×
الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - بين فيه فضل ذكر الله - عز وجل -، وعظيم أثره وفائدته، وجليل مكانته ومنزلته، ورفيع مقامه ودرجته، وجزيل الثواب المعد لأهله، المتصفين به، في الآخرة والأولى.

 الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب

آثَارُ الإِمَامِ ابْنِ قَيّم الجَوْزِيَّةَ وَمَا لَحِقَهَا مِنْ أَعْمَالٍ (2) الوَابِلُ الصَّيِّبُ وَرَافِعُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ تَأليف الإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْر بْنِ أَيُّوب ابْنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ (691 هـ - 751 هـ) تَحْقِيق عَبْد الرّحْمَنِ بْن حَسَن بْن قَائِد إِشْرَاف بَكْر بْن عَبْدِ اللهِ أَبُو زَيْد دَارُ عَطَاءَاتِ العِلْم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


رَاجَعَ هَذَا الجُزْءَ حَاتِم بن عَارِف الشريف يحْيي بن عبْد الله الثمالِي

(المقدمة/3)


 مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، "أحمدُه حمدًا كما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله، وأستعينُه استعانة من لا حول له ولا قوَّة إلَّا به، وأستهديه بِهُداهُ الذي لا يَضِلُّ مَنْ أنْعَم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخَّرْتُ؛ استغفارَ مَنْ يُقِرُّ بعبوديَّته، ويعلم أنه لا يغفرُ ذنبَه ولا يُنْجِيهِ منه إلّا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله" (1)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أمّا بعدُ؛ فهذه رسالةٌ جليلةُ القَدْرِ، نبيلةُ المقْصِد، صادقةُ اللَّهجة، مُشرِقةُ المعاني، بَعَثَ بها عالمٌ ربانيٌّ إلى بعضِ إخوانِه، ليُحدِّثهم فيها -حديثَ الناصحِ الوَجِل، والمُشْفِق الحَدِب- عن ذكر الله تعالى، وما يحصُلُ به مِنْ حياةِ القلوب، وشفاءِ الصدور، ومتاعِ الأرواح، وبهجةِ الأنفس، وقُرَّةِ العَيْن، ونعيمِ الدنيا. ولِيَقُصَّ عليهم في سُطورها منزلةَ هذه العبادة العظيمة، ورفيعَ مقامها، وجليلَ مكانِها، ووافِر هِباتِها وعوائِدها على أهلها. وليُبَصِّرهم في أثنائها موضعَ هذه الشَّعيرة من هذا الدين، وأنها مِنْهُ بالمحلِّ الأسنى، والمقامِ الأسمى، والدَّرجةِ العاليةِ الرفيعة. ولِيَتْلُوَ عليهمِ من كتاب ربِّهم، وحديث رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض ما ورد بفضلها، ونَطَقَ بِشَرَفِها. __________ (1) "الرسالة" للشافعي (8).

(المقدمة/5)


وَلِيُعَلِّمهم هَدْيَ نبيِّهم وقُدْوَتِهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها، قولًا وعملًا؛ لِيأتوا البيوتَ من أبوابِها، ويقصِدوا رضوان الله تعالى من سبيلِه الذي اختار لهم، ويَبْلُغوا مُراد الشريعة على جادَّةٍ مأمونةٍ. ومَنْ سَلك الجَدَد أمِن العِثار. وتلك -لَعمر الله- غايةٌ جليلة، وما يوفَّق للدعوة إليها، والدلالة عليها، إلَّا موفَّقٌ ذو حظٍّ عظيم. ولمثلها سعى المصلحون، وتسابقَ أهلُ الحديث والسُّنة في التصنيف في أبواب الذكر والدعاء. فها هو الإمام أبو القاسم الطبراني (ت: 360) يستفتح كتابه "الدعاء" بقوله: "هذا كتابٌ ألَّفْتُه جامعًا لأدعية رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَداني على ذلك أني رأيتُ كثيرًا من الناس قد تمسَّكوا بأدعيةٍ سَجْعٍ، وأدعية وُضِعَتْ على عدد الأيام، ممَّا ألَّفها الورَّاقون، لا تُرْوَى عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن أحدٍ من أصحابه، ولا عن أحدٍ من التابعين بإحسان، مع ما رُوِيَ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الكراهية للسَّجْعِ في الدعاء، والتعدِّي فيه،. . ." (1) . __________ (1) "الدعاء" (2/ 785). وانظر للاقتصار على الوارد من الأدعية والأوراد النبويَّة: "شأن الدعاء" للخطابي (16)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 816)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/ 149)، و (7/ 144)، و"قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (2/ 333)، و"تلخيص كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية" لابن كثير (1/ 133، 170)، و"التوسل والوسيلة" (1/ 346 - مجموع الفتاوى) و"الفتوحات الربانية" (1/ 17)، و"الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية" لجيلان العروسي (2/ 569 - 590).

(المقدمة/6)


وما زال الأئمة يُوصُون طُلاب الحديث بكتابة أبواب فضائل الأعمال والأذكار، ويحثُّونهم على العناية بِهذا الباب من العلم وتحصيله، كما يُوصُونهم بِبَثِّه ونشره. قال عمرو بن قيس الملائي (ت: 164) -حاضًّا وناصحًا-: "وَجَدْنا أنفع الحديث لنا ما ينفعنا في أمر آخرتنا؛ مَنْ قال كذا فله كذا" (1) . وقال الخطيب البغدادي (ت: 463): "ويستَحبُّ أيضًا إملاءُ أحاديث الترغيب في فضائل الأعمال، وما يَحُثُّ على القراءة وغيرها من الأذكار" (2) . وقال الذهبي (ت: 748): "والعلمُ الذي في فضائل الأعمال مِمّا يصحُّ إسنادُه؛ يتعيَّن نقلُه، ويتأكَّدُ نشرُه، وينبغي للأمَّةِ نقلُه" (3) . ورحلةُ الإمام المتقِن شعبةِ بن الحجاج رحمه الله تعالى في طلب حديث فضلِ الذكر بعد الوضوء؛ شَاهدٌ ناطقٌ، وصورةٌ صادقةٌ لهذه __________ (1) أخرجه العجلي في "معرفة الثقات" (2/ 183 - ترتيبه)، ورواه من طريقه جماعة. (2) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 151). وانظر: "أدب الإملاء والاستملاء" للسمعاني (1/ 313). (3) "سير أعلام النبلاء" (10/ 604). وانظر: (3/ 84 - 86).

(المقدمة/7)


العناية (1) . وبعدُ؛ فقد نُشِرَتْ هذه الرسالة مِنْ قبلُ مرات، فأحيا اللهُ بها قلوبًا جَدْبًا، وأنْعَشَ بها أنفسًا مريضةً، وبصَّر بها أَعْيُنًا أظْلَمَتْها ظلماتُ المعصية، وأرَّقَتْها حسرات الذنوب. وها هي اليوم تُنْشَر إلى الناس مرة أخرى -مُعْتَنًى بها على ما وَسِعَه الجهد-؛ عَلَّها تَنْشُر مَوَاتَ أفئدةٍ أخرى ران عليها الهوى، وأسكرَتْها الشهوة، واستعَبَدَتْها لُعاعَةٌ مِنْ دنيا زائلة. __________ (1) انظرها في: "المحدث الفاصل" للرامهرمزي (313 - 315)، و"الرحلة في طلب الحديث" للخطيب (148 - 153).

(المقدمة/8)


دراسةُ الكتابِ والتعريفُ به وتشتمل على: * اسم الكتاب. * إثبات نسبته إلى المصنف. * تاريخ تصنيفه. * الثناء عليه. * موضوعه ومنهج المصنف فيه. * طبعاته. * الأصول الخطية المعتمدة. * عملي في الكتاب.

(المقدمة/9)


اسمُ الكتاب لم يُشِر المصنِّف رحمه الله تعالى إلى تسمية كتابه هذا في فاتحته، أو خاتمته، أو أثنائه، ولا تعرَّض لذلك بشيء. إلّا أنَّ تلميذه "علي بن محمد بن علي بن حميد الحنبلي البعلي" (1) قال في المقدّمة القصيرة التي صَدَّر بها نسخته (ووصلتنا بخطّه): "هذه رسالة كتبها شيخنا. . . وسمّاها "الكلم الطيب والعمل الصالح"، وهي كما سمّاها". فهل كان المصنِّفُ قد كتب هذا الاسم على ظهر نسخته، وعنها نَقَل تلميذُه، أمْ أخذه التلميذُ سماعًا منه أو من أحد أصحابه، أمْ نقله من كتابٍ آخر من كتبه؟ كلُّ ذلك محتمل. غير أنَّ المصنِّف سمّى كتابه في موضعَيْن اثنَيْن من كتبه اسمَيْن مختلفَيْن. فقال في "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (76): "وقد ذكرنا في كتابِ "الكلم الطيب والعمل الصالح" من فوائد الذكر. . .". وهذا الاسمُ هو الواردُ على ظهور النُّسخ الثلاث (ت) و (م) و (ق)، وبه ذكره مُترجِموا المصنِّف: تلميذُه ابنُ رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450)، وعنه ابن العماد في "شذرات الذهب" (8/ 290)، والداووديُّ في "طبقات المفسّرين" (2/ 96)، وبه سمّاه __________ (1) لم أقف له على ترجمة.

(المقدمة/11)


السّفارينيُّ في "نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار" (146) ، و"غذاء الألباب" (1/ 64، 114، 409) و (2/ 211، 277، 369، وغيرها)، وبه ذكره البغداديُّ في "هدية العارفين" (2/ 158) في موضعٍ. وسمّاه المصنِّفُ في "مدارج السالكين" (2/ 448) اسمًا آخر، فقال: "وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا "الوابل الصيّب ورافع الكلم الطيّب"، وذكرنا هناك. . .". وبهذا ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1994) (1) . ووهِم البغدادي حين سمّاهُ "الوابل الصيّب والكلم الطيّب" في __________ (1) ذكر الشيخ العلامة بكر أبو زيد في كتابه "ابن القيم حياته وآثاره" (294) أنَّ حاجي خليفة وهِم حين عدَّ "الكلم الطيّب" و"الوابل الصيّب" كتابين لابن القيم، وأحال على "كشف الظنون" (2/ 1508، 1994). وقد ذكر حاجي خليفة في الموضع الأول كتاب "الكلم الطيّب" لابن تيمية، وذكر أن ابن القيّم ممّن شرحه (ونقل بداية كتابه، وهي بدايةُ كتابنا هذا)، لكنّه لم يُفْصِحْ عن اسم هذا الشرح (وتوقَّعَ أحمد عبيد أن يكون هو المذكور باسم "عقد محكم الإخاء. . ."، وليس الأمر كذلك؛ فإن المقدمة التي أوردها حاجي خليفة هي مقدمة كتابنا هذا)، بينما ذَكَر "الوابل الصيّب" في الموضع الثاني خِلْوًا من أيّ تعليق. فالذي يظهر أن وهم حاجي خليفة هو في اعتباره كتابنا هذا شرحًا لكتاب "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام. وفي تصرُّفه ما يوهم أنه يعتبر هذا الشرح و"الوابل الصيب" كتابين مختلفين، -وعليه بنى البغداديُّ في "هدية العارفين"-، لكنه لم يسمِّ الشرح بِـ"الكلم الطيب". والله أعلم.

(المقدمة/12)


"هدية العارفين" (2/ 159)، وعَدَّه بذلك كتابًا آخر؛ فأخطأ في موضعين: في اسم الكتاب، وفي اعتباره كتابًا آخر غيرَ "الكلم الطيّب والعمل الصالح" الذي كان قد ذكره من قبل. وتابعه على عدِّهما كتابين مختلفين الشيخ محمد حامد الفقي في مقدمته لِـ"إغاثة اللهفان" (1/ 26) (1) . ولا ريب في كونهما اسمَيْن لكتاب واحد؛ فإنّ وصف المصنِّف لهما في الموضعَيْن المتقدمَيْن (المختلفَيْن في التسمية) متفقٌ تمامًا. وقد استظهر كونهما كتابًا واحدًا الأستاذ أحمد عبيد في مقدمته لـ"روضة المحبِّين" (ث)، وأيّده العلّامة بكر أبو زيد في كتابه "ابن القيّم" (293 - 294)، مع كونهما لم يذكرا النصَّ الذي نقلتُه من "مدارج السالكين"، وهو قاطعٌ في المسألة. بقي أنه ذُكِر لابن القيّم كتابٌ بعنوان "عقد محكم الإخاء (2) بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى السماء". فهل هو كتابٌ مستقلٌّ، أم هو اسمٌ آخر لكتابنا هذا؟ تقدَّم توقُّعُ أحمد عبيد أن يكون هو الكتاب الذي ذكر حاجي خليفة أن ابن القيّم شرح به "الكلم الطيّب" لشيخه، ولم يُسمِّه (حاجي __________ (1) نَقَل الشّيخُ الفقي ذلك عن مقدمة الأستاذ أحمد عبيد لـ"روضة المُحِبِّين"، إلّا أنه أعرض عن إشارته إلى احتمال كونهما كتابًا واحدًا. (2) وردت هذه الكلمة في بعض المصادر: "الأحباء"، وفي بعضها: "الاحقاء"، ولعلّ الصواب ما أثبتّ.

(المقدمة/13)


خليفة)، كما تقدّم ردُّ ذلك وبيانُ ضعفه. واحتمالُ كونه اسمًا آخر للكتابِ، تصرَّفَ فيه بعض النُّسَّاخ المُغْرَمين بالأسجاع = واردٌ جدًّا (1) . والخلاصة .. أنّ للكتاب اسمين اثنين ذكرهما المصنِّف: "الكلم الطيب والعمل الصالح"، وهذا هو الوارد في كُتبِ التراجم وظُهور أكثر النُّسَخ. و"الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب"، وهو المشتهر الدائر على الألسنة، والذي لا يكاد يُذكر غيرُه عند أبناء العصر؛ بسبب نشر الكتاب به، وإن كان أغلبُ ناشريه قد غيّر في هذا الاسم قليلًا، فطُبع مرارًا بعنوان "الوابل الصيب من الكلم الطيب"، وكذلك هو في مقدمة أحمد عبيد لِـ"الروضة"، وتابعه الفقي في مقدمته لِـ"الإغاثة". وورد في "كشف الظنون" بلفظ "الوابل الصيّب في الكلم الطيب"، وهو المثبت على ظهر النسخة (ح)، وفي "هدية العارفين": "الوابل الصيّب والكلم الطيب"، وكلُّ ذلك تصرُّفٌ، والله أعلم. ويُشْبِهُ أن يكون هذا الاسم هو الاسمُ العَلَمِيُّ للكتاب، ويكون الاسم الآخر اختصارًا له من المصنّف ومترجميه بما يدلُّ على موضوعه، ولذلك نظائر كثيرة (2) . __________ (1) وقد يُقَوِّيه أنَّا لم نَر من نقل منه، أو عزى إليه. (2) انظر: "ابن قيم الجوزية" للشيخ بكر (185).

(المقدمة/14)


ويرشِّحُه: ما عُرِف به ابن القيِّم من التفنُّن في صياغة أسماء مصنفاته، واحتفاله بالسجع فيها، ومن المستبعد أن يسمِّي كتابه باسم كتاب شيخه ابن تيمية، فيفتح بذلك للإيهام بابًا، وما الذي يلجئه إليه ويضيِّق عليه سبيل الاختيار؟! ولذا آثرتُ إثبات هذا الاسم على لوحة الكتاب، مع هذه الإشارة هنا إلى الاسم الآخر.

(المقدمة/15)


إثباتُ نِسْبةِ الكتابِ إلى المصنِّف لا ريب في صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، ودلائل ذلك كثيرة متوافرة، منها: 1 - ذِكرُ المصنِّف له في بعض كتبه، مُشِيدًا به، مُبَيِّنًا لموضوعه. قال في "طريق الهجرتين" (76): "وقد ذكرنا في كتاب "الكلم الطيّب والعمل الصالح" من فوائد الذكر: استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة (1) تتعلّق بالذكر، كلُّ فائدةٍ منها لا نظيرَ لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًّا". وقال في "مدارج السالكين" (2/ 448): "وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا "الوابل الصيّب ورافع الكلم الطيّب"، وذكرنا هناك أسرار الذكر، وعظم نفعه،. . .". 2 - نَقْلُ العلماء عنه، واستفادتهم منه. فَمِمَّنْ نقل عنه فأكثرَ: السفارينيُّ في كتابيه: "نتائج الأفكار في __________ (1) كذا قال المصنِّف هنا، وفي "المدارج". وقال في الكتاب (ص: 94): "وفي الذكر نحوٌ من مائة فائدة"، ثم ساق اثنتين وسبعين فائدة، وذكر بعد ذلك (ص: 225) فائدة أخرى. فلعله ذكر "المائة" تغليبًا، وجَبْرًا لِلكسر، أو لعلّها كذلك في نفس الأمر عنده، وإنّما ذكر أهمّها وأجلاها.

(المقدمة/16)


شرح حديث سيد الاستغفار": (146 - 151، 156 - 158، 172 - 181، 184، 341 - 344، 379 - 381)، و"غذاء الألباب" (1/ 64، 114، 409) و (2/ 210 - 211، 277، 369، 378، 470، 488 - 489، 492، 576 - 577)، صرَّح باسمه والنقلِ عنه في مواضع، وأغفل ذلك في أخرى (1) . ونقل المرداويُّ في "الإنصاف" (1/ 138)، وعنه جماعة من فقهاء الحنابلة، عن ابن القيِّم نصًّا من كتابنا هذا، ولم يسمِّه. 3 - ذِكْرُ عامّة مُترجمي المصنِّف له ضِمْنَ سياق تصانيفه. وقد تقدّم ذكرُ بعضهم عند البحثِ في اسم الكتاب. 4 - وُرودُ نِسْبَته إلى المصنِّف على ظهور الأُصول الخطِّية المعتَمَدة. 5 - نَفَسُ الإمام ابن القيِّم ظاهر في الكتاب غايةَ الظُّهور، وطريقَتُه في صياغةِ أفكاره، وأسلوبُه المُميَّزُ في تحرير مسائلِ العلم، وعباراتُه وألفاظُه التي يكثُر دورانُهَا في إنشائِه = لا تُخَطِئُها -في هذا الكتاب- عينٌ أَلِفَتْ النّظر في تصانيفه. 6 - اتّفاقُ كثيرٍ من الأفكار، والاختيارات، والنُّقولِ (الخاصّة منها، __________ (1) ووهم وهمًا غريبًا في مقدمة "غذاء الألباب" (1/ 12) وهو يسمِّي موارده فيه، إذْ سمَّى كتاب ابن تيمية: "الوابل الصيب في الكلم الطيب"، وكتاب ابن القيِّم: "الكلم الطيب والعمل الصالح"!، ولم أره نقل في كتابه عن كتاب ابن تيمية شيئًا.

(المقدمة/17)


كالنَّقْلِ عن شيخ الإسلام ابن تيمية) في الكتاب مع ما هو موجودٌ في كتب ابن القيم، وقد أشرتُ إلى بعضِ ذلك في تعليقاتي.

(المقدمة/18)


تاريخُ تصنيفِ الكتاب ليس بين أيدينا نصٌّ يهدي إلى معرفةِ تاريخ كتابةِ المصنّف لهذا التأليف على وجه اليقين، أو إلى الوقوف على ترتيبه الزَّمني بين كتُبه؛ إلّا ما ورد منْ ذِكْره له في كتابيه: "طريق الهجرتين"، و"مدارج السالكين"، ووصفِه له فيهما، وإشادته به، ممّا يُبيِّنُ أسْبقيَّته في التأليف عليهما. وثَمَّةَ ملاحظةٌ قد تُعين -إن ثبتت- على تقريب العلم بزمن تأليف الكتاب، وتُساعِدُ على تحديده. وهي أنّ ابن القيّم نَقل عن شيخِه المزِّيِّ أبي الحجّاج في مواضع عديدةٍ من كتبه (1)، كما نَقل عنه في هذا الكتاب، إلّا أنّ نقله عنه هنا ورد بصيغة ذاتِ دلالةٍ خاصَّة، إذْ قال: "وقال شيخنا أبو الحجاج المِزِّيّ رحمه الله: إسناده على شرط البخاري" (2). فإذا ثبت هذا، وعَلِمْنا أنَّ وفاة المزِّيِّ كانت سنة 742، ووفاة ابن القيّم كانت سنة 751؛ خرجنا من ذلك بأنَّ تأليف الكتاب كان في هذه السنوات التسع ما بين هذَيْن التاريخَيْن. لكنَّ ممّا يُضْعِفُ هذه القرينة تفرُّدُ النّسخة (م) بهذا النَّقلِ دون باقي النسخ، واحتمالُ إلحاقِ المصنف له بعد حينٍ من تأليفه، وكذا احتمالُ __________ (1) انظر: "ابن القيّم، حياته، آثاره، موارده" للشيخ بكر أبو زيد (177). (2) انظر: الكتاب (ص: 286).

(المقدمة/19)


تصرُّفِ الناسخ في صيغة الدّعاء؛ فيبقى الأمر على الاحتمال، والله أعلم.

(المقدمة/20)


الثناء على الكتاب قال يوسف بن الحسين بن زبارة (ت: 1179) (1): إنْ رُمْتَ تجني ثمرات الغِنى ... فاعكُفْ لِدَرْسِ "الكلم الطَّيِّبِ" فهو كتابٌ لم يَزَل فضلُه ... أشهرُ من فضلِ "أبي الطيِّبِ" (2) وقال أحمد بن محمد بن إسحاق (ت: 1190) (3): إنْ رُمْتَ رَفْعَ العمل الصالح ... فاقْطِفْ زهور "الكلم الطَّيِّب" وارْشُفْ بِثَغْرِ الفِكْرِ مِنْ لفظه ... رحيق معنًى رائقٍ أطْيَبِ ودَعْ "قفا نَبْكِ" و"قالوا غدًا ... نأتي إلى الشِّعْبِ حِمى الأشنب" (4) وقال صديق حسن خان -بعد أن ذكر طائفة من تصانيف ابن القيِّم، ومنها هذا الكتاب-: "وظنِّي أنَّ من كان عنده تصنيفٌ من تصانيف هذا الحبر العظيم الشأن، الرفيع المكان، أو تصنيف شيخه. . . = لكفى لسعادة دنياه وآخرته، ولم يحتج بعد ذلك إلى __________ (1) كان من أكابر علماء عصره. ترجمته في "نشر العرف" (3/ 383 - 390)، و"ملحق البدر الطالع" (238) لمحمد بن محمد زبارة. (2) مِنْ ظهر نسختي مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء، رقم (473)، و (506). (3) من أكابر العلماء المحققين. كذا نعته الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 97 - 98)، وانظر: "نشر العرف" (1/ 237 - 248). (4) مِنْ ظهر النسختين السابق ذكرهما.

(المقدمة/21)


تصنيف أحد من المتقدمين والمتأخرين في درك الحقائق الإيمانية إن شاء الله تعالى" (1) . والعباراتُ المذكورة في إطراء تصانيف ابن القيِّم، وتنَوُّقِه فيها، وتجويده لها، وقبول جميع الطوائف وانتفاعهم بها؛ كلُّها تصدقُ على هذا التأليف. وقد تقدم نقل عبارات المصنِّف في الثناء على كتابه هذا بما يغني عن إعادته هنا. __________ (1) "أبجد العلوم" (3/ 143).

(المقدمة/22)


موضوعُ الكتاب ومنهجُ المصنِّف * موضوع الكتاب: رسالةٌ بعث بها ابنُ القيِّم إلى بعض إخوانِه، كما يقول تلميذه "علي بن محمد بن علي بن حميد الحنبلي البعلي" في صدر نسخته التي وصلتنا بخطه، وهي فائدة لم تذكر -فيما رأيت- في شيء من المصادر المعتنية بالإمام وتصانيفه. وقطبُ رحى الرسالة، وإنسانُ عينها، كما يشيرُ إليه العنوانُ الذي اختاره المصنِّفُ لها = يدور على بيان فضل ذكر الله -عز وجل-، وعظيمِ أثره وفائدته، وجليل مكانته ومنزلته، ورفيع مقامِه ودرجتِه، وجزيلِ الثواب المُعَدِّ لأهله، المُتَّصِفين به، في الآخرة والأولى. وقد سلك المصنِّف لعرض هذا الموضوع مسلكًا -في التأليف- بديعًا غير مألوف، وانتهج له فيه سبيلًا غير مطروقةٍ، وأخذ بيدِ قارئه، فمازال به يُمهِّد له القول، ويبعثُ فيه الشّوق، وهو يَجُوزُ به الطريق منزلةً منزلةً = حتى وقع به عليه، دون أن تَلْحَقه وحشةٌ، أو يعتريه ملال. ذلك أنه لم يَصْمُد إليه صَمْدًا، ولا قصده بالقول من أوّل الأمر، وإنما جعله ضمن شرحه لحديث الحارث الأشعريِّ الطويل: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات. . ." الحديث، فجاء في موضعه منه غايةً في الانسجام ولُطفِ التدبير. افتتح المصنّفُ الكتابَ بمقدّمة لطيفةٍ ذكر فيها الطِّباق التي لا يزالُ العبدُ يتقلَّبُ فيها دهرَه كلَّه، وأشار إلى حظِّ الشيطان منه، ومداخله إليه، ثمَّ ابتدأ فصلًا نافعًا عن استقامة القلبِ، وبيَّن أنها تكون بشيئين،

(المقدمة/23)


وأفاض في شرح الثاني منهما، وهو: تعظيم الأمر والنهي؛ بذكر منزلته، وعلامات تعظيم الأوامر والنواهي، مُضَمِّنًا ذلك أبحاثًا وتحقيقاتٍ جليلة. ثم ابتدأ شرح الحديث الذي أقام الرسالة عليه (1) ، وأدار مباحثها حوله، (حديث الحارث الأشعريّ المتقدم)، فشرح الأوامر الأربعة الأولى الواردة فيه -مع أمثالها (جمع مِثال ومَثَل) - أمرًا أمرًا: التوحيد، ثم الصلاة، ثم الصيام، ثم الصدقة. وهو في خلال ذلك يستطردُ إلى فوائد ولطائف يَنْجَرُّ إليها البحثُ، وتستدعيها مناسبةُ المقام، على طريقته المعهودة في هذه الصناعة، صناعةِ التأليف. ثم تَخلَّص بعد ذلك (2) إلى الحديث عن الأمر الخامس الأخير: __________ (1) قال المصنف (ص: 205): " .. فهذا مطابقٌ لحديث الحارث الأشعريِّ الذي شرحناه في هذه الرسالة". (2) هذا التخلُّصُ هو المسلك البديع الذي أشرنا إلى سلوك المصنِّف له في هذا الكتاب، وهو من محاسنِ البلاغة في النَّظْم، وضُروبِ التَّفَنُّنِ في الإنشاء. وقد استخدمه المصنفُ هنا في صناعة التأليف. وهو شيءٌ طريف. قال ضياء الدين بن الأثير (ت: 637) في "المثل السائر" (1/ 121) و"الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور" (181): "فأمّا التخلُّص فهو أن يأخذ مؤلِّف الكلام في معنى من المعاني، فبينا هو فيه إذْ أَخَذ معنًى آخر غيره، وجَعَل الأول سببًا إليه، فيكون بعضُه آخذًا برقاب بعضٍ، من غير أنْ يَقْطَع المؤلف كلامه ويستأنف كلامًا آخر، بل يكونُ جميع كلامه كأنما أُفْرِغ إفراغًا" وصنيعُ المصنِّفِ ليس مطابقًا لهذا، ولكنه منهُ بسببٍ.

(المقدمة/24)


(الذِّكر)، وهو المقصود بهذا التصنيف، فافتتح القول فيه بذكر طائفة طيِّبة من النصوص الواردة في فضله وشرفه، ثم شرع في سرد فوائده، فذكر ثلاثًا وسبعين فائدة (1) ، ثم عقَّب ذلك بفصولٍ نافعةٍ ثلاثة، تتعلَّقُ بالذكر تقسيمًا وتقعيدًا، وجعل الفصل الرابع في الأذكار المُوظَّفة التي لا ينبغي للعبد أن يُخِلَّ بها، وكسَّره على خمسةٍ وسبعين فصلًا، تشتمل على الأذكار التي يحتاجها العبدُ في سائر أحواله، ثم ختم كتابه بحمد الله عز وجلَّ، والصلاة على نبيّه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما عرَّف بالله تعالى ودعا إليه. وهكذا مضى المصنِّفُ في كتابه على سَنَنٍ بَيِّنٍ، وسبيلٍ واضحةٍ لا أَمْتَ فيها ولا اعوجاج. ولعلَّ من لم يُمْعِن النظر في الكتاب كُلِّه، ولا أحاط بأطرافِ مباحثه، ولا أَلَمَّ بمعاقد القول فيه؛ أنْ يَصِفَه بعدم الترتيب، واختلالِ النَّظْم؛ فِعْلَ ضَعَفَةِ القُرَّاءِ مِنْ متعالمي العَصْر. وهو كما ترى .. وُضوحَ طريقةٍ، واستقامةَ منهج. ولمّا كان عُظْمُ الكتاب وعمودُه، ومقصودُه الأجَلّ، ومرادُه الأهمّ؛ الحديثَ عن الذكر، بيانًا لفضله، وإيضاحًا لفوائده، وبسطًا وتعدادًا لمواضِعه وأزمنته = ناسبَ أن يسمِّي المصنِّفُ كتابه بما يوافق هذا المقصود. __________ (1) ثم ذكر بعد ذلك فائدة أخرى (ص: 225).

(المقدمة/25)


* أمّا ما يتعلَّق بمنهج المصنِّف في الكتاب، فإنّ المُتَمعِّنَ فيه يلحظ أمورًا، منها: 1 - أنّ المصنِّف فيما يتعلَّق بالفصل الرابع الذي عقده لبيان الأذكار المُوَظَّفةِ (وهو ما يمثِّل الثلث الأخير من الكتاب تقريبًا) قد استفاد من كتاب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الكلم الطيب" استفادةً عظيمة، واتخذه -فيما يظهر- أصلًا لفصله هذا (1) ، وشواهدُ ذلك من الكتابَيْن حاضرةٌ بيِّنةٌ، ومَنْ قارن بين أيِّ فصلين مِنْ فصولهما لم يتردَّدْ في هذا، ولم يَحْتَجْ إلى عناء تكلُّف إقامة الاستدلال عليه. فالنصوصُ الواردة في مُعْظَم فصول الكتابين واحدة، وترتيبُها داخل الفُصولِ مُتَّحِدٌ في الغالب، وطريقةُ سياق رواياتها مُتَّفِقةٌ كذلك، وعباراتُ شيخ الإسلام المبثوثةِ في كتابه هي في نفسِ مواضعها من هذا الكتاب. إلّا أنّ كتاب المصنِّف -مع ذلك كلِّه- ليس نُسْخةً من كتاب شيخه -في هذا القِسْمِ، قِسْمِ الأذكار- كما قد يَظنُّ مُتَعجِّلٌ، بل لابن القيِّم فيه من الإضافات والتَّهذيب والتَّحرير ما هو خليقٌ بشخصيَّته العِلميَّة المُجَدِّدة. فمِنْ عَمَلِ ابن القيِّم: أنه أضاف إلى كتابه فصولًا كثيرة ليست في __________ (1) كما اتخذ شيخُ الإسلام كتابَ "الأذكار" للنوويِّ أصلًا لكتابه. وانظر: مقدمة الشيخ الألباني لِـ"الكلم الطيب" (51).

(المقدمة/26)


كتاب شيخه (1) ، كما أضاف أحاديث (2) ، ونثر فوائد (3) ، ومسائل (4) ، في مواضع متفرّقة من الكتاب. ومِنْ جهةٍ أخرى، فلم يُبْقِ على كُلِّ ما حواه كتابُ شيخه، ولا تابعه على جميع ما أورده، بل حذف فصولًا برُمَّتها، لعدم صحة أحاديثها (5) ، أو لكونها ليست مِنْ غرضه في هذا القِسْم (6) ، كما حذف أحاديث أشار ابنُ تيمية إلى ضعفها بتصديرها بصيغة التمريض (7) ، وأخرى غيرُ ذاك المقام أليقُ بها (8) . وحرَّر بعضَ ما يحتاج إلى تحريرٍ، كالفصلِ بين فُصولٍ وَرَدَتْ متَّصلةً في كتاب شيخه (9) . __________ (1) انظر: الكتاب (287 - 292، 299، 333، 376 - 379، 380 - 381، 382 - 384، 385 - 386، 387 - 388، 389 - 390، 391، 392 - 393، 394، 397، 398، 399، 400، 403 - 420). وعدد فصول كتاب شيخ الإسلام: اثنان وستون فصلًا، بينما عدد فصول هذا القسم من كتاب المصنف خمسة وسبعون فصلًا. (2) انظر: الكتاب (261، 269، 285، 312). (3) انظر: الكتاب (268 - 269، 285، 401 - 402). (4) انظر: الكتاب (389 - 390). (5) انظر: "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام (146، 171 - 172). (6) انظر: "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام (87 - 89). (7) انظر: "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام (92)، وكتابنا (264). (8) انظر: "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام (94، 122)، وكتابنا (265، 303). (9) انظر: "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام (110، 137 - 138)، وكتابنا (283، 320، 321).

(المقدمة/27)


وتصرَّفَ في ترتيب الفُصولِ، وأعاد صياغة عناوينها، فكتبها بقلمه وإنشائه، كما تصرَّفَ في طريقة العَزْوِ إلى مُخرجي الحديث بالتقديم والتأخير، ونحو ذلك. ومن البدهيِّ أنَّ مثل هذا العمل لا يُعَدُّ شرحًا بحالٍ، وإن كان إلى التهذيب ما هو، وقد تقدَّمت الإشارة إلى وهم حاجي خليفة حين ظنّ كتاب ابن القيِّم هذا شرحًا لكتاب شيخه ابن تيمية. قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: "غير أن في إطلاقه (يعني: حاجي خليفة) اسم الشرح على كتاب ابن القيّم نظرًا كبيرًا، بل لا يصحُّ ذلك عندي؛ لأمرين: الأول: أنه ليس شرحًا بالمعنى المتبادر من هذا اللفظ "الشرح". والآخر: أنه كتاب مستقلّ، غير أنه ضمَّنه جُلَّ فصول كتاب شيخه هذا. . ." (1) . ومن الأمور الملاحَظَة في منهج المصنِّف في الكتاب: 2 - أن المصنف رحمه الله تعالى أورد في كتابه أحاديث ضعافًا في بعض الأحيان، كما أورد في أحيانٍ أخرى بضعة أحاديث شديدة الضعف، أشار إلى ضعف بعضها وأعرض عن بعض، على طريقة أهل الحديث في التساهل في مرويَّات الرِّقاق وفضائل الأعمال (2) . __________ (1) مقدمة "الكلم الطيب" (56). (2) وعباراتهم الدالَّة على هذا المعنى، وتطبيقاتهم في الباب كثيرةٌ منتشرة. انظر: "العلل" لأحمد (1/ 195 - رواية عبد الله)، و"التاريخ" ليحيى بن =

(المقدمة/28)


وأحاديثُ الأدعية والأذكار من أبواب الفضائل في الجملة، ولذا جرى التسامح فيها (1) . وتحريرُ طريقة الأئمة ومرادِهم بالتساهل في هذه الأبواب ينضبط بأمرين: 1 - أن لا يشتدَّ ضعفُ الحديث (2) . 2 - أن يندرج تحت أصلٍ شرعيٍّ صحيح، فلا يكون فيه إثباتٌ لحكمٍ لم يَرِدْ في النصوص الثابتة (3) . __________ = معين (3/ 60، 247 - رواية الدُّوري)، و"الكامل" لابن عدي (1/ 366)، و (7/ 52)، و"تاريخ بغداد" (7/ 89)، و (13/ 460)، و"الكفاية" (133 - 135) و"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 122 - 123)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1402)، و"التمهيد" له (6/ 39)، و (8/ 142)، و (16/ 154)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 184)، و (8/ 520)، و"تهذيب الكمال" (28/ 105)، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 72 - 74). (1) انظر: "علل ابن أبي حاتم" (1/ 17)، و"صحيح ابن خزيمة" (4/ 264)، و"المستدرك" للحاكم (1/ 490، 500)، و"شعب الإيمان" (5/ 45 - 47)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (1/ 34)، و"عارضة الأحوذي" (10/ 205). (2) نصَّ عليه البيهقي والذهبي، وحُكِي إجماعًا. انظر: "دلائل النبوة" (1/ 34)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 520)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 13)، و"القول البديع" للسخاوي (472 - 473). (3) نصَّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، والشاطبي، والمعلمي، وغيرهم. انظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 408 - 409)، و (18/ 65 - 66)، (20/ 261)، و"التوسل والوسيلة" (1/ 250، 251 - الفتاوى)، و"الاعتصام" =

(المقدمة/29)


وليس في عباراتهم ما يقتضي تجويزهم -بَلْهَ استحبابهم- للعمل بخبرٍ لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيما لم يأتِ ما يشهد له من الشرع. وعبارةُ بعضهم صريحةٌ في أن مَوْرِد التساهل إنما هو فيما لا يضع حكمًا ولا يرفعه، أو فيما لا يتعلَّق به حكم، ونحو ذلك. أمَّا الأحاديث الضعيفة في أبواب الأدعية والأذكار، فإن الداعي أو الذاكر إذا قصد التعبُّدَ بأعيانِ ألفاظها، في ذلك الزمان الخاصّ، بتلك الكيفية الخاصة؛ فسبيل هذا سبيلُ الأحكام الشرعية التي لا تؤخَذُ إلّا مِنْ صِحاح الآثار ومستقيم الروايات، أمّا إن لم يقصد ذلك، وإنّما اختارها لإيجازها وبُعْدِها عن التكلُّفِ ونحو ذلك؛ فالأمر واسعٌ إن شاء الله، وعلى مثله تُحمَل عبارات الأئمة: أبي زرعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي المُشار إليها آنفًا، والله أعلم. وقال العلّامة المعلّمي: ". . . صيغةُ الدعاء المرويَّةِ بسندٍ ضعيفٍ يكثرُ الانتفاع بها بدون ارتكاب محظور، فقد يختار المكلَّف ذلك الدعاء لا لكونه مأثورًا، بل لكونه جامعًا للمقاصد، أو بليغًا، أو مناسبًا لحاله، ونحو ذلك، وإذا اختير دعاءٌ لِداعٍ من هذه الدواعي، وواظب عليه المختارُ لم يكن عليه حرجٌ إجماعًا. . ." (1) . وينبغي -مع هذا- أنْ يُقْرَنَ الحديثُ الضعيفُ في عصرنا ببيان __________ = (2/ 21 - 23)، و"الأنوار الكاشفة" (87 - 88)، و"شرح الشفاء" للخفاجي (1/ 43)، و"مرقاة المصابيح" للقاري (2/ 381)، و"وبل الغمام" للشوكاني (1/ 53 - 56). (1) "حكم العمل بالحديث الضعيف" (ق 16).

(المقدمة/30)


ضعفه؛ لغلبة الجهل وقِلَّة التثبُّت، وليقوم ذلك مقام إبراز الإسناد، أو صيغ التمريض، فيما سلف. ومن الأمور الملاحظَة في منهج المصنِّف في الكتاب: 3 - اعتمادُه ورجوعُه إلى الكتب المُعْتنية بموضوع كتابه، وإفادته منها، ككتاب ابن أبي الدنيا (ولعله: الذكر)، و"الترغيب والترهيب" لأبي موسى المديني، و"الذكر" للفريابي، وهذه الثلاثة لا نعلم عن وجودها اليوم شيئًا. وككتاب "عمل اليوم والليلة" للنسائي، وابن السني، و"الدعوات الكبير" للبيهقي، ونحوها. 4 - عنايتُه البالغة بنصوص الوحى: الكتاب والسنة، استشهادًا، وتفسيرًا، وتمثُّلًا، واستنباطًا. وهذا شأنه وديدنُه في عامة تواليفه ومصنفاته، وهي في هذا الكتاب على ما ترى من الظُّهور والجلاء.

(المقدمة/31)


طبعات الكتاب * طُبع هذا الكتابُ قبل أكثر من مائة عامٍ طبعةً حجريَّةً في دهلي - الهند، سنة 1895 م. * ثم طُبع ضمن "مجموعة الحديث النجدية" عدة طبعات: - في القاهرة، سنة 1342. - وفي القاهرة، المطبعة السلفية، سنة 1375. - وفي الرياض، مطابع الحكومة، سنة 1389. * ثم طُبع في إدارة الطباعة المنيرية، بالقاهرة، سنة 1953 م (1). * ثم قام الشيخان عبد القادر الأرنؤوط وإبراهيم الأرنؤوط بالتعليق على الكتاب، وطُبع به في مكتبة المؤيد، بالطائف. ثم أعاد الشيخ عبد القادر الأرنؤوط نشره في مكتبة البيان، بدمشق، سنة 1391. ولعل هذه الطبعة هي أوَّلُ ما لقي الكتابُ من العناية بالتعليق عليه، والتخريج لأحاديثه، إلّا أنه وقع فيها بعض الخلل، من جهة التصرُّفِ في نصِّ الكتاب، بالاقتراح، والتغيير، والإضافة، في بعض المواضع، وقد ضرب لذلك بعض المُثُل الشيخُ إسماعيل الأنصاري في مقدِّمة __________ (1) "المداخل لآثار ابن القيّم".

(المقدمة/32)


نشرته (9 - 11، 15 - 16). * ثم عُهِد إلى الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى القيام بتصحيح الكتاب، بمقابلته على أصوله الخطية، والتعليق عليه، فقام بذلك، ونشَرتْهُ رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (ولم يُذْكَر تاريخ النشر). وهذه الطبعة -فيما أحْسِب- هي أفضل ما ظهر من طبعات الكتاب إلى اليوم، على كثرتها، وقد أُولي النصُّ فيها عنايةً حَسنةً، وعُلِّق عليه تعليقاتٍ نافعةً في الجملة، لولا تأخُّرُ النُّسخِ المُعتَمَدِ عليها في إخراج الكتاب؛ مِمَّا قَعَد بها في مواضع عن إدراك الصواب، ولولا قصورٌ في تخريج النصوص، وانعدامُ العزو فيه إلى المصادر برقم الجزء والصفحة، ولولا خلوُّها من الفهارس بقسمَيْها: اللفظية والعلمية. * ثم طُبِع الكتاب بعد ذلك طبعاتٍ كثيرة، كان مِنْ آخرها: * طبعة مكتبة الرشد، بالرياض، سنة 1422، بتحقيق: إياد بن عبد اللطيف القيسي، عن نسختين خطيتين (نُسِخَتْ إحداهما سنة 1208، والأخرى -وهي متأخرة جدًّا- سنة 1370)، وعن مطبوعتَيْ الأرنؤوط والأنصاري. ووقع في هذه الطبعة غيرُ قليلٍ من السَّقط، والتحريف، مع قصورٍ -متعدِّدِ الجهات- في التخريج والتعليق والفهارس. * ثم طُبِع بعد ذلك بمكتبة الفرقان، بعجمان - الإمارات، بتحقيق: سليم بن عيد الهلالي، سنة 1422، عن نسخةٍ واحدةٍ (لم يُذْكَر تاريخُ

(المقدمة/33)


نسخها)، وزعم المحقِّقُ أنه اعتمد عليها وقابلها مرارًا، وجعل ما كان زائدًا عليها من المطبوعات بين معكوفين. وبالنظر إلى صورة الورقة الأولى من المخطوط المُعتَمَدِ عليه، ومقارنته بنظيره من المطبوع المحقَّق؛ وجدتُ ثمانية وعشرين فرقًا (ما بين سقطٍ وإضافةٍ وتغييرٍ) خالف المحقِّقُ فيه الأصلَ دون إشارةٍ أو تنبيه!. وصورةُ الورقة الأولى من المخطوط مُثبتةٌ في أول طبعته (20 - 21)، لمن شاء أن ينظر. وكان المحقِّقُ قد اختصر الكتاب، وسمَّى مختصره: "صحيح الوابل الصيب"!، فلم يُحْسِنْ، ونشرته دار ابن الجوزي سنة 1409 (1) . * وقد تُرجم الكتابُ إلى الأردية، بعنوان "ذكر إلهي"، طبعة تاند لبانوا له، باكستان، مكتبة عتيقية، (بدون ذكر تاريخ النشر) (2) . __________ (1) انظر لنقد عمله هذا: كتابَ "أوقفوا هذا العبث بالتراث" (114) لمحمد بن عبد الله آل شاكر. (2) "المداخل لآثار ابن القيم".

(المقدمة/34)


الأصولُ الخطِّيةُ المُعْتَمدة اعتمدتُ في إخراج الكتاب على أربع نسخٍ خطيّة، إليك وصفَها: * النسخة الأولى: ورمزت لها بالحرف (ت)، وهي من محفوظات مكتبة شهيد علي بتركيا، برقم (530). وتقع في (113) ورقة، وفي الورقة صفحتان، وفي الصفحة (17) سطرًا، وفي السطر نحو تسع كلمات تقريبًا. وهي بخطٍّ نسخيٍّ جميل، وعناوين الفصول مكتوبة بالمداد الأحمر؛ لذا لم تظهر في التصوير، وكاتبها تلميذٌ من تلامذة المصنِّف (ابن القيم)، كتبها سنة (795)، أي: بعد وفاة ابن القيم بستٍّ وأربعين سنة. ففي فاتحتها: "هذه رسالة كتبها شيخنا الإمام. . ."، وفي خاتمتها: "فرغ من كتابته العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير، والمعترف بالزلل والتقصير، الراجي عفو ربه القدير، المستجير بربه أن يقيه عذاب السعير، علي بن محمد بن علي بن حميد الحنبلي البعلي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين، آمين، والحمد لله رب العالمين، وذلك في يوم الأربعاء سادس عشر شهر رجب الفرد سنة خمس وتسعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

(المقدمة/35)


ومع جمال خطِّ النسخة، وتأنُّقِ كاتبها فيه، وعنايته بعلامات الضبط والإهمال، وتجويده لبعض المواضع المشكلة في النسخ الأخرى = إلّا أنه حصل له انتقال نظر في مواضع عديدة من الكتاب، فسقطت عليه بذلك طائفة من الجمل والكلمات، مع أخطاء أخرى كثيرة متفرقة، وبسبب عدم مقابلته لها لم تُسْتَدرك تلك المواضع. وقد كانت هذه النسخة خليقةً بأن تُتَّخذ أصلًا لولا هذا الذي ذكرت. ويبدو أنَّ أحد مالكيها -فيما يظهر- صنع لها فهرسًا لفصولها في أوّلها. وقد كُتب عنوانُها بخطٍّ حديثٍ على آثار الخط الأوَّل الذي كُتِب به أوَّل مرة، إلّا أن بقايا آثار الخط الأول تلوح بين كلمات الخط الثاني وتدلُّ على عدم تطابُقِ العُنوانَيْن، وورد العنوان المكتوبُ بالخط الحديث هكذا: "كتاب الكلم الطيب لابن قيم الجوزية". وتحت العنوان بيتان لا علاقة لهما بموضوع الكتاب، منسوبان لابن الراوندي، وتحتهما أبيات خمسة أخرى في فوائد السَّفَر. * النسخة الثانية: ورمزتُ لها بالحرف (ح)، وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكي الشريف، برقم ( 2508/ 2 ). وتقع في (87) ورقة، وفي كل ورقة صفحتان، وفي الصفحة (21) سطرًا، وفي السطر إحدى عشرة كلمة تقريبًا. وهي بخط نسخيٍّ واضح مقروء، وإن كان الناسخ قد يَعْجَل في بعض الأحيان فيقرمط الحروف.

(المقدمة/36)


والخطأُ والسقط في هذه النسخة ليس بالقليل، وقد كُتِبَتْ سنة (1123)، ونُقِلَتْ من نسخةٍ مكتوبةٍ سنة (788)، وقُوبِلَتْ عليها. وليس على النسخة اسمُ الناسخ، ولا هناك ما يدلُّ عليه. وجاء في خاتمتها ما صورته: "ووافق تحرير هذه النسخة من (. . .) تاريخه ثمانية وثمانين وسبعمائة من الهجرة النبوية. تمت بالخير". وتحته: "ووافق الفراغ من مقابلة هذه النسخة المباركة على أصلها سادس وعشرين شهر جماد الآخر من شهور سنة 1123 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده". وورد عنوان الكتاب فيها هكذا: "الوابل الصيب في الكلم الطيب". * النسخة الثالثة: ورمزت لها بالحرف (م)، وهي من محفوظات مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء، برقم (499). وتقع في (46) ورقة، وفي الورقة صفحتان، وفي الصفحة (30) سطرًا، وفي السطر نحو (14) كلمة تقريبًا. وهي بخط نسخيٍّ واضحٍ قليل الخطأ، كتبها عبد الله بن محمد الكِبْسي، وابتدأ النَّسْخَ في السَّابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1178، وفرغ منه في السابع عشر من شهر محرم سنة 1179.

(المقدمة/37)


فعلى ظهر النسخة ما مثاله: "الحمد لله، مباركُ الابتداء: ضَحْوَةُ الخميس، السابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة 1178". وجاء في آخرها: "وكان الفراغ من تحصيل هذه النسخة المباركة نهار السبت، لعله سابع عشر، شهر محرم سنة 1179، كاتبه الفقير إلى الله، عبد الله بن محمد الكبسي وفقه الله". وقد قرأها ناسخها (1) على والده العلامة قاسم بن محمد الكِبْسي (2) ، وابتدأ القراءة في آخر شهر ذي القعدة سنة 1178، وفرغ منها في الثالث والعشرين من شهر محرم سنة 1179. فقد جاء على ظهر النسخة: "كان الشروع في سماع هذا الكتاب المبارك على سيدي الوالد العلامة قاسم بن محمد الكبسي متعنا الله والمسلمين بحياته، عشية السبت، لعله تاسع وعشرون من شهر ذي القعدة الحرام سنة 1178، أعان الله على التمام". وفي آخرها: "بلغ سماع وقراءة على سيدي الوالد العلامة قاسم بن محمد الكبسي متَّع الله بحياته، وذلك بين العشائين في الليلة الغرّاء، ليلة اليوم الأزهر، وذلك ثالث وعشرين من شهر محرم سنة 1179، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات". __________ (1) هذا الذي يغلب على ظنِّي، وكأنه انتسب إلى جدِّه. (2) توفي سنة 1201، وله ترجمة في "البدر الطالع" (2/ 52)، وأثنى عليه الشوكاني، ووصفه بالبراعة في العلوم، ولا سيّما الحديث.

(المقدمة/38)


وعلى صفحة العنوان أبياتٌ في مدح الكتاب، إلّا أنه ضُرِب عليها؛ ولعله للاختلال الظاهر في وزنها. وعليها أيضًا خمسة تملُّكاتٍ للكتاب، وختمُ وقفيَّة الخزانة المتوكلية بالجامع المقدس بصنعاء. وقد وقفتُ على نسختين أُخْرَيَيْنِ من مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء، برقم (473، و 506)، وبعد دراستهما ترجَّح عندي أنهما منسوختان عن هذا الأصل الذي اعتمدته هنا، ورمزت له بـ "م"، ولذا لم أُشْرِكْهُما في إثبات الفُروق، وإن كنت قد أفدتُ منهما في مواطن مشكلة في النسخة (م)، كما نقلتُ منهما أبياتًا في الثناء على الكتاب. * النسخة الرابعة: ورمزتُ لها بالحرف (ق)، وهي من محفوظات مكتبة الأوقاف ببغداد، برقم (7146). وتقع في (69) ورقة، وفي الورقة صفحتان، وفي الصفحة (23) سطرًا، وفي السطر نحو (12) كلمة تقريبًا. وهي بخط فارسيٍّ جميل، وفيها بعض الخطأ والسقط، وإن كانت مُقابَلةً كما ذُكِر في خاتمتها. وجاء في آخرها ما مثاله: "وقع الفراغ منها في ربيع الثاني سنة 1208، على يد صاحبها الفقير عبد العزيز التكريتي، نجل السيد مال الله، عفا الله عنهما".

(المقدمة/39)


ثم عاد الناسخ فكتب على ظهرها بعد حين: "قد كتبتُ هذه النسخة النفيسة لنفسي بيدي، وهي ممّا يُكتَب بماء العيون، وأنا الفقير إليه عزَّ شأنه: عبد العزيز بن السيد مال الله التكريتي، غفر الله لي ولوالدي ولجميع المسلمين، آمين، صحف (كذا) يوم الجمعة في شهر جمادى الأولى سنة 1208". وورد في آخرها: "بلغ مقابلة وتصحيحًا بعون الله على حسب الطاقة". وعلى ظهر النسخة في أعلاها تملُّكٌ لمحمد أفندي الخنشال سنة 1308, وفوقه ختم المكتبة النعمانية التي أوقفها نعمان الآلوسي، وتكرر الختم كذلك في آخر النسخة. وفي أسفل الصفحة ختم صغير لعبد العزيز بن السيد (ناسخ الكتاب).

(المقدمة/40)


عملي في الكتاب 1 - كتبتُ مقدمة للكتاب، بيَّنْتُ فيها -بإيجازٍ- موضع بابِ الذكر والدعاء من العِلْم والدِّين، وشريفَ مقامِه، وجليلَ منزلتِه، وحضَّ الأئمة على العناية بكتابته وتحصيله، وبثِّه ونشره. 2 - قمتُ بدراسة الكتاب والتعريف به من حيث: اسمه، ونسبته إلى المصنف، وتاريخ تصنيفه، والثناء عليه، وموضوعه ومنهج المصنف فيه، وطبعاته، والأصول الخطية التي اعتمدتها في هذه النشرة. 3 - قابلتُ النسخ الخطيَّة التي اعتمدتُها، وأثبتُّ ما أراه صوابًا منها عند اختلافها، مع الإشارة إلى القراءات الأخرى المهمَّة المحتملة، ومواضع السقط في النُّسَخ، في الهامش، على طريقة النصِّ المختار، وأوليتُ النسخة (ت) في هذا عناية فائقة، لمكانتها، حتى ليوشك أن أكون قد اتخذتُها أصلًا. وأهملتُ الإشارة إلى كثيرٍ من أخطاء النُّسَّاخ وتحريفاتهم الظاهرة، وما لا يتغيَّر به المعنى غالبًا؛ لئلَّا تثقل الحواشي بغير طائل. وقد خَلَتْ النسخة (ت) -في كثير من المواضع- من ألفاظ التعظيم (تعالى، عز وجل)، والتكريم (رضي الله عنه) ونحوها، وهي ثابتة في معظم النسخ الأخرى، فأثبتُّها منها، ولم أُنبِّهْ على ذلك في كل موضعٍ اكتفاءً بهذه الإشارة هنا. ويبدو أنَّ ارتفاع موضوع الكتاب عن دقائق العلوم المتخصِّصة التي

(المقدمة/41)


لا يرومها إلا فئامٌ قليلٌ من الناس، ومباشرَتِه لأبواب السلوك والإرادة على هذا النحو الشَّيِّقِ الآسِر السَّهْل؛ لقَّى الكتابَ قبولًا واسعًا بين أوساط عامَّة الطبقات؛ لاحتياجهم جميعًا لمسائله ومواعظه، وافتقارهم إلى أحاديثه ورقائقه. فتعاورَتْهُ لذلك أيدي النُّسَّاخ، وكثرت نُسخه وانتشرت انتشارًا، وكان هذا -والله أعلم- سببًا لتلك الكثرة الظاهرة من الفروق والاختلافات في نصِّه. ويصحِّح هذا أنّ غالبَ هذه الاختلافات شكليَّةٌ لا تَمَسُّ جوهر الفكرة، ولا تعدو التقديم والتأخير، وحذف كلمة وإضافة أخرى، وإبدال لفظةٍ بنظيرتها، وتأنيث ضمير أو تذكيره، إلى أشباه ذلك ممّا اعتادَتْهُ أيدي ضَعَفةِ النُّسَّاخ، وألِفَتْهُ أقلامُهم، وممَّا لا يتغيَّر به المعنى غالبًا، ولا يختلُّ بسببه السِّياق. وهذا الذي وصفتُ لك من أمر النُّسخ هو الذي حملني على انتهاج هذه الطريقة في قراءة الكتاب، وأرجو أن أكون قد سدَّدْتُ وقاربتُ. 4 - قرأتُ النصَّ قراءة تأنٍّ وتدبُّرٍ، وأعدتُ ترقيمه وتوزيعه. 5 - عزوتُ الآيات القرآنية إلى سورها، وخرَّجْتُ الأحاديث والآثار تخريجًا مختصرًا يفي بالمقصود، ولم أَخْرُجْ عن ذلك إلّا في موضعين أو ثلاثة؛ لغرضٍ صحيحٍ اقتضاه المقام. 6 - نسبتُ الأبيات الشعرية إلي قائليها ما أمكنني ذلك. 7 - أحَلْتُ في مواضع عديدة على مواطن بحث ابن القيّم وابن تيمية

(المقدمة/42)


وغيرهما من أهل العلم لكثير من المسائل والمباحث التي تعرَّض لها الكتاب. 8 - علَّقْتُ تعليقاتٍ موجزة على بعض ما بدا لي حاجته إلى توضيحٍ وبيان. 9 - صنعتُ فهارس لفظيَّةً (1) وعلميَّةً للكتاب، تُذَلِّلُ فوائده وتُقَيِّد شوارده. وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في صحائف الحسنات، وأن يتقبله بقبولٍ حسن، وأن يتجاوز عما فيه من التقصير والزَّلل، إنه أكرم مسئول. وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب عبد الرحمن بن حسن بن قائد الريمي الاثنين 19 من صفر سنة 1424 مكة المكرمة -حرسها الله- __________ (1) انظر: مقدمة "شرح المسند" للشيخ أحمد شاكر (1/ 5).

(المقدمة/43)


نماذج من الأصول الخطِّيَّة المعتمدة

(المقدمة/45)


صفحة العنوان من النسخة (ت)

(المقدمة/47)


الصفحة الأولى من النسخة (ت)

(المقدمة/48)


الصفحة الأخيرة من النسخة (ت)

(المقدمة/49)


صفحة العنوان من النسخة (م)

(المقدمة/50)


الصفحة الأولى من النسخة (م)

(المقدمة/51)


الصفحة الأخيرة من النسخة (م)

(المقدمة/52)


صفحة العنوان من النسخة (ح)

(المقدمة/53)


الصفحة الأولى من النسخة (ح)

(المقدمة/54)


الصفحة الأخيرة من النسخة (ح)

(المقدمة/55)


صفحة العنوان من النسخة (ق)

(المقدمة/56)


الصفحة الأولى من النسخة (ق)

(المقدمة/57)


الصفحة الأخيرة من النسخة (ق)

(المقدمة/58)


صفحة العنوان من نسخة الجامع الكبير بصنعاء رقم (473)

(المقدمة/59)


صفحة العنوان من نسخة الجامع الكبير بصنعاء رقم (506)

(المقدمة/60)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين هذه رسالة كتبها شيخنا الإمام العالم الحَبْر العلّامة شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، المعروف بابن قيم الجوزية، تغمده الله برحمته، إلى بعض إخوانه، وسمّاها "الكلم الطيب والعمل الصالح"، وهي كما سمّاها (1). قال: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهُ سبحانه وتعالى المسئُول (2) المرجوُّ الإجابة أن يتولاكم في الدنيا والآخرة، وأن يُسْبِغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنةً (3)، وأن يجعلكم ممن إذا أنْعَم الله عليه شكر، وإذا ابْتُلِيَ صبر، وإذا أذنب استغفر؛ فإن هذه الأمور الثلاثة هي عُنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا يَنْفَكُّ عبدٌ عنها أبدًا، فإنّ العبد دائمًا يتقلَّبُ بين هذه الأطباق الثلاث. نِعَمٌ من الله تعالى تترادف عليه، فَقَيْدُها الشكر، وهو مبنيّ على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وتصريفها في مرضاة __________ (1) هذه المقدمة انفردت بها النسخة (ت). (2) (ت): "الله سبحانه المرجوّ". (3) (ت) و (ق): "باطنة وظاهرة".

(1/5)


وَليِّها ومُسْدِيها ومعطيها (1). فإذا فعل ذلك فقد شكرها، مع تقصيره في شكرها (2). الثاني: مِحَنٌ من الله تعالى يبتليه بها، ففرضُه فيها الصبر والتسليم (3). والصبر: حبس النفس عن التَّسخُّط بالمقدور، وحبس اللِّسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية (4)، كاللَّطْم، وشق الثياب، ونتف الشعر، ونحو ذلك. فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها (5) العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يَبْتلِهِ ليُهْلِكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديّته، فإن لله تعالى على العبد عبوديةً في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يُحِبّ، وأكثر الخلق يُعْطُون العبودية فيما يُحِبُّون، والشأنُ في إعطاء العبودية في المكاره، فَبِه تَفاوتَتْ (6) مراتبُ العباد، وبِحَسَبه __________ (1) "ومعطيها" من (ح). (2) ذكر المصنّف رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" (2/ 254) أنّ الشكر مبنيّ على خمس قواعد: الثلاث المذكورة هنا، وخضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له. (3) (ح) و (ق): "والتسلّي"، وفي (م): "التسليم والصبر". (4) "المعصية" ساقطة من (ت). (5) (ح) و (ق): "به". (6) (ت): "ففيه تتفاوت"، وفي (ح): "ففيه تفاوت"، وفي (ق): "ففيه تفاوتت".

(1/6)


كانت منازلهم عند الله تعالى. فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى نفسه وعياله عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركُ المعصية التي اشتدَّتْ دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضراء عبودية، ولكنْ فرقٌ عظيم بين العبوديتَيْن. فمن كان عبدًا لله في الحالَيْن، قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي يتناوله قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وفي القراءة الأخرى (عباده) (1)، وهما سواء؛ لأن المفرد مضاف، فيعمُّ عموم الجمع. فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وَجَد خيرًا فليحمد الله، ومن وَجَد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوّه عليهم سلطان. قال الله تعالى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. ولما علم عدوُّ الله إبليس أن الله تعالى لا يُسْلِم عباده إليه، ولا يُسَلِّطُه عليهم قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا __________ (1) قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "السبعة" لابن مجاهد (562)، و "التبصرة" لمكّي بن أبي طالب (659).

(1/7)


فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 20، 21]، فلم يجعل لعدوه سلطانًا على عباده المؤمنين؛ فإنهم في حِرْزه وكلاءته، وحفظه، وتحت كَنَفِه، وإنْ اغتال عدوُّه أحدَهم كما يغتال اللصُّ الرجلَ الغافل، فهذا لابد منه؛ لأن العبد قد بُلِي بالغفلة والشهوة والغضب. ودخولُه على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز، فلابد له من غفلة، ولابد له من شهوة، ولابد له من غضب، وقد كان آدم أبو البشر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من (1) أحلم الخلق، وأرجحهم عقلًا، وأثبتهم (2)، ومع هذا فلم يزل به عدوُّ الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بِفَراشَةِ الحِلْمِ (3)، ومَنْ عَقْلُه في جنب عقل أبيه كتفلةٍ في بحر؟! ولكنّ عدو الله لا يَخْلُصُ إلى المؤمن إلا غِيلةً على غِرّةٍ وغفلة، فَيُوقِعُه، ويظن أنه لا يستقيل (4) ربه عز وجل بعدها، وأن تلك الواقعة قد اجتاحته وأهلكته، وفضلُ الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته __________ (1) "مِن" من (ح)، وفي (ق): "أحكم الخلق وأرجحهم وأثبتهم". (2) "وأثبتهم" من (ح) و (م) و (ق). (3) (ت) و (م): "بفراش الحلم". والعربُ تضربُ بالفَراشِ المثلَ في خِفَّة الحِلْم، كما تراه في "ثمار القلوب" للثعالبي (2/ 731). وقد ورد هذا التركيب: "فراشة الحِلْم" في بيتٍ اختُلِفَ في نِسْبته. انظره في: "تاريخ الطبري" (7/ 434)، و "المستقصى" (1/ 12) للزمخشري. (4) كذا في الأصول التي بين يديّ: "يستقيل" (بالياء)، ولعلّه الصواب، وفي مطبوعات الكتاب التي وقفتُ عليها: "يستقبل".

(1/8)


من (1) وراء ذلك كلّه. فإذا أراد الله بعبده خيرًا فتح له بابًا من أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذل، والافتقار، والاستغاثة به (2)، وصِدْقِ اللَّجأ إليه، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات = ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أُوقِعْهُ. وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يَدْخُلُ به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصْبَ عينيه، خائفًا منه مُشفِقًا وَجِلًا باكيًا نادمًا (3)، مستحيًا من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له (4)؛ فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب (5) أنفع له من __________ (1) (ح) و (ت) و (ق): "ومغفرته وراء ذلك كلّه". (2) (ح): "والاستعانة به". (3) "نادمًا" من (ح) و (ق). (4) روى الإمام أحمد في "الزهد" (397)، وابن المبارك في "الزهد" (162) من مرسل الحسن البصري: "إن العبد ليُذْنِب الذّنب فيدخل به الجنة. قيل: كيف؟ قال: يكون نصْب عينيه ثابتًا قارًّا حتى يدخل الجنة". وجاء هذا المعنى من قول أبي موسى وأبي أيوب رضي الله عنهما، ومن قول الحسن وأبي حازم. انظر: "الزّهد" لهنّاد (910، 911)، ولابن المبارك (163، 164)، ولأحمد (277)، و"الحلية" لأبي نعيم (3/ 242)، و (7/ 288)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (12/ 532). (5) من قوله: "سبب سعادة العبد" إلى هنا، ساقط من (ت) و (ح) و (ق).

(1/9)


طاعات كثيرةٍ؛ بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة. ويفعل الحسنة فلا يزال يَمُنُّ بها على ربه، ويتكبر بها، ويَرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ، وفعلتُ؛ فيورثه ذلك (1) من العجب والكِبْر، والفخر والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه. فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرًا ابتلاه بأمرٍ يَكْسِرُه به، ويُذِلُّ به عُنُقَه، ويُصَغِّرُ به نَفْسَه عنده. وإن أراد به غير ذلك، خَلَّاهُ وعُجْبَه وكِبْره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه؛ فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: أن لا يكِلَك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يَكِلَكَ الله تعالى إلى نفسك (2). فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللَّجَأِ إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وظلمها، وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه، وإحسانه، ورحمته (3)، وجوده، وبِرّه، وغِناه، وحمده. فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه. قال شيخ الإسلام (4): "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المِنَّة، __________ (1) "ذلك" من (م). (2) من قوله: "والخذلان" إلى هنا، ساقط من (ت). (3) "ورحمته" من (ح). (4) كذا في (ت) و (ح) و (ق) وهو الصواب، والمراد به: أبو إسماعيل الهروي =

(1/10)


ومطالعة عيب النفس والعمل". وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح، حديثِ "سَيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنتَ، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بكَ من شَرِّ ما صنعتُ، أبوء لكَ بنعمتِك عليَّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنتَ" (1) . فجمع في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي" بين مشاهدة المنّة، ومطالعة عيب النفس والعمل. فمشاهدةُ المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لوليِّ النعم __________ = الأنصاري (ت: 481)، صاحبُ "منازل السائرين"، وعبارته هذه فيه (ص: 11 - تحقيق: دي لوجييه). وانظر: "مدارج السالكين" (1/ 243). وقد عزا ابن القيّم هذه العبارة صراحةً إلى أبي إسماعيل الأنصاري في "شفاء العليل" (1/ 88)، وكذا فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في "رسالة في تحقيق الشكر" (1/ 116 - جامع الرسائل). ووقع في (م) -وهي نسخة متأخّرة-: "شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه". وهذا اجتهادٌ من الناسخ أخطأ فيه، ظنّ أن شيخ الإسلام هنا هو ابن تيمية فزاده من عنده. ووقع في مثله ابن ناصر الدين الدمشقيّ، فنقل في "الردّ الوافر" (126) عن ابن القيّم عن شيخ الإسلام ابن تيمية هذه العبارة، وما أظنُّه أخذها إلّا من هذا الموضع؛ فقد نقل من هذا الكتاب كثيرًا من العبارات التي أوردها ابن القيم عن شيخه. وتبعه على ذلك مرعي الكرمي في "مختصره" "الشهادة الزكيّة" (35). (1) أخرجه البخاري (6323) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

(1/11)


والإحسان، ومطالعةُ عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا. وأقربُ بابٍ دخل منه العبد على الله تعالى باب الإفلاس (1)، فلا يرى لنفسه حالًا، ولا مقامًا، ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة منه يَمُنُّ بها (2)، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْف، والإفلاس المَحْض، دخولَ من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سُوَيْدائه فانصدع، وشملته الكَسْرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقةً تامةً، وضرورةً كاملةً إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عينٍ هَلَكَ، وخسر خسارة لا تُجْبَر؛ إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته. ولا طريق إلى الله تعالى أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدَّعْوى!. والعبوديةُ مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل تام. ومنشأ هذين الأصلين عن ذَيْنِكَ الأصلين المتقدمَيْن، وهما: مشاهدة المِنّة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام. __________ (1) انظر: "مدارج السالكين" (3/ 38). (2) كذا في (ح) و (ق)، وفي (ت): "يمُتُّ بها"، وفي (م): "ولا وسيلة ولا مِنّة يمنُّ بها".

(1/12)


وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غِرَّةٍ وغفلة، وما أسرع ما يُنْعِشُه الله عز وجل ويَجْبُره، ويتداركه برحمته (1) . __________ (1) (ت) و (ق): "ويرحمه".

(1/13)


فصل وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين: أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحابِّ (1)، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حُبُّ الله تعالى حُبَّ ما سواه، فرتّب على ذلك مقتضاه. وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل!، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. وما أكثر ما يُقَدِّم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره أو أميره أو شيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحابّ، ولا كانت هي الحاكمة عليها، المؤمَّرة عليها، وسُنَّةُ الله تعالى فيمن هذا شأنه أن يُنَكِّدَ عليه مَحَابَّه، ويُنَغِّصها عليه، فلا ينال شيئًا منها إلا بنكدٍ وتنغيصٍ، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يُعَظِّمُه من الخلق أو يُحِبُّه (2) على محبة الله تعالى. وقد قضى الله عزّ وجَلّ قضاءً لا يُردُّ ولا يُدْفَع، أن من أحب شيئًا سواه عُذِّبَ به ولا بُدّ، وأنّ من خاف غيره سُلِّطَ عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شُؤْمًا عليه، ومن آثر غيره عليه لم يُبارك له فيه، ومن __________ (1) (ت): "تتقدم عنده جميع المحابّ". (2) (م): "أو يحبّه أو يقدم محبته".

(1/14)


أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولابُدّ (1). الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي؛ وهو ناشئٌ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يُعَظِّمه، ولا يُعَظِّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. قالوا في تفسيرها: مالكم لا تخافون لله تعالى عظمة (2). وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي: "هو أن لا يُعارَضا بترخيصٍ جافٍّ، ولا يُعَرَّضا لتشديدٍ غالٍ (3)، ولا يحملا على علةٍ تُوهِنُ الانقياد" (4). ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل: تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرفُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ برسالته التي أرسل بها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الناس كافة، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز جل واتِّباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن (5) لأمر الله تعالى ونهيه دالًّا على تعظيمه لصاحب الأمر __________ (1) من قوله: "وأنّ من خاف غيره" إلى هنا، ساقط من (ت) و (ق). (2) (ت): "ما لكم لا ترجون لله عظمة". وانظر: "تفسير ابن جرير" (23/ 634)، و"الدر المنثور" (8/ 291 - 292). (3) (ت): "ولا يعارضا بتشديد"، و (م): "ولا بتشديد غال"، والمثبت من (ح) و (ق)، و"المنازل". (4) "منازل السائرين" للهروي (65)، وانظر ما تقدم (ص: 11). (5) (ت) و (م): "تعظيمه".

(1/15)


والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر. فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر؛ لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود (1) التي رتبها الشارع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي. فعلامة التعظيم للأوامر: رعايةُ أوقاتها وحدودها، والتفتيشُ على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرصُ على تحسينها، وفعلُها (2) في أوقاتها، والمسارعةُ إليها عند وجوبها، والحزنُ والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تُقُبِّلَتْ منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضِعفًا. ولو أن رجلًا يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقّةٍ سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا (3). فكيف وكُلُّ ضِعْفٍ مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من أَلْفٍ، وأَلْفِ أَلْفٍ، وما شاء الله تعالى؟! فإذا فَوَّت العبد عليه هذا الربح خسر (4) قطعًا! __________ (1) (ت): "العقوبات". (2) "وفعلها" من (م). (3) "وأسفًا" من (م) و (ح) و (ق). (4) "خسر" ساقطة من (ت) و (ح) (ق).

(1/16)


وكثير من العلماء يقول: لا صلاة له وهو بارد القلب، فارغٌ من هذه المصيبة، غير مُرْتَاعٍ لها؛ فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه. وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة. وكذلك فَوْتُ الجَمْعِ الكثير الذي تُضاعَفُ الصلاة بكثرته وقلته، وكلما كثر الجَمْعُ كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بَعُدَت الخُطا كانت خطوةٌ تحطُّ خطيئة، وأخرى ترفع درجة. وكذلك فَوْتُ الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب عزَّ وجلَّ الذي هو روحُها ولُبُّها، فصلاةٌ بلا خشوعٍ ولا حُضورٍ كبدن ميت لا روح فيه. أفلا يستحي العبد أن يُهدي إلى مخلوقٍ مثله عبدًا ميتًا، أو جارية ميتة؟! فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قَصَده بها، من ملك، أو أمير، أو غيره؟! فهكذا سواء، الصلاةُ الخاليةُ عن الخشوع والحضورِ وجمعِ الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد -أو الأمَة- الميت، الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك؛ ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه -وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا (1) - ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في "السنن" و"مسند الإمام أحمد" وغيره عن النبي __________ (1) وفي إسقاطها الفرض في أحكام الدُّنيا خلافٌ حرّره المصنّف وبسطه في "مدارج السالكين" (1/ 563 - 567)، واختار إسقاطها الفرض، كما أشار إليه هنا.

(1/17)


-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إن العبد ليصلي الصلاة وما كُتِب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خُمسها، حتى بلغ عُشرها" (1). وينبغي أن يُعْلَم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فَتَفاضُلُ الأعمال عند الله تعالى بِتفاضُلِ ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفِّر تكفيرًا كاملًا، والناقصُ بِحَسَبِه. وبهاتين القاعدتين تزول إشكالاتٌ كثيرة، وهما: تفاضلُ الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان (2)، وتكفيرُ العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نَقَص حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: "إن صوم يوم عرفة يُكَفِّر سنتين، ويوم عاشوراء يُكَفِّر سنة" (3). __________ (1) أخرجه أبو داود (786)، والنسائي في "الكبرى" (614، 615) وأحمد (6/ 408 - 409) وغيرهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (1889)، والعراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 120). وفي إسناده اختلاف لا يقدح في صحته. انظر: "التاريخ الكبير" (7/ 25 - 26) للبخاري، و"تهذيب الكمال" (15/ 393). (2) انظر: "منهاج السنة" (6/ 221 - 226) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"المنار المنيف" للمصنّف (24 - 25)، و"سير أعلام النبلاء" (11/ 419 - 420). (3) أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(1/18)


قالوا: فإذا كان دأبه دائمًا أنه (1) يصوم يوم عرفة، فصامه (2) وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا، بأن ما فَضَلَ عن التكفير ينال به الدرجات (3). ويالله العجب! فليت العبد إذا أتى بهذه المكفِّرات كلِّها أن تُكَفَّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض. والتكفيرُ بهذه مشروطٌ بشروطٍ، موقوفٌ على انتفاء موانع في العمل وخارجه (4)؛ فإنْ عَلِم العبد أنه جاء بالشروط كلِّها، وانتفت عنه الموانع كلُّها، فحينئذ يقع التكفير، وأما عَمَلٌ شَمِلتْهُ الغفلة أو لأكثره، وفَقَدَ الإخلاص الذي هو رُوحه ولُبُّه (5) ولم يُوف حَقّه، ولم يقدّره حق قدره = فأيُّ شيء يكفِّر هذا العمل؟! فإنْ وثق العبد من عمله (6) بأنه وفّاه حقَّه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مُبْطِل يحبطه من عُجْبٍ __________ (1) "أنّه" من (ح). (2) (ت) و (م) و (ق): "أوصامه". (3) انظر: "المنهاج في شعب الإيمان" للحليمي (2/ 396 - 397)، و"فضائل الأوقات" للبيهقي (439)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 115 - 116). (4) انظر: "منهاج السنة" (6/ 216)، و"الجواب الكافي" (13) للمصنف. (5) "ولبُّه" من (م). (6) (ت) و (م): "نفسه".

(1/19)


أو (1) رؤيةِ نفسه فيه، أو مَنٍّ به (2)، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه لمن يعظِّمه عليه، أو يُعادي من لا يعظمة عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته = فهذا أيُّ شيء يُكَفِّر؟! ومحبطاتُ الأعمال ومفسداتُها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه. فالرياء -وإن دَقَّ- محبطٌ للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر. وكونُ العمل غير مُقَيَّد باتباع السنة أيضًا موجبٌ لكونه باطلًا، والمَنُّ به على الله تعالى بقلبه مُفْسِدٌ له، وكذلك المَنُّ بالصدقة والمعروف، والبِرّ والإحسان والصِّلَةِ مُفْسِدٌ لها، كما قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. وأكثر الناس ما عندهم خَبَرٌ من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما يجهر بعضهم لبعض (3)، وليس هذا بردَّة، بل معصيةٌ يحبط بها العمل (4) __________ (1) (ت) و (م): "ولا". (2) (ح): "أو يمُنُّ به"، وفي (ق): "أو يمنُّ فيه به". (3) "بعضهم لبعض" ساقط من (ت) و (ح). (4) (ح) و (ق): "تحبط العمل".

(1/20)


وصاحبُها لا يشعرُ بها (1) . فما الظَّنُّ بِمَنْ قَدَّم على قولِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهديه وطريقه قولَ غيره وهديَه وطريقَه؟! أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟! ومن هذا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" (2) . ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعِينة: "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إلا أن يتوب" (3) . وليس التبايُع بالعِينة رِدَّةً، وإنما غايته أن يكون معصية. فمعرفةُ ما يفسدُ الأعمال في حَالِ (4) وقوعها، ويبطِلُها ويحبطُها بعد __________ (1) "بها" من (ح) و (ق). (2) أخرجه البخاري (553، 594) من حديث بريدة رضي الله عنه. وانظر: "الصلاة وحكم تاركها" (85 - 87) للمصنّف. (3) أخرجه أبو القاسم البغوي في "الجعديّات" (1/ 155)، وعبد الرزاق في "المصنف" (8/ 184 - 185)، والدارقطني في "السنن" (3/ 52)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 330 - 331). وأعلّه الشافعيُّ في "الأم" (4/ 74)، والدارقطني في "السنن" بجهالة امرأة أبي إسحاق. وأجاب عن هذه العلّة -وأحسن ما شاء- المصنّفُ في "إعلام الموقعين" (3/ 167 - 169)، و"تهذيب السنن" (9/ 240، 246)، وابن التركماني في "الجوهر النقي" (5/ 331 - سنن البيهقي)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184)، وجوّد إسناده ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (2/ 558). (4) (م): "وقت".

(1/21)


وقوعها مِنْ أهم ما ينبغي أن يُفَتِّشَ عليه العبد، ويحرص على علمه (1)، ويحذره. وقد جاء في أثرٍ معروف: "إن العبد ليعمل العمل سرًّا لله لا يطَّلع عليه أحد إلا الله تعالى، فيتحدث به، فينتقل من ديوان السِّرِّ إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية" (2)؛ فإن تحدَّث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى (3) أبطله، كما لو فعله لذلك. فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟ قيل: إنْ كان قد عمله لغير الله تعالى، وأوقعه بهذه النية، فإنه لا ينقلب صالحًا بالتوبة؛ بَلْ حَسْبُ التوبة أن تمحو عنه عقابه، فيصير لا له ولا عليه. وأما إنْ عمله لله تعالى خالصًا، ثم عرض له عُجْبٌ أو رياء، أو تحدَّث به، ثم تاب من بعد ذلك وندم، فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط. وقد يقال: إنه لا يعود إليه، بل يستأنف العمل. __________ (1) (ح): "عمله"، وكان في (م): "عمله" فضرب عليها وجعلها "علمه". (2) جاء بمعناه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا عند البيهقي في "الشُّعب" (12/ 185 - 186) ولا يصحّ، وقد بيّن البيهقيُّ علّته. ومن حديث أنس رضي الله عنه عند الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 63 - 64) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، وضعفه العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 166). (3) (ت) و (م): "عند الناس".

