×
هذه المقالة تتضمن حقوق الأبناء للأباء، وذكر بعض أمثله من العقوق.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    بُنَيَّ.. وقد بلغت سنَّ الرجولة، وأصبحتَ محلَّ الرجاء وموضعَ الأمل.. أكتبُ إليك هذه الرسالة.. بدأتها مع السَّحَر في ليلة غرة شهر رمضان المبارك من العام 1422 من الهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

    ولن أخفي عليك أنني عندما بدأتُ بها تحركت عاطفتي، وخفق قلبي، وذرفت عيني.. وكدتُ أجهش بالبكاء وأضع قلمي لولا شعورٌ انتابني بأن أستمر.. لم أعهدْ مثل هذه المشاعر عندما أبدأ بكتابة موضوع ما.. ولكني تذكرتُ والدي الذي جاوز السبعين عامًا شفاه الله تذكرته أيامَ شبابه وكهولته وقوَّته وجَلَده وصبره، تذكرت معاناته.. يا ربُّ كم أعطى من جهده ووقته ونفسه !!وكم بذل هذه السنين من أجل ولده!! بل كم يبذل الآن من أجل أولاده وهو الشيخ المجاهد!.. اللهم عافه واعفُ عنه وقُرَّ عينَه في دنياه وأُخراه.

    بُنَيَّ.. لقد سرحتُ في تذكر أيام كنت فيها في مثل سنك الآن.. إنني أشعر بعاطفتين تتجاذباني وأعيش الآن شعورين: شعورَ الوالدِ نحو ولدِه، وشعورَ الولدِ نحو أبيه.. إنها لحظاتٌ لا أستطيعُ وصفَها.. ستدركُها إن كان مكتوبًا في اللوح فسحة في العمر.. إن مشاعرَ الوالدين لا يمكن وصفها أو تصويرها مهما كان الإنسان بليغًا قولُه وفصيحًا لسانُه.. لكنها مشاعرُ ذاتُ مشاهدَ تتفطرُ لها القلوب، وتذوب وتَلَين لها القساة، فتذرفُ الدموع.. إليك واحدًا منها متعلقًا بذهني منذ عزمت على الكتابة لك.

    إن أعظم الناس بلاءً وأشدهم هُم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل كما ثبتَ عن نبينا ﷺ‬ ذلك.. وكما هو الواقعُ لهم فيما ابتلاهم به الله تعالى.. وإن من أشد أنواع البلاء إن لم يكن أشدَّها ما كان متعلقًا بالولد.. ابتُليّ يعقوب u بفقدان ولده يوسف ثم بنيامين.. بلغ حزنه مبلغًا لا يطيقه الرجال إلا الصفوة المختارة، وتناهت الشدة، وقال عندما أصيب ببنيامين: }يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ{ [يوسف: 84]، والأسفُ أشدُّ الحزن، والمصيبةُ الآن بأخيه وليست بيوسف! ذلك أن مصيبته بيوسف قاعدة المصائب وإن تقادم عهدها، فقد أخذت بمجامع قلبه لن ينساه ولن يزول عن فكره أبدًا حتى يلقاه..

    ولم تُنْسِني أوفى المصائب بعده

    ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع

    ابيضت عيناه من الحزن.. كُفَّ بصره.. وما على الأرض يومئذٍ أكرم على الله تعالى منه.. وإن كان منصب النبوة يقتضي معرفة الله تعالى التي تقتضي حبه، ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب من سواه سبحانه.. إلا أنه لا تتنافى حالة يعقوب مع منصب النبوة.. إنه حب الوالد لولده تلك المحبة الطبيعية لا تأبى الاجتماع مع حب الله تعالى.! رُوي أن فراقه إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه يومًا.. ولمَّا كانت أشد المصائب فيما ينال الولد كان ذلك مع إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، وكان مع نبينا محمد ﷺ‬ فقد بكى على موت ابنه إبراهيم ودمعت عينه وخشع قلبه وحزن عليه ولم يِقُل إلا ما يُرضي ربه... }إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{ [البقرة: 156].

    ويبلغ بك يا بني العجبُ من شدة تعلُّق الوالد بولده عندما تتأمل ما حصل ليعقوبَ لما قَرُبت أيَّام الفرج.. لقد وجد ريحَ يوسف عندما دخل قميصُه بلدةَ يعقوب مع العير القادمة.. قميصُه ليس شخصه! }وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ{ [يوسف: 94].. تُرى! كم كانت المسافة بين يعقوب وقميص يوسف؟! أمَّا حين ألقى البشيرُ القميص على وجه هذا الوالد الذي فقد بصره ارتد بصيرًا في الحال.. بمجرد ملامسته للقميص!. ثم هل من الممكن أن تستطيع تصوير مشاعر يعقوب عندما التقى يوسفَ وبنيامين حقيقة ؟!

