شرح العقيدة الواسطية
التصنيفات
الوصف المفصل
شرح العقيدة الواسطية
من كلام شيخ الإسلام
ابن تيمية
رحمه الله تعالى
جمعه ورتبه
خالد بن عبدالله المصلح
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده – جل ذكره – لا أحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. . .
فغير خاف على أهل العلم، وطلابه، والمشتغلين به ما للعقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن عبدالحليم بن تيمية-رحمه الله تعالى-من المكانة، والأهمية، والمنزلة بين الكتب المؤلفة في بيان عقيدة السلف. فإن هذه العقيدة المباركة الذائعة الصيت، والحائزة السبق، عظيمة النفع في توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة على قلة ألفاظها، وسهولة عبارتها، والذي رشحها لهذا أسباب عديدة منها: -
1- أن ما تضمنته هذه العقيدة المباركة معتمد على ما جاء في كتاب الله – عز وجل-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وذلك في ألفاظها ومعانيها، وقد أبان شيخ الإسلام عن هذه المزية في المناظرة التي جرت في هذه العقيدة فقال: ((أنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب، والسنة))( )، وقال أيضاً: ((وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية، أو حديثاً، أو إجماعاً سلفياً))( ).
2- أن ما تضمنته هذه الرسالة المباركة هو نتيجة، وثمرة تتبع شيخ الإسلام – رحمه الله – لأقوال السلف، واستقرائها في باب أسماء الله وصفاته، واليوم الآخر، والإيمان، والقدر، والصحابة وغير ذلك من مسائل الأصول والاعتقاد، قال – رحمه الله – في كلامه عن هذه العقيدة: ((ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم))( ).
3- أن المؤلف – رحمه الله – بذل الوسع والطاقة في تحرير طريقة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة تحريراً بالغاً دقيقاً، حتى قال: ((قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي يخالف ما ذكرته فأنا راجع عن ذلك))( ). ولقد عدل – رحمه الله – عن استعمال بعض الألفاظ المشتهرة كالتحريف والتشبيه ونحوهما، لكونها ليست في الكتاب والسنة، وإن كان قد يعنى بها معنى صحيح( ).
4- أنه على صغر حجم هذه العقيدة المباركة إلا أنها اشتملت على غالب مسائل الاعتقاد، وأصول الإيمان، إضافة إلى بيان المسلك العملي الخلقي لأهل السنة والجماعة.
ولقد حظيت هذه العقيدة بالقبول عند أهل العلم قديماً وحديثاً، فأثنى عليها أهل العلم، وذكروها بالجميل، فقال الذهبي – رحمه الله – في كلام له على هذه الرسالة: ((وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد))( )، وقال ابن رجب – رحمه الله –: ((وقع الاتفاق على أن هذه عقيدة سنيّة سلفية))( )، وقال عنها الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله-: ((جمعت على اختصارها، ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده في أصول الإيمان، وعقائده الصحيحة))( ).
ولهذا اعتنى أهل العلم وطلابه بهذه العقيدة حفظاً، وتدريساً، تعلماً، وتعليماً. وقد شرحت بشروح كثيرة متنوعة بسطاً، واختصاراً، وفي كل خير، لكن لما كانت هذه العقيدة بمثابة الخلاصة، والنبذة لما بسطه شيخ الإسلام – رحمه الله-، وفصّله في مؤلفاته، وكتبه، ورسائله بدا لي أن خير من يوضح ما اشتملت عليه هذه العقيدة، ويبينه هو مؤلفها – رحمه الله-، فاستعنت الله – تعالى – في تتبع كلامه، وجمعه، ثم انتقاء ما يوضح مقصود الرسالة، ويبسط موجزها، ثم تنسيق ذلك، والتأليف بين هذا الدر المنثور لينتظم العِقد، ويتحقق القصد. ولإتمام الفائدة، وتوثيق المادة عزوت جميع ما نقلته من كلامه – رحمه الله – سواء كان النقل نصاً، وهو الغالب، أو كان بالمعنى، وهو قليل نزر. وما لم أجد فيه كلاماً للشيخ – رحمه الله – رجعت فيه إلى تلميذه ابن القيم – رحمه الله-، وهذا قليل أيضاً. ولم أخرج عن هذا الصراط إلا في عدة مواضع، نقلت فيها كلاماً للشيخ عبدالرحمن بن سعدي – رحمه الله-.
فأسأل الله – تعالى -أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بالأصل، وأن يجعله عملاً مقبولاً، تعظم به الحسنات، وترفع به الدرجات، إنه بر جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه
خالد بن عبدالله بن محمد المصلح
9 / 4 / 1421 ه
القصيم عنيزة
ص. ب 1060
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتحت هذه الرسالة المباركة بالبسملة، وافتتاح الرسائل، والكتب، والمؤلفات بالبسملة مما جرى عليه عمل العلماء خلفاً، وسلفاً تأسياً بكتاب الله – تعالى – واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والبسملة ((جملة تامة: إما اسمية على أظهر قولي النحاة، أو فعلية))( ). وقد اختلف النحاة، وأهل اللغة في تقدير متعلق البسملة، فمن ((الناس من يضمر في مثل هذا: ابتدائي بسم الله، أو: ابتدأت بسم الله))( ).
والأحسن إضمار ما يناسب الحال، ((لأن الفعل كله مفعول بسم الله ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]!، وفي قوله ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: 41]. . . . ))( ).
فالمناسب هنا أن يقدر متعلق البسملة: بسم الله اقرأ بالنسبة للقارئ.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق،
ثم ذكر بعد البسملة الحمد، وذلك لأن ((الحمد مفتاح كل أمر ذي بال من مناجاة الرب، ومخاطبة العباد))( ). و((الحمد: هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له))( ). و((ذكر الحمد بالألف، واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله))( ).
والرب – سبحانه وتعالى – إذا حمد نفسه في كتابه ذكر أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله الجميلة( )، ولهذا ذكر المؤلف – رحمه الله – بعد حمد الله فعلاً من أفعال الله الجميلة، وهو إرساله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق. ((فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل))( ) و بهما يحصل ((صلاح القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية))( ) وذلك لأن الهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح))( ).
ليظهره على الدين كله،
لا ريب أن ((دين الحق الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهر على كل تقدير))( )، فإن ((الله وعد بإظهاره على الدين كله: ظهور علم وبيان، وظهور سيف وسنان، فقال-تعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[التوبة: 33]))( )، ((فيظهره بالدلائل، والآيات العلمية التي تبين أنه حق، ويظهره أيضاً بنصره، وتأييده على مخالفيه، ويكون منصوراً))( ).
وكفى بالله شهيداً
وذلك لأن ((شهادته وحده – سبحانه – كافية بدون ما ينتظر من الآيات، كما قال – تعالى –: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب﴾ِ [الرعد: 43].
وشهادته للقرآن، ولمحمد صلى الله عليه وسلم تكون بأقواله التي أنزلها قبل ذلك على أنبيائه، كما قال – تعالى – عن أهل الكتاب: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140]، وتكون بأفعاله، وهو ما يحدثه من الآيات، والبراهين الدالة على صدق رسله، فإنه صدَّقهم بها فيما أخبروا به عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون))( ).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وَسَلَّمَ تسليماً مزيداً.
في هذا الشهادة لله – تعالى – بالتوحيد، وللنبي بالرسالة والعبودية.
والتشهد مشروع في الخطب والثناء على الله – تعالى( )-، وذلك لأن ((التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة, ولا يصح إسلام أحد إلا به))( )، فناسب أن يذكر في الخطب والثناء تذكيراً بأصل الدين وأساس الملة.
وأما الصلاة على النبي فهي سؤال الله – تعالى – أن يثني على رسوله، وأن يظهر فضله وشرفه، وأن يكرمه، ويقربه. فصلاة الله على رسوله ((هي ثناؤه – سبحانه – عليه، وإظهاره لفضله، وشرفه، وإرادة تكريمه، وتقريبه))( ).
أما بعد،
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة.
في هذا بيان موضوع هذه الرسالة المباركة، وأنها قد اشتملت على عقيدة الفرقة الناجية من الأهواء والبدع في الدنيا، والناجية من النار في الآخرة، والموعودة بالنصر، والظهور إلى يوم القيامة.
ووصف هذه الفرقة بالنجاة جاء في بعض روايات حديث: ((صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم. ولفظه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وفي لفظ: (على ثلاث وسبعين ملة)( )، وفي رواية قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ( )، وفي رواية قال: (هي الجماعة، يد الله على الجماعة) ( )، ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة))( ).
((وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)( ) ))( )، وقد جاء هذا الحديث بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة))( ).
وهذا الوعد الصادق متحقق، ولله الحمد، ((فإنه لم يزل، ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى، ودين الحق، ظاهرة بالحجة، والبيان، واليد، والسنان إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها، وهو خير الوارثين))( ).
ومع قيام هذه الطائفة، وظهورها فإنه ((لا يتمكن ملحد، ولا مبتدع من إفساد بغلو، أو انتصار على أهل الحق))( ).
وبالنظر إلى أحوال الفرق، وأقوالهم، وما هم عليه يتبين ((أن أحق الناس بأن تكون الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة))( )، إذ هم ((المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب))( )، فهم أهل هذا الوصف، وأحق به.
وإنما سموا أهل السنة، لأنه ((ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله، وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها، وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباع لها تصديقاً، وعملاً، وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب، والحكمة، فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدونه))( ).
وسموا أهل الجماعة، ((لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة))( )، و((الجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً))( )، ((فإن الله – تعالى – أمر بالجماعة والائتلاف، وذم التفرق والاختلاف))( ).
وهم أهل الجماعة أيضاً، لأن الإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين( ) ((فمن قال بالكتاب، والسنة، والإجماع كان من أهل السنة والجماعة))( ).
وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
بدأ رحمه الله ذكر عقيدة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة بذكر الإيمان العام المجمل الذي يجب على كل أحد، ((فإنه يجب على المكلف أن يؤمن بالله، ورسوله، ويقر بجميع ما جاء به الرسول: من أمر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وما أمر به الرسول، ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به، وما أمر به))( )، هذا هو الإيمان المجمل الواجب على كل أحد. فإن ((من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً، مقراً بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها فإنه يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر الرسول، وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول))( ). ولذلك فإنه ((يصح الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة، والنار، ومعلوم أنا لا نحيط علماً بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بذلك في الجملة، ألا ترى أنا لا نعرف عدة من الأنبياء، وكثيراً من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم))( ). ((فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم بمعنى كل ما أخبر به))( ) الله، ورسوله . فكل من آمن بما جاء به الرسول إيماناً مجملاً، ثم ((عمل بما علم أن الله أمر به مع إيمانه، وتقواه فهو من أولياء الله – تعالى –))( ).
وأول ما يجب الإيمان به على كل أحد الإيمان بهذه الأصول، والقواعد الستة ((التي لا يكون أحد مؤمناً إلا بها))( )، وهى كما يلي:
أولاً: الإيمان بالله – تعالى-، ويتضمن ذلك الإيمان بربوبية الله، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته، ومشيئته وكمال علمه، وحكمته))( )، و((إثبات ما أثبته لنفسه، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه))( ).
ومن الإيمان بالله – تعالى – توحيده، وإخلاص الدين له في عبادته، ((بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام، وآخره))( ).
ثانياً: -الإيمان بالملائكة، ويتضمن ذلك الإيمان، ((بأنهم أحياء ناطقون ))( )وأنهم ((مخلوقون من نور))( )، وأنهم((لا يحصي عددهم إلا الله))( )، وأن ((لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال))( ) و((أنهم معبّدون أي: مذللون مصرفون، مدينون مقهورون))( ) لله الواحد القهار جل وعلا، ويتضمن أيضاً الإيمان بمن سماه الله منهم في كتابه ( ) أو جاءت به السنة.
ثالثاً: الإيمان بكتب الله – تعالى-، ويتضمن ذلك الإيمان ((بكل كتاب أنزل الله))( )، ((بما سمى الله من كتبه في كتابه من التوراة، والإنجيل، والزبور خاصةً))( )، وأن لله سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها، وعددها إلا الذي أنزلها))( )، ويتضمن أيضاً الإيمان بالقرآن العظيم، وأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، و إليه يعود كما سيأتي تقريره. ((فهو المتكلم بالقرآن، والتوراة، والإنجيل، وغير ذلك من كلامه))( )، ويتميز القرآن عن سائر كتب الله بالنسبة لهذه الأمة بوجوب اتباعه( )، تصديقاً لأخباره، و عملاً بأحكامه.
رابعاً: الإيمان بالرسل، ويتضمن ذلك الإيمان ((بكل نبي أرسله الله))( )، ((و بما سمى الله في كتابه من رسله))( )، و((بأن لله سواهم رسلاً، وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا الذي أرسلهم))( )، و ((أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين من الإنس، والجن))( ).
خامساً: الإيمان باليوم الآخر، ويتضمن ذلك ((الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت))، وسيأتي لهذا بسط، وبيان في هذه الرسالة المباركة إن شاء الله – تعالى-.
سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره ( )، وسيأتي بسط، وبيان لهذا الأصل في هذه الرسالة المباركة إن شاء الله – تعالى-.
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
هذا شروع في بيان بعض ما يتضمنه الإيمان بالله، وهو الإيمان بأسماء الله – تعالى – وصفاته، و ((القول الشامل في جميع هذا الباب))( ) ((ما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها))( )، من((أنهم يصفون الله – تعالى – بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل))( ). ((قال الإمام أحمد: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث))( )، وذلك أن ((من تأمل نصوص الكتاب، والسنة وجدها في غاية الإحكام، والإتقان، وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال))( ).
وهذه الاحترازات المذكورة ((من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل))تمحض سبيل أهل السنة والجماعة، وطريقة سلف الأمة وأئمتها، وتخلصها من الضلالة، والبدعة في هذا الباب، ويتبين ذلك ببيان ما تضمنته هذه الاحترازات.
فالمراد بالتحريف: التأويل المذموم الباطل الذي هو ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، كتأويل من تأول: استوى بمعنى استولى، ونحوه، فهذا عند السلف، والأئمة باطل لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله، وآياته))( )، إذ هو في الحقيقة صرف للنصوص عن مدلولها ومقتضاها ( )، و((إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى))( )، واستعمال التأويل بهذا المعنى ((لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين))( ) فقط. وأما السلف فالتأويل عندهم ((بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب في اصطلاح المفسرين للقرآن))( )، وهو أيضاً ((الحقيقة التي يؤول إليها الكلام))( ).
((وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله – تعالى – كما فهمه الصحابة والتابعون، ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه، وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسوله، ولكن على وجه النفاق والخداع))( ).
وأما التعطيل فالمراد به ((نفي الصفات))( )، ((ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات معطلة، لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله – تعالى-))( ). وقد سموا هذا العبث بالصفات توحيداً، ((ففسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب، والسنة، و لا قاله أحد من سلف الأمة، وأئمتها))( ).
وأما التكييف فالمراد به السؤال ((عن الهيئة، والصورة))( )، وطلب حقيقة الشيء، وكنهه ( ).
وتكييف صفات الله – تعالى-: -((منفي بالنص))( ) في قوله – تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾ [آل عمران: 7]، ((فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله))( )، فإن معنى التأويل هو ((الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب، وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها))( )، فتأويل ((آيات الصفات يدخل في حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله))( )، فإن تأويل ما أخبر الله به عن نفسه هو ((كنه ذاته، وصفاته التي لا يعلمها إلا الله))( ).
ولقد اتفق السلف على نفي المعرفة بماهية الله، وكيفية صفاته( )، ولا عجب فإن ((العلم بكيفية الصفة فرع على العلم بكيفية الموصوف، فإن كان الموصوف لا تعلم كيفيته امتنع أن تعلم كيفية الصفة))( ).
أما التمثيل فالمراد به التسوية بين الله – تعالى – وغيره فيما يجب، أو يجوز أو يمتنع ( )، ((فإن الرب – تعالى – منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق، أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله، وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه))( ).
و ((نفي المثل عن الله، ونفي الشريك ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف))( )، ((مع دلالة العقل على نفيه))( ). فالواجب إثبات الصفات، ونفي التمثيل، فإنه ((لا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات))( ). بل جميع ((الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل مع تنزيهه عن أن يكون له مثيل))( ).
ووجه الجمع بين التحريف، والتعطيل أن التحريف يفضي إلى التعطيل، أما الجمع بين التكييف، والتمثيل فلأن التكييف يفضي إلى التمثيل، فالواجب في نصوص الكتاب، والسنة ((أن تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل))( )
بل يؤمنون بأن الله – سبحانه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
في هذه الآية الكريمة دليل لصحة طريقة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة، وسلامة سبيلهم، ومنهجهم في هذا الباب حيث إن ((طريقة سلف الأمة، وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل))( )، ((ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ رد على أهل التمثيل، وفي قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ رد على أهل التعطيل))( ).
((ولا ريب أن أهل السنة، والجماعة، والحديث من أصحاب مالك والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم متفقون على تنزيه الله – تعالى – عن مماثلة الخلق، وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه))( )، فإنه قد علم بالكتاب، والسنة، والإجماع ما يعلم بالعقل أيضاً أن الله – تعالى – ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا يجوز أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين؛ لأنه متصف بغاية الكمال منزه عن جميع النقائص، فإنه – سبحانه – غني عما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه ))( )، و ((كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء فصفاته كذاته))( ).
وفي هذه الآية أيضاً ((إثبات صفات الكمال على وجه الإجمال))( )، والمراد بالكمال المثبت له ((الكمال الذي لا يماثله فيه شيء))( ).
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه،
طريقة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة سالمة من نفي ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ((لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات))( )، ((هذا هو الصواب عند السلف، والأئمة، وجماهير المسلمين))( ). وقد اتفق سلف الأمة على ذم من نفى بلا دليل( ) ((فكيف ينفى بلا دليل ما دل عليه دليل إما قطعي، وإما ظاهري ))( )؛ ((فإن الله – تعالى – أخبر عن صفاته، وأسمائه بما لا يكاد يُعد من آياته))( )، ثم إن النفي ((لا يؤمن معه إزالة ما وجب له – سبحانه-))( ) من صفات الجلال، ونعوت الكمال، كما أن ((النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء، هو كما قيل ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً))( )، ((وإنما يكون كمالاً إذا تضمن أمراً ثبوتياً كقوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]))( ) فإن ((نفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم))( ). فما جاء من وصفه – سبحانه – بالنفي ((فالمقصود إثبات الكمال))( ).
((فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله، ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله، ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات، والنفي. فننثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني))( ).
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه،
طريقة أهل السنة والجماعة سالمة أيضاً من تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك بتغيير ((معنى الكتاب، والسنة فيما أخبر الله به، أو أمر به))( ). ولما تورط أهل البدع، والأهواء في هذا حرفوا الكلم عن مواضعه، فإن ((هذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آياته))( ). ولهذا فإن ((تأويل هؤلاء المتأخرين عن الأئمة تحريف باطل))( ).
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته،
طريق أهل السنة والجماعة سالمة أيضاً من الإلحاد في أسماء الله، وصفاته , وآياته، وذلك أن ((الإلحاد يقتضي ميلاً عن شيء إلى شيء بباطل))( )، ويكون ذلك بحمل أسماء الله، وآياته ((على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله، ورسوله))( )، فإن ((كل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك))( ).
وقد ذم الله – تعالى – ((الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال –تعالى-: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ﴾ [الأعراف: 180]، وقال – تعالى –: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شئْتُمْ ﴾، [فصلت: 40] ))( ).
والإلحاد في أسماء الله – تعالى – أنواع: -
((أحدها: أن تسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم، وآلهتهم الباطلة.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً.
الثالث: وصفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود: إن الله فقير.
الرابع: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها.
خامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى عما يقول المشبهون علواً كبيراً))( ).
ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، لأنه – سبحانه – لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له.
طريق أهل السنة والجماعة سالم من التكييف، والتمثيل، لأنه – تبارك وتعالى-: ((لا مثل له، ولا سمي، ولا كفو. فلا يجوز أن يكون شيء من صفاته مماثلاً لشيء من صفات المخلوقات، ولا يكون المخلوق مكافئاً، ولا مسامياً له في شيء من صفاته – سبحانه –))( )، فإنه – جل وعلا – نزه ((نفسه عن النظير باسم الكفء، والمثل، والند، والسمي))( ).
وقد ((نطق القرآن بنفيه عن الله في مواضع كقوله: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]))( ).
وفي هذه الآيات ((نفي للشركاء، والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئاً كفواً لله في شيء من خواص الربوبية مثل خلق الخلق، والإلهية كالعبادة له، ودعائه، ونحو ذلك))( )، وفيها أيضاً نفي ((المثل، والكفو، والند، والشريك، والعديل ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق، وذلك؛ لأن المخلوقات- وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الموجود، والحي، والعليم، والقدير- فليست مماثلة له بوجه من الوجوه، ولا مكافئة، بل هو – سبحانه – له المثل الأعلى في كل ما يثبت له، ولغيره، ولما ينفى عنه، وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء، ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفاتها، ما لا يعلمه إلا الله))( ).
ولا يقاس بخلقه – سبحانه –
فلا يجوز قياس الله – تعالى – بخلقه في أمر من الأمور، ((ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمول تستوي فيه أفراده، فإن الله-تعالى – ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها))( )، ((ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال – تعالى –: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: 60] ( ).