(1/22)


والمسألة مبنية على أصْلٍ، وهو أن الردّة هل تحبط العمل بمجرَّدها، أولا يحبطه إلا الموت عليها؟ (1) فيه للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه (2). فإن قلنا: تحبط العمل بنفسها، فمتى أسلم استأنف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الإسلام، وإن قلنا: لا يحبط العمل إلا إذا مات مُرتَدًّا، فمتى عاد إلى الإسلام عاد إليه ثواب عمله. وهكذا العبد إذا فعل حسنة، ثم فعل سيئة تحبطها، ثم تاب من تلك السيئة، هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة؟ يُخرَّجُ على هذا الأصل. ولم يزل في نفسي شيء من هذه المسألة، ولم أزل حريصًا على الصواب فيها، وما رأيت أحدًا شفى فيها، والذي يظهر لي (3) -والله تعالى أعلم، وبه المستعان، ولا قوة إلا به- أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأنّ المغلوب لم يكن، فإذا غلبت (4) على العبد الحسنات دفعت حسناتُه الكثيرةُ سيئاتِه، ومتى تاب من السيئة ترتَّبَ على __________ (1) (ت) و (ق): "أو لا تحبط إلّا بالموت". (2) انظر لهذا الخلاف: "مجموع الفتاوى" (4/ 258)، و (11/ 700)، و"شرح العمدة" (1/ 320 - 321 الطهارة)، و (2/ 38 - 40 الحج)، و"درء التعارض" (3/ 272) لشيخ الإسلام ابن تيمية. (3) "لي" من (م). (4) (ت) و (م): "غلب".

(1/23)


توبته منها حسنات كثيرةٌ قد (1) تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة، وصحَّت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرّت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقد سأل حكيمُ بن حزام رضي الله عنه النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عتاقةٍ وصِلَةٍ وبِرٍّ فعله في الشرك: هل يُثابُ عليه؟ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: "أسلمت على ما أسلفت مِنْ خَيْرٍ" (2) . فهذا يقتضي أن الإسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك، فلما تاب من الشرك عاد إليه ثوابُ حسناته المتقدمة. فهكذا إذا تاب العبد توبة نصوحًا صادقةً خالصةً (3) أحرقت ما كان قبلها من السيئات، وأعادت عليه ثواب حسناته (4) . __________ (1) (ت) و (م) و (ق): "وقد". (2) أخرجه البخاري (1436، 2220، 2538)، ومسلم (123) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، واللفظ لمسلم. (3) "خالصة" من (ح) و (م) و (ق). (4) الذي استظهره المصنّف في هذه المسألة هنا جزم به في "مدارج السالكين" (1/ 308) -وهو متأخّر في التأليف عن هذا الكتاب-. ويدلُّ على ما ذهب إليه قولُ عائشة المتقدّم لزيد بن أرقم رضي الله عنهما: "أبلغي زيدًا أنه أحبط جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن يتوب". قال ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 199): "وهذا يدلُّ على أنّ بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها".

(1/24)


يُوَضِّحُ هذا أنَّ السيئاتِ والذنوب هي أمراضٌ قلبية، كما أن الحمَّى والأوجاع أمراضٌ بدنيةٌ (1) ، والمريضُ إذا عُوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها، حتى كأنه لم يَضْعُفْ قط؛ فالقوةُ المتقدِّمة بمنزلة الحسنات، والمرضُ بمنزلة الذنوب، والصحةُ والعافيةُ بمنزلة التوبة سواء بسواء (2) . وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبدًا؛ لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته (3) كما كانت؛ لتقاوم الأسباب وتدافعها، وعَوْدِ البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصحَّ مما كان وأقوى وأنشط؛ لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سببًا لعافيته، كما قال الشاعر: لعل عَتْبَك محمودٌ عواقِبُه ... وربما صَحَّت الأجسام بالعِلَل (4) فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث. والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه. __________ (1) من قوله: "كما أن الحمَّى" إلى هنا، من (ح) و (م) و (ق). (2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 424 - 425) للمصنف. (3) "صحته" ساقطة من (ت). (4) البيت للمتنبي في "ديوانه" (2/ 135 - العَرْفُ الطيّب).

(1/25)


فصل وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانِّها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تُقَرِّبُ منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصُّوَر التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأنْ يَدَع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس (1)، وأن يجانب الفُضول من المباحات خشية الوقوع في المكروهات، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسِّنها ويدعو إليها، ويتهاون بها، ولا يبالي ما ركِبَ منها؛ فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحُرُماتِه. ومن علامات تعظيم النّهي (2): أن يغضب لله عزَّ وجلَّ إذا انتُهِكت محارمه، وأن يجد في قلبه حُزنًا وكسْرةً إذا عُصِيَ الله تعالى في أرضه، ولم يُطَع بإقامة حدوده وأوامره (3)، ولم يستطع هو أن يُغَيِّر ذلك. ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حَدٍّ يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط. مثال ذلك: أن السُّنةَ وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر (4)، __________ (1) (ح) و (م) و (ق): "بأس". (2) (م): "الله". (3) (ت) و (م): "وأمره"، والمثبت من (ح). (4) أخرجه البخاري (533، 534)، ومسلم (615) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/26)


فالترخص الجافي أن يُبْرِد إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه؛ فيكون مُتَرخِّصًا جافيًا. وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بِتَكرُّهٍ وضجر، فمن حكمة الشارع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنْ أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحَرُّ، فيصلي العبد بقلبٍ حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى. ومن هذا نهيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصلي الرجل (1) بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط (2)؛ لِتَعَلُّق قلبه من ذلك بما يُشَوِّشُ عليه مقصود الصلاة، فلا يحصل المراد منها. فَمِنْ فِقْهِ الرجل في عبادته أن يُقْبِل على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونَصَبَ وجهه له، وأقبل بِكُلِّيته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يُغْفَرُ للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه. والمقصود أنّه لا يترخص ترخّصًا جافيًا. ومن ذلك أنه رخّص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذُّرِ فعلِ كل صلاة في وقتها؛ لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسُّرِه عليه. فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم فَجَمْعُه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير __________ (1) "الرجل" من (م). (2) أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(1/27)


مشقة، فالجمع ليس سُنّةً راتبةً كما يعتقده أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواء وُجِدَ عذرٌ أوْ لم يوجد، بل الجمع رخصة عارضة، والقصر سُنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء وُجد له عذرٌ أو لم يُوجَد (1)؛ وأما جمعه بين الصلاتين، فحاجة ورخصة (2)، فهذا لونٌ، وهذا لونٌ. ومن هذا: أن الشِّبَع في الأكل رخصة غير مُحَرَّمة (3)؛ فلا ينبغي أن يَجْفُوَ العبد فيها حتى يصل به الشِّبَع إلى حد التُّخمة والامتلاء، فيتطلَّبَ ما يُصَرِّفُ به الطعام، فيكون هَمُّه بطنه قبل الأكل وبعده!، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِه" (4). فلا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده. وأما تعريض (5) الأمر والنهي للتشديد الغالي، فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردِّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو تكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع __________ (1) (ح) و (ق): "كان له عذر أو لم يكن". (2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 481)، و"مجموع الفتاوى" (24/ 27 - 28، 63 - 64). (3) انظر: "صحيح مسلم" (2039)، و"المفهم" (5/ 307) للقرطبي. (4) أخرجه أحمد (5/ 854)، والترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى" (6737)، وابن ماجه (3349) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه ابن حبّان (674). (5) (ت) و (م): "معارضة".

(1/28)


الغالي حتى لا يأكل شيئًا من طعام عامّة (1) المسلمين؛ خشية دخول الشبهات عليه. ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبَّاد الذين نقص حظهم من العلم (2) ، حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد المسلمين، وكان يتقوَّت بما يُحْمَلُ إليه من بلاد النصارى، ويَبْعَثُ بالقَصْدِ لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغلوُّ الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحُسْنِ الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان. فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يُعارَضا بتَرَخُّصٍ جافٍ، ولا يُعَرَّضا لتشديدٍ غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم المُوصِل إلى الله عز وجل بِسَالِكِه (3) . وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصيرٌ وتفريطٌ، وإما إفراطٌ وغُلوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فَيُشامُّه (4) ، فإن وجد فيه تقصيرًا وفتورًا وتوانيًا وترخيصًا أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملة. __________ (1) (ت) و (م): "من طعام المسلمين". (2) (ت): "العمل". (3) "بسالكه" من (ح) و (ق). (4) (ت) و (م): "فيشمه".

(1/29)


وإن وجد عنده حذرًا وجِدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأَيِسَ أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهِمَّتُك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تَفْتُر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغتسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة وتعدِّي الصراط المستقيم، كما يَحْمِلُ الأولَ على التقصير دونه، وأن لا يَقْرَبَه. ومقصودُه من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم، هذا بأن لا يَقْرَبَه ولا يدنو منه، وهذا بأن يتجاوزه ويتعدّاه. وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا يُنْجِي من ذلك إلا عِلمٌ راسخ، وإيمانٌ، وقُوَّةٌ على محاربته، ولزومُ الوسط. والله المستعان.

(1/30)


فصل (1) ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يَحْمِلَ الأمر على عِلَّةٍ تُضْعِفُ الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يُسَلِّم لأمر الله تعالى وحكمه، ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه (2) أو لم تظهر. فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه، حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه جملة (3)، كما حَمَل ذلك كثيرًا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوّف. فإن الله عز وجل شرع الصلوات الخمس إقامةً لذكره، واستعمالًا للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كلٍّ منها قِسْطَه من العبودية التي هي المقصود بخَلْقِ العبد، فَوُضِعَت الصلاةُ على أكمل مراتب العبودية. فإن الله سبحانه وتعالى خلق الآدميّ، واختاره من بين سائر البَرِيّة، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان، والتوحيد، والإخلاص، والمحبة، والحياء، والتعظيم، والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قَدِم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه، والفوز برضوانه، ومجاورته في جنته. __________ (1) من (م) و (ق). (2) كذا في (م)، وفي (ح): "حكمته"، وفي (ت): "سواء ظهرت له حكمة أو لم تظهر"، وفي (ق): "سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر". (3) "جملة" من (م).

(1/31)


وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوّه إبليس لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي مِنْ نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه؛ لأنه يدخل عليها بما تحب، فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد، ثلاثةٌ مُسَلَّطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وَطَرِهِم، والجوارح آلة منقادة، فلا يمكنها إلا الانبعاث (1)، فهذا شأن هذه الثلاثة، وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أَمَروا، وأين يَمَّموا. هذا مقتضى حال العبد. فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بِجُنْدٍ آخر، وأمدّه بِمَدَدٍ آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيّده بمَلَكٍ كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمره (2)، أمره المَلَك بأمر ربه، وبيَّن له ما في طاعة العدو من الهلاك. فهذا يُلِمُّ به مرة، وهذا مرة، والمنصورُ من نصره الله عزَّ وجلَّ، والمحفوظُ من حفظه الله تعالى. وجَعَل له مقابل نفسه الأمَّارةِ نفسًا مطمئنة، إذا أمرته النفسُ الأمَّارة بالسوء نَهَتْهُ عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمَّارة عن الخير أمرته به النفس المطمئنة. فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو للغالب عليه منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهرًا لا تقوم معه أبدًا. __________ (1) (ت): "الانقياد". (2) (ح) و (ق): "بأمرٍ".

(1/32)


وجَعَلَ له مقابل الهوى الحاملِ له (1) على طاعة الشيطان والنفس الأمَّارةِ نورًا، وبصيرةً، وعقلًا يرده عن الذهاب مع الهوى؛ فكلما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر!؛ فإن المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيد الحرامِيَّة (2) ، وقُطّاعِ الطريق؛ إنْ سِرْت خلف هذا الدليل. فهو يطيع الناصح مرة فيبين له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرة فَيُقْطَعُ عليه الطريق، ويُؤخَذُ مالُه، وتُسْلَب ثيابُه، فيقول: تُرى من أين أُتِيت؟! والعجبُ أنه يعلم من أين أُتِي، ويعرف الطريق التي قُطِعت عليه وأُخِذ فيها، ويأبى إلا سلوكها؛ لأن دليلها قد تمكن منه وتحكَّم فيه، وقوِيَ عليه! ولو أضعفه بالمخالفة له، وزَجْرِه إذا دعاه، وبمحاربته إذا أراد أخذه لم يتمكَّنْ منه، ولكنْ هو مكَّنَهُ من نفسه، وهو أعطاه يده، فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه، فيأسره ثم يسومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يُغاث، فهكذا العبد يستأسر للشيطان والهوى، ولنفسه الأمارة، ثم يطلب الخلاص، فيعجز عنه. فلما أن بُلِي العبدُ بما بُلِي به أُعِين بالعساكر والعُدَدِ والحُصون، __________ (1) "له" من (م) و (ق). (2) جمع "حراميّ" بمعنى فاعل الحرام، وغلب استعماله على اللصّ في اصطلاح العامّة، وهي كلمة مولَّدة مستعملة في هذا المعنى من قديم. انظر: "محيط المحِيط" للبستاني (1/ 382)، و"كناشة النوادر" لعبد السلام هارون (168)، و"المجموع اللفيف" للسامرائي (29)، و"معجم فصيح العامة" لأحمد أبو سعد (132)، و"معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة" للعدناني (150).

(1/33)


وقيل له: قاتِلْ عدوك وجاهِدْهُ، فهذه الجنود خُذْ منها ما شئت، وهذه العُدَدُ الْبَسْ منها ما شئت، وهذه الحصون تَحَصَّنْ منها بأي حصن شئت، ورابِطْ إلى الموت، فالأمر قريب، ومدة المرابطة يسيرة جدًّا، فكأنك بالمَلِك الأعظم وقد أَرْسَلَ إليك رُسُلَه، فنقلوك إلى داره، واسترحت من هذا الجهاد، وفُرِّقَ بينك وبين عدوك، وأُطْلِقْتَ في دار الكرامة تتقلَّب فيها كيف شئت، وسُجِن عدوك في أصعب الحُبوس وأنت تراه، فالسجنُ (1) الذي كان يريد أن يُودِعَك فيه قد أُدْخِلَه وأُغْلِقت عليه أبوابه، وأَيِسَ من الخروج والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك، وقَرّت عينك؛ جزَاءً على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثغر للرِّباط (2) ، وما كانت إلا ساعةً ثم انقَضَتْ، وكأنّ الشدة لم تكن. فإن ضَعُفَت النفسُ عن ملاحظة قِصَر الوقت، وسرعة انقضائه فليتدبر قوله عز وجل: {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35]، وقوله عز وجل (3) : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } [النازعات: 46]، وقوله عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) } [المؤمنون: 112 - 114] وقوله عز وجل: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) } __________ (1) (م): "في السّجن"، وهي محتملة. (2) (ت): "للجهاد". (3) من أول الآية السابقة إلى هنا، من (ح) و (ق).

(1/34)


[طه: 102 - 104]. وخطب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه يومًا، فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال، وذلك عند الغروب قال: "إنَّهُ لَمْ يَبْقَ من الدُّنْيَا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه" (1). فلْيتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، ولْيَعْلَمْ أيُّ شيءٍ حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدنيا بأسرها؛ ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بِحَظٍّ خسيسٍ لا يساوي شيئًا، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ هنيئًا مُوَفَّرًا (2) وأكمل منه، كما في بعض الآثار: "ابنَ آدم، بِع الدنيا بالآخرة تَرْبَحْهُما جميعًا، ولا تبع الآخرة بالدنيا تَخْسَرْهُما جميعًا" (3). __________ (1) جزء من حديث طويل، اخرجه الترمذي (2191)، وأحمد (4/ 51 - 52)، وأبو يعلى (1101)، وعبد بن حميد (862) وغيرهم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وحسّنه ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (170). وانظر: "المجروحين" لابن حبان (2/ 104) مع "الأمثال" لأبي الشيخ الأصبهاني (283). (2) (ح): "موفورًا". (3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 143) من قول الحسن البصري بإسنادٍ حسن. ووقع في إسناده هناك تحريف، انظر لتصويبه: "صفة الصفوة" (3/ 235). ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" -كما في "إتحاف السادة المتقين" (9/ 563) - من قول لقمان الحكيم.

(1/35)


وقال بعض السلف: "ابنَ آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة، وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة فُزْتَ بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظامًا" (1) . وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: "أيها الناس، إنكم لم تُخلقوا عبثًا، ولم تُتركوا سدى، وإن لكم مَعَادًا يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشَقِيَ عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السموات والأرض، وإنما يكون الأمان غدًا لمن خاف الله تعالى واتقى، وباع قليلًا بكثير، وفانيًا بباقٍ، وشقاوة (2) بسعادة، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفكم بعدكم الباقون؟!، ألا ترون أنكم في كل يوم تشيِّعون غاديًا إلى الله ورائحًا قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بَطْنِ صدْعٍ من الأرض غير موسّد ولا مُمَهَّد، قد خلع الأسلاب (3) ، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟! " (4) . __________ (1) أخرجه هنّاد في "الزهد" (530، 531)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 346)، والطبراني في "الكبير" (20/ 35) وغيرهم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه موقوفًا. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 221): "رجاله رجال الصحيح، إلّا أني لم أجد لابن سيرين سماعًا من معاذ". قلت: لأنه لم يدركه. (2) (ت) و (م) و (ق): "وشقوة"، ولم ترد هذه العبارة في سياق الخطبة عند أبي نعيم في "الحلية". (3) (ح) و (م) و (ق): "الأسباب"، والمثبت من (ت) و"الحلية". (4) أخرجها أبو نعيم في "الحلية" (5/ 266، 287، 295).

(1/36)


والمقصود أن الله عز وجل قد أَمَدَّ العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود، والعُدَد، والإمداد، وبَيَّن له بماذا يُحْرِزُ نفسه من عدوه، وبماذا يَسْتَفِكُّ نفسه إذا أسره. وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه، والترمذي، من حديث الحارث الأشعري، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخمس كلمات، أن يعمل بها، ويأمر بني اسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يُبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمُرَهُم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخْسَف بي أو أُعَذَّبَ، فجمع يحيى الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَفِ، فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعْمَلَهُن، وآمُركم أن تَعَمَلُوا بهن. أوّلهن: أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، فإنَّ مَثَلَ من أشرك بالله كمثل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِقٍ، فقال له: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيُّكُم يرضى أن يكون عبده كذلك؟! وإنّ الله أمركم بالصَّلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجْهِ عبده في صلاته، مالم يلتفِتْ. وأمَرَكم بالصِّيَامِ؛ فإنّ مَثَلَ ذلك كمَثَل رجلٍ في عصابة، معه صُرّة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.

(1/37)


وأمركم بالصدقة؛ فإن مَثَل ذلك مَثَل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله تعالى؛ فإن مَثَل ذلك كمَثَل رجل خرج العدو في إثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى. قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وأنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قِيْد شِبرٍ فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه إلا أن يُراجِع، ومن ادَّعى دعوى الجاهلية، فإنه من جثا جهنم". فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: "وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1) . فقد ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث الصحيح العظيم الشأن -الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتَعَقُّله- ما ينجي من الشيطان، وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه. فَذَكَر مَثَلَ المُوَحِّد والمشرك: فالموحِّدُ كمن عمل لسيِّده في داره، __________ (1) أخرجه أحمد (5/ 849، 850)، والترمذي (2863) وغيرهما. وصحّحه الترمذيُّ، وابن خزيمة (930)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/ 118) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/38)


وأدّى لسيِّده ما استعمله فيه (1)، والمشركُ كمن استعمله سيده في داره، فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سيِّده، فهكذا المشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى، ويتقرب إلى عدو الله تعالى بنعم الله تعالى عليه. ومعلوم أن العبد من بني آدم لو كان له مملوك (2) كذلك لكان أمقت المماليك عنده، وكان أشد شيء غضبًا عليه، وطردًا له وإبعادًا، وهو مخلوق مثله، كلاهما في نعمة غيرهما، فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمةٍ فمنه وحده لا شريك له، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، وهو وحده المنفرد بخلق عبده، ورحمته، وتدبيره، ورزقه، ومعافاته وقضاء حوائجه؟! فكيف يليق به مع هذا أن يَعْدِلَ به غيرَه في الحب، والخوف، والرجاء، والحلف، والنذر، والمعاملة، فيحب غيره كما يحبه أو أكثر، ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر؟!. وشواهدُ أحوالهم -بل وأقوالهم وأعمالهم (3) - ناطقةٌ بأنهم يحبون أندادهم (4) من الأحياء والأموات، ويخافونهم، ويرجونهم، ويعاملونهم، ويطلبون رضاهم، ويهربون من سخطهم = أعظمَ مما يحبون الله تعالى، ويخافونه، ويرجونه، ويهربون من سخطه. __________ (1) من قوله: "في داره" إلى هنا، ساقط من (ت). (2) (ح): "مملوكه". (3) (ح) و (م): "وأفعالهم". (4) (ح): "أنداده".

(1/39)


وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوانٌ لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشِّرك به؛ فإن الله لا يغفر أن يُشْرَك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئًا، وهو ظلم العباد (1) بعضهم بعضًا؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوانٌ لا يعبأ الله به شيئًا، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل (2)؛ فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوًا، فإنه يُمْحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشرك، فإنه لا يُمْحى إلا بالتوحيد. وديوانُ المظالم لا يُمْحى إلا بالخروج منها إلى أربابها، واستحلالهم منها. __________ (1) "العباد" من (م) و (ق). (2) ورد هذا المعنى في حديث "الدّواوين عند الله ثلاثة. . .". أخرجه أحمد (8/ 470)، والحاكم (4/ 575 - 576) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بإسناد ضعيف، وصحّحه الحاكم فتعقّبه الذهبي، وصححه السّرخسي في "شرح كتاب الكسب لمحمد بن الحسن" (224)!. وله شواهد من حديث سلمان وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم يُحسَّن الحديث بها. انظر: "مجمع الزوائد" (10/ 348)، و"السلسلة الصحيحة" (1927)، و"مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحاكم" لابن الملقّن (7/ 3519 - 3522).

(1/40)


ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل، حرَّم الجنة على أهله؛ فلا يدخل الجنة نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد، فإن التوحيد هو مفتاح بابها، فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفْتَحْ له بابها (1)، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يُمْكِن الفَتْحُ به. وأسنان هذا المفتاح هي: الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، فأيُّ عبد اتخذ في هذه الدار مفتاحًا صالحًا من التوحيد، وركَّب فيه أسنانًا من الأوامر جاء يوم القيامة إلى باب الجنة ومعه مفتاحها الذي لا تُفْتَحُ إلا به، فلم يُعِقْهُ عن الفتح عائق، اللهم إلا أن تكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار؛ فإنه يحبس عن الجنة حتى يتطهر منها، وإن لم يطهره الموقف وأهواله وشدائده، فلابد من دخول النار ليخرج خبثه فيها، ويتطهر من ذنوبه (2) ووسخه، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، فإنها دار الطيبين لا يدخلها إلا طَيِّب. قال الله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32]. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا __________ (1) من قوله: "فمن لم يكن. . ." إلى هنا، ساقط من (ت). (2) (ح) و (ق): "درنه".

(1/41)


خَلِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. فعَقَّب دخولها (1) على الطّيب بحرف الفاء الذي يُؤْذِن بأنه سبب للدخول، أي: بسبب طيبكم قيل لكم: ادخلوها. وأما النار، فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال، والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} [الأنفال: 37] (2)؛ فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض، فيَرْكُمَه كما يُرْكَمُ الشيءُ المتراكب بعضه على (3) بعض، ثم يَجْعَلُه في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث. ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طَيِّبٌ لا يشوبه (4) خبث، وخبيثٌ لا طِيْبَ فيه، وآخرون فيهم خُبث وطِيبْ، كانت دُورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبيث (5) المحض، وهاتان الداران لا تفنيان (6)، ودار لمن معه خبث (7) وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا __________ (1) (ت): "دخلوها"، والعبارةُ قلقة، وإن كان المعنى ظاهرًا. (2) الآية من (م). (3) (ح) و (م): (إلى). (4) (ح): "يشينه". (5) (ح) و (ق): "الخُبث". (6) انظر: "ابن القيّم حياته وآثاره" للعلامة بكر أبو زيد (109، 239). (7) (ت): "خبيث".

(1/42)


عذبوا بقدر أعمالهم (1) أُخْرِجوا من النار، فأُدْخِلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض. وقوله في الحديث: "وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإنّ الله يَنْصِبُ وجهه لوجه عبده في صلاته مالم يلتفت" (2). الالتفاتُ المنهيُّ عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه. ولا يزال الله مقبلًا على عبده مادام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه. وقد سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التفات الرجل في صلاته فقال: "هو اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطانُ مِنْ صَلاةِ الْعَبْد" (3). وفي أثر آخر: يقول الله تعالى: "إلى خيرٍ مني؟!، إلى خيرٍ مني؟! " (4). __________ (1) (ح): "جزائهم"، وفي (ق): "جرائمهم". (2) من قوله: "فإنّ الله. . ." إلى هنا، من (ح). (3) أخرجه البخاري (751، 3291) من حديث عائشة رضي الله عنها. (4) أخرجه البزار (1/ 267 - كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا بإسناد ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 80): "وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، =

(1/43)


ومَثَلُ (1) من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه، مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا، أو قد انصرف قلبه عن السلطان فلا يَفْهَمُ ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظن هذا الرّجل أن يَفْعَل به السلطان؟!، أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مُبْعَدًا وقد سقط من عينيه؟!، فهذا المصلي لا يستوي والحاضرُ القلبِ، المقبلُ على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر (2) قلبَه عظمةَ من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذَلَّتْ عنقه له، واسْتَحْيَى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه. وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض" (3) . وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل. __________ = وقد أجمعوا على ضعفه". وانظر: "السلسلة الضعيفة" (2694). وأخرجه البزار (1/ 268 - كشف الأستار) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بإسناد ضعيف -أيضًا-. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 80): "فيه إبراهيم الخوزي، وهو ضعيف". والمحفوظ في هذا هو ما أخرجه العقيليُّ في "الضعفاء" (1/ 71)، وعبد الرزاق في "المصنف" (2/ 257)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 241) عن عطاء قال: "بلغني أن الربَّ. . ." فذكره. قال العقيلي: "هذا أولى من حديث إبراهيم". (1) (ت) و (م) و (ق): "ومثال". (2) (ت): "اقشعرّ". (3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (24 - زوائد رواية نعيم بن حمّاد).

(1/44)


فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب، لم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظن بالخالق عزَّ وجلَّ؟! وإذا أقبل على الخالق عز وجل، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفسُ مشغوفةٌ بها، مَلأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالًا وقد أَلْهَتْهُ الوساوس والأفكار، وذهبت به كلَّ مَذْهب؟! والعبدُ إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربِه، وأغيظِه للشيطان، وأشدِّه عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يَعِدُه ويُمَنِّيه ويُنْسِيه، ويجلب عليه بخيله ورَجِلِه حتى (1) يُهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها، فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويَحُول بينه وبين قلبه، فيذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة (2) ، وأَيِس منها، فَيُذَكِّره إياها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجلّ، فيقوم فيها بلا قلب؛ فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبلُ على ربه عز وجل، الحاضرُ بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها، بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تَخِفَّ عنه بالصلاة. __________ (1) "حتى" من (ح) و (ق). (2) (ت): "قد نسي الحاجة".

(1/45)


فإن الصلاة إنما تُكَفِّرُ سيئات من أدّى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه؛ فهذا إذا انصرف منها وجد خِفَّةً من نفسه، وأحس بأثقالٍ قد وُضِعَتْ عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرةُ عينه، ونعيمُ روحه، وجنة قلبه، ومُسْتَراحُه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمُحِبُّون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا بلالُ أرِحنا بالصَّلاة" (1)، ولم يقل: أرحنا منها. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "جُعِلت قُرَّة عيني في الصّلاةِ" (2). فمن جُعِلَتْ قرة عينه __________ (1) أخرجه أبو داود (4946)، وأحمد (7/ 653) من حديث رجلٍ من الصحابة لم يُسَمَّ بإسناد صحيح كما قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 118). ووقعت تسميته عند الطبراني في "الكبير" (6/ 276 - 277): "سلمان بن خالد، من خزاعة" وإسناده صحيح. وللحديث طرق أخرى معلولة. انظر: "علل الدارقطني" (4/ 120 - 122). (2) أخرجه النسائي (3949)، وأحمد (4/ 330) وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه. وصحّحه الحاكم في "المستدرك" (2/ 160) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وصحّحه المصنّف في "زاد المعاد" (1/ 150)، و (4/ 336)، وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 177): "وإسناده قويّ"، وحسّنه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 133 - 134). وأعلّه العقيليُّ في "الضعفاء" (2/ 160)، و (4/ 420). وجاء من حديث المغيرة وعائشة رضي الله عنهما.

(1/46)


في الصلاة، فكيف تقر عينه بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟! فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة، هي التي تصعد ولها نور وبرهان، حتى يُسْتَقْبَلَ بها الرحمن عز وجل فتقول: "حَفِظَكَ اللهُ تعالى كمَا حَفِظْتَني"، وأما صلاة المفرّط المضيّع لحقوقها وحدودها وخشوعها؛ فإنها تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب الخَلِق، ويُضْرَب بها وجه صاحبها وتقول: "ضَيَّعَكَ اللهُ كما ضَيَّعْتَنِي". وقد رُوِي في حديث مرفوعٍ رواه بكر بن بشر، عن سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن أبي شجرة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال: "مَا مِنْ مؤمنٍ يُتِمُّ الوضوء إلى أماكنه، ثمَّ يَقومُ إلى الصَّلاةِ في وقتها، فيُؤدِّيها لله عز وجل لم ينقص من وقتها، وركوعها وسجودها، ومعالمها شيئًا، إلَّا رُفِعَتْ له إلى الله عز وجل بيضاءَ مُسْفِرة يَسْتَضِئُ بنورها ما بين الخافِقَيْن، حتى يُنْتَهى بها إلى الرّحمن عزَّ وجلّ. ومَنْ قام إلى الصلاة فلم يُكمل وضوءها، وأخَّرها عن وقتها، واسْتَرَقَ ركوعها وسجودها ومعالمها، رُفِعَتْ عنه سوداء مظلمة، ثم لا تُجاوز شعر رأسه، تقولُ: ضَيَّعك اللهُ كما ضَيَّعْتَني، ضَيَّعَك الله كما ضيَّعْتَني" (1). __________ (1) أخرجه الطيالسي (586)، والبزّار (7/ 140، 151)، والشاشي في "مسنده" (1290، 1291) وغيرهم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 122): ". . . وفيه الأحوص بن حكيم، وثّقه ابن المديني والعجلي، وضعفه جماعة، وبقية رجاله موثوقون". وأعلّه العقيليُّ في "الضعفاء" (1/ 120). =

(1/47)


فالصلاة المقبولة، والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عَزَّ وَجَلَّ، فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به، كانت مقبولة. والمقبول من العمل قسمان: أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل، ذاكرٌ لله عَزَّ وَجَلَّ على الدوام، فأعمال هذا العبد تُعْرَضُ على الله عَزَّ وَجَلَّ حتى تقف قبالته، فينظر الله عَزَّ وَجَلَّ إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية، قد صدرت عن قلب سليم مخلص مُحِبٍّ لله عز وجل، متقرِّبٍ إليه = أحبَّها، ورضيها، وقَبِلَها. القسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة، وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رُفِعَتْ أعمال هذا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ لم تقف تجاهه، ولا يقع نظره عليها، ولكن تُوضَع حيث توضع دواوين الأعمال، حتى تعرض عليه يوم القيامة، فَتُمَيَّز، فيثيبه على ما كان له منها، وَيَرُدُّ عليه ما لم يُرِدْ وجهه به منها. __________ = وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (3095) من حديث أنس رضي الله عنه، ولا يصحّ. ولم أقف عليه من الوجه الذي ذكره المصنّف، لكنّ سعيد بن سنان متروك، كما في "التقريب" (381). وانظر: "الميزان" (2/ 143 - 145).

(1/48)


فهذا قبولُه لهذا العمل إثابتُه عليه بمخلوق من مخلوقاته، من القصور، والأكل والشرب، والحور العين، وإثابة الأول رِضاهُ العمل لنفسه (1)، ورضاه على (2) عامله، وتقريبه منه، وإعلاء درجته ومنزلته، فهذا يعطيه بغير حساب، فهذا لونٌ، والأول لونٌ (3). والناس في الصلاة على مراتب خمسة: أحدها: مرتبة الظالم لنفسه، المُفَرِّط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها. الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها (4) الظاهرة ووضوئها، لكنه قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس (5) والأفكار. الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه؛ لئلا يسرق منه صلاته (6)، فهو في صلاةٍ وجهاد. الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، __________ (1) (ت): "رضاه لنفسه"، وفي (ح) و (ق): "رضي العمل لنفسه". (2) (ح): "عن معاملة" وفي (ق): "عن عامله". (3) انظر: "المنار المنيف" للمصنِّف (22 - 24). (4) "وأركانها" من (ح) و (م) و (ق)، (5) "فذهب مع الوساوس" ساقط من (ت). (6) (ت) و (ح) و (ق): "يسرق صلاته".

(1/49)


واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يُضَيِّع منها شيئًا، بل همُّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها. الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكنْ مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرًا بقلبه إليه، مراقبًا له، ممتلئًا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّتْ تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حُجُبُها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم (1) مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل، قرير العين به (2) . فالقسم الأول معاقَبٌ، والثاني محاسَبٌ، والثالث مكَفَّرٌ عنه، والرابع مثابٌ والخامس مُقَرَّبٌ؛ لأن له نصيبًا ممن جُعِلَتْ قرة عينه في الصلاة، فمن قَرَّتْ عينه بصلاته في الدنيا قَرَّتْ عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقَرَّتْ عينه -أيضًا- به (3) في الدنيا، ومن قَرَّتْ عينه بالله قَرَّتْ به كلُّ عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تعالى تقطَّعَتْ نفسه على الدنيا حسرات. وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: "ارفعوا الحُجُبَ بيني وبين عبدي (4) ، فإذا التفت قال: أرخوها" (5) . __________ (1) (ح) "أفضل وأعظم". (2) (ت): "قرير العين به، مشغول بربه". (3) "به" من (ح) و (ق). (4) "بيني وبين عبدي" من (م). (5) لم أقف عليه. وذكر الغزاليُّ في "الإحياء" (1/ 170) بعضه، فقال العراقي =

(1/50)


وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره: فإذا التفت إلى غيره (1) أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعَرَضَ عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة. وإذا أقبل بقلبه (2) على الله، ولم يلتفت، لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب. وإنما يدخل الشيطان إذا وَقَعَ الحجابُ (3) ؛ فإن فر إلى الله تعالى وأحضر قلبه فَرَّ الشيطانُ، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة. __________ = في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 119): "لم أجده". (1) (ت): "غير الله". (2) "بقلبه" من (ح) و (ق). (3) (م): "رفع الحجاب".

(1/51)


فصل وإنما يَقْوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عَزَّ وَجَلَّ إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلبٌ قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعدًا تمكَّنَ فيه، كيف يخلص من الوساوس ومن الأفكار؟! والقلوب ثلاثة: قلبٌ خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مُظْلِمٌ، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكُّن. القلب الثاني: قلبٌ قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبالٌ وإدبارٌ ومجاولات (1) ومطامع، فالحرب دُوَلٌ وسِجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم مَن أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة. القلب الثالث: قلبٌ مَحْشُوٌّ بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فَلِنُوره في قلبه إشراق، ولذلك الإشراق إيقادٌ (2)، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حُرِسَت بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان ليتخطاها __________ (1) (ح): "ومجالات". (2) (ت) و (م): "فلنوره في قلبه إشراق وإيقاد".

(1/52)


رُجِم (1) فاحترق (2). وليست السماء بأعظم حُرْمَةً من المؤمن، وحراسةُ الله تعالى له أتمُّ من حراسة السماء، والسماء مُتَعبَّدُ الملائكة، ومُسْتَقَرُّ الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلبُ المؤمن مُسْتَقَرُّ التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيقٌ أن يُحْرَس ويُحْفَظَ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئًا إلا على غِرّةٍ وغفلةٍ (3) خَطْفَةً. وقد مُثِّل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيتٌ للمَلِك، فيه كنوزه وذخائره وجواهره. وبيتٌ للعبد (4)، فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليس فيه جواهر الملك وذخائره. وبيت خالٍ صِفْرٌ لا شيء فيه. فجاء اللص ليسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟! فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالًا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسْرَق؛ ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: "وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟! " (5). __________ (1) "رُجِم" من (ح) و (ق). (2) (ت): "لاحترق"، وفي (م): "فلو دنا منه الشيطان ليتخطف منه لاحترق". (3) "على غرة وغفلة" من (م). (4) (ت): "بيت الملك. . . وبيت العبد. . .". (5) أخرج أحمد في "الزهد" (255)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 245) عن =

(1/53)


وإن قلتَ: يَسْرق (1) من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع؛ فإنّ عليه من الحرس واليَزَكِ (2) ما لا يستطيع اللص الدُّنُوَّ منه، كيف وحارسه الملك بنفسه؟!، وكيف يستطيع اللص الدُّنُوَّ منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟! فلم يبق لِلِّصِّ إلا البيت الثالث، فهو الذي يَشُنُّ عليه الغارة. فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله. فقلبٌ خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان، قد أحرزه لنفسه واستوطنه، واتخذه سكنًا ومستقرًّا، فأيُّ شيء يسرق منه، وفيه خزائنه وذخائره، وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟! وقلبٌ قد امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته، ومحبته ومراقبته، والحياء منه، فأيُّ شيطان يجترئ على هذا القلب؟!، وإن أراد سرقة شيء منه، فماذا يسرق؟!، وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخَطْفَةٍ ونَهْبَةٍ تحصل له على غِرَّةٍ من العبد وغفلةٍ لابد له منها؛ إذْ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو، والذهول وغلبة الطبع. __________ = العلاء بن زيادٍ، قريبًا منه. ولم أقف عليه من قول ابن عباس رضي الله عنهما. (1) "يسرق" من (ح) و (ق). (2) اليَزَك: كلمة فارسيةٌ، معناها: طلائع الجيش. انظر: "المعجم الذهبي" (619) للتونجي، و"معجم المصطلحات والألقاب التاريخية" (446) للخطيب، و"المجموع اللفيف" (91) للسامرائي.

(1/54)


وقد ذُكِر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى أنه قال: في بعض الكتب الإلهية (1) : "لست أسكن البيوت، ولا تَسَعُني، وأيُّ بيت يسعني والسمواتُ حشو كُرْسِيِّي؟ ولكن أنا في قلب المؤمن (2) الوادع التارك لكل شيء سواي" (3) . وهذا معنى الأثر الآخر: "ما وسعتني سمواتي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن" (4) . وقلبٌ فيه توحيد الله تعالى ومعرفته ومحبته، والإيمان به والتصديق بوعده ووعيده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع. وقلبٌ بين هذين الداعيين، فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة، والمحبة لله تعالى وإرادته وحده، ومرة يميل بقلبه داعي الهوى والشيطان والطِّباع، فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه منازلات ووقائع، ويُعْطِي الله النصر لمن يشاء {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ __________ (1) "في بعض الكتب الإلهية" من (ح) و (م) و (ق). (2) "المؤمن" من (م)، وهي في رواية "الزهد" لأحمد. (3) أخرجه أحمد في "الزهد" (81)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 24)، وأبو الشيخ في "العظمة" (2/ 429 - 430). (4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (18/ 122، 376) -: "هذا مذكور في الإسرائيليات، ليس له إسناد معروف عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 713): "لم أر له أصلًا". وأورده الديلميُّ في "الفردوس" (3/ 213) عن أنسٍ، ولم يسنده ابنه.

(1/55)


الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } [آل عمران: 126]. وهذا لا يتمكن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل الشيطان إليه فيجد سلاحه عنده فيأخذه ويقاتله به؛ فإنّ أسلحته هي الشهوات والشبهات، والخيالات والأماني الكاذبة، وهي في القلب، فيدخل الشيطان فيجدها عنده فيأخذها ويصول بها على القلب؛ فإنْ كان عند العبد عُدَّةٌ عتيدة من الإيمان تقاوم تلك العُدَّةِ وتزيد عليها، انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. فإذا أَذِنَ العبدُ لعدوه، وفتح له باب بيته، وأدخله عليه، ومَكَّنه من السلاح يقاتله به، فهو المَلُوم. فنَفْسَك لُمْ ولا تَلُمِ المطايا ... ومُتْ كمدًا فليس لك اعتذارُ (1) __________ (1) البيت في "الزهرة" لمحمد بن داود (1/ 494)، و"المدهش" لابن الجوزي (293) دون نسبة. إلا أنه قال في "الزهرة": "ولبعض أهل هذا العصر. . ." فذكره ضمن أبياتٍ. ويرى المسعوديُّ في "مروج الذهب" (5/ 196) أن محمد بن داود كان يعزو شعره في كتابه لبعض أهل عصره. قلت: وهذا صنعه غيرُ واحد.

(1/56)


فصل عدنا إلى شرح حديث الحارث الذي فيه ذِكْرُ ما يُحْرِزُ العبدَ من عدوّه: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وأمركم بالصيام، فإن مَثَلَ ذلك مَثَلَ رجل في عصابةٍ معه صُرَّةٌ فيها مِسك، فكلُّهم يعجب أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". إنما مثَّل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك بصاحب الصُّرة التي فيها المسك؛ لأنها مستورة عن العيون، مخبوءة تحت ثيابه، كعادة حامل المسك، وهكذا الصائم صومُه مستورٌ عن مشاهدةِ الخلق، لا تدركه حواسُّهم. والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها مَنْ جَالَس حامل المسك، كذلك مَنْ جَالَس الصائم انتفع بمجالسته له، وأَمِن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم. هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب. ففي الحديث الصحيح (1): "من لم يَدَعْ قول الزُّور والعمل به __________ (1) "الصحيح" من (ح).

(1/57)


والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (1)، وفي الحديث: "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطش" (2). فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فكذلك الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتُصيِّره بمنزلة من لم يَصُمْ. وقد اخْتُلِفَ في وجود هذه الرائحة من الصائم، هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ على قولين. وقد وقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح في ذلك تنازع (3)، فمال أبو محمد إلى أن تلك في الآخرة خاصة، وصنف فيه مصنفًا (4)، ومال الشيخ (5) أبو عمرو إلى أن __________ (1) أخرجه البخاري (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (3236، 3237)، وابن ماجه (1690)، وأحمد (3/ 379)، والدارمي (2620) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لأحمد. وصحّحه ابن خزيمة (1997)، والحاكم (1/ 431) على شرط البخاري، ولم يتعقبه الذهبي. (3) انظر له: "المجموع" للنووي (1/ 331 - 332)، و"البدر المنير" لابن الملقّن (3/ 82 - 85)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 128)، و"طرح التثريب" (4/ 96 - 97). (4) لم أر من ذكره له، كما لم أقف له على كلام في هذه المسألة في كتبه، وفتاويه المصريّة والموصليّة. (5) "الشيخ" من (ح) و (م) و (ق).

(1/58)


ذلك في الدنيا والآخرة، وصنف فيه مصنفًا رد فيه على أبي محمد (1). وسلك أبو عمرو في ذلك مسلك أبي حاتم بن حبان؛ فإنه في "صحيحه" بَوَّبَ عليه كذلك، فقال: "ذكر البيان بأن خُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، ثم ساق حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: "كُلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام، والصيام لي، وأنا أجزي به، وَلَخُلوف (2) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (3). ثم قال: "ذكر البيان بأن خُلوف (4) فم الصائم يكون أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة"، ثم ساق حديثًا من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي (5)، وأنا أجزي به، والذي نفس محمد بيده لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح __________ (1) لم أر من ذكره له، وانظر لقوله في هذه المسألة: رسالة "بيان صحة الفتاوى التي صدرت من الشيخ ابن الصّلاح" (1/ 96 - 108 ضمن فتاوى ومسائل ابن الصلاح ط القلعجي) لأحد تلاميذه، ولعلّه كمالُ الدّين إسحاق بن أحمد المعرّي. (2) انظر لتحرير ضبط الخاء من (خُلوف): "عجالة الإملاء" للناجي (218 - 219). (3) "صحيح ابن حبان" (8/ 210 برقم 3422 - الإحسان). والحديث أخرجه مسلم بهذا الإسناد (1151/ 164). (4) ليست في مطبوعة "الإحسان". (5) في مطبوعة "الإحسان": "فهو لي".

(1/59)


بفطره، وإذا لقي الله فرح بصومه". قال أبو حاتم: "شعار المؤمنين يوم (1) القيامة التحجيلُ بوضوئهم في الدنيا فَرْقًا بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طيبُ خُلوف أفواههم (2) أطيب من ريح المسك؛ ليُعْرَفوا من بين سائر الأمم في (3) ذلك الجمع بذلك العمل، جعلنا الله تعالى منهم" (4). ثم قال: "ذكر البيان بأن خُلوف فم الصائم قد يكون أيضًا أطيب من ريح المسك في الدنيا"، ثم ساق من حديث شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم، فهو لي، وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، والشراب من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولَخُلوف فم الصائم حين يَخْلُفُ من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك" (5). واحتج الشيخ أبو محمد بالحديث الذي فيه تقييد الطِّيب بيوم __________ (1) في مطبوعة "الإحسان": "في" بدل "يوم". (2) في مطبوعة "الإحسان": "طيب خلوفهم". (3) "سائر الأمم في" ليست في مطبوعة "الإحسان". (4) "صحيح ابن حبان" (8/ 210 - 211 برقم 3423 - الإحسان). والحديث أخرجه البخاري (4/ 190) ومسلم (1151/ 163) بهذا الإسناد، وليس عند البخاري قوله: "يوم القيامة". (5) "صحيح ابن حبان" (8/ 211 برقم 3424 - الإحسان)، وعنده بعد قوله: "والشراب من أجلي" زيادة "وشهوته من أجلي، وأنا أجزي به". وأخرجه أحمد (3/ 662 - 663) وإسناده صحيح.

(1/60)


القيامة" (1). قلت: ويشهد لقوله: الحديثُ المتفق عليه "والذي نفسي بيده ما من مكلوم يُكْلَمُ في سبيل الله -والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وَكَلْمُه يَدْمَى، اللون لون دم، والريح ريح مسك" (2). فأخبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن رائحة كَلْمِ المكلوم في سبيل الله عز وجل بأنها كريح المسك يوم القيامة، وهو نظير إخباره عن خُلوف فم الصائم؛ فإن الحِسّ يدل على أن هذا دم في الدنيا، وهذا خُلوف (3)، ولكنْ يجعل الله تعالى رائحة هذا وهذا مِسْكًا يوم القيامة. واحتج الشيخ أبو عمرو بما ذكره أبو حاتم في "صحيحه" من تقييدِهِ ذلك بوقت إخلافه، وذلك يدل على أنه في الدنيا، فلما قَيَّد المبتدأ وهو"خُلوف فم الصائم" بالظرفِ وهو قوله: "حين يخلف" = كان الخبر عنه -وهو قوله: "أطيب عند الله"- خبرًا عنه في حال تقييده؛ فإنّ (4) المبتدأ إذا تقيد بوصفٍ أو حالٍ أو ظرفٍ كان الخبر عنه حال كونه مقيدًا، فدل على أن طِيبه عند الله تعالى ثابتٌ حال إخلافه. قال: وروى الحسن بن سفيان في "مسنده" عن جابر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أُعْطِيَتْ أمتي في شهر رمضان خمسًا. . ." فذكر الحديث، وقال فيه: "وأما الثانية: فإنهم يُمْسُون وريح أفواههم أطيب عند الله من ريح __________ (1) وقد تقدم قريبًا. (2) صحيح البخاري (237، 2803)، ومسلم (1876) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) (ح): "خلوف له". (4) (ت) و (ق): "لأنّ".

(1/61)


المسك" (1). ثم ذكر كلام الشُّرّاح في معنى طِيبه، وتأويلَهم إياه بالثناء على الصائم والرضى بفعله (2)، على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، حتى كأنه قد بُورِكَ له فيه (3)، فهو مُوَكَّلٌ به!. وأيُّ ضرورة تدعو (4) إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضى بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟! وكثيرٌ من هؤلاء يُنْشِئ للّفظ معنى، ثم يدَّعي إرادة ذلك المعنى بلفظِ النصّ، من غير نظرٍ منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عَيَّنه، أو احتمالِ اللغة له. __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/ 211)، و"فضائل الأوقات" (36)، وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" (19)، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1820) بإسنادٍ ضعيف. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 20): "إسناده مقارب، أصلح ممّا قبله". وقال الدمياطي في "المتجر الرابح" (349): "إسناده لا بأس به إن شاء الله". ورواه أبو بكر السمعانيُّ في "أماليه" -ولم أقف على إسناده- وقال: "هذا حديث حسن"، كما في "المجموع" للنووي (1/ 331). (2) انظر: "أعلام الحديث" للخطابي (2/ 940)، و"شرح السنة" للبغوي (6/ 222)، ورسالة "بيان صحّة الفتاوى التي صدرت من الشيخ ابن الصلاح" (1/ 105 - 106 ضمن فتاوى ومسائل ابن الصلاح). (3) "له" من (م) و (ق)، والضمير يعود إلى الكثير من الشُّراح. وقوله: "فيه" أي: في التأويل من غير ضرورة. (4) "تدعو" من (ح) و (م) و (ق).

(1/62)


ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلومًا بوضع اللفظ لذلك المعنى، أو عُرْفِ الشارع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أوْ عادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، أو تفسيره له به = وإلا كانت شهادة (1) باطلة، وأدنى أحوالها أن تكون شهادة بلا علم. ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمَثَّل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طيب هذا الخُلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا، وأعظم. ونسبةُ استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابةٌ لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته (2) لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلمَ الطيب فيصعد إليه، والعملَ الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا (3). ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذْ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرِّضى؛ فإن قالوا: رضاهُ ليس كرضى المخلوقين، __________ (1) (ت) و (م): "شهادته" (2) (ت) و (ق): "فصفاته". (3) لم أر من تعرّض لتحقيق القول في هذه الصفة غير ابن القيّم رحمه الله تعالى في هذا الموضع.

(1/63)


فقولوا: استطابتهُ ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. ثم قال (1): وأما ذِكْرُ يوم القيامة في الحديث؛ فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخُلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبًا لرضى الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة (2)، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فَخَصَّ يوم القيامة بالذكر في بعض الروايات (3) كما خَصَّ في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} [العاديات: 11]، وأطلق في باقيها نظرًا إلى أن أصل أفضليَّته (4) ثابت في الدارين. قلتُ: ومن العجب رَدُّه على أبي محمد بما لا ينكره أبو محمد ولا غيره (5)؛ فإن الذي فسَّر به الاستطابةَ المذكورة (6) في الدنيا بثناء الله تعالى على الصائمين ورضاه بفعلهم أمرٌ لا ينكره مسلم؛ فإن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه، وفيما بلَّغه عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورضي بفعلهم؛ فإن كانت هذه هي (7) الاستطابة، أفترى الشيخ أبا محمد ينكرها؟!. والذي ذكره الشيخ أبو محمد: أن هذه الرائحة إنما يظهر طِيبها على __________ (1) أي: أبو عمرو بن الصّلاح. (2) "الطيبة" من (ح) و (ق). (3) "في بعض الروايات" ساقط من (ت) و (م). (4) أي: أفضليّة خلوف الصائم على المسك. (5) "ولا غيره" من (ح) و (م) و (ق). (6) "المذكورة" ساقطة من (ت). (7) "هي" من (ح) و (ق).

(1/64)


طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشهيد، ويكون كرائحة المسك، ولا ريب أن ذلك يوم القيامة؛ فإن الصائم في ذلك اليوم يجيءُ ورائحة فمه أطيب من رائحة المسك، كما يجيء المكلوم في سبيل الله عز وجل ورائحة دمه (1) كذلك، لا سيما والجهاد أفضل من الصيام؛ فإذا كان طِيب رائحته إنما يظهر يوم القيامة فكذلك الصائم (2) . وأما حديث جابر: "فإنهم يُمْسُون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك" فهذه جملة حالية لا خبرية، فإن خبر "أمسى" (3) لا يقترن بالواو؛ لأنه خبر مبتدأ، فلا يجوز اقترانه بالواو. وإذا كانت الجملة حاليَّةً فلأبي محمد أن يقول: هي حالٌ مقدَّرة، والحالُ المقدرة يجوز تأخيرها عن زمن الفعل العامل فيها، ولهذا لو صَرَّح بيوم القيامة في مثل هذا، فقال: "يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك يوم القيامة" لم يكن التركيب فاسدًا، كأنه قال: "يمسون وهذا لهم يوم القيامة". وأما قوله: "لَخُلوف فم الصائم حين يخلف" فهذا الظَّرفُ تحقيقٌ لمعنى المبتدأ (4) ، وتأكيد له، وبيان إرادة الحقيقة المفهومة منه، لا مَجازُه ولا استعارته (5) ، وهذا كما تقول: جهاد المؤمن حين يجاهد، وصلاته حين يصلي يجزيه الله تعالى بها يوم القيامة، ويرفع بها درجته __________ (1) من قوله: "أطيب من رائحة المسك" إلى هنا، ساقط من (ت). (2) (ت): "الصيام". (3) (ح) وأكثر مطبوعات الكتاب: "إمسائه"، وهو خطأ (4) (ت) و (ح) و (ق): "للمبتدأ". (5) (ت): "لا مجاز ولا استعارة".

(1/65)


يوم القيامة. وهذا قريب من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (1). وليس المراد تقييد نفى الإيمان المطلق عنه حالة مباشرته تلك الأفعال فقط، بحيث إذا كَمُلَتْ مباشرته وانقطع فعله عاد إليه الإيمان، بل هذا النفي مستمر إلى حين التوبة، وإلا فما دام مُصِرًّا وإن لم يباشر الفعل (2) فالنفي لاحِقٌ به، ولا يزول عنه اسم الذم والأحكام المترتبة على المباشرة إلا بالتوبة النصوح، والله سبحانه وتعالى أعلم. قلتُ (3): وفصلُ النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن ذلك الطِّيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال ومُوجِباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طِيبُ ذلك الخُلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله (4) كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية، ويظهر (5) فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم. وحيثُ أخبر بأن ذلك "حين يَخْلُف" و"حين يُمْسُون"؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طِيبُها زائدًا على ريح المسك عند الله __________ (1) أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتكملة الحديث: "والتوبةُ معروضةٌ بَعْدُ". (2) (م): "مصرًّا على مباشرة الفعل"، وهو خطأ، والمثبت من (ت) و (ح) و (ق). (3) "قلت" من (م). (4) (ت) و (م): "الشهيد في سبيل الله". (5) (ت): "وتظهر".

(1/66)


تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهةً للعباد، فَرُبَّ مكروهٍ عند الناس محبوبٍ عند الله تعالى، وبالعكس؛ فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية، وهكذا سائر آثار (1) الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة. وقد يَقْوَى العملُ ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مُشاهَدٌ بالبصر والبصيرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوّةً في البدن، وسَعَةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سَوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، وَوَهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضَةً في قلوب الخلق" (2). وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما عمل رجل عملًا إلا ألبسه __________ (1) "آثار" من (ح) و (ق). (2) ورد قريبًا منه عند ابن أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 500) من قول الحسن البصري. وعند أبي نعيم في "الحلية" (3/ 30) من قول سليمان التيمي. وعنده -أيضًا- (7/ 330) من قول الحسن بن صالح. ولم أقف عليه من قول ابن عباس -رضي الله عنهما-. وروي مرفوعًا، ولا يصحّ. انظر: "تبييض الصحيفة" (1/ 134 - 136) لمحمد عمرو عبد اللطيف.

(1/67)


الله تعالى رداءه، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ" (1) . وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم، حتى إنَّ الرجل الطّيِّب البَرَّ لتشمُّ منه رائحة طيبة وإن لم يَمَسَّ طِيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس، والمزكوم الذي أصابه الهواء (2) لا يشمُّ لا هذا، ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. __________ (1) أخرجه أحمد في "الزهد" (157)، وابن المبارك في "الزهد" (17 - زوائد رواية نعيم)، وأبو داود في "الزهد" (111 - 112)، وابن أبي شيبة (12/ 558)، والطبري في "التفسير" (18/ 262)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (12/ 270 - 271)، والخطيب في "تالي تلخيص المتشابه" (1/ 95) من طرقٍ عن عثمان رضي الله عنه موقوفًا. وروي عنه مرفوعًا من وجهين منكرين، عند ابن عدي في "الكامل" (2/ 382)، والطبري في "التفسير" (12/ 367 - 368)، وأبي نعيم في "الحلية" (10/ 215)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/ 306)، والبيهقي في "الشعب" (12/ 271)، والخطيب في "الموضح" (2/ 460). قال البيهقي بعد أن أخرج الموقوف: "هذا هو الصحيح، موقوفًا على عثمان، وقد رفعه بعض الضعفاء". وروي مرفوعًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 36 - 37) بإسنادٍ تالف. وانظر: "علل الدارقطني" (5/ 333 - 334). ورواه عنه موقوفًا أبو يوسف في "الآثار" (196)، وهو أشبه. وروي مرفوعًا من حديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/ 44)، و"الكبير" (2/ 171) بإسنادٍ شديد الضعف. (2) (م): "ملأ مسَامَّ قلبه الهواء"!، ولم ترد العبارة في (ت).

(1/68)


فصل وقوله: "وأمركم بالصدقة؛ فإن مَثَل ذلك مَثَل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم". هذا أيضًا من الكلام الذي برهانُه وجودُه، ودليلُه وقوعُه، فإن للصدقة تأثيرًا (1) عجيبًا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر؛ فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهلُ الأرضِ كلُّهم مُقِرُّون به؛ لأنهم قد (2) جرَّبوه. وقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الصدقة تُطفئ غضب الرَّبِّ، وتدفع مِيتة السوء" (3). __________ (1) (ت): "برهانًا". (2) "قد" من (م). (3) أخرجه الترمذي (664)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 94)، والبغوي في "شرح السنة" (6/ 133) وغيرهم. قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه"، وصحّحه ابن حبان (3309)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (1847، 1848). وفي إسناده: "عبد الله بن عيسى الخزّاز"، وهو ضعيف، وقد تفرّد به، وأورد ابن عديّ حديثه هذا في "الكامل" (4/ 251 - 252) في ترجمته. وللحديث شواهد. انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 679)، و"فتح الوهاب بتخريج =

(1/69)


وكما أنها تُطْفِئُ غضب الرب تبارك وتعالى، فهي تُطْفِئُ الذنوب والخطايا كما يُطْفِئُ الماء النار. وفي "الترمذي" عن معاذ بن جبل قال: كنت مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفرٍ، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، (1) ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16] " (2). __________ = أحاديث الشهاب" (1/ 104 - 108). (1) كذا في الأصول التي بين يديّ، وورد في بعض مطبوعات الكتاب زيادة "شعار الصالحين"، وهذا الحرفُ ليس في نسخ الترمذي المطبوعة، ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث المسندة. وقد ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول" (9/ 535)، والمنذريّ في "الترغيب والترهيب" (3/ 510) في سياقهما للحديث. قال برهان الدّين الناجي في "عجالة الإملاء" (460): "هذه الزيادة مقحمة في الحديث بلا شك، لم تُسْمَع فيه قطّ، قلّد [أي: المنذري] فيها صاحب "جامع الأصول"، ولا أدري من أين أخذها هو؟!، والمعنى: أن صلاة الرجل في جوف الليل تطفئ الخطيئة -أيضًا- كالصدقة". (2) أخرجه الترمذي (2616)، والنسائي في "الكبرى" (11330)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (7/ 349 - 350) وغيرهم. قال الترمذيّ: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (17/ 26). وفي إسناده انقطاع واختلاف. انظر: "جامع العلوم والحكم" (2/ 135)، و"علل الدارقطني" (6/ 78 - 79).

(1/70)


وفي بعض الآثار: "باكِرُوا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة" (1) . وفي تمثيل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك بمن قُدِّم ليضرب عنقه فافتدى نفسه منهم بِمالِه كفايةٌ؛ فإنّ الصدقة تفدي العبد من عذاب الله عز وجل؛ فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه، فتجيء الصدقة تفديه من العذاب، وتَفَكُّهُ منه. ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد: "يا معشر النساء تَصدَّقْن ولو من حُليِّكُن؛ فإني رأيتُكُنَّ أكثر أهل النار" (2) . وكأنه حثَّهن ورغَّبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار. __________ (1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 448)، والبيهقي في "الشعب" (6/ 529)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 340) عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا. وإسناده ضعيف جدًّا، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 482 - 484)، ونُوزِعَ في ذلك. انظر: "المقاصد الحسنة" (171). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/ 9 برقم 5643) عن علي رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 110): "وفيه عيسى بن عبد الله بن محمد، وهو ضعيف"، وقال المعلّمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (62): "وعيسى تالف، يروي عن آبائه المنكرات". وأخرجه البيهقي في "الشعب" (6/ 530)، و"الكبرى" (4/ 189) عن أنس رضي الله عنه موقوفًا، وقال: "رفعه وهم". وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 672): "رواه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا على أنس، ولعلّه أشبه". (2) أخرجه البخاري (1462)، ومسلم (889) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، واللفظ للبخاري، وليس عنده "ولو من حُلِيِّكن". وورد من وجوه أخرى.

(1/71)


وفي "الصحيحين" عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما منكم من أحدٍ إلا سَيُكَلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظرُ أَيْمَنَ منه، فلا يرى إلَّا ما قَدَّم، وينظرُ أَشْأمَ منه، فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تِلْقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة" (1) . وفي حديث أبي ذر أنه قال: سألت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: "الإيمان بالله"، قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: "أن تَرْضَخَ مما خوَّلك الله، أو تَرْضَخ مما رزقك الله"، قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال: "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر"، قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: "فَلْيُعِن الأخْرَق"، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: "فَلْيُعِن مظلومًا"، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يُعينَ مظلومًا؟ قال: "ما تريد أن تترك في صاحبك من خير؟! لِيُمْسِكْ أذاهُ عن الناس"، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: "ما من مُؤْمن يصيب خَصْلَةً من هذه الخصال إلا أَخَذَتْ بيده حتى أَدْخَلَتْهُ الجنة" ذكره البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" (2) . __________ (1) صحيح البخاري (7512)، ومسلم (1016). (2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6/ 502، 503، 504، 506)، والطبراني في "الكبير" (6/ 156، 157). وصححه ابن حبان (373)، والحاكم (1/ 63) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي.

(1/72)


وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ذُكِر لي أن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم" (1) . وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: "ضَرب رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَثَل البخيل والمُتَصَدِّق كمَثَلِ رجلين عليهما جُبَّتان من حديد، أو جُنَّتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثُدِيِّهما وتراقيهما، فجعلَ المتصدقُ كلما تصدَّق بصدقةٍ انبسطت عنه حتى تُغَشِّي أنامِلَهُ، وتَعْفُوَ أثره، وجعل البخيلُ كلما هَمَّ بصدقة، قَلَصت وأخذت كل حلْقة مكانها". قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول بإصبعه هكذا في جَيْبِه، فلو رأيته يُوسعها ولا تتّسع (2) . وروى البخاري هذا الحديث في كتاب الزكاة عن أبي هريرة أيضًا، ولفظه: أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "مَثَلُ البخيل والمنفق كمَثَلِ رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ أو وَفَرَتْ على جلده حتى تُخْفِي بنَانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لَزِقَتْ كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6/ 505)، وابن خزيمة (4/ 95) وقال: "إن صحّ الخبر؛ فإني لا أعرف أبا قرّة (وتصحّف في المطبوع إلى "أبا فروة") بعدالة ولا جرح". لكنْ؛ صحّحه الحاكم في "المستدرك" (1/ 416) على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي، فهذا توثيق ضمنيٌّ لأبي قرّة. وانظر: "مسند الفاروق" لابن كثير (1/ 176)، و (2/ 594 - 595). (2) صحيح البخاري (5797)، ومسلم (1021).

(1/73)


تتسع" (1). وروى عن أبي بردة عن أبيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "على كل مسلم صدقة" قالوا: يا رسول الله، فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق" قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يُعِين ذا الحاجة الملهوف" قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فليعمل بالمعروف، وَلْيُمْسِك عن الشر؛ فإنها له صدقة (2) " (3). ولما كان البخيل محبوسًا عن الإحسان، ممنوعًا عن البِر والخير، كان جزاؤه من جنس عمله؛ فهو ضَيِّقُ الصدر، ممنوعٌ من الانشراح، ضَيِّق العَطَن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تُقْضَى له حاجة، ولا يُعان على مطلوب. فهو كرجل عليه جبة من حديد، قد جُمِعت يداه إلى عنقه بحيث (4) لا يتمكن مِن (5) إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها، أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حَلقة من حِلَقها موضعها. وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق مَنَعَهُ البخل، فيبقى قلبه في سجنه كما هو، والمتصدقُ كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجُبّة عليه، فكلما تصدق اتسع __________ (1) "صحيح البخاري" (1443). (2) "صحيح البخاري" (1445، 6022). وأخرجه مسلم (1008). (3) من قوله: "وروى البخاريّ هذا الحديث. . ." إلى هنا، من (م). (4) "بحيث" من (ح) و (م) و (ق). (5) "مِنْ" ساقطة من (ت).

(1/74)


وانفسح وانشرح، وقَوِيَ فرحه، وعَظُمَ سروره. ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقًا بالاستكثار منها والمبادرة إليها. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]، [التغابن: 16]. وكان عبد الرحمن بن عوف -أو سعد بن أبي وقاص- يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: "ربِّ قني شُحَّ نفسي، ربِّ قني شُحَّ نفسي". فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟ فقال: "إذا وُقِيتُ شُحَّ نفسي فقد أفلحتُ" (1). والفرق بين الشُّحِّ والبخل أن الشُّحَّ: هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجَشَعُ النفس عليه. والبخل: منعُ إنفاقه بعد حصوله، وحُبُّه وإمساكُه، فهو شحيحٌ قبل حصوله، بخيلٌ بعد حصوله. فالبخلُ ثمرة الشُّحِّ، والشُّحُّ يدعو إلى البخل، والشُّحُّ كامِنٌ في النفس، فمن بخل فقد أطاع شُحَّه، ومن لم يبخل فقد عصى شُحَّه، وَوُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}. __________ (1) أخرجه الطبري في "التفسير" (23/ 286)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 294)، والفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 228) عن عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه. ولفظه عندهم: "إذا وُقِيتُ شُحَّ نفسي لم أسرق، ولم أَزْنِ، ولم أَفْعل". ولفظ الفاكهي: ". . . وُقِيت السرقة والخيانة وغير ذلك".

(1/75)


والسخيُّ قريب من الله تعالى، ومن خَلْقِه، ومن أهله، وقريب من الجنة، وبعيد من النار، والبخيلُ بعيد من الله، بعيد من خَلْقِه، بعيد من الجنة، قريب من النار، فجودُ الرجل يُحَبِّبُه إلى أضداده، وبخله يُبَغِّضُه إلى أولاده، كما قيل: ويُظْهِرُ عَيْبَ المَرْءِ فِي الناسِ بُخْلُهُ ... ويَسْتُرُه عنهم جمِيعًا سَخاؤُه تَغَطَّ بأثوابِ السَّخاءِ فإنني ... أرى كُلَّ عيبٍ فالسّخاء غِطاؤُه وقارِنْ إذا قَارَنْتَ حُرًّا فإنَّما ... يَزِينُ ويُزرِي بالفتى قُرنَاؤه وأقْلِلْ إذَا ما اسْطَعْتَ قَوْلًا فإنَّهُ ... إِذَا قلَّ قوْلُ المرْءِ قَلَّ خَطَاؤُه إذَا قَلَّ مالُ المرءِ قَلَّ صَدِيقُه ... وضَاقَتْ عليه أرضه وسماؤه وأصبح لا يدري وإن كان حازِمًا ... أَقُدَّامُه خيرٌ له أمْ وَرَاؤُه إذا المرءُ لم يختر صديقًا لنفسهِ ... فَنَادِ به في الناس هذا جزاؤُه (1) وحدُّ السخاء: بَذْلُ ما يُحْتاج إليه عند الحاجة، وأن يُوصل ذلك إلى __________ (1) الأبيات في "الفاضل" للمبرد (43) دون نسبة. وورد الأوّلان منسوبين ليحيى بن أكثم في "روضة العقلاء" (237)، ونُسِب إليه الثالث والأخير في "الزهرة" (2/ 272)، و"الموشى" (24)، وورد الثالث منسوبًا إلى صالح بن عبد القدوس في "تاريخ دمشق" (23/ 354)، وبدون نسبة في "لباب الآداب" (27 - 28) لابن منقذ، وحقّق العلامة محمود شاكر أنّ الأبيات لصالح، كما في تعليق أخيه أحمد على "اللباب"، وانظر بقيّة كلامه هناك. وورد الرابع في "روضة العقلاء" (50) منسوبًا إلى المنتصر بن بلال الأنصاري، ولصالح بن جناح في "بهجة المجالس" (1/ 706)، وورد الخامس -دون نسبة- في "التمثيل والمحاضرة" (395)، وورد هو والسادس في "بهجة المجالس" (1/ 198) دون نسبة -أيضًا-. وسقطت الأبيات الخمسة الأخيرة من (ت) و (م) و (ق).

(1/76)


مُسْتَحِقِّه بقدر الطاقة. وليس كما قال بعضُ مَنْ نَقَصَ عِلْمُه: حَدُّ الجودِ بَذْلُ الموجود (1) . ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السَّرَفِ والتبذير، وقد ورد الكتاب بذمهما، وجاءت السنة بالنهي عنهما. وإذا كان السخاء محمودًا، فمن وقف على حدِّه سُمِّي كريمًا، وكان للحمد مستوجبًا، ومن قصر عنه كان بخيلًا، وكان للذم مستوجبًا، وقد رُوِي في أثرٍ: "إن الله عز وجل أقسم بِعزّته ألَّا يجاوره بخيل" (2) . والسخاء نوعان: فأشرفهما: سخاؤك عما بيد غيرك. والثاني: سخاؤك ببذل ما في يدك. فقد يكون الرجل من أسخى الناس وهو لا يعطيهم شيئًا؛ لأنه سخا عما في أيديهم، وهذا معنى قول بعضهم: السخاء أن تكون بمالك متبرِّعًا، وعن مال غيرك متورِّعًا. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إنّ الله أوحى إلى إبراهيم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أتدري لم اتخذتك خليلًا؟ " قال: لا، قال: __________ (1) انظر: "المحاسن والأضداد" (125)، و"بهجة المجالس" (1/ 626)، و"العقد الفريد" (2/ 273). والعبارةُ مشهورةٌ منسوبةٌ لغير واحد. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (20) عن أنسٍ رضي الله عنه مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 114)، و"الأوسط" (5/ 349) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بإسناد ضعيف. وانظر: "السلسلة الضعيفة" (1284، 1285).

(1/77)


"لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ" (1). وهذه صفة من صفات الرب جل جلاله؛ فإنه يعطي ولا يأخذ، ويُطعِم ولا يُطْعَم، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحبُّ الخلق إليه من اتصف بصفاته (2)؛ فإنه كريم يحب الكريم من عباده، وعالم يحب العلماء، وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال. روى الترمذي في "جامعه" قال: حدثنا محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر: أخبرنا خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أخبيتكم (3) ولا تَشَبَّهوا باليَهود". قال: فذكرت ذلك للمهاجر بن مسمار فقال: حدَّثنيه عامر بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله، إلا أنه __________ (1) ورد في هذا آثارٌ عن بعض السلف. انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (6/ 216 - 218)، و"حلية الأولياء" (3/ 275، 8/ 242)، و"الدر المنثور" (2/ 706). (2) (ح): "بمقتضيات صفاته". وقد أشكل هذا الحرفُ على بعض من علّق على الكتاب، ولا إشكال فيه، وقد بسط المصنّف هذا المعنى في كثير من كتبه. انظر: "عِدة الصابرين" (81، 393، 428)، و"شفاء العليل" (1/ 322 - 323)، و"طريق الهجرتين" (214 - 215)، و"روضة المحبّين" (100). (3) كذا بالأصل، وفي مطبوعة "جامع الترمذي" بدل قوله "أخبيتكم": "أراه قال: أفنيتكم". وعلى هذا شرحه المباركفوري، فقال في "تحفة الأحوذي" (8/ 68) -بعد قول الراوي في آخر الحديث: "إلّا أنه قال: فنظفوا أفنيتكم"-: " (إلّا أنّه) أي مهاجر (قال) أي: في روايته (فنظفوا أفنيتكم) أي: بلا تردّد وشك".

(1/78)


قال: "فَنَظِّفُوا أفنيتكم" هذا حديث غريب، خالد بن إلياس يُضَعَّف (1) . وفي الترمذي أيضًا في "كتاب البر" قال: حدثنا الحسن بن عرفة: حدثنا سعيد بن محمد الوراق، عن يحيى بن سعيد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "السَّخِيُّ قريبٌ من الله، قريب من الجنةِ، قريب من الناسِ، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. ولَجَاهل سَخِيٌّ أحبُّ إلى الله تعالى من عابد بخيل (2) " (3) . __________ (1) أخرجه الترمذي (2799)، والبزّار (3/ 320)، وأبو يعلى (2/ 122 - 123) وغيرهم. وإسناده ضعيف جدًّا، وقد أفصح الترمذي عن علّته، وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 224): "هذا حديث لا يصحّ". (2) أخرجه الترمذي (1961)، وابن عديّ في "الكامل" (3/ 403)، والعقيليّ في "الضعفاء" (2/ 117)، وغيرهم، ولا يصحّ. وقد بيَّن الترمذيُّ علّته فقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلّا من حديث سعيد بن محمد، وقد خُولِف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، إنّما يُروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيءٌ مرسل". وقال أبو حاتم -كما في "العلل" (2/ 283 - 284) -: "هذا حديث منكر". وقال العقيلي: "ليس لهذا الحديث أصلٌ من حديث يحيى، ولا غيره"، وعدّه المصنّفُ في "المنار المنيف" (97 - 99) من الأحاديث الباطلة. وانظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 532 - 536). (3) من قوله: "روى الترمذي في جامعه. . ." إلى هنا، من (ح)، وفي (ت). و (م) و (ق): "وفي الترمذي وغيره مرفوعًا: إن الله نظيف ويحب النظافة".

(1/79)


وفي الصحيح: "إنَّ اللهَ تعالى وِتْر يحبُّ الوِتْرَ" (1) . وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرُّحماء، وهو سِتِّيرٌ يحب من يستر على عباده، وعفوٌّ يحب من يعفو عنهم، وغفورٌ يحب من يغفر لهم، ولطيفٌ يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفَظَّ الغليظ القاسي الجَعْظَرِيَّ الجَوَّاظ، ورفيقٌ يحب الرفق، وحليمٌ يحب الحلم، وبَرٌّ يحب البِرّ وأهله، وعَدْلٌ يحب العدل، وقابلٌ للمعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودًا وعدمًا، فمن عفا عفا عنه، ومن غَفَر غَفَر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقَقَ حاقَقَه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن تتبع عوراتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاقَّ الله شاقَّ الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادَع خادَعه، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة؛ فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه. ولهذا جاء في الحديث: "منْ سَتَر مسلمًا سَتَرَه الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن نَفَّس عن مؤمن كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّس الله تعالى عنه كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يسَّر على مُعْسِرٍ يسَّر الله تعالى عليه حسابه" (2) . __________ (1) أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/80)


و"من أقال نادمًا أقالَه الله تعالى عثرته" (1) . و"من أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَع عنه، أظلَّه الله تعالى في ظل عرشه" (2) ؛ لأنه لما جعله في ظِلِّ الإنظار والصبر، ونجاه من حَرِّ المطالبة، وحرارة تَكَلُّفِ الأداء مع عسرته وعجزه = نجَّاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش. وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في خطبته يومًا: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يَدْخُل الإيمانُ إلى قلبه (3) ، لا تُؤْذُوا المسلمين، ولا تَتَبَّعوا عوراتهم؛ فإنَّه من تَتَبَّعَ عورة أخيه تتَبَّعَ الله عورتَهُ، ومن تتَبَّعَ الله عورته يَفْضَحْهُ ولو في جوف بيته" (4) . فكما تدين تُدان، وَكُنْ كيف شئت؛ فإن الله تعالى لك كما تكون __________ (1) أخرجه أبو داود (3454)، وابن ماجه (2199) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (5029) واللفظ له، والحاكم (2/ 45) على شرط الشيخين، ولم يتعقّبه الذهبي. (2) أخرجه مسلم (3006) من حديث أبي اليَسَر رضي الله عنه. (3) (ت): "ولم يؤمن بقلبه"، وفي مطبوعة الترمذيّ: "ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه"، والمثبت من (ح) و (ق). (4) أخرجه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب"، وصحّحه ابن حبان (5763). وانظر: "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 306). وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة. انظر: "تفسير ابن كثير" (7/ 3273)، و"الترغيب والترهيب" (3/ 197 - 198) للمنذري.

(1/81)


أنت له ولعباده. ولما أظهر المنافقون الإسلام، وأسرُّوا الكفر أظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورًا على الصراط، وأظهر لهم أنهم يَجُوزون الصراط، وأَسَرَّ لهم أن يُطْفِئ نورهم، وأن يُحال بينهم وبين قطع الصراط جزاءً من جنس أعمالهم. وكذلك من يُظْهِر للخلق خلاف ما يَعْلَمُه الله فيه؛ فإن الله تعالى يُظْهِرُ له في الدنيا والآخرة أسباب الفلاح والنجاح والفوز، ويُبْطِنُ له خلافها. وفي الحديث: "من راءى راءى الله به، ومن سَمَّعَ سَمَّع الله به" (1) . والمقصود أن الكريم المُتصدِّق يعطيه الله ما لا يعطي البخيل المُمْسِك، ويُوسِّع عليه في ذاته، وخُلُقِه، ورزقه، ونفسه، وأسباب معيشته، جزاءً له من جنس عمله. __________ (1) أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987) من حديث جندب رضي الله عنه.

(1/82)


فصل وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وأمركم أن تذكروا الله تعالى؛ فإن مَثَل ذلك مَثَل رجلٍ خرج العدو في إثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله". فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لَهِجًا بذكره؛ فإنّه لا يُحْرِزُ نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يَدْخُل عليه العدو إلا من باب الغفلة (1)، فهو يَرْصُدُه، فإذا غفل وثَبَ عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع، حتى يكون كالوصْع (2) وكالذباب، ولهذا سُمِّي الوسواس الخناس، أي: يوسوس في الصدور؛ فإذا ذُكِر الله تعالى خَنَس، أي: كف وانقبض. وقال ابن عباس: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفلَ وَسْوَسَ، فإذا ذكر الله تعالى خَنَس" (3). وفي مسند الإمام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، أنه بلغه عن __________ (1) (ت): "إلّا من الغفلة". (2) "الوَصْع": الصغير من العصافير. "اللسان" (15/ 315). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 369 - 370)، والضياء في "المختارة" (10/ 367) بإسناد صحيح. وعلّق البخاريّ في "التفسير" من صحيحه قريبًا منه.

(1/83)


معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما عَمِل آدميٌّ عملًا قطُّ أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل". وقال معاذ: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا أخبركم بخير أعمالِكم وأزكاها عند مليكِكُم، وأرفعها في درجاتِكم، وخير لكم من إنفاق الذَّهب والفضَّة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "ذِكْرُ الله عز وجل" (1) . وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له "جُمْدَان"، فقال: "سيروا، هذا جُمْدَان، سَبَق المُفَرِّدُونَ" قيل: وما المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: "الذّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات" (2) . __________ (1) أخرجه أحمد (7/ 367 - 368) بإسنادٍ فيه انقطاع. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 368): "إسناده جيّد، إلّا أنّ فيه انقطاعًا". ورُوِي عن معاذٍ من وجهٍ آخر عند ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 455)، والطبراني في "الكبير" (20/ 167) وغيرهما. ورجّح الدارقطنيُّ في "العلل" (6/ 64) وقفه. وورد القسم الثاني من الحديث عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عند الترمذي (3437)، وابن ماجه (3790)، وأحمد (7/ 265)، والحاكم (1/ 496) وغيرهم. واختلف في رفعه ووقفه، وفي إرساله ووصله. انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 56 - 57)، و"نتائج الأفكار" (1/ 98 - 99) لابن حجر. (2) "صحيح مسلم" (2676).

(1/84)


وفي "سنن أبي داود" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مِثْلِ جِيفة حمارٍ، وكان عليهم حسرة" (1) . وفي رواية الترمذي: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يُصَلُّوا على نَبيِّهم، إلا كان عليهم تِرَةً (2) ، فإن شاء عَذَّبَهم، وإن شاء غَفَرَ لهم" (3) . وفي "صحيح مسلم"، عن الأغرِّ أبي مسلم قال: أشهدُ على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا يَقْعُدُ قومٌ يذكرونَ الله إلا حَفَّتْهُم الملائكة، وغَشِيَتْهم الرّحمةُ، ونزلت عليهم السَّكينةُ، وذَكَرَهم الله فيمن عنده" (4) . وفي "الترمذي" عن عبد الله بن بسر أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلِّها، فأخبرني بشيء أتشبَّثُ به، ولا تُكْثِرْ عليَّ فأنسى. __________ (1) أخرجه أبو داود (4821)، وأحمد (3/ 422)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (408). وصحّحه الحاكم (1/ 492) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وقال المصنّف في "جلاء الأفهام" (96): "وهو على شرط مسلم". (2) التِّرَةُ: النَّقص. وقيل: التَّبِعَة. "النهاية" لابن الأثير (1/ 189). (3) أخرجه الترمذي (3380)، وأحمد (3/ 573)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1662) وغيرهم. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". (4) "صحيح مسلم" (2700).

