×
تطغى الأحزان على من جهل أصل الحياة وحقيقتها وذلك حين يستسلم لأنكادها، ويصنع منها مأساته وبأساءه، جاهلاً دواء الأحزان، ومنهج مدافعتها في الحياة . وهذا الكتيب يبين كيف يعالج الإنسان أحزانه.

 لماذا تحزن ؟

القسم العلمي بدار ابن خزيمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقـدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:

فلا يزال المرء – ما دام في الحياة – يكابد صعابها .. ويجاهد عناءها .. تدركه الهموم فيها أحيانًا فيقهر .. وتخطئه حينًا فيفرح .. وهكذا يعيش زمانه بين أفراح وأتراح .. وأحزان وانشراح .. وتلك سنة الله في الحياة.

على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة

وميت ومولود وبشر وأحزان

وحياة الإنسان في الدنيا لم تخلق عارية عن الأحزان. خالية من البلاء.. سهلة مريئه .. بل خلقت ممزوجة حلاوتها بمرارة البلاء.. ومخلوطة لذتها بشيء من الكبد والشقاء .. ولذلك قال تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4].

وها هو الإنسان – أي إنسان – مهما كان شأنه يكابد ليعيش .. يكابد تعبه بالراحة .. وجوعه بالأكل .. وعطشه بالارتواء .. وحرارته بالظل .. وبرده باللباس .. ومرضه بالدواء .. وشيطانه بالذكر .. ودنياه بتذكر خير المعاد .. وهواه بالمجاهدة .. وأحزانه بالصبر.. وظلم الناس بالخلق الحسن.. ولا يزال يدافع أنكاد عيشه .. ومنغصات حياته في رحلته إلى الله.

والسر في أن حياة الإنسان تحتاج منه للتغلب على صعابها هو أن الحياة ذاتها خلقت لأجل امتحانه. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 1 – 2].

فأفراحه بلاء .. يبتلى فيه بالشكر

وأحزانه بلاء يبتلى فيه بالصبر..

ولا يزال بين البلاءين حتى يلقى الله.

وتطغى الأحزان على من جهل أصل الحياة وحقيقتها .. وذلك حين يستسلم لأنكادها .. ويصنع منها مأساته.. وبأساءه .. جاهلاً دواء الأحزان .. ومنهج مدافعتها في الحياة .. فكيف ذلك؟

 أكثر ما يخاف لا يكون

يشكل الخوف من خفايا الغد جانبًا خطيرًا في شخصية المسلم.. فهو فجوة كبيرة تتسلل منها أفكار تتوقع شرًا.. وأخطار تتوجس ضرًا .. لتفرخ في قلب الخائف أحزانًا يتفطر لها القلب.. وتنهزم أمامها النفس، ويندثر معها التفاؤل .. وتتلاشى بوجودها إشراقات الأمل ..

وكلما ازداد الخوف من الغد .. ازداد الهم والغم والقلق..

لماذا تخاف من الغد وأنت لا تدري ماذا تكسب فيه؟ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لقمان: 34].

لماذا تحطم قلبك. وتتعب فكرك في شيء لم يك بعد شيئًا.؟

ألم تعلم أن أكثر ما يخاف لا يكون.؟

وأن المستقبل لا تؤثر فيه الظنون..

وأن تقلب الأيام ودوران الأحوال فنون..

وأن قدرة الله في شؤون الخلق فوق إدراك العقول.. ونظر العيون..

ألم تر كيف تباد في ليلة أمم. وترفع في لحظة أمم؟!

ألم تر كيف يظهر الله العجائب من العدم..؟

إن قدرة الله على الخلق .. وآياته في القضاء والقدر.. وحوادث الأيام .. وحكايات الزمان.. ومنطق العقل.. كلها تدل على أن أحوال الزمان غريبة الأطوار .. متقلبة الأنماط .. لا تحكمها القوانين العقلية.. ولا التخمينات النظرية..

فمهما توقع المتوقعون .. وتوحي المتوحون .. ونظر المنظرون .. فحكمة الله في خلقه ماضية .. وقضاؤه في الحياة سار..