ولا شك أن ((أعظم المطالب العلم بالله – تعالى-، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول، ولا بقياس التمثيل، فإن الله – تعالى – لا مثل له فيقاس به، ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، فلهذا كانت طريقة القرآن، وهي طريقة السلف، والأئمة أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل، وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا، وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى))( ).
وإنما ترك السلف قياس التمثيل، وقياس الشمول في المطالب الإلهية؛ لأنها لا توصل إلا إلى الحيرة، والاضطراب، والشك، والارتياب، و ((لهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة، والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة، والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم، وتكافئها))( ).
فلا ((تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته، وأسمائه على وجه اليقين))( )، بل لا بد في معرفة الله – تعالى – من الوحي الذي بعث به رسله.
((أما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن))( )، فهو طريق ((فطري ضروري متفق عليه))( )، يتضمن ((أن يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً لغيره))( )، وينزه ((عن كل نقص ينزه عنه غيره، ويذم به سواه))( ). و ((بهذه الطريقة جاء القرآن، وهي طريقة سلف الأمة، و أئمتها))( ). فكل ((ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به، وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال – تعالى –:﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: 60]، وقال – تعالى –: ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم: 28]))( ).
فإنه – سبحانه – أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون،
في هذا بيان سبب وعلة وجوب الوقوف على ما أخبر الله به من صفاته، فإن المتكلم ((إذا كمل علمه، وقدرته، وإرادته كمل كلامه))( )، وهذه الأوصاف كلها ثابتة للرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – فضلاً عن ثبوتها له – جل وعلا-. فإن((البيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أعلم الخلق بالحق، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بينه من أسماء الله، وصفاته، وعلوه، وفوقيته هو الغاية في هذا الباب))( ).
((ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله – تبارك وتعالى – لم يقل أحد قط إن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال – تعالى – لم يقل أحد قط إن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال – تعالى – ما يبين أنه لا يقر كاذباً عليه قال – تعالى –: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44-47] ))( ). فدل هذا على وجوب التسليم، والانقياد لما جاءت به الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم-.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182 ] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص، والعيب.
في هذه الآية الكريمة قال الله – تعالى –: ((﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180] أي: عما يصفه الكفار المخالفون للرسل، ﴿ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181]؛ لسلامة ما قالوه من النقص، والعيب وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 182] فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل))( )، ((وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه نفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل، ومبتدع، فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً كما نزه نفسه عما يقول خلقه، ثم سلم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم، وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاؤوا به من الكذب، والفساد. وأعظم ما جاؤوا به التوحيد، ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم))( ).
وهو – سبحانه – قد جمع فيما وصف، وسمى به نفسه بين النفي والإثبات.
وبيان هذا أن سبيل سلف الأمة، وأئمتها ((في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله – سبحانه-، وتعالى – منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسنة، والنوم، والعجز وغير ذلك))( )، ((وكذلك ما كان مختصاً بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به، فلا يوصف الرب بشيء من النقائص، ولا بشيء من خصائص المخلوق، وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص))( ).
الثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات التي لا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات))( )، فإنه ((يمتنع أن يماثله فيها شيء))( ).
وبهذا جاءت الأدلة فإن ((الله – سبحانه – موصوف بالإثبات، والنفي. فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]))( ).
ويسلك أهل السنة والجماعة فيما ينفونه، ويثبتونه في باب الأسماء، والصفات طريقة الرسل، فإن الرسل – عليهم صلوات الله – جاؤوا بإثبات مفصل، ونفي مجمل))( )، ((فهذه طريقة الرسل، وأتباعهم من سلف الأمة، وأئمتها))( ).
و((هي ما جاء بها القرآن، والله – تعالى – في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل، وينفي عنه على طريق الإجمال التشبيه، والتمثيل، فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه عزيز حكيم، غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه غفور ودود، وأنه – تعالى – على عظم ذاته يحب المؤمنين، ويرضى عنهم، ويغضب على الكفار، ويسخط عليهم، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وأنه تجلى للجبل فجعله دكاً، وأمثال ذلك، ويقول في النفي:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء﴾ [الشورى: 11]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74]، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4] فيثبت الصفات، وينفي مماثلة المخلوقات))( ).
والنفي الذي جاءت به النصوص ((يجمعه نوعان: نفي النقص، ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال))( )، ((فالرب – تعالى – موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها، منزه عن النقص بكل وجه، ممتنع من أن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال. فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقاً، وأما صفات الكمال فلا يماثله – بل ولا يقاربه – فيها شيء من الأشياء))( ).
هذه هي طريقة الرسل، ومن تبعهم من سلف الأمة، وأئمتها، أما من خالفهم من المعطلة المتفلسفة، وغيرهم فقد عكسوا القضية ( )، فإن هؤلاء الملاحدة جاؤوا بنفي مفصل، وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا وكذا ولا كذا، فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه، ولا يتعين، ولا هو مباين للعالم، ولا حال فيه، ولا خارجه، ولا داخله إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم))( ). ((وهؤلاء المعطلة ينفون نفياً مفصلاً، ويثبتون شيئاً مجملاً يجمعون فيه بين النقيضين))( )، ((ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال))( ).
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم: صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وسبب هذا أنهم – رحمهم الله – ((يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدونه))( ).
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن.
المراد بالجملة ما تقدم من القواعد في باب أسماء الله – تعالى – وصفاته، فبعد أن ذكر طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين اطراد طريقتهم، واستقامة منهجهم في جميع ما أخبر الله – تعالى-به عن نفسه في كتابه من آيات الصفات، أو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثها.
ومن ذلك ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص، فإن ((هذه السورة اشتملت على جميع أنواع التنزيه، والتحميد، على النفي والإثبات، ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن))( )، ((وليس في القرآن سورة هي وصف الرحمن محضاً إلا هذه السورة))( )، ((ولهذا تسمى سورة الإخلاص))( )، فقد ((تضمنت هذه السورة من وصف الله – سبحانه، وتعالى – الذي ينفي قول أهل التعطيل، وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات))( ). والمراد بالذات ((النفس الموصوفة التي لها وصف، ولها صفات))( ). ومن((الأصول المعروفة في هذا الباب أن القول في الصفات كالقول في الذات))( ).
وأما كون هذه السورة تعدل ثلث القرآن فلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه عديدة، فإن الأحاديث ((المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وأنها تعدل ثلث القرآن من أصح الأحاديث، وأشهرها، حتى قال طائفة من الحفاظ: لم يصح عن النبي في فضل سورة من القرآن أكثر مما صح عنه في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، وجاءت الأحاديث بالألفاظ كقوله: (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ تعدل ثلث القرآن) ( )، وقوله: (من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، من قرأها مرتين فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فكأنما قرأ القرآن كله)( )، وقوله للناس: (احتشدوا حتى أقرأ عليكم ثلث القرآن)، فحشدوا حتى قرأ عليهم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ قال: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)( ).
وأما توجيه ذلك فقد قالت طائفة من أهل العلم: ((إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ هي صفة الرحمن، ونسبه، وهي متضمنة ثلث القرآن، وذلك أن القرآن كلام الله – تعالى-، والكلام إما إنشاء، وإما إخبار. فالإنشاء هو الأمر، والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة، ونحوها، وهو الأحكام. والإخبار: إما إخبار عن الخالق وإما إخبار عن المخلوق. فالإخبار عن الخالق هو التوحيد، وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته، والإخبار عن المخلوق هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء، وأممهم، ومن كذبهم، والإخبار عن الجنة، والنار، والثواب، والعقاب، قالوا: فبهذا الاعتبار تكون قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن))( )، فجعلت هذه السورة المباركة ((تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن، وذكره محضاً لم تشب بذكر غيره))( ). وقد ((اشتملت على التوحيد العلمي القولي نصاً، وهى دالة على التوحيد العملي لزوماً))( )، ((ففي اسم الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن التشبيه والمثال، وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد))( ).
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1].
في هذه الآية الكريمة ((إثبات الأحدية لله المستلزمة نفي كل شركة عنه))( )، ((فقوله: (أحد) يدل على نفي النظير))( )، ((وأنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة))( )، فإن ((قوله: (أحد) مع قوله: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحدٌ﴾ [الإخلاص: 4] ينفي المماثلة، والمشاركة))( ). ((فظهر أن اسمه الأحد يوجب تنزيهه عن ما يجب نفيه عنه من التشبيه، ومماثلة غيره في شيء من الأشياء))( ).
و ((لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي))( ).
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2].
في هذه الآية الكريمة إثبات اسم الصمد لله – تعالى-، ((واسمه الصمد يتضمن إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص))( )، ((فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك))( ).
((ولفظ (ص م د) يدل على الاجتماع، والانضمام المنافي للتفرق، والخلو، والتجويف))( ).
((والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له. والثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج. والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة، والتابعين، وطائفة من أهل اللغة، والثاني قول طائفة من السلف، والخلف، وجمهور اللغويين))( )، و ((الاشتقاق يشهد للقولين جميعاً؛ قول من قال: إن الصمد الذي لا جوف له، وقول من قال: إنه السيد، وهو على الأول أدل، فإن الأول أصل الثاني))( )، وعلم بهذا أن ((معنى الصمد يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار، فإن الصمد يتضمن صمود كل شيء إليه، وفقره إليه))( ). فهو – سبحانه –((الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة الربوبية، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح، ولا ينفع، ولا يدوم))( ).
((فالصمدية تثبت له الكمال، والأحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك))( ).
((وهذان الاسمان: الأحد، والصمد لم يذكرهما الله إلا في هذه السورة))( ).
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3].
هذه الآية الكريمة تضمنت تنزيه الله ((نفسه عن أن يكون له ولد، وأن يخرج منه شيء من الأشياء كما يخرج من غيره من المخلوقات، وهذا من تمام معنى الصمد كما سبق في تفسيره أنه الذي لا يخرج منه شيء، وكذلك تنزيه نفسه عن أن يولد – فلا يكون من مثله- تنزيه له أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى، والأحرى))( ).
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4].
في هذه الآية الشريفة ((نفي للشركاء، والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئاً كفواً لله في شيء من خواص الربوبية مثل: خلق الخلق، والإلهية، كالعبادة له، ودعائه، ونحو ذلك))( )، فإنه ((ليس شيء من الأشياء كفواً له في شيء من الأشياء؛ لأنه أحد ))( )، فقوله في أول السورة: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مع هذه الآية ((ينفي المماثلة، والمشاركة))( ).
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله:
بيان هذا أنه يدخل فيما سبق من القواعد السلفية أيضاً ما وصف الله به نفسه في أعظم آية في كتابه في آية الكرسي، فإنها أعظم آية في كتاب الله، ودليل ذلك ما ((في صحيح مسلم أن النبي قال: (يا أُبي، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟) قال: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر)( )، فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن، وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان، وهذا غاية الفضل، فإن الأمر كله مجتمع في القرآن، والإيمان، فإذا كانت أعظم القرآن، وأعلى الإيمان ثبت لها غاية الرجحان))( ). ولا غرو فإنه ليس ((في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي))( ) من الصفات العظيمة، والمعاني الجليلة.
﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ،
في هذه الآية الكريمة العظيمة إثبات انفراد الله بالألوهية( )، وفيها إثبات اسم الحي، وصفة الحياة، واسم((الحي مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كان أعظم آية في القرآن ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ القيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، وهو الاسم الأعظم، فاستلزم جميع الصفات، فلو اُكتُفيَ في الصفات بالتلازم لاُكتُفيَ بالحي))( ).
وفيها إثبات اسم القيوم، وصفة القيومية، ومعنى ((القيوم، القائم المقيم لما سواه))( )، فهو ((الدائم الباقي الذي لا يزول، ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه))( ).
واسمه – سبحانه – ((الحي، القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إذا اجتهد في الدعاء))( ).
وقال ابن القيم في نونيته:
((ولـه الحياة كمـالهـا فلأجل ذا ما للممات عليه من سلطان
وكـذلك الـقـيوم من أوصافه وكذاك أوصاف الكمـال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان)) مـا للمنام لديه من غشيان
وفي هذه الآية الكريمة وصف الله – تعالى – نفسه بالنفي، وذلك لكونه((متضمناً لإثبات مدح ))( )، فإنه((– سبحانه – لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية ))( )، ((فإذا وصف بالسلوب فالمقصود هو إثبات الكمال))( ). ((فنفي السنة، والنوم يتضمن كمال الحياة، والقيومية، وهذه من صفات الكمال))( )، ((فإن النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت))( )، ((فلو جعلت له سنة، أو نوم لنقصت حياته، وقيوميته، فلم يكن قائماً، ولا قيوماً))( )، ولهذا نفى الله – تعالى – عنه جنس السنة، والنوم، لكون ذلك ((مناقضاً لما علم من صفاته الكاملة))( ).
لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،
في هذا إثبات تمام ملكه – جل وعلا – لما في السماوات والأرض.
((فإنكاره، ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات، وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه، وقبل شفاعته كان مشاركاً له، إذ صارت شفاعته سبباً لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه))( )، وهذا ((كمال الملك، والربوبية، وانفراده بذلك))( ).
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء،
في هذا أثبت سعة علمه – سبحانه –، ثم ((بين أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: 32]، فكان في هذا النفي إثبات أن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه ))( )، ((فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئاً إلا بتعليمه))( )، ((فبين أنه المنفرد بالتعليم، والهداية. . . . كما أنه المنفرد بالخلق والإحداث))( ).
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا،
في هذا إثبات سعة كرسيه – جل وعلا-، و ((الكرسي ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع جمهور السلف))( )، و ((قد نقل عن بعضهم: أن كرسيه علمه، وهو قول ضعيف، فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، والله يعلم نفسه ويعلم ما كان، وما لم يكن، فلو قيل: وسع علمه السماوات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسباً، لا سيما وقد قال: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي: لا يثقله، ولا يكرثه، وهذا يناسب القدرة لا العلم. والآثار المأثورة تقتضي ذلك))( ). و ((قد قال بعضهم: إن الكرسي هو العرش، لكن الأكثرون على أنهما شيئان))( ). فعن ((ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه))( ).
وفيها ((إثبات عظيم قدرة الرب – جل وعلا – حيث ذكر سعة كرسيه السماوات والأرض، وأنه – سبحانه – َلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255]، أي: لا يكرثه ولا يثقل عليه ))( )كما تقدم، ((وهذا النفي تضمن كمال قدرته، فإنه مع حفظه للسماوات والأرض لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف))( ).
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم ﴾ [البقرة: 255].
((ختم هذه الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته، وعظمته في نفسه))( ).
واسمه – تبارك، وتعالى – العلي ((يفسر بأنه أعلى من غيره قدراً، فهو أحق بصفات الكمال. ويفسر بأنه العالي عليهم بالقهر، والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم، وهم المقدورون، وهذا يتضمن كونه خالقاً لهم، ورباً لهم، وكلاهما يتضمن أن نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه))( ).
وأما اسمه العظيم فهو ((متضمن لصفات عديدة، فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال))( )، فهو من الأسماء الدالة((على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة))( ).
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
وبيان هذا أنه ((قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي : (ما فعل أسيرك البارحة؟)، فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: (كذبك، وإنه سيعود)، فلما كان في المرة الثالثة، قال: دعني أعلمك ما ينفعك، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾ [البقرة: 255] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك، وهو كذوب!)، وأخبره أنه شيطان( ).
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها. . . ))( ).
وقوله – سبحانه – ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]،
في هذه الآية الكريمة إثبات أنه الحي الذي لا يموت، وبهذا وصفته الرسل – عليهم الصلاة والسلام-( )، فإن((الحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت فينفى عنه الموت؛ لأنه حي ))( )، ولكونه ((مناقضاً لما علم من صفاته الكاملة))( ).
وقوله – سبحانه-: ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]،
في هذه الآية الكريمة إثبات هذه الأسماء الأربعة لله – تعالى-، وأما تفسيرها ((فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء)( )))( ).
وقال ابن زمنين في تفسير هذه الأسماء الأربعة: ((هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية، ولاشيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن بطن علمه بخلقه))( ).
واسمه – جل وعلا – الظاهر ((ضمن معنى العالي كما قال: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ [الكهف: 97]. . .، فكلما علا الشيء ظهر، ولهذا قال: (أنت الظاهر، فليس فوقك شيء) فأثبت الظهور، وجعل موجب الظهور أنه ليس فوقه شيء))( ). ((فهذا أخبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره، وعلوه على الأشياء))( ).
واسمه – جل وعلا – الباطن ((أوجب أن لا يكون شيء دونه، فلا شيء دونه باعتبار بطونه))، و ((في هذا اللفظ معنى القرب، والبعد من وجه، ومعنى الاحتجاب، والاختفاء من وجه، فقوله: (وأنت الباطن، فليس دونك شيء) نفى أن يكون شيء دونه، كما نفى أن يكون فوقه، ولو قدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو والبيان، إذ هذا شأن الظاهر، ولو كان دونه شيء لكان
أكمل منه في الدنو، والاحتجاب، وهذا شأن الباطن، وهذا يوافق قوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ( )))( ). ((ولهذا لم يجئ هذا الاسم الباطن كقوله: (وأنت الباطن، فليس دونك شيء) إلا مقروناً بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره، وعلوه، فلا يكون شيء فوقه؛ لأن مجموع الاسمين يدلان على الإحاطة، والسعة، وأنه الظاهر، فلا شيء فوقه، والباطن، فلا شيء دونه))( ).
((فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته – سبحانه – فوقيته، وعلوه على كل شيء. ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء ما علا منه، وأحاط بباطنه، وبطونه – سبحانه – إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون، وهذا لون، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية، ومكانية. . . ))( ). الزمانية في قوله: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ ﴾، والمكانية في قوله: ﴿وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾، ثم أكد تمام الإحاطة في آخر الآية: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [التحريم: 2]،
وقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2]،
وقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]،
وقوله: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: 11]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفتي العلم، والحكمة لله – تعالى-.
فأما صفة علم الله – تعالى – فأدلة إثباتها كثيرة، فإن ((في القرآن والحديث، والآثار ما لا يكاد يحصر))( )من النصوص الدالة على ثبوت صفة العلم لله – تعالى – و((هو – سبحانه – يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون))( ). ((ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عدداً، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59] ( ).
وهو – سبحانه – ((يعلم المعدومات، والممتنعات التي ليست مفعولة، وكما يعلم المقدرات كقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: 28]، وقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، وإن كان وجود إله غيره ممتنعاً، فعلمه – سبحانه – بما يعلمه، ليس من شرطه كونه مفعولاً له، بل كونه مفعولاً له دليل على أنه يعلمه، والدليل لا ينعكس))( ). فالله – جل شأنه – ((العليم الذي له العلم العام للواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم نفسه الكريمة، وصفاته المقدسة، ونعوته العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت، كما قال – تعالى –: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]))( )، ((ويعلم – تعالى – الممكنات، وهي التي يجوز وجودها، وعدمها، ما وجد منها، وما لم يوجد، وما لم تقتض الحكمة إيجاده ))( )، وقد أحاط علمه – سبحانه – ((بجميع الأزمان الحاضرة، والماضية، والمستقبلة))( ).
((واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء))( )، فعلمه – سبحانه – ((له عموم التعلق: يتعلق بالخالق، والمخلوق، والموجود، والمعدوم))( ).
وقد ضل في هذه الصفة العظيمة فرق أبرزها:
الأولى: الفلاسفة، فقالوا بأن الله – تعالى-: ((يعلم الكليات دون الجزئيات))( )، وهذا كذب، وضلال مبين، وهو ((من أخبث الأقوال، وشرها، ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة، وهؤلاء شر من المنكرين للعلم القديم من القدرية، وغيرهم))( ). ومما يبين ذلك أن ((القرآن فيه إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص، وكلامه المعين، وفعله المعين، وثوابه، وعقابه المعين، مثل: قصة آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، وغيرهم ما يبين أنهم أعظم الناس تكذيباً لرسل الله – تعالى-، وكذلك إخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى ببدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، والحديبية، وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالاً، وأفعالاً.
وإخباره أنه يعلم السر، وأخفى، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى، وعنده كتاب حفيظ، وأنه يعلم ما في السماوات، والأرض، وأن ذلك في كتاب))( ).
الثانية: غلاة القدرية، ((الذين يزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها))( )، ((وهذا القول مهجور باطل مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا قائله. والكتاب، والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده))( ).
أما صفة الحكمة فقد ((أجمع المسلمون على أن الله – تعالى – موصوف بالحكمة))( ) فله – سبحانه – الحكمة الباهرة في خلقه، وله الحكمة البالغة في شرعه( )، وقد دل على هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ((في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها))( )، فإن ((القرآن مملوء بذلك في الخلق، والأمر))( ). ومن المهم التنبه إلى أن((تفصيل حكمة الله في خلقه، وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر))( )، و((ليس للعباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله – تعالى-، بل يكفيهم العلم العام، والإيمان التام))( ).