(1/85)


وفي رواية: إن شرائعَ الإسلام قد كَثُرَتْ عليَّ، وأنا قد كبرت (1) ، فأخبرني بشيء أتشبَّث به، ولا تُكْثِرْ عليَّ فأنسى. قال: "لا يزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بذكر الله تعالى" (2) . وفي "الترمذي" أيضًا عن أبي سعيد، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل: أي العباد أفضلُ وأرفَعُ درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذَّاكِروُنَ الله كثيرًا" قيل: يا رسول الله، وَمِنَ الغازي في سبيل الله؟ قال: "لو ضَربَ بسيفِه في الكفار والمشركين (3) حتى يَنكَسِرَ ويختَضِبَ دمًا كان الذَّاكِرُ لله تعالى أفضل منه درجة" (4) . وفي "صحيح البخاري" عن أبي موسى، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَثَلُ الذي يذكرُ رَبَّهُ، والذي لا يذكرُ ربَّهُ، مَثَلُ الحيِّ والميِّت" (5) . __________ (1) "عليّ وأنا قد كبرت" من (ح) و (م) و (ق). (2) أخرجه الترمذي (3375)، وأحمد (6/ 73)، وابن ماجه (3793) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (814)، والحاكم (1/ 495) ولم يتعقبه الذهبي. (3) "في الكفار والمشركين" من (ح)، وهي ثابتة في رواية الترمذي. (4) أخرجه الترمذي (3376)، وأحمد (4/ 190)، وأبو يعلى (2/ 530 - 531) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. قال الترمذيّ: "هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث درّاج". وقال المصنّف في "تهذيب سنن أبي داود" (7/ 126): "هو حديث درّاج، وقد ضُعِّف، وقال الإمام أحمد: الشأن في درّاج". (5) "صحيح البخاري" (6407).

(1/86)


وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يقول اللهُ تبارك وتعالى: أنا عند ظَنِّ عبدي بي (1) ، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرتهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شِبْرًا تقرَّبْتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقَربْتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً" (2) . وفي "الترمذي" عن أنس، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا مَرَرْتُم بِرياضِ الجنَّةِ فارْتَعُوا" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: "حِلَق الذِّكر" (3) . __________ (1) "بي" من (ح)، وهي ثابتة في رواية الصحيحين. (2) "صحيح البخاري" (7405)، و"مسلم" (2675). (3) أخرجه الترمذي (3510)، وأحمد (4/ 387)، وأبو يعلى (6/ 155) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس". وقال في "العلل الكبير" (313 - ترتيبه): "سألتُ محمدًا عن هذه الأحاديث (وذكر منها هذا الحديث) فلم يعرف شيئًا، وقال: لمحمد بن ثابت عجائب". وأورده ابن عدي في "الكامل" (6/ 136) في ترجمة "محمد بن ثابت" هذا، وقال: "إنه لا يتابع عليه"، وأورده ابن حبّان في "المجروحين" (2/ 252) في ترجمته -أيضًا- مستدلًّا به على ضعفه. وللحديث شواهد من حديث جابر، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، يُنْظَر فيها.

(1/87)


وفي "الترمذي" أيضًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عن الله عز وجل أنه يقول: "إنَّ عبدي كُلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرْنَهُ" (1). وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكرَ المجاهد أفضلُ من الذاكر بلا جهادٍ والمجاهدِ الغافلِ، والذاكرُ بلا جهادٍ أفضلُ من المجاهد الغافل عن الله تعالى. فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين __________ (1) أخرجه الترمذي (3580)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (5/ 151)، و"الجهاد" (130)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2082) وغيرهم من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقويّ". وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 494): "لم يصح إسناده". وعلّته: "عفير بن معدان" فإنّه ضعيف، وأورد ابن عديّ حديثه هذا في ترجمته من "الكامل" (5/ 381). ورُوِي من وجهٍ آخر عن جبير بن نفير (تابعيّ) قال: "يقول الله عَزَّ وجل:. . ." فذكره. أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (957)، وأبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" -كما في "النكت الظّراف" (7/ 487) -، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (36/ 266). وحسّن الحديث به ابنُ حجر في "نتائج الأفكار" -كما في الفتوحات الربانية" (5/ 62 - 63) -. وأخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (2878) من وجهٍ آخر عن محمد بن زياد الألهاني عن أشياخه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وانظر استشهاد ابن تيمية بالحديث وتعليقه عليه في "مدارج السالكين" (2/ 445) للمصنِّف.

(1/88)


الذاكرون (1). قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45]؛ فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معًا، ليكونوا على رجاء من الفلاح، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} [الأحزاب: 41]، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] أي: كثيرًا. وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. فَقَيَّد الأمر بالذكر بالكثرة والشدة؛ لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأيُّ لحظةٍ خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خُسرانه (2) فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله عز وجل. وقال بعض العارفين: لو أقبل عبدٌ على الله تعالى كذا وكذا سنةً، ثم أعرض عنه لحظة، لكان ما فاته أعظم مما حَصَّله. وذكر البيهقي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه __________ (1) (ت): "فأفضل المجاهدين الذاكرون، وأفضل الذاكرين المجاهدون"، وهي بمعنى المثبت من (ح) و (م) و (ق). وانظر: "تهذيب سنن أبي داود" (7/ 126 - 127) للمصنِّف، و"فتح الباري" (6/ 7 - 8)، و (11/ 213) لابن حجر. (2) (ت) و (م): "وكانت حسراته".

(1/89)


قال: "ما مِن ساعةٍ تَمُرُّ بابنِ آدم لا يَذْكُر الله تعالى فيها إلا تَحَسَّرَ عليها يوم القيامة" (1) . وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه أيضًا: "ليس يَتَحَسّرُ (2) أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرَّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها" (3) . وعن أم حبيبة زوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كلام ابن آدم كلُّه عليه لا له، إلا أمْرًا بمعروف، أوْ نَهْيًا عن منكر، أو ذِكرًا لله عزَّ وجلَّ" (4) . __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 408 - 409)، والطبراني في "الأوسط" (8/ 195)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 362) بإسنادٍ ضعيف. قال البيهقىِّ -عقبه-: "وفي هذا الإسناد ضعف، غير أنّ له شواهد من حديث معاذ". وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 80): "فيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك". (2) (ح): "تحسُّر". (3) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 408 - 409)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 312 - 313)، والخطيب في "تالي تلخيص المتشابه" (1/ 283 - 284)، والطبراني في "الكبير" (20/ 93 - 94) وغيرهم بإسنادٍ فيه ضعف. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 375): "رواه البيهقي بإسنادين أحدهما جيّد". (4) أخرجه الترمذي (2412)، وابن ماجه (3974)، والحاكم (1/ 512 - 513) وغيرهم. قال الترمذيّ: "هذا حديث حسن غريب"، وأشار البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 261 - 262) إلى أنّ فيه إرسالًا. وانظر: "الأمالي =

(1/90)


وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سألت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "أنْ تَموتَ ولِسَانُكَ رَطْبٌ من ذِكْر الله عزَّ وجلَّ" (1) . وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: "لكل شيء جِلاء، وإنّ جِلاءَ القلوبِ ذِكرُ الله عز وجل" (2) . وذكر (3) البيهقيُّ مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول: "لكل شيء سِقالة (4) ، وإنّ سِقالةَ القلوبِ ذكرُ الله عز وجل، وما من شيء أنجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: "ولو أنْ يضرب بسيفه حتى ينقطع" (5) . __________ = المطلقة" لابن حجر (160 - 161). ونصوصُ القرآن تشهد لصحة معناه، كما بيّنه الثوريُّ في رواية الحاكم. (1) أخرجه الطبرانيُّ في "الكبير" (20/ 107 - 108)، و"الدعاء" (3/ 1628 - 1629)، و"مسند الشاميّين" (1/ 122 - 123) وغيرُه. وصحّحه ابن حبان (818)، وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 92): "هذا حديث حسن". (2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 419). (3) (ت) و (م): "ذكره"، والمثبت من (ح) و (ق)، وكلاهما محتمل. (4) أي: جِلاء. وفي (م): "صقالة"، وهما بمعنى. (5) "شعب الإيمان" (2/ 418 - 419). وإسناده ضعيف جدًّا، فيه "سعيد بن سنان الحنفي" قال الحافظ في "التقريب" (381): "متروك، ورماه الدارقطني وغيرُه بالوضع".

(1/91)


ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء؛ فإذا تُرِك الذكرُ صَدِئ؛ فإذا ذُكِر جلاه. وصدأُ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر؛ فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصداؤه (1) بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أَظْلَم، فلم تظهر فيه صور (2) الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ واسْوَدَّ، ورَكِبَه الرَّانُ، فَسَدَ تصوُّره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصلُ ذلك من الغفلة، واتباع الهوى؛ فإنهما يطمسان نور القلب، ويعميان بصره. قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر، أو هو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟؛ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى، وهو من أهل الغفلة، وأمره فُرُطٌ = لم يَقْتَدِ به ولم يَتبعه؛ __________ (1) (ح) و (ق): "وصداه". (2) (م): "صورة".

(1/92)


فإنه يقوده إلى الهلاك (1) . ومعنى الفُرُط قد فُسِّر بالتضييع (2) ، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائعٌ قد فَرَّطَ فيه. وفُسِّر بالإسراف (3) ، أي: قد أفرط، وفُسِّر بِالهلاك (4) . وفُسِّر بالخلاف للحق (5) . وكلها أقوال متقاربة. والمقصودُ أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعةِ مَنْ جَمَع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه؛ فإن وجده كذلك فَلْيُبْعِدْ عنه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره = فليتمسّك بِغَرْزِه. ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت. وفي "المسند" مرفوعًا: "أكثِروا ذِكْر اللهِ تعالى حتى يُقَال: مَجْنون" (6) . __________ (1) من قوله: "لم يقتد به" إلى هنا، من (م). (2) أخرجه الطبريّ (18/ 8) عن مجاهد. (3) نسبه البغوي في "تفسيره" (5/ 167) إلى مقاتل بن حيّان. (4) أخرجه الطبري (18/ 9) عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه، ووردت الكلمة في (ح) و (ق): "بالإهلاك". (5) أخرجه الطبري (18/ 9) عن ابن زيد. (6) "مسند أحمد" (4/ 173). وهو من رواية درّاج بن سمعان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ =

(1/93)


فصل وفي الذكر نحوٌ من مائة فائدة: إحداها: أنه يطرد الشيطان ويَقْمَعُه ويَكْسِرُه. الثانية: أنه يُرضِي الرحمن عز وجل. الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب. الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبَسْط. الخامسة: أنه يُقَوِّي القلب والبدن. السادسة: أنه يُنَوِّر الوجه والقلب. السابعة: أنه يَجْلِب الرزق. الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنَّضْرة. التاسعة: أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطبُ رَحى الدين، ومدار السعادة والنجاة، وقد (1) جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر؛ فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل فَلْيَلْهَجْ بذكره، __________ = رضي الله عنه. وقد اختلف الأئمة في أحاديث هذه الترجمة، وصحّح هذا الحديث -منها- ابنُ حبان (817)، والحاكم (1/ 499)، ولم ير ابنُ معينٍ به بأسًا -كما في "تاريخه" (2/ 155 - رواية الدوري) -. وعدّه ابنُ عديّ في "الكامل" (3/ 15) ممّا يُنكر من حديث درّاج. (1) (ت) و (ق): "فقد".

(1/94)


فإنّ (1) الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم (2). العاشرة: أنه يورثه المراقبة حتى يُدْخِلَه في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت. الحادية عشرة: أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه (3) في كل أحواله، فيبقى الله عز وجل مَفْزَعه وملجاه، ومَلاذه ومَعاذه، وقِبْلة قلبه، وَمَهْرَبَه عند النوازل والبلايا (4). الثانية عشرة: أنه يُورِثه القُرْبَ منه؛ فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قُرْبُه منه، وعلى قدر غفلته يكون بُعْده منه. الثالثة عشرة: أنه يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة، وكلّما أكْثَر من الذكر ازداد من المعرفة (5). الرابعة عشرة: أنه يُورِثه الهيبة لربه عز وجل وإجلالِه؛ لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل؛ فإن حجاب الهيبة رقيقٌ __________ (1) (ت): "فإنّه". (2) انظر: "جلاء الأفهام" (616 - 620) للمصنِّف. (3) "إليه" من (ح) و (ق). (4) (ت): "والبلاء". (5) الفائدة الثالثة عشرة ساقطة من (ت).

(1/95)


في قلبه. الخامسة عشرة: أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. ولو لم يكن في الذكر إلا (1) هذه وحدها لكفى بها فضلًا وشرفًا. وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم" (2). السادسة عشرة: أنه يورث حياة القلب، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكرُ للقلب مثلُ الماء للسمك (3)، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! السابعة عشرة: أنه قُوتُ القلب والروح؛ فإذا فَقَده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قُوتِه. وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرةً صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتَغَدَّ هذا الغداء لسقطت قوَّتِي، أو كلامًا قريبًا من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعِدَّ بتلك الراحة لذكرٍ آخر، أو كلامًا هذا معناه. __________ (1) "الذكر إلّا" ساقط من (ت). (2) تقدم تخريجه (ص: 87). (3) انظر: "التحفة العراقية" (10/ 85 - مجموع الفتاوى).

(1/96)


الثامنة عشرة: أنه يورث جَلاء القلب من صَداه (1)، كما تقدم في الحديث. وكلُّ شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجِلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار، وقد تقدم هذا المعنى (2). التاسعة عشرة: أنه يَحُطُّ الخطايا ويُذْهِبها؛ فإنه من أعظم الحسنات، والحسناتُ يُذْهِبْن السيئاتِ. العشرون: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى؛ فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وَحْشَةٌ لا تزول إلا بالذكر. الحادية والعشرون: أن ما يَذْكُر به العبدُ ربَّه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده، يُذَكِّرُ بصاحبه عند الشدة؛ فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "المسند" عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إنَّ مِمّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلالِ الله عز وجل، مِنَ التَّهْليلِ والتكبير والتحميد، يتَعَاطَفْنَ حول العَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرْنَ بصاحبهنّ، أفلا يحبُّ أحدكم أن يكون له ما يُذَكِّرُ به؟! " (3). هذا الحديث أو معناه. __________ (1) كذا في الأصول، بالألف الممدودة. (2) انظر: (ص: 92). (3) أخرجه أحمد (6/ 273)، وابنُ ماجه (3809)، والبزّار (8/ 199) وغيرهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. وصححه الحاكم (1/ 503) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. وصحّحه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 193).

(1/97)


الثانية والعشرون: أن العبد إذا تعرَّف إلى الله تعالى، بذكره في الرخاء = عَرَفه في الشدّة، وقد جاء أثرٌ معناه: أن العبد المطيع الذاكر لله تعالى إذا أصابته شدّة، أو سأل الله تعالى حاجة قالت الملائكة: يا ربّ! صوتٌ معروفٌ من عبدٍ معروفٍ. والغافل المعرض عن ذكر الله عز وجل إذا دعاه أو سأله قالت الملائكة: يا ربّ! صوتٌ منكرٌ من عبدٍ منكر (1). الثالثة والعشرون: أنه منجاةٌ مِنْ عذاب الله تعالى، كما قال معاذٌ رضي الله عنه، -ويُرْوَى مرفوعًا-: "ما عمل آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى" (2). الرابعة والعشرون: أنه سبب نُزول (3) السكينة، وغِشْيان الرحمة، وحُفُوفِ الملائكة بالذاكر، كما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. الخامسة والعشرون: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل؛ فإن العبد لابُدَّ له من أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذِكْرِ أوامره تكلم بهذه المحرمات أو __________ (1) أخرجه محمد بن فضيل الضّبي في "الدعاء" (85)، ومِنْ طريقه ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 309 - 310)، و (13/ 333 - 334)، وعبد الله بن أحمد في "زوائده على الزهد" (313)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 343) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفًا. وإسنادُ الضبيّ صحيحٌ عالٍ. (2) تقدم تخريجه (ص: 84). (3) (ح) و (ق): "تَنَزُّل".

(1/98)


ببعضها (1)؛ فلا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى. والمشاهدة والتجربةُ شاهدان بذلك؛ فمن عوَّد لسانه ذِكْرَ اللهِ صانَ اللهُ لسانَه عن الباطل واللغو (2)، ومن يَبِسَ لسانُه عن ذكر الله تعالى تَرَطَّبَ بكل باطلٍ ولَغْوٍ وفُحْشٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. السادسة والعشرون: أنّ مجالسَ الذكر مجالسُ الملائكة، ومجالسَ اللغو والغفلة مجالسُ الشياطين، فَلْيَتَخَيَّرِ العبدُ أعجبهما إليه، وأولاهما به؛ فهو مع أهله في الدنيا والآخرة. السابعة والعشرون: أنه يَسْعَدُ الذاكرُ بذكره، ويَسْعَدُ به جليسُه، وهذا هو المبارك أينما كان، والغافلُ واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به مُجالِسُه. الثامنة والعشرون: أنه يؤمِّن العبد من الحسرة يوم القيامة؛ فإنّ كل مجلس لا يَذْكُرُ العبدُ فيه ربَّه تعالى كان عليه حسرةً وتِرَةً يوم القيامة (3). التاسعة والعشرون: أنه مع البكاء في الخلوة سببٌ لإظلال الله تعالى العبدَ يوم الحَرِّ الأكبر في ظِلِّ عرشه، والناسُ في حَرِّ الشمس قد صَهَرَتْهُم في الموقف، وهذا الذاكرُ مُسْتَظِلٌّ بظل عرش الرحمن عز __________ (1) (م) و (ق): "بعضها". (2) "واللغو" من (ح) و (م) و (ق). (3) كذا في (ح) و (ق)، ولم ترد هذه الفائدة في (ت) وجُعِل بدلها الفائدةُ التاسعة والعشرون، وفي (م) جُعِلت الفائدة الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون كل منهما موضع الأخرى.

(1/99)


وجل (1). الثلاثون: أن الاشتغال به سببٌ لعطاء الله الذاكرَ أفضلَ ما يُعْطِي السائلين؛ ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قال الله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعْطِي السائلين (2) " (3). الحادية والثلاثون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجلِّها وأفضلها؛ فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من أعضاء الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك. __________ (1) الفائدة من (ح) و (ق)، ووقع في (ت) بدلًا منها: "أنه يشتهر بين الخلق بمحبته"!، ونُقِلت هذه الفائدة في (ت) و (م) إلى الفائدة الثامنة والعشرون، كما تقدم بيانه. (2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 115)، و"خلق أفعال العباد" (544)، والبزار (1/ 247) وغيرهما. وأورده ابن حبان في "المجروحين" (1/ 376) في ترجمة راويه "صفوان بن أبي الصهباء"، وقال: "هذا موضوع، ما رواه إلّا هذا الشيخ". وتبعه ابن الجوزيُّ فأورده في "الموضوعات" (3/ 421). ونُوزِعا في ذلك، فحسّنه ابن حجر في "أماليه " -كما في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 342) -، وذكر هو والسيوطي له شواهد قد تنفعه. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 46) -بعد أن أورد الحديث-: "ليس يجئ هذا الحديث -فيما علمتُ- إلّا بهذا الإسناد، وصفوانُ بن أبي الصهباء وبكير بن عتيق رجلان صالحان". وانظر: "ثقات ابن حبان" (8/ 321)!. (3) الحديث من (ح) و (م) و (ق).

(1/100)


الثانية والثلاثون: أنه غِراسُ الجنة، فقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد، أقْرئْ أمَّتك مِنِّي السَّلام، وأخبرهم أن الجنة طيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الماء، وأنَّها قِيعانٌ، وَأنَّ غِراسَها سُبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود (1). وفي "الترمذي" من حديث أبي الزبير، عن جابر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال: سبحان الله وبِحَمْده، غُرِسَتْ له نخلةٌ فى الجنَّة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2). الثالثة والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يُرَتَّبْ على غيره __________ (1) أخرجه الترمذي (3462)، والطبراني في "الكبير" (10/ 173)، و"الأوسط" (4/ 271)، و"الصغير" (1/ 326). قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 408): "عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الكوفيّ، واهٍ". قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 102) -معلّقًا على تحسين الترمذيّ للحديث-: "وحسّنه لشواهده". وانظر: "المداوي" (4/ 100)، و"السلسلة الصحيحة" (105). وأعلّه أبو حاتم وأبو زرعة في "العلل" (2/ 171) بالإرسال. (2) أخرجه الترمذي (3464)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (827). وصحّحه ابن حبان (826)، والحاكم (1/ 501 - 502) على شرط مسلم ولم يتعقبه الذهبي.

(1/101)


من الأعمال. ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال: لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، له المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير في يومٍ مائة مرةٍ كانت له عَدْل عَشْرِ رقابٍ، وَكُتِبَتْ له مائةُ حسَنةٍ، ومُحِيَتْ عنهُ مائةُ سيئةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحَدٌ بأفضل مما جاء به إلَّا رجلٌ عمل أكثر منه. ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرَّة حُطَّتْ خَطاياهُ وإن كانت مِثْلَ زَبَدِ البحر" (1) . وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لأن أقولَ: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحَبُّ إليَّ مما طَلَعتْ عليه الشَّمْس" (2) . وفي "الترمذي" من حديث أنس بن مالك، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يُصْبِح أو يُمْسِي: اللهم إنّي أصبحتُ أُشهِدُكَ، وأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرشِكَ، وملائِكَتَك، وجميع خلقك، أنَّك أنت الله لا إله إلَّا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولُك = أعْتَق اللهُ رُبعه من النَّار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعًا أعتقهُ الله تعالى من النار" (3) . __________ (1) "صحيح البخاري" (3293، 6403)، و"مسلم" (2691). (2) "صحيح مسلم" (2695). (3) أخرجه أبو داود (5/ 386 - 387)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (1201)، =

(1/102)


وفيه عن ثوبان، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يُمسِي وإذا أصْبَح: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولًا = كان حقًّا على الله أنْ يُرْضِيَهُ" (1) . __________ = والترمذي (3501)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (9)، وغيرهم. قال الترمذيّ: "هذا حديث غريب". وأخرجه الضياء في "المختارة" (7/ 210). ورُوِي من وجهٍ آخر عن أنس رضي الله عنه، عند أبي داود (5030)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 928 - 929) وغيرهما. وأخرجه الضياء في "المختارة" (7/ 225). وحسَّن الحديثَ الحافظُ بن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 375 - 376) بمجموع طريقيه، وقال المصنف في "زاد المعاد" (2/ 372): "حديث حسن". وانظر: "الروض البسّام" (4/ 416 - 419) للدّوسري. تنبيه: لفظُ الحديث عند الترمذيّ -كما في المطبوع-: ". . . اللهم أصبحنا نشهدك. . . (إلى أن قال:) إلّا غُفِر له ما أصاب في يومه ذلك، وإن قالها حين يمسي غفر الله له ما أصاب في تلك الليلة من ذنب". واللفظ الذي ذكره المصنّفُ هنا هو لفظ أبي داود. (1) أخرجه الترمذي (3389)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 932)، وابن جُمَيْع في "معجم شيوخه" (123)، والذهبيُّ في "تذكرة الحفاظ" (3/ 968 - 969) وغيرهم. قال الترمذيّ: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسّنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 371). وقال الذهبيّ: "غريب، تفرّد به عقبة، فأخرجه الترمذيُّ من حديثه وحسّنه". وله شواهد تقوّيه. وانظر: "السلسلة الضعيفة" (5020).

(1/103)


وفي الترمذي: "من دخل السُّوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحْيِي ويميت، وهو حَيٌّ لا يموت، بيده الخَيْرُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير = كتب الله له ألْفَ ألْفَ حسنة، ومحا عنه ألْف ألْف سيئة، ورفع له ألْفَ ألْفَ درجة" (1). الرابعة والثلاثون: أن دوامَ ذِكر الرب تبارك وتعالى يُوجِب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده؛ فإن نسيان الرب (2) سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. __________ (1) أخرجه الترمذي (3428)، والدارميُّ (2/ 747)، وابن عديّ في "الكامل" (1/ 430)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 133 - 134). قال الترمذيّ: "هذا حديث غريب". وفي إسناده: "أزهر بن سنان" وهو ضعيف. ورُوِي من وجهٍ آخر عند ابن ماجه (2235)، وأحمد (1/ 175) وغيرهما. فال أبو حاتم الرازي -كما في "العلل" (2/ 171) -: "هذا حديث منكرٌ جدًّا. . ."، وقال المصنّف في "تهذيب سنن أبى داود" (7/ 258): "هذا حديث معلولٌ لا يثبت مثله". ورُوِي من وجهٍ آخر عند ابن عديّ في "الكامل" (5/ 91)، والحاكم (1/ 539) وغيرهما. قال البخاريّ -كما في "العلل الكبير" للترمذي (363) -: "هذا حديث منكر"، وكذا قال أبو حاتم في "العلل" (2/ 181). وله طرقٌ أخرى ضعيفة، وانظر: "علل الدارقطني" (2/ 48 - 50)، و"المنار المنيف" (33 - 35) للمصنّف، و"مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 641 - 643). (2) (ت): "العبد"، و (م): "العبدِ الذكرَ".

(1/104)


وإذا نسي العبدُ نفسه أعرض عن مصالحها، ونَسِيَها، واشتغل عنها؛ فهلكت وفسدت ولابُدّ، كمن له زرعٌ أو بستانٌ أو ماشيةٌ أو غير ذلك مِمّا صلاحُه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه، واشتغل عنه بغيره، وضَيَّع مصالحه؛ فإنه يفسد ولابُدّ. هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه؛ فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يصلحها؟! فما شئت من فسادٍ وهلاكٍ وخيبةٍ وحرمان!. وهذا هو الذي صار أمره كله فُرُطًا، فانفرط (1) عليه أمره، وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسباب القُطوع والخيبة والهلاك. ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى، واللَّهَجِ به، وأن لا يزال اللسان رطبًا به، وأن يُنزله منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمُه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكِنِّ (2) في شدة الشتاء والسَّموم (3) . فحقيقٌ بالعبد أن يُنزِل ذكر الله منه (4) بهذه المنزلة، وأعظم؛ فأين __________ (1) (م): "ففرط". (2) هو ما يردُّ الحرّ والبرد من الأبنية والمساكن. (3) السَّموم: هي الريح الحارّة. قال أبو عبيدة: "السَّموم بالنهار، وقد تكون بالليل". "اللسان" (6/ 373). (4) "منه" من (ح) و (ق).

(1/105)


هلاك الروح والقلب وفسادها من هلاك البدن وفساده؟!، وهذا هلاكٌ لابُدَّ منه وقد يعقبه صلاح الأبد، وأما هلاك القلب والروح فهلاكٌ لا يُرجَى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها. فمن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126]، أي تُنْسَى في العذاب كما نسيت آياتنا، فلم تذكرها ولم تعمل بما فيها. وإعراضُه عن ذكره يتناول إعراضَه عن الذكر الذي أنزله، وهو كتابه، وهو المراد، ويتناول إعراضَه عن أن يَذْكُرَ ربه بكتابه، وأسمائه، وصفاته، وأوامره، وآلائه، ونعمه؛ فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر (1) في الآية إما مصدرٌ مضافٌ إلى معموله الذي هو المذكور، وإما اسمٌ (2) مضافٌ إلى الفاعل، أو مضافٌ إضافة الأسماء المحضة، أي: من أعرض عن كتابي ولم يَتْلُه، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولم يفهمه (3) = فإن حياته ومعيشته لا تكون إلا مُضَيَّقةً (4) __________ (1) (ت) و (م) و (ق): "فالذكرُ". (2) "مضاف إلى معموله الذي هو المذكور، وإما اسم" مِنْ (م). (3) (ت) و (ح) و (ق): "ولا فهمه". (4) (ت) و (م): "منغصة".

(1/106)


عليه، مُنكَّدة، مُعذَّبًا فيها. والضَّنْكُ: الضيق والشدة والبلاء، وَوصْفُ المعيشةِ نَفْسِها بالضنك مبالغةٌ، "وفُسِّرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح: أنها تتناول معيشته في الدنيا، وعذابه في البرزخ؛ فإنه يكون في ضَنْكٍ في الحالَيْن (1) ، وهو شدة وجَهْدٌ وضِيق، وفي الآخرة يُنْسَى في العذاب. وهذا عكسُ أهل السعادة والفلاح؛ فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، وفي البرزخ، ولهم في الآخرة أفضل الثواب، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] فهذا في الدنيا، ثم قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) } [النحل: 97] فهذا في البرزخ والآخرة. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) } [النحل: 41]، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 3] فهذا في الدنيا، ثم قال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]. وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. __________ (1) (ح) و (ق): "الدارين".

(1/107)


فهذه أربعة مواضع ذكر الله تعالى فيها أنه يَجْزِي المحسن بإحسانه جزائين: جزاءً في الدنيا، وجزاءً في الآخرة. فالإحسانُ له جزاءٌ مُعَجَّلٌ ولابُدّ، والإساءة لها جزاءٌ مُعَجَّلٌ ولابُدّ. ولو لم يكن إلا ما يُجَازى به المُحْسِنُ (1) : من انشراح صدره، وانفساح قلبه، وسروره، ولذته بمعاملة ربه عز وجل، وطاعته، وذكره، ونعيم روحه بمحبته وذكره، وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه. وما يُجَازى به المسيء: مِنْ ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتَشَتُّتِه، وظُلْمَتِه، وحزازاته (2) ، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حِسٍّ وحياة يرتابُ فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق (3) عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية، وجهنَّمُ حاضرةٌ. والإقبالُ على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه (4) ، وامتلاء القلب من محبته، واللَّهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته = ثوابٌ عاجل، وجَنَّةٌ حاضرة، وعَيْشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة. __________ (1) (ت) و (م): "المحسنين"، والضمائر بعده بصيغة الجمع. (2) "وحزازاته" من (ح) و (ق). (3) "والضيق" من (ح) و (م) و (ق). (4) (ت) و (ح): "والرضى عنه".

(1/108)


وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إنّ في الدنيا جَنَّةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة". وقال لي مرة: "ما يصنع أعدائى بي؟!، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رُحْتُ فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" (1) . وكان يقول في محبسه بالقلعة: "لو بذلت لهم (2) ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة"، أو قال: "ما جزيتهم على ما تسبَّبوا لي فيه من الخير"، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله. وقال لي مرة: "المحبوس من حُبِس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه". ولما أُدخِل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) } [الحديد: 13]. وعَلِمَ اللهُ ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضِدِّها، ومع ما كان فيه من الحبس __________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/ 259). (2) "لهم" من (م).

(1/109)


والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك من (1) أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرِّهم نفسًا (2) ، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض = أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوْحِها ونسيمها وطِيبها ما استفرغ قُواهم لطلبها (3) ، والمسابقة إليها. وكان بعض العارفين يقول: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف" (4) . وقال آخر: "مساكينُ أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها! " قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: "محبةُ الله تعالى ومعرفته وذِكره"، أو نحو هذا. وقال آخر: "إنه لتمرُّ بالقلبِ أوقاتٌ يرقُص فيها طربًا". __________ (1) "مِن" من (ح). (2) (ت) و (ح): "وأشرحهم نفسًا". (3) (ت) و (م): "ما قوّاهم لطلبها". (4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (7/ 370)، والبيهقي في "الزهد" (2/ 81) عن إبراهيم بن أدهم.

(1/110)


وقال آخر: "إنه لتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عَيْشٍ طيِّب". فمحبةُ الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته = هو جَنَّةُ الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المُحِبّين، وحياة العارفين. وإنما تَقَرُّ أعين الناس (1) بهم على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل؛ فمن قَرَّتْ عينه بالله قَرَّتْ له (2) كُلُّ عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات. وإنما يصدِّق بهذه الأمور من في قلبه حياة، وأما ميت القلب فيوحِشُك، ثُمَّ فاسْتأنِسْ (3) بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك (4) ، فإذا ابتليت به، فأعطه ظاهرك، وتَرَحَّلْ عنه بقلبك، وفارقه بسرِّك، ولا تشتغل به عما هو أولى بك. __________ (1) (ت) و (ح) و (ق): "عيون الناس". (2) (ت): "عينه". (3) (ت): "تستأنس"، و (م): "ثم قال فاستبشر"! والعبارةُ قلقة كما ترى، ويمكن أن تُقرأ: "فيوحشك ثَمَّ" (أي: هنا). (4) "عندك" من (ح) و (ق).

(1/111)


واعلم أن الحسرة كلَّ الحسرة الاشتغالُ بمن لا يُجْدِي عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز وجل، وانقطاعك عنه، وضياع وقتك عليك، وَشَتَاتِ قلبك عليك، وضعف عزيمتك، وتفرُّقِ همِّك (1). فإذا بُلِيت بهذا -ولابُدَّ لك منه- فعامِل الله تعالى فيه، واحتسب عليه ما أمكنك، وتقرَّب إلى الله بمرضاته فيه، واجعل اجتماعك به مَتْجَرًا لك، لا تجعله خسارة، وكن معه كرجلٍ سائرٍ في طريقه عَرَضَ له رجلٌ وَقَفهُ عن سيره، فاجْتَهِدْ أن تأخذه معك وتسير به، فَتَحْمِله ولا يحملك (2)؛ فإن أبى ولم تَلْقَ في سيره مطمعًا، فلا تقف معه، بل اركب الدَّرْبَ ودَعْهُ ولا تلتفت إليه؛ فإنه قاطعُ طريقٍ، ولو كان من كان، فانْجُ بقلبك، وضِنَّ بيومك وليلتك، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فَتُؤْخَذ، أو يطلع عليك الفجر وأنت في المنزلة فَيَسِيرَ الرِّفاقُ فتصبح وحدك، وأنَّى لك بِلَحاقهم!. الخامسة والثلاثون: أن الذكر يُسَيِّر العبدَ وهو قاعد على فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، ومعاشه، وقيامه وقعوده واضطجاعه، وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيءٌ يَعُمُّ الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يُسَيِّر العبدَ وهو نائمٌ على فراشه، فيسبق القائم مع الغفلة، فيصبح هذا وقد قطع الرَّكْبَ وهو مُسْتَلْقٍ على __________ (1) (ت) و (م): "همّتك". (2) (ت) و (م) و (ق): "ويحملك"، والمثبت من (ح)، ولعلّه الصّواب.

(1/112)


فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل في ساقَةِ الرَّكْبِ، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء. وحُكِي عن رجل من العُبّاد: أنه نزل برجل من العُبّاد ضيفًا، فقام العابد ليله يصلي، وذلك الرجل مُسْتَلْقٍ على فراشه، فلما أصبحا قال له العابد: سبقك الرَّكْبُ، أو كما قال، فقال: ليس الشأنُ فيمن بات ليله مسافرًا وأصبح مع الرَّكْبِ، الشأنُ فيمن بات على فراشه وأصبح قد قطع الرَّكْبَ!. وهذا ونحوه له محملٌ صحيح، ومحملٌ فاسد؛ فمن حمله على أنّ الراقد المضطجع (1) على فراشه يسبق القائم القانت، فهو باطل، وإنما مَحْمَلُه أن هذا المستلقي على فراشه عَلَّقَ قلبه بربه عز وجل، وألصق حَبَّة قلبه بالعرش، وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة، قد غاب عن الدنيا وما فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائقٌ من وَجَعٍ أو بَرْدٍ يمنع (2) القيام، أو خوفٍ على نفسه من رؤية عدوٍّ يطلبه، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مُسْتَلْقٍ على فراشه، وفي قلبه ما الله أعلمُ به. وآخرُ قائم يصلي ويتلو، وفي قلبه من الرياء والعُجْبِ، وطلبِ الجاه والمَحْمَدة عند الناس ما الله به عليم، أو قلبه في وادٍ وجسمه في وادٍ، فلا ريب أن ذلك الراقد يصبح وقد سبق هذا القائم بمراحل كثيرة، فالعمل __________ (1) (ت) و (ق): "والمضطجع". (2) (ت) و (ق): "يمنعه".

(1/113)


على القلوب، لا على الأبدان، والمعوَّل على الساكن، لا على الأطلال، والاعتبار بالمحرِّك الأوّل، فالذكر يُثِير العزم الساكن، ويهيِّج الحُبَّ المتواري، ويبعث الطلب الميِّت. السادسة والثلاثون: أن الذِّكر نورٌ للذاكر في الدنيا، ونورٌ له في قبره، ونورٌ له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط، فما استنارت القلوب والقبور (1) بمثل ذكر الله تعالى. قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فالأول هو المؤمن استنار بالإيمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره، والآخر هو الغافل عن الله تعالى، المعرض عن ذكره ومحبته. والشأنُ كلُّ الشأنِ، والفلاحُ كلُّ الفلاحِ في النور، والشقاءُ كلُّ الشقاءِ في فواته. ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبالغ في سؤاله (2) ربه تبارك وتعالى حين يسأله أن يجعله في لحمه، وعظامه، وعصبه، وشعره، وَبَشَره، وسمعه، وبصره، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، وخلفه، وأمامه، حتى يقول: "واجعلني نورًا" (3). __________ (1) (ت) و (ح) و (ق): "ولا القبور". (2) (ح): "سؤال". (3) أخرجه مسلم (763/ 187) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(1/114)


فسأل ربه تبارك وتعالى أن يجعل النور في ذاته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وجُمْلَته نورًا. فدينُ الله عز وجل نورٌ، وكتابه نورٌ، وداره التي أعدها لأوليائه نورٌ يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض، ومن أسمائه النور، والظلماتُ أشرقت (1) لنور وجهه. وفي دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الطائف: "أعوذ بِنُورِ وَجْهِك الذي أشْرَقَتْ له الظُّلمات، وصَلَح عليه أمْرُ الدنيا والآخرة = أنْ يَحِلَّ عليَّ غَضَبُك، أو يَنْزِلَ بي سَخَطُك، لك العُتْبى حتى تَرْضى، ولا حول ولا قوة إلّا بك" (2) . __________ (1) (ح): "وأشرقت الظلمات". (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (73 - قطعة من الأجزاء المفقودة)، و"الدعاء" (2/ 1280) -ومن طريقه أبو زكريّا بن منده في "جزء فيه ذكر أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. . ." (25/ 346 - ملحق بالمعجم الكبير)، والضياء في "المختارة" (9/ 181) -، وابن عدي في "الكامل" (6/ 111) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (49/ 151) -، كلهم من طريق أبي صالح الرسعني القاسم بن الليث عن محمد بن صفوان عن وهب بن جرير عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه. وهذا إسناد حسن، وعنعنة ابن إسحاق لا تضرّ هاهنا؛ فإن حديثه هذا من أخبار المغازي والسِّيَر التي عَظُمت عنايته بها، وقَبِلها منه الأئمة، ولا نكارة في إسناده ولا في متنه (وانظر: "الردّ على الجهميّة" لابن منده: 99). وقد صحّحه الضياء المقدسي بإيراده إياه في "الأحاديث المختارة". وقال ابن عديّ: "حديث أبي صالح الرّسعني لم نسمع أن أحدًا حدّث بهذا =

(1/115)


وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس عند ربِّكم ليلٌ ولا نهار، نورُ السموات والأرض من نور وجهه" (1) . وفي بعض ألفاظ هذا الأثر: "نور السموات والأرض من نور وجهه" (2) . ذكره عثمان الدارمي (3) . وقد قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. __________ = الحديث غيره، ولم نكتبه إلّا عنه". وأبو صالح ثقة مأمون كما قال الدارقطني، وقد أكثر عنه ابن عديّ، ولم ير فيه شيئًا يستحق أن يُدْخِله به في "كامله". ولم ينفرد بالحديث؛ فقد أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السّامع" (2/ 414) - وانظر: "التدوين في أخبار قزوين" (2/ 82) - من طريق الطبراني عن محمد بن جعفر بن الإمام عن علي بن المديني عن وهب بن جرير بإسناده المتقدم. وهذا إسناد حسن كسابقه. (1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 179)، وأبو الشيخ في "العظمة" (2/ 477)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 111 - 112) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. قال البيهقي: "هذا موقوف، وراويه غير معروف". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (6/ 364) -: "وثبت عن ابن مسعود. . ." فذكره. وفي (ق): "نور السماوات من نور وجهه". (2) كذا في الأصول. وروايةُ الدارمي: "نور السماوات من نور وجهه"، وهو الذي يناسب السياق. (3) "نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهميّ العنيد" (114). وأخرجه -أيضًا- بهذا اللفظ: أبو داود في "الزهد" (168). وهو عندهما بالإسناد الضعيف المتقدم نفسه.

(1/116)


فإذا جاء تبارك وتعالى يوم القيامة للفصل بين عباده، أشرقت بنوره الأرض، وليس إشراقها يومئذ بشمسٍ ولا قمر؛ فإن الشمس تُكَوَّر، والقمر يخسف، ويَذْهَبُ نورُهما، وحجابُه تبارك وتعالى النور. قال أبو موسى: قام فينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخمس كلماتٍ فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخْفِضُ القِسْط ويَرْفَعُه، يُرْفَعُ إليه عمل الليلِ قبل عمل النَّهار، وعملُ النهارِ قبل عملِ الليل، حِجابُه النُّور، لو كشفه لأحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بَصَرُه مِن خَلْقِه". ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] (1). فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه، ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره (2). ولهذا لما تجلى تبارك وتعالى للجبل، وكشف من الحجاب شيئًا يسيرًا، ساخ الجبل في الأرض، وتدكدك، ولم يقم لربه تبارك وتعالى. وهذا معنى قول ابن عباس في قوله (3) سبحانه وتعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قال: "ذلك الله عز وجل، إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء" (4). __________ (1) أخرجه مسلم (179) إلّا قراءة أبي عبيدة (الراوي عن أبي موسى) للآية؛ فإنها عند أحمد (6/ 609)، والطيالسي (1/ 396) وغيرهما. (2) من قوله في الحديث: "مِنْ خلقه" إلى هنا، ساقط من (ت). (3) (ت) و (م): "في معنى قوله". (4) أخرجه الترمذي (3279)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 308 - 309)، وابن =

(1/117)


وهذا من بديع فَهْمِه رضي الله تعالى عنه، ودقيقِ فِطْنَتِه، وكيف لا وقد دعا له (1) رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعلِّمه الله التأويل؟!. فالربُّ تبارك وتعالى يُرَى يوم القيامة بالأبصار عيانًا، ولكنْ يستحيل إدراك الأبصار له وإن رأته؛ فالإدراكُ أمرٌ وراء الرؤية، وهذه الشمس -ولله المثل الأعلى- نراها ولا ندركها كما هي عليه، ولا قريبًا من ذلك؛ __________ = خزيمة في "التوحيد" (2/ 481 - 483)، والنسائي في "الكبرى" (10/ 279 مختصرًا)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/ 576)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 - 130). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وصححه ابن خزيمة بإيراده إيّاه في كتاب "التوحيد" دون إشارةٍ منه لضعفه، وقال ابن أبي عاصم عقب روايته: "وفيه كلام" = أي: وفي حديث ابن عباس في الرؤية بقيّةٌ أعرضتُ عن ذكرها. يريدُ بذلك ما جاء في حديث حماد بن سلمة الطويل في الرؤية عن ابن عباس، وقد تجنّب ابن أبي عاصم ذكره بطوله في كتابه، وإنما رواه مختصرًا. وهذا الذي ذكرتُ من تفسير قوله: "وفيه كلام" أولى من حمل البعض هذا القول على أنه تضعيف من ابن أبي عاصم للرواية التي معنا، والله أعلم. ورُوِي الحديث من وجهٍ آخر: أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 194)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 316)، ومن طريقه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 362 - 363). قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، فتعقّبه الذهبيُّ بقوله: "قلتُ: بل إبراهيم متروك"، وبإبراهيم هذا أعلّه البيهقي، والهيثمي في "المجمع" (7/ 115). وصحّحه الإمام أحمد، كما في "المنتخب من العلل للخلال" (280). (1) (ت): "وكيف قد دعا له"، وفي (ح) و (ق): "وكيف وقد دعا له".

(1/118)


ولذلك قال ابن عباس لمن سأله عن الرؤية وأورد عليه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، فقال: ألستَ ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أفتدركها؟ قال: لا، قال: فالله تعالى أعظم وأجلُّ (1) . وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنوره في قلب عبده مثلًا لا يعقله إلا العالمون، فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) } [النور: 35]. قال أبيُّ بنُ كعب: "مَثَلُ نُورِه في قلب المسلم" (2) . وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه مِنْ معرفته ومحبته والإيمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم، فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين __________ (1) لم أقف عليه. وورد نحوه عن عكرمة مولى ابن عباس، أخرجه الطبريّ في "التفسير" (22/ 513)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 307). (2) ورد قريبٌ منه عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أخرجه الطبريُّ (19/ 179)، وأخرج عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقول في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ}: "ذَكَر نور المؤمن فقال: مثل نوره، يقول: مثل نور المؤمن". فجعل الضمير في "نوره" يعود على المؤمن، وهذا يخالف اختيار المصنّف ونقله عن أُبيّ، وانظر: "اجتماع الجيوش الإسلامية" (49) للمصنف.

(1/119)


الناس، وأصلُه في قلوبهم، ثم تَقْوَى مادته، وتتزايد (1) حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل وثيابهم ودُورهم، يُبْصِرُه مَنْ هو مِنْ جنسهم، وسائر الخلق له منكرون (2) . فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجِسْر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا، فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجم (3) ، وآخر كالسراج، وآخر يُعْطَى نورًا على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأُعْطِيَ على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانًا، ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهرًا، لا باطنًا = أُعطِي نورًا ظاهرًا مآله إلى الظلمة والذَّهاب. وضرب الله عز وجل لهذا النور، ومحلِّه، وحامله، ومادته مثلًا بالمشكاة، وهي الكُوَّة في الحائط، فهي مثل الصَّدْرِ، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شُبِّهت بالكوكب الدُّرِّيُّ في بياضه وصفائه، وهي مثل القلب، وشُبِّه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافًا هي في قلب المؤمن، وهي: الصفاء، والرقة، والصلابة، فيرى الحق والهدى __________ (1) (ح): "فتتزايد"، وفي (ق): "ثم يقوى مادته ويتزايد". (2) (ح) و (ق): "منكر". (3) (ح): "كالنجوم".

(1/120)


بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة بِرقَّتِه، ويجاهد أعداء الله تعالى، ويغلظ عليهم، ويشتد في الحق، ويصلب فيه بصلابته، فلا تُبْطِل صفةٌ منه صفةً أخرى (1) ، ولا تعاديها، بل تساعدها وتُعاضِدُها، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. وفي أثرٍ: "القُلوبُ آنيةُ الله تعالى في أرْضه، فَأحَبُّها إليْهِ أرَقُّها، وَأصْلَبُها، وَأصْفَاها" (2) . وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض. أحدهما: قلبٌ حَجَرِيٌّ قاسٍ لا رحمة فيه، ولا إحسان ولا بِرّ، ولا له صفاء يَرى به الحق، بل هو جبارٌ جاهل، لا عالمٌ بالحق، ولا راحمٌ للخلق (3) . __________ (1) (ت): "فلا تبطل صفة منه أخرى". (2) أخرجه الطبرانيُّ في "مسند الشاميين" (2/ 19) عن أبي عنبة الخولاني مرفوعًا. قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 1691): "وإسناده جيّد". وانظر: "السلسلة الصحيحة" (1691). ورُوِي من وجوهٍ أخرى مرفوعًا وموقوفًا. (3) (ح) و (ق): "لا علم بالحقّ، ولا رحمة للخلق".

(1/121)


وبإزائه قلبٌ ضعيف مائيّ، لا قوة فيه، ولا استمساك، بل يَقْبَل كل صورة، وليس له قوة حفظ تلك الصُّور، ولا قوة التأثير في غيره، وكلُّ ما خالطه أثَّر فيه، من قويٍّ وضعيف، وطيِّبٍ وخبيث. وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك (1) النورِ مادّةٌ، وهي زيتٌ قد عُصِر من زيتونةٍ في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتُها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد (2) من صفائه يضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن، هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية، بل هي وسط بين الطرفين المذمومَيْن في كل شيء، فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن. ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار، فاشتدت بها إضاءته، وقويت مادةُ ضوءِ النار به = كان ذلك نورًا على نور. __________ (1) (ت) و (ق): "وكذلك". (2) (م) و (ق): "يكاد".

(1/122)


وهكذا المؤمن قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكنْ لا مادة له من (1) نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته (2) ، فازداد نورًا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نورٌ على نور (3) ، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثرًا، ثم يسمع الأثر مطابقًا لما شهدت به فطرته، فيكون نورًا على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملًا، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلًا، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة. فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة، فَذَكَر سبحانه وتعالى نورَه في السموات والأرض، ونورَه في قلوب عباده المؤمنين، النورَ المعقولَ المشهودَ بالبصائر والقلوب (4) ، الذي استنارت به البصائرُ والقلوبُ، والنورَ المحسوسَ المشهود بالأبصارِ، الذي استنارت به أقطار العالم العُلْوي والسُّفْلِي، فهما نوران عظيمان، وأَحدهما أعظم من الآخر. وكما أنه إذا فُقِد أحدهما من مكان أو موضع، لم يَعِشْ فيه آدميٌّ ولا غيرُه؛ لأن الحيوان إنما يتكوَّن حيثُ النور، ومواضعُ الظلمة التي لا __________ (1) "من" ساقطة من (ت). (2) (ت) و (م): "وخالطت قلبه بشاشته". (3) من قوله "الذي فطره الله" إلى هنا، ساقط من (م). (4) (م): "والنور".

(1/123)


يشرق عليها نورٌ لا يعيشُ فيها حيوانٌ، ولا يتكوَّنُ ألبتة = فكذلك أمة فُقِد منها نور الوحي والإيمان، وقلبٌ فُقِد منه هذا النور ميّتٌ ولابُدّ، لا حياة له ألبتة، كما لا حياة للحيوان في مكانٍ لا نور فيه. والله سبحانه وتعالى يَقْرِنُ بين الحياة والنور، كما في قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وكذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقد قيل: إن الضمير في "جعلناه" عائد إلى الأمر، وقيل: إلى الكتاب، وقيل: إلى الإيمان، والصواب: أنه عائد إلى الروح، أي: جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورًا (1) ، فسمّاه رُوحًا لما يحصل به من الحياة، وجعله نورًا لما يحصل به من الإشراق والإضاءة، وهما متلازمان، فحيث وُجِدت هذه الحياة بهذا الروح وُجِدت الإضاءة والاستنارة، وحيث وُجِدت الاستنارة والإضاءة وُجِدت الحياة، فمن لم يقبل قلبه هذا الروح فهو ميّت مظلم، كما أن من فارق بدنَه روحُ الحياة __________ (1) وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نقله المصنِّف في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (87 - 88). وانظر: "الجواب الصحيح" (3/ 410 - 411، 487)، و"مجموع الفتاوى" (15/ 73).

(1/124)


فهو هالك مُضْمَحِلّ. فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين: المائيّ والناريّ معًا (1)؛ لما يحصل بالماء من الحياة، وبالنار من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]. وقال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار فيها الإحراق والإشراق، فذهب بما فيه الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيه الأذى والإحراق. وكذلك حال المنافقين: ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي حرارة (2) الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبِهم، وقلوبُهم قد صلِيَتْ بحرِّها وأذاها وسمومها وَوَهَجِها في الدنيا، فأصلاها الله تعالى إياها يوم القيامة نارًا موقدةً تطَّلع على الأفئدة. فهذا مَثَلُ من لم يَصْحَبْهُ نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق، عَرَفَ ثم أنكر، وأقر ثم جحد، فهو في ظلماتٍ أصمُّ أبكمُ أعمى، كما قال تعالى في حق إخوانهم من __________ (1) انظر: "درء التعارض" (3/ 186 - 187)، و"التحفة العراقية" (10/ 102 - مجموع الفتاوى)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (63 - 71، 79 - 89)، و"إعلام الموقعين" (1/ 150 - 152)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 30 - 32). (2) (ح) و (ق): "وبقي في قلوبهم حرارة".

(1/125)


الكفّار: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) } [البقرة: 171]. وشَبَّه تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحالِ مُسْتَوقِدِ النار وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله؛ لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين، وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، قد شاهدوا الضوء، ورأوا النور عيانًا؛ ولهذا قال تعالى في حقهم: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) } [البقرة: 18]؛ لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبَّسوا به، واستناروا به (1) فهم لا يرجعون إليه. وقال تعالى في حق الكفار: {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) }؛ لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا به، بل لم يزالوا (2) في ظلمات الكفر، صمٌّ بكمٌ عُمْي. فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبديةِ والنعيم المقيم داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا. __________ (1) (ح): "واستناروا". (2) (ح): "بل يزالون".

(1/126)


لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانًا واعية، وَشَفَتْ مواعظُ القرآن لو وافقت قلوبًا من غَيِّها خالية، ولكن عَصَفَتْ على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبُها فلم ينفع فيها الكلام، وسَكِرَتْ بشهوات الغيِّ وشبهات الباطل فلم تُصْغِ بعده إلى الملام، وَوُعِظَتْ بمواعظ أنكى فيها من الأسِنَّة والسِّهام، ولكنْ ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، و"ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلام" (1) . __________ (1) عجز بيتٍ للمتنبي، في "ديوانه" (1/ 327 - العَرْف الطيّب)، وصدرُه: من يهن يسهل الهوان عليه.

(1/127)


فصل والمثلُ الثاني المائيُّ قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} [البقرة: 19]. الصَّيِّبُ: المطر الذي يَصُوبُ من السماء، أي: ينزل منها بسرعة، وهو مَثَل القرآن الذي به حياة القلوب، كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، فأدرك المؤمنون ذلك منه، وعلموا ما يحصل به من الحياة التي لا خطر لها، فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق، وهو الوعيد والتهديد، والعقوبات والمَثُلات التي حذر الله بها من خالف أمره (1)، وأخبر أنه مُنْزِلُها بمن كذَّب رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو ما فيه من الأوامر الشديدة، كجهاد الأعداء، والصبر على اللأواء، والأوامر الشاقة على النفوس التي هي بخلاف إراداتها (2)، فهي كالظلمات والرعد والبرق (3)، ولكن مَنْ عَلِمَ مواقع الغيث وما يحصل به من الحياةِ لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق، بل يستأنس لذلك، ويفرح به لما يرجو من الحياة والخِصْب. __________ (1) (ت) و (م): "خالفه". (2) (م) و (ق): "إرادتها". (3) (ت): "والبرق، وهو الوعيد".

(1/128)


وأما المنافق فإنه لِعَمَى قلبه لم يجاوز بصرُه الظلمةَ، ولم يَرَ إلّا برقًا يكاد يخطف البصر، ورعدًا عظيمًا وظلمة (1) ، فاستوحش من ذلك وخاف منه، فوضع أصابعه في أذنيه لئلا يسمع (2) صوت الرعد، وهالَه مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه، وعِظَمُ نوره، فهو خائف أن يختطف معه بصره؛ لأن بصره أضعف من أن يثبت معه، فهو في ظلمةٍ يسمع أصوات الرعد القاصف (3) ، ويرى ذلك البرق الخاطف، فإنْ أضاء له ما بين يديه مشى في ضوئه، وإنْ فقد الضوء قام متحيِّرًا لا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصَّيِّبِ الذي به حياةُ الأرض والنبات، وحياتُه هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدًا، وبرقًا، وظلمةً، ولا شعور له بما وراء ذلك، فالوحشةُ لازمةٌ له، والرعبُ والفزعُ لا يفارقه. وأما من أَنِس بالصَّيِّب وعلم ما يحصل به من الخيرات (4) والحياة والنفع، وعلم أنه لابُدّ فيه من رعدٍ وبرقٍ وظلمةٍ؛ بسبب الغيم = استأنس بذلك ولم يستوحش منه، ولم يَقْطَعْهُ ذلك عن أخذه بنصيبه من الصَّيِّب. فهذا مَثَلٌ مُطابِقٌ للصَّيِّب الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند __________ (1) "عظيمًا" من (م) و (ح) و (ق). (2) (ت): "لا يسمع". (3) (ت): "العاصف". (4) (ح): "يحصل من الخير".

(1/129)


رب العالمين تبارك وتعالى، على قلب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (1) ؛ ليُحْيِيَ به القلوب والوجود أجمع، اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصَّيِّب المائيَّ (2) ، حكمةً بالغةً، وأسبابًا منتظمةً نظَّمها العزيز الحكيم. فكان حظ المنافق من ذلك الصَّيِّب سحابُه ورُعُودُه وبُروقُه فقط، لم يعلم ما وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب بما اطمأن به العالمون، وشك فيما تيقَّنه المُبْصِرُون العارفون، فبصره في المثل الناري كبصر الخُفاش في نحر الظهيرة (3) ، وسَمْعُه في المثل المائيّ كسَمْعِ من يموت من صوت الرعد. وقد ذُكِر عن بعض الحيوانات أنها تموت من صوت الرعد (4) . وإذا صادف هذه العقول والأسماع والأبصار شبهاتٌ شيطانية، وخيالاتٌ فاسدة، وظنونٌ كاذبة، جالت فيها وصالت، وقامت فيها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكَثُرَ بها قِيلُها وقالُها، فملأت الأسماع __________ (1) (ت): "على قلب سيد المرسلين"، وفى (ق): "على قلب رسوله". (2) (ح): "الصيب الماء". (3) (ح) و (ق): "نحو الظهيرة". (4) ذكر منها الدّميريُّ في "حياة الحيوان" (1/ 374، 505): "الخطّاف"، و"السّمان"، وهما طائران، وقال عن الثاني: "ويُسمَّى: قتيل الرعد، من أجل أنه إذا سمع صوت الرعد مات".

(1/130)


من هذيانها، والأرض من دويانها (1) ، وما أكثر المستجيبين لهؤلاء، والقابلين منهم، والقائمين بدعوتهم، والمحامين عن حوزتهم، والمقاتلين تحت ألويتهم، والمُكَثِّرين لسوادهم عَددًا، وما أقلهم عند الله وأوليائه قدرًا (2) . ولعموم البلية بهم، وضرر القلوب بكلامهم، هتك الله أستارهم في كتابه غاية الهَتْك، وكشف أسرارهم غاية الكشف، وبَيَّن علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم، ولم يزل عز وجل يقول: "ومنهم. . ."، "ومنهم. . ."، "ومنهم. . ." = حتى انكشف أمرهم، وبانت حقائقهم، وظهرت أسرارهم. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة أوصاف المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في أوصاف المؤمنين ثلاث آيات، وفي أوصاف الكفار آيتين، وفي أوصاف هؤلاء بضع عشرة آية؛ لعموم الابتلاء بهم، وشدة المصيبة بمخالطتهم، فإنهم من الجَلَدة (3) مظهرون __________ (1) (ح) و (ت) و (ق): "دواوينها"، وهو محتملٌ؛ ليشمل كلامُه المسموع والمكتوب، فالمسموع مِلْء الأسماع، والمكتوب مِلْء الأرض. وفي "اللسان" (مادة: دوا): "والدَّوِيُّ: الصّوت، وقد دوّى الصوتُ يدوّي تدويةً، ودَوِيُّ الرّيح حفيفُها، وكذلك دويُّ النّحل". لكنْ لم أَجدْ هذا المصدر "دويانًا"، ولا أعلمه يصحُّ قياسًا. (2) من قوله "عددًا" إلى هنا من (م) فقط. (3) (م): "الجملة"، ولعلّها: "الجلادة"، فالجَلَدُ والجلادة: الصّلابة. ويمكن أن تُقرأ: "الجِلْدة"، أي: من بني جلدتنا.

(1/131)


الموافقة والمناصرة، بخلاف الكافر الذي قد نابذ بالعداوة، وأظهر السريرة، ودعاك -بما أظهره (1) - إلى منابذته (2) ومفارقته. __________ (1) "بما أظهره" من (ح) و (م) و (ق). (2) (ق): "مزايلته".

(1/132)


فصل ونظيرُ هذين المَثَلَيْن المثلان المذكوران في سورة الرعد في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] (1) . فهذا المثل هو المثل المائي، شبَّه سبحانه الوحي الذي أنزله بحياة القلوب، بالماء الذي أنزله من السماء، وشَبَّه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل. فقلبٌ كبيرٌ يَسَعُ علمًا عظيمًا كوادٍ كبير يَسَعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ كوادٍ صغيرٍ يَسَعُ علمًا قليلًا، فحَمَلَتِ القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها. ولما كانت الأودية (2) ومجاري السيول فيها الغُثاء ونحوه مما يمرُّ عليه السيل، فيحتمله (3) السيلُ فيطفو على وجه الماء زبدًا عاليًا، يمرُّ عليه متراكبًا (4) ، ولكنّ تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف __________ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 766 - 767)، و"درء التعارض" (7/ 455 - 456)، و"مفتاح دار السعادة" (1/ 249 - 250، 407)، و"إعلام الموقعين" (152 - 153)، و"شفاء العليل" (1/ 321 - 322). (2) "ولما كانت الأودية" ساقط من (ت). (3) (ت) و (م): "فيحمله"، وفي (ق): "فتحتمله". (4) (ت): "عليه الماء متراكبًا"، وفي (م) و (ق): "عاليًا عليه متراكبًا".

(1/133)


الوادي ذلك الغثاء إلى جَنَبَتَيْه حتى لا يبقى منه شيء، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض، فيُحْيِي به البلاد والعباد، والشجر والدواب، والغثاءُ يذهب جُفاءً يُجْفَى، ويُطْرَح على شفير الوادي. فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله من السماء (1) في القلوبِ، فاحْتَمَلَتْهُ، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبَدِ الشبهات الماطلة، فطفا في أعلاها، واستقرَّ العلم والإيمان والهدى (2) في جَذْرِ القلب، وهو أصله ومستقره، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نزل الإيمان في جَذْرِ قلوب الرجال" (3) . رواه البخاري من حديث حذيفة (4) . فلا يزال ذلك الغثاء والزَّبَدُ يذهب جفاءً، ويزول شيئًا فشيئًا، حتى يزول كله، ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جَذْرِ القلب، يَرِدُه الناس، فيشربون ويسقون ويزرعون. وفي "الصحيح" من حديث أبي موسى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَثَلُ ما بعَثَني الله تعالى به من الهدى والعلم، كَمَثَلِ غَيْثٍ أصاب أرضًا، فكان __________ (1) "من السماء" ساقط من (ح) و (ق). (2) "والهدى" من (ح) و (ق). (3) أخرجه البخاري (6497، 7086، 7276)، ومسلم (143). وهو عندهما جميعًا بلفظ: "الأمانة" بدل "الإيمان"، ولم أقف عليه باللفظ الذي ذكره المصنّف في شيء من كتب الحديث. (4) من قوله "وهو أصله" إلى هنا، ساقط من (ت) و (ح) و (ق).

(1/134)


منها طائفةٌ طيِّبَةٌ قَبِلَتِ الماء فأنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكثير، وكان منها طائفةٌ أجادِبُ أمْسَكَت الماءَ فَسَقى النَّاسُ وزَرَعُوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قِيعَانٌ، لا تُمْسِكُ مَاءً، ولا تُنْبِتُ كلأً، فذلك مَثَلُ من فَقُهَ في دين الله تعالى، ونفعه بما بعثني الله به، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ به" (1). فجعل النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناسَ بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات (2): الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علمًا وعملًا ودعوةً (3) إلى الله عز وجل ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهؤلاء أتباع الرسول صلوات الله عليه وسلامه حقًّا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زَكَت، فقبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فَزَكَتْ في نفسها، وزكا الناسُ بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا (4) ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. __________ (1) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282). (2) انظر: "الرسالة التبوكية" (64 - 67)، و"طريق الهجرتين" (172 - 173)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (72)، و"مفتاح دار السعادة" (1/ 246 - 248) للمصنّف. (3) (م): "ودعوا". (4) (م): "وكذلك كان"، وفي (ق): "وكذلك كانوا".

(1/135)


فالأيدي: القوةُ في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يُدْرَكُ الحق ويُعْرَف، وبالقوة يُتَمَكَّنُ من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قُوّةُ الحفظ والفهم والفقه في الدين، والبصر بالتأويل، ففجَّرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورُزِقَتْ فيها فهمًا خاصًّا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وقد سُئل-: هل خصَّكم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشيءٍ دون الناس؟ فقال: لا والذي فَلَق الحَبَّة وَبَرَأ النَّسَمَة، إلّا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه (1) . فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة (2) عن: الطبقة الثانية: فإنها حفظت النصوص، وكان هَمُّها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتَلَقَّوْها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، __________ (1) أخرجه البخاري (3047). (2) عبَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذه الطبقة الأولى في موضعٍ آخر بقوله -في "قاعدة شريفة في تفسير قوله {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} " (1/ 128 - جامع المسائل) -: "وإنّما القسم الأول من شرب قلبهُ معناه [أي: القرآن]، فأثّر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض التي شربته، فحصل له من ذوق طعم الإيمان، ووجد [مِنْ] حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكّل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام (كذا)، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابُدّ أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب". ثمّ بيّن مدلول لفظ "الفقه" و"الفقيه" في عرف السلف. وانظر: "درء التعارض" (7/ 256).

(1/136)


واتَّجروا فيها، وبذروها في أرضٍ قابلةٍ للزرع والنبات، فاستخرجوا غوامضها وأسرارها (1) ، ووردوها كلٌّ بِحَسَبِه {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِع مقالتي فوعاها، فأدَّاها كما سمِعَها، فَرُبَّ حامل فِقْهٍ غير فَقِيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى من هو أفْقَهُ مِنْه" (2) . وهذا عبد الله بن عباس حَبْر الأمة وترجمان القرآن، مقدار ما سمع من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي يقول فيه: "سمعت" و"رأيت" (3) ، وسمع الكثير من الصحابة، وبُورِك في فهمه والاستنباط __________ (1) "فاستخرجوا غوامضها وأسرارها"، من (م) فقط. (2) أخرجه الترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وأحمد (2/ 148)، وأبو يعلى (9/ 62)، والحميدي (1/ 47)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 331) وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (66، 68، 69)، وقال أبو نعيم: "صحيح ثابت". وانظر: "شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي (18 - 19)، و"موافقة الخُبْر الخَبَر" لابن حجر (1/ 364 - 365). وورد الحديث من رواية جماعة من الصحابة، وعدّه غير واحدٍ من المتواتر. انظر: "قطف الأزهار المتناثرة" (2)، و"مفتاح الجنة" (9) كلاهما للسيوطي، و"لقط اللآلئ المتناثرة" (48) للزبيدي. (3) انظر: "مسند الحميديّ" (1/ 220 - 228) فقد عقد لهذه الأحاديث بابًا خاصًّا، و"تهذيب سنن أبي داود" للمصنّف (6/ 362)، و"فتح الباري" لابن =

(1/137)


منه حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا. قال أبو محمد بن حزم: وجُمِعَتْ فتاويه في سبعة أسفار كبار (1) . وهي بحسب ما بلغ جامعَها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سَمِع كما سمعوا، وحفظ كما حفظوا، ولكنّ أرضه كانت من أطيب الأراضي وأَقْبَلِها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) } [الجمعة: 4]. وأين تقع فتاوى ابن عباس، وتفسيره، واستنباطه، من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يُؤَدِّي الحديث كما سمعه، ويَدْرُسُه بالليل درسًا، فكانت هِمَّته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه (2) ، وهِمَّةُ ابن __________ = حجر (11/ 390 - 391)، و"تهذيب التهذيب" (5/ 279). (1) قال أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (5/ 92): "وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فُتيا عبدالله بن العباس في عشرين كتابًا. وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث". ونقله عنه المصنّف في "إعلام الموقعين" (1/ 12). وانظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم (24). أمّا العبارة التي نقلها "شيخ الإسلام" هنا عن ابن حزم فهذه إنّما قالها ابن حزم في الحسن البصري، كما في "الإحكام" (5/ 97)، وكما نقله عنه المصنِّف في "إعلام الموقعين" (1/ 24). (2) ولا يعني هذا أنّ هِمَّته هذه قد صَرَفَتْهُ عن التفقّه فيما حفظ من الحديث؛ فإنّه =

(1/138)


عباس مصروفة إلى التفقُّه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها (1) . وهكذا الناس بعده قسمان: قسْمٌ حفاظٌ معتنون بالضبط، والحفظ، والأداء، كما سمعوا، ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه. وقِسْمٌ معتنون بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص، والتّفقُّه فيها. فالأول كأبي زرعة، وأبي حاتم، وابن وارة (2) . __________ = معدودٌ -رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة، وذكره ابن حزم في "الإحكام" (5/ 92) في المتوسّطين ممن حُفِظَتْ عنهم الفتوى من الصحابة. وقال الذهبيّ في "تذكرة الحفاظ" (1/ 32 - 33): "وكان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى". وقد جمع تقيُّ الدين السبكي فتاويه في جزء. انظر: "الجواهر المضيّة" للقرشي (4/ 541). وانظر: "مجموع الفتاوى" (4/ 532 - 533) مهم. والحديث عن فقهه -رضي الله عنه- طويل الذيل. وإنما مراد المصنِّف (وشيخ الإسلام) الشأنَ الغالب عليه، بالمقارنةِ بواحدٍ من كبار فقهاء طبقته، وهو ابن عباس رضي الله عنهما. (1) من قوله عن الطبقة الأولى: "ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء. . ." إلى هنا، بحروفه من "نقض المنطق" لشيخ الإسلام ابن تيمية (79 - 80). (2) هو محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله، الحافظ الإمام المجوِّد، توفي سنة 270. "سير أعلام النبلاء" (13/ 28 - 31).

(1/139)


وقبلهم: كبُنْدار محمد بن بشار (1) ، وعمرو الناقد (2) ، وعبد الرزاق. وقبلهم: كمحمد بن جعفر غندر (3) ، وسعيد بن أبي عَرُوبة (4) ، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان والضبط لما سمعوه، مِنْ غير استنباطٍ وتَصَرُّفٍ، واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص. والقسم الثاني: كمالك، والليث، وسفيان، وابن المبارك (5) ، والشافعي، والأوزاعي، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية. __________ (1) هو محمد بن بشار بن عثمان بن داود، الإمام الحافظ، راوية الإسلام، بُنْدار؛ لُقِّب بذلك لأنه كان بُندار الحديث في عصره وبلده، والبُندار: الحافظ، توفي سنة 252. "سير أعلام النبلاء" (12/ 144 - 149). (2) هو الإمام الحافظ الحجة أبو عثمان عمروبن محمد بن بكير بن سابور البغدادي، الناقد، توفي سنة 232. "سير أعلام النبلاء" (11/ 147 - 148). (3) هو الحافظ المجوِّد الثّبْت أبو عبد الله الهذلي، أحد المتقنين، سمّاه ابن جريج: غُندرًا؛ لأنه تعنّت في الأخذ عليه، توفى سنة 193. "سير أعلام النبلاء" (9/ 98 - 101). (4) هو الإمام الحافظ، عالم أهل البصرة، وأول من صنّف السنن النبوية، أبو النضر بن مهران العدوي البصري، توفى سنة 156. "سير أعلام النبلاء" (6/ 413 - 418). (5) "والليث وسفيان وابن المبارك" من (م) فقط.

(1/140)


فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم الذين قبلوه ورفعوا به رأسًا (1) . وأما الطائفة الثالثة: وهم أشقى الخلق، الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسًا، فلا حِفْظَ، ولا فَهْمَ، ولا رواية، ولا دراية، ولا رعاية. فالطبقة الأولى: أهل رواية ورعاية ودراية. والطبقة الثانية: أهل رواية ورعاية، ولهم نصيب من الدراية، بل حظهم من الرواية أوفر. والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية. {إِنْ __________ (1) عبّر شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الطبقة (الطائفة) الثانية بقوله - (1/ 127 - جامع المسائل) -: "وهذه حال من يحفظ العلم ويؤدّيه إلى من ينتفع به،. . . . وبعضُ الناس قال: إن الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المُحَدِّثين. والتحقيقُ أنّ الذين سمّاهم فقهاء، إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدلّ عليه، بخلاف المحدّث الذي يحفظ حروفه فقط = فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدّي لغيره حتى ينتفع به، لكنّ الأوّل فهم من مقصود الرسول ما لم يفهمه الثاني. وكذلك القرآن، إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأدّاه إلى غيره = فهما من القسم الثاني". ثمّ بيّن -رحمه الله- من هو القسم الأوّل (الطائفة الأولى)، وقد سبق نقلُه.

(1/141)


هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) } [الفرقان: 44] فهم الذين يضيّقون الديار، ويُغلون الأسعار، إنْ هَمُّ أحدِهم إلا بطنُه وفرجه، فإن ترقَّتْ هِمَّتهُ فوق ذلك كان همُّه -مع ذلك- في لباسه وزينته، فإن ترقَّتْ هِمَّته فوق ذلك كان في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقَّتْ هِمَّته فوق ذلك، كان هَمُّه في الرياسة والانتصار للنفس [الكلبيَّة، فإن ارتفعت هِمَّته عن نصرة النَّفس الكلبيَّة، كان همُّه في نصرة النفس السَّبُعيَّة] (1) . وأمّا النفس المَلَكِيّة فلم يُعْطَها أحدٌ من هؤلاء. فإنّ النفوس ثلاثة: كلبيّة وسَبُعِيّة، ومَلَكية. فالكلبيّة: تقنع بالعَظْمِ، والكِسْرة، والجِيفة، والعَذِرَة. والسَّبُعيَّة: لا تقنع بذلك، بل بقهر النفوس، والاستعلاء عليها بالحق والباطل. وأما المَلَكِيّة: فقد ارتفعت عن ذلك، وشمَّرت إلى الرفيق الأعلى، فهِمَّتُها العلم والإيمان، ومحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والطمأنينة به، والسكون إليه، وإيثار محبته ومرضاته، وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذه لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربِّها ووليِّها، لا لتنقطع به عنه. __________ (1) ورد ما بين المعكوفين في النُّسخ التي بين يديَّ هكذا: "الغضبيّة، قد ارتفعت نفسه عن نصرة النفس الكلبيّة إلى نصرة النفس السّبُعية". وهو غير مستقيم كما ترى، وقد أثبتُّ الذي أراه صوابًا من طبعة الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى.

(1/142)


فصل ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا ثانيًا، وهو المثل الناريّ، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]، وهذا كالحديد (1)، والنحاس، والفضة، والذهب، وغيرها، فإنها تدخل الكِير لِتُمَحَّص وتُخَلَّص من الخَبَث، فيخرج خَبَثُها فيُرْمَى به ويُطْرَح، ويبقى خالصها، فهو الذي ينفع الناس. ولما ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حُكْمَ من استجاب له ورفع بهداه رأسًا، وَحُكْمَ من لم يستجب له، ولم يرفع بهداه (2) رأسًا: فقال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} [الرعد: 18]. والمقصود أن الله تعالى جعل الحياة حيث النور، والموت حيث الظلمة، فحياة الوجودَيْن الروحيِّ والجسميِّ بالنور، وهو مادة الحياة، كما أنّه مادة الإضاءة، فلا حياة بدونه، كما لا إضاءة بدونه، وكما أنه به حياة القلب، فَبِه (3) انفساحه وانشراحه وَسَعَتُه، كما في الترمذيّ (4) عن __________ (1) (م): "وهو الحديد". (2) (ت): "بهذا"، وفي (م): "به". (3) (ح) و (ق): "فيه". (4) لم أقف عليه في "جامع" أبي عيسى الترمذي -المطبوع-، ولا رأيتُ من عزاه إليه إلّا المصنّف في "زاد المعاد" (2/ 24)، وقد ذكره الحكيم الترمذي =

(1/143)


النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا دخل النُّور القَلْبَ انْفَسَح وانْشَرَح" قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابةُ إلى دارِ الخُلود، والتَّجافي عن دار الغُرور، والاستعدادُ للموت قَبْلَ نُزُوله" (1) . ونورُ العبد هو الذي يُصْعِدُ عَمَلَه وكَلِمَهُ إلى الله تعالى، فإن الله تعالى لا يَصْعد إليه من الكلم إلا الطَّيِّب -وهو نورٌ، ومصدرُه عن النور-، ولا من العمل إلا الصالح، ولا من الأرواح إلا الطَّيِّبة، وهي أرواح المؤمنين __________ = في "نوادر الأصول" (1/ 425). (1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 106)، ووكيع في "الزهد" (1/ 238 - 239)، وعبد الرزاق في "التفسير" (1/ 217 - 218)، وسعيد بن منصور في "السنن" (5/ 86 - 88)، والطبري في "التفسير" (12/ 101)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 311) وغيرهم. وفي إسناده اختلاف، قال الدارقطني في "العلل" (5/ 189 - 190) بعد أن ذكر بعض أوجه الخلاف فيه: "وكلها وهم، والصواب: عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر عبد الله بن المسور مرسلًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كذلك قاله الثوري، وعبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالبٍ هذا متروك". وذكره ابن رجب في "شرح العلل" (2/ 772 - 773) مرسلًا، ثم قال: "فهذا هو أصل الحديث، ثم وصله قوم وجعلوا له إسنادًا موصولًا، مع اختلافهم فيه". ثمّ ساق كلام الدارقطني في تعليل الحديث، وتعقّبه بأنّ الصحيح عن وكيع روايته الحديث مرسلًا كما رواه الثوريّ. ولم يُصِب الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حين عدّ هذا الاختلاف طُرقًا للحديث، يتقوّى بها، فقال في "تفسيره" (3/ 1362): "فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتّصلة يشدّ بعضها بعضًا".

(1/144)


التي استنارت بالنور الذي أنزله على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (1) ، والملائكةُ الذين خلقوا من نور، كما في "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "خُلِقَت الملائكة مِنْ نُورٍ، وخُلِقَتِ الشَّياطينُ مِنْ نارٍ، وخُلِق آدمُ مِمَّا وُصِفَ لكم" (2) . فلما كانت مادة الملائكة من نورٍ كانوا هم الذين يَعْرُجُون إلى ربهم تبارك وتعالى، وكذلك أرواح المؤمنين هي التي تعرج إلى ربها وَقْتَ قبضِ الملائكة لها، فيُفْتَح لها باب السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن يُنْتَهَى بها إلى السماء السابعة، فتُوقَفُ بين يدي الله عز وجل، ثم يأمر أن يكتب كتابه في أهل عِلِّيِّين (3) . فلما كانت هذه الروح روحًا زاكية طيبة نيِّرة مشرقة صعدت إلى الله عز وجل مع الملائكة. وأما الروح المظلمة الخبيثة الكدرة فإنها لا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بل تُرَدُّ من السماء الدنيا إلى عالَمها وعُنْصُرِها؛ لأنها أرضية سُفْلِيّة، والأولى عُلْوِيّة سماوية، فرجعت كل روح إلى عنصرها وما هي منه، وهذا مُبَيَّنٌ في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الإمام أحمد، وأبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه"، والحاكم، __________ (1) من قوله "أرواح المؤمنين" إلى هنا، ساقط من (ت) و (ق). (2) "صحيح مسلم" (2996). (3) (م): "في عليّين"، وفي (ق): "من أهل عليّين".

(1/145)


وغيرهم، وهو حديث صحيح (1) . __________ (1) أخرج حديث البراء أبو داود (4720)، وأحمد (6/ 321 - 322)، وابن أبي شيبة (3/ 380)، والطيالسي (2/ 114 - 119)، والحاكم (1/ 37) وغيرهم من طريق الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء به. وقد أُعِل هذا الحديث بعلل: الأولى: أنّ زاذان لم يسمعه من البراء. قاله ابن حبان في "صحيحه" (7/ 387 - الإحسان). وأجاب عن هذه العلة شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (5/ 438) بأنّ أبا عوانة قد رواه في "صحيحه" ("إتحاف المهرة": 2/ 459) بطوله، [وأبا داود في "السنن" (4721)] وفي روايتهما: "عن زاذان، سمعت البراء". كما نَقَل عن ابن منده قوله: "هذا الحديث إسناده متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء". وأجاب ابن القيّم (المصنّف) في "تهذيب سنن أبي داود" (13/ 65) بأنّ عديّ بن ثابت قد رواه عن البراء متابعًا زاذان، أخرجه ابن منده. الثانية: أنّ المنهال قد تفرّد به عن زاذان، وهو لا يحتمل التفرّد بمثل هذا المتن. قال ابن عديّ في "الكامل" (6/ 331) في آخر ترجمة "المنهال": "والمنهال بن عمرو هو صاحب حديث الفتن (كذا، ولعلّها: الفتّان، كما في "الميزان" الطويل، رواه عن زاذان عن البراء، ورواه عن منهال جماعة". وأخرجه الدارقطني في "الأفراد والغرائب" (2/ 288 - ترتيبه لابن طاهر)، ويظهر من سياقه لطرقه تفرّد المنهال به عن زاذان. وأجاب عن هذه العلّة، ودفع تفرّد المنهال بالحديث شيخُ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (5/ 439)، ونَقَل عن أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده ما يدلّ على ذلك. الثالثة: أنّ بين الأعمش وبين المنهال في هذا الحديث: الحسن بن عمارة، وهو متروك. قال ابن حبان في "صحيحه" (7/ 387 - الإحسان): =

(1/146)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = "خبر الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء: سمعه الأعمش عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو، وزاذان لم يسمعه من البراء؛ فلذلك لم أخرجه". وأجاب عن هذه العلّة المصنّف في "تهذيب سنن أبي داود" (13/ 65 - 66) بأنه قد رواه عن المنهال جماعة غير الأعمش، كما قال ابن عديّ، فلا يضرّ -حينئذ- دخولُ الحسن بن عمارة في هذه الطريق الحديثَ شيئًا. الرابعة: ضعفُ المنهال بن عمرو. قال أبو محمد بن حزم في "المحلى" (1/ 22)، و"الفِصَل" (4/ 119): "ولم يَرْوِ أحد أنّ في عذاب القبر رد الرّوح إلى الجسد إلّا المنهال بن عمرو، وليس بالقويّ". وأجاب عن هذه العلّة وردّ تضعيف المنهال شيخُ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (5/ 447)، والمصنف بأوسع منه في "الرّوح" (220)، و"تهذيب السنن" (13/ 64). وسبق دفع تفرّده بالحديث. الخامسة: نكارة وغرابة بعض ألفاظه. قال الذهبيُّ في "السير" (5/ 184) في ترجمة "المنهال": "قلتُ: حديثه في شأن القبر بطولِه فيه نكارة وغرابة، يرويه عن زاذان عن البراء". وقد بيّن شيخ الإسلام في "الفتاوى" (5/ 446 - 451)، والمصنّف في "تهذيب السنن" (13/ 65 - 66) أنّ ما تضمّنه حديث البراء هذا قد دلّت عليه الأحاديث الصحيحة الأخرى. وصحّح الحديثَ البيهقيُّ في "إثبات عذاب القبر" (37)، والحاكم. وقال أبو نعيم -فيما نقله عنه شيخ الإسلام في "الفتاوى" (5/ 439)-: "وهو حديث أجمع رواة الأثر على شهرته واستفاضته".

