×
فتوي عبارة عن سؤال أجاب عنه فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم - أثابه الله -، ونصه " هل التفل تجاه القبلة منهيّ عنه في المسجد وفي غير المسجد ؟ ".

    هل التفل تجاه القبلة منهيّ عنه في المسجد وفي غير المسجد ؟

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    فيه مقطع صوتي ، فيه مسألة حُكم البصقة أو التفلة أو النخامة تجاه القبلة خارج المسجد وخارج الصلاة .

    هل التفل تجاه القبلة منهيّ عنه في المسجد وفي غير المسجد ؟

    وقد أشكل عليّ ؛ لأن البصاق ليس مثل البول والغائط .

    وحفظك الله .

    الجواب :

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    وحفظك الله ورعاك .

    النّهي عن البُصاق في القِبلة في حالين :

    الأولى : إذا كان في الصلاة .

    والثانية : إذا كان في المسجد .

    ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في القِبْلة ، فَشَقّ ذلك عليه حتى رُئي في وَجهه ، فقام فَحَكّه بِيدِه ، فقال : إن أحَدَكم إذا قام في صلاته فإنه يُنَاجِي رَبّه - أو إنّ رَبه بينه وبين القِبلة - فلا يَبْزُقَنّ أحدكم قِبَل قِبْلَته ، ولكن عن يساره أو تحت قدميه ، ثم أخذ طَرَف رِدائه فَبَصَق فيه ثم رَدّ بَعضه على بعض ، فقال : أو يفعل هكذا . رواه البخاري ومسلم .

    وفي رواية للبخاري : إن المؤمِن إذا كان في الصلاة فإنما يُنَاجِي رَبّه ، فلا يَبْزُقَنّ بين يديه ، ولا عن يمينه ولكن عن يَسارِه ، أو تَحت قَدَمه .

    فهذا الحديث بِروايتيه يُبيِّن أن النّهي عن البَصق في القِبْلة إنما هو في حالَين : حال الصلاة ولو كان في غير المسجد ، وفي المسجد .

    والنّهي عن البُصاق في القِبْلَة مُعلَّل ، أي : معلوم العِلّة ، وهي أن الْمُصلّي يُناجِي ربَّه تبارك وتعالى ، وكذلك بَصق الْمُصلّي عن يمينه ؛ لأن عن يمينه مَلَك .

    ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يَبصق أمامه ، فإنما يُنَاجِي الله ما دَام في مُصَلاّه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه مَلَكا ، وليبصق عن يساره ، أو تحت قدمه فيَدْفنها . رواه البخاري .

    وكذلك في حديث أنس السابق ، وفيه : " إذا كان في الصلاة فإنما يُنَاجِي رَبّه ، فلا يَبْزُقَنّ بين يديه " .

    قال ابن رجب : وفي " تَهذيب الْمُدَوّنة " : ولا يَبصق في المسجد فوق الحصير ويَدْلكه ولكن تحته ، ولا يَبصق في حائط القِبلة ، ولا في مسجد غير مُحصّب إذا لم يَقدر على دَفن البُصاق فيه ، وأن كان المسجد مُحصّبا فلا بأس أن يَبصق بين يديه وعن يمينه وعن يساره وتحت قدمه ويَدفنه . انتهى .

    ولعلّ هذا في غير الصلاة .

    وقالت طائفة : لا يفعل ذلك في المسجد ، بل خارج المسجد ، ولا يَبزق في المسجد إلاّ في ثوبه ، أو يَبزق في المسجد ويَحذف بصاقه إلى خارج المسجد حتى يقع خارِجا منه .

    وهذا هو أكثر النصوص عن أحمد .

    وكان أحمد يبزق في المسجد في الصلاة ، ويَعطِف بِوَجهه حتى يُلقِيه خارج المسجد عن يَساره - نَقَله عنه أبو داود . اهـ .

    وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : البُزَاق في المسجد خطيئة ، وكفّارتها دَفْنها . رواه البخاري ومسلم .

    قال ابن رجب : قوله : " خَطِيئة " ظَاهِره يَقتضي أنه مَعصية ، وجَعل كَفّارة هذه المعصية دفنها .

    وهذا يَسْتَدِلّ به مَن يقول : إن البُزاق لا يجوز في المسجد مع دَفْنه ، كما لا يَجوز لأحدٍ أن يَعمل ذَنْبًا ويُتْبِعه بِمَا يُكفّره مِن الحسنات الْمَاحِيَة .

    وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عُرِضَت عليّ أعمال أُمّتِي ، حَسَنها وسَيّئها ، فَوَجَدْت في مَحاسِن أعمالها : الأذى يُمَاط عن الطريق ، وَوَجَدت في مساوئ أعمالها : النّخامة تكون في المسجد لا تُدْفن .

    وخَرّج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في " صحيحه " مِن حديث السائب بن خَلاّد أن رَجُلا أمَّ قَومًا فَبَزق في القِبلة ورسول الله يَنظر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فَرَغ : " لا يُصَلِّي لَكم " ، فأرَاد بعد ذلك أن يُصَلِّي لهم فَمَنَعوه ، وأخْبَروه بِقَول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَذَكر ذلك لِرَسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " نعم " . وحسبت أنه قال : إنك آذيت الله ورسوله .

    وخَرّج أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما " مِن حَديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " مَن تَفَل تجاه القِبْلة جاء يوم القيامة وتَفْله بين عينيه " .

    وخَرّج ابن خزيمة وابن حبّان مِن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يُبْعَث صاحِب النّخامة في القِبْلة يوم القيامة وهي في وَجْهه " . اهـ .

    ومما يدلّ على أن المقصود بالتّنخّم أو التَّفل تجاه القِبلة مَنهي عنه في الصلاة وفي المسجد أن الْمصَلِّين والملائكة يتأذّون بما فيه أذى .

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ . رواه مسلم .

    فقوله صلى الله عليه وسلم : مَن تَفَل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تَفْله بين عَينيه ، ومَن أكَل مِن هذه البَقْلة الخبيثة فلا يَقْرَبَنّ مَسجِدنا . رواه أبو داود ، وصححه الألباني والأرنؤوط . مثل ذلك ؛ لأنه قَرَن النهي عن التّفل تجاه القبلة بِالنّهي عن أكْل ما له روائح كَريهة كالبصل والثوم والكراث مما يتأذّى به المصلّي والْمَلَك ، وسبق في حديث أبي هريرة : " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يَبصق أمامه ، فإنما يُنَاجِي الله ما دَام في مُصَلاّه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه مَلَكًا " .

    ومما يُضعِف القول بِالعُموم : أن هذا حديث " مَن تَفَل تجاه القبلة " رواه أبو داود مِن طريق جَرير بن عبد الحميد عن أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان الشيباني عن عَدِيّ بن ثابت عن زِرّ بن حُبِيش عن حذيفة .

    بينما رواه البَزّار مِن الطريق نَفْسه بِلفظ : إذا بَصَق أحدكم في المسجد فلا يَبصق عن يمينه ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه .

    فهذه الرواية مِن نفس الطريق ، وفيها التقييد بالنّهي عن البَصق في المسجد .

    وحَمَله بعض أهل العِلْم على العموم .

    قال الصنعاني : وقد جَزَم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها ، سواء كان في المسجد أو غيره ، وقد أفاده حديث " أنس " في حَقّ الْمُصَلِّي ، إلاّ أن غيره مِن الأحاديث قد أفادت تحريم البصاق إلى القِبلة مُطْلقا في المسجد وفي غيره ، وعلى الْمُصَلِّي وغيره . اهـ .

    وقال الألباني : وفي الحديث دلالة على تحريم البصاق إلى القبلة مُطْلَقا ، سواء ذلك في المسجد أو في غيره ، وعلى المصلي وغيره . اهـ .

    والذي يَظهر : أن الحديث ليس له صِفَة العُموم في تحريم البِصْق تجاه القِبْلَة ؛ لِمَا تَقتَضِيه قواعد أصول الفِقه : مِن حَمْل الْمُطلَق على الْمُقيَّد .

    قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة " :

    ويُحْمَل المطلق على المقيد إذا اتّحدا سَبَبًا وحُكْمًا .

    إذا اجتمع مَعَنا لَفظ مُطلق ومُقيّد ؛ فإما أن يَتَّحد حُكمهما ، أو يختلف ، فإن اتَّحد حُكْمهما ؛ فإما أن يَتّحِد سَببهما أو يختلف ؛ فهذه ثلاثة أقسام :

    أحدها : أن يَتّحِدا في السبب والْحُكم ، وهو المراد باتّحادهما سَببا وحُكما ، أي : يكون سَبَبهما واحدا ، وحكمهما واحدا . فيُحمَل المطلَق على المقيّد إذا اتحدا سَبَبا وحُكْما .