وقد ضل في هذه الصفة طوائف، فأنكرها الجهمية، والأشعرية( ). ونفي الحكمة أمر خطير، فإنه ((يتضمن نفي الإرادة، ونفي القدرة))( ). ولازم هذا ((نفي فعل الرب، ونفي الأحداث، ومن نفى ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود))( ). فإثبات((الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه))( )؛ لأنهم لابد أن يثبتوا إلهاً قادراً، أو يثبتوا حوادث في الوجود، وهذه القدرة، والإحداث إما أن يكونا لحكمة أو لا، وعدم الحكمة عبث ونقص ينزه عنه الرب، وإثبات الحكمة كمال واجب له – سبحانه – كما قال – تعالى –: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ [النحل: 60].
وقوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].
في هاتين الآيتين الكريمتين إثبات قدرة الله – تعالى – وقوته. فهو – جل وعلا – القوي القدير. وقد((اتفق المسلمون، وسائر أهل الملل على أن الله على كل شيء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جداً))( ).
وهاتان الصفتان معناهما متقارب، فإن ((لفظ القوة قد يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره، فهو قدرة أرجح من غيرها، أو القدرة التامة))( ).
((والقدرة: هي قدرته على الفعل. والفعل نوعان: لازم، ومتعد.
والنوعان في قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الحديد: 4]، فالاستواء والإتيان والمجيء، والنزول، ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول، بل هي قائمة بالفاعل، والخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والإعطاء، والمنع، والهدى، والنصر، والتنزيل، و نحو ذلك تتعدى إلى مفعول))( ).
((فيدخل في ذلك – أي في آيات إثبات قدرته – سبحانه – أفعال العباد( )، وغير أفعال العباد)). ومما ((يدخل في ذلك أفعال نفسه. وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله – تعالى – ﴿: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ [يس: 81]، ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4]، ونظائره كثيرة))( ).
وقد اختلف الناس في متعلق القدرة، والذي عليه أهل السنة ((أن الله – تعالى – على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا))( )، ((فكل ما يصلح أن يشاء فهو عليه قدير، وإن شئت قلت: قدير على ما يصلح أن يقدر عليه))( ).
وأما الممتنع ((المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وأمثال ذلك))( )، ولذلك فإن الممتنع لنفسه غير داخل في عموم قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20] ( ).
وفي الآية الثانية إثبات أنه – سبحانه – الرزاق، وأنه سبحانه – المتين.
والرزاق في صفاته يشمل ما كان على يد رسول صلى الله عليه وسلم من رزق القلوب بالعلم، والإيمان، ورزق الأبدان الذي لا تبعة فيه. ويتضمن أيضاً الرزق العام لكل أحد كما قال – تعالى –: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: 6] ( ).
أما المتين فمعناه الشديد القوي فهو يفيد التناهي في القوة والقدرة.
وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]،
وقوله: ﴿ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]،
في هاتين الآيتين إثبات صفتي السمع والبصر لله – تعالى-. ((وقد دل الكتاب، والسنة واتفاق سلف الأمة، ودلائل العقل على أنه سميع بصير))( )، والسمع الذي أثبته الله – سبحانه، وتعالى – لنفسه في الكتاب، والسنة نوعان:
النوع الأول: السمع العام، ((ويراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى))( )، فسمع الله – تبارك، وتعالى – شامل لجميع الأصوات؛ ((لأنه سميع لكل مسموع))( )، قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب الحجرة يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة: 1] ( ).
النوع الثاني: السمع الخاص، ((وهو سمع الإجابة، والقبول))( ).
وهذا النوع متعلق بمشيئة الله – تعالى-، وقدرته( ). وذلك ((كقوله: سمع الله لمن حمده، وقول الخليل: ﴿ إن ربي لسميع الدعاء ﴾ [إبراهيم: 39]، وقوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 50]))( )، ((والمراد أنه يستجيب الدعاء))( ).
أما البصر فهو إدراك جميع المبصرات، فالله – جل وعلا – قد أحاط بصره جميع المبصرات لا تخفى عليه خافية، فكل ((ما خلقه الرب – تعالى-، فإنه يراه))( ).
ومعنى سمع الله، وبصره الذي يثبته أهل السنة والجماعة ((ليس هو مجرد العلم بالمسموعات، والمرئيات))( )، وذلك ((لأن الله فرق بين العلم، وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم؛ لتنوع المعلومات؛ قال – تعالى-: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200]، وفي موضع آخر: ﴿ إنه هو السميع العليم ﴾ [فصلت: 36]، وقال: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227] ذكر سمعه لأقوالهم، وعلمه؛ ليتناول باطن أحوالهم، وقال لموسى، وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]، ووضع إبهامه على أذنه؛ وسبابته على عينه( ).
ولا ريب أن مقصوده تحقيق الصفة لا تمثيل الخالق بالمخلوق، فلو كان السمع، والبصر العلم لم يصح ذلك))( )، وبهذا يتبين خطأ من أول هاتين الصفتين بالعلم.
وقوله: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [الكهف: 39]،
وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]،
وقوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ [الأنعام: 125]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفة الإرادة لله – تعالى-، وهي ((في كتاب الله نوعان))( ):
النوع الأول: ((إرادة شرعية دينية تتضمن محبته، ورضاه))( ). ((فالإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات))( ). ((وهي المقارنة للأمر، والنهي، والحب، والبغض، والرضا، والغضب))( )، ((كقوله – تعالى: -﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 26]، إلى قوله: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ، [النساء: 28] وقوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 6] وقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]))( ). وهذه الإرادة ((قد يقع مرادها، وقد لا يقع))( ).
النوع الثاني: إرادة كونية خلقية، وهي ((المشيئة الشاملة لجميع الحوادث))( ). ((فالإرادة الكونية هي مشيئة لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته، وإرادته الكونية))( ). ((وهي المقارنة للقضاء، والقدر، والخلق، والقدرة))( )، ((كقوله – تعالى –: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماء﴾ [الأنعام: 125]، وقول نوح: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: 34].
ومن هذا النوع قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ومن النوع الأول قولهم لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله))( ). وهذه الإرادة مستلزمة لوقوع المراد( )، فما أراده الله – تعالى – كوناً فلا بد من وقوعه.
وقوله: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]،
وقوله: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]،
وقوله: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 7]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]،
وقوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]،
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 14]،
في هذه الآيات الكريمات: ((إثبات محبة الله – تعالى – لعباده المؤمنين، ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء))( )، وهذا هو ((الذي جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، وعليه مشايخ المعرفة، وعموم المسلمين: أن الله يُحِب، ويُحَب))( ).
وفي هذه الآيات أيضاً أن من الأعمال ما يحبه الله – تعالى-. و ((الأعمال التي يحبها من الواجبات، والمستحبات الظاهرة، والباطنة كثيرة ومعروفة))( ).
((وهذه الآيات، وأشباهها تقتضي أن الله يحب أصحاب هذه الأعمال))( ).
واسمه – سبحانه – الودود معناه: المحب، فإنه ((هو الذي يود))( ) من شاء من خلقه.
وصفة المحبة من الصفات الفعلية الاختيارية، فإن كل ((ما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية))( ) الفعلية؛ ((مثل كلامه، و سمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه؛ ومثل: خلقه، وإحسانه، وعدله؛ ومثل: استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة))( ). ولا يشكل عليك في هذا التمثيل ذكر الكلام، والسمع، والبصر، والإرادة حيث إنهم يمثلون بها للصفات الذاتية، فهي كذلك باعتبار النوع، وهي فعلية باعتبار الآحاد، والأفراد فتنبه( ).
وأهل السنة يثبتون هذا النوع من الصفات كسائر ما وصف الله به نفسه( )، فإن ((من أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه من الصفات الفعلية))( ). ((أما من ينفي الصفات من الجهمية، والمعتزلة فهم ينفون قيام الفعل به))( )، وكذلك ينفيها طائفة من مثبتة الصفات، ((فإن ابن كلاب، والأشعري، وغيرهما ينفونها))( ).
و ((أول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يُحِبُّ، ويُحَبُّ الجهم بن صفوان، وشيخه الجعد بن درهم))( ). والمخالفون للسلف في هذه الصفة الجليلة طائفتان في الجملة:
الأولى: من أنكر أن يُحِبَّ الله عباده، أو يحبه عباده، وهذا مذهب الجهمية، فقد ((أنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين))( ).
الثانية: من أثبت محبة العبد ربه، وأنكر محبة الله لعباده، وهذا قول الأشعرية( )، ((و طائفة أخرى من الصفاتية))( )، وهم من يثبت لله – تعالى – الصفات في الجملة.
((ثم هؤلاء الذين أنكروا حقيقة المحبة لم يمكنهم إنكار لفظها؛ لأنه جاء في الكتاب، والسنة))( )، فأول الجهمية محبة العبد ربه((بعبادته، وطاعته، وامتثال أمره، أو محبة أوليائه ))( )، وأما محبة الله – تعالى – لعباده فقد((تأول الجهمية، ومن اتبعهم من أهل الكلام – محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه، فتكون من الأفعال، وطائفة أخرى من الصفاتية قالوا: هي إرادة الإحسان))( ).
وقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30].
وقوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7].
وقوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43].
وقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
وقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54].
وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107].
وقوله: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].
في هذه الآيات الشريفة إثبات رحمة الله – تعالى-، وأنه الرحمن الرحيم ((الذي يرحم العباد بمشيئته، وقدرته))( )، وهذا أمر بين واضح اتفق عليه السلف والأئمة( )، وجرى عليه أهل السنة والجماعة( ).
ورحمة الله – سبحانه – ((اسم جامع لكل خير))( ).
وأما ((أهل البدع، والضلالة من الجهمية، ونحوهم))( )، ((فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن أو أن يرحم))( )، ثم إنهم فسروا الرحمة ((بالإرادة القديمة، أو صفة أخرى قديمة))( )، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، فأنكروا هذه الصفة العظيمة من صفات الله – تعالى-.
وأما الفرق بين هذين الاسمين الكريمين الرحمن، الرحيم فهو ((أن الرحمن دال على الصفة القائمة به – سبحانه-، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف-، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، ولم يجئ قط رحمن بهم، فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته))( ).
وقوله: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: 8]،
في هذه الآية الكريمة إثبات صفة الرضا، وهي من الصفات الفعلية التي أثبتها أهل السنة والجماعة لله – تعالى-، فإنها من ((صفات الكمال، وأضدادها صفات نقص))( ).
وقد أنكر هذه الصفة من ينكر ثبوت الصفة الفعلية الاختيارية لله – تعالى – من الكلابية، والأشعرية، ونحوهم.
وقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ [النساء: 93]،
وقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ [محمد: 28]،
وقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]،
وقوله: ﴿وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة: 46]،
وقوله: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفة الغضب، والسخط، والأسف، والكره، والمقت. وهي من صفات الفعل التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله – تعالى – على الوجه اللائق به – سبحانه( ) – والغضب المثبت له – جل، وعلا – لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فإن ((الغضب على من يستحق الغضب عليه، من القادر على عقوبته، صفة كمال))( ).
((والرسل – صلوات الله عليهم أجمعين – إنما جاؤوا بإثبات هذا الأصل، وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة، ويرضاها، ويسخط بعض الأمور، ويمقتها، وأن أعمال العباد ترضيه تارة، وتسخطه أخرى))( ) كما في الآيات المتقدمة، وغيرها.
أما معنى الأسف المذكور في الآية الأخيرة فقال ((ابن عباس: أغضبونا، قال ابن قتيبة: الأسف الغضب، يقال: أسفت أسفاً أي: غضبت))( ).
وهذه الآيات دالة على أن الفعل حادث بعد أن لم يكن، ((فإن الجزاء لا يكون قبل العمل، والقرآن صريح بأن أعمالهم ﴿كانت سبباً لذلك كقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]، وقوله ﴿: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 28]، وقوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]، وأمثال ذلك))( ).
وقد أنكر هذه الصفات من ينكر قيام الأفعال بالله – تعالى-، فقالوا: ((هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب، والعقاب ))( )، ومنهم من قال: ما ثم ((إلا إرادة قديمة، أو ما يشبهها))( )، فأوَلَ جميع الصفات الفعلية بذلك.
وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ [البقرة: 210]،
وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 158]،
وقوله: ﴿ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر 21-22]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: 25]،
وفي هذه الآيات المباركات إثبات إتيان الله ومجيئه يوم القيامة. ((والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إتيان الرب يوم القيامة كثيرة، وكذلك إتيانه لأهل الجنة يوم الجمعة))( )، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الكلمة من المسلمين على أنه ينزل يوم القيامة لفصل القضاء، ولم يشكوا في ذلك، وأن الإتيان المذكور، والمضاف إلى الله أنه إتيان الله بنفسه يوم القيامة( ).
وقد ضل في هذه الصفة طوائف فإن ((النفاة المعطلة ينفون المجيء، والإتيان بالكلية، ويقولون: ما ثم إلا ما يحدث في المخلوقات، والحلولية يقولون: إنه يأتي، ويجيء بحيث يخلو منه مكان، ويشغل آخر، فيخلو منه ما فوق العرش، ويصير بعض المخلوقات فوقه، فإذا أتى، وجاء لم يصر على قولهم العلي الأعلى، ولا كان هو العلي العظيم، لا سيما إذا قالوا: إنه يحويه بعض المخلوقات، فتكون أكبر منه، سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء علواً عظيماً ( ).
وقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27]،
وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]،
في هاتين الآيتين الكريمتين إثبات الوجه لله – تعالى-، ((وثبوت الوجه، والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب، والسنة، واتفق على ذلك سلف الأمة))( ). وهو من الصفات الخبرية ((السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع))( ).
ومن المعلوم أن ((أئمة أهل السنة، والحديث من أصحاب الأئمة الأربعة يثبتون الصفات الخبرية))( )، ((كالوجه، واليدين، والعينين))( ).
وما ذكر من إثبات الأشعرية للصفات الخبرية إنما هو قول متقدميهم، أما المتأخرون منهم فينفونها( ).
وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]،
وقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ [المائدة: 64]،
في هاتين الآيتين إثبات اليدين لله – تعالى-، ((وإثبات اليدين له موجود في التوراة، وسائر النبوات كما هو موجود في القرآن))( )، وأهل السنة والجماعة على إثباتها( ).
وقد ورد ذكر هذه الصفة في الكتاب، والسنة بصيغة الإفراد، وبصيغة التثنية، وبصيغة الجمع( ). ولا إشكال في ذلك، ((فلغة العرب متنوعة في إفراد المضاف، وتثنيته، وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه))( )، فلا تعارض بين ذلك، فإن ((المفرد المضاف يراد به ما هو أكثر من واحد))( )، و ((كثيراً ما يراد به الجنس فيتناوله سواء كان واحداً، أو اثنين، أو ثلاثة))( )، فلا يعارض الإفراد التثنية، والجمع. أما صيغة الجمع فإن ((صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه))( ) – سبحانه-، ((ومثل هذا كثير في القرآن يسمي الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصيغة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله – تعالى -: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [الفتح: 1]، وقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: 32]( ). و((أما صيغة التثنية فإنها نص في مسماها، لأنها من أسماء العدد، وأسماء الأعداد نصوص))( )، وهذا يدل على صحة ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من إثبات اليدين له – سبحانه-.
وقد أنكر هذه الصفة متأخرو الأشعرية، وحرفوها بتحريفات باردة ( ).
وقوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]،
وقوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 13 – 14]، وقوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]،
في هذه الآيات إثبات العين لله – تعالى –، و هذا ما عليه أهل السنة والجماعة( ).
وقد جاء إثبات هذه الصفة في القرآن بلفظ الجمع، وبلفظ المفرد( )، ((وأما لفظ عينين فليس هو في القرآن، ولكن جاء فيه حديث))( )، ((كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن)، فإذا التفت قال له ربه: (إلى من تلتفت إلى خير لك مني)( )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)( ) صريح في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلا، فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)( ).
وقوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1]،
وقوله: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ [آل عمران: 181]،
وقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون﴾ [الزخرف: 80]،
وقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46].
وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14].
وقوله: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 218 – 220].
وقوله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
في هذه الآيات الكريمات إثبات السمع، والرؤية لله – تعالى – وقد تقدم ذلك في أول سياق الآيات، وقد ذكر في هذه الآيات حكم هاتين الصفتين( )، وفيها أن الله – جل شأنه –((قد يخص بالنظر، والاستماع بعض المخلوقات ))( ). و ((هذا التخصيص ثابت بالكتاب، والسنة، وهو تخصيص بمعنى يقوم بذاته بمشيئته، وقدرته))( ).
وفيها أيضاً أن الله – تبارك، وتعالى – يسمع الأقوال، ويبصر الأعمال بعد أن خلقت، ووجدت، ((وهذا قطعي لا حيلة فيه))( )، ((فإذا وجدت الأقوال، والأعمال سمعها، ورآها))( )، ((وعلى ذلك يدل الكتاب، والسنة مع الكتب المتقدمة: التوراة، والإنجيل، والزبور. فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء، وأقوال السلف، وأئمة العلماء، ودلت عليها صرائح المقولات))( ). فإن ((السمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم، فإذا خلق الأشياء رآها، وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم))( ).
وما ذكره الله – تبارك، وتعالى – من ((رؤيته الأعمال، وعلمه بها، وإحصائه لها يتضمن الوعيد بالجزاء عليها. . . . ))( )، فذكر الله – سبحانه – سمعه ورؤيته في هذه الآيات، ونظائرها يراد منه((إثبات علمه بذلك، وأنه يعلم هل ذلك خير، أو شر، فيثيب على الحسنات، ويعاقب على السيئات ))( )، ((فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد أيضاً لازم ذلك المعنى))( ).
وقوله: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد: 13]،
وقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]،
وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُم لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 50]،
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15- 16]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات المحال، والمكر، والكيد لله – تعالى-، لكن ((لما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن العاطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كانت مجازاً))( )،
((وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له، وإذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلاً))( )، ولذلك فإن ((الله – سبحانه – لم يصف نفسه بالكيد، والمكر، والخداع، إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق – سبحانه-؟))( ).
والِمحَال المذكور في الآية ((فسِّر بالكيد، والمكر))( ). وهذا يدل على أن ((إطلاق هذه الألفاظ عليه – سبحانه – لا يتوقف على إطلاقها على المخلوق))( )، ومن ذلك قوله: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون﴾ [الأعراف: 99]( )، ومنه أيضاً قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: 45]، أما من حيث الأفعال، والأسماء ((فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقاً، فلا يقال: إنه – تعالى – يمكر، ويخادع، ويستهزئ، ويكيد))، و ((كذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها))( )، فإن أسماءه كلها حسنى.
وقوله: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]،
وقوله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]،
وقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]،
وقوله عن إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82]،
في هذه الآيات إثبات صفة العفو، والمغفرة، والرحمة لله – تعالى-، فإنه ((لما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين، رحيم بالمؤمنين، علم أنه موصوف بالمغفرة، والرحمة))( ).
وفيها إثبات العزة لله – تعالى _، ومعنى هذه الصفة الكريمة دائر على القوة والامتناع والغلبة، فإن ((العرب تقول: عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب، عز يعز بالكسر إذا امتنع، وعز يعز بالضم إذا غلب))( ).
وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 78]،
في هذه الآية الكريمة إثبات ((أن اسم الله مبارك تنال معه البركة))( )، وفيها إثبات الجلال، والإكرام لله – تعالى-، وهذا يستلزم كمال صفاته، فإنه ((إذا كان مستحقاً للإجلال، والإكرام لزم أن يكون متصفاً في نفسه بما يوجب ذلك))( ). ((والإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحب والحمد))( ).
وقوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]،
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]،
وقوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]،
وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [البقرة: 165]،
وقوله: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]،
وقوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن: 1]،
وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان 1- 2]،
وقوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 91- 92]،
وقوله: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 74]،
وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]،
في هذه الآيات الكريمات نزه الله – تعالى – نفسه عن النقائص ((تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها))( ). وقد تقدم أن((مجرد النفي ليس فيه مدح، ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض))( )، ولذلك فإن ((كل نفي لا يستلزم ثبوتاً، هو مما لم يصف الله به نفسه))( ).
وقد نفى الله – تبارك، وتعالى- في هذه الآيات الكفء، والند، والمثل، والسمي، والشريك، والولي من الذل، ونفى عنه الولد، كل ذلك؛ لإثبات غاية الكمال له في الأسماء، والصفات، والأفعال.
وقد سبح نفسه – تعالى-، وتسبيحه نفسه ((يتضمن مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان في التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء))( ).
ونفي الولي عنه – سبحانه – ليس مطلقاً في الآية؛ فهو ((لا يوالي أحداً، لذلته، بل هو العزيز بنفسه، ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعاً، وإنما يوالي عباده المؤمنين، لرحمته، ونعمته، وحكمته، وإحسانه، وجوده، وفضله، وإنعامه))( ).
وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ في سبعة مواضع:
في سورة الأعراف قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]،
وقال في سورة يونس: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يونس: 3]،
وقال في سورة الرعد: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الرعد: 2]،
وقال في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]،
وقال في سورة الفرقان:﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الفرقان: 59]،
وقال في سورة ألم السجدة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [السجدة: 4]،
وقال في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الحديد: 4]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات استواء الله – تعالى – على عرشه، وقد دل على هذه الصفة ((نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين الأولين، والآخرين))( ).
((والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسائر علماء الأمة متواترة عند من تتبعها قد جمع العلماء فيها مصنفات صغاراً، وكباراً))( ). ((بل من أكثر النظر في آثار الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالاضطرار أنه ألقى إلى الأمة أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء، وعلى كل شيء، فوق العرش، وفوق السماوات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير))( ). فأدلة ثبوت صفتي الاستواء على العرش، والعلو كثيرة جداً، فهي ((مما لا يحصيه إلا الله مما هو أبلغ المتواترات اللفظية، والمعنوية))( ).
