تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب
التصنيفات
الوصف المفصل
تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب
تأليف
قاضي الجوف الفقير إلى الله تعالى وتبارك
فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
المتوفى عام 1376هـ
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين قيُّوم السموات والأرضين ، مدبِّر الخلائق أجمعين ، باعثِ الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين ، لهدايتهم وبيان شرائع الدين ، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين .
أحمده على جميع نعمه ، وأساله المزيد من فضله وكرمه ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار الكريم الغفار ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين ، المكرمُ بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين ، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين ، المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين .
ابتدأ المصنف رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز وعملاً بحديث : « كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فيِه بِبِسْمِ اللهِ فَهُو أَبْتَرُ » . أي ناقص البركة ( قوله : بالقرآن العزيز المعجزة ) أي لأنه أعجز الناس أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ( قوله : المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين ) جوامع الكلم أن تجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ، قال ﷺ : « أُعِْطيتُ جَوَامِعض الْكَلمِ واخْتُصِرَ لي اَلْحدِيثُ اخْتِصاراً » . وسماحة الدين : سهولته ، قال الله تعالى : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ ، قوله ﷺ وعلى سائر النبيين والمرسلين في حديث أبي ذرّ الطويل عن النبي ﷺ : « إنَّ عَدَدَ الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسول منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر » . ( قوله وآل كل ) أي أقاربهم المؤمنين بهم وسائر الصالحين : أي القائمين بحقوق الله وحقوق عباده .
أما بعد : فقد روينا عن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس بن مالك وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - من طرُق كثيرةٍ بروايات متنوعات :
أن رسول الله ﷺ قال : « من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء » ، وفي رواية : « بعثه الله فقيهاً عالماً » ، وفي رواية أبي الدرداء : « وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً » ، وفي رواية ابن مسعود : « قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت » .
هذا الحديث يدل على فضل تعلم أمر الدين وتعليمه ، وفي الحديث الصحيح : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » . وفي الحديث الآخر : « نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها » .
فينبغي لكل طالب علم أن يحفظ هذه الأحاديث لأنها مشتملة على مسائل مهمة من أصول الدين وفروعه وآدابه ، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين ، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب
الحديث الأول :
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » . رواه إماما المحدثين : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللَّذين هما أصح الكتب المصنَّفة .
هذا حديث جليل متفق على صحته وعظيم موقعه وكثرة فوائده .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من الفقه . وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : يدخل فيه ثلث العلم . قال البيهقي رحمه الله تعالى : وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه ، واستحب العلماء أن تستفتح المصنَّفات بهذا الحديث تنبهاً للطالب على تصحيح النية . قوله : « إنما الأعمال بالنيات » . إنما : للحصر ، أي لا يعتدّ بالأعمال الشرعية بدون النية . وقال البخاري رحمه الله تعالى : باب ما جاء : إن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى ، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام ( قوله : « وإنما لكل امرئ ما نوى » .قال القرطبي : فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال ، وقال ابن عبد السلام : الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال والثانية لبيان ما يترتب عليها . ( قوله : « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله » . ) أي من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً .
( قوله : « ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . ) ذكره بالضمير تحقيراً له وليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها .
وهذا الحديث له سبب ، وهو : أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة يتزوج امرأة يقال لها أم قيس لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له مهاجر أم قيس .
الحديث الثاني :
عن عمر رضي الله عنه أيضاً قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله ﷺ : « الإسلام أن تشهد أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً » . ، قال : « صدقت » . ، فجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره » . ، قال : « صدقت » . ، قال : « فأخبرني عن الإحسان » . ؟ قال : « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » . ، قال : « فأخبرني عن الساعة ، » . ؟ قال : « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » قال : « فأخبرني عن أماراتها » . ؟ قال : « أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان » . ثم انطلق فلبثت ملياً فقال : « يا عمر أتدرى من السائل» . ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم » . رواه مسلم .
هذا حديث عظيم مشتمل على جميع الأعمال الظاهرة والباطنة ، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن ( قوله فاسند ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ) أي على فخذ النبي ﷺ . وفي رواية النسائي ( فوضع يديه على ركبتي النبي ﷺ ) وقيل على فخذي نفسه : أي جلس جلسة المسترشد ( قوله : « يا محمد أخبرني عن الإسلام » . إلى آخره ) فيه دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام لأنه سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان فترقى من الأعم إلى الأخص ثم إلى الأخص منه ، ويشهد لذلك قوله تعالى : ﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ . وقد يطلق الإسلام ويراد به كقوله تعالى ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ( قوله فعجبنا له يسأله ويصدقه ) أي لأنه سأل سؤال عارف محقق مصدّق ، وفي رواية ( قال القوم : ما رأينا رجلاً مثل هذا كأنه يعلم رسول الله يقول له : صدقت صدقت ) . ( قوله : « وتؤمن بالقدر خيره وشره » . ) أي تصدق بأن ما وقع من شيء فهو بتقدير الله عز وجل وقد علم الأشياء قبل إيجادها ثم أوجد ما شاء منها ، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته . قال الله تعالى : ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ . ( قوله : « فأخبرني عن الإحسان» . ؟ قال : « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » . ) إحسان العبادة : الإخلاص فيها والخشوع ومراقبة المعبود . أشار ﷺ إلى حالتين : الأولى وهي أرفعهما أن يغلب على العبد مشاهدة الله بقلبه حتى كأنه يراه بعينه ، والثانية أن يستحضر أن الله مطلع عليه يرى كل ما يعمل ، قال بعض العارفين : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص ( قوله : قال : « فأخبرني عن الساعة » . ؟ قال : « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » . ) أي : لا أعلمها أنا ولا أنت ولا أحد من الخلق ، بل لا يعلم وقت مجيئها إلا الله تعالى ( قوله : « فأخبرني عن أماراتها » . ) أي علاماتها ( قال : « أن تلد الأمة ربتها » . ) أي سيدتها . وفي رواية : « ربها » . أي يكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها ، وقيل : معناه أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته ، وهذا ونحوه من الأشراط الصغار وقد وقع بعضها . وأما الأشراط الكبار : فهي خروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها والله أعلم .
