([264]) رقم ( 9 ) 1 / 12 من حديث أبي هريرة t.
([265]) رقم ( 35 ) 1 / 63 من حديث أبي هريرة t.
([266]) فتح الباري 1 / 52 .
([267]) صحيح البخاري رقم ( 5766 ) 5 / 2267 ، وصحيح مسلم رقم ( 37 ) 1 / 64 من حديث عمران بن حصين t.
([268]) رقم ( 5769 ) 5 / 2268 من حديث أبي مسعود t .
([269]) الدرر السنية 1 / 207 .
([270]) رقم ( 2653 ) 4 / 2044 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
([271]) رقم ( 4699 ) 4 / 225 من حديث أبي بن كعب t .
([272])رقم ( 2999 ) 4 / 2295 من حديث صهيب t .
([273]) زاد المعاد 3 / 235 .
([274]) الفتاوى15 / 10 .
([275]) شرح الأربعين لابن دقيق العيد ص43.
([276]) المسند رقم ( 1579 ) 1 / 182من حديث سعد بن مالك عن أبيه t .
([277]) صحيح البخاري رقـم ( 6772) 4 / 245 ، وصحيح مسلم رقم ( 57 ) 1 / 76 – 77 من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما.
([278]) صحيح البخاري رقم ( 5670 ) 5 / 2240 ، وصحيح مسلم رقم ( 46 ) 1 / 68 من حديث أبي هريرة t .
([279]) الوابل الصيب ص52 .
([280]) إعلام الموقعين 4 / 203 .
([281]) فتح الباري 1 / 125 ، وعمدة القارئ للعيني 1 / 291 .
([282]) شرح النووي على مسلم 1 / 160 .
([283]) صحيح البخاري رقم (50 ) 1 / 27 ، وصحيح مسلم رقم ( 8 ) 1 / 36 من حديث أبي هريرة t .
([284]) سنن الدارقطني رقم ( 207 ) .
([285]) فتح الباري لابن حجر 1 / 116 .
([286]) صحيح البخاري رقم ( 1763 ) 2 / 658 ، وصحيح مسلم رقم ( 1341 ) 2 / 978 من حديث ابن عباس t .
([287]) صحيح البخاري رقم ( 1449 ) 2 / 553 ، وصحيح مسلم رقم ( 1350 ) 2 / 983 – 984 من حديث أبي هريرة t.
([288]) المسند رقم ( 2926 ) 1 / 319 .
([289]) المسند رقم ( 2926 ) 1 / 319 .
([290]) رقم ( 10 ) 1 / 40 .
([291]) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 44 .
([292]) رقم ( 59 ) 1 / 33 من حديث أبي هريرة t.
([293]) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 42 .
([294]) فتح الباري 1 / 125.
([295]) زاد المعاد 1 / 69 .
([296]) الفتاوى1 / 5 .
([297]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1 / 389 .
([298]) الفتاوى19 / 93 .
([299]) الصواعق المرسلة 1 / 150 .
([300]) زاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 69 .
([301]) صحيح مسلم رقم ( 2276 ) 4 / 1782 من حديث وائلة بن الأسقع t.
([302]) صحيح مسلم رقم ( 1162 ) 2 / 819 من حديث أبي قتادة الأنصاري t.
([303]) صحيح البخاري رقم ( 4670 ) 4 / 1894، وصحيح مسلم رقم ( 160 ) 1 / 141 من حديث عائشة رضي الله عنها .
([304]) صحيح مسلم رقم ( 23 ) 1 / 53 من حديث أبي مالك عن أبيه t.
([305]) صحيح البخاري رقم ( 4638 ) 4 / 1874، وصحيح مسلم رقم ( 161 ) 1 / 144 من حديث جابر بن عبد الله t.
([306]) صحيح البخاري رقم ( 4207 ) 4 / 1626 ، وصحيح مسلم رقم ( 86 ) 1 / 90 من حديث ابن مسعود t.
([307]) مدارج السالكين 2 / 20 .
([308]) المسند رقم ( 16066 ) 3 / 492 من حديث ربيعة بن عباد الديلي .
([309]) البراق : دابة دون البغل وفوق الحمار, مشتق من البرق سمي بذلك لنصوع لونه وشدة بريقه ، وقيل لسرعة حركته . لسان العرب 10 / 15 .
([310]) صحيح البخاري رقم ( 342 ) 1 / 136 ، من حديث أبي ذر t وصحيح مسلم رقم ( 162 ) 1 / 145 – 148 من حديث أنس بن مالك t .
([311]) الفتاوى1 / 94 .
([312]) سنن أبي داود رقم ( 2645 ) 3 / 45 ، وسنن الترمذي رقم ( 1604 ) 4 / 155 من حديث جرير بن عبد الله t .
([313]) الفتاوى18/ 284 .
([314]) اقتضاء الصراط المستقيم ص 448 .
([315]) الدرر السنية 8 / 240 .
([316]) الدرر السنية 8 / 244 .
([317]) تفسير ابن كثير 2 / 343 .
([318]) المتوفى عام 516 هـ
([319]) المسمى ( معالم التنزيل ) .
([320]) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 239 .