    ووجود رائحة الولد بعد طول فراق وقعت في عهد عمر t لأميَّة بن الأسكر رحمه الله الذي قدم إلى المدينة آنذاك، وكان له ولدٌ اسمه كلاب، وكلاب كان بارًّا بوالديه، ذهب إلى الجهاد وترك والديه بعد أن أرضاهما؛ ولكنه أبطأ، فاشتدَّ حزنُه على ولده، ولمَّا رأى حمامة تدعو فرخها بكى، فرأته أمُّ كلاب فبكت، فأنشأ قصيدة تغنَّت بها الركبان إلى اليوم، ومنها قوله:

    إذا هتفت حمامةُ بطنَ وجٍّ

    على بيضاتها ذكرا كلابا

    يعني نفسه وأم كلاب.

    ثم أصابه العمى فجاء إلى عمر يرجوه أن يرد كلاب، فكتب عمرُ برده، ولما وصل كلابٌ سأله عمر عن بره بأبيه. فقال كلاب: أُوثره وأكفيه أمرَه، وكنت إن أردتُ أن أحلبَ له لبنًا أجيء إلى أغزر ناقةً في إبلهِ، فأريحَها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل ضرعها حتى تبردَ، ثم أحلبَ له فأسقيَه، فأمره عمرُ بأن يحلبَ ناقةً كما كان يفعل، وأخذ عمر الإناء، وقال لأبي كلاب: اشرب. فلما أخذه، قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشُم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب، فوثبت الأب وضمه، وبكى عمر وبكى الحاضرون، وقالوا لكلاب: الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا.

    بُني: ألم تهتز مشاعرك لهذه المشاهد؟

    بُني: إن لك رائحة لا يشمها إلا والداك.. رائحة تزكي نفوسهما مهما كان مبعثها، وهذا أحد كبار التابعين المشهورين الإمام الحسن البصري رحمه الله يلاعب ابنه ويرقصه ويقول:

    يا حبذا أرواحُه ونَفَسُه

    وحبذا نفْسُه وملمسُه

    والله يبقيه لنا ويحرسُه

    حتى يجرَّ ثوبه ويلبسُه

    وكانت أعرابية ترقص ولدها بكلمات صورت فيها قمة التعلق بالولد، حتى شعرت بأن سعادتها بتعلقها بابنها مقصورة عليها من بين كل أم لها ولد:

    يا حبذا ريحُ الولد

    ريح الخزامى في البلد

    أهكذا كل ولد

    أم لم يلد قبلي أحد

    وملاعبة الولد الصغير سلوك فطري يدل على التعلُّق من الوالدين ومَن في منزلتهما، فقد لاعبت الشيماء أخت رسول الله ﷺ‬، لاعبته يوم طفولته وغنَّت له، كما لاعبه الزبير بن عبد المطلب، وكانت فاطمة الزهراء ترقص الحسين وتقول:

    إن بُنَيَّ شَبَهُ النبي

    ليس شبيهًا بعلي

    وعلي t مع ما له من فضل المنزلة، إلا أنها تريد أن يكون أفضل من علي..!

