×
فتيا في صيغة الحمد : رسالة للإمام ابن القيم - رحمه الله - اشتمل على إجابة على سؤال يتعلق ثبوت وصحة صيغة من صيغ الحمد، هي: «الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده» وعما إذا كانت هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأكملها من عدمه.

 فتيا في صيغة الحمد

آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (7) فُتْيا في صيغة الحمد «الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده» تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (691 - 751) تحقيق عبد الله بن سالم البطاطي إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  مقدمة التحقيق

"الحمد لله حمدًا دائمًا سرمدًا، حمدًا لا يحصيه العدد، ولا يقطعه الأبد، وكما ينبغي لك أن تحمد، وكما أنت له أهل، وكما هو لك علينا حقٌّ". "اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وهديتنا، وعلمتنا، وأنقذتنا، وفرَّجْتَ عنَّا .. لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل، والمال، والمعافاة .. كَبَتَّ عدوَّنا، وأظهرتَ أمْنَنا، وجمعتَ فُرقَتَنا، وبَسَطْتَ رزقنا، وأحسنتَ معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربَّنا أعطيتنا .. فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمد بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سِرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصةٍ أو عامةٍ، أو حيٍّ أو ميتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ .. لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت" (1). اللهم "تَمَّ نورُك فهديتَ، فلك الحمد، وعَظُم حلمُك فعفوتَ، فلك الحمد، وبسطتَ يدك فأعطيت، فلك الحمد .. ربَّنا: وجهُك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهنَؤُها .. تُطاع - ربَّنا - فتشكُر، وتُعصى - ربَّنا - فتغفِر، وتجيب المضطَر، وتكشف الضرَّ، وتشفي السقيم، وتنجي من الكرب، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا __________ (1) هذا من دعاء الحسن البصري رحمه الله، كان يستفتح به حديثه. أخرجه ابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 11، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4266.

(المقدمة/5)


يجزي بآلائِك أحدٌ، ولا يبلغ مِدْحَتَك قولُ قائل" (1). فـ "اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا خالدًا مع خلودك، ولك الحمد حمدًا لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدًا لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدًا لا أجر لقائله إلا رضاك" (2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الحامدين، وعظيم الشاكرين، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد: فإن من أَقْربِ القُرَب، وأفضل الفضائل، وأحقِّ الحقِّ؛ اشتغالُ العبد __________ (1) روي عن علي -رضي الله عنه- مرفوعًا وموقوفًا: فأما المرفوع فأخرجه أبو يعلى في مسنده رقم 440، وسنده ضعيف. وأما الموقوف فأخرجه: ابن فضيل الضبي في (الدعاء) رقم 69، وابن أبي شيبة في (المصنف) 10/ 229 رقم 9306، والطبراني في (الدعاء) رقم 734. وعزاه المتقي الهندي في (كنز العمال) 2/ 640 رقم 4963 إلى: جعفر فى (الذكر)، وأبي القاسم اسماعيل بن محمد بن فضل في أماليه. وهو حسن -إن شاء الله- بمجموع طرقه. (2) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4079 من حديث عليٍّ -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقال عقبه: "فيه انقطاع بين عليٍّ ومن دونه". وضعفه الألباني في (ضعيف الترغيب والترهيب) رقم 968 و 982. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 8/ 223 ومن طريقه الحافظ ابن حجر في (نتائج الأفكار) 3/ 289 - 290 من قول محمد بن النضر الحارثي.

(المقدمة/6)


بالثناء والحمد لذي العُلَى والمجد؛ فإنه -سبحانه- أهلٌ لأن يُحمد، وأهلٌ لأن يُشْكَر ويُثنى عليه، وهو -جلَّ جلاله- المحمود على كمال محاسِنه، وتمام إحسانه. و"الحمد" من أحب العبادات إلى الله عز وجل، كما ثبت ذلك في حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وما من شيءٍ أحبَّ إلى الله من الحمد" (1). وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الذكر (لا إله إلا الله)، وأفضل الدعاء (الحمد لله) " (2). فلا غَرْوَ إذن أن يحرص الناس على سؤال أهل العلم عن صيغ الحمد وألفاظها، بل عن أفضلها وأجلِّها وأكملها؛ لأن ذلك أسعد لحظِّ المؤمن. فها هو الحافظ السخاوي (902) يُسأل عن ألفاظ الروايات الواردة في جوامع التسبيح، فيذكر ما استحضره من الروايات الواردة في صيغ __________ (1) أخرجه: أبو يعلى في مسنده رقم 4256، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4058، وفي (السنن الكبرى) 10/ 104. وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة) رقم 1795. (2) أخرجه: الترمذي رقم 3383، وابن ماجه رقم 3868، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم 831، وابن أبي الدنيا قي (الشكر) رقم 102، وابن حبان رقم 846، والحاكم 1/ 498 و 503 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4061 وغيرهم. وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) رقم 1104، و (السلسلة الصحيحة) رقم 1497.

(المقدمة/7)


الحمد والتسبيح (1). ويُسأل ابن حجر الهيتمي المكي (974) عن قول السراج البلقيني إن أفضل صيغ الحمد "الحمد لله رب العالمين"، فَسَردَ أقوال العلماء في أفضل الصيغ، ثم استحسن صيغة: لَفَّقَها من سائر الأقوال، وهي "الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه" (2). ولربما يتوجَّه السؤال إلى صيغةٍ بعينها للاستفسار عن ثبوتها، أو عما تحمله من المعاني؛ كما هو الحال في السؤال الذي وُجِّه إلى الإمام ابن القيم رحمه الله، وأجاب عنه بهذه الفتيا التي بين أيدينا.

  مضمون الفتيا:

السؤال الموجَّه إلى الإمام ابن القيم -رحمه الله- يتعلق بصيغةٍ من صيغ الحمد، هي: "الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"؛ عن ثبوتها وصحتها، وهل ما ذكره بعضهم من أن هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأكملها صحيحٌ أم لا؟. فأجاب ببطلان ذلك، وبنفي ثبوت هذه الصيغة من جهتين: من جهة الرواية، ومن جهة الدراية. فأما من جهة الرواية فذكر أن هذه الصيغة ليس لها إسنادٌ؛ فضلًا عن __________ (1) انظر (الأجوبة المرضية) 3/ 908 - 911. (2) انظر (الفتاوى الكبرى الفقهية) 4/ 263.

(المقدمة/8)


ثبوتها أو صحتها، وإنما هو أثرٌ يرويه أبو نصر التمَّار عن آدم عليه السلام، وهذا الأثر لا تقوم به حجةٌ لانقطاعه. ثم إنه لم يرد عن أحدٍ من خلق الله المكرمين التلفظ بمثل هده الصيغة؛ لا الملائكة، ولا النبيين، ولا خيار هذه الأمة وعلى رأسهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ يطيل في سرد الآيات والأحاديث الواردة في صيغ الحمد، والتي ليس فيها هذه الصيغة المسئول عنها. وأما من جهة الدراية فقد بيَّن -رحمه الله- أن هذه الصيغة قد تتضمن معنى فاسدًا. ووجه ذلك؛ أن هذه الصيغة قد تفيد أن العبد بشكره للنِّعَم يكون قد أدى ما عليه من حقٍّ لله تعالى، وهذا فاسدٌ، لأنه يخالف المستفيض في النصوص الشرعية من أن نِعَم الله عز وجل لا يقوم بتمام شكرها أحدٌ، ولا يفي بحقها قول قائلٍ، فمهما أثنى العبد على ربه، وتقدم بين يديه بحمده وشكره، فحق الله أعظمُ، وإحسانه أعمُّ، ومِنَّتُه أكرم. وهذا المعنى الذي ردَّه ابن القيم -رحمه الله- هو المنقول عن جماعةٍ من الأئمة المتقدمين، أنهم ردُّوه، وفنَّدوه، وأبطلوه، ومن ذلك ما قاله الإمام بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: "ما قال عبدٌ قطُّ (الحمد لله) إلا وجبت عليه نعمةٌ بقوله (الحمد لله)، فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول (الحمد لله)، فجاءت نعمةٌ أخرى، فلا تنفد نِعَمُ الله عز وجل" (1). __________ (1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 7 و 98، والبيهقي في (شعب =

(المقدمة/9)


وقال الجنيد: سمعت السريَّ يقول: "الشكر نعمةٌ، والشكر على النعمة نعمةٌ، أي إلى أن لا يتناهى الشكر إلى قرارٍ" (1). وقال طَلْقُ بن حبيب رحمه الله: "إن حقَّ الله أثقلُ من أن يقوم به العباد، وإن نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن اصبِحُوا توَّابين، وامسُوا توَّابين" (2). وأنشد محمود الورَّاق رحمه الله: إذا كان شكري نعمةَ اللهِ نعمةً ... عليَّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ وكيف وقوعُ الشكرِ إلا بفضلِه ... وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ إذا مَسَّ بالسرَّاءِ عَمَّ سرُورُها ... وإن مَسَّ بالضراءِ أعقبها الأجرُ وما منهما إلا له فيه مِنَّةٌ ... تضيقُ بها الأوهامُ والبرُّ والبحرُ (3) قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "إن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأَكْلَة فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَة فيحمده عليها، والثناءُ بالنِّعَم، والحمدُ عليها __________ = الإيمان) رقم 4095. (1) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4096. (2) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4204. (3) أخرجه: أبن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 82، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4099.

(المقدمة/10)


وشكرُها عند أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلبًا للثناء، والله عز وجل أكرمُ الأكرمين، وأجودُ الأجودين، فهو يبذل نعمَهُ لعباده، ويطلب منهم الثناءَ بها، وذكرَها، والحمدَ عليها، ويرضى منهم بذلك شكرًا عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاحٍ إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحُه وكمالُه فيه. ومن فضله أنه نسب الحمدَ والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضَه، ومدحهم بإعطائه، والكلُّ ملكُه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك" (1). فهذا هو خلاصة الفتيا ومحتواها، وعين الخلاصة المذكور في هذه الفتيا قد ذكره ابن القيم -رحمه الله- في كتاب آخر له وهو "عدة الصابرين" (2)، وخَلَص فيه إلى نفس ما خلص إليه ههَنا في الفتيا مع إيجازٍ شديدٍ. وقفةٌ مع الفتيا: من المعروف عن ابن القيم -رحمه الله- أنه صاحب بَسْطٍ واستقصاءٍ؛ وذلك لما يتمتع به من سعةِ اطلاعٍ، وقوةِ ذاكرةٍ، وسيلانِ ذهنٍ، فقلَّ أن يفارقه الصواب في أجوبته. وأول ما نقرؤه في مقدمة فتياه عن مسألة الحمد تأصيله لها بنفي وجود سندٍ لهذه الصيغة، وإنما غاية الأمر أنها أثرٌ مرويٌّ عن آدم عليه السلام، __________ (1) (جامع العلوم والحكم) 2/ 82 - 83. (2) (عدة الصابرين) 228 - 229.