    والقسم الثاني مِن أقسام المطلَق والمقيّد ، وهو أن يختلف سَببهما ويَتّحِدّ حكمهما ، كَعِتق رَقبة مؤمنة في كفارة القتل، وعِتق رَقبة مُطلقة في كفارة الظهار ؛ فحكمه كذلك ، أي : يُحمَل المطلَق على المقيّد .

    القسم الثالث من أقسام حَمْل المطلَق على المقيّد ، وهو أن يختلف حكمهما ؛ فلا يُحمَل أحدهما على الآخر ، سواء اتفق سببهما أو اختلف ، كتقييد الصوم بالتتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام فيها ، فإن سببهما واحد وهو كفارة اليمين ، وحكمهما مختلف ، وهو الصوم والإطعام .

    ومثال اختلاف السبب والحكم : تقييد الصوم بالتّتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار ، أو فدية الصوم ؛ فلا يُحمَل أحدهما على الآخر ؛ لأن شرط إلحاق أحدهما بالآخر اتِّحَاده ، أي : اتّحاد الْحُكم ، وهو هاهنا مختلِف ؛ فينتَفي الإلحاق لانتفاء شَرْطه . (بِتصرّف يسير)

    فالْمُطلَق نحو قول : " يُبْعَث صاحِب النّخامة في القِبْلة يوم القيامة وهي في وَجْهه "

    والْمُقيَّد ، نحو قول : " إن المؤمِن إذا كان في الصلاة فإنما يُنَاجِي رَبّه ، فلا يَبْزُقَنّ بين يديه " .

    ومَمّا يدلّ على التقييد : أن قِبْلَة الْمُصَلِّي مُحتَرَمة ، ولذلك نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم أن يَضَع الْمُصَلِّي حِذائه في قِبلتِه وهو يُصلِّي .

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صلى أحدكم فَخَلَع نَعْليه فلا يُؤذِ بهما أحدا ، ليَجعلهما بين رِجْليه ، أو لِيُصَلّ فيهما . رواه أبو داود .

    وفي الحديث الآخر : إذا صَلّى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد ، وليضعهما بين رجليه . رواه أبو داود .

    وما يَفعله كثير من الناس في أطهر البقاع مُخالِف لهذا الأمر النبوي ، فإنك ترى كثيرا من الناس إذا أراد أن يُصلي في الحرم المكي وَضَع نَعْلَيه أمامه ، ثم يتقدّم فتكون أمام غيره .

    وفي هذا امتهان لأطهر البِقاع ، وامتهان لِكَرامة المؤمِن الذي كَرّمه الله ، فيأتي مَن يأتي فيضع نِعاله أمَام المصلِّين ، وربما كانت قريبة جدا منهم في السجود ، بل إنها تُضايق أحياناً المصلين .

    وفاعل ذلك آثم بِفِعله ، ويزداد الأمر سوءا إذا كانت تلك الأحذية مُبلّلة أو تَحْمِل القَذَر ، أو فيها روائح كريهة .

    ولَمّا صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فَخَلَع نَعْلَيه فَوَضَعهما عن يساره . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وصححه الألباني والأرنؤوط .

    قال شيخنا العثيمين رحمه الله وهو يتكلَّم عن وَضْع الحذاء سُترة للمُصلّي :

    أرى أنه لا ينبغي أن يَجعلها سُتْرة له ؛ لأن النِّعال في العُرف مُسْتَقْذَرة ، ولا ينبغي أن تكون بين يديك وأنت واقِف بين يدي الله عزّ وجلّ ، ولهذا نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم الْمُصَلِّي أن يَتَنَخّع بين يديه - يعني يَتْفل النخامة بين يديه - وقال عليه الصلاة والسلام مُعَلّلاً ذلك : " فإن الله تعالى قِبَل وَجْهه " . اهـ .

    وسبق في شرح العُمدة :

    الحديث الـ 97 في الصلاة في النعال

    http://saaid.net/Doat/assuhaim/omdah/090.htm

    وهنا :

    هل النهي عن البَصق تجاه القبلة مخصوص في المسجد وفي حال الصلاة ، أم على كل حال ؟

    https://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?p=21845

    والله تعالى أعلم .

    ==================