    هكذا والدك يندفع بالفطرة إلى رعايتك يضحي بكل شيء حتى بذاته كالنبتة الخضراء حينما تَمتَصُّ كلِّ غِذاء في الحبة فإذا هي فتات! هكذا أنت قد مَصَصْت كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من والديك، فإذا هما شيخوخة فانية.. وهما مع ذلك سعيدان بك منذ وُلدتَ حتى تستقل، وكل ما يأتي به الأب ويحمله إلى البيت فنصيبك نصيب الأسد منه إن لم يكن كله لك. إنه حريص على ما يلائمك ولو كان غير محبوب لديه، انتصبَ لتربيتك وجَلْبِ ما ينفعُك، ودفع ما يضُّرك، هُّمه رضاك، إن رآك حزينًا أو باكيًا لم يترك سبيلاً لصرف ما يحزنك ويبكيك لتطيبَ نفسك وتقَرَّ عينك، لا يستكره بولك، ولا تتقزز نفسه أو تنفر من إماطة الأذى والمكروه عنك.. إن أنت غبتَ عن عينه لم يَغِبْ خيالُك عن قلبه.. وإن لم يسمع صوتَك جهرَ بذكرك.. لو تأخرت على غير عادتك قَلِق وحَزَن.. لقد أجْبَنْتَهُ وأبْخَلْتَهُ.. إنه رجل شجاع قبل أن تخلق، وكريمٌ لمَّا كان بدون كنية.. فلما جئتَ جبن خوفًا عليك، وبَخِل توفيرًا لك، ولئن كان شعورك يتطلع دائمًا إلى المستقبل ويتدفق حيوية وطموحًا نحو الجديد من سيارة وزوجة وذريَّة و..، وتجد دافعًا قويًا إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لم يوص الوالدين بالأولاد بمثل ما أوصى الأولاد بآبائهم؛ لأن ذلك أمر مركوز في فطرة الإنسان، وشعور الإنسان الآنف الذكر ينسيه النظرَ إلى الوراء فلا يلتفت إليه، ولا يُعيُره اهتمامًا؛ ولذا كان التأكيدُ على تذكر الإنسان بنشأته وفضلِ والديه عليه أمرًا لابد منه، حتى يكونَ على صلة وذكْرٍ لمن أفنيَا حياتهما سهرًا عليه ورعاية له، وأسدَيَا إليه من المعروف رحيق حياتهما، وآثَرَاه على نفسيهما.

    لقد جعل الله تعالى رضاه عنك من رضاهما وسخطَه من سخطهما، وقَرَن حقَّهما بالإحسان إليهما بعد حقه سبحانه وتعالى، وسما ببر الوالدين حيث لم يفرق في ذلك بين برٍّ وفاجر، فهو حق عام يجب أداؤه، ومعروف ينبغي الوفاء به ما لم يترتب على ذلك معصيةٌ أو ضررٌ شرعي.. }وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{ [لقمان: 15]. حتى الأخ المشرك تنبغي صلتُه لما ثبت من فعل عمر t، وأمر الرسول ﷺ‬ أسماء بنت أبي بكر بأن تصلَ أمها المشركة.

    إنه لمن المؤسف حقًّا أن نرى بعض الشباب مَّمن تظهر عليهم سيم الصلاح والاستقامة لا يبرون آباءهم الذين يرتكبون بعض المنهيات أو ممن قد يوصفون بالفسق، يَتَوَهَّم هؤلاء الشباب أن البرَّ مقصور على الأب الصالح، وأما الفاجر العاصي فلا يجب عليه بِرُّه، وبعضهم يصور لهم الشيطان أن البر بهذا الأب يعني مشاركته بمعصية الله والرضا بها، وأن في عقوقه له سبيلاً لاستقامة الأب وتركه لما هو عليه من فجور وفسق ومعاصٍ ليوقعه في أشد مما يرتكبه أبوه وأعظم وأخطر.. والحق أن ذلك تصوُّرٌ باطل وتعليل فاسد.. وأن العكس هو الصحيح، فبرُّ الولد بوالده أقرب في دفع الأب إلى تصحيح مساره وسلوكه.. وسواء كان ذا أو ذاك فبِرَّه واجب شرعًا، وعقوقه من كبائر الذنوب، بل يقود إلى الكفر!

    ومظاهر العقوق كثيرة ومتنوعة، وشؤمه على الولد متحقق في حياة كل عاق وفي آخرته.. وإن صلى وصام وقرأ القرآن.

    يقول مجاهد: لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه.. ومن شد النظر إلى والديه فلم يبرَّهما. «ومن أدخل عليهما حزنًا فقد عقهما». قف لحظة متأملاً ما قاله هذا التابعي الجليل..!

    ومن مظاهر العقوق: فعلُ ما يؤذيهما من منكرات أو ترك مأمورات، بل كل ما يؤذيهما حتى من الأمور المباحة والمعتادة.

    ثم أقف معك.. يا بني.. هنا وقفة جادة انتشرت في زماننا هذا بين الشباب الذين هم في سنك بخاصة.. وقد اعتادها كثيرٌ منهم وأصبحت سلوكًا له.. ويعظُمُ خطرُها ويشتد شؤمُها عندما يرونها أمرًا عاديًا.. إنها طريقة المعاملة للأصحاب التي بُنيت على أُسس ومفاهيم تختلف جذريًا عن أُسس طريقة معاملة الأب ومفاهيمها.