(المقدمة/11)


وهدا الأثر من غرائب أبي نصر التمَّار، ولا يُدرى من أين أخذه!. والحقيقة أن كلامه هذا غايته عدم العلم بوجود السند للأثر المروي، ومن المقرر أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، إلا أن العبارات الكلِّية، والقضايا العامة، إذا خرجت من مثل الإمام ابن القيم -رحمه الله- فإن لها حظًّا عند العلماء؛ استرواحًا منهم لجلالة علومه، وغزارة معلومه. وهذا ما حَدَا بالعلامة السَّفاريني -رحمه الله- إلى نقل فتوى ابن القيم -رحمه الله- إقرارًا له بتلك النتيجة؛ عندما تكلم عن صيغ الحمد في كتابه المشهور "غذاء الالباب" (1). وههنا أمور: الأول: أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر أن لهذا الأثر سندًا يرويه ابن الصلاح في أماليه. وهدا الإسناد عزيز الوجود، ولهدا لما نقل الحافظ ابن حجر حكمَ ابن الصلاح عليه قال عقبه: "فكأنه عثر عليه حتى وصفه" (2). والثاني: أن أبا نصر التَّمار إنما يرويه عن: محمد بن النضر الحارثي عن آدم عليه السلام، فالأثر ليس من رواية أبي نصر عن آدم عليه السلام كما ذُكر، بل بينهما واسطة. والثالث: أن الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- ذكر أن الحديث المسئول عنه قد روي مرفوعًا وموقوفًا، واكتفى بذلك ولم __________ (1) (غذاء الألباب) 1/ 20. (2) (التلخيص الحبير) 4/ 317. ثم ذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف عليه بعد ذلك.

(المقدمة/12)


يَعْزُهما (1). فلعله أراد بالمرفوع ما روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه: "من قال: الحمد لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، على كل حالٍ، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده؛ ثلاث مراتٍ: فتقول الحفَظَةُ: ربَّنا؛ لا نُحْسِن كُنْهَ ما قدَّسك عبدُك هذا وحمدَكَ، وما ندري كيف نكتبه؟ فيوحي الله إليهم أن اكتبوه كما قال". ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب"، وعزاه إلى البخاري في "الضعفاء"، وبيَّض له الألباني في الحكم عليه في "ضعيف الترغيب والترهيب" (2). وأما الموقوف فلم أقف عليه، إلا إن أراد به الموقوف على محمد بن النضر الحارثي! فالله أعلم. والرابع: أن المعنى الذي قد يدل عليه الأثر "حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" ربما يُظَنُّ أنه قد جاء ما يؤيده، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا آوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني، وآواني، والحمد لله الذي أطعمني، وسقاني، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ فأفْضَلَ"، فقد حَمِدَ الله بجميع محامد الخلق كلِّهم" (3). __________ (1) انظر (جامع العلوم والحكم) 2/ 83. (2) انظر (ضعيف الترغيب والترهيب) 1/ 477 - 478 رقم 962. (3) أخرجه بهذا اللفظ: ابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 722، والحاكم =

(المقدمة/13)


والجواب عن ذلك بأن الحديث ليس فيه أن العبد إذا قال هذا الذكر أنه يكون قد قام بحق الله حقَّ القيام، وأنه وفَّى نعمةَ اللهِ شكرَها، وأتى بما يكافيء ذلك! بل غاية ما يدل عليه أنه أتى بذكرٍ يعدل جميع حَمْد الحامدين، وهذا من تضعيف الأجور. ويؤكد ذلك أن حَمْدَ العالمين كلِّهم لا يفي بحقِّ الله عليهم، ولا يكافيء نِعَمهُ لديهم، فإن الله عز وجل ليس لشكره نهاية، كما ليس لعظمته نهاية. هذا إن سلِمَت الزيادة في قوله: "فقد حَمِد اللهَ بجميع محامد الخلق كلِّهم" من الإعلال، فإن أصل الحديث في المسند والسنن وغيرها بدون هذه الزيادة!.

  نسبة الفتيا لابن القيم:

ثَمَّ أمورٌ تجعلنا نجزم بنسبة هذه الفتيا لابن القيم رحمه الله، وهي: أولًا: أنه قد جيء باسم المؤلف في صدر الفتيا، فقال ناسخ المخطوط: "أجاب شيخنا الإمام العالم، قدوة المحققين، عمدة المحدثين، شمس الملة والدين: أبو عبد الله محمد بن أبى بكر القيم، تغمده الله برحمته". وثانيًا: أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أثناء الرسالة في عدة مواضع، وكاد يصفه بـ (شيخنا)، وتتلمذ ابن القيم على شيخ الإسلام __________ = في المستدرك 1/ 545 - 546 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4072، والضياء في (المختارة) رقم 1574 و 1575.

(المقدمة/14)


مشهور جدًا. وثالثًا: أن ابن القيم -رحمه الله- قد حكى خلاصة هذه الفتيا في كتابه الآخر المسمى بـ "عدة الصابرين"، وما ذكره هناك يطابق رأيه تمامًا في هذه الفتيا. قال في "عدة الصابرين": "وأما قول بعض الفقهاء: إن من حَلَف أن يحمد الله بأفضل أنواع الحمد؛ كان برُّ يمينه أن يقول: (الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده)، فهذا ليس بحديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحدٍ من الصحابة، وإنما هو إسرائيلي عن آدم، وأصح منه: "الحمد لله غير مكفيٍّ؛ ولا مودَّعٍ، ولا مستغنى عنه ربنا". ولا يمكن حَمْدُ العبد وشكرُه أن يوافي نعمةً من نعم الله فضلًا عن موافاته جميع نعمه، ولا يكون فِعْلُ العبد وحمدُه مكافئًا للمزيد، ولكن يُحمل على وجهٍ يصح، وهو: أن الذي يستحقه الله سبحانه من الحمدِ حمدًا يكون موافيًا لنعمه، ومكافئًا لمزيده، وإن لم يقدر العبد أن يأتي به، كما إذا قال: "الحمد لله مِلْءَ السموات، ومِلْءَ الأرض، ومِلْءَ ما بينهما، ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، وعدد الرمال والتراب والحَصَى والقَطْر، وعددَ أنفاسِ الخلائق، وعددَ ما خلقَ اللهُ، وما هو خالقٌ"، فهذا إخبارٌ عما يستحقه من الحمد، لا عما يقع من العبد من الحمد" (1). __________ (1) (عدة الصابرين) 228 - 229. وما ذكره ابن القيم ههنا تخريج جيد لمعنى هذه العبارة، وعليه يحمل كلام من استعملها من الأئمة كقول الإمام البيهقي رحمه الله وهو يتحدث عن =

(المقدمة/15)


ورابعًا: أن لغةَ الفتيا، ونَفَسَ التدوين، وطريقة العرض والاستدلال، ومنهجَ المناقشة والردِّ؛ توافِق ما تميز به أسلوب ابن القيم -رحمه الله- في: صياغة مؤلفاته. وخامسًا: أن العلاَّمة محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1188) قد اختصر هذه الفتيا، وضمَّنها كتابه "غذاء الألباب"، وذكرها في مقدمة الكتاب عند الكلام على مسائل الحمد، وعَنْوَنَ لها بـ (فائدة)، وصرَّح بنسبتها لابن القيم رحمه الله (1).

  النسخ المعتمدة في التحقيق:

تحصَّل لنا من هذه الفتيا نسختان: النسخة الأولى: نسخةٌ قديمةٌ، ضمن مجموع يحمل رقم (11740 ب)، محفوظ في ليدن، منها صورة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، وعنه حصلنا على صورة من المخطوط، وعدد صفحاتها أربع صفحاتٍ، وهذا المجموع غير مرقم. والنسخة ليس عليها تاريخ النسخ، ولا اسم الناسخ، وخطها يشبه __________ = نعمة الله عليه بأن جعل لكتابه "السنن الكبرى" المكانة العالية عند العلماء، فقال: "ووقع كتاب السنن إلى الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني -والد إمام الحرمين- بعدما أنفق على تحصيله شيئًا كثيرًا، فارتضاه وشكر سَعْيي فيه، فالحمد لله على هذه النعمة حمدًا يوازيها، وعلى سائر نعمته حمدًا يكافيها". (معرفة السنن والآثار) 1/ 142 بتصرف يسير. (1) انظر (غذاء الألباب) 1/ 20.