الحديث الثالث :
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان » . رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الإسلام ( قوله ﷺ : « بني الإسلام على خمس » . ) أي خمس دعائم ، وفي رواية « على خمسة » . أي خمسة أركان ، فمثل الإسلام بالبنيان الذي لا يثبت إلا على خمس ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ( قوله : « شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » . ) أي : الإيمان بالله ورسوله ولمسلم : « على خمس على أن توحد الله عز وجل » . ( قوله : « وإقام الصلاة » . ) في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال : « بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة » . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة ابن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال : « لا تترك الصلاة متعمداً ، فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة » . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة ( قوله : « وإيتاء الزكاة » . ) في الحديث عن النبي ﷺ « صلاتنا وزكاتنا أختان ، فمن لم يزك فلا صلاة له » . ( قوله وصيام رمضان ) قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ .
وقال ﷺ : « من أفطر يوماً من رمضان لغير عذر لم يقضه صيام الدهر وإن صامه » . ( قوله : « وحج البيت » . ) هذا الركن الخامس من أركان الإسلام . قال الله تعالى : ﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . وقال النبي ﷺ : « السبيل الزاد والراحلة » . قال عطاء الخراساني : الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئاً دون شيء : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالجنة والنار والحياة بعد
الموت هذه واحدة ، والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة ، والزكاة طهور من الذنوب ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء الثلاث ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمداً لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج ولم يوص بحجته ولم يحج عنه عض أهله لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها .
الحديث الرابع :
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق : « إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره أن أحدكم كم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » . رواه البخاري ومسلم .
( قوله : وهو الصادق المصدوق ) أي الصادق في قوله ، المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم ( قوله : « ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد "" ) أي هو شقي أو سعيد . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو وعن النبي ﷺ قال : « إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » .
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال : « ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال : « أعلموا فكل ميسر لما خلق له ؛ أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة . وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» . الحديث وفي الحديث الآخر « إنما الأعمال بالخواتيم » .
قال ابن رجب : فالخواتيم ميراث السوابق وقال ابن دقيق العيد : لما كانت السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة . جاء في الحديث : « إنما الأعمال بالخواتيم » .
وانقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير ، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ، ولله الحمد . قلت : ويشهد لهذا قوله تعالى: « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون » .
الحديث الخامس :
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة –رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله ﷺ : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » .
هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين وهو صريح في رد كل بدعة ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة سواء أحدثها أو قلد غيره فيها .
قال النووي : هذا الحديث مما ينبغي أن يعتني بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك .
الحديث السادس :
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن الحلال بين ، وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرم ؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه؛ ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » . رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة ، وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثرة فوائده ( قوله : « الحلال بين والحرام بين » . ) معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، والحرام المحض بين لا اشتباه فيه ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم فلا تشتبه عليهم ( قوله : « فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أي برأ دينه من الغش وعرضه من الطعن فيه ، وفيه إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة قال بعض العلماء : المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام ، والمباح عقبة بينه وبين المكروه ، فمن استكثر من المباح تطرق إلى المكروه . وقال بعض السلف : من تعرض للتهم فلا يلومن من أساء الظن به ، وقال بعضهم : الصغيرة تجر الكبيرة والكبيرة تجر الكفر ، قلت : ويشهد لذلك قوله تعالى ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ﴾ . وفي الحديث : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس » .
( قوله : « ألا وإن في الجسد مضغة إلى آخره » . ) فيه دليل على أن صلاح الجوارح وفسادها بحسب ما في القلب ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ .
الحديث السابع :
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال : « الدين النصيحة » . قلنا : لمن ؟ قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين » . رواه مسلم .
النصيحة كلمة جامعة ، وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام ، أي عماد الدين وقوامه النصيحة . فالنصيحة لله سبحانه وتعالى : الإيمان به ونفي الشريك عنه ، ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله ﷺ من غير تشبيه ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تعطيل ، ومحبته والقيام بطاعته واجتناب معصيته ، والحب فيه والبغض فيه ، وشكر نعمه .
والنصيحة لكتابه : الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله ، لا يشبهه شيء من كلام الناس ، وتعظيمه، ومحبته ، وتلاوته ، وتفهم علومه وأمثاله ، والعمل بما فيه . والنصيحة لرسوله ﷺ : تصديقه ، ومحبته ، وطاعته ، ونشر سنته ، ومحبة أهل بيته وأصحابه .
والنصيحة لأئمة المسلمين : معاونتهم على الحق ، وطاعتهم ، وتذكيرهم برفق ، وإعلامهم بما غفلوا عنه ، وترك الخروج عليهم والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم لمصالحهم في أمور آخرتهم ودنياهم ، وإعادتهم ، وستر عوراتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص ، والشفقة عليهم ، وتخولهم بالموعظة الحسنة . قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى- : ما أدرك من أدرك بكثرة الصلاة والصيام ؛ وإنما أدرك بسخاء النفس وسلامة الصدر والنصح للأمة .