    وذلك أنك ترى الشاب بأخلاق وصفات وطبائع مختلفة قد لا تصدق عندما تراه في الحالتين بأنه شخص واحد..! بشوشًا مرِحًا صبورًا كريمًا حريصًا على بذل كل ما يستطيعه عندما يخرج من البيت ويلتقي أصحابه.. إنه بكامل استعداده لأن يقوم بخدمتهم ويبذل جهده في محاولة تحقيق رغباتهم ويراعي خواطرهم ومشاعرهم.

    وبمجرد دخوله البيت ينقلب عبوسًا ضيق الخلق جزوعًا بخيلاً بوقته وجهده.. ويعامل أبويه بأقبح ما يُعامِلُ به الظالمُ الغشومُ للخدم.. ويل للأم المسكينة إن تأخرت في إعداد عشاء أصدقائه، أو نقصَ من كمالياته ولو شيئًا يسيرًا فيعلو صوته، لا يطيق الانتظار لخمس دقائق حتى تستكمل المسكينة طلباته، وهو يتبرم ويصرخ هنا وهناك. وهكذا ديدنه.. وهي مع ذلك تدعو همسًا بهدايته سعيدة بخدمته! يا له من حظ عاثر لهذا الأخ الصغير الذي أقبل عليه ليخبره بزميل قد اتصل مقبلاً إليه بكامل العفوية والبراءة، فقد تلقى صفعة قبل أن يكمل الخبر.. ويا له من أب مسكين يأتي بعد كد ونَصَب ومشقَّ’ من عمله يتلهف لرؤيته فيسأل عنه فإذا هو مع أصحابه وينتظرُه حتى يعودَ فإذا عاد وابتهجت أسارير الوالد عاد بالوجه الذي خرج به.. يستثقل إلقاء السلام ولا يطيق الجلوس مع هذا الأب، ولا يطيق نقاشًا، ولا يتقبل نصحًا أو توجيهًا، وإن عزم الأبُ على شيء من ذلك أو أظهر عتابًا بدافع إحساسه بالمسؤولية وحنو الأبوة.. كانت النتيجة القاسية.. ارتفع الشجار مرتفعًا ضغط الأب معه وعلا.. وتتأثر عاطفة هذه المخلوقة المسكينة تخاطب عاطفة الأب الحاني بالإذن بالتدخل، وسرعان ما تأتي الموافقة.. ويجري الابن مزمجرًا وناهرًا ومهددًا وثائرًا راميًا كل لوم على أبيه وأمه وإخوته أمَّا هو فيحرم اللوم له وكأنه ملك مقرب أو نبي مرسل.. وما إن يبدأ هدوء الأب، وإذا بالمشهد يتكرر.

    قل لي يا بني.. هل ترى عقوقًا أعظم من ذلك؟ إنه بهذا يقتل أبويه ،ولكنه لم يحسن القِتْلة! لن يهنأ له القتل إلا بعد استكمال أقسى وسائل التعذيب فيهما..

    بني.. لست أعني أن تسيء معاملتك لأصدقائك.. كلا، فإن «ابتسامتك في وجه أخيك صدقة» ولكن ابتسامك في وجه أبيك أفضل صدقة وأوثق صلة وأعظم بِر وأخلص امتثال، وهي إشارة وفاء ودليل شكر ورجاحة عقل وقبس نور وتحقيق سرور وأداء معروف ورد جميل وكسب وُّد.. ووصول إلى كل خير..

    ومن مظاهر العقوق: ازدراؤك لأبيك، ومن صوره خجلُك من أن يراه أصحابُك لأدنى توهم يعتريك في هيئة لباسه أو طريقة كلامه أو نحو من ذلك.

    ومن العقوق أيضًا: كثرة شجارك مع إخوتك وعلو صوتك.. تباطؤك في تنفيذ ما يأمرك.. عدم استيقاظك عندما يوقظانك لشأنك أو لشأن من شؤونهما.. تأخرك في أداء فروضك وواجباتك.. كل ما يثير غضبَ الوالد وسخطه من تبرم وعبوس وإظهار للضيق والملل.. حتى كلمة (أف) بنص القرآن. كل ذلك من العقوق الذي يقول عن شؤمه رسول الله ﷺ‬: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين فإنه يُعَجَّلُ لصاحبه» وذكر الذهبي في «الكبائر» عن سعد قوله: «إن الله ليُعَجِّل هلاك العبد إذا كان عاقًّا لوالديه لِيُعَجِّل له العذاب»

    أعلم أن من أعظم العقوبة التي تصيب الإنسان إذا استمر وتمادى على معصية هي وصوله إلى مرحلة لا يستطيع الانفكاك منها حتى يموت، فالحذر الحذر أن تصل إلى هذه المرحلة.