(المقدمة/16)


خطوط القرن الثامن الهجري، وهو قليل الإعجام، وتتداخل فيه الكلمات أحيانًا، والنسخة مقروءةٌ ومصححةٌ، ولا أستبعد أن يكون ناسخها أحد تلاميذ المؤلف، والله أعلم. ويعيب هذه النسخة أنها ناقصة، فالموجود منها يمثل نصف الفتيا تمامًا، ولولا ذلك لجعلتها أصلًا في التحقيق، وقد رمزت لها بالحرف (أ). النسخة الثانية: نسخةٌ حديثةٌ كاملةٌ محفوظةٌ في مكتبة الملك فهد بالرياض تحمل الرقم 672/ 86، وخطها نسخي واضح، ولم يُذكر فيها اسم ناسخها، ولا النسخة التي نقل منها، وقيد تاريخ نسخها في آخرها بعام 1338، وعدد صفحاتها ثلاث عشرة صفحة. وبالنسخة بعض التصويبات التي كُتبت في الهامش، وقد رمزت لها بالحرف (ب). عنوان المخطوط: كلا النسختين أُهْمِلتا من العنوان، ولم ينص على تسميتها أحدٌ ممن ترجم لابن القيم رحمه الله؛ حتى السفاريني -رحمه الله- لما نقل عنها ما اختصره منها لم يذكر لها عنوانًا، وقد لا يكون هذا مستغربًا؛ لأن هذا هو شأن الفتاوى؛ أسئلةٌ ترفع إلى العالم، فيجيب عنها بخطه أو بإملائه، ثم يتركها هَمَلًا من العَنْوَنة، وتنتشر في أيدي الناس على أنها فُتْيا فلان، لا أنها فتيا بعنوان! وعند التأمل في المخطوط نرى ما يلي:

(المقدمة/17)


1 - أن طبيعة المخطوط ينطبق عليه حقيقة الفتيا، فهو استفتاءٌ من أحد الناس عن مسألةٍ ما، فكان الجواب بهذه الفتيا. 2 - أن الاستفسار كان عن حديثٍ واحدٍ فقط، هذا الحديث يتضمن صيغة واحدة من صيغ الحمد الواردة، فأجاب ابن القيم -رحمه الله- عنه، ثم اتبعه -تكميلًا للجواب- بسَوْق ما يستحضره من النصوص الشرعية الواردة في صيغ الحمد وألفاظه، فكان حشده لهده النصوص تبعًا لا أصلًا طُلِب الكشف عنه في السؤال. وبالنظر إلى ما ذكرناه، واستئناسًا لما جرى عليه العمل في مثل هذه المؤلفات، يحسُن بنا أن نُعَنْون لها بـ: فتيا في صيغة الحمد: "الحمد لله؛ حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"، والله أعلم.

  طبعات الكتاب:

طبع الكتاب مرتين: الأولى: في دار ابن خزيمة بالرياض، سنة 1414، بتحقيق: فهد بن عبد العزيز العسكر، ووضع عنوانه هكذا: (مطالع السعد بكشف مواقع الحمد)، ذكر في المقدمة أنه استشرف هذا العنوان من خاتمة الرسالة. وعناية بالكتاب ظاهرة، وطبعته هذه أجود الطبعتين. والثانية: في دار العاصمة بالرياض، سنة 1415، بتحقيق: محمد بن إبراهيم السعران، ووضع عنوانه هكذا: (جواب في صيغ الحمد)، ذكر في المقدمة أن الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله- هو الذي أشار عليه بهذا العنوان.

(المقدمة/18)


وكلا المحققين اعتمدا على نسخةٍ خطيةٍ واحدةٍ، وهي النسخة المتأخرة التي كتبت سنة 1338، وعملهما جيدٌ على فوتٍ يسير لا يخلو من مثله عمل الحريص، لكني استفدت من طبعة دار ابن خزيمة أكثر، ولهما فضل السبق، والله يتقبل منهما صالح العمل.

  منهجي في التحقيق:

1 - قمتُ بنسخ المخطوط، ثم قابلته على أصله، مراعيًا الرسم الإملائي الحديث. 2 - أختار من النسختين ما أراه -فيما يغلب على ظني- أقرب للصواب، وقد أُضيف حرفًا أو كلمة لا يستقيم الكلام بدونه وأضعه بين معكوفتين []. 3 - فقَّرتُ الكلام، وراعيت علامات الترقيم. 4 - خرَّجتُ الآيات والأحاديث والآثار، فأما الأحاديث فإن كانت في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت عليه، وما كان في غيرهما خرجته من مصادره الأصلية؛ ثم أنقل كلام أهل الشأن في تصحيحه وتضعيفه. 5 - ترجمت للأعلام، وعلَّقت على مواطن مما يقتضيه المقام. 6 - بَيَّنْتُ بعض معاني الغريب بما يكشف عن المراد. 7 - أقمتُ قوائم الفهارس على التفصيل: فهرس الآيات، والأحاديث، والآثار، والأعلام، والكتب، والموضوعات. هذا؛ وأسأل الله العلي العظيم جلَّتْ قدرته أن يهدينا للتي هى أقوم، بالتي هي أحسن، إنه بكل جميلٍ كفيلٌ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(المقدمة/19)


الصفحة الأولى من النسخة (أ)

(المقدمة/20)


آخر الموجود من النسخة (أ)

(المقدمة/21)


الصفحة الأولى من النسخة (ب)

(المقدمة/22)


الصفحة الأخيرة من النسخة (ب)

(المقدمة/23)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين، وعليه نتوكل (1) ما يقول السادة العلماء أئمة الدين (2) -رضي الله عنهم أجمعين- في رجلين تباحثا في الحديث المروي في: "الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"، فقال الآخر لقائل هذا الحديث: الربُّ سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (3). فقال له راوي الحديث الأول: من لم يوافق على هذا الحديث تَيْسٌ، وحمارٌ، وجاهلٌ! فهل هذا الحديث الأول الدي رواه في "الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" في (4) الصحيح أم لا؟ ومن المصيب من الرجلين؟ وليُبْسَط القول مثابين، أفتونا مأجورين رحمكم الله. أجاب شيخنا الإمام العالم، قدوة المحققين، عمدة المحدثين، شمس الملة والدين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القيم، تغمده الله برحمته (5): __________ (1) ساقط من أ. (2) في ب: الذين، بدل، أئمة الدين. (3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، رقم (486). (4) ساقط من ب. (5) قوله: قدوة المحققين إلى تغمده الله برحمته، ساقط من ب، وبدلًا منه: =

(1/3)


الحمد لله، هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، ولا: يُعرف في شيءٍ من كتب الحديث المعتمدة، ولا له إسنادٌ يُعرف (1) (2)، وإنما يُروى عن أبي نصر التمَّار (3)، عن آدم أبي البشر (4)، __________ = شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي. (1) في ب: معروف. (2) ذكر الحافظ أبن حجر أن ابن الصلاح ذكر له إسنادًا، وحدث به في: أماليه من طريق أبي نعيم عبد الملك بن الحسن، عن خاله يعقوب بن إسحاق -وهو أبو عوانة الإسفراييني صاحب الصحيح- قال: حدثنا أيوب بن إسحاق بن سافري, حدثنا أبو نصر التمَّار، عن محمد بن النضر الحارثي قال: فذكره. قال الحافظ عقيبه: ورجاله ثقات، لكن محمد بن النضر لم يكن صاحب حديث، ولم يجيء عه شيءٌ مسند، وقد روى عنه من كلامه جماعة عنهم: عبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي ... إلى أن قال: ولعله بلغه هذا الأثر عن بعض الإسرائيليات، والله أعلم. اهـ. (نتائج الأفكار) 3/ 289، 290، و (التلخيص) 4/ 317. (3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملك القشيري، النَّسَوي -من أهل نسَا بخراسان-، التَّمَّار -بفتح المثناة الفوقية وتشديد الميم- نسبة إلى بيع التمر. ولد سنة 137، وسكن بغداد، كان إمامًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا. وثقه أبو حاتم، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، ذهب بصره آخر عمره، وتوفي سنة 228 ببغداد رحمه الله. انظر (طبقات ابن سعد) 7/ 340، و (الأنساب) 3/ 76، و (تهذيب الكمال) 18/ 354 - 358، والسير للذهبي 10/ 571 - 574. (4) إنما يرويه أبو نصر التمار، عن محمد بن النضر الحارثي، عن آدم عليه السلام، كما ذكر ابن الصلاح، والنووي، وابن حجر وغيرهم. انظر (شرح مشكل الوسيط) لابن الصلاح 7/ 247، و (الأذكار) 170، و (التلخيص) 4/ 317، و (نتائج الأفكار) 3/ 289.

(1/4)


و (1) لا يَدري كم بين آدم وأبي نصر إلا الله عز وجل. قال أبو نصر: قال آدم: (يا رب! شَغَلْتني بكسب يدي، فعلِّمني (2) شيئًا من مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه: يا آدم؛ إذا أصبحتَ فقل ثلاثًا، وإذا أمسيتَ فعَل ثلاثًا: الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده، فذلك مجامع الحمد والتسبيح). فهذا لو رواه أبو نصر التمَّار عن سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - لما قبلت روايته؛ لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله، فكيف بروايته له (3) عَن آدم! (4) وقد ظن طائفةٌ من الناس أن هذا الحديث بهذا اللفظ أكملُ حَمْدٍ حُمِدَ اللهُ به؛ وأفضلُه، وأجمعُه لأنواع المحامد (5)، وبَنَوا على هذا مسألة فقهية فقالوا: مسألة: لو حلف إنسانٌ ليحمَدنَّ الله بمجامع الحمد (6)، وأجلِّ __________ (1) الواو ساقط من ب. (2) ساقط من ب. (3) ساقط من ب. (4) وقال ابن الصلاح عن إسناده: ضعيف الإسناد، غير متصل (شرح مشكل الوسيط) 7/ 247. وقال ابن الملقن: غريب. (خلاصة البدر المنير) 2/ 415 رقم 2802. وقال ابن حجر: معضل. (التلخيص) 4/ 317. (5) في ب: الحمد. (6) في أ: المحامد.

(1/5)


المحامد، فطريقُهُ في بَرِّ يمينه أن يقول: الحمد لله، حمدًا يوافي نِعَمه، ويكافيء (1) مزيده (2). قالوا: ومعنى (يوافي نِعَمه) أي يلاقيها، فتحصل النِّعَم معه. (ويكافيء) (3) -مهموز- أي يساوي مزيد (4) نعمه. والمعنى أنه يقوم بشكر (5) ما زاد من النِّعَم والإحسان (6). __________ (1) في أ: وكافي. (2) هذه المسألة مشهورة عد فقهاء الشافعية، ويذكرونها في كتات الأَيمان. والقول بأن أفضل صيغ الحمد "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده" هو قول المتأخرين من شافعية خراسان كـ: القاضي الحسين، والمتولي، وإمام الحرمين، والغزالي غيرهم، وذكر ابن حجر الهيتمي أنه المعتمد في المذهب. لكن قال ابن الصلاح: وفيه نظر! وذلك لأن الحديث الذي بنوا عليه هذه المسألة لم يثبت، ولهذا قال النووي: ما لهذه المسألة دليل يعتمد. انظر (الوسيط) للغزالي 7/ 247، ومعه (شرح مشكل الوسيط) لابن الصلاح، و (روضة الطالبين) للنووي 8/ 58، و (نتائج الأفكار) لابن حجر 3/ 288، و (العباب المحيط) للمذحجي 5/ 1998، و (الفتاوى الكبرى الفقهية) للهيتمي 4/ 263. (3) في أ: وكافي. (4) في ب: مزيده. (5) في ب: يشكر. (6) هذا شرح النووي للحديث كما في (الأذكار) 170، و (روضة الطالبين) 8/ 58، و (المنثورات في عيون المسائل المهمات) 65، وانظر (شرح مشكل الوسيط) لابن الصلاح 7/ 247.