(1/147)


والمقصود: أن الله عز وجل لا يصعد إليه من الأعمال والأقوال والأرواح إلا ما كان منها نورًا، وأعظمُ الخلق نورًا أقربهم إليه، وأكرمُهم عليه. وفي "المسند" من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ الله تعالى خَلَقَ خَلْقَه في ظُلْمَةٍ، وَألْقى عليهم مِنْ نُورِه، فمن أصابَ من ذلك النُّورِ اهْتدَى، ومن أخْطَأه ضَلّ"؛ فلذلك أقول: جَفَّ القلمُ على عِلْمِ الله تعالى (1) . وهذا الحديث العظيم أصل من أصول الإيمان، وينفتح به باب __________ = وقال أبو موسى الأصبهاني -فيما نقله عنه المصنِّف في "تهذيب السنن" (13/ 65) -: "هذا حديث حسنٌ مشهور بالمنهال". وسبق ذكر عبارة ابن منده. وانتصر لتصحيحه شيخ الإسلام في "الفتاوى"، والمصنِّف في كتبه: "الروح" (219 - 221)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (112)، و"تهذيب سنن أبي داود" (9/ 23)، (13/ 63 - 69). وقال الذهبيُّ في "العلو" (117): "إسناده صالح"، وتقدّمت له عبارة أخرى. (1) "المسند" (2/ 624 - 625). وأخرجه -أيضًا- الترمذيُّ (2642)، والحاكم (1/ 30 - 31) وغيرهما. قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصحّحه ابن حبان (6169)، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح، قد تداولتْه الأئمة، وقد احتجّا بجميع رُواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علّة". ولم يتعقبه الذهبي. وقولُه: "فلذلك أقول: جفّ القلم. . ." هذا من قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، راوي الحديث، كما هو مبيَّن في المصادر السابقة.

(1/148)


عظيم من أبواب سر القدر وحكمته، والله تعالى الموفق. وهذا النور الذي ألقاه عليهم سبحانه وتعالى، هو الذي أحياهم وهداهم، فأصابت الفطرة منه حَظَّها، ولكنْ لمّا لم يستقلَّ بتمامه وكماله أكمله لهم، وأتمه بالوحي (1) الذي ألقاه على رسله عليهم الصلاة والسلام، والنورِ الذي أوحاه اليهم، فأدركَتْهُ الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور، فانضاف نور الوحي والنُّبوَّةِ إلى نور الفطرة، نورٌ على نورٌ، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، وحَيِيَتْ به الأرواح، وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعًا واختيارًا، فازدادت به القلوب حياةً إلى حياتها. ثم دلها ذلك النور على نورٍ آخر هو أعظم منه وأجلُّ، وهو نور الصفات العليا الذي يَضْمَحِلُّ فيه كلُّ نورٍ سواه، فشاهدَتْهُ ببصائر الإيمان (2) مشاهدةً نِسْبَتُها إلى القلب نِسْبَة المرئيّات إلى العَيْن؛ وذلك لاستيلاء اليقين عليها، وانكشاف حقائق الإيمان لها، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن تبارك وتعالى بارزًا، وإلى استوائه عليه (3) ، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يدبِّر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويُحْيِي، ويقضي __________ (1) (ح) (ق): "بالرُّوح". (2) (ت): "فشاهد به بصائر الإيمان". (3) "وإلى استوائه عليه" ساقط من (ت).

(1/149)


وينفِّذ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويقلِّب الليل والنهار، ويُدَاوِلُ الأيام بين الناس، ويُقَلِّبُ الدُّوَل، فيذهب بدولة، ويأتي بأخرى. والرسلُ من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعدٍ إليه بالأمر، ونازلٍ من عنده به، وأوامرُه ومراسيمه متعاقبةٌ على تعاقب الأوقات (1)، نافذةٌ بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان، ولا تَقَدُّمٍ ولا تأخُّر، وأمرُه وسلطانُه نافِذٌ في السموات والأرض وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار (2) والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذَرَّاتِه، يُقَلِّبها ويُصَرِّفها، ويُحْدِث فيها ما يشاء، وقد أحاط بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسع كل شيءٍ رحمةً وحكمة، ووسع سَمْعُهُ الأصوات، فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجَها باختلاف لغاتها على تَفَنُّنِ حاجاتها، فلا يَشْغَلُه سَمْعٌ عن سَمْعٍ، ولا تُغْلِطُه كثرة المسائل، ولا يتَبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين ذوي الحاجات (3). وأحاط بصرُه بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصَّمَّاء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السر؛ فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد، __________ (1) (ت): "الآنات"، وفي (ح) و (ق): "الآيات". (2) (ت) و (م): "البحر". (3) "ذوي الحاجات" من (ح) و (ق).

(1/150)


وخطر بقلبه، ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه: ما لم يخطر بقلبه بَعْدُ، فَيَعْلَمُ (1) أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا. وله الخلق والأمر، وله الملك وله الحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، وَسَعَتْ نعمته إلى كل حيّ. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) } [الرحمن: 29]: يغفر ذنبًا، ويفرِّج همًّا، ويكشف كربًا، ويَجْبُر كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حَيْرانًا، ويُغِيثُ لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبع جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلًى، ويَقْبَلُ تائبًا، ويَجْزي مُحْسِنًا، وينصر مظلومًا، ويَقْصِم جبّارًا، ويُقِيلُ عَثْرَةً، ويستر عورةً، ويُؤَمِّن رَوْعةً، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين. لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار (2) ، وعملُ النهار قبل عمل الليل (3) ، حجابُه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. يمينُه مَلأى، لا تَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق __________ (1) "فيعلم" ساقطة من (ت) و (م) و (ق). (2) (م) و (ق): "قبل النهار". (3) (م) و (ح) و (ق): "قبل الليل".

(1/151)


منذ خلق الخلق، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه. قلوبُ العباد ونواصيهم بيده، وأزمَّة الأمور (1) معقودة بقضائه وقدره، الأرضُ جميعًا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، يقبض سمواته كلها بيدِهِ (2) ، والأرض باليد الأخرى، ثم يَهُزُّهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئًا، وأنا الذي أعيدها كما بَدَأْتُها. لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسْأَلُها أن يعطيها. لو أن أهل سمواته، وأهل أرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنْسهم وجِنَّهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أول خلقه وآخرهم، وإنْسهم وجِنَّهم، كانوا على أفجر قلبِ رجل منهم، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، ولو أن أهل سمواته، وأهل أرضه، وإنْسهم وجِنَّهم، وحَيَّهُمْ ومَيِّتهم، كانوا على أفجر قلبِ رجل منهم، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، ولو أن أهل سمواته، وأهل أرضه، وإنْسهم وجِنَّهم، وحَيَّهُمْ ومَيِّتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا في صعيد واحد، فسألوه فأعطى كلًّا منهم مسألته (3) ، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة. ولو أن أشجار الأرض كلَّها (4) -من حين وُجِدت إلى أن تنقضي __________ (1) (ت) و (م): "وأزمّة العباد". (2) (ح): "بيده الكريمة". (3) (ح) و (ق): "ما سأله". (4) "كلها" من (ح) و (ق).

(1/152)


الدنيا- أقلامٌ، والبحر وراءه سبعة أبحر تمدُّه من بعده مِدادٌ، فكُتِبَ بتلك الأقلام وذلك المداد، لفنيت الأقلام ونفد المداد، ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى (1) . وكيف تَفْنَى كلماتُه جَلَّ جلاله وهي لا بداية لها ولا نهاية؟! والمخلوق له بداية ونهاية، فهو أحق بالفناء والنَّفاد، وكيف يُفْنِي المخلوقُ غيرَ المخلوق؟! هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. تبارك وتعالى، أحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من حُمِد، وأولى من شُكِر، وأنصَرُ من ابْتُغِي، وأرأفُ من مَلَك، وأجودُ من سُئِل، وأعْفَى من قَدِر، وأكرم من قُصِد، وأعدل من انْتَقَم. حكمُه بعد علمه، وعفوُه بعد قدرته، ومغفرتُه عن عِزَّته، ومَنْعُه عن حِكمته، وموالاتُه عن إحسانه ورحمته. ما لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقُّ واجِبٌ ... كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضائِعُ إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أوْ نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ، وهو الكريمُ الواسِعُ (2) __________ (1) (ت) و (م): "كلماته سبحانه"، وفي (ق): "كلماته تبارك وتعالى". (2) البيتان ذكرهما المصنّف رحمه الله في كتبه: "مدارج السالكين" (2/ 339)، و"أقسام القرآن" (1/ 132)، و"بدائع الفوائد" (2/ 390)، و"طريق الهجرتين" (470). =

(1/153)


هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا نِدُّ له (1) ، والغنيُّ فلا ظهير له (2) ، والصمد فلا ولد له، ولا صاحبة له، والعليُّ فلا شبيه له، ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيء هالك إلا وجهه، وكلُّ مُلْكٍ زائل إلا ملكه، وكل ظِلٍّ قَالِصٌ إلا ظِلُّه، وكل فضل منقطع إلا فضله. لن يُطاع إلا بفضله (3) ورحمته، ولن يُعصى إلا بعلمه وحكمته، يُطاع فيَشْكُر، ويُعْصَى فيتجاوز وَيَغْفِر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حالَ دون النفوس، وأخذ بالنواصي، ونَسَخ الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مُفْضِيَةٌ، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) } [يس: 82]. فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات اضْمَحَلَّ عندها كل نور، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة. والمقصود: أن الذكر يُنَوِّر القلب والوجه والأعضاء، وهو نور العبد في دنياه، وفي البرزخ، وفي يوم القيامة. __________ = ولم أقف عليهما عند أحدٍ قبله. (1) (ت) و (م): "الذي لانِدّ له". (2) (ت) و (م): "نظير له". (3) (ح) و (ق): "بإذنه".

(1/154)


فصل وعلى حسب نور الإيمان في قلب العبد تَخْرُجُ أعماله وأقواله ولها نورٌ وبرهان، حتى إن من المؤمنين من يكون نور أعماله إذا صعدت إلى الله تبارك وتعالى كَنُورِ الشمس، وهكذا نور روحه إذا قَدِم بها على الله عز وجل، وهكذا يكون نورهُ السّاعي بين يديه على الصراط، وهكذا يكون نور وجهه في يوم القيامة، والله تعالى المستعان وعليه التكلان. السابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأمور، وطريقُ عامَّةِ الطائفة، ومَنْشُور الوَلاية، فمن فُتِح له فيه فقد فُتِح له باب الدخول على الله عز وجل، فَلْيَتَطَهَّرْ، وَلْيَدْخُل على ربه عز وجل يَجِدْ عنده كل ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وَجَد كلَّ شيء، وإن فاته ربه عز وجل فاته كلُّ شيء. الثامنة والثلاثون: أن في القلب خَلَّةً وفاقةً لا يَسُدُّها شيءٌ ألبته إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شِعار القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تَبَعٌ له، فهذا هو الذكر الذي يَسُدُّ الخَلَّة، ويُغْنِي الفاقة، فيكون صاحبه غنيًّا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مَهيبًا بلا سلطان، فإذا كان غافلًا عن ذكر الله عز وجل فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جِدَّتَه، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته. التاسعة والثلاثون: أن الذكر يجمع المتفرِّق، ويفرِّق المُجْتَمِع، ويقرِّب البعيد، ويُبَعِّد القريب؛ فيجمع ما تفرَّق على العبد من قلبه وإرادته،

(1/155)


وهُمومه وعُزُومه، والعذابُ كل العذاب في تَفْرِقَتِها (1) وتشتُّتها عليه، وانفراطها له، والحياةُ كل الحياةِ (2) والنَّعيمُ في اجتماع قلبه وهمِّه، وعزمه وإرادته. ويُفَرِّق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسراتِ على فَوْتِ حُظُوظه ومطالبه. ويُفَرِّقُ أيضًا ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره، حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتَضْمَحِلّ. ويفرِّق أيضًا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان؛ فإن إبليس لا يزال يبعث له سَريّة بعد سَرِيَّة، وكلما كان أقوى طلبًا لله سبحانه وتعالى، وأشدَّ تَعَلُّقًا به وإرادةً له كانت السَّرِيَّةُ أكثف وأكثر وأعظم شوكة، بحسب ما عند العبد من مَوادِّ الخير والإرادة، ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر. وأما تقريبه البعيد؛ فإنه يقرِّب إليه الآخرة التي يُبَعِّدها منه الشيطان والأمل، فلا يزال يَلْهَجُ بالذكر حتى كأنه قد دخلها وحضرها، فحينئذ تَصْغُر في عينه الدنيا، وتَعْظُم في قلبه الآخرة. ويُبَعِّدُ القريب إليه، وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة، فإن __________ (1) (ت) و (م): "تفريقها". (2) "كل الحياة" من (م) فقط.

(1/156)


الآخرة متى قَرُبَتْ من قلبه بَعُدَتْ عنه الدنيا، كلما قَرُبَ من هذه مرحلة بَعُد من هذه مرحلة. ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر، والله المستعان. الأربعون: أن الذكر يُنَبِّه القلب من نومه، ويُوقِظُه من سِنَته، والقلب إذا كان نائمًا فاتَتْهُ الأرباح والمتاجِر، وكان الغالبُ عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نَوْمَتِه شَدَّ المِئْزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تَحْصُلُ يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نومٌ ثقيل. الحادية والأربعون: أن الذكر شجرةٌ تُثْمِر المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلَّها، مِنَ اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام، وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها، كما يُبْنَى الحائط على أُسِّه، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يُمْكِنْه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نومُ القلب أو موتُه. الثانية والأربعون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكورُه معه، وهذه المعية مَعِيَّةٌ خاصةٌ غيرُ مَعِيّةِ العلم والإحاطة العامة، فهي مَعِيَّةٌ بِالقُرْبِ والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

(1/157)


وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر، كما في الحديث الإلهي: "أنا مع عبدي ما ذَكَرَني وتَحَرَّكَتْ بي شَفَتَاهُ" (1) . وفي أثرٍ آخر: "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقَنِّطُهُمْ من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، فإني أُحِبُّ التوابين، وأُحِبُّ المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" (2) . __________ (1) علّقه البخاري في "صحيحه" (13/ 508 - الفتح)، ووصله في "خلق أفعال العباد" (436)، وكذا ابنُ ماجه (3792)، وأحمد (3/ 820 - 821)، وابن المبارك في "الزهد" (393) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحّحه ابن حبان (815)، والحاكم (1/ 496) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: "علل الدارقطني" (9/ 50 - 51)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (2/ 406 - 407)، و"تهذيب الكمال" (35/ 292)، و"تغليق التعليق" (5/ 362 - 364). (2) لم أقف عليه مُسْنَدًا. ونقل ابن عبد الهادي في "العقود الدُّريّة" (343) عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: "يقول الله تعالى في بعض الكتب:. . ." فذكره، فكأنه يريد كتب أهل الكتاب، فهو على هذا من الإسرائيليات. وانظر: "منهاج السنة" (6/ 210)، و"رسالة في تحقيق الشكر" (1/ 116 - جامع الرسائل)، و"التحفة العراقية" (10/ 86 - مجموع الفتاوى)، و"الحسنة والسيئة" (14/ 319 - مجموع الفتاوى). وذكره المصنّف في "مدارج السالكين" (2/ 256)، و"حادي الأرواح" (265).

(1/158)


والمعيةُ الحاصلة للذاكر معيَّةٌ لا يشبهها شيء، وهي أخص من المعية الحاصلة للمُحْسِن والمُتَّقِي، وهي معية لا تدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تُعْلَم بالذَّوْق (1)، وهي مزلّة أقدامٍ إن لم يَصْحَب العبدَ فيها تمييزٌ بين القديم والمُحْدَث، وبين الرب والعبد، وبين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، وإلا وقع في حُلُولٍ يضاهي به النصارى، أو اتحادٍ يضاهي به القائلين بوحدة الوجود، وأن وجود الرب عين وجود هذه الموجودات، بل ليس عندهم ربٌّ وعَبْدٌ، ولا خَلْقٌ وحَقّ، بل الرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخلق المُشَبَّه هو الحَقُّ المُنَزَّه (2)، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. والمقصود: أنه إن لم يكن مع العبد عقيدة صحيحة، وإلا فإذا استولى عليه سلطان الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه؛ وَلَج باب الحُلول والاتحاد ولابُدّ. الثالثة والأربعون: أن الذكر يَعْدِلُ عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، ويَعْدِلُ الضرب بالسيف في __________ (1) انظر: "طريق الهجرتين" (479 - 480)، و"مدارج السالكين" (3/ 91 - 96، 442). (2) هذه عبارة ابن عربي في "الفصوص" (1/ 78). وانظر: "بغية المرتاد" (405)، و"الجواب الصحيح" (4/ 300)، و"مجموع الفتاوى" (2/ 112 - 113، 121 - 122)، و"الصواعق المرسلة" (3/ 931 - 932).

(1/159)


سبيل الله عز وجل (1) . وقد تقدم أن "من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كانت له عدل عشر رقاب، وكُتِبَتْ له مائة حسنة، ومُحِيَتْ عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. . ." الحديث (2) . وذكر ابن أبي الدنيا عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن رجلًا أعتق مائة نسمة. قال: "إن مائة نَسَمةٍ من مال رجلٍ كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمان مَلْزُومٌ بالليل والنهار، وأنْ لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله عز وجل" (3) . وقال ابن مسعود: "لأَنْ أُسَبِّح اللهَ تعالى تسبيحاتٍ أحبُّ إليَّ من أن أنفق عَدَدَهُن دنانير في سبيل الله عز وجل" (4) . __________ (1) "ويعدل الضرب في سبيل الله عز وجل" زيادة من (ح) و (ق). (2) تقدم تخريجه (ص: 102). (3) أخرجه محمد بن فضيل الضبي في "الدعاء" (268)، وأحمد في "الزهد" (136)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 304)، و (13/ 458)، والبيهقي في "الشعب" (2/ 530) وغيرهم، وفي إسناده انقطاع. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 367): "رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا بإسنادٍ حسن". (4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 291)، والحسين المروزي في زوائده على "الزهد لابن المبارك" (405) -وفي المطبوعة تحريف يُصحَّح من رواية "المصنَّف"-، بإسناد جيّد. وأخرجه البيهقيُّ في "الشعب" (2/ 567)، وفي إسناده انقطاع.

(1/160)


وجلس عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: "لأَنْ آخذ في طريقٍ أقولُ فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحبُّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل"؛ فقال عبد الله بن عمرو: "لأَن آخذ في طريقٍ، فأقولهن أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهن على الخيل في سبيل الله عز وجل" (1). وقد تقدَّم حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيكِكُمُ، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الوَرِقِ والذهب، وخيرٍ لكم من أن تَلقَوْا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "ذكر الله" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد (2). الرابعة والأربعون: أن الذكر رأس الشكر، فما شَكَر الله تعالى من لم يذكره. وذكر البيهقيُّ عن زيد بن أسلم، أن موسى عليه السلام قال: "يا رب، قد أنْعَمْتَ عليَّ كثيرًا فَدُلَّني على أن أشكرك كثيرًا" قال: "اذكرني __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 567 - 568) وفي إسناده من لم أعرفه. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 292) مقتصرًا على قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد حسن. وقولُه في آخر الأثر "في سبيل الله عز وجل" ساقط من (ت) و (م)، وهو ثابت في رواية البيهقي و (ح). (2) تقدم تخريجه (ص: 84)، حيث أورده المصنّف من رواية معاذٍ رضي الله عنه.

(1/161)


كثيرًا؛ فإذا ذكرتني كثيرًا فقد شكرتني كثيرًا، وإذا نسيتني فقد كفرتني" (1) . وقد ذكر البيهقي -أيضًا- في كتاب (2) "شعب الإيمان" عن عبد الله بن سلام قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، ما الشكر الذي ينبغي لك؟ فأوحى الله تعالى إليه أن لا يزال لسانك رطبًا من ذكري. قال: يا رب إني أكون على حالٍ أُجِلُّك أن أذكرك فيها. قال: وما هي؟ قال: أكون جنبًا، أو على الغائط، وإذا بُلْتُ. فقال: وإن كان. قال: يا رب، فما أقول؟ قال: تقول: "سبحانك وبحمدك، وجنبني الأذى، وسبحانك وبحمدك، فقني الأذى" (3) . قلتُ: قالت عائشة: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر الله تعالى على كل أحيانه" (4) . ولم تستثن حالة من حالة، وهذا يدل على أنه كان يذكر ربه تعالى في حال طهارته وجنابته. __________ (1) "شعب الإيمان" (2/ 574)، و (8/ 368). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 212) بنحوه، وابنُ المبارك في "الزهد" (330) مختصرًا، ومن طريقه ابن أبي الدّنيا في "الشكر" (18 برقم 39). (2) "كتاب" من (م) فقط، و"أيضًا" من (ح) و (ق). (3) "شعب الإيمان" (2/ 591). (4) أخرجه مسلم (373). وصححه البخاري، كما في "العلل الكبير" للترمذي (360 - ترتيبه). وأعلّه أبو زرعة الرازي كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1/ 51). وانظر: "علل الدارقطني" (5/ ق 50/ ب).

(1/162)


وأما في حال التخلِّي، فلم يكن يشاهده أحد يَحْكِي عنه، ولكنْ شَرَع لأمته من الأذكار قبل التخلِّي وبعده ما يدل على مزيد الاعتناء بالذكر، وأنه لا يُخَلُّ به عند قضاء الحاجة وبعدها، وكذلك شرع لأمته من الذكر عند الجماع أن يقول أحدهم: "بِسْم الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطانَ، وجَنِّب الشَّيطان ما رَزَقْتنا" (1) . وأما الذكر على (2) نفس قضاء الحاجة، وجِماع الأهل فلا ريب أنه لا يُكْرَه بالقلب؛ لأنه لابُدَّ لقلبه مِنْ ذِكر، ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من هو أحبُّ شيءٍ إليه، فلو كُلِّف القلبُ نسيانَه لكان تكليفًا بالمحال، كما قال القائل: يُرَادُ من القَلْب نِسيانُكُم ... وتَأبَى الطِّباعُ عَلى النَّاقِل (3) وأمَّا (4) الذكر باللسان على هذه الحالة، فليس ممَّا شرَعَ لنا، ولا نَدَبَنا إليه رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا نُقِل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم (5) . __________ (1) سيأتي تخريجه (ص: 350). (2) (ح): "وأمّا عند نفس". (3) البيت للمتنبي، في "ديوانه" (2/ 26 - العَرْف الطيّب). (4) (ح): "فأمّا". (5) ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الذكر باللسان في هذه الحالة. قال أبو حاتم الرازي عقب حديث عائشة: "كان يذكر الله على كل أحيانه" -كما في "العلل" لابنه (1/ 51) -: =

(1/163)


وقال عبد الله بن أبي الهذيل: "إن الله تعالى ليُحِبُّ أن يُذكَرَ في السُّوقِ، ويحبُّ أن يذكرَ على كُلِّ حالٍ، إلَّا على الخَلاء" (1) . ويكفي في هذه الحال استشعارُ الحياء، والمراقبة، والنِّعمةِ عليه في هذه الحالة، وهي من أجلِّ الذكر، فذِكْرُ كلِّ حالٍ بحسب ما يليق بها، واللائقُ بهذه الحال التَّقَنُّعُ بثوب الحياء من الله تعالى، وإجلالُه، وذِكرُ نعمته عليه، وإحسانِه إليه في إخراج هذا العَدُوِّ المؤذي له الذي لو بقي فيه لقتله، فالنعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذِّي به. وكان علي بن أبي طالب إذا خرج من الخلاء مسح بطنه، وقال: يا لَها نِعْمَة لو يعلمُ النَّاسُ قدرَها! (2) . وكان بعض السلف يقول: الحمد لله الذي أذاقني لَذَّتَه، وأبقى فِيَّ منفعته، وأذهب عني مَضَرَّتَهُ (3) . __________ = "الذي أرى أن يُذكَر الله على كلّ حال، على الكنيف وغيره، على هذا الحديث". وانظر: "مستخرج أبي عوانة" (1/ 126 - 127)، و"البيان والتحصيل" لابن رشد (2/ 100 - 101)، و"تفسير القرطبي" (4/ 311). (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 359)، وأخرج البيهقيُّ في "الشعب" (2/ 462) بعضه. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (13)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8/ 398 - 399) بإسنادٍ ضعيف جدًّا. (3) أخرجه الطبراني في "الدّعاء" (2/ 967) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بإسنادٍ فيه ضعفٌ وانقطاع، كما قال ابن حجر في "نتائج =

(1/164)


وكذلك ذِكْرُه حال الجماع، ذَكَر هذه النعمة التي مَنَّ بها عليه، وهي من أجلِّ نعم الدنيا، فإذا ذَكَر نعمة الله تعالى عليه بها هاج من قلبه هائج الشكر، فالذكر رأس الشكر. وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ: "والله يا معاذ إني لأُحِبُّك، فلا تَنْس أن تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ: "اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (1). فجمع بين الذِّكرِ والشُّكْر، كما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]، فالذكر والشكر جِماعُ السعادة والفلاح. الخامسة والأربعون: أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين مَنْ لا يزال لسانه رَطْبًا بذكره، فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجَعَل ذكره شعاره. فالتقوى أوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو الثواب __________ = الأفكار" (1/ 219). وأخرجه العقيليُّ في "الضعفاء" (1/ 213 - 214)، والبيهقي في "الشعب" (8/ 399) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "أن نوحًا عليه السلام لم يقم عن خلاءٍ قطّ إلا قال:. . ." فذكره، وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 2) عن إبراهيم التيمي "أنّ نوحًا. . ."، وهو أشبه. (1) أخرجه أبو داود (1517)، والنسائي (1302)، وفي "عمل اليوم والليلة" (109)، وأحمد (7/ 380) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/ 273) على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي.

(1/165)


والأجر. والذِّكرُ يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه، وهذه هي المنزلة. وعُمَّال الآخرة على قسمين: منهم من يعمل على الأجر والثواب، ومنهم من يعمل على المنزلة (1) والدرجة، فهو ينافس غيره الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى، ويسابق إلى القُرْبِ منه. وقد ذكر الله تعالى النوعين في سورة الحديد في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) } [الحديد: 18] فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب، ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] فهؤلاء أصحاب المنزلة والقُرْبِ، ثم قال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فقيل: هذا عطفٌ على الخبر عن {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}، أخبر عنهم بأنهم هم الصّدِّيقون، وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم، ثم أخبر عنهم بخبرٍ آخر، وهو قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}؛ فيكون قد أخبر عنهم بأربعة أمور: أنهم صِدِّيقون، وشهداء، فهذه هي المرتبة والمنزلة، ثمّ أخبر عنهم __________ (1) من قوله "وعمّال الأخرة" إلى هنا، ساقط من (ت).

(1/166)


بأنّ لهم أجرهم ونورهم، فهذا هو الثواب والجزاء (1) . وقيل: بل تم (2) الكلام عند قوله تعالى: {الصِّدِّيقُونَ}، ثم ابتدأ ذِكْرَ حال الشهداء فقال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (3) . فيكون قد ذكر المتصدقين أهلَ البِرِّ والإحسان، ثم المؤمنين الذين قد رسخ الإيمان في قلوبهم وامتلؤوا منه، فهم الصِّدِّيقون، وهم أهل العلم والعمل، والأوَّلُون أهلُ البرِّ والإحسان، ولكنَّ هؤلاء أكملُ صِدِّيقيَّةً منهم. ثم ذكر سبحانه الشهداء، وأنه تعالى يُجري عليهم رزقهم ونورهم؛ لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله تعالى أعاضهم عليها أن جعلهم أحياءً عنده يرزقون، فيجري عليهم رزقهم ونورهم، فهؤلاء السعداء. ثم ذكر الأشقياء فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) } [المائدة: 10 و 86]. والمقصود أنه سبحانه وتعالى ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وَعَدَ بهما فرعونُ السحرةَ إنْ غَلَبُوا موسى عليه __________ (1) من قوله "ثمّ أخبر عنهم" إلى هنا، ساقط من (ح). (2) (ح) و (م): "وقيل: تم". (3) وهذا هو ما مال إليه المصنّفُ وذكر أوجه رُجحانِه في "طريق الهجرتين" (517 - 518).

(1/167)


الصلاة والسلام، فقالوا: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) } [الشعراء: 41 - 42]، أي: أجْمَعُ لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني. فالعمال عَمِلوا على الأجور، والعارفون عَمِلوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله، وأعمالُ هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، أيُّ خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطبًا بذكري. قال: يا رب، أيُّ خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره. قال: يا رب، أيُّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه مثل ما يقضي على الناس. قال: يا رب، أيُّ خلقك أعظم ذنبًا؟ قال: الذي يتَّهِمُني. قال: يا رب، وهل يَتَّهِمُك أحد؟ قال: الذي يستخيرني ولا يَرْضَى بقضائي (1) . وذَكَر أيضًا عن ابن عباس قال: لمّا وفد موسى عليه السلام إلى طور سيناء قال: يا رَبِّ، أيُّ عِبادكَ أحَبُّ إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني (2) . __________ (1) "شعب الإيمان" (2/ 576 - 577). (2) "شعب الإيمان" (2/ 575 - 576). وأخرجه بنحوه الطبريُّ في "التفسير" (18/ 63)، و"التاريخ" (1/ 371)، =

(1/168)


وقال كعب: قال موسى عليه السلام: يَا رَبِّ، أقريبٌ أنْتَ فَأنَاجِيكَ، أم بعيدٌ فأناديك؟ فقال تعالى: يا موسى، أنا جليس من ذكرني. قال: إني أكون على حالٍ أُجِلُّك عنها. قال: ما هي يا موسى؟ قال: عند الغائط والجنابة. قال: اذكرني على كل حالٍ (1) . وقال عبيد بن عمير: تسبيحةٌ بحمد الله في صحيفةِ مؤمنٍ خير له من جبال الدنيا تجري معه ذهبًا (2) . وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: سيعلم أهلُ الجمع مَنْ أولى بالكرم، أين الذين كانت {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)[السجدة: 16]، قال: فيقومون فيَتَخطَّوْنَ رقابَ الْنَّاسِ. قال: ثم ينادي منادٍ: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، أين الذين كانت {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، قال: فيقومون، فيتخطَّوْن رقاب الناس. __________ = والخطيب في "الرحلة في طلب الحديث" (30). (1) أخرجه أحمد في "الزهد" (68)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 212)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 42)، والبيهقي في "الشعب" (2/ 575). (2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (327)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 293)، و (13/ 450)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 272)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 582).

(1/169)


قال: ثم ينادي منادٍ: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم (1) ، أين الحمَّادون للهِ على كل حال؟، قال: فيقومون وهم كثير، ثم تكون التَّبِعَةُ والحسابُ فيمن بقي (2) . وأتى رجلٌ أبا مسلمٍ الخولاني فقال له: أوصني يا أبا مسلم، قال: __________ (1) من قوله "أين الذين كانت لا تلهيهم" إلى هنا، ساقط من (ت). (2) أخرجه معمر في "الجامع" (11/ 294 - مصنف عبد الرزاق)، ومن طريقه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (2/ 582). ورُوِى مرفوعًا من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها. أخرجه هناد في "الزهد" (1/ 265 - 266)، وعبد بن حميد في "مسنده" (1579 - منتخبه)، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" (36 - مختصره) من طريق ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى في "مسنده الكبير" (5/ 107 - المطالب العالية)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/ 468)، والبيهقي في "الشعب" (6/ 428) وفيه ضعف. لكنه ينجبر بشاهده الذي أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 9)، والحاكم (2/ 398 - 399)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (6/ 429 - 430) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا. ورُوِي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما موقوفًا. أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (101 - 102 زوائد رواية نعيم بن حماد)، والطبري في "التفسير" (24/ 417 - 418)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (1122 - زوائده) (ووقع في طبعة الجامعة الإسلامية: "عن ابن عباسٍ رفعه"، وهو خطأ، وصوابه في طبعة السعدني، و"المطالب"، و"الإتحاف"، و"الحلية")، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 62). وحسّن إسناده ابن حجر في "المطالب العالية" (5/ 109)، وتبعه البوصيري في "إتحاف الخيرة" (8/ 162).

(1/170)


اذْكُر الله تعالى تحت كل شجرةٍ ومَدَرَةٍ، فقال: زدني، فقال: اذكر الله تعالى حتى يحسبك الناس من ذِكْر الله تعالى مَجْنُونًا. قال: وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله تعالى، فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى، فقال: أمجنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالجنون يا ابن أخي، ولكن هذا دواء الجنون! (1). السادسة والأربعون: أن في القلب قسوةً لا يُذِيبها إلّا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وذَكَر حماد بن زيد، عن المُعَلَّى بن زياد، أن رجلًا قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أَذِبْهُ بالذِّكر (2). وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة (3) اشتدت به القسوة، فإذا ذكر اللهَ تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار، فما أُذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل. السابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه، __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 584)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 208). (2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" (266)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 588). وفي رواية عبد الله: "أَدْنِه من الذكر. أي: ممّن يذكُر". وعند البيهقي -كما في المطبوعة-: "أدِّبْه بالذكر"، وفي رواية "أدِّبْه من الذكر"، وذكر المحقّق أنّ في إحدى النسخ: "أدْنيه". (3) (ت): "العلّة"، وفي (ق): "القسوة".

(1/171)


فالقلوب مريضة، وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى. قال مكحول: ذِكْرُ الله تعالى شفاء، وذِكْرُ الناس داء (1). وذكره البيهقي عن مكحول مرفوعًا ومرسلًا (2). فإذا ذَكَرَتْهُ شفاها وعافاها، فإذا غفلت عنه انتكست، كما قيل: إذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بذِكرِكُمُ ... فَنتْرُك الذِّكْر أحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ (3) الثامنة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسُها، والغفلة أصل معاداته وأُسُّها (4)، فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه ويعاديه. قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبدٌ ربَّه بشيءٍ أشدَّ عليه من أن يكره ذكره أو من يذكره (5). فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره __________ (1) لم أقف عليه. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 593) من قول ابن عونٍ. قال الذهبيّ في "السّير" (6/ 369) مُعلِّقًا: "إي والله! فالعجب منّا ومن جهلنا كيف نَدَعُ الدواء، ونقتحم الداء؟! ". (2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (2/ 594)، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1389) عن مكحولٍ مرسلًا. وقال البيهقي: "هذا مرسل، ورُوِي عن عمر بن الخطاب من قوله". (3) ذكره المصنّف في "مدارج السالكين" (2/ 440)، ولعلّه له. (4) (ت) و (م): "ورأسُها". (5) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 599 - 600).

(1/172)


من يذكره، فحينئذ يتخذُه عدوًّا كما اتخذ الذَّاكر وَليًّا. التاسعة والأربعون: أنه ما استُجْلِبَتْ نعم الله عز وجل واسْتُدْفِعَتْ نِقَمُه بمثل ذكر الله تعالى، فالذكر جلَّابٌ للنِّعَم، دفّاعٌ للنِّقَم (1)، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي القراءة الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} (2) [الحج: 38]، فَدَفْعُه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادَّةُ الإيمان وقُوَّتُه بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيمانًا، وأكثر ذكرًا كان دَفْعُ الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نَقَصَ نَقَصَ، ذِكْرًا بِذِكْرٍ، ونسيانًا بنسيانٍ. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. والذِّكْرُ رأس الشكر، كما تقدم، والشكرُ جَلَّابُ النِّعَم، ومُوجِبٌ للمزيد. قال بعض السلف رحمة الله عليهم: ما أقبح الغفلة عن ذكر مَنْ لا يَغفُلُ عن بِرِّك! (3). __________ (1) (ت) و (م): "جلّاب النعم، دفّاع النّقم". (2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يَدْفَعُ"، وقرأ الباقون: "يُدافِع". انظر: "التبصرة" لمكيّ بن أبي طالب (601)، و"السبعة" لابن مجاهد (437). وقراءةُ أهل الشام -ومنهم المصنِّف- في ذلك العصر هي قراءة أبي عمرو؛ فلذلك قدَّمها. (3) أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصّوفية" (317) عن مُمشاذ الدينوري، وعنده: "عن ذِكْرك" بدل قوله "عن بِرّك". وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 592) عن محمد بن عبد الوهاب =

(1/173)


الخمسون: أن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر. ومن صلى اللهُ تعالى عليه وملائكتُه فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز، قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 41 - 43]. فهذه الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته إنما هي على الذاكرين له كثيرًا، وهذه الصلاة منه ومن ملائكته هي سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته وأُخْرِجوا (1) من الظلمات إلى النور فأيُّ خيرٍ لم يحصل لهم بذلك؟! وأيُّ شرٍّ لم يندفع (2) عنهم؟! فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حُرِمُوا من خيره وفضله!، وبالله التوفيق. الحادية والخمسون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فَلْيَسْتَوْطِن مجالس الذكر؛ فإنها رياضُ الجنة. وقد ذكر ابن أبي الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله قال: خرجَ علينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا أيُّها النَّاس ارْتَعُوا في رياض الجَنَّة"، قلنا يا __________ = البلخي، وعنده: "عن بِرّك"، كما هو مثبت هنا. (1) (ح): "وإخراجهِم". (2) (ت) و (م): "يُدْفَع".

(1/174)


رسول الله، وما رِياضُ الجنّة؟ قال: "مَجَالسُ الذِّكْر"، ثم قال: "اغْدُوا ورُوحُوا واذْكُروا، فمَنْ كان يُحِبُّ أنْ يعلم منزلَته عندَ الله تعالى فَلينْظُر كيفَ منزلةُ الله تعالى عنده؛ فإن الله تعالى يُنْزِلُ العبد منه حيث أنزلَهُ من نفسه" (1). الثانية والخمسون: أن مجالسَ الذكر مجالسُ الملائكة، فليس مِنْ مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يُذْكَرُ الله تعالى فيه، كما أخرجا في "الصحيحين" من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ للهِ مَلاَئِكَةً فُضُلًا عن كُتَّاب الناس، يَطُوفُون في الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُون أهْل الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكرون الله تعالى تنادَوْا: هَلمُّوا إلى حاجَتِكُم. قال: فيَحُفُّونَهُم بأجْنِحَتِهم إلى السَّمَاء الدُّنْيَا، قال: فيسألُهم ربُّهم تعالى -وهو أعلم بهم-: ما يَقُولُ عِبَادي؟ قال: يقولون: يسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرونَكَ، ويَحْمَدُونَك، ويُمَجِّدُونَكَ. قال: فيقول: هل رَأوْني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رَأوْك. __________ (1) أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (1105 - منتخبه)، وأبو يعلى في "مسنده" (3/ 390 - 391)، و (4/ 106)، والحاكم (1/ 494 - 495) وغيرهم بإسنادٍ فيه ضعف. وصحّحه الحاكم، فتعقبه الذهبيُّ بقوله: "عمرُ ضعيف"، يريد: عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد أورد ابن حبّان حديثه هذا في ترجمته من "المجروحين" (2/ 81) مستدلًّا به على ضعفه. وحسّنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 382)، ولعلّه لشواهده. وانظر ما تقدم (ص: 87).

(1/175)


قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادةً، وأشدَّ لك تحميدًا وتمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: فيقول: ما يسألوني؟ قال: يسألونك الجَنَّة. قال: فيقول: وهل رَأوْها؟ قال: يقولون: لا والله يا رَبِّ، ما رَأوْها. قال: فيقول: فكيف لو أنهم رأوْها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة. قال: فيقول: فمِمَّ يَتَعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشَدَّ لها مَخَافَةً. قال: يقول: فأُشْهِدُكم أني قد غَفَرْتُ لهم. فيقول مَلَكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء لِحَاجة. قال: هم الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بهم جَلِيسُهمْ" (1) . __________ (1) "صحيح البخاري" (6048)، و"صحيح مسلم" (2689). وقوله: "فُضُلًا" تفرّد بها مسلم، ومعناها كما قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 455): "أي: زيادة عن الملائكة المرتَّبين مع الخلائق". وقوله: "عن كُتّاب الناس" لم أجده في رواية الصحيحين، وقد أشار الحافظ في "الفتح" (11/ 215) إلى أنها زيادة عند ابن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان. والمراد بـ"كُتّاب الناس": الملائكة الكرام الكاتبون، وغيرُهم، المرتَّبون =

(1/176)


فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم، فلهم نصيب من قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، فهكذا المؤمن مبارك أين حَلَّ، والفاجر مشؤوم أين حَلّ. فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكلٌّ مضافٌ إلى شكله وأشباهه، وكلُّ امرئ يَصْبُو (1) إلى ما يناسبه. الثالثة والخمسون: أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكتَه، كما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاويةُ على حَلْقَةٍ في المسجد، فقال: ما أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جلسْنَا نَذْكُر الله تعالى. قال: آللهِ ما أجْلَسكُم إلَّا ذاك؟ قالوا: والله ما أَجْلَسَنا إلَّا ذاك. قال: أما إنّي لم أسْتَحْلِفْكُم تُهْمَةً لكم، وما كان أحَدٌ بمنزلتي من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقلَّ عنه حديثًا مني، وإنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: "ما أجْلَسَكُم"؟ قالوا: جلسنا نَذْكُرُ الله تعالى ونحْمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: "آللهِ ما أجْلَسُكُم إلَّا ذاك؟ " قالوا: والله ما أجْلَسَنَا إلَّا ذَاك. قال: "أما إنِّي لم أسْتَحْلِفْكُم تُهْمَةً لكم، ولكنّه أتَاني جبريلُ فأخبرني أنَّ الله تباركَ وتعالى يباهي بِكم الملائكة" (2). __________ = مع الناس. انظر: "تحقة الأحوذي" (10/ 42). (1) (ح): "يصير". (2) "صحيح مسلم" (2701).

(1/177)


فهذه المباهاة من الرب تبارك وتعالى دليلٌ على شرف الذكر عنده، ومحبته له، وأن له مَزِيَّة على غيره من الأعمال. الرابعة والخمسون: أنّ مُدْمِنَ الذِّكْر يدخل الجنة وهو يضحك؛ لما ذكر ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، عن أبيه، عن أبي الدرداء قال: "الذين لا تَزالُ ألسنتهم رَطْبَةً مِنْ ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنّة وهو يَضْحَك" (1). الخامسة والخمسون: أن جميع الأعمال إنما شُرِعَتْ إقامةً لذكر الله تعالى، والمقصودُ بها تحصيلُ ذكر الله تعالى. قال سبحاق وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. قيل: المصدر مُضَافٌ إلى الفاعل، أي: لأذكرك بها. وقيل مضافٌ إلى المذكور، أي: لِتَذْكُرَنِي بها، واللام على هذا لام التعليل. وقيل: هي اللام الوقتية، أي: أقم الصلاة عند ذكري (2)، كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 303)، و (13/ 457)، وأحمد في "الزهد" (136)، والحسين المروزيُّ في زوائده على "الزهد لابن المبارك" (397)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 219)، و (5/ 133) بإسنادٍ حسن. (2) انظر: "تهذيب سنن أبي داود" (6/ 180)، و"مدارج السالكين" (1/ 411)، و"روح المعاني" للآلوسي (8/ 486).

(1/178)


لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وهذا المعنى حقٌّ يراد بالآية (1) ، لَكنَّ تفسيرها به وأنه هو معناها فيه نظر؛ لأن هذه اللام الوقتية يليها (2) أسماء الزمان والظّروف، والذِّكْرُ مصدر، إلا أن يُقَدَّر بزمان محذوف، أي: عند وقتِ ذكرى، وهذا محتمل. والأظهر: أنها لام التعليل، أي: أقمِ الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذَكرَ العبدُ ربَّه فذِكْرُ الله تعالى سابقٌ على ذِكره، فإنه لمّا ذَكَره ألهمه ذِكْرَه، فالمعاني الثلاثة حقّ. وقال سبحانه وتعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. فقيل: المعنى: إنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذَاكِرٌ مَنْ ذَكَره، ولَذِكْرُ اللهِ تعالى إيَّاكُم أكبرُ من ذِكْركم إياه. وهذا يُروى عن ابن عباس، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن مسعود، رضي الله عنهم (3) . وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: هو قول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، فذِكْرُ الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إيَّاه (4) . __________ (1) (م): "وهذا المعنى مراد"، وفي (ق): "وهذا المعنى حق مراد". (2) (ت) و (م) و (ق): "بابُها". (3) انظر: "تفسير الطبري" (20/ 42 - 44)، و"الدر المنثور" (6/ 466 - 467). (4) أخرجه الطبري في "التفسير" (20/ 43).

(1/179)


وقال ابن زيد وقتادة: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء (1) . وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟! {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2) . ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم: "ألَا أنبئُكم بخَيْرِ أعْمَالِكُمْ، وأزْكاها عِندَ ملِيكِكُم، وخيرٍ لكم من إنْفاق الذَّهَبِ والوَرِق. . ." الحديث (3) . وكان شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه يقول: الصحيح (4) أن معنى الآية: أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، وَلما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر (5) . وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر (6) . __________ (1) أخرجه الطبريّ (20/ 45) عن قتادة. (2) أخرجه الطبري (20/ 44). (3) انظر ما تقدّم (ص: 84). (4) "الصحيح" ساقطة من (ت). (5) انظر: "العبوديّة" (10/ 188 - مجموع الفتاوى)، و"مجموع الفتاوى" (10/ 753)، و (15/ 344)، و (20/ 192 - 193)، و (32/ 232)، و"مدارج السالكين" (2/ 443 - 444). (6) أخرجه محمد بن فضيل الضبيّ في "الدعاء" (279)، وابن أبي شيبة في "المصنَّف" (10/ 564 - 565)، و (13/ 370)، ومُسدَّد في "مسنده" =

(1/180)


وفي "السنن" عن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبَيْتِ، وبَيْن الصَّفا والمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الجِمَارِ؛ لإقامة ذِكرِ الله تعالى". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (1). السادسة والخمسون: أن أفضلَ أهلِ كلِّ عملٍ أكثرُهم فيه ذكرًا لله عز وجل، فأفضل الصُّوَّام أكثرُهم ذِكرًا لله عز وجل (2) في صومهم، وأفضل __________ = (3/ 29 - المطالب العالية)، والبيهقي في "الشعب" (4/ 593) بإسنادٍ حسن. (1) أخرجه أبو داود (1883)، والترمذي (902)، وأحمد (8/ 86) وغيرهم من حديث عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها. قال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 66) في ترجمة "عبيد الله بن أبي زياد": "كان ممّن ينفرد عن القاسم بما لا يتابع عليه". ونقل العقيليُّ في "الضعفاء" (3/ 19) عن عمرو بن علي الفلّاس قال: سمعت يحيى [القطان] يقول: سمعتُ عبيد الله بن أبي زياد قال: حدثنا القاسم عن عائشة قالت: "إنما جُعِل الطوافُ بالبيت. . ." [يعني: موقوفًا]. فقلتُ ليحيى: إنّ ابن داود وأبا عاصم يرفعانه. فقال: قد سمعتُ عبيد الله يحدّث به مرفوعًا، ولكني أهابه مرفوعًا، ولكنّي أهابه! ". (وقد تحرّف قوله: "يحدّث به مرفوعًا" إلى "يحدّث من قول علي"! في مطبوعَتَيْ "الضعفاء"). وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 145)، و"تحفة الأشراف" (12/ 279 - 280)، و"سنن الدارمي" (1/ 479). وصحّحه ابن خزيمة (2882)، والحاكم (1/ 459) ولم يتعقبه الذهبي، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (457)، وابنُ عديّ في "الكامل" (4/ 327 - 328) في ترجمة "عبيد الله بن أبي زياد"، ولم يره منكرًا. (2) قوله: "فأفضل الصُّوام أكثرهم ذكرًا لله عز وجل" ساقط من (ت).

(1/181)


المتصدِّقين أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وأفضل الحجاج أكثرهم ذِكرًا لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال. وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثًا مرسلًا في ذلك: أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئل: أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل". قيل: فأيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل". قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل". قيل: فأيُّ الحُجَّاج خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل". قيل: وأي العُوَّادِ (1) خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل". قال أبو بكر: ذهب الذَّاكرون بالخير كلِّه (2) . وقال عبيد بن عمير: إِنْ أعظَمَكم هذا الليلُ أن تُكابِدوه، وبَخِلْتُمْ على __________ (1) وردت هذه اللفظة في (ت) كأنها "العُبّاد"، والمثبت من (ح) و (م) و (ق) ورواية البيهقي في "الشعب"، ولعلّ المقصود: عُوَّاد المرضى. (2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (501) من حديث أبي سعيد المقبري مرسلًا. والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (2/ 451 - 452)، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1366) مرسلًا من وجهٍ آخر. ورُوِي موصولًا من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أخرجه أحمد (5/ 372)، والطبراني في "الكبير" (20/ 186)، و"الدعاء" (3/ 1642) بإسنادٍ ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 74): "وفيه زبّان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات".

(1/182)


المال أن تُنْفِقُوه، وجَبُنْتُم عن العدوِّ أن تقاتلوه = فَأكْثِروا من ذِكْرِ الله عز وجل (1). السابعة والخمسون: أنّ إدامة الذكر تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنيّة، أو ماليّة، أو بدنية مالية كحج التطوع. وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بالدَّرجَاتِ العُلى، والنَّعيم المُقيم، يُصلُّونَ كما نُصلِّي ويَصُومُونَ كما نَصُومُ، ولهُمْ فَضْلُ أمْوال يَحُجُّون بها، ويَعْتَمِرُون، ويجاهِدُون. فقال: "ألا أعَلِّمُكُم شَيْئًا تُدْرِكُون به مَنْ سبَقَكُم، وتَسْبِقُون به من بَعْدَكُم، ولا أحَد يكُونَ أَفْضلَ مِنْكُم إلا من صنع مِثْلَ ما صنَعْتُم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "تُسَبِّحُون، وتَحْمَدُون، وتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كلِّ صلاة. . ." الحديث. متفق عليه (2). فجعل الذِّكر عِوَضًا لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنهم يَسْبِقُونَهُم (3) بهذا الذِّكر، فلما سمع أهل الدُّثُور بذلك عملوا به، فازدادوا -إلى صدقاتهم وعباداتهم بمالهم- التعبُّدَ بهذا الذِّكر، فحازوا __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 392)، وأحمد في "الزهد" (378 - 379)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 267 - 268). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 391 - 392) -أيضًا- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بإسنادٍ حسن. (2) "صحيح البخاري" (834، 6329)، و"صحيح مسلم" (595). (3) (ت) و (م): "يسبقون".

(1/183)


الفضيلتين، فنافسهم الفقراء وأخبروا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنهم قد شاركوهم في ذلك، وانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال: "ذَلكَ فَضْلُ الله يُؤتِيه من يَشَاء". وفي حديث عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، كثرت عليَّ خِلال الإسلام وشرائِعُه، فأخبرني بأمرٍ جامعٍ يكفيني. قال: "عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله تعالى" قال: ويكفيني يا رسول الله؟ قال: "نعم، ويَفْضُلُ عنْكَ" (1). فَدَلَّهُ الناصح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على شيءٍ يَبْعَثُه على شرائع الإسلام والحرص عليها والاستكثار منها، فإنه إذا اتخذ ذكر الله تعالى شعاره أحَبَّه وأحبَّ ما يُحِبّ، فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فلذلك دَلَّه (2) -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما يَتَمَكَّن به من شرائع الإسلام، وتسهل به عليه، وهو ذكر الله عز وجل. يوضِّحُه: الثامنة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته؛ فإنه يُحَبِّبُها إلى العبد، ويُسَهِّلها عليه، ويُلَذِّذُها له، ويجعل قرة عينه فيها، ونعيمَه وسرورَه بها، بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثِّقَل ما يجد الغافل، والتجربة شاهدة بذلك. يوضِّحُه: التاسعة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل يُسَهِّل الصَّعْب، ويُيَسِّر العسير، __________ (1) تقدم تخريجه (ص: 86)، وأخرجه باللفظ المذكور هنا ابنُ أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 51). (2) (ح) و (ق): "فدلّه".

(1/184)


ويُخفِّفُ المَشَاقَّ، فما ذُكِر الله عز وجل على صعبٍ إلا هان، ولا على عَسيرٍ إلا تَيَسَّر، ولا مشقَّةٍ إلا خَفَّتْ، ولا شِدَّةٍ إلَّا زَالت، ولا كُرْبَةٍ إلا انفرجت، فَذِكْرُ الله تعالى هو الفرج بعد الشدة، واليُسْرُ بعد العُسْرِ، والفرج بعد الغم والهم. يوضحه: الستون: أن ذكر الله عز وجل يُذْهِب عن القلب مَخَاوِفَه كلَّها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل، فإنّه (1) بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه، حتى كأن المخاوفَ التي يحذرها (2) أمانٌ له، والغافلُ خائف مع أَمْنِه، حتى كأنَّ ما هو فيه من الأمنِ كلِّه مخاوفٌ، ومَنْ له أدنى حِسٍّ قد جَرَّبَ هذا وهذا. والله المستعان. الحادية والستون: أن الذكر يُعْطِي الذَّاكر قُوَّةً، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يُطِيق فِعْلَه بدونه، وقد شاهدتُ من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في مِشْيته (3)، وكلامه، وإقدامه، وكتابته، أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جُمعة أو أكثر، وقد شاهد العَسْكرُ من قُوَّتِه في الحرب أمرًا عظيمًا. وقد علَّم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابنته فاطمة وعليًّا -رضي الله تعالى عنهما- أن يسبِّحا كل ليلة إذا أخذا مضاجِعَهما ثلاثًا وثلاثين، ويَحْمَدا ثلاثًا __________ (1) (ح): "إذْ". (2) (ت): "التي يجدها"، وفي (م): "كأن المخاوف يجدها أمانًا له". (3) (ت) و (ق): "مَشْيه"، وفي (ح): "سننه"، وهو خطأ.

(1/185)


وثلاثين، ويكبِّرا أربعًا وثلاثين؛ لمَّا سألَتْهُ الخَادِمَ، وشكَتْ إليه ما تقاسيه من الطَّحْنِ والسَّعْي (1) والخِدْمَةِ، فعلَّمها ذلك، وقال: "إنَّه خَيْرٌ لكما من خادم" (2) . فقيل: إنَّ (3) من داوم على ذلك وجد قوةً في بدنه مُغْنِيةً عن خادم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرًا في هذا الباب، وهو (4) : أنَّ الملائكة لما أُمِروا بِحَمْلِ العرش قالوا: يا ربنا، كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم (5) ، فلما قالوها حملوه (6) ، حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح قال: حدثنا مَشْيَخَتُنا أنه بلغهم: أنَّ أول ما خلق الله عز وجل -حين كان عرشه على الماء- حَمَلَةَ العرش قالوا: ربنا لِم خلَقْتنَا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي. قالوا: ربَّنا، وَمَنْ يَقْوَى على حملِ عرشِكَ وعليه عظَمَتُك وجلالُك وَوَقارُك؟ قال: لذلك خلقتكم. فأعادوا عليه ذلك مرارًا، فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. فحملوه (7) . __________ (1) (ت): "ومن السعي". (2) أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727) من حديث عليٍّ رضي الله عنه. (3) "إنّ" من (ح) و (ق). (4) (ح): "ويقول". (5) "العليّ العظيم" ليست في (ح). (6) انظر: "نقض التأسيس" (1/ 568)، و"التحفة العراقية" (10/ 33 - مجموع الفتاوى)، و"الردّ الوافر" لابن ناصر الدين (69). (7) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "ردّه على المريسي" (104). وأخرج الطبريُّ في "التفسير" (23/ 583 - 584) نحوه عن ابن زيدٍ قال: =

(1/186)


وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِّ، والدخول على المُلوك، وَمْن يُخاف، وركوب الأهوال. ولها أيضًا تأثير عجيب (1) في دفع الفقر، كما روى ابن أبي الدنيا عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أسد بن وداعة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله مائة مرَّة في كل يوْم لم يُصِبْه فَقْرٌ أبَدًا" (2) . وكان حبيب بن مسلمة يستحب إذا لقي عدُوًّا، أو ناهَضَ حصْنًا قَوْلَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلَّا بالله. وإنَّهُ نَاهَضَ يومًا حِصْنًا فانهزم الرُّوم (3) ، فقالها المسلمون وكبَّروا، فانْصَدَعَ الحِصْن (4) . __________ = قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ". . . ." فذكره هكذا معلَّقًا. وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (3/ 955 - 956) من قولِ وهب بن منبّه. وهو من الإسرائيليات. (1) "عجيب" ساقطة من (ت) و (ح) و (ق). (2) لم أقف عليه. وهو على كلِّ حالٍ مرسلٌ، وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 441)، و"عجالة الإملاء" للنّاجي (317)، و"ضعيف الترغيب والترهيب" للألباني (1/ 486 - 487). (3) (ح): "ناهض يومًا حصنًا للروم فانهزم فقالها. . ."، وفي (م): "ناهض حصنًا فانهزم الروم فقالها. . .". (4) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوّة" (6/ 113)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ 77).

(1/187)


الثانية والستون: أن عُمَّال الآخرة في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القَتَر والغبار يمنع من رؤية سَبْقِهم، فإذا انجلى الغبار وانكشفَ رآهم الناس وقد حازوا قَصَبَ السَّبْق. قال الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن عجلان: سمعت عمر مولى غفرة يقول: إذا انكَشَف الغِطَاءُ (1) [للنَّاس] يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يَرَوْا عملًا أفضل ثوابًا من الذِّكْر، فَيَتَحَسَّرُ عند ذلك أقوامٌ، فيقولون: ما كان شئ أيْسر علينا من الذِّكْر. وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سيرُوا، سَبَقَ المُفَرِّدُونَ (2) " قالوا: وما المُفَرِّدُونَ؟ قال: "الذين أُهْتِرُوْا في ذِكْرِ الله تعالى، يَضَعُ الذكرُ عنهم أوزارَهم" (3). __________ (1) (ت) و (م): "الغبار"، وما بين المعكوفين ليس في الأصول التي بين يديّ، والسّياق يقتضيه، والأثر لم أقف عليه. (2) ضَبطَها بعضُهم: "المُفْرَدون" بالتخفيف. انظر: "تصحيفات المحدثين" للعسكري (1/ 1/ 269)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 7). (3) أخرجه الترمذي (3596)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 403)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 15) في ترجمة راويه "عمر بن راشد"، وهو ضعيف الحديث، وخاصّة في يحيى بن أبي كثير، وحديثه هذا عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". ورُوِى من وجهٍ أحسن من هذا، وليس فيه قوله "يضع الذكر عنهم أوزارهم". أخرجه أحمد (3/ 250)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 448 - 449) والبيهقي في "الشعب" (2/ 402 - 403)، وصحّحه الحاكم (1/ 495)، ولم يتعقبه الذهبي، وذكر البخاريُّ أنّه أصحُّ من الوجه السابق، =

(1/188)


أُهْتِرُوا بالشيء وفيه: أُولِعُوا به ولَزِمُوه وجعلوه دَأْبهم. وفي بعض ألفاظ الحديث: "المُسْتَهْتَرُون بذِكْرِ الله". ومعناه: الذين أُولِعوا به. يقال: استُهْتِرَ فلانٌ بكذا؛ إذا أُولِع بِه. وفيه تفسير آخر: أنّ "أُهْتِرُوا في ذكر الله" أي: كَبُروا وهَلَكَ أقرانُهم وهم في ذكر الله تعالى (1) . يقال: أَهْتَرَ الرجلُ (2) ، فهو مُهْتِر: إذا أَسْقَطَ في كلامه من الكِبَر. والهِتْرُ: السَّقَطُ من الكلام؛ كأنه بقي في ذكر الله تعالى حتى خَرِفَ وأنكر عقله. والهِتْرُ: الباطل أيضًا. ورجل مُسْتَهْتَر (3) : إذا كان كثير الأباطيل. وفي حديث ابن عمر: "أعوذ بالله أن أكون من المُسْتَهْتَرين" (4) . __________ = وتبعه على ذلك البيهقي. ورُوِي من وجهٍ آخر ضعيفٍ. أخرجه أبو القاسم التيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1353). وأصلُ الحديث في "صحيح مسلم" (2676). (1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 321 - 322)، و"الزاهر" لابن الأنباري (2/ 203 - 204)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 234). (2) (ت) و (م): "أهتر الرجل يهتر". (3) وما يجري على ألسنة عامة الناس مِنْ قولهم: "مُسْتَهْتِر" (بالبناء للمعلوم) = معدودٌ من أخطائهم. انظر: "معجم الأخطاء الشائعة" للعدناني (257). وانظر: "المفضّليات" (148 - ط المعارف)، وقارن بـ "شرح اختيارات المفضّل" للخطيب التبريزي (2/ 702). (4) لم أقف عليه. وانظر: "النهاية في غريب الحديث" (5/ 242).

(1/189)


وحقيقة لفظ الاستهتار: الإكثار من الشيء، والولوع به، حقًّا كان أو باطلًا، وغلب في عُرفِ الناس (1) استعماله على المُبْطِل، حتى إذا قيل: فلان مُسْتَهْتَر، لا يُفْهَم منه إلا الباطل. وإنما إذا قُيِّد بشيءٍ تقيَّدَ به، نحو: هو مُسْتَهْتَر، أو قد أُهْتِرَ في ذكر الله تعالى؛ أي: أُولِع به وأُغْرِيَ به. ويقال: استُهْتِرَ فيه وَبِه. وتفسير هذا في الأثر الآخر: "أكْثِرُوا ذِكْرَ الله تعالى حتى يُقال: مجْنُونٌ" (2). الثالثة والستون: أن الذكر سببٌ لتصديق الرب عز وجل عبدَه، فإنه خَبَرٌ (3) عن الله تعالى بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدَّقه ربُّه، ومن صدَّقه الله تعالى لم يُحْشَرْ مع الكاذبين، ورُجِيَ له أن يُحْشَر مع الصادقين. روى أبو إسحاق عن الأغَرِّ أبي مسلم، أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا قال العَبْدُ: لا إله إلا الله والله أكبر، قال: يقول الله تبارك وتعالى: صَدَقَ عَبْدِي. لا إله إلا أنا، وأنَا أكْبَرُ. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وَحْدي. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: صدق عبدي، لا إله إلّا أنا، ولا شريك لي. وإذا قال: لا __________ (1) "في عُرفِ الناس" من (م) فقط. (2) تقدم تخريجه (ص: 93). (3) (ح): "اخبر".

(1/190)


إله إلّا الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي، لا إله إلّا أنا، لي الملك ولي الحمد. وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي". قال أبو إسحاق: ثم قال الأغرُّ شيئًا لم أفهَمْهُ. قلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: "مَنْ رُزِقَهُنَّ عند مَوْته لم تَمَسَّهُ النَّار" (1). الرابعة والستون: أَنَّ دُورَ الجنّة تُبْنَى بالذكر، فإذا أَمْسَكَ الذاكرُ عن الذكر أَمْسَكتِ الملائكةُ عن البناء، فإذا أَخَذَ في الذكر أخذوا في البناء. وذكر ابن أبي الدنيا في كتابه، عن حكيم بن محمد الأخنسي قال: بلغني أن دُورَ الجنة تُبْنَى بالذكر، فإذا أُمْسِكَ عن الذكر أَمْسَكُوا عن البناء، فيقال لهم، فيقولون (2): حتى تأتينا نفقة (3). __________ (1) أخرجه الترمذي (3430)، وابن ماجه (3794)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (30) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن الأغرّ أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد بنحو هذا الحديث بمعناه، ولم يرفعه شعبة". وأعلّه بمثل ذلك النسائي، وانظر: "علل الدارقطني" (8/ 332 - 333). وصحّحه ابن حبان (851)، والحاكم (1/ 5) فتعقّبه الذهبيُّ بقوله: "أوقفه شعبة وغيره". ومثلُ هذا ممّا لا يُقال بالرأي، فله حكم الرفع، والله أعلم. (2) (ت): "فيقولوا". (3) كتابُ ابن أبي الدّنيا في "الذكر" لم يُطبع حتى الآن، ولم أر من أشار إلى شيءٍ من نسخه الخطّية.

(1/191)


وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: قال: "مَنْ قالَ: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم -سبع مرات- بُنيَ له بُرْجٌ في الجنّة" (1). وكما أن بناءها بالذكر، فَغِراسُ بساتينها بالذكر، كما تقدم في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إبراهيم الخليل عليه السلام: "أن الجنة طَيِّبةُ التُّرْبَة، عَذْبَةُ الماء، وأنَّها قِيعَان، وَأنَّ غِراسَها: سُبْحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (2). فالذكرُ غِراسُها وبناؤها. وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أكثروا مِنْ غِراس الجنة" قالوا: يا رسول الله، وما غِراسُها؟ قال: "ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله" (3). الخامسة والستون: أنَّ الذكر سَدٌّ بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى __________ (1) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 522) موقوفًا بإسنادٍ ضعيف. وانظر: "الجرح والتعديل" (4/ 76). (2) انظر (ص: 101). (3) أخرجه الخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/ 417) من طريق ابن أبي الدنيا، والطبرانى في "الكبير" (12/ 279) بإسنادٍ ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 98): "وفيه عقبة بن عليّ، وهو ضعيف". وورد الحديث عند الطبراني مقتصرًا على "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ولفظه عند الخطيب: "لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

(1/192)


جهنم طريقٌ من عملٍ من الأعمال كان الذكر سَدًّا في تلك الطريق، فإذا كان (1) ذِكْرًا دائمًا كاملًا كان سَدًّا مُحْكَمًا لا مَنْفَذَ فيه، وإلا فَبِحَسَبِه. قال عبد العزيز بن أبي رَوَّاد: كان رجل بالبادية قد اتخذ مسجدًا، فجعل في قِبْلته سبعة أحجار، وكان إذا قضى صلاته قال: يا أحجار! أُشْهِدُكم أن لا إله إلا الله. قال: فمرض الرجل، فَعُرِجَ بروحه. قال. فرأيت في منامي أنه أُمِر بي إلى النار. قال: فرأيت حجرًا من تلك الأحجار أعرفه قد عَظُم، فَسَدَّ عني بابًا من أبواب جهنم. قال: ثم أُتِي بي إلى الباب الآخر، فإذا حجرٌ من تلك الأحجار أعرفه قد عَظُم، فسَدَّ عني بابًا من أبواب جهنم (2)، حتى سَدَّتْ عني بقيةُ الأحجار أبوابَ جهنم (3). السادسة والستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، كما روى حسين المعلِّم، عن عبد الله بن بريدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أَجِدُ في كتاب الله المُنزل: أن العبد إذا قال: "الحمد لله" قالت الملائكة: "رَبِّ العالمين"، وإذا قال: "الحمد لله ربِّ العالمين" قالت الملائكة: "اللَّهُمَّ اغفِرْ لِعَبْدِك"، وإذا قال: "سُبْحَانَ الله" قالت الملائكة: "وَبِحَمْدِه"، وإذا قال: "سبحان الله وبحمده" قالت الملائكة: "اللَّهُمَّ اغفِرْ لِعَبْدِك"، وإذا قال: "لا إله إلا الله" قالت الملائكة: "والله أكبر"، وإذا قال: "لا إله إلا الله والله أكبر" __________ (1) (ت) و (ق): "فإن كان". (2) من قوله: "قال ثم أُتِي بي" إلى هنا، ساقط من (ت). (3) أخرجه أبو القاسم التيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (2515).

(1/193)


قالت الملائكة: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ" (1). السابعة والستون: أنَّ الجبال والقفَار تَتَباهى، وتَسْتَبْشِر بمن يذكر الله عز وجل عليها. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: أَمَرَّ بك اليوم أحد يذكر الله عز وجل؟ فإذا قال: "نعم" اسْتَبْشَر (2). وقال عون بن عبد الله: إن البقاع لينادي بعضها بعضًا: يا جارتاه! أَمَرَّ بِكِ اليوم أحد يذكر الله؟ فقائلة: نعم، وقائلة: لا (3). وقال الأعمش عن مجاهد: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان! هل مَرَّ بك اليوم ذاكرٌ لله عز وجل؟ فَمِنْ قائلٍ: لا، ومِنْ قائلٍ: نعم (4). __________ (1) انظر: ما تقدم (ص: 191) في التعليق (3). (2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (112 - 113) , وابن أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 305)، والطبراني في "الكبير" (9/ 103)، والبيهقي في "الشعب" (2/ 433 - 434، 581) بإسنادٍ حسن. (3) أخرج ابنُ أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" (5/ 2252) -، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1717)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 242) عن ابن عونٍ قريبًا من المرويّ آنفًا عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه. (4) ورد بعضه عن أنس رضي الله عنه موقوفًا عند ابن أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 365)، وابن المبارك في "الزهد" (113). ورُوِي عنه مرفوعًا، ولا يصحّ. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 177)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 174 - 175).

(1/194)


الثامنة والستون: أنَّ كثرة ذكر الله عز وجل أمانٌ من النفاق؛ فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل (1). قال الله عز وجل في المنافقين: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. وقال كعب: مَنْ أَكْثَر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق (2). ولهذا -والله أعلم- ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]؛ فإن في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل، فوقعوا في النفاق. وسُئِل بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عن الخوارج: أمنافقون هم؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلًا (3). __________ (1) (ت) و (م) و (ق): "فالمنافق قليل الذكر لله عز وجل". (2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 469 - 470). ورُوِى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/ 86)، و"الصغير" (2/ 172)، وأبو موسى المديني في "اللطائف من دقائق المعارف" (387 - 388)، ولا يصحّ. انظر: "لسان الميزان" (5/ 195)، و"مجمع الزوائد" (10/ 79)، و"السلسلة الضعيفة" (890). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (15/ 256 - 257، 332)، وعبد الرزاق في "المصنّف" (10/ 150)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 543 - 544) وغيرهم بأسانيد بعضها صحيح.

(1/195)


فهذا من علامة النفاق: قِلَّةُ ذِكْرِ الله عز وجل. وكثرةُ ذكره أمانٌ من النفاق، واللهُ عز وجل أكرمُ من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوبٍ غفلت عن ذكر الله عز وجل. التاسعة والستون: أن للذكر من بين الأعمال لَذّةً لا يشبهها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذةُ الحاصلة للذاكر، والنعيمُ الذي يحصل لقلبه لكفى به، ولهذا سُمِّيَتْ مجالسُ الذكر رياضَ الجنة. قال مالك بن دينار: ما تَلَذَّذَ المُتَلَذِّذُون بمثل ذكر الله عز وجل (1). فليس شيء من الأعمال أخفُّ مؤونةً منه، ولا أعظم لذة، ولا أكثر فرحة وابتهاجًا للقلب. السبعون: أنه يكسو الوجه نُضْرةً في الدنيا، ونورًا في الآخرة، فالذاكرون أَنْضَرُ الناسِ وجوهًا في الدنيا، وأَنْوَرُهُم في الآخرة. ومن المراسيل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ قال كل يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ أتى الله تعالى (2) يوم القيامة ووجهه أشدُّ بياضًا من القمر ليلة البدر" (3). __________ (1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 589). وأخرجه أحمد في "الزهد" (321)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 358) بلفظ: "ما تنعّم المتنعّمون. . .". (2) (ت): "أتى يوم القيامة. . ."، وفي (م): "أتى الله ووجهه .. ". (3) أخرجه بنحوه الطبراني في "مسند الشاميّين" (2/ 103) عن أبي الدرداء رضي =

(1/196)


الحادية والسبعون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع = تكثيرَ الشهود للعبد يوم القيامة؛ فإن البقعة، والدار، والجبل، والأرض تشهد (1) للذاكر يوم القيامة. قال الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 1 - 5] فروى الترمذي في "جامعه" من حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) قال: "أَتَدْرُونَ ما أخْبارُها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنَّ أخْبارها أنْ تشهدَ على كُلِّ عَبْدٍ أوْ أَمَةٍ بما عَمِلَ على ظَهْرِها، تقول: عَمِل يوم كذا، كذا وكذا" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (2). __________ = الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 86): "وفيه عبد الوهاب بن الضحاك, وهو متروك". وأخرجه أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (2513) عن ابن أبي عياش، من قوله، إلّا أنه قال: "مائتي مرة". (1) (ت) و (م): "يشهدون". (2) أخرجه الترمذي (2429، 3353)، وأحمد (3/ 382)، والنسائي في "التفسير" من "الكبرى" (10/ 342) وغيرهم. ومدارُه عندهم جميعًا على "يحيى بن أبي سليمان"، وهو ضعيف. وقال الترمذي -كما في "تحفة الأشراف" (9/ 501) -: "حسن غريب صحيح"، وفي مطبوعة "جامع الترمذي" في الموضع =

(1/197)


والذاكرُ لله عز وجل في سائر البقاع يَكْثُرُ شهوده (1)، ولعلهم أو أكثرهم أن يقبلوا يوم قيام الأشهاد (2)، وأداء الشهادات، فيفرح ويغتبط بشهادتهم. الثانية والسبعون: أن في الاشتغال بالذكر اشتغالًا عن الكلام الباطل من الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس، وذَمِّهم، وغير ذلك، فإن اللسان لا يسكت ألبتة؛ فإما لسانٌ ذاكرٌ، وإمَّا لِسَانٌ لاغٍ، ولابد من أحدهما. فهي النفسُ إن لم تَشْغَلْها بالحق وإلا شَغَلَتْكَ بالباطل، وهو القلب إنْ لم تَسْكُنه محبةُ الله عز وجل، سَكَنَتْهُ محبة المخلوقين ولابُدّ، وهو اللسان إنْ لم تشغله بالذكر شغلك باللغو، وهو عليك ولابُدّ، فاختر لنفسك إحدى الخُطَّتين، وأَنْزِلْها في إحدى المنزلتين. الثالثة والسبعون: وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارة (3)، فنذكرها هاهنا مبسوطةً لعظيم الفائدة بها، وحاجة كل أحدٍ، بل ضرورتُه __________ = الأوّل: "حسن غريب"، وفي الموضع الثاني: "حسن صحيح" .. وصححه ابن حبان (7360)، والحاكم (2/ 256، 532) فتعقبه الذهبيُّ فى الموضع الثاني بقوله: "قلتُ: يحيى هذا منكر الحديث، قاله البخاري". (1) (ح) و (ق): "مكثر شهوده". (2) كذا في (ت) و (م) و (ق)، وفي (ح): "يقبلوا يوم القيامة قيام الأشهاد. . ."، أي: يقبلوا الشهادة له، وفي بعض مطبوعات الكتاب: "يقبلوه يوم القيامة يوم قيام الأشهاد"، والمعنى على كلٍّ ظاهر. (3) "وأشرنا إليها إشارة" من (ح) و (ق)، وفي (م): "وأشرنا إليها".

(1/198)


إليها، وهي أن الشياطين قد احْتَوَشَتْ العبد، وَهُمْ أعداؤه، فما ظنك برجل قد احْتَوَشه أعداؤه المُحْنِقُون عليه غيظًا، وأحاطوا به، وكُلٌّ منهم يناله بما يقدر عليه من الشَّرِّ والأذى؟! ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عز وجل. وقد جاء في هذا الحديث العظيم، الشريفِ القدر، الذي ينبغي لكل مسلم أن يحفظه، فنذكره بطوله لعموم فائدته، وحاجة الخلق إليه، وهو حديث سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب (1) قال: خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا، ونحن في صُفَّةٍ بالمدينة، فقام علينا وقال: "إني رأيْتُ البارِحَة عَجَبًا: رأيتُ رجلًا من أمَّتي أتاه مَلَكُ الموت ليَقْبِض رُوحَهُ فجاءه بِرُّه بوالِدَيْه فردَّ مَلَك الموت عنه، ورأيت رجلًا قد بُسِط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤُه فاستنقذه من ذلك، ورأيتُ رجُلًا من أمَّتي قد احْتَوَشَتْه الشياطين فجاءه ذكْرُ الله عز وجل فطرد الشيطان عنه، __________ (1) في (ح) و (ق) وبعض مطبوعات الكتاب: "جندب"، وهو خطأ. وعبد الرحمن بن سمرة هو ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي. انظر: "جمهرة النسب" لابن الكلبي (55)، و"نسب قريش" للمصعب الزبيري (150)، و"جمهرة أنساب العرب" لابن حزم (74)، و"الإصابة" لابن حجر (4/ 310) وغيرها. أمّا سمرة بن جندب فهو ابن هلال بن حريج الفزاري، وكان من حلفاء الأنصار. انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم (259)، و"الإصابة" لابن حجر (3/ 178 - 179) وغيرها.

(1/199)


ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاتُه فاستنقذته من أيديهم، ورأيتُ رجلًا من أمَّتي يلتهب -وفي رواية: يلهث- عَطَشًا، كلَّما دنا من حوضٍ مُنِعَ وطُرِد، فجاءه صيامه شهر رمضانَ فأسْقَاهُ وأرْوَاهُ، ورأيتُ رجلًا من أمَّتي ورأيت النَّبَيِّين جُلوسًا حِلَقًا حِلَقًا، كلما دنا إلى حَلْقَةٍ طُرِدَ، فجاءه غُسْلُه من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبي، ورأيتُ رجلًا من أمتي بين يديه ظُلْمَة، ومن خلفه ظُلْمَة، وعن يمينه ظُلْمَة، وعن يساره ظُلْمَة، ومن فوقه ظُلْمَة، ومن تحته ظُلْمَة، وهو متحيِّر فيها، فجاءه حجُّه وعُمرتُه فاستخرجاه من الظلمة، وأدخلاه في النور، ورأيت رجلًا من أمَّتي يتَّقي بيده وَهَجَ النار وشَرَرها (1) فجاءته صدقته فصارت سُتْرةً بينه وبين النار، وظلَّلَتْ على رأسه، ورأيتُ رجلًا من أمتي يُكَلِّم المؤمنين ولا يكلِّمونه، فجاءته صِلَتُه لِرَحِمِه فقالت: يا معشر المسلمين! إنه كان وَصُولًا لِرَحِمِه فَكلِّمُوه، فَكَلَّمَه المؤمنون وصافَحُوه وصافَحَهُم، ورأيتُ رجلًا من أمَّتي قد احْتَوَشَتْه الزَّبانِيَةُ، فجاءه أمره بالمعروف ونَهْيُه عن المنكر فاسْتَنْقَذَه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلًا من أمتي جاثيًا على رُكْبَتَيْه، وبينه وبين الله عز وجل حجاب، فجاءه حُسْنُ خُلُقِه، فأخذه بيده فأدخله على الله عز وجل، ورأيتُ رجلًا من أمتي قد ذهبَتْ صحيفته من قِبَل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلًا من أمتي خَفَّ __________ (1) (ت) و (ح): "وشرره".