وصفة ((الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر))( )، وهي من الصفات الفعلية. وهذا ((قول أئمة أهل الحديث والسنة))( ). والمنقول عن السلف في معنى الاستواء لا يخرج عن أربعة معان( ). قد ذكرها ابن القيم – رحمه الله – في نونيته عند كلامه على الاستواء فقال: -
(( ولهم عبارات عليه أربـع قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع . . . . . . . . . . . . . . . ))
وهذه المعاني كلها منقولة عن السلف، وهم ((وإن اختلفت عباراتهم فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله على عرشه))( )، فإنهم قد ((فسروا الاستواء بما يتضمن الارتفاع فوق العرش))( ).
واستواء الله – تعالى – على عرشه هو علوه عليه، لكن ((الاستواء علو خاص، فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستوياً عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عالياً على غيره إنه مستو عليه، واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره فإنه عال عليه، والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السماوات، والأرض الاستواء لا مطلق العلو)) ((فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه، وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله – سبحانه، وتعالى – بمشيئته، وقدرته))( ). ((فالاستواء من الألفاظ المختصة بالعرش لا تضاف إلى غيره لا خصوصاً، ولا عموماً))( ). ولذلك ((اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال استوى على هذه الأشياء))( ) أي: على البحار، والأرض، وغيرها.
وقد ضل في هذه الصفة طوائف، فأنكروا الاستواء، وسبب ذلك ((أن عامة من ينكر هذه الصفة، وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين، أو استواء يستلزم حدوثاً، ونقصاً، ثم يقولون: فيتعين تأويله: إما بالاستيلاء، أو بالظهور، والتجلي، أو بالفضل، والرجحان الذي هو علو القدر، والمكانة))( ).
وتأويل الاستواء بالاستيلاء مردود من عدة وجوه، فهو باطل من حيث اللغة، واللسان، ومن حيث ما نقل عن السلف، فإن ((أهل السنة، وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى، أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سماواته فهو جهمي ضال))( ).
وهذا((أمر بين واضح لكل ذي عين بصيرة، وقلب سليم))( ).
وقد ضل في هذه الصفة أيضاً نفاة الصفات الاختيارية صفات الفعل عن الله – تعالى-، ((ولهذا كان قول ابن كلاب، والأشعري، والقلانسي، ومن وافقهم من أتباع الأئمة، وغيرهم من أصحاب أحمد وغيرهم أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش، ومعنى ذلك أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به – نفسه – فعل اختياري))( ).
والقائلون بمنع قيام الصفات الاختيارية حجتهم داحضة وشبهتهم واهية( ). فإن ((السلف، والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات، والأفعال مطلقاً))( ). ((والنصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات، والأفعال. وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة))( ).
وقوله: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]،
وقوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]،
وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]،
وقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذبا ً﴾ [غافر: 36- 37]،
وقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: 16- 17]،
هذه الآيات الكريمات فيها إثبات علو الله – تعالى – على خلقه. وذلك ((معلوم بالاضطرار من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة))( )، بل ((قد اتفقت الكلمة من المسلمين، والكافرين أن الله في السماء))( ). وهو ((أمر معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم))( ).
((فإن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم ))( )، كما أن ((العقل دل على أن الله – تعالى – فوق العالم))( )، ولا عجب في ذلك، فإن ((من أبين ما شهدت به الفطر، والعقول، والشرائع علوه – سبحانه – فوق جميع العالم، وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جداً))( ).
فدل على علو الرب – تبارك، وتعالى – على خلقه الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، ((ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين))( ).
فالله – تبارك اسمه – هو العلي ((الأعلى بجميع معاني العلو. وقد اتفق الناس على أنه علي على كل شيء بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91]. وعلى أنه عالٍ عن كل عيب ونقص، فهو عالٍ عن ذلك، منزه عنه، كما قال-تعالى-: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 39– 43] فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح))( )، فدل على أنه منزه عن كل عيب، ونقص – تبارك وتعالى-.
أما علو الله بذاته على خلقه فهو محل الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين غيرهم من الفرق، فإن ((المنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم))( ).
والمخالفون لأهل السنة في صفة علو الله – تعالى –، ثلاث فرق:
الأولى: معطلة الجهمية، ((وهم الذين يقولون: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم))( ).
الثانية: حلولية الجهمية، وهم ((الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان))( ).
الثالثة: طائفة من أهل الكلام، والتصوف، وهم الذين يقولون: ((إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان))( ).
والجواب عليهم مفصل في موضعه، فإنه قول باطل يلزم عليه لوازم فاسدة ينزه الله عنها( ).
وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4]،
وقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]،
وقوله: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]،
وقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]،
وقوله: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]،
وقوله: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات معية الله – تعالى – لخلقه. ((والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة، وخاصة.
فالعامة كقوله – تعالى –: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7].
فهذه معية عامة لكل متناجيين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق))( ).
((و أما المعية الخاصة ففي قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وقوله – تعالى – لموسى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، وقال – تعالى-:﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى، وهارون دون فرعون، ومع محمد، وصاحبه دون أبي جهل، وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا، والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين))( ).
وقد دل على معية الله – تعالى – لخلقه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع ((الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله))( ).
و ((لفظ المعية قد استعمل في الكتاب، والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر))( ).
فالمعية العامة التي في مثل قوله – تعالى-: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] وفي قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7] قد ((دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية، ومقتضاها، أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه))( ).
أما المعية الخاصة فقد دل سياق آياتها ((على أن المقصود ليس مجرد علمه، وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده، ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون))( )، فهو – سبحانه – ((معهم بالنصر، والتأييد، والإعانة على عدوهم))( ). وهذه المعية التي يثبتها أهل السنة والجماعة ((ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب – عز وجل – مختلطة بالخلق))( )، أو ((أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية))( ) كما سيأتي بيانه.
وقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾[النساء: 87]،
وقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [النساء: 122]،
وقوله: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 110]،
وقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ [الأنعام: 115]،
وقوله: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]،
وقوله: ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ﴾ [البقرة: 253]،
وقوله: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143]،
في هذه الآيات إثبات صفة الكلام لله – تعالى-، وهي صفة جليلة ثابتة، ((بالإجماع، والنقل المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم))( )، وقد مضى على هذا سلف الأمة، وأئمتها. ((فالسلف، والأئمة نصوا على أن الرب – تعالى – لم يزل متكلماً إذا شاء وكما شاء، كما نص على ذلك عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة الدين، وسلف المسلمين))( ).
وإنكار هذه الصفة، وتحريفها أمر خطير، فهو ((في الحقيقة تكذيب للرسل الذين إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزل إليهم))( ). ((فالإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو الكفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه، ولهذا كان من يكفر بالرسل، تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على البشر كما أنه قد يكفر برب العالمين مثل فرعون، وقومه، قال الله – تعالى –: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: 2] الآية، وقال – تعالى – عن نوح، وهود: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: 63]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91] إلى آخر الكلام))( ).
وهذه الصفة كسائر الصفات في الكتاب، والسنة لا يلزم من إثباتها أي لازم باطل، بل ((كلام الله – تعالى – لا يماثل كلام المخلوقين كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين))( ).
وقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]،
وقوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الشعراء: 10]،
وقوله: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: 22]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص: 62]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 65]،
في هذه الآيات ((إثبات النداء لله – تعالى – وقد أخبر الله – تعالى – في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة، وسائر الناس))( )، وقد ((استفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة السنة أنه – سبحانه – ينادي بصوت: نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بصوت))( ).
((والنداء في لغة العرب هو صوت رفيع؛ لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة، ولا مجازاً))( ) ((باتفاق أهل اللغة))( ). و((هذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم))( ).
وهذه الآيات تدل على أن الله – تعالى – يوصف بالصفات الاختيارية الفعلية، فإنه – سبحانه – لما ذكر النداء فيها وقته ((بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه))( ).
وهذا يدل لصحة ما ذهب إليه السلف، وأئمة السنة من أن صفة الكلام ((صفة ذات، وفعل))( )، فالله – جل وعلا – ((لم يزل متكلماً إذا شاء، كيف شاء))( )، والآيات بينة الدلالة على هذا، فإن النداء المذكور في قصة موسى ((إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل كما يقول الكلابية))( ) ، ونداؤه آدم، وحواء، لما أكلا من الشجرة إنما كان ((لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك))( )، وكذلك النداء يوم القيامة، فإنه ((في يوم معين، وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم ينادهم قبل ذلك))( ).
وقوله: ﴿أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾ [التوبة: 6]،
وقوله: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]،
وقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: 15]،
وقوله: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: 27]،
وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: 76]،
وقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: 155]،
وقوله: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]،
وقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 101 – 103]،
في هذه الآيات إثبات أن القرآن المجيد كلام الله – تعالى-. فإن الله – تبارك وتعالى – قد أضافه إلى نفسه – سبحانه-، فدل على أنه كلامه الذي تكلم به، إذ ((لا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به))( ).
وأخبر في هذه الآيات بأن القرآن منزل منه – سبحانه-. و ((النزول في كتاب الله – عز وجل – ثلاثة أنواع: نزول مقيد بأنه منه، ونزول مقيد بأنه من السماء، ونزول غير مقيد لا بهذا، ولا بهذا))( )، والأول منها هو المتعلق بهذه الصفة.
((فالأول لم يرد إلا في القرآن، كما قال – تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 114]، وقال تعالى: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]. . . . ))( ). ((ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله ليس بمخلوق منه بدأ، قال أحمد وغيره: وإليه يعود، أي هو المتكلم به، وقال: كلام الله من الله ليس ببائن منه، أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلاً من ذلك المخلوق، بل هو منزل من الله، كما أخبر به، ومن الله بدأ لا من المخلوق فهو الذي تكلم به لخلقه))( ).
((فأخبر – سبحانه – أنه منزل من الله، ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه))( ).
وقد وصف الله – سبحانه – كلامه بأنه يقص، ووصفه في غير هذه الآيات بأنه يحكم ويفتي ((كقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء﴾ [النساء: 127]، أي: وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن. وقوله: ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: 213]، وإذا أضيف الحكم، والقصص، والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله، فالله هو الذي حكم به، وأفتى، وقضى به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع))( ).
وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]،
وقوله: ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: 23]،
وقوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]،
وقوله: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35].
في هذه الآيات إثبات رؤية المؤمنين ربهم – جل وعلا-( )، وأن الله – سبحانه – يرى عياناً بالأبصار يوم القيامة، ففي الآية الأولى ((إضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين))( )، فإن تعدية النظر بإلى معناه المعاينة بالأبصار، ((وقد نقل أن كثيراً من السلف فهموا الرؤية))( ) من هذه الآية.
وكذلك في قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، فالزيادة ((هي النظر إلى الله – سبحانه –))( ).
وكذا في قوله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، ((وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)))( )، ((وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال: ذكر لي عن شريك عن أبي اليقظان عن أنس ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35] قال: يتجلى لهم كل جمعة))( ).
وسيأتي مزيد كلام على هذه الصفة، إن شاء الله.
وهذا الباب في كتاب الله – تعالى – كثير.
ووجه كثرة آيات الصفات في كتاب الله – تعالى – أنه ((كلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء، وذكره أشد، وأكثر كانت معرفتهم به، وذكرهم له أعظم، وأكثر، وكانت طرق معرفته أكثر، وأظهر، وكانت الأسماء المعرفة له أكثر، وكانت على معانيه أدل))( )، ((ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه، وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه))( )، ((فإن أصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله))( )– صلوات الله وسلامه عليهم.
من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق.
وذلك ((أن الكتاب، والسنة يحصل منه كمال الهدى، والنور لمن تدبر كتاب الله، وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله، وآياته))( ).
وما ضل من ضل في هذا الباب، وغيره إلا لإعراضهم عن الكتاب، ومعارضتهم له. فهم ((لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه، وتدبره كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة))( )، فيحرمون الانتفاع بالقرآن العظيم.
فصل
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه – عز وجل – من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك.
فسنة النبي صلى الله عليه وسلم ((مفسرة للقرآن مبينة له كما قال – تعالى – له: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]، فبين ما أنزل الله لفظه، ومعناه. فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقاً ظاهراً مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن))( ). و ((قد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة الدين أن السنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عن مجمله، وأنها تفسر مجمل القرآن من الأمر، والخبر))( )، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس لفظ القرآن، ومعناه))( ).
((والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن، فإن الله-سبحانه وتعالى – أنزل على نبيه الكتاب، والحكمة. . . ))( )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه)( ). وفي رواية: (ألا إنه مثل القرآن، وأكثر)( )، ((فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر، والأمر))( ).
مثل:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) متفق عليه( ).
في هذا الحديث الشريف إثبات نزول الله – تعالى – إلى السماء الدنيا. و ((قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق سلف الأمة، وأئمتها، وأهل العلم بالسنة، والحديث على تصديق ذلك، وتلقيه بالقبول))( )، وهذا الحديث حديث مشهور ((رواه عامة الصحابة))( )، ومع هذا الإثبات يصان – جل وعلا – عن الظنون الفاسدة، فإن ((مذهب سلف الأمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات، ولا تكون المخلوقات محيطة به قط، بل هو العلي الأعلى، العلي في دنوه، القريب في علوه))( ).
وقد تأول هذه الصفة أهل الكلام بأنواع من التحريف المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة( ).
وفيه إثبات صفة الكلام لله – تعالى-، وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على الآيات، وسيأتي مزيد بحث فيه إن شاء الله – تعالى –.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن التائب من أحدكم براحلته))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب))حديث حسن( ).
في هذه الأحاديث إثبات الفرح، والضحك، والعجب لله – تعالى – وجميعها من الصفات الاختيارية الفعلية.
فالفرح قد جاء في الحديث الأول، وهو دال على محبة الله – تعالى – للتوبة ((إذ الفرح إنما يكون بحصول المحبوب))( ). ((وهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم))( ).
وأما الضحك فأحاديثه ((متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ))( ). ولا يلزم من إثباته لله – تعالى – نقص، فإن ((الضحك في موضعه المناسب له صفة مدح، وكمال))( )، ((ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظر إليكم الرب قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)، فقال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله أو يضحك الرب؟ قال: (نعم) قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً( ).
فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه، وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال))( ).
وأما التعجب فقد جاء في القرآن الكريم، ((قال – تعالى-: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: 12] على قراءة الضم))( )، وقد جاء في أحاديث عديدة( ). ولا يلزم من إثباته أي لازم باطل، فالعجب الموصوف به الله – تعالى –ليس مقروناً بجهل، ((بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيماً له، والله-تعالى- يعظم ما هو عظيم؛ إما لعظمة سببه، أو لعظمته))( ). وأما قوله في حديث التعجب: ((وقرب غيره))، فالمراد ((قرب تغيره من الجدب إلى الخصب))( ).
ولم يثبت أهل الكلام هذه الصفات جميعاً؛ لتوهم النقص فيها( )، ولعدم إثباتهم الصفات الاختيارية معتمدين في ذلك على أوهام كاذبة، وظنون فاسدة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله))، وفي رواية: ((عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط))متفق عليه( ).
في هذا الحديث إثبات القدم، والرجل لله – تعالى-، وهي صفة خبرية يثبتها أهل السنة والجماعة على الوجه اللائق بالله – تعالى-.
وقول جهنم: ((هل من مزيد؟ على سبيل الطلب، أي: هل من زيادة تزاد فيّ؟ والمزيد ما يزيده الله فيها من الجن، والإنس))( ).
وقولها: ((قط، قط))أي: ((حسبي، حسبي))( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله – تعالى-: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)). متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه، وبينه ترجمان))( ).
في هذين الحديثين: ((أن الله – تعالى – متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح))( )، وأنه ((– سبحانه – يتولى كلام عباده يوم القيامة))( ).
وظاهر حديث تكليم الله لعباده يوم القيامة عموم تكليمه لكل أحد حتى الكفار. و ((القرآن، والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ، وتقريع، وتبكيت لا تكليم تقريب، وتكريم، ورحمة، وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة))( )، وقد وردت أحاديث صحاح، وحسان ((تصرح بأن جميع الناس ذكورهم، وإناثهم مشتركون))( )، في تكليم الله – تعالى – لهم( ).
وقد تقدم البحث في صفة الكلام، وسيأتي مزيد إن شاء الله – تعالى-.
وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: ((ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا، وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ))حديث حسن رواه أبو داود وغيره( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء))حديث صحيح( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه))حديث حسن رواه أبو داود وغيره( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟))قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))رواه مسلم( ).
في هذه الأحاديث إثبات علو الله – تعالى-، وفوقيته على جميع الخلق( )، وقد تواترت بذلك الأحاديث، وقد تقدم الكلام على هذا وسيأتي مزيد إن شاء الله – تعالى-.
وفي حديث الجارية ((دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء كما قال الله، ورسوله لم تكن مؤمنة))( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت))حديث حسن( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق قبل وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا، ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة، والإنجيل، والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته. أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر))رواه مسلم( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر: ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته))متفق عليه( ).
في هذه الأحاديث إثبات معية الله – تعالى – لخلقه، وفيها إثبات سعته، وإحاطته بكل شيء، فهو الأول الآخر الظاهر الباطن، وفيها إثبات قربه من عبده الداعي.
ففي الحديث الأول: إثبات معية الله – تعالى – لعباده، وهذه هي المعية العامة.
وفي الحديث الثاني: إثبات قربه من عبده المصلي مع علوه – سبحانه-( )، فإن ((العبد إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه، وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه لا من يمينه، ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل))( )، فالحديث ((حق على ظاهره، وهو – سبحانه- فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس، والقمر لكانت السماء، والشمس، والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه))( ).
وفي الحديث الثالث: إثبات أوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، فإنه – سبحانه – قد ((سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، وأحاط بكل شيء ببطونه))( )، وقد تقدم الكلام على هذه الصفات.
وفي الحديث الرابع: إثبات قربه – جل وعلا – من عبده إذا دعاه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، فافعلوا))متفق عليه( ).
في هذا الحديث إثبات رؤية الله – تعالى – يوم القيامة ((وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث))( ). ((وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة، وهو مستفيض، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته))( ).
وفي الحديث ((شبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه، وبين المرئي))( )، وذلك لبيان أنه ((– سبحانه – يتجلى تجلياً ظاهراً، فيرونه كما يرون الشمس والقمر))( ).
وأما قوله في الحديث: ((لا تضامون))فإنه ((يروى بالتخفيف: أي لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال))( )، ((وقيل: لا تضامون، بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال))( )، فالمعنى: ((لا يلحقكم ضير ولا ضيم))( )، وهذا كله ((بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور بحيث لا يلحق الرائي ضير، ولا ضيم كما يلحقه عند رؤية الشيء الخفي، والبعيد، والمحجوب، ونحو ذلك))( ).
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
وقد تقدم تفصيل هذا، وبيانه، ولله الحمد.
بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط بين الأمم.
وبيان هذا أن ((أهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل))( )، وسيأتي ذكر نماذج لوسطية أهل السنة في بعض مسائل العقيدة، وليس ذلك خاصاً بهذه الأبواب التي ذكرها المؤلف رحمه الله، بل هم ((كذلك في سائر أبواب السنة هم وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان))( )، فهم، ولله الحمد ((متوسطون في جميع الأمور))( ).
أما وسطية أمة الإسلام بين الأمم فلا يشك منصف ((أن المسلمين هم عدل، متوسطون، لا ينحرفون إلى غلو، ولا إلى تقصير. أما اليهود، والنصارى فهم على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة، وهؤلاء ينحرفون إلى الجهة التي تقابلها كتقابلهم في النسخ، وكذلك تقابلهم في التحريم، والتحليل، والطهارة، والنجاسة))( ). فالمسلمون ((وسط كما قال – تعالى – فيهم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143] أي: عدلاً خياراً))( )، وهذا في الحقيقة ((باب يطول وصفه))( ).
فهم وسط في باب صفات الله – سبحانه، وتعالى – بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة في: ((باب أسماء الله، وآياته، وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله، وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم، والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات))( ) فأهل السنة ((يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله من غير تعطيل، ولا تمثيل، إثباتاً لصفات الكمال، وتنزيهاً له عن أن يكون له فيها أنداد، وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل))( ).
وهم وسط في باب أفعال الله – تعالى – بين الجبرية، والوعيدية من القدرية، وغيرهم،
بيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((وسط في باب أفعال الله – عز وجل – بين المعتزلة المكذبين بالقدر))( )، ((الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة، ومشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء))( )، وبين ((الجبرية النافين لحكمة الله، ورحمته، وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله، ونهيه، وثوابه، وعقابه))( )، و ((المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة، ولا قدرة، ولا عمل، فيعطلون الأمر، والنهي، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 148].
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان، والصفات، والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة، وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله – سبحانه – جعل العبد مختاراً لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه، وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله))( ).
وفي باب وعيد الله بين المرجئة، والوعيدية من القدرية، وغيرهم.