إن الليالي والأيام حاملة

وليس يعلم غير الله ما تلد

فلماذا تحرم نفسك لذة الاستمتاع بالحاضر.. لتجعل أوقاتك الثمينة مستهلكة في توقعات حزينة .. تؤرق ليلك .. وتهد عافيتك وتحرق قلبك..

لماذا تقفز على واقع الحاضر .. وتفر من سلامته وهدوئه .. وعافيته .. لتقتحم بخيالك ظلمات الغد.. وتكتب أقداره بالشكوك والوساوس والظنون .. ثم تصدقها .. وتتجرع آلامها.. وأنت لا زلت من أهل الحاضر لم تبارح مكانه .. ولم تمض زمانه!

عندك مال يكفيك .. وتخاف من فقر الغد!

وعندك عافية وهناء.. وتخاف من المرض.. وانعدام الشفاء!

تظل خائفًا تترقب .. ترى بعين التشاؤم غدك في أسوأ صورة .. وأقتم لون.

أين ثقتك بالله؟ أين توكلك عليه؟ أين اطمئنانك إليه؟

أين حسن ظنك به؟ أين تفويض أمورك إليه؟

أولست تقرأ في القرآن ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] أو نسيت أن توفيقك وهداك.. وطعامك وشفاءك .. وكفايتك وأمنك بيده وحده؟ ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 79 – 80].

﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38].

سأل رجل حاتمًا الأصم فقال: علام بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟

قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت نفسي. وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتين بغتة فأنا أبادره وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستح منه.

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة

إذا اخضر منها جانب حف جانب

وما الدهر والآمال إلا فجائع

عليها وما اللذات إلا مصائب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرة

على ذاهب منها فإنك ذاهب

كن ابن يومك .. أحضر فيه فكرك. واشتغل فيه بما ينفعك .. فإن يومك حقيقة .. وغدك خيال .. فلا تترك الحقائق وتشتغل بالخيال .. دع عنك شر الغد فإنه حكم الغيب .. ولا يعلمه إلا الله.. ولا يدبر الأمر إلا هو. ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].

 إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون

لا شك أن الطموح وعلو الهمة في اكتساب السعادة والحياة الهنية محمود عند من وثق في نفسه الشكر على النعم.

والإنسان ـ كل إنسان – يسعى في كل وقت وحين ليعيش عيشة راضية هنيئة عارية عن المصائب والبلاء والأحزان .. كما قال تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4].

لكن ليس كل ما يريده الإنسان يكون..

وهنا حينما يتناقض واقع الحياة مع طموح الإنسان .. وحينما تسبح آماله ضد تيار الأقدار .. ثم لا يكون في قلبه نور الرضى .. يصيبه الإحباط ويصرعه اليأس .. وتسكنه الأحزان .. ولا يزال كذلك قلقًا كئيبًا واجمًا وهو يرى آماله محطمة حتى يدب فيه التشاؤم .. فلا يأمل في خير أبدًا .. وحينما تصبح أحزانه مزمنة وهمومه من قلبه متمكنة..

أخي .. تذكر أنك مؤمن بالله جل وعلا.. وأن من مفردات إيمانك بالله أن تؤمن بقضائه وقدره . وأنه سبحانه لم يظلمك شيئًا وأنه عدل في حكمه رحيم في تقديره.

ومقتضى إيمانك بالقدر أن تعلم أنك لست من يحدد سير حياتك وإنما يحددها.. ويقدرها لك الله سبحانه .. وفق حكمته وخبرته بك وبحالك وبأعمالك..

فهو ينعم على قوم بألوان من النعم.. يحسبها الناس نعمًا .. وهي في حقيقتها نقم في صورة نعم .. فهؤلاء قوم قارون قد غبطوه على غناه.. وتمنوا مكانته وعزه وجاهه لما رأوا عليه من النعيم .. لكن لما جاء أمر الله وخسف به .. تبين لهم أن نعمه على قارون كانت أشد استدراجًا وتغريرًا به .. وهناك علموا أن ما كانوا فيه هو النعمة .. وأن نعمة قارون هي النقمة .. ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82].