(1/200)


ميزانُه، فجاءه أفراطُه فَثَقَّلُوا ميزانه، ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلًا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط يرعد كما ترعد السَّعَفَة في ريحٍ عاصف، فجاءه حُسْنُ ظَنِّه بالله عز وجل فسكَّن رِعْدَتَهُ ومضى، ورأيتُ رجلًا من أمتي يَزْحَفُ على الصراط ويحبو أحيانًا، ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلًا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلِّقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب، وأدخلته الجنة" (1) . رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب __________ (1) هذا الحديث يرويه عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وعنه: مجاهد، وسعيد بن المسيب. فأمّا رواية مجاهد: فأخرجها أبو القاسم التّيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1049، 1205، 2440)، والطبراني في "الكبير" ("جامع المسانيد" لابن كثير: 8/ 333، وسقط منه ذكر مجاهد)، والباغبان في "فوائده" ("المداوي": 3/ 38 - 39)، ومن طريقه تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية" (1/ 163 - 165). قال ابن مندة: "هذا حديث غريب بهذا الإسناد، تفرد به خالد بن عبد الرحمن عن عمر بن ذر". وخالد بن عبد الرحمن هذا اختلفت المصادر السابقة في نِسْبته، فنُسب عند الطبراني: "المخزومي"، والمخزوميُّ ضعيف، وبه أَعلَّ الهيثمي هذه الطريق في "المجمع" (7/ 189). =

(1/201)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = ونُسب عند الباغبان -ومن طريقه ابن السبكي-: "السلمي"، والسلميُّ صدوق لا بأسَ به. ويغلب على ظنّي أنه لا هذا ولا ذاك، وأنه "الخراساني"، وهو ثقة. وقد عدّ ابن عديّ "المخزوميَّ" و"الخراسانيَّ" واحدًا، وفرّق بينهما العقيليُّ وغيره، وهو الأقرب، وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحريرٍ وبيان. ومجاهد كثير الإرسال عن الصحابة، ولم أقف له على سماعٍ من عبد الرحمن بن سمرة، ولا رأيتُ من أثبته له. وأمّا رواية سعيد بن المسيّب، فقد رواه عن سعيد جماعة: علي بن زيد بن جدعان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن أبي عبد الله، وهلال أبو جبلة. * علي بن زيد بن جدعان (وفيه ضعف): وعنه: مخلد بن عبد الواحد، وهلال بن عبد الرحمن، وأبو عبد الله المديني، والوزير بن عبد الرحمن. فأما رواية مخلد بن عبد الواحد: فأخرجها بحشل في "تاريخ واسط" (189)، وابن بشران في "الأمالي" (250)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 44)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 210). ولا تصحّ؛ فإن مخلد بن عبد الواحد ضعيف منكر الحديث، وقد أورد ابن حبان حديثه هذا في ترجمته من "المجروحين" مستدلًّا به على ضعفه. وبه وبعلى بن زيد بن جدعان أعلّ ابن الجوزي هذه الرواية. وأمّا رواية هلال بن عبد الرحمن: فأخرجها الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (1/ 67 مختصرًا، وتصحّف اسم هلال في المطبوعة فلم تجد له المحققة ترجمة)، وابن شاذان في "مشيخته" ("المداوي": 3/ 41). ولا تصحّ؛ فإنّ هلالًا منكر الحديث، وقد أورد حديثه هذا العقيليُّ في "الضعفاء" (4/ 350) في ترجمته، مع حديثين آخرين، ثمّ قال: "وكلّ هذه مناكير، لا أصول لها، ولا يتابع عليها". وأمّا رواية أبي عبد الله المدني (أو: المديني): فأخرجها ابن شاهين في "الترغيب =

(1/202)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = في فضائل الأعمال" (526)، ولم أستطع تعيين أبي عبد الله هذا، وفي الإسناد من لم أعرفه. وأمّا رواية الوزير بن عبد الرحمن (وهو ضعيف، إن لم يكن ثَمّ في الاسم تحريف؛ فإني في ريبٍ منه، وانظر: "اللسان" 6/ 219): فأخرجها الطبراني في "الأحاديث الطوال" (39)، و"الكبير" ("جامع المسانيد" لابن كثير: 8/ 331 - 332، ووقع اسمه في المطبوعة: "الروي" وهو تحريف ولابدّ). وفي الطريق إليه: سليمان بن أحمد الواسطي، وهو متهم بالكذب ("اللسان": 3/ 72)، وبه أعلّ الهيثميُّ في "المجمع" (7/ 189) هذه الرواية. * يحيى بن سعيد الأنصاري: وأخرج روايته عن ابن المسيب أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 303 مختصرًا)، ومن طريقه أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (2/ 332). وفي الإسناد إليه: علي بن بشر بن عبيد الله الأصبهاني، وهو ضعيف ("اللسان": 4/ 207 - 208)، ونوح بن يعقوب الأشعري لم أقف على توثيقٍ له. ورواه محمد بن حسان الكوفي (ضعيفٌ، يكذب في حديث الناس) عن عبد الله بن نمير عن يحيى بن سعيد به. قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/ 238): "سئل محمد بن عبد الله بن نمير عنه، وقيل له: بالريّ رجل كوفيّ يقال له محمد بن حسان، يروي عن أبيك. قال: وأيُّ شيء روى؟ قالوا: روى عن أبيك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "رأيت رجالًا يؤتى بهم. . ." الحديث الطويل. قال: ترك الناس كلَّهم وجاء يكذب على أبي؟! ". * عبد الرحمن بن أبي عبد الله (ولعله: عبد الرحمن بن حرملة الأسلميّ، وهو صدوق): وأخرج روايته عن سعيد بن المسيب الحكيمُ الترمذي في "نوادر الأصول" =

(1/203)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = (3/ 231 المطبوعة، محذوفة الأسانيد)، وساق إسناد الحكيم ابنُ كثير في "التفسير" (4/ 1931)، وأخرجه تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية" (1/ 162) من طريق أبي عثمان الصابوني به. وفي إسناده من لم أعرفه. * هلال أبو جبل (وفي بعض مصادر ترجمته: أبو جبلة، وفي بعضها: أبو جيل (بالياء)، وتحرف اسمه في مطبوعة "مشيخة ابن الجوزي")، ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/ 77) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "مجهول". وانظر: "الكنى" لمسلم (ق 21 ص 97)، ولأبي أحمد الحاكم (3/ 195 - 196)، ولابن منده (207)، ولابن عبد البر (1/ 541). وأخرج روايته عن سعيد بن المسيب ابن الجوزي في "مشيخته" (187 - 190)، وفي "العلل المتناهية" (2/ 208 - 210)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (34/ 406)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص 9 ط السلفية، وسقط من ط د. سعاد الخندقاوي)، وأبو موسى المديني في "الترغيب والترهيب" كما في "الروح" للمصنّف (284). والراوي عن هلال: "فرج بن فضالة" ضعيفٌ كما تراه في ترجمته من "تهذيب الكمال" (23/ 156 - 164)، وغيرِه. وبه وبـ (هلال) أعلّ ابن الجوزيّ هذه الرواية. وقَد قال الرشيد العطار عن هذا الطريق ("القول البديع" للسخاوي: 265): "هذا أحسن طرقه". وقال أبو موسى المديني -كما نقله المصنّف عنه هنا، وفي "الروح" (285) -: "هذا حديث حسن جدًّا". وأحْسِبُ أبا موسى إنّما أراد حُسْن معناه وسياقته، لا الحسن الاصطلاحي، وقد وقفتُ له على نظائر لهذا الإطلاق. وبَعْدُ؛ فهذه طرق هذا الحديث، وهي كما رأيتَ، ليس فيها إسنادٌ قائم يصلح

(1/204)


في الخصال المنجية، والترهيب من الخلال المردية"، وبنى كتابه عليه وجعله شرحًا له، وقال: هذا حديث حسن جدًّا، رواه عن سعيد بن المسيب: عمر بن ذر، وعلي بن زيد بن جدعان، وهلال أبو جبلة. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يعظِّم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه (1) . والمقصودُ منه قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل، فطرد الشياطين عنه"، فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري الذي شرحناه في هذه الرسالة. وقوله فيه: "وأمَرَكُم بذكر الله عز وجل، وإن مَثَلَ ذلك كمَثَل رجل طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سِراعًا، وانطلق حتى أتى حصنًا حَصِينًا، فأحرز نفسه فيه". __________ = لحمل مثل هذا المتن. وفي إعراض أصحاب الصحيح -بل وأصحاب الكتب المصنفة على الأبواب، وأحمد وغيره من أصحاب المسانيد- عن تخريجه مع شهرته وكونه في الفضائل، وإعلالِ الأئمة لبعض طرقه -كما مرَّ-، وتجنُّب الحفاظ الثقات روايتَه، وتفرُّدِ الضعفاء والمجاهيل به = ما يرجِّح القول بضعفه وعدم صحته. وقد مال المصنِّفُ رحمه الله تعالى إلى تقويته هنا وفي "الروح"، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية نحو ذلك، وهذا -مع عدم وقوفي على من حرّر القول في الحديث- هو الذي دعاني إلى تتبع طرقه والنظر فيها، وأرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ في ذلك إلى الصواب. (1) وانظر: "الروح" للمصنّف (286).

(1/205)


فكذلك الشيطان لا يُحْرِزُ العبادُ أنفسَهم منه إلا بذكر الله عز وجل. وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قال -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكَّلْتُ على الله، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله؛ يقال له: كُفِيتَ وهُدِيتَ ووُقِيتَ، وتَنَحَّى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدِيَ وكُفِيَ وَوُقِيَ؟ ". ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن (1). وقد تقدم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير = كانت له حِرْزًا من الشيطان حتى يُمسِي" (2). وذكر سفيان عن أبي الزبير، عن عبد الله بن ضمرة، عن كعب قال: إذا خرج الرجل من بيته فقال: "بِسْمِ اللهِ" قال المَلَكُ: هُدِيتَ، وإذا قال: "توكَّلْتُ على الله" قال المَلَكُ: كُفِيت، وإذا قال: "لا حَوْلَ ولا قوّة إلا بالله" قال المَلَكُ: حُفِظْت. فيقول الشياطين بعضهم لبعض: ارجعوا، ليس لكم عليه سبيل، كيف لكم بمن كُفِيَ وهُدِيَ وحُفِظ؟ " (3). وقال أبو خلاد البصري (4): من دخل في الإسلام دخل في حِصْن، __________ (1) سيأتي تخريجه (ص: 206). (2) انظر: (ص: 102). (3) أخرجه معمر في "الجامع" (11/ 32 - 33 مصنف عبد الرزاق)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 208)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 389) بإسناد صحيح. (4) كذا في (ت) و (م) واضحة مجوّدة، وفي (ح) و (ق): المصري. والخبر لم أقف عليه.

(1/206)


ومن دخل المسجد فقد دخل في حِصْنَيْن (1) ، ومن جلس في حلقة يذكر الله عز وجل فيها فقد دخل في ثلاثة حصون. وقد روى الحافظ أبو موسى في كتابه من حديث أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا وضع العبد جَنْبَه على فراشه، فقال: بسم الله، وقرأ فاتحة الكتاب؛ أمِنَ من شرِّ الجنِّ والإنسِ، ومن شرِّ كلِّ شيء" (2) . وفي "صحيح البخاري" عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وَلأنِّي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زكاةَ رمضانَ أن أحتفظ بها، فأتاني آتٍ، فجعل يَحْثُو من الطَّعام، فأخذته، فقال: دَعْنِي فإني لا أعود. . . فذكر الحديث، وقال: فقال له في الثالثة: أُعَلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بهن، إذا أوَيْتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخَلَّى سبيله، فأصبح، فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله، فقال: "صَدَقَكَ، وهو __________ (1) (ت): "حصن حصين". (2) أخرجه البزار (4/ 26 - كشف الأستار)، والديلميُّ في "مسند الفردوس" ("المداوي": 1/ 479) بإسنادٍ ضعيف. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 123): "رواه البزّار، وفيه غسان بن عبيد وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح". وفي روايتيهما زيادة "قل هو الله أحد"، وفي آخره: "كل شيءٍ إلّا الموت".

(1/207)


كذوب" (1) . وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال: رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وشَيْطَانٌ، فيقول المَلَكُ: اختم بخير، ويقولُ الشيطان، اختم بِشَرٍّ. فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه -يعني النوم- طرد المَلَكُ الشيطانَ، وبات يكلؤه (2) ، فإذا استيقظ ابتدره مَلَكٌ وشيطانٌ، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بِشَرٍّ، فإن قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد موتها ولم يُمِتْها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى (3) ، الحمد لله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إنْ أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه = طَرَدَ المَلَكُ الشيطانَ، وظل يَكْلَؤُه" (4) . __________ (1) "صحيح البخاري" (2311، 3275، 5010) معلّقًا بصيغة الجزم. ووصله النسائي في "عمل اليوم والليلة" (959)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2424)، وغيرهما. وانظر: "تغليق التعليق" (3/ 295 - 297)، و"نتائج الأفكار" (3/ 43 - 48). (2) (ت) و (م): "وظل يكلؤه". (3) من قوله: "الحمد لله الذي يمسك" إلى هنا، ساقط من (ت). (4) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (854)، والطبراني في "الدعاء" (220، 221، 285)، وأبو يعلى في "مسنده" (3/ 326 - 327) وغيرهم بإسنادٍ صحيح. وصححه ابن حبان (5533)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 548) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. وصححه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 469)، وحسنه ابن حجر =

(1/208)


وفي "الصحيحين" من حديث سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أمَا لو أنَّ أحدكم إذا أتى أهْلَه قال: بسم الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشيطانَ، وجَنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنَا، فيولد بينهما ولد، لا يَضُرُّهُ شيطانٌ أبدًا" (1) . وذكر الحافظ أبو موسى، عن الحسن بن علي قال: أنا ضامنٌ لمن قرأ هذه العشرين الآية أن يَعْصِمَهُ الله تعالى مِنْ كلِّ سلطانٍ ظالمٍ، ومن كلِّ شيطانٍ مَريدٍ، ومن كلِّ سَبُعٍ ضارٍ، ومن كلِّ لصٍّ عادٍ: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} [الأعراف: 54 - 57]، وعشرًا من الصافات، وثلاث آياتٍ من الرحمن: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) } [الرحمن: 33 - 35]، وخاتمة سورة الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ. . .} [الحشر: 21 - 24] (2) . __________ = في "الأمالي الحلبيّة" (26)، وقال في "نتائج الأفكار" (3/ 79): "هذا حديث حسن غريب". وورد آخر الحديث في المصادر السابقة هكذا: "فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة"، وفي لفظ: "كان شهيدًا" بدل قوله هنا في رواية أبي موسى المديني: "طرد الملك الشيطان، وظل يكلؤه". (1) "صحيح البخاري" (141، 3271 ,3283)، و"صحيح مسلم" (1434). (2) أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (4/ 127)، وابن أبي الدنيا في "الذكر" -كما في "الدر المنثور" (3/ 471) -.

(1/209)


وقال محمد بن أبان: بينما رجل يصلي في المسجد، إذا هو بشيء إلى جنبه، فَهِيل منه (1) ، فقال: ليس عليك مني بأس، إنما جئتك في الله تعالى، ائت عروة فَسَلْهُ: ما الذي يَتَعَّوذُ به -يعني من إبليس الأباليس-؟ قال: قُلتُ (2) : آمنتُ بالله العظيم وحده، وكفرتُ بالجِبْتِ والطاغوت، واعتصمتُ بالعروة الوُثْقى لا انفصام لها، والله سميع عليم، حسبي الله وكفى، سَمِع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى (3) . قال بشر بن منصور، عن وهيب بن الورد قال: خرج رجل إلى الجَبَّانَةِ بعد ساعة من الليل، قال: فسمعتُ حِسًّا -أو أصواتًا شديدة- وجِيءَ بسريرٍ حتى وُضِع، وجاء شيء حتى جلس عليه، قال: واجتمعت إليه جنوده، ثم صرخ فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فلم يُجِبْهُ أحد، حتى تتابع ما شاء الله عز وجل من الأصوات، فقال واحد: أنا أكفيكه. قال: فتوجه نحو المدينة وأنا ناظرٌ، ثم أوشك الرجعة، فقال: لا سبيل الى عُرْوَة، قال: ويلك، لم؟ قال: وجدتُه يقول كلمات إذا أصبح وإذا أمسى، فلا نَخْلُصُ إليه معهن. __________ (1) أي أدركه الهَوْل، وهو الخوفُ والفزع. (2) (ح): "قل"، وفي (ق): "قول"، وثَمَّ كلام محذوف تقديره: "فسأل عروةَ, فقال. . .". (3) (ت) و (ق): "مرمى"، وانظر لقوله "حسبي الله وكفى": "حلية الأولياء" (8/ 157).

(1/210)


قال الرجل: فلما أصبحتُ قلت لأهلي: جهِّزوني، فأتيتُ المدينة، فسألت عنه حتى دُلِلْتُ عليه، فإذا شيخٌ كبير، فقلت: ما شيءٌ تقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ فأبى أن يخبرني، فأخبرته بما رأيت وبما سمعت، فقال: ما أدري، غير أني أقول إذا أصبحت: آمنتُ بالله العظيم، وكفرتُ بالجِبْت والطَّاغوت، واسْتَمْسَكْتُ بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والله سميعٌ عليم. إذا أصبحتُ قلتُ ثلاثَ مرَّات، وإذا أمسيْتُ قلتُ ثلاث مرات (1) . وذكر أبو موسى عن مسلم البطين قال: قال جبريل للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنَّ عفريتًا من الجن يَكِيدُك، فإذا أَوَيْتَ إلى فراشك فقل: أعُوذ بكلمات الله التَّامَّات التي لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ ولا فاجِرٌ، من شَرِّ ما ينزل من السّماء وما يَعْرُجُ فيها، ومن شرّ ما ذَرأ في الأرْضِ، وما يخرجُ منها، ومن شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ والنَّهار، ومن شَرِّ طوارقِ الليل والنهار، إلَّا طارِقا يَطْرُقُ بخيرٍ يا رحمن (2) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الهواتف" (98 - 99)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 269). (2) أخرجه معمر في "الجامع" (11/ 35 - مصنف عبد الرزاق)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (8/ 60 - 61) من حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه قصة. وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (956) بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه، موصولًا، في قصة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة الجنّ، وليس فيه قوله: "إذا =

(1/211)


وقد ثبت في "الصحيحين" (1) أن الشيطان يهرب من الأذان. قال سهيل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلى بني حارثة، ومعي غلامٌ -أو صاحب- لنا، فنادى مُنادٍ من حائط باسمه، فأشْرَفَ الذي معي على الحائط، فلم يَرَ شيئًا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شَعَرْتُ أنك تلقى هذا لم أُرْسِلْك، ولكنْ إذا سمعتَ صوتًا فنَادِ بالصّلاة، فإني سمعت أبا هريرة يُحَدِّثُ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نُودِي بالصلاة وَلَّى وله حُصَاصٌ" (2) . وفي رواية: "إذا سمع النِّدَاءَ وَلَّى وله ضُرَاطٌ، حتى لا يسمع التَّأذينَ. . ." الحديث (3) . وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي رجاء، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَكْثِروا من قول لا إله إلا الله، __________ = أويت إلى فراشك". ورواه مالك في "الموطأ" (2738) من هذا الوجه مرسلًا. قال حمزة الكناني -كما في "تحفة الأشراف" (7/ 133) -: "هذا الحديث ليس بمحفوظ، والصواب أنه مرسل". وانظر: "التمهيد" (24/ 112 - 114). (1) (ح) و (ق): "الصحيح". (2) أخرجه البخاري (608)، ومسلم (389) واللفظ له، وليس عند البخاري ذكر القصة، لأنه أخرج الحديث من غير طريق سهيل بن أبي صالح. (3) أخرجها البخاري (608).

(1/212)


والاستغفار؛ فإنَّ الشَّيطانَ قال: قد أهْلَكْتُهم بالذُّنوب، وأهْلَكوني بقول: لا إله إلا الله، والاسْتِغفَار، فلما رأيتُ ذلك منهم أهْلَكْتُهُم بالأهْواء حتى يَحْسَبُونَ أنهم مُهْتَدُون، فلا يَسْتَغْفِرُون" (1) . وذكر أيضًا عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: بينما رجل مسافر إذْ مرَّ برَجُلٍ نائم، ورأى عنده شيطانَيْن، فسمع المسافر أحد الشيطانَيْنِ يقول لصاحبه: اذهب فأفسِدْ على هذا النائم قَلْبَه، فلما دنا منه رجع إلى صاحبه فقال: لقد نام على آيةٍ ما لنا إليه سبيل، فذهب إلى النائم، فلما دنا منه رجع قال: صدقت، فذهبا، ثم إنّ المسافر أيقظه وأخبره بما رأى من الشيطانَيْنِ، فقال: أخبرني على أي آية نِمْتَ؟ قال: على هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وقال أبو النضر هاشم بن القاسم (2) : كنت أَرَى في __________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 40)، وأبو يعلى في "مسنده" (1/ 123 - 124) -ومن طريقه تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعيّة" (1/ 28) -، والطبرانيُّ في "الدعاء" (3/ 1601) بإسنادٍ شديد الضّعف. وضعّفه البوصيري في "إتحاف الخيرة" (7/ 422). وانظر: "مجمع الزوائد" (10/ 207)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 775). (2) قال الذهبيُّ في "سير أعلام النبلاء" (9/ 545): "هو الحافظ الإمام، شيخ المحدثين، أبو النضر، هاشم بن القاسم الليثي الخراساني، ثم البغدادي". توفي سنة 207.

(1/213)


داري (1) ، فقيل لي: يا أبا النضر! تَحَوَّلْ عن جوارنا. قال: فاشْتَدَّ ذلك عليَّ، فكتبتُ إلى الكوفة، إلى ابن إدريس، والمُحارِبي، وأبي أسامة، فكتب إليَّ المُحارِبي: إن بئرًا بالمدينة كان يُقْطَعُ رِشاؤها (2) ، فنزل بهم رَكْبٌ، فشكَوْا ذلك إليهم، فدعوا بدلْوٍ من ماءٍ، ثم تكلموا عليه بهذا الكلام، فصبُّوه في البئر، فَخَرَجَتْ نارٌ من البئر، فَطَفِئَتْ على رأس البئر. قال أبو النضر: فأخذت تَوْرًا من ماء، ثم تكلَّمتُ فيه بهذا الكلام، ثم تتبَّعْتُ به زوايا الدار، فرَشَشْتُه، فصاحوا بى: يا أبا النضر! أحْرَقْتنا، نحن نتحولُ عنك. وهو: بسم الله، أمسينا بالله الذي ليس منه شيء ممتنع، وبِعزَّةِ الله التي لا ترام ولا تُضام، وبسلطان الله المنيع نحتجب (3) ، وبأسمائه الحسنى كلِّها، عائذًا من الأبالسة، ومن شر شياطين الإنس والجن، ومن شر كل مُعْلِن أو مُسِرٍّ، ومن شر ما يخرج بالليل ويَكْمُنُ بالنهار، ويَكْمُنُ بالليل ويخرج بالنهار، ومن شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرِّ إبليس __________ (1) (ح) و (ق): "أرمى في داري"، وهو خطأ. وكأنه أراد أن الجن كانوا يتصوّرون له في داره، يؤذونه بذلك، وهم الذين قالوا له: "تحوّل عن جوارنا". (2) الرِّشاء: هو حَبْلُ الدَّلْو. (3) (ت) و (م): ". . . الممتنع تحجبت".

(1/214)


وجنوده، ومن شر كل دابة أنت آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربي على صراط مستقيم، أعوذ بالله بما استعاذ به موسى وعيسى، وإبراهيم الذي وفَّى، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر إبليس وجنوده، ومن شر ما يُتَّقى (1). أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 1 - 10]. فهذا بعض ما يتعلق بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى". ولنذكر فصولًا نافعة تتعلق بالذكر؛ تكميلًا للفائدة: __________ (1) كذا في (ق) و (م) مضبوطة مجوّدة، وفي (ح): "يبقى"، وهي غير واضحة في (ت).

(1/215)


الفصل الأول الذكرُ نوعان (1): __________ (1) قال المصنّف في "مدارج السالكين" (2/ 448): "وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب"، وذكرنا هناك أسرار الذكر، وعظم نفعه، وطيب ثمرته. وذكرنا فيه أنّ الذكر ثلاثة أنواع: - ذكر الأسماء والصفات، ومعانيها، والثناءُ على الله بها، وتوحيده بها. - وذكر الأمر والنهي، والحلال والحرام. - وذكر الآلاء والنعماء، والإحسان والأيادي. وأنه ثلاثة أنواعٍ أيضًا: - ذكر يتواطأ عليه القلبُ واللسان، وهو أعلاها. - وذكر بالقلب وحده، وهو فى الدرجة الثانية. - وذكر باللسان المجرّد، وهو في الدرجة الثالثة. وقال في "جلاء الأفهام" (620): "وهو (أي الذكر) أنواع: - ذكرُه بأسمائه وصفاته، والثناء عليه بها. - تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ "الذكر" عند المتأخرين. - الثالث: ذِكرُه بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذِكْرُ أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي ذكرُهم لربّهم. - ومن أفضل الذكر: ذكْرُه بكلامه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124]، فذكره هنا: كلامُه الذي أنزله على رسوله. - ومن ذكره سبحانه: "دعاؤه واستغفاره والتضرّع إليه. فهذه خمسة أنواعٍ من الذكر". والنوعان الأخيران المذكوران في "جلاء الأفهام" هنا لم يذكرهما المصنّف في كتابنا هذا، ولا في "المدارج".

(1/216)


أحدهما: ذِكْرُ أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بها، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى. وهذا أيضًا نوعان: أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، و"سبحان الله وبحمده"، و" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ونحو ذلك، فأفضل هذا النوع أجْمَعُه للثناء، وأَعَمُّهُ، نحو "سبحان الله عدد خلقه" فهذا أفضل من مجرد "سبحان الله"، وقولُك: "الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق" أفضل من مجرد قولك: "الحمد لله". وهذا في حديث جويرية رضي الله عنها، أن النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: "لقد قلتُ بَعْدَك أرْبَع كلمات، ثلاث مرَّات، لو وُزِنَتْ بما قُلتِ منذ اليوم لوَزَنَتْهُنَّ: سبحان الله عدد خَلْقِه، سبحان الله رِضى نَفْسِه، سبحان الله زِنَة عرشه، سبحان الله مِدادَ كَلِماته". رواه مسلم (1) . وفي الترمذي وسنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على امرأةٍ بين يَدَيْها نوى أو حصى تسبِّحُ به فقال: "ألا أُخْبِرُكِ بما هو أيْسَرُ عليك من هذا أو أفضل؟ " فقال: "سبحان الله عدد ما __________ (1) "صحيح مسلم" (2726).

(1/217)


خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك" (1) . النوع الثاني (2) : الخبرُ عن الرب تبارك وتعالى بأحكام أسمائه __________ (1) أخرجه الترمذي (3568)، وأبو داود (1495)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ("تحفة الأشراف": 3/ 325، و"نتائج الأفكار": 1/ 81، ولم أره في المطبوعة)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1584)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (3/ 209) وغيرهم من حديث سعيد بن أبي هلال عن خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي قاص عن أبيها رضي الله عنه مرفوعًا. قال الترمذيّ: "وهذا حسن غريب من حديث سعد". وصحّحه الضياء بإيراده إيّاه في "الأحاديث المختارة". وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 81): "هذا حديث حسن. . .، ورجاله رجال الصحيح إلّا خزيمة فلا يُعرف نَسَبُه ولا حاله، ولا روى عنه إلّا سعيد، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته فيمن لم يجرح ولم يأت بمنكر". وحسّن الترمذيُّ حديثه، وصحّحه الضياء، كما تقدم، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 268) وقال: "شيخ". ورواه بعض الرواة بإسقاط خزيمة هذا: أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1/ 66 - 67)، وابن حبان (2330)، والحاكم (1/ 547 - 548) وقال: صحيح الإسناد، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: "الدعوات الكبير" للبيهقي (2/ 43)، و"مسند سعد بن أبي وقاص" من "مسند البزّار" بتحقيق الحويني (207). (2) من النوع الأوّل.

(1/218)


وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقِد راحلتَه الواجدِ (1)، ونحو ذلك. وأفضل هذا النوع: الثناءُ عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حَمْدٌ، وثنَاءٌ، ومَجْدٌ. فالحمد: الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى، مع محبته والرضى عنه؛ فلا يكون المُحِبُّ الساكت حامدًا، ولا المُثنِي بلا محبَّةٍ حامدًا؛ حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرَّر المَحَامِدَ شيئًا بعد شيء كانت ثناءً، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والمُلْكِ كان مَجْدًا. وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول سورة فاتحة الكتاب، فإذا قال العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجَّدني عبدي" (2). __________ (1) (م) و (ح) و (ق): "من الفاقد الواجد". (2) ورد هذا في حديثٍ أخرجه مسلم في صحيحه (395).

(1/219)


والنوع الثاني من الذِّكر: ذِكْرُ أمرِه ونهيه وأحكامِه. وهو أيضًا نوعان: أحدهما: ذِكْرُه بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا (1) . والثاني: ذِكْرُه عند أمره فَيُبادِرُ إليه، وعند نهيه فَيَهْرُبُ منه. فذِكْرُ أمره ونهيه شيءٌ، وذِكْرُه عند أمره ونهيه شيءٌ آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فَذِكْره أفضلُ الذِّكْر، وأجلُّه، وأعظمُه فائدة. فهذا (2) ذِكرُه هو الفقه الأكبر، وما دونه (3) من أفضل الذكر إذا صَحَّتْ فيه النيّة (4) . ومِنْ ذِكْرِه سبحانه وتعالى: ذكرُ آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، __________ (1) (م): "ورضي عن كذا". وانظر لهذا النوع: "مجموع الفتاوى" (10/ 661). (2) أي: امتثال الأمر والنهي، والوقوف عند حدود الله، وهو النوع الثاني من النوع الثاني من الذكر، وعبَّر عنه المصنِّف بـ (ذِكرُه عند أمره. . .). وفي (ق): "فمذاكرة الفقه الأكبر"، وهو تحريف. (3) أي: بيان أحكام الله عز وجل، وما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، بمُدارسة العلم، تعلُّمًا وتعليمًا، وهو النوع الأول من النوع الثاني من الذكر. (4) هذا هو صوابُ ضبط هذا المقطع من كلام المصنّف، وقد وقع محرَّفًا في معظم طبعات الكتاب على أنحاء مختلفة.

(1/220)


ومواقع فضلِه على عبيده، وهذا أيضًا من أجلِّ أنواع الذِّكر. فهذه خمسة أنواع (1) . وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر. وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية. وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة. فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان (2) . وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يُثْمِرُ المعرفة، ويهيِّج المحبة، ويُثِيرُ الحياء، ويَبْعَثُ على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويَرْدَع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذِكْرُ اللسان وحده لا يوجب شيئًا من ذلك الإثمار (3) ، وإن أثمر شيئًا منها فثمرتُه ضعيفة (4) . __________ (1) النوع الأوّل: ذكر أسماء الرب وصفاته، وتحته نوعان. والنوع الثاني: ذكر أمره ونهيه، وتحته نوعان. والخامس: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه. (2) من قوله "تارة وذلك أفضل الذكر" إلى هنا، ساقط من (ت) بسبب انتقال نظر الناسخ. وانظر: "روضة المحبّين" للمصنِّف (338). (3) (ح) و (ق): "هذه الآثار". (4) (ح) و (ق): "فثمرة ضعيفة".

(1/221)


الفصل الثاني الذكر أفضل من الدعاء؛ لأن الذكر ثناءٌ على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاءُ سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟! (1). ولهذا جاء فى الحديث: "مَنْ شَغَلَه ذِكْرِي عَنْ مَسْألتي أعْطَيْتُه أفضلَ مَا أُعْطِي السَّائلِينَ" (2). ولهذا كان المُسْتَحَبُّ في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه (3) بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته. كما في حديث فضالة بن عبيد، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع رجلًا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى ولم يُصَلِّ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقد عجل هذا"، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدُكُم فلْيَبْدَأْ بتحميد ربّه عز وجلّ والثّناء عليه، ثم يصلّي على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم يدعو بَعْدُ بما شاء" (4). __________ (1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 206)، و"الكلام على دعوة ذي النون" (10/ 263 - مجموع الفتاوى)، و"مجموع الفتاوى" (22/ 384 فما بعدها)، و"الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية" لجيلان العروسي (1/ 133 - 145). (2) تقدم تخريجه (ص: 100). (3) في بعض الطبعات هاهنا زيادة "ويصلّي على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليست في الأصول التي بين يديّ. (4) أخرجه أبو داود (1476)، والترمذي (3477)، والنسائي (1283)، وأحمد (7/ 928 - 929) وغيرهم. وصححه الترمذيّ، وابن خزيمة (709، 710)، وابن حبان (1960)، والحاكم (1/ 230) على شرط مسلم، وفي (1/ 268) على شرط الشيخين، وقال: "لا =

(1/222)


رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في "صحيحه" (1) . وهكذا دعاء ذي النون عليه السلام الذي قال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْوَةُ أخي ذي النون ما دعا بها مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّج اللهُ كُرْبَتَهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) } " (2) وفي "الترمذي": "دَعْوَةُ أخي ذي النون إذْ دعا (3) وهو في بطن الحوت __________ = تعرف له علّة"، ولم يتعقبه الذهبيُّ في الموضعين. (1) إطلاق لفظ "الصّحيح" على "مستدرك أبي عبد الله الحاكم" كثيرٌ في كلام الشيخين (ابن تيمية، وابن القيم)، وهو كذلك باعتبار شرط مصنّفه، ولم يكن بخافٍ عليهما أنه واسع الخطو في التصحيح. وانظر بيان المصنّف لمنزلة تصحيح الحاكم في "الفروسية" (245)، و"المنار المنيف" (15). وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في: "رسالة في قنوت الأشياء" (1/ 12، 13 - جامع الرسائل)، و"مجموع الفتاوى" (1/ 255)، و (22/ 426). (2) أخرجه ابن السنّي في "عمل اليوم والليلة" (344)، وابن عديّ في "الكامل" (5/ 150) وغيرهما بإسناد ضعيف جدًّا. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الرّبانيّة" (4/ 10) -: "هذا حديث غريب، أخرجه ابن السني عن أبي يعلى، ورجاله رجال الصحيح إلا عمرو بن الحصين فإنه ضعيف جدًّا،. . . ولم أر هذا الحديث في مسند أبي يعلى فكأنه أعرض عنه عمدًا". (3) (ت) "دعا بها".

(1/223)


{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ فإنه لم يَدْعُ بها مسلم في شيء قطُّ إلا استجاب الله له" (1) . وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام (2) . ومنه قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعاء الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رَبُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله رَبُّ السموات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم" (3) . ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن، وابن حبان في "صحيحه": أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع رجلًا يدعو وهو يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: "والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى" (4) . __________ (1) أخرجه الترمذي (3505)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (656)، وأحمد (1/ 463 - 464)، وأبو يعلى (2/ 111)، والبزار (4/ 25) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وفي إسناده اختلافٌ بيّنه الترمذيّ، وصححه الحاكم (1/ 505) ولم يتعقبه الذهبي، وأورده الضياء في "المختارة" (3/ 233 - 234)، وحسّنه ابن حجر في "النتائج" كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 11). (2) من قوله "وفي الترمذي" إلى هنا، ساقط من (م). وانظر: "مدارج السالكين" (2/ 452). (3) أخرجه البخاري (6345، 6346، 7426، 7431)، ومسلم (2730) من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما. (4) أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (3475)، والنسائي في "الكبرى" =

(1/224)


وروى أبو داود، والنسائي من حديث أنسٍ أنه كان مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالسًا ورجلٌ يصلي، ثم دعا: "اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيُّومُ"؛ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئلَ به أعطى" (1). فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الدعاء يستجاب إذا تَقَدَّمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله عز وجل والثناء عليه أنجحَ ما طلب به العبدُ حوائجَه. وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجابًا. فالدعاء الذي يَتَقدَّمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من __________ = (7/ 125 - 126)، وابن ماجه (3857)، وأحمد (7/ 619) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (891، 892)، والحاكم (1/ 504) على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 481): "قال شيخنا أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه، ولم يرد في هذا الباب حديث أجود إسنادًا منه". (1) أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (3475)، والنسائي (1299)، وأحمد (4/ 407 - 408) وغيرهم. وصحّحه ابن حبان (893)، والحاكم (1/ 503 - 504) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي.

(1/225)


الدعاء المجرد، فإِن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل؛ فإنه يكون قد تَوَسَّل إلى المَدْعُوِّ بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرَّض بل صَرَّح بشدة حاجته (1) وضرورته، وفقره ومسكنته، فهذا المُقْتَضِي منه، وأوصافُ المسؤول مُقْتَضِي من الله، فاجتمع المُقْتَضِي من السائل، والمُقْتَضِي من المسؤول في الدعاء، فكان أبلغ وألطف موقعًا، وأَتَمَّ معرفةً وعبودية. وأنت ترى في الشاهد -ولله المثل الأعلى- أن الرجل إذا توسَّل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبِرِّه، وَذَكَرَ حاجته هو، وفقره ومسكنته؛ كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته. فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا ينكر (2) ، ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صَبْرَ معه، ونحو ذلك = كان ذلك أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداءً: أعطني كذا وكذا. فإذا عرفت هذا، فتأمل قول موسى عليه السلام في دعائه: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} {القصص: 24}، وقول ذي النون عليه السّلام في دعائه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) } __________ (1) (ت) و (م): "بشدة حاله". (2) (م) و (ح): "لا تنكر".

(1/226)


[الأنبياء: 87]، وقول أبينا آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وفي "الصحيحين": أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: "قل: اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا (1)، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من __________ (1) وفي روايةٍ عند مسلم، وأحمد (1/ 4): "كبيرًا". قال النوويُّ في "الأذكار" (1/ 196)، و (2/ 937): "هكذا ضبطناه: "ظلمًا كثيرًا" بالثاء المثلثة، في معظم الروايات، وفي بعض روايات مسلم: "كبيرًا" بالباء الموحَّدة، وكلاهما حسن، فينبغي أن يُجْمَع بينهما، فيُقال: "ظلمًا كثيرًا كبيرًا". وفيما ذهب إليه النوويُّ رحمه الله تعالى من القول بالجمع بين هذين اللّفظين في الذكرِ نظرٌ بيِّن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (22/ 458) -: "ومن المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولها ويعملها بألفاظٍ متنوعة، ورُوِيت بألفاظٍ متنوعة = طريقةً محدثة، بأنْ جمع بين تلك الألفاظ، واستحبَّ ذلك، ورأى ذلك أفضل ما يُقال فيها. مثاله: الحديث الذي في الصحيحين عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنه قال:. . . (فذكر الحديث)، ثم قال: قد رُوِيَ "كثيرًا"، ورُوِيَ "كبيرًا". فيقول هذا القائل: يستحب أن يقول: "كثيرًا كبيرًا"،. . . وأمثال ذلك، وهذه طريقةٌ محدثةٌ لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين. . .". وقال -أيضًا- بعد أن ذكر أنّ بعضهم استحب الجمع بالصفة المتقدمة: ". . . فإنّ هذا ضعيف، فإنّ هذا أولًا ليس سنة، بل خلاف المسنون، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقل ذلك جميعه جميعًا، وإنما كان يقول هذا تارة، وهذا تارة -إن كان الأمران ثابتين عنه- فالجمعُ بينهما ليس بسنة". "مجموع الفتاوى" (24/ 243). =

(1/227)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = وانظر: "مجموع الفتاوى" (22/ 66 - 69، 335 , 337، 458 - 460)، و (24/ 242 - 252). وقال ابن كثير في "تفسيره" (6/ 2863) بعد إيراده هذا الحديث: "واستحبّ بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة". وقال المصنّف في "جلاء الأفهام" (453 - 462) في ذكر قاعدةٍ في هذه الدعوات والأذكار التي رُوِيت بألفاظٍ مختلفة، كأنواع الاستفتاحات، وأنواع التشهّدات في الصلاة، وأنواع الأدعية التي اختلفت ألفاظُها،. . .: "قد سلك بعض المتأخرين في ذلك طريقةً في بعضها، وهو أنّ الدّاعي يستحبُّ له أن يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة، ورأى ذلك أفضل ما يُقال فيها، فرأى أنه يستحبّ للدّاعي بدعاء الصديق رضي الله عنه أنه يقول: "اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا كبيرًا". . .، قال: ليصيب ألفاظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقينًا فيما شك فيه الراوي، ولتجتمع له ألفاظ الأدعية الأُخر فيما اختلفت ألفاظها. ونازعه في ذلك آخرون، وقالوا: هذا ضعيف من وجوه: أحدها: أن هذه طريقة محدثة، لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين. الثاني: أنّ صاحبها إنْ طردها لزمه أن يَسْتَحِبَّ للمصلّي أن يستفتح بجميع أنواع الاستفتاحات، وأن يتشهد بجميع أنواع التشهّدات. . .، وهذا باطل قطعًا؛ فإنه خلاف عمل الناس، ولم يستحبه أحد من أهل العلم، وهو بدعة. وإن لم يطردها تَناقَضَ وفرَّق بين متماثِلَيْن. الثالث: أن صاحبها ينبغي أن يستحب للمصلّي والتالي أن يجمع بين القراءات المتنوّعة في التلاوة في الصلاة وخارجها. قالوا: وهذا معلومٌ أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارىء في الصلاة ولا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة وتدبّر، وإنما يفعل ذلك القرّاء أحيانًا ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات، . . . لا تعبُّدٌ يستحب لكل قارىءٍ وتالٍ، ومع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه، بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرفٍ شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرة وبهذا

(1/228)


عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" (1) . فجمع في هذا الدعاء الشريفِ العظيمِ القدْرِ بين الاعتراف بحاله، والتَّوسُّلِ إلى ربه عز وجل بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، __________ = مرة جاز ذلك. وكذلك الدّاعي إذا قال: "اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا" مرّةً، ومرّة قال: "كبيرًا" جاز ذلك. الرابع: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة في آنٍ واحد، بل إمّا أن يكون قال هذا مرة، وهذا مرة، كألفاظ الاستفتاح. . .، فاتباعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقتضى أن لا يجمع بينهما، بل يُقال هذا مرة، وهذا مرة. وإمّا أن يكون الراوي قد شكّ في أيّ الألفاظ قال، فإن ترجّح عند الداعي بعضها صار إليه، وإن لم يترجّح عنده بعضها كان مخيَّرًا بينهما، ولم يُشْرَع له الجمع: فإنّ هذا نوعٌ ثالث لم يُرْوَ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيعود الجمع بين تلك الألفاظ في آنٍ واحد على مقصود الدّاعي بالإبطال؛ لأنه قصد متابعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفَعَل ما لم يَفْعَلْهُ قطعًا!. الخامس: أن المقصود إنما هو المعنى، والتعبير عنه بعبارةٍ مؤدِّيةٍ له، فإذا عُبِّر عنه بإحدى العبارتين حصل المقصودُ، فلا يجمع بين العبارات المتعدّدة. السادس: أن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يستحب الجمع بين البدل والمُبْدَل معًا، كما لا يستحب ذلك في المبدلات التي لها أبدال". وبنحو هذا تعقَّب ابنُ جماعة والزركشيُّ النوويَّ فيما ذهب إليه. انظر: "الفتوحات الربانية" (3/ 16). وانظر -أيضًا-: "القواعد" لابن رجب (1/ 73 - 90)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 162 - 163). وإنما أطلتُ في نقل كلام أهل العلم حول هذه المسألة؛ لعلاقتها الوثيقة بموضوع الكتاب، ولحاجة القارئ إليها. (1) "صحيح البخاري" (834 , 6326 , 7388)، و"صحيح مسلم" (2705).

(1/229)


ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا، فهكذا أدب (1) الدعاء وآداب العبودية (2) . __________ (1) من قوله: "الذنوب، ثم سأل. . ." إلى هنا، ساقط من (ت). (2) من قوله: "فيهما بل القراءة" إلى هنا، ساقط من (ت).

(1/230)


الفصل الثالث قراءةُ القرآن أفضلُ من الذِّكْر، والذِّكْرُ أفضلُ من الدعاء، هذا مِنْ حيث النظر إلى كُلٍّ منهما مُجَرَّدًا. وقد يَعْرِضُ للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يُعَيِّنُه، فلا يجوز أَنْ يُعْدَلَ عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود؛ فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءةُ فيهما مَنْهِيٌّ عنها نَهْيَ تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في مَحَلِّهما أفضل من القراءة (1)، وكذلك التشهد، وكذلك "رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني" بين السَّجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عَقِيب السلام من الصلاة -ذكرُ التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد- أفضلُ من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابةُ المؤذن والقولُ كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كلِّ كلامٍ كفضل الله تعالى على خلقه، لكنْ لكلِّ مقامٍ مقالٌ، متى فات مقالُه فيه وعُدِلَ عنه إلى غيره اخْتَلَّتْ الحكمة، وفاتت (2) المصلحة المطلوبة منه. وهكذا الأذكار المُقَيَّدَةُ بِمَحَالَّ مخصوصةٍ أفضلُ من القراءة المطلقة، والقراءةُ المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللَّهُمَّ إلا أن __________ (1) انظر: "جلاء الأفهام" (249 - 251) للمصنِّف، و"مجموع الفتاوى" (10/ 245 - 247). (2) (ت) و (ح) و (ق): "وفُقِدَتْ".

(1/231)


يَعْرِضَ للعبدِ ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن. مثالُه: أن يتفكر في ذنوبه، فَيُحْدِثُ ذلك له توبة واستغفارًا، أو يَعْرِضَ له (1) ما يَخافُ أذاه من شياطين الإنس والجن، فيَعْدِلَ إلى الأذكار والدَّعواتِ التي تُحَصِّنُه وَتَحُوطُه. وكذلك أيضًا قد يَعْرِضُ للعبد حاجةٌ ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءةٍ أو ذِكْرٍ لم يَحْضُرْ قلبُه فيها، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرُّعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء -والحالة هذه- أنفعُ، وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا (2) . وهذا بابٌ نافعٌ يحتاج إلى فِقْه نَفْسٍ، وفُرْقانٍ بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فَيُعْطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويُوضَعُ كلُّ شيءٍ مَوْضِعَه (3) . __________ (1) (ت): "مثاله أن يحدث له من التفكّر في ذنوبه فحصل له توبة واستغفارًا أو يحصل له ما يخاف أذاه. . ."، وفي (م): "مثاله أن يفكر في ذنوبه فتحدث له توبة واستغفار. . .". (2) (ت) و (م): "وأكثر أجرًا". (3) بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا المعنى في كثير من رسائله وأجوبته، ونبَّه على طائفةٍ من أسراره ودقائقه، وأتى في ذلك بكلِّ بديع. انظر: "قاعدة في التوسّل والوسيلة" (1/ 183 - 184 مجموع الفتاوى)، و"جامع المسائل" (المجموعة الثالثة: 385 - 386)، و"جواب أهل العلم والإيمان: إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" =

(1/232)


فَلِلْعَيْنِ موضع، ولِلرِّجْل موضع، وللماء موضع، ولِلَّحْمِ موضع، وحفظُ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نِظامُ الأمر والنهي، والله تعالى الموفق. وهكذا الصابون والأُشنان أنفع للثوب في وقتٍ، والتجميرُ وماءُ الورد (1) أنفع له في وقت. وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سُئِل بعض أهل العلم (2) : أيما أنفع للعبد، التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دَنِسًا فالصابون والماء الحارُّ أنفع له. فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دَنِسة؟!. __________ = (17/ 132 - 133, 139 - 140 مجموع الفتاوى)، و"قاعدة في توحُّد الملّة وتعدُّد الشرائع" (19/ 120 - 121 مجموع الفتاوى)، و"الكلام على دعوة ذي النون" (10/ 263 - 264 مجموع الفتاوى)، و"مجموع الفتاوى" (10/ 427)، و (11/ 399 , 660)، و (22/ 309 , 347 - 348 , 388 , 395)، و (7/ 652)، و (23/ 62 - 63) مهم، و (24/ 198، 236 - 239). وانظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (2/ 330 - 332، 366). (1) (م) و (ق): "وماء الورد ونحوه أنفع"، وتحرّفت في (ح) إلى: "وماء الورد وكوة أنفع"!، وفي بعض المطبوعات: "وماء الورد وكيُّه". (2) هو أبو الفرج بن الجوزي. انظر: "ذيل الروضتين" لأبي شامة (22)، و"سير أعلام النبلاء" (21/ 371)، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (1/ 421)، و"غذاء الألباب" (2/ 378)، و"نتائج الأفكار في شرح حديث سيّد الاستغفار" للسفاريني (149).

(1/233)


ومن هذا الباب: أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخُلْع، والعِدَد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ولمّا كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعةٌ لأجزاء العبودية على أتم الوجوه = كانت أفضل من كُلٍّ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كلِّه مع عبوديةِ سائر الأعضاء. فهذا أصل نافع جدًّا، يُفْتَح للعبد به بابُ معرفةِ (1) مراتب الأعمال وتَنْزِيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح عليه إبليسُ الفضلَ الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها -وإن كان ذلك وقته (2) - فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل (3) أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا. وهذا يحتاج إلى معرفةٍ بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفِقْهٍ في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته، وتفويتِه لما هو أهمُّ منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل؛ لإمكان تداركه والعَوْدِ إليه، __________ (1) (ح) و (ق): "يفتح للعبد باب معرفة". (2) (م) "أو ينظر إلى فاضلها وحده فيشتغل عن مفضولها وإن كان ذلك في وقته". (3) "بالفاضل" ساقط من (ت).

(1/234)


وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه، فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لِرَدِّ السلام وتشميت العاطس وإن كان القرآن أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعَوْدِ إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت. والله تعالى الموفق.

(1/235)


الفصل الرابع في الأذكار المُوَظَّفَة التي لا ينبغي للعبد أن يُخِلَّ بها؛ لشدّةِ الحاجة إليها، وَعِظَم الإنتفاعِ في الآجل والعاجل بها وفيه فُصول:

(1/237)


 الفصلِ الأول: في ذكر طرَفَي النهار

وهما ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب. قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]. والأصيل: قال الجوهري: هو الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعُه: أُصُلٌ، وآصال، وأصائل، كأنه جَمْعُ أصيلة. قال الشاعر: لَعَمْري لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أهْلَهُ ... وَأقْعُدُ في أفْيَائِه بالأَصَائِلِ (1) ويُجْمَعُ أيضًا على أُصْلان، مثل بعير وبُعْران، ثم صغَّروا الجمع فقالوا: أُصَيْلان، ثم أبدلوا من النون لامًا، فقالوا: أُصيْلال. قال الشاعر (2): وَقَفْتُ فيهَا أُصَيْلالًا (3) أسَائِلُهَا ... أعْيَت (4) جَوَابًا وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ (5) __________ (1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. انظر: "شرح أشعار الهذليين" (1/ 142)، وتخريجه في (3/ 1381) منه. وللنحاة فيه كلام كثير. (2) في "الصحاح": "ومنه قول النابغة. . .". وهو الذّبياني، والبيت في "ديوانه" (14). (3) رواية الديوان (وهو من رواية الأصمعي من نسخة الأعلم): "أصيلانًا". (4) كذا في الأصول التي بين يديّ. ورواية الديوان و"الصحاح": "عَيَّتْ". (5) "الصحاح" (4/ 1623 - أصل).

(1/239)


وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]؛ فالإبكار: أولُ النَّهار، والعَشِيُّ: آخره. وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. وهذا تفسير ما جاء في الأحاديثِ: أن من قال كذا وكذا حين يصبح وحين يمسي؛ أن المراد به: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا رجل (1) قال مثل ما قال، أو زاد عليه" (2) . وفي "صحيحه" أيضًا عن ابن مسعود قال: كان نبي الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى المُلْكُ لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْكُ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ربِّ أسألُكَ خيرَ ما في هذه الليلة، وخير ما بعدَها، وأعوذ بك من شرِّ ما في هذه الليلة وشرِّ ما بعدها، ربِّ أعوذُ بك من الكسل وسوء الكِبَر، ربِّ أعوذُ بك من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر". وإذا أصبح قال ذلك أيضًا: "أصبحنا __________ (1) كذا في الأصول. وفي "صحيح مسلم": "إلّا أحد". (2) "صحيح مسلم" (2692).

(1/240)


وأصبح الملك لله" (1). وفي "السنن" عن عبد الله بن خبيب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قل" قلت: يا رسول الله، ما أقول؟ قال: "قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات؛ تكفيك من كل شيء". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2). وفي "الترمذي" -أيضًا- عن أبي هريرة، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُعَلِّم أصحابه، يقول: "إذا أصبح أحدكم فليقل: اللَّهُمَّ بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور. وإذا أمسى فليقل: اللَّهُمَّ بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (3). __________ (1) "صحيح مسلم" (2723). (2) أخرجه الترمذي (3575)، وأبو داود (5082)، والنسائي (5443)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (7/ 536) وغيرهم. وصححه الترمذي، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 345). وفي إسناده اختلاف. انظر: "الإصابة" لابن حجر (2/ 264 - 265)، و (4/ 74)، و"نتائج الأفكار" (2/ 346 - 348). (3) أخرجه هكذا بصيغة الأمر الترمذيُّ (3991) وقال -كما في "تحفة الأشراف" (9/ 408) -: "حسن". ونقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الكلم الطيب" (70) -وتبعه المصنّف هنا- تصحيحه. وفي إسناده ضعف. وروى القِسْمَ الأوَّلَ من الحديثِ ابنُ ماجه (3868)، وابن السني في "عمل اليوم =

(1/241)


وفي "صحيح البخاري" عن شداد بن أوس، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "سيّد الاستغفار: "اللَّهُمَّ أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". من قالها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة" (1) . وفي "الترمذي" عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق قال لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُرْنِي بشيءٍ أقولُه إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ. قال: "قل: اللَّهُمَّ عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رَبَّ كلِّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشِرْكِه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرَّه إلى مسلم. قُلْهُ إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك". قال الترمذي: حديث حسن __________ = والليلة" (36) بصيغة الأمر -أيضًا- بإسنادٍ أحسن من الوجه السابق. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 350) عن هذين الوجهين: "وأمّا الترمذيّ وابن ماجه فأخرجاه من وجهين آخرين عن سهيل، ووقع عندهما بصيغة الأمر: "إذا أصبح أحدكم فليقل"، وفي سند كلٍّ منهما مقال". والمحفوظ هو رواية الحديث من فعله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بصيغة الخبر. أخرجه أبو داود (5068)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (564)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1199) وغيرهم. وصححه ابن حبان (965)، وقال ابن حجر في "النتائج" (2/ 350): "هذا حديث صحيح غريب". (1) "صحيح البخاري" (6323).

(1/242)


صحيح (1) . وفي "الترمذي" أيضًا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من عبد يقول في صباح كلِّ يوم ومساء كلِّ ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ، إلّا لم يضره شيء (2) ". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (3) . __________ (1) أخرجه الترمذي (3392)، وأبو داود (5067)، والنسائى في "عمل اليوم والليلة" (11، 567)، وأحمد (1/ 89، 92)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1203) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (962)، والحاكم (1/ 513)، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حجر في "النتائج" (2/ 263). إلّا أنّ قوله: "وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم" ليس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما هو من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1204)، والترمذي (3529)، وأحمد (2/ 667)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 924) وغيرهم بإسنادٍ حسن. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وحسنه ابن حجر في "النتائج" (2/ 365). (2) (ح) و (ق) و"سنن الترمذي": "ثلاث مرات لم يضره شيء". (3) أخرجه الترمذي (3388)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (346)، وابن ماجه (3869)، وأحمد (1/ 211)، والطيالسي (79) وغيرهم. وصححه الترمذي، والحاكم (1/ 514) ولم يتعقبه الذهبي. وقال ابن حجر في "النتائج" (2/ 367): "هذا حديث حسن صحيح". وفي إسناده اختلاف، وقال الدارقطني عن إسناد الترمذي: "وهذا متصل، وهو أحسنها إسنادًا". انظر: "علل الدارقطني" (3/ 7 - 9)، و"علل ابن أبي حاتم" =

(1/243)


وفيه -أيضًا- عن ثوبان وغيره أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قال: "من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبيًّا، كان حقًّا على الله أن يُرْضِيَه". وقال: حديث حسن صحيح (1) . وفي "الترمذي" -أيضًا- عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يصبح أو يمسي: اللَّهُمَّ إني أصبحت أُشْهِدُكَ، وأُشْهِدُ حَمَلَة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقكَ، أنك أنت الله لا إله إلا أَنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، أعتق الله رُبْعَه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نِصْفَه من النار، ومن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعًا أعتقه الله من النار" (2) . __________ = (2/ 196 - 197، 205). (1) الحديث تقدم تخريجه (ص: 103). والمثبت في "تحفة الأشراف" (2/ 143)، وهو ما نقله الذهبيّ في "تذكرة الحفاظ" (3/ 968 - 969)، وابن حجر، والمنذري = قولُ الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه". قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 371): "ووقع في كلام الشيخ (يعني النوويَّ) أنه قال: حسن صحيح غريب. ولم أر لفظة "صحيح" في كتاب الترمذيّ، لا بخط الكروخي الذي اشتهرت روايته من طريقه، ولا بخط الحافظ أبي علي الصدفي من طريق أبي علي السنجي، ولا في غيرهما من النسخ، ولا في الأطراف؛ فكأنّ الشيخ رآه في نسخة ليست معتمدة". وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 507): "وقال: حديث حسن غريب. وفي بعض النسخ: حسن صحيح. وهو بعيد". (2) تقدم تخريجه (ص: 102).

(1/244)


وفي "سنن أبي داود" عن عبد الله بن غنَّام، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يصبح: اللَّهُمَّ ما أصبح بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك، فَمِنْكَ وحدك، لا شريك لك، لك الحمد والشكر = فقد أدّى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدّى شكر ليلته" (1) . وفي "السنن" و"صحيح الحاكم" عن عبد الله بن عمر قال: لم يكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي، وحين يصبح: "اللَّهُمَّ إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللَّهُمَّ استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللَّهُمَّ احفظني من بين يديَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغْتال مِنْ تحتي" (2) . قال وكيع: يعني __________ (1) أخرجه أبو داود (5073)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (7)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 933)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 183) وغيرهم. وصححه ابن حبان (861)، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 380). وتصحّف "عبد الله بن غنام" عند بعض الرواة إلى "عبد الله بن عباس". انظر: "تحفة الأشراف" (6/ 404)، و"الإصابة" (4/ 207). (2) أخرجه أبو داود (5074)، والنسائي (5544)، وفي "عمل اليوم والليلة" (566)، وابن ماجه (3871)، وأحمد (2/ 279)، والبخارى في "الأدب المفرد" (1200) وغيرهم. وصححه ابن حبان (961)، والحاكم (1/ 517 - 518) ولم يتعقبه الذهبي، وحسنه ابن حجر في "النتائج" (2/ 382).

(1/245)


الخَسْف (1) . وعن طلق بن حبيب قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال: يا أبا الدرداء، قد احترق بيتك. فقال: ما احترق، لم يكن الله ليفعل ذلك؛ لِكلماتٍ سمعتهن من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، من قالها أوَّل النهار لم تُصبْهُ مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: "اللَّهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلمُ أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها، إنَّ ربي على صراط مستقيم" رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (2) . __________ (1) تفسير وكيع عند أبي داود، وابن حبّان. وقد فسّره قبله جبير بن أبي سليمان التابعيّ، الراوي عن ابن عمر. أخرجه البيهقي في "الدعوات" (1/ 22 - 23)، وعبد بن حميد (837) وغيرهما. (2) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (58)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 953 - 954)، وأبو القاسم التيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (340)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 423)، و"دلائل النبوة" (7/ 121)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 351 - 352) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يثبت. آفته من "الأغلب"، قال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث". =

(1/246)


 الفصل الثاني: في أذكار النوم

"في الصحيحين" عن حذيفة قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد أن ينام قال: "باسمك اللَّهُمَّ أموت وأحيا"، وإذا استيقظ من منامه قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" (1). وفي "الصحيحين" أيضًا (2)، عن عائشة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما، يقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه __________ = وجاء من حديث رجل عن الحسن البصري عن رجلٍ من الصّحابة. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (2/ 953 - زوائده)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (59). وضعَّفه ابنُ حجر في "النتائج" (2/ 428) من أجل الراوي المبهم، ثمّ قال: "ويبعد تفسير الصحابي المذكور بأبي الدرداء؛ لأنّ الحسن البصري لم يلقه، قال أبو زرعة الرازي: الحسن عن أبى الدرداء مرسل". ثم ذكر احتمالًا آخر، واستبعده. (1) أخرجه البخاري (6324). ولم أره في "صحيح مسلم" من حديث حذيفة. وقد تابع المصنفُ في عزو الحديث إلى الصحيحين من حديث حذيفة ما في "الكلم الطيب" (75). وأخرجه مسلم (2711) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. (2) "أيضًا" من (ح).

(1/247)


ووجهه وما أَقْبَلَ من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات (1) . وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة أنه أتاه آتٍ يحثو من الصدقة، وكان قد جعله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها، ليلةً بعد ليلة، فلما كان في الليلة الثالثة قال: لأرفعنَّكَ إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال: دعني أُعلِّمْك كلماتٍ ينفعك الله بهن -وكانوا أحرص شيء على الخير-، فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختمها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَدَقَكَ وهو كذوب" (2) . وقد روى الإمام أحمد نحو هذه القصة في "مسنده" أنها جرت لأبي الدرداء (3) ، ورواها الطبراني في "معجمه" أنها جرت لأُبَيِّ بن كعب (4) . وفي "الصحيحين" عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه" (5) . __________ (1) أخرجه البخاري (5017، 5748). ولفظ مسلم (2192): "كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات، وينفث. . ."، وليس فيه أن ذلك كان عند النوم كلَّ ليلة. (2) تقدم تخريجه (ص: 207). (3) لم أقف عليها في "المسند" من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وإنما وجدتها فيه (7/ 787) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وحسنها الترمذي (2880). (4) أخرجها الطبراني في "الكبير" (1/ 201). وصحّحها ابن حبان (784)، والحاكم (1/ 562) ولم يتعقبه الذهبي، وخرجها الضياء في "المختارة" (4/ 37). (5) "صحيح البخاري" (4008، 5040)، و"مسلم" (808، 807).

(1/248)


الصحيحُ أن معناها: كفتاه من شر ما يؤذيه. وقيل: كفتاه من قيام الليل (1) . وليس بشيء. وقال علي بن أبي طالب: "ما كنت أرى أحدًا يَعْقِلُ ينامُ قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الأواخر من سورة البقرة" (2) . وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قام أحدكم عن فراشه، ثم رجع إليه، فَلْيَنْفُضْه بصَنِفَةِ إزَارِه ثلاث مرات، فإنه لا يدري ما خلَفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل: باسمك اللَّهُمَّ ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (3) . وفي "الصحيحين" عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليقل: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وَرَدَّ عليَّ رُوحي، وأَذِنَ __________ (1) انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 193)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 435)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 673) وقال -بعد أن أورد هذا القول، وأقوالًا أخرى-: "وعلى هذا فأقول: يجوز أن يُراد جميع ما تقدّم". (2) أخرجه الدارمي (2/ 906) بإسنادٍ فيه راوٍ لم يسمّ. ووردت تسميته عند أبي بكر بن أبي داود في كتابه "شريعة المقارئ" -كما في "نتائج الأفكار" (3/ 92) - بإسنادٍ صحّحه النووي في "الأذكار" (1/ 273) على شرط البخاري ومسلم. وتبعه على هذا الحكم العينيُّ في "العلم الهَيِّب" (165). وقال ابن حجر: "وفي هذا السند علّة الاختلاف على أبي إسحاق في شيخه، وهي تحطّه عن درجة الصحيح". (3) "صحيح البخاري" (6320)، و"مسلم" (2714).

(1/249)


لي بذكره" (1) . وقد تقدَّم حديث علي، ووصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له ولفاطمة رضي الله تعالى عنهما: أن يُسَبِّحا إذا أخذا مضاجعهما للنوم ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويُكَبِّرا أربعًا وثلاثين، وقال: "هو خير لكما من خادم" (2) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: بلغنا أنه من حافظ على هذه الكلمات لم يأخُذْهُ إعياءٌ فيما يعانيه من شُغلٍ، وغيرِهِ (3) . وفي "سنن أبي داود" عن حفصة أم المؤمنين: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ثم يقول: "اللَّهُمَّ قني عذابك يوم تبعث عبادك" ثلاث مرات. قال الترمذي: حديث حسن (4) . __________ (1) هذا جزء من حديث أبي هريرة السابق الذي أخرجه الشيخان. إلّا أنهما تجنّبا إخراج هذا الجزء؛ لأنه مما تفرّد به محمد بن عجلان، وهو صدوق في حفظه شيء، وخصوصًا في روايته عن المقبري، وهذه منها. وأخرج الحديث تامًّا -بهذا الجزء- من رواية ابن عجلان: الترمذيُّ (3401) وقال: "حديث حسن". وحسّنه ابن حجر في "النتائج" (1/ 113). (2) انظر (ص: 186). (3) "الكلم الطيّب" (78). (4) أخرجه أبو داود (5045)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (761، 762)، وأحمد (8/ 573)، وأبو يعلى (12/ 483)، والطبراني في "الكبير" (23/ 215 - 216) وغيرهم. قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/ 49): "هذا حديث حسن". وانظر: (1/ 145 - 146) منه. =

(1/250)


وفي "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كافِيَ له، ولا مُؤْوِي" (1) . وفي "صحيحه" -أيضًا- عن ابن عمر، أنه أمر رجلًا إذا أخذ __________ = وقال في "فتح الباري" (11/ 119): "وأخرجه أيضًا بسند صحيحٍ عن حفصة، وزاد: يقول ذلك ثلاثًا". أمّا ما نقله المصنّف عن الترمذيّ فهذا إنما قاله الترمذيُّ في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وحديث البراء أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1215)، والترمذي (3399)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (752)، وابن ماجه (3877) وغيرهم. وليس فيه قوله: "ثلاث مرات". وصحّحه ابن حبان (5522)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 215). وحسنه ابن حجر في "النتائج" (3/ 51)، وصححه في "الفتح" (11/ 191). وفي إسناده اختلافٌ كثير. انظر: "علل الترمذي الكبير" (360 - 361)، و"علل الدارقطني" (3/ 167 - 168). وورد الحديث من رواية حذيفة بن اليمان بإسنادٍ صحيح، ومن رواية جماعةٍ من الصحابة بأسانيد فيها كلام. وليس فيه عندهم زيادة "ثلاث مرات". ففي ثبوتها في حديث حفصة الذي ذكره المصنّف نظر، خاصّةً وأنّ عاصم بن أبي النجود -راوي الحديث- قد اضطرب في روايته للحديث، ممّا يُشعِر بعدم ضبطه له، والله أعلم. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (2754). (1) "صحيح مسلم" (2715).

(1/251)


مضجعه أن يقول: "اللَّهُمَّ أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفَّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحْيَيْتَها فاحفظها، وإن أمَتَّها فاغفر لها، اللَّهُمَّ إني أسألك العافية". قال ابن عمر: سمعتهن من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (1) . وفي "الترمذي" عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه -ثلاث مرات- غفر الله له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت عدد رملِ عالِجٍ، وإن كانت عدد أيام الدنيا" (2) . وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أوى إلى فراشه __________ (1) "صحيح مسلم" (2712). (2) أخرجه الترمذي (3397)، وأحمد (4/ 29 - 30)، وأبو يعلى (2/ 495)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 287)، والبغوي في "شرح السنة" (5/ 106 - 107) بإسنادٍ ضعيف. وقال الترمذي -كما في "تحفة الأشراف" (3/ 420) -: "غريب لا نعرفه إلّا من حديث الوصافي". وفي المطبوعة: "هذا حديث حسن غريب. . .". وقال البغويّ: "هذا حديث غريب". وفي رواية الترمذي زيادة "وإن كانت عدد ورق الشجر"، ولم ترد في الأصول التي بين يديّ. وورد الحديث غير مقيَّدٍ بحال النوم من وجهٍ آخر عن أبي سعيد، ولا يصحّ. وورد بنحوه غير مقيَّدٍ بحال النوم -أيضًا- من حديث جماعة من الصحابة.

(1/252)


قال: "اللَّهُمَّ ربَّ السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربَّنَا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، مُنْزِلَ التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دُونك شيء، اقْضِ عنا الدين، وأَغْنِنا من الفقر" (1) . وفي "الصحيحين" عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شِقِّك الأيمن وقل: اللَّهُمَّ إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفَوَّضْتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مِتَّ مِتَّ على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول" (2) . __________ (1) "صحيح مسلم" (2713). ولفظه عنده: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرنا إذا أخذنا مضاجعنا أن نقول:. . ." فذكره. وعنده -أيضًا-: "أعوذ بك من شرّ كل شيء"، وفي لفظٍ "من شر كل دابّة" بدل قوله هنا: "من شرّ كل ذي شرّ". واللفظ الذي ذكره المصنّف -وتبع فيه ما في "الكلم الطيب" (80) - هو لفظ الترمذي (3400)، وأبي داود (5051). (2) "صحيح البخاري" (247، 6311، 6313، 6315، 7488)، و"مسلم" (2710). وفيهما بعد قوله "وفوَّضتُ أمري إليك": "وألجأتُ ظهري إليك". ولم ترد في الأصول التي بين يديّ.

(1/253)


 الفصل الثالث: في أذكار الانتباه من النوم

روى البخاري في "صحيحه" عن عبادة بن الصامت، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ تَعَارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللَّهُمَّ اغفر لي، أو دعا؛ استُجِيب له، فإن توضأ وصَلَّى قُبِلَتْ صلاته" (1). وفي "الترمذي" عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من أوى إلى فراشه طاهرًا، وذَكَر الله تعالى حتى يُدْرِكه النعاس، لم يَنْقَلِبْ ساعة من الليل يسأل الله تعالى فيها خيرًا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" حديث حسن (2). __________ = ولم ترد في الأصول التي بين يديّ. (1) "صحيح البخاري" (1154). وفيه بعد قوله "وسبحان الله": "ولا إله إلا الله". ولم ترد في الأصول التي بين يديّ. (2) أخرجه الترمذي (3526)، والطبراني في "الكبير" (8/ 125)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (721). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب. وقد رُوِي هذا أيضًا عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن عمرو بن عبسة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ". وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/ 82): "أخرجه ابن السني من رواية إبراهيم بن العلاء عن إسماعيل بن عياش، وروايته =

(1/254)


وفي "سنن أبي داود" عن عائشة، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك، اللَّهُمَّ أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللَّهُمَّ زدني علمًا، ولا تُزغْ قلبي بعد إذ هديتني، وَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ رحمة إنك أنت الوهاب" (1) . __________ = عن الحجازيّين ضعيفة، وهذا منها. واسم شيخه: عبد الله بن عبد الرحمن، وهو مكيّ، و"شهر" فيه مقال، واختُلِف عليه في سنده". ورُوِي عن "شهر" من وجهٍ أحسن من هذا. أخرجه أبو داود (5042)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (805، 806)، وابن ماجه (3881) وغيرهم بإسناد جيّد. وحسّنه ابن حجر في "النتائج" (3/ 83). (1) أخرجه أبو داود (5061)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (865)، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" (108 - مختصره)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1153)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 125 - 126) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. وصححه ابن حبان (5531)، والحاكم (1/ 540) ولم يتعقبه الذهبي. وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 118 - 119): "هذا حديث حسن،. . . ورجاله رجال الصحيح إلّا عبد الله بن الوليد؛ فإنه مصريّ مختلف فيه"!. وعبد الله بن الوليد هذا ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 187) ولم يَحْكِ فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 11)، وقال الدارقطني -كما في "سؤالات البرقاني" (41 رقم 270) -: "لا يُعْتَبر به". وهذا جرحٌ شديد.

(1/255)


 الفصل الرابع: في أذكار الفزع في النوم والقلق

روى "الترمذي" عن بريدة قال: شكا خالد بن الوليد إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أَوَيْتَ إلى فراشك فقل: اللَّهُمَّ رب السموات السبع وما أظَلَّتْ، ورب الأرضين وما أقَلَّتْ، ورب الشياطين وما أضَلّتْ، كُنْ لي جارًا من شر خلقك كلهم جميعًا أن يَفْرُطَ عليَّ أحد منهم، أو يَبْغِي عليَّ، عَزَّ جارك، وجلَّ ثناؤك، ولا إله غيرك، ولا إله إلا أنت" (1). وفي سنن أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُعَلِّمهم من الفزع كلمات: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه __________ (1) أخرجه الترمذي (3523)، والطبراني في "الأوسط" (1/ 52 - 53)، و"الدعاء" (2/ 1308 - 1309)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 210) بإسنادٍ ضعيف. قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بالقويّ، والحكم بن ظُهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث. ويُروى هذا الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرسلًا من غير هذا الوجه". يشير الترمذيّ إلى ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 365)، والطبرانيُّ في "الكبير" (4/ 115)، و"الصغير" (2/ 177)، و"الدعاء" (2/ 1308) من طريق عبد الرحمن بن سابط عن خالد بن الوليد رضي الله عنه. وعبد الرحمن بن سابط تابعيٌّ صغير لم يُدْرِك خالدًا رضي الله عنه. قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/ 115): "هذا مرسلٌ صحيحُ الإسناد، وكأنه الذي أشار إليه الترمذي".

(1/256)


وعقابه وشر عباده (1) ، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون". وكان عبد الله بن عمرو يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ عَقَل مِنْ بَنِيه، ومن لم يَعْقِلْ كَتَبه وعَلَّقه عليه (2) . __________ (1) (ت) و (ح) و (م): "من غضبه وشر عباده"، والمثبت من (ق) ورواية الترمذي. (2) أخرجه أبو داود (3893)، والترمذي (3528)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (765، 766)، وأحمد (2/ 635)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (96)، والدارمي في "الردِّ على الجهمية" (314، 315) وغيرهم من طرقٍ عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/ 118). وهو كما قالا؛ فإن محمد بن إسحاق وإن كان مدلِّسًا، وقد عنعن إلّا أنّ لحديثه المرفوع شاهدًا من رواية محمد بن يحيى بن حبان عن الوليد بن الوليد بن المغيرة رضي الله عنه. أخرجه أحمد (5/ 667)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 362)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 475) وغيرهم. قال البيهقي: "هذا مرسل، وشاهده الحديث الموصول. . ." ثم ذكر حديث ابن إسحاق. وقال ابن حجر في "النتائج" (3/ 112): "هذا مرسل صحيح الإسناد،. . . فإن محمد بن يحيى من صغار التابعين، وجُلُّ روايته عن التابعين، والوليد بن الوليد مات في حياة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وليس فى هذا الشاهد الزيادة الموقوفة الأخيرة "وكان عبد الله بن عمرو. . ."؛ فتبقى على ضعفها؛ لعنعنة ابن إسحاق.

(1/257)


 الفصل الخامس: في أذكار من رأى رؤيا يكرهها أو يُحِبُّها

في "الصحيحين" عن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ، وَلْيَتَعوَّذْ بالله من شرها، فإنَّها لن تضره إن شاء الله". قال أبو قتادة: كنت أرى الرؤيا تُمْرِضُنِي، حتى سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يُحِبُّ فلا يُحَدِّثْ به إلا من يُحِبّ، وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به، وَلْيَتْفُلْ عن يساره، وَلْيَتَعَوَّذْ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ شر ما رأى، فإنها لن تضره" (1). وفي "صحيح مسلم" عن جابر، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاث مرات، وَلْيَسْتَعِذْ بالله من الشيطان ثلاثًا، ولْيَتَحَوَّلْ عن جنبه الذي كان عليه" (2). ويُذْكَر عن النبي أن رجلًا قَصَّ عليه رؤيا فقال: "خيرًا رأيت، وخيرًا يكون" (3). __________ (1) "صحيح البخاري" (5747، 6984, 6986)، و"مسلم" (2261). (2) "صحيح مسلم" (2262). (3) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (775) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بإسنادٍ ضعيف جدًّا. قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/ 130): "والراوي له عن سعيد هو محمد بن عبيد الله. . . العرزمي،. . . وهو =

(1/258)


وفي روايةٍ: "خيرًا تلقاه، وشرًّا توقاه. خيرًا لنا، وشرًّا على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين" (1) . __________ = ضعيف جدًّا، حتى قال الحاكم أبو أحمد: أجمعوا على تركه". (1) جزءٌ من حديثٍ أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (1/ 479 - 480)، والطبراني في "الكبير" (8/ 302)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 329 - 331)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1541، 1660 - 1661)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 36 - 38) وغيرهم من حديث عبد الله بن زملٍ مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف جدًّا، مسلسلٍ بالعلل. قال ابن السكن -كما في "نتائج الأفكار" (3/ 132) -: ". . . هو حديثٌ طويل في تعبير الرؤيا، وهو منكر". وقال ابن حجر في "فتح الباري" (12/ 451): "وسنده ضعيف جدًّا". وانظر: "الإصابة" (4/ 96 - 97). وظاهرُ قولِ المصنِّف: "وفي رواية. . ." يُوهِم أن هذا الحديث والذي قبله حديثٌ واحدٌ اختلفتْ رواتُه، وقد تبيَّنَ لك أنهما حديثان مختلفان سندًا ومتنًا. وتبعَ المصنّفُ في هذا شيخَ الإسلام في "الكلم الطيّب" (87)، وهو تبِعَ النوويَّ في "الأذكار" (1/ 284). وانظر: "نتائج الأفكار" (3/ 131).

(1/259)


 الفصل السادس: في أذكار الخروج من المنزل

في "السنن" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قال -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفِيت وهُدِيت ووُقِيت، وتَنَحَّى عنه الشيطان، فيقول لشيطانٍ آخر: كيف لك بِرَجُلٍ قد كُفِي وَهُدِيَ وَوُقِيَ؟! " (1). __________ (1) أخرجه أبو داود (5095)، والترمذي (3426)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (89)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 984 - 985)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 171)، وابن أبي الدنيا في "التوكّل" (55) وغيرهم. قال الترمذي في "العلل الكبير" (362 - ترتيبه): "سألتُ محمدًا عن هذا الحديث، فقال: حدثوني عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج بهذا الحديث. ولا أعرف لابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة غير هذا الحديث. ولا أعرف له سماعًا منه". وقال الدارقطني في "العلل" (4/ ق 41/ أ): "يرويه ابن جريج، واختُلِف عنه: فرواه يحيى بن سعيد الأموي، وحجاج بن محمد عن ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. ورواه عبد المجيد بن أبي روّاد -وهو أثبت الناس في ابن جريج- قال: قال: حُدِّثَ (كذا، ولعلّها: حُدِّثْتُ) عن إسحاق. والصحيح أن ابن جريج لم يسمعه من إسحاق". وانظر: "الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة" لابن حجر (35)، وضمن "الجواهر والدرر" للسخاوي (2/ 912). وصححه ابن حبان (822)، وقال الترمذي -كما في "تحفة الأشراف" (1/ 85) -: "حسن غريب، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه". وللحديث شواهد يتقوَّى بها. =

(1/260)


وفي "مسند الإمام أحمد": "بسم الله، آمنت بالله، واعتصمت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله" حديث حسن (1) . وفي "السنن الأربع" عن أم سلمة قالت: ما خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بيته إلا رَفَعَ طَرْفَهُ إلى السماء فقال: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أوْ أُظْلَمَ، أوْ أَجْهَلَ أوْ يُجْهَلَ عَليَّ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2) . __________ = انظر: "نتائج الأفكار" (1/ 165 - 167). (1) أخرجه أحمد (1/ 218)، والمحامليّ في "الدعاء" (1)، وابن أبي الدنيا في "التوكل" (45)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 145 - 146)، وعبد الغني المقدسي في "الترغيب في "الدعاء" (122) وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من مسلم يخرج من بيته يريد سفرًا أو غيره، فقال حين يخرج:. . . (وذكره) إلّا رُزِق خير ذلك المخرج، وصُرِف عنه شرُّ ذلك المخرج". وفي إسناده اختلافٌ، وأصحُّ طرقه فيها رجل مبهم لم يُسمَّ، وآخرُ ضعيف. انظر: "علل الدارقطني" (3/ 65 - 66). وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 111 - 112) -: "حديث غريب، رجاله موثوقون إلا الراوي عن عثمان فمبهم لم يُسمّ". وأبو جعفر الرازي صدوق سيء الحفظ، كما في "التقريب". وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (24/ 357). (2) أخرجه الترمذي (3427)، وأبو داود (5094)، والنسائي (5501)، وفي "عمل اليوم والليلة" (76)، وابن ماجه (3884)، وأحمد (8/ 616) وغيرهم من طرقٍ =

(1/261)


 الفصل السابع: في أذكار دخول المنزل

في "صحيح مسلم" عن جابرٍ قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عَشاءَ، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المَبيت. فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المَبِيت والعَشاء" (1). وفي "سنن أبي داود" عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله __________ = عن منصور عن الشعبي عن أمِّ سلمة رضي الله عنها، واللفظ لأبي داود. قال علي بن المديني في "العلل" -كما في "التهذيب" (5/ 68) -: " (الشعبي) لم يلق أبا سعيد الخدري ولا أم سلمة". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم (1/ 519): "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وربّما توهّم متوهّم أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة، وليس كذلك؛ فإنه دخل على عائشة وأم سلمة جميعًا، ثم أكثر الرواية عنهما جميعًا". ولم يتعقبه الذهبي، وتعقبه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 160). ومراسيلُ الشعبي من أصحّ المراسيل. قال العجلي في "الثقات" (823): "مرسل الشعبي صحيح. لا يكاد يرسل إلا صحيحًا". وحسّن الحديث ابن حجر في "النتائج". وجملة "رفع طرفه إلى السماء" أُعِلَّتْ بالشذوذ، وليس ذلك بظاهر. انظر: "السلسلة الصحيحة" (3163). (1) "صحيح مسلم" (2018).