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة وسطٌ ((في باب الوعد، والوعيد بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار))( )، و ((يكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم))( )، و ((بين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد، وما فضل الله به الأبرار على الفجار))( )، و ((مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم))( ). ((فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين لا يخلدون في النار، بل يخرج منهم من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته))( ). ((فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه، أو من غيره؛ وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه، أو من غيره فيه؛ وإما لغير ذلك. والوعيدية من الخوارج، والمعتزلة يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر لشمول نصوص الوعيد لهم))( )، ((فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فقال الأولون: لا تتناول إلا مؤمناً، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين، وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافراً، وكل من القولين خطأ))( ).
((والتحقيق أن يقال: الكتاب، والسنة مشتملان على نصوص الوعد، والوعيد، وكل من النصوص يفسر الآخر، ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار، والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين))( ).
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الباب أن ((تناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصاً لوجه الله، موافقاً للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)( ).
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بأن لا يكون متأولاً، ولا مجتهداً مخطئاً، فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان))( ).
وفي باب أسماء الإيمان، والدين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية.
((والمراد بالأسماء: أسماء الدين مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق ))( ). فأهل السنة والجماعة((وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء))( ).
((فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان، وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة))( ).
وأما الحرورية، وهم الخوارج، وكذلك المعتزلة فيقولون: ((صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار، ليس معه شيء من الإيمان، ثم الخوارج تقول: هو كافر. والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم))( )، فيقولون فيه: ((بل ينزل منزلة بين المنزلتين، فنسميه فاسقاً لا مسلماً، ولا كافراً))( ).
وأما المرجئة والجهمية فعندهم أن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان( )، فهؤلاء ((وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان))( ).
((فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان))( )، وسيأتي مزيد بحث لهذا إن شاء الله – تعالى-.
وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((وسط في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم، الذي يقول بإلهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه، وهم خيار هذه الأمة))( ).
فهم ((وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا، وفسقوا وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنه، ويستحلون دماءهما، ودماء من تولاهما، ويستحبون سب علي، وعثمان، ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته))( ).
وليعلم ((أن أهل السنة في كل مقام أصح نقلاً، وعقلاً من غيرهم؛ لأن ذلك من تمام ظهور ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، ظهوره بالحجة، وظهوره بالقدرة))( ). فأهل((السنة نقاوة المسلمين))( )، والحمد لله رب العالمين.
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله، الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه – سبحانه – فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه.
وبيان ذلك أن ((كتاب الله – تعالى – من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة، والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة: مملوء بما هو إما نص، وإما ظاهر في أن الله – سبحانه وتعالى – هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء))( ). وأدلة هذا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ((مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية، والمعنوية التي تورث علماً يقيناً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله – سبحانه – على العرش وأنه فوق السماء))( ). والمنقول ((عن السلف في ذلك – أي إثبات ما تقدم – من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفاً.
ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة – لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء، والاختلاف – حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً، ولا ظاهراً))( ). ((بل أهل السنة، والحديث، وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين، والأولين، والآخرين ))( ).
وهو – سبحانه – معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4].
تقدم الكلام في إثبات معية الله – تعالى – العامة، والخاصة، وأن حكم معيته العامة، ومقتضاها أن الله – جل، وعلا – مع علوه وفوقيته على عباده، فإنه – سبحانه – يعلم ما الخلق عاملون، فقد أخبر – سبحانه وتعالى ((أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)( ) ))( )، وفي الآية دليل على الجمع بين علوه – سبحانه-، ومعيته، وفيها إخباره – تعالى-: ((أنه خالق السماوات والأرض، وأنه استوى على عرشه، وأنه مع خلقه، يبصر أعمالهم من فوق عرشه، فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه، بل كلاهما حق))( ).
وليس معنى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر، وغير المسافر أينما كان،
في هذا المقطع بيان بطلان ما توهمه الضالون، وشبه به المشبهون من أن إثبات المعية يقتضي أن تكون ذات الرب – جل وعلا – مختلطة بالخلق، وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا التوهم لا توجبه اللغة، ((وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال))( ). فلفظة (((مع) في اللغة العربية إنما تدل على المصاحبة، والموافقة، والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال))( )، ((كما في قوله: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29]، وقوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 146]، وقوله: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، وقوله: ﴿وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: 75]))( )، ومثل هذا كثير في كلام الله – تعالى – وسائر الكلام العربي. وإذا كانت لفظة (((مع) إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته، فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى))( ). ((فامتنع أن يكون قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد: 4] يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق))( )؛ ((لأن جميع استعمالات (مع) في الكتاب، والسنة لا توجب اتصالاً، واختلاطاً))( ).
الثاني: أن هذا الوهم خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، فقد ((أجمع سلف الأمة، وأئمتها على أن الرب – تعالى – بائن من مخلوقاته))( ).
الثالث: أن هذا التوهم الفاسد خلاف ما فطر الله عليه الخلق، فعلم الخلق ((بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري))، فإن ((الخلق كلهم إذا حزبهم شدة، أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه، ويسألونه))( ) ((حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يده إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها، وكل أحد بالله، وبمكانه أعلم من الجهمية))( ). و ((لهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها، فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله))( ).
الرابع: أن مما يدفع هذا الخيال الفاسد، والتوهم الباطل من أن المعية تقتضي اختلاطه بخلقه ((أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص))( )، ((فإنه قد علم أن قوله: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] أراد به تخصيصه-صلى الله عليه وسلم-، وأبا بكر دون عدوهم من الكفار، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] خصهم بذلك دون الظالمين، والفجار))( ).
الخامس: أن مما يدفع هذا الوهم الفاسد المثل المضروب، فقد ضرب مثلاً بالقمر، وهو من أصغر مخلوقات الله السماوية، فهو فوق الناس، وهو مع المسافر، وغير المسافر، ولا يشك عاقل أنه غير مخالط للناس مع كونه معهم حقيقة، ((ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا، وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق))( ).
وهو – سبحانه – فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله – سبحانه – من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف،
في هذا بيان مقتضى معية الله لخلقه، وحكمها، ((فالله – تعالى – عالم بعباده، وهو معهم أينما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية))( )، فمعية الله – تعالى – لخلقه لا تناقض علوه، وأنه – جل وعلا – فوق العرش، ((فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة))( )، و((لا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة))( ). قال الله – تعالى-: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً﴾ النساء: 82].
لكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: ﴿فِي السَّمَاء﴾ [الزخرف: 84] أن السماء تقله، أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ [البقرة: 255]، وهو الذي ﴿يمسك السماوات والأرض أن تزولا﴾ [فاطر: 41]، ﴿ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه﴾[الحج: 65]، ﴿ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره﴾ [الروم: 25].
في هذا بيان وجوب صيانة النصوص عن الظنون الكاذبة، والأوهام الفاسدة، وذلك لأن خبر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ((صدق، موافق لما هو الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه))( ). وعدم صيانة النصوص عن هذه الظنون، والأوهام يؤدي إلى أن تبقى ((النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله، ورسوله حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل، قد عطل ما أودع الله، ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله – تعالى –))( ).
وأما قوله – تعالى-: ﴿فِي السَّمَاء﴾[الزخرف: 84] فمعناه ((أنه فوق السماء؛ لأن (في) بمعنى فوق، قال الله – تعالى-: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ﴾ [التوبة: 2] أي: فوقها))( )، ثم إن ((لفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا، فهو اسم جنس للعالي))( ).
و ((لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله: ﴿فِي السَّمَاء﴾ [الزخرف: 84] أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء))( )، ((ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به، وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد ولو سئل سائر المسلمين هل يفهمون من قوله – سبحانه-، ورسوله: (إن الله في السماء) أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله))( ).
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب كما جمع بين ذلك في قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
((إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته))( )، وما ذكر في الكتاب، والسنة من قربه، ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه، وفوقيته، فإنه – سبحانه – ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه.
هذا الفصل فيه إثبات قرب الله – تعالى – من بعض عباده، و((هذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث. والنقل عنهم بذلك متواتر))( ).
ولفظ القرب المضاف إلى الله – تعالى – ذكر في الكتاب، والسنة ((تارة بصيغة المفرد كقوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُِ﴾ [البقرة: 186]، وفي الحديث: (اربعوا على أنفسكم) إلى قوله: (إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)( )، وتارة بصيغة الجمع كقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]))( ).
والقرب الذي وصف الله به نفسه خاص لا عام، فإنه ((ليس في القرآن وصف الرب – تعالى – بالقرب من كل شيء أصلاً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، فهو-سبحانه – قريب ممن دعاه.
وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)( )، فقال: إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم، لم يقل إنه قريب إلى كل موجود، وكذلك قول صالح عليه السلام: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ [هود: 61] هو كقول شعيب: ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ [هود: 90]، ومعلوم أن قوله: قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61] مقرون بالتوبة، والاستغفار، أراد به: قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود بهم، وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال إنه مجيب لكل موجود، و إنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه – سبحانه، وتعالى –))( ).
وأما((قوله – تعالى – ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وقوله – تعالى-: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، فإن ((سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة. فإنه قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 16 – 18] فقيد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين: قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾ [ق: 18]. ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب.
وكذلك قوله في الآية الأخرى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 82-85] فلو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بهذه الحال، ولا قال: ﴿وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، ولكن نحن لا نبصره، والرب – تعالى – لا يراه في هذه الحال لا الملائكة، ولا البشر.
وأيضاً فإنه قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾ [الواقعة: 85]، فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال، وذات الرب – سبحانه وتعالى – إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان، والمكان، والأحوال، ولا يكون أقرب إلى شيء من شيء))( ).
وثبوت هذه الصفة للرب – جل جلاله – لا ينافي علوه، وفوقيته، فالرب ((–تعالى– لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى، ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده، ويدنو منهم، وينزل حيث شاء، ويأتي كما شاء، وهو في ذلك العلي الأعلى الكبير المتعالي، علي في دنوه قريب في علوه، فهذا وإن لم يتصف به غيره، فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا، وهذا كما يعجز أن يكون هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن))( ).
فصل
ومن الإيمان بالله، وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق،
في هذا الفصل بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة القرآن، ووجه كون الإيمان بأن القرآن كلام الله من الإيمان بالله فذلك لأن الكلام صفته – جل شأنه-، كما أن: ((الإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو كفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه، ولهذا كان من يكفر بالرسل، تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين: مثل فرعون، وقومه قال الله – تعالى-: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: 2] الآية، وقال – تعالى – عن نوح، وهود: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: 63، 69]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91] إلى آخر الكلام فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، ، وقال عن التوحيد: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 25]، ولهذا كان أصل الإيمان الإيمان بما أنزله، قال – تعالى-: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 1-3]. . ))( ) و ((لهذا عظم تقرير هذا الأصل في القرآن، فتارة يفتتح به السورة؛ إما إخباراً كقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 2]، وقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: 1]. . . ))( )، ((وإما ثناء بإنزاله كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ [الكهف: 1] ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: 1] الآية. وأما في أثناء السور فكثير جداً))( ).
((ومذهب سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين كالأئمة الأربعة، وغيرهم ما دل عليه الكتاب، والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق))( ).
((فأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب، والسنة، واتفق عليه سلف الأمة))( ).
وهذا هو ((المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفاً عن سلف عن نبيها أن القرآن جميعه كلام الله))( ). ومن المعلوم ((بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله))( ). فإن ((من تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة، والتابعين بل المصنفة في السنة. . . . رأى في ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة، والتابعين ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة، والتابعين كانوا يقولون بما يوافق هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه))( ).
((فكان الصحابة، والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله، وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقاً بائناً عنه خلقه في غيره))( )، وعلى هذا ((استقر أهل السنة، والجماعة، وجماهير الأمة، وأعلام الملة في شرقها وغربها))( ).
وهذه المسألة قد جرى فيها على أهل السنة فتنة عظيمة زمن الإمام أحمد – رحمه الله-، فكان أول من عرف أنه قال: القرآن مخلوق الجعد بن درهم، ((ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئاً من نفي الصفات إلى أن ظهر الجعد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبدالله القسري، وقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً – تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً – ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق، ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأي جهم. . . . . ))( )، ((وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا، وكثروا فإنه قد كان بخراسان مدة، واجتمع بهم ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم جهل، وظلم. وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا، وأطلقوه))( ).
وهذه المسألة ((قد كثر فيها الاضطراب، حتى قال بعضهم: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام))( )، وسبب هذا الضلال، والحيرة، والاضطراب القياس الفاسد في العقليات، والتأويل الفاسد في السمعيات، ((فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال – تعالى –: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: 176]))( )، و((هذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب))( ).
و ((الناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً، والطوائف الكبار نحو ست فرق))( ) وأبرز هذه الأقوال ما يلي:
أولاً: ((أنه متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق خلقه في غيره))، وهو قول المعتزلة، وغيرهم))( ). ((وهذا قول الجهمية والمعتزلة، وهذا القول مخالف للكتاب، والسنة، وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء، ونصوصهم))( ).
ثانياً: ((أنه يتكلم بغير مشيئته، وقدرته بكلام قائم بذاته أزلاً، وأبداً))( )، ((وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب))( ). والقائلون بهذا القول ((لهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمراً، ونهياً وخبراً، وهذه صفات له، لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة))( )، و ((هذا قول ابن كلاب، ومن وافقه كالأشعري، وغيره))( ).
منه بدأ، وإليه يعود
هكذا عبر غير واحد من السلف ((قال الإمام أحمد بن حنبل، وغيره: منه بدأ، أي هو المتكلم به، لم يبتد من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق، قالوا: خلقه في غيره، فهو مبتدأ من ذلك المحل المخلوق))( )، وهذا معنى قول السلف: القرآن كلام الله منه بدأ ومنه خرج))( )، و((ليس معنى قول السلف، والأئمة: إنه منه خرج. ومنه بدأ، أنه فارق ذاته. وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته، ويحل بغيره))( ). و((لكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية، فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ، وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف، والأئمة أن القرآن من الله بدأ، وخرج))( )، ((لم يبتدئ من غيره من الموجودات، كما قال – تعالى –: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6]، وقال: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ [السجدة: 13]، وقال: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]))( ).
((وأما إليه يعود، فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف، والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف))( ).
بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله – تعالى – حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً،
وبيان هذا ((أن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مبلغاً مؤدياً، فالرجل إذا بلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)( )، كان قد بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحركاته، وأصواته، وكذا إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس أو غيره، فإذا قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قاله بحركاته، وأصواته. وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئاً، آمراً بأمره، ومخبراً بخبره، ومؤلفاً حروفه، ومعانيه، وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به، والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول، وسماعه من الثاني. ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال – تعالى –: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾ [التوبة: 6] مع علمهم بأن القارئ يقرؤه بصوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)( )، فالكلام كلام البارئ، والصوت هو صوت القارئ))( )، وقد ((بين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين: هذا كلام الله، فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها، وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ، وحركته، وصوته. فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه، أو صوته، أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ.
فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف، ولا يقال: إن شيئاً من المداد، والورق غير مخلوق، بل كل ورق، ومداد في العالم فهو مخلوق، ويقال أيضاً: القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق، والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق))( ).
وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه،
في هذا الرد على كل من الكلابية، والأشعرية حيث جعلوا تسمية القرآن ((كلاماً لله مجازاً، لا حقيقة))( ). و((قالوا: إن الحروف تسمى كلاماً مجازاً، أو بطريق الاشتراك بينها وبين المعاني؛لأنها وإن سميت كلاماً بطريق الاشتراك فالكلام عندهم، وعند الجماعة لابد أن يقوم بالمتكلم، فيصح على حد قولهم أن تكون الحروف، والأصوات كلاماً للعباد حقيقة لقيامها بهم، ولا يصح أن تكون كلاماً لله حقيقة؛ لأنها لا تقوم به عندهم بحال))( ).
وهنا قولان ضالان في مسألة القرآن الكريم:
الأول: قول ابن كلاب حيث ((قال: الحروف حكاية عن كلام الله، وليست من كلام الله؛ لأن الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم، والله يمتنع أن يقوم به حروف، وأصوات فوافق الجهمية، والمعتزلة في هذا النفي))( ).
الثاني: قول الأشعري حيث قال: إن القرآن ((عبارة عن كلام الله))( )، و ((دلالة عليه))( ).
((وكان مقصود هؤلاء تحقيق أن كلام الله غير مخلوق، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله، ولم يهتدوا إلى أنه، وإن كان كلام الله، فهو كلام الله مبلغاً عنه، ليس هو كلامه مسموعاً منه، ولا يلزم إذا كانت أفعال العباد، وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله أن يكون الكلام الذي يقرؤونه بأفعالهم، وأصواتهم كلامهم، ويكون مخلوقاً ليس هو كلام الله))( ).
ومما تجدر الإشارة إليه ((أن أصل القول بالعبارة أن أبا محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله، فأخذ بنصف قول المعتزلة، ونصف قول أهل السنة والجماعة. . . ))( ). ((وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلامه غيره هل يقال له: حكاية عنه أم لا؟ وأكثر المعتزلة قالوا: هو حكاية عنه، فقال ابن كلاب: القرآن العربي حكاية عن كلام الله، ليس بكلام الله، فجاء بعده أبو الحسن الأشعري، فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات، وفي مسألة القرآن أيضاً، واستدرك عليه قوله: إن هذا حكاية، وقال: الحكاية إنما تكون مثل المحكي، فهذا يناسب قول المعتزلة، وإنما يناسب قولنا أن نقول: هو عبارة عن كلام الله؛ لأن الكلام ليس من جنس العبارة، فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور))( ).
و ((كلا القولين خطأ. فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة، وفيه معان، فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا، ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم.
فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله لم يصح؛ لأن كلام الله معنى مجرد عندكم، وهذا فيه حروف ومعان.
وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح؛ لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم.
وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى، بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولاً عن المعنى القائم بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم لم تدخلوها في كلام الله))( ).
وهو كلام الله حروفه، ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.
وهذا هو ((الصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأمة قبلهم، وبعدهم أتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه، ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسماً لمجرد المعاني، ولا لمجرد الحروف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد بل مجموعهما))( ).
((والله – تعالى – قد سمى نفس مجموع اللفظ، والمعنى قرآناً، وكتاباً، وكلاماً، فقال – تعالى –: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وقرآن مُبِينِ﴾ [الحجر: 1]، وقال: ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: 1- 2]، وقال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: 29] إلى قوله – تعالى-: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا﴾ فبين أن الذي سمعوه هو القرآن، وهو الكتاب، وقال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ﴾ [البروج: 21] الآية. . . ))( )، وقد أخبر – سبحانه – عن تكليمه موسى في آيات عديدة، وقد ((وكد تكليمه لموسى بالمصدر))( )، وفي ذلك ((دليل على تكليم سمعه موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر))( ).
((ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجميع كلام الله، وقال – تعالى – : ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ [النحل: 101] إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103] كان بعض المشركين يقولون: إن محمداً إنما يتعلم القرآن من عبد لبني الحضرمي، فقال الله – تعالى –: لسان الذي يضيفون إليه القرآن لسان أعجمي، وهذا لسان عربي مبين، وهذا يبين أن محمداً بلغ القرآن لفظه، ومعناه لم ينزل عليه معاني مجردة، إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقال: تلقى من هذا الأعجمي معاني صاغها بلسانه، فلما ذكر قوله: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل 103] بعد قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102] دل ذلك على أن روح القدس نزل بهذا اللسان العربي المبين))( ).
وقد خالف أهل السنة في هذا عبدالله بن كلاب؛ حيث قال: ((ليس كلام الله إلا مجرد المعنى، وإن الحروف ليست من كلام الله، وتابعه على ذلك أبوالحسن الأشعري))( )، على أن ابن كلاب: ((هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله))( ) كما تقدم.
وعلم من كلامه أن الأقوال في هذه المسألة ((ثلاثة أقوال))( ) تقدم اثنان، وأما الثالث فهو أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس، أو قلب، أو نحو ذلك اسم لمجرد الحروف، وهو قول لطائفة ((من أهل الكلام، والفقه، والعربية))( ).
فصل
وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به، وبكتبه، وبملائكته، وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة القدر لا يضامون في رؤيته.
وبيان هذا ((أنه قد ثبت بالسنة المتواترة، وباتفاق سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام أن الله – سبحانه وتعالى – يرى في الدار الآخرة بالأبصار عياناً، وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور مواضعه، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح، والسنن، والمسانيد))( )، ((وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين بإحسان))( ).
وهذا يبين خطأ الأشاعرة( ) حيث قالوا: ((إن الله يرى من غير معاينة، ومواجهة))( ). وهو((قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء، على أن فساد هذا معلوم بالضرورة.
فالأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليهم كقوله في الأحاديث الصحيحة: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس، والقمر لا تضارون في رؤيته)( ). . . . . . . . . فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي، فإن الكاف حرف تشبيه دخل على الرؤية، وفي لفظ للبخاري: (يرونه عياناً)( )، ومعلوم أنا نرى الشمس، والقمر عياناً مواجهة، فيجب أن نراه كذلك.
وأما رؤية ما لا نعاين، ولا نواجه فهذه غير متصورة في العقل فضلاً عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر، ولهذا صار حذاقهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا: قولنا هو قول المعتزلة في الباطن، فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك))( ).