    بُني: إنني أنشُدُ لك سعادة وطمأنينة وتوفيقًا وتيسيرًا لأمورك في هذه الدنيا، ورضوانًا ونعيمًا دائمًا لا يمكن وصفُه، ولذاتٍ لا تنقطع في الآخرة، وذلك بإحسانك إلى والدك، والإحسان أعلى درجات العمل الصالح؛ لأنه يعني أداءَ الواجب مع مراقبة الله تعالى فيه، وهو كلمة جامعة تقتضي بالنسبة إلى الوالدين برَّهما والإنفاق عليهما إن كانا محتاجين، ورفع مستواهما إن كانت حالتهما دونك في المعيشة.. والكلمة الطيبة تبلغ في النفس ما لا يبلغه الإنفاق.. ويتميز الوالدان بالشعور المرهف نحو الولد.. ويشتد هذا الشعور بعد الكبر.. حيث يشعران أنهما بحاجة إلى العون والرعاية.. وقد يزدري الإنسان حالتهما الضعيفة ويحُقّر من شأنهما.. فالكلمة الطيبة في مثل هذا تضمد الجراح وتنزل بلسمًا على الشيخوخة.

    وحُسن المعاملة يبعث على الثقة ويشيع في النفس روح البهجة.. ومهما فُقْتَ أباك بكثرة مالك وعُلو جاهك فإن الله يفرضُ عليك أن تُلَين جانبك وتخفضه لوالديك في صَغار وذلة ورحمة بهما إشفاقًا عليهما وعلى أحاسيسهما }وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ{ [الإسراء: 24].

    بُنيَّ وقاك الله من كل مكروه.. لازم الدعاء لهما والوفاء وصلة أهل ودهما فهو من أبر البر.. ناد أباك بما يحب.. لا تجلس قبله.. قابله ببشاشة.. انصحه بلطف وإن لم يقبل فلا تؤذه.. أجب دعوته دون تضجر أو ملل أو كراهية وبخاصة فيما لا يوافق رغبتك.. إياك والتبرم من حاجته وخدمته.. لا تسبقه بالأكل، أُدع له.. ألِحَّ له بالدعاء.. غضَّ الطرف عن أخطائه وزلاته.. وقِّره.. قبِّل رأسه دومًا.. بل يده.

    كُنْ عضوًا فعَّالاً في المنزل.. قدِّر منزلك الذي أمَّنه لك والدك بفضل الله وتصوَّر أنك تعيش الآن بدون منزل.. ابدأ ذلك بأمرٍ لن يكلفك شيئًا! أبدأ وسترى تأثيره العظيم على أبويك وأسرتك وعلى نفسك أيضًا.. ابدأ بالتعبير عن حبك لأبيك وأمك ومن معك في المنزل، أخبره بأنك تحبه، قلها صراحة بأي لفظ من الألفاظ وإن صَعُبَتْ عليك هذه المرة.. ولا تعتقد أن أي شخص تحبه وخاصة أباك لا يحتاج إلى سماع هذه الكلمة أو يريدها أو أنه لن يصدقها.. ولا يمنعك العناد أو الخجل عن تكرار ذلك.. إنها كلمة تشعر أباك بالراحة فهي تذكره بأنه ليس وحده، وبأنك تهتم به وتجعله يهتم بتقدير نفسه، وتعطيك أنت شعورًا بالارتياح، فإذا أردت الخروج من المنزل قبَّلْ رأسه.. قل لأبيك:في أمان الله، والله يحفظك.. لا شك أن جميع أفراد عائلتك يرتكبون الأخطاء.. ومنهم أبوك وأمك وأخواتك وأنت.. فالتعبير عن الحب بين أفراد العائلة يمنح الشعور بالأنس ويقضي على الوحشة ويبث الطمأنينة والراحة والحرية والتعاون.. ويصحح الأخطاء..

    والأوقات المناسبة للتعبير عن هذا الحب كثيرة.. ابدأ يومك هذا مع أبيك بدعاءٍ يشعره بحبك واختمه بمثل ذلك.. كرر ذلك بشعور صادق.. إياك أن تخجل أو يمنعك مانع، فهو بحاجة أيما حاجة له..