وكما أن النعمة ستكون حقيقتها نقمة .. فكذلك المصيبة تأتي نعمة من الله.. يتولد منها الصبر الذي هو مفتاح الجنة .. ويكتسب بها لأجر العظيم، ولذلك جعل الله بلاءه لأنبيائه وعباده المتقين دليلاً على محبته لهم.

تأمل أخي .. في الجمع بين المحبة والبلاء.. وأن ابتلاء الله لعبده هو دليل على محبته .. فهذه حقيقة لا تستقر إلا في قلب فقيه مؤمن مدرك لحقيقة الحياة ومراد الله فيها من عباده.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» السلسلة الصحيحة رقم (146).

علام تحزن وقد علمت أنه لا يتصرف في الكون غير الله .. وأن ما أنت فيه قد أراده الله .. فإن كنت عن مرادك راضيًا .. ولست عن مراد الله راضيًا فإنك أبله! أين علمك في علم الله.. وأين اختيارك لنفسك من اختيار الله لك..

العبد ذو ضجر والرب ذو قدر

والدهر ذول دول والرزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا

وفي اختيار سواه اللوم والشوم

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة أو الإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه فإني إن يسرته أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتصبر، يقول سبقني فلان دهاني فلان. وما هو إلا فضل الله عز وجل.

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحميه كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب تخافون عليه» رواه أحمد، صحيح الجامع (1810).

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلى الله بعض الناس بالنعم

 اكتسب موهبة النسيان

كثير من الناس يظنون النسيان آفة ونقمة .. لا يرون له حسنة تذكر! بينما لو تأمل الإنسان أمره لوجده نعمة في أحيان كثيرة.

إنه آلة معنوية عجيبة .. تمر على ذكريات السوء .. والأحزان والآلام والهموم .. فتمسحها وتذرها قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا.

تصور – أخي – لو عاش ابن آدم من غير – نسيان – تلازمه الهموم كما لو وقعت قبل لحظة .. فلا يختلف وقعها حين حصولها .. عن وقعها بعد عشر سنين! كيف ساعتها ستكون حياة الإنسان!

إن الحزن والهم والفاجعة تكون أقوى مما تكون حال حصولها ثم لا تزال تتآكل آثارها .. وتنمحي أصداؤها ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم.. حتى تصبح مجرد ذكرى مأساة لا تضر إلا أذى قليلاً .. وربما زال وقعها البته..

وإن شئت أن تتآكل أحزانك .. وتذوب همومك .. فاكتسب موهبة النسيان .. وكن مبدعًا في استعمالها!

ليس القصد أن تتهرب من مسؤولياتك..

ولا أن تتجاهل أمورًا لا يزال عليك علاجها..

لكن المقصود هو إقصاء الماضية.. والأحداث المؤلمة .. والفواجع الجاثمة على مساحة شاسعة في ذكريات الحياة.

تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجهك إلي منهج التعامل مع هموم الماضي فيقول «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.

هذا هو المنهج السليم للتعامل مع أحداث الماضي المؤلمة! وهو يتكون من ثلاثة نقاط حاسمة:

الأولى: اليأس من احتمال واقع افتراضي جديد للماضي، وهو ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا..

الثانية: التسليم بقضاء الله وقدره إذ قدر الله الأشياء قبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة، وهذا من الأصول الإيمانية التي يعتقدها كل مسلم وهو ما دل عليه حديث جبريل الطويل حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقد خيره وشره رواه البخاري مطولاً.

الثالثة: التسليم بمشيئة الله الفعلية النافذة في العباد.. إذ كل ما انقضى من الأمور إنما كان بمشيئة الله سبحانه .. فهو من قدر وشاء وفعل..

وهذه والتي قبلها ما دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».

فهذا أدب المسلم مع الأحداث الماضية.. أن يستأنس في نسيانها بالرضي بالقضاء.. ومشيئة الله .. وأن يعلم أنه عاجز على إنفاذ ما يروج في ذهنه من تغييرها..