(1/6)


والمعروف من الحمد الذي حَمِد اللهُ به نفسه، وحمده به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسادات العارفين بحمده من أمته ليس فيه هذا اللفظ أَلْبَتَّة، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4] وقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]. وقوله حكاية عن الحامدين (1) من عباده أنهم (2) قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. وقوله تعالى في حمده لنفسه الذي أَمر رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يحمده به: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء: 111]، فهذا حمده الذي (3) ارتضاه لنفسه، وأمر رسوله أن يحمده به. وقال تعالى حامدًا لنفسه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)} [الكهف: 1 - 2]. قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ __________ (1) في ب: الحمَّادين. (2) في ب: أنه. (3) في ب زيادة: أنزله على عبده.

(1/7)


وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ: 1]. وقالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} (1) [فاطر: 1]. وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70]. وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} (2) [الروم: 17 - 18]. وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1]. وقال عن أهل الجنة (3): {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 74]. {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]. فإذا حمده لنفسه الذي أنزله في كتابه، وعلَّمه لعباده، وأخبر عن أهل جنته به، وهو أجلُّ (4) من كل حمدٍ وأفضلُ وأكمل. __________ (1) في أتوقف عند لفظ (الآخرة) ثم قال: إلى آخر الآية. (2) لم تذكر الآية الأولى في أ. (3) ساقط من ب. (4) في ب: آكد.

(1/8)


فكيف (1) يَبَرُّ الحالف في يمينه بالعدول عنه (2) إلى لفظٍ لم يَحْمَدْ به نفسه، ولا (3) ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سادات العارفين من أمته. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حمد الله في الأوقات التي (4) يتأكد فيها الحمد (5) لم يكن يذكر هذأ الحمد أَلْبَتَّة، كما في حمد الخطبة، والحمد الذي يستفتح به الأمور، وكما في تشهد الحاجة، وكما في الحمد عقيب الطعام والشراب، واللباس، والخروج من الخلاء، والحمد عند رؤية ما يسرُّه وما لا يسرُّه. فروى البخاري في صحيحه عن أبي أمامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفيٍّ (6)، ولا مودَّعَ، ولا مُسْتَغنى (7) عنه [ربنا] " (8). وفي لفظ آخر في هذا الحديث: كان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي كفانا، وآوانا، غير __________ (1) الفاء ساقط من ب (كيف). (2) ساقط من ب. (3) ساقط من أ. (4) في ب: الذي. (5) في ب: الحمد لله. (6) في أ زيادة: عنه. (7) في أ: يُسْتَغْنَ. (8) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه، رقم 5458. وكلمة (حمدًا) ليست في البخاري وإنما عند أبي داود (3849)، والترمذي (3456)، وابن ماجة (3347). وكلمة (ربنا) ساقطة من المخطوط فاستدركها من صحيح البخاري، وقد شرحها المصنف كما سيأتي ص 17.

(1/9)


مكفيٍّ، ولا مكفور" (1). فلو كان قوله (الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده) أجلَّ من هذا الحمد وأفضلَ وأكملَ لاختاره وعدل إليه؛ فإنه لم يكن يختار إلا أفضلَ الأمور وأجلَّها وأعلاها. وسألتُ شيخَنا عن قوله: (غير مَكْفِيٍّ)، فقال: المخلوق إذا أنعم عليك بنعمةٍ أمكنكَ أن تجازيه بالجزاء أو بالثناء، والله عز وجل لا يمكن أحدٌ من العباد أن يكافيه على إنعامه أبدًا، فإن ذلك الشكر من نعمه أيضًا، أو نحو هذا من الكلام (2). فأين هذا من قوله في الحديث المروي عن آدم: (حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء (3) مزيده). وقولهم إن معناه: يلاقي نعمه فتحصل مع الحمد؛ كأنهم أخذوه من قولهم: وافيتُ (4) فلانًا بمكان كذا وكذا، إذا لقيته فيه، ووافاني: إذا لقيني، والمعنى على هذا: يلتقي حمده بنعمه ويكون معها. __________ (1) صحيح البخاري -في نفس الموضع السابق- رقم 5459. وفيه "وأروانا" بدل "وآوانا"، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح 9/ 494 أن "وآوانا" وقعت في رواية ابن السكن عن الفربري، فلعل ابن القيم نقل منها. (2) وهذا المعنى مروي عن جماعة من السلف، انظر (الشكر) لابن أبي الدنيا رقم 7 و 98 و 82، و (شعب الإيمان) للبيهقي 8/ 355 - 356. (3) في أ: وكافيء. (4) في ب: واقيت.

(1/10)


وهذا ليس فيه كبير أمر، ولا فيه أن الحمد سبب النعم وجالبها (1)، وإنما فيه اقترانه بها، وملاقاته لها اتفاقًا، ومعلوم أن النِّعَم يلاقيها من الأمور الاتفاقية ما لا يكون سببًا في حصولها، فليس بين هذا الحديث وبين النِّعَم ارتباط يربط أحدهما بالآخر، بل فيه مجرَّد الموافاة والملاقاة التي هي أعمُّ من الاتفاقية والسببيَّة. وكذلك قولهم (يكافيء مزيده) أي يكون كفوًا لمزيده، ويقوم بشكر ما زاده اللهُ (2) من النِّعَم والإحسان. وهذا يحتمل معنىً صحيحًا، ومعنًى فاسدًا: فإن أُريد به أن حمْدَ اللهِ والثناء عليه وذكرَه أجلُّ وأفضلُ من النِّعم التي أنعم بها على العبد من رزقِه وعافيته وصحته والتوسعة عليه في دنياه؛ فهذا حقٌّ يشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - "ما أنعم الله على عبدٍ بنعمةٍ فقال الحمد لله، إلا كان ما أُعطِي أفضل مما أخذ" رواه ابن ماجة (3)، فإنَّ حمْدَهُ لوليِّ النعمة (4) نعمةٌ أخرى هي أفضلُ وأنفعُ له، وأجدى (5) عائدةً من النعمة العاجلة، فإن أفضلَ __________ (1) في ب: أن مسبب الحمد النعم وحالها. (2) في أ: ما زاد الله. (3) السنن برقم 3873، وأخرجه: ابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 356، والطبراني في (الأوسط) 2/ 211 رقم 1379، وفي (الدعاء) رقم 1727، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4091، وغيرهم، وله شواهد. وحسنه البوصيري في (مصباح الزجاجة) 3/ 192، والسيوطي في (الدر المنثور) 1/ 34، والألباني في (الضعيفة) رقم 2011، وصححه في (صحيح الجامع) رقم 5563. (4) في ب: الحمد. (5) في أ: وأجد.

(1/11)


النِّعَم وأجلَّها على الإطلاق نعمةُ معرفتِه تعالى وحمدِه وطاعتِه. وإنْ أُريد أنَّ فعل العبد يكون كفوًا لنعم الله (1) ومساويًا لها؛ بحيث يكون العبد (2) مكافئًا للمنعِم (3) عليه، وما قام به من الحمد ثمنًا لنعمه (4) وقيامًا منه بشكر ما أنعم الله عليه به (5)، وتوفيةً له؛ فهذا من أمْحَل المحال. فإنَّ العبد لو أقدره الله على عبادة الثقلين لم يقم بشكر أدنى نعمةٍ عليه؛ بل الأمر كما روى الإمام أحمد في كتاب (الزهد): حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن قال: قال داود: "إِلهي (6)؛ لو أن لكل شعرةٍ مني لسانين يسبحانك الليلَ والنهارَ والدهرَ كلَّه ما قضيتُ حق نعمةٍ واحدةٍ" (7). قال الإمام أحمد: وحدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا جابر بن يزيد (8)، عن المغيرة بن __________ (1) لفظ الجلالة غير موجود في ب. (2) ساقط من ب. (3) في أ وب: للنعم، والصواب ما أثبته. (4) في أ: ثمنٌ للنعمة، وقيامٌ ... (5) ساقط من أ. (6) في ب: النبي! (7) (الزهد) رقم 361، وأخرجه أبن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 25، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) 8 / رقم 4259، وإسناده منقطع. ولفظة (واحدة) ليست في الزهد. (8) في ب: زيد.

(1/12)


عتيبة (1) قال: "لما أنزل الله على داود {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] قاله: يا ربِّ؛ كيف أُطيق شكرك (2) وأنت الذي تنعم عليَّ، ثم ترزقني على النعمةِ الشكرَ، ثم تزيدني نعمةً بعد نعمة، فالنعمة منك يا ربِّ، والشكر منك، فكيف أُطيقُ شكرك! قال: الآن عرفتني يا داود" (3). فمن ذا الذي يقوم بشكر ربه الذي يستحقه سبحانه، فضلًا عن أن يكافيه. ومن ههنا يُعرف قدر الحمد الذي صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "غير مكفي، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه ربنا"، وفضله على الحديث المسئول عنه. __________ (1) في أ: الصغيرة عن عتيبة. وفي ب: المغيرة بن عتبة. والصواب ما أثبته كما في (شعب الإيمان) للبيهقي 8 / رقم 4100. والمغيرة بن عتيبة بن النَّهاس العجلي، قاضي الكوفة، له ترجمة في: (الجرح والتعديل) 8/ 227، و (التاريخ الكبير) 7/ 322 وقد تصحف فيه إلى: المغيرة بن عيينة بن عابس!، و (الإكمال) 6/ 123، و (المؤتلف والمختلف) للدارقطني 3/ 1608، و (توضيح المشتبه) 6/ 170. وذكره ابن حبان في (الثقات) 7/ 465، وسكت عنه، وتصحف "عتيبة" إلى: عتبة. (2) في ب: شكرًا. (3) أخرجه: أحمد في (الزهد) 69 - 70، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) 8/ رقم 4100، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر (الدر المنثور) 5/ 430، وإسناده ضعيف.