(1/262)


-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا وَلَجَ الرجل بيته، فليقل: اللَّهُمَّ إني أسألك خير المَوْلِج، وخير المَخْرَج، بسم الله وَلَجْنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلِّمْ على أهله" (1) . وفي "الترمذي" عن أنس قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا بُنَيَّ! إذا دخلت على أهلك فَسَلِّمْ يَكُنْ بركة عليك وعلى أهْلِ بيتك" (2) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح (3) . __________ (1) أخرجه أبو داود (5096)، والطبراني في "الكبير" (3/ 296)، و"مسند الشاميين" (2/ 447) بإسنادٍ ضعيفٍ؛ فيه انقطاع. قال أبو حاتم الرازي -كما في "المراسيل" (90) -: "شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسل". وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 172 - 173). (2) جزءٌ من حديث طويل أخرجه الترمذي (2698) مقتصرًا على هذا القَدْر، وروى طائفةً منه مفرّقًا في مواضع أخرى، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/ 123 - 125)، و"الصغير" (2/ 100 - 103) بطوله. وهو حديثٌ معلول. وقد بيّن الترمذي علّته في (2678). وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 168 - 169). وله طرقٌ أخرى كثيرة، لا يصحُّ منها شيء، ولا تصلح لأن يتقوّى الحديثُ بها. قال العقيلي في "الضعفاء" (1/ 148): "ليس لهذا المتن عن أنس إسناد صحيح". وقال في (1/ 119): "ولهذا الحديث عن أنس طرق ليس منها وجهٌ يثبت". وقال في (2/ 106): "وهذا المتن لا يعرف له طريق عن أنس يثبت". وانظر: (3/ 224) منه، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 52). (3) قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 168): "هكذا أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. كذا في كثير من النسخ =

(1/263)


 الفصل الثامن: في أذكار دخول المسجد والخروج منه

في "صحيح مسلم" عن أبي حُمَيْدٍ، أو أبي أُسَيْدٍ قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا دخل أحدكم المسجد فَلْيُسَلِّمْ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليقل: اللَّهُمَّ افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللَّهُمَّ إني أسألك من فضلك" (1). وفي "سنن أبي داود" عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم" قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظ مني سائِرَ اليوم" (2). __________ = المعتمدة، منها بخط الحافظ أبي علي الصدفي. ووقع بخط الكروخي: حسن صحيح. وعليه اعتمد في "الأذكار"، وفيه نظر؛ فإنّ على بن زيد. . .". وقد تابع المصنفُ ما في "الكلم الطيّب" (92)، وهو تَبِعَ ما في "الأذكار" (1/ 101). (1) "صحيح مسلم" (713). (2) أخرجه أبو داود (466)، ومن طريقه البيهقي فى "الدعوات" (1/ 50)، وابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 277) وقال: "هذا حديث حسن غريب، ورجاله موثقون، وهم من رجال الصحيح إلّا إسماعيل وعقبة". وهما صدوقان. وجوّد إسناده النووي في "الأذكار" (1/ 121).

(1/264)


 الفصل التاسع: في أذكار الأذان

في "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذِّن" (1). وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمروٍ أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلَّتْ له الشفاعة" (2). وفي "صحيح مسلم" عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حيَّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، مِنْ قلبه = دخل الجنة" (3). وفي "صحيح البخاري" عن جابرٍ أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يسمع النداء: اللَّهُمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ __________ (1) "صحيح البخاري" (611)، و"مسلم" (383). (2) "صحيح مسلم" (384). (3) "صحيح مسلم" (385).

(1/265)


محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وَعَدْتَه = حَلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة" (1) . وفي "سنن أبي داود" عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يَفْضُلُوننا، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قُلْ كما يقولون، فإذا انتهيت، فَسَلْ تُعْطَه" (2) . وفي "الترمذي" عن أنس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يُرَدُّ الدعاءُ بين الأذان والإقامة" قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: "سَلُوا الله العافية في الدنيا والآخرة" (3) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح (4) . __________ (1) "صحيح البخاري" (614، 4719). (2) أخرجه أبو داود (524)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (44)، وأحمد (2/ 616)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1004) وغيرهم. وصححه ابن حبان (1695)، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 368). (3) أخرجه الترمذي (3594)، وأبو داود (521)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (68، 69)، وأحمد (4/ 308)، وعبد الرزاق في "المصنّف" (1/ 495) وغيرهم. قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 364): "هذا حديث حسن، وهو غريب من هذا الوجه". وهو كما قال؛ فإن الزيادة التي وقعت في آخر الحديث: "قالوا: يا رسول الله. . ." شاذَّة، تفرّد بها يحيى بن اليمان، وفي حفظه ضعف، وانفرد الترمذيّ بإخراجها. وقد أخرج الحديثَ بدونها في (212، 3595) وقال: إنه أصحّ. وانظر: "إرواء الغليل" (1/ 262). وللحديث -دون هذه الزيادة- طرقٌ أخرى تزيده قوّة. وصححه من بعض طرقه ابن خزيمة (425، 426)، وابن حبان (1696). (4) كذا نقل المصنّف قول الترمذيّ؛ تبعًا لما في "الكلم الطيّب" (97)، وهو تبعًا =

(1/266)


وفي "سنن أبي داود" عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثنتان لا تُردَّان -أو قلّما تُردَّان- (1) الدعاءُ عند النداء، وعند البأسِ حين يُلْحِمُ بعضهم بعضًا" (2) . وفي "سنن أبي داود" عن أم سلمة قالت: علَّمني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أقول عند المغرب: "اللَّهُمَّ هذا إقبالُ ليلك، وإدبارُ نهارك، وأصواتُ دُعاتِك، وحضورُ صلواتك، فاغفر لي" (3) . __________ = لـ"الأذكار" للنووي (1/ 136). قال ابن حجر في "النتائج" (1/ 364 - 365) -بعد أن نقل عن الترمذي تحسين الحديث، فحسب-: "ونقل المصنّف أن الترمذيّ صحّحه، ولم أر ذلك في شيء من النسخ التي وقفت عليها، ومنها: بخط. . . الصدفي، ومنها بخط الكروخي. . .". (1) "أو قلّما تردان" من (ح)، وهي في رواية "السُّنن". (2) أخرجه أبو داود (2540)، والدارمي (1/ 288 - 289)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 410)، و"الدعوات" (1/ 36)، والطبراني في "الكبير" (6/ 135) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (419)، والحاكم (2/ 113 - 114) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (1065)، وقال ابن حجر في "النتائج" (1/ 369): "هذا حديث حسن صحيح". وانظر: "موطأ مالك" (1/ 117، 118 - رواية يحيى بن يحيى)، و"التمهيد" (21/ 138)، و"نتائج الأفكار" (1/ 369 - 370). (3) أخرجه أبو داود (530)، والطبراني فى "الدعاء" (2/ 1001)، والبيهقي في "الدعوات" (2/ 96)، و"الكبرى" (1/ 410) وغيرهم. وفي إسناده "أبو كثير، مولى أمّ سلمة". قال ابن حجر في "النتائج" (3/ 12): "ما عرفتُ اسمه ولا حاله، لكنه وُصِف بأنه مولى أمّ سلمة، فيمكن =

(1/267)


وفي "سنن أبي داود" عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أن بلالًا أَخَذَ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقامها الله وأدامها" (1) . فهذه خمسُ سُنَنٍ في الأذان (2) : * إجابتُه. * وقولُ: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولًا، حين يسمع التشهد. * وسؤالُ الله تعالى لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوسيلة والفضيلة. * والصلاةُ عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. __________ = تحسين حديثه". وهو تابعيّ، وصحّح حديثه هذا الحاكم في "المستدرك" (1/ 199) ولم يتعقبه الذهبي. وأخرجه الترمذي (3589)، وأبو يعلى (12/ 323 - 324)، والطبراني في "الكبير" (23/ 248) وغيرهم مِنْ وجهٍ آخر عن أبي كثير بإسنادٍ ضعيف، واستغربه الترمذي. (1) أخرجه أبو داود (528)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (105)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 411)، و"الدعوات" (1/ 53) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. وضعفه النووي في "المجموع" (3/ 130)، وابن حجر في "التلخيص" (1/ 222). وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 361 - 362). (2) انظر: "زاد المعاد" للمصنِّف (2/ 391 - 392).

(1/268)


* والدعاءُ لنفسه ما شاء. وعن سعد بن أبي وقاص، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال حين يسمع المؤذِّن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولًا، غفر الله له ذنوبه" (1) . __________ (1) أخرجه مسلم (386). إلّا أنه ليس في روايته بيانُ موضعِ هذا الذكر من الأذان، وأنه يكون عند تَشهُّد المؤذّن. وورد بيان ذلك في رواية ابن خزيمة في "صحيحه" (422)، ولفظه: "من سمع المؤذّن يتشهّد فالتفت في وجهه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. . .". وقد جاء حديثُ سعدٍ هذا متأخرًا هكذا إلى هذا الموضع في (ح)، وسقط من (ت) و (م)، وحقُّه أن يُذكر قبل قوله: "فهذه خمس سنن. . ."؛ ليناسب السياق.

(1/269)


 الفصل العاشر: في أذكار الاستفتاح

في "الصحيحين" أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في استفتاحه: "اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد" (1). وفي "سنن أبي داود" عن جُبَيْر بن مُطْعِم، أنه رأى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكْرَةً وأصيلًا، ثلاثًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه" (2). __________ (1) "صحيح البخاري" (744)، و"مسلم" (598) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه أبو داود (764، 765)، وابن ماجه (807)، وابن خزيمة (468، 469) وأعلَّه، وأحمد (5/ 725)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 231)، والبزار (8/ 365 - 367)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 35) وغيرهم. قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا يرويه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلّا جبير بن مطعم، ولا نعلم له طريقًا إلا هذا الطريق. وقد اختلفوا في اسم العنزي الذي رواه عن نافع بن جبير. . .، والرجل ليس بمعروف". وقال ابن خزيمة: "وعاصم العنزي وعباد بن عاصم مجهولان، لا يُدرى مَنْ هُما، ولا يُعْلَم الصحيح ما روى حصين أو شعبة". وكذا قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 88 - 89). واختُلِف في اسم عاصم العنزي اختلافًا كثيرًا، وورد مبهمًا في بعض المصادر السابقة. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 488 - 489). وصحّح حديثه هذا ابنُ حبان (1779، 1880)، والحاكم (1/ 235) ولم يتعقبه =

(1/270)


قال (1) : نفثُه: الشِّعْر، ونفخُه: الكِبْر، وهَمْزُه: المَوْتَة. وفي "السنن الأربعة" عن عائشة وأبي سعيد وغيرهما، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا استفتح الصلاة قال: "سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك،، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك" (2) . __________ = الذهبي، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (180)، وحسّنه ابن حجر في "النتائج" (1/ 412). ولبعضه شواهد. انظر: "الإرواء" (2/ 54 - 59)، و"نتائج الأفكار" (1/ 413 - 417). (1) القائل: هو عمرو بن مرّة، أحد رواة الحديث. (2) أخرجه الترمذي (243)، وابن ماجه (806)، وابن خزيمة (1/ 239 - 240)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 34)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 198) وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها. قال الترمذيّ: "لا نعرفه من حديث عائشة إلّا من هذا الوجه، وحارثة قد تُكُلِّم فيه من قِبَل حفظه". وقال ابن خزيمة: "وحارثة بن محمد رحمه الله ليس ممّن يحتج أهل الحديث بحديثه". ويُروى من وجهٍ آخر معلولٍ عن عائشة رضي الله عنها. أخرجه أبو داود (776)، والدارقطني في "السنن" (1/ 299)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 34) وغيرهم. وبيّن أبو داود علّته. أمّا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: فأخرجه الترمذي (242)، وأبو داود (775)، والنسائي (898)، وابن ماجه (804) وغيرهم. قال الترمذي: "وحديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب،. . .وقد =

(1/271)


وهو في "صحيح مسلم" عن عمر موقوفٌ عليه (1) . __________ = تُكُلِّم في إسناد حديث أبي سعيد،. . . وقال أحمد: لا يصحّ هذا الحديث". وانظر: "مسائل الإمام أحمد" (1/ 247 - رواية عبد الله). وأعلّه أبو داود بالإرسال. وحسنه ابن حجر في "النتائج" (1/ 402) وقال: "وأمّا النسائي فسكت عليه، فاقتضى أنه لا علّة له عنده". وقال ابن خزيمة (1/ 238): "وأحسن إسنادٍ نعلمه رُوِي في هذا (يعني: سبحانك اللَّهُمَّ. . .) خبر أبي المتوكّل عن أبي سعيد". وقال العقيلي في "الضعفاء" (1/ 289) بعد أن أخرج حديث عائشة المتقدم من الطريق الأولى: "فقد رُوِي من غير هذا الوجه بأسانيد جياد". وللحديث شواهد من حديث جماعةٍ من الصحابة. (1) "صحيح مسلم" (399/ 52)، وفي إسناده انقطاع. انظر: "تقييد المهمل" لأبي علي الغساني (3/ 809)، و"المحرّر" لابن عبد الهادي (106). وروي من طرق أخرى صحيحةٍ عن عمر رضي الله عنه موقوفًا. انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 300 - 301)، و"سنن البيهقي" (2/ 34 - 35). وروي عنه مرفوعًا، ولا يصحّ. انظر: "علل الدارقطني" (2/ 141 - 142)، و"تلخيص الذهبي للمستدرك" (1/ 235). وكان الإمام أحمد يذهب إلى هذا الاستفتاح، ويختاره، كما في "مسائله" (1/ 245، 247 - رواية عبد الله). وانظر وجه ذلك في: "مجموع الفتاوى" (22/ 394 - 396)، و"زاد المعاد" (1/ 205 - 206). وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 240): ". . . ولستُ أكره الاستفتاح بقوله: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، على ما ثبت عن الفاروق -رضي الله عنه- أنه كان يستفتح الصلاة، غير أن الافتتاح بما ثبت عن النبي =

(1/272)


وفي "صحيح مسلم" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام إلى الصلاة قال: "وَجَّهْتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمين، اللَّهُمَّ أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يَهْدِي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سَيِّئَها لا يصرف سَيِّئَها إلا أنت، لبَّيْك وسَعْدَيْك، والخير كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك، أنا بِكَ وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك"، وكان إذا ركع يقول في ركوعه: "اللَّهُمَّ لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصرى، ومُخّي وعَظْمِي وعَصَبِي"، وإذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد مِلْء السموات وملْء الأرض، وملْء ما بينَهما، وملْء ما شئت من شيء بعدُ"، وإذا سجد يقول في سجوده: "اللَّهُمَّ لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشَقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"، وكان آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعلنتُ، وما أسْرَفْتُ، وما أنت أعلم به مني، أنت المُقَدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت" (1) . __________ = -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خبر عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة وغيرهما، بنقل العدل عن العدل موصولًا إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحبُّ إليّ وأولى بالاستعمال؛ إذ اتباع سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل وخيرٌ من غيرها". (1) "صحيح مسلم" في "أبواب صلاة الليل" (771). قال المصنِّفُ في "زاد المعاد" (1/ 202 - 203): =

(1/273)


وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفتتح صلاته إذا قام من الليل: "اللَّهُمَّ رَبَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم" (1) . وفي "الصحيحين" عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللَّهُمَّ لك الحمدُ، أنت نورُ السموات والأرض ومَنْ فيهنّ، ولك الحمدُ، أنت قَيَّامُ السموات والأرض ومَنْ فيهنّ، ولك الحمدُ، أنت ربُّ السموات والأرض ومَنْ فيهنّ، ولك الحمدُ، أنت الحقُّ، ووعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤُك حقٌّ، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والنبيون حقٌّ، ومحمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقٌّ، والساعةُ حقٌّ. اللَّهُمَّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي لا إله إلا أنت" (2) . __________ = "المحفوظ أنّ هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل". وانظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/ 307)، و"الكلم الطيّب" (101)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 385، 387). وقد ورد الحديث هكذا تامًّا في هذا الموضع في النسخة (ح)، وورد في (ت) و (م) و (ق) مقتصرًا على دعاء الاستفتاح، ومفرَّقًا في مواضعه الآتية. (1) "صحيح مسلم" (770). (2) "صحيح البخاري" (1120، 6317، 7385)، و"مسلم" (769).

(1/274)


 الفصل الحادي عشر: في ذِكْر الركوع والسجود، والفصلِ بينهما، وبين السجدتين

في "السنن الأربعة" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول إذا ركع: "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات. وإذا سجد قال: "سبحان ربي الأعلى" ثلاث مرات (1). وفيه حديث علي رضي الله عنه، وقد سبق في الفصل قبله بطوله (2). وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك. اللَّهُمَّ اغفر لي" (3). __________ (1) أخرجه مسلم (772)، وأبو داود (871)، والترمذي (262)، والنسائي (1007)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، إلّا أنه ليس عندهم تقييد التسبيح بالثلاث. وأخرجه باللفظ الذي ذكره المصنِّف ابنُ ماجه (888) وحده، وإسناده ضعيف. وأخرجه بهذا التقييد عن حذيفةَ من وجهٍ آخر ابنُ خزيمة (668)، والدارقطني في "السنن" (1/ 341) وغيرهما بإسنادٍ فيه ضعف. وحسّنه ابن حجر في "النتائج" (2/ 65). وقد ورد تقييد التسبيح بالثلاث من فعله وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث جماعةٍ من الصحابة، مِنْ طرقٍ يثبت الخبر بمجموعها. والعمل على هذا عند أهل العلم، كما قال الترمذيّ. (2) كذا في (ح)، وذُكِر في (ت) و (م) و (ق) القسم المتعلّق بهذا الفصل. (3) "صحيح البخاري" (794، 817، 4293)، و"مسلم" (484).

(1/275)


وفي "صحيح مسلم" عنها رضي الله عنها: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والروح" (1) . وفي "سنن أبي داود" عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحان ذي الجَبَرُوتِ والملكوت، والكبرياءِ، والعَظَمة" (2) . وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد، مِلْء السموات، وملْء الأرض، ومِلْء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، اللَّهُمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعْطِي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" (3) . وفي "صحيح البخاري" عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: كنا نصلي يومًا وراء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: "من المُتَكَلِّم"؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: "لقد رأيتُ بِضْعَةً وثلاثين مَلَكًا يَبْتَدِرُونها أيُّهم يكتبها أوَّل" (4) . __________ (1) "صحيح مسلم" (487). (2) أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1048)، وأحمد (7/ 941) وغيرهم. وصححه النووي في "الأذكار" (1/ 167)، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 74 - 75). (3) "صحيح مسلم" (477). (4) "صحيح البخاري" (799).

(1/276)


وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أَقْرَبُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (1) . وعنه رضى الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في سجوده: "اللَّهُمَّ اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وأوَّلهُ، وآخره، وعلانيته، وَسِرَّه" (2) . وقالت عائشة رضي الله عنها: افتقدتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات ليلة، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ برضاك من سَخَطِك، وبمعافاتك من عُقوبتك، وأعوذ بكَ منك، لا أُحْصِي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (3) . روى مسلم هذه الأحاديث. وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول بين السجدتين: "اللَّهُمَّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجْبُرْني، وعافني، وارزقني" (4) . __________ (1) "صحيح مسلم" (482). (2) "صحيح مسلم" (483). (3) "صحيح مسلم" (486). (4) أخرجه أبو داود (846)، والترمذي (284، 285)، وابن ماجه (898)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 122) وغيرهم. وليس عند أبي داود قوله: "واجبرني". قال الترمذي: "هذا حديث غريب، وهكذا رُوِي عن عليّ،. . . وروى =

(1/277)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = بعضهم هذا الحديث عن كاملٍ أبي العلاء مرسلًا". وأخرجه الضياء في "المختارة" (10/ 133 - 135)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 262، 271) وصحّحه، وقال: "وأبو العلاء كامل بن العلاء ممّن يُجْمَع حديثه في الكوفيّين". والأقربُ ضعفُ كاملٍ أبي العلاء هذا، وقد تفرَّد بذكر هذا الدّعاء دون سائر من روى حديث ابن عباسٍ، وأصلُ الحديث محفوظ من رواية جماعة من الثقات بدونه. وأورد ابن حبّان في "المجروحين" (2/ 227) حديثه هذا في ترجمته، مستدلًّا به على ضعفه. كما أورده ابن عديّ في "الكامل" (6/ 81) في ترجمته، وقال في آخرها: "ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا فأذكره، إلّا أني رأيتُ في بعض رواياته أشياء أنكرتها، فذكرته من أجل ذلك، ومع هذا فأرجو أن لا بأس به". وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 122 - 123): "هذا حديث غريب. . .، فالمنفرد به كامل، وهو مختلف في توثيقه". وحسنه النووي في "الأذكار" (1/ 173). قال ابن حجر في "النتائج": "كأنه اعتمد فيه على سكوت أبي داود". ورُوي عن عليّ رضي الله عنه موقوفًا عند عبد الرزاق (2/ 187)، وابن أبي شيبة (2/ 534)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 190) وغيرهم. إلّا أنه من رواية الحارث الأعور عنه، والحارث ضعَّفه جماعة. وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (2/ 122) من وجهٍ آخر عن علي رضي الله عنه موقوفًا، وفي إسناده انقطاع. وورد من حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعًا عند البزّار (1/ 255 - 256 كشف الأستار) بإسنادٍ ضعيف جدًّا كما قال ابن رجب في "فتح الباري" (7/ 276). وقال ابن حجر في "النتائج" (2/ 125): "بسندٍ فيه ضعف". والدُّعاء ثابتٌ في "صحيح مسلم" (2696، 2697) بدون تقييدٍ بما بين =

(1/278)


وفي "السنن" أيضًا عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول بين السجدتين: "رَبِّ اغفر لي، رَبِّ اغفر لي" (1) . __________ = السجدتين في الصلاة. (1) أخرجه أبو داود (874)، والنسائي (1068)، والطيالسي (1/ 332)، والبيهقي في "الدعوات" (1/ 59) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (684)، والحاكم (1/ 321)، وحسنه ابن حجر في "النتائج" (2/ 62). ووقع خلاف في وصل الحديث وإرساله، وتعيين الراوي عن حذيفة. انظر: "سنن النسائي" (3/ 226)، و"مسند البزار" (7/ 336)، و"نتائج الأفكار" (2/ 121). وأصلُ حديث حذيفة هذا في "صحيح مسلم"، وقد تقدَّم، وليس فيه ذكر الدعاء بين السجدتين.

(1/279)


 الفصل الثاني عشر: في أدعية الصلاة، وبعد التشهُّد (1)

في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا فرغ أحدكم من التشهد، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" (2). وفيهما أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدعو في الصلاة: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من المَأْثَم والمَغْرَم". فقال له قائل: ما أكثَر ما تستعيذ من المَغْرَم؟! فقال: "إن الرجل إذا غَرِم حَدَّثَ فكذب، ووعد فأخلف" (3). وقد تقدم في "الصحيحين" أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: "قُلْ: اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" (4). وفي "صحيح مسلم" من حديث علي رضي الله عنه في صفة صلاة __________ (1) كذا في الأصول: "وبعد التشهد" بإثبات الواو، وهو صحيح، وفي المطبوعات التي وقفت عليها: "أدعية الصلاة بعد التشهد" بدون الواو، وهو خطأ؛ فإن الأدعية المذكورة في هذا الفصل ليست كلّها مما ورد قولُه بعد التشهّد. (2) "صحيح البخاري" (1377)، و"صحيح مسلم" (588). (3) "صحيح البخاري" (832، 2397)، و"مسلم" (587، 589). (4) انظر: (ص: 277).

(1/280)


رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقد تقدم بطوله في الفصل العاشر (1) . وفي "سنن أبي داود" أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة"؟ قال: أتشهَّدُ، وأقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أَمَا إني لا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك ولا دَنْدَنَةَ معاذ؛ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حولها نُدَنْدِن" (2) . وفي "المسند" و"السنن" عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في صلاته: "اللَّهُمَّ إني أسألك الثَّبَاتَ في الأمر، والعزيمة على الرُّشْد، وأسألك شُكْرَ نعمتك، وحُسْنَ عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك مِنْ خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" (3) . __________ (1) انظر: (ص: 273). والعبارة هكذا في (ح)، وفي (ت) و (م) و (ق) ذُكِر الدعاء المتعلّق بهذا الفصل، كما تقدّم التنبيه عليه. (2) أخرجه أبو داود (792)، وابن ماجه (910)، وأحمد (5/ 458) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (725)، وابن حبان (868). وصححه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 226). (3) أخرجه أحمد (5/ 838)، والترمذي (3407)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1081) وغيرهم من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجلٍ من بني حنظلة عن شداد بن أوس رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه". وحسنه ابن حجر في "النتائج" (3/ 74). وأخرجه النسائي (1303)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1081) وغيرهما من طريق أبى العلاء بن الشخير عن شدادٍ، بدون واسطة. وصححه ابن حبان (1974). =

(1/281)


وفي "سنن النسائي" أن عمار بن ياسر صلى صلاة، ودعا فيها بدعواتٍ وقال: سمعتهن من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغيب، وقُدْرَتِكَ على الخلق، أحْيِني إذا علمت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، إني أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحق في الغضب والرضى، وأسألك القَصْدَ في الفقر والغِنَى، وأسألك نعيمًا لا يَنْفَد، وأسألك قُرَّةَ عَيْنٍ لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العَيْشِ بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين" (1) . __________ = وأخرجه أحمد (4/ 123)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 171) وغيرهما، بدون تقييد بالصلاة. وصححه ابن حبان (935). وأخرجه الحاكم (1/ 508) من وجهٍ آخر، وصححه على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. قال ابن حجر في "النتائج" (3/ 77): "وهذه طرق يقوّي بعضها بعضًا، يمتنع معها إطلاق القول بضعف الحديث". (1) أخرجه النسائي (1304)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1079)، والبيهقي في "الدعوات" (1/ 164) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة بإخراجه إياه في كتاب "التوحيد" (1/ 29 - 30) ساكتًا عليه، وصححه ابن حبان (1971)، والحاكم (1/ 524 - 525) ولم يتعقبه الذهبي. وورد في (ح): "لذة النظر إلى وجهك الكريم"، والمثبت من (ت) و (م) و (ق) وروايةِ النسائي وباقي المصادر.

(1/282)


 الفصل الثالث عشر: في الأذكار المشروعة بعد السلام، وهو إدبار السجود

في "صحيح مسلم" عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: "اللَّهُمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (1). وفي "الصحيحين" عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا فرغ من الصلاة قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (2). وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُهَلِّلُ دُبُرَ كل صلاة حين يُسَلِّمُ بهؤلاء الكلمات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النِّعمةُ وله الفضلُ، وله الثناءُ الحَسَن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كَرِهَ الكافرون" (3) __________ (1) "صحيح مسلم" (591). وفي (ح): "استغفر الله ثلاثًا"، والمثبت من (ت) و (م) و (ق)، و"صحيح مسلم". (2) "صحيح البخاري" (2844، 6330، 6473، 6615)، و"مسلم" (593). (3) "صحيح مسلم" (594).

(1/283)


وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من سبح الله في دُبُرِ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، وَحَمِد الله ثلاثًا وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفِرَت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر" (1) . وفي "السنن" عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "خصلتان -أو خَلَّتان- لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يَسِيرٌ، ومن يَعْمَلُ بهما قليل: يُسَبِّحُّ الله في دبر كل صلاة عشرًا، ويحمده عشرًا، ويكبِّره عشرًا، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان. ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويسبح ثلاثًا وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان". قال: ولقد رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعقدها بيده. قالوا: يا رسول الله، كيف هما يسيرٌ ومن يعمل بهما قليل؟! قال: "يأتي أحدَكم -يعني الشيطانُ- في منامه، فَيُنَوِّمُه قبل أن يقوله (2) ، ويأتيه في صلاته فيُذَكِّرَهُ حاجته قبل أن يقولها" (3) . __________ (1) "صحيح مسلم" (597). (2) كذا في (ح) و (ق) و"سنن أبي داود"، وفي (ت) و (م): "يقولها". (3) أخرجه أبو داود (5065)، والترمذي (3410)، والنسائي (1347)، وفي "عمل اليوم والليلة" (819)، وابن ماجه (926) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2012، 2018). وصححه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 282).

(1/284)


وفي "السنن" عن عقبة بن عامر قال: أَمَرَنِي رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أقرأ بالمعوّذتَيْن دبر كل صلاة (1) . وفي "النسائي الكبير" عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قرأ آية الكرسي عَقِبَ كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلّا أن يموت" (2) . يعني لم يكن بينه وبين دخول الجنة إلا الموت. __________ (1) أخرجه أبو داود (1523)، والترمذي (2903)، والنسائي (1335) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه ابن خزيمة (755)، وابن حبان (2004)، والحاكم (1/ 253) ولم يتعقبه الذهبي. ولفظ الترمذي: "بالمعوذتين"، وعند الباقين: "بالمعوذات". (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (100)، وضمن "السنن الكبرى" (9/ 44)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1104)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 354) وغيرهم. وصححه ابن حبان -كما في "النكت على ابن الصّلاح" لابن حجر (2/ 849)، و"الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 448) -. وعزاه بعضهم إليه في "صحيحه"، ولعلّه وهم؛ فإنّي لم أره فيه، وقد ذكر ابن حجر في "النتائج" (2/ 295) أنه إنما أخرجه في كتاب "الصلاة" المفرد، ولم يخرجه في كتابه "الصحيح". وقال ابن كثير عن إسناده في "التفسير" (2/ 623): "إسناده على شرط البخاري". وكذا قال شيخه المزّي -فيما نقل المصنِّف عنه هنا-. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (479)، فلم يُصِبْ. قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 294 - 295): "هذا حديث حسن غريب،. . . وقد أنكر الحافظ الضياء هذا على ابن =

(1/285)


وبلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ما تركتُه عقيب كل صلاة إلا نسيانًا. أو نحوه (1) . قلت: وقد بالغ أبو الفرج بن الجوزي في إدخاله هذا الحديث في "الموضوعات"، وقال شيخنا أبو الحجاج المِزِّي رحمه الله: إسناده على شرط البخاري (2) . __________ = الجوزي، وأخرجه في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين"، وقال ابن عبد الهادي: لم يُصِبْ أبو الفرج، والحديث صحيح". وانظر: "المحرّر" لابن عبد الهادي (124 - 125)، و"زاد المعاد" (1/ 303 - 304). (1) وانظر: "زاد المعاد" (1/ 304). وقال شيخ الإسلام -كما في "مجموع الفتاوى" (22/ 516) -: "وأمّا قراءة آية الكرسي فقد رُوِيت بإسنادٍ لا يمكن أن يثبت به سنّة". وقال -أيضًا- في (22/ 508 - 509): "رُوِي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث، لكنه ضعيف؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي. . .". وهذا يَبْعُدُ معه ما بَلَغ ابنَ القيّم -رحمه الله تعالى- عن شيخه، ولعلَّ الخلل من الواسطة. والله أعلم. (2) من قوله: "وبلغني" إلى هنا، من (م) فقط.

(1/286)


 الفصل الرابع عشر: في ذِكْرِ التشهد

ثبت في "الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود قال: علَّمني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التشهد -وكَفِّي بين كَفَّيْه- كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (1). وفي "صحيحِ مسلم" عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنا التشهد كما يُعَلِّمُنا السورة من القرآن، وكان يقول: "التحيات المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" (2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَّمهم التشهد: "التحيات الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (3). __________ (1) "صحيح البخاري" (831، 835، 1202، 6230، 6265)، و"مسلم" (402). (2) "صحيح مسلم" (402). ولم يرد الحديث في (ت). (3) "صحيح مسلم" (404).

(1/287)


وروى أبو داود عن عمر بن الخطاب (1) ، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التشهد: "التحيات لله، الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (2) . وروى أبو داود، عن سمرة بن جندب: أما بعد: أمرنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كان في وسط الصلاة، أو حين انقضائها، فابدؤوا قبل السلام فقولوا: "التحيات الطيبات والصلوات والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلّموا على قارئكم وعلى أنفسكم" (3) . __________ (1) كذا في الأصول التي بين يديّ. وفي "سنن أبي داود" وباقي المصادر: "عن ابن عمر"، وهو الصّواب. (2) أخرجه أبو داود (963)، والدارقطني في "السنن" (1/ 351)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 139، 142) وغيرهم. قال الترمذي في "العلل الكبير" (71 - ترتيبه): "سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: روى شعبة عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر، وروى سيف عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود. قال محمد: وهو المحفوظ عندي". وانظر: "مسند أحمد" (2/ 68). (3) أخرجه أبو داود (967) بإسنادٍ ضعيفٍ كما قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 267). وقال في (1/ 271): "لما فيه من المجاهيل". وبهذا أعلّه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 232) و (5/ 138 - 139). وقال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" =

(1/288)


وذكر مالك في "الموطأ" أن عمر رضي الله عنه كان يُعَلِّمُ الناس التشهد وهو على المنبر، يقول: "قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (1) . فأيُّ تَشَهُّدٍ أتى به من هذه التشهُّدات أجزأه. وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة إلى تشهُّد ابن مسعود (2) ، وذهب __________ = (1/ 414 - 415): "ليس هذا الإسناد مشهورًا". وهو إسنادُ نسخة كتاب سمرة رضي الله عنه مِنْ رواية أبنائه عنه. وهذا الحديثُ منها. وقال الذهبيّ في "الميزان" (1/ 408): "وبكلِّ حالٍ، هذا إسنادٌ مظلمٌ لا ينهض بحكم". وانظر: "المرسل الخفيّ وعلاقته بالتدليس" لشيخنا الشريف حاتم العوني (3/ 1424 - 1431). (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 144)، ومن طريقه الشافعي في "الرسالة" (268)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 265 - 266)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 261) وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ، كما قال الزيلعيّ في "نصب الراية" (1/ 422). وجعله بعض الرُّواة عن عمر مرفوعًا، وهو وَهْمٌ. انظر: "علل الدارقطني" (2/ 82 - 83)، و"التلخيص الحبير" (1/ 283). (2) انظر: "مسائل الإمام أحمد" (1/ 277 - 279 رواية عبد الله)، و"الحجة على أهل المدينة" لمحمد بن الحسن (1/ 130).

(1/289)


الشافعي إلى تشهُّد ابن عباس (1) ، وذهب مالك إلى تشهُّد عمر رضي الله عنه (2) . والكُلُّ كافٍ مُجْزِئ. __________ (1) انظر: "الأم" (1/ 269). (2) انظر: "المدونة" (1/ 143). وهو الذي ذكره في "الموطأ".

(1/290)


 الفصل الخامس عشر: في ذكر الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

في "الصحيحين" عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلنا: يا رسول الله! قد عرفنا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: "قولوا: اللَّهُمَّ صل على محمد، وعلى آلِ محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (1). وفي "الصحيحين" أيضًا: عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللَّهُمَّ صل على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله __________ (1) "صحيح البخاري" (3370، 4797، 6357)، و"مسلم" (406)، واللفظ لمسلمٍ والبخاريّ -في الموضعين الأخيرين، ولفظه في الموضع الأوّل: "على إبراهيم وآل إبراهيم"-. وانظر لرأي الشيخين (ابن تيمية وابن القيم) في الجمع بين "إبراهيم" و"آل إبراهيم" في الصلاة الإبراهيمية: "مجموع الفتاوى" (22/ 454 - 457)، و"جلاء الأفهام" (419 - 429)، و"القواعد" لابن رجب (1/ 89 - 90). (2) "صحيح البخاري" (3369, 6360)، و"مسلم" (407).

(1/291)


-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى تمنينا أنه لم يسأله. ثم قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قولوا: اللَّهُمَّ صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم" (1) . وذكر ابن ماجه في "سننه" عن عبد الله بن مسعود قال: إذا صليتم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأحسنوا الصلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعْرَض عليه. قال: فقالوا له: فعلِّمْنا، قال: قولوا: اللَّهُمَّ اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللَّهُمَّ ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون، اللَّهُمَّ صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد (2) . __________ (1) "صحيح مسلم" (405). (2) أخرجه ابن ماجه (906)، وأبو يعلى في "مسنده" (9/ 175)، والبيهقيُّ في "الدعوات" (1/ 119)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 271) وغيرهم. قال أبو موسى المديني: "هذا حديث مختلف في إسناده". نقله السخاوي في "القول البديع" (126)، ثم قال: "وإسناد الموقوف حسن. بل قال الشيخ علاء الدين مغلطاي: إنه صحيح". ثم ذكر اعتراض بعض المتأخرين على تحسين الحديث. وأعلّه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 311). وانظر: "علل الدارقطني" (5/ 15 - 16). والحديث محتملٌ للتحسين.

(1/292)


 الفصل السادس عشر: في ذكر الاستخارة

في "صحيح البخاري" عن جابر قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا الاستخارة في الأمر كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللَّهُمَّ إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويُسَمِّي حاجته- خير لي في دينى ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدُره لي، ويَسِّرْهُ لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به" (1). وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارة الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شِقْوَةِ ابن آدم تركُه استخارة الله، ومن شِقْوَةِ ابن آدم سَخَطُه بما قضى الله" (2). __________ (1) "صحيح البخاري" (1162، 6382، 7390). (2) أخرجه أحمد (1/ 459 - 460)، والترمذي (2152)، والبزّار (4/ 18 - 19) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد،. . . وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقويّ عند أهل الحديث". وأورد حديثه هذا الذهبيّ في ترجمته من "الميزان" (3/ 539) إشارةً إلى =

(1/293)


وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية -رضي الله عنه- يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبَّت (1) في أمره (2) . وقد قال سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. قال قتادة: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هُدُوا إلى أرشد أمرهم (3) . __________ = أنه مما يستنكر عليه. ورُوِي من غير طريقه عند أبي يعلى في "مسنده" (2/ 60) بإسنادٍ ضعيف أيضًا. وصحح الحديث من الوجه الأوّل الحاكم (1/ 518) ولم يتعقبه الذهبي، وحسن إسناده ابن حجر في "الفتح" (11/ 187). وفي ذلك نظر. (1) (ح): "وثبت". (2) انظر: "الكلم الطيّب" (ط المنيرية)، و"مجموع الفتاوى" (10/ 661). وقد رُوِي نحو هذه العبارة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وجهٍ لا يثبت. (3) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (7/ 343 - 344). وفي (ت) و (م) و (ق): "إلَّا هدوا لأرشد أمرهم". وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" (258)، وابن جرير (7/ 344) عن الحسن البصريّ نحوه بسند قويّ، كما قال الحافظ في "الفتح" (13/ 340).

(1/294)


 الفصل السابع عشر: في أذكار الكرب والغم والحزن والهم

في "الصحيحين": عن ابن عباس أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم" (1). وفي "الترمذي" عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ قال: "يا حَيُّ يا قيوم برحمتك أستغيث" (2). وفيه أيضًا: عن أبي هريرة، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أَهَمَّهُ الأمرُ رفع رأسه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حَيُّ يا قيوم" (3). __________ (1) "صحيح البخاري" (6346)، و"مسلم" (2730). (2) أخرجه الترمذي (3524)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (338) بإسنادٍ ضعيف. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب". وله شاهد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. أخرجه الحاكم (1/ 509)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات" (1/ 127)، وإسناده ضعيف. وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبيُّ بقوله: "قلت: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن (يعني: ابن إسحاق) ومَنْ بعده ليسوا بحجة". وانظر: "الفتوحات الربانية" لابن علّان (4/ 5 - 6). (3) أخرجه الترمذي (3436)، وقال -كما في "تحفة الأشراف" (9/ 467) -: غريب. وقال البغوي في "شرح السنة" (5/ 123): "وهو حديث غريب". =

(1/295)


وفي "سنن أبي داود" عن أبي بكرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "دَعَواتُ المكروب: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجو، فلا تَكِلْنِي إلى نفسي طرفة عين، وأَصْلِحْ لي شأني كله، لا إله إلا أنت" (1) . وفي "السنن" -أيضًا- عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا أُعَلِّمُكِ كلماتٍ تقولينَهُنَّ عند الكَرْبِ -أو في الكَرْبِ-؟؛ اللهُ اللهُ ربي لا أشرك به شيئًا" (2) . __________ = وقال ابن حجر في "النتائج -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 6) -: "ورجاله ثقات، إلا إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم؛ فإنهم اتفقوا على ضعفه". (1) أخرجه أبو داود (5049)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (651)، والطيالسي (910)، والبخاري في "الأدب المفرد" (701) وغيرهم. وصححه ابن حبان (970)، وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 8) -. وأعله النسائي في "عمل اليوم والليلة" (22) بِـ "جعفر بن ميمون"، وقال: "ليس بالقويّ في الحديث". (2) أخرجه أبو داود (1525)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (649)، وابن ماجه (3882) وغيرهم. وفي إسناده: "هلال، مولى عمر بن عبد العزيز"، وفيه جهالة. وعدّه بعضُهم "أبا طعمة، مولى عمر بن عبد العزيز"، وهو ثقة. والأقرب التفريق بينهما. وهذا موضعٌ يحتاج إلى مزيد تحرير. وله طريق أخرى عن أسماء -رضي الله عنها-. أخرجها البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 328)، والطبراني في "الكبير" =

(1/296)


وفي رواية أنها تقال سبع مرات (1) . وفي رواية الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دعوةُ ذي النون إذْ دعا وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، لم يَدْعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" (2) . وفي روايةٍ له: "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس عليه السلام". وفي "مسند الإمام أحمد" و"صحيح ابن حبَّان" عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حَزَنٌ فقال: اللَّهُمَّ إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمُك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سَمَّيْتَ به نفسك، أو أنزلته في __________ = (24/ 154) وغيرهما. وفي الإسناد راوٍ فيه جهالة -أيضًا-. وله شاهد من حديث ثوبان، وعائشة -رضي الله عنهما-. فالحديث حسن بمجموع ذلك. وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 9) -. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (2755). (1) أخرجها إسحاق بن راهويه في "المسند" (5/ 33)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (650)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1276) عن عمر بن عبد العزيز مرسلًا. والأشبه أنها خطأ، والمحفوظ رواية الحديث عن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر عن أسماء باللفظ المتقدم. (2) تقدم تخريجه (ص: 224).

(1/297)


كتابك، أو عَلَّمْتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حُزْني، وذهاب هَمِّي = إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا" (1) . __________ (1) أخرجه أحمد (2/ 47، 181)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 253) وغيرهما. وصححه ابن حبان (972)، والحاكم (1/ 509) على شرط مسلم، وقال: "إنْ سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه من أبيه". والراجح ثبوت سماعه منه. وتعقبه الذهبيّ بقوله: "قلت: وأبو سلمة لا يُدري من هو". والأقرب أنه موسى الجهني، وهو ثقة. انظر: "شرح المسند" لأحمد شاكر (5/ 267)، و"السلسلة الصحيحة" (199). وله طريقٌ أخرى، وشاهدٌ من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. وصحّح الحديثَ المصنّفُ في "شفاء العليل" (2/ 749 - 750)، و"الجواب الكافي" (265)، و"جلاء الأفهام" (248)، و"الصواعق المرسلة" (3/ 913)، و"إعلام الموقعين" (1/ 162). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 13) -.

(1/298)


 الفصل الثامن عشر: في الأذكار الجالبةِ للرِّزْقِ، الدافعةِ للضِّيقِ والأذى

قال الله سبحانه وتعالى عن نبيه نوح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12]. وفي بعض "المسانيد" عن ابن عباسٍ أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال (1): "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيثُ لا يحتسب" (2). وذكر أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" حديثًا مرفوعًا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تُصِبْه فاقةٌ أبدًا" (3). __________ (1) (ت) و (م) و (ق): "وفي بعض المسانيد: من لزم الاستغفار. . .". (2) أخرجه أبو داود (1518)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (456)، وابن ماجه (3819) وغيرهم. وصححه الحاكم (4/ 262)، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: فيه الحكم بن مصعب، فيه جهالة". وقال البغوي في "شرح السنة" (5/ 79): "هذا حديث يرويه الحكم بن مصعب بهذا الإسناد، وهو ضعيف". وانظر: "المجروحين" لابن حبان (1/ 249) مهم. (3) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 269)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (721 - زوائده)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 105) وغيرهم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بإسنادٍ مسلسلٍ بالعلل. قال ابن الجوزي: "قال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. وشجاع والسَّرِيُّ لا =

(1/299)


 الفصل التاسع عشر: في الذكر عند لقاء العدو وَمَنْ يُخاف مِنْ سلطانٍ وغيره

في "سنن أبي داود" و"النسائي" عن أبي موسى الأشعري، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خاف قومًا قال: "اللَّهُمَّ إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم" (1). ويُذْكَر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول عند لقاء العدو: "اللَّهُمَّ أنت عَضُدِي، وأنت ناصري، وبِكَ أُقاتِل" (2). __________ = أعرفهما". وفصَّلَ الزيلعيُّ عِلَله في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 413 - 414). وانظر: "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/ 662 - 664)، و"نتائج الأفكار" (3/ 262 - 264). (1) أخرجه أبو داود (1537)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (601)، وأحمد (6/ 644) وغيرهم. وصححه ابن حبان (4765)، والحاكم (2/ 142) ولم يتعقبه الذهبي. وصححه النووي في "الأذكار" (1/ 341)، وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 16) -: "حديث حسن غريب، ورجاله رجال الصحيح، لكن قتادة مدلّس، ولم أره عنه إلّا بالعنعنة". وانظر: "الأمالي المطلقة" (127 - 128). وقال يحيى بن معين -كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (169) -: "قتادة، لا أعلم سمع من أبي بردة". (2) أخرجه أبو داود (2632)، والترمذي (3584)، والنسائي في "عمل اليوم =

(1/300)


وعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان في غزوةٍ فقال: "يا مالك يوم الدين، إياك أعبد، وإياك أستعين". قال أنس: فلقد رأيت الرجال تصرعها الملائكة من بين يديها ومن خلفها (1) . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا خِفْتَ سلطانًا أو غيره فقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت، عَزَّ جارُك، وَجَلَّ ثناؤُك" (2) . __________ = والليلة" (604) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه ابن حبان (4761)، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (4/ 217)، والضياء في "المختارة" (6/ 339). وصححه ابن حجر في "النتائج -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 60) -. وفي المصادر السابقة زيادة ليست في الأصول التي بين يديّ للكتاب، وهي: ". . . وبك أحول، وبك أصول". (1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/ 123)، و"الدعاء" (2/ 1278)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (335) عن أبي طلحة -رضي الله عنه- بإسنادٍ ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 328): "رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه عبد السلام بن هاشم، وهو ضعيف". وسقط من رواية ابن السني: "عن أبي طلحة"، ولابُدَّ منه، كما يقول ابن حجر في "النتائج". انظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 19). وفي (ت) و (م): "إياك نعبد وإياك نستعين"، وهي كذلك في بعض المصادر. (2) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (346) بإسنادٍ ضعيف جدًّا، فيه =

(1/301)


وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أُلْقِيَ في النار، وقالها محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] (1) . __________ = راوٍ متّهم، وآخر ضعيف، كما بيّنه ابن حجر في "نتائج الأفكار". انظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 17). ورُوِي نحوه موقوفًا على ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 202)، والبخاري في "الأدب المفرد" (707) بإسنادٍ صحيح. وروي مرفوعًا، ولا يصحّ. انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 515)، و"بذل الماعون" لابن حجر (167)، و"السلسلة الضعيفة" (2400). وروي نحوه موقوفًا على ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 203)، والبخاري في "الأدب المفرد" (708)، والطبراني في "الكبير" (10/ 258) وغيرهم بإسنادٍ حسن. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 137): "رجاله رجال الصحيح". وكذا قال ابن حجر في "بذل الماعون" (167). (1) "صحيح البخاري" (4563).

(1/302)


 الفصل العشرون: في الأذكار التي تَطْرُدُ الشيطان

قد تقدم أن من قرأ آية الكرسي عند نومه لم يَقْرَبْه شيطان (1)، وأن من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كَفَتاه (2)، ومن قال في يومٍ مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له حِرْزًا من الشيطان يومه كله (3). وقد قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: 97 - 98]. وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه" (4). وقال سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. والأذان يطرد الشيطان كما تقدم (5). وعن زيد بن أسلم: أنه وَلِيَ مَعادِنَ، فذكروا كثرة الجن بها، فأمرهم __________ (1) انظر: (ص: 207، 248). (2) انظر: (ص: 248). (3) انظر: (ص: 160، 206). (4) جزء من حديث جبير بن مطعمٍ -رضي الله عنه- في الاستفتاح، وقد تقدم (ص: 270). (5) انظر: (ص: 212).

(1/303)


أن يؤذِّنوا كل وقت ويُكْثِروا من ذلك، فلم يكونوا يَرَوْنَ بعد ذلك شيئًا (1) . وفي "صحيح مسلم" عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يَلْبِسُها عَلَيَّ. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ذاك شيطان يقال له: خِنْزَب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا" ففعلت ذلك، فأذهبه الله عز وجل عني (2) . وأمر ابنُ عباس رجلًا وَجَدَ في نفسه شيئًا من الوسوسة والشَّكِّ أن يقرأ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] (3) . ومِنْ أعظم ما يندفع به شَرُّه قراءةُ المعوذتين، وأولِ "الصافات"، وآخرِ "الحشر" (4) . __________ (1) أخرجه اللالكائي في "كرامات أولياء الله عز وجل" (127)، ومن طريقه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (5/ 317). وفي روايته: "استُعمِل زيد بن أسلم على معدن بني سُليْم. . ." الخبر. (2) "صحيح مسلم" (2203). (3) أخرجه أبو داود (5110)، ومن طريقه الضياء المقدسي في "المختارة" (10/ 419) بإسنادٍ حسن. وجوّد إسناده النووي في "الأذكار" (1/ 351). وانظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 37). (4) أمّا قراءة المعوّذتين فقد وردت بها أحاديث صحاح، من وجوهٍ تقدم بعضها، وأمَّا قراءة أول "الصافات" وآخر "الحشر" فوردت في حديثٍ أخرجه ابن ماجه (3549)، وأبو يعلى (3/ 167 - 168)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (7/ 109)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1304)، والبيهقي في =

(1/304)


 الفصل الحادي والعشرون: في الذكر الذي تُحْفَظُ به النِّعَم، وما يُقال عند تجدُّدِها

قال الله سبحانه وتعالى في قصة الرجلين: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. فينبغي لمن دخل بستانه، أو داره، أو رأى في ماله وأهله ما يُعْجِبُه أن يُبادِرَ إلى هذه الكلمة، فإنه لا يَرى فيه سوءًا. وعن أنسٍ قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أنعم الله على عبدٍ نعمة في أهل ومال وولد فقال: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فَيرَى فيها آفةً دون الموت" (1). __________ = "الدعوات" (2/ 312 - 313) وغيرهم. وصححه الحاكم (1/ 412 - 413)، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: فيه أبو جناب الكلبي، ضعفه الدارقطني، والحديثُ منكر". وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 398 - 399)، وأعلّه بِـ "أبي جناب"، وضعيفٍ آخر. وانظر: "بذل الماعون" لابن حجر (161)، و"مجمع الزوائد" (5/ 115)، و"إتحاف الخيرة" للبوصيري (4/ 461 - 462)، و"الفتوحات الربانية" (4/ 42). إلّا أنه لا يلزم من عدم صحَّةِ هذا الحديث انتفاءُ تأثير هذه الآيات في دفع شرور الشيطان، وعدمُ جواز قصد الرُّقية بها؛ إذْ القرآن كلُّه شفاء ورحمة، ثمَّ إنَّ مردَّ ذلك إلى التجربة والمشاهدة كما هو متقرِّر، والله أعلم. (1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4/ 301)، و"الصغير" (1/ 352)، والخطيب =

(1/305)


وعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان إذا رأى ما يَسُرُّه قال: "الحمد لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصالحات"، وإذا رأى ما يَسُوؤُه قال: "الحمد لله على كُلِّ حال" (1) . __________ = في "تاريخ بغداد" (3/ 198 - 199)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 283)، وأبو القاسم التيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (339) وغيرهم بإسناد ضعيف. قال ابن كثير في "التفسير" (5/ 2162) بعد أن ذكر الحديث: "قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس؛ لا يصحّ حديثه". وبـ"عبد الملك بن زرارة" أعلّه الهيثمي في "المجمع" (10/ 140). وجاء من وجهٍ آخر عن أنسٍ بمعناه. أخرجه البزار (3/ 404 - كشف الأستار)، وقال: "لا نعلم رواه إلا أنس، ولا نعلم له إلا هذا الطريق". وقال ابن حجر في "مختصر زوائد البزّار" (1/ 644): "أبو بكرٍ ضعيفٌ، والراوي عنه كذلك". وبـ"أبي بكر الهذلي" أعلّه الهيثمي في "المجمع" (5/ 109). وأخرجه في ترجمته ابنُ عدي في "الكامل" (3/ 325). وقد صحح المصنفُ الحديثَ من وجهه الأوّل في "شفاء العليل" (1/ 182)، وهو بعيد. (1) أخرجه ابن ماجه (3803)، والطبراني في "الأوسط" (6/ 375 - 376) و (7/ 109)، و"الدعاء" (3/ 1595 - 1596)، والبيهقي في "الدعوات" (2/ 86) وغيرهم من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وصححه الحاكم (1/ 499)، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 192)، وجوّد إسناده النوويّ في "الأذكار" (2/ 783). وفيه زهير بن محمد التميمي، وفي حديث أهل الشام عنه مناكير، وهذا من حديثهم عنه. وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (532)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" =

(1/306)


 الفصل الثاني والعشرون: في الذكر عند المصيبة

قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. وَيُذْكَر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لِيَسْتَرْجِعْ أحدكم في كل شيءٍ، حتى في شِسْعِ نعله فإنها من المصائب" (1). وقالت أم سلمة: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "ما من عبدٍ تصيبه __________ = (10/ 340)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1596) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن بعض أشياخه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال أبو داود: "رُوِيَ متصلًا، وفيه أحاديث ضِعاف، ولا يصحّ". وللحديث شواهد، والقول فيه ما قال أبو داود رحمه الله تعالى. (1) أخرجه هنّاد في "الزهد" (1/ 512)، والبزار (4/ 30 - كشف الأستار)، وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (1/ 183) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. انظر: "المجروحين" لابن حبان (3/ 121 - 122)، و"الكامل" لابن عدي (7/ 202 - 204). وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 28) -: "حديث غريب، في سنده مَنْ ضُعِّف". وأخرجه هنّاد في "الزهد" (1/ 512)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (9/ 109)، وعبد الله بن أحمد في "زوائده على الزهد" (216) عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موقوفًا بنحوه، وإسناده حسن. وصححه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 29) -.

(1/307)


مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللَّهُمَّ أجُرْنِي في مصيبتي، واخلُفْ لي خيرًا منها، إلا أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها". قالت: فلما توفي أبو سلمة قُلْتُ كما أمرني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأَخْلَفَ الله لي خيرًا منه، رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (1) . وروى -أيضًا- عنها -رضي الله عنها-، قالت: دخل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: "إن الرُّوحَ إذا قُبِضَ تَبِعهُ البصر" فَضَجَّ ناسٌ من أهله، فقال: "لا تَدْعُوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يُؤَمِّنون على ما تقولون". ثم قال: "اللَّهُمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديِّين، واخْلُفْهُ في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافْسَحْ له في قبره، ونوِّرْ له فيه" (2) . __________ (1) أخرجه مسلم (918). (2) أخرجه مسلم (920).

(1/308)


 الفصل الثالث والعشرون: في الذكر الذي يُدْفَع به الدَّيْن ويُرْجَى قضاؤُه

في "الترمذي" عن علي -رضي الله عنه-، أن مُكاتَبًا جاءه فقال: إني عجزت عن كتابتي فَأَعِنِّي. فقال: ألا أُعَلِّمُكَ كلماتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لو كان عليك مثل جبل أُحُدٍ (1) دينًا أدَّاهُ الله عنك؟ قل: "اللَّهُمَّ اكْفِنِي بحلالك عن حرامك، وأَغْنِنِي بفضلك عَمَّنْ سِواك". قال الترمذي: حديث حسن (2). __________ (1) كذا هو في الأصول التي بين يديّ، وكذلك هو في بعض نسخ "الأذكار" للنووي. والمثبتُ في "جامع الترمذي" وباقي المصادر: "مثل جبل صير". وهو جبل في ديار طيء. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 9)، و"معجم البلدان" (3/ 438)، و"الفتوحات الربانية" (4/ 29 - 30). (2) أخرجه الترمذي (3563)، وأحمد (1/ 424)، والبزار (2/ 185) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (1/ 538) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (2/ 117 - 118). وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 29) -: "حديث حسن غريب".

(1/309)


 الفصل الرابع والعشرون: في الذكر الذي يُرْقَى به من اللَّسْعَة واللَّدْغَة وغيرهما

في "صحيح البخاري" عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَوِّذ الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ويقول: "إن أباكما كان يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أُعِيذُكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عَيْنٍ لامَّة" (1). وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، أن رجلًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَقَى لديغًا بفاتحة الكتاب، فجعلِ يَتْفُلُ عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما نَشِط من عِقَالٍ، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة. . ." الحديث (2). وفي "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ، أو كانت به قُرْحَةٌ، أو جرح، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإصبعه هكذا -ووضع سفيان بن عيينة إصبعه (3) بالأرض، ثم رفعها- وقال: "بسم الله، تربة أرضنا، بِرِيقَةِ بعضنا، يُشْفَى به سقيمُنا، بإذن ربنا" (4). وفي "الصحيحين" أيضًا عنها -رضي الله عنها-: "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان __________ (1) "صحيح البخاري" (3371). (2) "صحيح البخاري" (2276، 5736، 5749)، و"مسلم" (2201). (3) كذا في الأصول. ورواية مسلم: "سبابته". (4) "صحيح البخاري" (5745، 5746)، و"مسلم" (2194) واللفظ له.

(1/310)


يُعَوِّذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ الناس، أَذْهِبِ الباس، وَاشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شِفاءً لا يغادر سَقَمًا" (1) . وفي "صحيح مسلم" عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-: أنه شكا إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُه في جسده منذ أسلم، فقال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله -ثلاثًا-، وقل -سبع مرات-: أعوذ بعزة الله وقدرته من شَرِّ ما أَجِدُ وَأُحاذِر" (2) . وفي "السنن" عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من عاد مريضًا لم يحضر أجله، فقال عنده -سبع مرات-: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله تعالى" (3) . __________ (1) "صحيح البخاري" (5743، 5750)، و"مسلم" (2191). (2) "صحيح مسلم" (2202). (3) أخرجه أبو داود (3106)، والترمذي (2083)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1048)، وأحمد (1/ 635) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الحاكم (1/ 342) على شرط البخاري، وفي (4/ 416) على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (10/ 368). وصححه النووي في "الأذكار" (1/ 365)، وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 60 - 61) -. ووقع في النسخة (ح) و"مستدرك الحاكم" -في الموضع الثاني- زيادة: "ويعافيك"، بعد قوله: "أن يشفيك".

(1/311)


وفي "سنن أبي داود والنسائي"، عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من اشتكى منكم، أو اشتكى أخٌ له فليقل: رَبَّنا الله الذي في السماء، تَقَدَّسَ اسمُك، أمرُك في السماء والأرض، كما رحمتُك في السماء فاجعل رحمتَك في الأرض، اغفر لنا حُوبنا وخطايانا، أنت رب الطَّيِّبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع. فيبرأ" (1) . __________ (1) أخرجه أبو داود (3892)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1037)، والدارميُّ في "الرد على الجهمية" (70)، والطبراني في "الأوسط" (8/ 280) وغيرهم. وصححه الحاكم (1/ 343 - 344) وقال: "قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث غير زيادة بن محمد، وهو شيخ من أهل مصر، قليل الحديث". فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: قال البخاري وغيره: منكر الحديث". وقد تفرّد بهذا الحديث. قال الذهبي في "الميزان" (2/ 98): "وقد انفرد بحديث الرقية: ربنا الله الذي في السماء. . . بالإسناد". وأورده ابن عديّ في ترجمته من "الكامل" (3/ 197) مع حديثين آخرين، ثم قال: "ومقدار مالَه لا يتابع عليه". وكذا صنع ابنُ حبان في "المجروحين" (1/ 308). ورُوي من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن بعض الأشياخ عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- مرفوعًا بنحوه. أخرجه أحمد (7/ 934). وابن أبي مريم متروك، والأشياخ لا يُعرَفون. ورُوِي من حديث طلق بن حبيب عن أبيه مرفوعًا. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (1035). وفي إسناده اختلافٌ، كما قال ابن حجر في "التهذيب" (2/ 193). =

(1/312)


 الفصل الخامس والعشرون: في ذكر دخول المقابر

في "صحيح مسلم" عن بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُهُم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" (1). وفي "سنن ابن ماجه" عن عائشة قالت: فقدت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا هو بالبقيع، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فَرَطٌ، وإنا بكم لاحقون، اللَّهُمَّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم" (2). __________ = وقد بيّنه النسائي. و"حبيب" والد "طلق" لا يُعرَف إلا بهذا الحديث، من روية ابنه عنه. قال ابن حجر في "الإصابة" (2/ 202): "ذكره عبدان في الصحابة، وبيّن أنه وهم،. . . والصحيح ما رواه شعبة عن يونس عن طلق عن رجلٍ من أهل الشام عن أبيه". وأخرجه من هذا الوجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (1036). و"يونس" الراوي عن "طلق" هو ابن خبّاب، رافضيّ متهم بالكذب. وبذا يتبيّن ضعفُ هذا الحديث، وَوَهاءُ طُرُقِه. (1) "صحيح مسلم" (975). (2) أخرجه ابن ماجه (1546)، وأحمد (8/ 102)، وأبو يعلى (8/ 69) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف، فيه شريك النخعي وعاصم بن عبيد الله، وهما ضعيفان. وقد اضطرب فيه شريك، ولم يحفظه. وأصل الحديث عند مسلم (974) في سياقٍ طويل. وانظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 221).

(1/313)


 الفصل السادس والعشرون: في ذكر الاستسقاء

قال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} [نوح: 10 - 11]. عن جابر بن عبد الله قال: أَتَتِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَواكٍ فقال: "اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مُغِيثًا، مريئًا مَرِيعًا، نافعًا غير ضارّ، عاجلًا غير آجل". فَأطْبَقَتْ عليهم السماء (1). وعن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قحوط المطر، فأمر بمنبر فَوُضِعَ له في المُصَلَّى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبَّرَ وحمد الله عز وجل، ثم قال: "إنكم شكوتم جَدْبَ دياركم، واسْتِئْخارَ المطر عن إِبَّانِ زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم". ثم قال: __________ (1) أخرجه أبو داود (1169)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1786)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 355) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (1416)، والحاكم (1/ 327) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (35 - القسم المفقود). إلَّا أنه معلول! انظر: "العلل" للإمام أحمد (3/ 346، 347 - رواية عبد الله)، و"تاريخ بغداد" (1/ 336)، و"التلخيص الحبير" (2/ 105 - 106).

(1/314)


{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) }، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللَّهُمَّ أَنت الله لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغًا إلى حين". ثم رفع يديه، فلم يزل في الرَّفعِ حتى بدا بياض إبطيه، ثم حَوَّلَ إلى الناس ظهره، وقلب -أو حَوَّل- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، فنزل، فصلى ركعتين، فَأَنْشَأ الله عز وجل سحابة، فرَعَدَتْ وَبَرقَتْ، ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يَأْتِ مسجدَه حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنِّ ضحك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدت نواجذه، وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله" (1) . وفي "سنن أبي داود" عن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا استسقى قال: "اللَّهُمَّ اسْقِ عبادك وبهائمك، وَانْشُرْ رحمتك، وأَحْيِ بلدك الميت" (2) . __________ (1) أخرجه أبو داود (1173)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 349)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 325) وغيرهم. قال أبو داود: "هذا حديث غريب، وإسناده جيّد". وصححه ابن حبان (991)، والحاكم (1/ 328) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (31 - القسم المفقود). (2) أخرجه أبو داود (1176)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 356)، وابن عديّ في "الكامل" (4/ 319) موصولًا. قال ابن عديّ: "وقد روى هذا الحديث عن عمرو بن شعيب جماعةٌ، =

(1/315)


وقال الشعبي: خرج عمر يستسقي، فلم يَزِدْ على الاستغفار. فقالوا: ما رأيناك استسقيت؛ فقال: لقد طلبتُ الغيث بمَجَادِيحِ السماء (1) التي يُسْتَنْزَلُ بها المطر. ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) } [نوح: 10 - 11] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [هود: 3] (2) . __________ = فقالوا: عن عمرو بن شعيب: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا استسقى .. ، ولم يذكروا في الإسناد أباه ولا جدّه". وهو كما قال، فقد رواه مرسلًا مالك، والمعتمر بن سليمان، وغيرهما. انظر: "الموطأ" (1/ 265)، و"التمهيد" (23/ 432). ورجّح الإرسال أبو حاتم الرازي، كما في "العلل" (1/ 79 - 80). (1) "مجاديح السماء": جمع "مِجْدَح"، نَوْءٌ من الأنواء الدَّالَّةِ على المطر عند العرب، شبَّه عمرُ -رضي الله عنه- الاستغفار بها؛ مخاطبةً لهم بما يعرفون، لا قولًا بالأنواء. انظر: "الأنواء" لابن قتيبة (15، 37)، و"النهاية" لابن الأثير (1/ 243). (2) أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (5/ 353 - 354)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (2/ 474)، وعبد الرزاق في "المصنّف" (3/ 87)، وابن سعد في "الطبقات" (3/ 320) وغيرهم. وفي إسناده انقطاع؛ الشعبي لم يسمع من عمر. انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم (160). إلّا أنه رُوِيَ -مختصرًا- من وجهين آخرين يَثْبُتُ بهما الخبر.

(1/316)


 الفصل السابع والعشرون: في أذكار الريح إذا هاجت

قال أبو هريرة: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "الريح من رَوْحِ الله تعالى، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تَسُبُّوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها" رواه أبو داود (1). وفي "صحيح مسلم" عن عائشة قالت: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا عَصَفَتِ الريح قال: "اللَّهُمَّ إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أُرْسِلَتْ به، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرْسِلَتْ به" (2). وفي "سنن أبي داود" عن عائشة -أيضًا- -رضي الله عنها-: "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رأى ناشئًا في أُفق السماء تَرَكَ العمل وإنْ كان في صلاة، ثم يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شَرِّها" فإن أمطرت قال: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا هنيئًا" (3). __________ (1) أخرجه أبو داود (5097)، وابن ماجه (3727)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (931، 932)، وأحمد (3/ 65) وغيرهم. وصححه ابن حبان (1007، 5732)، والحاكم (4/ 285) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (26 - القسم المفقود). وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 272) -: "هذا حديث حسن صحيح". وانظر: "العلل" للدارقطني (2/ 90 - 91)، و (8/ 276 - 277). (2) "صحيح مسلم" (899). وأخرج البخاري (3206) أصل الحديث، دون الدعاء. (3) أخرجه أبو داود (5099)، وابن ماجه (3889)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (914، 915)، وأحمد (8/ 364) وغيرهم. =

(1/317)


 الفصل الثامن والعشرون: في الذكر عند الرعد

كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- إذا سمع الرعد ترك الحديث، فقال: سبحان الذي يُسَبِّحُ الرعدُ بحمده والملائكةُ من خِيفته (1). وعن كعبٍ أنه قال: من قال ذلك ثلاثًا؛ عُوفِيَ من ذلك الرعد (2). __________ = وصححه ابن حبان (994، 1006)، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (35، 36 - الجزء المفقود). وصححه ابن حجر في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 273) -. وورد بعضه في "صحيح البخاري" (1032)، كما سيأتي. (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 591 - 592)، ومن طريقه البخاري في "الأدب المفرد" (723)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 215) وغيرهم بإسنادٍ صحيح. وصححه النوويّ في "الأذكار" (1/ 472). وروي مرفوعًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند ابن جرير في "التفسير" (16/ 389)، ولا يصحّ. وروي عن جماعةٍ من السلف. (2) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده" على "فضائل الصحابة" (2/ 1251 - 1252)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1191 - 1192)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1261)، وفيه قصّة. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 286) -: "هذا موقوف حسن الإسناد، وهو وإن كان عن كعبٍ فقد أقرَّه ابنُ عباسٍ وعمر؛ فدلّ على أن له أصلًا".

(1/318)


وفي الترمذي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: "اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بغضبك، ولا تُهْلِكْنا بعذابك، وعَافِنا قبل ذلك" (1) . __________ (1) أخرجه الترمذي (3450)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (928)، والبخاري في "الأدب المفرد" (721)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 216)، وأحمد (2/ 457) وغيرهم من حديث أبي مطر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه". وصححه الحاكم (4/ 286) ولم يتعقبه الذهبي. وحسَّنه العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 295). وضعّفه النوويّ في "الأذكار" (1/ 471)، فتعقبه ابن حجر في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 284) - بقوله: "فالعجبُ من الشيخ! يُطْلِقُ الضَّعْفَ على هذا وهو متماسك، ويسكت عن حديث ابن مسعودٍ. . .". والصواب أنه معلول، فأبو مطر لا يُدْرَى من هو، كما في "الميزان" (4/ 574). وإنْ ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 664)، وصحَّح له الحاكم؛ فتفرُّده عن سالمٍ ممَّا لا يُحتَمل من مثله.

(1/319)


 الفصل التاسع والعشرون: في الذكر عند نزول الغيث

في "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: اللهُ ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكواكب" (1). وقد قيل: إن الدعاء عند نزول الغيث مستجابٌ (2). وفي "صحيح البخاري" عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رأى المطر قال: "صَيِّبًا نافعًا" (3). وفي "صحيح مسلم" عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مطر، فَحَسَر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لِمَ صنعت هذا؟ قال: "لأنه حديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه" (4). __________ (1) "صحيح البخاري" (846، 1038، 4147)، و"مسلم" (71). (2) لم يثبت في هذا حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي الباب أحاديثُ ضِعاف، وبعضها شديدُ الضعف، ولعلّ مجموعها يدلُّ على أنّ لذلك أصلًا. انظر: "الأم" للشافعي (1/ 554)، و"نتائج الأفكار" (1/ 369، 382 - 384)، و"السلسلة الصحيحة" (1469). (3) "صحيح البخاري" (1032). (4) "صحيح مسلم" (898).

(1/320)


 الفصل الثلاثون: في الذكر والدعاء عند زيادة المطر وكثرة المياه والخوف منها

في "الصحيحين" عن أنس قال: دخل رجل المسجد يوم جمعة ورسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم يخطب الناس، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه ثم قال: "اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا". قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قَزعَة (1)، وما بيننا وبين سَلْعٍ (2) من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سَبْتًا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم يخطب فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه ثم قال: "اللَّهُمَّ حوالَيْنا ولا علينا، اللَّهُمَّ على الآكامِ والظِّرابِ (3)، وبُطون الأودية، ومَنَابتِ الشجر". قال: فأقْلَعَتْ، وخرجنا نمشي في الشمس" (4). __________ (1) القَزعة: القطعة من الغَيْم. "النهاية" لابن الأثير (4/ 59). (2) جبلٌ متصلٌ بالمدينة. "معجم ما استعجم" للبكري (3/ 747). (3) الآكام: الرَّوابي. والظِّراب: الجبال الصغار. "النهاية". (4) "صحيح البخاري" (1014)، و"مسلم" (895، 896، 897).

(1/321)


 الفصل الحادي والثلاثون: في الذكر عند رؤية الهلال

عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، رَبُّنا ورَبُّك الله" (1). وفي "سنن أبي داود" عن قتادة، أنه بلغه: أن نبي الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رأى الهلال قال: "هلالُ خيرٍ ورشد، وهلالُ خيرٍ ورشد، وهلالُ خيرٍ ورشد، آمنت بالله الذي خلقك" ثلاث مرات. ثم يقول: "الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا" (2). __________ (1) أخرجه الدارمي (1/ 428)، والطبراني في "الكبير" (12/ 273). وصححه ابن حبان (888)، وفي إسناده ضعف. وله شاهد من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-. أخرجه الترمذي (3451)، وأحمد (1/ 445)، والبزار (3/ 161 - 162)، وأبو يعلى (2/ 25 - 26) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (4/ 285)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (3/ 22). وقال العقيلي في "الضعفاء" (2/ 136): "وفي الدعاء لرؤية الهلال أحاديث، كأنّ هذا من أصلحها إسنادًا، كلّها ليّنة الأسانيد". وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 329) -. وانظر: "الإصابة" (4/ 256). (2) أخرجه أبو داود في "السنن" (5051)، و"المراسيل" (527)، وابن أبي شيبة =

(1/322)


 الفصل الثاني والثلاثون: في الذكر للصائم، وعند فطره

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" حديث حسن (1). __________ = في "المصنّف" (10/ 400)، وعبد الرزاق في "المصنّف" (4/ 169)، ومن طريقه البغويُّ في "شرح السنة" (5/ 129)، والبيهقي في "الدعوات" (2/ 240) هكذا مرسلًا بإسنادٍ صحيح. ورُوي مرفوعًا، ولا يصحّ. قال أبو داود في "المراسيل": "روي متَّصلًا، ولا يصحّ". وقال في "السنن": "ليس في هذا الباب عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثٌ مسندٌ صحيح". وقال البيهقي: "هذا مرسل، وقد جاء من وجهين ضعيفين عن أنس بن مالك مرفوعًا، ببعض معناه". وانظر: "ناسخ الحديث ومنسوخه" للأثرم (199 - 200)، و"الفتوحات الربانية" (4/ 330 - 333). (1) أخرجه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (3/ 199) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن،. . . وأبو مدلّه هو مولى أمّ المؤمنين عائشة، وإنما نعرفه بهذا الحديث". وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (3428). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 338) -. وأعلّه البعض بأن "أبا مدلّه" -راويه-: مجهول. وهذا وإن كان حالُه قد خفي على بعض الأئمة، فقال فيه ذلك، إلّا أنّ غيرهم قد عَرَفَهُ ووثّقه. فنصَّ على توثيقه ابن حبان في "صحيحه" (8/ 215 - الإحسان)، وأورده =

(1/323)


وروى ابن ماجه عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إن للصائم عند فطره دعوةً ما تُرَدُّ". وقال ابن أبي مُلَيْكة: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما إذا أفطر يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك برحمتك التي وَسِعَتْ كل شيءٍ أن تغفر لي (1) . __________ = في "الثقات" (5/ 72)، كما ورد توثيقه في رواية ابن ماجه، وصحَّح له ابن خزيمة وابن حبان، وحسّن له الترمذي. وانظر: "السلسلة الضعيفة" (1358). وقوله في الحديث: "حين يفطر"، كذا هو في الأصول التي بين يديَّ للكتاب، وكذا هو في "أصله" "الكلم الطيب" (139). والمثبتُ في المصادر السابقة من كتب السنّة: "حتى يفطر". وقد نبّه النوويّ في "الأذكار" (1/ 493) إلى أن الرّواية هي "حتى". وورد في روايةٍ أشار إليها الحافظ ابن حجر: "حين". انظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 338). كما وردت هذه اللفظة "حين يفطر" عند الترمذي (2526) من وجهٍ معلول. قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك القويّ، وليس هو عندي بمتصل. وقد رُوِي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدلّه عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". (1) أخرجه ابن ماجه (1753)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1229 - 1230)، والبيهقي في "فضائل الأوقات" (142)، و"شعب الإيمان" (3/ 407) وغيرهم. وفي إسناده: "إسحاق بن عبيد الله" أو "ابن عبد الله". اختُلِف في تعيينه اختلافًا كثيرًا. انظر: "مستدرك الحاكم" (1/ 422)، و"تاريخ دمشق" (8/ 256)، =

(1/324)


ويُذْكَر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان إذا أفطر قال: "اللَّهُمَّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت" (1) . ومن وجهٍ آخر: "اللَّهُمَّ لك صُمْنَا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبَّلْ منا، إنك أنت السميع العليم" (2) . __________ = و"الجرح والتعديل" (2/ 228 - 229)، و"التاريخ الكبير" (1/ 398)، و"لسان الميزان" (1/ 405)، و"مصباح الزجاجة" للبوصيري (2/ 38) وقارن بـ"حاشية السندي على سنن ابن ماجه" (1/ 557)، و"الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 16)، و"إرواء الغليل" (4/ 41 - 44). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 342) -. ويُرْوَى من وجهٍ آخر عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. أخرجه الطيالسي (4/ 20)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (3/ 408)، ولا يصح. (1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/ 298)، و"الصغير" (2/ 133 - 134)، و"الدعاء" (2/ 1229)، ومن طريقه أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (2/ 217 - 218) من حديث أنس -رضي الله عنه-. قال المصنّف في "زاد المعاد" (2/ 51): "ولا يثبت". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 156): "وفيه داود بن الزبرقان، وهو ضعيف". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 215): "وإسناده ضعيف، فيه داود بن الزبرقان، وهو متروك". وانظر: "الفتوحات الربانية" (4/ 342). (2) أخرجه الدارقطني في "السنن" (2/ 185)، والطبراني في "الكبير" (12/ 113 - 114)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (481) من حديث =

(1/325)


 الفصل الثالث والثلاثون: في أذكار السفر

روى الطبراني عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرًا" (1). __________ = ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 341) -: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسندُه واهٍ جدًّا". وقال في "التلخيص" (2/ 215): "بسندٍ ضعيف". وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/ 289): "ولا يصحّ سنده". وقد ترك المصنّف رحمه الله تعالى حديثًا حسنًا في هذا الباب، هو أصحّ ما ورد فيه. وهو ما أخرجه أبو داود (2357)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (299)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 239)، و"الدعوات" (2/ 219) وغيرهم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". قال الدارقطني: "تفرّد به الحسين بن واقد، وإسناده حسن". وصححه الحاكم (1/ 422) على شرط البخاري (انظر: "الفتوحات الربانية" 4/ 339 - 340، و"تهذيب التهذيب" 10/ 93). وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 329) -. (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (2/ 81)، ومن طريقه الخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 405)، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "مسائله عن شيوخه" (28)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 355) من حديث المطعم بن المقدام عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- =

(1/326)


وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من أراد سفرًا فليقل لمن يخلف: أستودعكم الله الذي لا تَضِيعُ ودائِعُه" (1) . __________ = مرسلًا. قال ابن رجب -كما في "الإصابة" لابن حجر (6/ 373) -: "والمطعم بن المقدام من أتباع التابعين. . .، أرسل هذا الحديث؛ فهو مُعْضَل". وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 105) -: "وسنده معضل، أو مرسلٌ إنْ ثبت له سماعٌ من صحابيّ". والمرسل والمعضل من أقسام الضعيف. وقولُ المصنّف رحمه الله تعالى -وكذا هو في "الكلم الطيب" (141)، و"الأذكار" (1/ 547) -: "روى الطبرانيُّ" = يُوهِمُ أنه رواه في أحد معاجمه. وهو إنّما رواه في كتاب "المناسك"، كما نبّه على ذلك ابن رجب، ثم ابن حجر، في الموضعين السابقَيْن. (1) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الدعاء" (2/ 1182 - 1183) بإسنادٍ ضعيف. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 115) -: "تفرّد به بصيغة الأمر رشدين بن سعد، وفيه ضعف". وأخرجه أحمد (3/ 342، 459)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (508)، وابن ماجه (2825) وغيرهم عن موسى بن وردان قال: أتيت أبا هريرة أودّعه، فقال: ألا أعلّمك يابن أخي شيئًا علّمنيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقوله عند الوداع؟ قلت: بلى. قال: قل: "أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه". واللفظ للنسائي. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 114) -: "هذا حديث حسن"، وهو كما قال.

(1/327)


وفي "المسند" -أيضًا- عن عمر (1) عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الله إذا استودع شيئًا حَفِظَهُ" (2) . وقال سالم: كان ابن عمر يقول للرجل إذا أراد سفرًا: ادْنُ مني أودِّعك كما كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يودّعنا، فيقول: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" (3) . __________ (1) كذا هو في الأصول التي بين يديّ، وهو خطأ، والحديثُ في "الكلم الطيّب" و"الأذكار" ومصادِر التخريج مِنْ مسند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (509)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 173)، والطبراني في "الأوسط" (5/ 60) وغيرهم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وصححه ابن حبان (2693). وكذا ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 113) -. وأخرجه أحمد (2/ 426 - 427) بلفظ: "أَخْبَرَنَا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لقمان الحكيم كان يقول:. . ." فذكره. (3) أخرجه الترمذي (3443)، وأحمد (2/ 230)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (523) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث سالم". وقد رُوِي من حديث القاسم بن محمد عن ابن عمر -وهو أصحّ -. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (522)، وأبو يعلى (9/ 471 - 472) وغيرهما. وصححه ابن خزيمة (2531)، والحاكم (1/ 442)، (2/ 97) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: "الفتوحات الربانية" (5/ 119). =

(1/328)


ومن وجهٍ آخر: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ودَّع رجلًا أَخَذَ بيده، فلا يَدَعُها حتى يكون الرجل هو الذي يَدَعُ يَدَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. . . وذكر تمام الحديث. قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) . وقال أنس -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرًا فَزَوِّدْنِي. فقال: زَوَّدَكَ الله التقوى"، قال: زِدْنِي، قال: "وغفر ذنبك"، قال: زدني، قال: "ويَسَّرَ لك الخير حيثما كنت" قال الترمذي: حديث حسن (2) . __________ = وانظر: "الفتوحات الربانية" (5/ 119). وروي من حديث قزعة عن ابن عمر -وهو أصحّ من الوجهين السابقين -. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (512، 513) وغيره. وانظر: "علل ابن أبي حاتم" (1/ 268 - 269). (1) أخرجه الترمذي (3442)، والبزار (3/ 158 - كشف الأستار) وغيرهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وفي إسناده اختلافٌ وجهالة. وقال الترمذي -كما في "المطبوعة"، و"تحفة الأشراف" (6/ 54)، و"نتائج الأفكار" (الفتوحات الربانية: 5/ 118) -: "غريب من هذا الوجه". ونَقْلُ المصنّف لقول الترمذي: "حسن صحيح" متابعةٌ لأصله "الكلم الطيّب" (142)، وليس هو في أصلهما "الأذكار" (1/ 552). وإنما قال ذلك الترمذي في الرواية السابقة. وللشطر الأول من الحديث شواهد متعدّدة. انظر: "الفتوحات الربانية" (5/ 118 - 119)، و"السلسلة الصحيحة" (2485). (2) أخرجه الترمذي (3444)، والبيهقي في "الدعوات" (2/ 175) وغيرهما. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه ابن خزيمة (2532)، والحاكم (2/ 97) ولم يتعقبه الذهبي، =

(1/329)


وعن أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول الله؛ إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: "عليك بتقوى الله عز وجل، والتكبير على كل شَرَفٍ" فلما وَلَّى الرجل قال: "اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ البُعْدَ، وهَوِّنْ عليه السفر". قال الترمذي: حديث حسن (1) . __________ = وأخرجه الضياء في "المختارة" (4/ 422). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية (5/ 120) -. (1) أخرجه الترمذي (3445)، وابن ماجه (2771) وغيرهما. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه ابن خزيمة (2561)، وابن حبان (2692)، والحاكم (1/ 445 - 446) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وحسنه البغوي في "شرح السنة" (5/ 143).