الحديث الثامن :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى » . رواه البخاري ومسلم .
هذا حديث عظيم وقاعدة من قواعد الدين ، وهو موافق لقوله تعالى : ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ .
( قوله : « إلا بحق الإسلام » . ) أي شرائعه ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : ( لما توفي رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل"" ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق » . ( قوله : « وحسابهم على الله » . ) أي فيما يسرونه وفي الحديث الآخر : « من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل » . قال الخطابي وغيره : المراد بهذا أهل الأوثان ومشركو العرب ومن لا يؤمن دون أهل الكتاب ومن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده .
الحديث التاسع :
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم » . رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام قال الله تعالى : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ وقال تعالى : ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ . قال مالك : المراء والجدال يذهب بنور العلم من قلب الرجل ، وفي بعض الآثار : إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العلم وأغلق عنه باب الجدال ، وإذا أراد به شراً فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العلم .
الحديث العاشر :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ﷺ : « إن الله تعالى طيب إلا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ﴾ . وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له ؟ ) . رواه مسلم .
هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام وأصل من أصول الأحكام ( قوله : « وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين » . ) أي إن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الحلال وبالعمل الصالح ( قوله : ثم ذكر الرجل يطيل السفر ) إلى آخره ، فيه إشارة إلى آداب الدعاة وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته ، وإلى ما يمنع من إجابته ، وقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص : « أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة » .
وعن يوسف بن أسباط قال : بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السماوات بسيئ المطعم . وعن سهل ابن عبد الله قال : من أكل الحلال أربعين صباحاً أجيبت دعوته ، وعن عطاء قال : ما قال : عبد يا رب ثلاث مرات : إلا نظر الله إليه ، فذكر ذلك للحسن ، فقال : أما تقرءون القرآن ثم تلا قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ .
الحديث الحادي عشر :
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - سبط رسول الله ﷺ وريحانته ، قال : حفظت من رسول الله ﷺ : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » . رواه الترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
معنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، قال حسان بن أبي سنان : ( ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه ) ، وفي آخر الحديث زيادة « فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة » . ولفظ ابن حبان : « فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة » . وفيه إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وعن بشر بن كعب أنه قرأ هذه الآية ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ ثم قال لجاريته : إن دريت ما مناكبها فأنت حره لوجه الله ، قالت : مناكبها جبالها فكأنما سفع في وجهه ورغب في جاريته فسألهم فمنهم من أمره ومنهم من نهاه فسأل أبا الدرداء فقال : الخير طمأنينة ، والشر ريبة فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك .
الحديث الثاني عشر :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ : « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » . حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا .
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب . قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى ؟ قال : صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني ، وقال سهل بن عبد الله التستري : من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق ، وروى عن النبي ﷺ أنه قال : « أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة ، فدخل عليهم عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له : أخبرنا بأوثق عملك في نفسك ؟ قال : إن عملي لضعيف وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني .
الحديث الثالث عشر :
عن أبي حمزة أنس بن مالك - رضي الله عنه - خادم رسول الله ﷺ عن النبي ﷺ قال: « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن الصلاح : وهذا قد يعدّ من الصعب الممتنع ، وليس كذلك ، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه ، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها ، وذلك سهل على القلب السليم ، يعني من الغش والغل والحسد .
الحديث الرابع عشر :
عن ابن مسعود - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ﷺ : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة » . رواه البخاري ومسلم .
جاء في هذا المعنى أحاديث متعددة ، وفي حديث عثمان - رضي الله عنه - : « رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير نفس » .
( قوله : « والتارك لدينه المفارق للجماعة » . ) أي فارق جماعة المسلمين بالارتداد .
قال ابن رجب : فلو سب الله تعالى أو رسوله ﷺ وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه لأنه قد ترك بذلك دينه . وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات أو جحد ما يعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك . انتهى .
قال الإمام أحمد : إذا ترك الصلاة كفر وقتل ولو لم يجحد وجوبها ، وقال الجمهور يقتل حداً لا كفراً ، وقال القرطبي : ظاهر قوله : « المفارق للجماعة » . أنه نعت للتارك لدينه لأنه إذا ترك دينه قد فارق جماعة المسلمين غير أنه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتد كمن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ، ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطاع الطريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم .
الحديث الخامس عشر :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ﷺ قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » . رواه البخاري ومسلم .
في هذا الحديث الحث على مكارم الأخلاق ، وفيه أن هذه الثلاث من خصال الإيمان ( قوله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر » . ) أي من كان يؤمن الإيمان الكامل المنجي من عذاب الله الموصل إلى رضوان الله ، وفي الحديث الأمر بقول الخير ، أو الصمت ، وإكرام الجار ، والضيف .
الحديث السادس عشر :
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- ( أن رجلاً قال للنبي ﷺ : أوصني . قال : « لا تغضب فردد مراراً ، قال : « لا تغضب » . رواه البخاري .
هذه وصية وجيزة نافعة فإن الغضب جماع الشر ، وباب من مداخل الشيطان والتحرز منه جماع للخير وطرد للشيطان ، قيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة ، قال : ترك الغضب ، وقال عمر بن عبد العزيز : قد أفلح من عُصم من الهوى والغضب والطمع .
الحديث السابع عشر :
عن أبي يعلي شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن رسول الله ﷺ قال : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » . رواه مسلم .
هذا من الأحاديث الجامعة لقواعد كثيرة في الأصول والفقه ، ومعنى إحسان القتلة أن لا يقصد التعذيب للمقتول ، وإحسان الذبحة أن يرفق بالبهيمة عند الذبح . قال الإمام أحمد : تقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً وتوارى السكين عنها ، ولا يظهر السكين إلا عند الذبح ، وقال « ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها وتعرف أنها تموت » .