ومما يساعد المسلم على نسيان أحزانه أن يشغل نفسه بما ينفعه .. فإن الأحداث ينسي بعضها بعضًا.. والأيام آكلة الأحزان..

ستمضي مع الأيام كل مصيبة

وتحدث أحداث تنسي المصائبا

فرغ قلبك من ذكريات الماضي .. وعود نفسك نسيان أحداثه .. لا تحم حول مسرحه .. واقطع حبال وصلك به .. أشغل لسانك بذكر الله عن ذكره.. وبالتفكير في مصيرك عن نكده .. وبأشغال نافعة عن فواجعه واجعل شعارك في كل يوم:

وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت  

أقلب كفي أثره متندما

 استعن بالله وكن قنوعًا

هناك آيتان في كتاب الله تبين للمسلم كيفية الاستعانة بالله جل وعلا.. واكتساب عونه وكفايته وعنايته.. الأولى قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]. فهنا جمع الله بين أمرين: الأول عبادة المسلم لربه ، والثاني عونه له إذا عبده وطلب عونه.

أما الثانية فهي قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36] فعون الله وكفايته لعبده تكون على قدر تحقيقه لعبوديته .. واهتمامه بأوامره ودينه .. ولهذا فإن أطيب الناس عيشًا وأحقهم بعون الله وتوفيقه من جعل همه في الله..

أيها المتعب جهدًا نفسه

يطلب الدنيا حريصًا جاهدًا

لا لك الدنيا ولا أنت لها

فاجعل الهمين همًا واحدًا

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك ويقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا كفاه الله سائر الهموم.. ومن تشعبت به الهموم من الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك».

قال محمد بن سوقة : أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما العذاب: أحدنا يزداد في دنياه فيفرح فرحًا، ما علم الله منه قط أنه فرح بشيء قط زيد في دينه مثله، وأحدنا ينقص من دنياه فيحزن حزنًا ما علم الله منه قط أنه حزن على شيء نقصه من دينه مثله.

علام تحزن.. ودنياك كلها سجن قد حبست فيه.. تنظر متى يفرج عنك لترجع إلي بيتك الفسيح النعيم في الجنان.

اسمع إلي وصية عبد الله بن عمرو وهو يصف الدنيا يقول: إن الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن.. وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها.

تمر الليالي والحوادث تنقضي

كأضغاث أحلام ونحن رقود

وأجب من ذا أنها قدر ساعة

تجد بنا سيرًا ونحن قعود

والقناعة – أخي – صخرة تتفتت عليها سائر الهموم.. وذلك لأن منشأ الهموم والأحزان في القلب.. فمتى اشتد فيه خليط الرغبات والطمع والجشع تولد فيه من الحسرة بقدر ما يخطئ من تحقيق تلك الرغبات ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الغنى غنى القلب.. وإنما الفقر فقر القلب صحيح الترغيب والترهيب رقم (3203).

قال شميط بن عجلان: إنسانان معذبان في الدنيا:

غني أعطي الدنيا فهو بها مشغول.

وفقير زويت عنه فهو يتبعها نفسه. فنفسه تتقطع عليها حسرات.

قال الفضيل بن عايض: المؤمن في الدنيا مهموم حزين .. همه خرقة جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلي وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم.

من شاء عيشًا رحيبًا يستطب به

في دينه ثم في دنياه إقبالاً

فلينظرن إلي من فوقه ورعًا

ولينظرن إلي من دونه مالاً

 وقال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة.

وقال سلمة بن دينار: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك، فأدنى عيش من الدنيا يكفيك، وإن كان يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك.

حتى متى أنت في حل وترحال

وطول سعي وإدبار وإقبال

ونازح الدار لا ينفعك مغتربًا

عن الأحبة لا يدرون بالحال

بمشرق الأرض طولاً ثم مغربها

لا يخطر الموت من حرص على بال

ولو قنعت أتاك الرزق في دعة

إن القنوع الغنى لا كثرة المال

قال عمر: الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن.