(1/330)


 الفصل الرابع والثلاثون: في ركوبِ الدابة والذكرِ عنده

قال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أُتِيَ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 13 - 14]. ثم قال: "الحمد لله" ثلاث مرات. ثم قال: "الله أكبر" ثلاث مرات. ثم قال: "سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، ثم ضحك. فقيل: يا أمير المؤمنين! مِنْ أيِّ شيء ضحِكْتَ؟ فقال: رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل كما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله، من أيِّ شيء ضحكت؟ فقال: "إن ربك سبحانه وتعالى يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري" رواه أهل السنن وصححه الترمذي (1). __________ (1) أخرجه الترمذي (3446)، وأبو داود (2602)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (502)، وأحمد (1/ 293)، وأبو يعلى (1/ 439) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (2697)، والحاكم (2/ 99) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (2/ 295). وانظر: "علل ابن أبي حاتم" (1/ 271 - 272)، و"علل الدارقطني" (4/ 59 - 63)، و"الفتوحات الربانية" (5/ 125 - 126).

(1/331)


وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر، كبَّر ثلاثًا ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }. اللَّهُمَّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ علينا سفرنا هذا، واطْوِ عنا بُعْدَه، اللَّهُمَّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من وَعْثَاءِ السفر، وكآبةِ المنظر، وسوء المُنْقَلَبِ في المال والأهل". وإذا رجع قالهن وزاد فيهن "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون" (1) . وفي وجهٍ آخر: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه -رضي الله عنهم- إذا عَلَوا الثنايا كَبَّروا، وإذا هبطوا سَبَّحُوا" (2) . __________ (1) "صحيح مسلم" (1342). (2) أخرجه من هذا الوجه عبد الرزاق في "المصنّف" (5/ 160)، ومن طريقه أبو داود في "السنن" (2592) عن ابن جريج قال: "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجيوشه إذا علوا الثنايا. . .". قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 140) -: "هكذا أخرجه (يعني عبد الرزاق) معضلًا، ولم يذكر فيه لابن جريج سندًا، فظهر أنّ مَن عَطَفه على الأوّل (يعني حديث ابن عمر الذي قبله)، أو مزجه = أدرجه. وهذا مِنْ أدقِّ ما وُجِد من المُدْرَج". إلّا أن له شواهد من حديث جماعة من الصحابة. وأقواها ما أخرجه البخاري (2993) عن جابرٍ -رضي الله عنه- موقوفًا، =

(1/332)


 الفصل الخامس والثلاثون: في ذكر الرجوع من السفر

قال عبد الله بن عمر: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قَفَل من حج، أو عمرة أو غزو، يُكَبِّر على كل شَرَفٍ (1) من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" رواه البخاري ومسلم (2). __________ = قال: "كنّا إذا صعدنا كبَّرْنا، وإذا نزلنا سبَّحْنا". وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (541) وغيرُه من وجهٍ آخر عنه مرفوعًا، قال: "كنّا إذا كنّا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر فصعدنا كبَّرْنا، وإذا انحَدَرْنا سبَّحْنا". وأعلّه بعضهم بالانقطاع ما بين الحسن وجابر. وانظر بحثًا حافلًا محرّرًا في اتصال هذه الترجمة في "المرسل الخفي" لشيخنا الشريف حاتم العوني (2/ 853 - 886). وانظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 344). (1) الشَّرَفُ: هو الموضع العالي يُشْرِفُ على ما حوله. (2) "صحيح البخاري" (1797)، و"مسلم" (1344).

(1/333)


 الفصل السادس والثلاثون: في الذكر على الدابةِ إذا اسْتَصْعَبَتْ

قال يونس بن عبيد: ليس رَجلٌ يكون على دابةٍ صَعْبةٍ فيقول في أُذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83] إلا وقفت بإذن الله تعالى (1). قال شيخنا قدس الله روحه: وقد فعلنا ذلك فكان كذلك (2). __________ (1) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (511). قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 152) -: "هو خبر مقطوع، وراويه عنه: المنهال -يعني ابن عيسى- قال أبو حاتم: مجهول. وقد وجدته عن أعلى من يونس. أخرجه الثعلبي في "التفسير" [3/ 107] بسنده، من طريق الحكم عن مجاهد عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. . .". وانظر: "الابتهاج بأذكار المسافر والحاج" للسخاوي (39 - 40). (2) "الكلم الطيب" (147).

(1/334)


 الفصل السابع والثلاثون: في الدابة إذا انْفَلَتَتْ وما يُذْكَرُ عند ذلك

عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فلينادِ: يا عباد الله احبسوا؛ فإن للهِ عز وجل حاضرًا سَيَحْبِسُه" (1). __________ (1) أخرجه أبو يعلى (9/ 177)، ومن طريقه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (509)، والطبراني في "الكبير" (10/ 217) بإسنادٍ ضعيف. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 150) -: "هذا حديث غريب،. . . وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود". وفيه -أيضًا-: "معروف بن حسان"، وهو منكر الحديث. وانظر: "إتحاف الخيرة" للبوصيري (6/ 123 - 124)، و"السلسلة الضعيفة" (655). وأصحُّ ما ورد في هذا الباب ما أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (13/ 373 - 374) بإسنادٍ حسن عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- موقوفًا، قال: "إنَّ لله عزَّ وجلَّ ملائكة في الأرض سوى الحَفَظَة، يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عَرْجة في الأرض لا يقدر فيها على الأعوان فَلْيَصِحْ، فَلْيَقُلْ: عبادَ الله! أغيثونا، أو أعينونا، رحمكم الله!، فإنه سَيُعان". وهذا الموقوف يحتمل أن يكون له حكم الرفع. ورُوِي مرفوعًا عند البزّار (4/ 33، 34 - كشف الأستار). وقال البزّار: "لا نعلمه يُرْوَى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد". وقال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 151) -: "هذا حديث حسن الإسناد، غريبٌ جدًّا". وتابعه على تحسينه السخاويّ في "الابتهاج بأذكار المسافر والحاج" (38). =

(1/335)


 الفصل الثامن والثلاثون: في الذكر عند القرية أو البلدة إذا أراد دخولها

عن صهيب -رضي الله عنه-، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَرَ قَرْيَةً يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللَّهُمَّ رب السموات السبعِ وما أَظْلَلْنَ، ورب الأرضين السبع وما أَقْلَلْنَ، ورب الشياطين وما أَضْلَلْنَ، ورب الرياح وما ذَرَيْنَ، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها" رواه النسائي (1). __________ = والموقوف أصحّ. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في "مسائله" (2/ 816 - 817): "سمعتُ أبي يقول: حججتُ خمس حجج، منها ثنتين راكبًا وثلاثًا ماشيًا، أو ثنتين ماشيًا وثلاثًا راكبًا، فضللتُ الطريق في حجّةٍ، وكنتُ ماشيًا، فجعلتُ أقول: يا عباد الله! دُلُّونا على الطريق، فلم أَزَلْ أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق. أو كما قال أبي". وانظر: "ذم الكلام" لأبي إسماعيل الهروي (3/ 109 - 110). ولا دلالة في أثر ابن عباس هذا على ما يذهب إليه بعض أهل الضَّلال من جواز سؤال الموتى والاستعانة بهم من دون الله. إذْ غايةُ ما فيه مخاطبةُ مَنْ يسمع الخطابَ مِنَ الملائكةِ القادرين على الإجابة بإذن ربّهم؛ لأنّهم أحياء مُمكَّنون من دلالة الضالّ، فهو من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء القادرين. وأين هذا من الاستعانة بالأموات والأولياء الغائبين؟! ثمّ هو مخصوصٌ بهذا الموضع لورود الأثر، ولا يصحّ القياس عليه. وانظر: "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (4/ 487 - 488، 619 - 622)، و"هذه مفاهيمنا" للشيخ صالح آل الشيخ (49 - 53). (1) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (544)، والطبراني في "الكبير" =

(1/336)


 الفصل التاسع والثلاثون: في ذكر المنزل يريد نزوله

قالت خولة بنت حكيم -رضي الله عنها-: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يَضُرَّه شيء حتى يَرْتَحِلَ من منزله ذلك" رواه مسلم (1). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرضُ رَبيِّ وربكِ الله، أعوذ بالله من شَرِّك وشر ما فِيك، وشر ما خُلِقَ فيك، وشر ما يَدِبُّ عليك، وأعوذ بالله من أَسَدٍ وأَسْوَدٍ، ومن الحية والعقرب، ومن سَاكِن البلد، ومن وَالدٍ وما ولد" رواه أبو داود (2). __________ = (8/ 33 - 34)، و"الدعاء" (2/ 1190)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 252) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (2565)، وابن حبان (2709)، والحاكم (1/ 446) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (8/ 71 - 72). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 154) -. وللحديث شواهد. (1) "صحيح مسلم" (2708). (2) أخرجه أبو داود (2596)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (563)، وأحمد (2/ 527 - 528) وغيرهم. قال النسائي: "الزّبير بن الوليد، شاميٌّ، ما أعرف له غير هذا الحديث". وصححه ابن خزيمة (2572)، والحاكم (1/ 446 - 447) ولم يتعقبه =

(1/337)


 الفصل الأربعون: في ذكر الطعام والشراب

قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. وقال عمر بن أبي سلمة -رضي الله عنه- قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا بُنَيّ، سَمِّ الله تعالى، وَكُلْ بيمينك، وَكُلْ مِمَّا يَلِيك" متفق عليه (1). وقالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أَوَّلِه، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أَوَّلِه فليقل: بسم الله أوَّلَه وآخره". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2). __________ = الذهبي. وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 164) -. "والزبير بن الوليد" تابعيّ، صحَّحَ حديثه من تقدَّم، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 261)، وقال الذهبيّ في "الكاشف" (1628): "ثقة". وانظر: "السلسلة الضعيفة" (4837). (1) "صحيح البخاري" (5376)، و"مسلم" (2022). (2) أخرجه الترمذي (1858)، وأبو داود (3767)، وابن ماجه (3264)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (281) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (5214)، والحاكم (4/ 108) ولم يتعقبه الذهبي. وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 182) -.

(1/338)


وقال أُمَيَّةُ بن مَخْشِيٍّ -رضي الله عنه-: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالسًا ورجل يأكل، فلم يُسَمِّ حتى لم يَبْقَ من طعامه إلا لقمة، فلما رفعها إلى فِيه قال: بسم الله أوله وآخره، فضحك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم قال: "مازال الشيطان يأكل معه، فلما ذكر اسم الله تعالى استقاء ما في بطنه" رواه أبو داود (1) . وقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله لَيَرْضَى عن العبد أن يأكل الأَكْلَة فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَة فيحمده عليها". رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أنس -رضي الله عنه- (2) . وقال أبو هريرة: "ما عاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه". متفق عليه (3) . وعن وَحْشِيٍّ: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، قال: "فلعلكم تفترقون"؟ قالوا: نعم. قال: "فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم فيه" رواه أبو داود (4) . __________ (1) أخرجه أبو داود (3768)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (282)، وأحمد (6/ 442 - 443) وغيرهم. وصححه الحاكم (4/ 108 - 109) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (4/ 342 - 343). وحسنه ابنُ حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 182) -. (2) "صحيح مسلم" (2734). (3) "صحيح البخاري" (3563)، و"مسلم" (2064). (4) أخرجه أبو داود (3764)، وابن ماجه (3286)، وأحمد (5/ 519) وغيرهم. وصححه ابن حبان (5224). وحسن إسناده العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 349)، وابن =

(1/339)


وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أكل أو شرب (1) فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه". قال الترمذي: حديث حسن (2) . وعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" رواه أبو داود والترمذي (3) . __________ = حجر -بشواهده- في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 214) -. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (664، 895، 1686، 2691). (1) كذا في الأصول، و"الكلم الطيّب" (151). وروايةُ أبي داود، والترمذي -وهو كذلك في "الأذكار" للنوويّ (2/ 596) -: "من أكل طعامًا فقال:. . .". (2) أخرجه الترمذي (3458)، وأبو داود (4019)، وابن ماجه (3285) وغيرهم من حديث معاذ بن أنسٍ الجهنيّ -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (1/ 507)، و (4/ 192 - 193) فتعقبه الذهبي -في الموضع الثاني- بقوله: "قلت: أبو مرحوم ضعيف، وهو عبد الرحيم بن ميمون". وحسنه -وهو الأقرب- ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 123)، و"معرفة الخصال المكفّرة" (74). (3) أخرجه أبو داود (3850)، والترمذي (3457)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (289)، وأحمد (4/ 84) وغيرهم. وفيه اضطرابٌ، وجهالة. =

(1/340)


وذكر النسائي عن رجلٍ خَدَم النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يسمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قرّب إليه طعامه يقول: "بسم الله"، وإذا فرغ من طعامه قال: "اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وسَقَيْتَ، وأَغْنَيْتَ وأَقْنَيْتَ، وهَدَيْتَ واجْتَبَيْتَ (1) ، فلك الحمد على ما أعطيت" (2) . وفي "صحيح البخاري" عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتَغنًى عنه ربَّنا" (3) . __________ = قال الذهبيُّ في "الميزان" (1/ 228) في ترجمة راويه "إسماعيل بن رياح": "وحديثه مضطرب. . . (ثم ساق هذا الحديث، ثم قال:) غريب منكر". وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/ 206): "فيه ضعفٌ واضطراب". وقال المزي في "تهذيب الكمال" (3/ 92): "وفيه اختلاف كثير". وبيَّن بعضه في (3/ 41 - 42)، وفي "تحفة الأشراف" (3/ 353 - 354). وتبعه ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/ 282) فقال: "وفيه اضطراب". وهذا أدقُّ من حكمه على الحديث بالحُسْن في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 229) -. (1) كذا في الأصول ومطبوعةِ "السنن الكبرى" للنسائي، وفي باقي المصادر: "أحييت". (2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6/ 310)، وأحمد (5/ 677)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (687)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (466) وغيرهم. وحسنه النوويُّ في "الأذكار" (2/ 597)، وصحَّحه العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 644)، وابن حجر في "الفتح" (9/ 494)، و"النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 236) -. (3) "صحيح البخاري" (5458).

(1/341)


 الفصل الحادي والأربعون: في ذكر الضيف إذا نَزَل بقوم

عن عبد الله بن بسر قال: نزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أبي فَقَرَّبْنا إليه طعامًا، ثم أُتِيَ بشرابٍ، فقال أبي: ادْعُ الله لنا. فقال: "اللَّهُمَّ بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم" رواه مسلم (1). وعن أنس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء إلى سعد بن عبادة، فجاء بخبزٍ وزيتٍ، فَأَكَلَ، ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصَلَّتْ عليكم الملائكة" رواه أبو داود (2). وعن جابر قال: صنع أبو الهيثم بن التَّيِّهان للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طعامًا، فدعا النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، فلما فرغوا قال: "أثيبوا أخاكم" قالوا: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال: "إن الرجل إذا دُخِل بيتُه فَأُكِل طعامُه وشُرِبَ شرابُه، __________ (1) "صحيح مسلم" (2042). وقد اختصره المصنّف -رحمه الله تعالى-. (2) أخرجه أبو داود (3854)، وأحمد (4/ 356 - 357)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1232) وغيرهم. وأخرجه الضياء في "المختارة" (5/ 157 - 158). وصحح إسناده النووي في "الأذكار" (2/ 599)، وابن الملقّن في "خلاصة البدر المنير" (2/ 211)، وتابعه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 225)، وأعلّه في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 343) -، وهو الصَّواب. إلّا أنّ للحديث طرقًا أخرى وشواهد يثبت بها. وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 218).

(1/342)


فَدَعَوْا له، فذلك إثابته" رواه أبو داود (1) . __________ (1) أخرجه أبو داود (3853)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8/ 487) بإسنادٍ ضعيف. وضعّفه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 248) -. وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (1/ 84) بإسنادٍ ضعيف. إلّا أنّ للجملة الأخيرة من الحديث شواهد متعدّدة.

(1/343)


 الفصل الثاني والأربعون: في السلام

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أيُّ الإسلام خير؟ قال: "تُطعِم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" متفق عليه (1). وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أَدُلُّكمْ على شيء إذا فعلتموه تَحَابَبْتُمْ؟ أفشوا السلام بينكم" رواه أبو داود (2). وقال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: "ثلاثٌ من جَمَعَهُنَّ جَمَعَ الإيمان: الإنصافُ من نفسك، وبَذْلُ السلام للعَالَم، والإنفاق من الإقتار". ذكره البخاري (3). __________ (1) "صحيح البخاري" (12، 28)، و"مسلم" (39). (2) أخرجه مسلم (54)، وأبو داود (5193). (3) علّقه البخاري في "صحيحه" (1/ 83 - الفتح). ووصله وكيع في "الزهد" (2/ 504)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (11/ 48)، وعبد الرزاق فى "المصنّف" (10/ 386) وغيرهم بإسنادٍ صحيح. وصححه ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 38). وجعله بعض الرواة مرفوعًا، فأخطأ. انظر: "علل ابن أبي حاتم" (2/ 145)، و"مسند البزار" (4/ 232)، و"تغليق التعليق" (2/ 39 - 40)، و"فتح الباري" (1/ 82 - 83)، و"الإتحاف بحديث فضل الإنصاف" لابن ناصر الدين (13)، و"الفتوحات الربانية" (5/ 284).

(1/344)


وقال عمران بن حصين: جاء رجل إلى النبى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: السلام عليكم، فرد عليه، ثم جلس، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عشرٌ"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، فجلس، فقال: "عشرون"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال: "ثلاثون". قال الترمذي: حديث حسن (1) . وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أولى الناس بالله من بدأهم (2) بالسلام" قال الترمذي: حديث حسن (3) . __________ (1) أخرجه أبو داود (5195)، والترمذي (2689)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (337)، والبزّار (9/ 62 - 63) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال البزار: "وهذا الحديث قد رُوِى نحو كلامه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وجوهٍ، وأحسن إسنادٍ يُروى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الإسناد، وإن كان قد رواه من هو أجلُّ من عمران فإسناد عمران أحسن". وحسَّنه البيهقي في "شعب الإيمان" (15/ 391)، وابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 289) -. إلّا أنّ له علّة! قال الإمام أحمد في "المسند" (6/ 708 - 709) عقب روايته للحديث: "حدثنا هوذة عن عوفٍ عن أبي رجاء مرسلًا، وكذلك قال غيره". وللحديث شواهد يتقوى بها مِنْ رواية جماعةٍ من الصحابة. (2) كذا في (ت) و (ح) و (ق)، وروايةِ أبي داود. وفي (م): "ابتدأهم". وليس الحديث عند الترمذي بهذا السّياق. (3) أخرجه الترمذي (2694)، وفي سنده ضعف. وأخرجه أبو داود (5197) -واللفظ له-، والبيهقي في "شعب الإيمان" =

(1/345)


وخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يُجْزِئُ عن الجماعة إذا مَرُّوا أن يُسَلِّمَ أحدُهم، ويُجْزِئُ عن الجلوس أن يردَّ أحدهم" (1) . وقال أنس: "مَرَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على صبيان يلعبون، فَسَلَّمَ عليهم". حديث صحيح (2) . وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أراد أن يقوم فلْيُسَلِّمْ (3) ، فليست الأولى بِأَحَقَّ من الآخرة". حديث حسن (4) . __________ = (15/ 300) بإسناد صحيح. وجوّده النووي في "الأذكار" (2/ 630)، وحسَّنَ الحديثَ ابنُ حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 327) -. (1) أخرجه أبو داود (5210)، وأبو يعلى (1/ 345 - 346)، والبزار (2/ 167) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. قال الدارقطني في "العلل" (4/ 21 - 22)، بعد أن أعلّه بالانقطاع: "والحديث غير ثابت". وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (5/ 290) مهم. وللحديث شواهد. وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 305) -. وانظر: "إرواء الغليل" (3/ 242 - 244). (2) أخرجه البخاري (6247)، ومسلم (2168). (3) كذا في الأصول ورواية أبي داود. وروايةُ الترمذي: ". . . فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلّم. . .". (4) قوله: "حديث حسن" من (م) فقط. =

(1/346)


 الفصل الثالث والأربعون: في الذكر عند العُطاس

قال أبو هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحَمِد الله، كان حقًّا على كل مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فَلْيَرُدَّه ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشيطان منه". رواه البخاري (1). وعنه أيضًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويُصْلِحُ بَالَكُمْ" رواه البخاري (2). وفي لفظ أبي داود: "الحمد لله على كل حال" (3). __________ = والحديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1007)، وأبو داود (5208)، والترمذي (2706)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (369)، والبغوي في "شرح السنّة" (12/ 293 - 294) وغيرهم. قال الترمذيّ والبغويّ: "هذا حديث حسن". وصححه ابن حبان (494). وحسنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 364) -. (1) "صحيح البخاري" (3289، 6223، 6226). (2) "صحيح البخاري" (6224). (3) أخرجه أبو داود (5033). قال ابن حجر في "الفتح" (10/ 623) بعد أن ذكر هذه الرواية: =

(1/347)


وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا عطس أحدكم فحمد الله فَشَمِّتوه، فإن لم يحمد الله فلا تُشَمِّتوه" رواه مسلم (1). __________ = "ولم أر هذه الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية". وانظر: "الإرواء" (3/ 244 - 245). وقد وردت في أحاديث أخرى من رواية جماعةٍ من الصحابة. (1) "صحيح مسلم" (2992).

(1/348)


 الفصل الرابع والأربعون: في ذكر النكاح والتهنئة به، وذِكْرِ الدُّخُولِ بالزوجة

قال عبد الله بن مسعود: عَلَّمَنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطبة النكاح: "الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وفي روايةٍ زيادة: "أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يُطع الله ورسوله فقد رَشَد، ومن يَعْصِهِما فلا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ اللهَ شيئًا" (1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن (2). __________ (1) أخرجها أبو داود (1097)، والطبراني في "الكبير" (10/ 211)، و"الأوسط" (3/ 74)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 215) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. (2) أخرجه أبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (1403)، وابن ماجه (1892) وغيرهم من طرقٍ عن ابن مسعود رضي الله عنه. =

(1/349)


وعن أبي هريرة، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كان إذا رَفَّأ الإنسانَ إذا تزوج قال: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادمًا فليقل: اللَّهُمَّ إني أسألك خيرها، وخير ما جَبَلْتَها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جَبَلْتَها عليه، وإذا اشترى بعيرًا، فليأخذ بِذُرْوَةِ سنامه وليقل مثل ذلك". رواه أبو داود (2) . وفي "الصحيحين" عن ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو أنَّ أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشيطان، وجَنِّبِ الشيطان ما __________ = وحسّنه الترمذي، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (679). وقال ابن حجر في "الفتح" (9/ 109): "وصححه أبو عوانة وابن حبان". وثبتّه المصنّف في "زاد المعاد" (2/ 454). (1) أخرجه أبو داود (2130)، والترمذي (1091)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (259)، وابن ماجه (1905) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (4052)، والحاكم (2/ 183) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وكذا صححه على شرط مسلمٍ ابنُ دقيق العيد في "الاقتراح" (400). (2) أخرجه أبو داود (2160)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (240)، وابن ماجه (1918) وغيرهم. وصححه الحاكم (2/ 185) ولم يتعقبه الذهبي. وجوّد إسناده العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 304).

(1/350)


رزقتنا، فقُضِيَ بينهما ولد، لم يَضُرَّه شيطان أبدًا" (1) . __________ (1) "صحيح البخاري" (141، 3271، 3283، 6388)، و"مسلم" (1434).

(1/351)


 الفصل الخامس والأربعون: في الذكر عند الولادة، والذكر المُتَعَلِّقِ بالولد

يُذْكَر أن فاطمة رضي الله تعالى عنها لما دنا وِلادُها، أَمَر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ سلمة وزينب بنت جحش أن تأتياها فتقرآ عليها آية الكرسي، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} إلى آخر الآيتين [الأعراف: 54 - 55]، وتعوِّذانها بالمعوذتين (1). وقال أبو رافع: "رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذَّن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2). __________ (1) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (621) بإسنادٍ شديد الضعف. (2) أخرجه الترمذي (1553)، وأبو داود (5105)، وأحمد (7/ 908)، وعبد الرزاق في "المصنّف" (4/ 336) وغيرهم. قال الترمذي -كما في المطبوعة، و"تحفة الأشراف" (9/ 202)، وكما نقله المصنِّف هنا-: "حديث حسن صحيح". وفي "تحفة الاْحوذي" (5/ 90): "هذا حديث صحيح، والعملُ عليه". وصححه الحاكم (3/ 179) فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: عاصم ضعيف". وقال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 163): "ومداره على عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف" وأورد حديثه هذا ابنُ حبان فى "المجروحين" (2/ 128) في ترجمته؛ مستدلًّا به على ضعفه. وله شاهدٌ ضعيفٌ جدًّا. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (15/ 101). فالحديثُ ضعيف.

(1/352)


ويُذْكَر عن الحسين بن علي قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من وُلِد له مولود، فأذَّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، لم تضره أمُّ الصِّبيان" (1) . وقالت عائشة: "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤْتَى بالصبيان، فيدعو لهم بالبركة ويُحَنِّكهم". رواه أبو داود (2) . وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بتسمية المولود يوم سابعه، وَوَضْعِ الأذى عنه، والعَقِّ". قال الترمذي: حديث حسن (3) . __________ (1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (12/ 150)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (15/ 99)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 198)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (624) بإسنادٍ شديد الضعف. و"أمّ الصبيان": هي "الرّيح التي تعرض للصبيان، فربّما غُشِي عليهم منها". "النهاية" لابن الأثير (1/ 68). وقال الثعالبي في "ثمار القلوب" (1/ 414): "هي ريحٌ تعتري الصبيان، وشيء يُفَزَّع به الصبيان". وقال ابن علان في "الفتوحات الربانية" (6/ 95): "هي التابعة من الجنّ، وقيل: مرض يلحق الأولاد في الصِّغر". (2) أخرجه أبو داود (5106) بإسنادٍ صحيح. وهو عند مسلم في "صحيحه" (286، 2147). وأخرجه البخاري (5994) بلفظ: "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤتى بالصبيان فيدعو لهم". (3) أخرجه الترمذي (2832)، وقال -كما في المطبوعة، و"تحفة الأشراف" (6/ 334) -: "هذا حديث حسن غريب". وله شاهد من حديث ابن عمر وسمرة رضي الله عنهم. =

(1/353)


وقد سَمَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابنَه إبراهيم (1) ، وإبراهيم بن أبي موسى (2) ، وعبد الله بن أبي طلحة (3) ، والمنذر بن أبي أسيد (4) قريبًا من ولادتهم (5) . وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنكم تُدْعَون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم". ذكره أبو داود (6) . __________ = وانظر: "تحفة المودود" للمصنِّف (93). (1) أخرجه مسلم (2315). (2) أخرجه البخاري (5467)، ومسلم (2145). (3) أخرجه البخاري (5153)، ومسلم (2144). (4) أخرجه البخاري (6191)، ومسلم (2149). (5) قال البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 305): "باب تسمية المولود حين يولد، وما جاء فيها أصحّ ممّا مضى". ثم ساق هذه الأحاديث. يريد أنّ هذه الأحادبث أصح من الأحاديث التي فيها تقييد التسمية باليوم السابع. (6) أخرجه أبو داود (4909)، وأحمد (7/ 262 - 263)، والدارمي (2594)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 309)، وعبد بن حميد (213) وغيرهم. قال أبو حاتم الرازي -كما في "المراسيل" لابنه (113) -. "عبد الله بن أبي زكريا لم يسمع أبا الدرداء". وقال أبو داود -عقب الحديث، كما في "تحفة الأشراف" (8/ 226) -: "ابنُ أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء". وبهذا أعلَّ الحديثَ البيهقيُّ، وابنُ حجر في "الفتح" (10/ 577)، والمنذريُّ في "الترغيب والترهيب" (2/ 697). وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5818). وجوّد إسناده النووي في "الأذكار" (2/ 710)، و"تهذيب الأسماء =

(1/354)


وذكر مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل: عبد الله، وعبد الرحمن" (1) . وعن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَسَمَّوْا بأسماء الأنبياء، وإن أحبَّ الأسماء إلى الله عز وجل: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام، وأقبحها: حَرْبٌ وَمُرَّة". رواه أبو داود والنسائي (2) . وغَيَّر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأسماء المكروهة إلى أسماء حسنة (3) ، فغيَّر اسم __________ = واللغات" (1/ 40). وتابعه المصنّف في "تحفة المودود" (123). (1) "صحيح مسلم" (2132). (2) أخرجه أبو داود (4950)، والنسائي (3565)، وأحمد (6/ 465)، والبخاري في "الأدب المفرد" (814) وغيرهم. وهو معلول، والصواب أنه مرسل. وقد بيّن علّته الإمام الجهبذ أبو حاتم الرازي -رحمه الله تعالى-. انظر: "المراسيل" (117 - 118)، و"العلل" (2/ 312 - 313)، و"الإصابة" لابن حجر (7/ 461 - 462)، و"بيان الوهم والإيهام" (4/ 379 - 384). وللحديث -دون أوّله- شاهدان مرسلان صحيحا الإسناد، فلعلّه يتقوى بهما، وإنْ كان في النفس من ذلك شيء؛ فإنّ مخرجهما ومخرج حديثنا المرسل هذا من الشام، فأخشى أنْ تؤول إلى مصدر واحد. (3) انظر: "زاد المعاد" (2/ 334 - 344)، و"مفتاح دار السعادة" (3/ 313 - 325)، و"تحفة المودود" (103، 111 - 114).

(1/355)


بَرَّة إلى زينب (1) ، وغيَّر اسمِ حَزْنٍ إلى سَهْلٍ (2) ، وغيَّر اسم عاصية فسماها جميلة (3) ، وغيَّر اسم أصْرَم إلى زُرْعَة (4) . وسمَّى حَرْبًا: سَلْمًا (5) ، وسمَّى المضطجع: المُنْبَعِث (6) ، وسمَّى __________ (1) أخرجه مسلم (2142). (2) أخرجه البخاري (5836). (3) أخرجه مسلم (2139). (4) أخرجه أبو داود (4915)، والرّوياني في "مسنده" (2/ 469)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ 427)، والطبراني في "الكبير" (1/ 196) وغيرهم. وصححه الحاكم (4/ 276) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (4/ 89 - 90، 311). وحسن إسناده النوويّ في "الأذكار" (2/ 719). (5) قال ابن حجر في "الإصابة" (3/ 137): "وذكر أبو داود في "السنن" (5/ 336) بغير إسنادٍ أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غيّر اسم رجلٍ كان اسمه حربًا، فقال: أنت سلم". وأخرج أحمد (1/ 296 - 297)، والبخاري في "الأدب المفرد" (823)، والبزار (2/ 314 - 315) وغيرهم عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "لما وُلِد الحسن سمّيتُه حربًا، فجاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "أروني ابني، ما سمّيتموه؟ " قال: قلت: حربًا. قال: "بل هو حسن". ثم ذكر مثل ذلك في الحسين. وصححه ابن حبان (6958)، والحاكم (3/ 165، 168) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (2/ 395 - 396). (6) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (8/ 664) مرسلًا، ورواه أبو داود في "الكنى"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2637) موصولًا. وصححه ابن حجر في "الإصابة" (6/ 210).

(1/356)


أرضا يقال لها: عفرة: خَضِرة (1) ، وشِعْب الضلالة سماه شِعْب الهُدى (2) ، وبنو الزِّنية سماهم بني الرِّشْدة (3) . __________ (1) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الصغير" (1/ 218)، ومن طريقه الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 368)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 19) وقال: "وهذا يرويه الطفاوي عن هشام عن أبيه عن عائشة، من رواية عمرو بن عبد الجبار عنه. ويرويه عمرو بن علي المقدّمي عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة. وجماعة رووه مرسلًا، لا يذكرون عائشة ولا أبا هريرة". ورُوِي بإسنادٍ أحسن من هذا -لم يذكره ابنُ عدي- بلفظ: "غدرة" بدل "عفرة"، وتصحف في بعض المصادر إلى: "عذرة". أخرجه أبو يعلى (8/ 42 - 43)، والطبراني في "الأوسط" (1/ 202)، و (8/ 75)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 313). وصححه ابن حبان (5821)، وهو كما قال. و"عفرة": قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 128): "هي نعت للأرض التي لا تنبت شيئًا، أُخِذت من العُفْرة، وهي لون الأرض، فسمّاها: "خضرة" على معنى التفاؤل، لتخضرّ وتمرع". وذكرها النووي في "الأذكار"، وتبعه ابن علّان في "شرحها" (6/ 130) بلفظ: "عقرة"، وفسّرها ابن الأثير في "النهاية" (3/ 273) فقال: "كأنه كره لها اسم العقر؛ لأن العاقر المرأة التي لا تحمل". و"غدرة": قال ابن الأثير في "النهاية" -أيضًا- (3/ 345): "كأنها كانت لا تسمح بالنبات، أو تنبت ثم تسرع إليها الآفة، فشُبِّهت بالغادر لأنه لا يفي". (2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (11/ 43) مرسلًا بلفظ "بقية الضلالة" "بقية الهدى". (3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 292)، ومن طريقه ابن عساكر في =

(1/357)


 الفصل السادس والأربعون: في صياح الديكة والنهيق والنباح

في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوَّذوا بالله من الشيطان، فإنها رَأَتْ شيطانًا، وإذا سمعتم صياح الدِّيَكة، فَسَلُوا الله من فضله، فإنها رَأَتْ مَلَكًا" (1). وفي "سنن أبي داود" عن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل، فتعوذوا بالله منهن، فإنَّهُنَّ يَرَيْنَ مالا تَرَوْنَ" رواه أبو داود (2). __________ = "تاريخ دمشق" (25/ 152 - 153) مرسلًا بإسنادٍ ضعيف. وروي مرسلًا من وجهٍ آخر أحسن من هذا. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (12/ 205). ومن وجهٍ آخر مرسلًا عند عبد الرزاق في "المصنّف" (11/ 43)، وتحرّف في مطبوعته "بنو مُغْوِية" إلى "بنو معاوية". (1) "صحيح البخاري" (3303)، و"مسلم" (2729). (2) أخرجه أبو داود (5104)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1233، 1234)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (942)، وأحمد (5/ 42 - 43) وغيرهم من طرقٍ. وصححه ابن حبان (1005)، والحاكم (1/ 445) و (4/ 283 - 284) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي.

(1/358)


 الفصل السابع والأربعون: في الذكر الذي يُطفأ به الحريق

يُذْكَر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا رأيتم الحريق فكبِّروا؛ فإن التكبير يُطْفِئُه" (1). __________ (1) أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 296)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 151)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (295، 296، 297، 298)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1266 - 1267) من طرقٍ عن عمرو بن شعيب. ولا يصحُّ منها شيء، والحديثُ شديد الضّعف. وقد أشار المصنّف إلى ضعفه بقوله: "ويُذكَر". وانظر: "زاد المعاد" (4/ 212 - 213)، و"مجموع الفتاوى" (24/ 229).

(1/359)


 الفصل الثامن والأربعون: في كفارة المجلس

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من جلس مجلسًا، فكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا كَفَّرَ الله له ما كان في مجلسه ذلك". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1). وفي حديثٍ آخر: "أنه إن كان في مجلس خيرٍ كان كالطّابع له، وإن كان في مجلس تخليطٍ كان كفارة له" (2). __________ (1) أخرجه الترمذي (33/ 34)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (397)، وأحمد (3/ 369)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/ 289) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (594). وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (113): "هذا حديث من تأمّله لم يشكّ أنه من شرط الصحيح. وله علّة فاحشة! ". وقد بيّنها الإمام البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 105)، و"الأوسط" (2/ 40)، وأحمد والدارقطني كما في "علل الدارقطني" (8/ 204)، وأبو حاتم وأبو زرعة كما في "العلل" (2/ 195 - 196)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 156). إلّا أنه صحّ من غير هذا الوجه مِنْ حديث جماعة من الصحابة. انظر: "النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (2/ 727 - 743). (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (424)، والطبراني في "الكبير" (2/ 138) وغيرهما من حديث جُبَيْر بن مطعم رضي الله عنه. قال ابن حجر في "النكت" (2/ 735): =

(1/360)


وفي "السنن" عن أبي هريرة، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من قوم يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة" (1) . وعن ابن عمر قال: قلَّما كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لأصحابه: "اللَّهُمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، وَمِنْ طاعتك ما تُبَلِّغنا به جنتك، وَمِن اليقين ما تُهَوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللَّهُمَّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تُسَلِّط علينا من لا يرحمنا". قال الترمذي حديث حسن (2) . __________ = "رجاله ثقات، إلّا أنه اختُلِف في وصله وإرساله". والمرسل أولى. انظر: "الضعفاء" للعقيلي (2/ 17). وصححه الحاكم (1/ 537) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (308)، وأحمد (8/ 116) وغيرهما. وقوَّى إسنادَه ابنُ حجر في "الفتح" (13/ 555)، وصححه في "النكت على ابن الصلاح" (2/ 733). (1) تقدم تخريجه (ص: 85). (2) أخرجه الترمذي (3502)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (402)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1656) وغيرهم من طرقٍ يصحّ بمجموعها. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم (1/ 528) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/361)


 الفصل التاسع والأربعون: فيما يُقال ويُفعَل عند الغضب

قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. وقال سليمان بن صُرَد: كنت جالسًا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورجلان يَسْتَبَّان، أحدهما قد احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يَجِدُ، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" متفق عليه (1). وعن عطية بن عروة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" رواه أبو داود (2). وفي حديثٍ آخر: "أنه أمر مَنْ غَضِب إذا كان قائمًا أن يجلس، وإذا كان جالسًا أن يضطجع" (3). __________ (1) "صحيح البخاري" (3282، 6048)، و"مسلم" (2610). (2) أخرجه أبو داود (4784)، وأحمد (6/ 168)، وغيرهما بإسنادٍ فيه ضعف. وانظر: "المجروحين" (2/ 25)، و"الميزان" (2/ 395)، و"التهذيب" (5/ 154)، و"الضعيفة" (582)، و"المداوي" (2/ 408). (3) أخرجه أبو داود (4782)، وأحمد (7/ 163 - 164). وصححه ابن حبان (5688) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والصواب أنه مرسل، كما ذهب إلى ذلك الإمامان أبو داود، والدارقطني. انظر: "سنن أبي داود" (4/ 396)، و"علل الدارقطني" (6/ 276 - 277)، =

(1/362)


 الفصل الخمسون: فيما يقال عند رؤية أهل البلاء

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قال: "من رأى مبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم يُصِبْه ذلك البلاء". قال الترمذي: حديث حسن (1). __________ = و"الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 444). (1) أخرجه الترمذي (3432)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1170)، و"الأوسط" (5/ 78)، و"الصغير" (2/ 4 - 5)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 143) وغيرهم. وحسنه الترمذيّ، والمنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 169)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 138). وفي إسناده ضعفٌ ينجبر بالطريق الأخرى التي أخرجها الطبراني في "الدعاء" (2/ 1170 - 1171). ورُوِي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه اضطراب شديد.

(1/363)


 الفصل الحادي والخمسون: في الذكر عند دخول السوق

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة" رواه الترمذي (1). وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل السوق قال: "بسم الله، اللَّهُمَّ إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك أن أُصِيبَ بها يمينًا فاجرة، أو صفقة خاسرة" (2). __________ (1) تقدم تخريجه (ص: 104). (2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 179)، والبيهقي في "الدعوات" (1/ 132)، والطبراني في "الكبير" (2/ 21)، والروياني في "مسنده" (1/ 79) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الكلم الطيّب" (170): "إسناده أمثل من الأوّل". يعني من حديث التهليل عند دخول السوق.

(1/364)


 الفصل الثاني والخمسون: في الرَّجُلِ إذا خَدِرت رِجْلُه

عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فخَدِرَت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد! (1)، فكأنما نَشِط من عقال (2). __________ (1) كذا في (ت) و (م) و (ق) و"عمل اليوم والليلة" لابن السني، وفي (ح): "فقال: محمد". (2) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (171) بإسنادٍ ضعيف. ورُوِي من وجهٍ آخر. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (964)، والحربيُّ في "غريب الحديث" (2/ 647)، وأبو القاسم البغوي في "حديث علي بن الجعد" (2/ 235 - 236)، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (17/ 142)، وابن سعد في "الطبقات" (4/ 154)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (169). وفيه أبو إسحاق السبيعي، ثقةٌ يدلِّس، ولم أجد له سماعًا من شيخه. وشيخه "عبد الرحمن بن سعد" فيه جهالة، وقال الذهبي: "لا يُعْرَف". وإن اعتبره ابن أبي حاتم -وتبعه المزي وابن حجر- هو مولى ابن عمر الكوفي، إلا أن جواب ابن معينٍ فيه يُورِدُ احتمالًا أن يكون غيره، ويُصَدِّقُ قولَ الذهبي، خاصة أن أبا إسحاق معروفُ الرواية عن المجهولين. انظر: "التاريخ" ليحيى بن معين (4/ 24 - رواية الدوري)، و"لسان الميزان" لابن حجر (7/ 51). ولفظ رواية البخاري: "اذكر أحبّ الناس إليك. فقال: محمد"، بدون (يا) النداء. وهي في رواية الباقين. وعلى فرض ثبوت الخبر؛ فهذا الفعلُ جارٍ على عادةٍ من عادات العرب في الجاهلية، كان الرجلُ منهم إذا خدرت رجله ذكَر من يُحِبُّ، أو دعاهُ؛ فيذهب =

(1/365)


وعن مجاهد رحمه الله قال: خَدِرَتْ رِجْلُ رَجُلٍ عند ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: اذكر أحب الناس إليك، فقال: محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فذهب خَدَرُه (1) . __________ = خَدَرُها. ووردت الإشارة إليها كثيرًا في أشعارهم. انظر: "الأغاني" (7/ 38، 8/ 127، 9/ 187، 23/ 389 ط الثقافة)، و"صبح الأعشى" (1/ 463 - 464)، و"بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" للآلوسي (2/ 320 - 321) وغيرها. وقيل في تفسير ذلك: إنّ ذِكْرَ المرء لمحبوبه يُحَرِّكُ الحرارة الغريزيَّة في بدنه، ويُنْعِشُها؛ فتتحرّك أعصاب رجله، فيذهب خَدَرُها. انظر: "شرح الشفاء" للخفاجي (3/ 355). وليس ذلك من الاستغاثة والطّلب في شيءٍ كما ترى. وانظر: تعليق الشيخ العلّامة محمد بهجة الأثري على "بلوغ الأرب" للآلوسي، و"الردّ على شبهات المستغيثين بغير الله" لابن عيسى (95 - 96)، و"هذه مفاهيمنا" للشيخ صالح آل الشيخ (44 - 47)، و"فرقة الأحباش" للدكتور سعد الشهراني (1/ 295 - 300). وهذا التقرير أحسن ممّا ورد في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (2/ 3/ 199). ولما تقدَّم؛ فلا أرى وجهًا لإيراد هذا الباب في كتب الأذكار، وسياقه ضمن أبواب الأدعية والأوراد التي تُقال على جهة التعبُّد. والمصنفُ رحمه الله تعالى تابَع في إيراده "الكلم الطيب"، وهو تبع "الأذكار" للنووي. وقد تعلَّق بذلك بعض المبتدعة، كشأنهم في الإعراضِ عن نصوص الوحي المحكمة الواضحة، والتعلُّقِ بالأخبار والحكايات الواهية. ومضى بيان معنى الأثر على فرض ثبوته -وهو غير ثابت-، وعدم دلالته على المعنى الذي يذهبون إليه. (1) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (170) بإسنادٍ شديد الضعف.

(1/366)


 الفصل الثالث والخمسون: في الدابة إذا عَثَرَتْ

عن أبي المليح عن رجلٍ قال: كنت رديف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعثرت دابته، فقلت: تَعِسَ الشيطان، فقال: "لا تقل: تَعِسَ الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تَعاظَمَ حتى يكون مثل البيت، ويقول: بِقُوَّتِي. ولكن قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب" (1). __________ (1) أخرجه أبو داود (4982)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (554) بإسنادٍ صحيح. وأخرجه النسائي (555)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ 306)، والطبراني في "الكبير" (1/ 194) وغيرهم من وجهٍ آخر. وصححه الحاكم (4/ 292)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (4/ 196).

(1/367)


 الفصل الرابع والخمسون: فيمن أَهْدَى هدية أو تَصَدَّقَ بصدقة فدعا له، ماذا يقول؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُهدِيتْ لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاةٌ فقال: اقسميها، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا رجعت الخادم تقول: ماذا قالوا؟ تقول الخادم: قالوا: بارك الله فيكم، تقول عائشة رضي الله عنها: وفيهم بارك الله، نَرُدُّ عليهم مثل ما قالوا، ويبقى أجرنا لنا (1). وقد رُوِيَ عنها في الصدقة مثل ذلك (2). __________ (1) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (303)، ومن طريقه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (279) بإسناد حسن. (2) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 192).

(1/368)


 الفصل الخامس والخمسون: فيمن أُمِيط عنه أذى

عن أبي أيوب رضي الله عنه أنه تناول من لحية رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذى، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَسَح الله عنك يا أبا أيوب ما تكره" (1). وفي لفظٍ آخر: "لا يَكُنْ بك السوءُ يا أبا أيوب" (2). وعن عمر رضي الله عنه، أنه أخذ عن رجلٍ شيئًا، فقال الرجل: صرف الله عنك السوء، فقال عمر رضي الله عنه: صرف الله عنا السوء منذ أسلمنا، ولكن إذا أُخِذ عنك شيء فقل: أَخَذَتْ يداك خيرًا (3). __________ (1) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (282) بإسنادٍ ضعيف. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 172) من وجهٍ آخر بنحوه، وإسناده ضعيف أيضًا. وانظر: "مجمع الزوائد" (9/ 323). (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 130)، و"الدعاء" (3/ 1666)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 199) وغيرهم بإسنادٍ شديد الضعف. وصححه الحاكم (4/ 130) ولم يتعقبه الذهبي. قال أبو زرعة -كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 335) -: "هذا حديث منكر". وروي عن الحسن البصري من قوله بإسنادٍ حسن. أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 141). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (8/ 574) بإسنادٍ آخر لا بأس به. (3) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (284) بإسنادٍ منقطع.

(1/369)


 الفصل السادس والخمسون: في رؤية باكورة الثمرة

قال أبو هريرة رضي الله عنه: كان الناس إذا رأوا الثمر جاؤوا به إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "اللَّهُمَّ بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا". ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. رواه مسلم (1). __________ (1) "صحيح مسلم" (1373).

(1/370)


 الفصل السابع والخمسون: في الشيء يراه ويُعْجِبُه ويَخَافُ عليه العَيْن

قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "العين حق، ولو كان شيءٌ سابِقُ القَدَرِ لَسَبَقَتْهُ العين". حديث صحيح (1). ويُذْكَر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه أو ماله فليبرِّك عليه؛ فإن العين حق" (2). ويُذْكَر عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من رأى شيئًا فأعجبه فليقل: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله" (3). __________ (1) أخرجه مسلم (2188). (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (211)، وأحمد (5/ 393)، وأبو يعلى (13/ 153) وغيرهم بإسنادٍ حسن. وصححه الحاكم (4/ 215 - 216) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (8/ 186 - 187). ورُوِي من وجوهٍ أخرى. انظر: "السلسلة الصحيحة" (2572). (3) أخرجه البزار (3/ 404 - كشف الأستار)، وابن عديّ في "الكامل" (3/ 325)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (208) بإسنادٍ ضعيف جدًّا. ولفظ البزار: "من رأى شيئًا فأعجبه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره". ولفظ الباقين بنحوه. ولم أقف عليه بصيغة الأمر "فليقل" كما أورده المصنّف.

(1/371)


ويُذْكَر عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيمن خاف أن يصيب شيئًا بعينه قال: "اللَّهُمَّ بارك لنا فيه ولا تَضُرَّه" (1) . وقال أبو سعيد: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ من الجانِّ، وعينِ الإنسان (2) ، حتى نزلت المعوِّذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما". قال الترمذي: حديث حسن. ورواه ابن ماجه في "سننه" (3) . __________ (1) أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (759)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (209)، ولا يصحّ. (2) كذا في (ح) ورواية الترمذي. وفي (ت) و (م) و (ق): "ومن عين الإنس". (3) أخرجه الترمذي (2058)، والنسائي (5494)، وابن ماجه (3511)، وحسنه الترمذي، وهو كما قال.

(1/372)


 الفصل الثامن والخمسون: في الفأل والطِّيَرة

قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا عدوى ولا طِيَرة، وأصدقها الفأل" قيل: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الحسنةُ يَسْمَعُها الرجل" (1). وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه الفأل (2). كما كان في سفر الهجرة فَلَقِيَهُمْ رجل فقال: "ما اسمك"؟ قال: بريدة. قال: "بَرَدَ أمرُنا" (3). وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رأيت في منامي كأني في دار عقبة بن رافع، وأُتِينا من رُطَبِ ابن طاب، فأوَّلْتُها الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب" (4). وأما الطِّيَرة: فقال معاوية بن الحكم: قلت: يا رسول الله؛ مِنّا __________ (1) أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عمر، وجابر رضي الله عنهم. (2) كما في حديثِ أنسٍ رضي الله عنه السابق، وغيره. (3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/ 410)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (271)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 73) وغيرهم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه بإسنادٍ ضعيف جدًّا. انظر: "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/ 408 - 409)، و"السلسلة الضعيفة" (4112، 5450). (4) أخرجه مسلم (2270) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(1/373)


رجال يتطيرون. قال: "ذلك شيء تجدونه في صدوركم فلا يَصُدَّنَّكم" (1) . وهذه الأحاديث في "الصحاح" (2) . وعن عقبة بن عامر قال: سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الطيرة، فقال: "أصدقها الفألُ، ولا تَرُدُّ مسلمًا، وإذا رأيتم من الطيرة شيئًا تكرهونه، فقولوا: اللَّهُمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يَذْهَبُ بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (3) . __________ (1) أخرجه مسلم (537). (2) يعني الحديثين الأخيرين. (3) أخرجه أبو داود (3919)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 262 - 263)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 139)، و"الدعوات" (2/ 287)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (294) وغيرهم. وفي إسناده انقطاعٌ، وإرسال. انظر: "أسد الغابة" (3/ 525)، و"تهذيب الكمال" (20/ 26). وهو في جميع هذه المصادر: "عن عروة بن عامر". ووقع في الأصول التي بين يديّ، و"الكلم الطيب"، و"الأذكار": "عن عقبة بن عامر"، وهو خطأ.

(1/374)


 الفصل التاسع والخمسون: في الحَمّام

يُذْكَر عن أبي هريرة أنه قال: "نِعْم البيتُ الحمَّام يَدْخُلُه المسلم، إذا دخله سأل الله الجنة، واستعاذ به من النار" (1). __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 109)، ومسدّد في "مسنده" (1/ 109 - المطالب العالية)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (13/ 473) بنحوه. قال البيهقي: "هذا موقوف، وإسناده صحيح". وقال ابن حجر: "صحيح موقوف". ورُوِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا باللفظ الذي ذكره المصنّف. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (13/ 473)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (316) بإسنادٍ ضعيف جدًّا. وضعّفه البيهقي، والبوصيري في "إتحاف الخيرة" (1/ 299 - 300)، والنووي في "الأذكار" (2/ 786). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الكلم الطيب" (183): "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وموقوفًا وهو أشبه. . ." ثم ذكره.

(1/375)


 الفصل الستون: في الذكر عند دخول الخلاء والخروج منه

في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" (1). وزاد سعيد بن منصور "بسم الله" (2). وفي "مسند الإمام أحمد" عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن هذه الحشوش مُحْتَضَرة (3)، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله __________ (1) "صحيح البخاري" (142، 6322)، و"مسلم" (375). (2) أخرجها سعيد بن منصور فىِ "سننه" -كما في "شرح علل ابن أبي حاتم" لابن عبد الهادي (216) -، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 1)، و (10/ 453)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 55 - 56). وفي إسنادها: أبو معشر السّندي، وهو ضعيف. ورُوِيت من طريقين أخريين: الأولى: أخرجها العقيلي في "الضعفاء" (3/ 371)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 959)، و"الأوسط" (3/ 161 - 162)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (21) وغيرهم. وفيها: عديّ بن أبي عمارة، وهو ضعيف، وقد تفرّد بها عن قتادة. الثانية: أخرجها المعمريّ في كتاب "اليوم والليلة" -كما في "الفتح" (1/ 196)، و"النتائج" (1/ 196) -. قال ابن حجر في "الفتح": "إسناده صحيح على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غير هذه الرواية". وقال في "النتائج": "رواته موثَّقون". والأقرب أنها شاذّة. انظر: "تمام المنّة" (57). (3) الحُشوش: مواضع قضاء الحاجة. تَحْضُرها الجنُّ والشياطين. "النهاية".

(1/376)


من الخبث والخبائث" (1) . وفي "سنن ابن ماجه" عن أبي أمامة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الرِّجْسِ النجسِ، الخبيثِ المُخْبِث، الشيطانِ الرجيم" (2) . وفي "الترمذي" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله" (3) . __________ (1) أخرجه أحمد (6/ 529 - 530)، وأبو داود (6)، وابن ماجه (296) غيرهم. وصححه ابن خزيمة (69)، وابن حبان (1406، 1408)، والحاكم (1/ 187) ولم يتعقبه الذهبي. وفي إسناده اختلاف. انظر: "جامع الترمذي" (1/ 10)، و"العلل الكبير" له (22 - 23)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 17). (2) أخرجه ابن ماجه (299)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 179)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 965)، و"الكبير" (8/ 210) بإسنادٍ ضعيف. وضعفه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 128). (3) أخرجه الترمذي (606)، وابن ماجه (297)، والبيهقي في "الدعوات" (1/ 37) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بذاك". وقال البيهقي: "هذا إسناد فيه نظر". وفيه: محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، واتهمه بعضهم، لكنه لم ينفرد به. فقد توبع عند البزار (2/ 127)، وأبي الشيخ في "العظمة" (5/ 1669). =

(1/377)


وقالت عائشة: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج من الغائط قال: "غفرانك". رواه الإمام أحمد وأهل السنن (1) . وفي "سنن ابن ماجه" عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى __________ = ومع ذلك، فهذه الجملة غير محفوظة من حديث عليّ رضي الله عنه، وقد رُوِى من وجهٍ أصحّ من هذا الوجه بدونها. ولها شواهد من حديث أنسٍ، وأبي سعيد، وابن عمر، وابن مسعود، ومعاوية بن حيدة رضي الله عنهم. وحَسَّنَ الحديث بها بعضُ أهل العلم. انظر: "نتائج الأفكار" (1/ 150 - 155، 196 - 197)، و"الإعلام بسنته - عليه السلام" لمغلطاي (1/ 72)، و"إرواء الغليل" (1/ 87 - 90)، و"الروض البسام" (4/ 437 - 441). (1) أخرجه أحمد (8/ 288)، وأبو داود (30)، والترمذي (7)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (79)، وابن ماجه (300) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة". وصححه ابن خزيمة (90)، وابن حبان (1431)، والحاكم (1/ 158) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (42). وقال أبو حاتم الرازي -كما في "العلل" لابنه (1/ 43) -: إنّه "أصحّ حديث في هذا الباب، يعني باب الدعاء عند الخروج من الخلاء". وصححه النووي في "الأذكار" (1/ 109)، وابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 216). وانظر: "الإعلام بسنته عليه السلام" لمغلطاي (1/ 76 - 77).

(1/378)


وعافاني" (1) . __________ (1) أخرجه ابن ماجه (301) بإسنادٍ ضعيف. وضعَّفه النووي في "المجموع" (2/ 90)، ومغلطاي في "الإعلام" (1/ 78)، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 129). وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 219). وله شاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 2)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 968)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (23) وغيرهم. واختُلِف في رفعه ووقفه، والصواب وقفه، كما ذهب إلى ذلك الأئمة: أبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني. انظر: "علل ابن أبي حاتم" (1/ 27)، و"علل الدارقطني" (6/ 235)، و"نتائج الأفكار" (1/ 218 - 219).

(1/379)


 الفصل الحادي والستون: في الذكر عند إرادة الوضوء

ثبت في النسائي عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه وضع يده في الجفنة، وقال: "توضؤوا بسم الله" (1). وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل، وفيه: "يا جابر نادِ بِوَضوء" فقلت: ألا وَضوء؟ ألا وَضوء؟ ألا وَضوء؟ وفيه: فقال: "خذ يا جابر فَصُبّ عَلَيَّ وقل: بسم الله" فصببت عليه، وقلت: بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (2). وفي "المسند" و"السنن" من حديث سعيد بن زيد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا وُضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (3). __________ (1) أخرجه النسائي (78)، وأحمد (4/ 427)، وأبو يعلى (3795) وغيرهم عن أنس رضي الله عنه. وصححه ابن خزيمة (144)، وابن حبان (6544). وصححه ابن حجر في "النتائج" (1/ 233). (2) "صحيح مسلم" (3013). (3) أخرجه أحمد (5/ 698)، والترمذي (25)، وابن ماجه (398) وغيرهم. قال أبو حاتم وأبو زرعة -كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1/ 52) -: "ليس عندنا بذاك الصحيح، أبو ثفال مجهول، ورباح مجهول". وبنحو هذا أعلّه البزارُ -كما في "الإمام" لابن دقيق العيد (1/ 448 - 449) -، وابنُ القطان الفاسي في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 314). وانظر: "علل الدارقطني" (4/ 433 - 436)، و"البدر المنير" لابن الملقّن =

(1/380)


قال البخاري: هذا أحسن شيء في هذا الباب (1) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه الإمام أحمد وأبو داود (2) . وفي "المسند" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (3) . __________ = (3/ 237 - 248)، و"التلخيص الحبير" (1/ 85 - 86). (1) نقله عنه الترمذي في "الجامع" (1/ 39)، و"العلل الكبير" (31 - 32). (2) أخرجه أحمد (3/ 499)، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399) وغيرهم. وصححه الحاكم (1/ 146)، فتعقبه الذهبيّ بقوله: "وإسناده فيه لين". وانظر: "الإمام" لابن دقيق العيد (1/ 444 - 446)، و"نتائج الأفكار" (1/ 225 - 226)، و"التلخيص" (1/ 84). (3) أخرجه أحمد (4/ 107)، وابن ماجه (397) وغيرهما. وقال الإمام أحمد: "أقوى شيء فيه: حديث كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن. وربيح ليس بالمعروف". وقال: "لا يثبت حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه". وقال: "لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيّد". وقال: "لا يثبت عندي، إسناده ضعيف". وبهذا قال غير واحدٍ من الأئمة. انظر: "مسائل ابن هانئ" (1/ 3)، و"مسائل عبد الله" (1/ 89 - 90)، و"مسائل صالح" (86، 153)، و"مسائل أبي داود" (6)، و"مسائل إسحاق الكوسج" (1/ 83، 181) و"تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (1/ 631 - 632). و"جامع الترمذي" (1/ 38)، و"الأوسط" لابن المنذر (1/ 368)، و"الضعفاء" للعقيلي (1/ 177)، و"الكامل" لابن عدي (3/ 173)، =

(1/381)


 الفصل الثاني والستون: في الذكر بعد الفراغ من الوضوء

روى مسلم في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ -أو فيُسْبِغ- الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية، يَدْخُل من أيِّها شاء" (1). وزاد فيه الترمذي بعد ذكر الشهادتين: "اللَّهُمَّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (2). وفي بعض طرقه ذكرها أبو داود والإمام أحمد: "فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء فقال. . ." وذكره (3). __________ = و (6/ 67)، و"علل الترمذي" (31 - 33)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 52)، و"علل الدارقطني" (4/ 433 - 435). وذهب بعض أهل العلم إلى تحسين الحديث بشواهده. انظر: "بذل الإحسان" لأبي إسحاق الحويني (2/ 368 - 371). (1) "صحيح مسلم" (234). (2) أخرجه الترمذي (55). قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 241): "لم تثبت هذه الزيادة في هذا الحديث، فإن جعفر بن محمد، شيخ الترمذي، تفرّد بها، ولم يضبط الإسناد. . .". (3) أخرجه أحمد (1/ 113)، وأبو داود (170)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (84) وغيرهم بإسنادٍ ضعيفٍ، فيه راوٍ لم يُسَمّ. =

(1/382)


وفي لفظٍ للإمام أحمد: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال -ثلاث مرات-: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (1) . وفي "سنن النسائي" عن أبي سعيد الخدري قال: "من توضأ ففرغ من وضوئه فقال: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، طُبع عليها بطابَع، ثم رفعت تحت العرش فلم تُكْسَر إلى يوم القيامة" (2) . هكذا رواه من قول أبي سعيد رضي الله عنه، ورواه بقي بن مخلد في __________ = وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 240). (1) أخرجه أحمد (4/ 675)، وابن ماجه (469) وغيرهما من حديث أنسٍ رضي الله عنه بإسنادٍ ضعيف. وضعّفه النوويّ في "الأذكار" (1/ 115)، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 187). وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 250). (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (82)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 976) وغيرهما عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفًا. وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (81)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 975)، والحاكم (1/ 564) وغيرهم عنه مرفوعًا. والمحفوظ هو الموقوف، ورفعه خطأ. وإلى ذلك ذهب الأئمة: النسائي، والدارقطني في "العلل" (4/ ق 2/ ب)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/ 54 - 55). ومع هذا فله حكم الرفع؛ إذْ مثله ممّا لا يُقال بالرأي. انظر: "نتائج الأفكار" (1/ 249 - 250)، و"النكت الظِّراف" (3/ 447).

(1/383)


تفسيره من حديثه أيضًا مرفوعًا (1) . وأما الأذكار التي يقولها العامة على الوضوء عند كل عضوٍ فلا أصل لها عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة الأربعة، وفيها حديثٌ كذبٌ على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (2) . __________ (1) من قوله: "هكذا رواه أبو سعيد. . ." إلى هنا، من (م) فقط. (2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 195)، و"المنار المنيف" (96 - 97) للمصنِّف. و"الأذكار" (1/ 116)، و"المجموع" (1/ 489)، و"تنقيح الوسيط" (1/ 289 - 290)، و"روضة الطالبين" (1/ 62)، و"منهاج الطالبين" (5) للنووي. و"شرح مشكل الوسيط" لابن الصلاح (1/ 290)، و"الإعلام بسنته عليه السلام" لمغلطاي (1/ 389). و"نتائج الأفكار" (1/ 260 - 268)، و"التلخيص الحبير" (1/ 110 - 111). و"التحديث بما قيل: لا يصحّ فيه حديث" للشيخ بكر أبو زيد (36 - 38).

(1/384)


 الفصل الثالث والستون: في ذكر صلاة الجنازة

في "صحيح مسلم" عن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: "اللَّهُمَّ اغفر له وارحمه، وعافِهِ واعْفُ عنه، وأكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبرد، وَنَقِّهِ من الذنوب والخطايا كما نَقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدَّنسِ، وأبدله دارًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذْهُ من عذاب القبر" قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت؛ لدعاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي لفظٍ: "وَقِهِ فتنة القبر وعذاب النار" (1). وفي "سنن أبي داود" عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جنازة فقال: "اللَّهُمَّ اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللَّهُمَّ من أحييته منا، فَأَحْيهِ على الإسلام، ومن توفَّيته منا فَتَوفَّهُ على الإيمان، اللَّهُمَّ لا تحرمنَا أجره، ولا تُضِلنا بعده" (2). __________ (1) "صحيح مسلم" (963). (2) أخرجه أبو داود (3201)، والترمذي (1024)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1080) وغيرهم. وهو معلول، وفي إسناده اختلافٌ كثير. انظر: "علل الدارقطني" (4/ 270 - 272)، و (9/ 321 - 325)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 354، 357)، و"علل الترمذي الكبير" (385)، و"المحرّر" لابن عبد الهادي (196 - 197)، و"الفتوحات الربانية" =

(1/385)


وفي "سنن أبي داود" أيضًا عن واثلة بن الأسقع قال: صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللَّهُمَّ إن فلان ابن فلان في ذمتك وحَبْلِ جِوارِك، فَقِهِ من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهْلُ الوفاء والحمد، اللَّهُمَّ فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم" (1) . وسأل مروان أبا هريرة: كيف سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي على الجنازة؟ قال: "اللَّهُمَّ أنت ربُّها، وأنت خلقتَها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له" رواه الإمام أحمد وأبو داود (2) . __________ = (4/ 174). وصححه الترمذي، وابن حبان (3070)، والحاكم (1/ 358) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (541). (1) أخرجه أبو داود (3202)، وابن ماجه (1499)، وأحمد (5/ 497 - 498) وغيرهم. وصححه ابن حبان (3074). وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 176) -. (2) أخرجه أحمد (3/ 79 - 80)، وأبو داود (3200)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1076، 1077، 1078) وغيرهم. وحسّنه ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 176) -.

(1/386)


 الفصل الرابع والستون: في الذكر إذا قال هُجْرًا، أو جرى على لسانه ما يسخط ربه عز وجل

ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من حلف منكم فقال في حلفه: والَّلات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أُقامِرْكَ، فليتصدق" (1). فكل من حلف بغير الله فهذه كفارته؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" حديث صحيح (2). وكفارة الشرك: التوحيد، وهو كلمة "لا إله إلا الله" (3). ومن قال: تعال أُقامِرْكَ، فقد تكلم بِهُجْرٍ وفُحْشٍ يتضمن أكل المال وإخراجه بالباطل، وكفارة هذه الكلمة بضد القِمار، وهو إخراج المال في أَحَقِّ مواضعه، وهو الصدقة. وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: حلفتُ بالَّلاتِ __________ (1) أخرجه البخاري (4579، 5756)، ومسلم (1647). (2) أخرحه أبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وأحمد (2/ 300) وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/ 18)، و (4/ 279) ولم يتعقبه الذهبي. (3) كذا في (ح)، وفي (ت) و (ق): "وكفارة الشرك هو التوحيد وكلمة لا إله إلا الله"، وفي (م): "وكفارة الشرك التوحيد وكلمته لا إله إلا الله".

(1/387)


والعُزَّى -وكان العهد قريبًا- فذكرت ذلك للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "قد قلتَ هُجْرًا، قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وانفث عن يسارك سبعًا، ولا تَعُدْ" (1) . __________ (1) أخرجه أحمد (1/ 494)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (989، 990)، وابن ماجه (2097) وغيرهم. وصححه ابن حبان (4364، 4365)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (3/ 255 - 256). وانظر: "علل الدارقطني" (4/ 323)، و"مسند البزار" (3/ 341 - 342). وجملة "قد قلت هجرًا" وردت مدرجةً من قولِ أصحاب سعد، في معظم المصادر السابقة.

(1/388)


 الفصل الخامس والستون: فيما يقول من اغتاب أخاه المسلم

يُذْكَر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أن كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول: "اللَّهُمَّ اغفر لنا وله". ذكره البيهقي في كتاب "الدعوات الكبير"، وقال: في إسناده ضعف (1). وهذه المسألة فيها قولان للعلماء -هما روايتان عن الإمام أحمد-، وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبةِ الاستغفارُ للمغتاب، أم لابد من إعلامه وتَحَلُّلِه؟ (2). والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار له، وذِكْرُه بمحاسن ما فيه في المواطن التى اغتابه فيها. __________ (1) أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 294)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (293)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (211، 212)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 303) وغيرهم من طرقٍ عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا. ولا يصحّ، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 342). واقتصر العراقي على تضعيفه في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 825). وانظر: "المقاصد الحسنة" (375 - 376)، و"اللآلئ المصنوعة" (2/ 303 - 304)، و"السلسلة الضعيفة" (1518، 1519، 1520). (2) انظر: "الفروع" (6/ 97 - 98)، و"الآداب الشرعية" (1/ 92 - 99) لابن مفلح.

(1/389)


وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (1) ، وغيره (2) . والذين قالوا: لابد من إعلامه؛ جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرقُ بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية (3) ينتفع المظلوم بعَوْدِ نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها، وإن شاء تصدق بها. وأما في الغيبة، فلا يُمْكِنُ ذلك، ولا يَحْصُلُ له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع، فإنه يُوغِرُ صدره ويؤذيه إذا سمع ما رُمِيَ به، ولعله يُنْتِجُ عداوته (4) ، ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يُجَوِّزُه، فضلًا عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها، والله تعالى أعلم. __________ (1) انظر: "الصارم المسلول" (3/ 616، 917 - 918)، و"مجموع الفتاوى" (3/ 291)، و (18/ 189). (2) انظر: "فتاوى ابن الصلاح" (1/ 190 - 192)، و"تفسير القرطبي" (16/ 337)، و"سبل السلام" (3/ 204)، و"غذاء الألباب" (1/ 114، 2/ 576 - 577). (3) (ح): "فإن الحقوق المالية". (4) (ح) و (ق): "يهيج عداوته".

(1/390)


 الفصل السادس والستون: فيما يُقال ويُفْعَل عند كسوف الشمس وخسوف القمر

في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالى: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبِّروا وتصدقوا" (1). وفي "صحيح مسلم" عن عبد الرحمن بن سمرة قال: بينا أنا أرمي بِأَسْهُمٍ لي في حياة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذْ كسفت الشمس، فَنَبَذْتُهُنَّ وقلت: لأنظرنَّ ما حدث لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كسوف الشمس اليوم، فانتهيت إليه وهو رافع يديه يسبح ويحمد ويُهَلِّلُ ويدعو، حتى حُسِرَ عن الشمس، فقرأ بسورتين وركع ركعتين (2). والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر في الكسوف بالصلاة، والعَتاقة، والمبادرة إلى ذكر الله تعالى، والصدقة؛ فإن هذه الأمور تدفع أسباب البلاء. __________ (1) "صحيح البخاري" (997، 1000، 1009)، و"مسلم" (901). (2) "صحيح مسلم" (913).

(1/391)


 الفصل السابع والستون: فيما يقول من ضاع له شيءٌ ويدعو به

ذكر علي بن المديني عن سفيان عن ابن عجلان عن عمر بن كثير بن أفلح قال: كان ابن عمر يقول للرجل إذا أضل شيئًا: قل: "اللَّهُمَّ رب الضَّالَّة، هادي الضَّالَّة، تهدي من الضلالة، رُدَّ عَلَيَّ ضَالَّتي بقدرتك، وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك (1). وفي وجهٍ آخر: سُئِل ابنُ عمر رضي الله عنه عن الضَّالَّة، فقال. يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يتشهد، ثم يقول: اللَّهُمَّ رادَّ الضَّالَّة، هادي الضلالة، تهدي من الضلالة (2)، رُدَّ عليَّ ضالَّتي بِعِزَّتك (3) وسلطانك، __________ (1) أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 272) بإسنادٍ رجاله ثقات. وروي مرفوعًا، ولا يصحّ. أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 261)، و"الأوسط" (5/ 43)، و"الصغير" (1/ 394). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 133): "فيه عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد المكي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات". وقد تفرّد عبد الرحمن هذا برفع الحديث عن سفيان بن عيينة، مخالفًا الإمام علي بن المديني الذي رواه عنه موقوفًا. وانظر: "التدوين في أخبار قزوين" (2/ 139). (2) (ح): "الضلال"، والمثبت من (ت) و (م) و (ق) ورواية البيهقي. (3) (م): "بقدرتك"، والمثبت من (ت) و (ح) و (ق) ورواية البيهقي.

(1/392)


فإنها من فضلك وعطائك (1) . قال البيهقي: هذا موقوف، وهو حسن. وقد قيل: إن من ضاع له شيء فقال: يا جامعَ الناس ليومٍ لا ريب فيه! رُدَّ عليَّ ضالتي؛ رَدَّها الله تعالى عليه (2) . __________ (1) أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 273). (2) رُوِي في هذا حديث مرفوعٌ، لا يثبت. أخرجهُ ابن النجار في "التاريخ المجدّد لمدينة السلام" (3/ 17 - 18). وانظر: "تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة" لمحمد عمرو عبد اللطيف (2/ 167 - 170).

(1/393)


 الفصل الثامن والستون: في عقد التسبيح بالأصابع وأنه أفضل من السُّبْحة

روى الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: "رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعقد التسبيح بيمينه" رواه أبو داود (1). وروت يُسَيْرة -إحدى المهاجرات- رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فَتَنْسَيْنَ الرحمة، واعْقِدْنَ بالأنامل فإنهنَّ مسؤولاتٌ ومُسْتَنْطَقات" (2). __________ (1) أخرجه أبو داود (1502)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (2/ 253). وقد تفرّد "محمد بن قدامة" بقوله: "بيمينه"، دون سائر رواة الحديث. انظر: "لا جديد في أحكام الصلاة" للشيخ بكر أبو زيد (52 - 64). والمحفوظ رواية الحديث بلفظ "بيده". كذلك أخرجه الترمذي (3410)، والنسائي (1347)، وابن ماجه (926) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (843)، والحاكم (1/ 547) ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 266). (2) أخرجه الترمذي (3583)، وأبو داود (1501)، وأحمد (8/ 746) وغيرهم. قال الترمذي -كما في المطبوعة، ولم يرد في "تحفة الأشراف" (13/ 67) -: "هذا حديث غريب". وصححه ابن حبان (842)، والحاكم (1/ 547) وسقط تصحيحه من المطبوعة، انظر: "إتحاف المهرة" (18/ 229)، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 87)، والنوويّ في "الأذكار" (1/ 87).

(1/394)


 الفصل التاسع والستون: في أحب الكلام إلى الله عز وجل بعد القرآن

ثبت في "صحيح مسلم" عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يَضُرُّكَ بأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (1). وفي أثرٍ آخر: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وَهُنَّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (2). وفي أثر آخر: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده" (3). وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم" (4). وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: __________ (1) "صحيح مسلم" (2137). (2) أخرجه أحمد (6/ 776)، والطيالسي (2/ 219 - 220)، وابن ماجه (3811) وغيرهم، واللفظ لأحمد. وصححه ابن حبان (5837). وهو حديث سمرة السابق. (3) أخرجه مسلم (2731). (4) "صحيح البخاري" (6043، 6304، 7124)، و"مسلم" (2694).

(1/395)


"لأَنْ أقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أَحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس" (1) . __________ (1) "صحيح مسلم" (2695).

(1/396)


 الفصل السبعون: في الذِّكْرِ المُضَاعَف (1)

في "صحيح مسلم" عن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج من عندها بُكْرةً حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعدما أضحى وهي جالسة، فقال: "مازِلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها"؟ قالت: نعم. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقد قلتُ بعدك أربع كلمات -ثلاث مرات- لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رِضى نفسه، سبحان الله زِنَة عرشه، سبحان الله مِداد كلماته" (2). وعن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على امرأةٍ وبين يديها نَوى أو حصى تُسَبِّح به فقال: "ألا أُخْبِرُكِ بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ "، فقال: "سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، سبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن (3). __________ (1) انظر: "المنار المنيف" للمصنِّف (26 - 30)، و"فتاوى العز بن عبد السلام" (194، 201 - 204)، و"الفتوحات الربانية" (1/ 194 - 196)، و"نيل الأوطار" (2/ 366). (2) "صحيح مسلم" (2726). (3) تقدم تخريجه (ص: 218).

(1/397)


 الفصل الحادي والسبعون: فيما يُقال لمن حصل له وَحْشَة

روِّينا في "معجم الطبراني" عن البراء بن عازب أن رجلًا اشتكى إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوَحْشَة، فقال: "قل: سبحان الملك القدوس، رب الملائكة والروح، جَلَّلْتَ السموات والأرض بالعزة والجبروت". فقالها الرجل، فأذهب الله عنه الوَحْشَة. (1). __________ (1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (2/ 24)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 129)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 385 - 386) وغيرهم. قال ابن حجر في "النتائج" -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 31) -: "هذا حديث غريب، وسنده ضعيف". وفي إسناده: "درمك بن عمرو"، وهو مجهول. وأورد العقيليُّ حديثه هذا في ترجمته من "الضعفاء" (2/ 46)، ثم قال: "لا يتابع عليه، ولا يُعرَف إلا به". وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 26): "درمك بن عمرو، عن أبي إسحاق، بخبر منكر". وفي الإسناد راوٍ ضعيف آخر.

(1/398)


 الفصل الثاني والسبعون: في الذكر الذي يقوله أو يُقال له إذا لبس ثوبًا جديدًا

عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا اسْتَجَدَّ ثوبًا سَمَّاه بِاسْمِه، قميصًا أو إزارًا أو عمامة، يقول: "اللَّهُمَّ لك الحمد أنت كَسَوْتَنِيهِ، أسألك من خيره وخير ما صُنِع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صُنِع له". قال أبو نضرة: وكان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رأى أحدهم على صاحبه ثوبًا قال: تُبْلِي ويُخْلِفُ اللهُ تعالى. ذكره البيهقي (1). وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (2). __________ (1) أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 201)، وأبو داود (4020)، والترمذي (1767)، وأحمد (4/ 78) وغيرهم. قال الترمذي: "حديث حسن". وصححه ابن حبان (5420)، والحاكم (4/ 192) ولم يتعقبه الذهبي. إلّا أنه مُعَلٌّ بالإرسال. فقد أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (310) مرسلًا، وقال: إنه الأولى بالصواب. ومال إلى ذلك أبو داود. وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 123 - 124). (2) أخرجه أبو داود (4019)، والترمذي (3458)، وأبو يعلى (3/ 12) وغيرهم، واللفظ لأبي داود. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". =

(1/399)


 الفصل الثالث والسبعون: فيما يُقال عند رؤية الفجر

روى ابن وهب عن سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كان في سفر فبدا له الفجر قال: "سَمَّع سامِعٌ بحمد الله (1) ونعمته وحُسْنِ بلائه علينا، رَبَّنَا صَاحِبْنا فأفْضِلْ علينا، عائذًا بالله من النار" يقول ذلك ثلاث مرات، ويرفع بها صوته. هذا إسناد صحيح على شرط مسلم (2). __________ = وصححه الحاكم (1/ 507)، و (4/ 192) فتعقبه الذهبي -في الموضع الثاني- بقوله: "قلت: أبو مرحوم ضعيف، وهو عبد الرحيم بن ميمون". وبه أعلّ المنذريُّ الحديثَ فىِ "مختصر سنن أبي داود" (6/ 22). وحسّنه -وهو الأقرب- ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 120)، و"معرفة الخصال المكفِّرة" (74). وقد تقدّم بعضه في ذكر الطعام والشراب. (1) قال النوويّ في "الأذكار" (1/ 222): "قال القاضي عياض، وصاحب "المطالع"، وغيرهما: سمَّع -بفتح الميم المشدّدة-، ومعناه: بلّغ سامعٌ قولي هذا لغيره، تنبيهًا على الذكر في السَّحَر والدعاءِ ذلك الوقت. وضبطه الخطّابي وغيره: سَمِعَ -بكسر الميم المخفّفة-. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: "سَمِع سامعٌ" معناه: شهد شاهدٌ، وحقيقته: لِيسمع السامع، وليشهد الشاهدُ حَمْدَنا اللهَ تعالى على نعمته وحُسن بلائه". (2) أخرجه مسلم (2718)، وابن خزيمة (2571)، وابن حبان (2701)، والحاكم (1/ 446) واللفظ له. =

(1/400)


الفصل الرابع والسبعون: في التسليم للقضاء والقدر، بعد بذل الجهد في تعاطي ما أُمِر به من الأسباب قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)} [آل عمران: 156]. فنهى سبحانه عباده أن يتشبَّهوا بالقائلين: لو كان كذا وكذا لما وقع قضاؤه بخلافه (1). وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وإيَّاك واللَّوَّ، فإن اللَّوَّ تفتح عمل الشيطان" (2). وقال أبو هريرة: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلي الله __________ = وزيادة "ثلاث مرات، يرفع بها صوته"، ليست في صحيح مسلم وابن حبان، وقد أشار ابن خزيمة إلى شذوذها، واعتذر عن إخراجها. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (2638). وأعلّ الحديثَ كلَّه ابنُ عمار الشهيد في "جزء فيه علل أحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج" (128 - 129). (1) انظر: "زاد المعاد" (2/ 356 - 358)، و"شفاء العليل" (1/ 96 - 97)، و"مجموع الفتاوى" (18/ 347 - 349). (2) أخرجه ابن ماجه (4168)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (621)، وأحمد (3/ 362 - 363) وغيرهم. وصححه ابن حبان (5721)، وأصله عند مسلم، وهو الحديث الآتي.