الحديث الثامن عشر :
عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل –رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال : « أتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق بخلق حسن » . رواه الترمذي . وقال حديث حسن؛ وفي بعض النسخ : حسن صحيح .
هذه وصية عظيمة جامعة لحقوق الله تعالى ، وحقوق عباده قال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ﴾ وتقوى الله تعالى : طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه . وقال ابن المبارك : حسن الخلق بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى ، وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي ﷺ في هذا الحديث . فقال عز جل ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ .
الحديث التاسع عشر :
عن أبي العباس عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- قال : كنت خلف النبي ﷺ يوماً فقال : « يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف » . رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وفي رواية غير الترمذي « احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة؛ واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن يخطئك؛ واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً » .
هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ( قوله : « احفظ الله يحفظك) . أي احفظ حدوده وحقوقه يحفظك في دينك ودنياك ، قال بعض السلف : من حفظ الله في صباه حفظه الله في كبره ( قوله : « احفظ الله تجده تجاهك » . ) أي أمامك ؛ ومعناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ وهذه معية خاصة .
وقال تعالى : « إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً » . قال قتادة : من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ( قوله : « تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة » . ) هذه معرفة خاصة ، قال النبي ﷺ : « من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء » . وقد قال تعالى : ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ وقال ابن عباس في قوله تعالى : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ قال : ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة .
( قوله : « إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله » . هذا منتزع من قوله تعالى : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه ، والدعاء هو العبادة .
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ( أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله ! إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي فقال له النبي ﷺ : « إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت ما لهم مد من طعام أو صاع فاسأل الله عز وجل ، فرجع إلى امرأته وقالت : ما قال لك ؟ فأخبرها ، فقالت : نعم ما رد عليك ، فما لبث أن رد عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت ، فأتى النبي ﷺ فأخبره ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه وقرأ ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ وقال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك : ويحك ، تأني من يغلق عنك بابه ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ويقول : ادعني استجب لك ( قوله : « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك » . ) فيه الإيمان بالقدر ( قوله : « رفعت الأقلام وجفت الصحف » . ) هذا كناية عن تقدم كتابة المقادير والفراغ منها .
وفي الحديث عن النبي ﷺ : « أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » . ( قوله : « واعلم أن النصر مع الصبر » . ) هذا موافق لقوله تعالى : ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ قال بعض السلف : كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر ، وقال بعضهم : الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة .
قال الحسن : الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن . ( قوله : « وإن الفرج مع الكرب » . ) هذا يشهد له قول الله تعالى : « وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته » . ( قوله : « وإن مع العسر يسراً » . ) هذا منتزع من قوله تعالى : « سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً » .
الحديث العشرون :
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ : « إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فأصنع ما شئت » . رواه البخاري .
( قوله : « إن مما أدرك الناس » . ) يعني أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وفيه تهديد ووعيد لمنزوع الحياء ؛ فإن الحياء يكف صاحبه عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحثه على مكارم الأخلاق ومعاليها .
قال بعض السلف : رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .
الحديث الحادي والعشرون :
عن أبي عمرو ، وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ﷺ قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ؟ قال : « قل آمنت بالله ثم استقم » . رواه مسلم .
هذا الحديث جمع معاني الإسلام والإيمان كلها . وهو كقوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ قال عمر بن الخطاب : استقاموا والله على طاعته ، ولم يروغوا روغان الثعلب ، وقد قال النبي ﷺ : « استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن » .
الحديث الثاني والعشرون :
عن أبي عبد الله بن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - : « أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئاً أدخل الجنة ؟ قال : « نعم » . رواه مسلم .
ومعنى حرمت الحرام : اجتنبته ، ومعنى أحللت الحلال : فعلته معتقداً حله .
هذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة ، ويشهد لذلك قول الله تعالى : ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ وإنما لم يذكر الحج والزكاة في هذا الحديث ، لأن الزكاة لا تجب إلا على صاحب المال ، والحج لا يجب إلا على المستطيع ؛ وأما الصلاة والصيام وتحليل الحلال وترك الحرام فواجب على كل أحد .
الحديث الثالث والعشرون :
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ : « الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملا الميزان ، وسبحان الله والحمد الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة ، لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها » . رواه مسلم .
هذا الحديث أصل من أصول الإسلام ، وقد اشتمل على مهمات من قواعد الدين ( قوله : « الطهور شطر الإيمان » . ) أي نصفه؛ لأن خصال الإيمان قسمان : ظاهرة وباطنة ، فالطهور من الخصال الظاهرة ، والتوحيد من الخصال الباطنة ، ولهذا قال ﷺ : « ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » .
( قوله : « والحمد لله تملأ الميزان » . ) قال ابن دقيق العيد : معناه عظم أجرها يملأ ميزان الحامد لله تعالى ، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها ( قوله وسبحان الله والحمد الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ) وفي الحديث الآخر « التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه ) سبب عظم فضل هذه الكلمات ما اشتملت عليه من التنزيه لله تعالى والافتقار إليه وتوحيده ( قوله والصلاة نور ) أي لصاحبها في الدنيا ، وفي القبر ، ويوم القيامة . قال النبي ﷺ : « من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة » .
( قوله : « والصدقة برهان » . ) أي دليل واضح على صحة الإيمان؛ لأن المال تحبه النفوس ، وتبخل به فإذا سمحت بإخراجه لله عز وجل دل على صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده ( قوله : « والصبر ضياء » . ) الضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع
حرارة؛ لأن الصبر لا يحصل إلا بمجاهدة النفس . والصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله عز وجل ( قوله : « والقرآن حجة لك أو عليك » . ) أي إن عملت به فهو حجة لك؛ وإلا فهو حجة عليك : وفي الدعاء المأثور : اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ، ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في قفاه إلى النار ( قوله : « كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها » . ) أي : كل إنسان يسعى فمنهم من يبيع نفسه لله بطاعته فيعتقها من النار ، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى فليهلكها .
اللهم وفقنا للعمل بطاعتك وجنبنا معصيتك .
قال الحسن : ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح فليكن همك نفسك فإنك لن تربح مثلها أبداً .
الحديث الرابع والعشرون :
عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » . رواه مسلم .
هذا حديث جليل شريف ، وهو من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي ﷺ عن الله عز وجل ، ( قوله : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا » . ) يعني أن الله سبحانه وتعالى منع نفسه من الظلم لعباده وحرمه عليهم ( قوله : « يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي » . ) هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم ، وفيه أن الله تعالى يحب أن يسأله العباد ويستغفروه ، وفيه أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولا ينقص بمعصيتهم وأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص ، وأن ما أصاب العبد من خير فمن فضل الله تعالى ، وما أصابه من شر فمن نفسه وهواه .
الحديث الخامس والعشرون :
عن أبي ذر - رضي الله عنه - ( أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للنبي ﷺ: ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : « أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة؟ وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهى عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر » . رواه مسلم .
وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإحضار النية الصادقة في المباحات ، وأن له في ذلك أجراً إذا نوى إعفاف نفسه أو غير ذلك من المقاصد الحسنة ، وفيه أن الصدقة تكون بغير المال من جميع أنواع فعل المعروف و الإحسان .
وروي عن ابن عمر مرفوعاً « من كان له مال فليتصدق من ماله ، ومن كان له قوة فليتصدق من قوته ، ومن كان له علم فليتصدق من علمه » .
الحديث السادس والعشرون :
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ﷺ : « كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنتين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة » . رواه البخاري ومسلم .
السلامى : هي المفاصل والأعضاء ، قال النبي ﷺ : « خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل » . وفي حديث أبي ذر عند مسلم : « يصبح على كل سلامي أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة » . وقال في آخره : « ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى » . قال ابن دقيق العيد : أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد . وقال ابن عباس في قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ . صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ .
الحديث السابع والعشرون :
عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال : « البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس » . رواه مسلم .
وعن وابصة بن معبد –رضي الله عنه- قال : « أتيت رسول الله ﷺ فقال : « جئت تسأل عن البر » . ؟ قلت : نعم ، قال : « استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حالك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك » . حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين : أحمد بن حنبل ، والدارمي بإسناد حسن .
حسن الخلق : هو الأخلاق الحميدة كالإنصاف والرفق والعدل والإحسان . والإثم : هو ما أثر في القلب ضيفاً وحرجاً ونفوراً وكراهية ، وهذا يرجع إليه عند الاشتباه . وقال ابن مسعود –رضي الله عنه- : ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح ( قوله : « وإن أفتاك الناس وأفتوك » . ) هذا إنما يكون إذا كانت الفتوى بمجرد ظن من غير دليل شرعي .
الحديث الثامن والعشرون:
عن أبي نجيح العرباض بن سارية - رضي الله عنه - . قال وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : « أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة » . رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
لعل الموعظة التي أشار إليها العرباض شبيهة بما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال : خرج علينا رسول الله ﷺ : يوماً كالمودع فقال « أنا محمد النبي الأمي ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، وعلمتكم خزنة النار ، وحملة العرش ، وتجوز لي ربي وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه » . ( قوله : « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة » . ) . هاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة . قال الحسن : والله ما يستقيم الدين إلا بالأمراء وإن جاروا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون . ( قوله : « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين » . إلى آخره ) الخلفاء الراشدون هم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي - رضي الله عنهم - ، وفيه التمسك بالسنة في الاعتقادات والأعمال والأقوال ، والتحذير من البدع ، وهي ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة .
الحديث التاسع والعشرون:
عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال : « لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفي الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل » ثم تلا ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ حتى بلغ ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ ثم قال : « ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه » ؟ قلت : بلى يا رسول الله ؟ قال : « رأس الأمر وعموده : الصلاة وذروة سنامه الجهاد » ، ثم قال : « ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ؟ فأخذ بلسانه وقال : « كف عليك هذا » . قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : « ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم » . رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح . ( قوله : « أخبرني بعمل يدخلني الجنة » . ) فيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، وفي الحديث إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل ، ولما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل ، وفيه دليل على أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الفرائض ، وأن كف اللسان إلا عن الخير هو أصل الخير ، وفي الحديث الآخر : « أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفم والفرج » . وقال ﷺ : « من يضمن ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة».
الحديث الثلاثون :
عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر - رضي الله عنه - عن رسول الله ﷺ قال : « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحدد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها » . حديث حسن رواه الدارقطني وغيره .
هذا الحديث أصل كبير في أصول الدين وفروعه . وأخرج البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال : « ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً » . ثم تلا هذه الآية ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ » .
الحديث الحادي والثلاثون :
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال : « ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس » . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة .
اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين . قال أبو داود : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث : « إنما الأعمال بالنيات وحديث « الحلال بين والحرام بين » . وحديث « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » . وحديث « ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيد الناس يحبك الناس » . وقال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل . وسئل الزهري عن الزاهد؟ فقال : من لم يغلب الحرام صبره ، ومن لم يشغل الحلال شكره . وقال سعيد بن جبير : متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة ، وما لم يلهك فليس متاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه .
وقال أبو إدريس الخولاني : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أصبت بمصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها منها لو بقيت . وكان عمر يقول على المنبر: إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه ، وقال بعض السلف :
يقولون لي : فيك انقباض وإنما | رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما | |
أرى الناس من داناهم هان عندهم | ومن أكرمته عزة النفس أكرما | |
ولو أن أ هل العلم صانوه صانهم | ولو عظموه في النفوس لعظما | |
ولكن أهانوه فهان ودنسوا | محياه بالأطماع حتى تجهما |
وقال أبو أيوب السختياني : لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان : العفة عما في أدي الناس ، والتجاوز عما يكون منهم .
وفي الحديث عن النبي ﷺ : « من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة » .
الحديث الثاني والثلاثون :
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله ﷺ قال : « لا ضرر ولا ضرار » . حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً ، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي ﷺ فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضاً .
هذا الحديث أصل عظيم وقاعدة من قواعد الفقه ، زاد الحاكم « من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه » .
وفي الحديث الآخر « ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به » .
والضرر أن يدخل على غيره ضرراً بما ينتفع هو به بغير حق ، والضرار أن يدخل على غيره ضرراً بلا منفعة كمن منع ما لا يضره . وقيل الضرر أن يضر من لا يضره ، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز .
وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال : قال رسول الله ﷺ : « لا تضاروا في الحفر ، وذلك أن يحفر الرجل إلى جنب الرجل ليذهب بمائه » . وفيها أيضاً عن واسع بن حبان قال : كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمة فقال إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عني فأبى عليه فكلم النبي ﷺ فقال : « يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك واكفف عن صاحبك ما يكره » . فقال : ما أنا بفاعل ، فقال : « اذهب فأخرج له مثل عذقك إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ، ولا ضرار » . ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جداً فيجتهد الحاكم في ذلك ، فإن كان الضرر بحق أمضاه ، وإن كان للتعنت والبغي والتطاول والحسد فلا ضرر ولا ضرار؛ وقد قضى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه ، وقال لنمرن به ولو على بطنك .
الحديث الثالث والثلاثون :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال : « لو يعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر » . حديث حسن . رواه البيهقي وغيره هكذا ، وأصله في الصحيحين .
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الأحكام ، والبنية هي ما أبان الحق فيحكم الحاكم بإقرار المدعى عليه أو بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين المدعى ، وبيمين المنكر ، وبيمين الرد وبعلمه إذا لم يتهم .
وعن جابر - رضي الله عنه - : « أن رجلين اختصما في ناقة فقال كل واحد منهما نتجت هذه الناقة عندي ، وأقاما بينة فقضى بها رسول الله ﷺ للذي هو في يده » . رواه الدارقطني .
وكان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق أحد المتداعيين ، وقضى شريح في أولاد هرة تداعاها امرأتان كل منهما تقول : هي ولد هرتي ، قال شريح : ألقها مع هذه فإن هي قرت ودرت واستبطرت فهي لها ، وإن فرت وهرت وبارت فليس لها . وروى عن علي أنه حلف المدعي مع بينته إن شهوده شهدوا بحق ، قال إسحاق : إذا استراب الحاكم وجب ذلك ، وقال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع إنها تستحلف ، وقال أبو الزناد : كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة . وذكر القاضي أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفي من مدعيها بالصفة كاللقطة ، وإنه ظاهر كلام أحمد ، والله أعلم .
الحديث الرابع والثلاثون :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فلبسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » . رواه مسلم .
هذا الحديث يدل على وجوب تغيير المنكر بحسب القدرة . قال الإمام أحمد : التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح ، وقال ابن دقيق العيد : ولا يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كامل الحال ، لا يختص بأصحاب الولاية بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين ، وإنما يأمر وينهي من كان عالماً بما يأمر وما ينهى عنه ؛ فإن كان من الأمور الظاهرة مثل الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال فذلك للعلماء .
وقال الإمام أحمد : الناس محتاجون إلى مداراة ورفق ، الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له ، وقال أيضاً : يأمر بالرفق فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه ، وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ قال : « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها » .
الحديث الخامس والثلاثون :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ : « لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه » . رواه مسلم .
العمل بهذا الحديث من أعظم الأسباب الموصلة للتآلف بين المسلمين وقلة الشحناء .
الحديث السادس والثلاثون:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال : « من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه » . رواه مسلم بهذا اللفظ .
هذا حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب ، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما يشير من علم أو مال أو معاونة أو إشارة أو نصيحة أو غير ذلك ، وفيه أن الجزاء من جنس العمل ، وأن السعي في طلب العلم سبب لدخول الجنة ، وفيه فضل الجلوس في المساجد وتلاوة القرآن ومدارسته بطمأنينة ووقار . وعن أنس قال : كانوا إذا صلوا الغداة فقعدوا حلقاً حلقاً يقرءون القرآن ، ويتعلمون الفرائض والسنن ويذكرون الله تعالى ، وفيه أن الجزاء على الأعمال لا على الأنساب ، قال بعضهم :
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه | فلا تترك التقوى اتكالاً على النسبْ | |
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ | وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب |
الحديث السابع والثلاثون :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى : « إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعمها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة » . رواه البخاري ومسلم في صحيحهما بهذه الحروف .
فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى . وتأمل هذه الألفاظ ، وقوله عند إشارة إلى الاعتناء بها ، وقوله : « كاملة » .للتأكيد وشدة الاعتناء بها ، وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها : كتبها الله عنده حسنة كاملة فأكدها بكاملة ، وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة ، فالله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق .
هذا حديث شريف عظيم بيّن فيه النبي ﷺ مقدار ما تفضل به الله عزّ وجلّ على خلقه من تضعيف الحسنات وتقليل السيئات ، زاد مسلم بعد قوله : « وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ، أو محاها ، ولا يهلك على الله إلا هالك » . قال ابن مسعود: ويل لمن غلبت وحداته عشراته . قال العلماء : إن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان وقد تضاعف بشرف فاعلها وقوة معرفته كما قال تعالى : « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ، وكان ذلك على الله يسيراً ، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ، واعتدنا لها رزقاً كريماً » .
الحديث الثامن والثلاثون :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : « إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه،ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذته » . رواه البخاري .
هذا أشرف حديث في ذكر الأولياء ، وولي الله تعالى من امتثل أمره واجتنب نهيه ، قال تعالى : ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ قال خباب بن الأرت لرجل : تقرّب إلى الله تعالى ما استطعت ، واعلم أنك لن تقرب إلى الله بشيء هو أحبّ إليه من كلامه ( قوله : « فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به » . إلى آخره ) كقوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ قال ابن رجب : المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به ، والشوق إليه ، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ، ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله ، وإن سمع سمع به ، وإن نظر نظر به ، وإن بطش بطش به ، فهذا هو المراد بقوله : « كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها » .
الحديث التاسع والثلاثون :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي ﷺ قال : « إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما .
الخطأ والنسيان لا إثم فيهما ورفع الإثم لا ينافي ترتب الحكم في بعض الأحكام كما لو قتل مؤمناً خطأ فعليه الدية والكفارة ، ومن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، ومن صلى محدثاً ثم ذكر فعليه الإعادة ، ولو صلى حاملاً نجاسة لا يعفي عنها ثم علم بها بعد صلاته أو في أثنائها فأزالها فهل يعيد صلاته أم لا؟ فيه قولان للعلماء ، وقد روي عن النبي ﷺ : « أنه خلع نعليه في صلاته وأتـمَّها وقال : إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى « ولم يُعد صلاته ، ولو تكلم في صلاته ناسياً لم تبطل ، ولو أكل ناسياً لم يبطل صيامه .
والإكراه نوعان : أحدهما من لا اختيار له بالكلية ولا قدرة له على الامتناع فهذا لا إثم عليه بالاتفاق ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء . والنوع الثاني من أكره بضرب أو غيره حتى فعل فهذا الفعل يتعلق به التكليف فإن أمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل لكن ليس غرضه نفس الفعل بل دفع الضرر عنه فهو مختار من وجه غير مختار من وجه آخر؛ ولهذا اختلف الناس هل هو مكلف أم لا؟ واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يصح له أن يقتله فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل .
وإذا أكره بغيره حق على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام ، وكانوا لغواً؛ فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به فلذلك عفي عنه ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة ، وبهذا فارق الناس والجاهل ، وسواء في ذلك العقود كالبيع والنكاح والفسوخ كالخلع والطلاق والعتاق ، وكذلك الإيمان والنذور ، وهذا قول جمهور العلماء ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد .
الحديث الأربعون :
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : « أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل » . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك . رواه البخاري .
هذا الحديث أصل في الزهد وقصر الأمل ، لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها ، وعابر السبيل يكتفي بأقلّ زاد ولا يأخذ ما يعوقه عن وطنه . وفي الحديث اغتنام الأعمال الصالحة قبل فواتها قال بعضهم:
ترحل من الدنيا بزادٍ من التقى | فعمرك أيام وهن قلائلُ | |
وما أقبح التفريط في زمن الصبا | فكيف به والشيب للرأس شاعلُ ؟ |
الحديث الحادي والأربعون :
عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » . حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح .
هذا الحديث موافق لقوله تعالى : ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ قال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده . وقال تعالى : « قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » .
فجميع المعاصي والبدع إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبته ورسوله ، قال بعضهم :
تعصي الإله وأنت تزعم حبّه | هذا لعمري في القياس شنيع | |
لو كان حبك صادقاً لأطعته | إن المحبّ لم يحبّ مطيــع |
الحديث الثاني والأربعون :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ، ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة » . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة وحلم وكرم عظيم ، وما لا يحصى من أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والامتنان .
قال الحسن : أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وأسواقكم ومجالسكم وأينما كنتم فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة . وقال قتادة : إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم ، فأما دواؤكم:فالذنوب ، وأما دواؤكم : فالاستغفار . قال بعضهم :
أستغفر الله مما يعلم الله | إن الشقيَّ لمن لا يرحـم الله | |
ما أحلم الله عمن لا يراقبه | كلّ مسيء ولكن يـحلم الله | |
فاستغفر الله مما كان من زلل | طوبى لمن كفّ عما يكره الله | |
طوبى لمن حسنت منه سَرِيرته | طوبى لمن ينتهي عما نهى الله |
الحديث الثالث والأربعون :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : « ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر » . أخرجه البخاري ومسلم .
هذا الحديث مشتمل على أحكام المواريث ( قوله ﷺ : « ألحقوا الفرائض بأهلها ») أهل الفرائض هم المذكورون في قوله تعالى : ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ﴾ الآيتين ، وقوله تعالى : ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ الآية ، فاشتملت الآيات على ميراث الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات والإخوة والأخوات ؛ فميراث الأولاد في قوله تعالى : ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ وميراث الوالدين في قوله تعالى : ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾ وميراث الأزواج في قوله تعالى : ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ﴾ وميراث الزوجات في قوله تعالى : « وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ » .
وميراث الإخوة من الأمّ في قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾ وميراث الإخوة من الأدب في قوله تعالى : ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( قوله ﷺ : « فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر » . ) أي ما بقي بعد الفروض فهو للعصبة ، وأقربهم البنوّة ثم بنوهم وإن نزلوا ثم الأب ثم الجد من الأب وإن علا ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب وإن نزلوا ثم الأعمام ثم بنوهم كذلك ثم المولى المعتق ثم عصبته كذلك .
الحديث الرابع والأربعون :
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال : « الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة » . هذا الحديث من جوامع الكلم وفي رواية « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » . وقد قال الله تعالى : ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء ﴾ إلى قوله : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾ إلى آخره . فتحرم الأم بالرضاع كما تحرم بالنسب ، وكذا الجدات وإن علون والبنات وبنات الأولاد وإن سفلن والأخوات من كل جهة والعمّات وعّمات الوالدين وإن علوا ، والخالات وخالات الوالدين وإن علوا ، وبنات الأخ وبنات الأخت وبنات أولادهم وإن سفلن ، وأمّ الزوجة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب فيحرمن بعقد النكاح؛ وأمّا الربائب وهنّ بنات المرأة من غيره وبنات أولادها وإن سفلن فلا يحرمن إلا بعد الدخول ، وزوجات أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد ، وكذا حلائل الأب والأجداد وإن علوا ، وكل امرأة تحرم بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين كالأختين من نسب أو رضاع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها .
الحديث الخامس والأربعون :
عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ عام الفتح وهو بمكة يقول : « إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس . قال : « لا هو حرام » . ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك : « قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فأجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه » . أخرجه البخاري ومسلم .
( قوله : « هو حرام » . ) أي البيع ، زاد أبو داود : « وإن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه » . وفي الحديث إبطال الحيل والوسائل إلى المحرّم .
قال ابن رجب : ويلتحق بالأصنام كتب الشرك والسحر والبدع وكذلك الصور وآلات الملاهي المحرّمة .
الحديث السادس والأربعون :
عن أبي بردة عن أبيه عن أبى موسى الأشعري ( أن النبي ﷺ بعثه إلى اليمن فسأله عن الأشربة تصنع بها . فقال : « وما هي » ؟ قال : البتعُ والَمزْرُ ، فقيل لأبي بردة : ما البتع ؟ قال : نبيذ العسل ، والمزر : نبيذ الشعير ، فقال : « كل مسكر حرام » . أخرجه البخاري .
هذا الحديث أصل في تحريم جميع المسكرات المغطية للعقل ، وفي الحديث الآخر « كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام » . وفي الحديث الآخر ( نهى رسول الله ﷺ عن كل مسكر ومفتر ) . وقد اختلف العلماء في التنباك ونحوه ؛ فقال بعضهم يكره ، وحرمه بعضهم ، وهو الصواب؛ لأنه من الخبائث ومفاسده كثيرة .
الحديث السابع والأربعون :
عن المقدام بن معد يكرب . قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : « ما ملأ ابن آدم وعاءاً شراً من بطنٍ ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه » . رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن .
هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . قال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس الداء . قال محمد بن واسع : من قلّ طعامه فهم وأفهم . وقال مالك بن دينار : لا ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة .
وقد قال الله تعالى : ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ . وفي مسند البزار وغيره عن فاطمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال : « شرار أمتي الذين غذوا بالنعم ، يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام » .
الحديث الثامن والأربعون :
عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ : « أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر » . أخرجه البخاري ومسلم .
النفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو نوعان : اعتقادي وعملي .
وفي الحديث الآخر : « آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أ خلف ، وإذا اؤتمن خان ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم » . رواه مسلم .
فالاعتقادي : هو النفاق الأكبر ، وصاحبه مع الكفار مخلد في النار قال الله تعالى : ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ .
وقال تعالى : « إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً » .
والنفاق العملي : هو النفاق الأصغر وهو من أكبر الذنوب .
الحديث التاسع والأربعون:
عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال : « لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يزرق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » . رواه الإمام والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن صحيح .
هذا الحديث أصل عظيم في التوكل ، وقد قال الله تعالى : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ .
وحقيقة التوكل هو الاعتماد على الله عزّ وجلّ في استجلاب المصالح ودفع المضار . وقال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان . واعلم أن التوكل لا ينافي السعي في الأسباب فإن الطير تغدو في طلب رزقها وقد قال الله تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ﴾ قال يوسف بن أسباط : كان يقال اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله ، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له . وفي حديث جابر عن النبي ﷺ : « لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم » . وقال معاوية بن قرّة : لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال بلى أنتم المتأكلون ، إنما المتوكل الذي يُلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله . وقال ابن عباس : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله هذه الآية : « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » . وقد قال النبي ﷺ : « المؤمن القوي خير واحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان .
الحديث الخمسون :
عن عبد الله بن بشر قال : « أتى النبي ﷺ رجل فقال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على قباب نتمسك به جامع ، قال : « لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله» أخرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
هذا الحديث موافق لقوله تعالى : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ الآيات ، وقد قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ قال كعب : من أكثر ذكر الله برئ من النفاق .
وقال الحسن : أحبّ عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكراً وأتقاهم قلباً .
وكان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه أمجنون صاحبكم؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال : لا يا أخي ولكن هذا دواء الجنون ، وقد قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ وعموم هذه الآية يجمع معنى ما تقدم من الأحاديث ، والله أعلم .