    لا تفكر فيما لا تملك.. ولا يستطيع أبوك أن يملكه أو يوفره لك أو بأمور لا يستطيعُها.. وإياك أن تتذمر من قلة المال ولا تُرَدِّد لأبيك كلمات تؤلمه مثل حصول صديقك على سيارة فخمة أو جوال متطور أو حذاء باهظ الثمن اشتراها أبوه ونحو ذلك؛ فتوجع قلبه وقلبك دون جدوى.. فإنك بذلك توجد فجوة بين ما لديك وما تريد، وهذه الفجوة من أعظم مصادر الغم.. يمكنك القضاء عليها بالقناعة عن التذرع بضيق ذات اليد.. ولا يعني ذلك أنك لا تريد أو لا تستحق مزيدًا من المال كما لا يعني المحاولة على الحصول من المزيد من المال.. والخلاصة: (ليكن تفكيرك فيما تملك وبإمكانك فعله واترك التفكير فيما لا تملك أو فيما لا يستطيع أبوك تحقيقه أو فعله امتلاكه...) إن طريقة التفكير هذه ستحقق لك أولاً سعادة ستصيبك بالدهشة فعلاً وتنأى بك بعيدًا عن العقوق، وتسهل طريقًا يحقق لك كمالاً في برك بوالدك..

    احذر أن تردد ألفاظًا أو تقوم بتصرفات توحي بأنك تقلل من شأن أبيك أو أي فرد في أسرتك.. فهذا من أقوى عوامل الهدم الأسري وسرعان ما تتأثر العلاقات بشكل عكسي.. ضع حدًا لرغباتك.. لا تشعر دائمًا بأنك على حق في تصرفاتك تجاه أبيك فتكثر الجدل بل رجح العكس وتيقن أن أباك أكثر خبرة منك وأَحْرَص على مصلحتك وأن الرأي له فهو وليُّك وعليك قبول رأيه وتنفيذ أوامره بنفس طيِّبة.. ولا تذهب إلى نومك وأبوك غضبان.. ولا تنم أنت أيضًا غاضبًا..

    لا تفكر فيما يضايقك من تصرفات أحد في الأسرة وخصوصًا إن كان أبوك أو أمك أو أحد إخوتك فالتفكير السيئ يولد الشعور به.. فإن كان تفكيرك بما يغضبك فستشعر بالغضب وإن أسرعت في التفكير وتَعَجَّلْتَ ستشعر بأن لا وقت لديك.. وهكذا.. إياك أن تصدر أحكامًا مسبقة.. غيّر هذه الطريقة مع والدك ستعجب كيف أصبحت مصدرًا لإشاعة جو من الاحترام المتبادل.. ويا له من فرح كبير.. تكلم برقة وهدوء.. فإنه خير ما يبعث على الراحة..

    كن مرحًا مداعبًا فعَّالاً.. انظر إلى خدمتك لصغار إخوتك على أنها من أفضل أنواع البِر بوالدك.. لا تنظر إلى استحقاقهم ذلك منك أو عدم استحقاقهم؟ ولا تنتظر شكرًا أو جزاءً منهم وإن كان سيتحقق بإذن الله، أما إخوتك الكبار فخدمتهم برٌّ لأبويك عظيم، وصلة للرحم يصلك الله تعالى بوصلك لهم.

    إنك بذلك ستحقق تحولاً تاريخيًا في تاريخ أسرتك، سيعلو شأنك ولن تحده السماء وستُقَاد إلى كل خير.. وتذكَّر دائمًا بأنك «أنت ومالك لأبيك» وتأكد يقينًا أنك لو فعلت ذلك كله لم تجزه حقه كاملاً.. أما أمك في تلك الحقوق التي عصرها لك قلب أب مشفق فهي أولى بالبِرِّ من أبيك.

    اللهم إنَّا نسألك صلاحنا، وصلاح شبابنا وأبنائنا، وتيسير سُبُل برِّنا وبرِّهم بالوالدين كما ينبغي أن يكون البرِ.. اللهم أرضنا وأرضهم وأرض آباءنا عنا وآباءهم عنهم, فإن رضاك الغايةُ الكبرى لا تتحقق إلا برضاهم ،كما أوحيته إلى نبيك ﷺ‬ الذي نشهدك بتبليغه الرسالة، وأدائه الأمانة، ونُصحه للأمة، وجهاده فيك حق الجهاد. فصلّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

    كتبه

    سليمان بن محمد الصغيرِّ

    alsoqir@yahoo.com

    فاكس: 4792669