 الصبر شرط الحياة

لقد علمت – أخي – أن الحياة بطبيعتها بلاء يبتلى الإنسان فيها بأنواع من المضار .. والمكروهات تستوجب منه صبرًا وثباتًا!

وفي هذا..

في هذا يشترك المؤمن والكافر .. والصغير والكبير، والغني والفقير.. والرفيع والوضيع، والذكر والأنثى.. فكل الناس مشروط بقاؤه بمدافعة منغصات الحياة.. ومكابدة صعابها .. لكن ما يميز المؤمن عن غيره: أن صبره على ما يصيبه في الحياة إنما يكون لله سبحانه .. فهو يتعبد الله بصبره على كل ضر.. كما يتعبده بالشكر على كل نعمة. وفي مواضع كثيرة يقرر القرآن الكريم أن استخراج الصبر من المؤمن هو غاية البلاء .. وأن صبره هو شرط الفلاح والنجاح في ذلك البلاء.. ولأجل تثبيت المؤمن على الصبر ذكره الله مبينًا فضله وحاثًا عليه في أكثر من سبعين موضعًا في كتابه العزيز..

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31].

فمن لم يحصن نفسه بالصبر غزته جيوش الأحزان .. وتلاعبت بسخطه .. وضجره .. فإذا هو صريع فزع قلق لا يقوى على مواجهة المضار.. ولا تحلو له بضجره وقلقه الحياة.

إن الحياة هي كما خلقها الله أول مرة.. مرض بعد عافية .. وفقر بعد غنى .. وفرقة بعد اجتماع.. وجوع بعد شبع .. وخوف بعد أمان.. لا تثبت على حال..

صعبت على كدر وأنت تريدها

صفوًا من الأقذاء والأكدار

 يقول ابن الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تكثر فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم عانى المحن إلي أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائه عام، وإبراهيم يكابد النار ، وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى قاسى من فرعون ولقي من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري والعيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، صابر الفقر، وقتل عمه حمزة ـ وهو أحب أقربائه إليه ـ . ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ للمؤمن منها. (تسلية أهل المصائب ص 31).

إذًا.. فلا مفر للإنسان من المصائب في الدنيا مهما كان شأنه.. ولا مقر له من ركوب الصبر ليعبر به وادي الأحزان.. ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر شرط السعادة ، وعلاج الأحزان ، فقال: إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر.

اصبر لكل مصيبة وتجلد

واعلم بأن المرء غير مخلد

أو ما ترى أن المصائب جمة

وترى المنية للعباد بمرصد

من لم يصب ممن ترى بمصيبة

هذا سبيل لست عنه بأوحد

وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها

فاذكر مصابك بالنبي محمد

وهذا رسول الله صلى اله عليه وسلم يجعل الصبر شرط الإيمان، ويمتدح المؤمن الصابر في سياق التعجب من استواء حالات النعمة والمصيبة لديه فيقول: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ـ وليس ذلك لأحد إلا المؤمن ـ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن» رواه مسلم.

 كن سمحًا

لا شيء يمكن أن يقارن بقدرة المرء على الغفران!

وأنت إذا تأملت في عامة الهموم والأحزان وجدتها وليدة علاقات اجتماعية سلبية يكون الظلم وسوء الخلق محور سلبياتها..

فأحزان البيوت.. عامتها من خلل العشرة الزوجية.. فزوجة تشكو قسوة زوجها.. وزوج يئن تحت غطرسة زوجته .. وأبناء يتضاغون افتقارًا إلي كنف المودة وظل الحنان! وآباء يشكون من أبنائهم العقوق..

وآخر في عمله يشكو من حاسد إذا حسد .. وآخر يشكو ظالمه للصمد.. وثالث قد أخذ ماله .. ورابع قد هتك عرضه.. وخامس مكروا به فإذا هو سجين .. يسمع لأنينه الأنين .. وقائمة هذا النوع من الأحزان طويلة لكثرة ما في الظلم من ألوان! وفي كل هذه الأحوال الجالبة للحسرة والأحزان ؛ يظل علاج السماحة هو الدواء الشافي.. ينزل على الحزن والهم والغم.. فيذيبه كما يذوب الملح في الماء.