(1/13)


ونحن نشرح الحديث ثم نعود إلى المقصود، فنقول (1) وبالله التوفيق: روي قوله "غير مكفي" بوجهين: بالهمز وعدمه. وخُطِّئت رواية الهمز، فإنه اسم مفعول؛ إما (2) من الكفاية، فوجهه: غير مَكْفِيّ كـ: مَرْميّ ومَقْضِيّ، أو من المكافاة، فالمفعول منه (مكافا) (3) كـ (مُرَاما) من راماه، و (مُسَاعا) من ساعاه. أو من كفأتُ الإناء -بالهمز-: إذا أقلبته، فالمفعول منه (مكفوء) كـ (مقروء) من قرأتُ (4). أو من كفاهُ يكفيه، فمفعوله (مكْفِيّ)، كـ (مَرْمي) من رميتُ. والصواب أنه بغير الهمز. ثم (5) اختُلِف: هل ذلك وصفٌ للطعام وعائدٌ عليه (6)، أو (7) هو حال من اسم الله فيكون وصفًا له (8) فى المعنى؟ على قولين: __________ (1) في أ: فقوله. (2) ساقط من ب. (3) في ب: مكفا. (4) من قوله: (كفأت الإناء) إلي قوله (قرأتُ) ساقط من ب، وبدلًا من: المقرو من قر! (5) في ب بالواو. (6) عليه، ساقط من أ، و (عائد) مكررة. (7) في أ بالواو. (8) ساقط من ب.

(1/14)


فقال ابن قُرْقُول (1) في (مطالعه) (2): "المراد بهذا كله الطعام، وإليه يعود الضمير. قال الحربي (3): "والمكفي: الإناء المقلوب للاستغناء عنه، كما قال: __________ (1) هو: إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن باديس، أبو إسحاق، المعروف بـ "ابن قُرقُول" -بضم القافَين-، ولد بالمَرِيَّة من بلاد الأندلس سنة 505، كان إمامًا، رحالةً، نظَّارًا؛ أديبًا نحويًا، عارفًا بالحديث ورجاله، تتلمذ على القاضي عياض، ورافقه أبو القاسم السهيلي صاحب (الروض الآنف)، توفي بمدينة فاس سنة 569، رحمه الله. انظر: (وفيات الأعيان) 1/ 62، و (سير أعلام النبلاء) 20/ 520، و (الوافي بالوفيات) 6/ 171. (2) اسمه "مطالع الأنوار على صحاح الآثار"، صنفه في فتح ما استغلق من كتاب الموطأ والبخاري ومسلم، وبيان مبهم اللغة وغريب الحديث، ومشى فيه على نسق "مشارق الأنوار" لشيخه القاضي عياض، فلخَّصه وزاد فيه، واستدرك عليه، فضبطه وجوَّده وأتقنه، فصار كما قال الذهبي: غزير الفوائد. (السير) 20/ 520. وشكك بعضهم في نسبة الكتاب إليه! فقيل إنه اختلس كتاب شيخه! وانظر الجواب عن هذا في (الأجوبة المرضية) للسخاوي 2/ 759 - 761. (3) في أ: الجرجاني، وفي ب: الحدلي، والصواب ما أثبته كما في (مشارق الأنوار) للقاضي عياض 1/ 345، و (الأذكار) للنووى 340. والحربي هو: الإمام الحافظ إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، أبو إسحاق الحربي -نسبة إلى محلَّةٍ كبيرة ببغداد-، ولد سنة 198، كان زاهدًا فقيهًا محدثًا أديبًا، لازم الإمام أححد عشرين سنة، وبه تخرَّج، صنف "غريب الحديث" وغيره كثير، توفى ببغداد سنة 285 رحمه الله. انظر: (طبقات الحنابلة) 1/ 86، و (سير أعلام النبلاء) 13/ 356.

(1/15)


غير مستغنٍ (1) عنه، و (غير مكفور): غير مجحودٍ (2) نعمة الله فيه، بل مشكور غير مستور (3) الاعتراف بها، والحمد عليها". والقول الثاني: أن ذلك عائدٌ إلى الله سبحانه وتعالى". قال: "وذهب الخطَّابي (4) إلى أن المراد بهذا الدعاء كله الباري تعالي، وأن الضمير يعود إليه، وأن معنى قوله: "غير مكفي" أي أنه يُطْعِم ولا يُطْعَم، كأنه ههنا من الكفاية" (5). وإلى هذا ذهب غيره في تفسير هذا الحرف، أي (6) أنه تعالى مستغنٍ عن معينٍ وظهيرٍ. فال: "ومعنى (7) قوله: (ولا مودَّع): أي غير متروك الطلب إليه، __________ (1) في ب: مستغنًا. (2) في ب: محوية!. (3) كتب فوق "مستور" بين السطرين في ب: لعله مستوفًا! ولا مكان لها. (4) الإمام العلامة أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، ولد في بُسْت -من بلاد كَابُل في أفغانستان- سنة 319، كان علمًا في التفسير والحديث والأصول واللغة، وأول من صنف في الجدل من الفقهاء، أخذ عن الأشعري علم الكلام، وأخذ عنه الأشعري علم الفقه، توفي بِبُسْت سنة 386، وقيل 388 رحمه الله. انظر (الأنساب) للسمعاني 5/ 158، و (وفيات الأعيان) 2/ 214، والسير للذهبي 17/ 23. (5) انظر (أعلام الحديث) للخطابي 3/ 2056، و (معالم السنن) 4/ 187. (6) ساقط من ب. (7) ساقط من أ.

(1/16)


والرغبة له (1)، وهو معنى المستغنى عنه. وينتصب (ربَّنا) -على هذا- بالاختصاص والمدح، أو بالنداء (2) كأنه قال: يا ربَّنا اسمع حَمْدَنا ودعاءنا. ومن رفعَ: قَطَع، وجعله خبرًا، كأنه قال: ذلك ربُّنا، أو أنت ربُّنا. ويصح فيه الكسر على البدل من الاسم في قوله (الحمد لله)، انتهى كلامه (3). وفيه قولٌ ثالثٌ: أن يكون قوله (غير مكفي، ولا مودَّع) صفة (4) للحمد، كأنه قال: حمدًا كثيرًا غير مكفيٍّ ولا مودَّعٍ ولا مستغنىً عن هذا الحمد. وقوله "ولا مودَّع" أي غير متروك، وعلى هذا القول فيكون قوله (غير مكفي) معناه: غير مصروفٍ ومقلوبٍ عن جهته كما يُكْفَأْ الإناء، بل هو (5) حمدٌ على وجهه الدي يستحقه وليُّ الحمد وأهلهُ ويليق به، ولا ينبغي لسواه. وأما إعراب (ربنا) فبالوجوه الثلاثة، والأحسن في رفعه أن يكون خبرًا __________ (1) ساقط من ب. (2) في ب: تأكيدًا. (3) هذا النقل بتمامه ذكره النووي في (الأذكار) 340، وانظر (مشارق الأنوار) للقاضي عياض 1/ 345، و (فتح الباري) 9/ 493 - 394، و (الآداب الشرعية) لابن مفلح 3/ 205. (4) ساقط من ب. (5) ساقط من ب.

(1/17)


مقدَّمًا، مبتدؤه قوله "ولا مستغنى (1) عنه". والأحسن في جَرِّه (2) أن يكون بدلًا من الضمير المجرور في (عنه). والأحسن في نصبه أن يكون على المدح صفةً لاسم الله تعالى. وسمعتُ شيخنا تقي الدين بن تيمية -قدس الله روحه- (3) يقول في معنى هذا الحديث: المخلوقُ إذا أنعم عليك بنعمةٍ أمكنك أن تكافئه، ونِعَمُه لا تدوم عليك، بل لابد أن (4) تودِّعك ويقطعها عنك، ويمكنك أن تستغني عنه، واللهُ عز وجل لا يمكن أن تكافئه على نعمه، وإذا أنعم عليك أدام نعمه، فإنه هو أغنى وأَقْنى، ولا يُستغنى عنه طرفة عينٍ، هذا معنى (5) كلامه. والمقصود ذكر الحمد الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمد ربَّهُ بهِ (6) في مواطن الحمد. وعن أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا (7)، وجعلنا مسلمين" رواه أبو داود __________ (1) في أ: يستغنى. (2) في أ: خبره. (3) ساقط من أ: تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه. (4) ساقط من ب. (5) ساقط من ب. (6) ساقط من أ. (7) في ب: وأسقانا.

(1/18)


وغيره (1). وعن أبي أيوب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أو شرب قال: "الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوَّغه, وجعل له مخرجًا" رواه أبو داود والنسائي (2)، وإسناده صحيح (3). وفي السنن أيضًا عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني (4) هذا من غير حَوْلٍ مني ولا قوة؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه" وقال الترمذي: حديث حسن (5). __________ (1) أخرجه: أبو داود رقم 3850، والترمذي رقم 3457، وابن ماجة رقم 3346، وأحمد 3/ 32 و 98، والنسائي في (الكبرى) رقم 10047 و 10048 و 10049، وغيرهم. قال الذهبي: غريب منكر. (ميزان الاعتدال) 1/ 228، وضعفه الألباني (ضعيف الترمذي) رقم 681. (2) أخرجه: أبو داود رقم 3851، والنسائي في (الكبرى) رقم 6867 و 10044، وابن حبان رقم 5220، والطبراني في (المعجم الكبير) 4/ 4082، والبيهقي في (الدعوات الكبير) رقم 455، وغيرهم. وصححه: النووي (الأذكار) 341، والحافظ ابن حجر كما (الفتوحات الربانية) لابن علان 5/ 230، والألباني (الصحيحة) رقم 705 و 2061. (3) ساقط من ب. (4) في ب: أطعمنا. (5) أخرجه: الترمذي رقم 3458، وأبو داود رقم 4023، وابن ماجة رقم 3348، وأحمد 3/ 439، وأبو يعلى رقم 1488، والحاكم 1/ 507 رفم 1913 و 4/ 192 رقم 7486 وصححه. وحسنه الحافظ ابن حجر في (معرفة الخصال المكفِّرة) 74 - 75، =