(1/401)


من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم (1) . وعن عوف بن مالك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى بين رجلين، فقال المَقْضِيُّ عليه لَمَّا أدبر: حسبنا الله ونعم الوكيل. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْسِ، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" (2) . فنهى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقول عند جريان القضاء ما يضرُّه ولا ينفعُه، وأَمَرَهُ أن يفعل من الأسباب ما لا غِنَى له عنه، فإن أعجزه القضاء قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فإذا قال: "حسبي الله" بعد تعاطي ما أُمِرَ به من الأسباب قالها وهو محمودٌ، فانتفع بالفعل والقول، وإذا عجز وترك الأسباب وقالها؛ قالها وهو مَلُومٌ بترك الأسباب التي اقتضتها حكمة الله عز وجل، فلم تنفعْهُ الكلمةُ نَفْعَها لِمَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به (3) . __________ (1) "صحيح مسلم" (2664). (2) أخرجه أبو داود (3627)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (626)، والطبراني في "الكبير" (18/ 75 - 76) وغيرهم بإسنادٍ حسن. وفي إسناده: "سيف الشامي" الراوي عن عوف بن مالك رضي الله عنه. قال النسائي عقب الحديث: "سيف لا أعرفه". وعرفه العجليّ فقال في "الثقات" (1/ 446): "شاميّ تابعيّ ثقة". وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 339)، وابن خلفون في "الثقات" -كما في "إكمال تهذيب الكمال" لمغلطاي (6/ 198) -. (3) انظر: "زاد المعاد" (2/ 362 - 363)، و"التحفة العراقية" (10/ 31 - مجموع =

(1/402)


الفصل الخامس والسبعون: في جوامع من أدعية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعوذاته لا غنى للمرء عنها قالت عائشة: "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ الجوامِع من الدعاء ويَدَعُ ما بين ذلك" (1). وفي "المسند" والنسائي وغيرهما: أن سعدًا سمع ابنًا له يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة وغرفها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وأغلالها وسلاسلها؛ فقال سعد رضي الله عنه: لقد سألتَ الله خيرًا كثيرًا، وتَّعَوَّذْتَ من شرٍّ كثير، وإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "سيكون قومٌ يَعْتَدُون في الدعاء". وَبِحَسْبِك أن تقول: اللَّهُمَّ إني أسألك من الخير كُلِّه ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كُلِّه ما علمتُ منه وما لم أعلم (2). __________ = الفتاوى)، و"مجموع الفتاوى" (8/ 177 - 178، 529)، و (10/ 506 - 507)، و (18/ 181 - 182). (1) أخرجه أبو داود (1482)، وأحمد (8/ 272)، والطيالسي (3/ 94) وغيرهم. وصححه ابن حبان (867)، والحاكم (1/ 538) ولم يتعقبه الذهبي. (2) أخرجه أحمد (1/ 469، 492)، وأبو داود (1480)، وأبو يعلى (2/ 71) وغيرهم. وأعلّه الإمام أحمد -كما في "تهذيب الكمال" (9/ 509) -. والمحفوظ رواية الحديث من مسند عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه. =

(1/403)


وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائي" عن ابن عباس قال: كان من دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ربِّ أَعِنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، ربِّ اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مُخْبِتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا، ربِّ تَقَبَّلْ توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثَبِّتْ حُجَّتي، واهْدِ قلبي، وسدِّد لساني، واسْلُلْ سخيمة صدري". هذا حديث صحيح (1) . وفي "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك قال: كنت أخدم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَع الدَّيْنِ، وغلبة الرجال" (2) . وفي "صحيح مسلم" عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، __________ = أخرجه أبو داود (96)، وابن ماجه (3864)، وأحمد (5/ 741) وغيرهم. وصححه ابن حبان (6763)، والحاكم (1/ 162) ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 153). وقال ابن كثير في "التفسير" (3/ 1440): "إسنادٌ حسن لا بأس به". (1) أخرجه أحمد (1/ 604 - 605)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (607)، وأبو داود (1510)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (947، 948)، والحاكم (1/ 519 - 520) ولم يتعقبه الذهبي. وحسنه ابن حجر في "الأمالى المطلقة" (206 - 207). (2) "صحيح البخاري" (2736, 5109، 6002)، و"مسلم" (2706)، واللفظ للبخاري.

(1/404)


والهَرَمِ وعذاب القبر، اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وَزَكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها" (1) . وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدعو في صلاته: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم" فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!، قال: "إن الرجل إذا غَرِمَ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف" (2) . وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتَحَوُّلِ عافيتك، ومن فُجاءة نقمتك، ومن جميع سخطك" (3) . وفي الترمذي عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن وافقتُ ليلة القدر ما أسأل؟ قال: "قولي: اللَّهُمَّ إنك عفوٌّ تُحِبُّ العفو فاعف عني". قال الترمذي: حديث صحيح (4) . __________ (1) "صحيح مسلم" (2722). (2) "صحيح البخاري" (798، 2267، 6007)، و"مسلم" (589). (3) "صحيح مسلم" (2739). (4) أخرجه الترمذي (3513)، وابن ماجه (3850)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (872)، وأحمد (8/ 322 - 323) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الحاكم (1/ 530) ولم يتعقبه الذهبي. =

(1/405)


وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار، وسلوا الله المعافاة، فإنه لم يُؤْتَ رجلٌ بعد اليقين خيرًا من المعافاة" (1) . وفي "صحيح الحاكم" عن ابن عمر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما سُئل الله عز وجل شيئًا أحب إليه من أن يُسْأل العافية" (2) . وذكر الفريابي في كتاب "الذكر" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أيُّ الدعاء أفضل؟ قال: "تسأل الله العفو والعافية، فإذا أُعطِيتَ ذلك فقد أفلحت" (3) . __________ = وفي إسناده اختلاف، والوجه المحفوظ فيه انقطاع. انظر: "علل الدارقطني" (5/ ق 133/ ب). (1) أخرجه أحمد (1/ 74، 75)، والبخاري في "الأدب المفرد" (724)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (880)، وابن ماجه (3849) وغيرهم. وصححه ابن حبان (952)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (1/ 156). وانظر: "مسند البزّار" (1/ 146 - 148)، و"المعجم المختص بالمحدثين" للذهبي (41 - 42). (2) أخرجه الترمذي (3515، 3548)، والحاكم (1/ 498). قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي (المليكي)، وهو ضعيف في الحديث. . .". وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: المليكي ضعيف". وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/ 295) في ترجمته. (3) أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (4/ 239) من طريق =

(1/406)


وفي "الدعوات" للبيهقي عن معاذ بن جبل قال: مَرَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجل يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الصبر. قال: "سألتَ الله البلاء، فَسَلِ العافية". ومَرَّ برجل يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك تمام النعمة؛ فقال: "وما تمام النعمة؟ " قال: سألتُ وأنا أرجو الخير، قال له: "تمامُ النعمةِ الفوزُ من النار، ودخول الجنة" (1) . __________ = الفريابي. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (636)، والترمذي (3512)، وابن ماجه (3848)، وأحمد (4/ 329 - 330) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، إنما نعرفه من حديث سلمة بن وردان". وفي "سلمة بن وردان" ضعف، وقد أورد حديثه هذا ابنُ عدي في ترجمته من "الكامل" (4/ 334). ولمعنى الحديث شواهد متعددة. (1) أخرجه الترمذي (3527)، والبخاري في "الأدب المفرد" (725)، وأحمد (7/ 350)، والبيهقي في "الدعوات" (1/ 183) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وفي إسناده: "أبو الورد"، وهو تابعيّ مقلّ. قال الدارقطني -كما في "سؤالات البرقاني" (581) -: "الجريريّ عن أبي الورد. شيخٌ له، ما حدث عنه غيره". وقال ابن سعد في "الطبقات" (7/ 226): "كان معروفًا، قليل الحديث". وقال عبد الله بن أحمد في "العلل" (1/ 440): "قلت لأبي: الجريريُّ عن أبي الورد. من هذا؟ قال: هذا أبو الورد بن ثمامة، حدّث عنه الجريريُّ أحاديث حِسان، ما =

(1/407)


وفي "صحيح مسلم" عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُ مَنْ أَسْلَمَ أن يقول: "اللَّهُمَّ اهدني، وارزقني، وعافني، وارحمني" (1) . وفي "المسند" عن بسر بن أرطأة (2) قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "اللَّهُمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأَجِرْنا من خِزْي الدنيا وعذاب الآخرة" (3) . __________ = أعرف له اسمًا غير هذا". كأنّ مراد الإمام أحمد بالأحاديث الحِسان: الغرائب؛ لتفرّد الجريريِّ بروايتها عن هذا الشيخ. وقال -أيضًا- في "المسند" (7/ 350)، و"العلل" (1/ 303، 2/ 25 - رواية عبد الله): "لو لم يرو الجريريّ إلا هذا الحديث كان! ". وانظر: "علل ابن أبي حاتم" (2/ 189). (1) "صحيح مسلم" (2697). ولفظ روايته: ". . . اللَّهُمَّ اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني". وفي روايةٍ أخرى زيادة "وعافني". (2) (ح): "رضي الله تعالى عنه"، وفي صحبة بسر بن أرطأة خلاف. انظر: "الاستيعاب" (1/ 157 - 166)، و"الإصابة" (1/ 289). (3) أخرجه أحمد (6/ 56)، والحاكم (3/ 591)، والطبراني في "الكبير" (2/ 33) وغيرهم. وصححه ابن حبان (949). وقال ابن عدي في "الكامل" (2/ 6): "لا أرى بإسناده بأسًا". وحسّنه ابن كثير في "التفسير" (1/ 370).

(1/408)


وفي "المسند" و"صحيح الحاكم" عن ربيعة بن عامر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أَلِظُّوا بياذا الجلال والإكرام" (1) . أي: الزموها وداوموا عليها. وفي "صحيح الحاكم" أيضًا عن أبي هريرة، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهم: "أتُحِبُّون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء؟ " قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "قولوا: اللَّهُمَّ أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (2) . وفي "الترمذي" وغيره: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصى معاذًا أن يقولها في دبر صلاة (3) . __________ (1) أخرجه أحمد (6/ 45)، والنسائي في "الكبرى" (7/ 147 - 148)، والطبراني في "الكبير" (5/ 64) وغيرهم. وصححه الحاكم (1/ 498 - 499) ولم يتعقبه الذهبي. وله شاهد من حديث أنسٍ رضي الله عنه، وفي إسناده اختلاف، والصواب أنه مرسل. انظر: "جامع الترمذي" (5/ 540)، و"علل ابن أبي حاتم" (2/ 170، 192). (2) أخرجه الحاكم (1/ 499)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 176) بإسنادٍ ضعيف. وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. ورُوِي من وجهٍ أحسن من هذا. أخرجه أحمد (3/ 184). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 172): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير موسى بن طارق، وهو ثقة". (3) تقدم تخريجه (ص: 165).

(1/409)


وفي "صحيحه" أيضًا: عن أنس قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حَلْقَة، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد تَشَهَّد ودعا، فقال في دعائه: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، بديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقد سألتَ باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى" (1) . وفي "المسند" و"صحيح الحاكم" أيضًا، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: "يا شداد، إذا رأيت الناس يَكْنِزُون الذهب والفضة، فَاكْنِزْ هؤلاء الكلمات: اللَّهُمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشْد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" (2) . وفي "الترمذي" أن حصين بن المنذر (3) الخزاعي رضي الله عنه قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كم تعبد إلهًا"؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدًا في السماء. قال: "فمن تَعُدُّ لرغبتك ورهبتك"؛ قال: الذي في السماء. __________ (1) تقدم تخريجه (ص: 225). (2) تقدم تخريجه (ص: 281). (3) كذا وردت تسمية الصحابيّ في الأصول التي بين يديّ، وهو وهمٌ من المصنّف رحمه الله تعالى، وقد ذكره كذلك في "مدارج السالكين" (1/ 242)، و"طريق الهجرتين" (432). والصواب أنه: حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، كما هو في كتب الصحابة، ومصادر التخريج.

(1/410)


قال: "أما لو أسلمت لَعَلَّمْتُك كلمتين تنفعانك". فلما أسلم قال: يا رسول الله، علِّمني الكلمتين. قال: قل: "اللَّهُمَّ ألهمني رشدي، وقِني شر نفسي". حديث صحيح (1) . وزاد الحاكم في "صحيحه": "اللَّهُمَّ قِني شر نفسي، واعزِمْ لي على أرشد أمري، اللَّهُمَّ اغفر لي ما أسررت وما أعلنت، وما أخطأت وما تعمّدت، وما علمت وما جهلت". وإسناده على شرط "الصحيحين" (2) . وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة قالت: دخل عليَّ أبو بكر رضي الله عنهما فقال: هل سمعتِ من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعاءً عَلَّمَنِيه؟ قلت: ما هو؟ قال: كان عيسى بن مريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمه أصحابه، قال: "لو كان على أحدكم جبلُ ذهبٍ دَيْنًا، فدعا الله بذلك لقضاه الله عنه: "اللَّهُمَّ فارج الهَمّ، كاشف الغَمّ، مُجِيبَ دعوة المضطرين، رحمنَ الدنيا والآخرة __________ (1) أخرجه الترمذي (3483)، وعثمان بن سعيد الدارمي في "نقضه على المريسي" (59)، والطبراني في "الكبير" (18/ 174) وغيرهم. قال الترمذي -كما في "تحفة الأشراف" (8/ 175)، و"تهذيب الكمال" (12/ 368) -: "حسن غريب". وفي إسناده ضعفٌ وانقطاع، وروي مرسلًا من وجهٍ أصحّ. ومال البخاريّ إلى ترجيح المرسل، وخالفه الترمذي. انظر: "العلل الكبير" للترمذي (364). وأصل حديث إسلام حصين محفوظٌ من غير هذا الوجه، كما سيأتي. (2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (993)، وأحمد (6/ 717 - 718)، والحاكم (1/ 510) وغيرهم. وصححه ابن حبان (899)، والحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. وصحح إسناده ابن حجر في "الإصابة" (2/ 86 - 87).

(1/411)


ورحيمَهما، أنت ترحمُني، فارحمْني رحمةً تُغْنِيني بها عن رحمة مَنْ سِوَاك" (1) . وفي "صحيحه" أيضًا عن أم سلمة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا ما سأل محمد ربه: "اللَّهُمَّ إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثَبِّتني، وثَقِّلْ موازيني، وحَقِّقْ إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين. اللَّهُمَّ إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة. آمين. اللَّهُمَّ إني أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدرجات العُلى من الجنة. آمين. __________ (1) أخرجه الحاكم (1/ 515 - 516)، والبزار (1/ 131، 185 - 186)، والمروزي في "مسند أبي بكر" (40)، والطبراني في "الدعاء" (2/ 1282 - 1283)، وأبو القاسم التيمي الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1281). قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، غير أنهما لم يحتجا بالحكم بن عبد الله الأيلي"؛ فتعقبه الذهبيُّ بقوله: "قلتُ: الحكم ليس بثقة". وأخرج ابنُ عديّ حديثه هذا في ترجمته من "الكامل" (2/ 203). وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلّا أبو بكر، ولا نعلم له طريقًا عن أبي بكر إلّا هذا الطريق، والحكم بن عبد الله ضعيف جدًّا، وإنما ذكرنا هذا الحديث إذْ لم نحفظه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلّا من هذا الوجه، وقد حدّث به -على ما فيه- أهل العلم، واحتملوه".

(1/412)


اللَّهُمَّ إني أسألك أن ترفع ذكري، وتَضَعَ وِزْري، وتُصْلِحَ أمري، وتُطَهِّرَ قلبي، وتُحَصِّنَ فرجي، وتُنَوِّرَ لي قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العُلَى من الجنة. آمين. اللَّهُمَّ إني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خَلْقي، وفي خُلُقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، وتقبل حسناتي، وأسألك الدرجات العُلى من الجنة. آمين" (1) . وفي "صحيحه" أيضًا من حديث معاذ قال: أبطأ عَنّا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصلاة الفجر حتى كادت أن تدركنا الشمس، ثم خرج فصلى بنا فخفَّفَ في صلاته، ثم انصرف فأقبل علينا بوجهه فقال: "على مكانِكم، أُخْبِركم ما أبطأني عنكم اليوم. إني صَلَّيْتُ في ليلتي هذه ما شاء الله، ثم ملكَتْني عيني فنِمْتُ، فرأيت ربي تبارك وتعالى، فألهمني أن قلت: اللَّهُمَّ إني أسألك الطيبات، وفعل __________ (1) أخرجه الحاكم (1/ 520)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 167 - 168)، والطبرانى في "الكبير" (23/ 316 - 317)، و"الأوسط" (6/ 213 - 214) بإسنادٍ حسن. وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 176): "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن زنبور وعاصم بن أبي عبيد، وهما ثقتان". وقد سقط من الأصول التي بين يديّ بضع كلمات من الحديث، استدركتها من "المستدرك".

(1/413)


الخيرات، وترك المنكرات، وحُبّ المساكين، وأن تتوب عليَّ، وتغفر لي وترحمني، وإذا أردت في خلقك فتنة فنجِّني إليك منها غير مفتون، اللَّهُمَّ وأسألك حُبَّكَ، وَحُبَّ من يُحِبُّكَ، وحُبَّ عملٍ يُقَرِّبُني إلى حُبِّك". ثم أقبل علينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "تعلَّموهن وادرسوهن، فإنّهن حق" (1) . ورواه الترمذي، والطبراني، وابن خزيمة، وغيرهم بألفاظ أُخَر (2) . __________ (1) أخرجه الحاكم (1/ 521)، والبزار (7/ 110 - 111)، والطبراني في "الكبير" (20/ 141 - 142)، وابن خزيمة في "التوحيد" (2/ 545) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. وأعلّه ابن خزيمة بالانقطاع، وضَعْفِ بعض رواته. (2) أخرجه الترمذي (3235)، وأحمد (7/ 376 - 377)، والطبراني في "الكبير" (20/ 109)، وابن خزيمة في "التوحيد" (2/ 540 - 542) وغيرهم. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح". وانظر: "علل الترمذي الكبير" (356 - 357). وصححه من هذا الوجه الإمام أحمد كما في "الكامل" لابن عدي (6/ 345). والحديث في إسناده اختلافٌ، واضطرابٌ كثير، وإن كان طريق الترمذيّ أمثل طرقه. وقد ذهب إلى ضعف الحديث واضطرابه جماعة من الأئمة، منهم: - ابن خزيمة في "التوحيد" (2/ 532 - 547)، وأطال في تتبّع طرقه وإعلالها. - والدارقطني في "العلل" (6/ 54 - 57)، وقال بعد أن تكلم على طرقه: "ليس فيها صحيح، كلها مضطربة". - والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 126)، وقال: "والرواية في هذا الباب فيها لينٌ واضطراب". =

(1/414)


وفي "صحيح الحاكم" أيضًا: عن ابن عباس قال: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو: "اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخْلُفْ على كل غائبة لي بخير" (1) . وفيه عن أنس بن مالك: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول: "اللَّهُمَّ انفعني __________ = - ومحمد بن نصر في "قيام الليل" (56 - مختصره)، وقال: "هذا حديث اضطربت الرواة في إسناده على ما بيّنا، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث". - والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 79)، وقال عن طرقه: "وكلها ضعيف". - وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 20)، وقال: "أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة". وانظر: "الإصابة" لابن حجر (4/ 320 - 324)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 20)، و"التمهيد" (24/ 321 - 325)، و"اختيار الأولى" لابن رجب (7). (1) أخرجه الحاكم (1/ 455 , 510)، و (2/ 356)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات" (1/ 158)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (91) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (2728)، والحاكم، ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه الضياء في "المختارة" (10/ 395 - 396). وروي موقوفًا على ابن عباس. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (681)، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (4/ 109)، والفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 178). قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 185): "قلت لأبي: أيّهما أصحّ؟ قال: ما يدرينا؟! مرة قال كذا، ومرّة قال كذا". والأشبه صحّته موقوفًا ومرفوعًا، كما ورد الجمع بينهما في بعض الطرق.

(1/415)


بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علمًا تنفعني به" (1) . وفيه -أيضًا- عن عائشة: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها أن تدعو بهذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إني أسألك من الخير كلِّه عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قَرَّب إليه من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قَرَّبَ إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدًا" (2) . __________ (1) أخرجه الحاكم (1/ 510)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 157 - 158)، والنسائي في "الكبرى" (7/ 205)، والطبراني في "الأوسط" (2/ 208)، و"الدعاء" (3/ 1455)، وتمّام في "الفوائد" (4/ 475 - الروض البسام) وغيرهم من طُرقٍ. وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. وهو كذلك باعتبار طرقه وشاهده الآتي. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي (3599)، وابن ماجه (251، 3883) وغيرهما بإسنادٍ ضعيف. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وفي "تحفة الأشراف" (10/ 319 - 320): "غريب من هذا الوجه". فحسب. (2) أخرجه ابن ماجه (3846)، وأحمد (8/ 240، 269)، والبخاري في "الأدب المفرد" (639) وغيرهم. وصححه ابن حبان (869)، والحاكم (1/ 521 - 522) ولم يتعقبه الذهبي. وأعلّه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 201) بعلّةٍ واهية.

(1/416)


وفيه عن أبي هريرة: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصى سلمان الخير فقال له: "إني أريد أن أمنحك كلمات تسألهن الرحمن، وترغب إليه فيهن، وتدعو بهن في الليل والنهار، قل: اللَّهُمَّ إني أسألك صحةً في إيمان، وإيمانًا في حُسْنِ خُلُقٍ، ونجاحًا يَتْبَعَهُ فلاح، ورحمةً منك وعافية، ومغفرة منك ورضوانًا" (1) . وفيه -أيضًا- عن أم سلمة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يدعو بهؤلاء الدعوات: "اللَّهُمَّ أنت الأول لا شيء قبلك، وأنت الآخر لا شيء بعدك، أعوذ بك من شر كل دابَّةٍ ناصيتُها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغِنى، ومن فتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم، اللَّهُمَّ نَقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهمَّ بَعِّدْ بيني وبين خطيئتي كما بَعَّدت بين المشرق والمغرب" (2) . وفي "مسند الإمام أحمد" و"صحيح الحاكم" أيضًا، عن عمار بن __________ (1) أخرجه أحمد (3/ 245 - 246)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (1/ 336)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (21, 569) وغيرهم بإسنادٍ ضعيف. وصححه الحاكم (1/ 523) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني" (270). (2) أخرجه الحاكم (1/ 520)، و (2/ 24)، والطبراني في "الكبير" (23/ 316، 352)، و"الأوسط" (6/ 213 - 214)، و"الدعاء" (3/ 1436, 1465)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 53 - 54) وغيرهم بإسنادٍ حسن.

(1/417)


ياسر رضي الله عنه، أنه صلى صلاة أوجز فيها، فقيل له في ذلك، فقال: لقد دعوت الله فيها بدعواتٍ سمعتهن من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أَحْيِني ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت (1) الوفاة خيرًا لي، اللَّهُمَّ وأسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرِّضى، وأسألك القَصْدَ في الفقر والغِنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، من غير ضراء مُضِرّة، ولا فتنة مُضِلّة، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين" (2) . وفي "صحيح الحاكم" -أيضًا- عن ابن مسعود قال: كان من دعاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إنا نسألك مُوجِباتِ رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بِرّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار" (3) . __________ (1) كذا في الأصول التي بين يديّ. وروايةُ "المسند"، و"المستدرك": "إذا كانت الوفاة"، وقد مرّ الحديث من رواية النسائي، وعنده: "إذا علمت الوفاة". (2) تقدم تخريجه (ص: 282). (3) أخرجه الحاكم (1/ 525، 534)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات" (1/ 154) بإسنادٍ ضعيف جدًّا. وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي -في الموضع الثاني- بقوله: "قلت: حميد متروك". وفي الإسناد انقطاع أيضًا. وروي من وجهٍ أصحّ من هذا موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه. =

(1/418)


وفيه -أيضًا- عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يدعو: "اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تُشْمِتْ بي عدوًّا حاسدًا، اللَّهُمَّ إني أسألك من كل خيرٍ خزائنُه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك" (1) . وعن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "ما من قلبٍ إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه". وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، والميزانُ بيد الرحمن عز وجل، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة". حديث صحيح رواه الإمام أحمد، والحاكم في "صحيحه" (2) . __________ = أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 303)، (10/ 332 - 333). وورد هذا الدعاء في أحاديث أخرى مرفوعةٍ، ولا أعلم يصحُّ منها شيء. (1) أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (4/ 651)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1474 - 1475)، والحاكم (1/ 525)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 165 - 166) بإسنادٍ ضعيف. ووقع في رواية الحاكم تحريفٌ بنى عليه الذّهبيّ تعقُّبه، وهو على الصواب في رواية الباقين. وله شاهد يُحسَّن به، من حديث عمر رضي الله عنه. أخرجه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 403 - 404)، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات" (1/ 165). وصححه ابن حبان (934)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (1/ 416). وأُعِلَّ بالانقطاع. (2) أخرجه أحمد (6/ 58)، وابن ماجه (199)، والنسائي في "الكبرى" =

(1/419)


وفي "صحيح الحاكم" أيضًا عن ابن عمر، أنه لم يكن يجلس مجلسًا -كان عنده أحدٌ أو لم يكن- إلا قال: "اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلم به مني، اللَّهُمَّ ارزقني من طاعتك ما تَحُولُ به بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تُبَلِّغني به رحمتك، وارزقني من اليقين ما تُهَوِّنُ به عليَّ مصائب الدنيا، وبارك لي في سمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، اللَّهُمَّ اجعل ثأري على من ظلمني، وانصرني علي من عاداني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي، اللَّهُمَّ لا تُسَلِّطْ عَلَيَّ من لا يرحمني". فسئل عنهن ابن عمر فقال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يختم بهن مجلسه (1). والحمد لله رب العالمين حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله، مِلْء سمواته، ومِلْء أرضه، ومِلْء ما بينهما، ومِلْء ما شاء من شيءٍ بعد، حمدًا لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى، عدد ما حَمِده الحامدون، وعدد ما غَفَل عن ذكره الغافلون، وصلى الله على خاتم أنبيائه ورسله (2)، وخِيرته من بَرِيَّته، __________ = (7/ 156)، وابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 188 - 189) ولم يُعِلَّه بشيء، وابن منده في "التوحيد" (1/ 272 - 273)، و (2/ 128 - 129)، و (3/ 110 - 111)، و"الردّ على الجهميّة" (68) وغيرهم. وصححه ابن حبان (943)، وابن منده، والحاكم (1/ 525)، و (2/ 289)، و (4/ 321) ولم يتعقبه الذهبي. (1) تقدم تخريجه (ص: 361). (2) (ح) و (م): "على سيدنا محمد".

(1/420)


وأمينِه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فاتحِ أبواب الهدى، ومخرج الناس من الظلماتِ إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الذي بعثه للإيمان مناديًا، وإلى الصراط المستقيم هاديًا، وإلى جنات النعيم داعيًا، وبكل معروف آمرًا، وعن كل منكر ناهيًا، فأحيا به القلوب بعد مماتها، وأنارها به بعد ظلماتها، وأَلَّف بينها بعد شَتَاتها، فدعا إلى الله عز وجل على بصيرةٍ من ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده، حتى عُبِد الله وحده لا شريك له، وسارت دعوته سَيْرَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينه الذي ارتضاه لعماده ما بلغ الليل والنهار، وصلى الله عز وجل وملائكته وجميع خلقه عليه؛ كما عَرَّفَ بالله تعالى ودعا إليه، وسلم تسليمًا.

(1/421)


 فهرس مراجع ومصادر التحقيق

- الآحاد والمثاني: لابن أبي عاصم، تحقيق: باسم الجوابرة، الطبعة الأولى (1411)، دار الراية: الرياض. - الآداب الشرعية: لابن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الابتهاج بأذكار المسافر والحاج: للسخاوي، تحقيق: علي رضا، الطبعة الأولى، دار المأمون للتراث: دمشق. - أبجد العلوم: لصديق حسن خان، تحقيق: عبد الجبار زكار، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - ابن القيم حياته وآثاره وموارده: لبكر بن عبد الله أبو زيد. النشرة الثانية (1423)، دار العاصمة: الرياض. - الإتحاف بحديث فضل الإنصاف: لابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق: محمود الحداد، الطبعة الأولى، دار العاصمة: الرياض. - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: للبوصيري، تحقيق: ياسر إبراهيم. الطبعة الأولى (1420)، دار الوطن: الرياض. - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: للمرتضى الزبيدي، دار الكتب العلمية: بيروت. - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق مجموعة من الباحثين بمركز خدمة السنة بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى (1415). - إثبات عذاب القبر: للبيهقي، تحقيق: شرف القضاة، دار الفرقان: الأردن: (1405). - اجتماع الجيوش الإسلامية: لابن قيم الجوزية، تحقيق: عواد عبد الله العتيق، الطبعة الثانية (1415) مكتبة الرشد: الرياض.

(1/499)


- الأحاديث الطوال: للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ملحق بالمعجم الكبير للطبراني. - الأحاديث المختارة: للضياء المقدسي، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، الطبعة الأولى (1410)، مكتبة النهضة الحديثة: مكة المكرمة. - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لابن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى (1408)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الإحكام في أصول الأحكام: لأبي محمد بن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، تصوير: دار الآفاق الجديدة: بيروت. - الأحكام الوسطى: لعبد الحق الإشبيلي، تحقيق: حمدي السلفي وصبحي السامرائي، الطبعة الأولى (1416)، مكتبة الرشد: الرياض. - إحياء علوم الدين: للغزالي، دار المعرفة: بيروت. - أحكام القرآن: لأبي بكر بن العربي، تحقيق: علي البجاوي، الطبعة الثالثة (1392)، تصوير: دار الجيل: بيروت. * أخبار أصبهان = ذكر أخبار أصبهان. - أخبار مكة: للفاكهي، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، الطبعة الأولى (1407) مكتبة النهضة الحديثة: مكة المكرمة. - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى: لابن رجب، تحقيق: جاسم الفهيد الدوسري، دار الأقصى: الكويت. - أخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الطبعة الثانية (1413)، الدار المصرية اللبنانية: القاهرة. - أدب الإملاء والاستملاء: للسمعاني، تحقيق: أحمد محمد عبد الرحمن، الطبعة الأولى، مطبعة المحمودية: جدة. - الأدب المفرد: للبخاري، تخريج وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثالثة،

(1/500)


تصوير: دار البشائر الإسلامية. - الأذكار: للنووي، تحقيق: سليم الهلالي، مكتبة الغرباء: المدينة النبوية. - إرشاد الفقيه لمعرفة أدلة التنبيه: لابن كثير، تحقيق: بهجة يوسف الطيب، الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني، الطبعة الثانية (1405)، المكتب الإسلامي: بيروت. - الأسامي والكُنى: لأبي أحمد الحاكم الكبير، تحقيق: يوسف الدخيل، الطبعة الأولى (1414)، مكتبة الغرباء: المدينة النبوية. - الاستغنا في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى: لابن عبد البر، تحقيق: عبد الله مرحول السوالمة، الطبعة الأولى (1405)، دار ابن تيمية: الرياض. - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى (1412)، تصوير دار الجيل: بيروت. - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لابن الأثير الجزري، تحقيق: محمد إبراهيم البنا ومحمد أحمد عاشور، الطبعة الأولى، دار الشعب: القاهرة. - الأسماء والصفات: لأبي بكر البيهقي، تحقيق: عبد الله الحاشدي، الطبعة الأولى (1413)، مكتبة السوادي: جدة. - الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى (1412)، تصوير دار الجيل: بيروت. - أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني: لمحمد بن طاهر المقدسي، تحقيق: محمود محمد نصار والسيد يوسف، الطبعة الأولى (1419)، دار الكتب العلمية: بيروت. - الإعلام بسنته عليه السلام (شرح سنن ابن ماجه) لمغلطاي بن قليج، تحقيق (!): كامل عويضة، الطبعة الأولى (1419). مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة. - الاعتصام: للشاطبي، تحقيق: مشهور حسن سلمان، الطبعة الأولى (1421) مكتبة

(1/501)


التوحيد: المنامة - البحرين. - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: للخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد آل سعود، الطبعة الأولى (1409)، جامعة أم القرى: مكة المكرمة. - إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن قيم الجوزية، راجعه وقدم له وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية: القاهرة (1388). - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: لابن قيم الجوزية، تحقيق: حسان عبد المنان وعصام الحرستاني، الطبعة الأولى (1414)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني، تحقيق: لجنة من الأدباء بإشراف عبد الستار فراج، الطبعة الثامنة (1410)، دار الثقافة: بيروت. - الاقتراح في بيان الإصطلاح: لابن دقيق العيد، تحقيق: عامر حسن صبري، الطبعة الأولى (1417)، دار البشائر الإسلامية: بيروت. * أقسام القرآن = التبيان في أقسام القرآن. - إكمال تهذيب الكمال: لمغلطاي بن قليج، تحقيق: عادل محمد وأسامة إبراهيم، الطبعة الأولى (1421)، دار الفاروق: القاهرة. - الأمالي: لابن بشران، تحقيق: عادل العزازي وأحمد سليمان، الطبعة الأولى (1418 - 1420)، دار الوطن: الرياض. - الأمالي الحلبية: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عواد الخلف، الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة الريان: بيروت. - الأمالي المطلقة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي: بيروت. - الإمام في معرفة أحاديث الأحكام: لابن دقيق العيد، تحقيق: د. سعد آل حميد، الطبعة الأولى (1420)، دار المحقق: الرياض. - الأمثال: لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: د. عبد العلي حامد، الطبعة الثانية (1408)،

(1/502)


الدار السلفية: الهند. - الأم: للشافعي، تحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب، الطبعة الأولى (1422)، دار الوفاء: المنصورة. - الأنواء: لابن قتيبة، الطبعة الأولى (1375)، دار المعارف العثمانية: حيدر أباد الدكن - الهند. - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: لابن المنذر، تحقيق: صغير أحمد حنيف، الطبعة الثانية (1414)، دار طيبة: الرياض. - بدائع الفوائد: لابن قيم الجوزية، تحقيق: هشام عطا وعادل عبد الحميد وأشرف أحمد، الطبعة الأولى (1416)، مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة. - البدر الطالع بمحاسن مَنْ بعد القرن السابع: للشوكاني، المطبعة السلفية، تصوير: دار الكتاب الإسلامي: القاهرة. - ومسودة المؤلف: تحقيق: د. حسين العمري، الطبعة الأولى (1419)، دار الفكر المعاصر: دمشق. - البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير: لابن الملقن، تحقيق: جمال السيد وأحمد شريف الدين، الطبعة الأولى (1414)، دار العاصمة: الرياض. - بذل الماعون في فضل الطاعون: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، الطبعة الأولى (1411)، دار العاصمة: الرياض. - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث: للهيثمي، تحقيق: د. حسين الباكري، الطبعة الأولى (1413)، الجامعة الإسلامية: المدينة النبوية. وهذه الطبعة هي المعتمدة عند الإطلاق. وبتحقيق: مسعد السعدني، دار الطلائع: القاهرة. - بغية المرتاد: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. موسى الدويش، الطبعة الأولى (1408)، مكتبة العلوم والحكم: المدينة النبوية.

(1/503)


- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: لمحمود شكري الآلوسي، تحقيق: محمد بهجة الأثري. تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. - بهجة المجالس وأنس المجالس: لابن عبد البر، تحقيق: محمد مرسى الخولى، الطبعة الأولى، تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. - بيان صحة الفتاوى التي صدرت من الشيخ ابن الصلاح: لعلها لكمال الدين إسحاق بن أحمد المعرّي، ضمن: فتاوى ومسائل ابن الصلاح. تحقيق: عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى (1406)، دار المعرفة: بيروت. - البيان والتحصيل: لابن رشد (الجد)، تحقيق: عبد الفتاح الحلو وجماعة، الطبعة الأولى (1411)، دار الغرب الإسلامي: بيروت. - بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام: لابن القطان الفاسي، تحقيق: د. الحسين آيت سعيد، الطبعة الأولى (1418)، دار طيبة: الرياض. - تاريخ أبي زرعة الدمشقي: عبد الرحمن بن عمرو النصري. تحقيق: شكر الله نعمة الله القوجاني، مجمع اللغة العربية: دمشق. - تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية (1387)، دار المعارف: القاهرة. - تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي، الطبعة الأولى، تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. - تاريخ جرجان: لحمزة بن يوسف السهمي، تحقيق: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، تصوير: عالم الكتب: بيروت. - تاريخ دمشق: لابن عساكر، تحقيق: عمرو غرامة العمروي، الطبعة الأولى (1415)، دار الفكر: بيروت. * تاريخ الطبري = تاريخ الأمم والملوك. - التاريخ الكبير: للبخاري، تحقيق: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، الطبعة الأولى، دائرة المعارف العثمانية: حيدر آباد - الهند، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت.

(1/504)


- التاريخ المجدد لمدينة السلام: لابن النجار، تصحيح: قيصر فرح، الطبعة الأولي، دائرة المعارف العثمانية: حيدر آباد - الهند. - تاريخ واسط: لأسلم بن سهل "بحشل"، تحقيق: كوركيس عواد، الطبعة الأولي (1406)، تصوير: عالم الكتب: بيروت. - التاريخ: ليحيي بن معين (رواية الدوري)، تحقيق: أحمد نور سيف، الطبعة الأولي (1399)، جامعة الملك عبد العزيز - كلية الشريعة: مكة المكرمة. - تالي تلخيص المتشابه: للخطيب البغدادي، تحقيق: مشهور حسن سلمان وأحمد الشقيرات، الطبعة الأولي (1417)، دار الصميعي: الرياض. - التبصرة في القراءات السبع: لمكي بن أبي طالب، تحقيق: د. محمد غوث الندوي، الطبعة الثانية (1402)، الدار السلفية: الهند. - التبيان في أقسام القرآن: لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد زهري النجار، ملتزم المطبع والنشر: المؤسسة السعيدية بالرياض. - تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة: لمحمد عمرو عبد اللطيف، الطبعة الأولي (1409، 1410)، مكتبة التوعية الإسلامية: القاهرة. - التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث: لبكر بن عبد الله أبو زيد. الطبعة الأولي (1412). دار الهجرة: الثقبة. - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأبي العلا المباركفوري. الطبعة الأولي (1410). دار الكتب العلمية: بيروت. - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: لأبي الحجاج المزي. تحقيق: عبد الصمد شرف الدين. الطبعة الثانية (1414). تصوير: دار الكتاب الإسلامي: القاهرة. - تحفة المودود بأحكام المولود: لابن قيم الجوزية. بعناية: بسام الجابي. الطبعة الثانية (1419). دار البشائر الإسلامية: بيروت. - التحقيق: لأبي الفرج بن الجوزي. تحقيق: مسعد السعدني ومحمد فارس، الطبعة

(1/505)


الأولي (1415). دار الكتب العلمية: بيروت. - تخريج أحاديث الكشاف: لجمال الدين الزيلعي. اعتني به: سلطان الطبيشي، الطبعة الأولي (1414). دار ابن خزيمة: الرياض. - التدوين في أخبار قزوين: للرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني، تحقيق: عزيز الله العطاردي. الطبعة الأولي، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - تذكرة الحفاظ: للذهبي، تحقيق: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية: الهند. تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - الترغيب في الدعاء والحث عليه: لعبد الغني المقدسي. تحقيق: فالح الصغير، الطبعة الأولي (1417)، دار العاصمة: الرياض. - الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك: لأبي حفص بن شاهين. تحقيق: صالح الوعيل، الطبعة الأولي (1415)، دار ابن الجوزي: الدمام. - الترغيب والترهيب: لأبي القاسم التيمي الأصبهاني، تحقيق: أيمن صالح شعبان، الطبعة الأولي (1414)، دار الحديث: القاهرة. - الترغيب والترهيب: لعبد العظيم المنذري، تحقيق: محي الدين مستو وسمير العطار ويوسف بديوي، الطبعة الأولي (1414)، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ومؤسسة علوم القرآن. - تصحيفات المحدثين: لأبي أحمد العسكري. تحقيق: محمود ميرة، الطبعة الأولي (1402)، المطبعة العربية الحديثة: القاهرة. - تعظيم قدر الصلاة: لمحمد بن نصر المروزي. تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، الطبعة الأولي (1406)، مكتبة الدار: المدينة النبوية. - تغليق التعليق: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: سعيد القزقي، الطبعة الأولي (1405). المكتب الإسلامي: بيروت. دار عمار: الأردن. * تفسير البغوي = معالم التنزيل.

(1/506)


* تفسير الثعلبي = الكشف والبيان. * تفسير الطبري = جامع البيان. - تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني: تحقيق: د. مصطفي مسلم محمد، الطبعة الأولي (1410)، مكتبة الرشد: الرياض. - تفسير القرآن العظيم: لأبي الفداء بن كثير. تحقيق: محمد إبراهيم البنا، الطبعة الأولي (1419)، دار القبلة، ومؤسسة علوم القرآن، ودار ابن حزم: بيروت. * تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن. * تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم. - تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد، الطبعة الأولي (1416)، دار العاصمة: الرياض. - تقييد المهمل وتمييز المشكل: لأبي علي الغساني الجياني، اعتني به: علي العمران ومحمد عزير شمس، الطبعة الأولي (1421)، دار عالم الفوائد: مكة المكرمة. - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية: القاهرة. - تلخيص كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية: لابن كثير، تحقيق: محمد بن علي عجال، الطبعة الأولي (1417)، مكتبة الغرباء الأثرية: المدينة النبوية، ويقع الكتاب في المجلد الأول، من الصفحة الأولي إلي الصفحة 310. - تلخيص المستدرك: للذهبي، بحاشية المستدرك، طبع دائرة المعارف العثمانية: الهند، تصوير: دار الكتاب العربي: بيروت. - تمام المنة في التعليق علي فقه السنة: لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة (1409)، دار الراية: الرياض. - التمثيل والمحاضرة: للثعالبي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، الطبعة الثانية، الدار العربية للكتاب.

(1/507)


- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لابن عبد البر، تحقيق جماعة من الباحثين بوزارة الأوقاف بالمغرب. - تنقيح التحقيق: لابن عبد الهادي، تحقيق: عامر حسن صبري، الطبعة الأولى (1409)، المكتبة الحديثة: الإمارات. وبتحقيق: أيمن صالح شعبان، الطبعة الأولى (1419)، دار الكتب العلمية: بيروت. - التنقيح في شرح الوسيط: لمحي الدين النووي، بحاشية الوسيط، الطبعة الأولى (1417)، دار السلام: القاهرة. - تهذيب الأسماء واللغات: لمحي الدين النووي، إدارة الطباعة المنيرية. تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: مصطفي عبد القادر عطا، الطبعة الأولى (1415)، دار الكتب العلمية: بيروت. - تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته: لابن قيم الجوزية، بحاشية عون المعبود، الطبعة الأولى (1410)، دار الكتب العلمية: بيروت. - تهذيب الكمال: لأبي الحجاج المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، الطبعة السادسة (1415)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - تهذيب اللغة: لأبي منصور الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، وجماعة، الدار المصرية للتأليف والترجمة: القاهرة. - التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل: لأبي بكر ابن خزيمة. تحقيق: د. عبدالعزيز الشهوان، الطبعة السادسة (1418)، مكتبة الرشد: الرياض. - التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته علي الاتفاق والتفرد: لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، تحقيق: د. علي محمد الفقيهي، الطبعة الثانية (1414)، مكتبة الغرباء الأثرية: المدينة النبوية. - التوكل علي الله: لابن أبي الدنيا، تحقيق: جاسم الفهيد الدوسري، الطبعة الأولى

(1/508)


(1407)، دار البشائر الإسلامية: بيروت. - الثقات: لابن حبان، الطبعة الأولى (1393)، دائرة المعارف العثمانية: حيدر آباد - الهند، تصوير: مؤسسة الكتب الثقافية. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: للثعالبي، تحقيق: إبراهيم صالح، الطبعة الأولى (1414)، دار البشائر: دمشق. - جامع الأصول في أحاديث الرسول: لابن الأثير، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، الطبعة الأولى (1389)، مكتبة الحلواني، ومطبعة الملاح: دمشق. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لابن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، الطبعة الثانية، دار المعارف: القاهرة، (إلي سورة إبراهيم)، توزيع: دار التربية والتراث: مكة المكرمة، وأكملوا الباقي من طبعة البابي الحلبي. - الجامع: للترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة، تصوير: دار الحديث: القاهرة. - الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور: لضياء الدين بن الأثير، تحقيق: مصطفي جواد وجميل سعيد، بغداد (1375). - جامع الرسائل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم. الطبعة الأولى تصوير: دار العطاء: الرياض. - جامع العلوم والحكم: لابن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، الطبعة الأولى (1411)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، دار الكتب العلمية: بيروت، (1413). - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، الطبعة الأولى (1412)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - جامع المسائل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عزير شمس، الطبعة الأولى (1422)، دار عالم الفوائد: مكة المكرمة.

(1/509)


- الجامع: لمعمر بن راشد، ملحق بمصنف عبد الرزاق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية (1403)، المكتب الإسلامي: بيروت. - جامع المسانيد: لابن كثير، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، (1415)، دار الفكر: بيروت. - الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم، تحقيق: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية: حيدر آباد - الهند، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - جزء فيه ذكر أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني وبعض مناقبه . . .: لأبي زكريا بن منده. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ملحق بالمعجم الكبير للطبراني. - جزء فيه علل أحاديث من كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج: لابن عمار الشهيد، تحقيق: علي حسن عبد الحميد، الطبعة الأولى (1412). دار الهجرة: الثقبة. - الجعديات: لأبي القاسم البغوي، تحقيق: د. رفعت فوزي عبد المطلب، الطبعة الأولى (1415)، مكتبة الخانجي: القاهرة. - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام علي خير الأنام: لابن قيم الجوزية، تحقيق: مشهور حسن سلمان، الطبعة الأولى (1417)، دار ابن الجوزي: الدمام. - جمهرة أنساب العرب: لأبي محمد بن حزم. تحقيق: عبد السلام هارون، الطبعة السادسة، دار المعارف: القاهرة. - جمهرة النسب: لابن الكلبي، تحقيق: د. ناجي حسن الطبعة الأولى (1407). عالم الكتب - مكتبة النهضة العربية: بيروت. - الجهاد: لابن أبي عاصم، تحقيق: د. مساعد الراشد الحميد، الطبعة الأولى (1409)، مكتبة العلوم والحكم: المدينة النبوية. - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لشيخ الإسلام ابن تيمية، الطبعة الأولى (1414)، دار العاصمة: الرياض. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد يونس

(1/510)


شعيب وعصام الحرستاني، الطبعة الأولى (1411). المكتب الإسلامي - دار عمار. - الجواهر المضية في طبقات الحنفية: لعبد القادر القرشي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، الطبعة الثانية (1413)، هجر - مؤسسة الرسالة: بيروت. - الجوهر النقي: لابن التركماني، بحاشية السنن الكبري للبيهقي. - حادي الأرواح إلي بلاد الأفراح: لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية: بيروت. - الحجة علي أهل المدينة: لمحمد بن الحسن الشيباني، رتب أصوله وعلق عليه: مهدي الكيلاني القادري، الطبعة الثالثة (1403)، تصوير: عالم الكتب: بيروت. * حديث علي بن الجعد = الجعديات. - حكم العمل بالحديث الضعيف: للمعلِّمي، قطعة من المسوَّدة، مخطوطة بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي الشريف. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني، تصوير: دار الكتب العلمية. - حياة الحيوان: للدميري، دار إحياء التراث العربي: بيروت. - خلق أفعال العباد: للبخاري، تحقيق: بدر البدر، الطبعة الأولى (1405)، الدار السلفية: الكويت. - خلاصة البدر المنير: لابن الملقن، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1410)، مكتبة الرشد: الرياض. - درء تعارض العقل والنقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، تصوير: دار الكنوز الأدبية. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: لجلال الدين السيوطي، الطبعة الأولى (1403)، دار الفكر: بيروت. - الدعاء: لمحمد بن فضيل الضبي، تحقيق: عبد العزيز سليمان، الطبعة الأولى. مكتبة الرشد: الرياض.

(1/511)


- الدعاء: لأبي القاسم الطبراني، تحقيق: د. محمد سعيد بخاري، الطبعة الأولى (1407)، دار البشائر الإسلامية: بيروت. - الدعاء: للمحاملي، الحسين بن إسماعيل، تحقيق: عمرو عبد المنعم سليم، الطبعة الأولى (1414)، مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية: لجيلان العروسي، الطبعة الأولى (1417)، مكتبة الرشد: الرياض. - الدعوات الكبير: لأبي بكر البيهقي، تحقيق: بدر البدر، الطبعة الأولى (1409 - 1414). مركز المخطوطات والتراث: الكويت. - دلائل النبوة: لأبي بكر البيهقي، تحقيق: عبدالمعطي قلعجي، الطبعة الأولى (1405). دار الكتب العلمية: بيروت. - ديوان النابغة الذبياني: تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثالثة، دار المعارف: القاهرة. - ذكر أخبار أصبهان: لأبي نعيم الأصبهاني، تصوير: الدار العلمية: دلهي - الهند. - ذم الكلام وأهله: لأبي إسماعيل الهروي الأنصاري، تحقيق: عبد الله محمد الأنصاري، الطبعة الأولى (1419)، مكتبة الغرباء: المدينة النبوية. - ذيل الروضتين في أخبار الدولتين: لأبي شامة المقدسي، القاهرة (1366). - ذيل طبقات الحنابلة: لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - الرحلة في طلب الحديث: للخطيب البغدادي، تحقيق: نور الدين عتر، الطبعة الأولى (1395)، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - الرد علي الجهمية: للدارمي، تحقيق: بدر البدر، الطبعة الثانية (1416)، دار ابن الأثير: الكويت. - الرد علي الجهمية: لابن منده. تحقيق: علي محمد فقيهي، الطبعة الثالثة (1414)،

(1/512)


مكتبة الغرباء: المدينة النبوية. - الرد علي شبهات المستغيثين بغير الله: لأحمد بن عيسي النجدي، بعناية: عبد السلام برجس، (1409). - الرد الوافر علي من زعم بأن من سمي ابن تيمية شيخ الإسلام كافر: لابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الثالثة (1411)، المكتب الإسلامي: بيروت. - الرسالة: للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، تصوير: المكتبة العلمية: بيروت. - الرسالة التبوكية: لابن قيم الجوزية، تحقيق: أشرف عبد المقصود، الطبعة الأولى (1411)، دار الرضوان. - الروح: لابن قيم الجوزية: تحقيق: بسام العموش، الطبعة الأولى (1410)، مكتبة المنار: الأردن - عمان. - روح المعاني: لشهاب الدين محمود الآلوسي، الطبعة الأولى (1415)، دار الكتب العلمية: بيروت. - الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام: لجاسم الفهيد الدوسري، الطبعة الأولى (1408 - 1414)، دار البشائر الإسلامية: بيروت. - روضة الطالبين: للنووي، الطبعة الثانية (1405)، المكتب الإسلامي: بيروت. - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: لابن حبان البستي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، (1397)، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - روضة المحبين ونزهة المشتاقين: لابن قيم الجوزية، تحقيق: محي الدين مستو، الطبعة الأولى (1418)، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب: دمشق - بيروت. - زاد المعاد في هدي خير العباد: لابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، الطبعة الخامسة والعشرون (1412)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الزاهر في معاني كلمات الناس: لابن الأنباري، تحقيق: حاتم الضامن، الطبعة الأولى (1412)، مؤسسة الرسالة.

(1/513)


- الزهد: لأحمد بن حنبل، تحقيق: محمد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى (1406)، دار الكتاب العربي: بيروت. - الزهد: لأبي داود السجستاني، تحقيق: ياسر إبراهيم وغنيم عباس، الطبعة الأولى (1414)، دار المشكاة: القاهرة. - الزهد: لعبد الله بن المبارك، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - الزهد: لهناد بن السري، تحقيق: محمد أبو الليث الخير آبادي، مطابع الدوحة الحديثة: قطر. - الزهد: لوكيع بن الجراح، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الصميعي: الرياض. - الزهد الكبير: للبيهقي، الطبعة الأولى (1408)، مؤسسة الكتب الثقافية: بيروت. - الزهرة: لمحمد بن داود، الأردن: عمان. - السبعة في القراءات: لأبي بكر بن مجاهد، تحقيق: شوقي ضيف، الطبعة الثانية (1400)، دار المعارف: القاهرة. - سبل السلام: لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، دار الكتب العلمية: بيروت. - السنن: لأبي داود السجستاني، تحقيق: محمد عوامه، الطبعة الأولى (1419)، دار القبلة، ومؤسسة الريان، والمكتبة المكية. - السنن: للدارقطني، الطبعة الثالثة (1413)، تصوير: عالم الكتب: بيروت. - السنن: لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى: (1403)، الدار السلفية: الهند. - السنن: للدارمي، تحقيق: مصطفي ديب البغا، الطبعة الثانية (1417)، دار القلم: دمشق. - السنن: لابن ماجه، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت.

(1/514)


- السنن الكبري: للبيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى (1414)، دار الكتب العلمية: بيروت. - السنن الكبري: للنسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، الطبعة الأولى (1422)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - السنة: لابن أبي عاصم، تحقيق: باسم الجوابرة، الطبعة الأولى (1419)، دار الصميعي: الرياض. - سلسلة الأحاديث الصحيحة: لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف: الرياض. - سلسلة الأحاديث الضعيفة: لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف: الرياض. - سؤالات البرقاني للدارقطني: تحقيق: مجدي السيد، الطبعة الأولى، مكتبة القرآن: القاهرة. - سير أعلام النبلاء: للذهبي، تحقيق جماعة من المحققين، الطبعة السابعة (1410)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - شأن الدعاء: للخطابي، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، الطبعة الأولى، دار المأمون: دمشق. - شرح اختيارات المفضل: للخطيب التبريزي، تحقيق: فخر الدين قباوة، الطبعة الثانية (1402)، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - شرح أشعار الهذليين: صنعة أبي سعيد السكري، تحقيق: عبد الستار فراج، ومراجعة: محمود شاكر، مكتبة دار العروبة: القاهرة. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الطبعة الثالثة (1415)، دار طيبة: الرياض. - شرح السنة: للحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، الطبعة الثانية (1402)، المكتب الإسلامي: بيروت. * شرح الشفا = نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض.

(1/515)


- شرح علل ابن حاتم: لابن عبد الهادي، تحقيق: مصطفي أبو الغيط وإبراهيم فهمي، الطبعة الأولى (1422)، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر: القاهرة. - شرح علل الترمذي: لابن رجب الحنبلي، تحقيق: نور الدين عتر، الطبعة الأولى (1398)، دار الملاح: دمشق. - شرح العمدة: لشيخ الإسلام ابن تيمية: * كتاب "الطهارة": بتحقيق: د. سعود العطيشان، الطبعة الأولى (1413)، مكتبة العبيكان: الرياض. * كتاب "الصلاة": بتحقيق: خالد المشيقح، الطبعة الأولى (1418)، دار العاصمة: الرياض. * كتاب "الصيام": بتحقيق: زائد النشيري، الطبعة الأولى (1417)، دار الأنصاري: مكة المكرمة. * كتاب "الحج": بتحقيق: د. صالح الحسن، الطبعة الأولى (1413)، مكتبة العبيكان: الرياض. - شرح كتاب الكسب لمحمد بن الحسن: للسرخسي، اعتني به: عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الأولى (1417)، مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب. * شرح مسلم = المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. - شرح المسند: لأحمد محمد شاكر، دار المعارف: القاهرة، (1392). - شرح مشكل الوسيط: لأبي عمرو بن الصلاح، بحاشية الوسيط، الطبعة الأولى (1417). دار السلام: القاهرة. - شرح معاني الآثار: للطحاوي. تحقيق: محمد زهري النجار وسيد جاد الحق، راجعه: يوسف المرعشلي، الطبعة الأولى (1414)، عالم الكتب: بيروت. - شرف أصحاب الحديث: للخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد سعيد أوغلي، كلية الإلهيات: جامعة أنقرة، نشرته: دار إحياء السنة النبوية.

(1/516)


- شعب الإيمان: للبيهقي، تحقيق: عبد العلي الحامد، الطبعة الأولى (1406 - 1416)، الدار السلفية: الهند. - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: لابن قيم الجوزية، تحقيق: عمر الحفيان، الطبعة الأولى (1420)، مكتبة العبيكان: الرياض. - الشكر: لابن أبي الدنيا، تحقيق: بدر البدر، الطبعة الثالثة (1400)، الكويت. - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة علي ابن تيمية: لمرعي الكرمي، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، الطبعة الأولى (1404)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - الصارم المسلول علي شاتم الرسول: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد الحلواني ومحمد كبير شودري، الطبعة الأولى (1417)، رمادي للنشر: الدمام. - صبح الأعشي في صناعة الإنشا: لأحمد بن علي القلقشندي، تحقيق: د. يوسف طويل، الطبعة الأولى (1987 م)، دار الفكر: دمشق. - الصحاح: للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية (1399)، دار العلم للملايين: بيروت. - صحيح البخاري: الطبعة الأولى (1417)، دار السلام: الرياض. * صحيح ابن حبان = الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. - صحيح ابن خزيمة: تحقيق: د. محمد مصطفي الأعظمي، الطبعة الثانية (1412)، المكتب الإسلامي: بيروت. - صحيح مسلم: ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية: القاهرة. - صفة الجنة: لابن أبي الدنيا، تحقيق: عمرو عبد المنعم سليم، الطبعة الأولى (1417) مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - صفة الجنة: لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: علي رضا، الطبعة الثانية (1415)، دار المأمون: دمشق.

(1/517)


- صفة الصفوة: لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي، الطبعة الثانية (1399)، دار المعرفة: بيروت. - الصمت وآداب اللسان: لابن أبي الدنيا، تحقيق: أبو إسحاق الحويني، الطبعة الأولى (1410)، دار الكتاب العربي: بيروت. - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: لابن قيم الجوزية، تحقيق: د. علي الدخيل الله، الطبعة الثالثة (1418)، دار العاصمة: الرياض. - الصلاة وحكم تاركها: لابن قيم الجوزية، بعناية: بسام الجابي، الطبعة الأولى (1416)، دار ابن حزم: بيروت. - الضعفاء: للعقيلي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى (1404)، دار الكتب العلمية: بيروت. - ضعيف الترغيب والترهيب للمنذري: لمحمد ناصر الدين الألبانى، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف: الرياض. - طبقات الصوفية: لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: نور الدين شريبة، الطبعة الثالثة (1406)، مكتبة الخانجي: القاهرة. - طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين السبكي، تحقيق: محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، الطبعة الثانية (1413)، هجر: القاهرة. - الطبقات الكبري: لابن سعد، تقديم: إحسان عباس، دار صادر: بيروت. - طبقات المحدثين بأصبهان: لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: عبد الغفور البلوشي، الطبعة الثانية (1412)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - طبقات المفسرين: للداوودي، دار الكتب العلمية: بيروت. - طرح التثريب في شرح التقريب: للحافظ العراقي وولده أبي زرعة، جمعية النشر والتأليف الأزهرية، تصوير: مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة. - طريق الهجرتين وباب السعادتين: لابن قيم الجوزية، تحقيق: عمر محمود أبو عمر،

(1/518)


الطبعة الثانية (1414)، مكتبة ابن القيم: الدمام. - عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأبي بكر بن العربي، الطبعة الأولى (1351)، مطبعة الصاوي: القاهرة. - عجالة الإملاء المتيسرة من التذنيب على ما وقع للحافظ المنذري من الوهم وغيره في الترغيب والترهيب: لبرهان الدين الناجي، تحقيق: حسين عكاشة، الطبعة الأولى (1419)، مكتبة الصحابة: الشارقة - الإمارات. - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: لابن قيم الجوزية، تحقيق: سليم الهلالي، الطبعة الأولى (1420)، دار ابن الجوزي: الدمام. - العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب: لناصيف اليازجي، دار صادر: بيروت. - العظمة: لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضاء الله المباركفوري، الطبعة الثانية (1419)، دار العاصمة: الرياض. - العقود الدرية من مناقب شيخ الإِسلام ابن تيمية: لابن عبد الهادي، تحقيق: محمد حامد الفقي، تصوير: دار الكاتب العربي: بيروت. - العلل ومعرفة الرجال: لأحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله، تحقيق: وصيّ الله عباس، الطبعة الأولى (1408)، المكتب الإِسلامي: بيروت. - العلل الكبير: للترمذي، ترتيب أبي طالب القاضي، تحقيق: صبحي السامرائي وزميليه، الطبعة الأولى (1409)، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية. - العلل: لابن أبي حاتم، تحقيق: محب الدين الخطيب، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - العلل: للدارقطني، تحقيق: محفوظ الرحمن السلفي، دار طيبة: الرياض، ونسخة خطية مصورة من نسخة دار الكتب المصرية: القاهرة. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: لابن الجوزي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، إدارة ترجمان السنة: لاهور - باكستان. - العلم الهيِّب في شرح الكلم الطيب: للعيني، مكتبة التوبة: الرياض.

(1/519)


- العلو للعليّ الغفار: للذهبي، اعتنى به: أشرف عبد المقصود، الطبعة الأولى (1416)، مكتبة أضواء السلف: الرياض. - عمل اليوم والليلة: لابن السني، تحقيق: سليم الهلالي، الطبعة الأولى (1422)، دار ابن حزم: بيروت. - عمل اليوم والليلة: للنسائي، تحقيق: د. فاروق حمادة، الطبعة الثانية (1406)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - غريب الحديث: لابن قتيبة، تحقيق: عبد الله الجبوري، مطبعة العاني: بغداد. - الفاضل: للمبرد، تحقيق: الميمني. دار الكتب المصرية. - فتاوى ابن الصلاح: تحقيق: عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى (1406)، دار المعرفة: بيروت. - فتاوى العز بن عبد السلام: تحقيق: محمد جمعة كردي، الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - فتح الباري: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، ومحب الدين الخطيب، الطبعة الثانية (1409)، دار الريان: القاهرة. - فتح الباري: لابن رجب الحنبلي، تحقيق مجموعة، الطبعة الأولى (1417)، مكتبة الغرباء الأثرية: المدينة النبوية. - فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب: لأحمد بن الصديق الغماري، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1408)، عالم الكتب - مكتبة النهضة العربية. - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: لمحمد بن علان الصديقي. نشر جمعية التأليف والنشر الأزهرية. تصوير: دار إحياء التراث العربي: بيروت. - الفردوس بمأثور الخطاب: لشيرويه بن شهردار الديلمي، تحقيق: فؤاد الزمرلي وزميله، الطبعة الأولى (1407)، دار الكتاب العربي: بيروت. - فرقة الأحباش، نشأتها، عقائدها، آثارها: للدكتور سعد الشهراني، الطبعة الأولى

(1/520)


(1423)، دار عالم الفوائد: مكة المكرمة. - الفروسية: لابن قيم الجوزية، تحقيق: مشهور حسن سلمان، الطبعة الثانية (1417)، دار الأندلس: حائل. - الفروع: لشمس الدين بن مفلح، راجعه: عبد الستار فراج، الطبعة الثالثة (1402)، تصوير: عالم الكتب: بيروت. - الفصل في الملل والأهواء والنحل: لأبي محمد بن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل: بيروت (1405). - فصوص الحكم: لابن عربي، تعليق: أبو العلا عفيفي، دار إحياء الكتب العربية: القاهرة (1946 م). - فضائل الأوقات: للبيهقي، تحقيق: عدنان القيسي، الطبعة الأولى (1410)، مكتبة المنارة: مكة المكرمة. - فضائل شهر رمضان: لابن شاهين، تحقيق: بدر البدر، الطبعة الأولى (1415). دار ابن الأثير: الكويت. - فضائل الصحابة: لأحمد بن حنبل، تحقيق: وصيّ الله عباس، الطبعة الثانية (1420)، دار ابن الجوزي: الدمام. * فوائد تمام: مع الروض البسام، لجاسم الفهيد الدوسري. - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت، (1416). - قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: للسيوطي، تحقيق: خليل الميس، الطبعة الأولى (1405)، المكتب الإسلامي: بيروت. - القواعد الفقهية: لابن رجب الحنبلي، تحقيق: مشهور حسن سلمان، الطبعة الأولى (1419)، دار ابن عفان: الخبر. - قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: للعز بن عبد السلام، تحقيق: د. نزيه حماد ود.

(1/521)


عثمان جمعة، الطبعة الأولى (1421)، دار القلم: دمشق. - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: للسخاوي، تحقيق: محمد عوامة، الطبعة الأولى (1422)، مؤسسة الريان: بيروت. - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للذهبي، تحقيق: محمد عوامة ورفيقه، الطبعة الأولى (1413)، دار القبلة: جدة. - الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدي، تحقيق: سهيل زكار، الطبعة الثالثة (1409)، دار الفكر: بيروت. - كرامات أولياء الله عز وجل: للالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الطبعة الثانية (1415)، دار طيبة: الرياض. - كشف الأستار عن زوائد مسند البزار: للهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية (1404)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لحاجى خليفة، طبعة تركيا، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - الكشف والبيان في تفسير القرآن: لأبي إسحاق الثعلبي، الطبعة الأولى (1423)، دار إحياء التراث العربي: بيروت. - الكلم الطيب: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى لمكتبة المعارف: الرياض، (1422). - الكنى: للبخاري، ملحق بالتاريخ الكبير، دائرة المعارف العثمانية: الهند. - الكنى والأسماء: لمسلم بن الحجاج، تقديم: مطاع الطرابيشي، الطبعة الأولى (1404)، دار الفكر: دمشق. - الكنى: لابن منده، (طبع باسم: فتح الباب في الكنى والألقاب)، تحقيق: نظر الفاريابي، الطبعة الأولى (1417)، مكتبة الكوثر: الرياض. - كناشة النوادر: لعبد السلام هارون، الطبعة الثانية، دار الطلائع: القاهرة.

(1/522)


- لباب الآداب: لأسامة بن منقذ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، تصوير: دار الكتب السلفية: القاهرة، (1407). - لسان العرب: لابن منظور، الطبعة الثالثة (1413)، دار إحياء التراث العربي: بيروت. - لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني، دائرة المعارف العثمانية: الهند. - اللطائف من دقائق المعارف: لأبي موسى المديني، تحقيق: محمد علي سمك، الطبعة الأولى (1420)، دار الكتب العلمية: بيروت. - لقط اللآلىء المتناثرة في الأحاديث المتواترة: للزبيدي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى (1405)، دار الكتب العلمية: بيروت. - اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: للسيوطي، الطبعة الثالثة (1401)، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح: لشرف الدين الدمياطي، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، الطبعة التاسعة (1418)، دار خضر: بيروت. - المثل السائر: لابن الأثير. تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة. دار نهضة مصر. - المجروحين: لابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي، نشره: حسام الدين القدسي، تصوير: دار الكتاب العربي: بيروت. - المجموع: للنووي، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد: جدة. - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: النشرة الثالثة (1412)، دار العاصمة: الرياض. - مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه، تصوير: مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - المجموع اللفيف: لإبراهيم السامرائي، الطبعة الأولى (1407)، دار عمار: الأردن.

(1/523)


- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: للرامهرمزي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، الطبعة الثالثة (1404)، تصوير: دار الفكر: بيروت. - المحرر: لابن عبد الهادي، تحقيق: عادل الهدبا ومحمد علوش، الطبعة الأولى (1422)، دار العطاء: الرياض. - المحلى: لأبي محمد بن حزم، تحقيق: أحمد شاكر، تصوير: دار الجيل - دار الآفاق الجديدة: بيروت. - محيط المحيط: لبطرس البستاني، بيروت. - مختصر استدرك الذهبي على مستدرك الحاكم: لابن الملقن، تحقيق: د. عبد الله اللحيدان ود. سعد الحميد، الطبعة الأولى (1411)، دار العاصمة: الرياض. - مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: صبري عبد الخالق، الطبعة الأولى (1412)، مؤسسة الكتب الثقافية: بيروت. - مختصر سنن أبي داود: للمنذري، تحقيق: أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر: للمقريزي، الطبعة الثانية (1412)، حديث أكاديمي: باكستان، مؤسسة الرسالة: بيروت. - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية: بيروت. - المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي: لأحمد بن الصديق الغماري، الطبعة الأولى (1996 م)، دار الكتبي: القاهرة. - المدهش، لابن الجوزي، تحقيق: مروان قباني، الطبعة الثانية (1985 م)، دار الكتب العلمية: بيروت. - المدونة: رواية سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك، مطبعة السعادة، تصوير: دار صادر: بيروت.

(1/524)


- المراسيل: لابن أبي حاتم، تحقيق: شكر الله نعمة الله قوجاني، الطبعة الثانية (1418)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - المراسيل: لأبي داود السجستاني، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى (1408)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس، دراسة نظرية وتطبيقية على مرويات الحسن البصري: للشريف حاتم العوني، الطبعة الأولى (1418)، دار الهجرة: الثقبة - السعودية. - مرقاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح: لملا علي القاري، المطبعة الميمنية (1309)، القاهرة. - مسائل الإمام أحمد: رواية أبي داود السجستاني، تحقيق: محمد رشيد رضا، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - مسائل الإمام أحمد: رواية ابنه صالح، طبعت بإشراف: طارق عوض الله، الطبعة الأولى (1406)، دار الوطن: الرياض. - مسائل الإمام أحمد: رواية ابنه عبد الله، تحقيق: د. علي المهنا، الطبعة الأولى (1406)، مكتبة الدار: المدينة النبوية. - مسائل الإمام أحمد: رواية ابن هانىء، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الأولى، (1394 - 1400)، المكتب الإسلامي: بيروت. - المسائل عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: رواية إسحاق الكوسج، (كتاب الطهارة والصلاة) تحقيق: د. محمد اللاحم، الطبعة الأولى (1412)، دار المنار: القاهرة. - مسائل محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن شيوخه: تحقيق: د. عامر حسن صبري، مجلة الأحمدية: دبي - الإمارات. - مساوىء الأخلاق. للخرائطي، تحقيق: مجدي السيد، الطبعة الأولى، مكتبة القرآن: القاهرة.

(1/525)


- مستخرج أبي عوانة: طبع دائرة المعارف العثمانية: الهند، تصوير: دار الكتبي: القاهرة، والقسم المفقود: بتحقيق: أيمن عارف الدمشقي، الطبعة الأولى (1416)، مكتبة السنة: القاهرة. - المستدرك: للحاكم، طبع دائرة المعارف العثمانية: الهند، تصوير: دار الكتاب العربي: بيروت. - المستقصى في أمثال العرب: للزمخشري، الطبعة الثانية (1987 م)، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - مسند الإمام أحمد بن حنبل: تحقيق مجموعة من الباحثين، الطبعة الأولى (1419)، عالم الكتب: بيروت. - مسند إسحاق بن راهويه: تحقيق: د. عبد الغفور البلوشى، الطبعة الأولى (1412)، مكتبة الإيمان: المدينة النبوية. - مسند البزار: (البحر الزخار)، تحقيق: د. محفوظ الرحمن السلفى، الطبعة الأولى (1409)، مكتبة العلوم والحكم: المدينة النبوية. - مسند أبي بكر الصديق: لأبي بكر المروزي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة الثالثة (1399)، المكتب الإسلامي: بيروت. - مسند الحميدي: تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمى، الطبعة الأولى (1409)، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - مسند الروياني: تحقيق: أيمن أبو يمانى، الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة قرطبة: القاهرة. - مسند سعد بن أبي وقاص من مسند البزار: تحقيق: أبو إسحاق الحويني، الطبعة الأولى (1413)، مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - مسند الشاشي: الهيثم بن كليب، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، الطبعة الأولى (1410). مكتبة العلوم والحكم: المدينة النبوية.

(1/526)


- مسند الشاميين: للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1409)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - مسند الطيالسي: تحقيق: د. محمد التركي، الطبعة الأولى (1419)، دار هجر: القاهرة. - مسند الفاروق: لابن كثير، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى (1411)، دار الوفاء: المنصورة - مصر. - مسند أبي يعلى الموصلي: تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الأولى (1412). دار الثقافة العربية: دمشق. - مشيخة ابن الجوزي: تحقيق: محمد محفوظ، الطبعة الثانية (1400)، دار الغرب الإِسلامي: بيروت. - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: للبوصيري، تحقيق: موسى محمد علي وعزت علي عطية، مطبعة حسان، دار الكتب الحديث: القاهرة. - المصنّف: لابن أبي شيبة، تحقيق: عامر الأعظمي ومختار النووي، الطبعة الأولى (1400) الدار السلفية: الهند. - المصنّف: لعبد الرزاق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية (1403)، المكتب الإسلامي: بيروت. - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: غنيم عباس وياسر إبراهيم، الطبعة الأولى (1418)، دار الوطن: الرياض. - معالم التنزيل: للبغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر وزميليه، الطبعة الرابعة (1417)، دار طيبة: الرياض. - معالم السنن: للخطابي، مع مختصر سنن أبي داود للمنذري، تصوير: دار المعرفة: بيروت. - معجم الأخطاء الشائعة: لمحمد العدناني، الطبعة الثانية (1993 م)، مكتبة لبنان:

(1/527)


بيروت. - معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة: لمحمد العدناني، الطبعة الأولى (1984 م)، مكتبة لبنان: بيروت. - المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق: عبد المحسن الحسيني وطارق عوض الله، الطبعة الأولى (1415) دار الحرمين: القاهرة. - معجم البلدان: لياقوت الحموي، الطبعة الثانية (1995 م)، دار صادر: بيروت. - المعجم الذهبي: لمحمد التونجي، الطبعة الأولى (1969 م)، دار العلم للملايين: بيروت. - معجم الشيوخ: لابن جميع الصيداوي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الأولى (1405)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - معجم الصحابة: لعبد الباقي بن قانع، تحقيق: صلاح الدين المصراتي، الطبعة الأولى (1418) مكتبة الغرباء: المدينة النبوية. - المعجم الصغير: للطبراني، تحقيق: محمد شكور محمود، الطبعة الأولى (1405)، المكتب الإسلامي: بيروت. - معجم فصيح العامة: لأحمد أبو سعد، الطبعة الأولى (1990 م)، دار العلم للملايين: بيروت. - المعجم الكبير: للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية: العراق، تصوير: دار إحياء التراث العربي: بيروت. - المعجم الكبير: (قطعة من الأجزاء المفقودة): تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى، دار الصميعي: الرياض. - المعجم المختص بالمحدثين: للذهبي، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، الطبعة الأولى، مكتبة الصديق: الطائف. - معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: لأحمد مطلوب، الطبعة الثانية (1414)، مكتبة

(1/528)


لبنان ناشرون: بيروت. - معجم المصطلحات والألقاب التاريخية: د. مصطفى الخطيب. الطبعة الأولى (1416)، مؤسسة الرسالة: بيروت. - معرفة الثقات: للعجلي، تحقيق: عبد العليم البستوي، الطبعة الأولى (1405)، مكتبة الدار: المدينة النبوية. - معرفة الخصال المكفّرة للذنوب المقدمة والمؤخرة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: جاسم الفهيد الدوسري، الطبعة الأولى (1404)، مكتبة الصحوة الإِسلامية: الكويت. - معرفه الصحابة: لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: عادل العزازي، الطبعة الأولى (1419)، دار الوطن: الرياض. - معرفة علوم الحديث: لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: السيد معظم حسين. - المعرفة والتاريخ: ليعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، الطبعة الأولى (1410)، مكتبة الدار: المدينة النبوية. - المغني عن حمل الأسفار: للعراقي، اعتنى به: أشرف عبد المقصود، الطبعة الأولى (1415)، مكتبة دار طبرية: الرياض. - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: للسيوطي. الطبعة الثالثة (1399). الجامعة الإسلامية: المدينة النبوية. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: لابن قيم الجوزية. تحقيق: علي حسن عبد الحميد. الطبعة الأولى (1416)، دار ابن عفان: الخبر. - المفضليات: تحقيق وشرح: أحمد شاكر وعبد السلام هارون، الطبعة السابعة. دار المعارف: القاهرة. - المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم: لأبي العباس القرطبي. تحقيق: محي الدين مستو ورفاقه، الطبعة الثانية (1418)، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب. - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للسخاوي.

(1/529)


تحقيق: محمد عثمان الخشت. الطبعة الثانية (1414)، دار الكتاب العربي: بيروت. - مكارم الأخلاق ومعاليها: للخرائطي، تحقيق: د. سعاد الخندقاوي، الطبعة الأولى (1411)، مطبعة المدني: مصر. وطبعة المكتبة السلفية بالقاهرة. - منازل السائرين: لأبي إسماعيل الهروي الأنصاري، تحقيق: دي لوجييه دي بروكي، مطبعة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية: القاهرة، (1962 م). - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: لابن قيم الجوزية، تحقيق: العلامة عبد الرحمن المعلمي، الطبعة الأولى (1419)، دار العاصمة: الرياض. - المنتخب من العلل للخلال: لابن قدامة المقدسي، تحقيق: طارق عوض الله محمد، الطبعة الأولى (1419)، دار الراية: الرياض. - المنتخب من مسند عبد بن حميد: تحقيق مصطفى العدوي، الطبعة الأولى (1405)، مكتبة ابن حجر: مكة المكرمة، دار الأرقم: الكويت. - المنتقى: لابن الجارود، مع تخريجه: غوث المكدود لأبي إسحاق الحويني، الطبعة الأولى (1408)، دار الكتاب العربي: بيروت. - منهاج السنة النبوية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الطبعة الثانية (1409)، تصوير: مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: للنووي، راجعه: خليل الميس، الطبعة الأولى، دار القلم: بيروت. - المنهاج في شعب الإيمان: للحليمي، تحقيق: حلمي محمد فودة، الطبعة الأولى (1399)، دار الفكر: بيروت. - منهاج الطالبين: للنووي، دار المعرفة: بيروت. - موافقة الخُبر الخَبَر في تخريج أحاديث المختصر: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حمدي عبد المجيد وصبحي السامرائي، الطبعة الثانية (1414)، مكتبة الرشد: الرياض.

(1/530)


- موضح أوهام الجمع والتفريق: للخطيب البغدادي، تحقيق: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية: الهند، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - الموضوعات: لابن الجوزي، مكتبة أضواء السلف: الرياض. - الموشى: للوشاء، دار صادر: بيروت. - الموطأ: لمالك بن أنس، رواية يحيى بن يحيى، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الطبعة الثانية (1417)، دار الغرب الإسلامي: بيروت. - ناسخ الحديث ومنسوخه: لأبي بكر الأثرم، تحقيق: عبد الله بن حمد المنصور، الطبعة الأولى (1420). - نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1421)، دار ابن كثير: دمشق. - نتائج الأفكار بشرح حديث سيد الاستغفار: للسفاريني، تحقيق: عبد العزيز الهبدان وعبد العزيز الدخيل، الطبعة الأولى، مكتبة الصميعي: الرياض. - نسب قريش: لمصعب بن عبد الله الزبيري، تحقيق: إ. ليفي بروفنسال، الطبعة الثالثة، دار المعارف: القاهرة. - نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض: للخفاجي، المطبعة الأميرية (1325)، تصوير دار الكتاب العربي: بيروت. - نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف: لمحمد بن زبارة. الطبعة الثانية (1405)، مركز الدراسات والبحوث اليمني: صنعاء. - نصب الراية (تخريج أحاديث الهداية): للزيلعي، تحقيق: المجلس العلمي بالهند، تصوير: دار الحديث: القاهرة. - نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد: لعثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق: منصور السماري، الطبعة الأولى (1419). مكتبة أضواء السلف: الرياض. - نقض المنطق: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة وسليمان

(1/531)


الصنيع، الطبعة الأولى (1370)، مطبعة السنة المحمدية: القاهرة. - النكت الظراف على الأطراف: لابن حجر العسقلاني، بحاشية تحفة الأشراف للمزي. تحقيق: عبد الصمد شرف الدين. - النكت على ابن الصلاح: لابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع هادي عمير، الطبعة الثالثة (1415)، دار الراية: الرياض. - نوادر الأصول في أحاديث الرسول: لأبي عبد الله الحكيم الترمذي، (محذوفة الأسانيد)، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، الطبعة الأولى (1992)، دار الجيل: بيروت. - النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير الجزري، تحقيق: طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، دار إحياء الكتب العربية: القاهرة. - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الطبعة الأولى (1413)، دار الحديث: القاهرة. - هدية العارفين: للبغدادي، تصوير: دار الكتب العلمية: بيروت. - هذه مفاهيمنا: لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار البخاري: بريدة. - الهواتف: لابن أبي الدنيا، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا الطبعة الأولى (1413)، مؤسسة الثقافة: بيروت. - وبل الغمام على شفاء الأوام: للشوكاني، تحقيق: محمد صبحي حلاق، الطبعة الأولى (1416)، مكتبة ابن تيمية: القاهرة. - لا جديد في أحكام الصلاة: لبكر بن عبد الله أبو زيد، الطبعة الأولى، دار العاصمة: الرياض.

(1/532)