وعلى كل حال: ((فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة، وأيضاً فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية))( ).
وأما تشبيه رؤية المؤمنين ربهم برؤيتهم للشمس أو القمر صحواً ليس دونهما سحاب فلأنه ((ليس في الموجودات المرئية في الدنيا أعظم من هذين، ولا يمكن أن يراهما الإنسان أكمل من الرؤية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين أن المؤمنين يرون ربهم أكمل ما يعرف من الرؤية))( ).
و ((قد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية، وإما تقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره( )، إنما كان بالمدينة هكذا جاء مفسراً، وكذلك حديث أم الطفيل، وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال – تعالى-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]))( ).
وبهذا يتبين خطأ ((قول من يزعم أنه يرى في الدنيا))( )، وهؤلاء الذين((يزعم أحدهم أنه يراه – أي الله تعالى – بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال))( ). فقد((ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)( )، ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة))( ). ومما يدل على بطلان هذا القول أن ((موسى بن عمران عليه السلام قد سأل الرؤية، فذكر الله – سبحانه – قوله: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، وما أصاب موسى من الصعق))( ).
يرونه – سبحانه-، وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله – سبحانه، وتعالى-.
((رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما، وحليتهما، وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما، وحليتهما، وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار، فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة)( ). وهذه الأحاديث، وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف، والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة))( ).
((وفي حديث أبي سعيد( ) وأبي هريرة( ) أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين بعد ما تجلى لهم أول مرة ويسجد المؤمنون دون المنافقين))( )، ((وهذان الحديثان من أصح الأحاديث))( ).
ومن المعلوم أن رؤية المؤمنين لله – تعالى – في العرصات ليست نظير ما يكون لهم إذا دخلوا الجنة، ((فإن الرؤية أنواع متباينة تبايناً عظيماً لا يكاد ينضبط طرفاها))( ). ((ورؤيته – سبحانه – هي أعلى نعيم أهل الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله، ومعرفتهم به))( ).
ومما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم هل يرى الكفار الله – تعالى – يوم القيامة في العرصات؟
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
((أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر للكفر، ولا المسر له، وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين، وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم.
الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة، ومنافقيها، وغبرات من أهل الكتاب. وذلك في عرصة القيامة ثم يحتجب عن المنافقين، فلا يرونه بعد ذلك، وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه – سبحانه وتعالى – لهم في الموقف الحديث المشهور( ).
الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب، كاللص إذا رأى السلطان، ثم يحتجب عنهم؛ ليعظم عذابهم، ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم، وأصحابه، وقول غيرهم. وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سهل بن عبدالله التستري))( ).
وعلى كل حال فليست ((هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة، واتباع))( )، لكن ((ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد لوجهين:
أحدهما: أن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة، والثواب، ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش، وليس لأحد أن يطلق لفظاً يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثوراً عن السلف، وهذا اللفظ ليس مأثوراً.
الثاني: أن الحكم إذا كان عاماً ففي تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل، فإنه يمنع من التخصيص. فإن الله خالق كل شيء، ومريد لكل حادث، ومع هذا يمنع الإنسان من أن يخص ما يستقذر من المخلوقات، وما يستقبحه الشرع من الحوادث، بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريداً للزنى، ونحو ذلك بخلاف ما لو قال: يا خالق كل شيء، ويا من كل شيء يجري بمشيئته))( ).
فصل
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت،
الإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان. وهو من ((الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل، كما قال – تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]))( ).
((والإيمان بالله، واليوم الآخر يتضمن الإيمان بالمبدأ، والمعاد.
وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله – تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وقال – تعالى –: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28]، وقال – تعالى –: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: 27]))( )، ويتضمن أيضاً على وجه الإجمال الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.
ولم يخالف في الإقرار بهذا الأصل إلا الفلاسفة الباطنية فإنهم ((لا يقرون بمعاد الأبدان))( )، ((ومنهم من ينكر معاد الأنفس كما ينكر معاد الأبدان، وهو قول طوائف منهم، وكثير منهم يقول بالتناسخ، وليس شيء من ذلك إيماناً باليوم الآخر))( ).
فيؤمنون بفتنة القبر،
فتنة القبر ((هي الامتحان، والاختبار للميت حين يسأله الملكان))( )
كما سيأتي تفصيله. ((وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم.
وهي عامة للمكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم))( ).
أما من ليس مكلفاً كالصغير والمجنون فقد اختلف فيهم ((على قولين للعلماء:
أحدهما: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السنة ذكره أبو الحسن بن عبدوس عنهم، وذكره أبو حكيم النهرواني، وغيرهما.
والثاني: أنه لا يمتحن في قبره كما ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وغيرهما.
قالوا: لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا.
ومن قال بالأول يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط، فقال: (اللهم قه عذاب القبر، وفتنة القبر)( )، وهذا يدل على أنه يفتن))( )، ((وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة من أهل الحديث، والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد))( ).
وبعذاب القبر ونعيمه.
وبيان هذا ((أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب))( ).
فالله – تبارك وتعالى – قد ((ذكر عذاب القيامة، والبرزخ معاً في غير موضع، ذكره في قصة آل فرعون فقال: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45- 46]، وقال في قصة نوح: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ [نوح: 25] مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾))( ) [نوح: 17 – 18]، و((قال – تعالى – في الأنفال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال 50 – 51]، وهذا ذوق له بعد الموت))( ).
((وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم: (يا فلان، يا فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً)( )، وهذا دليل على وجودهم، وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب))( ).
وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة( )، وسيأتي ذكر شيء منها.
والعذاب والنعيم الذي في القبر يكون ((على النفس، والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب، والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث، والسنة، والكلام))( ).
((ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه، فأما أحاديث عذاب القبر، ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)( ).
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة – ونحن معه – إذ جالت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة. فقال: (من يعرف هذه القبور؟) فقال رجل: أنا. قال: (فمتى هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك. فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر). قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: (تعوذوا بالله من عذاب النار). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن). قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها، وما بطن. قال: (تعوذوا بالله من فتنة الدجال). قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال( ).
وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)( ).
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)( ).
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فقال: (يهود يعذبون في قبورهم)( ).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتها، ولم أنعم أن أصدقها، قالت: فخرجت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: (صدقت. إنهم يعذبون عذاباً يسمعه البهائم كلها)، فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر( ).
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مبشر رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط وهو يقول: (تعوذي بالله من عذاب القبر)، فقلت: يا رسول الله للقبر عذاب؟ فقال: (إنهم ليعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم)( ).
وأحاديث المسألة كثيرة أيضاً، كما في الصحيحين، والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فذلك قول الله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27]، وفي لفظ: (نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وذلك قول الله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27])( ).
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولاً، كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) مرتين، أو ثلاثاً. وذكر صفة قبض الروح، وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه.
إلى أن قال: (وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: ويا هذا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟). وفي لفظ: (فيأتيه ملكان فيجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وآمنت به، وصدقت به، فذلك قول الله: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27]، قال: (فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة) قال: (فيأتيه من روحها، وطيبها) قال: (ويفسح له مد بصره) قال: (وإن الكافر)، فذكر موته. وقال: (وتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري؛ فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار) قال: (ويأتيه من حرها، وسمومها)، قال: (ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)، قال: (ثم يقيض له أعمى، أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً)، قال: (فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً. ثم تعاد فيه الروح)( ).
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد، وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روي مثل حديث البراء في قبض الروح، والمسألة، والنعيم، والعذاب، رواه أبو هريرة، وحديثه في المسند وغيره، ورواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الصدقة عن شماله، وكان فعل الخير من الصدقة، والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيأتيه الملكان من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان: ما قبلي مدخل فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس، وقد أصغت للغروب. فيقول: دعوني حتى أصلي. فيقولون: إنك ستصلي. أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، نشهد أنه رسول الله، جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفتح له باب إلى الجنة. فيقال: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها؛ فيزداد غبطة، وسروراً؛ ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل روحه نسم طير يعلق في شجر الجنة) قال: (فذلك قوله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27]).
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال: (يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك، التي قال الله – تعالى –: ﴿لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124])( )، هذا الحديث أخصر.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن، فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر، وهو في المسند، وغيره بطوله. وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر؛ ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه. فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة، ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذونها، فيجعلونها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، فينتهون به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له. قال: فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة. فيقول: اكتبوا عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه وذكر المسألة كما تقدم، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك فهذا يومك الذي قد كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي، ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله، وغضبه، فتفرق في أعضائه كلها، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول؛ فتقطع معها العروق والعصب. قال: فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذونها، فيجعلونها في تلك المسوح قال: فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها فلا يفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 40]، ثم يقول الله – تعالى –: اكتبوا كتابه في سجين – في الأرض السفلى – قال: فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، قال: فتعاد روحه في جسده؛ فيأتيه ملكان فيجلسانه؛ فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه؛ هاه؛ لا أدري)، وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: (و يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح؛ فيقول: أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد؛ فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير؟ قال: أنا عملك السوء. فيقول: رب لا تقم الساعة ثلاث مرات)( ).
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافاً لضلال المتكلمين، وأنها تصعد وتنزل خلافاً لضلال الفلاسفة؛ وأنها تعاد إلى البدن، وأن الميت يسأل، فينعم أو يعذب، كما سأل عنه أهل السؤال، وفيه أن عمله الصالح، أو السيئ يأتيه في صورة حسنة، أو قبيحة.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه: إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقررانه. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه محمد عبد الله ورسوله، قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما كليهما) قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. ثم نرجع إلى حديث أنس (ويأتيان الكافر والمنافق، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس. فيقول: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين)( ).
وروى الترمذي، وأبو حاتم في صحيحه – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم الإنسان: أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لهما منكر، والآخر نكير. فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول: فإن كان مؤمناً، قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك.
ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه. ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان له: نم كنومة العروس: الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلته. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)( )، وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء. فيقولون: اخرجي كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء. فيقولون: ما أطيب هذه الريح متى جاءتكم من الأرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، يسألونه: ماذا فعل فلان؟فيقولون: دعوه، فإنه في غم الدنيا، فإذا قال: إنه أتاكم، قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح. فيقولون: اخرجي مسخوطاً عليك إلى عذاب الله، فتخرج كأنتن جيفة، حتى يأتوا به أرواح الكفار))رواه النسائي والبزار( )، ورواه مسلم مختصراً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند الكافر، ونتن رائحة روحه، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا( ). والريطة: ثوب رقيق لين، مثل الملاءة.
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه، وقال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة، فإذا قبضت نفسه جعلت في حريرة بيضاء، فتنطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحاً أطيب من هذه الرائحة، فيقال: دعوه يستريح، فإنه كان في غم الدنيا. فيقال: ما فعل فلان، ما فعلت فلانة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض، تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه، فيبلغ بها في الأرض السفلى)( ) ففي هذه الأحاديث، ونحوها اجتماع الروح، والبدن في نعيم القبر، وعذابه. وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه) رواه النسائي ورواه مالك والشافعي كلاهما( ). وقوله: (يعلق) بالضم أي يأكل، وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر – إذا شاء الله-، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال: (بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت)، وهذا يوافق ما روي: (أن الروح قد تكون على أفنية القبور) كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)( ).
وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: يا رسول الله
كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)( ).
وهذا الباب فيه من الأحاديث، والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم، وتعذب – إذا شاء الله ذلك – كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن، ومنعمة، ومعذبة))( ).
فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: ((من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فـ ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)).
في هذا بيان للفتنة التي تكون في القبر، و((ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من حال الميت في قبره، وسؤال منكر، ونكير له، والأحاديث في ذلك كثيرة))( )، وقد تقدم ذكر بعضها قريباً.
والذي أفادته الأحاديث الواردة أن هذه الفتنة عامة للمكلفين، وتقدم الإشارة إلى الخلاف في النبيين، ومن ليس مكلفاً( ).
وأفادت أيضاً أنه: ((إذا قبضت الروح عرج بها إلى السماء في أدنى زمن، ثم تعاد إلى البدن، فتسأل وهي في البدن))( ).
وقد اختلف الناس فيما أفادته هذه الأحاديث من إقعاد الميت، وسؤاله، وما يكون في هذه الفتنة هل هو على الروح فقط أم على الروح، والبدن؟
والقول الفصل في هذا أن روح الميت في قبره ((تقعد، وتجلس، وتسأل، وتنعم، وتعذب، وتصيح، وذلك متصل ببدنه مع كونه مضطجعاً في قبره، وقد يقوى الأمر حتى يظهر ذلك في بدنه، وقد يرى خارجاً من قبره والعذاب عليه، وملائكة العذاب موكلة به، فيتحرك بدنه، ويمشي، ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب، ومن يقعد بدنه أيضاً إذا قوي الأمر لكن هذا ليس لازماً في حق كل ميت))( ). فالمقصود ((أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من إقعاد الميت مطلقاً، هو متناول لقعودهم ببواطنهم وإن كان ظاهر البدن مضطجعاً))( ). وقد تقدم ذكر أدلة هذا فيما سبق من عذاب القبر ونعيمه.
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم، وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى،
وفي هذا بيان أن الناس بعد سؤالهم، واختبارهم ينقسمون إلى قسمين في قبورهم: إما منعم، وإما معذب، وهذا من حيث العموم، ((ولكن لا يجب أن يكون دائماً على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال دون حال))( ). وهو في الجملة نوعان: نوع دائم ((ويدل على دوامه قوله – تعالى –: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46] ))( )، ويدل عليه أيضاً ما في((حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا( )، فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط))( ).
((والنوع الثاني إلى مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب))( ).
فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون،
وعود الأرواح إلى الأجساد إنما يكون بعد نفخة القيام، ((والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات: نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: 87]. ونفخة الصعق والقيام، وذكرهما في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]))( ).
وقد أخبر – جل شأنه – ((بإحياء الموتى، وقيامهم من قبورهم في غير موضع، وقرر – سبحانه – معاد الأبدان بأنواع من التقرير))( )، فثبوت المعاد معلوم ((بالاضطرار من دين الإسلام))( ).
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين فتوزن فيها أعمال العباد ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 102- 103]، وتنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال – سبحانه وتعالى-: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 13- 14].
كل هذا قد جاءت به الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: ((إنكم ملاقو ربكم حفاة عراة غرلاً))( )، وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً))( ).
وأما الموازين فهي جمع ميزان، و((الميزان هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، مثل قوله –تعالى-: {فمن ثقلت موازينه [الأعراف: 8]، ﴿ومن خفت موازينه﴾ [الأعراف: 9]، وقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)( )، وقال عن ساقي عبدالله بن مسعود: (لهما في الميزان أثقل من أحد)( )، وفي الترمذي، وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما، في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فطاشت تلك السجلات وثقلت البطاقة)( )، وهذا، وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل: كموازين الدنيا. وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب))( ).
وقد حرف بعض المعتزلة الميزان عما دلت عليه النصوص( ).
ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه. كما وصف ذلك في الكتاب، والسنة. وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته، وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم، فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها، ويجزون بها.
وبيان هذا أن ((الله – سبحانه – يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا))( )، وأدلة هذا كثيرة في الكتاب، والسنة.
وهذا ((الحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات، وهذا يتضمن المناقشة، ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها))( ).
وقد ((تنازع أهل السنة في الكفار هل يحاسبون أم لا؟))( ) و((فصل الخطاب إثبات الحساب، بمعنى عد الأعمال، وإحصائها، وعرضها عليهم لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم))( ). وفائدة حسابهم زيادة على ما تقدم بيان تفاوتهم في ((العقاب، فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب كما أن أبا طالب أخف عذاباً من أبي لهب، وقال – تعالى –: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: 88]، وقال – تعالى –: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر﴾ [التوبة: 37]، والنار دركات، فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاباً من بعض، لكثرة سيئاته، وقلة حسناته كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخول الجنة))( ).
وفي عرصة القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
ويدل على ثبوت الحوض لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم قول الله – تعالى-: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1] ((وهو الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا، والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين والنفس، وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه؛ بحيث لا يشبه نعيمه نعيم في الدنيا ألبتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة، والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له، ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك))( ). وقد جاء فيه من الأحاديث ما بلغ حد التواتر.
وكل هذه الأوصاف للحوض قد صحت عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه عدد نجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبداً) ( )، وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان، وأبي ذر في وصف الحوض قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلى من العسل) ( )، وفي رواية أبي ذر: (عرضه مثل طوله) ( ).
والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم. فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم. فمن مر على الصراط دخل الجنة.
في هذا ذكر المرور على الصراط، وهو ((الورود المذكور في قوله – تعالى-: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71]، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بأنه المرور على الصراط( )، والصراط هو الجسر، فلا بد من المرور عليه لكل من يدخل الجنة، من كان صغيراً في الدنيا ومن لم يكن))( )، ((وهذا عام لجميع الخلق)) ( ).
((وقد ثبت في الصحيح أنهم إذا عبروا على الصراط: منهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل( )))( ).
((وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزى به العصاة، وينفى عن المتقين))( ).
فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.
وبيان هذا أنه ثبت في ((الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة( )، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال – تعالى-: ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73]))( ). وهذا من الأسباب التي تندفع بها العقوبة عن المؤمنين في الآخرة( ).
وأول من يستفتح باب الجنة محمد، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته.
وبيان ذلك أنه جاء في الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك))( ). وهذا من فضائله صلى الله عليه وسلم، ومما شرفه الله به وخصه( ).
ومما خصه الله به، وأكرمه( ) ((الحديث الذي جاء في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله – عز وجل-)( )))( )، ((وهو حديث جيد))( ).
وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات:
بيان هذا أن ((أحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عده))( ).
وهي دالة على أن ((له صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه – عز وجل–))( ).
وقد ((أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة، ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-، واستفاضت به السنن أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق))( ).
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وهذه الشفاعة ثابتة بإجماع المسلمين كما تقدم، ((لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله، ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، قال: (فيأتوني فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد لربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فأقول: أي ربي أمتي، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد، فيحد لي حداً، ذكر هذا ثلاث مرات....)( )))( ).
وهذا هو المقام المحمود الذي اختص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم( )، فإن تأخر الأنبياء آدم، ومن بعده ((عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه، بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي مغفرة الله للعبد، وكمال عبودية العبد لله، ما اختص الله به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولهذا قال المسيح: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)( ) فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع))( ).
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وقد ثبت هذا بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه يجيء أهل الجنة آدم، ومن بعده كحديث الشفاعة الكبرى يطلبون منهم أن يستفتحوا لهم، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيؤذن له، ويدل له أيضاً ما في صحيح مسلم من حديث أنس، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول شفيع في الجنة))( ).
ومن الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم شفاعته في عمه أبي طالب ((بسبب نصرته، ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار....)( )))( )، لكن لما كان أبو طالب، وغيره يحبونه صلى الله عليه وسلم ((ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته، ولا بغيرها))( ).
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له، ولسائر النبيين، والصديقين، وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
هذه الشفاعة ثابتة بالإجماع فإن ((أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته))( )، ((لكن لا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك))( ).
فأهل السنة والجماعة ((أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفوا ما نفاه الله في كتابه، وسنة رسوله، فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث))( )، و((هذه الأحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث))( ).
((أما الخوارج، والمعتزلة فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون))( ). فإنهم قالوا: ((من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغيرها))( )، و((زعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً))( ). ((وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك))( ).
فتلخص لنا ما تقدم خمس شفاعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الإيمان، ((فيطلب منه الخلق للشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها))( )، والسادسة شفاعته ((لأهل الطاعة المستحقين للثواب))( ) في رفع درجاتهم، وقد تقدم بيان ما يختص به، وما يشركه فيه غيره.
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله، ورحمته. ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً، فيدخلهم الجنة.
وبيان هذا أنه ((لا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بل كلهم يخرجون من النار، ويدخلون الجنة، ويبقى في الجنة فضل، فينشئ الله لها خلقاً آخر يدخلهم الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم))( )، وفيه (((فيقول الله – عز وجل –: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة. . . )( )))( ).
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب، والجنة، والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثورة عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي، ويكفي، فمن ابتغاه وجده.
ففي كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر ذلك ما لم يأت في الشرائع قبله ((فإن القرآن فيه ذكر المعاد، وإقامة الحجج عليه، وتفصيله، ووصف الجنة، والنار ما لم يذكر مثله في التوراة))( ) مع كونه من أعظم ما أنزل على المرسلين. ((ولهذا يقرن – سبحانه – بين التوراة، والقرآن كثيراً))( ).
بل ((في القرآن، والأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم من الإخبار بما سيكون في الدنيا، وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله))( ).
وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره.
وبيان هذا أن ((الإيمان بالقدر من أصول الإيمان كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل قال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره)( )، وقد تبرأ ابن عمر، وغير من الصحابة من المكذبين بالقدر))( )، ويدل عليه أيضاً قوله – تعالى –: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] فهو ((– سبحانه – يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون، وهو يخلقه بمشيئته فهو يعلمه، ويريده))( ).