(1/19)


وفي سنن النسائي عن عبد الرحمن بن جُبير، أنه حدَّثه (1) رجلٌ خَدَم النبيَّ ثمانِ سنين، أنه كان يسمع النبي إذا قُرِّب إليه الطعام (2) يقول (3): "بسم الله"، فإذا فرغ من طعامه قال: "اللهم أطعمتَ، وسقيتَ، وأغنيتَ، وأقنيتَ، وهديتَ، واجتبيت (4)، فلك الحمد على ما أعطيت (5) وإسناده صحيح. وروى أبو داود في السنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في الطعام إذا فرغ: "الحمد لله الذي مَنَّ علينا وهدانا، والذي أشْبَعَنا وأرْوَانا، وكل الإحسان آتانا" (6). __________ = والألباني (الإرواء) رقم 1989. (1) ساقط من ب. (2) فى ب: طعامًا. (3) ساقط من أ. (4) في ب: وأحييت، وهو لفظ أحمد، وابن السني، وأبي الشيخ الأصبهاني كما في التخريج التالي. (5) أخرجه النسائي في (الكبرى) رقم 6871، وأحمد 4/ 62 و 5/ 375، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 466، وأبو الشيخ الأصبهاني في (أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -) رقم 694، وأبو نعيم في (معرفة الصحابة) رقم 3678. وصححه الحافظ في (الفتح) 9/ 494، والألباني (الصحيحة) رقم 71. (6) عبارة: (وكل الإحسان آتانا) ساقط من ب. والحديث لم أجده في سنن أبي داود، وإنما أخرجه: الطبراني في (الدعاء) رقم 895، وابن السني في (عمل اليوم والليلة، رقم 467، وابن عدي فى (الكامل) 6/ 2212. وللحديث شواهد، منها: أ/ حديث عمرو بن مُرَّة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من طعامه =

(1/20)


وكذلك الحديث الذي رواه أهل السنن بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن يهده (1) الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71] (2). وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رأى مبتلى أن يقول ما رواه الترمذي عن أبي __________ = قال: فذكره ... قال عنه الحافظ: سنده صحيح، لكنه مرسل. (الفتوحات الربانية) لابن علان 5/ 237. ب/ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه: النسائي (عمل اليوم والليلة) رقم 301، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 486، وابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 15، وابن حبان في صحيحة رقم 5219، والطبراني في (الدعاء) رقم 896، والحاكم في (المستدرك) 1/ 546 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب رقم 4067، وغيرهم. والحديث بمجموع شواهده حسن إن شاء الله. (1) في أ: يهد. (2) أخرجه: أحمد رقم 3720 و 3721 و 4115 و 4116، وأبو داود رقم 2118، والترمذي رقم 1105 وحسنه، والنسائي 3/ 104 - 105 رقم 1404، وفي (الكبرى) رقم 1721 و 5502 و 5503، وابن ماجة رقم 1922، وغيرهم.

(1/21)


هريرة؛ عنه (1) - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم (2) يُصِبْه ذلك البلاء" قال الترمذي: حديث حسن (3). ويروى (4) نحوه عن عمر (5). وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - للقائم من المجلس أن يقول ما رواه أبو هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من جلس في مجلس فكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ __________ (1) في ب: عن النبي. (2) في ب: إلا لم ... (3) أخرجه: الترمذي رقم 3432، والبزار (كشف الأستار) رقم 3118، والطبراني (الأوسط). رقم 4721، و (الصغير) رقم 675، وابن عدي (الكامل) 4/ 1461 و 6/ 2374. وحسنه الهيتمي (مجمع الزوائد) 10/ 138، وصححه الألباني (صحيح الترمذي) رقم 2729. وانظر (السلسلة الصحيحة) للألباني رقم 602 و 2737. (4) في ب: وروي. (5) أخرجه: الطيالسي رقم 13، وعبد بن حميد (المنتخب) رقم 38، والترمذي رقم 3431، والبزار (البحر الزخار) رقم 124، وابن السني (عمل اليوم والليلة) رقم 309، والطبراني (الدعاء) رقم 797، والبيهقي (الدعوات الكبير) رقم 499، وغيرهم. وحسنه الألباني: (صحيح الترمذي) رقم 2728.

(1/22)


إلا غُفر له ما كان في مجلسه" قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) (2). * * * __________ (1) أخرجه: الترمذي رقم 3433، وأبو داود رقم 4858، والنسائي في (السنن الكبرى) رقم 10157 وأحمد 2/ 369 و 494، وغيرهم، وللحديث شواهد كثيرة. وصححه الحاكم 1/ 536 وأقره الذهبي، وكذا صححه في (السير) 6/ 335، والحافظ في (الفتح) 13/ 554 - 556، والألباني (صحيح الترمذي) رقم 2730. (2) إلى هنا تنتهي النسخة أ.

(1/23)


فصلٌ وشرع - صلى الله عليه وسلم - للعاطس أن يقول ما رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقُل: الحمد لله على كل حال، ولْيَقُل أخوه: أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم" (1). وفي جامع الترمذي عن ابن عمر: أن رجلًا عطس إلى جنبه فقال: الحمد لله، والصلاة (2) والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله، والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على __________ (1) أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود رقم 5033، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 8891. وقوله: "على كل حال" زيادة شاذة في حديث أبي هريرة: رضي الله عنه، فإن البخاري قد أخرج الحديث في صحيحه رقم 6224 بدونها، وقد نبه الحافظ على ذلك كما في (الفتح) 10/ 623. قال الشيخ الألباني عن رواية أبي داود: "هذا سند صحيح على شرط الشيخين، لكن قوله "على كل حال" شاذ في الحديث" (الإرواء) رقم 780. وهذه الزيادة وإن كانت شاذة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه إلا أنها صحت من حديث غيره، والله أعلم. (2) هكذا في المخطوط، وفي جميع الأصول بدونها.

(1/24)


كل حال (1). وكذلك شرع لأمته عند ركوب الدابَّة ما رواه أهل السنن بالإسناد الصحيح عن علي بن ربيعة قال: شهدتُ علي بن أبي طالب أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاث مراتٍ ثم قال: الله أكبر ثلاث مراتٍ، ثم قال: سبحانك ظلمتُ نفسي فاغفر لى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحكَ فقلتُ: يا أمير المؤمنين، من أيِّ شيءٍ ضحكتَ؟ قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعَلَ كما فعلتُ، ثم ضحك، فقلتُ: يا رسول الله، من أيِّ شيء ضحكتَ؟ قال: "إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري (2). __________ (1) أخرجه: الترمذي رقم 2738، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث) رقم 807، والحاكم في المستدرك 4/ 265 رقم 7765 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم 8884. وصححه الألباني (الإرواء) 3/ 245. (2) أخرجه: أحمد 1/ 97 و 115 و 128، وأبو داود رقم 2602، والترمذي رقم 3446 وقال: "حديث حسن صحيح"، والنسائي (الكبرى) رقم 8748 و 8749، وغيرهم. وصححه الحاكم على شرط مسلم 2/ 99 ووافقه الذهبي. قال الحافظ: "رجاله كلهم موثقون من رجال الصحيح، إلا ميسرة وهو ثقة". (الفتوحات الربانية) لابن علان 5/ 125. وصححه الألباني (صحيح الترمذي) رقم 2742.

(1/25)


وروى ابن ماجة في سننه عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحبه قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"، وإذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كل حال". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد (1). وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، مِلء السموات، ومِلء الأرض، ومِلء ما شئتَ من شيءٍ بَعْدُ" (2). وفيه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " [اللهم] ربنا لك الحمد، مِلء السموات و [مِلء] الأرض، ومِلء ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، كلنا لك عبد، __________ (1) أخرجه: ابن ماجة رقم 3871، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 379، والطبراني (الدعاء) رقم 1769، وفي (الأوسط) رقم 6659 و 6995، والحاكم 1/ 499، والبيهقي (شعب الإيمان) رقم 4065، وللحديث شواهد. صححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال النووي: "إسناده جيد" (الأذكار) 459، وصححه البوصيرى فى (مصباح الزجاجة) 3/ 192. وحسنه الألباني (الصحيحة) رقم 265. (2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 771، ضمن حديث طويل. وانظر أيضًا رقم 476.

(1/26)


اللهم لا مانع لما أعطيتَ؛ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ" (1). وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقي قال: كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده" قال رجلٌ وراءَهْ (ربنا لك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)، فلما انصرف قال. "مَن المتكلم"؟ قال: أنا، قال: "قد رأيتُ بِضعةً وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها أيُّهم يكتبها أول" (2). وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ... الحديث (3). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: __________ (1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة رقم 477، وما بين القوسين ليس من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه. وانظر أيضًا رقم 478. (2) صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: فضل اللهم ربنا ولك الحمد، رقم 766. (3) أخرجه: البخاري في التهجد رقم 1069، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها رقم 769.