([321]) قال البغوي في تفسيره 3 / 472 عند قوله تعالى :" } يا عبادي الذين آمنوا إن ارضي واسعة فإياي فاعبدون { قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة إن أرضي يعني المدينة واسعة آمنة .
([322]) سنن أبي داود رقم ( 2479 ) 3 / 3 .
([323]) البخاري رقم ( 2631 ) 3 / 1025 ، ومسلم رقم ( 1353 ) 3 / 1487من حديث ابن عباس t .
([324]) سنن أبي داود رقم ( 2645 ) 3 / 45 ، وسنن الترمذي رقم ( 1604 ) 4 / 155 من حديث جرير بن عبد الله t .
([325]) المسند رقم ( 21399 ) 5 / 163 .
([326]) الخراءة بكسر الخاء وفتحها : هي آداب التخلي والقعود عند الحاجة . النهاية لابن الأثير 2 / 17 ، ولسان العرب 1 / 64 .
([327]) رقم ( 262 ) 1 / 223 .
([328]) المستدرك رقم ( 319 ) 1 / 172 من حديث أبي هريرة t.
([329]) إعلام الموقعين لابن القيم 1 / 6 .
([330]) صحيح مسلم رقم ( 1844 ) 3 / 1427 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
([331]) صحيح البخاري رقـم ( 328 ) 1 / 128 ، ورقـم ( 427 ) 1 / 168 ، وصحيح مسلـم رقم ( 521 ) 1 / 370 من حديث جابر بن عبد الله t.
([332]) سبق تخريجه قريباً .
([333]) صحيح مسلم رقم ( 153 ) 1 / 134 من حديث أبي هريرة t.
([334]) رقم ( 4607 ) 4 / 200 من حديث العرباض بن سارية t .
([335]) الصواعق المرسلة 3 / 826 .
([336]) مفتاح دار السعادة 1 / 315 .
([337]) صحيح البخاري رقم ( 6840 ) 6 / 2653 .
([338]) صحيح البخاري رقم ( 2550 )2 / 959 ، وصحيح مسلم رقم ( 1718 ) 3 / 1343 من حيث عائشة رضي الله عنها.
([339]) سنن ابن ماجه رقم ( 5 ) 1 / 4 من حديث أبي الدرداء t.
([340]) صحيح مسلم رقم ( 181 ) 1 / 489 من حديث صهيب t.
([341]) رقم ( 4690 ) 4 / 1903 من حديث أبي هريرة t .
([342]) صحيح البخاري رقم ( 3162 ) 3 / 1215، وصحيح مسلم رقم ( 194) 4 / 184 - 185 من حيث أبي هريرة t .
([343]) صحيح البخاري رقم ( 3268 ) 3 / 1273، وصحيح مسلم رقم ( 1842) 3 / 1471 من حيث أبي هريرة t .
([344]) صحيح ابن حبان رقم ( 361 ) 2 / 76 – 79 من حديث أبي ذر t.
([345]) صحيح البخاري رقم ( 1395 ) 1/430 ، وصحيح مسلم رقم ( 19) 1 / 50.
([346]) صحيح البخاري رقم ( 2653 ) 3 / 1034، ومسلم رقم ( 1900 ) 3 / 1509 .
([347]) المسند رقم ( 16066 ) 3 / 492 ، ورقم ( 19026 ) 4 / 341 من حديث ربيعة بن عباد الديلي.
([348]) إعلام الموقعين 1 / 50 .
([349]) المتوفى سنة 751 هـ
([350]) إعلام الموقعين 1 / 50 .
([351]) مجموعة التوحيد ص 260 .
([352]) شفاء العليل ص 346 .
([353]) مجموعة التوحيد ص 260 .
([354]) رواه الترمذي رقم ( 2616 ) 5 / 11 وقال : هذا حديث حسن صحيح .
([355]) أي : الخيمة ، والفسطاط بيت من شعر . لسان العرب 9 / 126 ، ومختار الصحاح ص 211 .
([356]) جامع العلوم والحكم 1 / 274 .
([357]) صحيح مسلم رقم (82) 1/ 88 من حديث جابر بن عبد الله t.
([358]) موطأ مالك 1/39-40، وسنن الدارقطني 2/52 .
([359]) موطأ مالك رقم ( 6 ) 1 / 6 .
([360]) جامع العلوم والحكم 2 / 146.
([361]) شرح الأربعين لابن رجب ص 169 .
([362]) صحيح البخاري رقم ( 2633 ) 3 / 1026 من حديث أبي هريرة t.
([363]) صحيح البخاري رقم ( 2635 ) 3 / 1027، وصحيح مسلم رقم ( 1878 ) 3 / 1498 من حديث أبي هريرة t.
([364]) صحيح البخاري رقم ( 6199 ) 5 / 2401 من حديث أبي أيوب t ، وصحيح مسلم رقم ( 1883 ) 3 / 1500 من حديث أم حارثة رضي الله عنه.
([365]) الفتاوى4 / 9 .
([366]) صحيح البخاري رقم ( 2637 ) 3 / 1028 من حديث أبي هريرة t.
([367]) الفتاوى10 / 300 .
([368]) الفتاوى3 / 212 .