((والآيات، والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جداً))( ) سيأتي شيء منها – إن شاء الله-.
والقدر من حيث اللغة ((يراد به التقدير))( ). ((وهو علم الله، وكتابه، وما طابق ذلك من مشيئته، وخلقه))( )، ويمكن أن يقال: قدر الله: ((هو حكمه الكوني))( )، ولذلك ((قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد، وكتابتها، وتقديرها))( ).
والذي عليه أهل السنة والجماعة من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وعلمائهم أنه ((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)) وأن ((الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، فكل ما سوى الله مخلوق له، حادث بمشيئته، وقدرته، ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه، ويخلقه، فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه، ويكونه، فإنه الواحد القهار ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]))( ). ((ومن الإيمان بالقدر أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))( ).
ولا يلزم من الإيمان بالقدر خيره وشره أن يكون في فعله شر محض، ((ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: (والخير بيديك، والشر ليس إليك)( )، فإنه لا يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي: فهو خير باعتبار حكمته))( ).
ولهذا فإن الشر ((المخلوق لا يضاف إلى الله مجرداً عن الخير قط، وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة:
إما مع إضافته إلى المخلوق، كقوله: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 2].
وإما مع حذف الفاعل كقول الجن: ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ [الجن: 10]، ومنه في الفاتحة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]: فذكر الإنعام مضافاً إليه، وذكر الغضب محذوفاً فاعله، وذكر الضلال مضافاً إلى العبد، وكذلك قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80].
وإما أن يدخل في العموم كقوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 102]))( ).
((والإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صباراً شكوراً. صبوراً على البلاء، شكوراً على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيراً حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله. وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله))( ).
والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بالله – تعالى – علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
(فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)( ). فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف كما قال – تعالى-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
تضمنت هذه الدرجة مرتبتين من مراتب الإيمان بالقدر:
الأولى: علم الله – تبارك وتعالى – بالأشياء قبل وقوعها: ((دل على ذلك الكتاب، والسنة، وجاءت به الآثار))( )، و((اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة، ومن تبعهم من الأمة))( ). ((ففي القرآن، والحديث، والآثار ما لا يكاد يحصر))( ) من دلائل ذلك، ((فإن القرآن قد أخبر بأنه – سبحانه – يعلم ما سيكون في غير موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلقه علماً مفصلاً))( )، ((وقد أخبر في القرآن من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله، بل أخبر بذلك نبيه، وغير نبيه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء))( ).
الثانية: كتابة الله – تعالى – لمقادير الأشياء قبل كونها، وقد ((ثبت ذلك في صريح الكتاب، والسنة، وآثار السلف))( ). ((فالله – سبحانه – قدر، وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم كما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)( )، وفي البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)( )، وفي رواية: (ثم خلق السماوات والأرض)، فقد قدر – سبحانه – ما يريد أن يخلقه من هذا العالم حين كان عرشه على الماء إلى يوم القيامة))( ) كما جاء في حديث أمر القلم بالكتابة( ). و((أحاديث تقديره – سبحانه-، وكتابته لما يريد أن يخلقه كثيرة جداً))( ).
وهذا التقدير التابع لعلمه – سبحانه – يكون في مواضع جملة، وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ونحو ذلك.
وبيان هذا أن ((التقدير، والكتابة تكون تفصيلاً بعد جملة، فالله – تعالى – لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات، والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة، ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)، وفي طريق آخر، وفي رواية: (ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر فيقال: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)( )، فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعد خلق جسد ابن آدم، وقبل نفخ الروح فيه ))( )، ومن التفصيل بعد الإجمال ما يكون ليلة القدر كما قال – تعالى-: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 1-4]، ((فهي ليلة الحكم، والتقدير))( ). ((يقضي الله كل أجل، وعمل، ورزق إلى مثلها))( ).
ومن ذلك أيضاً ما يكون في كل يوم كما في قوله – تعالى-: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، ومن شأنه – جل شأنه – أن ((يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدم شيء منها عن وقته، ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه، وجرى به قلمه، ونفذ فيه حكمه، وسبق به علمه))( ).
فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكروه اليوم قليل.
وبيان هذا أن ((غلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف: أي مستأنف.
وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير، وبين بني أمية في أواخر عصر عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم كما قال عبدالله بن عمر لما أخبر عنهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، وكذلك كلام ابن عباس، وجابر بن عبدالله، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون، ثم كثر خوض الناس في القدر، فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم، والكتاب السابق لكن ينكرون عموم مشيئته، وعموم خلقه، وقدرته))( ).
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات، وما في الأرض من حركة، ولا سكون، إلا بمشيئة الله – سبحانه-، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه – سبحانه – على كل شيء قدير من الموجودات، والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه – سبحانه-، لا خالق غيره، ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته، وهو – سبحانه – يحب المتقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
تضمنت هذه الدرجة مرتبتين من مراتب الإيمان بالقدر، وهما:
الأولى: مشيئة الله النافذة، ((فأهل السنة متفقون على إثبات القدر، وأن الله على كل شيء قدير))( )، و((أنه ما شاء الله كان، فوجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، فامتنع وجوده))( )، ((فما شاء الله كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره)) ( )، وعلى هذا ((اتفق المسلمون))( )، و((عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول، والعيان))( ). والقرآن، والسنة مملوءان مما يدل على هذا.
الثانية: خلق – الله – تعالى لكل شيء، فمذهب أهل السنة والجماعة على ((أن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد، وغير أفعال العباد))( ). وهذا ((ما دل عليه الكتاب، والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان))( ). ((وهذا أمر متفق عليه بين الرسل-صلى الله عليهم وسلم-، وعليه اتفقت الكتب الإلهية، والفطر، والعقول، والاعتبار))( )، بل أدلة هذا من القرآن، والسنة لا تكاد تحصر( ).
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنه لا يلزم من اعتقاد أن كل ما شاء الله وجوده، وكونه فقد أمر به، ورضيه، فإن أهل السنة والجماعة ((يقولون بما اتفق عليه السلف من أنه – سبحانه – ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون الفرق بين مشيئته، وبين محبته، ورضاه. فيقولون:
إن الكفر، والفسوق، والعصيان، وإن وقع بمشيئته، فهو لا يحبه، ولا يرضاه، بل يسخطه، ويبغضه. ويقولون: إرادة الله في كتابه نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، ونوع بمعنى محبته، ورضاه لما أمر به، وإن لم يخلقه))( ). وقد تقدم بيان هاتين الإرادتين، وأدلتهما في إثبات صفة الإرادة لله – تعالى-. وحكم الله – سبحانه وتعالى – ((يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى القدر دون الشرع، أو الشرع دون القدر كان أعور))( ).
فتبين بهذا ((أنه يحب ما لا يريد، ويريد ما لا يحبه، وذلك أن المراد قد يراد لغيره، فيريد الأشياء المكروهة؛ لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة، ويكره فعل بعض ما يحبه؛ لأنه يفضي إلى ما يبغضه. والله – تعالى – له الحكمة فيما يخلقه، وهو – سبحانه – يحب المتقين، والمحسنين، والتوابين، ويرضى عن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ويفرح بتوبة التائب. . . . ))( ). وهو – سبحانه – ((لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قال لما نهى عنه: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ [الإسراء: 38]))( )، وتفصيل أدلة هذا ما تقدم أكثره في سياق آيات الصفات.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، والمصلي، والصائم. وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم، وإرادتهم،
بيان هذا أن جمهور أهل السنة والجماعة على ((أن أفعال الإنسان الاختيارية مستندة إليه، وأنه فاعل لها، ومحدث لها))( )، و((العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازاً))( )، ((هذا قول السلف والأئمة))( ). وهو الحق ((الذي دل عليه المنقول والمعقول))( )، فإن ((الله، ورسوله وصف العبد بأنه يعمل، ويفعل))( )، وقد جاءت النصوص ((بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: (يعملون)، (يفعلون)، (يؤمنون)، (يكفرون)، (يتفكرون)، (يحافظون)، (يتقون)))( )، , و((لم يكن من السلف والأئمة من يقول: إن العبد ليس بفاعل، ولا مختار، ولا مريد، ولا قادر، ولا قال أحد منهم: إنه فاعل مجازاً، بل من تكلم منهم بلفظ الحقيقة، والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة))( ).
((ومما اتفق عليه سلف الأمة، وأئمتها أن العباد لهم مشيئة، وقدرة يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه كما قال الله – تعالى-: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [المدثر: 54 – 56]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [المزمل: 19]، ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيماً﴾ [الإنسان: 30]))( ).
ومما اتفق عليه سلف الأمة، وأئمتها ((أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد))( )، فالعبد مخلوق لله – تعالى-، ((والله – تعالى – خالق ذاته، وصفاته، وأفعاله))( ). ((والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئته وقدرته، وخلقه))( )، فإن ((في القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم، وجوارحهم، وأنه هو – تبارك وتعالى – يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله – تعالى-: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾ [الأعراف: 30]))( ).
كما قال – تعالى-: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 28- 29].
وبيان ذلك أن الله ((– تعالى – قال: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28] فأثبت للعبد مشيئة وفعلاً، ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29] فبين أن مشيئة العبد متعلقة بمشيئة الله))( ).
((وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب))( )، ((وأن العبد له قدرة، وإرادة، وفعل، وهو فاعل حقيقة، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء))( ).
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته، واختياره؛ ويخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها.
وبيان هذا أن ((مسألة القدر مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس))( ).
الطائفة الأولى: ((قدرية مجوسية تثبت الأمر، والنهي، وتنفي القضاء، والقدر))( )، فزعم هؤلاء ((أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله، ومشيئته، وخلقه كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة، وسلف الأمة، وتبروا منهم))( )، ((وهم ضلال مبتدعة مخالفون للكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل، والذوق))( ).
وقول هؤلاء القدرية المجوسية ((يتضمن الإشراك، والتعطيل، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله، وهاتان شعبتان من شعب الكفر، فإن أصل كل كفر التعطيل، أو الشرك))( ). ((ولهذا أسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا قولهم، وزعموا أن للخير، والشر خالقين كما زعمت المجوس، وأنه يكون من الشر ما لا يشاؤه الله كما قالت المجوس ذلك))( )، ففي سنن ابن ماجه، وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله – تعالى – إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم)( ).
الطائفة الثانية: ((قدرية مشركة تثبت القضاء، والقدر، وتكذب بالأمر، والنهي، أو ببعض ذلك))( )، فهؤلاء ((أنكروا أن يكون العبد فاعلاً لأفعاله، وأن تكون له قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئاً لحكمة))( ).
((وأول من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه))( )، ((فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف، والأئمة كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة، وغيرهم، وبدعوا الطائفتين))( ).
((وأشد الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة، واختياراً، ويقول: إن الفعل كسب للعبد، لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد على إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول))( ).
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول، وعمل: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح،
بيان هذا أن ((أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم، والتابعين، وأئمة أهل السنة، وأهل الحديث))( ) متفقون ((على أن الإيمان، والدين قول، وعمل، هذا لفظ الصحابة، وغيرهم))( ). ((فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول، وعمل))( )، حتى صار هذا القول ((عند أهل السنة من شعائر السنة، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك))( ). ((ومن قال من السلف: الإيمان قول، وعمل أراد قول القلب، واللسان، وعمل القلب، والجوارح))( ).
والمراد بقول القلب: ((تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته))( )،
وأما عمله ((فهو الانقياد))( )، ويدخل في هذا ((أعمال القلوب التي أوجبها الله، ورسوله، وجعلها من الإيمان))( )، ((مثل: حب الله، ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله، ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده))( )، ولا يكون القلب موصوفاً بالإيمان إلا ((بانقياد القلب مع معرفته))( )، وهذا أمر ((ظاهر ثابت بدلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام))( ).
أما قول اللسان ((فهو الإقرار))( ) بالشهادتين، ((والتصديق باللسان))( ) وذلك بالنطق بهما، فإنه ((إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً، وظاهراً عند سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير علمائها))( ). فإن ((من لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان))( ).
وأما عمل الجوارح فهو ثمرة ما في القلب من قول، وعمل ((والظاهر تابع للباطن لازم له: متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد))( ). ((فالقلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة، وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب) ( )))( )، و ((القرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه))( ). ((فالإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة، والظاهرة))( ).
وقد تنوعت ((أقوال السلف، وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول، وعمل. وتارة يقولون: هو قول، عمل، ونية. وتارة يقولون: قول، وعمل، ونية، واتباع سنة. وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول، وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب، واللسان جميعاً))( )، وكل هذه التفاسير ترجع إلى معنى واحد، وإنما هو تنوع عبارة، فمن ((قال من السلف: الإيمان قول: وعمل، أراد قول القلب، واللسان، وعمل القلب والجوارح. ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد، وقول اللسان. وأما العمل فقد لا يفهم منه النية، فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول، وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال. ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً قط، فقالوا: بل هو قول، وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال. ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول، وعمل. والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبدالله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول، وعمل، ونية، وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً، وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً، وعملاً، ونية بلا سنة فهو بدعة))( )، وبهذا يتبين أنه ((ليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي))( ).
وأما تعريف الإيمان بالتصديق فليس بسديد، وذلك ((أن الإيمان، وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار، والطمأنينة. وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله: خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له، والاستسلام، وهو عمل في القلب جماعه الخضوع، والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة، والإقرار. فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار، والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق، والانقياد))( ).
وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية،
وبيان هذا أن المأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية))( ).
((والذي مضى عليه سلف الأمة، وأئمتها أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)( )، وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح، ونقصانه فمتفق عليه))( ). ((والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات))( )، ((قال الله – تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ – إلى قوله: -أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال 2 – 4]، وقال: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ﴾ [آل عمران: 173]، و قال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4] وقال: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)( )، وقال لوفد عبدالقيس: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)( )))( ).
((وعلى هذا فنقول: إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام))( ).
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، والكبائر كما يفعله الخوارج،
وبيان هذا ((أن أئمة المسلمين، أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم مع جميع الصحابة، والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب كما تقول الخوارج))( ). ((فإنه ثبت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف أن الزاني غير المحصن يجلد، ولا يقتل، والشارب يجلد، والقاذف يجلد، والسارق يقطع، ولو كانوا كفاراً لكانوا مرتدين، ووجب قتلهم، وهذا خلاف الكتاب، والسنة، وإجماع السلف))( ). ((فهذه النصوص صريحة بأن الزاني، والشارب، والسارق، والقاذف ليسوا كفاراً مرتدين يستحقون القتل، فمن جعلهم كفاراً فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة))( ).
((وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم: الحرورية؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له حروراء، ويقال لهم: أهل النهروان؛ لأن علياً قاتلهم هناك))( ). ((وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)( ) ))( ). وبدعتهم ((أول البدع ظهوراً في الإسلام، وأظهرها ذماً في السنة، والآثار))( ).
والمراد بأهل القبلة أهل الإسلام، وذلك لأن ((شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها، فيقال: اختلف أهل الصلاة واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين، وفي الصحيح: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا)( )))( ). ويدخل فيما ذكرنا أهل البدع والأهواء، فإنهم لا يكفرون إذ ((لا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل، والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة، وذلك له شروط وموانع))( ).
ومما ينبغي التنبه له أننا ((إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنى والشرب))( )، أما مباني الإسلام كالصلاة، والزكاة، والصوم ((ففي تكفير تاركها نزاع مشهور))( ).
بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال – سبحانه – في آية القصاص: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 178]، وقال: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكم﴾ [الحجرات: 9- 10].
فالله – جل وعلا – وصف الطائفتين المقتتلتين: ((بالإيمان مع الاقتتال والبغي، وأخبر أنهم إخوة، وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر))( ).
ولا يسلبون الفاسق الملي الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة،
وبيان هذا أن ((الفاسق من أهل السنة مثل الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم))( ) ((ممن له طاعات، ومعاص، وحسنات، وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار))( ) القول الوسط فيه هو قول أهل السنة والجماعة. فإنهم ((لا يسلبونه الاسم على الإطلاق، ولا يعطونه على الإطلاق))( )، بل يقولون: ((هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. ويقال: ليس بمؤمن حقاً، أو ليس بصادق حقاً))( ). ((فأهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد))( ).
والخلاف في هذه المسألة، مسألة الأسماء والأحكام، هو ((أول خلاف حدث في مسائل الأصول حيث كفرت الخوارج بالذنب فجعلوا صاحب الكبيرة كافراً))( ).
((وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين، فنسميه فاسقاً لا مسلماً، ولا كافراً))( )، فهو ((ليس بمؤمن بوجه من الوجوه، ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان))( ) هذا من حيث الاسم.
أما بالنسبة للحكم ((فأهل السنة، والحديث، وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقوله الخوارج، والمعتزلة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة:
(أنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)( )، وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته، وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث))( ).
و((الخوارج والمعتزلة يقولون: صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان، ثم الخوارج تقول: هو كافر، والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم))( )، فإنهم ((نازعوا غيرهم في الاسم))( ).
بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92].
وبيان ذلك أن المراد في الآية ((من أظهر الإسلام، فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا هو الإيمان الظاهر، وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتقها، فإنها مؤمنة)( )، أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار))( )، والفاسق يتناوله اسم الإيمان ((فيما أمر الله به، ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه، وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره))( )، والفاسق يدخل ((في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان، وإن لم يستكمله فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان))( ).
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله – تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))( ). ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته.
وبيان هذا أن صاحب الكبيرة كالزاني، والسارق، وشارب الخمر، ونحوهم لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق، وذلك ((لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله))( )، ولأن ((حكم اسم الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله، فإنه يتناول فعل الواجبات، وترك المحرمات ))( )، وقد دل القرآن ((على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال))( ). فالمؤمن ((المطلق في باب الوعد والوعيد هو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، وهو المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، وهؤلاء هو المؤمنون عند الإطلاق))( ). و((لهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو ترك فريضة؛ لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن) ( )))( ). و((الزاني، والسارق، والشارب، والمنتهب لم يعدم الإيمان الذي به يستحق أن لا يخلد في النار، وبه ترجى له الشفاعة، والمغفرة، وبه يستحق المناكحة، والموارثة لكن عدم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب، ويستحق به تكفير السيئات، وقبول الطاعات، وكرامة الله، ومثوبته، وبه يستحق أن يكون محموداً مرضياً))( ).
وهذا التفصيل في إطلاق اسم الإيمان على الفاسق هو الصحيح ((فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان))( ).
ومن المعلوم أن ((نفي الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين كما في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]، ثم قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: 2 – 4]، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب))( )، فإن المنفي عن الفاسق: ((إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة، لكن بقي أكثر أجزائها))( ).
وأما إعطاء الفاسق اسم الإيمان المطلق فهي طريقة المرجئة، والجهمية، فصاحب الكبيرة عندهم مؤمن تام الإيمان( ). و((أصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه))( ).
وخالفوا بذلك ما دلت عليه النصوص، فإن ((نصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ( )))( ).
فأهل السنة، وأئمتها ((متفقون على أن الفساق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار. هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين))( ). وبهذا تجتمع النصوص، ولله الحمد.
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله – تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]،
بيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((مجمعون على أن الواجب))( ) في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول))( )، فإن ((من أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين، وسادات أولياء الله بعد النبيين، ولهذا لم يجعل الله – تعالى – في الفيء نصيباً لمن بعدهم إلا الذين يقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]))( )، ((فأهل السنة يترحمون على الجميع، ويستغفرون لهم كما أمرهم الله – تعالى –))( ). و((قد قال كثير من السلف: إن الرافضة لا حق لهم من الفيء؛ لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين، والأنصار: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] فمن لم يكن قلبه سليماً لهم، ولسانه مستغفراً لهم، لم يكن من هؤلاء))( )، ومنع الفيء عنهم عقوبة لهم، ولا عقوبة إلا في ترك ما يجب.
وهذا أصل مطرد عند أهل السنة والجماعة لكل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، فإن ((اسم الصحبة اسم جنس يعم قليل الصحبة، وكثيرها، وأدناها أن يصحبه زمناً قليلاً))( ).
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه))( ).
وبيان هذا أن ((سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب، والسنة.
أما الأول، فلأن الله يقول: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]، وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال – تعالى –: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، وقال –تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:58]. وهم صدور المؤمنين، فإنهم المواجهون بالخطاب في قوله – تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [البقرة: 104] حيث ذكرت، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله – سبحانه – رضي عنهم رضاً مطلقاً بقوله – تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال – تعالى-: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]))( ).
وأما السنة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم( )، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي)( ). فلا ((ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة))( )، وأن ((من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وعمر، وعائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين))( )، فإن ((قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام))( ). وإن كان سبب الحديث سب خالد بن الوليد رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف، فإن ((من لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه قط كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد))( )، وذلك أن ((سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول، مؤمنين به، مجاهدين معه، إيمان، ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم))( ). ومما يؤيد هذا أن ((الصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحب سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمناً، فله من الصحبة بقدر ذلك))( ).
ويقبلون ما جاء به الكتاب، والسنة، والإجماع من فضائلهم، ومراتبهم،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((يتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة، وفضلهم، ومناقبهم))( )، و((يعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين))( ).