(1/27)


بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل: (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من القائل كذا وكذا؟ فقال الرجل من القوم. أنا قلتها يا رسول الله قال: "عجبتُ لها، فُتِحت لها أبواب السماء"، قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولهن (1). وفي السنن عن رفاعة بن رافع قال: صليتُ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطستُ، فقلت: الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف فقال: "مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يُجِبْه أحدٌ، ثم قالها الثانية: من المتكلم: في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلتَ؟ قال.: قلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، فقال: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون مَلَكًا أيُّهم يصعد بها (2) ". قال. الترمذي: حديث حسن (3). __________ (1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم 601. (2) فى المخطوط: يصعدها، والتصحيح من الأصول. (3) أخرجه: أبو داود رقم 773، والترمذي رقم 404، والنسائي 2/ 145، وفي (الكبري)، رقم 1005، والطبراني (الكبير) رقم 4532، والبيهقي في (السنن الكبرى) 2/ 96 رقم 2611. وأصل الحديث في البخاري كما مرّ قبل قليل. واستُشكل الحديث من جهة كون القائل مبهمًا في رواية البخاري، بينما هو مفسَّر في رواية السنن هنا! وأيضًا كونه قال عبارته تلك بعد عطاسه كما في السنن، بينما لم يحدَّد موضعها في رواية البخاري! وأجاب الحافظ ابن =

(1/28)


وفي سنن أبي داود عن عامر بن ربيعة قال: عَطَس شابٌّ من الأنصار خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فقال: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حتى يرضى ربنا، وبعدما يرضى من أمر الدنيا والآخرة"، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن القائل الكلمة؟ فسكت الشابُّ، ثم قال: من القائل الكلمة، فإنه لم يقل بأسًا؟ فقال: يا رسول الله؛ أنا قلتُها، لم أُرد بها إلا خيرًا، [قال] (1). ما تناهت دون عرش الرحمن جلَّ ذكره" (2). وفي مسجد الإمام أحمد عن وائل بن حُجر قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه" فلما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من القائل؟ قال الرجل أنا يا رسول الله، وما أردتُ إلا الخير، فقال: لقد فُتحت لها أبواب السماء، فلم __________ = حجر عن ذلك فقال: "والجواب: أنه لا تعارض بينهما، بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مانع أن يكني عن نفسه لِقصد إخفاء عمله، أو كُنى عنه لنسيان بعض الرواة لاسمه، وأما ما عدا ذلك من الإختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها" (فتح الباري) 2/ 334. (1) ساقط من المخطوط، وأثبتها من الأصول. (2) أخرجه: أبو داود رقم 774، ومن طريقه البغوي في (شرح السنة) رقم 727، وإبن السني (عمل اليوم والليلة) رقم 264، وابن أبي عاصم في (الآحاد والمثاني) رقم 325. وعزاه الحافظ إلى الطبراني وابن السني وقال بسند لا بأس به. (الفتح) 10/ 616. وضعفه الألباني (ضعيف أبي داود) رقم 162.

(1/29)


يُنَهْنِها (1) شيءٌ دون العرش" (2). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه كان يقول في اعتداله بعد الركوع في صلاة الليل "لربي الحمد، لربي الحمد" (3)، وكان قيامًا طويلًا. وشرع لأمته في هذا الموضع وفي غيره أفضلَ الحمد وأكملَهُ، فلو كان قول القائل (الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده) أفضلَ الحمد لكان أولى المواضع به هذا الموضع وما أشبهه. فيا سبحان الله! لا يأتي عنه هذا الحمد الأكمل الأفضل الجامع في موضع واحدٍ ألْبَتَّه، لا قولًا، ولا تعليمًا، ولا يقوله أحدٌ من الصحابة، ولا __________ (1) "يُنَهْنِهَّا" بفتح النون، ثم سكون الهاء، ثم نون مكسورة، فهاءٌ مشدَّدة لإدغام هاء الكلمة في هاء الضمير، هذا لفظ أحمد. وعند النسائي وابن ماجة والطبراني "فما نَهْنَهها" بلا إدغام. وعند الطيالسي: "فما تناهى". والمعنى أنه ما: منعها ولا كفَّها شيءٌ عن الوصول إليه. (النهاية) لابن الأثير 5/ 139. (2) أخرجه: الطيالسي رقم 1116، وأحمد 4/ 318 رقم 18860، والنسائي 2/ 145 - 146 وفي (الكبرى) رقم 1006، وابن ماجة رقم 3870، والطبراني (الكبير) 22/ 25 - 27، وفي (الدعاء) رقم 517 - 520. وصححه الألباني (صحيح النسائي) رقم 893. (3) أخرجه: الطيالسي رقم 416، وأحمد 5/ 399 رقم 23375، وأبو داود رقم 874، والترمذي في الشمائل رقم 275، والنسائي 2/ 199 - 200 و 231، وغيرهم من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأصل الحديث: في صحيح مسلم رقم 772 دون موضع الشاهد الذي ذكره المؤلف.

(1/30)


يُعرف عنهم في خطبةٍ، ولا تشهُّدِ حاجةٍ، ولا عقيب الطعام والشراب، وإنما الذي جاء عنهم حمدٌ هو دونه في الفضيلة والكمال! هذا من المحال. وكذلك حمد الملائكة له سبحانه كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي ليلة أسري به بقَدَحٍ من خمرٍ، وقَدَحٍ من لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبنَ، فقال جبريل عليه السلام: "الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذتَ الخمر غوَتْ أمتك" (1). وكذلك حمدُ الصحابة له سبحانه كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعِن أرسل ابنه عبدَ الله إلي عائشة رضي الله عنها يستأذنها أن يدفن مع صاحبيه، فلما أقبل عبدُ الله قال عمر: "ما لديك؟ " قال: "الذي يحبُّ أمير المؤمنين، أَذِنَتْ"، قال: "الحمد لله، ما كان شيءٌ أَهمَّ إليَّ من ذلك" (2). وروي ابن ماجة في سننه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان رقم 168 بلفظ: "هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة ... ". والذي ذكره المؤلف إنما هو لفظ البخاري في صحيحه، كتاب التفسير رقم 4709، وكتاب الأشربة رقم 5576. (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رقم 3700 ضمن حديث طويل. وانظر الفتح 7/ 74.

(1/31)


الأذي وعافاني" (1). وفي معجم الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج [من الخلاء] (2) قال: "الحمد لله الدي أذاقني لذَّته، [وأبقى فيَّ قُوَّته] (3)، ودفع عني أذاه" (4). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه؛ عمامةً، أو قميصًا، أو رداءً، ثم يقول. "اللهم لك الحمد، أنتَ كسوتنيه، أسألك خيره، وخيرَ ما __________ (1) أخرجه: ابن ماجه رقم 304 من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف. قال البوصيري: "هذا حديث ضعيف، ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ، وإسماعيل بن مسلم المكي متفق على تضعيفه". (مصباح الزجاجة) 1/ 129. وضعفه: النووي في (المجموع) 2/ 83، والحافظ ابن حجر حيث قال: "رواته ثقات إلا إسماعيل" (نتائج الأفكار) 1/ 217، والألباني (الإرواء) رقم 53. وللحديث شواهد من حديث أبي ذر، وأبي الدرداء، وحذيفة رضي الله عنهم، وانظر لتخريجها والكلام عليها (نتائج الأفكار) 1/ 216 - 218. (2) ساقط من المخطوط، واستدركته من الأصول. (3) ساقط من المخطوط، واستدركته من الأصول. (4) أخرجه: الطبراني (الدعاء) رقم 370، وابن السني (عمل اليوم والليلة) رقم 26، وغيرهما. وضعفه الحافظ في (نتائج الأفكار) 1/ 219 وذكر له شواهد.

(1/32)


صُنع له، وأعوذُ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له" (1). رواه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح. قال الترمذي: حديث حسن. وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لبس ثوبًا جديدًا فقال: الحمد لله الذي كساني ما أُواري به عورتي، وأتجمَّل به في حياتي، ثم عَمِد إلى الثوب الذي أخلق فتصدَّقَ به، كان في حفظ الله، وفي كنف الله، وفي سبيل الله (2)، حيًّا وميتًا" (3). __________ (1) أخرجه: أبو داود رقم 4020، والترمذي رقم 1767، والنسائي في (السنن الكبرى، رقم 10068، وأحمد 3/ 30 و 50، وابن حبان رقم 5420 و 5421، والطبراني (الدعاء) رقم 398، وغيرهم. وصححه الحاكم 4/ 192 ووافقه الذهبي، والألباني صحيح أبي داود، رقم 3393. وحسنه الحافظ فى (نتائج الأفكار) 1/ 125. (2) "سبيل الله" كذا في المخطوط كما هي رواية ابن السني، والذي في الترمذي وابن ماجة وغيرهما: "ستر الله". (3) أخرجه: الترمذي رقم 3560 وقال: حديث غريب، وابن ماجه رقم 3623، وأحمد 1/ 44 رقم 305، وابن أبي شيبة 8/ 453، و 10/ 401، وعبد بن حميد رقم 18، وابن السني رقم 273، والطبراني (الدعاء) رقم 393، وغيرهم. قال الدارقطني: والحديث غير ثابت. (العلل) 2/ 138. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. (العلل المتناهية) 2/ 191. وضعفه الألباني، الضعيفة، رقم 4649.

(1/33)


وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفَر اللهُ له ما تقدم من ذنبه. ومن لَبِس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفرَ الله له ما تقدم من ذنبه" (1). وفي جامع الترمذي، عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في المواقف: "اللهم لك الحمد، كالذي نقول، وخيرًا نقول، اللهم لك صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، وإليك مآبي (2)، ولك ربِّ تراثي (3)، اللهم إني أعوذ بك من (4) عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شرِّ ما تجيء به الريح" (5). __________ (1) تخريجه صفحة (20). (2) في المخطوط: مآلي، والتصحيح من الأصول. (3) قال المناوي: " (تراثي) بتاء ومثلثة: ما يخلفه الإنسان لورثته من بعده، وتاؤه بدل من واو، فبيَّن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهذا أنه ما يورث، وأن ما يخلِّفه غيره لورثه يخلِّفه هو صدقةً لله سبحانه، وفي الخبر: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة) ". (فيض القدير) 2/ 132. (4) تكررت (من) مرتين في المخطوط. (5) أخرجه: الترمذي رقم 3520، وابن خزيمة رقم 2841، والمحاملي في (الدعاء) رقم 62، وأبو نعيم في (أخبار أصبهان) 1/ 221 - 222، والبيهقي =

(1/34)


وفي أثر آخر معروف. "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيتُه وسِرُّه، وأنت أهل الحمد" (1). وهذا من أجمع الحمد وأحسنه. وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته الحمد المفرد والمضاعف، فلم يعلمهم في شيءٍ منه هذا الحمد المسئول عنه. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلامًا أقوله، قال: " [قل] (2): لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله رب العالمين، حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم" قال: هؤلاء لربِّي، فما لي؟ قال: "قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني" (3). __________ = (شعب الإيمان) رقم 3779. قال الترمذي: هذا حديث غرب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. وضعفه الألباني (الضعيفة) رقم 2918، و (ضعيف الجامع) رقم 1214. (1) أخرجه: أحمد 5/ 396 رقم 23355، والطبراني في (الدعاء) رقم 1746 من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. وعزاه المندري في (الترغيب والترهيب) إلى ابن أبى الدنيا في كتاب "الذكر"، وعزاه السيوطي في (الحبائك) إلى محمد بن نصر في كتاب "الصلاة". وضعفه: المنذري، والهيثمي (مجمع الزوائد) 10/ 96، والألباني (ضعيف الترغيب والترهيب) 1/ 478 رقم 963. (2) ساقط من المخطوط، واستدركته من صحيح مسلم. (3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، رقم 2696.