وليس هذا بدعًا من القول.. وإنما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أطيب الخلق.. وكان أسعد الناس حياة.. ومن أسرار سعادته وطيب نفسه أنه لم يكن ينتقم لنفسه قط.. بل كان يعفو ويصفح ويحسن إلي من أساء إليه.. ويدعو إلي مكارم الأخلاق .. وترك الغضب واجتناب الانتقام للنفس، وكان صلى الله عليه وسلم يقول «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا».

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه أبو داود. وقد شهد له ربه بحسن الخلق فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].

فمن تأسى به في سماحته صلى الله عليه وسلم ، وعفوه ، وطيب خلقه فقد أخذ حظًا وافرا من السعادة وراحة البال ولتهنه السلامة.

وإذا تتبعت سير السلف رضوان الله عليهم والعلماء والحكماء وجدتهم أهل عفو وسماحة ورفق .. وهي صفات لا تجدها إلا في عاقل حكيم عالم. وهذا ابن القيم رحمه الله يصف حال شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: «وما رأيت أحدًا أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره».

وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه ، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له – فنهرني – وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلي بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلي مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام.

فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه (مدارج السالكين 2/328).

أخي .. إنك حين تسامح الناس على أخطائهم وعداوتهم وإيذائهم لك سواء أخطئوا أم تعمدوا فإنك بذلك تكون صاحب الشخصية الفذة الحكيمة .. وليس ذلك – بأي حال – دليلاً على ضعف شخصيتك وقلة صولتك.. كيف وأنت في سماحتك مقتد بسيد ولد آدم ونبي الله سبحانه..؟؟؟

ثم إن العفو والسماحة تثمر لك أربع ثمار ، لن تنالها قط بالانتقام والغضب والحقد أبدًا:

أولها: أنك تنال منزلة المتقين أهل الخلق الحسن الذين وصفهم الله بصفة الغفران وكظم الغيط، والعفو في آيات كثيرة فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133 – 134].

الثاني: إنك موعود بالنصر والعز إذا عفوت .. وفي هذا تحقيق للمقصود .. وتفويض لله جلا وعلا المتكفل بالعبادة.. فإذا كان المنتقم لنفسه يريد عزها.. فإن العز إنما يأتي بالعفو كما قال صلى الله عليه وسلم: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا» وقد قيل: ما انتقم عبد لنفسه إلا ذل!

الثالث: أن العفو فيه تطييب للخواطر.. وإخماد لنار العداوات فما ينال بالغضب والله جل وعلا يقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].

الرابع: أن العفو إذا لم يكتسب به ود العدو.. وانتهاء الظالم فأقل ثماره أنه يدفع العداوات، ويردع الأعداء عن تكرار الأذى لعلمهم بسماحة المعتدى عليه.. وأنه بعفوه يرغمهم على الانتهاء .. فإذا أظهر فربما ازداد حقدهم وإن كانوا ضعفاء.

وفي هذا يقول الشافعي رحمه الله:

لما عفوت ولم أحقد على أحد

أرحت نفسي من ظلم العداوات

أخي ..

مع التسامح والعفو تذوب الأحزان..

مع التغافل عن الأخطاء وترك المحاسبة تصفو المودة وتطول..

مع الحلم ونسيان أذية الغير تزول الهموم..

كن ذكيًا عاقلاً .. لكن إذا أخطأ أحد في حقك كمن أبله..

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي

قال الأصمعي: بلغني أن رجلاً قال لآخر: والله لو (إن) قلت واحدة لتسمعن عشرًا.

فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.

وشتم رجل الحسن وأربى عليه ، فقال له الحسن: أما أنت فما أبقيت شيئًا، وما يعلم الله أكثر.

ولله در القائل:

وإذا مرضنا أتيناكم نعودكم

وتذنبون فنأتيكم ونعتذر