ويفضلون من أنفق من قبل الفتح، وقاتل – وهو صلح الحديبية – على من أنفق من بعده، وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: (اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)( )، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وبيان هذا أن ((أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول))( ). وهم في الفضل على مراتب كما دلت النصوص، فالسابقون ((الأولون من المهاجرين، والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال – تعالى-: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]، وقال-تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]))( ). وقوله – تعالى-: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ﴾ [الحديد: 10] ((نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله – تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: 100] هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل، وقاتلوا))( ).
أما فضل أهل بدر فقد ((ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ( )))( ).
أما من بايع تحت الشجرة فكانوا((أكثر من ألف وأربعمائة، وكلهم من أهل الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ( )))( )، وهم ((الذين أنزل الله فيهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]))( ).
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((يشهدون أن العشرة في الجنة))( )، فقد ((أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة))( )، ففي الحديث الذي ((رواه أهل السنن من غير وجه من حديث عبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد))( ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي، وعثمان، والزبير، وطلحة، و عبدالرحمن، وأبوعبيدة، وسعد بن أبي وقاص)، فعد هؤلاء التسعة، وسكت، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة( ).
وأما شهادة النبي لثابت فلها قصة معروفة عند نزول قوله – تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2]، فظن ثابت أنه المقصود بها، فاحتبس، وحزن لذلك حزناً عظيماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل هو من أهل الجنة)( )،
وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لآخرين( )، مثل عبدالله بن سلام( )، وغيره رضي الله عن الجميع.
وكذلك شهد أهل السنة بالجنة لأمهات المؤمنين: عائشة، وغيرها( ) – رضي الله عنهن-.
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنه، كما دلت عليه الآثار،
وبيان هذا أن تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، في الفضل ((متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم، والدين من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك، وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة))( )، وعلى هذا ((عامة أهل السنة من العلماء، والعباد، والأمراء، والأجناد))( ). ودلائل هذا كثيرة( )، والنقل في تفضيل الشيخين ((مستفيض عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبت من خير الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا بني أو ما تعرف؟ قلت: لا، قال: أبوبكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر( )، ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا وجلدته حد المفتري، فمن فضله على أبي بكر، وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطاً))( ). ((فتقديم أبي بكر، وعمر من وجوه متواترة))( )، فإن لهما ((من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان، ولا علي، ولا غيرهما، وهذا كان متفقاً عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر، وعمر عليه))( )، ((فأبو بكر، وعمر، لا يوازنهما أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر)( )))( ).
وبهذا جاء ((النقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين؛ وتابعيهم من ولد الحسين بن علي، وولد الحسن، وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر، وعمر، وكانوا يفضلونهما على علي، والنقول عنهم ثابتة متواترة))( ).
وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان، وعلي رضي الله عنهما – بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر – أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان، وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم علياً. وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي. وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان، وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة؛ وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله.
بيان هذا أنه قد ((اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما))( ). ((فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري، وغير البخاري أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شورى في ستة أنفس: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف – ولم يدخل معهم سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان من بني عدي قبيلة عمر، وقال عن ابنه عبدالله: يحضركم عبدالله، وليس له في الأمر شيء، ووصى أن يصلي صهيب بعد موته حتى يتفقوا على واحد.
فلما توفي عمر، واجتمعوا عند المنبر. قال طلحة: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان. وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي. وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف، فخرج ثلاثة وبقي ثلاثة. فاجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف: يخرج منا واحد، ويولي واحداً، فسكت عثمان، وعلي فقال عبد الرحمن بن عوف: أنا أخرج. وروي أنه قال: عليه عهد الله، وميثاقه أن يولي أفضلهما، ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها، يشاور المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين؛ ويشاور أمراء الأمصار – فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر، وشهدوا – موته – حتى قال عبد الرحمن بن عوف: إن لي ثلاثاً ما اغتمضت بنوم. فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان: عليك عهد الله، وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت علياً لتسمعن، ولتطيعن، ؟ قال: نعم. وقال لعلي: عليك عهد الله، وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن؟ قال: نعم. فقال: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان( ). فبايعه علي، وعبدالرحمن، وسائر المسلمين بيعة رضاً، واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة خوفهم بها))( ).
وأما تقديم عثمان على علي رضي الله عنه فقد: ((أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهم أيوب السختياني، وغير ه: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وفي لفظ: ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم( )، فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين، والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر، فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة، ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم. قال الإمام أحمد: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان))( )، وهو بين في قصة مبايعته رضي الله عنه، على أنه قد حصل نزاع بين أهل السنة في أيهما أفضل عثمان أو علي؟ ((فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وكان طائفة من الكوفيين يقدمون علياً، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري، ثم قيل: إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني))( ). ((وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان، وهو مذهب جماهير أهل الحديث، وعليه يدل النص، والإجماع، والاعتبار))( )، و((عليه استقر أمر أهل السنة))( ).
وقد تنازع السلف ((فيمن يقدم علياً على عثمان هل يعد من أهل البدعة؟على قولين: هما روايتان عن أحمد))( ).
((إحداهما: من فضل علياً على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة. ولهذا قيل: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين، والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد: منهم أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني.
والثانية: لا يبدع من قدم علياً، لتقارب حال عثمان، وعلي))( ).
والراجح من هذين القولين أنه لا يبدع؛ لكون أئمة المسلمين متفقين على أن التبديع إنما يكون في مسائل الأصول التي اتفق عليها أهل العلم ((بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن))( ) عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة مسألة عثمان، وعلي من هذا القبيل، كما أن تقدم أحدهما على الآخر لم يكن ظاهراً ((كتقدم أبي بكر، وعمر على الباقين، ولهذا كان في الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان، وتارة يؤخذ برأي علي))( ).
((لكن المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهجرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد، ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك))( )، ((بل أهل السنة يحبونه، ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين))( ).
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله، حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي)( ). وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم؛ فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)( ).
وقال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)( ). ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)( ).
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((يتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم، وعدل))( )، و((يرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم))( )، ((فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس، والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم))( )، وغير ذلك من الحقوق. وحقهم ((على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم))( )، فإنهم ((يستحقون من زيادة المحبة، والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش))( ). ((فمحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة))( ). دل على هذا ما((روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خماً بين مكة والمدينة فقال: (يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور) فرغب في كتاب الله، (وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس، و آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل) ( )))( )، ويدل لذلك أيضاً: ((ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: (والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي)( )))( ).
والمراد بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذين تجب موالاتهم، ومحبتهم ((هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد علي، وولد الحارث بن عبدالمطلب، وسائر بني أبي طالب، وغيرهم))( ). ولما ((قيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل))( ) كما في صحيح مسلم.
وقد ((تنازعوا في بني المطلب بن عبد مناف هل تحرم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل محمد صلى الله عليه وسلم؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد))( ).
وأما زوجاته رضي الله عنهن فقد اختلف العلماء هل هن من أهل بيته صلى الله عليه وسلم؟ ((على قولين، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم.
والثاني: وهو الصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم الصلاة عليه: (اللهم صل على محمد، وأزواجه، وذريته)، ولأن امرأة إبراهيم من آله، وأهل بيته، وامرأة لوط من آله، وأهل بيته بدلالة القرآن، فكيف لا يكون أزواج محمد من آله، وأهل بيته؟))( ) ولقوله – تعالى – في خطاب نساء النبي: ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]. فهذه ((الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى))( )، فنساؤه صلى الله عليه وسلم من أهل بيته بنص القرآن( )، فلهن ما لأهل البيت من حقوق.
وأما ما رواه ((مسلم عن عائشة أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله، ثم جاء الحسين، فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة، فأدخلها معه، ثم جاء علي، فأدخله، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33] ( ))) ( ). و((قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي، وفاطمة، وحسن، وحسين: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)( )))( ). فهذا يدل على أن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين كلهم من أهل البيت، وهم((أخص بذلك من غيرهم، ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم.
وهذا كما أن قوله: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ [التوبة: 108] نزلت بسبب مسجد قباء، لكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة. وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: (هو مسجدي هذا)( )))( ).
((وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين كلهم من أهل البيت، لكن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من أزواجه ولهذا خصهم بالدعاء))( )، ((فالتخصيص؛ لكون المخصوص أولى بالوصف))( ). فالحديث لا يفيد لا مفهوماً، ولا منطوقاً أن أزواجه – رضي الله عنهن – لسن من أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
((ومن المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الهاورنية، -رضي الله عنهن-، وقد قال الله – تعالى-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة، والتحريم))( ).
ومما لا ريب فيه أن ((أفضل نساء هذه الأمة خديجة، وعائشة وفاطمة))( ) – رضي الله عنهن-. وقد اختلف أهل العلم في أيهما أفضل خديجة، أو عائشة؟ ولا شك أن كل واحدة قد اختصت بفضل لم تشاركها فيه غيرها، ((فسبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرها، وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام، وحمل الدين، وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها))( ) فرضي الله عنهن أجمعين.
أما وجه تفضيل عائشة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))( )، فذلك ((لأنه – أي الثريد – خبز، ولحم))( )، و((البر أفضل الأقوات، واللحم أفضل الآدام))( ).
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة، ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول، أو عمل،
أهل السنة والجماعة ((يتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم، وعدل، ليسوا من أهل الجهل، ولا من أهل الأهواء، ويتبرون من طريقة الروافض والنواصب جميعاً، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة، وفضلهم، ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم))( ).
وبهذا يفارق أهل السنة والجماعة الرافضة. فالرافضة ((تطعن في جميع الصحابة إلا نفراً قليلاً بضعة عشر))( )، و((يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم))( ).
وأما الناصبة فكانت ((تبغض علياً، وأصحابه))( )، بل كانوا: ((يكفرون علياً، أو يفسقونه، أو يشكون في عدالته))( ).
فأهل السنة والجماعة سالمون من هاتين الضلالتين؛ لما ثبت من فضائلهم، ولأن ((القدح فيهم قدح في القرآن والسنة))( )، وباطن هذا المسلك ((الطعن في الرسالة))( ).
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهم خير القرون)( )، (وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم)( )، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وبيان هذا أن ((مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم، ومحبتهم. وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً، وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك، فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله، ولا رسوله؛ إما من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح، ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف))( ). وليس هذا خاصاً بما جرى بين الصحابة فقط، بل ((ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة، أو ممن بعدهم. فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم، ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة))( ).
فالواجب فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أن يقال: ((إما أن يكون عمل أحدهم سعياً مشكوراً، أو ذنباً مغفوراً، أو اجتهاداً قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه. فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم، وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى))( ).
((ولهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال))( )، ((فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق، والاستقامة، والاعتدال، وإلا حصل في جهل، وكذب، وتناقض))( ).
ومن وسطية أهل السنة، وعدلهم أنهم ((لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب، والخطأ))( ). لكن الصحابة رضي الله عنهم ((هم كما قال – تعالى –: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: 16]))( ).
((بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً، أو كبيراً، ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يبت فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل عند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها))( )، ((وقد يبتلون أيضاً بمصائب يكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك))( )، فإن لهم رضي الله عنهم ((من التوبة، والاستغفار، والحسنات ما ليس لمن هو دونهم، وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم، فلهم من السعي المشكور، والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم))( ). هذا فيما كان ذنباً محققاً منهم رضي الله عنهم، فكيف و ((ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم))( )، ((فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم)( )، وهذه خير أمة أخرجت للناس))( ).
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان، ولا يكون، مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله – عز وجل-.
وبيان ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم: ((كانوا أكمل هذه الأمة عقلاً، وعلماً، وديناً كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستناً، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا، والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم، ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه غير واحد، منهم ابن بطة عن قتادة ( )))( )، وقوله رضي الله عنه: ((كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً كلام جامع بين فيه حسن قصدهم، ونياتهم ببر القلوب، وبين فيه كمال المعرفة، ودقتها بعمق العلم، وبين فيه تيسر ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف))( )، و((الذي قاله عبدالله حق، فإنهم خير هذه الأمة كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ( )))( ). فأصحابه رضي الله عنهم ((كانوا أفضل قرون الأمة، فهم أعرف القرون بالله، وأشدهم له خشية))( ).
ومن دلائل خيريتهم رضي الله عنهم أن ((كل خبر فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان، والإسلام، والقرآن، والعلم، والمعارف، والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله))( ) – فرضي الله عنهم وسلك بنا سبيلهم – لا كان، ولا يكون مثلهم.
ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة، والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف، وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
وبيان هذا أن كرامات الأولياء هي ما يكون للمؤمنين المتقين من الأمور الخارقة للعادة، فإن الكرامة هي ((الأمر الخارق للعادة))( ). وأما أولياء الله فإنهم((﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 63]، فقد أخبر الله – سبحانه – أن أولياءه هم المؤمنون المتقون ))( )، وذلك في قوله – تعالى-: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62 – 63]، وهي إنما سميت بهذا الاسم؛ لأن الله يكرم((بها أولياءه المتقين ))( ).
وهذه الكرامات، وخوارق العادة أنواع( ):
الأول: ((ما هو من جنس العلم كالمكاشفات))( )، و((هي من جنس العلم الخارق))( )، فإذا ((كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت))( ) و((كلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف))( )، وهذا النوع من الكرامات له صور ((فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلمه غيره وحياً وإلهاماً، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى: كشفاً، ومشاهدات، ومكاشفات، ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويسمى كشفاً، ومكاشفة، أي: كشف له عنه))( )، ((مثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام))( ).
الثاني: ((ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادة))( )، و((هي من جنس القدرة الخارقة))( ). و((ما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة، وصدقاً، ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه كقوله: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب)( )، ومثله تذليل النفوس له، ومحبتها إياه، ونحو ذلك))( )، ومن أمثلة هذا ((قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة خالد بن الوليد، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها، فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس، وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله، فمثل نصر الله لمن ينصره، وإهلاكه لمن يشتمه))( ). و((كرامات الصحابة، والتابعين بعدهم، وسائر الصالحين كثيرة جداً))( ).
الثالث: ((ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية))( ). وذلك مثل ((الاستغناء عن الأكل، والشرب مدة))( ).
وهذه الكرامات ((إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم))( )، فهي من جملة الآيات الدالة على صدق الرسول الذي اتبعوه. فإن((من آيات الأنبياء ما يظهر مثله على أتباعهم، ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم، فإن ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم، فهو مستلزم له، لا تكون تلك الآيات إلا لمن أخبر بنبوتهم))، و((لهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الإسلام، وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية، ولم يضره))( ).
وبالجملة فهذه الكرامات التي تجري لأولياء الله، وعباده الصالحين إنما تكون ((الحجة أو حاجة. فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر، والرزق الذي به يقوم دين الله))( ).
وقد ضل في هذا الباب طوائف:
((فقالت طائفة: لا تخرق العادة إلا لنبي، وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة، والكهان، وبكرامات الصالحين، وهذه طريقة أكثر المعتزلة، وغيرهم كأبي محمد بن حزم، وغيره))( ).
((وقالت طائفة: بل كل هذا حق، وخرق العادة جائز مطلقاً، وكل ما خرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره من الصالحين، بل ومن السحرة، والكهان، ولكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوى النبوة، وهو التحدي))( ). وقد يقولون: إنه لا يمكن لأحد أن يعارضها بخلاف تلك، وهذا قول ((جهم، ومن اتبعه من النفاة للحكمة، والأسباب في أفعال الله – تعالى –))( ).
وممن ضل فيها أيضاً ((المتفلسفة الملاحدة الذين يقولون: أسباب الآيات القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية))( ).
والصواب ما تقدم من إثبات الكرامة لأولياء الله – تعالى-دون غيرهم، أما ما يكون للسحرة، والكهان، فليس من ذلك في شيء، فإنه يوجد ((بين كرامات الأولياء، وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة:
منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان، والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه، ورسوله)).
ومنها أن ((الأحوال الشيطانية تبطل أو تضعف إذا ذكر الله، وتوحيده، وقرئت قوارع القرآن لا سيما آية الكرسي، فإنها تبطل عامة هذه الخوارق الشيطانية، وأما آيات الأنبياء، والأولياء، فتقوى بذكر الله، وتوحيده))( ).
ومنها ((أن ما تأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وأقوى منه))( )، أما ((كرامات الصالحين لا تعارض لا بمثلها، ولا بأقوى منها))( ).
ومنها أن ما يأتي به السحرة، والكهان مقصوده الكفر، والفسوق، والعصيان، أما كرامات الصالحين فمقصودها ((عبادة الله، وتصديق رسله، فهي آيات، ودلائل، وبراهين متعاضدة على مطلوب واحد))( ).
ومما ينبغي التنبه له الفرق بين آيات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ((فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم، وأتباعهم))( ).
فصل
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً، وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)( ). ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة. وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم، والدين.
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أعمال، وأفعال باطنة، أو ظاهرة مما له تعلق بالدين.
والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشر في الأمة.
وبيان هذا أن الأصول التي يستند إليها أهل السنة والجماعة في طريقتهم ثلاثة أصول. أول هذه الأصول وأصلها ورأسها كتاب الله، فإنه ((مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف من اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل))( ).
وثاني هذه الأصول السنة المطهرة، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس لفظ القرآن ومعناه))( )، وقد تقدم الكلام على منزلتها.
ثالث هذه الأصول الإجماع، ((وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء، والصوفية، وأهل الحديث، والكلام، وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة، والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة. وأما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً))( ).
((ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص))( )، ((فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب، والسنة))( ).
وبهذا يتبين أن ((دين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة))( ) بنى عليها أهل السنة والجماعة عقدهم، وقولهم، وعملهم.
فصل
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة،
هذا الفصل عقد لبيان ما تميز به أهل السنة والجماعة في مسلكهم العملي بعد الفراغ من ذكر ما تميزوا به في عقدهم، وأصول دينهم، ففي هذا الفصل ذكر أبرز الخصائص السلوكية المنهجية لأهل السنة والجماعة، فأول هذه السمات المنهجية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسبب البداءة به قبل غيره ((أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال، وأفضلها، وأحسنها))( ).
فأهل السنة والجماعة يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر
((فلا يبقى معروف إلا أمروا به، ولا منكر إلا نهوا عنه))( ). وهم في ذلك كله ((على الصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود))( ).
وقوام هذا الصراط ثلاثة أمور: ((العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه والصبر بعده، وإن كان كل من هذه الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف، ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: لا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه))( ). والمقصود أن أهل السنة والجماعة قائمون بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام على ما تقتضيه الأدلة لا وكس، ولا شطط.
ويرون إقامة الحج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا، أو فجاراً،
فأهل السنة والجماعة يرون إقامة هذه الأعمال الصالحة مع كل أمير براً كان، أو فاجراً، وذلك أنه ((إذا كان للرجل ذنوب، وقد فعل براً فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرماً، كما لو أراد مذنب أن يؤدي زكاته، أو يحج، أو يقضي ديونه، أو يرد بعض ما عنده من المظالم، أو يوصي على بناته، فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر، وتقوى، ليس إعانة على إثم، وعدوان، فكيف بالأمور العامة))( ).
فإن هذا الأمور من الحج، والجمع، والأعياد، ((والجهاد لا يقوم بها إلا ولاة الأمور))( )، فلو اشترط للقيام بها برهم، وصلاحهم لتعطلت هذه الشعائر، وانمحت. وبهذا مضت السنة( ) ((فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة، والجماعة خلف الأئمة الفجار))( ). و((من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر، وفاجر، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم))( ).
((وهذه طريقة خيار الأمة قديماً، وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف))( )، ((فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد، وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين، ويدفع شر الشرين))( )، وهذا يكون في الجهاد، وغيره من الأمور العامة.
ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً)، وشبك بين أصابعه( ). وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى، والسهر)( ). ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)( )، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق، أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها.
وكل ما يقولونه، ويفعلونه من هذا، وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب، والسنة.
هذه جملة من فضائل الأخلاق، وصالح الأعمال التي تميز بها أهل السنة والجماعة في سلوكهم، وأخلاقهم، ومنهجهم، وطريقهم، والجامع لها مراقبة الله – تعالى – في معاملة الخلق. فإن ((السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم، ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم، ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم))( ).
وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي الحديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)( ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)( ). فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
في هذا بيان أنه لا تستحق فرقة من فرق الأمة وصف النجاة من النار ((إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة))( )، وذلك أنه ((ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله، وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها، وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها تصديقاً، وعملاً، وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها))( ).
وقد سبق الكلام في أول هذه الرسالة عن سبب تسميتهم بأهل السنة والجماعة، وبالفرقة الناجية المنصورة سلك الله بنا سبيلهم، وهدانا إلى طريقهم إنه بر جواد كريم.
وأما قوله – رحمه الله-: (وفيهم الأبدال) فالأبدال جمع بدل، وهو لفظ ((تكلم به بعض السلف، ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف))( )، وفيه ((أنهم أربعون رجلاً، وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث علي رضي الله( )، وهو حديث منقطع ليس بثابت))( ). ((والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان: منها أنهم أبدال الأنبياء، ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله – تعالى – مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم، وأعمالهم، وعقائدهم بحسنات))( ).
والحمد لله رب العالمين، و سلام على المرسلين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً مزيداً.