(1/35)


وفي السنن عن (1) سعد بن أبي وقاص: أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة بين يديها نوي أو حَصى تسبِّحْ به، فقال: أُخبركِ بما هو أيسر عليكِ من هذا وأفضل (2): سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك" (3). فلو كان "الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" أفضل من هذا لعلمها (4) إياه. وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الكلام الى الله أربعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله الا الله، __________ (1) تكررت (عن) مرتين في المخطوط. (2) في المخطوط وفضل. (3) أخرجه: أبو داود رقم 1500، والترمذي رقم 3568 وقال: حسن غريب، وأبو يعلى في مسنده رقم 710، وابن حبان رقم 837، والطبراني (الدعاء) رقم 1738، والحاكم 1/ 547 وصححه ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في (نتائج الأفكار) 1/ 81. وقال الألباني: منكر (ضعيف الترمذي) رقم 717، و (الضعيفة) 1/ 188 - 189 ..... (4) في المخطوط: لعلمه.

(1/36)


والله أكبر، لا يضرُّ بأيِّهنَّ بدأت" (1). ولو كان "الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" أفضل من هذا لكان أحب إلى الله منه. وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس" (2). وروى إسرائيل، عن أبي سنان، عن أبي صالح، عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اصطفى من الكلام: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا قال العبد: "سبحان الله" كَتَبَ له عشرين حسنة، أو حطَّ عنه عشرين سيئة، فإذا قال: "الله أكبر" فمثل ذلك، فإذا قال: "لا إله إلا الله" فمثل ذلك، وإذا قال: "الحمد لله رب العالمين" من قِبل نفسه (3) كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطَّ عنه ثلاثون سيئة" (4). __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، رقم 2137. (2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، رقم 2695. (3) في المخطوط: نفسك، وصوبه في الهامش. (4) أخرجه: أحمد 2/ 203 رقم 8012، 2/ 310 رقم 8093، والنسائي في (السنن الكبرى) رقم 10608، والبزار (كشف الأستار) رقم 3074، والطبراني (الدعاء) رقم 1681، والحاكم 1/ 512 رقم 1929 وصححه ووافقه الذهبي. =

(1/37)


وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "الطهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله" تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناس يغدوا؛ فبائعٌ نفسه فموبقها، أو مبتاعها فمعتقها" (1). وقد روى ابن ماجة، والترمذي، من حديث طلحة بن خراش بن عمر، عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أفضل الذكر: "لا إله إلا الله"، وأفضل الدعاء: "الحمد لله" (2) ". وسئل ابن عيينة عن هذا الحديث، فقيل له: كان "الحمد لله" دعاءً؟ فقال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان يرجو نائله: __________ = وقال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح. (مجمع الزوائد) 10/ 87. وصححه الألباني (صحيح الجامع) رقم 1718. (1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم 223. (2) أخرجه: الترمذي رقم 3383، وابن ماجة رقم 3868، وابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 102، والنسائي في (السنن الكبرى) رقم 10599، وابن حبان رقم 846، والطبراني (الدعاء) رقم 1483، والبيهقي (شعب الإيمان) رقم 4061، وغيرهم. وصححه الحاكم 1/ 498 ووفقه الذهبي. وحسنه الحافظ في (نتائج الأفكار) 1/ 63 - 64. وحسنه الألباني (الصحيحة) رقم 1497، و (صحيح الجامع) رقم 1104.

(1/38)


أَأَذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إنَّ شيمتك الحِباءُ إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاهُ من تعرُّضه الثناءُ كريمٌ لا يغيِّرهُ صباحٌ ... عن الخُلُقِ الجميل ولا مساءُ (1) فهذا مخلوقٌ اكتفى من مخلوقٍ بالثناء عليه، فكيف بالخالق سبحانه؟! قلتُ: الدعاء يراد به دعاء المسألة، ودعاء العبادة، والمُثْنِي على ربه بحمده وآلائه داع له بالاعتبارين؛ فإنه طالبٌ منه، وطالبٌ له، فهو الداعي حقيقة، قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر/ 65]. وروي ابن ماجة في سننه من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَهم: "أن عبدًا من عباد الله قال: يا ربِّ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعظُمَت بالملكين، فلم يَدْريا كيف يكتبانها، فصَعَدا إلى السماء فقالا: يا رب؛ إن عبدك قال مقالةً لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل -وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب؛ إنه قال: يا ربِّ؛ لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فقال الله عز وجل اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" (2). __________ (1) ديوان أمية بن أبي الصلت 17. (2) أخرجه: ابن ماجه رقم 2869، والطبراني (الكبير) 12/ 264 رقم 13297، و (الأوسط) رقم 9245، و (الدعاء) رقم 1708، وابن مردويه في جزئه الذي انتقاه على الطبرانى رقم 169، والبيهقي (شعب الإيمان) رقم 4077. =

(1/39)


وفي سنن ابن ماجة -أيضًا- من حديث محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "الحمد لله على كل حال، أعوذ بالله من حال أهل النار" (1). وفي مسند ابن أبي شيبة، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به [وهو] (2) يغرِسُ غِرَاسًا، فقال: "يا أبا هريرة؛ ما الذي تغرِس؟ قلتُ: غِراسًا، قال: ألا أدلُّكَ على غِراسٍ خير من هذا؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، تغرس بكل واحدةٍ شجرةً في الجنة" (3). وفي سنن ابن ماجة، عن أبي الدرداء قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: __________ = وعزاه المنذري والبوصيري إلى الإمام أحمد! (مصباح الزجاجة) 3/ 190 - 191. وضعفه الألباني (ضعيف الترغيب والترهيب) 1/ 477 رقم 961. (1) أخرجه: الترمذي رقم 3599، وابن ماجه رقم 251 و 3872، وابن أبي شيبة 10/ 281، وعبد بن حميد رقم 1417، والبغوي (شرح السنة) رقم 1372 وغيرهم، وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وضعفه البوصيري في (مصباح الزجاجة) 3/ 192، والألباني (ضعيف ابن ماجة) رقم 831. وانظر (السلسلة الصحيحة) 1/ القسم الأول/ 531، رقم 265. (2) ساقط من المخطوط. (3) أخرجه: ابن ماجة رقم 3875، والحاكم 1/ 512 وصححه ووافقه الذهبي. وحسنه البوصيري في (مصباح الزجاجة) 3/ 193. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة) رقم 3069.

(1/40)


"عليك بـ"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، فإنها -يعني- تحطُّ الخطايا كما تحطُّ الشجرة ورقها" (1). وفي الترمذي، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقيتُ إبراهيم ليلةَ أُسْريَ بي، فقال: يا محمد:؛ أقْرِىْء أمتك [مني] السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبةُ التربةِ، عَذْبةُ الماءِ، وأنها قِيعان، وأن غراسها: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (2). قال الترمذي: حديث حسن. __________ (1) أخرجه: ابن ماجه رقم 3881 بسند ضعيف. وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه: الترمذي رقم 3533، والطبراني في (الدعاء) رقم 1688 و 1689، وأبو نعيم في (الحلية) 5/ 55. وضعفه البوصيري في (مصباح الزجاجة) 3/ 194، والألباني (ضعيف ابن ماجه، رقم 833، و (ضعيف الجامع) رقم 3750. (2) أخرجه: الترمذي رقم 3462 ومن طريقه العلائي في (جزء في تفسير الباقيات الصالحات وفضلها) 52، والطبراني (الكبير) 10/ 173 رقم 10363، و (الأوسط) رقم 4182، و (الصغير) رقم 539، والخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) 2/ 292. وحسنه بشواهده: الحافظ في (نتائج الأفكار) 1/ 102 - 103، والألباني (الصحيحة) رقم 105. و"قِيعَان": جمع قَاع، وهو المكان المستوي الفسيح الواسع في وطأةٍ من الأرض، يعلوه ماء السماء فيمسكه، ويستوي نباته. (النهاية) لابن الأثير 4/ 132 - 133، والعلائي (جزء في تفسير الباقيات الصالحات وفضلها) 53.

(1/41)


والذي حُفِظ من تحميد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجامع العِظَامَ كـ: خطبة الجمعة، والخطبة في الحج عند الجمرة، وخطبة الحاجة: "الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولهُ" (1). وفيها كلها "أشهد" بلفظ الإفراد، و"نستعينه" بلفظ الجمع، و"نحمده، ونستغفره" بلفظ الجمع. فقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية -قدس الله روحه-: "لما كان العبدُ قد يستغفر له، ويستعين له ولغيره؛ حَسُن لفظ الجمع في ذلك، وأما الشهادة لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة فلا يفعلها أحدٌ عن غيره، ولا تقبل النيابة بوجهٍ من الوجوه، ولا تتعلق شهادة الإنسان بشهادة غيره، والمتشهد لا يتشهَّدُ إلا عن نفسه"، هذا معنى كلامه (2). فهذه جُمَل مواقع الحمد في كلام الله، ورسوله، وأصحابه، والملائكة، قد جَلَّيتُ عليك عرائسها، [و] (3) جَلَبْتُ لك (4) نفائسها، فلو كان الحديث المسئول عنه أفضلها، وأكملها، وأجمعها -كما ظنَّهُ الظانُّ- لكان واسطة عِقْدِها في النِّظَام، وأكثرها استعمالًا في حمد ذي الجلال والإكرام. __________ (1) سبق تخريجه صفحة (22). (2) وانظر (تهذيب السنن) 3/ 54 فقد ذكر كلام شيخ الإسلام هناك أيضًا. (3) زيادة يقتضها الكلام. (4) في المخطوط: عليك، وما أثبته أصح.

(1/42)


فالحمد لله بمحامده التي (1) [حمد] (2) بها نفسه، وحمده بها الذين اصطفى، حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأمِّي، وآله، وصحبه، وسلَّم (3). __________ (1) في المخطوط: الذي، والتصويب في الهامش. (2) ساقط من المخطوط. (3) جاء في نهاية المخطوط من النسخة ب: حُرِّر سنة 1338.

(1/43)